المقدمة في فقه العصر

فضل مراد

المقدمة في فقه العصر (1) د. فضل بن عبدالله مراد

للمرة الأولى .. يؤلف فقه العصر في متن واحد استنباطا وتفريعا وتبويبا في كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع المدني والدولة والسياسة والمال والتنمية المقدمة في فقه العصر الفقه الوظيفي، الفقه الطبي، فقه الدعوة، فقه الأقليات، فقه الدولة، فقه المال العام، فقه السمع والطاعة، فقه المؤسسة العسكرية والأمنية، فقه المؤسسة التعليمية والتربوية، فقه المجتمع المدني والقبيلة، فقه البيئة والصحة العامة، فقه المرور والسير، فقه السياحة، فقه الشباب، فقه اللهو والترفيه، فقه الإعلام، فقه الفن، فقه التكنولوجيا، فقه الطفل والولد، فقه المرأة، فقه حقوق الإنسان، فقه اليتيم، فقه الجهاد، فقه الأموال والاقتصاد المعاصر، لوحات من فقه النفس والحياة .. الشيخ الدكتور فضل بن عبدالله مراد أستاذ مقاصد الشريعة والفقه وأصوله وقواعده الإجازة التخصصية العليا في الإفتاء والقضاء والتدريس والدعوة عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عضو جمعية علماء اليمن وعضو هيئة علماء اليمن دكتوراه شريعة وقانون، دكتوراه فقه وأصوله أستاذ القضايا الفقهية المعاصرة - كلية الشريعة -جامعة قطر

«بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) ملك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)» [الفاتحة] الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية رواه البخاري ومسلم هذا كتاب جديد، باجتهاد جديد، لعصر جديد ومن اطلع فيه على ما يناقض نص الكتاب والسنة فهو رد وواجب حينئذ مراسلتي لتصحيح ذلك FADELMORAD [email protected] د. فضل بن عبدالله مراد

كلمة الناشر - الطبعة الثانية

كلمة الناشر - الطبعة الثانية بقلم/ خالد أبا زيد الأذرعي قال المؤرخ بهاء الدين محمد بن يوسف الجَنَدي (المتوفى سنة 732 هـ) في كتابه «السلوك في طبقات العلماء والملوك» (¬1) في ترجمة الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني اليماني مؤلف كتاب «البيان» (¬2) (المتوفى سنة 558 هـ): (ولما قدم به -أي بالبيان- بغداد جُعل في أطباق الذهب وطيف به مزفوفاً في بغداد وحاراتها. ثم لما قدم به بخط علوان قال جماعة من أهل العراق ما كنا نظن في اليمن عالما حتى قدم علينا «البيان» بخط علوان، رضيه الفقهاء المحققون وانتفع به الطبقة المدرسون، ونقل عنه المصنفون حتى كان كاسمه للشرع تبيانا وللفقه بيانا أجاب به عن المعضلات وأوضح به المشكلات وقسم به الأوصاف والاحترازات)، ونقل عنه المؤرخ الخزرجي اليماني (المتوفى سنة 812 هـ) في كتابه «العقد الفاخر الحسن» (¬3). ونحن اليوم نزف إلى جمهورنا الكريم قراء العربية في اليمن وبلاد العرب والعالم جميعا، من يمن الإيمان والحكمة والفقه كتاب «المقدمة في فقه العصر» لم يسبق في موضوعه وشموليته وعنايته بنوازل ومستجدات العصر، فهو لازم للقاضي والمحامي ورجل الدولة والطبيب والتاجر والعسكري والتربوي والإعلامي ومدير البنك والمرأة والمزارع، والمعنيين بهذا الكتاب كثر. عهدنا بالفقه كما درسناه سلماً يبدأ بالطهارة، ثم الصلاة والزكاة ثم الصوم والحج، وأبواب في الفقه أخرى. وفصّل الأئمة رحمهم الله تعالى المتقدمون منهم والمتأخرون فيه، ولم يتركوا مسألة إلا أشبعوها حتى افترضوا مسائل حسبوها تقع يوما ما، أولئك فقهاء المذاهب الأربعة خاصة، والمذاهب الفقهية الأخرى عامة. لقد بذلوا جهدهم وقدموا طاقتهم وما قدروا عليه. غفر الله لهم وكتب أجرهم، حتى قال قائلهم: (كفيتوا ووفيتوا). ¬

(¬1) - الكتاب طبع بمجلدين بتحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، نشرته مكتبة الإرشاد بصنعاء سنة 1995 م. (¬2) - كتاب البيان في فقه المذهب الشافعي، طبع في «14» مجلد بعناية قاسم محمد النوري، الناشر دار المنهاج/ جدة، سنة 1424 هـ. (¬3) - طبع في الجيل الجديد ناشرون - صنعاء، في «5» مجلدات عام 2009 م، بتحقيق مجموعة من الباحثين.

ويدور الكون دورته ويبدأ عصر الآلة وتتغير طرق الإنتاج وندخل طور المجتمع الصناعي، ويتوسع مجتمع المدينة وتبنى علاقات غير التي عهدتها المجتمعات الزراعية والرعوية. لقد منح الله سبحانه وتعالى الإنسان القدرة على التعلم وطلب المزيد من المعرفة حتى غدا بحواسه يميز ما يعينه على تكوين قدرات عقلية تمكنه من العلم. ولكن بالانخراط بالواقع ومعايشة الناس تعاملاً معهم في صور الحياة المختلفة ومساهمة واقعية في أنشطتهم المتنوعة. إن الجهل بالواقع والغفلة عنه يؤدي إلى أن يسود الجمود والتحجر والانغلاق وتغييب سعة الإسلام ورحمته ولا تستوعب مقاصده. ثم الوقوف على ما يهم المسلمين وهو نتيجة لدراسة مستفيضة لهذا الواقع. يقول الإمام الغزالي رحمه الله (ت 505 هـ) في حديثه عن حصر المصالح الضرورية: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة والدفاع عنها مصلحة، وهذه الأصول حفظها واقع وأولوية في رتبة الضرورات فهو أقوى المراتب في المصالح» (¬1). والأمور الحاجية هي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيُسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة وتخفف عنهم التكاليف وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت سيلحق الناس الحرج والضيق والمشقة. وتأتي الأحكام لتحقق للناس مصالحهم وترفع عنهم العسر وتيسر لهم سبل التعامل وتساعدهم على صيانة مصالحهم. ويؤكد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في غير موضع أن على المجتهد أن يكون ملمًّا بثقافة عصره حتى لا يعيش منعزلاً عن واقعه بعيداً عن هموم ما يعانيه أبناء أمته، وحتى تتكون لديه مفاهيم جديدة يواجه بها مستجدات العصر ومتغيرات الحياة. يقول الدكتور عبدالسلام ياسين رحمه الله (ت 1433 هـ): إن من لا يعرف واقع المسلمين ومنابع الفتنة في تاريخهم وحاضرهم وطبيعة الصراع بين الإسلام وخصومه لا يستطيع أن ينزِّل شرع الله على واقع يستعصي (¬2). ¬

(¬1) - انظر المستصفى في علم الأصول 1/ 174. (¬2) - انظر كتابه «تنوير المؤمنات» صـ (64).

وقد تشتد وطأة البلاء فيسود مصطلح: لا يجوز، يحرم ... ، تعبيراً عن الرفض فتتسع دائرة الحرام، فلا يجد الفقهاء مخرجاً لكثير من مستجدات العصر وهذه كارثة. يقول الإمام الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله (ت 504 هـ): وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع المسلم عن أكل الميتة في تلك الحالة كان عاصياً (¬1). وهذه مراعاة للنفس البشرية وأحوالها والتيسير عليها ورفع الحرج عنها (¬2). جاء في مصنف (¬3) الإمام عبدالرزاق الصنعاني (المتوفى 211 هـ): «أن عمر بن الخطاب أرسل إلى امرأة مغيبة -أي غاب عنها زوجها- كان يُدخل عليها فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها: أجيبي عمر؟ فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، قال: فبينا هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... فقال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: ... أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر عليًّا أن يقسم عقله على قريش» (¬4). من أين لنا اليوم عمر ومن أين لنا اليوم علي؟ كم قتلت نساءٌ بطائرات وصواريخ وراجمات وبراميل وكم فزعن وكم أسقطن ولا رقيب ولا حسيب، ولا عمر ولا عليّ. ثم عودة أخرى إلى الواقع. ونعني بالواقع ما تجري عليه حياة الناس في مجالاتها المختلفة من أنماط مختلفة في المعيشة وما يستجد فيها من أحداث ونوازل. فتنزيل النصوص إنما هو ثمرة فهم الواقع وتفاعل النص مع الواقع، والواقع هو الأفعال الإنسانية التي يراد تنزيل الأحكام عليها وتوجيهها بحسبها. وفقه الواقع بني على دراسة الواقع المعاش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الحياة، معتمدة ¬

(¬1) - نسب خطأً هذا النص المدون في الطبعة الأولى للإمام الجصاص (المتوفى 370 هـ). (¬2) - انظر: كتاب أحكام القرآن 1/ 34. (¬3) - طبع في المكتب الإسلامي، بيروت في «12» مجلداً، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، والإمام المحدث عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى بصنعاء، وقبره في قرية حمراء العلب في الجنوب الشرقي من صنعاء بمسافة «5» كم تقريباً، وقد زرت مسجده وقبره فيه. (¬4) - انظر: المصنف 9/ 458.

على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، والوقوف على ما يهم المسلمين. وكتابنا هذا عصارة جهود مضنية تعالج مستجدات العصر ونوازله. إنه يؤسس لدولة عصرية مدنية مسلمة، وإن شئت فهو يضع دستور دولة الخلافة القادمة إن شاء الله. مسائل كبرى يرسم الشيخ المؤلف قواعدها ويؤصل نظريات تطبيقية، ويلج قضايا كبرى كان الفقهاء حتى الأمس القريب أمامها وجلين مترددين. الكتاب تناول فيه الشيخ المؤلف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والطبيّة والعلاقات الدولية والعلمية المعاصرة. * لا حصانة لملك أو رئيس أو أمير أو قاضٍ أو وزير، الكل أمام التكليف والمسؤولية متساوون مع سائر أبناء الأمة. * فصل السلطات إن كان يحقق المصالح الأكثر للأمة فهو مقدم. * ويجوز للمرأة والرجل الانتخاب وتتساوى أصواتهم لأنها ليست شهادة محضة، بل هي اختيار ووكالة. * الاستبداد محرم وقد أجمع العلماء على خلع من لا يشاور، وهي من السياسات التي أوردها الله سبحانه مورد المقت والذم (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29). * السياسات الخاطئة للدولة، ومنها العطايا المالية لشراء الذمم. * منع خصخصة المؤسسة العسكرية لحماية الحاكم لا لحماية الشعب. * وإذا دفع البنك تمويلاً للعميل في عملية تجارية فيكون البنك ممولاً والعميل قائماً بالعمل وهذه عين المضاربة فتجوز. * منع استهداف السفارات والشركات الأجنبية في بلاد المسلمين؛ لأنها موجودة بإذن وأمان. * في قوانين المرور، وإشارات المرور ملزمة للناس، وهي طاعة تتعلق بمصالح الأمة العامة، ودفع مفاسد خاصة وعامة، إلا في حالة الضرورة والحاجة كإسعاف مصاب مع غلبة السلامة عند التجاوز. * ولا يصلى على قاطع صلاة، ولا على الغال من الغنيمة، ومثله قياساً مختلس المال العام. * والحرية الصحفية مشروعة بضوابطها وهي جزء من الحريات العامة. ¬

* وفي الفن: التمثيل في الأفلام والمسارح والمسلسلات الأصل فيه الإباحة؛ لأنها من المسائل المسكوت عنها، وما سكت عنه فقد نص الله عزّ وجل على أنها من العفو، ما لم يشتمل على محظور وَعَدّدَها. * وفي الاتصالات: .. وتتكلم المرأة مع أجنبي بلا خضوع ولا ضحك ولا تطيل المكالمات إلا لضرورة أو لحاجة ماسة. * ومسائل البورصة، وسوق الأسهم، والسندات، والتوكيلات والتحويلات، كل ذلك له قول فصل فيه، مشفوعاً بالدليل. * حق المرأة في التعليم إلى أعلى المستويات للنصوص المتواترة في فضل العلم وأهله، وذم الجهل عامة، فيدخل فيه الذكر والأنثى للعموم. منّ الله سبحانه وتعالى إذ انتهت الطبعة الأولى في زمن قياسي وانتشرت في عموم بلاد المسلمين، واعتمده الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مرجعاً معتبراً في مؤتمره الذي عقد في اسطنبول مؤخرا. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وفي ساعة صفاء ذهن وامتداد أفق آمل وأتمنى وكلي أمل أن يغدو هذا الكتاب يوماً وهو يشكل الجزء الثاني من كتاب فقه السنة للراحل السيد سابق -رحمه الله. وبعد أن غدا الكتاب جاهزاً للطبع لا يسعني إلا أن أشكر المؤلف الشيخ الدكتور فضل بن عبدالله مراد على جهوده في خدمة العلم، والله أرجو أن يثيبه ويكتب أجره. كما أثمن ما يقوم به مدير عام مجموعة الجيل الجديد محمد عبدالله الآنسي من عناية واهتمام ودعم للكتاب في وقت عزّ فيه من يضع ماله في كتاب. والحمد لله رب العالمين .. الرياض في 21 رمضان 1436 هـ ¬

(¬1) - الكتاب طبع بمجلدين بتحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، نشرته مكتبة الإرشاد بصنعاء سنة 1995 م. (¬2) - كتاب البيان في فقه المذهب الشافعي، طبع في «14» مجلد بعناية قاسم محمد النوري، الناشر دار المنهاج/ جدة، سنة 1424 هـ. (¬3) - طبع في الجيل الجديد ناشرون - صنعاء، في «5» مجلدات عام 2009 م، بتحقيق مجموعة من الباحثين. (¬4) - انظر المستصفى في علم الأصول 1/ 174. (¬5) - انظر كتابه «تنوير المؤمنات» صـ (64). (¬6) - نسب خطأً هذا النص المدون في الطبعة الأولى للإمام الجصاص (المتوفى 370 هـ). (¬7) - انظر: كتاب أحكام القرآن 1/ 34. (¬8) - طبع في المكتب الإسلامي، بيروت في «12» مجلداً، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، والإمام المحدث عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى بصنعاء، وقبره في قرية حمراء العلب في الجنوب الشرقي من صنعاء بمسافة «5» كم تقريباً، وقد زرت مسجده وقبره فيه. (¬9) - انظر: المصنف 9/ 458.

كلمة الدكتور عائض بن عبدالله القرني ..

كلمة الدكتور عائض بن عبدالله القرني .. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد طالعتُ كتاب (المقدمة في فقه العصر) لفضيلة الشيخ العلامة الدكتور فضل بن عبدالله مراد ووقفتُ مع الكتاب وقفات تأمل وتدبر ووجدتُ المؤلف صاحب همة جياشة ونفس وثّابة وذاكرة متقدة فذكرني بلمعان البرق اليماني، في تجرد الأمير الصنعاني، وفهم المجتهد الشوكاني، وصبر المفتي العمراني، كيف وهو من أوطانهم، وقد درج في وديانهم. ألا أيها الركب اليمانيون عرجوا ... أسائلكم هل سال (نعمان) بعدنا علينا فقد أمسى هوانا يمانيا ... وحب إلينا بطن نعمان واديا وقد استعرضت كتابه المقدمة في ليال معدودات فذكرني بمقدمة ابن خلدون في مسألة الإبداع والإمتاع، والتجديد والاختراع، فقد صمد إلى فقه النوازل والمستجدات وحوادث العصر، فأصل لها أحكاماً شرعية، وفتاوى مرعية، وعصمها بالنصوص، عصمة الخواتم بالفصوص، تحدث عن مرافق الدولة الإسلامية، فقنن لها أحكاماً نبوية، فتناول شأن الدولة من أدناها إلى أقصاها، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأسلوب واضح مشرق ينم عن ذاكرة عالم محقق، وفقيه مدقق مع البعد عن الخلافيات، والإغراق في المنقولات، ولما أنست بخمائل هذا الكتاب وجدتُ سماحة الشريعة ويسر الدين ومواكبة العصر والإلمام بشؤون الحياة فصار الكتاب جواباً عملياً لمن سأل عن مواكبة الشريعة للنوازل والمستجدات، وصلاحيتها للحوادث والملمات، ولغة الكتاب غضة طرية، كأنه روضة ندية، كأنه جنة عذبة الثمار، ندية الأزهار، من جمال الآيات والآثار، وحسن الإيراد والإصدار، ولو قُيل رأيي في عنوان الكتاب لسميته: (فقه العصر)؛ لأنه كفى وشفى، ورقّ وصفى، فقد قيد الشوارد وحبس الأوابد، ومن سلاسته وعذوبته انغمست في مطالعته كأنني أطالع كتاب تاريخ يشجيني بأخباره أو أسامر سِفراً أدبياً يبهجني بأشعاره فلم أجد في هذا الكتاب جمود التقليد ولا غبار التعصب ولا مشاكسة المخالف ولا تصعيب العبارة أو

غموض الحجة أو خفاء الدليل، بل هذا لعمري الشهد المصفّى، والعذب الزلال والسهل الممتنع، فكأنه المقصود بقول أبي الطيب: قطف الرجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لما نوّرا أو قول أبي العلاء المعري في عبدالوهاب بن نصر المالكي: إذا تكلّم أحيا مالكاً جدَلاً ... ويُنشرُ الملك الضليل إن شعرا أو قول أحد شعراء الشافعية في شيخ الإسلام بن تيمية: وقّاد ذهن إذا سالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه وكنتُ سعدتُ بالجلوس مع الدكتور فضل مراد في الدوحة بقطر في رمضان المنصرم في مجلسين عامرين ماتعين فوجدتُ الاسم على المسمى رأيتُ فضلاً بلغ به المراد، وعلماً غزيراً بعد كدٍ وجدٍ وجلاد، أدركت بعدها السبب في هذه الثمرة اليانعة، والآثار النافعة التي قدمها لنا هدية في (فقه العصر) فأقول له سلم بنانك، وسعد جنانك، وطاب زمانك، وذهبت أحزانك، جعل الله لك بكل حرف في الجنة مقعدا، وبكل قطرة حبرٍ من الكوثر موردا، وتقبل الثناء العاطر، والدعاء الماطر، وجمعنا الله بك في الفردوس الأعلى.

شذرات من كلمة مسجلة للسيد العلامة/ محمد بن علي عجلان أحد كبار علماء اليمن، عضو مجلس الشورى في فعالية تدشين «ثورة الفقه الإسلامي المعاصر» بهذا الكتاب والتي أقيمت ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي بصنعاء -الأربعاء 9/ 10/2013 م * «هذا اللقاء المبارك كان حقيقة لقاء مفاجئا ولقاء علميا ولقاء كبيرا بكل ما تحمله الكلمة من معاني ... وكان من حقه أن تحتفل به اليمن وأن تحتفل به أمة الإسلام كافة لترى مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية.». * «تلتفت إلى مستجدات العصر التي تتسارع حثيثا والتي تفتح مجالات وآفاق من المعرفة كبيرة واسعة وتتلفت: أين فقهها، أين نظامها، أين فتواها، أين ميزانها الشرعي؟ فلا تجد إلا شذرات من أصول وشذرات فروع من هنا وهناك تحتاج إلى الفقيه المجتهد المعاصر الجامع بين فقه الواقع الذي يعيش فيه ومعطيات العصر الزاخرة بالتنوع العلمي في مختلف الميادين والمجالات وبين فقه النص الشرعي الفقه الصحيح السليم والرأي السديد الثاقب ... مع مبدأ كل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم». * «كان في هذه المسألة ثغرة كبيرة يتلفت الإنسان المهتم بقضية الفقه الشرعي وأصوله وفروعه وقواعده فلا يرى لها رجلا أو رجالا على مستوى أن تمتلئ هذه الثغرة بهذه القواعد وبهذا التأصيل الشرعي المستند على صخر من القوة والمتانة والمستبصر بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الأئمة وأهل العلم من قبله حتى جاء هذا الشيخ الفاضل وهذا الولد الشاب وهذا الدكتور العالم المجتهد الذي أكرمه الله تعالى بنور البصيرة وسعة الاطلاع وبارك له في الوقت، وأعطاه الله من العلم ما استطاع أن يجيب به على آلاف التساؤلات، وما استطاع أن يسد به ثغرات، وما استطاع أن يلج فيه مجالات على ضوء تلك الأصول التي ما ولجها العلماء والفقهاء والمحققون والمستنبطون من قبله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء». * «إن الولد البار الشيخ الدكتور فضل بن عبدالله مراد قد دفع عنا وعن علماء الشريعة الإسلامية واجبا كنا نراه أنه من الواجبات الملحة ومن الفرائض المحتمة ومن الأشياء العاجلة،

ونقف عنده وأمامه موقف العاجز لأنه يحتاج إلى خوض غمار يحتاج إلى شجاعة يحتاج إلى قوة علم يحتاج إلى قوة إرادة يحتاج إلى فراغ يحتاج أيضا إلى توفيق من الله سبحانه وتعالى. فمن الله عزوجل علينا بهذه الموهبة المباركة وجاء فضيلة هذا الشيخ المبارك فسد بهذه المقدمة المباركة مسدا كبيرا ..... وصدقت حكمة القائلين من قبلنا: كم ترك الأول للآخر.». * «أكثر ما نقول: جزاك الله أخي الكريم الأستاذ الدكتور فضل بن عبدالله مراد عن الإسلام والمسلمين، وعن الفقه الشرعي وعن الفقهاء وعن الأئمة العاملين أكرم ما جازى عالما وباحثا، فلو رآك أئمة الفقه وأعلام الهدى لأحبوك، ولدعوا لك بخير، ولقبَّلوا رأسك السامق الكبير، ولرأوا أنك أتيت بما لم تأت به الأوائل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء». * «شكر الله لك وشكر الله لكم حضوركم ... وأنا أشير عليه (الرئيس عبدربه منصور هادي) عند طباعة الكتاب أن يتبنى دعوة عامة تجوب آفاق الأرض وتجمع فقهاء الإسلام من البلاد العربية والإسلامية في تركيا والقارة الهندية وغيرها، وحيث ما وجد فقيه وباحث محقق ينبغي أن يدعى، وينبغي أن يؤتى به للاحتفال بظهور هذا الكتاب، وينبغي أن تقدم فيه الدراسات» ..

بسم الله الرحمن الرحيم تقديمنا الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فكتابي هذا «المقدمة في فقه العصر» هو فتح خالص من الله، لا فضل لي فيه ولا يد ولا مِنَّة ولا حول ولا قوة، بل الفضل كله لله، وله وحده المنة والنعمة، وبه الحول والقوة وحده لا شريك له، وأسأله تعالى كما فتح به أن يتقبله عنده خالصا لوجهه الكريم، وأن يفتح له قلوب خلقه، وأن يرزقه القبول، وأن ينفع به إلى يوم القيامة، ويكتب لي رضوانه ولوالديّ وأهلي وذريتي ومشايخي ولإخواني والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. * هذا الكتاب «المقدمة في فقه العصر» ألفته لكل سياسي أو قائد، لكل ملك ورئيس وأمير وسلطان وحاكم، أو موظف أو طبيب أو حقوقي أو عسكري، أو مدني، أو اقتصادي، أو امرأة وطفل ورجل وشاب، للمجتمع المدني، للقبيلة، للإنسان، للإعلاميين والفنانين، للتكنولوجيين، للتربويين والمعلمين، للدعاة، للسياح، للجاليات والأقليات، للمرور، للمستثمرين، للبنوك، للعلماء والدعاة وطلاب العلم والمفكرين، لكل أمٍ وأب، لكل مسلم ومسلمة .. لكل إنسان .. * هذا الكتاب نتاج ربع قرن من التراكم المعرفي منَّ الله به علينا، اشتغالا بالطلب للعلم على أهله والدراسة والتدريس والمطالعة والكتابة والبحث ... كل ما وقع تحت يدي من كتب علم الشريعة بفروعه: في القرآن وعلومه وتفسيره، والحديث ومصطلحه وعلله ورجاله، والفقه وأصوله وقواعده، ومقاصد الشريعة، والعقائد، واللغة، وكذلك كتب الأدب وكتب ومؤلفات وبحوث وفتاوى مسائل العصر المختلفة السياسية والاقتصادية والطبية وقضايا الحقوق والحريات والإنسان والمال والدولة والعقائد والأديان ... الرسائل والدوريات والصحافة والإلكترونيات والإدارة وتنمية الذات، بل وكتب الطب أثناء دراستي في المعهد العالي للعلوم الطبية والصحية، وكتب التاريخ والسير والروايات، وكل ما يخدم المعارف الشرعية والعلمية والإنسانية الواقعية والنظرية؛ ونتيجة لهذا منَّ الله عليَّ وألهمني أن أقدم كتابا للعصر في فقه العصر يجمع أبوابه المختلفة المتشعبة ومسائله المشتتة، ما ذكر منها وما لم يذكر، وتم ذلك بفضل الله عزوجل وفتحه وتوفيقه وحده في أربعة وعشرين بابا ستراها واحدا بعد واحد.

وأقصد بفقه العصر: التأصيل والتقعيد والتكييف للمسائل الواقعة وإعطائها حكمها مستنبطا ذلك من النصوص ودلالاتها ومقاصد الشرع وقواعد الشريعة وأصولها العامة والفقهية. فلتنظر إلى محاسنه بأنها نعمة من الله، وإلى ما اطلعت عليه مما تنقده فأجر عليه لسان العذر والاعتذار، ويكفي أني قد فتحت بابا كان مقفلا دعت إليه المجامع الفقهية في توصياتها وقراراتها والهيئات وكبار علماء العصر، ونظري صواب يحتمل الخطأ والزلل عادة ابن آدم وحسبي أني لا أعلم أني خالفت نصا من القرآن أو صحيح السنة أو مقاصد وقواعد الشرع القاطعة، وكان الأمر في تأليفه جار على تكرار النظر والاجتهاد في مقصودات النصوص ومدلولاتها وعللها وحكمها ودلالات قواعد الشريعة ومقاصدها قاصدا ما يرضي الله ويوافق مراده فيما أنزل سبحانه من قوله تعالى (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). وقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الزمر: 55)، مع أن ما أنزله الله كله حسن، فأمره باتباع الأحسن دليل على بذل الوسع في معرفته، ولا بد أن يكون هذا الأحسن نسبياً باعتبار واقع المكلف وحاله ومآله وقوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (الزمر: 18) مثله أو قريب منه. * كان بعض المستنبطين في هذا العصر يستفيدون مما عالجه القانون الوضعي الغربي للمسائل، ثم يعرضونه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تبدأ عمليات التخريج والتكييف لإصدار حكم مناسب، أما هذا الكتاب فنرجو أن يستفيد منه القانون الوضعي، وإذا شرحناه وفصلناه كمشروع تالٍ إن شاء الله، وإذا فصلنا كل فقه على حياله بإصدار مناسب كمشروع يتلوه، وإذا ترجم للغات عديدة كمشروع ثالث، فسيكون بإذن الله مرجعا يستفيد منه القانون في العالم، والحياة الإنسانية، لا لشيء إلا لأنه مستنبط من قانون الكون والحياة المعصوم وهو القرآن والسنة الصحيحة، ومقاصدهما وقواعدهما وأصولهما. أقول هذا ليعلم العالم ما عندنا من الرحمة الرسالية الخاتمة القائمة على العدل والإحسان والاعتدال والتوسط والمساواة والحريات وإعطاء كل ذي حق حقه ومحاربة الظلم والتخلف والبغي والعدوان والغلو والتطرف (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وأعتبر خدمة الإنسانية لإفادتهم بهذا عبادة وفريضة. ولا أقدمه ككتاب لا يقبل الخطأ؛ لأن هذا غير ممكن لإنسان، بل أقدمه للناس كمقدمة لدليل الحياة الطيبة التي نرجوها للبشرية. * لقد التزمت في كتابي هذا إلزام الأئمة الأربعة ونصيحتهم وتوصيتهم لي ولنا جميعا، وهي أن لا نقلدهم، بل نأخذ من حيث أخذوا، فعملت بهذا الأمر وبهذه النصيحة الناصحة؛ لأن الدين النصيحة، ولأن العمل

بها أحد أركان الربحية الربانية الشاملة للحياتين (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 1 - 3). * برغم الظروف والصعوبات، برغم ندرة الأمن أثناء ثورة الربيع العربي -فرع اليمن، برغم الاضطرابات المختلفة والتنقلات الظروفية، فتح الله بهذا الكتاب المستنبط للحياة المعاصرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشريعة وأصولها وقواعدها، ومن اطلع فيه على خلاف نص من القرآن والسنة الصحيحة وقواطع مقاصدها وقواعد وأصول الشرع فأنا متراجع عنه؛ لأنه زلة قلم لا يسلم منها بشر، وواجب النصيحة يلزمه مراسلتي لذلك. * هذا الكتاب أريده مقدمة لنهضة فقهية وفكرية وحياتية جديدة شاملة، فأسأل الله أن ينفع به وأن يحقق المقصود منه. * المجامع الفقهية .. بعد أن انتهيت من الكتاب وبدأت في تقديمه للطبع كنت أقرأ في قرارات المجامع الفقهية على سبيل المراجعة لأني كنت قرأتها قبل سنين، فسجدت لله شكرا لمّا طالعتها؛ لأن المسائل التي نوقشت وصدر بها قرارات وإن كانت لا تمثل 10% من مسائل هذا الكتاب إلا أني حمدت الله كثيرا؛ لأن ما ذهبت إليه من الاجتهاد في المسائل وافق ما ذهبت إليه المجامع إلا في النادر كالتأمين، وليس معنى هذا أن مخالفتي فيها للمجمع علامة على الخطأ فيما ذهبت إليه أو ذهب إليه المجمع؛ لأنها مسألة اجتهادية ولي أدلتي فيها وأرى ضعف كافة أدلة من منع في هذه المسألة مع احترام قوله واعتباره لمن أراد العمل به، وقد نقلت جملة صالحة من أهم فتاوى المجامع الفقهية في محلها من الكتاب كما ستراه بإذن الله، وأنبه إلى أني لما اطلعت على توصيات المجمع الفقهي بخصوص الدعوة إلى الكتابة والبحث في مسائل العصر الهامة والكبرى كالعلاقات الدولية والسياسات وحقوق المرأة والطفل والإنسان وغيرها حمدت الله كثيرا لأن هذا الكتاب وافق تلك التوصيات المتكررة من المجامع في تأليفٍ كهذا يجمع مسائل العصر، ورغم أني لم أعلم بهذه التوصيات حتى كنت قد انتهيت تماما من الكتاب لكني حمدت الله على هذا التوفيق حيث خدمت بابا عظيما أوصى به علماء العصر في المجامع، فأسأل الله أن ينفع به وأن يكتب له القبول ويجعله خالصا لوجهه الكريم. * خَرَّجتُ أدلة هذا الكتاب بفضل الله عزوجل كما ستراه، فأما الآيات فأذكر السورة ورقم الآية في موضعها، أما الأحاديث الشريفة فقد بحثت عنها من مظانها وذلك أني قد كتبتها من محفوظاتي أثناء التأليف، ثم خَرَّجتها متبعا قواعد هذا العلم الشريف في بحث الإسناد ورجاله واتصاله والشذوذ والعلة، فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به، وإن كان في غيرهما وأثبت صحة الحديث بتتبع لمخارجه وأسانيده وشواهده وأقوال أهل العلل والنقد فيه اكتفيت بموضع أو موضعين، أذكر بعد ذلك أو قبله الحكم على الحديث، وإن كان الحديث يحتاج إلى كثرة المتابعات والشواهد لتقويته والنظر في علله بتوسع والجواب

والرد في ذلك فأسهب في التخريج اضطرارا كما ستراه في حديث «على اليد ما أخذت» وحديث «لا ضرر ولا ضرار» والحديث الساقط «أيما قرض جر نفعا فهو ربا» ومثله «الكالئ بالكالئ»، وكذلك في الزيادة المنكرة الشاذة في حديث «اعتداد المختلعة بحيضة»، فهذه وأمثالها ناقشتها على قواعد هذا العلم ناقلا أقوال النقاد الكبار كابن المديني والبخاري والترمذي وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين والدارقطني والبيهقي، وكذلك الذهبي ثم الحافظ ابن حجر والزيلعي والبوصيري ومغلطاي وابن الملقن وابن عبدالهادي وابن القطان وعبدالحق الأشبيلي وابن عبدالبر وابن رجب وابن حزم وابن دقيق العيد وابن المنذر والنووي وغيرهم. ولم آلُ جهدا في التحقيق والتمحيص في مثل هذه المواطن، ولم أعتمد في التصحيح والتضعيف على التقليد أبدا، إلا أنه يمكنني استثناء مواضع في لوحات الخاتمة، حيث اعتمدت على بعض الأئمة من المتقدمين والمتأخرين بل والمعاصرين في أحكام بعض أحاديث نظرا لضيق الوقت، ولأن هذا الباب الخاتم للكتاب كانت فيه هذه الأحاديث في الترغيب والترهيب، فاكتفيت بالنقل عن الأئمة. * المقصد السادس للشريعة «حفظ الجماعة العامة» .. منّ الله علينا بدراسة علم المقاصد على مشايخي في العلم كالعلامة عبدالكريم زيدان والعلامة حسن الأهدل -رحمه الله، والعلامة محمد الشنقيطي .. ثم اُخْتِرْتُ من هؤلاء الأعلام لتدريس الموافقات والفروق والأصول وقواعد الفقه. وقد درَّست هذه العلوم، خاصة الموافقات «جزء المقاصد» زهاء أحد عشر عاما، وقد فتح الله علينا في هذا العلم بحصر وجمع كافة مقاصد الشريعة وتقديمها للأمة في ثوب جديد نسأل الله أن يمن بإتمامه وطبعه، حيث جمعت المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية في بضع وخمسين مقصدا. ومن هذه المقاصد الضرورية التي أضفناها لهذا العلم المقصد الضروري السادس للشريعة، وهو «حفظ الجماعة العامة»، ونعني بالجماعة المجتمع والشعب ودولته والأمة، وقد وافقني على هذا كثير من علماء الأمة في اليمن وخارجها، ومنهم شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله. وقد كنت أدرجت فقه المقصد السادس في هذا الكتاب في فقه مستقل ثم رأيت تأخيره مع مجموعة أخرى تصدر في مؤلف أو مؤلفات كفقه الجرائم والفقه الأكبر وفقه القواطع وفقه النفس وفقه الأديان والعقائد وفقه النهضة الشاملة وفقه القضاء وفقه التنمية البشرية وفقه الآداب والفضائل والمكارم وغيرها. فنسأل الله أن يمنّ بذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ولن آلو جهدا بإذن الله عزوجل في مشروعي القادم الذي هو شرحي للكتاب في الاستقصاء والمناقشة لمسائل العصر لأفتح من الكتاب ما قد ينغلق على البعض؛ وليتبين لمن قد يسارع في نقد بعض المسائل التي عرضتها واخترتها الملاذَ الفقهي الموسع بالتعليل والتدليل والنقل عن فقهاء العصر وغيرهم، حتى يعلم أني لم أختر القول الذي ذهبت إليه جزافا، وإنما عن تمحيص وتأن ومراجعة، وكم من مسألة طال النظر

فيها شهورا يتصل فيها النهار بالليل وأصلي الفجر بوضوء العشاء في كثير من الأيام، وأجزم بإذن الله أن هذا الكتاب سيسر الله به صدور الراسخين في العلم من العلماء الكمل، وسيستفيد منه أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولن يسلم في بعض مواضعه من نقد إما نصحا وإما مكابرة، وهذه عادة ما يكتبه الإنسان؛ لأنه قاصر مقصر لولا رحمة الله ولطفه، ولكني أكرر أن من اطلع في كتابي هذا على ما يخالف نصا صريحا من القرآن أو السنة الصحيحة خاليا عن المعارضة بمثله فليراسلني لأصحح ذلك. * تنبيه .. هذا مؤلف جديد بترتيب جديد لعصر جديد باجتهاد جديد. * أشكر الله تعالى أولا وأخيرا وقبل كل شيء وأحمده حمدا يليق بجلاله، حمدا يرضيه عني، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة والقبول، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، فأشكر كل من أسدى لي التوجيه أو النصح أو الملاحظة وعلى رأسهم شيخنا الإمام القرضاوي. وشيخنا العلامة المجتهد المطلق القاضي محمد بن إسماعيل العمراني. وشيخنا العلامة المجدد عبدالمجيد الزنداني الذي أُلْهِبَ حماسا بهذا الكتاب حتى عزم على حشد مؤتمرٍ دولي للعلماء لأجل الكتاب. وشيخنا الأستاذ الدكتور حسن مقبولي الأهدل -رحمه الله. والبروفيسور صالح صواب. وأقول للأخ مطهر حمود قيس: شكر الله لك جهودك في طباعة الكتاب على الحاسوب وجعله في ميزان حسناتك وبارك فيك وفي أهلك وزوجتك ومالك وولدك وما تحب، فأنا كثير الامتنان لك في ذلك مع صبر وجلد وسهر ومثابرة. وفي الحقيقة فالأخ أبو ياسين لا أجد كيف أعبر عن شكري وامتناني له إلا أن أقول: الرجال مثلك قليل، والنبلاء مثلك قليل، والخبراء في الطباعة مثلك قليل، والإخوة مثلك قليل، ويكفي أنه كلما قرأ إنسان على وجه الأرض هذا الكتاب فله فيه الأجر والثواب إلى يوم القيامة بفضل من الله ورحمته، فجزاه الله الخيرات الوافرات. وأشكر كذلك الأستاذ علي الجرادي والأستاذ علي العِمراني وزير الإعلام حاليا وقد كنا في جلسة مع مجموعة من السياسيين والصحفيين فطلب مني أن أقرأ شيئا من فقه الدولة وكان الكتاب لا يزال مخطوطا، ولم يكن بعد الأستاذ علي العِمراني وزيرا للإعلام آنذاك «قبيل ثورة الربيع العربي»، فلقي منه الكتاب غاية الإعجاب والتحفيز لإكماله. وأشكر الدكتور عبدالرزاق الأشول وزير التربية حاليا، وكنت قد أريته الكتاب وطالعنا معه جزء التربية والتعليم، فما بخل بالتوجيه والمشورة والإشادة حتى قال «هذا عمل إبداعي استثنائي» وقد استأذنته أن أضع عنه هذه العبارة.

وأشكر الأستاذ محمد سالم باسندوة رئيس الوزراء وقد رأى بعض أجزاء الكتاب وطلب مني أن آتي إليه بعد التمام ليقدم للكتاب ومؤلفه وجهوده الوطنية والعامة ونضالاته كما قال، ولولا مشاغله الكبرى في إدارة البلاد لذهبت إليه. ولا أنسى أنه أبدى رغبته الشديدة في أن تتولى الدولة هذا المشروع طباعة ودعما إن رغبت أنا في ذلك. وأشكر العقيد الركن عبدالملك الحطامي الذي قال عن الكتاب في رسالة على صفحتي على الفيسبوك «سيكون كمقدمة بن خلدون». وأشكر الأستاذ محمد قحطان الذي أشاد وشجع بعد اطلاعه على الجزء السياسي منذ باكورة الكتاب وكان لا يزال مخطوطا. وأشكر الأستاذ إبراهيم مجاهد شوعي رئيس صحيفة أخبار اليوم الذي أبدى استعداده لحملة إعلامية لنشر الكتاب. وأشكر اللواء علي محسن على تقديمه وإشادته بقوله عن البحث «ثورة فقهية جديدة». وأشكر الشيخ العلامة عبدالرحمن المصباحي أستاذ التفسير بجامعة الإيمان إذ سمع أجزاء من مخطوطة الكتاب فقال: إن كان هذا الكتاب على هذا المنوال فسيكون من أعظم كتب الإسلام في عصرنا، وكان كثيرا ما يزورني ويثني على دروسنا في صحيح البخاري التي كنت ألقيها بعد المغرب أمام زهاء الألف بل أكثر من طلاب ومشايخ الجامعة، حتى قال إنه نور وفتح، وقال إنه كان يسمع من هذه الأنوار والفتوح من إمام العصر شيخه ابن باز وكذا العلامة الشنقيطي حيث كان يدرس عليهما. وأنا أكتب هذا لا فخرا ولا رياء، أعوذ بالله من ذلك، لكن شكرا لله وتحدثا بفضله ونعمه. وأشكر زميلي العلامة المحدث د. عبدالجبار المراني، وهو كثير العلم والمطالعة، وكان قد رأى جزءا من لوحات الخاتمة إذ قال في رسالة: «لم أقرأ لأحد في قوة الاستنباط مثل د. فضل مراد»، وهذه الشهادة من زميل عالم أحمد الله عليها. وأشكر الشيخ «أبو فهد عبدالله بن فهد بن غراب» على نصائحه الغالية واهتمامه البالغ بالكتاب وإخراجه وبمؤلف الكتاب. كما أخص بالشكر الأستاذ القدير رضوان البركاني، الخبير في البنوك الإسلامية الذي أمدني بكثير من المعلومات وأجاب عن كثير من الاستفسارات التي أفادتني في تكييف المسائل الاقتصادية المعاصرة في البنوك وما جرى مجراها.

وأشكر الأستاذ القدير والكاتب والمحلل والمراجع اللغوي عبدالملك شمسان المقرمي الذي قرأ الكتاب كاملا وراجعه وبذل فيه من الجهد والنصح ما يشكر عليه، فقد اعتنى بالكتاب من جهة التصحيح اللغوي والمطبعي وعلامات الترقيم كما طلبت منه ألا يقتصر على ذلك، بل لمعرفتي به كرجل من أهل الفكر قلت له أن يقرأ الكتاب كقارئ، فماذا سيقترح حينئذ؟ فأفاد وأجاد في هذا الباب .. فجزاه الله خير الجزاء. وممن راجع الكتاب مراجعة لغوية وتدقيقية زميلي العلامة الدكتور عبدالواحد الخميسي خريج جامعة الإيمان قسم القضاء والفتوى (دكتوراه) وهو مدرس التفسير وأستاذ اللغة ورئيس قسمها بجامعة الإيمان .. شكر الله له وجزاه الله خيرا. ولا أنسى أن أخص بالتقدير والاحترام الإعلامي القدير الأستاذ عبدالله غراب -مدير مكتب الـ «BBC» على ما بذله من جهود حثيثة إعلامية وترويجية للكتاب، فشكر الله له جهوده. ومعه شكر للأستاذ خالد الأبارة. وأخص بالشكر الجزيل الدار الناشرة للكتاب وهي «الجيل الجديد» ومديرها العام محمد عبدالله الآنسي، وكذلك الأستاذ أبو حسان خالد أبا زيد على ما بذله من وسع واهتمام وتقديم للملاحظات بين يدي الطباعة. وأخيرا .. أخص بالدعاء والثناء والشكر والدتي العزيزة الصابرة المحتسبة على صلواتها ودعواتها، وأدعو وأستغفر لوالدي الذي استشهد أواخر السبعينات 79 م على يد الزحف الأحمر وأنا في سن الخامسة أو السادسة، جعله الله في عليين، وأشمل بالدعاء كذلك أولادي وأهلي قائلا (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). وأشمل بالدعاء كذلك مشايخي وإخوتي وأولادهم وعشيرتي وأصدقائي وطلابي والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ولله الحمد أولا وآخرا، وأسأل الله تعالى الأجر والمثوبة. د. فضل بن عبدالله مراد اليمن - صنعاء ليلة الجمعة 27 ذي الحجة 1434 هـ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، الموافق 1 نوفمبر 2013 م

من سيرة المؤلف

من سيرة المؤلف - الشيخ الدكتور فضل بن عبدالله عبده مراد .. نسبه متصل إلى قبيلة مراد الشهيرة .. وموطن ولادته ونقلة أجداده إلى محافظة ريمة -السلفية ذات الجمال والطبيعة الفاتنة .. موقعها غرب صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية. - أستاذ مقاصد الشريعة والفقه وأصوله وقواعده بجامعة الإيمان. - أستاذ الفقه المذهبي والمقارن والحديث الشريف بالحلقة العلمية بالجامعة. - عين رئيساً لقسم الأصول الفقهية ثم عميداً لكلية الشريعة. - أستاذ القضايا الفقهية المعاصرة بقسم الدعوة -كلية الشريعة -جامعة قطر. - دكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله. - دكتوراه شريعة وقانون بامتياز من جامعة أم درمان -السودان. - حاصل على الإجازة العليا في الإفتاء والقضاء من مشيخة جامعة الإيمان ومن العلامة محمد بن إسماعيل العمراني. من سيرته العلمية: - حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ الدكتور أحمد عبدالله عباس عام 1985 م بالحديدة، ثم التحق بدار القرآن الكريم بصنعاء وأتم حفظه وقرأ القراءات السبع ثم العشر الصغرى من طريق الشاطبية والدرة، ثم قرأ العشر الكبرى من طريق الطيبة على العلامة المقرئ إسماعيل عبدالعال. من شيوخه: - 1 - الشيخ القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني -عمدة الفتيا في اليمن، أخذ عليه علم الأصول لابن الأمير، وإرشاد الفحول للشوكاني، وصحيح البخاري، ونيل الأوطار للشوكاني، ووبل الغمام، والدراري المضيئة، والسيل الجرار، وفي سبل السلام لابن الأمير وسنن أبي داوود وبداية المجتهد. 2 - الشيخ السيد محمد بن عبدالله الحسني .. أخذ عليه الفقه الشافعي -متن أبي شجاع وسفينة النجا وأخذ عليه الأجرومية وبعض القرآن والأربعين في سن السادسة والسابعة من العمر.

3 - العلامة السيد محمد الغزالي الحسني: أخذ عليه فقه الشافعي كاملاً، والسنن الأربع مع فوت في بعضها والكواكب الدرية في النحو وعلم الفرائض وشرح الشنشوري على الرحبية والتفسير للشوكاني. 4 - العلامة السيد قاسم بحر: أخذ عليه في الفقه الشافعي في شرح المنهاج والموطأ وبعض السنن وعلم النحو والفرائض والوصايا والقسمة. 5 - القاضي العلامة محمد الجرافي -مفتي اليمن: أخذ عليه فقه المعاملات في التاج المذهب ومغني اللبيب في اللغة لابن هشام وآيات الأحكام، ومن علماء الجامع الكبير العلامة ابن معياد في الفقه والنحو والصرف والفرائض والتفسير. 6 - الأستاذ الدكتور العلامة عبدالكريم زيدان: أخذ عليه الفقه الحنفي، كتاب بدائع الصنائع كاملاً واختبره فيه من أوله لآخره وأجازه وهو أجل كتاب في المذهب الحنفي كما يقول ابن عابدين، كما أخذ عليه جميع كتبه التي يدرسها في الأصول والقواعد الفقهية والدعوة. 7 - العلامة محمد يوسف حربة -رحمه الله: أخذ عليه في المنهاج للإمام النووي في الفقه والمصطلح والفقه المقارن في بداية المجتهد والنحو ولازمه حتى مات رحمه الله، كما أخذ عليه العقيدة الطحاوية. 8 - القاضي العلامة محمد يحيى آل قطران -مفتي شام اليمن: أخذ عليه ولازمه حتى مات -رحمة الله عليه- في: كتاب شرح كافية ابن الحاجب في النحو، وكتاب قواعد الإعراب لابن هشام وكتاب جوهرة الفرائض وكتاب شذى العرف وكتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. 9 - العلامة محمد المختار الشنقيطي -من أجل ما أخذه عليه: كتاب المغني لابن قدامه المقدسي كاملاً مع اختباره من أوله إلى آخره وإجازة عامة وخاصة .. وأخذ عليه كامل ألفية ابن مالك حفظا وشرحا مع شرح ابن عقيل وشرح الشيخ، وأخذ عليه لامية الأفعال في الصرف والرسالة في مذهب مالك وآماليه عليها وقواعد ميارة والمنجور في مذهب مالك. 10 - العلامة المحدث الفقيه الأستاذ الدكتور حسن مقبولي الأهدل -رحمه الله: درس عليه في الفقه الشافعي وأصوله والفروق للقرافي وسبل السلام وصحيح البخاري ومصطلح الحديث وإرشاد الفحول إلى آخره. 11 - العلامة المحدث حافظ الجزيرة حسن حيدر الوائلي -صاحب كتاب نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب، وهو يحفظ كثيرا من السنة بأسانيدها غير حفظه للترمذي بأسانيده وعلله ورجاله: أخذ عليه في العلل والرجال والمصطلح وفي صحيح مسلم والترمذي وأجازه رواية ودراية. 12 - العلامة المحدث المتفنن عبدالله الحاشدي أعلم من خرجه مركز الشيخ مقبل الوادعي كما قاله هو في تقديمه لكتاب الصفات للبيهقي: أخذ عليه سُلَّم علم المصطلح من أوله إلى آخره ابتداءً بالبيقونية ثم الباعث

ثم تدريب الراوي وعلم الإسناد والتخريج والجرح والتعديل وصحيح مسلم رواية ودراية من أوله إلى آخره مع شرحه للنووي وشرح وتعليقات الشيخ. 13 - العلامة محمد حسن الددو الشنقيطي. أخذ عليه: علم الأصول في مفتاح الأصول لابن التلمساني وسمع له كثيراً في فقه المعاملات. 14 - العلامة أحمد عالي الشنقيطي. أخذ عليه: لامية الأفعال لابن مالك. 15 - العلامة المحدث قاسم بن أحمد بن سيف التعزي، تلميذ المحدث مقبل الوادعي، أخذ عليه أكثر تفسير ابن كثير والتوحيد لمحمد بن عبدالوهاب وسبل السلام والصحيحين والمصطلح. 16 - العلامة علي بن نسر الآنسي. أخذ عليه في علم الفرائض وفي اللغة: قطر الندى. 17 - الشيخ الدكتور أمين مقبل. أخذ عليه في علم الفقه والأصول. 18 - العلامة الأستاذ الدكتور عبدالوهاب الديلمي. أخذ عليه في علم التفسير في فتح القدير للشوكاني والعقيدة الطحاوية وعلوم القرآن والبحث والمنطق. 19 - الشيخ علي العديني -علاَّمة التفسير تلميذ ابن باز وابن جبرين. أخذ عليه في علم التفسير. 20 - الشيخ الدكتور عبداللطيف هايل، والأستاذ الدكتور صالح صواب، أخذ عليهما في علم التفسير وأصوله. 21 - الشيخ الدكتور صالح الوعيل. أخذ عليه في علم الإسناد والرجال والبحث. 22 - القاضي محمد الصادق مغلس. أخذ عليه في علم الأصول والمصطلح والسلوك وبعض القانون. 23 - الشيخ الدكتور المقرئ المفسر ياسين الجاسم. أخذ عليه: في التفسير وفي اللغة. 24 - العلامة الجاهر بالحق عمر أحمد سيف -رحمه الله. أخذ عليه وهو في سن الثانية عشرة علم السلوك والسيرة وتفسير القرآن وعمدة الأحكام. 25 - الشيخ الدكتور حيدر الصافح. أخذ عليه في الحسبة. 26 - الشيخ الدكتور صالح الضبياني. أخذ عليه في الفرائض. 27 - القاضي عبدالملك الطيب. أخذ عليه في القانون. 28 - الشيخ محمد الشنقيطي. أخذ عليه في الأدب والسير والتاريخ. 29 - محمد جميل الشنقيطي. أخذ عليه في العلوم السياسية والتاريخية. 30 - الدكتور ياسين الغضبان. أخذ عليه في العلوم السياسية والحاضر العربي والإسلامي.

31 - لقي العلامة الإمام ابن باز وسمع منه دروسه في العزيزية في مواسم الحج وسأله عن الانتخابات ومشروعيتها فأجازها. 32 - سمع أكثر المكتبة الصوتية في دروس العلامة ابن عثيمين ونسخها قبل أن تخرج مطبوعة ولقي الشيخ وسمعه في الحرم. 33 - لقي الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في مركز الخير بصنعاء في زيارات وسمع منه واستفاد من المركز سنين عددا. 34 - سمع من الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في جامعة الإيمان وأجازه مع من سمع. 35 - لقي إمام العصر الدكتور يوسف القرضاوي واستفاد منه وباحثه، وله منه كلمات مثبتة في مقدمة هذا الكتاب، وقد كان قرأ الكثير جدا من مؤلفات الشيخ وأبحاثه. 36 - لقي جماعة من علماء الهند وقرأ عليهم الأحاديث المسلسلات وأحاديث الأولوية وشيئا من البحوث وأجازوه بإجازة مسندة. 37 - سمع أكثر المكتبة الصوتية في بداية التسعينات للدكتور سلمان العودة، والدكتور عائض القرني، والدكتور ناصر العمر، وقرأ كثيرا من كتبهم وأبحاثهم ورسائلهم. 38 - الأستاذ الدكتور عبدالكريم بكّار. أخذ عليه في التنمية البشرية وممن أخذ عليه في علم التنمية البشرية والإدارة والقيادة الأستاذ الدكتور إبراهيم القعيّد والغامدي وعوض القرني. 39 - العلامة المحدث محمد عوامه. أخذ عليه الأوائل السنبلية وأجازه. 40 - الشيخ العلامة الدكتور عبدالله الزبير، والشيخ الأستاذ الدكتور حسن إمام، وغيرهما، وقد أخذ عليهما في جملة علوم منها: الحديث والمصطلح والتفسير والأصول وعلوم القرآن والفقه. 41 - الشيخ العلامة أبو بكر الشنقيطي -وزير سابق في الأوقاف بموريتانيا، وقد أخذ عليه في «بداية المجتهد» في الفقه. 41 - ومسك الختام: هو العلامة المجدد، ذائع الصيت، فارس الإعجاز العلمي ومؤسسه ورائده، الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني.

من مؤلفاته

من مؤلفاته: - 1 - المقدمة في فقه العصر «هو هذا الكتاب». 2 - النفس اليماني بشرح سنن أبي داوود السجستاني، ولا يزال مستمرا في تأليفه. 3 - مشروعية العمل الإسلامي وتعدده والإنتماء إليه -رسالة ماجستير بامتياز. 4 - المرجعية الشرعية لمن؟ 5 - بحث «من هو العالم»؟ 6 - الترجيح للفتاوى بالكثرة وأمر الأمير (رسالة دكتوراة بامتياز). 7 - التحقيقات على شرح الجلال للورقات. 8 - شرح قواعد السعدي. 9 - شرح القواعد الخمس التي تدور عليها الشريعة. 10 - عشرون قاعدة في الرد على أهل البدع في العقيدة. 11 - ولاية المرأة. 12 - منظومة المدلسين اسمها الجوهر النفيس بنظم أهل التدليس. 13 - التنفيس عما تضمنه الجوهر النفيس. 14 - قواعد الأسانيد ومهمات العلل منثور ومنظوم. 15 - إجماع السلف والخلف على ردة من سب الله ورسوله. 16 - التعليقات على القاسمي. 17 - أطراف الصحيحين. 18 - دية المرأة. 19 - فقه التنزيل. 20 - شذوذ زيادة على الصدر. 21 - ترجيح المذاهب الأربعة في مسألة قراءة الجنب والحائض للقرآن. 22 - الحج والعمرة من الكتاب والسنة.

من دروسه

23 - الطرق الكاملة لحديث الزاد والراحلة. 24 - الإجازة لرفع اليدين في صلاة الجنازة. 25 - الفوائد المنثورة في القواعد الظابطة للإجارة. 26 - شرح البيقونية. 27 - التعليقات على الموافقات «جزء المقاصد». من دروسه: - 1 - سلم الفقه الشافعي «ابتداء بالقاسمي وانتهاءً بالمنهاج»، والمغني لابن قدامة، وبداية المجتهد لابن رشد، وغير ذلك. 2 - العقيدة لابن قدامة وغيرها. 3 - الموافقات للشاطبي. 4 - روضة الناظر. 5 - القواعد الفقهية. 6 - صحيح الإمام البخاري والسنن. 7 - شرح الورقات. 8 - نزهة النظر في المصطلح. 9 - علل الترمذي. 10 - ألفية العراقي. 11 - الآجرومية في النحو. وغير ذلك. 12 - له -مع ذلك- الكثير من المقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والدولية. من مؤهلاته: - 1 - إجازة في القراءات السبع والعشر من طرق الشاطبية والدرة والطيبة. 2 - إجازات في الفقه الشافعي. 3 - إجازة من العلامة الدكتور عبدالكريم زيدان في الفقه الحنفي.

4 - إجازة من العلامة محمد المختار الشنقيطي في الفقه المالكي والحنبلي. 5 - إجازة من العلامة محمد بن إسماعيل العمراني في الإفتاء والتدريس والقضاء. 6 - إجازات من جميع مشايخه السابقين في العلوم التي درسها عليهم. 7 - إجازات عامة وخاصة في ثبت من ثلاثة أجزاء. 8 - شهادة البكالوريوس في الشريعة. 9 - بكالوريوس آداب ودراسات إسلامية. 10 - الماجستير في الفقه. 11 - دكتوراه في الفقه المقارن وأصوله. 12 - دكتوراه في الشريعة والقانون. 13 - منحته اللجنة المناقشة استحقاق رتبة الأستاذية وهم الأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان والعلامة محمد بن إسماعيل العمراني والدكتور أمين مقبل. 12 - إجازة مشيخة جامعة الإيمان التخصصية العليا في الإفتاء والقضاء والدعوة والتدريس. 13 - دبلوم تخصص في علم الطب. 14 - دورات إدارة أعمال وتنمية بشرية. 15 - دورات حاسوب وإنترنت.

الفقه الوظيفي

الفقه الوظيفي * (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (التوبة: 105) * حسن أداءك (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195) * اعتن بالجمال لباسا ومظهرا ولياقة «إن الله جميل يحب الجمال» * «لعن الله الراشي والمرتشي والساعي بينهما» * التأخر عن الدوام والغياب ببدل أو غيره والتغطية على المناكر الإدارية كلها مفردات من أكل السحت والفساد الواجب الدفع * توزيع الدرجات الوظيفية لا يخضع إلا للعدل والكفاءة، وإخضاعه لمعنى مناطقي أو فئوي أو نسبي أو تقاسمي أو لمرضاة أحد أمر لا يقره الشرع * التدوير الوظيفي خاصة في المناصب يعتبر من السياسات العادلة والراشدة مهما خدم المصلحة العامة ودفع مفاسد الأثرة والاحتكار المناصبي * حقوق الموظف لا بد أن توفى بلا بخس أو تطفيف أو مطل * الراتب يجب أن يكون عادلا خاليا من الغبن الفاحش موفرا على الأقل لضروريات الحياة وحاجياتها الطبيعية، فإذا كان مبخوسا منقوصا لا يفي بالمتوسط المعيشي فهو للظلم أقرب منه إلى القسط والعدل وصار نوعا من الانتهازية والاستغلال

الفقه الوظيفي الأصل جواز الإجارة إلا في معصية (¬1)، ويجوز فسخها عند الضرر (¬2)، ويجوز للمستأجر تأجير ما استأجره إن جرى العرف على ذلك كما أفتى به جماعة من العلماء (¬3)؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، ولأن ملك المنفعة يقتضي جواز بيعها في الأصل إلا إن صُرِّحَ بالمنع في العقد أو العرف؛ لأن العادة محكمة. ولأن الأصل عدم المانع الشرعي لذلك وما لم يمنع منه الشرع شملته الإباحة؛ لعموم العفو عما سكت الشرع عنه (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). وأما تأجير المحل بتجارته فلا يجوز، وهو ما يسمى بـ «التقبيل»، وهو: أن يقبله طرف لآخر مع ما فيه بأجر معلوم مع ضمان رأس ماله. فإن كان ما فيه مواد عينية للتبادل التجاري فلا يصح، وإن كانت مواد ثابتة كآلات منتجة فلا مانع لصحة الإيجار فيها. وعلة المنع: أن صورة التقبل للمحلات بما فيها هي المضاربة الشرعية (¬4)، والمضاربة لا يصح فيها دفع أجرة معلومة لصاحب المال في الأصل (¬5). ¬

(¬1) - قولنا «الأصل جواز الإجارة» دليله من الكتاب والسنة والإجماع، وهي من الحاجيات المقاصدية في الشرع، وما كان كذلك فالشرع قاصد إقامته، وإنما افتتحنا بها الفقه الوظيفي مع ذكر طرف من مشهورات مسائلها؛ لأنها كالأصل للفقه الوظيفي، فناسب تقديمها بين يديه. (¬2) - قولنا «ويجوز فسخها عند الضرر» علته أن الضرر مدفوع، والعقود لا تتضمن الضرر، والضرر واجب دفعه في الشرع، خاصة الفاحش بلا نزاع، وهو ما لا يتحمل عادة، ويعود على أصل المقصود من العقد بالبطلان، وهو ما جرى عليه الأحناف. (¬3) - قولنا «كما أفتى به جماعة من العلماء» هو قول الشافعي ومالك وأحمد في أصح الأقوال، والحنفية بشروط، راجع المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (6/ 53)، وابن عابدين -رد المحتار (5/ 56)، وشرح الحطاب على خليل (5/ 417) ط/ النجاح، والمهذب في فقه الشافعية (1/ 403). (¬4) - قولنا «هي المضاربة»؛ لأن المضاربة أصلها مال من شخص وعمل فيه من آخر. (¬5) - قولنا «في الأصل»، هو احتراز عن الجواز في بعض الصور، ويمكن أن نضبطها بقولنا: هي كل صورة لا تعود على أصل العقد في المضاربة بالضرر على العامل أو رب المال.

إجارة الباصات ونحوها

ويمكن أن تصح هذه الصورة، ويحمل على أن البضاعة قرض مضمون، والإيجار للمحل لا لها، وهذا محتمل يجوِّز الصورة. وما أجاز خير مما منع؛ لأن الأصل هنا الإباحة. إجارة الباصات ونحوها: ويجوز إجارة الباصات، والسيارات بالنسبة كالثلث، وبالأجرة المعلومة كمئة في اليوم مثلا؛ وإنما يجوز الإيجار بالنسبة؛ لأنها مشمولة بعموم (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، و (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، ولأن الأصل الجواز، ولوجود أصل شرعي لذلك، وهي استئجار الأرض الزراعية بالنسبة. وكيفية توزيع النسبة يضبط بالشرط أو العرف، فثلث الربح مثلا لطرف والثلثان للآخر، أو بحسب الاتفاق، وينص فيه على وقت الدفع كاليوم أو الشهر دفعا للخصومة، فإن لم ينص رجع إلى العرف. ومن استأجر شيئا ضمنه؛ لأن الأصل في الأموال الضمان، ولأن العقود مقصودها المنفعة، فإذا سقط الضمان عاد سقوطه على هذا المقصود الشرعي بالبطلان، ولأن الضرر مدفوع، وعدم الضمان فيما أخذ من مال الغير ضرر؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬1) إلا إن حدث أمر عام كحريق، أو حادث مرور وليس هو من أخطأ فيه. ¬

(¬1) - قولنا «ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (على اليد ما أخذت .. )، قلت: حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» حديث صحيح، كما سترى بعد قليل، وقد صححه الحاكم والذهبي والسيوطي وابن طاهر وابن قدامة وحسنه الترمذي والأرناؤوط في تحقيقه على المسند، وقد تتبعت علة المضعفين وهي عدم سماع الحسن من سمرة فوجدتها لا تصح، فقد أثبت سماعه علي بن المديني والبخاري والحاكم والترمذي والذهبي وغيرهم، والمثبت مقدم على النافي، وقد تتبعت مروياته خلال تدريسي للحديث الشريف وعلله ومصطلحه في الحلقات العلمية قرابة 20 عاما ورجحت هذا القول، وبينت ذلك في كتابي «النفس اليماني في شرح سنن أبي داود السجستاني» يسر الله إتمامه، والحديث أخرجه أبو داود برقم (3563) وابن ماجة برقم (2400) والترمذي برقم (1266) وأحمد برقم (20098) وأيضا برقم (20168)، والبزار برقم (4548)، والنسائي في الكبرى برقم (5751)، والبيهقي برقم (11816)، والحاكم برقم (2302) وقال على شرط البخاري، وقال الذهبي على شرط البخاري، وابن الجارود برقم (1024)، والطبراني (6719)، والدارمي برقم (2638)، والروياني برقم (792)، وابن أبي شيبة (20941)، والباغندي في أماليه (23)، والمحاملي في أماليه (284)، والشهاب في مسنده (270)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (5455)، وحسنه ابن قدامة في الكافي في فقه أحمد برقم (2/ 314). قال الذهبي في السير (3/ 184): سمع الحسن من سَمُرَة ولقِيَه بلا ريب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= قال ابن طاهر في تخريج أحاديث الشهاب: إسناده متصل صحيح. البدر المنير (6/ 654). قلت: ومن قواعد علم الحديث لدى أهل الجرح والتعديل أن شعبة بن الحجاج إذا روى عن شيوخه فمن فوقهم حديثا معنعنا فهو محمول على السماع، وفي ذلك نُقولٌ عنه كثيرة، وقد أخذها أهل الفن فاعتبروا روايته عن شيوخه فمن فوقهم متصلا بالسماع ولو كان معنعنا فمن ذلك ما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 24): قلت: فأبو مالك سمِع من عمار شيئًا؟ قال: ما أدري ما أقول لك، قد روى شُعبة، عن حُصينٍ، عن أبِي مالك، سمِعتُ عماراً، ولو لم يعلم شُعبة أنّهُ سمِع من عمار ما كان شُعبة يرويه. انتهى. قلت: وقد رواه شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة، جاء ذلك في مشيخة أبي الطاهر الذهبي المخلص -مخطوط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (جوامع الكلم)، قلت: وسنده غاية في الصحة. وعنه رواه أحمد بن إسحاق الأبرقوهي في معجم شيوخه -مخطوطة دار الكتب المصرية (جوامع الكلم). قلت: وأخرجه كذلك الإمام أبو بكر بن الحسين المشهور بالمراغي في مشيخته من طريق أبي الطاهر المخلص المذكور، ط/ جامعة أم القرى (1/ 440) قال: أنا أبو طاهر الذهبي، قال: أنا أبو بكر بن أبي داود، إملاءً، قال: ثنا عمرو بن علي بن بحر الصيرفي، ثنا يزيد بن زريع، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي، قالوا: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندبٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». ومن أقوال الأئمة في سماع الحسن عن سمرة ما في علل الترمذي الكبير (1/ 386) قال محمد -يعني البخاري: وسماع الحسن من سمرة بن جندب صحيح. وحكى محمد عن علي بن عبدالله أنه قال مثل ذلك. وفي تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (1/ 76): وأما روايته عن سمرة بن جندب ففي صحيح البخاري سماعه منه لحديث العقيقة وقد روى عنه نسخة كبيرة غالبها في السنن الأربعة وعند علي بن المديني أن كلها سماع وكذلك حكى الترمذي عن البخاري نحو هذا. وقال يحيى بن سعيد القطان وجماعة كثيرون هي كتاب وذلك لا يقتضي الانقطاع، وفي مسند أحمد بن حنبل ثنا هشيم عن حميد الطويل قال جاء رجل إلى الحسن البصري فقال إن عبدا له أبق وأنه نذر إن قدر عليه أن يقطع يده فقال الحسن ثنا سمرة قال قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمر فيها بالصدقة ونهى عن المثلة وهذا يقتضي سماعه من سمرة لغير حديث العقيقة. انتهى. قلت: فهذا ترجيح من العلائي صاحب الأصل وأبي زرعة ولي الدين العراقي صاحب التحفة للسماع وأما يحيى بن سعيد فجعله كتابا وهو ليس طعنا كما لا يخفى عند المحققين. وفي معرفة التذكرة لابن طاهر المقدسي (1/ 118) والحسن لم يشافه ابن عمر ولا أبا هريرة ولا سمرة ابن جندب ولا جابر بن عبدالله وسمع معقل بن يسار وعمران بن حصين والحسن لم ير بدريا قط خلا عثمان بن عفان وعثمان بدري. قلت: لكنه رجح أن هذا الحديث صحيح متصل مما يدل على إثباته لسماع الحسن من سمرة. وفي علل الحديث لابن أبي حاتم -تحقيق: سعد الحميد. (3/ 713) وسألت أبي عن حديث؛ رواه أشعث بن عبدالملك، عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل. =

استئجار الكاسيت ونحوها وأدوات الزينة: واستئجار الكاسيت، والفيديو، وأنواع الإلكترونيات جائز، وكذا كل أدوات الزينة للأعراس وغيرها؛ لعموم حل البيع والتجارات، وهذا منه. ¬

= ورواه معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل. قلت: أيهما أصح؟ قال أبي: قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين، لأن لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح، يعني التبتل. انتهى. قلت: فصنيع أبي حاتم يدل على أن سماع الحسن من سمرة صحيح. وفي التاريخ الأوسط (3/ 89) سمعت محمد بن إسماعيل قال: سمعت عليا يقول: سماع الحسن من سمرة صحيح وهو الحسن بن يسار. وقال ابن القيم صح سماع الحسن من سمرة وله كلام محقق في رد دعوى الإعلال بكونه كتابا فقال في إعلام الموقعين (2/ 144) وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جار الدار أولى بالدار» رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح. انتهى. وقد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب وكذلك خلفاؤه بعده والناس إلى اليوم، فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون. انتهى. قلت: والخلاصة أن الحديث حسن صحيح كما قال الترمذي، ومن ضعّف الحديث قال هو من رواية الحسن عن سَمُرَة، ولم يسمع منه، أو سمع منه حديث العقيقة. قلت: المثبت مقدمٌ على النافي، ومما تقدم يتبين أنه أثبت سماعه مطلقا الإمام علي بن المديني والبخاري والترمذي والحاكم والذهبي والعلائي وولي الدين العراقي وابن طاهر وهو ظاهر كلام أبي حاتم، وحقق ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين، ورواية شعبة عنه المتقدمة تدل على صحة سماعه. وقد روي عن ابن معين نفيه السماع فلما احتج عليه بحديث سمرة في العقيقة توقف. وأما أحمد فقد أخرج أحاديث الحسن عن سمرة في المسند وكان يصرح فيما لم يسمعه الحسن، ولم يصرح في هذا الحديث بذلك، بل قد استدل به مرات كما هو معلوم في الفقه. قلت: ويشهد لحديث الباب الحديث الصحيح في السنن وغيرها عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً وثلاثين بعيراً، فقلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أم عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة. وهذا الحديث صححه ابن حزم وغيره، وقد فهمه على غير الفهم الصحيح على ظاهريته، وجعله مناقضا لحديث «على اليد»، وأما من أعله بعنعنة الحسن وهو مدلس فلا يلتفت إلى قوله؛ لأنه من الطبقة الأولى والثانية كما قال الحافظ، وهؤلاء لا تضر عنعنتهم.

الوظيفة العامة

وما كان من أدوات الزينة مما يعتاد على تلفها ويتسامح فيه فلا ضمان على المستأجر، كأدوات الكهرباء، وما كان لا يتلف عادة ولا يتسامح فيه كالملبوسات للأعراس والسيوف والذهب فالأصل ضمانه. ودليل المسألتين أن الله جعل شرط التراضي شرطا للحل (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). والتراضي في الأول على عدم الضمان وفي الثاني على الضمان. الوظيفة العامة: والوظيفة العامة في تعريفنا: هي حق لمواطن كفء مؤهل عدل عند الاحتياج، بالتعاقد الدائم أو المؤقت، بعوض معين، مقابل عمل معين في المال العام. فقولنا «هي حق»: لأن الوظيفة العامة هي في الملك العام، ولكل شخص من الأمة ملك مشاع في المال العام بالتساوي الكلي بين عموم الشعب. ولما أن كان له حق في الملك العام فله حق في إدارة حقه. ولما كان حقه مشاعا بين الشعب تعين اتفاق الشعب على كيفية عادلة في التوزيع لذلك الحق وإدارته. والوظيفة العامة هي نوع من هذا التوافق بشروط خاصة لكل ولاية بما يخدم المصالح العامة تقوم به الدولة نيابة عن الأمة. ولأن الولاية على المال لا تكون إلا بتملك أو إذن من المالك، والمالك هو الشعب، فأفراده لهم الحق في إدارة ملكهم بشروطه. ولأن من ملك حقَّ له الولاية على ملكه؛ والوظيفة العامة نوع ولاية مشروطة. وقولنا «لكفء» إلى آخر ما تقدم في التعريف سيأتي بيانه. وقولنا «بالتعاقد الدائم أو المؤقت»: هذان نوعان جرى العرف الوظيفي العام عليهما. وقولنا «عند الاحتياج»: خرج به عند عدمه؛ لأنه ليس من المصلحة العامة ولا النظر المصلحي للمال العام التوظيف بلا احتياج، فاقتصر الحق على الحاجة المعتبرة. ولا ينفي هذا استحقاقه من المال العام وثروة الدولة من غير الوظيفة العامة؛ إذ المال العام

حق عام لكل فرد في الشعب، وما الحاكم سوى وكيل والشعب أصيل. وقد حققنا في اجتهادنا أن ثروات الدولة الباطنة والظاهرة، الجوية والبحرية والبرية تصرف مصرف الفيء لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وكل فرد في الأمة بدلالة النصوص في ذلك، وقد بسطناه في محله (¬1). فمن حق كل مواطن في الدولة مؤهل بشروطه حسب الاحتياج أن يتوظف في مال الدولة في الأصل؛ لأن له ملك شائع فيه، ولا تأثير للحدود السياسية المحدثة الآن بين دول المسلمين في هذا الحق؛ لأنها ليست مانعا يعتبره الشرع في منع الحق المفروض شرعا من المال العام في الدولة المسلمة ككل. وإنما تؤثر التقاسيم الجغرافية والحدودية في تقديم الأقرب فالأقرب من موضع سبب الحق، ولهذا يقدم ذي القربى الفقير والجار الفقير في الزكاة على الفقير الأبعد؛ إذ فيه خدمة للمقصد السادس الضروري للشريعة في اجتهادنا وهو حفظ الجماعة العامة؛ إذ صرف الحقوق عن مستحقها الأقرب إلى الأبعد يورث الضغينة والبغضاء ويؤثر في تفكيك المجتمع. وما أثر في تفكيك المجتمع الأخص أثر في الجماعة العامة، وهذه مفسدة، والمفاسد واجبة الدفع. فيجوز تقديم أهل البلد الجغرافي في التوظيف على غيرهم من المواطنين في دول الإسلام الأخرى، ولكن لا يجوز اختصاص أهل البلد بالثروات أو إدارتها بالوظيفة التعاقدية ومنع غيرهم من مواطني دول الإسلام أو تعذره أو تعسيره؛ لأن التعذر والتعسير كالمنع؛ لأدائه إلى ما يؤدي إليه. وسائر الثروات الأربعة عشر في الدولة حق مشترك لعموم الشعب (¬2). وإن كان أهل البلد أخص في التقديم لا في الاستئثار والمنع لغيرهم من مواطني دول الإسلام. والوظيفة إما عامة في مرافق الدولة، أو خاصة في غيرها من المؤسسات والجهات: أهلية شخصية، أو أهلية اعتبارية كشركة. ¬

(¬1) - بسطنا هذا في «فقه الأموال والاقتصاد المعاصر». (¬2) - انظر بتوسع وتفصيل لهذه الثروات وأحكامها «فقه الأموال والاقتصاد المعاصر».

والوظيفة إجارة، وهي قائمة على الأمانة التامة في أداء ما استوجبه العقد لفظا أو عرفا موافقا للشرع، أو كلاهما، سواء كان العقد مكتوباً أو ملفوظاً (¬1). وإذا أعلنت الدولة عن وظائف وجب عليها شرط الكفء، وهو القوي الأمين لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58). والأمر للوجوب وأهل الأمانة هنا هو القوي الأمين (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص: 26)، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55). والقوة في العمل بحسبه، والمؤهل بشهادات ونحوها (¬2) هو القوي في بابه. وتعرف الأمانة بالتزكية من جهة موثوقة. وهي غير الوساطة المذمومة؛ لأنها -أي التزكية- نوع شهادة، وهي إخبار مطلوب لأجنبي عن أجنبي بما فيه (¬3)، أو نقول هي إخبار عن أجنبي بما فيه على وجه الشهادة المطلقة بأمر متعلق بالعمل لجهة تطلبه (¬4). وقولنا «نوع شهادة»، «الشهادة المطلقة» للاحتراز عن الشهادة القضائية ويحرم الكتمان لأنها نوع من الشهادة في لسان الشرع. والشهادة واجبة الأداء عند الطلب ويحرم كتمها (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283)، ولأن كتمان قول الحق مع الحاجة إليه محرم؛ ¬

(¬1) - قولنا «أو كلاهما»: أي لفظا وعرفا. (¬2) - قولنا «ونحوها» يشمل الخبرات والإجازات وكل ما يوضع معيارا لمعرفة الشخص بالعمل من اختبارات قبول وغير ذلك. (¬3) - وقولنا «شهادة مطلوبة» أي تطلبه الجهات المراد التوظيف فيها، وهذا الطلب لكل من تقدم للتوظيف أصبح عرفا كثيرا؛ لذلك فالتزكية لأهلها يحتاجها الشخص لينتفع بها ويتضرر عند كتمها، فحرم كتمانها. (¬4) - قولنا «إخبار» لأن الخبر أصل الشهادة، وقولنا «لأجنبي» خرج به الإخبار عن النفس، فهي تزكية وتذم في مواطن، ولا تذم إن تعلقت بإخبار بحقيقة الأمر لا لرياء كما قال يوسف عن نفسه معرفا في آيات كثيرة، وقولنا «بأمر متعلق بالعمل» لأن هذا هو مقصود التزكية، فلا يتعدى لغيره، وقولنا «تطلبه» لأنه بلا طلب الأصل ذمه؛ لحديث «يشهدون ولا يستشهدون» وإنما جاز هنا ولو بلا طلب لعموم طلبه عرفا، فقام مقام الطلب حقيقة؛ لكثرة الاحتياج إليه حال التقدم للوظيفة.

لعموم الوعيد (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146). بخلاف الوساطة المذمومة، فهي تعاون على الإثم والعدوان من جهة تقديم من لا يستحق على أهل الاستحقاق، وهذا منكر. ولا مانع مع توفر الكفاءة من تقديم من ثبت يقينا فاقته وحاجته على غيره ممن هو أحسن حالا منه؛ لأن الجمع بين مصلحتين في الشرع أولى من مصلحة واحدة، وقد جمع له هنا المصلحتان: العامة كونه كفؤا مؤهلا، والخاصة كونه ذا حاجة. وثبوت ذلك بحكم حاكم أو شهادة عدول كما جاء في النص «ثلاثة من ذي الحجا» (¬1). أو بالاستفاضة والشهرة الصادقة من جيرانه وصحابته. لأن ظن الغنى المخالف للواقع إنما يكون من جاهل لا علم له بالحال؛ لأجل التعفف الحاصل من الشخص كما في الآية (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة: 273) بخلاف من كان مصاحبا له أو جاراً، فلا يجهلون حاله ولا يغترون بتعففه غالباً. وإنما جعل شرط القوة والأمانة من الخير لا من الواجب في الظاهر (¬2) من قوله تعالى (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص: 26)؛ لأن للفرد في حقه العفو عن بعض الشروط للأجير، إحسانا إليه، وتيسيرا؛ لكن لا يجوز هذا فيما هو من وظائف الدولة، أو الأهلية العامة ¬

(¬1) - قولنا «كما جاء في النص» هذا الحديث في صحيح مسلم برقم 2451 عن قبيصة بن مخارق الهلالى قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها». قال ثم قال «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا». (الحجا: العقل، الفاقة: الحاجة، القوام: ما تقوم به الحاجة). (¬2) - قلنا «في الظاهر»؛ لأن لفظ «خير» صيغة تفضيل بمعنى أخير، فيفهم منها أن من ليس فيه صفة القوة والأمانة هو خير لا أخير، وهذا غير مراد.

كشركات ومؤسسات؛ لأنها أمانة والفرض أداؤها إلى أهلها، وإلا ضيع الأمانة. فإن كان الموظف سفيها حَرُمَ توليته ولو في ملك خاص لفرد؛ للنص في ذلك (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). توزيع الدرجات الوظيفية: والواجب على الدولة في توزيع الدرجات الوظيفية العدل على سائر نواحي البلاد؛ لأنه من عموم العدل المأمور به (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). وليس من العدل والإحسان حرمان مناطق في البلاد إهمالا، وإعطاء أخرى. وهو مع خلافه العدل والإحسان مؤد إلى مفاسد وفتن في الدولة، ودفع هذه واجب. وإنما قلنا إهمالا؛ لأن حرمان بعض المناطق إن حصل لأجل عجز مالي أو لمبرر مشروع فالحرج فيه مرفوع. الالتزام بتوجيهات الإدارة: والواجب على الموظف طاعة مدرائه فيما يخص مصلحة العمل؛ لأن هذا هو مقتضى العقد الملفوظ، أو المكتوب، أو المعروف عرفا؛ إذ المعروف عرفا كالمشروط شرطا. والله يقول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). وإنما قلنا فيما يخص مصلحة العمل؛ لأن الإلزام بالطاعة هنا هو لأجل العقد، والعقد إنما هو في دائرة العمل. ومسئولو العمل ومدراؤه يشملهم النص (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). ويحتمل أن الجمع للفظ (وَأُوْلِي الأَمْرِ)؛ لإيهام إفراده اختصاصه بولي الأمر الأعظم. والإدارة فيها إجارة ونوع إمارة، أما الإجارة فلأن الموظف أجير بعوض مالي، أما كونها إمارة فإمارة مقيدة بدائرة العمل لوجوب الطاعة فيها بالعقد. ومن خالف الأوامر والتوجيهات العامة، أو الخاصة المتعلقة بالوظيفة، فهو آثم لإخلاله بالطاعة لأولي الأمر، وتركه مشروط العقد في ذلك الأمر على الخصوص إن كان منصوصا

في العقد، أو على العموم وإن لم يكن منصوصاً؛ لأن العقد يتضمن كل ما يتعلق بمصلحة العمل مما جرى عليه العرف في أمثاله بالخصوص والعموم. ومن ترتب على مخالفته ضرر معتبر في العمل ضمن في الجملة. ومن خالف خصوص أو عموم العقد لفظا أو عرفا بغياب، أو إهمال، أو نحوه، فلا مانع من خصمٍ من راتبه مقابل ذلك بشرط موافقة الخصم للائحة الداخلية؛ لأنها مفسرة للعقد وجزء من الالتزام به، وما فسّر العقد شمله الأمر بالوفاء به؛ لأنه جزء معتبر مقصود. فإن لم تكن هناك لائحة اتفق مجلس الإدارة بالتشاور على تقدير ذلك بالعدل لا ضرر ولا ضرار (¬1)، فإن لم يكن مجلس نُظِرَ إلى تغريم مثله عرفا فغرم مثله. ¬

(¬1) - قولنا «لا ضرر ولا ضرار» هذا أصل من أصول الإسلام الكبرى وقاعدة من قواعد الفقه الإجماعية، ومعنى مقصود شرعا بلا نزاع، والأدلة عليه بالغة درجة القطع، فمنها (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (الطلاق: 6)، ومنها (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة: 231)، فجعل الإضرار اعتداء وفاعله ظالما لنفسه معتديا على حدود الله. ومنها (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282) فجعل الإضرار فسقا. ومنها (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) (التوبة: 107) فالمسجد الذي بني ضرارا بالغير محرم. ومنه (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) (البقرة: 233)، ومنها (غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ) (النساء: 12). قلت: والحديث حسن صحيح أخرجه مالك بسند صحيح من مرسل المازني عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار». وله شاهد من حديث عبادة عند بن ماجة بسند حسن في الشواهد برقم 2340 قال حدثنا عبدربه بن خالد النميري أبو المغلس، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار. قلت هذا سند حسن وإسحاق قال البخاري أحاديثه معروفة إلا أنه لم يلق عبادة، قلت فهذه علة لكنه صالح في الشواهد قطعا. ومن هذه الطريق أخرجه أحمد برقم 22830، وله شاهد آخر عنده وعند أحمد برقم 2867 عن ابن عباس ورجاله رجال الشيخين إلا جابرا الجعفي وهو ضعيف بمرة عند الجمهور إلا أن أبا حاتم الرازي قال يكتب حديثه على الاعتبار ولا يحتج به، وقال ابن مهدي عن سفيان ما رأيت أورع في الحديث منه وقال ابن علية عن شعبة جابر صدوق في الحديث وقال يحيى بن أبي بكير عن شعبة كان جابر إذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس وقال ابن أبي بكير أيضا عن زهير بن معاوية كان إذا قال سمعت أو سألت فهو من أصدق الناس وقال وكيع مهما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن جابرا ثقة ... وقال ابن عدي له حديث صالح وشعبة أقل رواية عنه من الثوري وقد احتمله الناس وعامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة وهو مع هذا إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق (التهذيب (2/ 42)). =

والمثل هنا هو تعامل الجهات الوظيفية مع الموظفين في حالة المخالفات، وتمام المثلية أن تكون ¬

= قلت: فهو صالح للاستشهاد على أقل حالاته. قلت: وله شاهد ثالث عند الدارقطني (4/ 51) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر، ولا ضرار من ضار ضره الله تعالى ومن شاق شق الله تعالى عليه. قلت: سنده رجاله ثقات إلا محمد بن عثمان قال الدارقطني ضعيف كما في لسان الميزان لابن حجر (الطبعة الهندية) - (4/ 152). قلت: وهو صالح في الشواهد بلا شك. وله شاهد رابع حسن في الشواهد عند الدارقطني (5/ 408) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر، ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه. قلت: فيه ابن عطاء اسمه يعقوب مضعف لكنه صالح في الشواهد. قلت: وله شاهد خامس في المعجم الأوسط برقم 5193 حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا حيان بن بشر القاضي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. قلت: هذا سند حسن صحيح رجاله كلهم ثقات وأما حيان فوثقه السمعاني في الأنساب (3/ 31) فقال: وحيان ولي القضاء بأصبهان أيام المأمون، وكان ثقة دينا. انتهى. وقال ابن معين كما في تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (17/ 147): لا بأس به انتهى. قلت: وأما ابن إسحاق ففي سير أعلام النبلاء (13/ 53) قال الذهبي: وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا، هذا الذي عندي في حاله -والله أعلم. قال يونس بن بكير: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين لحفظه. وفي السير صـ 53، قال علي بن عبدالله: نظرت في كتب ابن إسحاق، فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين. وفي السير صـ 54، قال أبو زرعة الدمشقي: ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد. وروى عنه من القدماء: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقا وخيرا، مع مدح ابن شهاب له. وفي السير صـ 55، وقال يعقوب بن شيبة: سألت عليا: كيف حديث ابن إسحاق عندك، صحيح؟ فقال: نعم، حديثه عندي صحيح. قلت: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه، ولم يعرفه. وفي السير صـ 56، قال يعقوب الفسوي: قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع: عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة ... ). والزهري: عن عروة، عن زيد بن خالد: (إذا مس أحدكم فرجه ... ). =

السكن الوظيفي

تلك الجهات تعمل نفس العمل، والموظف في نفس الرتبة الوظيفية حتى ينطبق عليه العرف الإداري. السكن الوظيفي: ومن أعطي سكنا من السكن العام من القطاع الخاص، أو العام كأساتذة الجامعات، أو قيم المسجد، فإنه لا يصح له تأجيره؛ لأنه ممنوع بالشرط الملفوظ أو العرفي؛ والعادة محكمة (¬1). ولأن الأصل حرمة أموال الغير إلا بإذن (¬2)، فإن أذن جاز، ويحرم تجاوز الإذن إلى أكثر منه. ¬

= هذان لم يروهما عن أحد، والباقون يقول: ذكر فلان، ولكن هذا فيه: حدثنا. وقال يعقوب الفسوي أيضا: سمعت بعض ولد جويرية بن أسماء -وكان ملازما لعلي- قال: سمعت عليا يقول: وقع إلي من حديث ابن إسحاق شيء، فما أنكرت منه إلا أربعة أحاديث، ظننت أن بعضه منه، وبعضه ليس منه. وفيه صـ 60، قال ابن عدي: وقد فتشت أحاديثه كثيرا، فلم أجد من أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ، أو يهم في الشيء بعد الشيء، كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به. انتهى. قلت: خلاصة ما فيه أنه حسن الحديث وأما تدليسه فقاله أحمد ونقله الحافظ عن الدارقطني. قلت: ظاهر ما نقل عن ابن المديني أنه فتش جميع أحاديث محمد بن إسحاق وصححها، فيدل على عدم تأثير تدليسه، وهذه قاعدة عض عليها بالنواجذ فإن كثيرا من بحاثة العصر في هذا الفن يسقطون روايته بمجرد عنعنته. وعلى كل فهو هنا في الشواهد شاهد حسن، وللحديث شواهد أخرى وهو بهذه الشواهد يرتقي إلى حسن صحيح، ولذلك قال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير في تخريج كتاب الشرح الكبير» للرافعي برقم 2897 (2/ 438) نقلا عن الحاكم: صحيح على شرط مسلم وقال ابن الصلاح حسن قال أبو داود وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه وصححه إمامنا في حرملة. انتهى كلامه رحمه الله. (¬1) - قولنا «العادة محكمة» هذه إحدى القواعد الكبرى التي تدور عليها الشريعة، قال السيوطي في «الأشباه والنظائر»: (1/ 128): اعلم أن اعتبار العادة والعرف رُجِعَ إليه في الفقه في مسائل لا تمد كثرة». ط/ دار الكتب العلمية، 1403 هـ/1983 م، الطبعة الأولى. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم على مذهب أبي حنيفة النعمان (1/ 93) «اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا». ط/ دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1400 هـ-1980 م. (¬2) - قولنا «ولأن الأصل حرمة أموال الغير إلا بإذن» لعموم (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، ولحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»، ثم استثنى التجارة بالتراضي والإذن ناتج عنه ولحديث «لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفسه». وهذان الحديثان صحيحان، أما الأول فهو في صحيح مسلم برقم 3009 عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= جابر رضي الله عنه وهو جزء من حديث طويل في الحج ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون». قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد اللهم اشهد». ثلاث مرات. قلت: أما حديث «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه» فهو حديث حسن صحيح له طرق وشواهد غاية في الصحة كما سيأتي، وقد أخرجه أحمد في المسند برقم 20714 من طريق حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال: يا أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه. ثم قال «اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظلموا ألا لا تظلموا ألا لا تظلموا إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه، ألا وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع وإن الله عزوجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبدالمطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ثم قرأ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) (التوبة: 36)، ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم فاتقوا الله عزوجل في النساء». قلت: هذا من طريق علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وقد وجدت له متابعة صحيحة في «المعرفة» لابن مندة، برقم 231 إذ قال: روى واصل بن عبدالرحمن، عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أحاديث. أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمزة البغدادي، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر الصايغ، قال: حدثنا عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن واصل بن عبدالرحمن، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه». قلت: وواصل ابن عبدالرحمن قال فيه شعبه: هو أصدق الناس. وقال أحمد: ثقة. وقال ابن معين: صالح. وحديثه عن الحسن ضعيف. وقال الحافظ: صدوق وكان يدلس على الحسن. قلت: وليس هذا الحديث من روايته عن الحسن، فهو متابعة جيدة لعلي بن زيد بن جدعان، فيكون الحديث =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= حسن بهذه المتابعة، وصحيح لما له من الشواهد الكثيرة الصحيحة التي ستأتي. وضعفه العلامة الأرناؤوط محقق المسند بهذا الإسناد وصححه لغيره قائلا: صحيح لغيره مقطعا. وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد. قال أبو زكريا: أما شواهده فمنها للموصلي كما في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري -طبعة دار الرشد- (2062) - (3907) قال أبو يعلى الموصلي: ثنا زهير، ثنا أبو عامر، عن سليمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبدالرحمن بن سعيد، عن أبي حميد الساعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه». قال: وذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم. قلت: هذا سند غاية في الصحة على شرط الشيخين. وهو عند أحمد برقم 23653 عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم». قلت أبو سعيد شيخ أحمد هو عبدالرحمن بن عبدالله بن عبيد بصري قال الدارقطني في سؤالات أبي عبدالرحمن السلمي، قال: أصله بصري سكن مكة، وهو ثقة ووثقه ابن معين والطبراني والبغوي وابن شاهين وأحمد في رواية وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ، وقال في هدي الساري: تكلم فيه الساجي بلا مستند، ولم يصح عن أحمد تضعيفه، أخرج له البخاري في الوصايا حديثا متابعة، قلت وتعقب محققو التقريب الحافظ ابن حجر بقولهم: ثقة، لا نعلم من أين جاء بعبارة: صدوق ربما أخطأ، ولا نعلم فيه جرحا معتبرا سوى قول ابن حبان ربما أخطأ. قلت: عبارة الحافظ فيه دقيقة؛ لأنه فعلا قد يخالف ويخطئ والدليل الواضح على هذا هو مخالفته للثقات في رواية لفظ هذا الحديث وهذا يعد شذوذا هنا فتبين ثقابة نظر الحافظ رحمه الله مع أني قد أوافق المنتقدين في كونه ثقة تبعا لكبار الأئمة إلا أني أوافق الحافظ في قوله ربما أخطأ وأقول لم يقل ذلك ابن حبان فقط كما يفهم من كلامهم بل الساجي وأحمد قالا ما يفيد ذلك، وهذا هو السبب في توسط أبي حاتم فيه بقوله ما كان به بأس، وهو ما رجحه الحافظ وأبعد العقيلي فجعله في كتابه. وعن الموصلي رواه ابن حبان في صحيحه فقال (6104) أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، عن سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبدالرحمن بن سعد، عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه»، قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم. قلت: هذا سند صحيح أبو يعلى شيخ ابن حبان هو أحمد بن علي مجمع على إمامته وحفظه وبقية السند أثبات من رجال الشيخين البخاري ومسلم. وأخرجه البيهقي في الصغرى برقم 973 من طريق سليمان، والروياني في المسند (1466) من طريقه. وله شاهد آخر، قال الدارقطني (2860) نا محمد بن عبيد بن العلاء الكاتب، نا علي بن حرب، نا زيد بن الحباب، عن عبدالملك بن الحسن الأحول مولى مروان بن الحكم، حدثني عبدالرحمن بن أبي سعيد، حدثني عمارة =

الوظيفة في مرفق آخر في فترة أخرى

ولم يؤذن له ذلك في العقد، ولا العرف. والإيفاء بالعقود واجب بالنص (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). فمن أجر السكن العام الممنوح له، فلم يف بالعقد، فهو آثم حينئذ وضامن كذلك عند الضرر، ولا يحل له الإيجار، بل يورد للجهة المانحة للسكن. الوظيفة في مرفق آخر في فترة أخرى: ومن كان موظفا في فترة صباحية مثلا وشرط عليه عدم العمل في فترة مسائية فالشرط باطل؛ لأنه تعنت؛ لأنه شرط منع الحلال المحض عن الغير بلا معنى مرتبط بالعقد معتبر شرعا، فكان هذا من باب الاعتداء على حق الغير، والله يقول (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). ¬

= بن حارثة الضمري، ذكر عن عمرو بن يثربي، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى، فسمعته يقول «لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا ما طابت به نفسه» فقلت حينئذ: يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عم لي فأخذت منها شاة، فاجتزرتها أعليّ في ذلك شيء؟ قال «إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادا فلا تمسها». قلت هذا سند حسن وعمارة في مثل هذه الطبقة يحسن حديثه كما هو معلوم في قواعد هذا العلم الشريف، وهو عند البيهقي في الصغرى 792 من طريق عبدالملك، وفي إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري (2061) - (4/ 305)، قال أبو يعلى الموصلي: وثنا أحمد بن حاتم الطويل، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبدالملك بن حسن، عن عبدالرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة، عن عمرو بن يثربي، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه». فقلت: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت غنم ابن عم لي أجتزر منها شاة؟ فقال «إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادا بمكان سماه فلا تهجعها». رواه أحمد بن حنبل في مسنده، ثنا أبو عامر، ثنا عبدالملك، يعني: ابن حسن الجاري، ثنا عبدالرحمن بن أبي سعيد: سمعت عمارة بن حارثة الضمري، يحدث ... فذكره. هذا حديث رجاله ثقات. كذا قال البوصيري وهو كما قال إلا أن عمارة مرتبة حديثه الحسن إلا إن كان البوصيري اطلع له على توثيق صريح عن إمام أو أنه اعتبره ثقة ويحق له ذلك لأنه إمام في الفن. وله شاهد آخر عند الدارقطني أيضا (2858) ثنا علي بن أحمد بن الهيثم العكبري، نا عيسى بن أبي حرب الصفار، نا يحيى بن أبي بكير، نا أبو يوسف، عن محمد بن عبيد الله، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد». قال أبو زكريا: محمد بن عبيد الله هو العزرمي شديد الضعف كما لا يخفى وبقية الرجال ثقات، وله شاهد أورده الدارقطني كذلك برقم (2859) عن أنس وفيه ابن الزبرقان متروك. وله طريق أخرى عنده برقم (2862)، وفيها ابن شبيب متروك.

التأجير في الحرام حرام

ولأن التصرف في الوقت في الفترة الصباحية والمسائية هو حق للشخص، وإنما قيد في الصباحية لأنه مقتضى العقد الوظيفي مع الجهة، فبقي وقته في الفترة المسائية حقا محضا له يتصرف فيه كيف شاء. فمن منعه بلا مانع معتبر شرعا فهو معتد (¬1)، إلا في حال تأثيره على عمله تأثيرا ظاهرا، أو كون العقد حصريا (¬2)، وسيضر عمله مع الآخر بالقطاع الذي يعمل فيه، وكان الشرط جائزا حينئذ؛ لأنه يدفع الضرر؛ ولأن العقود لا تتضمن الأضرار. التأجير في الحرام حرام: ولا يجوز التأجير لمن يستعمله للحرام كالمراقص الماجنة، والفنادق الخليعة، أو بارة خمر، أو عصابة سرقة، أو قطاع طرق، أو جواسيس، أو أهل فتنة، أو مؤسسة تستعمله في معصية؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). الضمان في الوظيفة والإجارة: وأما ضمان الأجراء فإن كان الأجير خاصا كسواق، أو عامل في بيت، أو طباخ، أو سكرتير، فهؤلاء لا يضمنون إلا بالتفريط، وهذا استثناء من أصل الضمان. وهنا تأتي قاعدة «لا يجتمع الأجر والضمان»؛ لعدم استقلاله بالتصرف؛ لأن يده تحت يد صاحبه، وهذه علة تدفع الضمان؛ لأن الضمان إنما هو تابع للفعل، فاجتمع هنا فعل المالك، وفعل الموظف أو الأجير (¬3)، وأحدهما فيه ضمان، والآخر ليس فيه، ويتعذر التفصيل. فرفع ¬

(¬1) - قولنا «معتبر شرعا» مثاله: ما ذكرناه بعد الاستثناء في قولنا (إلا في حال تأثيره ... الخ). (¬2) - قولنا «كون العقد حصريا» وذلك كشركة أو جهة تعاقدت مع خبير تريد به جودة عمل أو تحقيق كسب لجمهور كثير وأرباح وتسويق لسلعتها نظرا لشهرة ذلك الخبير، فهذا العقد الحصري لا يصح معه عمله مساء لجهة أخرى لأنه إخلال لمقتضى مقصود العقد فمنع، ووجب عليه الالتزام إيفاءً بالعقد. (¬3) - قولنا «وفعل الموظف والأجير» ومثاله استئجار طباخ، أو فراش، أو سائق، فهؤلاء يشتركون مع صاحب البيت والسيارة في الاستعمال لجريان العادة على ذلك، إذ لا يمكن منع صاحب الملك من سوق سيارته، أو استعمال أدواته، فالاشتراك واقع من الموظفين ومن الملاك في الاستعمال، إذن فلا يستقل الأجير هنا بالضمان؛ لأن الأيادي اشتركت في التصرف.

الوظيفة في البنوك الربوية

الضمان بيقين حتى يعلم سببه بيقين، والله سبحانه وتعالى يقول (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164). فلا ينفرد شخص بالضمان وجوبا مع اشتراك الأيدي والأمر والنهي والتصرفات؛ لأنه خلاف العدل المأمور به (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولأنه لا تكليف إلا بيقين، ولا يقين هنا. ولأنه إن ضمن ما يُتلِف أدى إلى التضييق والحرج في هذه الإجارات وهو مرفوع (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)؛ لأن العادة جارية في هذه الإجارات على بعض الإتلافات. ومن فرط منهم تفريطا ظاهرا ضمن؛ لأنه حينئذ يُقْطع بانفراده بالسبب. وأما الأجير العام كصاحب محل خياطة، أو حياكة، أو صياغة، أو حذّاء، أو طبيب، أو مهندس، فإن كل ما سلم له بالضمان عليه إن تلف عملا بالأصل؛ لأن الأصل الضمان؛ ولأن جنايته على ذلك من قِبَلِه خالصةً على وجه لا يحتمل معه مشاركة المالك؛ لأن يد المالك مرفوعة قطعا بعد تسليمها لصاحب المحل ويد هذا الأجير مطلقة في التصرف. والأصل في الطب الضمان؛ لأن الأصل في بدن الإنسان الضمان، فلا يهدر له دم ولا نفس ولا عضو (¬1)، فإن تنازل هو أو أولياؤه قبل العملية فلا ضمان. وإن تبين أن سبب الوفاة فشل الجراحة بأمر ليس من الطبيب بل للمرض كشدته واستفحاله فإنه لا ضمان. الوظيفة في البنوك الربوية: والوظيفة في بنوك الربا محرمة ما كانت حتى الحراسة أو المراسلة أو التحويلة، فكله من تسهيل عمل المعصية، ومن يستغن يغنه الله. ¬

(¬1) - قولنا «ولا عضو» دليله أن النصوص في حفظ وصيانة الإنسان دمه ونفسه وعضو منه وماله وعرضه وعقله ودينه لا تكاد تحصى، لذلك كان من ضروريات الشريعة الكبرى المحفوظة وهي ست: حفظ الدين، النفس، المال، العرض، العقل. وزدت: حفظ الجماعة العامة.

عقود الصيانة المحرمة

وقد لعن في الشرع «الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده» (¬1)، فلم يستقل اللعن بمباشر الأكل بل شمل من لم يأكل ممن سهل المعصية من كاتب وشاهد وقد لا يكون لهما معرفة بالعاقدين البتة سوى مجرد مهنة الكتابة والشهادة. عقود الصيانة المحرمة: وتحرم عقود الصيانة لأماكن المحرمات كالمراقص الماجنة وبيوت الدعارة ومصانع الخمر ومزارع الخنزير وبيوت الربا؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان؛ ولأنها وسائل إلى دوام المعصية القطعية فقطع بتحريم وسائلها والعقد باطل والكسب حرام (¬2). وظيفة المرأة: ويجوز أن تتوظف المرأة. ويشترط الحجاب، والحشمة، وعدم الخلوة، وعدم الاختلاط المؤدي إلى محضور شرعي غالب، وسائر ضوابط الشريعة (¬3). ويشترط ألا تضيّع ولدها، وزوجها، وبيتها، وإلا حرم؛ لأن رعاية بيتها وولدها فرض عين عليها (¬4)، ووظيفتها مباحة في الأصل، فإن أدى المباح إلى ضياع الفرض حرم وإن ¬

(¬1) - قولنا «وقد لعن في الشرع .. » دليله ما أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة في باب «آكل الربا وشاهده وكاتبه»، وفي باب «موكل الربا» برقم 2086. وهو في صحيح مسلم برقم 4177 من حديث جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء. ومن حديث عبدالله بن مسعود كذلك برقم 4176 في باب «لعن آكل الربا وموكله»، طبعة دار الجيل -بيروت. (¬2) - وقد فَصَّلتُ القول عن هذه المسألة في رسالة مستقلة في عقود الصيانة. (¬3) - قولنا «وسائر ضوابط الشريعة» كعدم إظهار الزينة المنهي عن إظهارها لرجل أجنبي، أو الخضوع بالقول، أو تعمد لفت نظر إلى زينتها بتعمد حركة (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31)، أو فعل خارج عن المعروف مفهم خضوعا (وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). (¬4) - قولنا «فرض عين عليها» لما ورد في إيجاب المسئولية عليها من النصوص، فمنها الحديث المتفق عليه (البخاري برقم 893، ومسلم برقم 4828)، واللفظ للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته -قال وحسبت أن قد قال- والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته». وفي لفظ مسلم «والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم». =

جواز الضمان التجاري في الوظائف

أمكن الجمع جاز. جواز الضمان التجاري في الوظائف: ويجوز مع تأجير العين كالعقار، أو السيارة، أو الكتب أن يأخذ عليها ضمانا تجاريا أو نقديا أو غير ذلك؛ لأن مقصود الرهن هو ضمان الأداء، ودعوى اختصاص الرهن بالدين في الذمة لا تصح إذ لا دليل على هذا الاختصاص بل يلحق به غيره بدلالة المقصود الشرعي من الرهن وهو موجود هنا وهو ضمان الأداء. وكل شرط لم يمنع منه الشرع فهو جائز؛ ولأن أخذ الضمانة أدعى لحفظ الأموال، وكل ما يحفظ به الأموال مطلوب بالجملة في مقصد الشرع، خاصة عند خراب الذمم؛ لاحتمال تعد بإتلاف متعمد أو ناتج عن إهمال فيما لا يتغاضى في مثله. وكذلك يجوز طلب ضمانة تجارية أو نحوها لمن يتقدم لوظيفة عامة أو خاصة ضمانا لعدم التفريط في ما سلم لهم من عهدات، والضمانة هنا تجري في حال التفريط فقط، لا في إتلاف بغير تفريط مما يمكن تلفه عادة. تنظيم وتسعير الإيجارات: ويجوز للدولة إصدار قانون ينظم ويسعر قدر الأجرة في أمور معلومة (¬1) حتى لا يزيد الناس الإيجارات زيادة تخل بالسوق والحركة التجارية؛ وهذا من المصالح العامة وهو مقدم على المصلحة الخاصة؛ كما أنه يدفع مفاسد عامة؛ فرجح جوازه. ¬

= قال القرطبي في شرحه للحديث في القول المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (12/ 82) الراعي: هو الحافظ للشيء المراعي لمصالحه. وكل من ذكر في هذا الحديث قد كلف ضبط ما أسند إليه من رعيته، واؤتمن عليه، فيجب عليه أن يجتهد في ذلك، وينصح، ولا يفرط في شيء من ذلك. فإن وفى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر، والأجر أكبر. وإن كان غير ذلك طالبه كل واحد من رعيته بحقه، فكثر مطالبوه، وناقشه محاسبوه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «ما من أمير عشرة فما فوقهم، إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولا، فإما أن يفكه العدل، أو يوبقه الجور». وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم «من استرعي رعية فلم يجتهد لهم، ولم ينصح لم يدخل معهم الجنة». (¬1) - قلنا «في أمور معلومة» لأنه يتعذر ضبط التسعير للأجرة في كل شيء فيكتفى بما يمكن ضبطه كالعقارات والسكن والمحلات التجارية ووسائل النقل ونحو ذلك.

مهنة المحاماة

مهنة المحاماة: ومهنة المحاماة جائزة، وهي إجارة إن كان الأجر معلوما، أما إن كان بشرط نجاح القضية فهي إجارة جعالة لا يعطى إلا إن وفى بالشرط. ولا تجوز المحاماة عمن تبين ظلمه، فإن فعل عصى الله ومحقت بركة عمله، لقوله تعالى (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105)، وقوله تعالى (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (النساء: 107). الوظيفة العلمية وأخذ الأجرة عليها: والاستئجار لتعليم العلم والقرآن جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (¬1). والأحاديث التي تنهى عن ذلك هي حوادث عين وردت في تعليم مضطر للتعليم مما تقوم به الصلاة والدين من الفروض فامتنع عن تعليمه إلا بأجر، وهذا ما نراه جمعا بين النصوص (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «والاستئجار لتعليم العلم .. » قلت: ما ذكرناه من النص مخرج في صحيح البخاري برقم 5737 عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ، أو سليم- فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق إن في الماء رجلا لديغا، أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». (¬2) - قولنا «وهذا ما نراه جمعا بين النصوص» في المسألة كلام منتشر، ولا بأس أن نذكر شيئا من ذلك، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (6/ 405) ط/ الرشد: اختلف العلماء في جواز الأجر على الرقى بكتاب الله وعلى تعليمه، فأجاز ذلك عطاء وأبو قلابة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور، وحجتهم حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد. وكره تعليم القرآن بالأجر الزهري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز على تعليم القرآن أجر. قال الطحاوي: وتجوز الأجرة على الرقى وإن كان يدخل في بعضه القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقى بعضهم بعضا، وتعليم الناس بعضهم بعضا القرآن واجب؛ لأن في ذلك التبليغ عن الله إلا أن من علمه أجزأ عن بقيتهم، وذلك كتعليم الصلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يجوز على الأذان، واحتجوا بأحاديث ضعاف منها حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به» وبحديث حماد بن سلمة عن أبي جرهم، عن أبي هريرة، ومرة يرويه حماد عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما تقول في =

وظيفة المعلم

أما من فرغ نفسه ووقته لذلك فأجرته جائزة بإجماع. وعليه استقرت المذاهب، والفتاوى، وهي كما يأخذ المجاهد والقضاة والحكام وقد قلت قديما نظما: وأجرة للحج والمنافع ... والعلم والقرآن أفتى الشافعي ومالك وأحمد روايهْ ... ومنع النعمان ذو الدرايهْ وظيفة المعلم: والمعلم موظف أجير مؤتمن أمانة كبيرة، ومقتضى العقد قائم على ذلك. ولا يدرس إلا كفؤ مؤهل ذو خلق لا سيء ولا متهتك (¬1). ¬

= المعلمين؟ قال: «درهمهم حرام». وبحديث المغيرة ابن زياد عن عبادة بن نسى، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت أنه قال: (علم رجل من أهل الصفة سورة من القرآن فأهدى إليه قوسا، فقال له رسول الله: إن سرك أن يطوقك الله طوقا من نار فاقبلها). والمغيرة بن زياد ضعيف، وأبو جرهم غير معروف، وأبو المهزم مجمع على ضعفه، وحديث ابن مسعود ضعيف، ومحال أن تعارض هذه الأحاديث إذا تساوت طرقها في النقل والعدالة، وأما إذا كان بعضها ضعيفا فالصحيح منها يسقط الضعيف. وأما قول الطحاوي: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضا فرض، فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه؟ وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضا الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقى وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة. وقوله عليه السلام: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم. وقد أجاز مالك أجر المؤذن، وكره أجر الإمام، وأجاز الشافعي جميع ذلك بحديث ابن عباس وأبي سعيد. قال المهلب: ومما يدل على جواز أخذ الأجرة على ذلك، أن الذين أخذوا الغنم تحرجوا من قسمتها وأكلها حتى سألوا رسول الله عن ذلك، فأعلمهم النبي أنها حلال لهم أخذ الأجر عليه، وأكد تأنيسهم، وطيب نفوسهم بأن قال «اضربوا لي معكم بسهم». انتهى كلام ابن بطال وهو غاية في الجودة. قلت: وقد أجمع العلماء على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتدريس العلوم النافعة إن كانت من الدولة فلا خلاف في جوازها، وإنما خلاف الحنفية المذكور في الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه ونحوها من العلوم الشرعية، وهو قولهم القديم، وقد رجع متأخروهم عن هذا القول، فوافقوا الجمهور في الجواز، وما اخترناه من القول هو الأقرب في الجمع بين النصوص، والله أعلم. انظر حاشية ابن عابدين 3/ 282، ومطالب أولي النهى 3/ 641، والمغني لابن قدامة 6/ 417. (¬1) - المؤهل يكون بشهادات أو إجازات أو خبرات استفاض معرفتها، والكفاءة تشمل القدرة، وهي تمثل القدرات =

فالكفاءة القدرة العملية، والمؤهل القدرة العلمية وحسن الخلق، وما بعده هو حسن السيرة والسلوك في العرف الوظيفي الآن، والحفاظ على الشعائر والقيم الدينية والمجتمعية. ولا يجوز الغياب إلا بعذر لا تلاعب، ولا البدل إلا بمثله في الكفاءة ولضرورة وبإذن الجهة المسئولة. ويجب الإحسان في التعليم لسائر المواد، والرفق مع الطالب، والنصح له، وبذل الوسع؛ لأن هذا مقتضى العقد، فهو من الإيفاء المأمور به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ويجوز الضرب المؤدب لا المتلف إن اقتضى الأمر ذلك. وقد قرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن ابن عباس طفلا (¬1). ويجب على الدولة توفير وسائل التعليم المطلوبة لتحقيق المقصد منه من معامل وتطبيقات وتكنولوجيا، ويستعمل كل ما استحدث من الوسائل؛ لأن الشريعة قاصدة للإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). ¬

= العلمية وهي بحسب العمل، ففي وظيفة المدرس قدرته على إلقاء الدرس أمام الطلاب وما يتعلق بذلك. وهذه الخصلة من الكفاءة مطلوبة ضرورة إذ لا يمكن لمن لا يستطيع التدريس عمليا أن يوظف مدرسا ولو كان مؤهلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إنك ضعيف وإنها أمانة» ومعنى الضعف جار هنا. وأما اشتراط الخلق فهو شرط يفسره ما بعده في قولنا «ولا متهتك». وسيء الخلق هو الفاحش البذيء والمتهتك هو عديم الالتزام بالقيم دينا وعرفا. ومن كان هذا حاله آذى الناس وضر، ولا بد من دفع ضرره وأذاه؛ لأن ذلك أمر شرعي ودفعه هنا اشتراط حسن الخلق والسلوك والحفاظ على الشعائر والقيم الدينية والمجتمعية، وهي ما تسمى عند الفقهاء «العدالة». (¬1) - قولنا «وقد قرص رسول الله .. » الحديث متفق عليه (البخاري برقم 183، ومسلم برقم 1825) واللفظ له، عن ابن عباس أنه بات ليلة عند ميمونة أم المؤمنين -وهى خالته- قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام فصلى. قال ابن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح.

ومن أتلف شيئا من أثاث وغيره بتفريط ضمنه. ويحرم الغش بكافة صوره لعموم «من غش فليس منا» (¬1)، ومن أقبحه انتحال شخصية الغير، والاختبار عنه، والغشاش كذاب خائن، ومن أعطاه شهادة عالماً بحاله فهو شاهد زور (¬2) خائن للأمانة كذاب، وكذلك من سكت تواطؤاً أو عاون؛ لقوله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 - 79). فإن أخذ عليه مالا كثرت الذنوب، وهو رشوة (¬3)، ويجب خلع وفصل من يثبت تهاونه وتمريره وتعاونه على الغش من مدراء ومسئولين، وموجهين، أو مدرسين؛ لأنه ثبت فسقه بالخيانة، وهذه ولاية أمانة. ويحقق مع المتورط قبل ذلك؛ لأن ذلك من تمام العدل والله يأمر بالعدل والإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، فإن تعهد بعدم العود فهل يُقبل منه؛ لأن من تاب تاب الله عليه؟ ¬

(¬1) - قولنا: لعموم «من غش .. »، الحديث في صحيح مسلم برقم 294، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا». وفي رواية لمسلم «من غش فليس مني». (¬2) - قولنا «فهو شاهد زور» وهي من أكبر الكبائر للحديث الذي أخرجه البخاري برقم 5976 ومسلم برقم 269، واللفظ له، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -ثلاثا- الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. ولقوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30). (¬3) - قولنا «وهو رشوة» لأنه دفع مال لآخر في باطل طلبا لموافقته عليه، وفي النص «لعن الله الراشي والمرتشي»، وهذا الحديث حسن صحيح، أخرجه أبو داود برقم 3582 بسند حسن عن عبدالله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. وإنما حسناه لأجل الحارث بن عبدالرحمن، وهو صدوق كما قال الحافظ وغيره. ورواه الترمذي برقم 1337، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه كذلك بسند حسن من حديث أبي هريرة، وإنما حسناه لأجل عمر بن أبي سلمة فإنه صدوق، ولأجل هذين الحديثين قال الترمذي: حسن صحيح، فجمع بين الوصفين وهما الحُسْن باعتبار السند وبين الصحة باعتبار الحديثين فيكون حسنا لذاته صحيحا لغيره كما هو معلوم في هذا الفن، وقد اكتفى الألباني بقوله: صحيح. وقول الترمذي أجمع.

هذا لا يجيء هنا؛ لأن المال العام لا يتصرف فيه إلا بالمصلحة وليس رد مثل هذا من المصلحة العامة. ويمكن النظر في قبول تعهد بعض الحالات بحسب قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». وعلى الدولة تشجيع العلم وإكرام المعلم والمتعلم، وتشجيع المبدعين والمتفوقين، لأداء هذا إلى تحقيق المصالح العامة، وهي مطلوبة شرعا فكذلك وسائلها؛ لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد (¬1). ويجب حضور طاقم التدريس كاملا من مدراء ومدرسين في أول دقيقة للدوام إلى آخر دقيقة؛ لأن هذا مقتضى العقد معهم. ويعفى عن نحو خمس دقائق لجريان العرف الوظيفي على التسامح فيها بلا تكرار كثير خارج عن الحد المتسامح فيه، وإلا حرم وحوسب؛ لأن تكرارها لمن معه ست حصص يومية مثلا، ينتج عنه غياب نصف ساعة في اليوم، وفي ستة أيام ثلاث ساعات، وفي شهر اثنتي عشرة ساعة، أي: ما يعادل ست عشرة حصة شهريا. ويجب على الدولة إصلاح المناهج على أربعة مستويات: 1. المناهج الشرعية العامة التي تحافظ على الدين والعقيدة واللغة والهوية الإسلامية وتعلم هذا القدر فرض؛ لأن حفظ الدين وما يتعلق به هو أول المقاصد الكبرى للشرع. 2. المناهج العلمية التكنولوجية التي تنهض بالأمة. 3. المناهج التطبيقية والبحثية. 4. المناهج الفكرية والمجتمعية والأدبية والسياسية والاقتصادية؛ لأن هذه المستويات تحقق الإحسان الكلي المأمور به (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، ولأن هذه من القوة وهي مطلوب شرعي (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60). ¬

(¬1) - قولنا «الوسائل تأخذ أحكام المقاصد»: هذه قاعدة شرعية مشهورة ذكرها الفقهاء بعبارات مختلفة، انظر: الفروق للقرافي (1/ 302)، ومع كونها تأخذ أحكام المقاصد إلا أنها أخفض رتبة منها بالإجماع. نقله القرافي في الفروق (1/ 202) ط/ دار الكتب العلمية. وقد قرر ابن عبدالسلام هذه القاعدة وشرحها في كتاب «قواعد الأحكام» صـ 46 - ط/ دار المعارف -لبنان.

وجوب التزام الدوام من أول الوقت إلى آخره وما يلزم عند التفريط

وفرض على الدولة وسائر القطاعات التعليمية تعليم الشعائر الكبرى للدين والعمل بها والصلاة بالطلبة في أوقات الصلاة، وتعظيم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم؛ لعموم (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). وغربلة الطلاب؛ لإخراج الأذكياء والعباقرة ودعم تخصصاتهم؛ لأن هذا يحقق العمل بفرض الكفاية في إيجاد التخصصات. وتوزع المنح الدراسية للمؤهلين، ويحرم إدخال غير مؤهل بوساطة، أو رشوة، أو تحايل، أو أي وسيلة؛ لأنه يؤدي إلى إعطاء الحق لغير أهله، ومنع المستحق ويؤدي إلى مفاسد وفساد تعليمي وتخلف البلاد، وهذا كله من الظلم، والشريعة جاءت لدفعه ومنعه. وجوب التزام الدوام من أول الوقت إلى آخره وما يلزم عند التفريط: والأجراء والموظفون يجب عليهم الدوام من أول دقيقة في الوقت إلى آخر دقيقة، وجاز خصم قسط مقابل التفريط في الدوام بما لا يتسامح في مثله عرفاً. ويجب على الموظف القيام بجميع ما عليه من عمل، فإن لم يقم بذلك لمماطلة أو تلاعب أو كسل أثم؛ لأنه خالف الوفاء بالعقود (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). فإن كان موظفا بأجرة شهرية، أو يومية؛ فإنه يأثم؛ لأن هذا نوع خيانة للأمانة. وعليه إثم من جهة عدم قضاء حاجات الناس ومعاملاتهم؛ لأنه المقصد الشرعي من الوظيفة وقد ضيعه وما إبرام العقد إلا لهذا المقصد. وجاز تأديبه بالتحقيق والإنذار والخصم ثم الفصل إن اقتضى الأمر ذلك. فإن كان أجيرا بالعمل لا بالمدة كبناء، أو هندسة، أو طلاء، أو خياطة، أو نحو ذلك من كل وظيفة أو أجرة تنضبط بالعمل لا بالمدة؛ فإنه يأثم لتلاعبه، ومماطلته، ولا يخصم من أجره إلا إن أدى مطله إلى الضرر الفاحش، كمن عقد مع شركة استيراد توريد سلعة لموسم كعيد فأخرها عن موسمها، لم يلزمه قبضها، فإن أمكن بيعها في غير موسمها بلا ضرر قبضت، فإن حصل ضرر ضمن بحكم عدلين عارفين بذلك. وإنما يحكم عدلان دفعا للضرر عن الطرفين وقطعا للنزاع والأطماع.

أخذ الموظف المال من المعاملين بمسمى إكرامية

أخذ الموظف المال من المعاملين بمسمى إكرامية: ولا يجوز لموظف في قطاع خاص أو عام، أخذ مال من العميل بمسمى «إكرامية»، أو «بقشيش» لتعجيل معاملته وإجراءاته، فإنه مكس محرم يفتح باب خيانة الأمانة والتلاعب، فلا يعمل الموظف عمله المدفوع عليه راتب شهري إلا بهذا الفعل؛ ويؤدي إلى ظلم الناس، والإضرار بهم من تأخير وعرقلة إجراءاتهم وتقديم المتأخر الدافع، وأكل أموال بظلم وإكراه وباطل، وهو محرم لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). فإن كان صاحب المعاملة غير مؤهل لما تقدم له، فدفع مالا للتغاضي عن الشروط وتمريره، فهي رشوة ملعون هو ومن أخذ ومن سعى بالنص «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما» (¬1) وهو الساعي. الوساطات والهدايا: وتحرم الشفاعات والوساطات التي تخل بالنظام العام والمصلحة العامة؛ لأدائها إلى مظالم كثيرة ومفاسد جمة، وما أدى إلى المفسدة حرم. فإن أخذ عليها مالا زاد إثمه وجرمه. وأما الشفاعات والوساطات الجائزة والمشروعة فهي التي تؤدي إلى إعطاء ذي الحق حقه، وإيصال الحق إلى أهله، فهذا مشروع وقد يصل إلى الوجوب إن كان فيه نصرة لمظلوم لقوله تعالى (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) (النساء: 85) (¬2). والهدايا والضيافة للولاة والموظفين كبارا أو صغارا إن حصلت من محتاج لقضاء حاجة له ¬

(¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - قولنا لقوله تعالى (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا): استدلال على مشروعية الشفاعة الحسنة، وأما ما يدل على وجوبها في حالة نصرة المظلوم فلأن نصرة المظلوم من دفع الفساد في الأرض، وهو واجب. ولحديث «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وهو في صحيح البخاري من حديث أنس برقم 2443، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب. ولحديث أبي موسى في الصحيحين (البخاري برقم 1432، ومسلم برقم 6858) «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء».

تدوير المناصب وتوريثها

عندهم، لا يجوز فعلها، ولا أخذها، ولا إجابة الدعوة؛ لأنها في معنى المكس أو الرشوة. وقد جاء رجل فقال «هذا لكم وهذا أهدي لي» فذمه الشرع ومنعه (¬1). ويجب على الإجراء من كبار المسئولين أو صغار الموظفين معاملة ما بأيديهم من العمل كمعاملة ما هو لأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬2). تدوير المناصب وتوريثها: ويجب الآن على الدولة في الوظيفة العامة تدوير المناصب؛ لأن هذا هو مقتضى العدل والمساواة، وبه تدفع مفاسد كثيرة، وتوضع لذلك شروط وتأهيلات من كانت فيه دخل في قانون تدوير المناصب. ولا يجوز التوريث للوظائف العامة؛ لأن المناصب أمانات؛ ولا تؤدى إلا إلى أهلها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). وقال تعالى (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ) (النساء: 5). حتى الميراث الشرعي شرط تسليمه للورثة بلوغهم راشدين (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). فإن كان في أحدهم سفه؛ فلا يسلم له ميراثه، بل يعين القاضي عدلا يدير له ماله حتى يرشد. فهذا في الملك الخاص، فكيف في العام، فالأمور العامة لا طريق فيها للتوريث أصلا، ولا يدل لها أصل ولا فرع في الشريعة، فالوظائف العامة والإدارات ومجالس الشورى والنواب ¬

(¬1) - قولنا «وقد جاء رجل .. » هو في حديث في الصحيحين (البخاري برقم 2597، ومسلم برقم 4843) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: فهلا جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ثلاثا. واللفظ للبخاري. (¬2) - حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه (البخاري برقم 13، ومسلم برقم 179) كلاهما من حديث أنس.

العهدات الوظيفية

وسائر الوظائف العامة الشرط فيها الكفاءة وهي «القوة والأمانة» ولا نظر إلى غير ذلك في الأصل. العهدات الوظيفية: ومن أعطيت له عهدة فهي: إما داخلية أو خارجية. فالداخلية ما يستعمله من أقلام ودفاتر، وتلفون، وكمبيوترات، وطباعة، وآلة تصوير، ودباسات، وورقيات وصرفيات حال عمله في مكتبه، وهذه أمانات فلا يجوز صرف شيء منها، أو استعماله استعمالات خاصة فيما لا يتسامح بمثله مما جرت به العادات والأعراف الرسمية بخلاف كونه على جهة الاستغلال للمال العام، أو استعماله فيما لا يعفى عنه، ويتغاضى لحقارته وعدم إمكان التحرز منه، فلا يكتب بقلم المال العام ولا يطبع ولا يصور ما هو خاص به لا علاقة له بالمصلحة العامة. ومن فعل ذلك فهو غال (¬1)، يقول سبحانه وتعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161). وأما العهد الخارجية كالسيارات مثلا، أو التلفونات النقالة، فإن أذن له في قضاء أموره بها جاز بحسب القوانين المنظمة لذلك ولا يتجاوز. ¬

(¬1) - قولنا «ومن فعل ذلك فهو غال»: لأنه استعمل على عمل عام فكتم منه شيئا خيانة، والنصوص تدل على وجوب أداء الأمانات، وهذه أمانة وإن قلت (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58) وهذا نص عام ولحديث عدى بن عميرة الكندي عند مسلم برقم 4848 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة». قال فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله اقبل عنى عملك قال «وما لك». قال سمعتك تقول كذا وكذا. قال «وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتى منه أخذ وما نهي عنه انتهى» .. قال القاضي عياض في شرح حديث «من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة»: المخيط: الإبرة. وفيه تعظيم القليل من الغلول بقوله: (فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتى منه أخذ) ذلك على قدر ما يراه الإمام له، من استحقاقه في عمله أو حاجته أو سابقته. وقد جاء أنه أباح لمعاذ قبول الهدية حين وجهه إلى اليمن ليجبر بها ما جرى عليه من التفليس، والظن بمعاذ أنه لا يقبل منها إلا ما طابت به نفس مهديه، وأنه ممن لا يصانع أحدا في حق من أجلها، فكانت خصوصا لمعاذ؛ لما علمه منه النبي صلى الله عليه وسلم من النزاهة والورع والديانة، ولم يبح ذلك لغيره ممن لم يكن عنده بمنزلته، وحذر عليه ما قدمناه. انتهى كلامه، انظر إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (6/ 124).

تناول الإفطار وقراءة الصحف للموظف

فإن لم يكن مأذونا له استعمالها في خاصياته، حرم عليه؛ فإن فعل دخل في الغلول. تناول الإفطار وقراءة الصحف للموظف: ويعطى الموظف وقتا معلوما لتناول الإفطار، فإن لم يحدد له ذلك جاز له بقدره لأن الضرورة تقدر بقدرها، ولأن العقود قائمة على نص «لا ضرر ولا ضرار». وأما قراءة الصحف في وقت الدوام، فلا مانع إن كان في وقت فراغه عن قضاء المعاملات للناس، وإلا دخل في الإثم؛ لأن العقد لا يتضمن الضرر وقد أضر بالغير إلا إن كانت قراءة الصحف ذات صلة بعمله أو موقعه. سجل الحضور والغياب الإلكتروني والعادي: ومن المصلحة العامة ضبط سجل الحضور والغياب. ولما كان الشرع قائماً على طلب الإحسان في كل شيء، فإن وضع توقيعات إلكترونية للحضور والغياب من ذلك الإحسان؛ لما يحقق من العدل والضبط وإعطاء كل ذي حق حقه؛ لعموم قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولحديث «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (¬1)، وهذا من العدل والإحسان. فإن لم يتوفر الضبط الإلكتروني ضُبِطَ في سجل لدى مؤتمن لا يجامل ولا يداهن، فإن فعل ذلك تحمل أوزارا من فعله ومن فعل غيره (¬2)، وجنى على نفسه؛ لأنه متعاون على الإثم والعدوان وهو محرم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). التوقيع عن الغير: ولا يجوز التوقيع بدلا عن الغير، ولا التغطية عليه، فكل هذا من المظالم والخيانة للأمانة، ¬

(¬1) - قولنا: ولحديث «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» هو في صحيح مسلم برقم 5167 من حديث شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته». (¬2) - قولنا «تحمل أوزارا من فعله ومن فعل غيره» دليله قوله تعالى (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) (النحل: 25).

الصلاة وشعائر الله في المرافق الوظيفية

والغش للأمة، وخلاف النصيحة. الصلاة وشعائر الله في المرافق الوظيفية: وفرض على الدولة أن تجعل وقتا للصلاة ومصلى في جميع الدوائر الحكومية والجهات إلا في حال وجود مسجد قريب؛ ليؤدي الموظف شعائر الدين الكبرى فإن لم يكن ذلك من الدولة ففرض على الموظف الصلاة، ولو في مكتبه أو في مسجد قريب. وعليه أن يترك -تأجيلا- ما عنده من عمل ليتفرغ للصلاة، ويرجع فورا لإتمام عمله بعد فراغه من الفرض والتطوع الراتب. ولو اتخذ الموظفون قاعة للصلاة، أو مكانا، أو غرفة فقد أحسنوا؛ لأن الجماعة إظهار للدين وتعظيم له. ومن منع الموظف من أداء الصلاة في مكتبه أو في مسجد قريب، فهو صاد عن سبيل الله عدو لله ورسوله، ويجب محاسبته، فإن عاد لذلك وجب عزله عن ولايته؛ لأنه مضار للناس في دينهم وهو ضرر فاحش وفي النص عزل الإمام بصده عن الصلاة «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» (¬1). فإذا كان هذا في الولايات الكبرى العامة ففي مثل هذا أولى. وهكذا الأمر في المدارس والجامعات وغيرها، فيجب جعل وقت الصلاة في الجدول العام كما تجعل أوقات الراحة؛ لأن هذا هو مقتضى تعظيم شعائر الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32). فإن إقامة الصلاة على الدولة أول واجب في سياساتها. وهو فرض شرعي (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). ¬

(¬1) - قولنا «وفي النص عزل الإمام .. » المقصود من النص هو ما أخرجه مسلم برقم 4910 من حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة».

حقوق الموظف والأجير

ويرافق الحق الأول، ويتلوه: النظر في توزيع النسبة الواجبة من الثروات والأموال على شرائح المجتمع الفقيرة والأصناف الثمانية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60). ومع هذا بالتوازي: السعي للإصلاح الشامل في كل المرافق والإدارات وإقامة عوامل النهضة سياسيا، وأخلاقيا، ومجتمعيا، واقتصاديا، وعسكريا، وعلميا، وهو المعبر عنه بالمعروف. ومحاربة كل مظاهر الفساد في كل المجالات، وهو من المقصود بالمنكر في الآية. حقوق الموظف والأجير: ويجب إعطاء الرواتب والأجرة في وقتها بلا تأخير، ولا تؤخر عن آخر يوم في الشهر حتى يبدأ الشهر الآخر، لما ورد في التشديد من النصوص كحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره» (¬1)، ولحديث «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2227. (¬2) - حديث «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، قلت: هذا حديث جيد رواه عدد من الصحابة فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجة في السنن برقم 2443 عن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه. وفي سنده عبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي يعلى الموصلي في المسند برقم 6682، وفيه عبدالله بن جعفر بن نجيح ضعيف. وله شاهد آخر عند الطبراني في الصغير برقم 34 من حديث جابر، وفيه محمد بن زياد ضعيف، وشرقي بن قطامي ضعيف، ومجموع هذه الشواهد تجعل الحديث من باب الحسن لغيره وأما الطريق الجيدة فهي ما أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/ 13) برقم 3014، فقال حدثنا محمد بن علي بن داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا محمد بن عمار المؤذن، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه». قلت: هذا سند جيد رجاله ثقات إلا محمد بن عمار المؤذن وثقه ابن المديني، وقال الحافظ في التقريب: لا بأس به. وقال ابن معين: لا بأس به.

تسهيل الوصول إلى مسئولي العمل

ومقدار الراتب يحدد بعدل، والعدل هنا ما يكفي حاجاته وضرورياته بتوسط، وهو عادة وشرعا ما وافق أمثاله في الوظيفة، فإن كان الراتب زهيدا لا يكفي ضرورياته وحاجياته فإن هذا عقد بغبن فاحش، وهو محرم، ولا يقال هو بالخيار لأن الوظيفة العامة الغالب عليها الآن الاضطرار للقبول مع الضرورة والضرر، وهذا ليس من العدل والإحسان والإكرام (¬1). ويجب العدل في الترقيات للمستحق. ويعطى الموظف حقه من الإجازات، والعلاوات، والترقيات، والمساعدات، والقروض، والعلاجات، والبعثات أسوة بأمثاله وهذا مما أمر الله به في عموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). تسهيل الوصول إلى مسئولي العمل: ولا يجوز احتجاب المسئول عن الناس، وتعسير الوصول إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من احتجب عن رعيته احتجب الله عن حاجته يوم القيامة» (¬2). ولأنه يؤدي إلى خلاف مقصود الولاية، وما خالف مقصود الولاية حَرُم. ¬

(¬1) - تكلمنا عن موضوع الراتب والعدل فيه والتأصيل الفقهي لذلك في عدة مواضع من كتابنا، كفقه «التربية والتعليم» وفقه «المؤسسة العسكرية» وغيرهما. (¬2) - الحديث أخرجه أبو داود برقم 2950 عن ابن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره أن أبا مريم الأزدى أخبره قال دخلت على معاوية فقال ما أنعمنا بك أبا فلان. وهي كلمة تقولها العرب فقلت حديثا سمعته أخبرك به سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من ولاه الله عزوجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره». قال فجعل رجلا على حوائج الناس. قلت: هذا الحديث من الأحاديث السياسية وهو حديث صحيح رجاله كلهم ثقات وسليمان بن عبدالرحمن الدمشقي شيخ أبي داود وإن كان قيل فيه أنه صدوق كما قال النسائي وابن حجر، فقد قال الدارقطني والذهبي والفسوي وابن معين وأبو داود أنه ثقة. وله شاهد من حديث معاذ عند أحمد برقم 22129، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ولي من أمر الناس شيئا فاحتجب عن أولى الضعفة والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة». قلت: وهذا الشاهد سنده لا بأس به أو حسن فيه شريك بن عبدالله القاضي، قال أحمد: صدوق ثقة إذا لم يخالف. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في التقريب: صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وعمدة القول هنا في هذا الحديث هو ما قاله أحمد؛ لأنه وافق الثقات، فحديثه هنا صحيح.

الغلول والاختلاس والتحايل

الغلول والاختلاس والتحايل: واختلاس المال العام، والتحايل عليه تحت أي مسمى من نثريات أو غير ذلك من أكبر المحرمات الشرعية. ومن الغلول والخيانة رفع تقديرات كاذبة لصرف أموال واعتمادات، أو المبالغة فيها فوق حقيقتها بغية جناية المال. وقد اجتمع هنا من المعصية الكذب والخيانة والغش والغلول. ومن الغلول: كتم قيمة المخيط والقلم؛ لحديث «من كتمنا مخيطا فما دونه جاء به غلولا يوم القيامة» (¬1). ومن الغلول والخيانة صرف أموال عامة للنزهة والسفر والترفيه على كبار الموظفين، مما لا يعود بالنفع على الموازنة العامة ولا المصلحة ويفتح الشهية والشهوة أمام الاختلاس والاختلال، إلا ما اقتضته البرامج المتعلقة بالعمل وضبطت بالعدل وجرى العرف الرسمي في أمثالها من الدول غير الفاسدة إداريا. محاسبة الموظفين المفسدين: ومن الكبائر عدم محاسبة المفسدين والمختلسين واستمرار توليتهم والمناكفة عنهم؛ لحديث «من أعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه» (¬2). ويجب محاسبتهم أمام الجهات المعنية المختصة، وإن اقتضى الأمر حوسب أمام القضاء، ¬

(¬1) - هو في صحيح مسلم وسبق تخريجه. (¬2) - الحديث في مسند أحمد بن حنبل برقم 18151، حدثنا عبدالله حدثني أبي ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني أبو حصين عن الشعبي عن عاصم العدوي عن كعب بن عجرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دخل ونحن تسعة وبيننا وسادة من أدم فقال «إنها ستكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ويعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض». قلت: هذا سند صحيح متصل رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين إلا عاصماً العدوي، وقد وثقه النسائي وروى له هو والترمذي كما في تهذيب الكمال وأخرجه كذلك الترمذي من طريق مسعر عن أبي حصين بهذه الطريق، وقال حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. قلت: وهذا الحديث رواه عدد كبير من الصحابة وهو من الأحاديث السياسية.

الوظيفة الأمنية

وليحكم القاضي بما أراه الله من العدل في هؤلاء بلا خوف أو رغبة أو رهبة، يقول تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105). ويحرم الدفاع عنهم لعموم (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (النساء: 107)، أو حمايتهم (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17). الوظيفة الأمنية: ورجال الأمن، والشرطة، والبحث، والنيابة، وسائر الجهات المعنية أجراء. ومقتضى العقد لهم أنه يجب عليهم ضبط الأمن، والعدل مع الخلق، ومنع كل ما يغضب الله من الجرائم والمنكرات والفواحش لعموم (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). وكل مكان فيه ذلك من بارات، أو مراقص، أو فنادق فيجب عليهم شرعا منعها أو إزالة منكراتها. ويجب عليهم ضبط المفسد ولو كان نافذا في الدولة؛ فإنَّ أَخْذَ الضعيفِ وتَرْكَ الظالمِ القوي محرمٌ، وفيه هلاك للخلق «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» (¬1). ولا يجوز لأحد اختلاس مواطن أو مقيم. ويحرم استعمال هذه الأجهزة لأي غرض شخصي؛ لأنها للأمة ككل تحفظ أمنها واستقرارها ودينها، وهذا هو مقتضى العقد معها، واستغلالها لأغراض شخصية خارجة عن النظام خلاف لهذا العقد. ¬

(¬1) - هذا الحديث متفق عليه (البخاري برقم 3475، ومسلم برقم 4505) عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقال: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها» وهذا لفظ البخاري.

التقدم للوظيفة

وتعيون عسكري -أي أجرته- على الدولة لا على المواطن. وتحرم الرُسَّامة عند خروج سجين، وهي عطاء مالي جبري لبواب السجن، وهي مكس وسحت؛ لأنها لا معنى لها بحق فتكون من الباطل المحرم بعموم (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). وإذا ضبط الأمن من يفعل الفواحش لزم تأديبه وتعزيره، فإن كان وكرا وجب منعه. ويحرم الستر على مروجي وتجار المخدرات، والخمر، ومروجي الزنا، واللواط، والعصابات، وقطاع الطرق، والقتلة. وكذا يحرم التغطية على مهربي كل ضار ومحرم، ولا يجوز أخذ رشوة منهم لإخلاء سبيلهم، وهو خيانة للأمانة، ومن ثبت فعله لذلك وجب إحالته للجهات المعنية للتحقيق معه؛ لأنه من الإصلاح في الأرض (وَأَصْلِحُوا) (الأنفال: 1)، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104). التقدم للوظيفة: وطلب الوظيفة مباح، ويجب على جهة القبول العدل والإحسان في ذلك. والعمل للمعيشة لكفاية النفس والأهل ممن يعول واجب لقوله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول» (¬1). ولا إثم إلا في تضييع الواجبات. ولأن «الرجل راع على أهله ومسئول عن رعيته» (¬2). ولأن النفقة واجبة على الرجل (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233). (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7). ¬

(¬1) - حديث «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» أخرجه مسلم برقم 2359 وأبو داود برقم 1694، كلاهما من حديث عبدالله بن عمر، ولفظ مسلم «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته». (¬2) - تقدم تخريجه.

وتضبط بالمثل العرفي (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6). ويقول سبحانه وتعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، وأول حقوقه النفقة على القادر لغير قادر. وفي النص «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» (¬1). وخير ما يأكل الإنسان من عمل يده «وما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» (¬2). وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم (¬3)، ورعاها موسى عليه السلام (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص: 27)؛ فتبين بهذا مشروعية العمل. وطلب الوظيفة الحكومية والأهلية وسيلة إلى تحصيل الرزق فشرعت. ويجب طلبها إن لم يكن غيرها تحصيلا لنفقته ونفقة من يعول. وعند التقدم للوظيفة يساوى بين المتقدمين في النظر إلى توفر الشروط؛ لأن هذا من العدل المأمور به (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). ولا مانع عند تساوي المتقدمين في الكفاءة والمؤهلات والخبرات أن يقدم ذو فاقة وحاجة؛ ¬

(¬1) - حديث «لأن يأخذ أحدكم أحبله» أخرجه البخاري برقم 2075 من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لأن يأخذ أحدكم أحبله خير له من أن يسأل الناس». وهو كذلك عنده برقم 2074 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه، أو يمنعه». (¬2) - قولنا «ما أكل أحد ... » هو من حديث أخرجه البخاري برقم 2072 عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده». (¬3) - قولنا «وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم» ورد فيه ما أخرجه البخاري برقم 2262 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت. فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».

المكافآت والتحفيزات

لأن مقصود الوظيفة تولية كفؤ أمانة العمل، وهذه مصلحة عامة، ومن جهة أخرى منفعة الموظف براتب مجزئ يسد حاجته ومن يعول، وهذه مصلحة خاصة معتبرة، والجمع بين المصالح عند القدرة على ذلك مطلوب شرعي؛ لأنه إحسان فوق إحسان. فيشمله النص في قوله تعالى (وَأَحْسِنُوَا)، وقوله سبحانه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، شمولا أوليا مقدما على ما يحقق مصلحة من جهة واحدة. المكافآت والتحفيزات: ويشرع الثناء على من أحسن من الموظفين وتشجيعه لما لذلك من المصلحة؛ ولأنه محسن، ومقابلة الإحسان بالإحسان أمر مشروع وهذا منه (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). وفي النص «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف» (¬1)؛ وهو يدل على الثناء الحسن على الأمر الحسن. ويعطى المحسن في عمله ما يناسب من المكافآت والترقيات والتحفيزات مادية ومعنوية، وهو أمر مصلحي يخدم العمل وتقره الشريعة وتطلبه؛ لأنها جارية على مكافأة المحسن على إحسانه. الزي الوظيفي: وإلزام الموظفين بزي معين أمر مباح يلزم بالعقد والشرط فيه لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولأنه مباح لا يتعلق بالإلزام به في العقود مفسدة أو معارضة شرعية فجاز؛ ¬

(¬1) - حديث «صوت أبي طلحة .. » حديث حسن لغيره، أخرجه الحارث في مسنده كما في «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» (16/ 359) برقم 4025 قال الحارث: حدثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أو أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صوت أبي طلحة رضي الله عنه في الجيش خير من ألف رجل». قلت: هذا سند رجاله ثقات إلا عبدالله بن محمد بن عقيل. قال في التقريب جامعا بين كلام أئمة الحديث فيه صدوق في حديثه لين. قلت: وللحديث شاهد عند أحمد من حديث أنس برقم 13771 وفيه علي بن زيد بن جدعان ضعفوه وهو صالح في المتابعات والشواهد كما قال الحافظ في التقريب «لا يحسن حديثه إلا بالمتابعة والشواهد». قلت: فعلى هذا فحديثه حسن، نظرا للشاهد السابق.

عمالة الأطفال

ولأنه مشمول بالعفو (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، ولأن الزي المعين على وجه عام في الوظيفة الرسمية أو غير الرسمية له مقصد مصلحي أقله أنه داخل في التحسينات، وللشركات مقصد مصلحي غير هذا يمثل رمزا للشركة وشارة تجارية دعائية محمولة، وهذا نوع مقصود في التجارات؛ ولأنه يؤدي إلى تساوي الموظفين على اختلاف طبقاتهم المادية والوظيفية وهذا أمر حسن؛ ولأنه يشيع الانسجام والعمل بروح الفريق الواحد، وهذا يحقق نوع مصلحة للعمل؛ فلا مانع من ذلك إذا. عمالة الأطفال: وعمالة الأطفال ضررها أكبر من نفعها عليهم لغلبة تركه بسببها ما ينفعه في حياته من تعليم وتربية ومصالح جمة، ويعظم الضرر عليه حال انعدام ناظر عدل لمصالحه؛ لاحتمال وقوعه في يد من لا خلاق له فيضطهده نفسيا وبدنيا وماليا (¬1). ويجوز تعليم الأطفال العمل تدريبا؛ لأن الله شرع لناظر اليتيم أن يختبره ويدربه قبل بلوغه، فإذا بلغ فإن كان راشدا دفع له المال وإلا انتظر حتى يرشد (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). تأهيل أصحاب الاحتياجات الخاصة: وتأهيل أصحاب الاحتياجات الخاصة كأعمى، أو أخرس، أو مقعد عن الحركة من المصالح العامة التي يجب على الدولة القيام بها؛ لأنها ناظرة للمسلمين نظر مصلحة وهذا منه. ولأن ترك تأهيلهم بما ينفعهم في حياتهم ويتناسب مع حالاتهم مؤد إلى مفسدة في شريحة كبيرة من المجتمع فيكون كثير منهم عالة يتكفف الناس. ¬

(¬1) - وكم يُشق عليه في الكد، ولا ينظر إلى مصالحه تربية، وتعليما، وسلوكا، وقد يعتدى على عرضه، أو يباع من نخاسين فجرة يكرهونه على ذلك للتمول؛ فلا يرجع بدين ولا عرض ولا مال ولا عقل محفوظ بنور العلم، بل قد تسرق منه بعض أعضائه الحيوية إن وقع في يد تجار الأعضاء البشرية من الظلمة المفسدين في الأرض، وهؤلاء حدهم هو حد الحرابة؛ لأنهم أشد إفسادا ممن يخيف السبيل الآمن.

نقابات الموظفين والعمال

وقد ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم الأذان (¬1) وهو أعمى، وكان له من يخبره بالوقت، وولاه على المدينة لما ذهب إلى مكة فاتحا (¬2). ومع توفر كثير من العلوم التكنولوجية يسهل تأهيلهم، واستيعابهم في الوظائف المختلفة المناسبة لهم، والتي تكف حاجاتهم الحياتية وتدفع عنهم الفاقة والمسألة. نقابات الموظفين والعمال: وللموظفين والعمال إنشاء نقابة لهم تدافع عن حقوقهم العادلة، وتنصر المظلوم منهم، وتمنع البغي والعدوان على أحدهم، وتمثلهم في الجهات المختلفة فيما يحق لها من أنواع التمثيل الحقوقي. وكل هذا، الأصل مشروعيته لعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). والتعاون على طلب الحقوق العادلة ونصرة المظلوم من البر. جمعية الادخار والتعاون بين الموظفين برواتبهم: وللموظفين وغيرهم إنشاء جمعية شخصية يتعاونون من خلالها على الادخار بجمع جزء متساو من رواتبهم ويسلم المبلغ كاملا لأحد المشتركين معهم شهريا حتى يدور ذلك على الكل. وهو عقد إرفاق مشمول بعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، وبعموم (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، فالكل محسن ويقابل بمثل إحسانه. وتخريجه الشرعي أنه عقد قرض معين من متعددين معينين بأجل معين لكل فرد منهم بتاريخ مستقل، فهذا تعريفُ أوَّلِهم قبضا. وأما آخرهم قبضا فهي له جباية قرض آجل معين من معينين في أجل واحد. ¬

(¬1) - قولنا «وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم الأذان» الأحاديث التي تدل على ذلك كثيرة مخرجة في الموطأ وفي الصحيحين وفي السنن وفي المسانيد والمعاجم وهي أشهر من أن نذكر فيها حديثا أو حديثين. (¬2) - قولنا «وولاه على المدينة ... » أخرجه أحمد برقم 12366 من حديث أنس رضي الله عنه قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم مرتين على المدينة، ولقد رأيته يوم القادسية معه راية سوداء. قلت: سند هذا الحديث حسن لأجل عمران القطان صدوق وبقية رجاله رجال الشيخين. وفي الباب جملة من الأحاديث.

وأما ما بين الأول والآخر فهو عقد قرض معين آجل أقرضه لآخرين واقترضه من آخرين معينين يَقْبضه منهم ويُقْبضه في أجل معين لكل شخص. ومن منعه بعلة أنه قرض جر نفعا (¬1) فلم يصب؛ لأن الحديث في ذلك ساقط ولا يصح كقاعدة فقهية كذلك. وعلى فرض التسليم بالاحتجاج به أو بالقاعدة فنقول بعدم صوابية ذلك؛ ولأن عموم الحديث مخصوص قطعا لجواز قبول الهدية بلا شرط وهذا جر نفعا. ولأن صور التجارات بالدين جائزة في الأصل مع جرها نفعا تجاريا قطعيا، فدافع رأس مال السلم هو مقرض، وقابضه مقترض مقابل سلعة، وأجازه الشرع للحاجة، وخَرَّجَهُ الفقهاء على بيع في الذمة علة جوازه عموم الحاجة. وكذا من يداين الناس في السلع التجارية بآجل مع زيادة ثمن يفيد ويستفيد، وقد جر نفعا، وهو مباح؛ لأن الأصل حل التجارات. فلا بد أن يؤول الحديث أنه قرض إحسان وإرفاق شرط معه ربحٌ زائدٌ على أصله، وإلا لزم بعمومه إبطال معلومات الجواز من الأدلة وهي كثيرة، لأنه ما من إقراض تجاري إلا وله نفع. ¬

(¬1) - قولنا «بعلة أنه قرض جر نفعا» قلت: حديث «كل قرض جر منفعة فهو ربا» حديث ساقط باتفاق أهل الحديث. رواه الحارث كما في المطالب العالية رقم 1440 لابن حجر، وفيه سوار بن مصعب وهو متروك بلا خلاف، وهذا الحديث قال فيه العجلوني: وإسناده ساقط (كشف الخفا) ط/ دار إحياء التراث العربي (2/ 125). وقال الحافظ في بلوغ المرام رقم 861 رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط. وقال أبو حفص عمر بن بدر الموصلي في المغني عن الحفظ والكتاب: لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم صـ 81، ط/ دار الكتاب العربي. وضعفه السيوطي في «الجامع الصغير»، والبوصيري في «إتحاف الخيرة» برقم 2937. وعبدالحق الإشبيلي وأعله بسوار بن مصعب وقال إنه متروك وأقره الزيلعي في نصب الراية (4/ 60) ط/ عوامة. وضعفه ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» ط/ مكتبة الرشد (2/ 78). وقال ابن عبدالهادي الحنبلي في «تنقيح التحقيق»: هذا إسناد ساقط وسوار هو ابن مصعب وهو متروك الحديث (4/ 180) ط/ أضواء السلف -الرياض. وقال الصنعاني في «سبل السلام»: إسناده ساقط. وقال السخاوي والمناوي: إسناده ساقط -فيض القدير (5/ 36) ط/ دار الكتب العلمية. وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» برقم 9728. وقال الفيروز آبادي: إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به. وضعفه العلامة ابن باز، كما في مجموع الفتاوى (16/ 294)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، ومحمد رشيد رضا في المنار، وصاحب أسنى المطالب. وكذا ليست بقاعدة فقهية، وإنما هو قول عن ابن عباس رضي الله عنه ولا إجماع على العمل به. انظر المغني لابن قدامة (9/ 111)، فقد نقل مذاهب في ذلك. وكذلك ابن نجيم في البحر الرائق.

الوظيفة في بلاد الكفار

ولأن المسألة في المعاملات أصلها على الإباحة، فإن جاء معارض ناقل عارضه أصل مبق على الأصل زائد على مجرد الإباحة كما هنا، قدم: لأن المبقي على الأصل أولى حتى يقطع بما يزحزحه عن يقين الإباحة الأصلية وعواضدها. وهاهنا تعارض أصل الإباحة الأصلية مع ناقل وهو: أي قرض جر نفعا؛ فضعف الناقل لكثرة استثناءاته، وعضد الأصل بأصول الأمر بالتعاون والإحسان. وبقي النص الناقل لحالة متيقنة واحدة لا ترد هنا، وهي القرض مع شرط رده وربح زائد عليه. فهذا هو اليقين من تأويلاته وغيرها ضعيفة. وهذا التأويل اليقيني لا يرد هنا في مسألة جمعية الموظفين. الوظيفة في بلاد الكفار: والوظيفة في البلاد غير المسلمة جائزة؛ لعموم أصل الإباحة، ومن ادعى المنع فعليه بالدليل الصحيح الصريح الخالي من المعارضة. والنهي عن الإقامة بين ظهراني المشركين كان للإلزام بالهجرة إلى المدينة، فلما فتحت مكة رفع الإلزام بـ «لا هجرة بعد الفتح» (¬1)، ويحمل المنع بعدها على حالة الحرب؛ لإمكان إصابة مقيمين من المسلمين، ولأنه -أي المقيم- ناقص النصرة، لا نصرة له في حالة استنصاره وهو في بلد معاهدة (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) (الأنفال: 72). وهذه من علل النهي عن الإقامة. وقد كف الله أيدي المؤمنين عن مكة؛ لأجل المقيمين من المسرين بالإسلام (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) (الفتح: 25)، والعلة هي (فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح: 25)، وهذه تبعة، فنهى عن الإقامة تبرئة للذمة في مثل هذه الحالات. ¬

(¬1) - حديث «لا هجرة بعد الفتح» متفق عليه عند البخاري برقم 2783، ومسلم برقم 4936، وكلاهما من حديث ابن عباس، وفي الباب أحاديث.

فالبراءة في حديث «أنا بريء من مقيم بين ظهراني المشركين تتراءى نارها» (¬1) هي براءة تبعة من إصابته حال حدوث حرب، فلا يلزم إثم ولا دية؛ لتعذر التمييز بين مشرك ومسلم مقيم بينهم. ولأن الصحابة بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا في الحبشة مهاجرين الهجرتين واستمروا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلزمهم بترك بلاد الكفر إلى المدينة كما ألزم من كان في مكه، وكانت الحبشة على النصرانية، فدل على جواز الإقامة في بلد غير مسلمة، ولا يقال هو منسوخ بحديث المنع؛ لعدم ثبوت التاريخ، بل هو دليل على ما قدمنا أنه نهى لرفع التبعية والمسئولية عن المقيم في بلد الحرب حال الحرب. ولأنه لو حمل حديث المنع من الإقامة في بلاد الكفار على عمومه للزم وجوب هجرة المسلمين كافة إلى بلاد الإسلام، وهذه مشقة خارجة عن المعتاد، وقد نسخ هذا بـ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (¬2). فلو منع من أسلم من الإقامة في أهله وأرضه لشق ذلك على من أراد أن يسلم في أصقاع الأرض، وللزمه الهجرة، ولم يقل بهذا أحد من أهل الإسلام، ولأدى ذلك إلى الصد عن الدخول في الإسلام لهذه المشقة؛ لأن مفارقة الوطن والأهل من أعظم المشقات. ¬

(¬1) - حديث «إني بريء .. » مختلف في وصله وإرساله، وهذه علة، وقد أخرجه الطبراني في أكبر معاجمه برقم 2215 من حديث جرير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع إليهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال «إني بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال «لا تراءى نارهما». قلت: وإسناده صحيح، وقد أعل بالإرسال كما سيأتي. وأخرجه الإمام أبو داود في السنن برقم 2645، بلفظ (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما قال أبو داود رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرا). قلت: وهذا يدل على ترجيح الإمام أبي داود للإرسال، وهو ما رجحه الترمذي والبخاري وظاهر صنيع النسائي، فقد أخرجه في السنن برقم 4780 مرسلا، ورواه الترمذي في السنن برقم 1604 وبين الاختلاف فيه، وقال الحافظ في بلوغ المرام برقم 1264: رواه الثلاثة وإسناده صحيح ورجح البخاري إرساله. (¬2) - سبق تخريجه.

وظيفة المسلم في القوات المسلحة غير المسلمة

ولذلك اختبر الله بها عباده المهاجرين الأولين، وألزمهم بها نصرة لدولته ورسالته ثم نسخت إلى يوم القيامة بالنص الصحيح الصريح المجمع على العمل به. فالأصل الإباحة الأصلية العامة زمانا ومكانا، وأشخاصا في العمل في أي مكان على وجه الأرض. ويجوز لمسلم أن يلي ولاية للكفار في بلادهم تعود بالنفع الإنساني عليهم، لفعل يوسف الصديق، وله أن يقدم الاستشارات والخبرات في وظيفته، وأن يقوم فيها بالعدل والقسط والإحسان والأمانة؛ لعموم الأدلة في ذلك ولم يخصصها دليل إلا أن يعمل لحربيين ما يقويهم على ضرر الإسلام فيحرم. ولأن يوسف تولى ولاية عامة للكفار وهو من الرسل، ولم يخصص ذلك دليل. بل ساقه الله مساق المدح والامتنان عليه وسماه تمكينا ورحمة (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء) (يوسف: 56). فمن تولى ولاية عامة أو غيرها في بلاد المسلمين أو غير المسلمين فهو تمكين ورفعة ورحمة. وظيفة المسلم في القوات المسلحة غير المسلمة: ويجوز الوظيفة في القوات المسلحة في غير بلاد المسلمين بشرط أن لا تكون حربية على المسلمين تحالف عدوهم، وتحميه أو تظاهر عليهم في قراراتها، أو تشارك في احتلال بلادهم؛ لأنه حينئذ تعاون على العدوان على المسلمين (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). فإن كانت كدولة النجاشي الملك العادل جاز، ولا يقال ثبت إسلامه؛ لأنه ولو كان مسلما كان حاكما لدولة نصرانية. ويرجح المنع أن وظيفة الجيش والأمن في أي دولة هو حماية الدولة ونظامها ودستورها وقوانينها ومعلوم أنها تقوم في دستورها وقوانينها على حكم الطاغوت المأمور بالكفر به فوظيفة المسلم في القوات المسلحة غير المسلمة مناقض لهذا الأصل؛ لأنه حماية للطاغوت.

الوظيفة في قوات حفظ السلام

الوظيفة في قوات حفظ السلام: والوظيفة في قوات حفظ السلام الدولي إن كانت تعاونا على الإثم والعدوان حرمت، وإن كان فيها فك نزاع في دول غير المسلمين جاز. أما في بلاد المسلمين فالأصل حرمة تواجد أي قوة دولية غير مسلمة في بلاد المسلمين حيثما كانت؛ لأنه محرم أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141). واستقدام قوات حفظ سلام دولية غير مسلمة في بلاد الإسلام هو من أعظم السبيل والتمكين لهم، وهو سبيل لانتقاص سيادتهم على بلادهم والتدخل في مصيرهم وقضاياهم وشئونهم الداخلية. ويدل له واقعا أن الدول الكبرى تمنع وجود قوات حفظ سلام على أراضيها بقرار سيادي، وإنما جعلت هذه القوات للتمكن من رقاب الدول الإسلامية، والدول الضعيفة. فإن فرضت بسلطان القوة الدولية على بلد إسلامي، ولم يستطع منعها، فيكون أعضاؤها من المسلمين شرطا، فإن تعذر كانوا الكثرة ما استطاعوا؛ ليكونوا على اطلاع بعمل القوات ودفع ضررها قبل وقوعه. الوظيفة في الأمم المتحدة: وعمل المسلم موظفا في الأمم المتحدة ممثلا عن دولته أو موظفا في ولاية عامة أو عادية فيها: الأصل جوازه؛ لأنها لا تخرج شرعا عن كونها نيابة شخص مسلم عن الدولة المسلمة في عمل معين أمام دول العالم في مكان معين هو الأمم المتحدة، فيما ينفع الدولة المسلمة ويدفع عنها الضرر، وهذا ظاهر في الجواز، ولفعل يوسف الصديق؛ ولأن تقليل المفاسد واجب وهذا منه. ويجب عليه الدفع للضرر والتآمر والمكايد عن الإسلام والمسلمين وجوبا عينيا، فإن لم يفعل مع استطاعته أثم وإلا فـ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286).

الوظيفة في المنظمات الدولية

فإن كانت الوظيفة في الأمم المتحدة لا بد منها حينئذ ولا بد من الضرر لعجز الممثل عن دفعه حرمت؛ لأنها ضرر على الإسلام والمسلمين (¬1). الوظيفة في المنظمات الدولية: أما المنظمات الدولية الإنسانية التي يقتصر عملها على العمل الإنساني، فلا مانع من الوظيفة فيها والعمل معها. بل هو أمر في بعض حالاته كالإغاثة وإسعاف الجرحى، ونحوها من المشمولة بالأمر الشرعي العام في التعاون على البر والتقوى والبر المأمور به ولو مع غير مسلم مسالم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). ولأن الوظيفة في هذه المنظمات أنفع من قطيعتها؛ لإمكان الدفاع عن قضايا الأمة وشعوبها ومظالمها، وإيصال المعونات والمساعدات والمنافع إلى المتضررين، ودفع القرارات الجائرة ضدهم، وهذا إن كان يتحقق بالوظيفة فهي من دفع المفاسد وجلب المصالح، وهذا أمر شرعي مقاصدي مقرر. وظيفة الكافر في بلاد الإسلام مباحة: وتوظيف غير المسلم في بلاد الإسلام مباح ولا مانع منه، وقد استأجر رسول الله هادياً خريتاً كافراً في هجرته (¬2)، وعامل يهود خيبر على اختلاف الدين فدل على الجواز، ولأن الله يقول (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، وذلك من أفراد هذا العام. ¬

(¬1) - وتقاطع -حينئذ- بقرار عام من الدول العربية والإسلامية. (¬2) - قولنا «وقد استأجر رسول الله هاديا .. » الحديث أخرجه البخاري برقم 2263 عن عائشة رضي الله عنها واستأجر النبي وأبو بكر رجلا من بني الديل ثم من بني عبدبن عدي هاديا خريتا -الخريت الماهر بالهداية- قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم أسفل مكة وهو طريق الساحل.

استثناء الولايات العامة لأنها وظائف سيادية

استثناء الولايات العامة لأنها وظائف سيادية: ويستثنى تولية غير المسلم ولاية عامة على المسلمين؛ لأنها وظائف سيادية للدولة يحق لها منعها بالشرط الدستوري أو القانوني والشرعي. أما الدستوري والقانوني فبالنص على ذلك بآلية تتخذها الدولة. أما الشرعي فلأن الله حصر الطاعة لأولي الأمر من المؤمنين (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، وهو قيد معتبر وإلا كان لغوا لا معنى له. ولحرمة موالاتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1). وولايتهم أكبر من مجرد موالاتهم؛ ولأن الشرع أجاز خلع حاكم مسلم ارتكب كفرا بواحا، ولو بالسيف «ألا نقاتلهم؟ قال: لا. إلا أن تروا كفرا بواحا .. » (¬1). فمنعه -ابتداء- أولى بالوجوب: ولأن السمع والطاعة ممنوعة للكافر والمنافق (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 1). وما الولاية إلا سمع وطاعة؛ فحرمت لكافر ومنافق على مسلمين؛ ولأن المقصود من الولاية حفظ المقاصد وأعلاها حفظ دين الإسلام وإقامة شعائره، وفعل ذلك لا يكون إلا من مسلم، فولاية مسلمٍ مقصودة شرعاً (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). والأمر ببرهم في النص لمن لم يحارب أو يظاهر لا يستلزم توليتهم؛ لأنه مستثنى بالأدلة السابقة، وبمقاصد الشريعة من تمكين أهل الإسلام لحفظ الدين. ويُنَصُّ على شرط الإسلام وشرط المواطنة فضلا عن السن والعقل والكفاءة في هذه ¬

(¬1) - حديث «إلا أن تروا كفرا بواحا» أخرجه البخاري برقم 7056، ومسلم برقم 4877، عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.

الشروط للأعمال والوظائف

الولايات العامة وجوبا شرعيا؛ لأنها وسيلة إلى حفظ سيادة الدولة ومصالحها فوجبت؛ ولأن الدول غير المسلمة تتعامل بهذا الشرط إما بالنص أو بالواقع، وتزيد الجنسية، حفظا لسيادتها، وموالاة شعبها والله يقول (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73). أي: إلا تفعلوا تلك الموالاة بينكم أيها المؤمنون يكن فساد في الأرض عظيم، وفتنة. والشرط في الولاية العامة أن يكون مسلما، ومواطن الجنسية من أوضح صور هذه الموالاة السيادية فيما بيننا؛ فوجبت علينا بهذا التكليف في الآية، فاتخاذ هذه الدول من المشركين والكفار، وثنيين، ولا دينيين، وأهل كتاب شرطَ الجنسية والديانة لهذه الولايات العامة عندهم؛ لأن بعضهم أولياء بعض، وحمايةً للسيادة والمصلحة العليا، فوجب أن تكون دول الإسلام كذلك في هذه الشروط بدلالة (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 73). ولقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71)، فهذان نصان في الموالاة، ومن مقتضياتها ما ذكرنا، وقال (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: 67). فتولية المنافق ولاية عامة هو تمكين لآمر بمنكر ومفسد؛ فوجب اشتراط العدالة فوق مجرد اشتراط الإسلام. الشروط للأعمال والوظائف: يشترط في إجارة العاملين والعمال في أي مهنة: البلوغ راشدا والعقل والكفاءة، وهي القوة والأمانة. فشرط البلوغ راشدا؛ لأن الإجارة عقد ولا يصح مع صبي؛ لأنه لا نظر له في الأموال، فينظر له وليه حتى يرشد، والرشد مقارن للبلوغ، أو بعده (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن

كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). وأما شرط العقل؛ فلأن المجنون أولى من الصبي في المنع؛ لإمكان تدريبه بخلاف المجنون. وأما شرط الكفاءة وهي القوة والأمانة: فـ (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص: 26)، وهي الحفظ والعلم في نص (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55). وسياق هذا النص مساق الإقرار دليل على أنه مقصود شرعاً في الولايات، ودل على وجوبه أن نقيضهما الضعف والخيانة وهما موصلان إلى خلاف مقصود الشرع في دفع المفاسد بل يوصلان إلى مفاسد وفساد كثير يجب دفعه. ويشترط في الوظائف العامة -أي الولايات العامة في الدولة- البلوغ راشدا، والعقل، والكفاءة، والإسلام، والعدالة. ويزاد بالتوافق الشرطي الدستوري والقانوني شرط الجنسية الوطنية؛ ولا مانع منه؛ لأنه شرط مصلحي اعتبره أهل اعتبار المصالح من الشعب. ويزاد لبعض الولايات الهامة مع هذه الشروط الجنسية الوطنيةُ وإسلامُ الزوجة والأبوين، ولا مانع منه؛ لأنه مباح اعتبر اليوم خادما للمصلحة العليا للبلاد فيلزم بالشرط. ودل على أنه خادم للمصلحة العليا أنه شرط توافقي للجماعة بأكثرية، ورأيها المصلحي معتبر ويد الله مع الجماعة، ولأن دول العصر من غير المسلمين تشترطه لا ديانة؛ فلم يبق سوى ملاحظتها للمصلحة الدولية المعاصرة. ويزاد بالتوافق من الشروط ما لا يناقض العقد ولا يبطله ولا ينقض المنفعة ولا يضر بالطرفين. ومن الشروط المباحة الزائدة شرط المواطنة (¬1)، فتجوز في الأصل وما شرط في العقود مما لا يناقض الشرع فهو جزء من العقد يشمله عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولأن الأصل ¬

(¬1) - وهو ما يسمى بمواطنة الوظيفة تقديما لأهل البلد من المواطنين على غيرهم من المقيمين.

أنواع المهن والوظائف

عدم المانع، ولأنه شرط يحقق مصلحة لمن اشترطه في بعض المؤسسات والشركات. وإذا اشترط هذا الشرط في الدولة رسميا جاز في الأصل، وعلة جوازه تحقيقه مصلحة دفع مفسدة الفقر والبطالة في الشعب بتوظيف المواطنين، وهي معتبرة الآن كمصلحة اقتصادية تحقق الأمن والاستقرار، ويشترط لها أن تكون بتوسط معقول لا تضر بالبلد من حيث منع الاستفادة من الخبرات الوافدة. ويشترط كذلك ألا يُضَر بالمقيمين من المسلمين في ذلك البلد المسلم من غير الحاصلين على جنسيتها، فلا يسرحون من أعمالهم. بل يرتب لهم وضع وظيفي بلا ضرر بهم؛ لأن الضرر محرم «لا ضرر ولا ضرار» (¬1)، ولأن الضرر لا يزال بالضرر؛ ولأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض بالنص، وهؤلاء المقيمون مؤمنون وولايتهم واجبة، وليس من ولايتهم الإضرار بهم في وظائفهم. أنواع المهن والوظائف: الأصل في كل المهن الإباحة ما كانت، ولا يثبت تحريم نوع إلا بنص، وما يثبت بالنص تحريمه قليل جدا وهو: كاتب الربا وشاهداه وهذا يشمل طباعة الوثائق والمحاسب الربوي، ومدخل البيانات، والشيكات، والكمبيالات، والسندات، والشاهد على ذلك -سواء كان شخصا، أو جهة كشركة، أو بنك- فإن هذا محرم «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه» (¬2). ويحرم امتهان صناعة الخمر فرديا أو جماعيا أو رسميا أو أهليا. وكل ما تعلق بخدمة الخمر وصناعته وتوريده وتوزيعه وتقديمه فهو محرم بالنص «لعن الله في الخمر عشرة عاصرها ومتعصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له» (¬3). ¬

(¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - سبق تخريجه. (¬3) - حديث «لعن الله في الخمر عشرة» حديث حسن صحيح، أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم 4787 قال: ثنا وكيع حدثنا عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن أبي طعمة مولاهم وعن عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعنت الخمرة على عشرة وجوه لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها =

وتهريب المخدرات بأنواعها محرم، والمعاونة على ذلك بأي شكل أو وسيلة (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). ولا تجوز وظيفة في ملهى ماجن ما كانت؛ لأنها تعاون على الإثم. وكل وظيفة فيها معصية منصوصة بالدليل الثابت فهي من المكاسب المحرمة. وأقبحها العمالة للعدو على المسلمين؛ لإطلاعه عدوهم على أسرارهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1). وعمل القوّاد (¬1) محرم، والساحر، وكذا تجارة الأعراض، وجاسوس على الشعب لحاكم لعموم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، وعصابات بيع الأعضاء، والقرصنة البحرية أو البرية أو الجوية أو الإلكترونية، أو ناشر ضلالة، وهؤلاء يجتهد القضاء في عقوبتهم وقد تصل إلى حد الحرابة؛ لأنه فساد في الأرض (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). مهمات الوظائف: وأهم الوظائف التعليمُ، والفتوى، والدعوة إلى الله، وولايةٌ عامةٌ لعادل، والقيام على الحقوق ¬

= وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. قلت: هذا سند حسن. أبو طعمة هو هلال الأموي، قال الذهبي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب مقبول. وعبدالرحمن الغافقي قال في التقريب مقبول. قلت: فمجموع روايتهما يشهد بعضها لبعض فيحسن الحديث ولكنه صحيح بشواهده فهو عند ابن ماجة من حديث أنس برقم 3381 وفيه شبيب بن بشر، قال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. قلت: وقد وجدت له متابعا في مسند أبي يعلى الموصلي إذ تابعه عبدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه وهو ثقة، فهذه متابعة جيدة. والمتابعة كذلك عند أحمد برقم 5716. وعند الحاكم برقم 2235. وله متابعة أخرى من طريق عبدالعزيز بن عمر عن نافع عن ابن عمر عند الطبراني في المعجم الأوسط برقم 7816، وفي الكبير برقم 713. وأخرج الحديث الحاكم برقم 2234 من حديث ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وشاهده حديث عبدالله بن عمر ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص صحيح. وقال الترمذي: وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. (¬1) - القوّاد أي السمسار للدعارة.

للشرائح الضعيفة والدفاع عنها، ونصرة المظلوم، والقضاء، والمالية، والإعلام، والأمومة، والتربية، والطب، والجيش، والزراعة، والصناعة، وعلوم النهضة. أما التعليم؛ فلأنه وسيلة لحفظ الدين والدنيا وحفظ العقل وهو أحد المقاصد الكبرى. وأما الفتوى والدعوة إلى الله فلقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33). وأما الولاية العامة لعادل؛ فلأنها وسيلة لحفظ المقاصد الكبرى، وجلب المصالح ودفع المفاسد عن الناس. وما عظم فيه منفعة الخلق عظم طلبه شرعا. وأما القيام على الحقوق ونصرة المظلوم فلعموم «القائم على المسكين والأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر» (¬1). فيعم النقابات والمنظمات والهيئات والمؤسسات والجمعيات المدافعة عن الحقوق والدافعة للضرر الواقع والمتوقع. وأما القضاء فلفصله النزاع ودفع الخصومة والفتنة ورفع المظالم، وهذا مقصود شرعي معلوم ضرورةً بِحَكم النصوص وتعليلاتها ودلالاتها، والاختلال فيه باب فساد عام وفتنة. وأما حفظ المالية سواء كان عاما أو خاصا؛ فلأنه يخدم أحد أكبر مقاصد الشريعة الكبرى وهو حفظ المال وبه تقوم الحياة (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5)، فسماها قياما أي: للحياة. وأما الإعلام؛ فلأنه قولٌ للحق، ونشر للفضيلة على وجه عام لا يقوم غيره مقامه، وصلاح العمل تابع لسداد القول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70 - 71). وأما الأمومة؛ فلأنها تحفظ الطفولة والنشء، وهو مقصد شرعي ضروري يعبر عنه بحفظ النسل. ¬

(¬1) - حديث «القائم على المسكين .. » أخرجه البخاري برقم 5353 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار».

وأما التربية فهي رعاية المكارم وترك أضدادها (¬1)، وهو مقصود معتبر في الشرع، موصل إلى الإصلاح المجتمعي العام. وأما الطب؛ فمتعلق بحفظ النفس. وأما الجيش؛ فمتعلق بحماية المقاصد والجهاد والأمن والاستقرار. وأما الزراعة والصناعة والإنتاج فوسائل ضرورية وحاجية للاستخلاف في الأرض. وأما علوم النهضة والتكنولوجيا؛ فلأنها موصلة إلى تمام القوة والتمكين في الأرض، وهذا مقصود شرعي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). ¬

(¬1) - راجع ذلك في «فقه التربية والتعليم» من كتابنا هذا.

الفقه الطبي

الفقه الطبي * (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32) * «من تصدق بشيء من جسده كان له من الأجر بمثل ما تصدق» حديث صحيح * «تداووا فإن الله عزوجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء» حديث صحيح * «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» حديث صحيح * الطب إيجاده وتعليمه وإنشاء جامعاته وكلياته ومراكز أبحاثه وتخريج المتخصصين بما يكافئ العصر وإمكاناته فرض عين على الدولة * أيها الطبيب: - الإنسان حمل أمانة تبرأت منها الجبال والسماوات والمخلوقات، فكيف إذا كانت تلك الأمانة التي بين يديك هي الإنسان نفسه! ؟ - المرض حالة من حالات الحياة، موضوعة لتختبر التصرفات فيها من المريض والمجتمع - لا تكشف أسرار ما تطلع عليه من المريض؛ لأنها أمانات * حفظ العورات وسترها من الفرائض الكبرى، ولا تُكْشف إلا للضرورة القصوى، وبقدر الضرورات فقط

الفقه الطبي مهنة الطب: فرض كفاية، وما لا يقوم فرض الكفاية إلا به فهو فرض مثله؛ لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد (¬1)، كبناء الجامعات الطبية المتخصصة عالية التقنية، وتأهيل الأطباء بتخصصات فائقة، وتوفير مجالات البحث ومراكزه، والدراسات العليا. والطب تتعلق به من المقاصد الستة للشريعة: حفظ النفس والنسل. وعلى المريض التوبة النصوح فإنه في أشد الأوقات حاجة إلى الله ويُذكَّر بالله والتخلص من الذنوب، وهذا على الطبيب وغيره. ويجب على الطبيب أمر من يمرضه بالصلاة والصيام إن رآه قصر؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، ولأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن التناصح (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3). ولا يجوز لطبيب أن يأمر المريض بترك الصلاة أو ركن منها، أو ترك الصيام. بل يشخص الحالة طبياً ويعرض المسألة فقهياً على عالم يفتي في ذلك؛ لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)، ولقوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7). وأمراض النساء يجب أن تختص بها النساء في الأصل، دفعا لمفسدة كشف العورات للرجال الأجانب وإقامة لفرض الكفاية. وتخصص له أخصائيات؛ لأن المرأة عرض، ويحرم كشف عوراتها إلا لزوج لا لغيره، ولو كان أخا أو محرما. ولا يجوز في الحالات الجارية مجرى العاديات أن يولد المرأة إلا امرأة، ويحسن خبيرة، أو طبيبة نساء وتوليد، وللزوج توليد زوجته، ولا يجوز للرجل الأجنبي ذلك ولو كان طبيبا إلا للضرورة ولا ضرورة اليوم في ذلك؛ لكثرة طبيبات النساء، فإن تعذر ذلك وتضررت المرأة في الولادة لعسر ولادتها، ولا توجد طبيبة، أو توجد ولا يسمح زمن بالذهاب إليها فيذهب ¬

(¬1) - تقدمت.

بها ولو إلى طبيب أجنبي لتوليدها دفعا للضرر البالغ عنها، والضرورات تبيح المحضورات (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 173)، وتقدر الضرورة بقدرها ولا يزاد عليها، فيكشف من المرأة ما لا بد منه للعملية أو الولادة فحسب. ويؤمر المريض بالصدقة «داوو مرضاكم بالصدقة» (¬1)، وكذا الاستغفار، فإنه قوة لقوله تعالى (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود: 52). والتوبة من الذنوب قال صلى الله عليه وسلم: «ما اختلج عرق ولا عين في ابن آدم إلا بذنب وما يدفع الله عنه أكثر» (¬2). والدعاء لله (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ) (النمل: 62). وزيارة المريض قربة عظيمة عند الله للأدلة على ذلك (¬3). ¬

(¬1) - حديث «داووا مرضاكم بالصدقة» أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عمير الكوفي ضعيف. وأخرجه الإمام أبو الطاهر السلفي في الدعاء مخطوط جوامع الكلم (إسلام ويب) عن عبادة بن الصامت. قلت: والسند إلى عبادة بن الصامت سند يُحَسَّنُ مِثْلُهُ، وقد وجدتُ له متابعا جيدا من طريق محمد بن خريم عن هشام بن عمار عن عراك بن خالد عن صالح بن صبيح عن أبيه عن إبراهيم ابن أبي عبلة عن عبادة وهو في معجم الشيوخ لابن عساكر ط/ دار البشائر -دمشق برقم 1544، إلا أنه نبه على علةٍ فقال: إبراهيم لم يدرك عبادة. وللحديث شواهد أدت إلى تحسينه عند بعض أهل العلم من المتقدمين، ومن لم يعتمدها ضعفه بالمرة، كالعجلوني في كشف الخفا ناقلا عن البيهقي وغيره. وأما هو فقال: إن له شواهد. وخلاصة الحديث عندي أنه لا بأس به ونظرا للخلاف فيه اضطرب فيه قول الألباني محسنا ومضعفا. ويغني عنه قوله تعالى (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60) فمن تصدق ناويا الشفاء أحسن الله إليه بذلك لعموم النص. (¬2) - حديث «ما اختلج عرق ... » أخرجه الطبراني في المعجم الصغير برقم 1053 بسند حسن عن البراء بن عازب بلفظ (ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب وما يدفع الله عنه أكثر) وفي مجمع الزوائد برقم 3755 قال: فيه الصلت بن بهرام وهو ثقة إلا أنه كان مرجئا، وحسنه المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير ط/ مكتبة الشافعي -الرياض. (¬3) - قولنا «للأدلة على ذلك»: الأدلة على زيارة المريض بالغة حد التواتر وهي مخرَّجة في الموطأ وفي الصحيحين، وفي السنن الأربع، وفي مسند أحمد، وفي صحيح ابن خزيمة، وابن حبان، ومسند البزار والطيالسي، ومسند أبي يعلى، والسنن الكبرى للبيهقي، ومستخرج أبي عوانه، وسنن سعيد بن منصور، والأدب المفرد للبخاري، ومعاجم الطبراني، وشعب الإيمان للبيهقي، ومسند الروياني، ومصنف ابن أبي شيبه وعبدالرزاق، والمعرفة لأبي نعيم، وكتاب الأربعين للطوسي، وانظر كذلك الترغيب والترهيب للمنذري، وبالجملة فزيارة المريض من أعظم القربات عند الله سبحانه وتعالى حتى إن العبد مسئول عنها كما في الحديث الصحيح «مرضت فلم تعدني» وهو في صحيح مسلم برقم 6721 من حديث أبي هريرة، فهذا يدل على أن زيارة المريض تكليف شرعي بدلالة السؤال المحاسبي عنها أمام الله.

ومن زار مريضا دعا له (¬1). ويحرم على الطبيب إفشاء سر مما أطلعه عليه المريض إلا لأمر شرعي ويرجع في تقرير ذلك إلى عالم (¬2). ويحرم على المرأة أن تكشف عورتها لطبيب، وكذا رجل على طبيبة إلا في الحال الطارئ الضروري من إنقاذ حياة ونحوها. أما في الحالات التي جرت عليها العادة وهي غير حالة الضرورة؛ فإن المرأة لا تولدها إلا المرأة، ويحرم على الرجل ولو كان محرما لها كأخ أو أب إلا الزوج. وإذا دعت الضرورة لكشف عورة المريض فإن الضرورة تقدر بقدرها، ولا يتوسع في هذا. فإذا زال الداعي لذلك عادت الحرمة. ويجب على الطبيب النصيحة للمريض والحرص على صحته وماله، فلا يكلفه ما يمكن الاستغناء عنه ولا داعي له من فحوصات، ورقود، وأدوية؛ لأن الدين النصيحة (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «ومن زار مريضا دعا له» لما ثبت من الأحاديث الكثيرة، فمنها ما أخرجه البخاري برقم 5655 من حديث سعد حين زاره النبي صلى الله عليه وسلم. ومن حديث ابن عباس في البخاري برقم 5656 حينما زار النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيا فقال له «طهور». وغير ذلك كثير. (¬2) - قولنا «ويرجع في تقرير ذلك إلى عالم»؛ لأن المسألة إذا كانت شرعية تتعلق بها الفتوى فإنه لا يفتي فيها إلا العالم، وإن كانت قانونية رُجعَ فيها إلى أهله. (¬3) - قولنا «لأن الدين النصيحة» أخرجه مسلم برقم 205 عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدين النصيحة». قلنا: لمن؟ قال «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وهذا من الأحاديث التي يرجع إليها في أحكام كثيرة، وقد عدها كثير من العلماء من الأصول، وجعلوها في الأربعينيات كالأربعين للنووي وغيرها. وقد تكلم العلماء في فقه هذا الحديث كثيرا، كالخطابي، والقاضي عياض، والنووي، وابن حجر، ولخص جملة حسنة من =

وإذا اقتضى الأمر أن يدل مريضه على طبيب غيره أو مستشفى فإنه يجب ذلك؛ لأن ¬

= ذلك الإمام النووي في شرحه على مسلم ط/ دار إحياء التراث (1/ 144)، ونحن ننقله بتمامه لفائدته، قال الإمام النووي: هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام كما سنذكره من شرحه. وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده. وهذا الحديث من أفراد مسلم، وليس لتميم الداري في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولا له في مسلم عنه غير هذا الحديث. وقد تقدم في آخر مقدمة الكتاب بيان الاختلاف في نسبة تميم وأنه داري أو ديري. وأما شرح هذا الحديث فقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له. قال: ويقال: هو من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. قال: وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه. فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب. قال: وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط. قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة. كقوله: الحج عرفة أي عماده ومعظمه عرفة. وأما تفسير النصيحة وأنواعها فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها كلاما نفيسا أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرا. قالوا: أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها، والتلطف في جمع الناس، أو من أمكن منهم عليها. قال الخطابي رحمه الله: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح. وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها، وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك. =

الدين النصيحة، ويجب عليه في الحالات الطارئة والضرورية أو حالة لا يمكن علاجها إلا في تلك الجهة. ولا يجوز لطبيب أن يحيل على عيادته حال دوامه الرسمي في المستشفى مع إمكان علاجه فيه؛ لأنه إضرار به وبماله، ومال المسلم حرام إلا بحقه (¬1)، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (¬2). فإن قصد نفعه لعجز إمكانات المستشفى جاز. وإذا اضطرت المرأة الطبيبة للعمل في مكان فيه أجانب، فإنه يجب عليها الحشمة، والحجاب، ويحرم المزاح مع الرجال الأجانب؛ لأنه من الخضوع في القول، أو الكلام الخارج ¬

= وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. قال الخطابي رحمه الله: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح. وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات. وهذا هو المشهور. وحكاه أيضا الخطابي. ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، وأن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم. وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط همهم إلى الطاعات. وقد كان في السلف رضي الله عنهم من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه. والله أعلم. هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة. قال ابن بطال -رحمه الله- في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به، ويسقط عن الباقين. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة. والله أعلم. (¬1) - لحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... » وقد تقدم تخريجه. (¬2) - متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.

عن الآداب واللياقة؛ لأنه ليس من القول المعروف (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، أو الحركات الخاضعة أو إظهار الزينة ورائحة العطور أو الخلوة بأجنبي. فإن الله حرم ذلك كله: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (الأحزاب: 32)، (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31)، (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (النور: 31). وزميل العمل أجنبي في كل الأحكام. وتسمية الزميل، والصديق للمرأة قد يؤدي إلى تساهل مضر، فيكون من تلبيس الشيطان، بل هو أجنبي. فالرجال بالنسبة للمرأة إما مَحْرَمٌ، أو زوج، أو أجنبي. والأجانب ولو كانوا من أهل الإيمان، فالأحكام واحدة، فلا تخضع بالقول، ولا تظهر الزينة، ولا تخلو (¬1)، ولا تفعل كل ما يمكن فهمه منها أنه تساهل وخضوع، أو يمكن أن يفتح باب الفتنة أو الشهوات. ¬

(¬1) - قولنا «ولا تخلو» دليله ما أخرجه البخاري برقم (3006) ومسلم برقم (3336) من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله، اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجّة. قال: اذهب فحج مع امرأتك. قال النووي في «المجموع شرح المهذب» (4/ 278): وأما الأحاديث الواردة في المسألة فمنها ما روى عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إياكم والدخول علي النساء». فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو. قال: الحمو الموت» رواه البخاري ومسلم. الحمو قرابة الزوج، والمراد هنا قريب تحل له كأخ الزوج وعمه وابنهما وخاله وغيرهم. وأما أبوه وابنه وجده فهم محارم تجوز لهم الخلوة وإن كانوا من الأحماء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال على المنبر «لا يخلون رجل بعد يومي هذا سرا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان» رواه مسلم. المغِيبة -بكسر الغين- التي زوجها غائب، والمراد هنا غائب عن بيتها وإن كان في البلدة وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال «كانت فينا امرأة -وفى رواية كانت لنا عجوز- تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه إلينا» رواه البخاري. فهذا قد يمنع دلالته لهذه المسألة لأنه يحتمل أن يكون فيهم محرم لها، وليس فيه تصريح بالخلوة بها. والله أعلم.

والتبرع بالدم جائز، وقد يجب لإنقاذ مضطر، بشرط عدم الضرر بالمتبرع؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، وفي الحديث «من تصدق بشيء من جسده كان له من الأجر بمثل ما تصدق» (¬1). والتبرع بعضو تتعلق به حياة المتبرع محرم قطعا (¬2). ¬

(¬1) - حديث «من تصدق ... » أخرجه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى بسند رجاله رجال الشيخين، برقم 22846 عن ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه». وهو عند النسائي في الكبرى برقم 11146. وله شاهد عند أبي يعلى بلفظ «من تصدق بدم أو دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق». وسنده حسن في الشواهد والمتابعات؛ لأن فيه عمران بن ضبيان قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه. وقال يعقوب الفسوي ثقة يميل إلى التشيع. وقال البخاري فيه نظر. قلت: وهو جرح شديد من البخاري. ولولا كلام أبي حاتم الرازي في اعتبار حديثه لأسقطناه ذهابا إلى قول البخاري، وإنما قدمنا أبا حاتم الرازي لأنه قال فيه ذلك مع أنه متشدد في الجرح فدل على صلاحيته في الشواهد والمتابعات. (¬2) - قولنا «محرم قطعا» للمجمع الفقهي تفاصيل في هذه المسألة، ومن المفيد أن ننقل قراره في ذلك، وهذا نصه: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 35) قرار رقم: 26 (1/ 4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيا كان أو ميتا مجلة المجمع (ع 4، ج 1 ص 89) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 صفر 1408 هـ الموافق 6 - 11 شباط (فبراير) 1988 م، بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيا أو ميتا، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته من دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار، وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعا لها، قرر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولا: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها كقرنية العين. سواء أكان متصلا به، أم انفصل عنه. ثانيا: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعا. =

فإن كان من الأعضاء الثنائية كالكلى حرم كذلك؛ لأن البقاء بواحدة مفض للضرر والخطر، ¬

= ثالثا: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: نقل العضو من حي. نقل العضو من ميت. النقل من الأجنة. الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية: نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها. نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فرديا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه مالا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائيا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلا نهائيا لا رجعة فيه طبيا. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفا تاما لا رجعة فيه طبيا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائيا. حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي. حالة اللقائح المستنبتة خارج الرحم. من حيث الأحكام الشرعية: أولا: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهود له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيا أو عضويا. ثانيا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيا، كالدم والجلد، =

وأجاز بعض العلماء ذلك، فيجوز العمل بهذه الفتوى عند غلبة السلامة، بخلاف ما لو كانت الكلية الأخرى مشارفة على التلف، أو احتمال مشارفتها احتمالا غالبا بقول أطباء عدول فيحرم -حينئذ- إن تبرع بالأخرى (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) (النساء: 29)، (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا) (البقرة: 195). وما ليس فيه خطر على الحياة من الأعضاء الزوجية، كالعين مثلا فيحتمل الجواز؛ لأنه نوع إحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). وأما ما لا يضر أصلا كالدم ونحوه فإنه جائز؛ ويجب لإنقاذ حياة آخر (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). وأما الأعضاء التناسلية والخصى والمبايض، فالراجح لدى المجامع الفقهية الحرمة؛ لأنه يعارض مقاصد الشريعة من حفظ العرض والنسل؛ لأن زراعة ذلك هو: إنتاج لنفس نسل ¬

= ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ثالثا: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعا: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. خامسا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها كنقل قرنية العين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءا من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادسا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. سابعا: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بواسطة بيع العضو. إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريما، فمحل اجتهاد ونظر. ثامنا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم.

المتبرع في رحم غير زوجته وهذا محرم. وإنما يجوز زراعة طفل الأنابيب من منوي الزوج إلى بويضة الزوجة، ثم وضعها في رحمها بعد ذلك. وغيرها من الصور محرمة (¬1). وإذا مات الدماغ والقلب نابض، فلا يجوز نزع أجهزة الإنعاش؛ لاحتمال الحياة على الراجح من فتوى فقهاء العصر، وهي مسألة خلافية شديدة. ¬

(¬1) - قولنا «وغيرها من الصور محرمة»، قلت: بيان ذلك في قرار المجمع الفقهي، في مجلة المجمع -العدد 3 (1/ 423) وهذا نصه: قرار رقم 16 (4/ 3) بشأن أطفال الأنابيب إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ /11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م. بعد استعراضه البحوث المقدمة في موضوع التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) والاستماع لشرح الخبراء والأطباء، وبعد التداول الذي تبين منه للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبعة، قرر ما يلي: أولاً: الطرق الخمس التالية محرمة شرعاً، وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية. الأولى: أن يجري التلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم زوجته. الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة. الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. ثانياً: الطريقان السادسة والسابعة لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة وهما: السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً. والله أعلم.

والأصل البقاء على الحرمة، ولا تنقل إلا بيقين (¬1). ويجب التعقيم التام لكل ما يستعمل من أدوات طبية. ومن أهمل ذلك فترتب عليه انتقال مرض كالكبد، أو الإيدز أو غيرها؛ فإنه آثم ضامن لهذه الأضرار بشروطه. ولا يجوز إسقاط الحمل ولو في بدايته وقبل تخلقه ونفخ الروح فيه؛ لأنه إهلاك للنسل وسماه الله فسادا (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). فإن كان خطرا على حياة الأم بقرار أطباء عدول من أهل التخصص فيمكن جوازه، سواء نفخ فيه الروح أم لا، لعموم قوله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء: 23)، وليس من الإحسان قتل الأم لأجل حياة ولدها الجنين. وإسقاطه بدون مبرر شرعي معتبر بفتوى من مؤهل إن كان قد نفخ فيه الروح وثبت حياته ففاعله مرتكبٌ لكبيرة، وتلزم الكفارة صيام شهرين متتابعين على الطبيب، وعلى الأم، وعلى الآذن، فإن لم ينفخ فيه الروح حرم وهو من الفساد (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). ومن زالت بكارتها بغير فاحشة، بل لوثبة، أو رياضة، أو حادث طريق؛ فللطبيب والجهة المعنية عمل تقرير عن الحادث يفيد ذلك حفظا لعرضها. وجراحة التجميل إن كانت لعلاج أمر خَلْقِي على خلاف الفطرة العادية؛ فإنه يجوز؛ لأنه علاج للخلقة لا تغيير لها؛ ولأن العلاج جائز وهذا منه. ¬

(¬1) - قولنا «والأصل البقاء على الحرمة ولا تنقل إلا بيقين»؛ لأن ثبوت الحياة الإنسانية هي الأصل في الحي، وحرمتها من ضرورات الشرع القطعية، فلا يُحكمُ بناقل عن هذه الأصول القطعية إلا إذا كان قطعيا مثلها، وإلا فلا يصح. ولعلماء العصر هنا كلام كثير وأبحاث مطولة وللأطباء في ذلك كذلك. وقد عقدت مؤتمرات طبية لهذه المسألة، فانظر أبحاث المؤتمر الطبي للموت الدماغي على سبيل المثال. وللدكتور البار بحث في أجهزة الإنعاش، وللسلامي بحث في الإنعاش، وللدكتور محمد علي البار بحث في موت الدماغ، ولوزارة الصحة في المملكة دراسة، وورقة عمل أردنية في المؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش والمعالجة الحديثة، قدمها أخصائيون ومستشارون، وللعلامة بكر أبو زيد في كتابه «النوازل» بحث في ذلك. وبالجملة فهذه المسألة من المسائل المعاصرة التي أكثر العلماء والباحثون والخبراء الكلام حولها. ومراجعها كثيرة جدا.

فإن كان لا تشويه في الخلق حرم تغييره، وهو من عمل الشيطان (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119)، ولهذا لعن المتنمصات والفالجات (¬1). ولا يخلو الطبيب بامرأة أثناء المعاينة إلا بمحرمها (¬2)، أو دخول نساء ثقات معها (¬3). وعند إجراء العمليات تزول الخلوة بحضور مساعدي الطبيب. ولا تتناول أدوية على خلاف الطبيعة والجبلة كدواء رافع للنوم، أو عكسه إلا اضطرارا بإذن طبيب؛ لأن حفظ الفطرة مقصد شرعي (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). فجعل حفظ الفطرة والخلقة والجبلة من الدين وتبديلها خلافه. ولأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار: 7). وهذا عام فيشمل كل إنسان كلا وجزءا، فتعديل شيء منه خروج عن أحسن تقويم وتعديل إلى خلافه، والخروج عنه لا يكون إلا إلى الضرر، ولا يجوز إلا لعلاج ضرر (¬4). ¬

(¬1) - قولنا «ولهذا لعن النامصات والفالجات»، اللعن وارد في صحيح البخاري برقم 5939، وهو في مسلم برقم 5695، من حديث عبدالله بن مسعود، قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. وهذا لفظ مسلم. (¬2) - قولنا «إلا بمحرمها» لعموم النصوص في النهي، ولا يرخص في الخلوة في حال إلا حال الضرورة. وقد مثلها العلماء كالأسيرة أو الهاربة من بلاد الكفار أو الهاربة من مكان مخوف فلقيها أجنبي عدل فأوصلها محلها. انظر فتح الباري (9/ 331) وشرح ابن بطال (3/ 80)، وعمدة القاري (3/ 17) وحاشية السندي على البخاري (3/ 99). وشرح القاضي عياض على مسلم في (4/ 234). وفي شرح القرطبي على مسلم في باب «النهي عن المبيت عند غير ذات المحرم» وقد نقل العلماء الإجماع على أنه إذا خلى الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما أنه حرام باتفاق العلماء. قاله النووي في شرحه على مسلم في (5/ 4). وراجع ما قاله ابن عبدالبر في الاستذكار (5/ 113) و (9/ 355). (¬3) - قولنا «أو دخول نساء ثقات معها»، قلت هذا تخريجا على مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، انظر «الفواكه الدواني» (2/ 410) ومغني المحتاج (3/ 133) ومطالب أولي النهى (5/ 12). (¬4) - وقولنا «ولا يجوز إلا لعلاج ضرر»: مثاله التخدير العام أو الموضعي ممنوع، إلا لعلاج ضرر بإجراء العملية الجراحية.

وتعاطي منشطات للجنس مباح إن كان لضعف؛ لأنه من التداوي، والتداوي مباح، فإن تعلق بضعفه تضرر زوجته تداوى وجوبا؛ لأن لها عليه حقا «ولزوجك عليك حقا» (¬1). والحجامة مستحبة للنصوص فيها، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، وثبت عظيم نفعها بالنقل والتجربة والبحث الطبي الحديث. وأثر الدم الباقي على الجروح إن تعذر إزالته عفي عنه؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وصلاته صحيحة (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). ونجاسة الدم قول قديم في المذاهب، ولم أجد له دليلاً صحيحاً صريحاً خالياً عن المعارضة. والاستدلال بوصفه بالرجس في قوله تعالى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 145)، لا يدل على النجاسة بل على الاستخباث؛ لأن ما ذكاه غير مسلم وصف بالرجسية في نفس الموضع، وليس بنجس، ووصف به الميسر والأزلام، ولم يقل أحد أنها نجاسة، ولأن الصحابة كانوا يصلون في جراحاتهم (¬3)، ولعموم النص «إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا» (¬4)، وهذا عام في سائر أجزائه وما يخرج منه إلا البول ¬

(¬1) - قولنا «لأن لها عليه حقا» دليله ما أخرجه البخاري برقم 1968 من حديث سلمان «إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه». وهو عند أحمد برقم 6832 من حديث عبدالله بن عمرو في قصة صيامه النهار وقيامه الليل ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له عن ذلك ودلالته على صيام ثلاثة أيام في الشهر وقال له فيه «ولزوجك عليك حظا ولعينك عليك حظا ولجسدك عليك حظا». وهو صحيح. (¬2) - قولنا «وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم» الحديث في ذلك أخرجه البخاري برقم 1835، ومسلم 2942 كلاهما عن ابن عباس. وفي الباب أحاديث. (¬3) - أخرجه البخاري من قول الحسن «ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم» في باب «من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر». قال الحافظ ابن حجر: وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دما. الفتح ط/ دار المعرفة (1/ 281). (¬4) - حديث «المؤمن لا ينجس .. » متفق عليه (البخاري برقم 283، ومسلم 850) ولفظه عند البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب فانخنست منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال «سبحان الله إن المؤمن =

والغائط للدليل الشرعي الضروري. ولأنه لو كان بمنزلة البول والغائط لما ترك بيانه المبين، لعموم الابتلاء به؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. والرقية مشروعة، وثبتت بها النصوص، ومنها الفاتحة لحديث ابن عباس في اللديغ في الصحيحين (¬1)، والمعوذات (¬2)، والمأثورات والأدعية (¬3). وينفث الراقي، وهو نفث الهواء بلا ريق، وكل ما ينفع من الرقيا جائز ما لم تكن شركا لعموم «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» (¬4)، والرقيا جائزة ما لم تكن شركا (¬5). ¬

= لا ينجس». أما زيادة «ولا ميتا» فأخرجه البخاري من قول ابن عباس في الجنائز برقم 1253. وهو مخرج عن ابن أبي شيبة بسند على شرط الشيخين برقم 11246. وأخرجه الدارقطني مرفوعا برقم 1833. ومن طريقه الضياء في المختارة برقم 3984. وأخرجه من هذه الطريق البيهقي أعني من طريق ابن عيينه، وقال والمعروف موقوف وهذا هو السبب في عدم إيراد البخاري له في الصحيح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظرا للاختلاف في رفعه ووقفه، فرجح البخاري بحسب صنيعه الوقف .. (¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «والمعوذات» النصوص فيها كثيرة، فمنها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم 1927 من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق: 1) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس) (الناس: 1). (¬3) - قولنا «والمأثورات والأدعية» وهي كثيرة صحيحة بحمد الله يرجع إليها في مظانها من كتب السنة وقد ألف فيها مؤلفات مستقلة، كالأذكار للنووي، والشوكاني، والمأثورات للبنا، وحصن المسلم، وغيرها. (¬4) - هذا الحديث في صحيح مسلم برقم 5857 ولفظه .. قال أبو الزبير وسمعت جابر بن عبدالله يقول: لدغت رجلا منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أرقي. قال «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل». (¬5) - قولنا «والرقيا جائزة ما لم تكن شركا» ورد ما يدل على ذلك ما أخرجه مسلم برقم 5862، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال «اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك». وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/ 195) ملخصا كلام العلماء كالمازري في شرحه على مسلم والقاضي عياض والنووي ما نصه (أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى واختلفوا في كونها شرطا والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة. ففي صحيح مسلم =

وإذا كان في الرقية ما لا يفهم من القول فهو شعوذة وهي محرمة. ويجوز أن يقرأ على ماء ليشربه المريض، أو يغتسل به، وكتب بعض السلف في إناء آيات من القرآن ثم صب عليها ماء وأشربها المريض (¬1)، عملا بعموم الإذن في النص. ولوصفه سبحانه القرآن أنه شفاء، فيعم المعنوي والمحسوس. والرقيا من العين والسحر أمر مشروع؛ لورود النصوص بذلك (¬2). وعمل السحر وتعليمه كفر (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102). وطلبه وشراؤه محبط للعمل موجب للنار (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) (البقرة: 102). ولا يضر إلا بإذن الله (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102). ومن أدام الحفظ للصلوات، وتحصن بالمأثور صباحا ومساءً لا يضره سحر. ¬

= من حديث عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك. وله من حديث جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب. قال فعرضوا عليه، فقال: ما أرى بأسا من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه. وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك يمنع وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا). (¬1) - قولنا «وأشربها المريض» أجاز ذلك سعيد بن المسيب وجماعات من العلماء، انظر «المفهم» للقرطبي، وقد أطال الحافظ ابن حجر الكلام على المسألة وما يتعلق بها في الفتح (10/ 233). (¬2) - راجع -على سبيل المثال- كتاب الطب والمرضى من صحيح الإمام البخاري. ومسلم في باب «الطب والمرضى والرقى».

والسحر: تخييل لا حقيقة، وقد خيل لموسى (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه: 66)، (قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 116). ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المعوذات بطل الذي رآه من السحر كما رأى موسى سحر السحرة وأبطله لما ألقى عصاه. فلم يسحر موسى ولا محمد صلى الله عليه وسلم بل رأيا السحر، وأوجس موسى خيفة، ولم يوجس محمد صلى الله عليه وسلم، وحديث البخاري في سحره صلى الله عليه وسلم يوافق الآية في أنه رؤية للسحر لا أنه أثر على عقله. وحد الساحر ضربة بالسيف بالنص (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «حد الساحر ضربة بالسيف بالنص» أخرجه الترمذي عن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفه بإسماعيل بن مسلم المكي، وأخرجه الدارقطني من نفس الطريق برقم 3204، والبيهقي برقم 16942 وقال: إسماعيل بن مسلم ضعيف. وأخرجه الحاكم برقم 8073 ط/ دار الكتب العلمية وصححه، وقال الذهبي: صحيح غريب. قلت: وقد وجدت متابعة في معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم 1492 (5/ 47) قال: حدثناه أبو عمرو بن حمدان: ثنا الحسن بن سفيان، ثنا مخلد بن مالك، نيسابوري، ثقة، ثنا سعيد بن محمد الوراق، ثنا خالد بن عبيد الباهلي، مولى الباهلة، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: جاء جندب وقوم يلعبون ويأخذون بأعين الناس يسحرون، قال: فضرب رجلا منهم ضربة بالسيف فقتله، فرفع إلى السلطان وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «حد الساحر ضربة بالسيف» رواه أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب. قلت: هذه متابعة لا بأس بها، سعيد بن محمد وخالد صالحان في الشواهد، وعليه فالحديث حسن لغيره. قلت: ولم يتنبه الألباني عليه رحمة الله تعالى لهذه المتابعة في السلسلة الضعيفة وإلا لحسن الحديث كما هو معلوم. وأما إعلاله في السلسلة الحديث بعنعنة الحسن البصري فليس بشيء؛ لأنه من المرتبة الثانية التي ذكرها الحافظ ولا تضر عنعنتهم، ولو سلمنا أنه مرسل لما كان علة قوية قادحة تبعا للأئمة الكبار الذين قبلوها كما قال ابن القطان أن مراسيله جيدة. وقال أبو زرعة أنه وجد لها أصلا ثابتا سوى أربعة أحاديث. وقال علي بن المديني: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها. قال ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/ 544) ط/ الرشد: هذا يدل على أن مراسيل الحسن أو أكثرها عن الصحابة. قلت: وهؤلاء الأئمة الكبار كفاية في اعتماد مراسيل الحسن، وضعفها قوم آخرون والحاصل أن الحديث حسن بهاتين الطريقين .. ويدل على ثبوته أنه عمل به الخلفاء الثلاثة الراشدون عمر وعثمان وعلي (مسند زيد بن علي 509) وابن عمر وجندب وجماعة من الصحابة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق كما نقله عنهم ابن المنذر في الإقناع صـ 147 - ط/ دار الكتب العلمية -بيروت. والله تعالى أعلم.

ومن به سلس بول أو بها استحاضة رحم لزمهما التوضؤ لكل صلاة؛ لأمر الشرع بذلك «توضئي لكل صلاة» (¬1). ونزول شيء بعد الوضوء أو خلال الصلاة لا يضر للدليل «إنها كانت تستحاض وتضع الطست تحتها وهي تصلي» (¬2)، وهذه إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك. ولأن المشقة تجلب التيسير (¬3)، وإذا ضاق الأمر اتسع (¬4)، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). و(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، فهذه النصوص من المعلومات ضرورة، وهي أصل على ما ذكرنا. ويحرم التداوي بالمحرم؛ للنص «إن الله لم يجعل دواء أمتي فيما حرم عليها» (¬5). ولأنه لو شرع التداوي بالمحرمات لدخل الخلل في التكليف بالحرمة؛ لعدم إمكان ضبط ذلك فيعود على الأصول بالإبطال، وهذا باطل فمُنِع. ¬

(¬1) - أخرجه الإمام البخاري برقم 228 من حديث فاطمة بنت أبي حبيش. (¬2) - حديث «أنها كانت تستحاض وتضع الطست .. » أخرجه البخاري برقم 310 عن عائشة قالت «اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي». وفي الرواية الأخرى وهي مستحاضة ترى الدم. (¬3) - قولنا «ولأن المشقة تجلب التيسير» هذه إحدى القواعد المجمع عليها، والأدلة عليها من النصوص عديدة كقوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). انظر الأشباه والنظائر للسيوطي صـ 35. وقواعد ابن نجيم الحنفي صـ 75. (¬4) - قولنا «وإذا ضاق الأمر اتسع» هذه من عبارات الشافعي الرشيقة وهي في معنى قاعدة «المشقة تجلب التيسير». انظر القواعد للسبكي ط/ دار الكتب العلمية (1/ 59). (¬5) - قولنا للنص «إن الله لم يجعل .. » قلت: فيه ما أخرجه أحمد برقم 157 في جزء الأشربة ط/ مكتبة التراث -القاهرة. عن حسان بن مخارق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جر قال: فسمع النبيذ يهدر فقال لها: «ما هذا؟ » قالت: فلانة اشتكت بطنها فنعت لها هذا، فدفعه برجله فكسره ثم قال «إن الله عزوجل لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء». قلت: سند هذا الحديث حسن من هذه الطريق. وأخرجه من نفس الطريق إسحاق في مسنده برقم 1912، ط/ مكتبة الإيمان -المدينة المنورة، وقد صح موقوفا عن ابن مسعود، ذكره البخاري معلقا في باب حديث رقم 5614.

ولا يشترط المريض الشفاء مقابل الأجر؛ لأن الطبيب باع منفعة فله أجرة ولو لم ينتفع بها المريض، كمن استأجر دارا ولم يسكنها، أو صرف له دواء لم يستعمله، وكاستئجار الأرض للإنبات ولم تنبت لعارض كقحط. ولأن الشروط على المجهول الممكن حصوله عادة أو عدم حصوله كالشفاء للمريض لا يغير من الحكم الشرعي، وهو صحة أجرة الطبيب؛ لأن تخلف الشفاء على خلاف الأصل. والحكم الشرعي متعلق بالعادي الأكثر لا على القليل المخالف للعادة؛ لأن العمل بالأكثر والأغلب لا بالأقل أو النادر أصل كبير في الشرع. والقسم الطبي جائز ويجب الوفاء به (¬1)؛ لعموم (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة: 177)، (وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) (النحل: 91). ويجب على الطبيب الصبر على مريضه؛ لأنه من مقتضى العقد معه والوفاء بالعقود ومقتضياتها واجب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). وعلى المريض وجوبا الصبر على قضاء الله والتضرع إليه (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155 - 157). والوصية واجبة للنص (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180). ويحرم تبديلها أو تغييرها (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 181). ولا وصية إلا لمن كان عنده خير وهو المال الكثير للنص الشرطي (إِن تَرَكَ خَيْرًا) (البقرة: 180) والخير في لغة العرب هنا هو المال الوافر. ¬

(¬1) - قولنا «والقسم الطبي جائز .. »، قلت: شرطه إن لم يشتمل على القسم الممنوع شرعا، وهو بغير الله أو أسمائه أو صفاته؛ فإن اشتمل حرم، ومن اضطُرَّ من الخريجين إلى القسم به كطالب يدرس في بلد أجنبي يلزمونه عند التخرج بأداء القسم فهو ضرورة وتقدر بقدرها.

ومقدارها الأعلى الثلث لصراحة النهي عن ما فوقه «أتصدق بالنصف؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير» (¬1). والوصية للوالدين جائزة للنص القطعي في الآية، وللأقربين، ويشترط في الأقربين كونهم غير ورثة لحديث «لا وصية لوارث» (¬2) وإنما استثنينا الوالدين تقديما للخاص على العام والقطعي على ما سواه. ¬

(¬1) - قولنا «لصراحة النهي عن ما فوقه» دليله ما أخرجه البخاري برقم 2743 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو غض الناس إلى الربع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير، أو كبير. وهو متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري برقم 2744 ومسلم برقم 4296، ولفظه: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال «لا». قال: قلت أفأتصدق بشطره؟ قال «لا الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك». قال: قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي. قال «إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغى به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد ابن خولة». قال رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفى بمكة. (¬2) - حديث «لا وصية لوارث»، قلت: هو حديث حسن صحيح رواه عدة من الصحابة، فقد أخرجه الإمام أبو داود بسند حسن برقم 2872 عن شرحبيل بن مسلم سمعت أبا أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث». وإنما حسنا الحديث لحال إسماعيل بن عياش الراوي له عن شرحبيل بن مسلم فإنه حسن الحديث في الشاميين، وشرحبيل شاميّ. وأخرجه الترمذي من نفس الطريق وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه الترمذي برقم 2121 من حديث عمر بن خارجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وأن لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: إن الله أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوراث والولد للفراش وللعاهر الحجر ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا. قال: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: لا أبالي بحديث شهر بن حوشب. قال وسألت محمد بن إسماعيل عن شهر بن حوشب فوثقه وقال إنما يتكلم فيه ابن عون ثم روى ابن عون عن غير هلال بن أبي زينب عن شهر بن حوشب. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. قلت: شهر ابن حوشب وثقه كذلك ابن معين ويعقوب والعجلي وأحمد في رواية، وفي رواية لا بأس به. وكذا قال أبو زرعة الرازي، وتشدد ابن حزم فقال: ساقط. وجملة كلام أهل العلم فيه جمعها الحافظ فقال: صدوق كثير الإرسال والأوهام. انتهى. وقول الترمذي حسن صحيح إنما هو جمع بين رتبتي الحسن والأوثقية، أو باعتبار شاهد الحديث السابق والله أعلم. وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند ابن ماجة برقم 2714 وسنده صحيح.

وجمعا بين النصوص؛ لأنه أولى من دعوى النسخ مع إمكان نوع من الجمع. ويتوضأ المريض للصلاة ويغتسل للجنابة فإن لم يستطع تيمم (وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 43). فإن لم يستطع التيمم صلى على حاله للعموم القطعي (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (الأنعام: 152)، وهو أصل قطعي معلوم ضرورة من دين الله. ويصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب للنص في ذلك (¬1). ويستقبل القبلة، فإن لم يستطع سقط التكليف القطعي الخاص (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144) وقطع بالآخر (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 115) لعموم الأصل القطعي (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (الأنعام: 152). فإذا عجز عن أداء الصلاة لشدة مرض قضاها حال استطاعته لعموم «دين الله أحق أن يقضى» (¬2). ولقضائه صلى الله عليه وسلم وصحابته الظهر والعصر والمغرب في وقت العشاء لما اشتد عليهم الحصار في الخندق (¬3). فدل على عدم سقوطها عند العجز عنها أداءً لمانع. ¬

(¬1) - قولنا «فإن لم يستطع فعلى جنب .. » دليله حديث البخاري برقم 1117 عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال كانت بي بواسير فسألت النبي عن الصلاة. فقال «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب». (¬2) - حديث «فدين الله أحق أن يقضى» متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 1953، ومسلم برقم 2749، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. (¬3) - قولنا «لما اشتد عليه الحصار في الخندق» الحديث في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه (البخاري برقم 4111، ومسلم برقم 1457) واللفظ له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا». ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء.

ومن أغمي عليه صلاها إذا أفاق لحديث «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (¬1). ولا فارق معتبرٌ بينهما؛ إذ هما يجتمعان في المفردات وبمعرفتها -أي المفردات- يُعرَّف النوم والإغماء. فالنوم: ذهاب التعقل وخمول الحس والحركة طبيعة مع بقاء الحياة. والإغماء: ذهاب التعقل وخمول الحس والحركة مع بقاء الحياة لطارئ. وقلنا «لطارئ» ليشمل سائر الطوارئ كالمرض، أو الإعياء، أو حصول صدمة نفسية لخبر سيء مع قلة صبر. وقلنا «ذهاب التعقل» ولم نقل خموله؛ لأن الخمول قد يحصل في خفيف نعاس أو الشعور بإعياء أو دوار ودوخة. وذهابه إنما يكون بالنوم المستغرق، أو الإغماء. وقلنا «خمول الحس والحركة» ولم نقل ذهاب؛ لأن حركة حس النائم والمغمى عليه باق في أدنى درجاته ولا تذهب إلا لموت. والنوم كالموت إلا ببقاء الحياة (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام: 60)، فسمى النوم وفاة. وسماه كذلك موتا (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر: 42)، أي يتوفاها حين نومها فيقبضها قبضا نهائيا لمن حضر أجله وقضى عليه بالموت، ويرسل الأخرى التي لم يكتب عليها الموت في النوم إلى أجل. فالفرق بين النوم والموت هو القبض التام، ولا فرق بينه وبين الإغماء سوى أن الإغماء طارئ. ¬

(¬1) - حديث «من نسي صلاة .. » متفق عليه أخرجه البخاري برقم 597 ومسلم برقم 1598 واللفظ له عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك». قال قتادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14).

والطارئ نادر خارج عن العادة فلا ينفرد بحكم، فحكمه حكم النوم. وطول الوقت ليس بفارق؛ لأن الإغماء الطويل الخارج عن العادة كشهر كالنوم الطويل الخارج عن العادة كشهر لمرض معروف (¬1). وكلاهما نادر جدا؛ لأن الإغماء -عادة- دقائق معدودة، ويندر ساعة فما فوقها، فيبقى حكم النوم على أصله، ولو طال لطارئ، وحكم الإغماء كالنوم ولو طال لطارئ. والنوم المستغرق على العادة ناقض للوضوء «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» (¬2). وهذه العلة المنصوصة جارية في الإغماء بلا فرق. وقلنا «النوم المستغرق على العادة»؛ لثبوت نعاس الصحابة في المسجد انتظارا للإقامة وقيامهم بعده إلى الصلاة بلا وضوء (¬3)، فدل على أنه غير مستغرق. وقلنا «على العادة»؛ ليخرج نوم الجالس ولو مستغرقا؛ لأن العلة في الحديث «العين وكاء ¬

(¬1) - هو مرض تنقله ذبابة تسمى «تسي تسي» تعيش في بعض الأماكن من أفريقيا ويدخل المصاب في نوم. (¬2) - حديث «العين وكاء السه .. » أخرجه أبو داود برقم 203 من حديث علي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ». وسند أبي داود حسن في الشواهد والمتابعات وقد أعل ببقية بن الوليد عن الوضين بن عطاء. قلت: أما الوضين فأبو داود نفسه إنما أخرج له لأنه قال فيه صالح الحديث. وقال أحمد ثقة ومرة ليس به بأس. وقال الذهبي ثقة وبعضهم ضعفه. وقال دحيم ثقة. وقال يحيى بن معين ثقة ومرة لا بأس به. وذكره ابن شاهين وابن حبان في الثقات. وقال الجرجاني ما أرى بأحاديثه بأسا. وقال أبو حاتم الرازي تعرف وتنكر. قلت: فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن إلا إن كان له علة أخرى. وأما بقية فالخلاصة ما قال الحافظ فيه أنه صدوق كثير التدليس على الضعفاء. قلت: وبقية رجال الإسناد ثقات، وقد أعل قوم الحديث بالانقطاع بين عبدالرحمن بن عائض عن علي قال الرازيان لم يدركه. إلا أن ابن حبان رحمه الله تعالى نقل عن البعض أنه لقيه والأكثر الأول. قلت: هذه العلة لا تؤثر خاصة وأن عبدالرحمن بن عائض مذكور في الصحابة. كما نقل عن البخاري نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة وتعقبه. وللحديث شاهد من حديث معاوية وهو قريب في الإسناد منه فيشهد أحدهما للآخر. وقد أخرجه الدارقطني في السنن برقم 597 وفيه ابن أبي مريم ضعفوه وأعل بغير ذلك إلا أنه صالح كشاهد. فالراجح عندي أن الحديث حسن. وقد اطلعت على تحسين ابن الصلاح والنووي له كما في فتح الغفار (3/ 85) ط/ دار عالم الفوائد، ثم الألباني في صحيح الجامع برقم 7598. وأكثر علماء الحديث على تضعيفه. (¬3) - قولنا «بلا وضوء» أخرجه مسلم برقم 861 عن أنس، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون.

السه» ظاهرة في المضطجع المستغرق لا الجالس، والاضطجاع عادة النوم، وتعليقها بمجرد النوم خطأ؛ لأن النص معلل بعلة منصوصة يبعد وقوعها من جالس متمكن. ويجب إسعاف المغمى عليه، وعمل ما يزيل الضرر عنه؛ لأن دفع الضرر عن النفس واجب. ويجب ستر عورته، وحفظ ماله وخصوصياته؛ لأن «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (¬1)، وستر عورته من حفظ عرضه. وإذا أغمي عليه وهو صائم نهار رمضان، فإن أفاق صح صومه؛ لأنه كالنائم، وإن لم يفق حتى غربت الشمس فكذلك؛ لأن غايته كالنائم، والنوم والصوم يجتمعان. فإن طال الإغماء أو النوم حتى خرج عن العادة كأيام أو شهر فهو مرض عادة، وكذا في لوائح الطب، وله حكم المريض شرعا: يقضي الصلاة والصوم للنص في الصوم (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 184). ولعموم «دين الله أحق أن يقضى» (¬2) في الصلاة. وقوله تعالى (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (الأنعام: 152)، يدل على ترك التكليف أداءً وقضاءً حال انعدام الوسع كما هنا، فإذا زال المانع كالمرض والإغماء ومستديم النوم عاد الوسع. فيقضي الصوم بخصوص النص والصلاة بعموم النص، وكذا بخصوص النص في قضائه صلى الله عليه وسلم والصحابة ما فاتهم يوم الخندق. ولو صح الاستدلال بها على الإسقاط لسقطت في الخندق؛ لانعدام وسعهم فعلها أداء، ولسقطت على النائم؛ لانعدام استطاعته أداءً، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر النائم والناسي بالقضاء علمنا أن الوسع لازم قضاء ولو تعذر أداء. ولم تسقط الصلاة في دين الله إلا على حائض ونفساء أداء وقضاء، ومفروضة فيما سوى ¬

(¬1) - «كل المسلم على المسلم .. » أخرجه مسلم برقم 6706 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». (¬2) - تقدم تخريجه.

ذلك في حرب وسلم ومرض وصحة وسفر وحضر ونسيان ونوم وانعدام ماء أو تراب أو كليهما، وانعدام ستر للعورة، وتعذر معرفة القبلة، أو تعذر تطهير ثوب ومكان وبدن من نجس، أو قذر، أو رفع جنابة. أو عند تعذر معرفة الأوقات، ويقدر لذلك قدره في أي زمان ومكان، ولو تخلف الزمن واضطرب فصار اليوم كسنة، أو السنة كيوم كما في حديث الدجال، فيقدر لذلك قدره بالنص (¬1). فعموم التكليف وبقاؤه أداء أو قضاء قطعي، ومن ادعى استثناء أحد غير منصوص عليه قطعا فقد تعمد رفع التكليف القطعي بموهومات، ولا تسقط العبادة في دين الله أداء وقضاء إلا الصلاة على حائض ونفساء، وعن المجنون يسقط كل تعبد؛ لانحراف تعقله الحقائق؛ لخلل عقله وهو مناط التكليف. أو صوم على مريض دام مرضه، وانعدمت استطاعته إلى الوفاة فلا عبادة عليه لا أداء ولا قضاء. فإن صح قضى الصوم بالنص، وقضى الصلاة على الأصل (¬2)، وعموم النص وخصوصه (¬3)، ولو كثرت قضى ما بوسعه؛ لأن التكليف على الوسع بالنص (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). وتعريف الجنون: هو اضطراب التعقل واختلال العقل للداء، فهو مرض. وقلنا «اضطراب التعقل» لا ذهابه ولا غيابه كما قلنا في النوم والإغماء؛ لأنه يعقل الأمور ¬

(¬1) - قولنا «فيقدر لذلك قدره بالنص» أخرجه مسلم برقم 7560 من حديث نواس بن سمعان في حديث الدجال الطويل والشاهد منه قوله: قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال «أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم». قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال «لا اقدروا له قدره». (¬2) - قولنا «على الأصل»؛ لأن الأصل بقاء التكليف ورفعه محتاج للدليل. (¬3) - قولنا «وعموم النص وخصوصه»، أما عمومه «فدين الله أحق أن يقضى»، وأما خصوصه فهو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وقضاؤه عندما نام مع أصحابه في الوادي، وحديث «فليصلها إذا ذكرها» وكلها صحيحة خرجناها في كتابنا هذا، ولله الحمد.

بجميع الحواس لكن على غير الحقيقة العادية، فدل على خلل في العقل. وقولنا «هو مرض»؛ لأنه على خلاف أصل الخلقة، وما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً. أما السُّكْر: فهو اضطراب التعقل لطارئ بسبب محرم كخمر ومخدر، ولذا قال تعالى (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج: 2)، مع وجود عقولهم لكن اضطرب تعقلهم أول الأمر لشدة هول الساعة، فهم سكارى في التصرف لكن حقيقة ليسوا كذلك. فالسكران كالمجنون، ويفارقه بأنه مُسَبَّبٌ مؤقت مع سلامة عقله. والمجنون غير مكلف لعلة اضطراب عقله وتعقله. والسكران مكلف بالعبادات؛ لبقاء عقله، لا بالإنشاءات كالنائم والمغمى عليه. فالنائم لو طلق، أو باع، أو تبرع، أو نطق بكفر فكله لغو وهذيان، ومثله السكران. وأما المُتْلَفَات فهي مضمونة ولو على مجنون. فالمجنون قتله خطأ تحمله معه العاقلة، ولا صوم عليه للكفارة؛ لارتفاع تكليفه، ولا يمكن إسقاط تضمين الدية لعلة الجنون؛ لأنه حينئذ إهدار لدمٍ، وهو لا يهدر بحالٍ، وإنما حملته معه العاقلة؛ لأنه في حكم الخطأ؛ لعدم إمكان إجراء حكم العمدية عليه؛ لأن الصارف في المجنون عن الحكم عليه بالعمدية أقوى وأولى من الصارف في عاقل مكلف مدعٍ للخطأ على خلاف الأصل، إذ الأصل العمدية، والناقل عنه البينة المعتبرة. والسكران: الأصل بقاء عقله فإتلافاته عمد في الأموال والأنفس؛ لأن سكره دعوى؛ فإن قطع به بشهادة عدول أثبات فيحد، ويضمن الدية، ويجوز تغليظها عقوبة، ودفعا للفتنة. أما انحراف التعقل عن الحقائق فهو الضلال، وهو غير الأقسام السابقة وصارت به خمسة أقسام: النائم، والمغمى، والمجنون، والسكران، والضال. ويمكن هنا صياغة ضابط لجميع الحالات، وهو: اختلال العقل والتعقل يرفع التكليف قضاء وأداء وهو الجنون، واختلال التعقل مع سلامة العقل لا يرفع التكليف كالنائم والناسي والمغمى والسكران، فلزمهم القضاء.

والتشريح في الطب لجثة مسلم محرم شرعا؛ لأن حرمته ميتا كحرمته وهو حي «كسر عظم ميت ككسره وهو حي» (¬1). ولأن تكريم الإنسان مقصد شرعي (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وهذا عامٌّ في الحياة والممات، والتشريح ليس من التكريم. وعندي امتناع في تشريح جثة غير مسلم ولو حربيا؛ لأنه كالمثلة، وهي محرمة لذاتها، فهي علة ذاتية مستقلة حتى لا يقال إن العلة خوف المجازات بالمثل في الحرب. ولذا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة لجثة حربي كافر في الحرب مع تمثيلهم بمسلمين مع أن العموم ظاهر في (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). فتركه ذلك دليل على قصد المنع منها، ولمخالفٍ العمل بفتوى غير هذه. ويجوز تشريح حيوان من الأنعام لجواز ذبحه وتقطيعه وهو أبلغ من التشريح. ويجوز كذلك من غير الأنعام تشريح حيوان؛ لأن التشريح من وسائل المداواة؛ لدفع الضرر البالغ عن البشر، وكل ما في الأرض خلق لنفعه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29)، ومن أعظم منافعه المداواة، ومن أهم وسائلها التشريح للحيوان فجاز؛ لأن للوسائل أحكام ما تُوُسِّلَ بها إليه، ولقوله تعالى في المسائل التي لم ينص على حرمتها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، فدل على جواز الانتفاع بها تشريحا للتعلم وللتجارب. ولجواز صيدها للانتفاع بجلدها أو عظمها في لبس وأثاث وزينة، فمن باب أولى تشريحها للطب. وعمل تجارب على الفئران والخنازير وغيرها جائز من هذا الباب؛ لعموم خلق ما في الأرض لمنافع الإنسان (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 3209 بلفظ (عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كسر عظم الميت ككسره حيا»). قلت: سند أبي داود حسن. وفيه سعد بن سعيد، قال الذهبي في الكاشف ملخصا كلام العلماء فيه: صدوق. قلت: وبقية رجاله ثقات. ثم اطلعت على تحسين ابن القطان له، نقله عنه الألباني في الجنائز (1/ 233).

وإرجاع يد سارق قطعت في سرقة بحدٍ لا شبهة فيه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصد الشرع من النكال به (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38). ويحتمل الجواز؛ لأنه مداواة وهي جائزة في قصاص الجروح بعد الاقتصاص بالمثل، ولأن النكال وقع بمجرد القطع، فالمداواة لم تعارض مقصدا ووافقت مثلا مشروعا في مداواة القصاص في الجرح. والاستنساخ محرمٌ لما فيه من تغيير الخِلقة والعبث بها ولما يؤدي إليه من مفاسد كارثية على البشرية، وما أدى إلى ذلك فهو محرمٌ؛ لأنه من الفساد في الأرض. ويستثنى من ذلك حالة الاستنساخ العلاجي الذي لا ضرر فيه على أصل الخِلقة البشرية. والأصل أن حكم الاستنساخ هذا -أعني التحريم- جارٍ في الاستنساخ البشري أو الحيواني؛ لأن من مقصودات الشرع الحنيف حفظ خلق الله على أصل خلقتها بالنص. والهندسة الوراثية لمعرفة الداء والدواء علم نافع من الطب، فجاز ويحرم استعماله في تغيير الخلقة عن طبيعتها؛ لعموم (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). فحرم تغيير الخلق وأكده بأن هذا الحكم هو الدين القيم. وجعل تغيير الخلق من فعل الشيطان (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119). والنهي عن النامصة والفالجة والواصلة من هذا الباب (¬1). ومعرفة النسب لمتنازع بين أطراف يدّعونه جائز بالقيافة (¬2). ¬

(¬1) - النامصة: هي من تزيل شعر حاجبيها لتحديده، والفالجة: من تحدد أسنانها تجملا، والواصلة: من تصل شعر رأسها بغيره تزويراً، وقد تقدم تخريج الحديث. (¬2) - قولنا جائز بالقيافة» فيه حديث متفق عليه (البخاري برقم 6770، ومسلم برقم 3690) عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال «ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض». وقد بوب البخاري باب «القائف». قال العلماء: =

وأولى منها بفحص الخصائص الوراثية المعلومة لدى خبراء علم الوراثة. أما إن كان عن زنى فلا حكم في الإلحاق بالنسب، بل يلحق بأمه، لتوقف الشرع عن بناء الحكم على ذلك، ولو مع معرفة صفاته (¬1) في هذا الباب، ولذلك لا يثبت الزنى بفحص المني ولا بالحمض الوراثي ولا بالقيافة. وضرب الإبر الوريدية والعضلية لا يؤثر في الصيام؛ لأنه ليس بغذاء ولا في معناه، فإن كان العلاج عبر الوريد للتغذية أفطر، وبخاخ الربو لمحتاج إلى استعماله في نهار الصيام لا يضر، وكذا الحقنة الشرجية، وقطرة العين والأذن. ومن ادعى أنها مفطرات لم يأت بحجة بينة معتبرة من الكتاب والسنة (¬2). ¬

= هذا الحديث أصل في إثبات النسب بالقافة. وهو مذهب الجمهور من الصحابة والأئمة إلا الحنفية، وعللوا ذلك بأنه خرص وتخمين ورُدَّ بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمجزز، وما كان عليه الصلاة والسلام يقر باطلا، فلا يقر إلا الشرع. راجع شرح ابن بطال (8/ 386). (¬1) - قولنا «ولو مع معرفة صفاته» لورود النص في ذلك عند البخاري برقم 5310 من حديث ابن عباس أنه ذكر التلاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع امرأته رجلا. فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي. فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بيّن. فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده، فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. قال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه» فقال: لا. تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء. وفي رواية أبي داود (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»). (¬2) - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 153) قرار رقم: 93 (1/ 10) بشأن المفطرات في مجال التداوي مجلة المجمع (ع 10، ج ص) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ الموافق 28 - حزيران (يونيو) -3 تموز (يوليو) 1997 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في المجمع بخصوص موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 - 12 صفر 1418 هـ الموافق 14 - 17 حزيران (يونيو) 1997 م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء، قرر ما يلي: أولا: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: 1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 3 - ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس)، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي. 4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم. 5 - ما يدخل الإحليل، أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة. 6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 8 - الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية. 9 - غاز الأكسجين. 10 - غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية. 11 - ما يدخل الجسم امتصاصا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية. 12 - إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء. 13 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها. 14 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل. 15 - منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى. 16 - دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاج الشوكي. 17 - القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة). ثانيا: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق. ثالثا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز =

الصحة النفسية ..

الصحة النفسية .. ويجب على المكلف أن يحافظ على صحته النفسية لما في ذلك من دفع الأضرار البالغة على النفس والحياة، ودفع المفاسد والأضرار واجب، وهي إحدى مقصودات الشرع العظيم، ولعموم (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا) (البقرة: 195). واليأس والقنوط من المحرمات الشرعية لما لهما من المفاسد العظيمة على المكلف وتقلبه في الحياة (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (الحجر: 56). وقد تؤثر الأحوال النفسية على الصحة فتتلف بعض الأعضاء (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84)، وهذا النوع من الحزن محرم في شريعتنا. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال لما يترتب عليها من المفاسد والأضرار على الحياة. ونهى الله رسوله عن الحزن والتحسر والضيق ولو كان حرصا على إيمان بعض الكفار (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: 8)، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127)، (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3). وحارب الخوف والمخاوف في كثير من النصوص (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46). ¬

= على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة: أ- بخاخ الربو، واستنشاق أبخرة المواد. ب- الفصد، والحجامة. ج- أخذ عينة من الدم المخبري للفحص، أو نقل دم من المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول. د- الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنا في الصفاق (الباريتون) أو في الكلية الاصطناعية. هـ- ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل (لبوس) أو منظار أو إصبع للفحص الطبي. و- العمليات الجراحية بالتخدير العام إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل، ولم يعط شيئا من السوائل (المحاليل) المغذية. والله أعلم.

ونهى عن الظنون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12). وحارب الوساوس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس: 1 - 6). ونهى عن التحسر بسبب اعتقاد فوت أمر «فإن لو تفتح عمل الشيطان» (¬1). وعالج النفس البشرية بالاطمئنان والاسترواح والقناعة ودفع أضدادها (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19). ونهى عن مد البصر إلى ما في يد الغير لما يترتب عليه من الآثار السيئة (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: 131). وبين حقائق الأمور التي قد ترى على خلاف ظواهرها (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55). وأمر بالإعراض عن الجاهلين دفعا للدخول معهم في دوامات من الصراع والألم (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان: 63). والباب في هذا كثير .. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 6945 عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان».

فقه الدعوة

فقه الدعوة * (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125) * (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)

فقه الدعوة الدعوة إلى الله تعالى هي: تبليغ مضمون الرسالة في أركانها الأربعة التي جمعت في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2). وهي أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108). وهي أفضل الأعمال (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33). وهي تفرغاً فرض كفاية (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104). (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122). والواجب فيها الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالأحسن، للنص (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125). ويجب فيها التبشير لا التنفير فهو إثم للنص: «بشرا ولا تنفرا وتطاوعا» (¬1)، والبدء بالتدرج من أكبر الفرائض فما دونها بدليل حديث معاذ لما أرسله إلى اليمن (¬2). والأصل أن لا يأخذ على الدعوة أجرة (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) (الأنعام: 90). ¬

(¬1) - حديث «بشرا ولا تنفرا» متفق عليه (البخاري رقم 3038، ومسلم رقم 4623) من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا». (¬2) - حديث معاذ أخرجه الإمام البخاري برقم 1496 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».

ويبدأ بنفسه وولده وأهله الأقربين وسائر الناس (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132)، ولا تعارض بين هذه المراتب. ويجب قصد وجه الله لا عرض الدنيا (إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ) (يونس: 72). وأصلها قائم على تعبيد الخلق لله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56). وليعالج ما عليه العمل، ويبدأ بالأصول القاطعة؛ لأن عليها مدار النجاة (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) (النساء: 31). ولا يُثِر الخلاف المُفَرِّق؛ لأنه مذموم (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105). ولا يدع إلى اتباع مذهب عصبية بل إلى الكتاب والسنة. واتباع مذهب جائز؛ لعموم (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7)، وفقهاء المذاهب من أهل الذكر ومن ألزم نفسه بمتابعة قول مذهب في كل فتوى جاز؛ لإطلاق النص، ولأنه إن فعل ذلك فقد أدى التكليف، ولا يحرم عليه الانتقال، أو سؤال آخر من غير المذهب، أو تقليده؛ لعموم الدليل في سؤال أهل الذكر، ومن ادعى الحرمة احتاج إلى الدليل. ولا يتعصب لقوله المحتمل؛ لأن الله علق النجاة على القواطع (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) (النساء: 31)، فدل على أن غيرها معفوٌّ عنه، فالتعصب لما سبيله العفو خلاف مقصود الشرع. ولا يتعصب ويغضب إلا لقاطع، أو قريب منه. وليهتم بما عليه النجاة من قطعيات الشريعة، فإن عليها مدار الدين، وفيها يُقَصِّر الخلق ودونها يغفره الله إن اجتنبت، للنص السابق. ومن أخذ بقول مجتهد، فلا يحرج عليه بالإنكار، إلا لبين الخطأ من مخالفة نص لم يطلع عليه ذاك. ولا يُجرِّح لقوله تعالى (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53)؛ ولأن دعوة الرسول لم تكن على هذا.

ولا يكفر المعين إلا بقاطع قامت به عليه الحجة. وليكن قويا في الحق لا يلين، ولا يضعف، ولا يهن، ولا يستكين. وليكثر من الاستغفار لذنبه (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 146 - 147). والإكثار من التسبيح بحمد الله بكرة وعشيا، وآناء الليل وأطراف النهار، وأدلتها كثيرة (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130). ولا يترك قيام الليل وكثرة الدعاء لربه وتلاوة القرآن، ولا الصلوات جماعة؛ لأنها من أعظم شعائر الدين. وليصبر على ما يصيبه؛ لأنه سيبتلى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور: 48)، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31). وليثق بالله ورزقه ونصره (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)، ولقوله تعالى (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه: 132). وليحذر الذنوب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63). ولا يكن ظهرا لمجرم (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17). ولا يجادل عن الخونة ولا يخاصم عنهم، لقوله تعالى (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105)، ولقوله تعالى (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (النساء: 107). وليبلغ الدعوة ولا يخف في الله لومة لائم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39). وليصبر نفسه مع عامة المؤمنين (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).

وليحذر المنافقين وكثرة مجالستهم؛ فإنه داء (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة: 95). وليحب المؤمنين ويواليهم وينصرهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71). ويقم بحق المسكين واليتيم والأرحام والضعفة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان: 8). ولينصر المظلوم لحديث «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» (¬1). وليسعَ في قضاء الحاجات «من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (¬2). وليحذر الغيبة لأهل العلم وللمؤمنين وتنقصهم فإن الله ينتقم لهم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). وليكن قائما بالعدل والقسط وشهادة الحق ولو على نفسه والوالدين والأقربين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135). وليحذر أكل المال بالباطل والتكاثر في الدنيا (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188). ويُشْرَع الاهتمام بوسائل الدعوة من صحافة وإعلام ونقابات ومواقع إلكترونية، والمجالس الجامعة، والقدوة الحسنة، ودروس العلم، وخطب الجمعة، ومواسم الدعوة والمخيمات والمراكز، والدورات العلمية، والرحلات، والخروجات الدعوية، والمبيتات الجماعية، والحلقات التربوية، والزيارات الخاصة والعامة. وعليه دوام ذكر الآخرة وما عند الله؛ فإنها سنة الذين أنعم الله عليهم واتباعهم هدى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6 - 7). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - حديث «من نفس عن مؤمن .. » أخرجه الإمام مسلم برقم 7028 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

ولا يمدنَّ عينيه إلى المتاع الزائل؛ لأنه قد أوتي أعظم من ذلك (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ* لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 87 - 88). ولا يكثر من ذكر الدنيا والتجارات والعمارات والعقار، فإنه مرض في القلب وهم فارغ وخروج عن سنن حملة الرسالات (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (التوبة: 55). وعليه النظر إلى حال دين الناس، ومطالعة سير السلف أهل الصراط المستقيم في عباداتهم ودعوتهم لقوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6 - 7)، وطلب صراطهم طلب لمعرفة هديهم وسيرهم. ويجوز الانتماء إلى جماعة على الكتاب والسنة (¬1)؛ لأنه تعاون على البر والتقوى ولأن الحرمة لا تكون إلا بدليل وإلا فهو وصف محرم (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل: 116). ويجوز التعاهد معهم على العمل على الشريعة (¬2)، وقد تعاهد بعض الصحابة على أمور في الطاعات كالموت في سبيل الله (¬3). فإن انتظم معهم فعليه الطاعة لأمرائه في طاعة الله فيما يخص مصلحة الدعوة؛ لعموم (وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ) (النساء: 83). وليست بيعة ولاية عامة، بل يمين على أمر خاص في الطاعة، والوفاء بها واجب (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة: 177)، (وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل: 91). فمن لم يستطع القيام بما التزم به جاز له التحلل منهم، والتكفير عن يمنيه بخلاف البيعة العامة السياسية، فإنه لا تحلل منها، ولا كفارة لها. ¬

(¬1) - وقد بسطت القول في المسألة في كتابنا «مشروعية العمل الإسلامي وتعدده والانتماء إليه» رسالة ماجستير أجيزت بامتياز. (¬2) - المصدر السابق. (¬3) - المصدر نفسه.

وكما لا مدخل للبيعة العامة في الأمور الخاصة للشخص كذلك بيعة الدعوة. فلا يتدخل الإمام الأعظم في الأمور الشخصية لأجل البيعة؛ لأن موضوعها هي المصالح العامة لا الشخصية، وكذلك بيعة الدعوة موضوعها دائرة الدعوة. ولا يجوز لجماعة على الكتاب والسنة، أن تأمر فردها ألا يحضر مع الجماعة الأخرى على الكتاب والسنة بسبب خلافات ليست قطعية. ويجب عليه الامتناع إن منعوه من مخالطة فرق الضلال أهل النفاق والظلمة والابتداع الظاهر، كالفرق التي تقع في سب الصحابة وأعراض النبي صلى الله عليه وسلم، أو الفرق التي تقتل أهل الإسلام وتستهدفهم وتخرج عن جماعتهم. ويجوز للمرأة الانتماء والبيعة بإذن زوجها ووليها. وتقدم طاعة زوجها على ذلك؛ لأن الدعوة فرض كفاية وطاعته فرض عين، فهي مقدمة. والأمر بترك فرض الكفاية ليس أمرا بالمعصية. ويشترط في انتماء المرأة أن تكون في قطاع نسائي لا مختلط؛ فإن الاختلاط لا يخدم حفظ العرض، وهو أحد مقاصد الشريعة التي عليها مدارها، والمرأة هي أصل العرض. فكل عمل تقوم به يجب أن يضبط بهذا، ولا مرتبة وسطى هنا، أي: لا حفظ ولا ضرر (¬1). أما ذهاب بعضهن للغزو مع محارمها، فمحرمها رافع للمنع المعلل بالاختلاط الذي لا ¬

(¬1) - ولهذا لم تكلف المرأة في عهد النبوة وما بعدها بالخروج الدعوي، ولا دعوة الرجال، ولا القبائل، ولا بالخطب في المجامع العامة، ولا في الأسواق، ولا المواسم نصرة للدين، لا منفردة، ولا مع نساء ثقات، ولا مع محارم. ولو كان هذا من الفرائض عليها لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لوجود الدواعي وعدم الموانع. والعمومات الآمرة بالدعوة للرجال عموما محارم وأجانب مبينة ببيان رسول الله وخلفائه الراشدين، وهو المبين عن ربه مراده ودينه. ولا يخلو الأمر من أن تكون دعوة المرأة للرجال الأجانب في مجامعهم ومجالسهم وأسواقهم وقبائلهم من الدين، أوْ لا. فإن كانت من الدين فقد ترك رسول الله أن يعلم النساء ذلك؛ لأنه مأمور ببلاغ الدين وترك ذلك أصحابه من بعده، فتبين أنه ليس من الدين، فضلا عن أن نقول إنه فرض أو سنة أو مستحب، ومن ادعى ذلك فقد زعم أن رسول الله وأصحابه تركوا أمر نسائهم بفرض أو سنة عليهن، وهذا لم يكن.

يخدم حفظ العرض، ولأن ذهابها ليس قصدا، بل تبعا لا للغزو. ولو كان قصدا لغزت النساء وتسابقن على ذلك، بل قصد الشرع بالنص ترك تكليفهن بذلك لما أردنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «جهادكن الحج» (¬1). فذهاب بعضهن مع هذا نادر متطوع به تبع لا أصل، وهذه أمور مؤثرة في الفتوى؛ لاشتراط تساوي الفرع والأصل عند القياس، فإذا اختلفا -كما هنا- لم يصح القياس. فلا يقاس إلا بمطابقة الفرع للأصل، وأين هذا من هذا؟ وغاية ما يستدل به هو جواز خروج المرأة مع زوجها الغازي إن أُمِنَ عليهن من نحو أسر العدو. فلا يدل هذا الدليل على ممارسة الدعوة من المرأة لعامة الرجال في مجالسهم ومحافلهم ومجامعهم، لا بعموم، ولا بدلالة قياس. ولهذا كله اختلفت بيعة الرجال عن بيعة النساء؛ فإن بيعتهن بيعة أخلاقية (¬2)، وبيعتهم بيعة نصرة، وحماية، وبلاغ، وسمع، وطاعة في المنشط والمكره (¬3). وهذا يدل على أنه لا فرض عليهن في ذلك. واشتراك ذكور وإناث في حلقة واحدة أو نحوها في تنظيم لجماعة أو حزب محرم؛ لأنه يعود على أصل حفظ العرض بالخلل والإبطال فبطل، ولا يفعله إلا زائغ مائل عن الصراط المستقيم (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء: 27). ¬

(¬1) - حديث «جهادكن الحج» أخرجه البخاري برقم 2875 عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال «جهادكن الحج». (¬2) - قولنا «بيعة أخلاقية» ورد النص فيها آخر سورة الممتحنة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الممتحنة: 12). (¬3) - قولنا «وبيعتهم بيعة نصرة .. » لحديث عبادة بن الصامت في الموطأ برقم 960 ط/ دار إحياء التراث العربي، وهو في صحيح البخاري برقم 7055 ومسلم برقم 4874، عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

وقياسه على حضور عيد وجماعة مسجد لا يصح لفقدان شرط تساوي الفرع والأصل، ويصح القياس على العيد وجماعة المسجد في حضور المرأة الجمع العام الظاهر لعدم تأثيره على حفظ العرض بالإبطال والإخلال (¬1). ¬

(¬1) - ولا يصح القياس على عيد وجمعة وجماعة لتجويز اختلاط الجنسين في الفصل الدراسي للفوارق الكثيرة الواضحة بين أصل مقيس عليه وفرع يراد قياسه، إذ العيد مرتان وحضوره اختياري، والجمعة والجماعة اختيارية للمرأة، والتزام الرجال عدم الانصراف حتى يتم انصرافهن، وجعل باب لهن، وعدم إمكان محادثتهما، وبعدهما عن التوصل إلى الفتنة، بخلاف فصل دراسي مختلط بين الجنسين، فطول وقت مع استمرار يعادل ربع العمر وحصول مشاركة الطالبات الدائم أمام الطلبة وتبادل للأحاديث والرسائل واللقاء في الاستراحات وأماكن الترفه، والطابور وحركاته، وغير ذلك من الفوارق التي تعود على أصل قصد الشرع حفظ الأعراض بالإبطال. وحديث «لا يدخلن بعد يومي هذا رجل على مغيبة إلا ومعه الرجل والرجلان» هو للضرورة ضرورةً؛ لعدم القول بجواز دخول جماعة رجال أجانب على من شاءوا من نساء أصدقائهم للترفه وتبادل الحكايات والأقاويل؛ لأنه أولى بالتحريم من الخضوع بالقول، وضرب الرجل في التوصل إلى طمع من في قلبه مرض (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). ولحديث: فأمرها أن تعتد فى بيت أم شريك ثم قال «تلك امرأة يغشاها أصحابى اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني». رواه مسلم 3770. وفي رواية أخرى برقم 3773 وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك ثم أرسل إليها «أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك». فنهاها وهي شابة عن مجرد القعود في بيت يغشاها الرجال للطعام حتى لا يرى منها ما تكره، والمرأة التي يغشاها الصحابة للطعام كانت من القواعد، ويجوز لها وضع ثيابها أي الجلباب بالنص، ولو كانت شابة لنقض الحديث بعضه بعضا، ومع ذلك لا يلزم أنها تخدمهم بنفسها لعدم ورود ذلك، ولأنها غنية لها من يقوم على ذلك. وأما حديث الصحيحين «إنها خادمتهم وهي العروس» فلا يلزم اختلاطها بهم، إذ معناه أنها خدمتهم، فصنعت لهم الطعام وأمور الضيافة الأخرى مع كونها عروسا، ولا يلزم خروجها عليهم بنفسها. وهذا ما جاء في رواية الحديث في الصحيحين (خ 5176، م 5351) «عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته إياه».

فقه الأقليات

فقه الأقليات * (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) (النساء: 100) * الإقامة في أي دولة على وجه الأرض من الحقوق الإنسانية المباحة * أخذ الجنسية الوطنية من أي دولة أمر مباح لا يتعارض مع التدين * التعايش السلمي بين شعوب الإنسانية هو الأصل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13) * الإحسان والبر والسلام والعدل مفردات شرعية مطلوبة في التعامل بين البشرية (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) (الممتحنة: 8)

فقه الأقليات الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. وهي في الأصل موضوعة لعموم الخلق (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمن: 10)، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). والإقامة في أي بلاد جائزة، والاستيطان بها وأخذ جنسيتها؛ إذْ الأصل الإباحة؛ لعموم العفو عن كافة المسائل المسكوت عنها بالنص (وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). ولأن الجنسية الوطنية إلى وطن ما لا تصادم الدين؛ لإمكان اجتماع الوصف الديني والوصف الوطني بلا تعارض، كعربي مسلم، وأوروبي مسلم؛ فالانتماء الديني لا يعارض الانتماء الوطني. ومن لم يستطع إقامة دينه في بلد وجب هجرته ولو إلى غير مسلمين يقدر على إقامة التكاليف الشرعية عندهم، فإن لم يفعل ظلم نفسه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 97 - 98). فلم يحدد النص وجهة الهجرة إلى أرض. وجعل قانون ذلك وجود العدل والحرية التي يستطيع معها إقامة دينه، كما يفهم من مقصود الآية أنها هجرة يتمكن فيها المسلم من الإيمان والعمل الصالح. وقد هاجر الصحابة إلى الحبشة، وهم وملكهم على النصرانية؛ فرارا بدينهم (¬1). و«لا هجرة بعد الفتح» (¬2) يعني: واجبة إلى المدينة بعد الفتح؛ لوجوبها قبله على كل من آمن ¬

(¬1) - حديث الهجرة إلى الحبشة أخرجه البخاري برقم 2297 عن عائشة. (¬2) - وقولنا «ولا هجرة بعد»، هذا جواب على ما يمكن أن يعترض على ما قدمناه، في جواز الهجرة أو وجوبها إن =

بالدعوة، ولجواز الهجرة إلى المدينة وغيرها والإقامة فيها بعد الفتح إلى يوم القيامة. وعموم أحكام الشريعة، زمانا، ومكانا، وأشخاصا على كل مكلف. ورخصها شرعت لحفظها (¬1). والإسلام قائم على الوسطية ورفع الحرج، فكل أحكامه يسر لا إفراط ولا تفريط (¬2). والمشقات المصاحبة للتكليف الجارية مجاري العادات غير معتبرة، كمشقة الجهاد، والحج، والجوع في الصوم، والبرد لصلاة الفجر (¬3). وإنما تدفع المشقة إن خرجت عن العادات، وما خرج عن العادات خرج عن الاستطاعة. ولا تخرج عن العادات إلا إن أدت المشقة إلى ضرر معتبر، وهو: ما أدى إلى إتلاف نفس، أو عضو، أو مال، أو شين فاحش، أو خلل في التعبد وانقطاع عنه (¬4). وهنا تجرى قاعدة: المشقة تجلب التيسير. والفرق بينها وبين قاعدة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) أن هذه أصل الشريعة، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير» للطوارئ الخارجة عن الاستطاعة. ولا يؤخذ منها التساهل. ¬

= استدعى الأمر ذلك. فإن قال قائل: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» وهذا عام؟ والجواب: أن النفي هنا لرفع التكليف على كل مسلم أن يهاجر إلى المدينة. وكان ذلك قبل فتح مكة، وجوبا. فلما فتحت مكة وأعز الله الإسلام ودولته وشعبه سقط وجوب الهجرة إلى المدينة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». أي: لا هجرة واجبة؛ لأنه من أراد أن يهاجر مستوطنا المدينة بعد الفتح إلى يوم القيامة جاز له، ولو حمل الحديث على عمومه؛ لكان تقديره (لا يهاجرن أحد إلى المدينة بعد اليوم) لا وجوبا ولا إباحة، لكان هذا تحريما لاستيطان المدينة من غير أهلها الموجودين أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير مراد قطعاً. (¬1) - قولنا «ورخصها شرعت لحفظها» بين ذلك الشاطبي في بدايات جزء المقاصد من كتابه الموافقات بيانا شافيا. (¬2) - قولنا «لا إفراط ولا تفريط» في كتابي في المقاصد -يسر الله طباعته- قررت أن من مقاصد الشريعة الوسطية والاعتدال. والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143). (¬3) - انظر جزء المقاصد للشاطبي عند كلامه على المشقات وتعريفها وضوابطها. (¬4) - قولنا «أو خلل .. » قلت: هذا تعريف للإمام الشاطبي وهو تعريف خماسي أخذته من كتابه الموافقات في جزء المقاصد فراجعه.

ويمكن صياغة قاعدة جديدة جامعة هي: الشريعة قائمة على التسهيل لا التساهل. فالتسهيل جمع بين قاعدة أصل التشريع في الآية، وبين قاعدة الطوارئ الشاقة. والمقصود منه -أي التسهيل- حفظ التشريع، ودوام التعبد في أي ظرف بحسبه، فيؤدي إلى اللزوم والالتزام بالتشريع. وأما التساهل فهو: مفض إلى الانفلات عن التكليف والتهرب منه، والالتفاف عليه بحيل ومتشابهات، فيؤدي ذلك إلى خلاف مقصود الشريعة. والأصل دعوة كل كافر لا قتل كل كافر. ويشرع البر والقسط لغير مقاتل ولا معاون؛ للنص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8). فيجوز تبادل الزيارات (¬1)؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي فأكل، وكان يمشي إلى يهود. وردُّ السلام جائز إذا سلموا بإجماع العلماء (¬2)؛ ولعموم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86)، وهذا عام. وأما ابتداؤهم بالسلام خاصة فمذهب جماعة من السلف جوازه، وعليه يحمل حديث «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» (¬3) على الحالة التي كانت جارية عندهم في تعاملهم مع ¬

(¬1) - قولنا «فيجوز تبادل الزيارات» قلت: الأصل فيها الإباحة، ومن ادعى المنع فعليه الدليل، وما أوردناه من الحديث ظاهر، فقد كان يجيب دعوة اليهود كما ثبت في صحيح البخاري برقم 1356 عن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول «الحمد لله الذي أنقذه من النار». (¬2) - قولنا «ورد السلام جائز بإجماع العلماء» نقل ذلك النووي في شرح مسلم (7/ 296)، وإنما الخلاف في: هل يقال «وعليكم» أم يزاد «وعليكم السلام»؟ والصحيح أنهم إذا سلموا تسليما صحيحا فيرد عليهم بذلك؛ لعموم الآية (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86). وأما إذا حرفوا الكلم كما كان اليهود يسلمون على النبي والصحابة بقولهم «السام عليكم» فأمرهم النبي أن يردوا عليهم بقولهم «وعليكم» كما في مسلم. فيحمل هذا النوع الخاص من الرد على هذه الحالة فقط، لا على كل حالة، فإنه لا يليق بمحاسن الإسلام، ولذلك ذهب علقمة والنخعي والأوزاعي وجماعات إلى ابتدائهم بالسلام فضلا عن مجرد الرد عليهم، وهذا هو اللائق. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 5789 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام». قال =

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث كانوا يبدءون بالسلام فيقولون: السام، فنهى عن البدء بالسلام لذلك معاملة بالمثل؛ لأن الله يقول (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، وورد في الصحيح صفة الرد عليهم في هذه الحالة بعينها بقوله «وعليكم». وبِدءٌ بالتحية جائز، وهي غير السلام والنهي وارد فيه، وقد يجوز البدء بالسلام كما قدمنا لحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء على حمار فسلم وكان في القوم مسلم وكافر ومنافق» (¬1). ¬

= النووي في شرحه على مسلم (7/ 296): اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا. انتهى. ونقل عن القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب وهو قول علقمة والنخعي، وعن الأوزاعي أنه قال إذا سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. انتهى. وهذا يدل على ما قدمنا من أن الابتداء بالسلام يجوز وهو في عصرنا هذا حيث يلقى الإسلام تشويها القول الأولى؛ لأنه يؤدي إلى مصالح كثيرة من التعريف بالإسلام ونشر محاسنه. (¬1) - قال النووي في شرحه لمسلم (7/ 296): ويجوز الابتداء بالسلام على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكفار. انتهى كلامه. وقيده بقوله «ويقصد المسلمين». قلت: وليس في الحديث ما يدل على هذا القيد إلا النص السابق «لا تبدءوهم بالسلام»، وعلته فيما أراه هي أنهم كانوا يقولون تحريفا «السام عليكم» فمنعنا من الابتداء؛ لأنه إن بدأنا بقولنا «السلام عليكم» فردهم كان بحذف اللام «وعليكم السام» وإن رددنا عليهم وابتدءونا هم بقولهم «السام عليكم» فالجواب «وعليكم» لا أنه على كل حال يمنع بدؤهم بالسلام بل لعلة ذلك الوضع، لأنها من الجزاء بالمثل (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، فإن لم يحصل ذلك رجعنا إلى الأصل وهو (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8) وهذا عموم يدخل فيه السلام وغيره وهو أصل من الأصول الشرعية في التعامل .. وأما الحديث الذي في الباب فهو في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (البخاري رقم 4566، ومسلم رقم 4760) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: حتى مر بمجلس فيه عبدالله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين وفي المجلس عبدالله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبدالله بن أبي بن سلول أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبدالله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له =

وتحييهم بتحيتهم نحو «صباح الخير»، إلا إن اشتملت على محضور، لعموم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86)، فإذا جاز الرد بمثل التحية ما لم تكن ممنوعة شرعا فيجوز الابتداء بها، والأصل عدم المانع. وتهنئتهم بمباح في أعيادهم ومناسباتهم، لعموم (أَن تَبَرُّوهُمْ) بشرط عدم الحضور؛ لأن الحضور شعيرة دينية تعبدية، وحضور الشعائر الدينية التعبدية لغير دين الإسلام الحق أمر محرم. وكذا يجوز الإهداء لهم (¬1)، وقبولها منهم (¬2)؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقبل هداياهم. ومساعدتهم والصدقة على فقيرهم؛ للحديث الصحيح أن عائشة تصدقت على يهودية، ¬

= النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبدالله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون، عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله عزوجل (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) (آل عمران: 186) الآية وقال الله (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول، ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا. (¬1) - قولنا «وكذا يجوز الإهداء لهم» دليله أن عمر أهدى لأخ له مشرك كما في الصحيحين (البخاري رقم 886، ومسلم رقم 5522) أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها. فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له بمكة مشركا. (¬2) - قولنا «وقبولها منهم»، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلها من الملوك والأمراء وغيرهم وكانوا على الشرك، كما في صحيح البخاري رقم 1481 ومسلم رقم 6087 من حديث أبي حميد الساعدي، وأن ملك أيلة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بُرْدا.

وإغاثة مضطر كغريق أو مصاب في حادث سير، أو هدم، أو حرق، أو كارثة ونحو ذلك؛ لعموم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8)، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل لأبي سفيان في نازلة الجوع. وحفْظُ أماناتهم؛ لعموم الأدلة وعدم التخصيص؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً برد الأمانات. وتبادل الخبرات والدراسات والبحوث؛ لأنها معارف إنسانية عامة مشتركة لا تختص بدين لعموم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). ويجوز معهم البيع والشراء؛ لعموم (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275) ولتعامل المسلمين مع المشركين أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم، وكذا يجوز معهم الشركات، والمضاربات، والإجارات. ولمقيم المشاركة في انتخاب من في ولايته مصلحة شرعية للمسلمين عموما أو خصوصا، كالجاليات. ويجوز الاستدانة منهم بلا ربا وإلا حرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي في دَين (¬1)، ويجوز وضع المال في بنوكهم لمضطر وما خرج من ربا صرف في مصلحة عامة. ويحل الزواج بكتابيةٍ، وأكل طعامهم إلا الخمر والخنزير؛ للنص (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: 5). ومن كان أجيرا في محل، أو شركة، أو مطعم، أو فندق في بلادهم وفيه محرم قطعي، كالخمر والخنزير، وهو يبيعه، أو يقدمه؛ حرم. وينتقل إلى غيره؛ فإن لم يجد عملا إلا بفعل المحرم هاجر إلى بلد ليس فيه ذلك؛ لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 97). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2096 عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما بنسيئة ورهنه درعه.

فإن كان مُحْصَرا وتعذر انتقاله، ولا حيلة له شمله الاستثناء في قوله تعالى (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 98). والمساهمة في شركات مشتملة على محرم قطعي كخمر وخنزير لا يجوز. إلا إن كانت قطاعات متعددة؛ فيجوز فيما ليس فيه ذلك. ومن أسلم منهم وتحته كتابية استدام؛ لأنها تحل له ابتداء بالنص (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة: 5)، أو وثنية انتظرها في العدة، فإن أسلمت وإلا فارق، ويحتمل جواز الدوام؛ لحديث زينب (¬1). وآية الممتحنة لصورة الهاربة إلى الكفار أو منهم. ومن أسلمت وهي تحت كتابي أو غيره جاز دوام العقد سنين بلا مس؛ لحديث زينب، ويحتمل جواز المس في الصورتين؛ على الأصل ولعدم المانع لكل من أسلمت أو أسلم، والزيادة في حديث زينب «ولا يخلص إليك» ضعيفة ومخالِفَة لرواية الأثبات، والضعيف إن خالف الثقات فروايته منكَرَة، وعلى تسليم صحتها فيعلل على مسألة الهاربة من الكفار أو الباقية عندهم ¬

(¬1) - قولنا «لحديث زينب» قلت: أخرجه أبو داود برقم 2242 عن ابن عباس قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاصى بالنكاح الأول لم يحدث شيئا. قال محمد بن عمرو في حديثه بعد ست سنين وقال الحسن بن على بعد سنتين. قلت: هذا حديث حسن. أما حديث أنه ردها بنكاح جديد فهو عند أحمد من طريق حجاج بن أرطأة وهو ضعيف خاصة إذا خالف. قال أحمد برقم 6938: قال هذا حديث ضعيف أو قال واه ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا والحديث الصحيح هو الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول. قلت: وأما زيادة «ولا يخلص إليك» فإنها من غير طريق الثقات، أخرجها الحاكم في المستدرك برقم 5038 بسند ضعيف فيه أحمد بن عبدالجبار العطاردي ومن طريق ابن إسحاق وقد عنعن، وهذه علة أخرى عند من يجعلها علة، ولفظه: عن عائشة رضي الله عنها قال: صرخت زينب رضي الله عنها: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع قال فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل على الناس فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا: نعم قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له.

أو الهاربة إليهم مفارقة لزوجها المسلم، وهذا ما تحمل عليه آية الممتحنة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الممتحنة: 10 - 11). والنهي الصريح في البقرة (وَلاَ تَنكِحُوا) هو في الابتداء؛ لأن النكاح عقد. ولأن من أسلم من الصحابة لم يؤمر بطلاق، وكذا من أسلمت، ولم يؤمر ولم ينه عن مسها في كافة الصور إلا في صورة الهاربة من الكفار. فيحمل حديث زينب مع زوجها «لا يخلص إليك»، على الإرشاد أو على صورة الهاربة من الكفار، وكم أسلم من العرب من الرجال ورجعوا إلى أهلهم ولم يؤمروا بطلاق، ولا عدم مسيس، فالنهي في قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الممتحنة: 10) يُحْمَلُ على كل امرأة فرت من زوجها المسلم إلى بلاد الكفر كافرة، أو رفضت الهجرة الشرعية معه، أو آثرت نصرة أهل الحرب، وظاهرتهم فكانت معهم. ويحمل: (وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشِرِكِينَ) على الابتداء. هذا ما تجتمع به النصوص، والله أعلم. ومن أسلم فمات مُورِّثُه الكافر وَرِثَه على الأصل. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك مقاسم الجاهلية على ما قسمت (¬1)، فيعاملون على قوانينهم، ولأن الصحابة ورثوا أقاربهم من الكفار (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك مقاسم .. » أخرجه أبو داود برقم 2916 بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام». (¬2) - قولنا «ولأن الصحابة ورثوا أقاربهم من الكفار» قال الحافظ في الفتح (8/ 14) في شرح «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور»: وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين. انتهى. وهذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام لأن أبا طالب مات قبل الهجرة ويحتمل =

وحديث «لا يرث الكافر المسلم» (¬1) مؤيد لذلك؛ لأنه إن كان الميت هو من أسلم فإن أحكام الإسلام تجري على ورثته فلا يرثونه، وإن كان الميت هو الكافر فيرث المسلم؛ لأن أحكام شريعتهم هي التي تحكم في ماله وهي تحكم بإرث ولده ولو مسلما. وتعقد رئاسة الجالية المسلمة لمن لا ولي لها، فإن لم يكن، فعقدوا في محكمة بلاد الكفر انعقد؛ لعدم اشتراط الإسلام في إجراء العقد، وإن زوجت نفسها غريبة في بلاد غير الإسلام، ولا ولي لها بشهود جاز (¬2). ويجوز التأمين التكافلي الإسلامي لا التجاري إلا لمجبر بقانونهم. وحجاب المرأة أمام الأجانب له ركنان: ما ستر الزينة، ودفع الإيذاء. فالزينة هي: كل ما تتزين به من ملابس وأساور وأصباغ، أو زينة بدن، إلا ما ظهر بلا عمد أو ما لا يمكن إخفاؤه كخضاب. وزينة بدنها: حُسْنُ مقاطع جسم كصدر وشعر وعنق وما بين سرة وركبة ووجه وكفين عند البعض في الأخيرين، فهذه مواضع زينة وإظهارها فتنة وإيذاء للمرأة، فكل ما يستر ¬

= أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبدالمطلب فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلا على ما يخصه هو فقيل ترك له ذلك تفضلا عليه وقيل استمالة له وتأليفا وقيل تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم .. وقال في موضع آخر (وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب وقال الداودي وغيره كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم). (¬1) - أخرجه البخاري برقم 6764 عن أسامة بن زيد، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم». وهو في مسلم برقم 4225. (¬2) - قولنا «ولا ولي لها بشهود جاز»، قلت: هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قوي في هذه الحالة، وحديث «لا نكاح إلا بولي» مختلف في صحته، أما زيادة «وشاهدي عدل» فلا تصح.

زينة المرأة ويدفع عنها الأذى فهو مقصود بالحجاب. فالحجاب ما ستر الزينة ودفع الإيذاء عن المرأة (¬1). والاستثناء بـ (إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31)؛ ليخرج كل ما لا يمكن إخفاؤه من طول وقصر أو صوت بحسبه. ولفظ (ظَهَرَ) يدل على ظهوره بنفسه بلا إظهار، وهو غير لفظ «إلا ما أظهرن»؛ لأنه يعيد فعل الإظهار إليها. فإذا جعلنا الإظهار عائداً إلى اختيار المرأة بطل الحجاب لإمكانها إظهار أخص فتنتها من صدر وعنق وبين سرة وركبة. فلزم أنّ (ظَهَرَ) هو: ما ظهر بنفسه، إما: بلا عمد، أو ما لا يمكن إخفاؤه من طرف ثوب وكم وبنان وعين؛ لتعسر ذلك. والوجه إن جرت العادة على كشفه جاز؛ لاحتمال دخوله في الاستثناء، فإن فتنت به حرم كما تقتضيه مقاصد التشريع. أما غير ذلك من شعر وساق ونحر ونحوه فهو منهي بالنص العام المشدد «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها العنوهن فإنهن ملعونات» (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «ما ستر الزينة ودفع الإيذاء» هذا ما أخذناه من (وَلا يُبْدِينَ)، وآية (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59)، فهذا الضابط الثنائي هو ما نراه جامعا مانعا، وإن لم ينص عليه أحد فيما طالعنا إلا أنه مفاد الآيتين وبه يعلم أن للمرأة حرية ما تلبس بحسب عرفها ووصفها، بشرطين ضابطين: إخفاء الزينة، ولبس يدفع إيذاءها، فمواضع الزينة معلومة بالفطرة والديانة، وما دفع الإيذاء معلوم كذلك. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5704 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». وفي رواية أحمد «العنوهن فإنهن ملعونات» قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الثلاثة ورجال أحمد رجال الصحيح. قال النووي في شرحه على مسلم (9/ 240): هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فأما أصحاب السياط فهم غلمان والي الشرطة. =

فالكاسية العارية هي من عليها مسمى كساء لكنه في حكم العري؛ لضيقه فيظهر تفاصيل مقاطع فتنتها؛ أو لقصر؛ وتقطيع فيظهر ساق وصدر ونحر وغيره. أما رؤوسهن فحجمها أو شكلها، أو شعرها من ظفائر وخصلات ونحوه للنص «رؤوسهن» وما في معنى النص. أما العنق والصدر فقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31). فدل على تغطية الرأس والصدر والرقبة والنحر. وأما القدم فنُهِىَ عن الضرب بها حتى لا يسمع صوت زينة خفية كخلخال وضع فوق الكعبين. ¬

= أما (الكاسيات) ففيه أوجه أحدها: معناه: كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها، والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعات. والثالث: تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها، فهن كاسيات عاريات. والرابع: يلبسن ثيابا رقاقا تصف ما تحتها، كاسيات عاريات في المعنى. وأما (مائلات مميلات): فقيل: زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن، وقيل: مائلات متبخترات في مشيتهن، مميلات أكتافهن، وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا معروفة لهن، مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة، وقيل: مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها. وأما (رءوسهن كأسنمة البخت) فمعناه: يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس، حتى تشبه أسنمة الإبل البخت، هذا هو المشهور في تفسيره، قال المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رءوسهن، واختار القاضي أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء، قال: وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت، قال: وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رءوسهن، وجمع عقائصها هناك، وتكثرها بما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس، كما يميل السنام، قال ابن دريد: يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها. والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن الجنة» يتأول التأويلين السابقين في نظائره أحدهما: أنه محمول على من استحلت حراما من ذلك مع علمها بتحريمه، فتكون كافرة مخلدة في النار، لا تدخل الجنة أبدا. والثاني: يحمل على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزين. والله تعالى أعلم. قلت: رحم الله النووي وغيره من العلماء السابقين فإنهم لو رأوا الكاسيات العاريات في هذا الزمان لن يختلفوا في معرفة معناه إذ أصبحت الموضة العارية التي تظهر العورات المخففة والمغلظة من مقطع وضيق وشفاف وقصير وضاغط هي لبسهن، وهذا ظاهر.

فدل على أن إظهار الحلي ومواضعه ممنوع؛ لأنه أشد من تخيل زينته لمجرد سماع صوته. ودل على أن ما حكى زينة باطنة ولو بسماع، يحرم؛ فأولى منه ما أعلم عن زينة باطنة بالرؤية لتفاصيلها؛ لضيق لبس؛ لأنه أبلغ من سماع صوت خلخال. ويجب على مقيم تعليم ولده وأهله الشريعة ولغة العرب؛ لأنها وسيلة لفهم الوحي وإلزامهم بشعائره (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132). ويلزم الأقليات (¬1) المسلمة المقيمة في غير بلاد الإسلام إقامة المدارس التي تحفظ النشء على دينه. ¬

(¬1) - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 283) قرار رقم 151 (9/ 16) بشأن معاملة الأقليات المسلمة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر - 5 ربيع الأول 1426 هـ، الموافق 9 - 14 نيسان (إبريل) 2005 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع رعاية الأقليات المسلمة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1. ينبغي استبعاد تسمية الوجود خارج العالم الإسلامي بـ (الأقليات) أو (الجاليات) لأن تلك التسميات مصطلحات قانونية لا تعبر عن حقيقة الوجود الإسلامي الذي يتصف بالشمولية والأصالة والاستقرار والتعايش مع المجتمعات الأخرى. وأن التسميات المناسبة هي مثل (المسلمون في الغرب) أو (المسلمون خارج العالم الإسلامي). 2. يجب اتخاذ شتى الوسائل للحفاظ على الوجود الإسلامي للمسلمين خارج البلاد الإسلامية والدفاع عن خصوصياته الدينية والحضارية والثقافية. 3. إن مقتضيات المواطنة في الغرب لا تتنافى مع المحافظة على الهوية الإسلامية والالتزام بالقيم الإسلامية. التوصيات: 1. إنشاء مركز علمي بحثي يعنى بأوضاع المسلمون خارج العالم الإسلامي، ويصحح الصورة الإسلامية لدى غير المسلمين. 2. تكوين لجنة شرعية في المجمع تعنى بإيجاد الحلول للنوازل الفقهية التي يواجهها المسلمون خارج العالم الإسلامي. 3. أن يعقد المجمع بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة في الدول الإسلامية وخارجها دورات تدريبية متخصصة للأئمة والدعاة ومديري المراكز الإسلامية في البلاد غير الإسلامية. 4. دعوة المسلمين خارج البلاد الإسلامية للمحافظة على ثوابتهم الإسلامية، ونبذ الخلافات المذهبية والتمسك بالوحدة في الشعائر الدينية. 5. أن يكون المسلمون خارج البلاد الإسلامية نماذج حضارية تمثل الإسلام بسلوكياتهم وتعاملهم مع الآخرين. 6. دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي لدعم الإدارة التي تعنى بشؤون المسلمين في الدول غير الأعضاء في المنظمة، وتفعيل القرارات الصادرة عن المنظمة بهذا الشأن. والله أعلم.

ويجب بناء المراكز والمساجد وإقامة الصلاة وإظهار شعائر الله من جمع وجماعات وأعياد؛ لعموم التكليف بها وبوسائلها زمانا ومكانا وأشخاصا. فإن لم يفعلوا مع القدرة أثموا، فإن عجزوا لمال وجب على المسلمين عونهم، فإن منعوا من ذلك أقاموا ولو في بيت أحدهم، فإن منعوا حرم مقامهم بها؛ كما يفيده قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 97).

فقه الدولة

فقه الدولة * الشعب أصيل والحاكم وكيل * نرى أن حفظ الجماعة العامة هو المقصد الضروري السادس للشريعة، والجماعة: المجتمع والدولة * عولمة المصلحة والرحمة لا احتكارها أو الهيمنة عليها أصل تقوم عليه السياسة في دولة الإسلام * العلاقات الداخلية والدولية والأممية قائمة على خمسة أصول: تعاونية، تبادلية، مثلية، سلمية، عادلة .. أما الحرب فهو استثناء مسبب؛ لأن الأصل السلام لا الحرب * العدل قيمة فاضلة لا تحملها إلا النفوس الفاضلة، وبهؤلاء تقوم وتدوم الدولة الفاضلة * لا مكان لمستبد على كرسي عام عندنا بالإجماع المنقول * سياسة الحطمة ممنوعة شرعا * إذا شعر المواطنون بالقلق والمخاوف الدائمة فليس هناك دولة راشدة في البلاد * العدل والمساواة العادلة والحريات الراشدة والحقوق والواجبات وحقوق المواطنة مفردات أصول للدولة المسلمة

فقه الدولة قال المؤلف عفا الله عنه ووفقه: حفظ الجماعة العامة هو المقصد السادس للشريعة (¬1)، وبها تحفظ بقية المقاصد، ومنها تنبثق الدولة، ونعني بالجماعة الشعب ودولته والمجتمع والأمة. ومصدر التشريع هو الشريعة الإسلامية. وما قعدته الجماعة المستنبطة من خلاله هو القانون في المعنى الأعم. وتكييفه في المعنى الأخص هو: ما اتفقت عليه الجماعة المخولة المؤهلة من أهل الاستنباط في الشرع من قواعد مقننة مصوغة بقاعدية أو ضبط أو مادة تنص على أحكام الوقائع بالاستنباط من أحكام الشرع بما يحفظ الضروريات الست والحاجيات والتحسينيات. فالضروريات كل ما لا يمكن بدونه عيش، وهي: الدين والنفس والعرض والمال والعقل، وزدت: الجماعة العامة. والحاجيات: كل ما لا تعيش بدونه الجماعة إلا بضيق وحرج كالتملك. والتحسينات: ما يدخل في السعة والإكرام والإحسان والمحاسن والترفه. ويصوغه فقيه بالشرع خبير باللسان والواقع نيابة عن الجماعة الكلية المخولِة له بوضع ذلك ويستعان بمن يحتاج إليهم من الخبراء في التقنين والسياسة وغيرهم، ثم تقره هي بالإنابة عن الجماعة الكبرى الممثلة في الشعب، أو تعرضه عليه في ما لا يقطع بإمضائه إلا برضى الشعب المباشر كالدساتير والقرارات الكبرى. والجماعة المستنبطة واجبٌ الرد إليها، وواجبٌ تحديد شكلها، وآليات اختيارها إن لم يتم إلا بذلك (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ¬

(¬1) - قولنا «المقصد السادس للشريعة»: هو اجتهاد جديد عن بحث وبذل وسع في ذلك خلال تدريسنا لمادة المقاصد في الجامعة والدروس العامة من كتاب الموافقات للشاطبي، لأكثر من عشر سنوات وقد باحثت فيه كبار العلماء في اليمن وغيرها فلما وجدت القبول وتصويب ذلك منهم نشرته في مقالات فكثرت إليَّ المراسلة في تصويب ذلك وتأكيده، ثم عرضته على الإمام القرضاوي فوافقني عليه، وكنا قد أفردنا في كتابنا هذا بابا مستقلا لذلك هو «فقه المقصد السادس للشريعة: حفظ الجماعة العامة» ثم رأينا حذفه حتى لا يطول الكتاب.

لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، فنهى سبحانه عن ترك القضايا العامة للأمة خوفا وأمنا عالقة خاضعة للإشاعة التقولية بين العامة، وأوجب ردها إلى أهلها للبت فيها، وقَطَع بوصولهم إلى عِلْمها بدليل (لَعَلِمَهُ) وتَرَك آليات الرد للنظر المصلحي للأمة زمانا ومكانا. والحكم به من حاكم نظره في عين القضية ولا يتجاوز حكمه ذلك. والمنفذ له تنفيذي يعمل بالنص، ومقتضياته مما هي كالنص أو قريب منه (¬1). ويشكل الكل مؤسسة تسمى الدولة. ونعني بـ «الكل»: الشعب ومؤسسته المستنبطة، والسلطة الحاكمة، والمنفذة. ويجب أن تسير الدولة وفق أحكام الشرع وما انبثق منه من العقد الشعبي العام معها، سواء كان منصوصا أو غير منصوص؛ لأنه مُلْزِم على كل حال، والعقد المنصوص بين الشعب والحاكم مُلزِمٌ، سواء كان على صيغة دستورية أو قانونية أو كليهما، أو كوثيقة، أو عهد، أو اتفاقية. فإن لم يكن العقد منصوصا فهو ملزم -كذلك- من جهة العمل على مقصودات الشرع؛ لأن مقصوده إقامة المصالح ودرء المفاسد وعلى هذا المقصد الشرعي العظيم تبنى الإرادة الشعبية وتقوم خدمتها؛ لأن هذا هو الأصل الذي تقوم عليه الولاية، ولا بد الآن من وجود العقد الشعبي المنصوص عليه بين الحاكم والمحكوم دفعا للمفاسد الكبرى، ويجب الالتزام به؛ لعموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وهذا عقد، بل من أكبرها وأهمها. ويجب إدارة البلاد دولة وشعبا بسياسة قائمة على حفظ المصالح العامة ومحاربة المفاسد بتقليلها وتعطيلها. وتدار الدولة بسياسة قائمة على مقتضى العقد الشرعي والرضى الشعبي في داخل وطنها وخارجه بقانونية منبثقة عن الشرع بفهم منصوصاته ومقاصدها، وفهم واقع الحال والمآل المناسبين لتنزيلها فيهما، وفهم الأوليات عند التزاحم والتعارض، وفهم السير على الأصل وعلى الاستثناءات. ¬

(¬1) - قلنا «ومقتضياته مما هي كالنص أو قريب منه» دفعا لمفسدة العمل بالتأويل والاحتمال الذي قد يوظف توظيفا منحرفا غير مراد ولا متوافق مع المصالح العامة المعتبرة.

والشعب أصيل والحاكم وكيل. ومصدر الحكم هو الرسالة، ومصدر الحُكَّام هو الشعب. وفرض على الجماعة القيام بالشرع، ولا يتم إلا بدولة، فالدولة فرض؛ لأنه لا يقوم إلا بها فإقامتها فرض كلي. وهي نائبة عن الجماعة العامة، ومنها، مشاعاً، بالتراضي المشروط، وأجراء بمالها، وتصرفاتهم منوطة بمصلحتها. أما أن الدولة نائبة عن الجماعة العامة، فيدل لذلك أن شرعية الولاية في الأصل لا تنعقد إلا بالبيعة من الأمة بآلية مناسبة متفق عليها تحقق معرفة الرضى الشعبي في اختيار السلطة. وما كان في معنى الولاية مما دونها فبالتعيين ممن انعقدت له البيعة، أو الاختيار من الجماعة، ثم التعيين، وطاعة المتغلب ضرورة استثنائية حقنا للدماء ودفعا للمفاسد العامة. وأما أن الحاكم (منها) فيدل له قوله تعالى (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، أي من أمة الإيمان؛ لأن الخطاب في صدر الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (النساء: 59). ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة عن خلع الحاكم بالسيف: «لا، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» (¬1). فجعل الكفر مبطلا للولاية دواما، ففي الابتداء أولى. وأما كون الولاية حقا «مشاعا»؛ فلأن حصر الولايات بالمناطقية والأسرية خلاف العدل، ومولد لمفاسد جمة عامة ودفعها واجب. ولأن الشرع راعى الكفاءة والأمانة في نصوصه. وأما حديث الإمامة في قريش (¬2) فخبر لا إنشاء، ولا يراد به الإنشاء، أي الأمر، بدليل عدم ¬

(¬1) - أخرجه البخاري، وقد تقدم. (¬2) - قولنا «وأما حديث الإمامة في قريش» قلت: أخرجه البخاري برقم 3500 من حديث معاوية، قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين». وأخرجه الشيخان (البخاري 7140، مسلم 4807) من حديث ابن عمر بلفظ «لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان».

استدلال الصحابة به في خلاف السقيفة مع نقل القضية بالتواتر إلا في طريق فيها من لا يوثق بهم من الضعفاء، فتكون منكرة (¬1). وأما أن الولاية بالتراضي العام: فلأن الحق للأمة، وإذا كان لها الحق فواجبٌ اعتبار رضى صاحب الحق، وهو الأمة، وهذا ما فعله الصحابة في قضية الخلفاء الأربعة إذ كانت بالتراضي والبيعة العامة، وسنتهم سُنَّةٌ مأمور باتباعها؛ ولأن بيعة المكره لا تنعقد فلا تنعقد الولاية؛ لأن الإكراه لا تنبني عليه آثار العقود وأحكامها. وأما الاشتراط في عقد الولاية: فأصله أنه عقد، وكل شرط في العقد يُصْلِحْ العقد فهو جائز؛ ولذا شرط الصحابة على عثمان وعلي السير سيرة الشيخين. أما أن الحكام أجراء فلأن الحاكم عامل في مصالح الشعب بعوض، وهذه هي الإجارة، ولأن الصحابة جعلوه كذلك في حق الإمام الأعظم فغيره أولى، إذ فرضوا للخلفاء والأمراء والحكام أجرة مقابل عملهم. وقد قدر الصحابة الأجرة للخلفاء كأبي بكر وغيره مقابل تفرغه للحكم. ولا طاعة في معصية، ولا في خلاف مصلحة عامة، وكيفية إنابتها لهم متروك بما يوافق المصلحة العامة. وشكلها من رئاسي، أو وزاري، أو ملكي، أو غيره راجع إلى تقدير الجماعة لمصالحها. والمصلحة العامة يقدرها أهلها من الأمة العامة، وأهل تقدير المصالح هم المستنبطون من أولي الأمر من العلماء والأمراء والخبراء وأهل الحل والعقد. ولا يكون تقدير المصلحة العامة إلا بالشورى، فوجبت بالنص (¬2) والمعقول (¬3)، ووجب ما لا تقوم إلا به زمانا ومكانا من مجالس شورى أو نواب أو شعب. ووسائل اختيارهم تدور على ما يخدم تمام المصلحة للأمة بانتخاب أو غيره. ¬

(¬1) - انظر فتح الباري (13/ 116). (¬2) - قولنا «فوجبت بالنص»: هو قوله تعالى (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83)، وقوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، وقوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38). (¬3) - قولنا «والمعقول» فلأن تقدير تمام المصلحة العامة على وجهها لا يكون إلا بالشورى.

وهي ملزمة وإلا كانت عبثا وفتحت باب الاستبداد عن الجماعة والمطامع والأثرة، وهذه مفاسد عامة لا تدرأ إلا بإلزام الشورى، فوجبت. ويرجح بالأكثرية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد (¬1). وكل ما لا يتم النظام العام إلا به فهو واجب. وكل ما يخل بالنظام العام القائم على مصلحة الأمة، فهو مفسدة يجب دفعها. ويجوز وضع دستور يتفق عليه الجماعة يكون أساس عقد الولاية، وقد يجب إن لم يتم دفع المفاسد إلا به ولا استتباب الأمور إلا بوضعه. ويصوغ الدستور لجنة مختصة يتفق عليها فيها العلماء وخبراء التقنين الدستوري وممن يحتاج إليه من الساسة والاقتصاديين والخبراء. وفرض أن يكون الدستور نابعا من الشرع، وفرض أن ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا وأنها المصدر الوحيد للتشريع في سائر دساتير البلاد العربية والإسلامية. هذا هو الأصل إلا عند العجز. وجعلها مصدرا رئيسيا، أو أحد المصادر مع القدرة، أمرٌ مخالف لقواطع النصوص ورودا ودلالة، كقوله تعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49)، ولقوله تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65). ووجود أقليات من مواطني الدولة المسلمة على غير دينها لا يسوغ العدول عن تفرد الشريعة بمصدر التشريع؛ لأنها في نصوصها جعلت لهم حرية التحاكم إلى شريعة الإسلام، أو إلى ما عندهم من الكتاب. وينص على أن دين الدولة الإسلام، ولغتها العربية. ويبين نوع نظام الحكم؛ لأن هذه الأمور سياديةٌ شرعيةٌ ووطنيةٌ تدفع كبار المفاسد والفتن الناجمة عن ترك النص عليها أو تأويلها إن لم تكن صريحة. ¬

(¬1) - قولنا «ويرجح بالأكثرية .. » بسطنا ذلك في كتابنا الترجيح بالكثرة وأمر الأمير -رسالة دكتوراة بامتياز.

والنص في الدستور في شروط الرئاسة والولاية على شرط الأبوين، ألا يكونا أجنبيين أو أحدهما، وكذا الزوجة: أمر مباح يلزم بالشرط الدستوري؛ لأن الإيفاء بالعقود واجب وهذا منصوص العقد، فلزم (¬1). والأصل الشرعي ألا يعطى أحد حصانة من المساءلة بنص دستوري، سواء كان رئيسا أو له ولاية عامة قضائية أو برلمانية أو تنفيذية؛ لأن الله لم يستثن رسله وأنبياءه وأولياءه من أي حكم ديني محض (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر: 65)، أو تنفيذي «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬2)، فلا حصانة لملك أو أمير أو خليفة أو قاض أو نائب أو وزير، بل الكل أمام التكليف الشرعي والمسئولية متساوون مع سائر الناس. وتعديل الدستور من الشعب بمباشرة حرة جائز وهو الأصل؛ لأنه عقد، ويجوز التوافق على تعديل شيء منه. فإن انفرد به حاكم أو سلطة حَرُم، وبَطُل (¬3)، وهو تحريف في حقيقة التكييف لا تعديل؛ لأن العقد حق للطرفين: الشعب والحاكم. والعقود لا تغير من طرف مشروط عليه، بل بتوافق طرفي العقد. ولأن تصرفات الحاكم منوطة بالمصلحة العامة، ولا مصلحة في تعديل العقد الممثل في الدستور إلا بتوافق العامة بمباشرة أو نيابة؛ لأنه بهذا يعلم ترتب المصلحة العامة. والأصل ألا يلي ولاية عامة على المسلمين إلا مسلم عالم بقواطع الشرع مقيم لها؛ بالغ، عاقل، راشد، عدل، قوي، أمين، ومختار منهم؛ لأنه عقد قائم على التراضي. ¬

(¬1) - انظر ما تقدم في الفقه الوظيفي بتفصيل. (¬2) - حديث «لو أن فاطمة سرقت .. » متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري برقم 3475، ومسلم برقم 4505) أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب ثم قال «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها». (¬3) - وبطل، أي التعديل لا الدستور.

فلا ولاية لكافر، ولا لمن لا يقيم الشرع، ولا لصبي، ولا مجنون، ولا سفيه، ولا فاسق، ولا ضعيف، ولا خائن، ولا غاصب. فإن طرأ وضع من هذه الأوضاع، واستتبت الأمور والمصالح، جاز للأمة ذلك كوضع استثنائي على خلاف الأصل، إلا الكافر فيجب خلعه ولو بالجهاد المسلح لحديث «ألا نقاتلهم؟ قال: لا، إلا أن تروا كفرا بواحا» (¬1) ولقوله تعالى (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 48)، وولايتهم طاعة لهم. وللنهي عن موالاتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، وولايتهم العامة على المسلمين أعظم من مجرد موالاة شعورية قد يستتبعها فعل. ولقوله (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، وولايتهم أعظم سبيل، فحرم. ولأن التمكين هو للمؤمنين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55)، وتولية غيرهم عليهم مضادة لمقصود الشرع المنصوص في التمكين للمؤمنين. ولأن ولاية المؤمنين لها أعمال سيادية دينية، ومالية، وإصلاحية (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 40 - 41). وهذه الأعمال السيادية الكبرى لا تتوافق مع ولاية غير المسلم. ولأن الدول غير المسلمة تجعل شرط الدين والمواطنة شرطا سياديا للولاء الوطني والديني للشعب. وهذا الولاء هو مما بيّنه الله في النص (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73). ففرض على المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض؛ لأن الكافرين كذلك. وشرط الدين للولاية هو أكبر مظاهر الولاء للمؤمنين، فإن لم يفعلوا فولوا غير مسلم ¬

(¬1) - أخرجه البخاري، وقد تقدم.

عليهم تحصَّل عن ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير. والمنافق، والخائن، والعميل، والفاسق، والفاسد لا ولاية عامة لهم؛ لأن ولايتهم تعود على أصل المقاصد الكبرى للشريعة، وأصل المقصد من الحكم بالبطلان، فبطُلَت. وفي الصبي والمجنون، يجب تشكيل ما يدير الأمور، وفي السفيه كذلك. ويشرع بالتوافق بين غاصب والأمة عمل ما تسير عليه المصالح حالا ومآلا من إعادة انتخاب، أو بيعة أو غير ذلك. والخروج المسلح على الجماعة العامة محرم؛ لما فيه من الفرقة، وشق الصف، وإراقة الدماء والفتنة؛ لأن الفتنة العامة مفاسدها عامة. وقولنا «على الجماعة العامة» يشمل خروج شرذمة مسلحة عليها، ويشمل خروج حاكم وشرذمة معه بالسلاح على السواد الأعظم للجماعة. والأصل حرمة أخذ الحكم بالغصب عن إرادة الأمة كانقلاب مسلح؛ لأنه خيانة وغدر، ونقض لعقد الجماعة الممثل في الدستور المجمع عليه. ومن حرم الخروج المسلح والانقلاب على الحاكم الظالم؛ إنما حرمه لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر باليد، وشرطه ألا يترتب عليه ما هو أنكر منه، ولا ينشأ عنه مفاسد أكبر. والغالب حصول ذلك، والأحكام الشرعية قائمة على اعتبار الغالب. وأما الحاكم العدل فالخروج المسلح عليه ظلم وعدوان فوق ما سبق، وهو ولو كان غاصبا للحكم إلا أن النظام مستتب، والمصالح العامة والأمن والاستقرار قائم، فمسألة انتخاب الأمة ورضاها له أمر إجرائي وسيلي يمكن الوصول إليه بالتوافق العام كما حصل من الصحابة في قضية التحكيم (¬1). فإن لم يتم ذلك التوافق فهو واجب وسيلي موسع وقته حينئذ. والواجبات المقاصدية أهم منه؛ فتقدم ويحافظ عليها. والانتخاب بالبيعة وسيلة موسعة حينئذ. ¬

(¬1) - القصة ذكرها الحافظ في الفتح (12/ 284) وذكرها أهل التاريخ: الكامل لابن الأثير (2/ 76 فما بعدها)، وشذرات الذهب (1/ 46).

وإنما قلنا حينئذ؛ لأنه لا جدوى ولا مصلحة عاجلة منها الآن في حال وجود حاكم عادل راشد أقام المصالح ودرأ المفاسد ولكنه بغصب. فالاختيار للحاكم من الشعب وسيلة وقتية، واستتباب المصالح العامة ودفع المفاسد مقصد فوري دائم؛ فتقدم المقاصد عند التعارض. فالحل المصلحي هنا هو: الحفاظ على استتباب المصالح العامة ودفع مفاسدها؛ لأنها مقاصد، مع السعي التوافقي الحواري سلما على الوسائل، وهذا ما تقتضيه العقول الراجحة، وما عليه تقوم مصلحة الأمة، وما به جاءت دلالات النصوص. ومن فهم النصوص على غير مرادها أخطأ. والوصول إلى الولاية العامة لها طرق، استقصيناها في كتابنا هذا (¬1). والشريعة تدل على أن شرعية الولاية العامة لا تتم إلا بالبيعة العامة من الشعب كما دلت عليها نصوص السنن قولية وفعلية وعمل الخلفاء، وعمل الأمة فيمن تولى بعد الخلافة، فلو كانت شرعية أحد ذاتية لما احتاج إلى بيعة الأمة. وهذا مما لا خلاف فيه حتى عند من يقول بالنص لحكم نسبي معين، فإنه لا بد -عنده- من بيعة لاكتمال المشروعية. وتسليم أو نقل السلطة من مستبد ظالم لشعبه إلى من يقيم العدل من الشعب هو منة ربانية لقوله تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 - 6). ولأن حكم الشعب من عموم الشعب باختيار حاكم بحرية حقيقية هو الأصل المرضي. والوصول إلى الدولة وإقامتها، والتمكين لها هو وعد الله للأمة المؤمنة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). ¬

(¬1) - انظر «فقه السمع والطاعة والتغيير وآلياتها».

فالدولة ليست مطلوبا شرعيا فحسب، بل وعد الله، وهو يدل على كونه مقصداً ربانياً ومطلباً شرعياً يتحتم على الأمة المؤمنة الوصول إليه. فالشريعة تنهى عن تبعية الجماعة العامة والأمة لنظام يقودها من غيرها، بل يجب أن يكونوا هم من يقود؛ لأن الوعد والأمر بالاستخلاف لهم هو سنة ربانية مطردة (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (النور: 55). ومقصود الشرع في ذلك حقيقة التمكين لا مجرد السلطة الصورية بل التمكينة التامة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). فالتمكين أعلى رتب الاستخلاف، وفوق مجرد الإمامة والقيادة؛ ولذلك فَصَلَها الله في آية وأفرد كلاً بذكر مستقل (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 - 6). والتمكين للقيادة الراشدة، رحمة بالحاكم والمحكوم: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء) (يوسف: 56)، فجعل التمكين ليوسف رحمة له ولمن ولي عليهم. ودل هذا أن التمكين للقائد الراشد ولو فردا ولو في ظل نظام آخر أمر مقصود شرعا. فالولاية والقيادة والدولة والتمكين للجماعة في الأصل، بل حتى لفرد يخفف المفاسد، هو منة ومقصد ورحمة، وهذا يدل على أن: الولاية ليست من المذام الشرعية، ولذلك طلبها الرسل فقال سليمان (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص: 35). وقال إبراهيم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء: 83)، وقال سبحانه ممتنا على يحيى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12). وامتن على قوم موسى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ) (المائدة: 20).

وقال يوسف (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ) (يوسف: 55). أما حديث «إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه» (¬1)، فهو في طلب هَلُوعٍ ظاهرٍ لولاية جباية المال خاصة، ولذلك لما سأله غيره لم يعلل له بذلك بل بالضعف «إنك ضعيف» (¬2). ولو كانت مذمومة لآثر علي وعثمان أحدهما الآخر بها (¬3). ¬

(¬1) - حديث «إنا لا نولي .. » أخرجه البخاري برقم 7149 من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي. فقال أحد الرجلين: أمرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله. فقال: إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه. (¬2) - حديث «إنك ضعيف» أخرجه مسلم برقم 4823 من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها». (¬3) - قولنا «لآثر علي وعثمان .. » هذه القصة واردة في حديث طويل أخرجه البخاري برقم 3700 ومسلم بأخصر منه برقم 1286، ولكثرة فوائده السياسية نورده بتمامه هنا بلفظ البخاري عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما، أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. قال: قالا لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبدالله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني- الكلب حين طعنه فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا، ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف فقدمه. فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله، فصلى بهم عبدالرحمن صلاة خفيفة. فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني. فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع. قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان (العباس) أكثرهم رقيقا. فقال: إن شئت فعلت. أي إن شئت قتلنا. قال: كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض. قال: ردوا علي الغلام. قال ابن أخي: ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبدالله بن عمر انظر ما علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا، أو نحوه. قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل هذا عبدالله بن عمر قد جاء قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت. قال: الحمد لله ما كان من شيء أهم إلي من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني. ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبدالرحمن. وقال يشهدكم عبدالله بن عمر وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبدالله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبدالرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن بن عوف. فقال عبدالرحمن أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبدالرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم. قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه. =

فالتنافس من الأكفاء مشروع، وعرض المرشح الكفء على اختيار الأمة مشروع، وقيام لجنة بإدارة هذه العملية مشروع كما فعل عبدالرحمن بن عوف، واشتراط اللجنة لخطة سير وبرنامج عمل سياسي لمن يترشح للولاية نابع من اشتراط الأمة أمر مشروع، وهو ركن العقد. وهذا ما رجح عثمان؛ لقبوله بشروط الشعب في السير وفق سياسة مدروسة مجربة سابقا؛ وأثبتت نجاحها على الواقع، وهي سنة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ويجوز أن يتنازل من انعقدت له البيعة للمصلحة العامة؛ كما فعل الحسن؛ وأقره الشرع الغيبي «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬1). ¬

= قال الحافظ في فتح الباري (13/ 198): وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في فضائل الصحابة بسند صحيح عن حارثة بن مضرب حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان قوله فقال أي عبدالرحمن مخاطبا لعثمان أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبدالرحمن في الكلام حذف تقديره فقال نعم فبايعه عبدالرحمن وأخرج الذهلي في الزهريات وابن عساكر في ترجمة عثمان من طريقه ثم من رواية عمران بن عبدالعزيز عن محمد بن عبدالعزيز بن عمر الزهري عن الزهري عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قال كنت أعلم الناس بأمر الشورى لأني كنت رسول عبدالرحمن بن عوف فذكر القصة وفي آخره فقال هل أنت يا علي مبايعي ان وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل قال لا ولكن على طاقتي فأعادها ثلاثا فقال عثمان أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك قالها ثلاثا فقام عبدالرحمن وأعتم ولبس السيف فدخل المسجد ثم رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه فعرفت أن خالي أشكل عليه أمرهما فأعطاه أحدهما وثيقة ومنعه الآخر إياها واستدل بهذه القصة الأخيرة على جواز تقليد المجتهد وأن عثمان وعبدالرحمن كانا يريان ذلك بخلاف علي وأجاب من منعه وهم الجمهور بأن المراد بالسيرة ما يتعلق بالعدل ونحوه لا التقليد في الأحكام الشرعية وإذا فرعنا على جواز تجزيء الاجتهاد احتمل أن يراد بالاقتداء بهما فيما لم يظهر للتابع فيه الاجتهاد فيعمل بقولهما للضرورة قال الطبري لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم دينا وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك فجعلها في ستة متقاربين في الفضل لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه وعلم رضا الأمة بمن رضي به الستة. (¬1) - أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه برقم 2704 ولفظه عن أبي موسى قال: سمعت الحسن يقول =

وكان الصلح باستقالته عن الحكم وهو خليفة شرعي مبايع تقديما لمصلحة حقن الدماء وجمع كلمة الأمة. ولا حكم لأسرة كحق إلهي، بل يتعامل معه كوضع رضيته الأمة. وحديث الأئمة من قريش (¬1) يعالج وضعا واقعا، ولا يؤصل أصلا عاما للأمة. وهو إخبار لا أمر؛ يدل له أن الصحابة لم تستدل به في قضية السقيفة مع الحاجة إليه (¬2)؛ فدل على إنه إخبار لا يراد به الأمر، ولو كان أمرا لكان بقيته كذلك وهو «والأذان في الحبشة والشرعة في أهل اليمن» (¬3). ¬

= استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية، وكان والله خير الرجلين -أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبدالرحمن بن سمرة وعبدالله بن عامر بن كريز فقال اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له فطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي إنا بنو عبدالمطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك قال فمن لي بهذا قالا نحن لك به فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به فصالحه فقال الحسن، ولقد سمعت أبا بكرة يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. (¬1) - تقدم نص الحديث وتخريجه. (¬2) - قولنا «في قضية السقيفة» وذلك أنهم لم يستدلوا على الأنصار بتقديم أبي بكر بهذا الحديث، ولو كان يقصد به الأمر لاستدلوا به، بل اتفقوا في السقيفة على بيعة أبي بكر رضي الله عنه وفي القضية قصة، وقد أخرجها البخاري برقم 3667 من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) - حديث «الأذان في الحبشة .. » أخرجه الإمام أحمد برقم 8746 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الملك في قريش والقضاء في الأنصار والأذان في الحبشة والشرعة في اليمن. وقال زيد مرة يحفظه والأمانة في الأزد. قلت: هذا إسناد حسن، وقد أعلّه الترمذي بالوقف إذ خالف عبدالرحمن بن مهدي زيد بن الحُباب عن معاوية بن صالح فوقفه عبدالرحمن ورفعه زيد بن الحُباب. قلت: لكن زيد بن الحباب تابعه أبو الربيع الزهراني وهو حافظ كما قال الذهبي وهو من رجال الشيخين والمتابعة أخرجها الطبراني في مسند الشاميين برقم 1909، ط/ مؤسسة الرسالة -بيروت. وقد صحح الحديث الألباني ولم يُعلّه بالوقف، بل قال: هي زيادة يجب قبولها كما تقرر في المصطلح. ولم يتنبه لهذه المتابعة القوية التي ترجح تصحيح الحديث.

ويؤيد هذا أن قريشا فنيت سريعا كتواجد نسبي وقوة محسوبة. ففي الحديث الصحيح عند أحمد «أسرع أمتي فناء قريش وأسرع قريش فناء آل بيتي» (¬1). ولو كان استحقاقا شرعيا إلى القيامة لبطلت الخلافة والإمامة. ويدل لما سبق حديث «إن أُمِّرَ عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» (¬2)، فلم تبطل الولاية بعدم القرشية بل وجب السمع والطاعة. ولهذا أراد عمر استخلاف معاذ من بعده (¬3)، وليس من قريش. ولعل ما منعه هو طارئ القتل وحسابات قوة القبيلة. وهذا من السياسة الراجحة. ومع هذا كله: فالسلطة القرشية بالاختيار والبيعة العامة لا بالتوريث. ولهذا لم يورث أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الحسن رضي الله عنهم. فمن طلب التوريث بنص شرعي فهو كاذب محض. ¬

(¬1) - قولنا ففي الحديث الصحيح «أسرع أمتي .. »، هو حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم 8418 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح رجاله رجال الشيخين سوى عمر بن سعد وهو من رجال مسلم ولفظه قال صلى الله عليه وسلم «أسرع قبائل العرب فناء قريش ويوشك أن تمر المرأة بالنعل فتقول إن هذا نعل قرشي». ومن حديث عبدالله بن عمر بسند حسن كما في «المطالب العالية» لابن حجر برقم 4135: «أول الناس فناء قريش، وأول قريش فناء بنو هاشم». وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ «وأول قريش هلكة أهل بيتي» وهو صالح في الشواهد، أخرجه ابن أبي عاصم في «الأوائل» ط/ دار الخلفاء للكتاب الإسلامي -الكويت. (¬2) - حديث «اسمعوا وأطيعوا» أخرجه البخاري برقم 693 من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة». وفي مسلم برقم 4868 من حديث أم الحصين أنها سمعت رسول الله في حجة الوداع يقول «إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا». (¬3) - قولنا «ولهذا أراد عمر استخلاف معاذ من بعده» أخرجه الإمام أحمد برقم 108 ولفظه (لما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سَرَغَ، حُدِّثَ أن بالشام وباء شديدا، قال: بلغني أن شدة الوباء في الشام، فقلت: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حي استخلفتُه. فإن سألني الله لم استخلفته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلت: إني سمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل نبي أمينا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال عُلْيَا قريش؟ يعنون بني فهر، ثم قال: فإن أدركني أجلي وقد توفى أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي عزوجل لِمَ استخلفته؟ قلت: سمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نَبْذَةً). قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات (13/ 119).

ومن طلبه بوضعٍ واقعٍ فهو راجع إلى الأمة ورضاها؛ لأن الحق حقها. فإن رضيت واستتبت المصالح العامة جاز. ومن ولي ولاية حرم عليه تولية غيره لمجرد قرابة أو نسب؛ لأن الولاية على الكفاءة لا على القرابة، ومن فعل أثم وبطل أمره، لمخالفته الأمر المنصوص (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). والأمانات مفسرة في الحديث بالولايات (¬1)، فإن قدرت الأمة بمؤسساتها إبطالها، وجب ذلك. فإن عجزت (¬2) بينت وأنكرت؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. فإن كان قريبه من أهل الكفاءة جاز أن يوليه وفقا للشروط الجارية عليه وعلى غيره بلا أثرة، وإن لم يوله فقد يكون من الأولى ذلك في بعض الأحوال؛ لأن المفاسد المترتبة على ذلك من سخط الناس وتذمرهم واقعة لا محالة بحسب الطبيعة البشرية. وقد وجد الأنصار في أنفسهم حينما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض قريش من الغنائم ولم يعطهم وعقدوا جلسة لذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «مفسرة في الحديث .. » أخرجه البخاري برقم 59 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين -أراه- السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. (¬2) - والعجز هنا شامل للعجز الفردي، أو الجماعي، أو حتى عبر مؤسسات الدولة؛ لغلبة المولى ونفوذه، أو بحيث كان تغييره بوسائل القوة السلمية العليا وهي العصيان المدني والاعتصامات والثورات السلمية الشعبية يؤدي إلى مفاسد أكبر وأكثر، وتتخذ سلما لأهل الفتنة كما وقع مع عثمان فهذا محرم بل يكتفى حينئذ بالبيان والإنكار والاستمرار في ذلك، وإلا فلنتجاوز هذه النقطة خوفا على ما هو أكبر إلى أن يحين وقت التكليف التغييري العام. أما القوة المسلحة لأجل هذا فمحرم قطعا، وهذا ما ينزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أثرة فاصبروا». (¬3) - قولنا «وقد وجد الأنصار في أنفسهم .. » أخرجه البخاري برقم 3147 من حديث أنس أن ناسا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء فطفق يعطي رجالا من قريش المئة من الإبل فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله بمقالتهم. فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول =

فهذا في الأنصار، فكيف بغيرهم؟ وفي بعض العطايا فكيف بالولاية؟ فإن كانت الولاية للقريب المؤهل لا تؤدي إلى مفاسد عامة كونه باختيار، أو انتخابات حرة ونزيهة، أو ترشيح شعبي راض ونحو هذا، فلا مانع منه حينئذ. ولا يستدل بقول موسى (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي) (طه: 29)، لأن المقصود النبوة. وإرث سليمان لداوود (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل: 16)، هو الملك بالنبوة لا بالبنوة، وهو اصطفاء خاص؛ لأن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء فإذا ذهب نبي خلفه نبي (¬1). وفي النص قال صلى الله عليه وسلم «إنا معشر الأنبياء لا نورث» (¬2)، أي بالنسب. ¬

= الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديث بلغني عنكم. قال له فقهاؤهم أما ذوو آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض. قال أنس: فلم نصبر. (¬1) - قولنا «لأن بني إسرائيل .. » دليله الحديث المتفق عليه (البخاري برقم 3455، ومسلم برقم 4879) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم. (¬2) - حديث «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أخرجه مالك في الموطأ برقم 1802، وأخرجه الشيخان في مواضع متعددة منها برقم 3093 عند البخاري ومسلم برقم 4676، أن مالك بن أوس قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب، فجئته حين تعالى النهار -قال- فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله متكئا على وسادة من أدم. فقال لي: يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم -قال- قلت لو أمرت بهذا غيري قال: خذه يا مال. قال: فجاء يرفا، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر: نعم. فأذن لهم فدخلوا ثم جاء. فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم. فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم. فقال مالك بن أوس يخيل إلى أنهم قد كانوا قدموهم لذلك- فقال عمر: اتئدا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة». قالوا: نعم. ثم أقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة». قالوا: نعم. فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، =

وفصل السلطات إن كان يحقق المصالح الأكثر، فهو مقدم، وهي: السلطة التقنينية «الشوروية» وهي التي تقر القانون النابع من أصول التشريع، وما دل عليه من اقتضاء المصالح ودرء المفاسد، وشكلها اجتهادي مصلحي، كانت بمجلس يسمى مجلس النواب، أو الشعب، أو الشورى، أو غير ذلك. والسلطة القضائية هي الحاكمة في أعيان القضايا. والسلطة التنفيذية هي المنفذة لسياسات وبرامج وخطط الدولة. ويمكن فصل ثلاث سلطات أخرى إن حققت المصالح بأكثرية وهي: السلطة السياسية وهي الولايات الكبرى بدءا من رأس الدولة ونائبه ونوابه على البلاد. والسلطة العسكرية والأمنية وهي القوات المسلحة والأمن. والسلطة المحلية فهذه سلطات ست. وما حقق المصلحة من فصل السلطات، أو دمجها هو المقدم في النظر الشرعي. والانتخابات النيابية والمحلية والرئاسية جائزة، وتقدم الكفء العدل الراشد المحافظ على الدين وشعائره يتعين عليه إن دفع ولاية مفسد. ويجب حينئذ نصرته، وتأييده، وانتخابه؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، وبه أفتى كبار ¬

= قال (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا. قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقى هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقى أسوة المال .. ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم، أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نورث ما تركنا صدقة». فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفى أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما ادفعها إلينا فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثم جئتماني لأقضى بينكما ولا والله لا أقضى بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.

علماء العصر وجمهوره؛ ولأنها أمانة والله يأمر بأدائها لأهلها، وتوسيد الأمر لغير أهله من تضييع الأمانة بالنص (¬1). ويجب في تعيين لجنة الانتخابات بفروعها اختيار العدل الأمين الكفء لهذه المهمة؛ لأنها من أعظم الأمانات ووسيلة إلى أعظمها، وهي الرئاسة العامة أو النيابية. وهذا المقصد هو ما أدى إلى اختيار عمر بن الخطاب ستةً وصفهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض (¬2). وهو غاية في أمانة الاختيار؛ لأن أكبر أمر الأمة العام منوط ومعلق بهم. فإن غشوا الشعب كانوا على أعظم الذنوب والظلم، وإن نصحوا فهم على أعظم العمل عند الله. ولا يجوز لأعضاء اللجنة العليا ولا فروعها التعاون على تمرير المخالفات المؤثرة على نزاهة الانتخابات، ولا التزوير للنتائج، ولا إلغاء كرت لا يستحق الإلغاء، فإن هذا من الظلم والعدوان المحرم شرعا، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، بل هو من أكبر أنواع ذلك؛ لأن أثره متعد إلى عامة الشعب. وفرضٌ عليهم القيام بالقسط والعدل، وإقامة الشهادة ولو كانت ضد أهواء نفوسهم وأحزابهم، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135). وقال تعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 8). وما يترتب من بلاء ومفاسد ومظالم على الشعب نتيجة لتزوير إرادته في اختيار حكامه، لكل امرئ من اللجان الانتخابية المعاونة على تزوير إرادة الشعب أوزارٌ وآثامٌ، كل بقدر ما اكتسب وظلم. وما ترتب عليه من آثار ومفاسد (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) (يس: 12). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه في حديث طويل.

والذي تولى كبره منهم كالنافذين الآمرين أشد وأعظم عند الله. فالواجب شرعا عليهم الاستقلالية التامة، والنصيحة للناس؛ لأن الدين النصيحة والشهادة بالعدل على النتائج لمن كان من المرشحين. والواجب في الانتخابات الأخذ بآلية عادلة لا يترتب عليها حيف، سواء كان نظام الدائرة المستقلة أو الدائرة النسبية. ويجوز الأخذ بتجارب الدول الأخرى ولو كانت كافرة؛ لأن هذه الآليات من المعارف الإنسانية المشتركة التي يحق الاستفادة منها حيثما كانت، ولذلك أخذ رسول الله بالخندق والختم. والأول وسيلة حربية استفيدت من المجوس، والآخر هو ختم المكَتَّبات الرسمية عرف رسمي دولي مأخوذ من غير المسلمين، واعتمده صلى الله عليه وسلم واتخذ خاتما لذلك كما ورد في الصحاح. ويجب شرعا تصحيح جداول أسماء الناخبين في كل دورة لحذف من لحقه الموت وإضافة من بلغ السن القانونية المتفق عليها للتصويت؛ دفعا للغش والتزوير وما يترتب عليها من مفاسد. وتحديد سن قانوني معين للانتخابات تصويتا وترشحا كثماني عشرة سنة مثلا؛ لا مانع منه في الشرع. فإن الله شرط لدفع مال اليتيم إليه شرطين الأول: بلوغه، والثاني زيادة عليه وهو الرشد (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6). فإذ كان هذا من أجل فرد في ماله الخاص، فمثله أو أولى لأجل عامة الناس لأموالهم ومصالحهم العامة أن يشترط سن قانوني يغلب عليه فيه رجاحة الرأي واتخاذ القرار لمثل الاختيار والترشيح. وتتكون اللجنة العليا للانتخابات وفروعها من جهة محايدة؛ لأن الجهة المحايدةمتلقاة بالقبول من الأطراف، ولأنه أدفع للريبة والمفاسد، وما كان كذلك فهو مطلوب شرعا، فإن لم يكن كذلك وتوافقت القوى السياسية على تقاسم التمثيل في اللجنة العليا وفروعها فجائز.

والأصل حينئذ أن توزيع اللجنة العليا للانتخابات، واللجان الفرعية عنها يكون محاصصة بالتساوي بين جميع أطراف العملية الانتخابية من سلطة ومعارضة ومستقلين؛ لأن هذا موافق لمقصد إنشائها وهو التنظيم، والرقابة، والشهادة على الانتخابات، ولا يجعل لحزب الأغلبية الحصة الكبرى فيها؛ لأنه لا معنى له في المقصود هنا سوى أغلبية تتخذ قراراتها لصالح حزبها. ولأنهم عدول محكمون، وشهداء، واختيار العدول المحكمين يكون بتساوي الحصص بين أطراف التحكيم؛ طلبا للعدل، والإحسان المأمور به شرعا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90). ولا ينظر في اختيار المحكمين إلى كثرة وغلبة الأطراف؛ فالمحاصصة المتساوية هي العدل. والتصويت لمرشح الرئاسة قائم مقام البيعة؛ لأن الأمور بمقاصدها؛ ولأن مؤداها اختيار رئيس للدولة وهو مقصود البيعة، فإذا تمت المقاصد فالعبرة بها. ولأنه من أقر من أهل الأمصار والأقاليم زمن الراشدين ومن بعدهم كفى في صحة البيعة بلا استقصاء لكل أحد لتعذره. ومن فاز غير مرشحه للرئاسة ففي عنقه بيعة للفائز ولو لم ينتخبه؛ لأن العبرة بغالب الجماعة، ولأن الكل تراضوا على نتيجة ذلك سلفا، فوجب التزام ذلك، وقام الرضى المشروط المتوافق عليه مقام صراحة البيعة. ويكتفى: بالإقرار من الغير، فإن لم يقر تصريحا أو صرح بعدم الإقرار، وكان ذا شوكة والانتخابات صحيحة نزيهة أثم، لأدائه إلى بلبلة الجماعة، وإثارة الفرقة. والبيعة لازمة له. ومن لم يقر وكان غير ذي شوكة وقوة فكذلك، والبيعة لازمة له. ولا يجوز لأحد التزوير والغش والالتفاف على إرادة الناخب؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان، وخيانة، وتحميل الأمر لغير أهله، وكلها مظالم وذنوب كبيرة.

ويجوز للرجل والمرأة الانتخاب، وتتساوى أصواتهم؛ لأنها ليست شهادة محضة بل اختيار، ووكالة، وشهادة. واجتماع أمور في جهة واحدة تعطيه حكما مستقلا واسما مستقلا. ولخصوص الأمر بالضِّعف بالمال ونحوه، ولذا جاز شهادة واحدة على بكارة وولادة ورضاع. ويقبل خبر الواحدة وفتواها وإخبارها بالقبلة، وشهادتها بنجاسة الماء، ورؤيتها للهلال للصوم والحج كرؤية الرجل على الأصح (¬1). ويشترط للإدلاء بالصوت الانتخابي أن يكون من عاقل بالغ، فلا يصح من صبي أو مجنون إلا جنونا متقطعا وكانت الانتخابات في حين صحوته. ومن أدرج طفلا خان الأمانة، لأن الطفل لا نظر له، بل نظره تابع لنظر وليه في تصرفاته، لذا لم يبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصبي ودعا له (¬2). ¬

(¬1) - بل الشهادة المنصوصة في المالية رجل وامرأتان معللة (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (البقرة: 282)، فإذا انتفت العلة بتوثيق كتابي منها وتوقيع أو بصمة أو نحو ذلك مما يقطع بالذكر للحادثة كفت واحدة مع الرجل، وهذا ما أراه موافقا لظاهر التعليل الشرعي المنصوص. ويخطئ بمثل هذا في دعوى أن إرث المرأة نصف الرجل، وهذا خطأ فادح على الشرع بل لها مع الرجل ثلاث حالات: الأولى: تتساوى مع الرجل في مثل ميراث الإخوة والأخوات لأم، وكذا في جد وجدة وأب وأم لكل السدس مع فرع وارث ذكر. الثانية: ترث المرأة أضعاف الرجل في ميراث نساء النصف والثلثين والباقي للذكور من الرجال العصبات ممن دونهن وقد لا يأخذ الرجل سوى العشر أو أقل. والثالثة: أن يأخذ الرجل ضعف المرأة في مسألة الأولاد أو الإخوة الأشقاء أو لأب. وهذا التقسيم الثلاثي عرفناه باستقراء الشرع في ذلك وبه يتضح وهم من وهم في اجتزاء حالة واحدة وإهمال أخرى. والحاصل أن صوتها الانتخابي كصوت الرجل ولا فرق، سواء قلنا إنه إخبار أو شهادة معينة. (¬2) - قولنا «لذا لم يبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصبي ودعا له» أخرجه البخاري برقم 7210 عن عبدالله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب ابنة حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله بايعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو صغير فمسح رأسه ودعا له، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله.

وإن حرم عليه التصرف بماله الخاص حرم عليه التصرف في السلطة العامة لتعلقها بالمال، والدين، والعرض، والنفس، والعقل. فلا مدخل للصبي في ترشيح ولا ترشح. ومجلس نواب الأطفال إن لم يخدم المصالح العامة المعتبرة فهو عبث وهدر للأموال بلا جدوى، والعبث ممنوع في الشرع. ويجوز للتعليم، إذ التعليم تدريب وتعريف فيكون تبعا، أي تبعا لمنهج تعليم عام؛ لأن التابع يُغتَفر فيه. فإن كان مستقلا بمال، واعتمادات، وممارسات فعليه فيمنع؛ لأنه لا مصلحة معتبرة فيه. ويحرم شراء الأصوات بالمال، وهو سحت على آكله، فيحرم أخذه. فإن كان من المال العام بطرق غير مشروعة عظمت المآثم والمظالم وحرم انتخاب من يفعل ذلك؛ لأنه فاسق مفسد تحرم ولايته. ومن انتخبه كان من أعوان الظلمة، وتحمل من أوزار مظالم العباد (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) (النحل: 25). ويجوز كل تحالف وتكتل يحق الحق ويبطل الباطل ولا يعارض الشرع ويدفع المفاسد ويقيم المصالح، وقد تواثق النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود وثيقة وطنية لحماية المدينة (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «وقد تواثق النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود .. » وثيقة الموادعة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود أول مقدمه المدينة وثيقة مشهورة مروية بأسانيد صحيحة إلى الزهري ورواها أهل السير، انظر «الأموال» لابن زنجويه رقم 574 و «الأموال» للقاسم بن سلام برقم 443، وفي كتاب «الأموال» لأبي عبيد (1/ 260) (ونحن نذكرها بتمامها لما فيها من الفقه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب: هذا الكتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، فحل معهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة دون الناس والمهاجرون من قريش - قال ابن بكير: على ربعاتهم، قال أبو عبيد: والمحفوظ عندنا رباعتهم - يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى - وقال عبدالله بن صالح: ربعاتهم - وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين والمسلمين وبنو عوف على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف بين المؤمنين. وبنو الحارث بن الخزرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .. وبنو ساعدة على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين =

وفرضٌ على الدولة إقامة الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ¬

= وبنو جشم على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو النجار على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين وبنو عمرو بن عوف على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو النبيت على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم أن يعينوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى وابتغى منهم دسيعة ظلم أو إثم، أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعه، ولو كان ولد أحدهم. لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من اليهود فإن له المعروف والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحد، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم بعضا، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هذا وأقومه وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا يعينها على مؤمن وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا فإنه قود، إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليها كافة وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة أو آمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه فمن نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرف ولا عدل وأنكم ما اختلفتم فيه من شيء فإن حكمه إلى الله تبارك وتعالى وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف ومواليهم وأنفسهم أمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمؤمنين دينهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصيحة والنصر للمظلوم، وأن المدينة جوفها حرم لأهل هذه الصحيفة، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث يخيف فساده فإن أمره إلى الله وإلى محمد النبي، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنهم إذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم فإنهم يصالحونه، وإن دعونا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب الدين، وعلى كل أناس حصتهم من النفقة، وأن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة وأن بني الشطبة بطن من جفنة، وأن البر دون الإثم فلا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن إلا من ظلم وأثم، وإن أولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن. قال أبو عبيد: قوله: بنو فلان على رباعتهم الرباعة هي المعاقل وقد يقال: فلان رباعة قومه، إذا كان المتقلد لأمورهم، والوافد على الأمراء في ما ينوبهم، وقوله: إن المؤمنين لا يتركون مفرحا في فداء المفرح: المثقل بالدين، =

ويجب على السلطة إقامة التعليم الاستراتيجي، وحفظ الأمن والاستقرار والغذاء والصحة وبناء الاقتصاد الآمن، وتدوير السلطة على مقتضى العقد المشروط دستوريا وقانونيا، والوظيفة الإدارية. وحفظ موارد الدولة بأدق الوسائل وأَبْنَكَتُها لا مقاولتها. ودعم القضاء المستقل، والمساواة الوظيفية والعلمية بين المؤهلين. وتوزيع الثروة وقمع الظلمة وإخماد الفتن، وإقامة البنية التحتية بمساواة عادلة من صحة وطرق وتعليم وإنارة واتصالات، وتسوية الناس أمام النظام والقانون. ويجب بناء المؤسسة العسكرية المستقلة بما يحقق قوة ردع؛ ضماناً لحماية البلاد والإنسان والثروات، وبما يوفر الاستقلال السياسي، والسيادي، ويحمي الدستور والقانون والنظام والأمن والاستقرار. ويشرع وجوبا بناء نهضة متكاملة صناعية، وتعليمية، واقتصادية، ومجتمعية؛ لأن هذا من أكبر المصالح العامة، وما عظم من المصالح عظم طلبه شرعا. ¬

= يقول: فعليهم أن يعينوه، إن كان أسيرا فك من إساره، وإن كان جنى جناية خطأ عقلوا عنه، وقوله: ولا يجير مشرك مالا لقريش يعني اليهود الذين كان وادعهم. يقول: فليس من موادعتهم أن يجيروا أموال أعدائه، ولا يعينوهم عليه، وقوله: ومن اعتبط مؤمنا قتلا فهو قود الاعتباط: أن يقتله بريا محرم الدم، وأصل الاعتباط في الإبل: أن تنحر بلا داء يكون بها، وقوله: إلا أن يرضى أولياء المقتول بالعقل، فقد جعل صلى الله عليه وسلم الخيار في القود أو الدية أو أولياء القتيل وهذا مثل حديثه الآخر: ومن قتل له قتيل فهو بأحد النظرين إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وهذا يرد قول من يقول: ليس للولي في العمد أن يأخذ الدية إلا بطيب نفس من القاتل ومصالحة منه له عليها وقوله: ولا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا أو يؤويه المحدث: كل من أتى حدا من حدود الله عزوجل، فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه، وهذا شبيه بقوله الآخر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره وقوله: لا يقبل منه صرف ولا عدل، حدثنا هشيم، عن رجل قد سماه عن مكحول، قال: الصرف التوبة، والعدل: الفدية. قال أبو عبيد: وهذا أحب إلي من قول من يقول: الفريضة والتطوع، لقول الله تبارك وتعالى: (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) فكل شيء فدي به شيء فهو عدله. وقوله: وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، فهذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.

من أصول الحكم وسياساته الكبرى

وفرض على الدولة رعاية اليتامى والأرامل والمساكين والفقراء وذوي الحاجات والاحتياجات، وتقديمهم على ذوي الغنى، ونصرة المظلوم وتمكين الضعيف من أخذ حقه، ورعاية أسر الشهداء، وإيتاء الحقوق لأهلها. ويجب رعاية علوم الشريعة من قرآن وفقه وسائر ما يتعلق بها وعلمائها وطلبتها، وإقامة جامعاته ومناهجه ومدارسه، وتوفير درجات توظيفية لهم وإقامة المساجد، وكل ما يعمرها ويقيمها، وحلقات تحفيظ القرآن وعلومه والحديث وأحكامه بما يحقق مقصد الشريعة الأول وهو حفظ الدين، ويضمن حماية الأجيال من كل فكر متطرف، وغلو أو تميع وانحلال وتبعية فكرية للآخر. والثروات الاستراتيجية من نفط وغاز وذهب، وكذا كل الثروات الباطنة بحرية، أو برية، أو جوية، هي ملك للأمة ككل. من أصول الحكم وسياساته الكبرى ونظام الحكم وسياساته في الإسلام قائم على أصول كبرى استنبطتها بالتتبع وهي: 1) الخطاب التكليفي لإقامة المنهج والشريعة والدولة تكليف عام إلى الجماعة ككل، فيدل أن الدولة حق للجماعة ككل؛ لأنها الآلية التي يجب أن تتخذ لإقامة التكليف العام. 2) توريث السلطة أو تبادلها مباح مصلحي وسيلي يكون بالرضى من الأمة؛ لأنه حق للأمة تعطيه من تشاء ممن يصلح لهذا الأمر. 3) الاستخلاف والتمكين مقصد ووعد إلهي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، والدولة رأس الاستخلاف والتمكين، والعمل لهذا المقصود الشرعي والوعد الرباني فرض كلي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55). 4) إقامة الدولة الراشدة العادلة والتمكين لها وحفظها مقصود شرعي أراده الله (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ

وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 - 6). فجعل إزالة دولة فرعون الظالمة المفسدة وتبديلها بالأئمة المصلحين في الأرض إرادة إلهية ومنة ربانية. 5) كيفية السلطة وإدارتها بدءا من اختيار النائب الحاكم عنهم، وانتهاء بتشكيل الهياكل المديرة المؤسسية في الدولة، وتحديد، وتمديد، أو تأبيد، أو تجميد مدة الولاية كل هذا متروك للأمة والشعب بالمباشرة أو النيابة الحقيقين، لأنها وسائل فهي مشروعة ما خدمت المصلحة العامة المعتبرة، والشورى فرض شرعي في مثل ذلك (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159). 6) إلزام القيادة بمشاورة الأمة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، وهذا إيجاب (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وهذا أصل. (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، وهذا تحريم لما يبطل الإيجاب وينقض الأصل. 7) تصرفات الولاة مقيدة بالمصلحة الراجحة العامة. 8) السمع والطاعة للولاة مقيدة لا مطلقة، فلا طاعة في معصية الله ورسوله، ولا في خلاف المصلحة العامة. 9) حق المساءلة الخاصة والجمهورية العامة مكفولة. 10) يحق للأمة مقاضاة الحكام وعزلهم بشروطه. 11) منع الخروج المسلح على الحاكم العادل المنبثق عن الجماعة العامة، أو المستتب معه أمر الجماعة؛ لأنه حينئذ خروج عن مصلحة الجماعة ورأيها المؤيد بمعية الله؛ لأن يد الله مع الجماعة. 12) الحاكم وكيل والشعب أصيل، والشعب هو مصدر السلطات ومالك السلطة؛ لأنه لا شرعية للحاكم إلا ببيعة من الشعب، والدولة خادمة للشعب وقائدة له بالتفويض والنيابة.

13) سلطان الحاكم مستمد من سلطان وقوة الأمة، فلا يستعمله إلا لصالح الأمة، أما هو حقيقة فهو فرد كغيره لا سلطان له. 14) الولاية العامة الأصل فيها البيعة العامة. 15) الأصل الشرعي أن الظالم لا ولاية له ابتداء ولا دواما؛ لأنه أبطل المقصد الشرعي من ولايته، وهو دفع الظلم والفساد، وخلعه أو نزعه من الولاية مسألة أخرى خاضعة للشروط والنظر الشرعي، وهو مستحق للخلع بإجماع. 16) الصبر على الحاكم الظالم استثناء وليس أصلا في وضع معين من أجل مصلحة الجماعة لا اعترافا بشرعية الظالم. 17) سياسة إيجاد توازن القوة مع القوى عالميا مفروضة شرعا على الدولة والأمة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). 18) سياسة العدوان والبغي مرفوضة تحريماً (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83). 19) رد البغي والعدوان على الدولة والأمة والفرد أمر مشروع وجوباً (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39)، مع وجوب المماثلة في الرد بلا زيادة (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، وإمكان العفو من قوة لا من وهن (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). 20) لا يجوز شرعا وجود طبقية قانونية في إطار الدولة المسلمة «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬1)، ولا حصانة لأحد في جناية، أو جريمة، أو مخالفة. 21) المقصد الشرعي للولاية دفع الظلم ومظاهر الفساد في الأرض وإقامة المصالح العامة الراجحة الدينية والسياسية والسيادية والاقتصادية والأمنية والعلمية والاجتماعية والإنسانية. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

22) الحكم قائم على العدل، والإحسان، وحفظ الحريات العادلة، وحفظ الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). 23) سياسة دولة الإسلام ترفض شرعا الاستحواذ على المصلحة من الغير بنهب أو هيمنة أو حيلة أو غصب أو ظلم أو غبن فاحش؛ لأنها قائمة على منع البغي والضرر والظلم والعدوان ولو على عدو (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 8)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، والرحمة شاملة لكل أنواع المصالح مانعة لكل فساد في الأرض. 24) سياسة العلو والهيمنة مرفوضة تحريما في الشرع وهي مصنفة ضمن الفساد في الأرض وممارسات الاستبداد الآثم المحرم المذموم (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) (القصص: 4)، (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83). 25) العلاقات الدولية في الأصل تعاونية، تبادلية، مثلية، عادلة، سلمية، والسلم أصل، والحرب استثناء؛ لأن الجهاد فرض مسبب معلل، وكل السياسات لها تقديراتها وأحكامها زمانا ومكانا وأشخاصا وظروفا. دليل ذلك (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وقوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ولقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40)، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 8)، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). 26) المال العام ملك للشعب تتصرف فيه الدولة في كل مصلحة عامة بالنظر المصلحي الظاهر حفظا وتنمية، وتصريفا، وتداولا، وتوزيعا. 27) رعاية الحقوق فرض على الدولة؛ لأنها من أعلى المصالح الشرعية العامة.

28) يجب على الدولة حفظ المواطن دمه وعرضه وماله، وحمايته، وصيانة كرامته، والدفاع عنه وعن حقوقه في الداخل والخارج، ولا يسلم لدولة أخرى، أو يترك أسيرا، وكل اتفاقية تؤدي إلى اغتياله، أو تجميد أمواله، أو ملاحقته، أو إيذائه وأسرته، أو خلاف شيء مما سبق، فهي باطلة يحاكم من أبرمها؛ لأنها خلاف مقصود الشرع من التمكين للدولة المسلمة وتأمين أفرادها وإزالة الخوف عنهم (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55)، وخلاف المقصود للدولة المسلمة في دفع المفاسد وجلب المصالح عن أفرادها، وهذه الأمور من أعظم المفاسد. 29) حفظ الوطن وحمايته بكامله جوا وبرا وبحرا وحقوقه وسيادته واستقلاله وثرواته ووحدته من الفروض الشرعية ومن أكبر مهام الدولة. 30) الدولة مسئولة عن حماية الدين وإقامة شعائره وأحكامه وتعليمه ونشره والدعوة إليه ودفع الفتنة والتفرق فيه بين أبناء الشعب، ويجب عليها بناء مؤسسته المرجعية الجامعة على الوسطية والاعتدال بعيدة عن الغلو والتطرف، لتوحيد الفكر العام على الكليات والقواطع من الكتاب والسنة الصحيحة والقيام بالفتاوى الكبرى الواحدة المتعلقة بالمصالح العليا العامة والأمن والاستقرار ووحدة الكلمة والوطن عملا بقوله تعالى (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). 31) التعليم والأمن والاستقرار والأمن الغذائي والاقتصادي والصحي فرض على الدولة إيجادا وحفظا وإنشاء. 32) حفظ الجماعة شعبا ودولة ومجتمعا وأمة واجب على الدولة، وواجبٌ فيه التعاون الشعبي العام والخاص. 33) يتعاون الشعب مع الدولة في مهمتها وواجباتها (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).

34) ارتهان الدولة المسلمة لدولة أو قوى من الكافرين أو المشركين محرم قطعا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)، والارتهان خاصة السيادي أعظم الولاية لهم، وارتهانها لقوى في الداخل أو الخارج ولو كانت مسلمة، مفاسده عامة عاجلة وآجلة، وما أدى إلى المفاسد حرم. 35) سياسة الدنيا بدين الإسلام أصل من الأصول الكبرى القطعية، ففرض أن تكون شريعة الإسلام هي المصدر الوحيد لكافة الدساتير والتشريعات والأحكام والقوانين في الدولة (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة: 49)، فأوجب قطعيا الحكم بما أنزل، وأوجب أن يكون هو المصدر الوحيد المتكامل بلا تبعيض. 36) المواطنون متساوون أمام الدولة في كل ما هو من حقوق المواطنة أو الإنسانية، وفرض عليها حماية دينهم وحرياتهم وحقوقهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم وكل ما تقوم به حياتهم.

مؤسسات الدولة

مؤسسات الدولة ولا بد أن يكون للدولة مؤسسات تقوم بواجب التكليف ويدور ذلك على تمام (¬1) حفظ المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية بدءا بالمقاصد الستة «الدين والنفس والعقل والمال والعرض والجماعة». وما لا يتحصل تمام حفظ المقاصد إلا به من المؤسسات، فإنه واجب استقلالي أو استكمالي. فلا بد من وجود المؤسسة الأمنية والعسكرية، والمؤسسة المالية والاقتصادية، والمؤسسة الخدمية، والمؤسسة التعليمية والتربوية، ومؤسسة الأمن الغذائي، والمؤسسة القضائية، والمؤسسة التقنينية، والمؤسسة الدينية، ومؤسسة النهضة الشاملة (¬2)، ومؤسسة التقويم والرقابة والمحاسبة. ولا نقصد الأسماء بل المعاني. فهذه عشر مؤسسات، وتندرج تحتها سائر وزارات وإدارات الدولة. ويتعلق بكلٍّ أحكامٌ وأصول عامة وفروع تفصيلية. ولا نقصد هنا ذكرها إلا على الوجه الكلي؛ لأن تفاصيلها إجرائية إلا ما اقتضى الحال من المهمات. المؤسسة الأمنية والعسكرية: وقد فصلنا هذا أصولا وفروعا في موضع مستقل من الكتاب (¬3)، ونزيد هنا ما يخص الأمن، فواجب إقامة هذه المؤسسة؛ لأنها وسيلة لتحقيق تكليفين عظيمين في الشرع هما: الأمن والاستقرار في الداخل، والحماية والدفع خارجيا. ¬

(¬1) - لأن مقصد الشريعة ليس مجرد الحفظ، بل كماله وتمامه، وهو من الإحسان المأمور به، وللشاطبي تقرير لهذا يراجع في بداية جزء المقاصد من الموافقات. (¬2) - مؤسسة النهضة الشاملة: هي مؤسسة مفترضة تقوم بالمهمات التسع للنهضة الشاملة وتشرف على أعمالها، وقد ذكرنا هذه السياسات التسع في السياسات الراشدة للدولة. (¬3) - انظر «فقه المؤسسة العسكرية».

فالأول واجب المؤسسة الأمنية، والثاني واجب المؤسسة العسكرية. ويمثل مؤسسة الأمن عادة وزارة الداخلية بسائر فروعها من الأمن العام والخاص والشرطة والنجدة والمرور وغيرها. وفرض أن تتبع سائر أجهزة الأمن قيادة قانونية؛ لأن مقصود العقد في تأسيسها قائم على هذا، وهو مقتضى المصلحة. والإيفاء بالعقود واجب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ولا يجوز لأي جهة، أو مسئول ولو كان رئيس الدولة أن ينشئ أجهزة أمنية قمعية لا تخضع للأنظمة والقوانين؛ لأداء ذلك إلى نشوء نظام بوليسي حاكم للشعب بسلطان القمع لا بسلطان العقد. وما غلب أداؤه إلى مفاسد كبيرة عامة في واقع الحال والمآل حرم. وهذا التعليل يؤدي إلى القول بحرمته شرعا؛ لأن الهدف من إنشاء هذه الأجهزة الأمنية القمعية التابعة لغير الجهة الرسمية في عقد الدستور هو حماية استبداد فئة، وتعميق القمع والإذلال للشعب من غير رجوع إلى نصوص العقد الدستوري الذي انبثق عن الشعب وتقره الشريعة وانبثقت منه القوانين. والعمل في هذه الأجهزة وحالها ذلك محرم شرعا؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). والقول إن وظيفة مثل هذه الأجهزة وكذا التوظف فيها هو من البر والتقوى مكابرة أو جهل بالحقيقة. وما يقبضون فيها من رواتب ومكافآت هي من السحت (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة: 42). وسمَّاع وأكَّال صيغة مبالغة تدل على الكثرة. وهذا عين علة كما هو معروف في الأصول، وهو من أقوى أنواع التعليل، وقد يكون جنس علة وهو معتبر في التعليل بكثرة وقوة، والعلتان متحققتان في هذه المرافق الخارجة عن

القوانين والأنظمة بكثرة جدا تطابق صيغة المبالغة. فالتقارير الكاذبة، والوشايات، والبلاغات، وكيل التهم للأفراد، والجماعات التي تقول كلمة الحق المعارض لأهواء وشهوات حاكم بالغة حد الكثرة التي ينتج منها كثرة السجون الخارجة عن الشريعة والمساجين بلا جريرة ولا قضاء ولا قانون. وقد جاء في النص «من أكل بمسلم أكلة أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن لبس بمسلم لبسة ألبسه الله مثلها في جهنم» (¬1). وهذه المظالم، والأضرار، والمفاسد واجب دفعها ومنعها، ولا يتم ذلك إلا بإلغائها، فإن قيل يمكن تحويلها ضمن مؤسسات خاضعة للنظام والقانون، فالجواب لا يكون ذلك؛ لأن أصل عملها جاسوسي وهو محرم، ولا يوافق أصل الشريعة ولا المؤسسات الدستورية ولا القانونية، مع كفاية الأجهزة الرسمية القانونية في حفظ الأمن والاستقرار. ويمكن القول إن تحقق دمجها بالأجهزة القانونية وعملت وفق الشرع والقانون جاز. وأقسام الأمن في المديريات واجب عليها حماية المواطن على وجه العموم. ويحرم استغلالها لخدمة أغراض أي جهة خاصة حزبية، أو مناطقية بما يؤدي إلى ابتزاز مواطن، أو إرهابه، أو الانتقام منه؛ لأنها حينئذ خلاف المصلحة العامة. ومن ثبت عنه ذلك من مدراء الأمن والأقسام حقق معه، واتخذ معه ما يلزم من تأديب قانوني، فإن عاد وجب عزله؛ لأنه متخذ لولاية المسلمين العامة على خلاف مقاصدها الشرعية؛ ولأن عزله دفع لمفاسد ومظالم عن العامة، ودفع الضرر واجب. ¬

(¬1) - حديث «من أكل بمسلم .. » أخرجه الإمام الطبراني في الأوسط برقم 2641 عن المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم». وسنده حسن صحيح. وهو في الكبير برقم 17119. وأخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم 222. وصححه الحاكم في المستدرك برقم 7166. وقال الذهبي صحيح. ولفظه عند الحاكم «من أكل بمسلم أكلة أطعمه الله بها أكلة من نار جهنم يوم القيامة ومن أقام بمسلم مقام سمعة أقامه الله يوم القيامة مقام سمعة ورياء ومن أكتسى بمسلم ثوبا كساه الله ثوبا من النار يوم القيامة». وهو في الأدب المفرد برقم 240 وصححه الألباني هناك مع أن بقية فيه لكن التصحيح إنما هو لهذه الطرق. وهو في مصنف عبدالرزاق بسند صحيح إلى الحسن برقم 21000. ووقاص ابن ربيعة الراوي له عن المستورد، قال الحافظ: مقبول. مخالفا للذهبي حيث قال: ثقة. وقول الذهبي مقدم.

وإذا وصلت خصومة إلى أقسام الأمن أو أي جهة أمنية فلا مانع من معالجتها صلحا بلا أخذ أجرة. فإن لم تستطع رفعت بتحقيقاتها إلى القضاء؛ لأنه منتهى الفصل بين الخصومات شرعا وقانونا. ولا يجوز للأقسام والجهات الأمنية السجن خلافا للقوانين قمعا أو إرهابا أو ابتغاء أكل أموال الناس بالباطل أو لخدمة فئة حزبية. وفاعل ذلك مرتكب لكبيرة من الكبائر العظيمة، ويجب على الدولة تأديبه، ورد ما أخذ من مال إن كان أخذ والتعويض بما يناسب الحال بالعدل. ويحرم على من أرسل لجهة في مهمة رسمية فردا، أو طقما عسكريا، أن يأخذ على المواطنين المعنيين بالإرسال مالاً تحت مسمى «تعيون» (¬1) أو أجرة، بل أجرته ونثرياته يجب أن تعتمد من الدولة بما يكفيه حال أداء المهمة؛ لأنه ضمن عقده. وإن أُرسلوا إلى جهة لا مطعم فيها ولا مشرب ولو بمال، فعلى الدولة توفير ذلك لهم، فإن لم تفعل وجب ضيافتهم على أهل المحل؛ لحديث «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» (¬2). ولحديث «فليكرم ضيفه» (¬3). وإن كان الطلب قانونيا لا نكايةً من نافذٍ ظالم، فإنه يجب عليه التجاوب فضا للنزاع وطاعة للدولة شرعا؛ لعموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). ¬

(¬1) - «تعيون» كلمة شائعة محلية في اليمن تطلق على أجرة عسكري أرسل لمواطن لإبلاغه وإيصاله لإجابة غريمه ونحوه. (¬2) - أخرجه البخاري في الصحيح برقم 6137، ومسلم برقم 4613 من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم. (¬3) - حديث «فليكرم ضيفه» أخرجه البخاري برقم 6138 ومسلم برقم 182، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت».

إلا إن تحقق الشخصُ ظلما عليه إن أجاب كضرب ونهب مال، فإنه يلجأ إلى القضاء. فإن لم تكن دولة مؤسسات ونظام، وجب على أهل الحي نصرته، ويجب كذلك على قادر فردا كان أو جماعة أو منظمة؛ لأن نصرة المظلوم واجبة، فإن تركوه دخلوا في اللعن والإثم المنصوص. ووزير الداخلية ومسئولو الأمن يشترط في تعيينهم العدالة، والكفاءة، والديانة، والحفاظ على شعائر الدين. ولا يجوز لقاطع الصلاة وشعائر الدين أن يعين في ذلك؛ لأنه فاسق يستحق التأديب؛ والولايات العامة أمانات لا تسلم إلا إلى أهلها، وليس هذا منهم. وما يعطى للجهات الأمنية من عُهَدٍ صغرت أو كبرت، من أطقم وسلاح، وكل اللوازم، هي أمانات من خانها فهو غال (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (آل عمران: 161). والغلول هو: اختلاس المال العام، والتصرف فيه في غير ما وضع له وهو من الكبائر. ولا يجوز أثناء التحقيق ضرب، ولا شتم، ولا تهديد بعرض ولا مال ولا ولد، ولا غيره ممن يخاف عليه المتهم، ولا تعذيبه؛ فإن ذلك من المظالم التي جاءت الشريعة بمنعها. وعموما بقوله تعالى (وَلاَ تَعْتَدُوا)، ولحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (¬1). والأصل: أنه لا يجوز السجن إلا بحكم قضائي إن اقتضى الأمر؛ لأن السجن ضرر وليس بإحسان، لقوله تعالى (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (يوسف: 100)، والضرر مدفوع. ولا يجوز السجن في مكان غير صحي ولا غير طاهر، ولا السجن التعسفي، ولا خارج القانون؛ لأنه مخالف لحقوق الإنسان وكرامته التي كفلتها الشريعة. أما المرأة فالأصل أنه لا يجوز سجنها البتة؛ لأنها أصل العرض، وحفظ العرض مقصد من أكبر المقاصد وسجنها مناف للحفظ، وإن اقتضى الأمر الضروري جداً فإنها لا تسجن إلا ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

بحكم قضائي في سجن خاص خالص بالنساء تحفظ فيه الأعراض. والصبي لا يجوز سجنه، لا بحكم قاض ولا غيره؛ لأن سجنه تضييع له غالبا وهو خلاف الأمر (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220)، ولأن حفظه من حفظ النسل والنفس، وليس السجن حفظا بل يعارض الحفظ. وعليه فالصبي إن جنى يُضَمَّن الإتلافات على عاقلته (¬1)، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الدولة، وتدفعه حينئذ إلى كافل عدل مسلم لتربيته وتأديبه، ويعطى عوض ذلك؛ لأنه إصلاح له (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). وإذا وصلت قضية فيها حد إلى جهات الأمن، فإن كانت من حدود الأعراض من زنى وقذف ونحوها، فإنه ينبغي معالجتها في القسم بصلح أو نحوه إن أمكن؛ لأن ذلك أحفظ وأستر للأعراض، وهو أصل الشريعة ولذلك تدرأ الحدود بالشبهات، وفي النص «ألا تركوه» (¬2)، أي لما فر حال إقامة الحد عليه، ويترك في الحدود كلها إلا في القصاص والقذف، أو ما تعلق بحق آدمي. ولأنها إن وصلت القضاء وجب فيها حكم شرعي حدا. فإن كانت من جرائم الأموال كسرقة فللجهة الأمنية الصلح برد المال والإلزام بذلك دفعا لرفعها إلى القضاء (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128). فإن وصلت قُطِعَ بشروطه، ولا يصلح التنازل في حد السرقة إلا إن كذَّب المدعي نفسه وشهوده، أو تراجع عن الإقرار، فيدفع الحد بالشبهة (¬3). وكذلك يجوز الإصلاح في جرائم الدماء من قتل وجرح، فإن تعذر وجب رفعه إلى القضاء للنظر. ¬

(¬1) - انظر المغني لابن قدامة (7/ 673). (¬2) - أصل الحديث في الصحيحين من حديث ماعز ورواية «ألا تركتموه» أخرجها أبو داود برقم 4422. (¬3) - وعندي في جواز إسقاط القطع بالتنازل من صاحب الحق تردد، قياسا على التنازل في القصاص بالنفس، وهي أعظم من مجرد عضو، والتردد ناتج عن النص في الحديث بمنع التنازل إن رفع الأمر إلى القضاء، فإن لم يوجد له تأويل قوي يجمع المسألة بقينا على الأصل في القطع.

وفرض على الجهات الأمنية منع الفساد في الأرض بأنواعه، وردع العصابات ونصرة المظلوم، ومنع أوكار الدعارة والجريمة وفنادق السوء ومراقص المجون ووسائل هدم الأخلاق من منشورة ومقروءة وشبكات النت الماجنة ومحلات ساقطة؛ لأن هذا من الفساد في الأرض (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). ويطلب شرعا وضع خطة أمنية عامة شاملة في داخل المدن وخارجها، وعلى خطوط السير، وفي المديريات. ويجوز تنظيم حمل السلاح على المواطنين؛ لورود النهي عن حمل السلاح في أماكن معينة وأزمنة معينة، كالنهي عن حمله يوم العيد، أو الحج، أو في السوق العام، أو المساجد، وكلها وردت بها نصوص تنظم حمله زمانا ومكانا وكيفية حمله في المجامع، وهذا أصل لتنظيم حمل السلاح (¬1). وإذا نظم بقانون وجب الالتزام به في أماكن حظر حمل السلاح، وللدولة ضبط مخالف، ولها القيام بحملات تفتيش على منافذ المدن، أو في بعض أماكن السير العام في حال صدور قانون ينظم حمل السلاح في تلك الأماكن وينظم حملاتها الأمنية، ولا يجوز اتخاذ حملات التفتيش وسيلة للنهب والاختلاس مالاً أو سلاحا. وتوريد سلاح إلى مكان أمين، لا يكون إلا لأجل أخذ تعهد على صاحبه بالالتزام لا لنزع ملكيته ولو للدولة، فإن هذا من الباطل والفساد (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «وهذا أصل لتنظيم حمل السلاح» فيه أحاديث منها حديث في البخاري برقم 451 عن جابر بن عبدالله مر رجل في المسجد ومعه سهام. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمسك بنصالها». ومنها أيضا في البخاري برقم 452 عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما». وورد النهي عن حمل السلاح يوم العيد لما أخرجه البخاري برقم 966 بلفظ (عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها، وذلك بمنى. فبلغ الحجاج، فجعل يعوده. فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك. فقال ابن عمر: أنت أصبتني. قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم.). (¬2) - وهذا الحكم لا يعم، فلكل دولة وشعب خصوصية، فتتخذ الدولة بالتشاور مع أهل الشورى ما يناسب المصلحة العامة للشعب في ذلك.

ولا يجوز لهم فتحه، ولا تغيير أدواته الداخلية بأخرى، أو حمله لضابط أو فرد لاستعماله أو إعارته؛ فكل هذا من الحرام؛ لأنه موضوع على الأمانة لا العارية ولا التمليك، ومال المسلم حرام. ولا يجوز تمرير مخدرات، أو خمر، أو محرم، فإن كان برشوة عظم الإثم. ولا يجوز للجندي في النقاط طاعة آمره بتمرير محرم شرعا، أو ممنوع قانونا مما لا يحق التغاضي عنه، ولو بأمر قائد النقطة. ولا يجوز للبلدية ولا الضرائب ولا الواجبات النزول برجال أمن لاختطاف الناس إلى السجن للدفع، بل الصحيح هو الذي يقتضيه النظام العام الخادم للمصالح العامة، وذلك باتخاذ آلية صحيحة لا ضرر فيها ولا ضرار. فهذا هو العمل المشروع مصلحيا بخلاف الترويع والإرهاب والخطف والسجن، فكل هذا مفاسد ومظالم وآثام وأكل لأموال الناس بالباطل. ويجب على الناس إن نزل من هؤلاء المفسدين لاختطاف أو تهديد أحد من الباعة وغيرهم ظلما وعدوانا مناصرته والوقوف معه، ومقاضاة هؤلاء الظلمة؛ لمخالفتهم العدل، ولتعاونهم على الإثم والبغي والعدوان، وخروجهم عن طائلة المصلحة العامة إلى الارتزاق الآثم. والمواكب الرسمية وما يرافقها من مواكب أمن وحماية تكون بقدر الضرورة الأمنية، فإن خرجت عن الضرورة كانت من مظاهر العلو في الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) (القصص: 4)، (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا) (لقمان: 18)، (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83). فلا تقنن هذه المواكب إلا بقدر الضرورة لشخصيات معينة وبقدر معين؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. ولا بد حال تحركها ألا يترتب عليها ضرر بنفس أو مال، وإلا وجب الضمان؛ لأن المشي في الطريق مشروط بسلامة العاقبة بلا تخويف ولا إرعاب للناس ولا سرعة زائدة، فإن هذا من البطر والمرح في الأرض (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا).

مؤسسة الأمن الغذائي

ورواتب واعتماد المسئولين في الأمن وسائر الدولة من وزراء ومدراء وقادة تكون بما يحصل به الكفاية للتفرغ للواجب؛ لأنه عامل لمصلحة المسلمين فيُكْفَى بما يليق به بلا سرف ولا تقتير؛ لأن السرف والتبذير محرم في المال الشخصي فكيف بالمال العام الموضوع على الأمانة؟ ولأن التقتير تضييق ومشقة وترك للعدل والإحسان، وفتح لباب الفساد وأكل الحرام من السحت والرشوة والاختلاس. مؤسسة الأمن الغذائي: وهي مؤسسة مفترضة قد لا توجد في دولة على أهميتها البالغة؛ إذ الدول تقلد بعضها بعضا في التقسيم والترتيب؛ فإذا غفل المقلَّد غفل المقلِّد، وفي شريعة الإسلام دعوة إلى الاجتهاد والنظر وإعمال العقل الاستقلالي وهذا منه. ولا يقال إنها تابعة للمؤسسة المالية؛ لأنها ليست كذلك، فالمؤسسة المالية بوزاراتها ومكاتبها تُعْنى بالمال تحصيلا وتنمية، ولا تُعنى -بعد ذلك- بإيجاد أمن غذائي عام، وإن كان من أهدافها، أو من منتوج أهدافها، إلا أنها لا تهتم به في درجة الضروريات. والأمن الغذائي أحد الأمنين الذَين يقوم عليهما الأمن الشامل، وقد جمعا في قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 3 - 4). - تعريف الأمن الغذائي: ونعني بالأمن الغذائي: الوصول إلى الدرجة الوسطى من الوفرة في الضروريات والحاجيات والتحسينات الغذائية. فالضروريات الغذائية: واجب على الدولة أن توفر منها حد الكفاية للشعب؛ لأن ما دون حد الكفاية في المواد الغذائية الضرورية يوصل ولا بُدَّ إلى حد المجاعة ثم الموت جوعا للجزء من الشعب أو الأكثر أو الكل بحسب درجة العجز. وقولنا «الغذائية» لفظ شامل للطعام والشراب. والضرورات الغذائية ثلاثة أنواع لا بد من توفرها لكافة البشرية، ودونها حد الهلاك وهي: الماء، واللبن. والأنواع الأربعة من الزرع أو أحدها: القمح، والبر، والذرة، والشعير. وقلنا من الزرع ولم

الحاجيات الغذائية

نقل الحبوب؛ لأن الزرع شامل للقوت الضروري للأنعام، وهذا أمر مقصود شرعا في النص (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 32). ويلحق بهذه الأنواع الثلاثة نوع رابع هو الملح، وقد يلحق بالحاجيات، وهي تنزل منزلة الضروريات. فالحبوب يتعذر بدونها عيش، والماء لا عوض عنه في شيء، واللبن ضروري لوجود النسل البشري والحيواني، وانعدامه هلاك لهما، وذلك من أكبر الفساد في الأرض (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) (البقرة: 205). فلا بد من توفيره وجوبا؛ لذا فرض الله إرضاع المولود ولو بأجرة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة: 233). حتى في المطلقة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق: 6). ويجب إرضاع نسل الثروة الحيوانية من الأنعام حدَّ الضرورة وجوبا وسيليا؛ لأنه لا يتم حفظ وجودها وتناسلها إلا بذلك، ودونه الهلاك للحرث والنسل، وهو محرم (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). والحليب المجفف تَبَعٌ استثنائي لا أصل؛ فهو مكمل في حال غياب أو نقص الأصل؛ فتوفيره -حينئذ- ضروري، والدولة تتولى ذلك. وإذا منعته دولة على أخرى في حال حاجةٍ واضطرار كانت مفسدة في الأرض، ويجب ردعها ومنعها، ومحاكمة مجرميها على ذلك الضرر، ويقضى عليهم بأحكام حد الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وأما الحاجيات الغذائية: فهي ما يؤتدم به ويعصر منه وهي أربعة أنواع: أولها: البقوليات بأنواعها كفول، وفاصوليا، وعدس ونحو ذلك.

وثانيها: الخضروات من ثوم، وبصل، وفجل، وجمع هذا في قوله تعالى (مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) (البقرة: 61). وثالثها: الدهن ورأسه الزيتون (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ) (المؤمنون: 20). ورابعها: السكريات الغذائية، ومنها التمر والزبيب، إذْ التمر يقوم مقام الحاجيات الغذائية، وبعض الضروريات، ويعصر منه ومن الزبيب الأشربة المباحة، والخل «ونعم الإدام الخل» (¬1)، فإذا أسكرت حرمت. وأما التحسينات الغذائية: فهي ما دار حول التفكه وهو نوعان: الفواكه، واللحوم بَرِّيُّها وبَحْرِيُّها، وما ندر من الغذاء، فاستعمالها دواء وغذاء كالعسل. فالفواكه تشمل سائر أنواع الفواكه الغذائية، وتوفيرها من الأمن الغذائي؛ لأنها بديلة في الطوارئ عن ضروريات الغذاء بالنص (أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الواقعة: 64 - 65)، أي تنتقلون إلى البديل الطارئ وهو الغذاء بالفاكهة. فالنوع الأول والثاني من الغذاء الضروري والحاجي لما كان لا بد للإنسان منهما خلقهما الله سبحانه بحيث لا يتسرع إليهما فساد، وإلا لذهبت الحياة، فالحبوب والبقوليات والتمر والزبيب قابلة للادخار الطويل والتخزين لسنوات، والماء خلق جاريا يدفع عن نفسه الخبث. ولذا نهي عن تقذيره وتلويثه وإفساده، خاصة الراكد بالنص. وأما اللبن فخلقه الله محفوظا في الضرع لا يمكن طروء فساد عليه. وأما الزيوت؛ فخلقها دافعة لتَسَرُّع فسادها. والملح لا يفسد ما بقي. وأما ما يتسارع إليه الفساد من الخضروات مع أنها في مرتبة الحاجيات؛ فجعلها الله سريعة الإنبات لا موسمية كالحبوب ونحوها من القوت المدخر. ¬

(¬1) - حديث «نعم الإدام الخل» حديث حسن صحيح أخرجه أبو داود برقم 3822، والترمذي برقم 1839، وله شاهد من حديث عائشة عنده، وقال حسن صحيح غريب 1840. وأخرجه أحمد بسند على شرط الشيخين من حديث جابر برقم 14300.

وجعل عنها ما يغني في المقتات المدخر من البقوليات والتمر والزيوت عند فقدها، وهي من قسم الحاجيات. فقسم الحاجيات والضروريات يقوم بعضه بالتناوب مقام بعض، حكمة وآية للناس. وجعل الفاكهة موسمية غير عامة لكل الناس ولا تغطي حاجاتهم؛ لأنها ليست من مرتبة الضروريات ولا الحاجيات. وقد جمع الله في آية واحدة سائر أنواع الغذاء فقال (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن: 10 - 12). فالفاكهة مكمل غذائي للحاجي والضروري وبديل غذائي لهما في الحال الطارئ بالنص (لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الواقعة: 65)، أي تقتاتون على الفاكهة كوضع بديل طارئ لا دائم؛ لتعذره. والنخل حاجي يقوم مقام كثير من الضروريات الغذائية، والحاجيات، والتحسينات؛ لخاصية فيه مع كونه صالحا للصناعات في المشروبات والتخللات وحرم تخميره. والحب ذو العصف شامل للحبوب بأنواعها، وهي من ضروريات الوجود البشري، وشامل لضرورة الغذاء الحيواني، وهو العصف، أي: الورق والقصب. وأما الريحان فهو كل الخضروات وما نبت على الأرض. وكل ما تعلق بأصل الغذاء الضروري البشري والحيواني خص بأحكام مشددة. فمنها تحريم الربا في هذه الأنواع «البر بالبر والشعير بالشعير والقمح بالقمح والتمر بالتمر والملح بالملح والزبيب بالزبيب» (¬1). ولذا كان القياس عليها صعبا، وتفرق فيه الفقهاء على أكثر من أربعة عشر قولا. والصحيح أنه لا قياس؛ لأن لهذه الأمور خاصية مستقلة لا يقوم غيرها مقامها. ومن ألحق بها البقوليات المدخرة قيل بصوابه؛ لأنها من الحاجيات، وهي تنزل منزلة الضروريات. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2175، وبرقم 2134 من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء».

ولم يُذْكَر اللبنُ ولا الماءُ في النص على الربا؛ لأنها لا تتفاضل ولا تتفاوت عادة وغالبا. ولأنها حين تستعمل كسلعة تجارية لا يكون ذلك إلا فيما فاض عن الضروريات والحاجيات ونزل إلى أنواع الترفيهات. وبيان ذلك أن اللبن متوفر في مرتبة الضرورة الحاجية في الضرع للمولود إنسانا أو حيوانا، فهذه مرتبة الضرورة، ولا يمكن انقطاعها البتة إلا عند عموم المجاعة. وهو وضع استثنائي لا أصلي، فلا تجري فيه كثير من الأحكام فضلا عن الربويات. وأما الماء؛ فلأن الحاجة الضرورية منه متوفرة للحياة الإنسانية والحيوانية على الأرض على مدار الإنسانية والتاريخ، ولا يشترى الماء من السوق إلا في حالات لا يحكم عليها بالضروريات بل التبسط والترفه والتحسينات المعيشية. وحديث الربويات ذكر الربا في المواد الغذائية التي يقوم عليها الأمن الغذائي، وألحق به الذهب والفضة؛ لأنها أصول القيمة للغذاء وغيره؛ فلا بد منها، وما قام مقامها من نقدٍ كالنقود المعاصرة، فهو مثلها في الحكم، بخلاف المواد الغذائية المذكورة في الحديث والتي يدور عليها الأمن الغذائي، فلا يقوم غيرها مقامها. فواجب مؤسسة الأمن الغذائي أن توفر المراتب الغذائية الثلاث. فالضروريات الأربع تامة. ومن الحاجيات يجب على الدولة توفير البقوليات؛ لأنها أصل في التوسعة على أصل الحياة البشرية، ويليها الخضروات والزيوت والسكريات. وهذه المرتبة مكملة لمرتبة الضروريات. وأما المرتبة الثالثة، وهي ما يدور حول التفكه والترفِّه سواء بالفاكهة أو اللحوم أو السكريات، فهي في توفيرها لازمة لزوما كليا؛ لأنها من المصالح الغذائية الهامة، والدولة ما جاءت إلا لخدمة ورعاية المصالح العامة والكبرى، ومن أولها الغذاء؛ فشمل هذه المرتبة؛ ولأنها حامية لمرتبة الضروريات والحاجيات الغذائية. فإذا أهْمِلت وأخل بها تطرق الإخلال إلى ما فوقها من المراتب.

المؤسسة الدينية

والواجب على الدولة من خلال هذه المؤسسة اتخاذ كافة الوسائل الموصلة إلى توفير الأمن الغذائي بدرجاته الثلاث. ومن أكبر الوسائل إقامة نهضة زراعية شاملة تخطيطاً، وإنشاءً، وتنميةً، وحفظاً، ورعايةً، وتخزيناً، وتسويقاً، وصناعة غذائية شاملة من خلال ذلك. وتنميةً حيوانية للثروة من الأنعام التي هي المصدر للبن ومشتقاته، واللحوم بأنواعها، وكذا الاهتمام بالحياة البحرية الغذائية، والبرية من طير وصيد إنسي ووحشي. ولا بد من تنميتها والاهتمام بغذائها وصحتها؛ لأنها وسيلة موصلة إلى الأمن الغذائي فلا بد منها، فوجوبها كلي وسيلي. ويتولى هذه المؤسسة الهامة الأكفاء والأمناء العدول من الوزراء والخبراء والمهندسين والفنيين والإداريين والعاملين. ويهتم بها تطويرا ودعما ماديا ومعنويا من الدولة؛ لأنها تقوم بأحد أكبر الوسائل التي تخدم المقاصد الكبرى وتحفظ النفس والمجتمع والشعب بأنواع ضرورية وحاجية وتحسينية من الحفظ؛ فوجب على الدولة ذلك؛ لذلك. المؤسسة الدينية: وأما المؤسسة الدينية فهي كيان مستقل يخدم المقصد الأول الأكبر، وهو حفظ الدين. ولا بد من وجودها الآن وجوبا؛ لأنها ستدفع أعظم المفاسد عن العقول والأفكار التي نتج عنها الغلو والتطرف الموصل إلى استباحة دماء أهل الإسلام تحت مسميات وعلل، ونتج عنها الفرقة العقائدية والفكرية، مما سهل لعدوها تفريقها والإيقاع بها، واتخاذ الذرائع لحربها واحتلالها بمسميات عديدة كمحاربة التطرف والإرهاب، ونحو ذلك. ولأنها وسيلة إلى الهداية الواجبة للناس، وعدمها يؤدي إلى نقيض ذلك من الضلال والانحراف «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء» (¬1). ¬

(¬1) - حديث «إن الله لا يقبض العلم ... » أخرجه البخاري في العلم برقم 100 عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».

وتقوم على وضع المناهج الشرعية الدراسية المعتدلة من فقه القرآن والسنة بتوسط قُصِدَ شرعا في الأمة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143). وينبني على هذا المصالح الكثيرة والكبرى (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «المصالح الكثيرة والكبرى» من أهمها بناء الأجيال على الفكر والفهم، والفقه الصحيح للكتاب والسنة، مما يسد ذريعة الانحلال، والتميع الفكري للأمة من جهة، ويحميها من ظهور الغلو والتطرف وعواقبه الوخيمة من فرقة واقتتال وعصبية جاهلية للأشخاص والمذاهب والمدارس والفرق والطوائف من جهة أخرى. وتقوم هذه المؤسسة بتخريج العلماء العدول، والدعاة، والمرشدين، والخطباء، وتنشئ لذلك المعاهد، والمدارس، والمراكز، والجامعات كوسائل شرعية موصلة لمطلوب شرعي. وتنشئ المجلس العام للعلماء لمناقشة الأوضاع العامة، والخاصة للخروج بحلول للوقائع من الشريعة المعصومة. ولا بد من إنشاء لجنة عامة للفتوى من كبار العلماء المؤهلين لذلك؛ لأنها وسيلة إلى معرفة وتعليم الدين وحفظه وتختص بإصدار الفتاوى الكبرى فيما يتعلق بالشأن العام سلما وخوفا، بالاشتراك مع الخبراء من أولي الأمر والقيادات المعنية في ذلك (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). وبالجملة فهذه المؤسسة وجودها مفروض شرعا؛ لأنها وسيلة إلى فرض ومقصد شرعي هو حفظ الدين. وما ضعفت الأمة وظهر في ولاتها الظلم والاستبداد، وفي فرقها الغلو والتطرف وفيها الفرقة والتنازع إلا بسبب ضعف أو انعدام العلماء الربانيين القائمين على الحق قولا وعملا ومعتقدا، فوجودهم فرضٌ، وقيامهم بالحق وجمع الكلمة ومحاربة الاستبداد والظلم والغلو والتطرف فرضٌ. وهذه الفروض لا تتم الآن إلا بإقامة مثل هذه المؤسسة الدينية الجامعة. فوجب ذلك وجوبا أوليا على الدولة وعلى الشعب؛ لأنه من القيام بالدين وحفظه، وهو واجب عليهما. ويجب على المؤسسة الدينية الدفاع عن الشريعة الإسلامية، ورد الشبهات ونشر العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى الهدى، ومحاورة الأديان؛ لإقامة الحجة البالغة عليهم، ونشر العلوم النافعة عبر الوسائل الإعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة وإلكترونية؛ لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ومن واجباتها السعي بالصلح حال الاقتتال والفتنة بين المسلمين أو ظهور ما يؤدي إلى ذلك. ونصرة قضايا الأمة والمظلومين، والسعي لإزالة المنكرات، ودفع الظلم، وإقامة الحق، ونشر الفضيلة والاعتدال، وجمع الكلمة عموما بين الناس، وخصوصا بين الجماعات الإسلامية المتبعة للكتاب والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترشيد الخطاب الدعوي والفكري والإعلامي، والسعي لمحاربة الفقر والبطالة في المجتمع، ورعاية الشباب والمرأة، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وقول الحق وعدم التعصب لفئة أو حزب أو جماعة في الخطاب والتصريح والفتوى والحكم (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 8).

مؤسسة الرقابة والمحاسبة والتقويم

مؤسسة الرقابة والمحاسبة والتقويم: أما الرقابة والمحاسبة والتقويم فمشمولة بأدلة الأمر بالإصلاح في الأرض وإنهاء الفساد ومظاهره والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كثيرة في القرآن والسنن. وإقامة مؤسسة معنية بذلك أمرٌ مشروعٌ. وفرضٌ تمكينها من القيام بهذا الفرض؛ لعموم (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). وإقامتها والتمكين لها وإعطاؤها الصلاحيات الكاملة في الرقابة والمحاسبة والتقويم من الإصلاح في الأرض، وهو أمر كلي مفروض. المؤسسة الخدمية: وأما المؤسسة الخدمية فهي تدور على إقامة كثير من الضروريات والحاجيات والتحسينات في الحياة العامة والخاصة، وإيجادها من المصالح الكبرى، ويدخل فيها ما يشمل كافة الوزارات الخدمية المدنية كالكهرباء، والمواصلات، والنقل، والمياه، والأوقاف، وكافة البنية التحتية وما يتعلق بها. المؤسسة القضائية: وهي مؤسسة ذات سلطة مستقلة نافذة تقوم بالفصل في الخصومات، ورفع المظالم، والحكم في قضايا الأعيان الخاصة بدعوى، وإجابة، وبينات، وشهادات تبنى عليها الأحكام القضائية. ويتولاه مسلمٌ عدلٌ بالغٌ فقيهٌ بالشرع. ولا مانع من تقنين الشريعة؛ لأنها مصلحة شرعية تخدم كثيرا من المصالح العامة، وتقطع التأويلات التي قد تؤدي إلى الجور والحيف بحسب هوى حاكم في ذلك. ويحرم تولية فاسق القضاء، ولو أحاط بالشرع؛ لأنه مؤد إلى خلاف المقصود من إقامة القضاء للعدل بين الناس. والمرتشي فاسق، ويحكم القاضي بما أراه الله، ولا يقلِّد بلا بصيرة، أو يتبع هواه، أو يخضع

لتوجيهات ولو من ولي المسلمين الأعظم. والحكم بما أنزل الله واجب بالنص (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة: 49). ويحرم الحكم بقانون يناقض الشرع (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (النساء: 60). وتحرم الشفاعات في حدود الله. ومن تأهل قضائيا في جامعات لا تدرس الشرع حَرُمَ توليته القضاء في بلاد الإسلام، ولو عرف أو اطلع على قوانين العالم ما دام جاهلا بالشرع؛ لأداء ذلك إلى حكمه بالجاهلية على خلاف الشرع (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، إلا إن كان فقيها عالما -قبل ذلك- بأحكام الكتاب والسنة وما ينبثق عنهما من تقنين شرعي. وتمكينه من الحكم بذلك شرط لقبول الولاية، وإلا حَرُمَ قبولها. ويجب كفاية القضاة في رواتبهم لدفع حاجتهم، وسد باب الشبهات والمحرمات عليهم؛ دفعا لفساد المؤسسة القضائية. ويجب تأهيلهم تأهيلا تاما بفقه الكتاب والسنة وحكمهما، وما يتعلق بذلك أصولا، وفروعا، ولغة، ومصطلحا، وتقنينا، ومعرفة بأقوال المذاهب؛ ليجتهد فيها القاضي لا لتقليدها. ويبنى على ذلك وجوب إقامة التعليم القضائي الكفء. ويحرم أن تتبع المؤسسة القضائية حزبا حاكما، أو معارضا، أو طائفة، أو فرقة؛ لأدائه إلى نقض المصلحة الكبرى من إقامتها، وما أدى إلى باطل وفاسد فهو كذلك. وأما ذكر فقه القضاء وما يتعلق به وفقه الجريمة، فله موضع غير هذا (¬1). ¬

(¬1) - كنا نريد تخصيص باب مستقل من كتابنا هذا لفقه الجريمة نتناول فيه الجرائم الكبرى، والجرائم الدولية، والحروب، والجرائم ضد الإنسانية، والجرائم الشخصية، ومثله القضاء، ثم رأينا إرجاء ذلك دفعا لطول الكتاب مع كثرة المصنفات في هذين البابين.

المؤسسة النيابية (مجلس النواب)

المؤسسة النيابية (مجلس النواب): مجلس النواب هو مجلس تقنيني لا تشريعي؛ لأن التشريع لا يحق لأحد إلا لله. وعلة إنشائه: رقابية، وتقنينية، ومحاسبية. وفرضٌ أن تكون تقنيناته منبثقة عن الشرع. والعضو فيه نائب عن دائرته المرشحة له على وجه الخصوص، ولشعبه على وجه العموم، فيدفع ما يفرض عليه دفعه من المنكرات والمفاسد والمظالم، ويحاسب المفسدين ويسائلهم. وينظر -أولا- في رفع الضرر العام عن الشعب؛ لأن الضرر العام مقدم في الدفع على الضرر الخاص. وفرضٌ على هذا المجلس إصلاح النظام السياسي بما يوافق العقود المقننة المتفق عليها مع الشعب صاحب السلطات؛ لأن الإيفاء بالعقود واجب بالنص (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وأكبرها وأولاها وأعظمها ما يتعلق بنفع عموم الخلق. ولا يجوز السكوت عن الظلم، والاستبداد، والتحايل السياسي على القانون، واستغلال واستنزاف الثروة بعشوائية. ويجب النظر في مسائل التعليم ومناهجه وتطويره بما يحقق نهضة استراتيجية للبلاد، ويحقق غرس العقيدة الصحيحة وتعاليم الشريعة السمحاء. ويجب شرعا مراقبة التعليم ومتابعة الأداء، ومساءلة المسئولين عن أي خلل وإفساد، ويتأكد الوجوب حال الاختبارات ووضعها ومنع أي عملية تسريب للاختبارات قبلها وأثناءها. أو الغش والتزوير سواء في الاختبارات، أو الوثائق والشهادات، وإصدار القوانين الصارمة في ذلك ومتابعة تنفيذها. وكل هذه الأمور تعتبر من النصيحة للأمة، ومن المصلحة التي أنيطت بالولايات، ومن الأمانات العامة المأمور بها في الشريعة، ومن التعاون على البر والتقوى، وجميعها داخل تحت القاعدة الكبرى للشريعة: وجوب جلب المصالح ودفع المفاسد. ويحرم على عضو مجلس النواب تلقي التوجيهات كأداة منفذة لرؤى غيره، كانت حقا

أو باطلا، من سلطة، أو حزب حاكم، أو معارض. بل يجب أن ينظر في مقتضيات المصلحة العامة، ولا يتبع توجيهات ملزمة له من أي جهة. فإن اتبع الإملاءات خان ما ائتمن عليه من الأمانة، وتحمل سخط الله وعقوبته وتحمل مآثم عن ما أدى إليه تصويته من مظالم ومفاسد خاصة وعامة، ومن اتبع الإملاءات والتوجيهات ولو في الباطل واستمر على ذلك عد فاسقا ساقط العدالة، وتسقط ولايته شرعا؛ لأنه خائن للأمانة أو غير كفء. وقد يجب سحب الثقة منه ومحاكمته وعزله في حال ثبوت تواطئه مع الفساد، وفي دولة المؤسسات الراشدة القائمة على العدل والإحسان لا مانع من إحلال منافسه في دائرته مكانه إن كان الفارق بينهما يسيرا، حفظا لخزينة المال العام من التكلفة؛ لأن الأصل عدم التصرف به إلا للضرورة، وهي تقدر بقدرها، وإعادة الانتخابات مع التقارب بين المتنافسين قد لا يكون ضرورة؛ لأن الجمهور مع هذا، ومع هذا، ومع حصول فارق نسبي كبير تعاد الانتخابات؛ لأن القليل تبع للأكثر فلا يعتد به، ويحدد الأقل بالآحاد إلى العشرة في اللغة، فسيتفاد منه بالنسبة لا العدد. ويحد التقارب بوجود فارق القلة بينهما، ويوضع لذلك قاعدة نصية مقننة لدى اللجنة العليا للانتخابات، فإذا حصل أحدهما على عشرة آلاف صوت، والآخر على ذلك بزيادة مئات، فيسير. وإذا كانت المناقشات البرلمانية في مسائل يحتاج في تصورها إلى خبراء فيجب قبل التصويت استجلاب الخبراء المختصين في ذلك الشأن؛ لحضور جلسات المجلس والاستماع إلى بيانهم وتوضيحهم، ليتخذ المجلس قراره عن علم ودراية سواء كان التصويت على قانون، أو قرار يحتاج إلى تكييفه وتصويره؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36). فالعضو إن صوت على ما لا يعلم تصوره تصورا تاما جليا (¬1) دخل في عموم النهي وأثم؛ لأنه اقتفى ما ليس له به العلم؛ ولأن الحكم بالخرص والتخمين محرم في نصوص كثيرة؛ ¬

(¬1) - قلنا ذلك؛ لأنه لا يجوز الإجمال في التصورات لبناء الأحكام الخاصة.

وكذا الحكم بلا علم، فإن كان اتباعا لأمر آمر عظم الإثم، ودخل في اتباع الكبراء والسادات بغير علم واتباع الذين يظلونهم بغير هدى من الله، وكله منصوص على حرمته في نصوص كثيرة في القرآن. فتبين وتعين استدعاء خبراء لمناقشة وبيان وتوضيح وتصوير للمسألة وما ينبني عليها من المصالح والمفاسد؛ لأنهم وسيلة للحكم بالحق، والقول عن علم، فوجب طلبهم؛ لأن للوسائل أحكام المقاصد. وكذا يجب على العضو دراسة الموضوع المطروح دراسة متأنية ليصل إلى الحق بما يؤدي إلى براءة الذمة المشغولة بتحري الحق، وحينئذ يلزمه شرعا الحياد لا التعصب؛ لأن الحياد مؤد إلى نظر بالعدل، وهو من واجبات الشريعة في كل أمورها وخاصة هنا. والنصوص فيه كثيرة. وحال التصويت يجب على العضو اتباع ما تبين له أنه الحق، فإن لم يتبين له وحصل تردد في قلبه بالصواب حرم التصويت تقليدا بالاختيار، أو بإملاء، بل يمتنع عن التصويت توقفا. والتصويت إنما يكون في غير قواطع الشريعة فيما للاجتهاد فيه مجال. ويحرم عرض قاطع شرعي للتصويت عليه بحل أو بحرمة على خلاف المنصوص، كحل خمر أو زنى أو قتل أو سرقة، أو حكم بغير الشريعة. فمن صوت على هذه الأمور وأمثالها من ضرورات وقواطع الدين بنقض حكمها فهو كافر. ومنه التصويت على إسقاط الفرائض، كالأمر بفطر رمضان على الموظف لعلة الإنتاج، أو منع الصلاة في المسجد إلا لحاصل على إذن دولة أو بطاقة، كونه من أهل الحي ونحوها. فالتصويت على شيء من هذا وأمثاله من القواطع كفر بواح وخروج عن الإسلام. ويجب حينئذ البيان وإقامة الحجة عليهم من الشعب بالتي هي أحسن، وخاصة العلماء وأولي الأمر، فإن أبوا صُعِّد الأمر سلميا بالتدرج بنحو مظاهرات واعتصامات وكل وسيلة سلمية وصولا إلى مقصود النص عند تحقق الشروط وهو قوله صلى الله عليه وسلم «إلا أن تروا كفرا بواحا لكم فيه من الله برهان».

وإذا تعلق الأمر باجتهاد في مسألة شرعية قابلة للاجتهاد طلب المجلس من خبراء الشريعة أهل العلم توضيح الفتوى الشرعية أمام المجلس، وتلزم الفتوى في حالة اتفاق، لا في خلاف، فيجوز اختيار إحدى الفتويين في الخلاف القوي المتكافئ لإصدار قانون ملزم من المجلس بها. وغياب العضو بغير مبرر مرخص من المجلس تلاعب بالعقد؛ لأن العضو أجير في الأصل بمال. ويجب خصم قسط مقابل الغياب، ولا يحق لأحد إسقاط ذلك تسامحا أو تساهلا؛ لأن المال العام لا يتساهل فيه؛ إذ الولاية عليه ولاية نظر لا ضرر، وإسقاطه ضرر إلا ما جرى عرف عام على التسامح به كيسير، وإسقاطه بالكلية بقانون، أو عرف داخل المجلس أشد حرمة؛ لأنه إهدار للمال العام بلا مقابل، فهو ضرر محض؛ ولأن التصرفات على الرعية منوطة بالمصلحة وليست هذه مصلحة. فإن أكثر العضو من الغياب، وجب إجراء حازم لردعه قد يصل إلى الإيقاف، ثم سحب الحصانة منه -إن وجدت- للتحقيق معه، لأنه مفسد تارك لما استؤمن عليه، ودفع المفسدة واجب، خاصة أن غيابه يتعلق به مفاسد عامة، واللازم إصدار قانون من المجلس بذلك؛ لأنه تعاون على البر والتقوى وإقامة المصالح ودفع المفاسد. ويحرم إعطاء بدلات مالية للجلسات الرسمية إذا كان الراتب مجزيا مقطوعا؛ لأن عقد الإجارة للنواب موضوعه حضور ذلك، وهو ركن، وبه يستحق الأجرة المالية، وهي راتبه الأساسي. ففرض شيء مقابل حضور الجلسات بمسمى بدل أو نحوه مع وجود راتب مجزئ إهدار للمال العام، والإهدار ضرر وهو مدفوع. وعلة التحفيز لا تجيز ذلك إلا إن كان الراتب ضعيفا؛ لأنه مُلْزَم بالعقد بعوض شهري مجزئ في الأصل، فإن غاب سقط العوض بقدره، وهذا كاف لتحفيزه؛ ولأن هذا التحفيز معاوضة أخرى على أصل العقد وهو الحضور، وهو مشغول بعوض آخر هو الأصل والمشغول لا يشغل، فكان التحفيز عوضا لا يقابله عمل حقيقة ولا تقديرا. فكان آكلا للمال بالباطل، وهو منهي بالنص تحريما؛ ولأن الولاية على المال العام ولاية نظر،

وليس هذا من النظر في شيء؛ لأنه في نظيره في الملك الخاص ضرر فكيف صار مصلحة في المال العام (¬1)؟ ولا يقاس على مجالس الجامعات والمؤتمرات ونحوها لكون حضورها عملا إضافيا فوق المتعاقد عليه، فيعطى مقابله بدلا وعوضا، بخلاف مجلس النواب والشورى، فإن حضور الجلسات هو أصل العقد وموضوعه، وهو المقبوض عليه عوضٌ شهريٌ يسمى الراتب، فلا يعطى عوضا آخر تحت أي مسمى؛ لأنه بغير مقابل. ولا يكون تصويت النواب ملزما فيما لهم فيه نفع شخصي خاص كالبدلات ومقدار الرواتب، وتمديد فترة المجلس، ونحو ذلك؛ لأن الإلزام منوط بالتصويت المتعلق بالمصلحة العامة، وليست كذلك هنا. فيعطون أجر المثل؛ لأن الناظر على المال العام أو مال اليتيم أو الواقف لا يعطي للأجير أكثر من أجر المثل؛ لأنه ضرر. ولو شرط عليه أكثر من أجر مثله قبل إبرام العقد حرم إبرامه؛ لإمكان تحصيل نفس المصلحة من مثله بأجرة أقل، فكانت الزيادة هدرا، وهو ممنوع، هذا في النظر للمال العام. فإن كان في مال الشخص فيجوز؛ لأنه هبة أو إكرام، لأنه يحق للشخص ذلك في مال نفسه لا في مال غيره، خاصة المولى عليهم في الولايات العامة واليتيم والوقف ونحوه؛ لكثرة النصوص في التحذير من إنفاقها إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولا ضرورة في الزيادة على أجر المثل. والانسحاب من الجلسات يلزم شرعا إن أدى إلى منع أمر مخالف للشريعة والمصالح العامة المعتبرة. فإن لم يمنع كان تعبيرا عن إنكار هذا المنكر كقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (النساء: 140). وقوله تعالى (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 68). ¬

(¬1) - بمعنى أن صلب المتعاقد عليه في العقود الخاصة لا يعطى البدل فيه في أصل ما هو واجب في دوامه من اجتماع ونحوه ويعطى في العمل الإضافي خارج وقت الدوام الملزم.

جواز الترجيح بالأكثرية

جواز الترجيح بالأكثرية: وإذا صوت بعد اتخاذ الإجراءات الصحيحية فما ذهب إليه الأكثرية اتخذ به القرار؛ لأن الترجيح بالأكثرية عند تعادل الحجج جائز عادة وعقلا وشرعا بشرط كونه في المباحات مما يتعلق به مصالح عامة، فإن كان في خلاف نص شرعي حرم وبطل كما مر (¬1). ¬

(¬1) - بسطنا القول في هذا في كتابنا الترجيح بالكثرة، أصله رسالة دكتوراه بتقدير «ممتاز».

سياسات الدولة

سياسات الدولة: 1 - الخاطئة. 2 - الراشدة.

السياسات الخاطئة للدولة

السياسات الخاطئة للدولة المقصود هنا هو ذكر أهم وأبرز السياسات الخاطئة التي قد تقع الدولة في ممارستها، ثم نذكر أهم وأبرز السياسات الراشدة التي يلزم على الدولة القيام بها، فلنبدأ في ذكر أهم السياسات الخاطئة، فنقول: 1 - السياسة بالظلم: وهي شاملة للظلم الديني، والسياسي، والمالي، والقضائي، والمجتمعي، والإنساني. وهي أحد أعظم السياسات الخاطئة المحرمة، وعلة من العلل الشرعية المنصوصة لنزول العقوبات الربانية (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 29)، (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) (الأعراف: 162). وهذا التعليل كثير في كتاب الله تعالى. وما كثر التنبيه عليه في القرآن سواء كان في باب الحلال أو الحرام، فهو دليل على عظيم الاعتناء به إن كان فريضة، وعلى عظيم التحذير منه إن كان محرما. والظلم من الظلمات، وأعظمه ما تعلق بأصول المقاصد الستة للشريعة: حفظ الدين والنفس والعرض والمال والعقل والجماعة. والظلم في باب الإيمان والعقائد معناه الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13). فالشرك بالله أعظم الظلم وأكبر الجرائم في حق الله وخط أحمر يعد من تجاوزه مرتكبا لأكبر الجرائم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء: 48). وحرم تولية مشرك ولاية عامة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، والولاية أعظم وأكبر من مجرد الموالاة. ولقوله تعالى (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، والولاية أعظم سبيل. ولقوله تعالى (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59).

والكافر ليس من أهل الإيمان، وإن تولى ثم ارتد فخلعه بالقوة فرض لحديث «ألا نقاتله؟ قال: إلا أن تروا كفرا بواحا» (¬1)، أي فخلعه واجب بالقتال. فمن أعلن الشرك من الولاة، أو الكفر المبرهن عليه من القرآن والسنن، فخلعه فريضة ولو بالقتال. وتصنف جريمةً سياديةً ودستوريةً عظمى. ويدخل في الظلم الديني منع مساجد الله أن يذكر فيها اسم الله، كمنع رفع الأذان، أو إقامة الجماعة، أو منع الصلاة في الكليات العسكرية، أو غيرها من مرافق الدولة، أو فصل المصلين من أعمالهم عقوبة لهم على فعل الصلاة، أو سجنهم لأجل حضورهم الصلاة فجرا أو عشاء أو ظهرا أو عصرا أو مغربا لسبب الصلاة. أو منع إقامة الصلاة في المدارس والمرافق الحكومية إذا حان وقتها حال الدوام نهارا أو ليلا، وعاقب على ذلك، أو أصدر أمراً يمنع تعليم الصلاة في المناهج الدراسية، أو حارب المساجد وسعى في خرابها فحاصر تمويلها وضيق على بنائها. أو منع العلماء المؤهلين المعتبرين من تدريس العلوم الشرعية المعتبرة فيها، أو الإفتاء وإفادة الناس من غير فتنة، فهذه الأنواع من أكبر السياسات الخاطئة وأعظم أنواع الظلم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 114). وهذه السياسة تبطل الولاية؛ لأن الله قضى عليه بالخزي في الدنيا، والولاية والخزي لا يجتمعان؛ فوجب خلعه وإخزاؤه ومحاكمته؛ لأن النص الصحيح الصريح في منع الصلاة ومنع المساجد دل على ذلك «قالوا: ألا نقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» (¬2). ويدخل في الكفر البواح الموجب للخلع والعزل ولو بالسيف ما قاله النووي -رحمه الله- من أن المقصود هو هدم الأركان والمعالم الكبرى للدين (¬3). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قال النووي في شرحه لمسلم (6/ 314): «إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام».

وقوله صحيح؛ لأن الله يقول (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44) وفسرها ابن عباس بكفر دون كفر (¬1)، وهو يؤيد تفسير النووي، فهي من الكفر البواح على هذا، ولأن البرهان على الكفر إنما يكون بالنص، وهذا منصوص عليه، فكل حاكم لم يحكم بما أنزل الله وغلب عليه ذلك فواجب خلعه ولو بالسيف. وقلنا وغلب عليه؛ لأن الغالب معتبر بلا خلاف في الشرع؛ ولأن القلة يعسر ضبطها، ويمكن علاجها بخلاف الغالب. ولو شرع قوانين على خلاف صريح أصول الشريعة، فهو -كذلك- واجب خلعه ولو بالقوة بالشروط المعتبرة إن لم يتراجع عن ذلك. ويقبل منه تراجعه وتعد توبة له؛ لأنه قد يكون ذلك جهلا. وإفراد الله بالحاكمية من القواطع ثبوتا ودلالة (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) (يوسف: 40). وهو جزء من العبادة والإيمان (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65). ولأن من اختص بالخلق اختص بالأمر (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف: 54). ويكفر أو يفسق أو يظلم من حكم بغير ما أنزل الله بالنص (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47). وغير حكم الله تحت أي مسمى بقانون أو غير قانون هي أهواء (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49)، فحَرُمَ إدخال بعضٍ مما يناقض الشرع. وكل ما ناقض حكم الشريعة فهو جاهلية (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50). ¬

(¬1) - انظر تفسير ابن كثير والطبري عند تفسير قوله تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، وسيأتي.

وجعل المعرض عن حكم الله ورسوله في الكتاب والسنة متحاكما إلى الطاغوت زاعماً للإيمان لا مؤمناً (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (النساء: 60). ولهذه الأدلة القطعية ثبوتا ودلالة، ففرضٌ أن ينص في عقد الدستور على أن الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع، وأنها مصدر جميع القوانين، ولا يجوز جعل الشريعة أحد مصادر التشريع أو المصدر الرئيس؛ لأن الله جعل الشريعة تامة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3). فإدخال شيء معها مع كونه منصوصا على حكمه في الشرع بالنص أو القاعدة لا بد أن يكون مناقضا لذلك النص؛ وإلا فهو عبث. والردة عن دين الإسلام إذا أذن فيها الحاكم فقد أذن بأكبر الجرائم عند الله تحريما بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وهو: الكفر بالله ورسله وكتبه، سواء كان كفرا بالرسالات، أو بعضها لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (النساء: 150 - 151). وهذا من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وفرض -عندئذ- خلع الحاكم بالشروط المعتبرة؛ لأن هذه من الجرائم السيادية والدستورية الكبرى لدولة الإسلام التي لا تجوز باسم الحرية وغيرها كالخيانة العظمى والجرائم السيادية. ومباشرة خلعه خاضعة لشروط التكليف في تغيير المنكر. ولأن شرط العقد الدستوري في الولاية قوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). وردة الحاكم، أو إذنه بالردة نقض لهذا الشرط، ونقض الشرط المعتبر في العقد يبطل العقد، ولأنه يحرم قبول ردة مرتد عن الإسلام بعموم النص (فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) أي: لن يقبل منه لا رسميا ولا شعبيا ولا اجتماعيا، لأن حذف المتعلقات يدل على العموم (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ

سياسات الظلم العام

دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فحكمه مذكور في آخر الآية (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). ولأن الله فرض القتال عند حصول الفتنة عن الإسلام، أي الردة (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)؛ لأنها أعظم من القتل كما في آية أخرى، فإذا أوجبنا السيف في القصاص في القتل العمد العدوان دفعا للفتنة، ففي الفتنة عن الإسلام أولى؛ لأنها أشد من القتل بالنص، والآية مطلقة شملت فتنة الفرد أو أكثر: حاكما، أو مواطنا، رجلا، أو امرأة. - سياسات الظلم العام: ومن الظلم الاعتداء على النفس بتخويف، أو جرح، أو قتل، أو إيلام ولو بجوع، وتعمد إفقار، أو إيلام بما يحب الشخص، أو حَطْم بعض ببعض بإثارة فتنة بينهم، أو تغذية سياسة الحطمة المذمومة شرعا «شر الرعاء الحطمة» (¬1). أو الاعتداء على الأموال بنهب، أو اختلاس، أو غصب، أو سرقة، أو فيد، أو تولية مفسد، أو طبع العملة الرسمية خارج الإذن الشرعي وخارج ما انبثق عنه من القوانين بما يؤدي إلى مفاسد جمة كالفقر والبطالة والغلاء والفساد، أو تعسير الأرزاق بحصار التجارات البسيطة لأصحاب الدخل المحدود وتسليط أفواج المجرمين عليهم لظلمهم وحبسهم وابتزازهم. وفرض غرامات بلا حق، وضرائب غير عادلة ولا مستحقة عليهم، وعدم البت وحماية البت في قضايا العقارات والأراضي والأموال. وكذا يحرم الظلم المتعلق بالأعراض من الإشاعات الظالمة الكاذبة في وسائل الإعلام، مقروءة ومسموعة ومرئية لخدمة الأغراض السياسية أو الحزبية أو الشخصية أو المالية، وإلصاق التهم باطلة سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، فهذا كله محرم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، والنصوص في ذلك كثيرة. ¬

(¬1) - «شر الرعاء الحطمة» حديث أخرجه مسلم برقم 4838 من حديث عائذ بن عمر.

2 - سياسة الفساد

ومن المظالم ما يتعلق بحفظ العقل كوضع المناهج التعليمية التي لا تفيد في تنوير، ولا إزالة شبهة، ولا إقامة فروض الكفاية بما يواكب العصر من: طب، وعلوم التكنولوجيا، والصناعة، والهندسة، والإنتاج المدني والعسكري، مما يؤدي إلى ضعف الأمة أمام غيرها وجعلها هدفا سهلا لأعدائها؛ فتُنْهَب الثروات، وتستعمر الأفكار والبلاد، وتسلب السيادة وترتهن البلاد في قراراتها نظرا لضعفها الشامل: السياسي، والصناعي، والعلمي، والعسكري، والاقتصادي. 2 - سياسة الفساد: هناك قاعدة يمكن وضعها بالتتبع وهي: الظلم إذا صار ظاهرة عامة كان فسادا في الأرض. فالظلم إذا كثر صار مظالم، وإذا استمرت الكثرة أصبحت عادة، ثم تحولت إلى ظاهرة ملموسة مشاهدة، وصارت حينئذ فسادا في الأرض، وقد قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، فاستعمل الظهور للفساد، وقد قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة: 32)، فغاير بين القتل بلا حق الذي قد يحصل، وبين القتل للفساد في الأرض؛ لأن القتل العدوان يغلب عليه -عادة- تقدم عداوة، وعلته الباعثة هي الانتقام، ولذلك لا يتجاوز غير من أراد أن ينتقم منه، بخلاف من قتل عمدا وعدوانا بلا سبب، ولا عداوة سابقة؛ فعلته الفسادُ في الأرض ويغلب عليه استهداف الكافة برها وفاجرها. فيعم الخوف والهلع، ويؤثر ذلك على تقلب الناس في الأرض لحاجاتهم، وتجاراتهم. وحد الحرابة، ومنه قطع الطريق أشد الحدود؛ لأنه من الفساد في الأرض. والحاصل أن الظلم يطلق في الأصل على جريمة معينة واقعة على معين لا تتعداه، فإذا وقع على غير معين بل على العموم والشيوع عمدا وعدوانا كان فسادا في الأرض. وقد تنوعت عقوبة الفساد في الأرض وقرنت بمحاربة الله ورسوله (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ

وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وتنوع هذه العقوبات سببه تنوع الفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله فيعطي القضاء حكما مناسبا للواقعة بحسبها، وأعلاها الإعدام أو الجمع بين الإعدام والصلب، ثم تليها عقوبة قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وأدناها النفي من الأرض، وهو أن يجعل في المنفى، سواء كان بالترحيل من تلك البلاد أبدا أو لمدة معينة بحسب الواقعة، أو يسجن في منفى عن بلاد الجريمة ولو داخل الدولة. وأخْذُ الفقهاء من الآية حدَّ الحرابة وقطعَ الطريق ليس حصرا وقصرا لجرائم الفساد في الأرض، فقد ظهر في عصرنا جرائم عظيمة أكبر أو لا تَقِلُّ عن الحرابة. فمما يشمله النص من أنواع الوقائع التي تصنف من جرائم محاربة الله ورسوله والفساد في الأرض، وينزل عليها العقوبات المناسبة في الآية واحدة أو فوق ذلك. فالسلطة إذا مارست الفساد في الأرض حاق بها ما يحيق بالفرد، أو الأفراد المفسدين في الأرض في العقوبة المنصوصة في الآية (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) (المائدة: 33). وولاية المفسد في الأرض باطلة؛ لأنه استحق إحدى هذه العقوبات، وأدناها هي النفي التي تحول دون العمل في الحكم فكيف بأعلاها إذ لا يمكن الجمع بين البقاء في السلطة وتنفيذ عقوبة الفساد في الأرض عليه؟ ومن الجرائم التي يمكن تصنيفها شرعا من جرائم الفساد في الأرض: - الإبادة الجماعية. - القصف العشوائي أو الممنهج على الأحياء السكنية. - دعم طائفتين من الشعب لقتال إحداها الأخرى. - قتل المتظاهرين السلميين. - استعمال الجيش والأمن لقمع الشعب المدني السلمي. - التعذيب في سجون الدولة والمعتقلات.

3 - سياسة العلو في الأرض

- تشجيع وتغذية الصراع بين الطوائف الدينية والمناطقية. - تجهيل الشعب عمدا. - إيجاد الطبقية القانونية. - الفساد المالي والإداري، وعدم تقديم رموزه إلى القضاء. - تقوية بعض الشعب وإضعاف بعض. - العبث والنهب والاختلاس للثروة والمال العام بما يوصل الشعب إلى خط الامتهان، والإذلال والإفقار داخليا وخارجيا. - العقوبات الجماعية المقصودة على الشعب كقطع الغذاء، والقمح، والماء، والمواد الحاجية كالمشتقات النفطية، والكهرباء، والمياه، وحليب الأطفال، والأدوية. - إهلاك الحرث والنسل. - منع إسعاف المصابين. - قصف المستشفيات. - جرائم الاختطاف. - تدمير المصالح الكبرى. - التسهيل لعصابة الحرابة، من قطع الطرق وتفجير المصالح العامة وتخريب البلاد. - دعم أو تسليح أو تمويل الفتنة والاقتتال وأطرافها. - استعمال السلاح النووي، أو الكيماوي، أو أسلحة الدمار الشامل. 3 - سياسة العلو في الأرض: سياسة العلو في الأرض هي انحراف ظاهر وخطأ فادح عن مقصد الولاية العامة، وهي مخالفة للعقد الممنوح من الشعب، سواء كان مكتوبا كدستور، أو ملفوظا أو متعارفا عليه؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا. فإن لم يكن عقدٌ، فالأصل أن الولاية لخدمة الشعب لا للاستعلاء عليه، فهي سياسة مذمومة شرعا تعود على المقصود من الولاية بالإخلال أو الإبطال (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) (القصص: 4) وهذا مسوق في مورد الذم والمقت، لذلك فحرم.

4 - سياسة الاستبداد

وقد خطأ الله هذه السياسات في قوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8)، وهذا ظاهر في التحريم. ومن مظاهر العلو عدم سماع ناصح ولا مشاورة حقَّة، واستبداد بالقرار من دون الشعب (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، وملاحقة المعارضين سجنا وقتلا واغتيالا وإقصاء واحتقاراً (إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (الشعراء: 54). وارتكاب جرائم ضد الإنسانية (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف: 124)، و (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127)، والتهديد بالسجن والتصفية (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء: 29)، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) (غافر: 26). والاستقواء بالمؤسسة العسكرية والأمنية ضد الشعب المدني الأعزل، كفعل فرعون وهامان وجنودهما بموسى والشعب غير المسلح. 4 - سياسة الاستبداد: والاستبداد محرم؛ لأنه موقع في الخروج عن مقتضيات المصلحة العامة. وقد أجمع العلماء على خلع من لا يشاور. نقله ابن عطية وغيره (¬1)؛ وهي من السياسات الباطة التي أوردها الله مورد المقت والذم عن المفسدين في الأرض، وهي قائمة على ما ذكره الله من قول فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29). 5 - الكذب السياسي: والكذب بأنواعه محرم، إلا ما استثني كصلح، والكذب السياسي أشد تحريما للنص أن الله لا ينظر إلى الإمام الكذاب ولا يزكيه وله عذاب أليم (¬2)، وقد جاء في النص «من صدقهم ¬

(¬1) - حققنا المسألة في كتابنا «الترجيح بالكثرة وأمر الأمير» رسالة دكتوراة. والإجماع منقول عن ابن عطية ونقله عنه القرطبي ثم الشوكاني وغيرهم. وانظر نقل الإجماع في تفسير القرطبي (4/ 249) ط/ دار الكتب المصرية. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 309 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر».

6 - الإدارة بالأزمات

بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض» (¬1). وهذا يدل على أن تصديق الولاة الكذبة وإعانتهم على ظلمهم من الكبائر. 6 - الإدارة بالأزمات: إن سياسة الإدارة بالأزمات من الفساد في الأرض؛ لأن الإدارة للبلاد إنما تكون بالمصالح العامة ودفع المفاسد. فإذا استعمل الحاكم سياسة إدارة البلاد بالأزمات فهو مفسد في الأرض وتبطل ولايته بذلك؛ لأن الولاية مبنية على التصرف بالمصلحة ويستعملها الولاة المفسدون الفاشلون لضمان استمرار بقائهم واستبدادهم بالأمر، والتكسب الداخلي والخارجي بمسمى هذه الأزمات. وينبني على هذا الحفاظ على بقاء واستمرار الصراعات المختلقة طائفية ودينية وقبلية وحزبية، مع تغذية وتشجيع ظاهرٍ وخفي لكافة الأطراف، وعدم جدية الحلول. واختيار أطراف للحل هم جزء من المشكلة والفساد مما يؤزم الوضع، ويزيده سوءا. وتبقى السلطة وظالمها ممسكةً بخيوط وزمام هذه الأزمات؛ لتثبت بقاء الحاكم ودولته، وهذه السياسة من أعظم الظلم والفساد في الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4)، وواجب شرعي على الشعب مواجهة هذه السياسة بحلول ومبادرات من أهل الحل والعقد العدول القائمين بالقسط القائلين للصدق الحافظين لحدود الله. ويجب منهم السعي الجاد والمستمر لإنهاء هذا المنكر والفساد وحقن الدماء وإنهاء المظالم واتخاذ آليات مناسبة لذلك بحسب الواقع حالا ومآلا. ولا يجوز -حينئذ- التعامل مع الحاكم في ذلك، وكشف مرادهم له، لأنه سيؤول الأمر منه إلى إحباط أعمالهم ومساعيهم. ولا يَخْرُج معهم منافقٌ ولا مخذل؛ لأنهم يسعون بالفتنة (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: 67). ولا يخرج في هذه اللجان إلا صادق أمين عدل خبير بهذه الأمور (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119). ويتشاورون للحل (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). ووصولهم إلى ذلك لا بد منه؛ لأن الله أكده باللام في النص (لَعَلِمَهُ). وفرض على الشعب ومؤسساته صَدُّ الحاكم عن هذه السياسة الفاسدة بكافة الوسائل الممكنة القانونية والدستورية والشعبية والسلمية، وآخرها خلعه قضائيا أو بفعل شعبي عام سلمي متدرج بدءا بالاعتزال الشعبي لحديث «هلاك أمتي على يد أغيلمة من قريش. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم» (¬1)، أخرجه البخاري. وحديث «لا تكن لهم جابيا، ولا شرطيا، ولا عريفا، ولا خازنا»، وهو صحيح (¬2). وحديث «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬3)، أخرجه مسلم. ¬

(¬1) - الحديث في صحيح البخاري برقم 3604 وفي مسلم برقم 7509 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -واللفظ للبخاري- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يهلك الناس هذا الحي من قريش. قالوا: فما تأمرنا؟ قال «لو أن الناس اعتزلوهم». (¬2) - أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 4586 من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا». قلت: وسنده حسن. وعبدالرحمن بن مسعود الراوي له عن أبي سعيد وأبي هريرة وثقه ابن حبان ولا يعلم فيه جرح وهو من طبقة التابعين ومعلوم في مصطلح الحديث أن ما كان هذا حاله فهو حسن الحديث. ولم يتنبه العلامة الأرناؤوط لهذه القاعدة فتعقب الألباني والقول ما قاله الألباني هنا مصححا للحديث. وله طريق أخرى لا بأس بها عند الطبراني، قال في المجمع: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه داود بن سليمان الخرساني، قال الطبراني: لا بأس به ... الخ كلامه (5/ 281). (¬3) - أخرجه مسلم برقم 188 عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». وهو عند ابن حبان برقم 177 بلفظ (سيكون أمراء).

7 - ولاية السفهاء

7 - ولاية السفهاء: ويحرم تولية السفيه لأن تصرفات الولاة منوطة بالمصلحة العامة، والسفيه لا يتعامل بالنظر المصلحي وقد حرم الله إيتاء المال إليهم (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5). والولاية في القياس الأولوي ممنوعة على السفيه؛ لأنها تصرفٌ في الشئون العامة بما فيها الأموال بمباشرة أو بالتسبب، فهي أولى بالمنع من الحجر على السفيه في ماله الخاص. 8 - العطايا المالية لشراء الذمم: ولا يجوز شراء الذمم بالأموال ابتغاء كسب أنصار للولاية؛ لأنه يفكك الشعب ويجند بعضه على بعض، ويرسخ سلطان أشخاص الولاة لا سلطان الدولة الخادمة للشعب. ويترتب عليه ظهور صراع بين الولاة على كسب الموالين والأتباع والأنصار، ويظهر منه صراع آخر لوكلائهم من الوجاهات ومشايخ القبيلة والسماسرة مما ينتج على العادة صراعا بين فئات الشعب؛ لأن كل جهة تريد أن تحقق السبق لتأطير مراكز القوة والنفوذ وأتباعهم لأشخاص الولاة، ويكثر دفع الأموال ظنا أن من دفع أكثر كسب الولاء والأنصار. وهذا السرف ينعكس على المال العام وإهدار الخزينة من النافذين، ويظهر الفقر. وتعكف الولاة على ذلك عازفة عن إدارة الدولة للمصلحة العامة للشعب، فتتدهور الدولة اقتصاديا تدهورا يؤدي إلى ظهور الفساد المالي والإداري، وخراب الذمم، وظهور الرشوة والمحسوبيات، وتمكِّن قوى النفوذ من ظلم الناس، وتعطيل أحكام النظام والقانون، وتدهور التعليم، وضعف القوة العسكرية. ويؤذن ذلك بنهايات الدول وتعرضها إلى الانهيار، وسلب إرادتها وخيراتها وأراضيها من الدول المهيمنة. فلذلك نفتي بحرمة سياسة شراء الذمم بالمال لكسب الولاء للولاة، وأقل علة وأقربها كونه رشوة وملعوناً آخذها ومعطيها بالنص. فضلا عن ترتب المفاسد الجمة العامة واستنزاف المال العام في غير مقاصد الشرع، وتعصيب

9 - سياسة التسويق الخاطئ للشعب

وتشييع الشعب إلى كتل قائمة على الولاء لأفراد، وهذه جاهلية وعصبية منهي عنها في نصوص كثيرة، «من يدعو لعصبة أو ينصر عصبة جاهلية فهو من جثى جهنم» (¬1). 9 - سياسة التسويق الخاطئ للشعب: ولا يجوز للولاة التعريف بشعبهم أو جزء منه بما يسيء إليهم داخليا، أو خارجيا، وينعكس ذلك على معاملة الدول والشعوب الأخرى لهم. وهذا التسويق السيئ للشعب هو من الانتهاك لحفظ الأعراض المقصود حفظها في الشرع كأحد المقاصد الستة الكبرى. فإذا حرم على شخص أن يقول عن شخص آخر ذلك؛ فقول ذلك عن الجماعة أشد حرمة؛ لأن الحفاظ على الكرامة وعدم الامتهان والإذلال، وصيانة سمعة الفرد والجماعة من الواجبات الشرعية؛ لأدائها إلى صيانة الأعراض وحفظ المكارم والتكريم للإنسان فردا ومجتمعا. وقد حرم شرعا الهجاء بالشعر لقبيلة برمتها، وهو من المحرمات الكبيرة؛ لتأثيره عليهم وعلى التعامل معهم، ولأن نسبة خلق أو قول أو فعل إلى فرد هجاءً محرم في الأصل؛ لأن أعراض الخلق محفوظة «إن أعراضكم عليكم حرام» وهو في الصحيحين وقد تقدم. فيحرم على الحاكم أن يعرض بشعبه داخليا، أو خارجيا، رسميا أو غير رسمي بما يسيء له كهمجي، أو متخلف، أو غير كفء، أو إرهابي، أو قطاع طرق، أو رجعيين، أو كهنوت، أو أنه لا يفيد معهم إلا القوة والاستبداد، ونحو ذلك من الألفاظ السيئة. ¬

(¬1) - قولنا «في نصوص كثيرة» منها ما أخرجه مسلم برقم 4892 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه». وأما حديث «جثى جهنم» فهو حديث طويل من حديث الحارث الأشعري أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده برقم 1571، وفيه (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله: فمن فارق الجماعة قيد شبر خلع الإسلام من رأسه إلا أن يرجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم قيل: وإن صام وصلى؟ قال: وإن صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) وسند أبي يعلى صحيح، وصححه ابن خزيمة، وحسنه البغوي في شرح السنة (10/ 51).

وفرض كفائي على الشعب إن سمع من حاكمه أو أحد ولاته ذلك مقاضاته؛ لأنه دفع لمنكر عام، وحفظ لأعراض الخلق، وتأديب للحاكم من التمادي في ذلك؛ لأن تركه يوصله إلى درجة هابطة من الاستخفاف بشعبه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54). ولو أن خليفة راشدا من الخلفاء الأربعة سب شعبه بذلك وذمه بمثل هذه الألفاظ لمنعه الصحابة من ذلك لحرمة السب الفردي؛ والجماعي أشد. وقد جاء عن عمر «إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم» (¬1). وفي النص (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) (الحجرات: 11). وقال تعالى (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) (الحجرات: 11). وقال سبحانه (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) (الحجرات: 11). فحرم اللمز والسخرية والتنابز بأنواعه. وإذا سكت الشعب على سفه وشتم حكامه له استذلهم، واستخف بهم شأنه شأن تعامل الأفراد في ذلك عادة، وهو من البغي والعدوان، وهو محرم، وفرضٌ دفعه (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39). فواجب على الشعب الانتصار من هذا البغي (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194). وهذه عمومات نصوص أصول. وشرار الولاة من يلعن الشعب ويشتمه؛ للنص في الحديث «شرار أئمتكم الذين تلعنونهم ¬

(¬1) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم 7009 عن عمر رضي الله عنه كان إذا بعث عمالا اشترط عليهم: «ألا تركبوا برذونا، ولا تأكلوا نقيا، ولا تلبسوا رقيقا، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، فإن فعلتم شيئا من ذلك فقد حلت بكم العقوبة، ثم يشيعهم»، فإذا أراد أن يرجع قال «إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا فيهم الصلاة، وتقسموا فيهم فيئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإن أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي، ألا ولا تضربوا العرب فتذلوها، ولا تحمدوها فتفتنوها». وسنده صحيح.

10 - الإدارة بسياسة العصابة

ويلعنونكم وخيرهم الذين تصلون عليهم ويصلون عليكم» (¬1). فجعلهم النص أشد شرار الولاة، وعدم وصف الشعب بالشرية مع ذكره أنهم يلعنون ولاتهم دليل على جواز لعن الوالي المعين إن لعن الشعب. وليس المسلم بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء كما في النصوص. وهذا استثناء يدل له (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40). وإذا اعتاد مجتمع على سماع ذلك من حكامه، ظهر بينهم ذلك، فساءت الأخلاق، وانطلقت الألسن بالسوء، وخربت الذمم؛ وصلاح العمل بصلاح القول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70 - 71). وإذا ساءت سمعة الشعب بين الدول الأخرى بسبب هذا التسويق التعريفي الآثم بالشعب من حاكمه، حذرت الدول رعاياها من ذلك الشعب، فيساء معاملة الفرد من هذا الشعب خارجيا، ولا يكرم كغيره، ويقل التعاون الدولي معه اقتصاديا وعلميا. وتقل الاستثمارات الخارجية في البلد، ويقل إيفاد الخبرات إليه في التعليم والطب والتكنولوجيا، أو السماح ببعثات من ذلك الشعب إلى الخارج إلا بمحدودية جدا؛ فيظهر في الشعب ألوان الجهل والتخلف والفقر والبطالة والكساد. بل قد يؤدي إلى عدم منح تأشيرة إذن بالسفر لأفراد هذا الشعب إلى كثير من بلدان العالم كما هو حاصل في بعض الدول العربية اليوم، فيحاصر الشعب داخليا بظلم الحاكم، وخارجيا بعدم سماح الدول لهم من دخول أراضيها. 10 - الإدارة بسياسة العصابة: ويحرم على حاكم إدارة البلاد بسياسة العصابة؛ لأنها سياسة مبناها على العصبية ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4910 من حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة».

والتعصب لفئة من دون الشعب، وهي سياسة ودعوة حذر منها الشرع وجعلها في صنف الدعوات الجاهلية، فمن «يدعو لعصبة وينصر عصبة فهو من جثى جهنم» (¬1). فحرم الشرع مجرد الدعوة إلى العصبة فضلا عن اتخاذها سياسة يعامل بها الحكام الشعب. وسبيلها مليء بالمفاسد، والأهواء، والشهوات، والمطامع. وتبدأ بسعي الحاكم لتعيين من يطيعه طاعة مطلقة في الباطل والشر والأهواء فضلا عن أضدادها. ولا بد -عادة- مقابل الطاعة المطلقة أن يلتزم الحاكم بحمايتهم في مناصبهم، وحمايتهم عن المساءلة والمقاضاة، ودعمهم بما يديرون به ذلك، ومن هنا تبدأ المفاسد والمظالم والشرور. وهذا كله من المحرمات الواضحة؛ لأنها تعاون على الإثم والعدوان المحرم بالنص (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). ويستغل الحاكم سلطاته التي منحها له الشعب في غير مقصود العقد له، فيخرج بذلك عن الالتزام بالعقد الدستوري والنظام والقانون، وذلك لتقوية نفسه ودعم أفراد عصابته ونفوذهم، فيصدر بحكم سلطاته التوجيهات الخادمة للعصابة إلى أي مؤسسة للدولة، أمنية أو عسكرية أو قضائية أو مالية أو خدمية. وإذا عُرْقِلَ التوجيه في إحدى مؤسسات الدولة نظرا لمخالفته النظام والقانون: فإن كانت الدولة قوية وسيادة القانون نافذة وتوقف أمره لذلك سعى حالا أو مآلا فسادا في الأرض بالكيد والتآمر على تلك الجهة، فيعزل أو يوقف أو يضعف الأكفاء والعدول الوطنيين ويستبدلهم بمن ليس كذلك. ويظهر حينئذ الفساد الوظيفي، والإداري، والمالي لقلة الأمناء والكفاءات. وتمرر الصفقات المجحفة بالمال العام والاقتصاد الوطني، والمشاريع الوهمية، والنثريات التي تصل إلى حد العبث والسفه والتبذير بالثروة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وإذا كان القضاء قويا مستقلا ففرض عليه شرعا أن يستدعي الحاكم ويسائله. ولما كان لا بد للعصابة الحاكمة أن تستدعى قضائيا؛ فإنها تسعى لاجتثاث القضاة الحاكمين بالحق والعدل، بالتقاعد، أو التغيير، أو الترقيات إلى مناصب غير فاعلة، وفي أحسن الأحوال قد يبقى القضاء على قوته لكن على غير النافذين. وهذا الأمر من معايير صلاح أو هلاك وفساد الأمم «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» (¬1). ويمارس النظام الفاسد العصابي ضم مجموعة من القضاة إلى دائرته، وإسكات أخرى والتنكيل بضعفاء عبرة للغير. ويتعمد اعتماد رواتب للقضاة غير كافية لهم ضمن سياسة عامة للامتهان والإذلال، بمحاربة الأرزاق. ويتعمد الحاكم ونظام العصابة في تنفيذ الأحكام القضائية إظهار إضعافها بعدم حماية الجهات التنفيذية لتنفيذ الحكم كثيرا خاصة على النافذين والموالين، ومن يود شراء ولائهم. وأول ما يستهدف من الدولة في ظل سياسة العصابة المؤسسة الأمنية والعسكرية، والمالية، والإعلامية، فالأولى لضمان حمايته وقمع صوتٍ من الشعب يقف أمام فساده. ثم المال لشراء الولاء وخدمة النفوذ، والإعلام لقلب الحقيقة وتحسين صورته للشعب. ثم يستهدف المؤسسات القانونية كنواب الشعب، ثم السلطة القضائية. ثم يضرب الحياة الاجتماعية فيُشَيِّع ويفرق الشعب على أساس مناطقي وطائفي وقبلي. ويضرب الحياة السياسية بقمع الحريات الصحفية والإعلامية لحماية النظام بحجة فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26). ويتعامل الحاكم مع القيادات النافذة في العصابة بما لا يقويهم مطلقا فينفردون عنه، بل تظل مصالحهم، ومن هو مرتبط بهم أسريا، أو اجتماعيا، أو اقتصاديا، أو سياسيا في يده. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

11 - سياسة إيجاد الند والضد

وقد يوقعهم في قضايا إجرامية خطيرة مالية، أو أخلاقية، أو دموية، أو سيادية وطنية كالتخابر، والتعاون مع العدو. ويوثق ذلك ويحتفظ به كملف للضغط والتهديد به عند الحاجة إليه بسياسة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) (الشعراء: 19). ويُمْكن للنظام الفاسد أمام الشعب من إحداث تغييرات شكلية أو غير هامة في الوزارات والقيادات بما لا يشمل أركان عصابته النافذة، فيجعلهم في أماكن هامة يديرون الفساد والظلم ويتحكمون حتى في تعيين الوزراء، والقيادات، والمحافظين، والمدراء وغيرهم (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 9). وتبقى قيادات هذه العصابة في أهم الأماكن قابضين على المال والثروة، وعلى المؤسسة الأمنية والعسكرية، والمؤسسة الإعلامية، والتعليمية، والقضائية، والتشريعية. ويكونون وراء المظالم، والأزمات، والفساد في الأرض، والعبث بالثروات، واللعب بالدستور والقانون، وشراء الذمم الفاسدة، وإشعال الفتنة بين الشعب، والتخلص من القوى ببعضها. ويتهاوى الاقتصاد، والأمن، والعدل، وتفشو البطالة والفقر. ولا بد -حينئذ- أن تتحول المظالم إلى فساد في الأرض، والفساد إلى أزمات، والأزمات إلى ثورة للمظلومين تطيح بالفساد والعصابة الحاكمة بالفساد كسنة إلهية لا تتغير. 11 - سياسة إيجاد الند والضد: والواجب الشرعي على الولاة جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وإخماد الفتن بين الشعب. هذا هو الأصل الشرعي الكثيرةُ أدلته من الكتاب والسنة. ويحرم قطعيا إيجاد العداء والبغضاء، وتغذيته، ولا يصنع ذلك إلا الشيطان وأولياؤه من المنافقين والكفار (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (التوبة: 47). ومن الجرائم الكبرى أن يتخذها الإمام والولاة سياسة بين الشعب، فيضرب الأنداد بقوة بعضهم، قوة قبليَّة، أو اجتماعية، أو دينية، أو اقتصادية.

12 - الارتهان للخارج أو قوى في الداخل

وقد يمد الطرفين في آن واحد. وهذا محرم قطعي معلوم من الدين بالضرورة، وقد ذكره الله عن أهل النفاق (ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (التوبة: 47). وقال سبحانه عن المنافقين (كُلَّ مَا رُدُّوَا إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُوا فِيِهَا) (النساء: 91)، أي فهم مع هؤلاء ضد هؤلاء، والعكس. فتحرم سياسة تغذية الأنداد لإيجاد الصراع في أي شكل من أشكالها ولو كان مسجدا بجانب مسجد فتنة بينهم، كمسجد ضرار (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107). وتبطل ولاية من أذكى الصراع والفتنة بين الشعب ولو كان الإمام الأكبر؛ لأنه نقض شرط عقد الولاية القائم على جمع الكلمة ورعاية المصالح، ولم يف بالعقد ولا بالشرط (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). والعقود إذا خولفت وترتب على ذلك الضرر الفاحش، وجب رفع الضرر والانتهاء عن المخالفة، فإن أصر بطل العقد؛ لأنه صار سبيلا إلى الضرر الفاحش. وهكذا عقد الولاية إذا صار سبيلا إلى المفاسد الكبرى كالفتنة بين الشعب، وإذكاء الصراع وتغذيته من الولاة، فولايتهم باطلة، ولا شرعية له بعقد الولاية؛ لأنه استعمل للمفاسد والضرر العام، فأصبح لزومه والالتزام به ضرراً ومفسدة فيبطل. 12 - الارتهان للخارج أو قوى في الداخل: ارتهان الدولة وعدم استقلالها في قراراتها ولا سياساتها هو انتقاص من سيادتها واستقلالها كدولة. وهذا ناتج عن: ضعف حكامها، أو فسادهم، أو عمالة وخيانة سيادية، أو فتنة واضطراب داخلي، أو احتلال، أو نزاع دولي. ولا بد قبل ذلك من بيان ما يترتب على ارتهان الدولة من أمور هامة وخطيرة مؤثرة على الدولة ومواطنيها وثرواتها وأراضيها.

فيُتدخَّل بها في تعيين حكام الدولة رؤساء ووزراء بما يضمن استمرار مصالح قوى ودول أخرى، ولا ينظر إلى مصلحة الشعب والدولة، وهذا من أبطل الأمور في الشرع وضوحا؛ لأن عقد الولاية مشروطٌ برعاية المصلحة العامة للشعب، والارتهان على العقد يعود على المصلحة العامة بالبطلان، فهو باطل محرم. ولا يقال إن عودته بالبطلان على المصلحة العامة، إنما يكون إذا كان ذلك الارتهان مؤثرا في كامل مصالح الشعب بالضرر، أما جزئيا فلا. فالجواب أنه لا ارتهان إلا في مؤثر على السيادة العليا للدولة، وخصلة واحدة من ذلك كافية في التحريم. ومن مفاسده كذلك أنه قد تعقد صفقات وعقود ضارة بالدولة والشعب يتوصل بها إلى العبث بالثروة، أو تجميد الاستفادة منها، كتعطيل موانئ استراتيجية، أو مطارات ومعابر ومضايق هامة، أو الحيلولة دون استخراج ثرواتها النفطية أو الغازية أو المعدنية من الذهب وغيره بشكل كامل أو نسبة غالبة أو عالية. ويمكن عند الارتهان أن يُغَذَّى ويُقَوَّى الصراع بأنواعه: الطائفي، والقبلي، والمناطقي، والديني، والسياسي؛ نظراً لقدرة تلك الدول على التواصل مع القوى ولو بمعلوم دولتهم، مما يتيح وضعا غير مستقر ولا آمن ولا قانوني مرشحاً للانهيار والدخول في حروب وتشظي الدولة ووطنها. لذلك فالأصل الشرعي والسياسي الوطني: المنع بصرامة عما يؤدي إلى تدخل القوى والدول في شئون الدولة. ويحرم على القوى في الداخل أن تقوي النفوذ الخارجي في البلد؛ لانعكاس ذلك بالضرر، وأدائه إلى ضعف دولتهم وسيادتهم، وتأهيل الوضع حينئذ إلى ظهور الفساد والمشاكل والقلاقل والفتن. فإن أخذت على ذلك أموالاً ومصالح جهاتٌ في الداخل من القوى الخارجية على توسيع نفوذها وخدمة مصالحها، فهو مال محرم وسحت؛ لأنه أجرة فاسدة على ما يؤدي إلى الفساد في الأرض.

وهي غير الأموال والمصالح والمساعدات التي تقدمها الدول والمنظمات علنا عبر مؤسسات وجهات لخدمة مصالح إنسانية محضة، فهذه لا مانع منها، ولا تدخل في المنع. بخلاف ما سبق من بذل أموال لقوى طائفية، أو قبلية، أو مناطقية، أو سياسية، أو دينية لتغذية النفوذ الخارجي، وإيجاد وكلاء في الداخل ينفذون بالوكالة سياسة الخارج التي تريدها في البلد. فهذه محرمة في الشرع، وعقد باطل، وهي سحت ورشوة، وأجرة على الفساد، وهذا محرم. ومن أكبر مفاسدها تدخل القوى الخارجية في وضع المناهج التعليمية على ما تريد من السياسة؛ لضمان عدم قيام جيل متنور يحمي سيادة البلاد واستقلالها. ولا يطيعها ويمكنها من التدخل في وضع المناهج الدراسية التي تخدم سياساتها الباطلة إلا فاسق، أو جاهل لا يصلح أن يكون في هذا الموضع الذي من خلاله مكن من وسائل الفساد في المناهج التعليمية، فأثر في أنواع من المفاسد على جيل وأمة. ولا يعذر بالجهل لأن عادة هذا المنصب هو الدراية بما يترتب عليه، فدعواه الجهل كذب فارغ غير مقبول أمام القضاء. ومن أكبر مفاسد الارتهان للخارج: أن الوطن يصبح ميدانا بالوكالة لصراعات الدول والقوى، وتصفية حساباتها، وما يترتب على ذلك من الفساد في الأرض لا يخفى. ونظرا لهذه المفاسد العظيمة والأضرار الفاحشة، فإن ارتهان الدولة لغيرها خارجيا أو داخليا من السياسات المحرمة شرعا، وممنوعة في كل القوانين والدساتير المنبثقة عن الشريعة. ولذلك قال الله سبحانه عن الاستخلاف للأمة المؤمنة إنه استخلاف تمكين بالغ إلى حد الأمن والاستقرار ماليا، واقتصاديا، وسياسيا كما يدل عليه إطلاق (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55)، أي أمنا واستقرارا في كل مجال سياسي أو اقتصادي أو عسكري أو غيره (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).

وقال في سياق الامتنان (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 - 6). فلا بد مع جعلهم أئمة من التمكين في الأرض، ولا بد مع ذلك من إرث تام للثروات والموارد لتكون بيد الأمة، وهو ما ذكره الله في آية أخرى من مفردات لبعض ذلك (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 57 - 59). فهذه الثروات ملك للأمة يديرها الذين مكنهم الله، وهذه الأمور هي مفردات الإنقاذ في الحكم الرشيد، وإنما أفرد الله الإرث، والتمكين، والإمامة كلا على حدة؛ لأنه قد تحصل الإمامة والولاية من غير تمكين، ولا بسط للنفوذ على الإرث المالي والثروة والموارد، وقد تحصل الولاية والتمكين، ولا تتوفر الثروة والإمكانات، إما أنها غير موجودة أصلا، أو لعدم التمكن من إدارتها، نظرا لظروف دولته، ونحو ذلك. وزادت الآية السابقة معنى آخر، وهو الأمن والاستقرار في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والغذائية وغيرها (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55). فهذه الأربعة الأمور هي أركان تمام الاستخلاف الرباني في الأرض الذي جعله الله مِنَّةً، والتمكين بالنسبة للدولة المسلمة تمكين منهج العدالة، والرحمة، والحرية، والمساواة، والسلم، والقوة المتمثل في دين الإسلام (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). والحاصل أن ارتهان الدولة لغيرها مناقض لأمر التمكين في الأرض، ومناقض لمقصد الأمن والاستقرار العام دينا ودنيا، فحرم. وفرض على الشعب حينئذ أن ينظر في أسباب هذه التبعية والارتهان ويزيلها. فإن كان لضعف الحاكم قَوَّاه؛ فإن كان ضعفه عجزا ذاتياً عزَلَه بلا خلاف بين الفقهاء في اشتراط القدرة وعدم العجز. فإن كان لفساد الحكام؛ ففرض إزالة هذا الفساد، ومقاضاة الظالم وهو الحاكم، ونصرة المظلوم وهو الشعب، فإن تعذر إلا بعزل الحاكم وجب ذلك من الشعب والجماعة عند القدرة وغلبة المصالح الحالية والمآلية.

13 - جعل الوظيفة والحقوق تبعا لورقة المناطقية والفئوية

ولا يعد خروجا؛ لأنه إنما حرم حيث كان خروجا على الجماعة كما تفيده علة النصوص في الحديث «من فارق الجماعة»، أما إن خرج الشعب كله، أو أكثره، فقد خرجت الجماعة على فرد ظالم مفسد وهي مسألة أخرى. وجاز لهم، وقد يجب التظاهر السلمي، والاعتصامات السلمية العامة والخاصة في كافة المؤسسات حتى إسقاط ذلك النظام الفاسد وعزله ومقاضاته. فإن كان لعمالة أو خيانة فهو كذلك؛ أو كان سبب الارتهان احتلال عدو للبلاد، فالواجب الجهاد والمقاومة لدفعه وإخراجه بلا خلاف بين علماء الإسلام، بل أجازت تلك المقاومة المواثيق الدولية. وإن كان لحروب وفتن داخلية، ففرض السعي للمصالحة حتى إخمادها كما أمر الله (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9). فإن كان لنزاع دولي فينظر ذلك، ويعطى لكل واقعة حكم وحل. 13 - جعل الوظيفة والحقوق تبعا لورقة المناطقية والفئوية: الوظيفة العامة هي عمل عام للمسلمين بأجر من المال العام، ولا بد أن تكون جارية على ما تكون فيه المنفعة للشعب ظاهرة، فإن لم تكن منفعة فهي عبث يمنعه الشرع. ويتعلق بها نوعان من المنافع قصدهما الشرع: الأولى: وهي الأصل، كون منفعة الوظيفة لخدمة المصلحة العامة؛ لذلك شرط فيها الكفاءة والقوة والأمانة؛ لأنها تحقق مقصود الشرع من خدمة الولاة والموظفين للناس. الثانية: وهي منفعة الشخص لنفسه لكفايته ومن يعول، وثَمَّ ترتيبات أخرى بحسب نوع كل وظيفة. وقد منع الشرع تولية الضعيف «إنك ضعيف وإنها أمانة» (¬1)، فعلم اشتراط القوة، وهي من الكفاءة في تحمل ذلك. ومنع من تولية من أظهر حرصا على الولاية وظهر من حاله تقديم مصالحه على المصالح العامة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

14 - إذكاء الصراع الديني

ولا مانع من اشتراط الجهة شروطا تدخل في الكفاءة من مؤهلات وخبرات وشهادات وتزكيات لأمانته. ولا يوجد في الترتيب الشرعي للوظيفة العامة ما يمنع الولاية عن فئة أو منطقة أو جهة، فالحاكم إن مارس ذلك فقد خالف الشرع، وخالف عقد الشعب، وحمل دعوة من الجاهلية. وعلى مؤسسات الدولة -ولا بد- منعه من ذلك، فإن عجزت فالشعب يأطره على الحق ويأمره وينهاه. ويُقَاضَى حاكم مارسَ المناطقية في الوظيفة وغيرها؛ لأن ذلك ليس من المصلحة العامة للشعب، بل هو تفريق وتشييع له؛ فتقوى طائفة وتستضعف طوائف، وهي نوع من السياسة التي ذمها الله على فرعون (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4). ويحق عزله دفعا لمفاسده، ويجب إن غلبت المفاسد والفساد في الأرض، وأعلاه ما يؤدي إلى تفتيت الشعب وتمزيقه وتقوية بعضه واستضعاف بعض بمناطقية أو فئوية أو غيرهما. والله يأمر بالعدل والإحسان. وتوزيع الدرجات الوظيفية على غير معيار الكفاءة والاستحقاق بمناطقية ونحوها خروج عن العدل والإحسان إلى الجور والإساءة. 14 - إذكاء الصراع الديني: وهو ما يطلق عليه بـ «اللعب بالورقة الدينية» كمصطلح شائع يدل على انتهاج السلطة سياسة إذكاء الصراع الديني. والله سبحانه يقول (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39) ويقول (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) (البقرة: 193). ويستدل بالآيتين على وجوب ألا يخرج التعامل الديني عن قاعدة إخلاصه لله وحده، فإذا صحح هذا الأصل، وعمل به حال التعاطي الديني مع الأمور والقضايا، زال التعصب وزال تحييز الدين وتأويل نصوصه وأدلته لصالح طرف على آخر.

15 - خصخصة المؤسسة الأمنية والعسكرية لحماية الحاكم لا الشعب

والأصل الشرعي أن لا يستدل بنصوصه إلا لله وما يرضيه، لا تعصبا وتحزبا لمذهب، أو فرقة، أو طائفة، فهذا منهي عنه بعموم (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13)، أي أقيموه لله ولا تحرفوه لجهة، رغبة أو رهبة أو عصبة. وقال سبحانه وتعالى (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105). فيحرم قطعيا إذكاء الصراع الديني بين الطوائف والمذاهب وإشعال الفتن بتشجيعٍ أو إمدادٍ أو معاونةٍ؛ ولأنه بغي وعدوان وفتنة، فحرم (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). وفِعلُ السلطة ذلك أو الحاكم أو معاونيه يوجب على الشعب ردعهم ونهيهم ومحاسبتهم على ذلك. فإن لم يحصل الردع إلا بالمقاضاة وجب ذلك، وإن لم فكل وسيلة لإزالة ومنع هذا المنكر والفساد والبغي من الوسائل السلمية (¬1). وآخر ذلك لزوم عزله بشروطه المعتبرة؛ لنقضه قانون الولاية؛ ولأنه وسيلة للفساد وإزالة الفساد ووسائله واجبة. وولايته في الأصل باطلة؛ لمخالفته مقصود الشرع والعقد وشرط الولاية، وهو جمع الكلمة وتوحيد الناس وإقامة ما يصلح ودرء الفتن؛ فإذا كان هو من يفعل ذلك فولايته وتصرفاته باطلة، وبقاؤه غير مشروع. وواجبٌ منعه وردعه بوسائل تحقق ذلك: قانونية أو رسمية أو قضائية أو شعبية، وآخرها قيام الشعب بعزله بما لديه من الوسائل القضائية والسلمية. وهذه مسألة أخرى خاضعة لشروط غير مسألة بطلان ولاية ذلك الوالي حتى لا يخلط بينهما. 15 - خصخصة المؤسسة الأمنية والعسكرية لحماية الحاكم لا الشعب: والمؤسسة العسكرية والأمنية إنما وجدت لحماية أمن الشعب والدفاع عنه وحفظ الوطن من أي اعتداء. ¬

(¬1) - بسطنا القول في كتابنا هذا في آليات التغيير السلمي.

وإيجاد وإعداد المؤسسة الأمنية والعسكرية فرض عين على الدولة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). ويجب على الولاة عموما وعلى رأس الدولة خصوصا تسخير عمل المؤسسة العسكرية والأمنية لما وضع له من حماية الشعب والوطن؛ لأن الوظيفة في هذه المؤسسة هي إجارة من مال الشعب لعمل معين هو حماية الشعب والوطن بأجرة معينة منصوص عليها وعلى نوع العمل العسكري والأمني ومهماته. وفي حال انحراف النظام وولاته -خاصة رئيس الدولة- عن واجباتهم في خدمة مصالح الشعب؛ تكون محاولة السيطرة على المؤسسة الأمنية والعسكرية في رأس أهداف الحاكم المستبد، بدءاً بإجراءات تدريجية لتعيين خاصته ممن يرضى، فتنحرف مهمة الجيش والأمن إلى: خدمة أمن الفرد الحاكم وأعوانه، واستعماله في قمع الشعب وثوراته لاستعادة مؤسساته إلى وضعها المتعاقد عليه دستوريا وقانونيا. وقد يشكل الحاكم ولا بد إن استطاع قوات خاصة به تضاهي القوات المسلحة، وتفوقها مآلا في قدراتها وإمكاناتها، ويديرها مباشرة، ويضعف -حينئذ- القوات العسكرية العامة الوطنية. وقد يدخلها في تصفية صراعات داخلية، وحروب تقضي على قدراتها وقواتها وقاداتها الأكفاء والوطنيين من الذين يمكن أن يكونوا حائلا دون شهواته ونزواته وتصرفاته المستبدة في خصخصة المؤسسة العسكرية. وتظهر جراء ذلك مفاسد ومظالم في القوات المسلحة والأمن، وتحتكر الكليات العسكرية والترقيات والأعمال والمناصب الهامة لطائفة أو مناطق موالية للنظام. وقد يعين في تلك الدوائر أشخاصا يتحكمون في هذه الأمور ويعيثون في الأرض فسادا، ويحمون الموالين لهم من المفسدين في ظلمهم ونهبهم للمال العام، أو اعتدائهم على أموال وأعراض ودماء الناس، فيحرمون كل معارض أو مخالف من الشعب للنظام الفاسد من حقه في الوظيفة أو الترقية أو المنح، وكم يعتدى على أراضٍ وعقارات وتجارات وأشخاص

16 - السياسة بالكذب

معارضين لذلك، ويسكتون صوت الصحافة والإعلام الحر، ويزورون إرادة الشعب في الانتخابات: رئاسية أو برلمانية أو محلية أو طلابية أو عمالية أو نقابية. وهذه المفاسد والكثير غيرها ناتج عن سيطرة حاكم مفسد، ونظام منحرف مستبد على المؤسسة الأمنية والعسكرية والقبض على مفاصلها الهامة وقيادتها تحت سلطانه وأمره ونهيه، وهذه التصرفات والسياسات تعتبر من الجرائم في الشرع، وتصل في نهاياتها إلى حد الإفساد في الأرض، ووجب على الشعب منع الوصول إلى هذه المفسدة الكبرى، وواجبٌ التعاون بين أفراد الجيش والأمن ضباطا وأفرادا للتصدي لمحاولات الانحراف بالقوات المسلحة والأمن عن مهمتها الوطنية. وواجبٌ على مجلس البرلمان وكل قيادات الوطن إيجاد كل الوسائل المانعة لذلك الإجرام؛ لأنه من دفع الفساد في الأرض، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الحاكم الظالم إذا وفر لنفسه القوة الحامية لسلطان شخصه وقبض على المال، فقد تمكن من فساده وظلمه. وقد جعل الله ثالث أدوات الإجرام والفساد في الأرض لفرعون وهامان «جنودهما» (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8). وعلة إضافة الجنود إلى ركن الفساد ومساعده؛ لأن غاية هذه القوات حمايتهما لا للشعب ومصالحه. 16 - السياسة بالكذب: وفي النص عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .. »، وذكر منهم «إمام كذاب». أخرجه مسلم وتقدم. وعلة هذا التغليظ لما يترتب على خطاب الحاكم من أمور عامة وخاصة متعلقة بمصالح الشعب؛ ولأن الشعب يصغي عادة للخطاب السياسي من حكامه؛ لتعلقه بأوضاعه كمعالجة لمعيشة، وفض لأزمة، وبناء لأمن واقتصاد، ويعلقون الآمال على خطابه ووعوده، فمن محلل، ومن معلل، ومن مبشر، ومن مستبشر.

فإن كانت الخطابات ووعودها كذبا، كان تغريرا على الشعب وغشا، وكانت تخديرا له، وقلبا للحقائق عليه بما يمكن للحاكم الفاسد من خلال هذه السياسة تحسين صورة النظام وإيجاد موافقين وأنصار وجماهير غفيرة من الشعب يقفون أمام من يوضح لهم الحقائق على وجهها ويصطدمون ببعضهم. ويحصل بالكذب الرسمي نقض العهود والمواثيق والوعود وإيجاد المشاريع والخطط الوهمية لاستنزاف المال العام، وهذا كله من الغش للرعية، وفي النص «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (¬1). وواجب على أهل الحل والعقد محاسبة الحاكم على كذبه على الشعب وتضليل الرأي العام وتزييفه الحقائق. وقد ذمهم الله أبلغ ذمٍ وسماهم المفسدين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة: 204 - 206). وللشعب مقاضاته على ذلك ليرى فيه القضاء حكم الشرع، من تعزيرٍ أو إيقاف أو عزل بما يناسب الحدث والوقائع، وما ترتب على كذبه من مضار ومفاسد. وإذا تبين كذب الحاكم حرم تصديقه وإعانته، ويفسق من فعل ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم «فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض» (¬2). وواجبٌ على الصحافة والإعلام بيان الحق المتعلق بكذب الحاكم؛ لأنه من النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمنع من ذلك دليل، بل الأدلة على عمومها في ذلك. ويجوز الجهر بذلك لقوله تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء: 148). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 380 من حديث معقل بن يسار. (¬2) - تقدم تخريجه.

سياسات خاطئة ناتجة عن السياسات السابقة

وعلى العلماء والخطباء بيان ذلك وجوباً، وكذا واجبٌ على أعضاء البرلمان استدعاء الرئيس، أو الوزراء لمساءلتهم حول إيهام الشعب بالكذب والتضليل. والكذب من الكبائر، وإذا كان من حاكم فهو أكبر؛ للنصوص في ذلك، وإذا ترتب عليه فساد في الأرض ضمن بقدر ذلك وحوسب وقوضي. سياسات خاطئة ناتجة عن السياسات السابقة: 1 - تجميد إمكانات البلاد الكامنة، وإهدار إمكاناتها المُرْصَدة المحددة للمصلحة العامة. 2 - التخريب التعليمي تأهيلا، ومنهجا، وإدارة، وتحصيلا، وبيع وشراء المؤهلات وغض الطرف أو التواطؤ أو السكوت عن الغش والتزوير. 3 - وجود البيئة الطاردة للاستثمار باستحواذ طاقم الفساد عليها، أو مشاطرة المستثمرين، وعدم محاسبة المفسدين، واللعب بأمن واستقرار البلاد، وتخريب القضاء، والمتاجرة بالعملة الوطنية بما يجهضها. 4 - السير بالبلاد بعشوائية وانتهاج سياسة رد الفعل لا المبادرة والتخطيط والمتابعة والتقييم. 5 - رفع الدعم عن ضروريات وأساسيات المطلوبات المعيشية مع عدم توازن بتجفيف الإسراف الرسمي، مما يؤدي إلى الغلاء والفقر والبطالة وتدهور العملة وظهور الطبقية المالية والعصابية. 6 - الاعتماد على المعونات والمساعدات من الآخر، وعدم الالتفات إلى إمكانات البلاد. 7 - ترك القضايا والمشاكل -خاصة الكبرى والوطنية- عالقةً بلا حل فضلا عن الإذكاء، والتغذية، والتمديد. 8 - سياسة التفريغ لأهم مؤسسات الدولة عن مقصود قيامها وواجباتها كالقضاء، والأمن، والإعلام، والمالية، والدفاع، والمحلية، والتربية، بما يؤدي إلى طوفان من التخلف، والفساد، والتخريب، والفقر، والبطالة في البلاد. وهذه مفاسد من أكبر المفاسد الواجب دفعها. 9 - سياسة الحكم بالإرهاب الأمني، والبوليسي، وأجهزته المختلفة.

10 - سياسة التجويع، والإفقار للشعب. 11 - الهيمنة على مفاصل المال، والمؤسسة العسكرية، والأمنية، والإعلامية، والقضائية، والبرلمانية، والمحلية، وسائر المفاصل القيادية الحاكمة في مؤسسات ووزارات ومحافظات وإدارات الدولة؛ بحيث تغدو في يد أسرة أو طائفة أو حزب أو قبيلة أو مذهب أو نسب أو سلالة، وهذا أمر ممنوع شرعا؛ لمخالفته مقصود الولاية العامة من رعاية مصالح الشعب والأمة ككل؛ فبطل ذلك وحرم، ولأن هذا خلاف العدل والإحسان المأمور به، ولأن تصرفات الولاة منوطة بالمصلحة العامة وليس هذا منها، ولغلبة أدائه إلى المفاسد؛ فحرم.

السياسات الراشدة للدولة

السياسات الراشدة للدولة 1 - سياسة حفظ الضرورات الست الكبرى والحاجيات والترفيهيات: أما الضروريات الست فهي: حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال وحفظ الجماعة العامة. ويجب اتخاذ كافة الوسائل لحفظها، وهو واجب على الدولة، وعلى رأسها الحاكم رئيسا أو ملكا أو أميرا. فحفظ الدين بإقامة شعائره وتعليمه ونشره والدفاع عنه، وإقامة الأصول الكبرى، وهي أركان الإسلام والإيمان، وإزالة الكبائر ومظاهر الفساد والفواحش وبناء المؤسسات الدينية الجامعة التي تجمع الأمة وكلمتها. وتقيم الوسطية والاعتدال، وتدفع الغلو في الدين والتفرق فيه؛ لأن النصوص في تحريم ذلك قطعية. وفرضٌ العناية بالمساجد وإقامة الصلوات ودروس العلم الشرعي والعلماء وحفاظ القرآن والسنة وفقهائها. وحفظ اللغة العربية واجبٌ شرعي؛ لأنه وسيلة لحفظ الدين ومعرفته؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، ويجب رد الشبهات وردع المضللين والمفرقين للأمة في الدين، ومنع العدوان على الله ورسوله أو على سنته، وعلى رأسها الصحيحان، أو على الصحابة وآل البيت. بل يجب نشر محبتهم والاستغفار لهم والاعتذار والترضي والسكوت عما جرى بينهم؛ لأنها تدفع مفاسد الفتنة الطائفية. ومنع الردة واجب، ولا يقبل دين مرتد (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85). فدل على عدم القبول في الدنيا لا رسميا ولا شعبا ولا مجتمعيا؛ لأنه ذكر الجزاء في الآخرة في نفس النص (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، ووجب منع فتنة بقتال مرتد (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39).

وسياسة حفظ النفس واجبة باتخاذ تدابير الأمن والاستقرار، وإقامة العدل والقضاء الراشد، والمساواة في الحقوق بالواجبات ومنع قطع الطرقات، ومحاربة الثارات، وإقامة القصاص والعدل. ويجب الصلح بين القبائل والدول والجماعات والفئات المتقاتلة لعموم (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9). ويشرع إقامة الكليات والمعاهد للبحث العلمي في الطب في كافة أنواعه، وتوزيع اللقاحات الصحية ودفع مسببات الأمراض من الأقذار والأنجاس، ومنع المتلِفات من مواد مشعة ومشتقات كيماوية سامة، أو أدوية تالفة، أو أسمدة سامة، دفعا لآثارها الضارة على الحياة. ومن حفظ النفس التدريب القتالي الرفيع للقوات المسلحة، تقليلا للخسائر في الأرواح والأموال أثناء المواجهة القتالية، والعناية بالمؤسسة العسكرية والأمنية. وتنظيم حمل السلاح يخدم حفظ النفس؛ لورود النهي عن حمله في أزمنة وأمكنة يغلب فيها الضرر من حمله كتجمعات وعيد وجمعة وسوق إلا للضرورة مع الحيطة التامة. وبالجملة: فسياسة حفظ الدماء والأنفس واجبة، ووسائلها واجبة؛ لأنها حفظ للضروري، فلها حكمه استقلالا أو استكمالا. وأما سياسة حفظ المال فباتخاذ كافة الوسائل الصحيحة لحماية المال وتنميته، وإدارته، وتوزيعه، واستثماره، وحفظ موارده الظاهرة والباطنة، وحفظ العملة الوطنية من التلاعب بها، والرقابة على السوق التجارية والمالية، والإنتاج والصناعة، والثروة الزراعية والحيوانية وقطاعات الثروة الجغرافية، والثروات القومية الكبرى من نفط وغاز ومعادن، وحماية المال العام (¬1)، ومحاربة البطالة والفساد المالي والإداري، وعزل متورطي الفساد المالي والإداري ومقاضاتهم، وتفعيل دور الرقابة والمحاسبة وبناء نهضة اقتصادية شاملة. وأما سياسة حفظ العرض فواجب على الدولة نشر الفضيلة واتخاذ سياسات موصلة لذلك. ¬

(¬1) - بسطنا الأمر في كتابنا هذا في فقه المال العام.

وواجب العناية بالأخلاق والسلوك وصيانة الحقوق الخاصة والعامة بين الأفراد والمجتمع، والتربية على ذلك في المناهج الدراسية، والوسائل الإعلامية، ومنع العدوان على الأعراض بالهمز والشتم والقذف والتهم الباطلة، سياسية أو كيدية. وحفظ المرأة ورعايتها؛ لأنها أصل العرض، وصيانة سمعتها وإبعادها عن الامتهان وما يؤدي إلى استغلال عرضها. ويجب منع أماكن الدعارة والمراقص الفاجرة، والقنوات الخليعة وأنواع الإعلام الإباحي أو المسوق للدعارة، وبيع الأعراض تلفزة وصحافة وشبكات وغيرها، ومنع استغلال عرض المرأة وزينتها ومفاتنها في التسويق الإعلاني والتجاري. وأما سياسة حفظ العقل فواجب على الدولة بناء التعليم المؤدي إلى نهضة شاملة؛ لأنه أساس ذلك، والاهتمام والعناية به من أكبر المصالح، ويجب التشجيع والتحفيز ورعاية الموهوبين والنوابغ؛ لعموم نفعهم على البلاد والعباد. ورعاية البحث العلمي وبناء مراكزه وتطويره، والاختراع والفكر والثقافة الصحيحة والعلم الشرعي، ومحاربة كل وسيلة تؤدي إلى تضليل العقل والفكر وانحرافه، ومنع الغش والتزوير للنتائج والوثائق الدراسية، ورعاية المعلم رعاية عادلة تامة تليق بمهمته، والعناية بالمناهج ونوعيتها والإدارات التعليمية والكفاءات (¬1). وأما سياسة حفظ الجماعة العامة فهي المقصد السادس للشرع، وقد زدناه ضرورة وإن كان لم يذكره الأقدمون إلا أن جعله مقصدا هو اللائق به؛ لدلالة أصول الشرع وقواعده ونصوصه وتصرفاته على حفظه، ولأن عدمه انعدام لغيره من المقاصد الضرورية، ونعني بالجماعة المجتمع ودولته والشعب والأمة. فيجب على الدولة جمع الكلمة والصف الوطني والشعبي والديني ووحدة القرار السياسي، ودفع الفتنة ومنع الفرقة وأسبابها، والسعي إلى وحدة كبرى للعرب والمسلمين، والدفاع عن قضاياهم المحلية والدولية، وحرمة التعاون مع دول معادية لضرب دولة مسلمة ¬

(¬1) - انظر فقه التربية والتعليم من كتابنا هذا، فقد بسطنا ذلك بما يليق.

أو احتلالها أو حصارها أو التدخل في شئونها، والسعي لوحدة سوق عربية وإنشاء حلف عسكري موحد وصولا إلى الوحدة السياسية والجغرافية الكبرى. ويجب منع وسائل الفرقة المناطقية، أو الطائفية، أو الحزبية، أو العرقية؛ لأنها وسائل لحفظ الجماعة فوجبت. وأما الحاجيات فمنها اليوم إقامة البنية التحتية من مواصلات جوية وبحرية وبرية، وكهرباء، وشبكات الأنظمة الإلكترونية الحاسوبية، وشبكات الصرف الصحي، وشبكات المياه. ويدخل في الحاجيات أنظمة الاتصالات المدنية والعسكرية؛ للحاجة إليها في تنظيم الحركة الجوية والبحرية والبرية والعسكرية في النطاق المدني والعسكري. وتنظيم الحركة المالية والتجارية العالمية والمحلية، وغير ذلك. ومن الحاجيات الواجب على الدولة رعايتها: السياسة التجارية والاقتصادية والمالية، حفاظا على الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي والاستقرار الأمني والمعيشي. والحاجيات هي كل ما لا بد منه للحياة البشرية، بحيث يعد فقدها خروجا إلى الضيق والحرج والمشقة. ولكل عصر حاجياته، وهي الحاجيات المتغيرة، وأما الثابتة فلا بد منها للإنسان في مختلف الأزمنة والأمكنة، كالبيع والشراء والسكن، ونحو ذلك. والحرية من الحاجيات المستمرة، فهو مقصد حاجي ملازم للإنسان مؤدٍ عدمه إلى المشقة والعنت؛ لذا رعته الشريعة وضبطته في الأقوال والأفعال والاعتقادات. ومنه التعبير عن الرأي والفكر والبحث النافع لا ما ضر؛ لأن الضرر مدفوع. فعلى الدولة رعاية هذا المقصد الحاجي والعناية به وتنظيمه وتقويمه بما يخدم المصالح العامة ويدفع الضرر والفساد. والحاجيات تنزل منزلة الضروريات كثيرا؛ لأنها ركن منها أو شرط لها، فلا يمكن إقامة الضروريات إلا بإقامة الحاجيات، وإلا اشتبهت حياة البشر بالحيوان المتوحش الذي لا تلزمه المدنية ولا الحضارة ولا الدولة، وهذا مخالف لمقصد الاستخلاف الشرعي للإنسان.

2 - الشراكة الوطنية الحقيقية الواسعة في إدارة البلاد

وجعلنا الحرية مقصداً حاجياً، وجعلنا الجماعة مقصداً ضرورياً؛ لأن الحرية يمكن بدونها عيش مع مشقة وعنت، بخلاف الجماعة، فإهدارها إهدار للضروريات: النفس والمال والعقل والدين والعرض. والصناعة والإنتاج بأنواعه والاستثمار من الحاجيات المعاصرة التي تنزل منزلة الضروريات؛ لأن انعدامها يخرج الشعب من حياة الاستقلالية والقوة والتمكين إلى الحاجة والتبعية والارتهان للآخر والضعف، وهذه مفاسد كبيرة. 2 - الشراكة الوطنية الحقيقية الواسعة في إدارة البلاد: والشراكة الوطنية في إدارة البلاد من العدول ذوي الكفاءة والقوة من الحكمة؛ كونها توزع المسئولية والمساءلة والتكليف بالحفظ والحماية والبناء العام لكل ما يحقق المصالح العامة ويدفع الفساد والمفاسد، وتوزيع المسئولية في هذه المعاني حماية وحفظا هو تعاون على البر والتقوى، وهو مطلوب شرعي. وكذا توسع قاعدة صناعة القرار بالمشاركة الفعلية في إدارة الحكم، أو المشاركة الحقيقية في اختيار من يدير الحكم اختيارا حرا وشفافا ونزيها بعيدا عن الالتفاف والتحايل والمكر والخداع السياسي، وعن التحالفات المصلحية التي لا تنظر إلى المصالح العامة للأمة، مقدمة مصالحها الذاتية الخادمة للبقاء المعمر في مراكز القرار لأشخاص أو عائلة أو فئة أو منطقة أو قبيلة أو نسب. فإن الشراكة الواسعة أو الكاملة من مقاصدها منع تقديم المصالح الخاصة على المصالح الوطنية العليا والعامة للبلاد والعباد، وهذه مصلحة عامة عظيمة معتبرة فطلبت. ولأنها تحقق التعاون الشعبي العام بين الدولة، وفئات الشعب ومكوناته ومؤسساته الحقوقية والنقابية والتنموية والخيرية؛ لوجود الباعث الذاتي الحامل على التعاون بالفطرة والديانة نظرا لما يراه الشعب ويلمسه من تحقق مصالحه على أرض الواقع. وقولنا «بالفطرة والديانة» لأن الإنسان بفطرته تعاوني، والدين جار على وفق الفطرة الإنسانية، يقول تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ)

3 - سياسة العدالة الشاملة وتكافؤ الفرص والمساواة العادلة في الحقوق والواجبات، وعدالة الأجور والعدل الوظيفي سياسات واجبة

(المائدة: 2)، ويقول سبحانه (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). ولما كانت الشريعة طالبة لتحقيق المصالح الكبرى العامة ودفع المفاسد، فالشراكة الحقيقية الراشدة وسيلة لتحقيق ذلك على وجه الإحسان التام؛ لأن عمل الجماعة أتم وأكمل، ويد الله مع الجماعة. ولأنها وجه من أوجه الشورى المشروعة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، ويغلب على الشورى الحقيقية الوصول بالأمور إلى غاية الإحسان المقصود والمطلوب شرعا (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). والشراكة دافعة لكثير من المفاسد الكبرى؛ لأنها تؤدي إلى التقليل من فرص الفتنة والانشقاقات الداخلية والقلاقل. وتحبط استثمار العدو للوضع، وتقلل من السمسرة السياسية والنخاسة لبيع مصالح البلاد خدمة لجهة في الداخل والخارج. وتحقق العدل المتوازن في توزيع الوظيفة العامة، والثروات، والتوازن المتكافئ للفرص بين أبناء الشعب حتى لا تتاح الفرص للبعض وتمنع عن البعض، فيتفرد بالفرص في التعليم والتأهيل وفي الاستثمار والقيادة نافذون يستلمون زمام القيادة والوظيفة والمال والتأهيل، والناس لهم تبع وأتباع. لذلك كله فلا بد من الشراكة الوطنية العادلة الحقيقية في الحكم: إدارة، وصناعة، وتقويما. 3 - سياسة العدالة الشاملة وتكافؤ الفرص والمساواة العادلة في الحقوق والواجبات، وعدالة الأجور والعدل الوظيفي سياسات واجبة: لأن العدل قامت عليه السماوات والأرض وأمر به الله رسوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، وهذا من العدل. وقلنا «الشاملة» لعموم التكليف بها أقوالا وأفعالا زمانا ومكانا وأشخاصا.

فالواجب العدل في الخطاب السياسي عموما، وفي التقييم، أو الخصومة، أو الأعمال، والتصرفات، والخدمات، والمقاضاة؛ لقوله تعالى (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152). ويجب العدل شرعا مع المخالفين والمعارضين السياسيين والخصوم ولو كانوا معاديين (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8). أي: لا يحملكم البغض والخصومة لقوم على ألا تعدلوا معهم. والعدل لا يختص بحال أو زمن أو مكان، بل هو عام في الأحوال المختلفة: سلما، وحربا، وأمنا، وخوفا. وعموم المكان يشمل سائر المناطق الجغرافية. فالعدل المناطقي الانتقائي محرم، وهو أن يخص به منطقة دون غيرها. فتشملهم دون غيرهم خدمات الدولة من تعليم، وتأهيل، وبنية تحتية كطرق ورعاية صحية وخدمات الكهرباء والهاتف والمياه، والتعيين القيادي العسكري والمدني. فهذا ونحوه من العدل المناطقي الذي يترتب عليه ظلم عام. وتعامل الدولة مع الشعب على أساس جغرافي مناطقي عمل لا تقره الشريعة؛ لأنه جور وحيف وفيه مفاسد جمة. ويجب العدل بين الناس أمام القضاء والنظام والقانون، فإنما هلكت الأمم لإقامة الحق على أناس وترك آخرين «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه» (¬1). والعدالة في الدرجات الوظيفية، والخدمات، والحماية، وتكافؤ الفرص. ويعطى كل ذي حق حقه، ويتعامل مع كل من خالف في الدين من الكفار أهل الكتاب والمشركين بالعدل (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وبالمثل إن اعتدى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

4 - سياسة الإحسان والإكرام والتحفيز والجزاء

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194)، وفتح باب العفو (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). وتكافؤ الفرص أمام الشعب هو من القسط والعدل المطلوب على العموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135)، وهذا عام فشمل تكافؤ الفرص. فلا يشرع استئثار فئة بفرص التعليم والابتعاث والخدمات والرعاية والوظيفة والمناصب القيادية، وتسهيلات استثمارية ومالية، بل المشروع العدل بين أفراد الشعب بذلك. وواجب أن تعدل الدول في الأجور والرواتب لموظفيها بما يتناسب مع ضروريات المعيشة وحاجياتها بتوسط. والراتب إن لم يف بأشد الضروريات وهو الغذاء واللبس والدواء فهو غبن فاحش، وهو في العقود محرم، ويلزم -حينئذ- أجرة المثل؛ ولأنه نوع من الانتهازية للحاجة والفقر، وهو خلق مذموم لا ترضاه الشريعة؛ ولأنه يفتح باب الفساد الإداري وأخذ الرشوة وترك الإتقان والإبداع والإخلاص بالعمل وغير ذلك، ودفع المفاسد واجب، ومن وسائلها العمل بسياسة عدالة الأجور (¬1). 4 - سياسة الإحسان والإكرام والتحفيز والجزاء: والإحسان معنى يتجاوز العدل؛ إذ العدل يفيد المطابقة في عمل ما يجب. والإحسان هو إتقان عمل ما يجب إتقانا يحقق زيادة على المطلوب بالعدل. وإحسان العمل درجته فوق عمل العمل لمجرد إسقاط الطلب والتكليف به. والإحسان جهد زائد على جهد القيام بالعمل؛ فتقرر شرعا جعله أصلا غائيا في الأعمال؛ لأنه يرائي فيه الخالق ولا يرائي المخلوق، ومراءاة الخالق مطلوبة «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (¬2)، وهي دائمة ضرورةً؛ لدوام المراقبة، بخلاف مراءاته الخلق فمذمومة، وهي مختصة ¬

(¬1) - وقد تكلمنا في مواضع من كتابنا هذا بأبسط فليراجع. (¬2) - متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري برقم 50، ومسلم برقم 102)، وهو حديث تعليم جبريل الدين للنبي صلى الله عليه وسلم.

بمحل الاطلاع وتُبْدَلُ إساءةً عند عدمه. والإحسان تكليف مطلوب شرعا على وجه عام «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (¬1)، ومأمور به (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). ومأمور بمكافأته؛ لأنه جهد نوعي زائد على مجرد العدل (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وهذا خبر مقصود به الأمر والتكليف. وإخراج الأمر بصيغة الخبر لا بصيغة الإنشاء دليل على ثبوته وقاعديته وتأكد طلبه. وهو ما كتبه الله في معاملته لخلقه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30)، كأصل يقاس عليه كل عمل فيه تقصير (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97). ويجبر النقص، ويسد فجوة التفاوت بين أعمال الشخص في ذلك رحمة من الله وإكراماً للعاملين المؤمنين. وفرض على الدولة التزام سياسة الإحسان في إدارة البلاد، لأنه واجب الوصول بها إلى أعلى مستويات المكافأة والمواكبة لأعلى مستويات القوى الدولية في العالم اقتصاديا وصناعيا وعلميا وتكنولوجيا وعسكريا ومجتمعيا وإنسانيا. والوصول بالبلاد إلى منافسة أعلى مستويات القوى العالمية في كافة المجالات لا يكون إلا بالإعداد التقني والنوعي، وهذا هو الإحسان، ولا يتم إلا ببذل غاية المستطاع في ذلك. وهو: الجهد المبذول النوعي لذلك، وهذا مطلوب مفروض (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). فالأمر (وَأَعِدُّوا) واجب؛ لأنه الأصل في الأمر الشرعي. وغايته العليا تدل عليه (مَّا اسْتَطَعْتُم)، أي غاية استطاعتكم، وهو الجهد النوعي. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

و (مِّن قُوَّةٍ) عامةٌ لكل قوة في كافة المجالات بدليل «من» التي إذا دخلت على النكرة نصت على العموم، وخص القوة العسكرية بالأمر المستقل (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) مع أنها داخلة دخولا أوليا في عموم الأمر بالقوة؛ لأنها حارسة للقوة كافة. ورباط الخيل كناية عن العدة العسكرية (¬1). وغاية هذا الأمر الشرعي بالقوتين منصوصة في قوله تعالى (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60). فلزم الوصول إلى هذا المطلوب بحيث يحقق الإرهاب الاقتصادي، والتقني، والنهضوي العام، لا الإرهاب العدواني المرفوض الذي تنهجه كبار دول العالم هيمنةً ونهباً واحتلالاً وتهديداً وتدخلاً في الشئون الداخلية للدول الأخرى. فهذا إرهاب مرفوض كإرهاب قطاع الطرق وعصابات العدوان المسلح على المدنيين بمسميات مختلفة تفجيرا واغتيالا وأسرا وتخويفا وتهديدا. بخلاف الإرهاب الاقتصادي والتقني والنهضوي والعسكري المحقق لتوازن القوى، فهو مفروض لا مرفوض. والحاصل أن الإحسان في العمل مطلوب شرعا، وهو شامل لإحسان التعامل عموما (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهذا عام لمسلم وغير مسلم. ومطلوب شرعا اتخاذ وسائل تكريمية وتحفيزية؛ لتحقيق الإحسان؛ لأنها مقصودة شرعاً (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وهذا طلب لمكافأة من أحسن، وقد خرج مخرج الخبر لتأكيده، وفي النص «ومن أحسن إليكم فكافئوه» (¬2). والإكرام وسيلة إليه (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21)، وتترتب ¬

(¬1) - تستعملها العرب للدلالة على شدة القوة الحربية، فتقول «بنو فلان كثيرو رباط الخيل» أي: أهل حرب. وكثيرو الرماد، أي: كرماء. (¬2) - أخرجه الإمام أحمد في المسند بسند على شرط الشيخين برقم 5365 عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه». وهو في سنن أبي داود برقم 1674.

عليه مصلحة عظيمة (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23)، فامتنع عن خيانة السيد؛ معللا ذلك بأنه أحسن إليه؛ مبينا أن مواجهة الإحسان بالإساءة ظلم مهلك. ولما كانت الوسائل تأخذ أحكام المقاصد؛ فعلى الدولة الإكرام والتشجيع والتحفيز بوسائل توصل إلى إحسان الأداء والعمل بإتقان في سائر قطاعات الدولة، فهذه وسائل مشروعة؛ لإيصالها إلى مطلوب شرعي. ويشرع تشجيع الباحثين، والمخترعين، والمبدعين، والموهوبين، ورعايتهم، وابتعاثهم طلبا لتأهيلهم في كافة المجالات؛ لأنه من الإحسان ووسيلة إليه. وكذا تكريم المخلصين في الأعمال، والمتقنين، والملتزمين بالأنظمة واللوائح والقوانين، والمنضبطين حضوراً وأداءً في العمل، والأقدمين، والمناضلين، والمجاهدين، ورعايتهم وتكريمهم، وأسر الشهداء والجرحى من العسكريين والمدنيين الذين قضوا دفاعا عن الواجب الشرعي عن الوطن وأمنه واستقراره، وعن المواطن دمه وماله وعرضه. ومن هذا الباب تشرع العلاوات، والتسكين الوظيفي، والقرض الحسن، والشهادات، والأوسمة، والترقيات، والتعويضات، والهبات، والكفالات، والميزات، والتسهيلات، والإشادة، وكلمة الشكر والعرفان على الملأ، والتنبيه على المحاسن، وحضور رأس الدولة وقياداتها الكبرى فعاليات التكريم تحفيزا وشكرا، وكل هذا من مفردات ووسائل الإحسان. وقد قصد الشرع الإشادة بالمحاسن، فأشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوت في الحرب والسلم، فالأول «صوت أبي طلحة في الجيش كألف رجل» (¬1)، والثاني نحو «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود» (¬2)، وقال «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (¬3)، مشيدا بجهده الحربي وقال ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري في البخاري برقم 5048، وفي مسلم برقم 1887. (¬3) - أخرجه أحمد بسند حسن برقم 20649، وحسنه الترمذي برقم 3701، وقال الحاكم صحيح الإسناد، وقال الذهبي صحيح كما في المستدرك والتلخيص 4553. وتصحيح الذهبي لعله لأنه قال في الكاشف عن كثير وُثِق. وقال العجلي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.

5 - السياسات التسع للنهضة الشاملة

«إن أمَنَّ الناس عليَّ أبو بكر» (¬1)، شاكرا له صنيعه وما قدم للرسول والرسالة، وقال «من قتل قتيلا فله سلبه» (¬2)، محفزا على القتال في سبيل الله. وقال «إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها» (¬3)، وهذا أمر بمواصلة الجهد وإحسانه ولو عند شدة. ونهى عن المثلة (¬4) والإساءة للحياة عموما بَرِّيِّها وبحريها، والباب في هذا كثير (¬5). 5 - السياسات التسع للنهضة الشاملة: وهي سياسات مطلوبة شرعا على الدولة، ومقصود تدل عليه أصول وقواعد ونصوص الشرع (¬6). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 466 وفي مسلم برقم 6320 من حديث أبي سعيد قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر رضي الله عنه فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا قال يا أبا بكر لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 3142 ومسلم برقم 4667 من حديث أبي قتادة بلفظ «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه». (¬3) - أخرجه أحمد برقم 12925 عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها». قلت: رجاله رجال الشيخين إلا حماد بن سلمة فهو من رجال مسلم وأخرج له البخاري متابعة. (¬4) - قولنا «ونهى عن المثلة» الحديث أخرجه أبو داود برقم 2669 من حديث سمرة بن جندب قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة فأتيت عمران بن حصين فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. قلت: وسنده حسن. وأخرج الترمذي برقم 1048 له شاهدا من حديث بريدة بن الحصين وقال حسن صحيح. وأخرجه النسائي برقم 4047 من حديث أنس بسند صحيح على شرط الشيخين بلفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهي عن المثلة». وأخرجه أحمد بهذا اللفظ من حديث عمران بن حصين برقم 19871 وسنده على شرط مسلم. (¬5) - راجع فقه البيئة من كتابنا هذا. (¬6) - فأمة الإسلام (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110). وهي القائمة على الوسطية والاعتدال، وشهادتها نافذة على الكافة من الأمم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، ودينها هو الظاهر (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف: 9). =

والخروج بالأمة من حالة الضعف الشامل إلى القوة الشاملة فرض (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). والضعف شامل لأنواع الضعف التعليمي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والفكري، والأمني. والنقلة من هذا الوضع إلى غاية القوة المستطاعة تكليف واجب يشمل الاقتصاد، والتعليم، والأمن، والتكنولوجيا، والمجتمع. وكل معنى قوة في كافة المجالات الخادمة للمصالح العامة الدافعة للمفاسد والضرر قوة مطلوبٌ تحصيلها. ويلزم ما لا يتم إلا به من الوسائل، فهو تكليف بنهضة شاملة يتناسب مع وضع الأمة ومكانتها ويفوق أو يساوي المثل العالمي. ولا بد شرعا على الدولة أن تحمل هذا المشروع النهضوي الشامل، وإلا قادت الأمة إلى الضعف وخالفت مطلوب الشرع ومقصوده من التمكين للأمة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). ولا بد لهذا أن تتخذ وسائل وسياسات لازمة للنهضة الشاملة يمكن حصرها في تسع: 1) التعليم الاستراتيجي: منهجا ومدرسا وإدارة ووسائل وبحثا واختراعا وتنفيذا. 2) الأمن والاستقرار بكل معانيه ووسائله وإجراءاته. 3) الأمن المالي والغذائي والاقتصادي الشامل. ¬

= والخاتم والحق المعتمد عند الله (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران: 19)، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وشريعة هذه الأمة مهيمنة على ما سواها (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة: 48)، وهي تحمل مشروعا رساليا إلى العالم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107). والعمل الإصلاحي في الأرض عليهم فرض ومراقب ومسئول (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105). إلى غير هذه النصوص التي تدل على أن مكانة هذه الأمة مكانة قيادية، ولا بد عليها -حينئذ- من اتخاذ الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذا المقصود التمكيني القيادي في الأرض، وهذه السياسات التسع على رأسها، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد.

6 - مواجهة ومعالجة السياسات الخاطئة

4) صرامة القضاء العادل المستقل، والبت العاجل في القضايا، خاصة ما تعلق بالاستثمار والفاسدين من النافذين، لحماية مشروع النهضة الشاملة. 5) التخطيط الشامل للنهضة ومراحلها تنفيذا ومتابعة وتقييما وتطويرا. 6) سياسة التطهير الشامل للدولة من كافة أنواع الفساد والمفسدين مهما كان مركزه وقوته ونفوذه. 7) إقامة البنية التحتية الشاملة الحديثة من طرقات واتصالات ونقل وكهرباء وصحة عامة ومياه، وهذه وسيلة للنهضة وتتعذر من دونها، فطلبت شرعا طلبا وسيليا. 8) التسهيل للاستثمار في البلاد واستيراد الخبرات والتقنيات العالية وتعلمها وصولا إلى إنتاجها وطنيا. 9) حكومة كفاءة تحمل مشروع النهضة تخطيطا، وتنفيذا، ومتابعة، وتقييما، وتطويرا بمرحلية مستمرة مدروسة ومزمنة، مترفعة عن المصالح والمشاريع الضيقة التي تعود بالإبطال على مقصود الشرع في بناء المصالح العامة. فهذه الوسائل هي الوسائل الكبرى اللازمة لتحقيق النهضة الشاملة، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. 6 - مواجهة ومعالجة السياسات الخاطئة: ويجب معالجة ومواجهة السياسات الخاطئة، وقد مر ذكر أمهاتها؛ لأنه دفع للفساد في الأرض وأمر بمعروف ونهي عن منكر. 7 - سياسات الاستنفار العاجلة والهامة: ومن المطلوبات الشرعية النظر في الأمور العاجلة والهامة التي يكثر التضرر بها، وتعم بها البلوى، وتمس عامة الشعب؛ لأن هذا من خدمة المصالح ومن ذلك: أ: توفير الحاجات الضرورية للشعب، ويقدم ما يتكرر طلبه ويعظم ضرر فقده من غذاء وقمح ودواء ونفط وكهرباء ومياه، ومعالجة غلاء سعر ودعم الاحتياجات لتيسير ذلك على الأكثرية من الضعفة والمحاويج، فهذه حاجات الإنسان وحاجات العصر، والحاجة تنزل منزلة الضرورة.

ب: وضع خطة أمنية لفرض الأمن والاستقرار وما يقتضيه من انتشار أمني وعسكري إن اقتضى الأمر في حال الاحتراب، أو انتشار العصابات والمسلحين المفسدين يعد من الأمور العاجلة. ت: ويعجل إطلاق سجناء الرأي والحريات الراشدة وإطلاق المعسرين بدفع ما عليهم. ث: وحل القضايا العالقة الشائكة التي تسبب الفتن، وتشكيل لجان وطنية لذلك، أو قبلية إن اقتضى الأمر؛ لأنه وسيلة للتصالح المأمور به بين أهل الإسلام، وهو فرض. ج: ويجب حذف بنود الميزانية العامة التي تستثمر للفساد والعبث والإسراف. ح: وتأمين الطرقات للمسافرين، وملاحقة قطاع الطرق والمجرمين؛ لأن ملاحقتهم من الخزي المأمور بإلحاقه بهم في النص (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). خ: ويجب ترشيد الخطاب الإعلامي بما يؤلف القلوب ويبين ويوضح الحقائق (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53). د: ويجب إعلان عام ودعوة عامة من ولاة الأمر للشعب إلى التوبة واللجوء إلى الله والدعاء ورد المظالم وإقامة الصلاة والتراحم والإنفاق؛ لأن النصوص الكثيرة تدل أن من أعظم سبب هلاك الشعوب والدول المظالم والذنوب والفساد. ذ: ويجب إقامة حملات الإغاثة للمتضررين، والفقراء المعوزين، والتبرع العام المعلن وغير المعلن، وإنشاء لجنة وخطة عاجلة لتنفيذ ذلك؛ لأن إنقاذ الأنفس وإغاثة الملهوف مأمور بها شرعا، وتعويض ورعاية أسر الشهداء والمناضلين إكراما لهم. ر: ولا بد من وضع معالجة عاجلة للبطالة؛ لأن البطالة من المفاسد التي تسبب النكبات والضرر العام، ويلزم توفرٌ عادل للدرجات الوظيفية؛ لأنه من العدل بين الرعية. ز: وإحالة ملفات الفاسدين إلى القضاء واجب شرعي؛ لأن الشرع أمر بالإصلاح في الأرض وهذا من أعظمه، ومنه عزل سائر الوزراء والوكلاء والمدراء المفسدين من مناصبهم

8 - سياسة الاستنفار الاقتصادي

ومحاسبتهم، وتعيين حكومة الكفاءات لا العصبيات؛ لوجوب دفع الأمانات إلى أهلها، وتوسيد الأمر لغير أهله منصوص على أنه تضييع للأمانات. س: ويجب إلغاء الضرائب المجحفة عن محدودي الدخل والتجارات العمالية؛ لأنه ظلم وكل ظلمٍ مُحرَّم. ش: ومن المصالح نشر الحريات الراشدة، وحمايتها إعلاما وصحافة، ومدنية وشعبية ورسمية؛ بما يعود بالمصالح العامة للشعب في قول كلمة الحق ونشر الفضائل ومحاربة المنكرات. ص: ويجب الاهتمام بالقوات المسلحة وإزالة القيادات الفاسدة، وتأهيل المدارس والكليات، ورفع رواتبهم وحقوقهم العامة والعلمية والترقيات والعلاوات والبعثات، ورفع كفاءة المؤسسة العسكرية إدارة وتأهيلا وتصنيعا وتسليحا وتدريبا، وكل هذا من عاجل السياسات الراشدة؛ لأنها حامية الإسلام والمسلمين ودولتهم. ض: ومن العاجل نهضوية التعليم، وإنشاء لجنة المناهج من الخبراء العدول، ولا مانع من مؤتمر عام تشاوري للتعليم؛ لأنه وسيلة إلى خدمة مطلوبات شرعية من طلب العلم وتحصيله ونشره، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. والاهتمام بالبحث والابتعاث واستيراد صناعة التكنولوجيا لتعلمها وإتقانها. ط: وواجب إيجاد مؤسسة دينية جامعة توضع مناهجها عبر مؤتمرٍ للعلماء والفقهاء والخبراء، وتكون متجردة للدليل من الكتاب والسنة، وتشرف على الفتاوى، وتضع المناهج الشرعية الوسطية في سائر مراحل التعليم بالدليل الشرعي، لا التعصب لفئة، أو مذهب، أو قدح في أحد مما يكون صمام أمان للأجيال من الأفكار الهدامة والغلو والتطرف والإرهاب الذي قاد إلى التكفير وسفك الدماء. 8 - سياسة الاستنفار الاقتصادي: ولما كان لا دولة إلا باقتصاد فواجب إقامة الاقتصاد الآمن وصولا إلى درجة النهضة الاقتصادية إنتاجا، وتصنيعا، وتسويقا، واستثمارا، وتطويرا، وبحثا، واختراعا، وحفظا، وتأمينا شاملا للغذاء والسوق والعملة.

وهذا الوجوب؛ لأن هذه المفردات هي وسائل الاقتصاد المكون للدولة، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ووضع خطة لذلك مزمنة بمرحلية مدروسة، أمر يقره الشرع؛ لأنه من الإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). ويكون ذلك وفق تخطيط شامل دقيق لذلك. وما لا يتم المطلوب الشرعي إلا به فهو مطلوب شرعا، فالتخطيط الشامل يرفع العبث ويهدي إلى السبيل، وقد ذم الله الماشي مكبا على وجهه بعشوائية ضاربا مثلا بذلك (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22). ولأن التخطيط والتزمين المرحلي مؤد إلى إحسان العمل وإنجازه، والله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه، كما في النص (¬1). وواجب المتابعة والتقييم والمحاسبة؛ لأن ذلك من حياطة مصالح المسلمين والنصيحة لهم. ولا مانع من دعوة المستثمرين والخبراء من الداخل والخارج لوضع ما يناسب من الوسائل لتحقيق ذلك. ويستفاد من الخبرات والمعارف الإنسانية ولو من غير مسلم؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، ولأخذ رسول الله بالخاتم والخندق وهي خبرات أجنبية. وكل هذا من المصالح العامة، والشريعة طالبة لما يحقق المصالح الكبرى ويدفع المفاسد. ولا بد من تحقيق الأمن والاستقرار حتى يأمن الناس على أموالهم، وسيادة واستقلال القضاء، والمعاقبة الصارمة لمتلاعب أو مفسد منفر للاستثمار؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الدافع للضرر الفاحش عن الأمة. ويجب حفظ العملة واستقرارها؛ لأنها تحفظ الأموال وقيمها. ويحرم الإضرار بالأموال، وتهريب العملات الصعبة أو ضخها أو سحبها من السوق أو التلاعب بها؛ لأدائه إلى الإضرار العام، وهو واجب دفعه، ولأنه من إيذاء المسلمين، وهو محرم (وَالَّذِينَ ¬

(¬1) - حديث «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا .. » أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث عائشة برقم 4386 وفيه مصعب بن ثابت لا بأس به حسن في المتابعات.

يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). ويمنع التهريب للمنتجات، أو المستوردات؛ لأنه يضر ضررا فاحشا بالسوق، وقد نهى الشرع عن تلقي الجلب (¬1)؛ لأنه خروج عن مصلحة السوق وإفساد له، والتهريب أضر منه. ويشرع التعاون مع الدولة في الاستنفار الاقتصادي؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى. ومساهمة المجتمع لتوفير الطرقات والصحة والكهرباء والماء عند حاجة الدولة من التعاون على الخير والبر والتقوى. ولا بد من مباشرة التنفيذ الفعلي للخطط، ومتابعة ذلك حفظا وصيانة، وقد أنكر الله على القوالين بدون فعل فقال (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3)، ولا بد لتنفيذ الخطة من إعداد الكفاءات والخبرات وتعيين القوي الأمين. الاستغلال التام للموارد: ومن المصالح العامة المعتبرة شرعا الاستفادة من الموارد العامة واستثمارها؛ لأنه من حفظ وصيانة المال العام لخدمة المصالح العامة، وهو أمر خادم للوسائل المقصودة شرعا، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. المسح الشامل للاستكشاف النفطي والثروات الكامنة: والمسح الشامل للاستكشافات النفطية والغازية والذهب والمعادن من وسائل القوة المطلوبة في عموم (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60)؛ لأنه يقوي الدولة والشعب، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ويجب فعل ذلك على الدولة إيفاء بعقد الولاية، والإيفاء بالعقود واجب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وخلافه تضييع للأمانات وهو ممنوع، ولأن ذلك جالب للمصالح العامة فطُلِب. الاستصلاح الزراعي: ومن المصالح المعتبرة تحديد الأراضي الصالحة للزراعة، ومباشرة العمل في استصلاحها ¬

(¬1) - قولنا «وقد نهى الشرع عن تلقي الجلب» أخرج البخاري برقم 2162 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي. ومن حديث ابن مسعود برقم 2164 نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع. ومن حديث ابن عمر برقم 2165. وأما بلفظ «لا تلقوا الجلب» فهو في مسلم من حديث أبي هريرة برقم 3898.

لإيجاد إنتاج زراعي واكتفاء ذاتي، وتصدير، وتخزين، وتعليب المنتجات؛ فقد أمر الشرع باستصلاح الأراضي الزراعية «ليزرعها أو ليزرعها أخاه»، «ومن أحيا أرضا ميتة فهي له» (¬1)، وكان صلى الله عليه وسلم يدخر لنسائه قوت سنة، مما يدل على الاهتمام بالاقتصاد وحفظ الأقوات، وقد قال الله امتنانا بنعمة التصدير والاستيراد في رحلتي الشتاء والصيف (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 2 - 4)، وقد ساقه الله مساق المدح والثناء والنعمة، تنبيها عليه وعلى أهميته، فهذه الحركة التجارية استيرادا وتصديرا وتبادلا للخبرات والمنافع مما اعتبر نعمة من المنن المحمودة، وهذا يدل على أهمية مصالحها، ولذلك ساقه سبحانه مساق الامتنان والإقرار التشريعي. التنمية الحيوانية الشاملة: ومن الإصلاح في الأرض رعاية الحرث والنسل، وتنمية الثروة الحيوانية من ذلك (¬2)، ويحرم إهمالها أو إفسادها (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). الاستثمار البحري: ولا بد من الاهتمام بالثروة البحرية وتنفيذ خطة للاستثمار البحري صيدا، وتوزيعا، وتصنيعا، وتصديرا، والاستثمار الملاحي البحري، والمعابر، والمضايق والجزر، وإصدار ما ينظم إنشاء الشركات والمؤسسات البحرية، وترتيب حركة وأوقات الصيد وقوانين الملاحة، وهذا من المقصود المصلحي في عموم علة الابتغاء من فضله في النص (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 14). فسائر المصالح البحرية والاستثمارات داخلة في هذه العلة (لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) (فاطر: 12)، فعلم أنها مقصودة ووسائلها كذلك. ¬

(¬1) - سيأتي تخريجهما في موضعهما المناسب. (¬2) - وهو من إصلاح المال العام، ومن استغلال النعم التي ذكرها الله لعباده في كتابه (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل: 5). فهذه الآيات تبين أهمية الثروة الحيوانية ويزيد ذلك تكرار ذكر الثروة الحيوانية في مواضع من القرآن في سياق الامتنان للانتفاع بها، واستغلالها وشكرا لله على ذلك.

النقل الجوي والبري

ومنه بناء وتأهيل الموانئ الاستراتيجية الحديثة القادرة على استيعابٍ مواكبٍ للنهضة العالمية بكفاءة آمنة جاذبة للملاحة العالمية، ومرافئ تستوعب الناقلات بأحجامها وحركتها، وتؤمن التخزين والشحن بأعلى مقاييس الجودة العالمية، وتوفر السلامة والراحة للعمل والعامل والمركب وطواقمهما، بما يوفر الإيرادات ويقوي الدخل القومي للدولة، ويجب أن يكون بمثل السعر العالمي، أو خير منه لا أقل منه بغبن فاحش؛ لأنه ضرر وهو محرم في أموال المسلمين، وهذا منها. النقل الجوي والبري: ومن المشروع المصلحي العام استغلال النقل الجوي والبري وتهيئة المطارات الجاذبة للملاحة العالمية والمحلية بكفاءات عالية، وتسهيل سلس منظم لإجراءات السفر، والأمن والسلامة، والشحن والتفريغ، ووسائل التسويق والإعلان الدعائي والاستثماري، وتنظيم حركة الطيران والمسافرين، واتخاذ الإجراءات الحازمة لتوفير الراحة والسلامة لهم، وسرعة معالجة الأخطاء، ووضع أسطول جوي منافس داخلي وخارجي استثماري للدولة، وضمان توريد أمواله للخزينة وعدم العبث بها واستغلالها لأي جهة نافذة. ويجب في الجملة على الدولة فعل ما تقدم؛ لأنه مقتضى عقد الولاية في هذه الجهة، والإيفاء به واجب، وكذا عقد الوظيفة المعينة في أي إدارة واجب الوفاء به، وحرم الإخلال به إلا في محرم منصوص على تحريمه، فلا يلزم الإيفاء به في العقد كتقديم الخمور للركاب أو بيعها في السوق الحرة ونحو ذلك. الاتصالات استثمارا وتحديثا: ومما يخدم مصالح المسلمين المعتبرة التحديث والتطوير الاستثماري الشامل للاتصالات العامة، واتخاذ إجراءات منافسة لجذب العمل في السوق المحلي والدولي، وتأهيل المهندسين والفنيين، وتطوير العمل بأحدث وسائل التقنية الممكنة. وذلك لما يعود به هذا القطاع من إيرادات كبيرة للخزينة العامة تؤثر في خدمة المصالح، وتوفير الضروريات والحاجيات للشعب.

النهضة التصنيعية

النهضة التصنيعية: والنهضة التصنيعية في الأمة من فروض الكفاية، وهو فرض عين على الدولة، إذ لا يجوز تخلف المسلمين عن غيرهم من الأمم؛ لما في ذلك من الإذلال والامتهان والضعف المؤدي إلى إطماع عدوهم في ثرواتهم وأوطانهم، فواجبٌ العمل على قيام قوة تصنيعية ضرورية وحاجية، عسكرية ومدنية، بدءا بأهمها. ولا بد من التدرج والبدء بالأوليات الضرورية والحاجية للمجتمع والدولة، وصولا إلى تحقيق عموم ذلك. فالصناعات المتعلقة بالضرورات والحاجيات الغذائية والدوائية والتعليمية والعسكرية مقدمة على غيرها؛ لتعلقها بالضروريات والحاجيات المنزلة منزلتها. ثم سائر وسائل التكنولوجيا ومتطلبات العصر والشرع أمر بالبدء بالضروريات والحاجيات؛ لأنها تتعلق بأخص الأمور الإنسانية التي تحفظ الإنسان وتقيمه وتدفع عنه الفساد والأضرار والتلف والحاجة والضيق والحرج. وكذا ينبغي إنشاء مؤسسة وطنية اقتصادية تقوم بالتصنيع والإنتاج والاستثمارات والاستيراد والتصدير، وتمد كامل مرافق الدولة باحتياجاتها، وتحد من تعاملهم مع السوق التجاري؛ لأن ذلك يوفر الجودة وعدم الاستغلال للدولة والعبث بمشترياتها والمال العام، ويوفر ربحية بسعر منافس يورد لخزينة الدولة، وكل هذا من تمام النظر الشرعي في أموال المسلمين. ويقوم بإدارة المؤسسة الخبراء الأمناء العدول الأكفاء، لا خائن ولا فاسق ولا سفيه، مع الرقابة والمحاسبة والمقاضاة والتضمين للإتلافات وخلع المفسدين. ويجري هذا الأمر في كل ما ذكرناه. البنية الصحية: ومن مقاصد الشرع الكبرى حفظ النفس، ومن أظهر وسائلها الرعاية الصحية، فلابد من إقامة وتطوير وتأهيل البنية التحتية الطبية شاملة لبناء مستشفيات متخصصة وعامة في العواصم الكبرى داخل الدولة، ويليها شبكة المستوصفات والمراكز الطبية في سائر المدن

والمديريات التي توفر العلاج العام والإسعاف والطوارئ ودفع الأضرار المرضية والمتلفة، وإنقاذ الحالات الطارئة التي تحصل كثيرا في حوادث السير والبناء والقتال واعتداء الضواري والأفاعي والحرائق، وحالات الولادة المتعسرة، والحمِّيات الشديدة الخطر المتلفة للنفس أو المسببة للعجز، وحالات الأطفال ولقاحاتهم الهامة الدافعة للمتلفات عنهم. ومن أهم الخدمات الطبية الضرورية الحاجية أن يعد لاستقبال الحالات المتعذرة والحرجة المستشفيات المركزية المتخصصة لذلك. وهذا كله من خدمة مقصد عظيم للشريعة، وهو حفظ النفس وإحياؤها (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). وما سبق ذكره هو من المصالح الكبرى التي تأمر بها الشريعة وتطلبها، ومن القوة المأمور الإعداد لها، ومن الإحسان العام والشامل المأمور به (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195) وهو من الإصلاح الشامل المقصود شرعا (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: 88) وهو من العمل المأمور به والمسئول أمام الله ورسوله والمؤمنين (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105)، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61). وهو من وسائل التمكين والاستخلاف الشرعي والإلهي المقصود في قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55). وهو من وسائل دفع ما حذر الله منه من المفاسد (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)، (سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).

التعددية والمعارضة السياسية

التعددية والمعارضة السياسية

التعددية السياسية والتعددية السياسية جائزة إن قامت على مجرد برامج سياسية للتداول السلمي للسلطة والإصلاح العام، وتجردها لذلك بالطرق السلمية، وبشرط انبثاقها من روح الشريعة الإسلامية. فإن قامت على مشروع مصلحي خاص، أو مناطقي، أو عنصري، أو أسري، أو على أسس ناقضة أو معارضة للشريعة الإسلامية حرمت، ولا يجوز الترخيص لها. وتحريم ما قبل القيد الأخير؛ لأن هدف هذه الأحزاب السياسية الوصول للسلطة ببرامج تخدم عموم الشعب، فإن أرادوا الوصول لخدمة أشخاص، أو مناطق، أو أسرة، حرمت؛ لأن تصرف الولاة منوط بالمصلحة العامة؛ ولا مصلحة للعامة في هذه المشاريع الشخصية الصغيرة، ولترتب المفاسد والفتنة على ذلك. ومن التزم بهذا من الأحزاب والتنظيمات فيعاملون على ظواهرهم وما التزموا به. ومن ظهرت خيانته أو فساده حوسب وجوزي بالعدل الشرعي والقانون. ويتعامل مع الجميع بالعدل؛ لأن النظام العام يسع الجميع، فقد تعايش النظام السياسي بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم مع مختلف الطوائف المنافقة المظهرة خلاف ما تبطن. وامتنع من أي عقوبة سياسية جائزة، أو واجبة؛ للنظر المصلحي «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» (¬1)، فتسبب تفككاً سياسياً وسمعة سيئة تنفر عن الدخول تحت النظام الإسلامي. والمعارضة السياسية في اجتهادنا هي تعريفا: عبارة عن رؤية سياسية برامجية لإدارة البلاد تحملها أحزاب تسعى إلى تطبيقها بالوسائل الدستورية السلمية المشروعة. ¬

(¬1) - حديث «لا يتحدث الناس .. » متفق عليه في البخاري برقم 3518 وفي مسلم برقم 6748 من حديث جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بال دعوى الجاهلية». قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال «دعوها فإنها منتنة». فسمعها عبدالله بن أبي فقال قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

وهي جائزة بذلك، والمعارضة بشكل أعم شاملة لكل الأعمال المنظمة السلمية غير الرسمية التي تقف ضد مخالفات السلطة. فقولنا «بشكل أعم» أي لا تقتصر على المعارضة السياسية المترجمة إلى حزبية سياسية. وقولنا «كل الأعمال المنظمة» خرج بها الأعمال المعارضة العشوائية، فلا تدخل في المعارضة، بل في ردود الفعل والمواقف الآنية بدون مشروع منظم. وقولنا «كل الأعمال المنظمة» كذلك يشمل كافة الجهود والجهات ولو فردا، ويشمل سائر المنظمات والمؤسسات والنقابات المعارضة. وقولنا «السلمية» خرج بها الأعمال غير السلمية المسلحة أو الوسائل المستقوية بالعنف. وقولنا «التي تقف ضد مخالفات السلطة» قلنا هذا القيد؛ لأن الذي يقف ضد السلطة مطلقا في عملها المصلح وغيره يخرج عن المعارضة إلى العدوان. وفرض على المعارضة القيام بدفع المفاسد ودرئها وتقليلها، بما يخولها الشرع في عموم (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104). ولما كان واجب الدولة هو سياسية البلاد بجلب المصالح العامة الغالبة ودفع المفاسد، وهو: معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجب على المعارضة حينئذ القيام بتفعيل دورها المشروع والشرعي، والدستوري، والوطني، وهو داخل في عموم قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2). ويحرم التقصير في ذلك بسكوت، أو تواطؤ؛ لأن من قام بأمر من الواجبات الكفائية أو العينية، فإنه يجب عليه إقامته بما يسقط الطلب الشرعي. أما العيني فظاهر (¬1)، أما الكفائي فلأن فرض الكفاية إذا قام به البعض فقد تعين عليهم، فإن قصروا أثموا، والله يقول (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33)، وهذا إبطال. ¬

(¬1) - أي أن العمل إذا كان فرض عين فإنه لا يسقط إلا بفعله، فالدخول فيه فرض عين بخلاف فرض الكفاية فلا يتعين على الشخص إلا إذا لم يقم به أحد، أو دخل فيه الشخص فإنه يتعين عليه تمامه والمعارضة يأتي فيها هذا الحكم لأنها قائمة بفرض الكفاية فيحرم عليها تركه لأنه يتعين عليها بمجرد الدخول في العمل.

ولأن المعارضة عند التقصير في واجبها من منع الظلم على العباد المخول تحت تكليفهم (¬1)، كمنع تحريف العقد بين الشعب والحاكم الممثل في الدستور، ومنع مظاهر الفساد وحماية القانون، وغير ذلك. فإن كان بسكوت حرم ولعن فاعله بالنص (¬2)، وإن كان بتواطؤ من البعض فهو خيانة للأمانة وتعاون على الإثم والعدوان. والمعارضة السياسية شرطها أن تكون بالوسائل السلمية؛ لأن هذا مما أجازته الشريعة؛ لعدم المانع (¬3)، بل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودرء المفاسد وجلب المصالح. وقد ثبت في حديث السمع والطاعة «وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف لومة لائم» (¬4). وهذا نص يدل على أن قول الحق واجب للسلطة وغيرها للعموم، ولا يعارض بيعة السمع والطاعة؛ لأنه منها في النص؛ ولثبوت فعل المسألة أمام الصحابة في المسجد يوم الجمعة لعمر ولم ينكروا هذه المعارضة (¬5)، فكان إجماعا، أو فتوى الجماعة، وهذا كاف في الجواز لحرصهم على إنكار المنكر. ¬

(¬1) - قلنا المخول تحت تكليفهم، أي لأنهم لا يكلفون إلا بما في وسعهم من أعمال المعارضة، فلا يكلفون إقامة المشاريع والبنية التحتية ونحوها مما هو واجب على السلطة. (¬2) - قولنا «فإن كان بسكوت حرم» الضمير في كان راجع إلى التقصير أي إن كان التقصير في تغيير المنكر سكوتاً حرم. (¬3) - قولنا «لعدم المانع» هذا احتجاج على من يدعي المنع الشرعي للمعارضة السياسية فعليهم الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة وأنى لهم ذلك. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - قولنا «ولثبوت فعل المسألة .. » القصة مشهورة ولها ألفاظ متعددة منها ما أخرجه البيهقي في المعرفة (13/ 332) ط/ قلعجي عن نافع، مولى ابن عمر، أنه قال: أصاب الناس فتحا بالشام وفيهم بلال، وأظنه قال: ومعاذ بن جبل، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه ولنا ما بقي ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فكتب عمر: إنه ليس كما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم، يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر فدعا عليهم فقال «اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال» قال: فما حال الحول حتى ماتوا جميعا. قال أحمد: وقد ذكر الشافعي في القديم حديث زيد بن الحباب، عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن بلالا وأصحابه فتحوا فتوحا بالشام فقالوا لعمر: «اقسم بيننا ما غنمنا» فقال «اللهم أرحني من بلال وأصحابه» قال أحمد رحمه الله: قوله رضي الله عنه: إنه ليس على ما قلتم، لا يريد: ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ..

وليست المعارضة السياسية خروجا عن الجماعة، ولا على الحاكم؛ لأن الخروج المحرم هو البغي المسلح؛ ولأن المعارضة تنصر الجماعة بالوسائل السلمية، فهذه نصرة لا خروج؛ ولأن المعارضة تطالب بالإيفاء بعقد الجماعة في الدستور، وهذا واجب على كل قادر (¬1). ولأن المعارضة السياسية متفق على وجودها وآلياتها وأشكالها في عقد الدستور، والإيفاء بالعقود أمر شرعي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ويجوز التشهير بالمناكر السياسية، والمفاسد العامة الناتجة عنها عبر الصحف، وفي المنابر والمحافل والإعلام، وهو مشمول بعموم قوله تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148). ولأن التشهير العام حصل من بلال وجماعة أيام عمر للمطالبة ببعض ما يرونه حقا، ولم ينكر عليهم أحد. ولأن هذا متفق عليه في عقد القانون بين الشعب والحاكم فجاز؛ لأن كل شرط بين عاقدين يعمل بها إلا ما عارض الشرع، وليس هذا كذلك. والأوامر بالستر على المسلم منزل على معصية شخصية غير متعدية (¬2) لا كقتل بل يجب الشهادة على القاتل؛ لأنها مظلمة واقعة على الغير فوجب دفعها بما بين الشرع وتجب الشهادة فيها عند اقتضاء لزومها. فإن كانت المعصية متعلقة بمظالم العامة جاز إنكارها على رؤوس العامة (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40). ومع هذا فقد يجب قبل التشهير المحاورة المحصورة بين لجنة والحاكم (¬3)، فإن أبى كرر له ¬

(¬1) - قولنا «وهذا واجب على كل قادر» أي المطالبة، فيجب على كل قادر من الشعب أن يطالب السلطة بالإيفاء والالتزام بعقد الشعب معها، وهو الدستور، وما انبثق منه من القوانين؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. (¬2) - قولنا «غير متعدية» أي لا يتعدى ضررها إلى الآخرين قاصرة على الشخص نحو شرب خمر. (¬3) - قولنا «فقد يجب ... » التعبير بقد؛ لأنه لا يمكن أن نطلق الوجوب على الإطلاق لعدم إمكان هذه الوسيلة في كل حالة وهي تشكيل لجنة ناصحة تحاور الحاكم، فإذا كانت ممكنة فهل تجب شرعا قبل التشهير السلمي، يمكن أن نقول بالوجوب في حالة ما إذا كان الانتقال إلى وسيلة التشهير السلمي يعقد الأمور أكثر مما لو شكلت لجنة للحوار والمصالحة.

الأمر حتى تقام عليه الحجة، فإن استعصى شُهِرَ دَفْعُ المظلمة ليكون أدفع له وأزجر، ولأن المفاسد إن لم تدفع إلا بهذه الوسائل وجبت في الجملة؛ لأنها وسيلة لواجب وأحاديث النهي عن الخروج كلها دائرة على المعنى المسلح لأدائها إلى ما في النص من المحذور وهو «يقتل برها وفاجرها ولا يتحاشى عن مؤمنها» (¬1). وهذه عادة الفتنة المسلحة لعدم إمكان الانتقائية والتحاشي، فيعم الفساد، وهذا منكر. والإنكار للمنكر غير الفرح به، فلا يجوز الفرح بالمنكر ولو نكاية بظالم؛ لأن الفرح بالمنكر منكر. والواجب هو الإنكار، وهو غير الفرح به. ويجب على السلطة والمعارضة تحقيق ما يدعون إليه من: حريات وقبول الآخر وتبادل سلمي للسلطة داخل تنظيماتها، وكذا المحاسبة الحقيقية وترك الظلم والكيد والتآمر من متنفذي التنظيمات سلطة ومعارضة على البعض في إطارات التنظيم الواحد، فإن لم يفعلوا فهو نوع عبث؛ لأن قاعدة التغيير المنصوصة هي (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11) (¬2). ولأن الله مقت من فعل ذلك فقال تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3). ويحرم تضخيم الأمور فوق حجمها، أو تحجيم الأمور، فإن هذا من الكذب وصفة أهل النفاق في قوله تعالى (وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ) (التوبة: 48). وهذا يعم كل كذب وتزوير وقلب للحقائق عبر وسائل الإعلام والصحافة، ومؤسسات الدولة، والفعاليات، وتصوير المواقف العامة والخاصة. ويجب القيام بالعدل ولو من سلطة لمعارضة وعكسه لقوله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - فإذا لم تغير التنظيمات من سياساتها الداخلية في تنظيماتها خالفوا سنة التغيير فيدخلون في جهد وإرهاقات بلا تحقيق كثير من التغيير.

آليات التغيير السلمي

ويحرم بعموم النص التنابز السياسي بالألقاب، والصفات المثيرة للعداء، وكذا السب والشتم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) (الحجرات: 11). والنميمة السياسية لا تجوز؛ لعموم النص في النهي عن ذلك كله. ولأن النميمة السياسية أعظم ضرراً من الفردية، فهي أشد تحريماً. ولا يتحدث إلا من خلال ما يخدم المصالح العامة، لا للثأر السياسي أو الشخصي أو الحزبي. وهو مشمول بالنص في قوله تعالى (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء: 53). وإصلاح الخطاب السياسي ينعكس على صلاح الأوضاع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70 - 71). آليات التغيير السلمي: للشعب الاتفاق مع حاكم على عقد منصوص، وهو الآن واجب؛ لأنه لا يتم حفظ الحقوق إلا به، فوجب. وقد يسمى دستورا أو غيره. وهو غير البرنامج الانتخابي لمرشح الرئاسة؛ إذ الدستور أصول عقد الشعب مع الحاكم. والبرنامج خطة سير عملي وفقا للدستور لخدمة الشعب مقدما الأهم فالأهم، من الضروريات والحاجيات والتحسينات، والدستور حاكم عليه. وفي العقد تذكر حقوق الشعوب، وواجباته، ومنها المتعلقة بحكامه: رقابة ومحاسبة ومقاضاة وعزلا ونصرة، وحدود الطاعة وآليات التغيير. وللشعب تقويم حكامه ويوضع دستوريا في مادة منصوصة، ويفصل ذلك فيه بقاعدية، وفي القانون بتفريع واضح. وقد نص رسميا على تقويم الشعب للحكام في أول عقد للولاية في بيان عام للأمة من الخليفة أبي بكر رضي الله عنه «لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإذا أحسنت فأعينوني وإذا أسأت

فقوموني» (¬1). وهذا أصل في سن إلقاء خطاب للأمة من رئيسها المنتخب بعد فوزه. وأصل في سن تقويم الشعب للحاكم إن أساء. وأصل في ترسيخ دولة المساواة «القوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق». ولا بد من بيان آليات التقويم الشعبي للحاكم، دفعا لمفسدة التنازع، ويكتفي بمجرد النص العام على التقويم إن غلب عدم النزاع كما فعل الصديق، وإلا فُصِّلت آلياته دفعا لاحتمال نزاع بين قوى الشعب والسلطة في تفسير النص الدستوري على التقويم. وتقويم الشعب لحكامه فرض؛ لوجوب النصيحة لهم، والتقويم رأسها «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬2). ويأثم التارك؛ لأن ترك التقويم ترك للنصيحة، وهي فرض شرعي. ويبدأ باللين ولو لمكثر في الفساد في الأرض (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44) أي: لفرعون، والأمر يدل على الوجوب. والأَوْلَى: سرا عند استطاعة دخولٍ على حاكم؛ لأن الإسرار من اللين. ويجوز الجهر لكف حاكم عن فساد، ويكون بقول حسن (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53). ¬

(¬1) - قولنا «في بيان عام للأمة» ذكرنا فيه شيئا من خطبة أبي بكر «لقد وليت عليكم .. » أخرجها البزار في المسند ط/ مكتبة العلوم -المدينة من طريق قيس ابن أبي حازم قال: خطب أبو بكر، فذكرها. وله شاهد في الأوسط للطبراني برقم 8824، وهو في المطالب العالية برقم 2181 عن الحسن عن أبي بكر، وفي إتحاف الخيرة المهرة كذلك برقم 3645. وكلاهما فيه مجهول. وأخرجه ابن ماسي في فوائده ط/ دار أضواء السلف بالرياض برقم 37 بسند حسن من طريق الحسن، وطرق هذه القصة كثيرة فهي صحيحة عن أبي بكر رضي الله عنه. ولفظها كما في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (5/ 22): أن أبابكر الصديق خطب فقال: أما والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت بمقامي هذا كارهًا، ولوددت أن فيكم من يكفيني، أفتظنون أني أعمل فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لا أقوم بها، إن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطانًا يعترّيني، فإذا غضبت فاجتنبوني ألا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني. قال الحسن: خطبة والله ما خطب بها بعده. (¬2) - تقدم تخريجه.

إلا لمظلوم (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148). ومن قتله جائر لقوله الحق فهو سيد الشهداء بالنص «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (¬1). وكلمة الحق عند سلطان جائر أعظم الجهاد للنص (¬2). و«عند» (¬3) لا تقتضي الاجتماع معه في مكان واحد، بل مطلق العندية، كقوله تعالى (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) (الإسراء: 23). وهذه تشمل ما لو كانا أو أحدهما في بلد وهو في بلد غيره، فيجب الإحسان، وعدم التأفف في كتاب يبعثه، أو اتصال، أو توصية، أو في حديثه عنهما أمام الغير. ولا بد من التصريح بظلم حاكم ولو كان جائرا، وهو فرض كلي على الأمة، وتركه علامة كثرة الشر، وآية الهلاك «إذا لم تقل أمتي للظالم يا ظالم فقد تودع منها» (¬4). ويحرم تصديق نظامٍ مفسدٍ في الأرض وإعانته، وهو من الكبائر «من صدقهم بكذبهم ¬

(¬1) - حديث «سيد الشهداء حمزة .. » حديث جيد أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 239)، قال في المجمع: وفيه ضعف. وصححه الحاكم في المستدرك وتابعه السيوطي في الجامع الصغير. وأخرجه الضياء في المختارة. قلت: سند الحاكم حسن. وأخرجه من حديث جابر بسند صالح في الشواهد والمتابعات برقم 4844. وحسنه الألباني في صحيح الجامع. (¬2) - قولنا «للنص» هو حديث حسن صحيح أخرجه الترمذي برقم 2100 بلفظ «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر». قلت: وفيه عطية العوفي متكلم فيه. وحسنه الترمذي. وهو عند أبي داود برقم 4346 من نفس الطريق. وأخرجه الإمام النسائي بسند صحيح من حديث طارق بن شهاب برقم 4209. وسنده على شرط الشيخين. وأخرجه ابن ماجة برقم 4012 من حديث أبي أمامة. بسند حسن. (¬3) - هذا جواب على من قال أن القول في الإعلام والكتابة الصحفية والخطابة أو المظاهرة لا تدخل في الحديث «عند سلطان»؛ لأن عند تقتضي الاجتماع مع الحاكم في مكان واحد وهذا خطأ. (¬4) - أخرجه أحمد برقم 6521 بسند صحيح من حديث عبدالله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له انك أنت ظالم فقد تودع منهم». وأعلَّ بالانقطاع بين أبي الزبير وعبدالله بن عمرو. قلت: وله متابعة عند الحاكم من طريق محمد بن مسلم بن السائب عن عبدالله بن عمرو، وقال صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه البزار برقم 2374 من طريق مجاهد عن عبدالله بن عمرو، وهذه متابعة صحيحة ترفع العلة.

وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليَّ الحوض» (¬1). وإذا اشتد فساد حاكم في الأرض وظهر الهلاك فللشعب معصيته كافة، واعتزاله ونظامَه «لو أن الناس اعتزلوهم» (¬2). وحرم -حينئذ- الجباية المالية لهم، أو طاعتهم عسكريا، أو مجتمعيا، أو اقتصاديا «لا تكن لهم جابيا ولا شرطيا ولا عريفا ولا خازنا» (¬3). ويتعين على الحاكم الاستقالة إن كان ذلك يحقن الدماء وينزع الفتنة، وهو أمر مشروع لحديث الحسن (¬4) وتنازله وحقنه للدماء بذلك. وللشعب عند التنازع اختيار لجنة تحكيم في شأن الحكام، وإذا فُوِّضَت وجب عليها العمل على دفع الفتنة وحفظ الأنفس فإن لم يتم حقن الدماء إلا بتنازل الأطراف الحاكمة المتنازعة فللجنة التحكيم القضاء بذلك؛ لعموم الأمر بالصلح في النص القرآني (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9)، وعمومه يفيد عموم وسائله المحققة له وهو راجع إلى تقدير الجهة المصلحة بين الأطراف. وإذا جاعت أسرة فلها الذهاب إلى باب الحاكم، والمرابطة حتى يطعمهم من بيت المال، ويوفر حاجتهم؛ لسن ذلك من عمر رضي الله عنه كما في البخاري (¬5). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - قولنا «لسن ذلك من عمر ت» هذا الخبر أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح برقم 1822 ولفظه (عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى، فقال: يا هني، اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم بن عوف ونعم بن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيته يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم أنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا). وأخرجه البخاري برقم 3059.

ويقاس على الطعام ما هو من الضروريات والحاجيات المعيشية والحقوق. وإذا ظَلَم الحاكم شخصا ولم ينصفه وجب على الناس نصرته، ولو بإنشاء حلف بعد المراجعة، وقد ثبت ذلك عن الصحابة (¬1)، وهو يشبه الآن المنظمات المدنية: حقوقية ودفاعية ومناصرة للقضايا العادلة وللضعفاء والمظلومين. وحكمها يأخذ حكم المشروعية في الأصل، وقد يجب إن لم يتم دفع الفساد والظلم عن الضعفة إلا بذلك. والحاكم فرد في ضمان الإتلافات من نفوس وأموال، يقاضى ويُسَاءل ويقاص منه إن قتل عمدا وعدوانا بمباشرة أو تسبب كالمباشرة، وذلك على ما يقتضيه نظر القاضي في التضمين. وللشعب محاسبة حاكم جهارا أمام الشعب والإغلاض عليه ولو في مسجد كما فعل بلال ومن معه بعمر وهو على المنبر كما أخرجه البخاري (¬2) معلقا بالجزم أو في جمع عام كما ثبت عن عمر أنهم ردوا عليه «نقومك كما نقوم القداح» (¬3)، وهو ثابت من غير وجه. ¬

(¬1) - قولنا «وقد ثبت ذلك عن الصحابة» أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» ط/ دار المأمون للتراث -دمشق، بسند صحيح عن محمد بن إبراهيم قال: كان بين الحسين بن علي، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة. قال: فكان الوليد تحامل على الحسين بن علي في حقه لسلطانه. فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفن لي من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول؟ فقال عبدالله بن الزبير -وهو عبدالوليد حين قال الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال: مثل ذلك. وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبدالله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد بن عتبة أنصف حسينا من حقه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن برقم 35629، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في داره وهو يحدث نفسه فدنوت منه، فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال: هكذا بيده وأشار بها، قال: قلت: ما الذي يهمك والله لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، لو رأيتم مني أمرا تنكرونه لقومتموه، فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك، قال: ففرح بذلك فرحا شديدا، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني. قلت: سنده حسن. رجاله ثقات إلا يحيى بن عيسى وثقه العجلي برقم 1992، ط/ المدينة المنورة. قال أحمد: ما أقرب حديثه (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم). وقال ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي ليس بالقوي. قلت: والخلاصة أنه يحسن حديثه.

أو كان خطيبا ولو في يوم عيد لحديث أبي سعيد في اعتراضه على مروان بقوله له: غيرتم وبدلتم. وهو في الصحيحين (¬1). أو في خطاب سياسي للحاكم يلقيه الحاكم على الناس، فلفرد الرد عليه وهو على المنبر بعد تمام كلامه كما ثبت في الرد على معاوية علنا (¬2). وقلنا «بعد تمام كلامه»؛ لأن السماع للمتحدث حتى ينتهي من المحاسن المرعية شرعا؛ لحديث «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬3)، وهذا منه، ويستثنى من ذلك إن كان يفوتُ الردُّ والأمر جَلَلٌ يتعلق به حفظ دم أو عرض أو دين. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 956 ومسلم برقم 186، ولفظ البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف قال أبو سعيد فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى، أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له غيرتم والله فقال أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. (¬2) - قولنا «كما ثبت في الرد على معاوية علنا» قصة معاوية أخرجها أبو يعلى بسند صحيح برقم 7382 عن ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي قبيل قال: خطبنا معاوية في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا فلم يرد عليه أحد فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته فلم يرد عليه أحد فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته فقام إليه رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه فأجلسه معه على السرير ثم أذن للناس فدخلوا عليه ثم قال: أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد وفي الثانية فلم يرد علي أحد فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة فخشيت أن يجعلني الله منهم فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله ورجوت أن لا يجعلني الله منهم. (¬3) - حديث «إنما بعثت لأتمم ... » أخرجه أحمد برقم 8939 عن أبي هريرة بسند على شرط مسلم بلفظ «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق». ومحمد بن عجلان وإن كان روى له مسلم في المتابعات إلا أن الحاكم صححه برقم 4221 على شرط مسلم وقال الذهبي على شرط مسلم.

المظاهرات والمسيرات

فلو أمر الحاكم على المنبر بسفك دم معصوم محرم وجب الرد عليه ومقاطعته. أو سَبَّ الدين، أو أمر بما يهدم أصوله القطعية، فالواجب هنا على الحاضرين كافة الإنكار عليه، أو الانسحاب من مكان الحفل أو الجمع؛ للنص (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: 140). ويجمع بينهما؛ لأنه أوقع وأدفع للمنكر. وللشعب اتخاذ آليات التغيير السلمي، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الحديث «من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬1). ومع ما تقدم من أمور في آليات التغيير في كلامنا، فلا بد من استقلال الكلام على أظهر آليات الاحتجاجات والتغيير والتعبير السلمي، وهي المظاهرات والإضرابات والاعتصامات والعصيان المدني، فنقول وبالله التوفيق: المظاهرات والمسيرات: يمكن تعريف المظاهرات والمسيرات بأنها تنظيم سلمي لسير جماعي مدني غير رسمي من وإلى مكان معين في زمن معين للمطالبة بأمر معين علنا. فإن لم يصاحبها سيرٌ فهو مهرجان أو فعالية. فإن صاحبها مكث في مكان إلى تحقيق المطلب فهو اعتصام. فإن كان شعبيا عاما، أي من عموم الشعب والجمهور وطال وتوقفت به حركة النظام فهو عصيان مدني. وقولي: «تنظيم سلمي لسير جماعي»، خرج به السير الجماعي الخارج مخرج العادات في نقاط التجمع ونحوها وصولا، أو انطلاقا. وقولنا: «غير رسمي»، خرج به العروض والاحتفالات ونحوها. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وقولنا: «من وإلى مكان معين»، خرج به الفعاليات والمهرجانات. وقولنا: في «زمن معين»، لا بد منه؛ لأن الزمن المعين المتفق عليه شرط للحشد والسير، وإلا لم تكن مسيرة. وقولنا: «للمطالبة بأمر معين»، خرج به السير جماعات لنحو دراسة أو لقاء أو عبادة كحج، أو السير الرسمي في العروض المدنية والعسكرية والفعاليات والرياضات. وقولنا: «علنا»، خرج به المظاهرة الصامتة، فإنها لا تعد مظاهرة في الأصل الغالب إلا بإعلان المطالبات، وتُرَدَّد جهراً شعارات ملفوظة ومكتوبة عادة، فإن كانت مسيرة صامتة أعلن عن مطلبها قبل ذلك ليعرف. والمظاهرات الأصل فيها الجواز، فإن كانت لنصرة قاطع شرعي أو مظلوم، أو قضية عامة أو خاصة كدعم المقاومة الفلسطينية وجبت إن لم يتم إلا بها استقلالا أو استكمالا. وكل ما يخدم الواجب الذي لم يتم القيام به فهو واجب، مثل: وجوب تحرير فلسطين من العدو الغاصب الكافر، فإن القيام بهذا التحرير الواجب لم يتم إلى الآن، فكل وسيلة تصب فيه وفي خدمته واجبة، من مظاهرات وفعاليات وتبرعات، وإحياء للذكرى وبناء مؤسسات وتشكيل نقابات لحماية الأقصى وحماية المواطنين والسجناء وعمل أفلام وثائقية مستمرة وتعليم الأجيال في مناهج الدراسة ذلك، وكل وسائل النصرة للقضية مطلوبة حتى لا تضيع القضية وتنساها الأجيال ويُطبَّع على وجود دولة الاحتلال الصهيوني. ومَنْ مَنَعَ المظاهرات من الفقهاء فهو إنما منعه في بلد معين نظرا لظروفها (¬1). وتبقى المظاهرات على أصل الإباحة إلا إن ترتب عليها إزهاق الأنفس، وإتلاف الأموال، وتخريب المصالح، فإن حصل شيء منه بلا قصد من البعض وجب كفه وردعه، فإن ظهر كونه مندسا حُقِّق معه؛ لأنه ساع بالفتنة، فوجب كف يده وإظهار شأنه للعامة لتبيين سبب فعله الدافع له أو الجهة الآمرة ابتغاء الفتنة. وكذا يبين للناس حتى لو فعل ذلك من تلقاء نفسه. ¬

(¬1) - وذلك مثل فتوى علماء المملكة العربية السعودية لأنها مقيدة بالنص في الفتوى بالمنع في بلد الحرمين لعلل تخص ذلك البلد وظروفها. وفتاواهم صحيحة، لكن لا يقاس عليها غيرها في التحريم؛ لأن لكل بلد واقعا وفقها وفقهاء.

والدليل على جواز كشفه قوله تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148). ولا يشمله أحاديث ستر المؤمن؛ لأن ذلك فيمن ارتكب محرما في نفسه غير متعدٍ ضرره، وإلا لزم ستر القاتل. فهذا أراد فسادا ينسبه لغيره ظلما وعدوانا؛ ليمنع الوصول إلى حق أو نصرة مظلوم بمظاهرة وقد فعل ذلك. ولا يندفع هذا الرمي العام بالكذب إلا ببيان عام للعامة، فتعين، ولفعل يوسف لدفع التهمة عن نفسه، ولم يقدم الستر على فاعلات ذلك (¬1)؛ لتعلقه بمظلمة عمت فلا تدفع إلا ببيان عام، وشرع من قبلنا شرع لنا ولم يرد في هذه المسألة ما يخالفه في شرعنا. فيبقى أمر الاقتداء على وجهه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). ولأن من قصد فضح مسلم بإلصاق تهمة كذب به فجزاؤه مثله بالبيان العام لفضح كذبه؛ لأن جزاء سيئة سيئة مثلها، فجاز فضح كذبه علنا (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194). ولأن الله يقول (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148). ومن أتلف شيئا ضمنه شخصيا حال مظاهرة أو غيرها. فإن ادعى إغراء فلان له فأثبت الدعوى عوقب معه. ويحقق للوصول إلى الجناة، فإن لم يتبين شخص من أتلف لكثرة المظاهرة، أو لكثرة من فعل ذلك شرع على المسلمين تعويضه ببذل وعام؛ لأنه ضرر فاحش على خاصٍ منسوب لنازلة عامة ظاهرةٍ، فدفعه من التعاون على البر والتقوى. فإن لم يحصل ذلك عُوِّض وجوبا من مال المسلمين العام من خزينة الدولة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى قتيلا لم يعلم قاتله من بيت المال؛ لأن دم المسلم لا يسقط، وكذا ماله لا يسقط ¬

(¬1) - قال تعالى (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ) (يوسف: 51 - 51).

أما الاعتصامات

إتلافه؛ ولأن المال العام وضع للمصالح العامة ودفع المفاسد العامة، وهذا منها (¬1)؛ ولأن فرض حمايته على الدولة، فتعوضه عند حصول ضرر عليه حاصل من قصور في حمايته، وهذا نوع منه. فإن خرجت المظاهرات والمسيرات بأمر سلطة لنصرتها؛ التفافا على الشعب لتأبيد الرئاسة، أو تمديدها لمنتهية فترة رئاسته، أو تأييد ظالم؛ فحرام؛ لأنه من الزور والبهتان ومعاونة الظلم. والأصل في الفعاليات والمؤتمرات والمهرجانات الإباحة، ولا تحرم إلا بدليل. ويتعذر التحريم عينا لعدم وروده. وقولنا «عينا» أي بالنص على ذات المسألة. ولا يمكن إلا من طريق المحرم لغيره، وحاصله أن التحريم يحكم به إذا أدت هذه الأمور إلى مفاسد غالبة أو محققة، فإن كانت كذلك منعت، وإلا فإن غلبت مصالحها فهي مشروعة بهذا الأصل، وتجب إن لم يتم واجب إلا بها استقلالا أو استكمالا كما تقدم في المظاهرات؛ ولأن الله يقول في كل ما لم ينزل فيه تحريم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، وهذا نص في أن الأصل العفو، وهو الإباحة. أما الاعتصامات: فيمكن تعريفها بأنها: فعل شعبي يترتب عليه مكث مزمن في مكان متوافق عليه حتى الاستجابة للمطالب. ¬

(¬1) - قولنا «ودى قتيلا» أخرجه البخاري برقم 7192 ومسلم برقم 4435 واللفظ للبخاري أن عبدالله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأخبر محيصة أن عبدالله قتل وطرح في فقير، أو عين فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه قالوا ما قتلناه والله ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم وأقبل هو وأخوه حويصة، وهو أكبر منه- وعبدالرحمن بن سهل فذهب ليتكلم وهو الذي كان بخيبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحيصة كبر كبر يريد السن فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم به فكتب ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا قال أفتحلف لكم يهود قالوا ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مئة ناقة حتى أدخلت الدار قال سهل فركضتني منها ناقة.

أنواع الاعتصامات

والإضرابات هي: الامتناع عن العمل أو نحوه للمطالبة بأمر. وقولنا «أو نحوه»: ليشمل إضراب طلاب. والأصل فيها الإباحة لقوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (الأنعام: 119). وهذه ليست منها فتبقى على أصل الإباحة في ذاتها؛ ولأن الله قال عن كل ما لم ينزل فيه تحريم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا)، وهذا نص في الإباحة الأصلية. وتتعلق الأحكام بها بحسب آثارها الحالية والمآلية المترتبة عليها. فالاعتصامات والإضرابات إن كانت لنصرة الدين، والنهي عن الظلم، وردع مفسد، أو فساد، أو تأييد قضية عامة تتعلق بها المصالح العامة، أو قضية من القضايا الكبرى لشعب أو لعموم الأمة، كظلم حاكم، أو فساد سياسي، أو إداري، أو مالي، أو التدخلات الأجنبية في أي شأن للبلاد، فحكم الاعتصامات وأخواتها -حينئذ- تشمله أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشروعية كل منها معلومة، ودرجاتها متفاوتة من وجوب أو تطوع. ولا تجوز الاعتصامات إلا بعد تبين حقيقة الأمر بجلاء ووضوح، وإلا حرم لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36). ولأن ممارستها بلا حاجة حقيقيةٍ ضررٌ لا يتسامح فيه؛ ولأن وجود الضرر في الاعتصامات أمر مسلم، لكنه يتحمل لدفع أمر أكبر وأضر، فإن لم يكن ذلك حقيقيا صار الضرر الناتج عن الاعتصامات بلا مبرر شرعي، وهو دفع ضرر أكبر، فحرم. فإن كان لمجرد المعاندة والمناكفة فيحرم؛ لأنه بغي وعدوان (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). أنواع الاعتصامات: 1 - الاعتصامات الطلابية: الاعتصامات الطلابية في الجامعات والمدارس الأهلية المقصود منها الربح جائز إن كان لمطلب حق لا يخالف الشرع أو القانون المنبثق منه، ولا يخالف الشروط واللوائح والأنظمة العادلة التي تسير عليها هذه المرافق العلمية.

فأما ما خالف الشرع فهو معصية، كمظاهرة لنزع الحجاب، ومنع الصلاة في هذا المرفق، أو مظاهرة لدعم مفسد تعصبا لحزب أو لمصلحة ذاتية، فهذا محرم. وكذا المطالبة بها كتابة أو شفاهة، فرادى أو جماعة، باعتصام، أو تظاهر، أو فعالية، أو مهرجان، أو إضراب. والأمر والإذن والتصريح بأي شيء مما سبق باطل، ولا طاعة لأحد ولو كان ولي الأمر الأول والأكبر أو ما دونه في مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو زوجاً، أو حزباً، أو نقابة، أو اتحاداً، فلا طاعة لهم في المعصية. وكل ما خالف من الاعتصامات ونحوها الشروطَ واللوائحَ والأنظمةَ العادلة في تلك المرافق فالأصل المنع من الاعتصام لأجله؛ لأن هذه شروط، والمؤمنون عند شروطهم، إلا ما كان من هذه الشروط مخالفا للمصالح العامة، فهو عبث باطل. وهذا في مرافق التعليم الحكومية ظاهر؛ لأن تصرفات الولاة منوطة بالمصالح الغالبة. وأما في المرافق التعليمية الخاصة التي يقصد بها الربح، فإنها معاوضة محضة من باب الإجارة؛ لأنها بعوض مالي مقابل تعلم. فما خالف هذا العقد من إخلال مؤثر في العملية التعليمية، فيجوز للطلاب المطالبة بمتقضيات العقد مع المرفق التعليمي، ووجب على الإدارة الاستجابة لذلك؛ لوجوب الإيفاء ببنود العقود بالنص (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ويجوز عند الحاجة القيام بنشاط طلابي كمهرجان، أو اعتصام لإلجاء الإدارة للتجاوب معهم. فإن كان المرفق التعليمي أهلياً خيرياً: فالحقوق الطلابية التي لا تختص بمكان دون آخر نحو: وجوب تسليمه مؤهله، أو رفع ضرر ظاهر وقع عليه خطأ أو عمدا، كضياع أوراق امتحاناته، وثبت حضوره بتوثيق وتوقيع، فوقع ظلم عليه في ذلك بلا تعمد. أو وقع عمدا كتأخير بطاقة، أو رقم جلوس لا يدخل الاختبار إلا به، فهذه وأمثالها حقوق مستوية، فما أخل بشيء منها إخلالا فاحشا لا يمكن تداركه وترتب عليه ضرر لم تدفعه الإدارة بعد متابعة ومطالبة كافية؛ فنصرته واجبة من زملائه، أو الكيان النقابي الطلابي

2 - اعتصام الأجراء والموظفين

بأي فعالية طلابية سلمية لا يترتب عليها إفساد وإتلاف منهم؛ لأن نصرة المظلوم واجبة. وقاعدة الاعتصامات والإضرابات وأخواتها أنها: أولا: لا تجوز إلا بتبيين حقيقة الأمر المراد إحداث ذلك لأجله. ثانيا: كل اعتصام أو إضراب لأجل أمر يحق لمن اعتصموا ضده أن يفعله شرعا أو بقانون منبثق منه فهو غير جائز، نحو فصل طالب؛ لمخالفةٍ معتبرة عقابُها الفصلُ حسب اللوائح. 2 - اعتصام الأجراء والموظفين: والنوع الآخر من الاعتصامات هو: اعتصام الأجراء والموظفين، فهذا قسمان: منه قطاع خاص، ومنه عام. وقاعدة ذلك: كل اعتصام للإيفاء ببنود العقد مشروع؛ لأنها مطالبة مشروعة فتصح بالقول والفعل، ويشترط عدم حدوث ضرر فاحش أثناءه، لأن الضرر لا يدفع بالضرر، إلا في حالة وجود ضرر عام فاحش أخلَّ بحقوق الأجير والموظف، فلا مانع. ولو حدث ضرر غير مباشر، كالخسارة التجارية جراء الاعتصام من الأُجراء فيُنظرُ في آلية دفعه، أما الضرر بمباشرة فعلية وهو الإتلاف باليد تعمدا، فهو حرام، ويضمن المُتْلِفُ ما أتلفَه. والضرر العام يقدم دفعه على الخاص، ويتحمل الخاص عند التعارض. ولأن ارتكاب المفسدة الأخف لدفع المفاسد الأعم مشروع، وهذا منه؛ ولأن الضرر التجاري من الإضراب والاعتصام يسيرٌ غالبا في القطاع الخاص والعام. أما الخاص؛ فإن تضرر تضررا بالغا حرم؛ لأن الضرر لا يدفع بالضرر، بخلاف العام فالضرر عادة لا يؤثر؛ لأنه -بالنسبة إلى القطاع العام ككُلٍّ- يسير. وإذا كان الاعتصام أو الإضراب لطلب زيادة في المرتب لم يتضمنه العقد، والزيادة لا تضر بالمرفق، ومما يمكن زيادة مثلها لمثلهم بلا ضرر وتنفع الأجراء، فإنه يباح ذلك؛ لأن طلب الأجير زيادة في أجرته مباح، وما ترتب على ذلك مباح من إضراب، أو اعتصام لا يخل بسير العمل، فإن أخل منع؛ لأنه ضرر على خاص من خاص، والضرر لا يدفع بمثله، وخلف للعقد؛ لأن المطالبة بزيادة عوض على ما في العقد مباحة ما لم يترتب عليها ضرر وإلا منعت، إلا إن كان

أنواع الإضرابات والاعتصامات للأجراء والموظفين

الراتب غير عادل ولا مجزئ، فهو من الظلم والغبن الفاحش، فيدفع. فإن طالبوا بحقوق مقرة شرعا وقانونا كنثريات أو بدلات سفر ونحوه، فإنه يرجع فيه إلى العرف؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وإن لم يتضمن العقد، إلا إذا نص العقد على إسقاطها، فالتصريح مقدم على الدلالة، ولهم إذا لم ينص على إسقاطها المطالبة بها بسائر الوسائل التي لا تناقض الشرع. ويجوز اعتصام أو إضراب غير مخل ولا مضر ضررا فاحشا بالعمل، كإحداثه متقطعا على فترات؛ لتحقيقه دفع المفسدة العامة على الأجراء والمفسدة الخاصة على رب العمل الفعلي أو الاعتباري. أنواع الإضرابات والاعتصامات للأجراء والموظفين: 1 - في القطاع العام. 2 - في القطاع الخاص. 3 - في المجال الطبي. 4 - في المجال التجاري. 5 - في المجال التعليمي. 6 - في المجال العسكري والأمني. أما الإضرابات والاعتصامات في المجال الطبي فالأصل أنها جارية في الحكم كأحكام ما سبق: من أن الأصل الإباحة وغيره في الجملة، وأفردت لتعلقها بحفظ النفس بالمباشرة. فيجب على طبيب موظف وصلت إليه حالة مرضية اعتيادية معاينتها؛ لأن هذا هو أصل العقد معه، والإيفاء به واجب عليه كفاية (¬1). وإن كانت الحالة المرضية طارئة لا تحتمل التأخير تعين عليه إنقاذها، فإن أبى ذلك لعلة إضراب أو نحوه، فهلك المريض، أو تلف عضو منه فإنه آثم. وإثم قتل نفس هلكت بالإمكان له إنقاذها يستنبط من قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا ¬

(¬1) - قلت «كفاية» لأن الحالات الاعتيادية يجوز للطبيب أن يحولها إلى غيره.

قواعد هامة

عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). والإحياء يكون بإنقاذها من التلف المهلك ونحوه، والقتل يكون بالمباشرة أو التسبب، وهو من الإفساد في الأرض في حالات، ومنه ترك إنقاذ مريض في حالة يمكن إنقاذها بيسر، كحالة ربو شديدة أدت إلى الاختناق، وبالإمكان للطبيب إعطاؤه الأوكسجين حال وصول الحالة، فامتنع لعلة الإضراب، فمات الرجل أو تلف عضو منه بشلل لنقص الأكسجين، فالطبيب مشارك في الفساد في الأرض؛ فيأثم، وقد يضمن بغير قصاص. قواعد هامة: والقاعدة في جميع الإضرابات والاعتصامات بالنسبة للضرورة: 1 - أن ما ترتب عليها من ضرر حالاً أو مآلاً ويمكن تفاديه حالا فهي جائزة بالتفادي، كإضراب على منافذ السير، فيمكن ترتيب فتح المنافذ مع استمرار الإضراب في المحل. 2 - ما لا يمكن تفاديه حالا ويمكن دفعه مآلا فلا مانع منه في الجملة كإضراب طلاب لفصل دراسي يمكن تعويضه بمثله في زمن العطلة الدراسية. 3 - وما لا يمكن تفاديه لا حالا ولا مآلا لتعلقه بإزهاق نفس أو تلف عضو فيحرم كإضراب الأطباء إن حصل هذا الضرر. ضوابط هامة للإضرابات والاعتصامات في المجالات المختلفة: 1 - الإضرابات في شريحة من القطاع العام ولو سببت أضراراً إلا أنها يسيرة في التأثير في القطاع ككل فتتحمل ويدفع ضرر على المعتصمين والمتضررين إن كان ضررا معتبرا. ولأنه يمكن دفعه مآلا بإضافة دوام بقدر زمن الإضراب يدفع به الضرر. 2 - فإن كان في القطاع الخاص فالأصل المنع منه مع حصول الضرر؛ لأن الضرر لا يدفع بالضرر؛ ولأنه ضرر معتبر في الواقع ليس بيسير؛ ولأن الضرر في هذا القطاع لا يتحمل غالبا؛ ولأن العقد يمكن فسخه ابتداء من طرف القطاع فيمكن فسخه في الأثناء لطارئ إضراب، أو اعتصام لموظفين.

بخلاف العقد مع القطاع العام، فهو عقد مع الدولة، وهي ملك للعموم، فالوظيفة الحكومية عقد لازم من الطرفين؛ لأن التوظيف الحكومي هو من المال العام فكان حقا عاما بشروطه، فلا يحق للجهة فسخه لإضراب؛ لأنه حق مقنن عام. وما ترتب على المشروع مشروع وهو الإضراب في حقٍ مشروع، فلا يعاقب فاعله. 3 - أما الإضرابات الطبية إن حصلت، فيجب بقاء من يقوم بقسم الرقود الداخلي واستقبال الحالات الطارئة أو ما مآلها إلى الضرر. 4 - أما الإضرابات من المعلمين وأساتذة الجامعات فهي من النوع الثاني؛ لأنه مما يمكن دفع ضرره مآلا بتمديد الدراسة أو تكثيف ونحو ذلك. 5 - أما الإضرابات والاعتصامات في القوات المسلحة والأمن والشرطة والمرور فهي إن عمت محرمة لا تجوز؛ لأدائها إلى مفاسد كبيرة خارجية، وداخلية، وإزهاق الأنفس، وإتلاف للأموال، وانتشار للجريمة؛ لعدم وجود من يسد مسدهم، وعوضها تشكيل لجنة داخلية للمطالبة بحقوقهم. وقولنا «إن عمَّت»: شرط للتحريم؛ لجواز الجزئية بشروطها. 6 - يحرم إضراب أئمة وخطباء المساجد ومدرسي القرآن لأدائه إلى تعطيلها؛ ولأن الأصل فيها الطوعية والمجانية. 7 - أما إضراب واعتصام القضاة فهو جار على أصل الجواز بالتفصيل السابق. وفرض واجب بقاء طائفة للبت في القضايا العاجلة وما في حكمها؛ لأن تأجيل رفع الظلم محرم. 8 - وقطاع الاتصالات والمواصلات بأنواعه وكذا الإعلام وغيرها على أصل جواز الإضراب والاعتصام؛ لحاجة بحسب ما سبق من القواعد الضابطة. 9 - والإضراب في قطاع الكهرباء إن عم ترتب عليه تعطل أمهات المصالح، فحرم. ويجوز إذا رُتِّبَ بقاء ما يقيم الضرورات ويدفع كبائر المفاسد جمعا بين المصالح ودفعا للمفاسد، ومثله قطاع النفط والغاز.

وأما العصيان المدني

وأما العصيان المدني: فيمكن أن نعرفه فنقول: العصيان المدني هو: ترك الطاعة لمن تجب له طاعة مقيدة من البشر لعلةٍ. وأما من تجب طاعته مطلقا وهو الله ورسوله فيحرم العصيان لأي أمر، لقوله تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63). وقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (التغابن: 12). والنصوص كثيرة. وطاعة الله ورسوله هي: عدم مخالفة القرآن والسنة. وأما من تجب طاعته مقيدة فهم: أ- الوالدان ما لم يأمرا بخلاف ما أمر الله به ورسوله. ب- والزوج طاعته واجبة على الزوجة في المعروف (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (النساء: 34)، فإن أمر بما لا يجوز في الشريعة فلا طاعة له. ج- وطاعة أولي الأمر للنص (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) وهو مقيد بقوله تعالى في نفس النص (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59). أي إذا اختلفتم مع أولي الأمر فتابعوا طاعة الله ورسوله. والعصيان المدني هو: ترك طاعة الحاكم، وهو مقيد في الإطار المدني السلمي، لا المسلح؛ لأن المسلح له شروط عسيرة وتقديرات صعبة. فإن أمر الحاكم بأمر على خلاف الشريعة، أو على خلاف ما تقتضيه المصلحة الغالبة العامة، وخلاف مقتضيات العقد معه الممثل في الدستور، فأمره باطل ولا طاعة له، فإن أجبر الناس على طاعته فهو منكر، فمن استطاع تغييره وجب عليه باليد واللسان والقلب؛ للنص في قوله صلى الله عليه وسلم «سيكون أمراء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» (¬1) أخرجه أحمد وغيره. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

والاستطاعة إما: 1 - فردية في تحمل البلاء كسيد الشهداء الذي أمر ونهى فقتل، وهو ثابت في النص الصحيح «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (¬1)، وكصاحب قوم فرعون الذي آمن سراً (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (غافر: 28)، وكما فعل الأنبياء والرسل مع الجبابرة وهم فرادى. 2 - أو جماعية: فإن كانت بالسلاح منعت؛ لأنها تغلب عليها الفتنة التي تجاوز حدود الجواز ويتعذر تقديرها، وإن كانت بغير السلاح كالخروج في مظاهرة، أو اعتصام، أو إضراب فلا مانع فيه في الأصل على تفاصيل سبقت. فإن استطاعوا تغيير المنكر بذلك كفى، فإن لم يُستطع ذلك فهذا الحاكم الآمر على خلاف أمر الله ورسوله وخلاف مقتضيات المصلحة الغالبة العامة تعتبر أوامره باطلة، وهو فاسق، وولايته باطلة؛ لأن الولاية لا يعهد بها لظالم (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)؛ ولأن الله شرط في الحكم العدالة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95). والعدالة في الشخص غير العدل، بل هو من مقتضياتها. فأوامر هؤلاء المخالفة للشريعة هي الأهواء، والله يقول (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (المائدة: 48). فيحرم العمل بهذه الأوامر، وللنص (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152). وهو معنى العصيان. فإذا اتفق الناس عليه فقد اتفقوا على العصيان وهذا هو العصيان المدني، ويدل له حديث البخاري «هلاك أمتي على يد أغيلمة سفهاء من قريش. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم» (¬2)، والاعتزال الشعبي هو مقصود العصيان. وللحديث الصحيح «لا تكن لهم جابيا ولا شرطيا، ولا خازنا، ولا عريفا» (¬3). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

وقد يكون هذا جزئيا، أو كليا بحسب مخالفة الحاكم للشريعة وما انبثق من المصالح العامة للناس. فيكون جزئيا مع جزئيات المخالفة، وكليا مع كليات المخالفة. ويجب هنا التفريق بين مسألتين هما: الحاكم العاصي، والحاكم الآمر بالمعصية. فالحاكم العاصي في نفسه فاسق والأصل بطلان ولايته، لكن إن أجرى العدل والحق فالصحيح أن أمره إلى الله. ومترتبات الإنكار العام بالإضراب ونحوه لمعصية الحاكم فيما بينه وبين الله غير مشروعة؛ لأنه في معصية نفسه كآحاد الأمة، يوجب ذلك نصحه سرا وموعظته وعدم فضحه إلا إن أعلن وجاهر، لأن الناس يقتدون به. بخلاف الحاكم الآمر بالمعاصي، فهنا تعلقت المعصية بأصل وموضوع الحكم، فهذا معصيته في ما أمر على خلاف الشرع واجبة وفرض عين على كل أحد. فإن أكثر من ذلك كثرت معصيته وتوسعت حتى يتشكل عصيان مدني مجتمعي فردي وأسري ومجتمعي ولو بلا توافق. فإن توافقوا وأعلنوا فهو من التعاون على البر والتقوى. وهذا هو العصيان المدني الفردي السلمي الذي ينتهي بانتهاء المفاسد ورفعها، أو بإسقاط الآمر بمعصية الله والفساد في الأرض باسم الشعب وشرعيته وهو الحاكم، وكل هذا جائز. ويدل له الكثير من النصوص كأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والتعاون على البر التقوى، وحديث البخاري «لو أن الناس اعتزلوهم» وحديث «لا تكن لهم جابيا ولا شرطيا ولا خازنا ولا عريفا»، ومنه قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39). فإن بغى عليهم نظام حاكم، فعلى الشعب أن ينتصر على هذا البغي بوسائل تجلب أفضل المصالح وتدفع أكثر المفاسد. والاعتصامات والعصيان المدني السلمي العام لإسقاط البغي الظالم هو من الانتصار على البغي، وهو أعلى أنواع الانتصار؛ لأدائه إلى إزالة الظلم والبغي بقوة الجماعة العامة سلماً.

والعصيان المدني ليس خروجا على الجماعة والنظام؛ لأن الذي تمارسه هي الجماعة كلها، أو غالبها، ولأن دلالات المنصوص دلت عليه، وقواعد وأصول الشرع لا تمنعه. وهناك فرق بين خروج الجماعة ككل على الحاكم، وخروج شرذمة من الجماعة على الجماعة وهو الانقلاب، أو عن الجماعة وهو الانشقاق، والحاكم خارج عن إرادة الجماعة وهو فرد خالف مقصود العقد المبرم معه، وعاد عليه بالإبطال فبطل عقده وخرج عن الجماعة وشرطها ويدها. ومن الأدلة قوله تعالى (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الشورى: 41 - 42). فهذا يدل على أن الانتصار العادل الذي يقوم به المظلوم ضد الظالم لا يؤاخذ عليه، وهذا عام يدخل فيه الإضرابات والاعتصامات، والمظاهرات، والعصيان المدني، وكلها وسائل سلمية لتغيير المنكر والظلم، فجازت. فكل مظلوم صنع ذلك فلا سبيل عليه، بل يعد فعله من الأمور التي مدح الله بها المؤمنين. ويصنع كل ذلك بحسب المظالم عموما عاما، أو عموما خاصا. فالبغي العام يدفع بما يناسبه زمانا ومكانا. والظلم العام على الأمة يدفع بتغيير عام من الأمة لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11) (¬1). فشرع فعلها جوازا أو وجوبا؛ لأنها وسيلة إلى تغيير المنكر، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ولأن من ادعى المنع لا حجة له سوى التعلق بأحاديث الصبر والطاعة والخروج، وكلها لا تأتي هنا، إذ هي واردة في وقائع جزئية يسيرة لا في عموم فساد في الأرض، وشرط القياس مساواة الفرع للأصل المقيس عليه، أما كونها خروجا فلا معنى له؛ لأنه وارد في الخروج ¬

(¬1) - فهذا أمر بتغيير الجبن إلى شجاعة، والسكوت عن الظلم إلى التعبير ضده، والتعاون مع الحاكم الظالم إلى التعاون مع الشعب، والنفاق والمداهنة النفعية إلى البراءة منها وتحديد الموقف. وهذا الموضع كان الخاتمة وآخر ما كتبته من الكتاب، وكان قبل سقوط نظام الزين في تونس الذي مثل أول الربيع العربي، ثم أضفت له بعد الثورات في أول سنة 2012 م تمام الجزء الاقتصادي وبعض المسائل المتفرقة.

المسلح، وليس هذا موضوع البحث هنا وإلا للزم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلما، ولكان سيد الشهداء الذي قال الحق لظالم فقتله خارجا عن الحق، ولمَّا كان أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، ولبطُلَت نصوص وقواطع محاربة الفساد في الأرض، فتبين بطلان هذا القول (¬1). ¬

(¬1) - انظر ما كتبته بتوسع في فقه السمع والطاعة.

العلاقات الدولية والسياسات الخارجية

العلاقات الدولية والسياسات الخارجية

الأصول الستة التي تقوم عليها العلاقات والسياسات الخارجية

العلاقات الدولية والسياسات الخارجية الأصل دعوة كل كافر لا قتل كل كافر، والأصل السلام لا الحرب، لقوله تعالى (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، وقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). والأصل إعداد القوة البالغة بجاهزية بالغة للردع عند فرض ذلك فرضا شرعيا (¬1). - الأصول الستة التي تقوم عليها العلاقات والسياسات الخارجية: والعلاقات والسياسات الخارجية قائمة على ستة أصول استنبطناها بالتتبع والاستقراء من نصوص القرآن والسنن ومقاصد وقواعد الشرع. فالعلاقات بين دولة الإسلام وغيرها، وبين المسلم وغيره: تعاونية، تبادلية، سلمية، مثلية، عادلة. والقتالية استثناء عند اقتضاء السبب من عدوان أو فتنة لأهل الإسلام، أو لمن أراد الدخول في الإسلام. فقولنا «تعاونية»: وذلك كما تعاون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود أول مقدمه المدينة على حماية المدينة بوثيقة مشهورة منقولة بالاستفاضة عند أصحاب السير (¬2). وجاء في الصحيح عند البخاري أن علي بن أبي طالب ذهب مع يهودي لجلب الإذخر وبيعه في السوق لوليمة عرسه (¬3)، وهذا تعاون. وكانت الأسواق التجارية مفتوحة للتجار، وقنن عمر ذلك (¬4)، وأمر بتيسير عمل التجارة ¬

(¬1) - والجهاد مفروض لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، ولدفع بغي وعدوان، انظر فقه الجهاد من كتابنا هذا. (¬2) - تقدم تخريجها. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 2089 عن علي بن حسين أن حسين بن علي رضي الله عنهما أخبره أن عليا قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي. (¬4) - قولنا «وقنن عمر ذلك» أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بسند صحيح برقم 10686 أن عمر بعث عثمان بن حنيف، فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون بها في كل عشرين درهما درهما، وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فرضي وأجازه، وقال لعمر: كم تأمرنا أن نأخذ من تجار أهل الحرب؟ قال: كم يأخذون منكم إذا أتيتم بلادهم؟ قالوا: العشر، قال: فكذلك فخذوا منهم.

من كفار وغيرهم. واقترض صلى الله عليه وسلم من يهودي، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند يهودي في شعير (¬1). وزار صلى الله عليه وسلم يهودَ وأكل من طعامهم (¬2)، وأحل الله لنا طعام أهل الكتاب والزواج منهم بالنص، وهذا يمثل أقوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية والتعاونية (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة: 5). وهاجر المسلمون إلى الحبشة عند النجاشي وهو على النصرانية، وهو كاللجوء السياسي اليوم. والله يقول (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8). فأمر بالبر، وهو ما أمر الله به في آية التعاون (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). وعليه فالتعاون الدولي بين دولة الإسلام وغيرها من الدول، وبين المسلمين وغيرهم: رسميا، وشعبيا، وفكريا، وإنسانيا، وسياسيا، واقتصاديا، أمر يمثل الأصل في التعامل مع الدول. فلا مانع من إقامة علاقات الابتعاث العلمي، والتبادل التجاري، والاقتصادي، والحوار الفكري، والإغاثة الإنسانية الرسمية والمدنية للمتضررين والمنكوبين. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «وأكل من طعامهم» يدلل ذلك ما أخرجه البخاري برقم 2617 ومسلم برقم 5834 من حديث أنس أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل ألا نقتلها قال: لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الاقتراض الدولي بدون فوائد، أو المشاركة في شركات استثمارية داخل الدولة وخارجها، لا مانع منه. وكذا تبادل الزيارات الرسمية التي تهدف إلى التعاون الدولي الاقتصادي والسياسي، بشرط ألا يكون مصادما لأصل شرعي كتسليم مسلم أو لاجئ سياسي كافر مستجير في دولة الإسلام لدولة كافرة؛ لأن ذمة المسلم لا يجوز أن تخفر؛ للنص «ويسعى بذمتهم أدناهم» (¬1). كما لا يجوز التعاون المؤدي إلى ضرر وإذلال وارتهان لدولة الإسلام. وقولنا «تبادلية»: مثل تبادل التجارات والخبراء والخبرات والبعثات الدبلوماسية والأسرى والمصالح والمنافع العامة التي تعود بالخير على الأمة. وأفردناها عن التعاونية مع دخولها فيها؛ لأن العلاقات التبادلية أخص سياسة؛ لأنها مقابلة مشروطة بما يقابلها به الآخر بخلاف التعاون، فقد يكون ابتداء من جهة لا تبادليا مشروطا. وقولنا «سلمية»: هذا هو الأصل في التعامل، والحربُ استثناء بشروط لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، فالتعارف مقصودٌ، والقتال خلافه. ولقوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهذا عام. وقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، والرحمة قائمة على السلام العالمي وتبادل المصالح. وقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). أما الأوامر بقتال المشركين والكفار، فقد أجبنا عليها في فقه الجهاد من كتابنا هذا، وقررنا أنها مسببة معللة لا أصل مبتدأ يتعامل به. ¬

(¬1) - أخرجه أحمد برقم 6797 من طريق عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: المسلمون تكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. قلت: هذه الصحيفة حسنة صحيحة. وأخرجه أحمد كذلك برقم 993 عن علي بسند على شرط الشيخين. وهما في سنن أبي داود والنسائي.

وقولنا «مثلية»: لقوله تعالى في السلم (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: 61). والنهي عن طلب السلم منا هو مع عدم طلبهم ذلك؛ فيكون الابتداء به فيه نوع وهن؛ ولأنها خلاف سياسة المماثلة، إذْ من حارب قوبل بالمثل، فعرض السلم عليه ممنوع ابتداء؛ لأنه يؤوَّل بالوهن، قال تعالى (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) (محمد: 35). وقال (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وقال في المماثلة السيئة (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40). وقال (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194). فأمر بالاعتداء المماثل لا مجرد دفع الاعتداء، فمن احتل دولة للإسلام فالرد من وجهين واجبين، الأول: إخراجه منه، والثاني: الاعتداء عليه باحتلال مماثل قدرا وزمنا ومكانا عند القوة وإلا اكتفي بمجرد الدفع. هذا ما تقتضيه الآية من الفهم. وإخراج الاحتلال دليله الخاص (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191). وقولنا «عادلة»: دليله قوله تعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 8)، فأمر بالعدل مع العدو، فكيف مع من يعدل معك ويسالمك؟ ولا يلزم من كون الدولة دولة حرب أن شعبها كذلك، بل عامة مواطنيها وقاطنيها أهل سلم، من نساء، وأطفال، وشيوخ، وعباد. وكل من لم يقاتل ويعاون ويظاهر على الحرب فهو من أهل السلام، لعموم قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 - 9).

العلاقات الأمنية

وقولنا «قتالية عند اقتضاء سببه من عدوان»: لقوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، ودفع فتنة عن أهل الإسلام؛ لقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)، وهذا عام، فيشمل قتال من منع الناس عن الدخول في الإسلام، أو فَتَنَ من أسلم واستضعفه، وأسباب القتال دائرة على هذا (¬1). العلاقات الأمنية: وتنقسم الأنظمة إلى: 1 - أنظمة حرب غير معاهدة. 2 - أنظمة حرب معاهدة. 3 - أنظمة سلام محايد. 4 - أنظمة سلام مناصر، كمن دخل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وكمحالفته لليهود ونظام النجاشي. 5 - أنظمة سلام على الأصل (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ). 6 - أهل سلام مشروط. أولاً: أنظمة الحرب غير المعاهدة: والتعامل معها بما يكف خطرها وبأسها. فمن ذلك: أ- التعبئة القتالية العامة (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84). ب- وإمكان القتال للمتاخم المحارب عند اقتضاء الأمر وضرورته، والاستعراض العسكري، والمناورات وغيرها. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123). ¬

(¬1) - انظر فقه الجهاد من كتابنا هذا.

والغلظة: منها إظهار قوة الردع، والمناورات، والاستعراضات، والقتال إذنٌ وأمرٌ حين تتوفر دواعيه. ج- والمعاملة بالمثل العام (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 36). د- والرد على العدوان المعين (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194). والفرق بين الصورتين أن هذه الأخيرة تمثل استراتيجية الرد السريع، وأما الأولى فهي استراتيجية الردع العام. هـ- والإعداد الاستراتيجي (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60). و- وقبول عرض السلام (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال: 61). ي- وحرمة الابتداء بالدعوة للسلام للكافر المحارب الذي يشكل خطرا ويفهم من الدعوة أنها من مصدر وهن؛ للنص (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) (محمد: 35). وقولنا «للكافر المعتدي» خرج به الكافر غير المعتدي، فالسلام على الأصل لقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). فإن شكل خطرا وجب التعامل معه بما يقتضي المصلحة العامة. ز- وأثناء المعركة ومباشرتها مع الكفار المحاربين يجوز الدعوة إلى الإسلام، أو السلام المشروط، أو الحرب (¬1). ومقابل السلام المشروط تدفع لخزينة الدولة من القادر الذكر البالغ رسوم حماية تسمى الجزية. ¬

(¬1) - قيدنا هذا بأثناء المعركة ومباشرتها حتى لا تتخذ هذه الخيارات على العموم في كل صور التعامل لوجود أنظمة سلام على الأصل ومحايد ومناصر واستنبطنا ذلك بالاستقراء جمعا بين النصوص، ودفعا لتعارضها؛ ولوجود صراحةٍ في النص وهو «إذا حاصرتم حصنا .. » فدل على وجود معركة، فهذا يقيد ذلك.

ويجوز الاجتهاد في إسقاطها اسما لا حقيقة كما فعل عمر على أهل الكتاب من العرب وأخذ منهم كالزكاة أو ضعفها (¬1). وهذه تفرض في قوة محاربة استسلمت في الحرب، ولهم دينهم، وحرياتهم، وأموالهم، وأعراضهم، ومحاكمهم ونظامهم بكامله، إلا ما اقتضاه النظر المصلحي العام من الأمور. ح- وأما في داخل جزيرة العرب فلا يقبل وجود أي دين بشكل دولة، أو قوة منظمة تستطيع الضرب من الداخل، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (¬3)، وليس معناها الأفراد ولا الأقليات الأسرية المسالمة التي لا تحمل أي سلاح، فإنها موجودة من زمنه صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وبلا نكير (¬4). فدل على أن المقصود التواجد العسكري المسلح الذي يشكل خطرا داخليا ونظاما مناوئا. ولهذا تبطل كل معاهدة من هذا النوع، ويعطون مهلة كأربعة شهر وتنزل على هذا آيات الافتتاحية في سورة براءة (بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة: 1)، أي عاهدتم في جزيرة العرب كيانات مسلحة أو داخل الدولة المسلمة ولو خارج الجزيرة، وحملناها ¬

(¬1) - قولنا «كما فعل عمر» أخرجه البيهقي في السنن برقم 19117 بسند صحيح إلى الشافعي، قال الشافعى: قد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أكيدر الغسانى ويروون أنه صالح رجالا من العرب على الجزية فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الخلفاء إلى اليوم فقد أخذوا الجزية من بني تغلب وتنوخ وبهراء وخلط من خلط العرب وهم إلى الساعة مقيمون على النصرانية يضاعف عليهم الصدقة وذلك جزية وإنما الجزية على الأديان لا على الأنساب ولولا أن نأثم بتمني باطل وددنا أن الذي قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجرى صغار على عربي ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به. ووصله من طريق أخرى. (¬2) - أخرج مالك في الموطأ برقم 1584 عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب قال مالك قال ابن شهاب ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر قال مالك وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 3053، ومسلم برقم 4319، كلاهما عن ابن عباس. (¬4) - وللجنة الإفتاء بالمملكة اجتهاد خاص هنا في منع دخول العمالات الأجنبية الكافرة جزيرة العرب.

ثانيا: أنظمة الحرب المعاهدة

على هذا فقط؛ لأن غيرهم فيه قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فهؤلاء خارج الدولة ولو أهل سلاح أو داخلها من المواطنين السلميين غير المسلحين سلاحا يناوئ الدولة ويشكل خطرا على السلم الاجتماعي. هذا فيمن ظهر أو خيف غدرهم أو لم يكن له عهد، أما غيرهم فيوفى إلى المدة ثم يخرجون بدليل (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4). ثانيا: أنظمة الحرب المعاهدة: فهؤلاء يوفى إليهم عهدهم إلى مدتهم لقوله تعالى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4). ثالثا: أنظمة السلام المحايد: فهؤلاء يحافظ على حيادهم (أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (النساء: 90)، فهؤلاء لا يريدون القتال مع أحد. وحصرت: ضاقت وكرهت صدورهم القتال. رابعا: أنظمة السلام المناصر: فهؤلاء يحافظ على السلام معهم، ولا يجوز حربهم، بل برهم والقسط معهم كالنجاشي، وكل دولة تناصر قضايا المسلمين فهي دولة بر وسلام ومناصرة. خامسا: أنظمة السلام على الأصل أو دول المتاركة: وهم الدول البعيدة عن دول الإسلام غالبا، فالأصل معهم الدعوة والسلام وتركهم «اتركوا الترك ما تركوكم، وذروا الحبشة ما وذروكم» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 4304 عن أبي سكينة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم». قلت: سنده صحيح. وأخرجه النسائي برقم 3176.

سادسا: أنظمة السلام المشروط

سادسا: أنظمة السلام المشروط: وهم أهل الحرب المستسلمون، ويشرط عليهم شروط، ولهم السلام والأمان والحريات ومحاكماتهم إلى محاكمهم أو شريعتنا، بحسب المصلحة (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42)، ويدفعون رسوما تسمى الجزية، أو رسوم مواطنة تكافلية لازمة على القادر منهم؛ لعدم التعبد بالاسم؛ ولأن المسلمين يدفعون الزكاة فهؤلاء يدفعون هذه الرسوم، ولا تسقط بالضرائب؛ لأنها رسوم للدولة على أمور معينة من مسلم وغيره تؤخذ حال حاجة الدولة، وإلا فالأصل عدم أخذ شيء على مسلم سوى الزكاة، وغير مسلم سوى رسوم الجزية. العلاقات العامة: وما ذكرناه سابقا فهو في الأنظمة، أما في الشعوب والأفراد فهم: 1) إما مقاتل، فهذا له حكم نظام الحرب. والمقاتل: كل مباشر للحرب ظهيراً أو معاوناً، والقوات المسلحة تدخل في هذا دخولا أوليا. 2) وإما مدني، وهذا له حكم السلام ولو كان في دولة حرب. والمدني: من ليس من الجيش ولم يشارك أو يظاهر على أهل الإسلام. الدخول إلى بلاد الإسلام ومن دخل بلاد المسلمين، ولو مقاتلا بأمان أو عهد، فلا يجوز قتله. والأمان يكون بالتأشيرة للدخول أو الإذن الرسمي. ومن جاء من السياح والزائرين والتجار وسائر المدنيين من كل الشعوب، كتابياً، أو وثنياً بدين، أو بلا دين، فإنه في الأصل يدخل تحت الأمر بالبر والقسط لقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). ولا يجوز قتله ولا الغدر به؛ للنص «من قتل معاهدا أو ذميا أو مستأمنا كنت خصيمه

حرمة إيذاء الداخلين إلى بلاد الإسلام بأمان

يوم القيامة» (¬1). فإن قبض على جاسوس تعاملت معه الدولة بالمصلحة، ولا يقبض عليه مواطن، ولا يقتله، ولا يؤذيه، بل يبلغ عنه وجوباً. ودليل الوجوب أنه دفع لمنكر «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» (¬2). وأما أنه لا يباشر هو عقوبته؛ فلأن الدولة منعت ذلك وطاعتها في المصالح العامة واجب للعموم في النص؛ ولأنه لو فعل ذلك من شاء لدخل الفساد وعم؛ ولأن الله أمر بالعدل، ولا يعرف العدل الصحيح في هذه القضايا إلا في القضاء، فليس كل إنسان يفقه ذلك ويفقه حُكْمَه وكيف يتعامل معه. حرمة إيذاء الداخلين إلى بلاد الإسلام بأمان: والأصل تبادل العلاقات الإنسانية بين الشعوب والأفراد لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). ولا يجوز خطف السياح ولا إيذاؤهم، ومن فعل فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمر بالبر معهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الاعتداء عليهم. وإن قبض على غير مسلم دخل إلى الدولة المسلمة بدون إذن ولا تأشيرة، أخذ من الدولة لا من مواطن، وأسمع كلام الله، وعرض عليه الدين، ثم يبلغ مأمنه، وهو تسليمه لسفارته أو ترحيله بالطرق الآمنة. اللجوء السياسي: واللجوء السياسي من كافر للدولة المسلمة جائز، وواجب قبوله في الأصل، قال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6). ¬

(¬1) - حديث «من قتل معاهدا .. » أخرجه البخاري برقم 3166 من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 186 عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

منع استهداف السفارات والشركات الأجنبية في بلاد المسلمين

وإبلاغه مأمنه هو توفير الأمان له، إما داخل الدولة، أو إلى محل يطلب من الدولة أن يذهب إليه، لعموم اللفظ. منع استهداف السفارات والشركات الأجنبية في بلاد المسلمين: ويحرم استهداف الشركات الأجنبية والسفارات وغيرها؛ لأنها موجودة بإذن وأمان، فلا يجوز إخفار ذلك، ولا نقضه. ومن فعل ذلك فإنه معتد وغادر، ولو كانوا أهل حرب؛ لأنهم كالرسل بين الدول، وكل رسول داخل بأمان لا يقتل عرفا ولا شرعا ولا قانونا إسلاميا ولا دوليا. فإن أرادت الدولة المسلمة في حالة الحرب طرد السفراء والدبلوماسيين من البلاد جاز لها ذلك. ويرحلون بطرق آمنة حتى يبلغوا مأمنهم (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)؛ لأنهم أهل أمان. العلاقة الدينية: وإن وجدت أقلية كتابية من أهل الذمة داخل الدولة المسلمة من المواطنين لا من المستوطنين فليس لهم بناء كنيسة ومحل عبادة في جزيرة العرب؛ لورود «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (¬1)، وهو محمول على التواجد العسكري المسلح الذي يمثل دولة داخل الدولة، ومحمول على دين ظاهر مع دين الإسلام، وعليه فلا تبنى كنيسة في الجزيرة؛ لأنها أكبر ظهور لدين مع دين الإسلام؛ لأن الحديث عام يدخل فيه كل مظاهر الدين الكبرى ومنها الكنائس؛ ولأنه لا معنى للدين إلا هذا، أو دولة مسلحة. وثَم قول صححه جماعة من العلماء في غير جزيرة العرب، وهو إبقاء ما وجد من كنيسة ومنع بناء آخر. وإنما أخرجنا الأقليات الفردية المدنية السلمية من عموم النهي في حديث «لا يجتمع دينان»؛ للإقرار في دخول العمال، والأجراء، والخدم. وتزوج بعض الصحابة من كتابيات وأدخلوهن جزيرة العرب، وهؤلاء اليوم يمثلون جاليات ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 3053 ومسلم برقم 4319 من حديث ابن عباس، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». وهو شاهد صحيح لحديث «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».

كثيرة من الحرفيين والأجراء في دول الخليج في الجزيرة اليوم، ومن العلماء من أنكر عملا بالعموم، وأكثرهم سكت لعموم البلوى. ولا يجوز إكراه أحدٍ على الدخول في الإسلام بعد البيان لقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256). ولا يجوز داخل الدولة المسلمة السماح لأتباع أهل دين غير الإسلام بالدعوة إلى دينهم كالمبشرين النصارى؛ لأنه بالنص لا يجوز في بلاد الإسلام أن يكون الدين المقبول رسميا إلا الإسلام (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، وهذا عام، وقوله تعالى (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85) يدل على أن عدم القبول هو في الدنيا (¬1). وعلة أخرى بعد دلالة النصوص أن دينهم محلي أسري لبعث موسى وعيسى إلى قومهم لا إلى العالمين. ولذلك لم يثبت نشاط تبشيري عبر القرون المتطاولة حتى بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يدع النصارى واليهود مشركي العرب للدخول في دينهم؛ لعدم تكليفهم بذلك، ومن فعل ذلك كان متطوعا لا مكلفا بخلاف ديننا، فهو عالمي بالتكليف. فلما جاء العصر الحديث في القرن العشرين بدأت حملات التبشير كمجابهة وعناد لأهل الإسلام؛ لذلك فهم على خطأ في حكم دينهم وحكم ديننا، فمنعوا من ذلك بخلاف بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهي عالمية بنص قانون الشرع في القرآن والسنة وبنصوص الكتب قبله. وهذا من الظهور على الدين كله، وغيره محدود بقانون شريعتهم وشريعتنا، وهو قانون سيادي للدولة المسلمة. ¬

(¬1) - فمن دعى المسلمين أو حتى الوثنيين من العمال داخل دولة الإسلام إلى دين غير دين الإسلام فقد دعا إلى فتنة وعمل غير مقبول شرعا، فيمنع الانتقال إلا إلى دين الإسلام من أي دين؛ ولأن الله يقول (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) (البقرة: 193)، فمن دعا إلى غير الإسلام فقد أراد ألا يكون الدين كله لله، وإنما يسمح البقاء على الأديان بعد قيام الحجج؛ للنص (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، ولكن لا يسمح قانونا بالانتقال داخل دولة الإسلام إلا إلى الدين المقبول وهو الإسلام، ويمنع ولو بقتال رسمي التبشير داخل الدولة أو فتنة اتباعه خارجها (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)، فمن ارتد يستتاب فإن لم يرجع قوتل؛ لأنه على فتنة.

حكم معاهدات التسلح

حكم معاهدات التسلح: ويحرم الدخول في معاهدات تمنع على المسلمين منفردين التسلح النووي والاستراتيجي: صناعة، وتسليحا، وبيعا، واستيرادا، كالطائرات والبوارج والغواصات والصواريخ بعيدة المدى والدروع والدبابات والمدفعيات وجميع التكتيكات العسكرية. لأن الدخول في مثل هذه المعاهدات المجحفة خلاف مقصود النص الشرعي (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60). والقوة منها الرمي لحديث «ألا إن القوة الرمي» (¬1)، فإن امتنع الكل عن التسلح النووي بلا استثناء جاز الدخول في المعاهدة (¬2). ولا يجوز استعمال سلاح نووي؛ لأنه فساد في الأرض والله لا يحب الفساد. ويحرم النووي حتى على العسكريين إلا لضرورة دفع ما لا يدفع بغيره في حالة استعمال العدو له وبمحدودية جدا. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 5055 عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي». (¬2) - أي: فإن امتنع جميع الدول وتم التخلص من سائر أسلحة الدمار الشامل في العالم بحيث لا يملكها أحد دون أحد جاز الدخول في معاهدة دولية عادلة لا تستثني أحدا؛ لمنع أسلحة الدمار الشامل ودليل الجواز منع الفساد في الأرض وهذا منه، وإنما جاز امتلاكه عند امتلاك الكفار له، فلأنه يمنع الفساد في الأرض حينئذ، فإن امتنع الكل جاز. أما إن تبعضت المعاهدة على بعض دون بعض فيحرم الدخول فيها؛ لأن ذلك إضعاف لأهل الإسلام وهو محرم ولأن الله أمر بنقض العهد عند خوف الخيانة (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58)، وتملك دول والسماح لبعض ومنع البعض من تلك الأسلحة هو أولى من مجرد الخوف من خيانة قوم لوجود قرائن على ذلك، لأن الاستئثار بامتلاك سلاح الدمار الشامل ومنع بعض يحدث خوفا منهم أعظم بل ويحدث استسلاما للهيمنة، وهو علامة ظاهرة على تبييت الخيانة في أي لحظة ودخول بلاد الإسلام عنوة، فلا يُدْخَل أصلا في معاهدة غير عادلة كهذه.

وجوب وحدة دول الجزيرة والعرب والمسلمين

ولا تتجاوز استعمالاته منطقة العدو العسكري الذي استعمل نفس السلاح؛ لأنه ضرورة تقدر بقدرها ولقوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، ولقوله سبحانه (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194). وجوب وحدة دول الجزيرة والعرب والمسلمين ويجب على دول الجزيرة السبع خاصة، والعربية عامة والإسلامية إقامة اتحاد مناسب اقتصادي وعسكري وسياسي، وذلك كخطوة أولى وضرورية واجبة مفروضة؛ لأن دونها فيه ضعفهم وتلفهم، وتمكن عدوهم فيهم نافذ، ولا تدفع هذه المفاسد العظيمة إلا بهذا. ويبدأ بالدائرة الأولى لأنهم بيت الإسلام وعقر داره وطريق إلى غيره. يقول تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103). وقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46). والوحدة العربية الإسلامية مفروضة شرعا وكل مقصر عن السعي لتحقيق هذا من الزعماء يأثم لتقصيره. واتحاد دولتين منهم مفروض؛ لأن الشريعة قائمة على تقليل المفاسد وصولا إلى التعطيل، وإلى التخفيف وصولا إلى التجفيف. وتفرق دول الجزيرة السبع أعظم إثما؛ لأنها عقر الإسلام ودياره وأرضه، لذا خصها الشرع بأحكام كمنع تواجد دين ظاهر فيها غير الإسلام؛ ولتحقيقها ما لا يحققه غيرها من المصالح الكبرى ودفع المفاسد العظيمة. ولأنها طريق غالب لانضمام غيرها إليها؛ ولأنها حامية أعظم مقدسات الإسلام (مكة، والمدينة، والقدس). ويليها في الوجوب دول الشام والعراق ومصر؛ فإنها طوق الإسلام وحاميته وثغره، وخصت بالأمر بالقتال لمتاخمها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123)، ثم سائر بلاد العرب والمسلمين.

محكمة العدل العربية والإسلامية والتحاكم الدولي

ووحدة اليمن بين شطريه جزء من الفرض الشرعي، والسعي لفصلها أو ارتكاب مظالم ومفاسد توصل لذلك، هو تعاون على الإثم والعدوان يوجب سخط الله وغضبه في الدنيا والآخرة. محكمة العدل العربية والإسلامية والتحاكم الدولي: ويجب إقامة محكمة العدل العربية والإسلامية لفض النزاعات السياسية بينهم وتحكم بينهم بما أنزل الله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10). ولأن السعي لفض النزاعات واجب شرعي (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9). وحكمها ملزم، ويجب أن يكون لها قوات مشتركة، وإجراءات للإلزام بفض النزاع؛ لأن الله شرع الصلح وشرع قتال الباغي على المصالحة، ولا يكون ذلك إلا بقوة. فإن بغت دولة على الأخرى بعد الصلح وجب ردعها ولو بالقوة المسلحة المشتركة بين المسلمين لا غيرهم؛ وذلك عند تيقن غلبة المصالح (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (الحجرات: 9). ويجب تكرير الصلح، وسائر المساعي الدبلوماسية؛ لعموم الأمر في الآية، والأصل تكرار الأمر بتكرار سببه أو بقائه، ولذا -والله أعلم- ورد تأكيده مرة أخرى بالآية بعد السابقة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10). وفرضٌ السعي لفض النزاعات بين الحكومات الإسلامية والعربية. وإذا سعت دولة عربية أو إسلامية لفض النزاع وجب من غيرها دعمها، ويحرم عكسه؛ لأنها قامت بفرض كفاية. والأصل حرمة التحاكم إلى المحاكم الدولية غير الإسلامية لقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (النساء: 60)، والطاغوت كل ما جُعِلَ التحاكم إليه بديلا عن التحاكم إلى الله ورسوله وشرعه.

حرمة تسليم المسلمين

ولثبوت جورهم وعدم نصيحتهم للمسلمين بالنص والوقائع، وما ثبت واقعا في كل قضايا الأمة العربية والإسلامية كقضية فلسطين وغيرها من لجوء إلى التحاكم الدولي في مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحاكم العدل؛ أكبر إثبات واقعي لتلاعبهم بقضايا المسلمين ومكرهم وعدم عدلهم. ولو لم تنزل آية ولا حديث يدل على تحريم ذلك لكان من المحرمات لما ترتب عليه واقعا من المفاسد الكثيرة والكبيرة على بلاد الإسلام؛ فوجب فرضا إنشاء محكمة عربية إسلامية حقيقية للتحاكم إليها. فالحق أنه لا يجوز مطلقا. ويمكن استثناء حالة الاضطرار في اللجوء إلى القضاء الدولي أو التحكيم الدولي إن قطع بعدله ومساواته بين الخصوم، ونزاهته في النظر في القضايا الدولية، وعدم الظلم والإجحاف وسياسة الكيل بمكيالين؛ جاز بهذه الشروط الترافع الدولي إلى جهاته؛ بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة «أن يهاجروا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد» (¬1). وترافعوا هم وعمرو بن العاص مبعوث قريش إلى النجاشي للنظر في قضيتهم، وإصدار قرار به، والقصة مشهورة حكم فيها النجاشي للمسلمين المهاجرين إليه، وكذلك حكّم يوسف ملك مصر في قضيته وهو كافر. أما إذا كان التحاكم الدولي قائماً على الجور في قضايا المسلمين فيحرم. ووجب فرضا وحدة كيان عسكري وسياسي واقتصادي للأمة. حرمة تسليم المسلمين ويحرم تسليم المسلمين تحت أي مسمى. ويحرم الدخول في اتفاقات دولية ملزمة بتسليمهم، فإن فُعِلَ فهو باطل؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يخذله؛ ولأن التسليم انتقاص من سيادة الدولة واستضعاف لها، يدل له أن دول الهيمنة العالمية الكبرى لا تسلم رعاياها البتة؛ لعلة السيادة. ويحاكم بالشريعة والقانون المنبثق عنها عن أي دعوى في داخل بلاد الإسلام. ¬

(¬1) - تقدم تخريج هجرة الحبشة.

وتسليم حاكم مسلم، أو عالم دين أو دنيا كعالم ذرة، أو تسليم رمز، أو قائد أعظم جرما وخيانة. وهي من طاعة الكافرين وموالاتهم، وخذل للمسلمين وإضعافهم، وكله محرم؛ ولأنه تعاون على الإثم والعدوان. ولا يقاس على مسائل صلح الحديبية في التسليم؛ لأنه كان خاصا بوحي، بدليل أن الصحابة لما كرهوا ذلك استفصلوا من رسول الله فأخبرهم أنه وحي من الله ولن يضيعه فيبقى غيره على الأصل (¬1). ¬

(¬1) - قصة الحديبية أخرجها البخاري مطولة برقم 2731، ونحن نسوقها لكثير فوائدها المتعلقة بالسياسة والأمور العامة، عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك، عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل سأبلغهم ما تقول قال فانطلق حتى أتى قريشا قال إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أولست بالولد قالوا بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال أي غدر ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا، عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا، عن البيت فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك، عن البيت، ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبدالله فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبدالله، قال: الزهري، وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي قال ما أنا بمجيزه لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بل قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت، وكان قد عذب عذابا شديدا في الله قال فقال عمر بن الخطاب فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام، قال: قلت: لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت: لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير -رجل من قريش، وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حتى بلغ (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت.

فقه المال العام

فقه المال العام * (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5) * (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161) * «من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة». * المال هو قوام الحياة البشرية، وبه تقوم الدول، وبه تبنى الحضارات، وبه تنشر العلوم، وبه يرفع مستوى المعيشة، وبه تحمى البلاد من الطامعين، لأنه وسيلة للاستقلال السيادي والسياسي والاقتصادي من التدخلات والإملاءات الأجنبية المعادية، وإن المال هو رصاصة الجندي في ميدان الوغى، وهو قلم الكاتب، ومنجل الفلاح، وهو قارب الصياد، وهو الإرادة السياسية الحرة، وهو كتاب الطالب، وراتب المعلم، وهو منارة العلم. * حفظ المال أحد أهم وأكبر مقاصد الشرع الضرورية الستة (الدين، النفس، المال، العرض، العقل، وزدنا حفظ الجماعة العامة).

تعريف المال العام

فقه المال العام تعريف المال العام: لا بد من تعريف المال العام قبل ذكر مسائله. وبالنظر إلى مفرداته ومتعلقاته بالاستقراء والتتبع يمكن التعريف للمال العام بأنه: ما لا يملك على الوجه الشخصي، ولا يورث، فكل ما يملكه شخص أو أشخاص فليس مالا عاما. وقولنا «يملك» احترازا من الوقف؛ فإنه ولو كان لجهة معينة لكنه غير مملوك، فدخل في المال العام؛ ولو كان نفعه لخاصةٍ، مَثَلُه كمثل توزيع المشاريع الخدمية من الدولة على جهات، فإن كل جهة منتفعة لا مالكة. وقولنا «ما لا يملك» بالمضارع خرج به إحياء الموات فإنه يمكن ملكه بإحيائه. واختلف في إذن الدولة في الإحياء، والراجح عندي أنه يعتبر في مواضع ويمكن ضبطه بأنه فيما لو لم يحصل الإذن لعمَّ الاختلال والبسط على الأراضي، فإن لم يحصل هذا الفساد فالأصل جوازه؛ ولعدم المانع. أو يُعَرَّف المال العام: أنه كل ما تجبيه الدولة. ولكنه تعريف ناقص؛ لأن من المال العام ما لا تجبيه الدولة مثل عقارات وأراضي وأصول الدولة. وإذا قيل: كل ما للدولة جبايته واستثماره، فهو كسابقه، والفارق زيادة «واستثماره». وهي مختلة؛ لأن الدولة قد تستثمر أموالا مملوكة على جهة المساهمة الشعبية في شركات وأسواق، وتعتبر الدولة مضاربة، لها من الربح النسبة المتفق عليها، أو شريكةً إن ساهمت (¬1). ¬

(¬1) - وكل التعاريف التي هي مسطورة في كتابنا هذا هي مستقلة لا مقلدة، ولا منقولة، ولا مهجنة، بل هي فتح خالص من الله ناتج عن بذل الوسع والجهد البالغ الذي استنزف كثيرا من وقتنا وتفكيرنا. والسبب في استقلاليتها، أن الكتاب برمته مقدمة في فقه العصر مما لم نجد، أو نطلع غالبا على أي تعريف له في كتابٍ لفقهائنا الأقدميين يَخُصُّ هذه الأمور المعاصرة التي عرفناها. ولو نقلنا أو استفدنا من أحد قديما أو حديثا لأثبتناه في الهامش كحق أدبي للأمانة العلمية التي يسألنا عنها الله. وزدنا إن اقتضى الأمر ذلك بما يناسب متغيرات الواقع. والسبب الآخر هو أننا أردنا صياغة فقه العصر متكاملا، بما يفهمه أهل العصر ببساطة مع الاستفادة من قواعد علمائنا الأقدمين في كيفية صياغة الحدود والتعاريف، والتعليل، والتقعيد. وتنزيل تلك على ما يناسب عصرنا هذا مما لم يكن عندهم من مسائل التطور والنهضة والتكنولوجيا بما يتغير معه نظر الفقيه وفتواه وتعليله وتعريفه للأمور ..

الآليات السبع لحفظ المال العام

ويمكن أن نُعَرِّف أو يُعَرَّف المال العام على غير هذه التعاريف؛ لأن هذا اجتهاد من المؤلف، لكنه عن بذل جهد في التأمل وجمع الضوابط، وتنقيح ذلك كله استغرق زمانا لكنه يبقى اجتهاديا قابلاً للقصور. والتعريف الأول هو أولى التعاريف وأجمعها. الآليات السبع لحفظ المال العام: أما حفظ المال الذي هو المقصود الشرعي الثالث؛ فإن حفظه يمكن أن نحصره في سبعة أمور فنقول: المال يحفظ: ضبطا، وتمييزا، وعددا، وتداولا، واستثمارا، وتوزيعا، وتخزينا. 1 - أما حفظه ضبطا: فهو التعريف الدقيق للمال وأنواعه تحت قواعد وضوابط تضم كل أنواعه. 2 - وأما تمييزا: فهو تمييز وفرز أصنافه لتوظيف كل فيما وضع له. 3 - وأما عددا: فهو معرفة الكم الدقيق للمال في كل صنف. 4 - وأما تداولا: فهو ما يشمل مظاهر البيع والشراء، وانتقالات الملك بمعاوضة، أو تبرع، وتداول العملة، وما يتعلق بتنظيم ذلك بلا أضرار. 5 - أما استثمارا: فالتجارات والصناعات والإنتاج ونحو ذلك من متعلقات الاستثمار. 6 - وأما توزيعا: فهو يشمل معرفة الشرائح والجهات مستحقة المال بأولوية ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وآليات وشروط وكميات وأنوع المال الموزع. 7 - وأما تخزينا: فيشمل كل أنواع التخزين والتعليب والتوريد للخزانة العامة والبنك المركزي والخزانات الفرعية الرسمية في الوزارات وكافة جهات الدولة. حصر أنواع المال العام في أحد عشر نوعا: ومن خلال تعريف المال العام وآلية حفظه السباعية نستطيع بناء أكثر مسائل هذا الباب وأصوله، فنقول وبالله التوفيق:

وما أمكن المؤلف حصره هنا أحد عشر نوعا بالاستقراء، وهذه الأنواع هي

ذِكْر أنواع المال العام مما يتعلق به الحكم الشرعي، وهو ما يدخل تحت قولنا في تعريفه: ما لا يملك على الجهة الشخصية ولا يورث. وما أمكن المؤلف حصره هنا أحد عشر نوعا بالاستقراء، وهذه الأنواع هي: 1 - كل عقارات وأراضي الدولة، بيضاء أو مزروعة أو مبنية أو مشغولة أو عاطلة محاطة أو غير محاطة، مسجلة في السجل العام أو شأنها التسجيل. 2 - جميع مباني الدولة، ومؤسساتها، ووزارات وإدارات وهيئات ومنظمات ومراكز ومجمعات وعمارات ومراكز رئيسية، وسائر فروعها في كل أراضي الدولة، برا، وبحرا، سواء كانت مبنية على عقار الدولة، أو على عقار مملوك بإيجار، أو تَبرعٍ بالمنفعة به إلى حين. 3 - جميع الآثار في جميع أراضي الدولة: الثابت، والمنقول. 4 - جميع الأثاث والأدوات والأجهزة، أو وسائل تكنولوجية، أو عادية، مركبة أو مفردة، مصانع أو معامل ثابتة، أو منقولة: اللازمة للعمل في مرافق الدولة بما في ذلك الثابتة والمتحركة، والعهد داخلية وخارجية. وإن كانت مستأجرة فهي تجري مجرى المال العام في حفظها؛ لأن إتلافها يُعَوَّض من المال العام، وتفارق المال العام في ملكيتها الشخصية. 5 - جميع ما ينفق من النقد وغيره لهذه المرافق صيانة وتشغيلا بما يدير المصلحة العامة من بدلات ونثريات، وتموينات بترولية، وقطع غيار، وتشمل النفقات التشغيلية والموازنة. وقولنا «بما يدير المصلحة العامة» خرج به النفقة النقدية التي لزمت الدولة كمعاوضة شخصية مقابل العمل الوظيفي بعقد، وهي الرواتب ونحو هذا، أو مقابل العمل الطارئ، وهي: إجارة عمال لعمل معين في المرفق لا على جهة الوظيفة، بل مؤقتا. فهذه بعد تسليمها للموظف أصبحت ملكا خاصا؛ لأنها معاوضة إجارة محضة بخلاف العُهَد، والتموينات النفطية، والنثرية؛ فلا تدخل في الملك الشخصي، بل تبقى في ملك المال العام، ولا تستخدم وتنفق إلا عليه، ولا تستخدم استخداما شخصيا محضا لا علاقة له بمصلحة العمل العام.

6 - جميع ما تجبيه الدولة من أنواع المال يعتبر من المال العام بعد حيازته. ودخل في ذلك مال الزكاة، فهو من المال العام، لكنه مفروض أخذا، وقدرا، وصفة، وزمنا، وجهة إنفاق. لذلك فالواجب اتخاذ وسائل حافظة لهذا النوع بما لا يؤدي إلى إنفاقه في غير مصارفه، ولا الاختلال في أخذه. ويليه في الشبه أموال الوقف ثم النذور. 7 - جميع الثروات الباطنة نفطية، وغازية، ومشتقاتها، ومعدنية. 8 - جميع الثروات الجغرافية من موانئ، ومعابر، وحدود، وأجواء، ومتنفسات سياحية، وآثار، ومضايق بحرية، ومياه إقليمية، وثرواتها البحرية العامة، والأنهار ومنابعها فيما يتعلق بالمصلحة القومية العامة، وكذا الثروة الزراعية والبيئية والحيوانية والنباتية العامة في ذلك كله. وإنما قلنا «فيما يتعلق بالمصلحة»؛ لأن للأفراد والمجتمع حق المنفعة من الأنهار منفعة خاصة لا يد للدولة عليه بمسمى المال العام. 9 - كل ما ينتج عن استثمار ما ذكر من الأموال فهو مال عام. 10 - وكل معاوضة بالمال العام من الدولة فالعوض مال عام. وقلنا «من الدولة» يشمل من تخولهم الدولة من أشخاص أو جهات. ويحترز بهذا القيد -أي «من الدولة» - عن معاوضة بمال الدولة من غير الدولة، لا أصالة، ولا وكالة، ولا تخويلا (¬1)، فإن المعاوضة باطلة، وهو من سرقة واختلاس المال العام، والعوض يضمنه ذلك المختلس لمن اشترى منه مال الدولة. وللدولة نزع مالها من ذلك المشتري وجوبا؛ لأنه من عين حفظ المال العام والأمانة عليه. 11 - كل شبكات البنية التحتية من: طرقات، وتصريف صحي، وكهرباء، واتصالات، ومياه، وشبكات النفط والغاز في الدولة، وكل ما يتعلق بهذه البنية مما يوفرها ويوصلها ¬

(¬1) - الوكالة معروفة، والتخويل قد لا يكون سوى جزء من عمل موظف في ذلك المرفق لا أنه وكيل تام.

موارد الدولة

لعموم الشعب، من جسور، وأنفاق، ومعابر، وعبارات، ولوحات إرشادية، وعدادات، وكابلات وحواملها، ومحولات، ومولدات، ومنظمات الضبط، وموزعات، ومقويات الإمداد، والتغذية رئيسية وفرعية، عاملة واحتياطية، وكل متعلقاتها، وكل ما يتعلق بشبكة المياه حتى توفيرها للشعب لمحل الاستفادة منها سكنا، ومتجرا، ومنزلا، ومسجدا، ومرفقا عاما، أو خاصا. وجميع توابع هذا كله من العهد، والنفقات التشغيلية، ووسائل المواصلات والنقل. كل هذا داخل في المال العام. موارد الدولة: ويمكن حصر موارد الدولة في أربعة: الأول: التحصيل والجبايات. الثاني: الثروة الجغرافية. الثالث: الثروة القومية الكبرى. الرابع: الاستثمار. المورد الأول للدولة: التحصيل والجباية أما التحصيل والجبايات فيشمل كل ما يورد إلى خزينة الدولة من الأموال من جهة الفرض الشرعي، أو جهة الإيجاب الرسمي الاقتصادي الطارئ، أو الدائم، أو جهة المعاوضات الخدمية بالرسوم، أو جهة القرض من دولة أو جهة، أو عن جهة المنحة والهبة والمساعدة للدولة من التبرع الشعبي أو من جهة خارجية أو دولية أو محلية. 1 - الإيراد بالفرض الشرعي فالفرض الشرعي هو الزكوات، والواجب فيها تمييزها عن سائر الأموال (¬1)؛ لانحصار مصارفها وتعيينها بالنص (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60). ¬

(¬1) - انظر أحكامها مفصلة في فقه الأموال من كتابنا هذا.

2 - الضرائب والجمارك (والإيراد بالإيجاب الرسمي الاقتصادي)

2 - الضرائب والجمارك (والإيراد بالإيجاب الرسمي الاقتصادي) أما الإيجاب الرسمي الاقتصادي دائما أو طارئا فهو: ما يفرض من الدولة من ضرائب مختلفة، وهذه إنما تجوز للضرورة القصوى، والضرورات تقدر بقدرها، وتكون حال عجز الدولة عن القيام بنفقاتها الضرورية والحاجية عجزا غير ناتج عن السرف والتبذير للمال العام أو الفساد فيه. فالأصل عدم أخذ شيء من أموال الناس لحرمتها بالنصوص القطعية إلا بإذن شرعي، والشرع يأذن في الضرورات ما لا يأذن في غيرها، والواجب في فرض قانون الضريبة: جمع المختصين من العلماء في الشريعة، والخبراء في الاقتصاد، والتجار، وممثلين عن السلطة؛ لدراسة المسألة، والتقنين بما لا يتعارض مع أصول الشريعة المراعية للمصلحة العامة من جهة والخاصة من جهة أخرى. ومن جبايات الدولة كذلك الجمارك وهي: رسوم تؤخذ على كل السلع المستوردة الداخلة إلى أراضي الدولة. - حكم مقاولة الضرائب والجمارك ولا يجوز مقاولة الضرائب ولا الجمارك لشخص بمبلغ معين مقطوع يسلمه عن ضرائب جهة معينة؛ لما فيه من الفساد والظلم والمفاسد الكثيرة. وهو خارج عن العمل في جباية المال العام إلى ضمان مبلغ معين مقطوع في ذمة شخص معين للدولة على جهة عامة معينة. وهذا الالتزام بالمبلغ المقطوع لا يُخرَّج قياسا على الاستثمار بالمضاربة المشروعة من أي وجه؛ لأنها عبارة عن دفع مال لآخر يعمل فيه، والربح بينهما بما يتفقان عليه، والخسارة إن وقعت فعليهما ذاك من رأس ماله والعامل بعدم معاوضته بعمله. فليس لمقاولة الضرائب ولا الجمارك أيُّ وجه شرعي، لا منصوص، ولا منطوق، ولا مفهوم، بل هي هوى وظلم للناس بما يتخذه من حصل على العقد من مبالغات في فرض الضرائب على الناس ليحصل مبْلَغَه ومبلغ الدولة المقطوع.

3 - الإيراد بالرسوم مقابل الخدمة

وتنتج في ذلك كثير من المفاسد والفساد المالي والإداري والظلم والتزوير للأرقام والحقائق والغرر والجهالات والضرر على المال العام والشعب. 3 - الإيراد بالرسوم مقابل الخدمة: والإيراد بالرسوم نقصد به كل أنواع الرسوم الخدمية التي تأخذها الدولة عبر مرافقها المختلفة وهي نوعان: النوع الأول: ما يؤخذ ويقصد به المعاوضة على الخدمة، وهي: ما تُحصِّله الدولة من وزارات خدمية مثل وزارة الكهرباء، والمياه، والاتصالات. النوع الثاني: ما يؤخذ ويقصد به رسوم إدارية نحو: رسوم المستشفيات، والمدارس، والكليات، والبلدية، والنظافة، وتصاريح الأعمال من الجهات المعنية وغير ذلك. والإيراد بالرسوم الأصل أنه لا مانع منه؛ لأنه نوع استثمار للمال العام بما يخدم المصلحة العامة، ويُحَسِّن ويطوِّر العمل في مرافق الدولة، وهذا مما لا تمنعه الشريعة، بل قد تأمر بأنواع منه بشروط. والعدل والإحسان في ذلك أكبر وأظهر الشروط؛ فلا ضرر ولا ضرار (¬1)، فلا يجوز فرض ما يعجز عنه عموم الناس. وإن عجز مواطن عن دفع رسوم خدمية، وكان العجز ناتجا عن الفقر لا التهرب؛ فإنه يعفى عنه. ويثبت العجز بشهادة عدلين، أو استفاضة، وتواتر، أو تشكيل لجنة لاتخاذ آلية لإيصال الخدمات للفقراء العاجزين عن الرسوم بلا مقابل، وهذا من التعاون على البر والتقوى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). والمورد الثاني للدولة: الثروة الجغرافية: ونعني بالثروة الجغرافية: الموقع الاستراتيجي للبلد، والمعابر، والمضايق البحرية، والموانئ، والمطارات، والأجواء، والمياه الإقليمية، ومعابر أنابيب الثروات الاستراتيجية من نفط وغاز، ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المورد الثالث للدولة: الثروة القومية الباطنة

وكذا الثروة السياحية من متنفسات طبيعية، جبالية، وسواحلية، وبرية، ومعالم تاريخية أو جمالية. وكذا الثروة الزراعية، ويتبعها الحيوانية برية وبحرية، والصخرية، والنباتية الطبيعية كالغابات. فهذه كلها تمثل ما يمكن أن نسميه الثروة الجغرافية، ويشرع استغلالها الاقتصادي بما يعود بالنفع للمال العام، وما يترتب على ذلك من مصالح كبرى تبنى عليها مؤسسات الدولة. والمورد الثالث للدولة: الثروة القومية الباطنة ونعني بها هنا أكبر الثروات المعاصرة وهي النفط والغاز والذهب والمعادن (¬1). والمورد الرابع للدولة: الثروة الاستثمارية ونقصد بها: 1 - الاستثمار لهذه الثروات بكل عمل مشروع ينبني عليه الربح غالبا. 2 - وجذب الاستثمار وتشجيعه، وحمايته، ودعمه. 3 - إقامة نهضة صناعية وإنتاجية شاملة متكاملة. الأحكام العامة للمال العام: ولا يلي ولاية مالية عامة للدولة المسلمة إلا مسلم عاقل بالغ عدل قوي أمين راشد، فالإسلام شرط الولايات العامة في الدولة المسلمة. لأن طاعة أولي الأمر مشروطة بأهل الإسلام (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، ولأن خلع الإمام لو جاء بالكفر البواح واجب؛ فتمنع ابتداء بالأولى، ومنع ما دونها من الولايات أولى؛ ولأن موالاتهم محرمة؛ وولايتهم أعظم من الموالاة. وللنهي المحرم طاعتهم (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 48)، والولاية أم الطاعة ورأسها، وأن الولاية العامة هي أعظم الموالاة، ومعلوم قطعا أن الموالاة من المؤمنين لا تكون إلا للمؤمنين لا للكافرين، ولأن تولية الكافر خلاف مقصود الشرع في التمكين للمؤمنين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ¬

(¬1) - بسطنا الحديث عنها في فقه المال.

بيع المال العام

وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)، ولأنه من أعظم السبيل للكافرين على المؤمنين، وهو محرم (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141). بيع المال العام: وبيع المال العام لا يجوز إلا من الدولة بقانون يوافق مقصد الشريعة في حفظ المال العام. ولا يباع إلا إن كان الأغبط بيعه لا بقاؤه؛ لأن خلاف هذا من الضرر، وهو مدفوع. ويورَّد الثمن للخزينة العامة. وأجرة السعاية في بيعه لا يعطى المفوض في بيعه شخصا، أو جهة منه شيئا؛ لأنه يؤدي إلى إمضائهم العقد ولو بغير غبطة لأجل تحصيل أجرتهم؛ ولأن بيعه جزء من عملهم الوظيفي ولهم عليه راتب وبدلات وعلاوات؛ ولأن أجرة السعاية لهم في معنى الرشوة لتمرير العقد والعمولة. و«الكاشن» التي تدفعها الجهات الراغبة في الشراء لأشخاص نافذين أو جهات هي من الرشوة؛ لأن مقصدها تمرير إتمام صفقة الشراء بثمن ليس فيه غبطة للمال العام. كأن يكون بأقل من سعر مثله في السوق محليا إن كانت جهة الشراء محلية، أو سعر مثله في السوق العالمية إن كانت جهة الشراء دولية أو خارجية؛ لأنه لا يجوز بيع مال المسلمين «المال العام» إلا بسعر مثله في سوقه زمانا ومكانا؛ لأن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة الغالبة العامة، وهذا ضرر. وقولنا «في سوقه»: هو قيد هام؛ لأن المماثلة تكون في سوق الصنف لا في مطلق السوق؛ لعدم انضباطه حينئذ. فإن فُعل وبِيع بأقل من سعر مثله مما لا يتسامح في عرف السوق بذلك النقص؛ فالبيع باطل؛ لأنه تصرف من الوكيل في مال الغير بضرر فاحش. ويبطل العقد؛ لأن الضرر يزال، فإن أمكن إزالته -أي الضرر- بتصحيح العقد بسعر مثله صح.

الإقراض من المال العام

ولا يقال: إن رَضِي المالك صح ولو بضرر؛ لأن هذا العقد في ملك الشعب؛ ومعرفة رضاه بالضرر متعذرة، ولا ينوب عنه مجلس النواب في الرضا بالضرر؛ لأن نيابتهم موقوفة على المصلحة الغالبة، وهي منتفية هنا. لذلك يقطع بمنع تصرف الولاة ونواب الشعب إلا في المصلحة العامة: محضة، أو غالبة ظاهرة؛ لتعذر معرفة رضا كافة الشعب بالضرر في كل مسألة فقطع هذا الباب البتة بقاعدة «تصرفات الولاة منوطة في المصلحة». وقولنا «ظاهرة»: قيد مهم حتى لا يُدَّعى حصول المصلحة مع عدم ظهورها؛ لأنها حينئذ وهم أو خطأ أو حيلة على المال العام. والعقد إن أمضى مع الضرر الفاحش من متنفذين فاسدين من الولاة، فهو لا يلزم الشعب، ويجب إنكاره، والسعي لمنعه بكافة الوسائل رسمية وشعبية سلمية. ويفسق من أنفذ العقد، ويجب مقاضاته، وعزله؛ لخيانته أعظم الأمانات. فإن جاءت حكومة أخرى فالعقد غير لازم لها، ويجب عليها منع استمرار العقد إلا بتعديل سعر البيع بمثله. وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41)؛ لأن ثروات البلاد كالنفط والغاز والذهب والمعادن وغيرها ملك عام، والضرر فيها من المنكر العام، وإزالة المفاسد العامة من أول ما يجب على الدولة. بل وتقدم على جلب المصالح؛ لاجتماع المقصدين فيها؛ لأن دفع المفسدة العامة هو جلب للمصلحة العامة. الإقراض من المال العام: والإقراض للمواطنين من المال العام إن كان بآلية مُنظَّمة مضبوطة قائمة على المصلحة العامة وعدم الإضرار بالمال العام، مقرة من جهة النواب؛ فهي جائزة، بل قد تشرع وجوبا؛ لدفع الحاجة عن أهلها مع وفرة مال؛ لأنها من المصالح العامة، وهي من الرفق بالناس.

حكم الاقتراض بالربا لبناء مسكن أو شراء سيارة

ويكون منعه مع قدرة الدولة وحاجة الشعب وفاقته مشقةً وضرراً، وهي مذمومة؛ لذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من شقَّ على الرعية «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» (¬1)، وهذا منه. ومما قلناه تُفهم شروطٌ للإقراض: الشرط الأول: الآلية المنظمة لذلك؛ لأن الإقراض بدونها خبط عشواء تترتب عليه مفاسد كثيرة وفساد. والشرط الثاني: إقرارُ ذلك من نواب الشعب أو جهة مخولة بتقنين يخدم مقاصد الشريعة في التيسير على الناس، وحفظ مصالحهم وأموالهم؛ لأنه إن لم يكن بتخويل من جهة تنوب عن الشعب دخل فيه فساد وعبث وتحكم بالهوى. والشرط الثالث: أن يكون القرض للمواطنين، لا لدولة أخرى، فسيأتي تفصيل هذا؛ لأن أحقيتهم في القرض مقدمة؛ إذ المال مالهم، ويجب أن تعود منافعه لهم، والقرض عقد إرفاق من أعظم المنافع والمصالح؛ فهم أولى به. والشرط الرابع: أن يكون الإقراض بلا فوائد ربوية. والشرط الخامس: غلبة المصالح في إقراض الناس، وعدم الضرر على المال العام. حكم الاقتراض بالربا لبناء مسكن أو شراء سيارة: ودليل حرمة الإقراض بالربا ظاهرٌ؛ لأنه محرم قطعيا بالنص (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، ويحرم على الدولة فعل ذلك، ولا يجوز الدخول من أحد في هذا العقد قطعي التحريم. ¬

(¬1) - حديث «من ولي من أمر أمتي شيئا ... » أخرجه الإمام مسلم برقم 4826 عن عبدالرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر. فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة. فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به».

هذا هو الأصل الشرعي، ومن أفتى بجواز ذلك لمضطر لبناء مسكن، أو شراء سيارة جَعَلها استثناءً على خلاف الأصل، بعلة الاضطرار قياسا على النص (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 3). وهو قياس مع الفارق؛ إذ الاضطرار في النص لحفظ ضروري لا يدفع عنه التلف إلا بذلك، فجاز أكل الميتة؛ لدفع الموت جوعا ولحفظ ضروري ولعدم بدلٍ يحفظ به من التلف إلا بذلك، بخلاف المسكن فهو مع كونه حاجياً ينزل منزلة الضروريات تدفع ضرورته بالاستئجار، وكذا السيارة، فافترق الفرع عن الأصل المقيس عليه. فإن لم يوجد السكن بعقد الإيجار ولا التبرع، وكذا الركوب استوى القياس وجوزت المسألة. وعلة الحاجة لمسكن أو مركب كانت موجودة زمن الصحابة حال نزول هذه الآيات، ولم تستثن. كما لم تستثن حاجة الأيتام لتخليل الخمر (¬1). ونزل تحريم الربا وكان الاقتراض الربوي لتجارة، أو لحاجة ضرورية، أو حاجية كبناء مسكن، أو شراء مركب موجوداً، وإنما نزل فيه ولم يتسثنه. ولذلك لا يُدْفع حد السرقة عمن سرق لعلة بناء بيت أو شراء سيارة، بخلاف دفع الحد لشبهة دفع الهلكة جوعا. ¬

(¬1) - قولنا «لم تستثن حاجة الأيتام .. » الحديث أخرجه أبو داود برقم 3677 من طريق وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي هبيرة عن أنس بن مالك «أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا. قال أهرقها. قال أفلا أجعلها خلا؟ قال لا». قلت: هذا سند حسن، والسدي هو السدي الكبير إسماعيل بن عبدالرحمن المفسر، روى له مسلم، واختُلِف فيه، وقد وثقه أحمد ومرة حسّنَه، والنسائي قال صالح ومرة ليس به بأس، وقال الذهبي حسن الحديث، وقال أبو حاتم لا يُحتَج به، وقال القطان لا بأس به. وخلاصة القول فيه أن حديثه يُحسَّن. وقد أخرجه أحمد عن وكيع كذلك. وأورد له ابن عبدالبر في التمهيد شاهدا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان عندي خمر لأيتام فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهرقها. وهذا الشاهد مخرج في سنن الترمذي برقم 1263 وفيه مجالد بن سعيد ضعيف. وتصحيح الترمذي له وتابعه الألباني هو لشواهده ومتابعاته.

المصاريف الإدارية على القرض

ولذا يجوز الاقتراض ولو بالربا لإجراء عملية جراحية لإنقاذ نفس أو عضو من التلف؛ لأنها من الضروريات، ويدفع الحد للشبهة في سرقة لذلك، ويبقى ضمان المال لصاحبه. ويشرب المختنق شربة ولو من خمر؛ لإنقاذ حياته اضطرارا، لكن لا يمكن لمفت أن يجيز صفقة خمر مربحة لبناء مسكن أو شراء سيارة. ولا يجوز الاتجار في الخمر والمحرمات لعلة توفير مصروف ضروري أو حاجي للأسرة من طعام وشراب وغيره؛ لأنها تصبح شريعة عامة تؤدي إلى هدم الدين؛ فبطل الإفتاء بذلك. وهذا بخلاف الإفتاء لشخص معين في زمن معين لدفع علة الهلاك نفسا أو عضوا تنتهي في ساعتها. المصاريف الإدارية على القرض: وفرض المصاريف الإدارية على القرض، ولو بنسبة واحد في المائة هي فائدة ربوية، ولا يمكن جوازها بعلة قلتها وحقارتها؛ لأن جريان الربا العالمي بنحو هذه النسبة؛ يُبْطل هذا التمسك بهذه العلة، ولعموم تحريم الربا قليلا وكثيرا. ولا يقاس على ما يعطى للوزان والحمال؛ لأن أولئك أجراء يعطى لهم ما يتعارف عليه بحسب وزن أو حمولة، وعقودهم مستقلة عن الصفقة ومتفاوتة العوض على ذلك العمل بعينه. بخلاف المصاريف الإدارية فهم موظفون مع جهة الصفقة برواتب معلومة مقطوعة بالقدر والزمن مقابل عملهم، وهذا منه. فتسمية نسبة لهم على العقد شيء آخر غير هذه الصورة وليس أجرةً بل هو الربا تحيلا. ثم إنه لا يصل إلى أيديهم ذلك، بدليل أن رواتبهم مقطوعة سواء حصلت عقود الإقراض أم لا، وإلا لظهرت هذه النسبة على علاواتهم وتزيد بالزيادة في مثل عقود الإقراض وتنقص بها. فكل هذا من الوهم والهوى والتحيل على الدين. هذا ما نراه، وفي كلام أهل العلم المعاصرين اضطراب واختلاف فيها. الإقراض من المال العام لدولة أخرى، وعدم اختصاص الثروات بالحدود السياسية: أما الإقراض من المال العام من الدولة لدولة أخرى، فإن كانت الدولة المقرضة غنية والأخرى فقيرة وهما دولتان مسلمتان، فقد يجب ذلك دفعا للضرر العام عن أهل الإسلام.

إقراض دولة مسلمة لدولة كافرة

ولأن ثروات المسلمين الأصل أنها لسائر المسلمين، والاختصاص بمواطني الدويلة المعينة اختصاص تقديم أولوي لا حصري، أصله إخراج زكاة بلد على فقرائها، فإن كانوا أغنياء أخرجت الزكاة للفقراء والمساكين خارج البلد. والدليل على عدم اختصاص الثروات حصريا لأهل ذلك البلد أنه مال عام؛ والعلة في توزيع المال العام هي: الفقر والمسكنة وغيرها من العلل المنصوصة. وهذه العلل الشرعية ليس منها المواطنة، أو الجنسية الجغرافية، بل قال الله معللا توزيع الفيء من المال العام (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7). والتقسيم الحدودي السياسي بين دول العرب والمسلمين أصله باطل؛ لمناقضة أصل الأمة الواحدة، والباطل لا يكون علة شرعية، ولذلك انبنى عليه ما يعارض علل الشريعة في كثير من المواضع؛ فكان المال دُولَة بين دويلات العرب النفطية مع فاقة غيرهم من أهل الإسلام. وفُرِضَ بعلة الحدود السياسية الجغرافية عدم حفظ وسلامة دويلات الإسلام من غزو عدو من غيرهم؛ بحجة عدم التدخل في الشئون الداخلية، وانبنى على ذلك قوة أهل الكفر وضعف دول الإسلام عموما. إقراض دولة مسلمة لدولة كافرة: فإن كان القرض مقدما من دولة غنية مسلمة لدولة غير مسلمة، فإن كانت من أهل السلام فقد يشمله النص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وشرط القرض: أن يكون للأمور الإنسانية والمدنية لا الحربية والتسلح؛ لأنه ليس من البر إلا أن تكون الإغاثة لدفع كافر حربي اعتدى عليهم. وإن كانت الدولة محاربة لأهل الإسلام، وحل بها كارثة إنسانية كمجاعة، أو نزوح؛ فلا مانع من إغاثتهم تبرعا، أو قرضا؛ لأن المدنيين غيرِ المحاربين من بني الإنسانية يشرع الإحسان إليهم؛ لأنه من البر المأذون فيه، لذلك نُهي عن قتل النساء، والأطفال، والعُبَّاد، والمزارعين،

رهن المال العام

والعُمَّال (¬1). بخلاف حصول كارثة بالجيش المقاتل لأهل الإسلام كغرق سفنهم، فلا تجوز إغاثتهم، أو إعانتهم؛ لأنه منهي عنه بدلالة النص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)؛ فأجاز البرَّ لغير المحارب، ولأنه من الإعانة على البغي والاعتداء على أهل الإسلام. رهن المال العام: ولا يرهن من المال العام إلا لحفظ المال العام من جهة أخرى: كالمساهمة الاستثمارية الغالب عليها الربح، أو الاقتراض من جهة للمصلحة العامة الراجحة. ولا يرهن إلا ما يجوز رهنه مما لا ضرر فاحش في رهنه، فلا يرهن من الثروة القومية أو السيادية شيء كآبار النفط، والغاز، ومناجم الذهب، ومنافذ البلاد بحرية وبرية ونحوها، فهذا ونحوه مما لا يجوز رهنه؛ لضرره البالغ على أهل الإسلام؛ فالتصرف حينئذ باطل. تحصيل المال العام ومسائله: وعند تحصيل المال العام لا يؤخذ غير المقرر؛ لأن فوق ذلك اعتداء وأموال الناس معصومة بقطعيات الشريعة القليل والكثير، ولا تؤخذ كرائم الأموال (¬2)، بل من الوسط لا ضرر ولا ضرار. ولا يتساهل في تحصيل المال العام؛ لأنه تفريط في أمانة، وذلك محرم. ¬

(¬1) - قولنا «نهي عن قتل النساء والأطفال والعباد والمزارعين والعمال» فيه أحاديث منها ما أخرجه البخاري برقم 3015 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. وهو في مسلم برقم 4646. وفي الموطأ بسند صحيح برقم 965 أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر إما أن تركب وإما أن أنزل فقال أبو بكر ما أنت بنازل وما أنا براكب إني احتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال له انك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له وستجد قوما فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه ولا تغلل ولا تجبن. (¬2) - تقدم تخريج الحديث في ذلك.

ويجوز إسقاط الشيء الممكن إسقاطه، فقد كان من يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقطون نسبة معينة على أرباب الأموال (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «يسقطون نسبة معينة على أرباب الأموال» دليله ما أخرجه الإمام أبو داود 1607 والترمذي 643 والنسائي 2491 وأحمد 15751، جميعهم من طريق شعبة عن خبيب بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا أو تجدوا الثلث فدعوا الربع». قلت: رجال الإسناد ثقات إلا عبدالرحمن بن مسعود. قال الذهبي وُثِّقَ. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ مقبول. قلت: ولا يعرف فيه جرح ولا تعديل. وقال البزار معروف. وقال ابن القطان الفاسي لا يعرف حاله. قلت: من عرفه حجة على من لم يعرف والبزار إمام في الفن، وقد بين أهل المصطلح أن من هذا حاله في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين الذين يروون عن الصحابة فإن أحاديثهم حسنة. قال ابن كثير المبهم إذا سُمي ولم يعرف عينه لا يقبل روايته عند أحد علمناه إلا إن كان من عصر التابعين. اليواقيت والدرر (1/ 162). وقد قال ابن عدي في الكامل 596: الراوي إذا لم يأت عنه ما يقدح في عدالته في دينه فهو عدل. وقال أبو حاتم في محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان وقد سئل عنه: هذا من التابعين لا يسأل عنه. انظر فتح المغيث (1/ 321) ط/ دار الكتب العلمية -لبنان. وقد قال الذهبي في ديوان الضعفاء: وأما المجهولون من الرواة فإن كان من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه، وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ. قلت: ولعل هذا هو السبب في توثيقه لنبهان مولى أم سلمة، ولم يرو عنه إلا الزهري ومحمد بن عبدالرحمن فقد قال عنه ثقة. وسبقه الحافظ إذ قال: من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته. فتح الباري (15/ 48) .. قلت: والكلام في هذه المسألة في المصطلح كثير وهذه هي طريقة المتقدمين من الأئمة، وعليه فهذا الحديث حسن ولا يضر قول الحافظ مقبول؛ لأنه قال ذلك في نبهان الآنف الذكر، ثم صحح حديثه ابن حبان وابن خزيمة. وله شاهد مرسل عن مكحول الشامي أخرجه أبو طاهر السلفي في المشيخة البغدادية برقم 16 مخطوط جوامع الكلم، وسنده إلى مكحول الشامي صحيح. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخُرَّاص قال: خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية. قلت: أخرجه الطحاوي كذلك في أحكام القرآن بسند حسن، الطبعة التركية. وله شاهد من حديث جابر عند ابن عبدالبر في التمهيد (6/ 472)، وفيه ابن لهيعة وهو يصلح في الشواهد والمتابعات. وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم 1456 وقال له شاهد بإسناد متفق على صحته عمر بن الخطاب أمر به. قلت: وقد أقر الإمام الشوكاني التصحيح للحديث واستدل به في السيل (1/ 261)، واستدل به الإمام ابن حزم الظاهري في المحلى (5/ 529) على تشدده في الجرح، فبين أنه على الخارص أن يترك لرب المال ما يأكل، ثم ساق هذا الحديث وأثر عمر المذكور، وقال: ولا يختلف القائلون بهذا الخبر وهم أهل الحق الذين إجماعهم الإجماع متبع في أن هذا على قدر حاجتهم إلى الأكل رطبا. قلت: وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من تحسين الحديث، بل هو حديث جيد لما ذكرنا من الشواهد ولم يتنبه الألباني لما أوردنا من الشواهد من مرسل مكحول وحديث جابر فضعفه في جميع كتبه معتمدا على طريق واحدة هي طريق عبدالرحمن بن مسعود، ومع ما تقدم فقد ذكره البوصيري =

من عجز عن دفع المقرر للدولة

والنسبة في كل بحسبه. وفرض غرامات تأخير دفع المقررات لا يجوز؛ لأنه يصبح دينا في الذمة، والغرامة على تأخير الدين ربا النسيئة، وهو محرم. - من عجز عن دفع المقرر للدولة: ومن عجز عن دفع المقرر لبيت المال أثبت عجزه بحجة شرعية، وأعفي. ولا يجوز تكليفه دفعه حينئذ؛ لأن الله يقول (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7). إلا إن فشا فساد الذمم، فلا يعفى إلا بحكم قضاء عادل نزيه لا يحتمل فيه شراء الحكم بالمال. وإن قلنا يستقر في الذمة كالدين جاز إنظاره إلى ميسرة لعموم (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). ¬

= في إتحاف الخيرة المهرة برقم 3019 وقال هذا إسناد صحيح. وقال النووي في شرح المهذب: إسناد هذا الحديث صحيح إلا عبدالرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل بن أبي حثمة فلم يتكلموا فيه بجرح ولا تعديل ولا هو مشهور ولم يضعفه أبو داود. انتهى كلامه. وقد استدل به ابن الملقن في البدر المنير 547 على كون عبدالرحمن ثقة. قلت: وله شاهد كذلك من حديث الصلت بن الزبير بن الصلت عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص فقال: أثبت لنا النصف وأبق لنا النصف فإنهم يُسْرَقُون ولا نصل إليهم. قلت: أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة برقم 3861 بسند فيه مجاهيل، فهذا صالح في الشواهد والمتابعات. وأخرجه كذلك البيهقي برقم 7235 وقال: هذا إسناد مجهول. وقد روي فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قلت: وقد تقدم أثر عمر. قلت: وقد نقل الحافظ في الفتح حديث سهل ونقل تصحيح ابن حبان له، ولم يتعقبه، ولو كان ضعيفا لتعقبه كما هو معلوم من عادته، وننقل نص كلامه في الفتح (3/ 347) لما فيه من الفوائد: (في السنن وصحيح ابن حبان من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع وقال بظاهرة الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم وفهم منه أبو عبيد في كتاب الأموال أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه فقال يترك قدر احتياجهم وقال مالك وسفيان لا يترك لهم شيء وهو المشهور عن الشافعي قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا). قلت: إنما أطلنا في هذا الحديث وتتبعنا طرقه وشواهده نظرا لموافقته محاسن الإسلام في العدل والإحسان، وقد أصاب العلامة الأرناؤوط فحسَّنه في تعليقه على أحمد، وصححه الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمه برقم 2320، وحسَّنه محقق أبي يعلى الموصلي.

تبديل المال العام

تبديل المال العام: ويحرم تبديل المال العام بالخبيث (وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) (النساء: 2). ولا يبدل مطلقا، ولو بالطيب؛ لأن التبديل هو معاوضة في معنى البيع والشراء، ولا يصح إلا إن كان الأحظ للمال العام في الربح بغبطة ظاهرة. وهذا لا يكون في التبديل؛ لأن المقصود الغالب منه تحصيل منفعة من بدل ماله، لا تحصيل مصلحة المال العام. فيكون بيعا ظاهرا، وحيلة خبيثة باطنةً. وكل حيلة أدت إلى مناقضة أحكام الشرع فهي منقوضة باطلة. سرقة المال العام واختلاسه ونهبه من كبائر الذنوب: ويحرم سرقة المال العام، ويعزر فاعله، ويضمن ما سرقه، وفي الحد قولٌ صحيح أنه يدفع؛ لشبهة شيوع حق عموم الناس فيه، والحدود تدرأ بالشبهات (¬1). والمختلس كالسارق في الحكم تضمينا وتعزيرا لا حدا. والفرق بينهما: أن المختلس يأخذ خلسة مما تحت يده من المال العام، بحكم وظيفته بخلاف السارق، فهو أجنبي عن ذلك. ¬

(¬1) - قولنا «تدرأ الحدود بالشبهات» هذه قاعدة إجماعية، وفيها حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح طريق له هي في مسند أبي حنيفة عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات». وسنده حسن. وأخرج الترمذي برقم 1340 من حديث عائشة «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم». وفيها يزيد بن زياد الدمشقي متروك. إلا أن الحاكم في المستدرك برقم 8249 جعله يزيد بن زياد الأشجعي، وإذا كان هو فهو ثقة، ولذلك قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد تعقبه من تعقب وحملوا على أن يزيد بن زياد في السند هو الشامي وليس الأشجعي. قلت: وهو مروي عن ابن مسعود «ادرءوا الحدود عن عباد الله» وفي رواية «ادرءوا الحدود والعقل عن المسلمين ما استطعتم» وسنده جيد (إتحاف الخيرة برقم 2808). وهو في مصنف عبدالرزاق كذلك برقم 13256. وكذلك هو مخرج عن عمر عنده برقم 13257. وهو قول إبراهيم النخعي كما في ابن أبي شيبة برقم 27934. أما الحديث الذي أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة ففيه متروك. قال ابن عابدين نقلا عن فتح القدير في الأشباه والنظائر صـ 27: أجمع فقهاء الأمصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات والحديث المروي في ذلك متفق عليه وتلقته الأمة بالقبول.

ضمان من أتلف شيئا من المال العام

وتعريفه: أنه أَخْذُ مال الغير خفية بلا حق من حرز مثله. فالسارق يأخذ من الحرز والمختلس مما في يده. ويحرم كذلك نهبٌ من المال العام حال حدوث فتنة، أو كارثة، وانفلات الأمن ويدخل في عموم (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188). ومن أخذ شيئا من ذلك وجب عليه رده وضمانه؛ لأنه أخذه بلا حق. ويجوز أخذه لحفظه من ناهب، بل قد يجب كاللقطة يجب أخذها من يد فاسق لحفظها. والنهب هو: الأخذ علنا بلا وجه حق، ولو على غير وجه الغلبة بل لانفلات أمن بسبب حرب ونحوه، وقد نُهِيَ في الشرع عن النهب (¬1)، وبايع جماعة على ذلك. وكل أنواع الأخذ من المال العام بلا وجه حق هو من الغلول المحرم (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161). ضمان من أتلف شيئا من المال العام: ومن أتلف شيئا من المال العام ضمنه سواء كان بتفريط أو غير تفريط؛ لأن الأصل ضمان أموال الناس بمجرد الإتلاف والتفريط، وعدمه دعوى. ولا يوجد دليل يرفع الضمان عمن أتلف غير مفرط، بل أدنى ما يقال فيه أنه خطأ لا عمد ولا يقال ذلك في التفريط؛ لأن التفريط نوع تعمد. والشريعة تضمن حال الخطأ إتلافات الأموال والأنفس، ولو من غير مكلف كصبي ومجنون. ويجوز في بعض المسائل عدم التضمين ممن لم يفرط لا على الإطلاق. ويمكن أن نتخذ دليل «العادة محكمة» مُفَصِّلا للأصل الشرعي. ¬

(¬1) - قولنا «وقد نهي في الشرع عن النهب» أخرجه البخاري برقم 3893 من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله، ولا ننتهب، ولا نعصي، بالجنة إن فعلنا ذلك فإن غشينا من ذلك شيئا كان قضاء ذلك إلى الله.

الاستعمال الآمن للمال العام

والعادة مأمور بها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199) و «العادة محكمة» إحدى القواعد الخمس الكبرى التي تدور عليها الشريعة. فلا مانع من التفصيل في بعض المسائل، فيضمن المتلف مع التفريط لا مع عدمه فيها. ولا بد أن يقال بعدم التفريط وعدم التضمين في إتلاف ما يغلب تلفه لقدمه وتهالكه؛ لأن هذا من العدل والإحسان المأمور به شرعا إلا إن ثبت تعدٍّ بإتلاف عمد عدوان، فهذا ضامن. الاستعمال الآمن للمال العام: ويجب في استعمال المال العام أن يستعمل استعمالا آمنا، لا متلفا، ولا مسرعا بتلفه؛ لأن الدين النصيحة، ومنها النصيحة لعامة المسلمين، وحفظ مالهم من ذلك. فالواجب معاملته في الاستعمال كما يعامل الشخص ماله في الحفظ، وإلا فهو نوع غش محرم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬1). فيصان دوريا، وينظف من أتربة ضارة وصدأ، ويشترى له قطع الغيار بدلا عن قطعة تالفة أو متهالكة تضر بأمور أخرى لو بقيت، ويصلح ما يمكن إصلاحه. وبالجملة فكل ما يحب المؤمن لنفسه في ماله، وجب أن يحبه في مال غيره خاصه وعامه، وإن لم يحب لم يكمل إيمانه للنص. ويجب عليه أن يفعل الحفظ ولو لم يحب ذلك؛ لأنه إن لم يحفظ المال العام، فهو خائن لا يجوز توليته؛ لمخالفته مقصود العقد من وظيفته وعمله الملزمة له بتمام الحفظ شرعا وعرفا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ومن اطلع على مقصر في الحفظ نصحه؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى. ويحرم تبذير المال العام والإسراف فيه (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا) (النساء: 6)، (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188). والنثريات، والعلاوات، والبدلات تكون بما يقوم بالحاجة المرصودة لها، فإن كانت أكثر من ذلك بزيادة فاحشة دخلت في التصرف المفسد للمال العام، فبطلت. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

ولا تُنْقَص نقصا فاحشا بما لا يفي بالغرض المقصود منها؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار؛ ولأنها حينئذ نوع عبث بالمال العام؛ لأنه كالتضييع له؛ لعدم تحقيقه المقصود منه. وهكذا جميع الاستحقاقات والصرفيات من المال العام، كالسيارات ولوازمها وتموينها لكبار الموظفين، يجب فيها القصد بما يحقق مقصودها، فلا سرف ولا إقتار. فإن واجهت الدولة أزمة قُدِّم في صرفياتها الضرورات، وما يقوم مقامها من الحاجيات، وهي: ما لا بد منه لتسيير الأمور، بحيث لو أزيلت تعطلت أمهات المصالح. ولا يوضع المال العام في بنوك تتعامل بالربا؛ لأنه محرم قطعي. ويحرم إيداعه في بنوك خارج الدولة أو داخلها بأسماء شخصية؛ لأنه تضييع له وسبيل إلى تملكه الشخصي. ويستثمر المال العام في كل عمل مباح ربحي فيه غبطة، واحتمال الخسارة فيه نادر، والربح غالب. ولا يستثمر في شركات تتاجر في المعاصي. وما كان من المال العام مما يعم نفعه للمصلحة العامة، فيحرم إقطاعه، وتمليكه لجهة شخصية. وتنزع إن حصل ذلك كما نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح المأربي من رجل جاء إليه فقال: اقطعني الملح بمأرب فأقطعه فقيل له إنما أقطعه المال العد -أي: الخالص العام- فنزعه صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «فنزعه صلى الله عليه وسلم» جاء فيها حديث حسن لغيره، أخرجه ابن ماجة برقم 2475 حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، حدثنا فرج بن سعيد بن علقمة بن سعيد بن أبيض بن حمال، حدثني عمي ثابت بن سعيد بن أبيض بن حمال، عن أبيه سعيد، عن أبيه أبيض بن حمال، أنه استقطع الملح الذي يقال له: ملح شذا بمأرب، فأقطعه له، ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في الجاهلية، وهي بأرض ليس بها ماء، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العد، فاستقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال في قطيعته في الملح، فقال: قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد، من ورده أخذه. قلت: هذا سند حسن في الشواهد، ثابت ابن سعيد وأبوه مقبولان كما قال الحافظ في التقريب. قلت: وله متابعة حسنة في الشواهد في رواية الترمذي برقم 1380، ولذلك فهو في ذلك حسن لغيرة لمجموع هاتين الطريقين. وأخرجه أبو داود 3064 من نفس الطريق.

التوزيع العادل للمال العام ومراعاة الشرائح الضعيفة

التوزيع العادل للمال العام ومراعاة الشرائح الضعيفة: وما يوزع من المال العام بين الناس، يجب أن يكون بالعدل، فيعطى بحسب الحاجة، وإذا تساوت الحاجة أو تقاربت تساوى العطاء، وإن تباينت تباين العطاء بحسب ذلك. ويُقَدَّم الفقير والمسكين المتربة ممن لا مصدر له للدخل، لا بعمل يشتغل به؛ نظرا لانعدام الأعمال ووفور البطالة، أو لعجز في بدنه، ولا بكافل يكفله وينفق عليه. ودليله أن الفقر والمسكنة جعلهما الله عمدة في علل الإنفاق. ويقدم من هؤلاء صاحب العيال، وكذا الضعفة من النساء والمسنين والمعاقين واليتامى والأطفال، وكذا الضعفة من الرجال في بدن أو عقل أو عيٍّ. ودليل ذلك: أن الله خص في يوم المسغبة والمجاعة مسكينا ذا متربة، مراعاة لشدة حاجته. وقرنه باليتيم؛ لأنه مثله غالبا؛ لعدم الكافل. فهذه المراعاة تدل على اعتبار شدة الحاجة علة في التقديم. ويُغاث المتضررون جراء الكوارث أو الحروب من النازحين والماكثين، ويقدم الأشد تضررا في إسعافه وإغاثته، ثم الذي يليه، ثم هكذا حتى تعم سائر أهل الضرر؛ لأن دفع الضرر واجب، والأشد أوجب. ويراعى في التوظيف مع المؤهل جانب الحاجة؛ لأنها علة مرعية في الإحسان، والعطايا، وفرض الصدقات. فالإحسان كقوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) (النساء: 36) فراعى أصحاب الحاجات من اليتامى والمساكين. وفي العطايا قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215). وكذا في الفيء والغنائم وفرض الصدقات. والوظيفة العامة إحدى علتيها: سد الحاجة للموظف وهو من أعظم الإحسان، والأخرى طلب الكفاءة للإحسان في المصلحة العامة.

دعم مهن أصحاب الدخل المحدود والشرائح الفقيرة من المال العام، ومنع كبار الملاك: ويشرع الدعم من المال العام لمهن الشرائح الفقيرة ومصادر دخلهم فلا يعاملون معاملة أصحاب رؤوس الأموال. وقد جاء في البخاري عن عمَر سنُّ ذلك، واتباع الراشدين خاصة في سننهم العامة التي تتعلق بها المصالح أمر شرعي، وهذه مصلحة عامة مستمرة تعتبر من أصول السياسات الإصلاحية في توزيع الثروة، ومكافحة الفقر، ودعم مصادر الدخل للشرائح المحتاجة. فقد جعل عمر منطقة حصرية لنمو أنعام الأسر الفقيرة، ومنع رؤوس الأموال من ذلك، ونص عليهم بأسمائهم. فقال عمر لهني كمسئول عن ذلك: «يا هني أدْخِل ربَّ الصُريمة وربَّ الغُنيمة، وإياي: ونعم ابن عوف وابن عفان، فإنهما لو هلكت ماشيتهما، رجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة لو هلكت ماشيته جاء بأهله على بابي: يقول: أي عمر أطعم بنيَّ. أفتاركهم أنا لا أبا لك! ! فإن الماء والكلأ أهون علي من الذهب والورق» (¬1). ورب الصُريمة: أي صاحب القطعة القليلة من الماشية. ورب الغُنيمة: أي صاحب الغنم القليلة. وفي هذا القانون من مسائل الفقه السياسي الاقتصادي أصول وقواعد، فمنها: - اهتمام الحاكم بالأوضاع المعيشية في الشعب وتمام معرفتها؛ لأنها وسيلة إلى معالجتها التي هي جزء كبير من مسئوليات الحاكم. - ومنها: دعم الدولة للمشاريع الإنتاجية ومصادر الدخل للشرائح الفقيرة كما دعم عمر مصادر الدخل المعيشي لتلك الشريحة المحتاجة والمتمثلة في الماشية، فخصص لها من أرض الدولة الخصبة مكانا للنمو، مع إصدار أوامر صريحة بأرباب الأموال لمنعهم من ذلك. وعلل ذلك بوجود بدائل تغنيهم، بخلاف الشرائح الفقيرة وهم كثير. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

دعم الضرورات المعيشية

فعلى الدولة دعم وسائل المعيشة للشرائح محدودة الدخل، من البساطين، والتجارات البسيطة التي هي مصدر عيش لا مصدر إثراء، فيعفون عن كثير من الجبايات الرسمية بما يدعمهم ولا يضر بالمال العام. ويُحْمَون وجوبا من أكلة السحت من النافذين الذين يظلمونهم ويبتزونهم بمسميات عديدة وتبريرات خاطئة. مما يؤدي إلى تعطيل كثير من مصادر الدخل للأسر الفقيرة، وينعكس ذلك تدريجيا على وجود نشاطات مختلفة كانت مرتبطة تكامليا بتواجد هؤلاء بكثرة في سوق العمل؛ لأن سوق العمل دائرة متكاملة إذا انفرطت أثرت في دورات المال (¬1). - ولذلك بيَّن عمر منبها: أن انعدام مصدر لدعم الأسر الفقيرة يحمل رب البيت على الخروج مع أهله في مظهر شعبي إلى باب عمرَ، مرابطين سائلين ضرورات العيش. - ويجب عليه حينئذ التجاوب بالإنفاق النقدي من خزينة الدولة. ويكلف الدولة تكاليف كثيرة أشد من دعم الأسرة الفقيرة بوسيلة إنتاج، وهذا هو تعليل عمر الاقتصادي «فإنفاق الماء والكلأ أهون من إنفاق الذهب والورق». دعم الضرورات المعيشية: ومما يشرع قياسا على هذا: دعم الضروريات المعيشية، وما ينزل منزلتها من الحاجيات فيدعم من المال العام سعر القمح، والخبر، والسكر، والمشتقات النفطية، والغاز تسهيلاً على الأكثرية الغالبة من الشعب من محدودي الدخل؛ لأن الحكم للأغلب (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «دورات المال» يوضحه أنه عند اختفاء التجارات البسيطة لمصادر عيش آلاف الأسر، يؤدي ذلك إلى ضعف تدريجي في نشاطات كثيرة، كسائقي وسائل النقل، والمطاعم، والبوفيات، وفنادق الراحة التي كانت مجاورة للسوق، ويؤدي بالتالي إلى كساد في سوق التجارة الاستثمارية الوسطى؛ لعدم وجود سوق لتصريف ذلك من المحلات والبسطات؛ لاختفائها نتيجة تعسير الدولة، ويؤدي إلى ضعف حركة سوق البناء لأصحاب العقار؛ لقلة الدخل ونقص حركة الاستيراد والتصدير، وعزوف مجيء الاستثمار الخارجي، وكثرة البطالة والفقر بتوسع مطرد، وظهور الفساد، والرشوات، والعصابات، وطبقة عصابية حاكمة، وينتهي هذا الوضع ولا بد بثورة على الحاكم سلمية على أحسن الأحوال، أو مسلحة -لا سمح الله. (¬2) - حتى لا يقال هناك شرائح غنية في الشعب فكيف تدعم؟ فالجواب أن الاعتبار للأغلب.

العدل في توزيع الثروة والبنية التحتية بلا مناطقية أو فئوية

وكذلك يدعم سعر الدواء في المستشفيات الحكومية، وسائر أمور المعاينات، وأسعار الكتب المدرسية، ورسوم التعليم إن لم تكن هذه مجانية في الأصل؛ لأن هذه كالضروريات التي لا بد منها لعموم الشعب. وارتفاع أسعارها مع شدة الحاجة إليها يترتب عليه ضرر فاحش يتعلق بخدمة ضروريات كبرى في الشرع وهي النفس، والعقل. ودفع الضرر الفاحش العام على الناس من أول واجبات الدولة؛ لأنها ما وجدت إلا لدفع المفاسد وجلب المصالح. - العدل في توزيع الثروة والبنية التحتية بلا مناطقية أو فئوية: ويجب على الدولة العدل في توزيع الثروة وخدمات البنية التحتية الحديثة من صحة، وتعليم، وطرق، وكهرباء، واتصالات؛ فإن الله أمر بالعدل والإحسان، وهو عام تدخل فيه الدولة وغيرها. ولأن هذه الأمور هي من المال العام للمسلمين، والعدل فيه فرض. وتقديم أو حصر أو تخصيص جهات ومناطق بالخدمات بغير مبرر سوى النفوذ المناطقي أو الحزبي نوع من ترك العدل. الكفالات الاجتماعية: والكفالات الاجتماعية كالتي تسمى بالحالات الاجتماعية، أو الإعاشة، أو الإعانة ونحوها يجب في صرفها وتقريرها جعل الحاجة وسدها علةً لذلك. فلا تستغل لحزب أو نافذين أو ابتغاء تبعية؛ فإن هذا من القبائح؛ لأن فيها مع الظلم خيانة أمانة الولاية واستغلال حاجة الناس لتعبيدهم لحزب أو فئة، وحصار رأيهم في قول الحق، ومحاربة الظلم، وجعلهم أدوات وأعواناً ولو مع الظلم. العدل في توزيع الدرجات الوظيفية: وكذلك يجب العدل في توزيع الدرجات الوظيفية بين الناس من المؤهلين؛ لأن ذلك من المال العام، والحق فيه شائع ومشترك للناس بحسب ما يشترط من المؤهلات ونحوها من

إكرام موظفي الدولة مدنيين وعسكريين

الشروط، وكل وظيفة بحسبها. إكرام موظفي الدولة مدنيين وعسكريين: ويشرع إكرام موظفي الدولة مدنيين وعسكريين في رواتبهم وعلاواتهم وسائر التعامل معهم؛ لأن الإكرام وسيلة لتحصيل المنافع (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21). وقد ساقها الله مساق الامتنان والإقرار لما قاله العزيز؛ فشرعت؛ ولأن أصل الإكرام مقصود للشرع للنص «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1). ولأن إعطاء الرواتب للموظفين هي معاوضتهم على عملهم، وشرط المعاوضات العدل وعدم الغبن الفاحش، وإعطاؤه راتبا شهريا لا يكفي حاجاته الضرورية ولا أسرته التي يعولها هو من الغبن الفاحش، والاستغلال القبيح للحاجة والفقر. وهذه أمور تخالف مقصود الشرع في العدل والإحسان والمكارم؛ ولأن أجرة الأجير تكون عادة بحسب العرف الجاري، ومعلوم أن عادة الدول مع موظفيها مراعاة كفاية الرواتب والأجور للحاجات. والعمل بالعرف أصل شرعي. هذا إن كانت الدولة قادرة على ذلك وإلا جرى قانون (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا) (الطلاق: 7). رعاية أسر الشهداء والجرحى والمناضلين من المال العام: وعلى الدولة العناية من بيت المال بأسر الشهداء والجرحى، فإن هذا من المصالح العامة، وإلا لعزف الكثير عن الوظيفة العسكرية، وضعف جانب مفروض على الدولة في الشرع (وَأَعِدُّوا لَهُم) (الأنفال: 60). دعم البحث العلمي: وعلى الدولة أن تدعم من المال العام البحث العلمي في كافة مجالاته، وتقدم بعض ذلك ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

استثمار المال العام

على بعض بحسب الحاجة العامة؛ لأنها من فروض الكفايات؛ ولأن المصالح إذا تزاحمت قدم أَوْلاها. استثمار المال العام: ولا يجوز للدولة وضع المال العام في بنوك الربا ولا في شركات تتعامل بالمحرمات كالخمر والخنزير؛ لأن هذه الأمور مقطوع بحرمتها. والواجب استثمار المال العام للمصلحة العامة؛ لقوله تعالى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220)، والاستثمار من الإصلاح، وعدمه مؤد إلى خسارات كبيرة فيه، فوجب استثماره دفعا للمفسدة وجلبا للمصلحة. ويكون في مضمون الربح عادة، ويجب قبله دراسات وافية لجدوى ذلك؛ لأنها وسيلة لدفع مفاسد إتلاف المال العام. ولا بد في استثمار المال العام من المتابعة، وتجنب ما يؤدي إلى الخسارة، والنصيحة في كل ذلك كما ينصح لنفسه، ولا مانع من إعطاء الموظفين في استثمار المال العام أجورا ونسبا كافية لهم؛ لأن الله شرع للعامل على مال الزكاة شيئا منها، وهو نوع من المال العام، قال تعالى (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) (التوبة: 60)؛ لأن ذلك يكف أيديهم ويزيد نفعهم (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21).

فقه السمع والطاعة

فقه السمع والطاعة * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59) * (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152) * المعصية لأولي الأمر فيما هو مشروع محرمة؛ لأنها في الحقيقة خروج عن عقد الجماعة التي اختارته ورضيته * تصرفات الحكام معلقة على المصلحة العامة وإلا بطلت * الإصلاح الجزئي وإن كان مطلوبا في الشرع تخفيفا للمفاسد إلا أنه في باب الولايات العامة مُلْغى؛ لأنه يعد ضربا من ضروب الفساد في حالة القدرة وإلا فهو عجز لا يتماشى مع عقد الولاية العامة * السكوت عن مفسد أو متنفذ ظالم خوفاً منه هو فساد داخل نفوسنا أعظم من فساد ذلك المفسد

فأمر بطاعة أولي الأمر بثلاثة شروط

فقه نصوص السمع والطاعة يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59). فأمر بطاعة أولي الأمر بثلاثة شروط: الشرط الأول: (مِنكُمْ)، أي «مؤمنا». فخرج به كافر ومنافق ومتول لهم للنص بأنه منهم (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)، وهم ومن حُكِمَ أنه منهم لا طاعة لهم بالنص (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 48). والشرط الثاني: الطاعة في حال الوفاق لا النزاع؛ لأنه حكم في حال النزاع بحكم آخر (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء: 59)، ولم يقل فأطيعوا ولي أمركم. والشرط الثالث: طاعته في طاعة الله ورسوله لا في معصية؛ للأمر بالرد إليهما عند الخلاف. - الأنواع الخمسة الذين هم «أولوا الأمر»: و(أُوْلِي الأَمْرِ) جَمَعَه ولم يُفْرِده بـ «ولي الأمر»؛ ليدخل كل أولي الأمر باللفظ لا بمجرد العموم المستفاد من الإضافة. وهم كل من له أمر مطاع في الناس، وهم أنواع خمسة: ولي الأمر العام، ومن دونه من الولاة، وولاة الأمر المدني والشعبي، وولاة الأمر الديني، وولي الأمر النَّسَبي. النوع الأول: فأما النوع الأول فهو رأس الدولة، الحاكم الأول، وهو ولي الأمر السياسي، أو ولي الأمر الأعظم، تحت أي اسم كان عمله في منصبه: الخليفة، أو الرئيس، أو الأمير، أو الملك، أو السلطان. أو هو البرلمان في حالة الحكم النيابي ويفوض من شاء وهو رئيس الوزراء في العادة السياسية المعاصرة لدى بعض الدول.

طرق الوصول إلى الحكم والولاية العامة الأولى

وتقوم مقام ولي الأمر الأول حال عدمه في ظروف معينة مؤسسات كبرى في الدولة يتفق عليها دستوريا؛ لأن هذا من أعظم المصالح، والنص عليه دستوريا يدفع أعظم المفاسد، فطُلِب. - طرق الوصول إلى الحكم والولاية العامة الأولى: ووصوله ولي أمر أعلى يكون بأحد الطرق التالية: أولا: بالترشيح التوافقي لواحد بلا تنافس، ثم البيعة (¬1). وهذا النوع حصل في تنصيب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث رشحه أكثر المهاجرين والأنصار في السقيفة قبل البيعة، ثم بايعته الكافة في اليوم التالي، ثم بايعه علي رضي الله عنه وكان مشغولا بمرض فاطمة رضي الله عنها. ثانيا: بترشيح الحاكم السابق لشخص وموافقة الناس بالرضى، ثم البيعة، كما حصل لعمر رضي الله عنه حيث رشحه أبو بكر رضي الله عنه وتوافق الناس على ذلك، ثم بايعوه بلا خلاف. ثالثا: بترشيح عدة أشخاص بالتنافس، وعرضهم على الشعب، كما حصل للستة الذين رشحهم عمر، وأمرهم إن اختلفوا أن يرجحوا قول أكثرهم (¬2). فانتهى الأمر إلى التنافس بين علي وعثمان رضي الله عنهما. فشرط الشعب على من سيبايعه أن يسير فيهم بسياسة مجربة راشدة هي: سنة الشيخين، فقبل الشرط عثمان ورفض علي وقال أجتهد رأيي، فبايع الناسُ عثمان؛ لأن البيعة عقد ¬

(¬1) - كل ذكر للبيعة هنا تقوم الانتخابات مقامها أو أي طريق متوافق عليه بين الأمة، ولا نقصد آلية بعينها. (¬2) - تقدم تخريج الحديث في ذلك، ورواية ترجيح الأكثر رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 61) وهي قوية يشد بعضها بعضا، قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم، فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر. وفي رواية قال: وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبدالرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا. وفي رواية أن عمر حين طعن قال: ليصل لكم صهيب ثلاثا، وتشاوروا في أمركم، والأمر إلى هؤلاء الستة فمن بعل أمركم فاضربوا عنقه، يعني من خالفكم. وفي رواية عن أنس بن مالك قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة، فقال: يا أبا طلحة، كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فلا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم.

لمصلحة الشعب، فشرطه في عقده ما هو من المصلحة حق له ولازم لمن شرط عليه ذلك. رابعا: ولاية العهد الوراثية من الحاكم المرضي السابق. ولا يكون ولي العهد ولياً للأمر بعد السابق إلا إن رضيه الناس وبايعوه، وإلا كان نائبا فحسب. خامسا: من ولّى نفسه في حالة فراغ منصب الحاكم الأعلى، لظرف طارئ كفتنة، فبسط نفوذ الدولة، وأطاعه الناس، وأهل الشوكة، فهذا يصدق عليه أنه ولي أمر. فإن كان للبلاد دستور لمثل هذه الأوضاع، فهو كما نص. فإن نص على: أن مثل هذا الوضع الطارئ محدد بمدة زمنية معينة انتقالية لزم ذلك؛ لأنه نص عقد لمن تولى فيلزم لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ويرجع في تفاصيل مهمات الفترة إلى مواد الدستور، وإلى القوانين المفسرة لذلك، وإلى الخبراء المختصين حال التنازع، أو تشكيل لجنة تفسيرية من الخبراء والحكماء لفصل ما يطرأ من خلاف تفسيري، أو ما يظهر من خلاف بين الأطراف في هذه المرحلة. وهم مشمولون بعموم (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). فأحال إلى أولي الأمر، وجعل ذلك منتجا لعلم الحادثة، وأكده باللام (لَعَلِمَهُ)؛ تأكيدا على أن إرجاع الحادثة إليهم موصل إلى علم سياستها ما كانت. فإن لم يكن للبلاد دستور كان ذلك الحاكم الذي ولى نفسه على البلاد وأطاعه ورضيه الناس وليَّ أمرٍ بالإقرار والرضى شعبيا وشرعيا؛ لأن هذا هو واقع الأمر. فالشعب إذا تحققت مصالحه ورضي عن حاكمه، فقد أقر به ورضيه ولي أمر، والشرع يقر ذلك؛ لأن الولاية في الشرع تعتبر برضى الشعب. وإذا تحققت المصالح ورضيه الناس استمر حتى يتفق الناس على وضع دستوري ينظم الدولة ورئاستها. ويشترك في وضعه الحاكم وأهل الحل والعقد وقيادات الشعب، ومن يختاره الشعب لذلك،

ثم يستفتى عليه شعبيا ليكون عقدا عاما عن رضى الشعب. ويلتزم الحاكم الحالي ودولته به بعد إقراره والاستفتاء عليه؛ لأنه نص عقد عام، والالتزام بالعقود واجب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). سادسا: الوصول للحكم بالقوة المسلحة: الأصل منعه. أ- فإن كان الحاكم عادلا مصلحا في الأرض راضية به الأكثرية والسواد الأعظم من الشعب، فالقائم عليه انشقاقي (¬1) ولا ينظر إلى كونه مصلحا، أو عدلا، أو فاسدا؛ لعموم «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق جماعتكم فاقتلوه كائنا من كان» (¬2). وقتله هو حكم أعلى كخيار شرعي مقنَّن للعقوبة، وليس بالضرورة إيقاعها؛ لجواز سجنه أو العفو عنه إثر محاكمة عادلة؛ لأنه حق عام يخفف، أو يسقط بنظر مصلحي عام من جهة مخولة أو معنية لها تفويض عام في مثل ذلك. ولجواز إسقاط القصاص من أولياء الدم في القتل العمد العدوان؛ لأنهم مفوضون في ذلك، وهذا كذلك قياسا عليه. ب- وإن كان الحاكم مفسدا في الأرض وقام عليه مصلح في الأرض مجمع على صلاحه وترجح غلبه على المفسد، فواجب على الشعب القيام معه لحديث «سيكون أمراء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «انشقاقي»: أطلقنا هذا المصطلح لوجوده في الحديث «يشق الجماعة» وله فقه خاص غير فقه الخروج المعروف، ودقة اللفظ في الحديث هو ما يتوافق مع الواقع السياسي فيمن صنع ذلك، ولعلنا نبسط هذا في شرح قادم للكتاب. (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه برقم 4904 من حديث عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». وفي رواية له «إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان». (¬3) - تقدم تخريجه.

النوع الثاني من أولي الأمر

ويقوم هذا المصلح بأعمال ولي الأمر، ثم يجمع وجوبا أهل الحل والعقد من سائر القيادات؛ لمشاورتهم في سياسة البلاد؛ لعموم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وما نتج عن الشورى التزم به الكافة. وإن قلنا بعدم إلزامها كانت عبثا، وهذا محال في الشرع. ولا مانع أن تخرج الشورى بمبايعته، ولهم تحديد فترة ذلك، ولا بد من استمرار المشاورة حتى الخروج بمشروع عام يشكل ويعالج أوضاع البلاد شعبا ودولة يتفق عليه الحاكم والشعب؛ لأنه أدفع للمفاسد والفتنة. ج- فإن كان القائم على المفسد في الأرض ظالما، أو فاسدا غير عدل، ولا مرضي، عمل هنا بفتوى الإمام مالك في تركهما يهلك بعضهما الآخر، ويختار الشعب على الفور عدلا عادلا مصلحا في الأرض للحكم، ويخلع بذلك سائر الأطراف الفاسدة المتنازعة على الحكم (¬1). ومع هذا كله فهذه التقسيمات نظرية والواقع قد يخالفها، فواجب العمل بما يصلح الأمة وينشر الأمن والاستقرار، وواجب دفع الفتنة وعدم الدعوة إلى الانشقاقات وتفريق الأمة، هذا هو الأصل المدلل عليه نصوصيا ومقاصديا، فحرمة الخروج على الحاكم إنما هو لأجل مصلحة الجماعة ودرء المفسدة العظيمة عنها وهي غالبة. النوع الثاني من أولي الأمر: أما النوع الثاني من أولي الأمر فهم ممن ولاهم الحاكم «رأس الدولة» من الولاة، أو انتخبوا شعبيا في الولايات، أو المحافظات، والسلطات المحلية، والوزارات، وقادة الجيش. النوع الثالث: أما النوع الثالث فأولو الأمر شعبيا ومجتمعيا، وهم مشايخ القبائل، وقادة المنظمات، والنقابات، والمؤسسات المجتمعية، والجماعات الدعوية، والأحزاب السياسية، حتى أمير السفر بالنص. ¬

(¬1) - قولنا «المتنازعة على الحكم». قلت: فتوى مالك نقلها الخرشي في شرح مختصر خليل (23/ 83) ولفظه: روى ابن القاسم عن مالك إن كان الإمام مثل عمر بن عبدالعزيز وجب على الناس الذب عنه، والقتال معه، وأما غيره فلا؛ دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما).

النوع الرابع

وفي حديث أبي بكر الصديق في البخاري للمرأة التي سألته عن أولي الأمر فقال لها أليس على قومك رؤوس؟ قالت: نعم. قال: فهم (¬1). فيدل على شمول ذلك؛ وهم أهل اللسان، والقرآن نزل بلسانهم، واستعمالاتهم. النوع الرابع: أما النوع الرابع فأولو الأمر الديني، وهم العلماء المتبعون، وهو من أقوال العلماء في الآية (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). النوع الخامس: أما النوع الخامس فالوالدان، ومن أقيم مقامهما تطوعا، ككافل اليتيم، أو بنصب من القضاء لناظر عليه، وعلى من يحتاج لنظر نحو سفيه. فالوالدان مأمور بطاعتهما في غير معصية بنصوص من القرآن والسنة بلغت حد الضرورة الدينية. وأما الكافل؛ فلأن طاعته من إصلاح اليتيم، وهذا مأمور به (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220)، فلا يستطيع كافله الإصلاح له إلا إذا أطاعه في توجيهاته الخُلُقية والتعليمية وغيرها. أما الناظر: فلأنه مُولَّى من حاكم، فطاعته طاعة للحاكم (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ). فهؤلاء الأنواع الخمسة يصدق عليهم (وَأُوْلِي الأَمْرِ)، ولكل من هذه الأقسام في طاعته حدودٌ وشروط وتفاصيل للمسائل. - حدود طاعة ولي أمر المسلمين: وحدود طاعة ولي أمر المسلمين في ثلاثة أمور لا رابع لها، ونعني به ولي الأمر الأول وهو ¬

(¬1) - قولنا «وفي حديث أبي بكر ... » هو في البخاري برقم 3834 عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة. قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين. قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس.

حاكم الدولة، أو رئيسها، أو الملك، أو السلطان، أو الأمير، وطاعته واجبة وهو يدخل دخولا أوليا في الأمر (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، والثلاثة الأمور هي: الأول: طاعة إلزام بالأوامر والنواهي في الشريعة. الثاني: كل قانون انبثق من الشريعة باستنباط أهله وإقرار الجهات له بالأغلبية الشوروية، فيطاع الأمر فيه بالإلزام. الثالث: الإلزام في دائرة خدمة المصالح العامة المدركة بمعرفة أهلها وإقرار أغلبية شوروية مؤهلة حرة. وقلنا «مؤهلة»؛ لأن شرط أهل الشورى البرلمانية التأهل. وقلنا «حرة» احترازا من تصويتٍ مأمور لتوجه معين بلا مراعاة للتجرد ومعرفة الحقائق. وإنما حصرنا طاعته في هذه الأمور الثلاثة بالاستقراء والتتبع لأدلة الشريعة. فلم نجد رابعا سوى الهوى، وذلك بالانحراف عن الحق والعقد الدستوري للشعب. والدليل على هذه الثلاثة: الأول: قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). والدين المرضي هو الإسلام، يقول تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19). ويقول تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85). ويقول تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18). وشريعة الإسلام هي الأحكام في الكتاب والسنة. والإلزام بتنفيذها على الجهة الكلية واجب الدولة لقوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41).

وقوله تعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ) (المائدة: 49). وقوله سبحانه (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) (يوسف: 40). وقوله تعالى (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف: 54). وقوله سبحانه (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44). وقوله تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45). وقوله سبحانه (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47). وواجب الحاكم في ذلك هو: الالتزام والإلزام بتنفيذ أحكام الله. أما الأمر الثاني: فلأن تقنين الشريعة من جهة مؤهلة، وإقرارها بأغلبية الشورى هو من أمر أهل الإيمان (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)؛ فما نتج عن الشورى من قوانين تخدم المصالح العامة ولا تناقض الشريعة فلا مانع من ذلك (¬1). أما الأمر الثالث: فلأن إقامة المصالح العامة ودفع المفاسد مشمولة بعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). فكل ما أمر به الحاكم من البر والتقوى العام فواجبٌ طاعته بأمر (وَتَعَاوَنُوا). وهو يدل على الوجوب، وبأمر عام (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ). ومن لم يطع في ذلك فهو متعاون على الإثم والعدوان، داع إلى الفتنة، وهو محرم. ولا رابع لهذه الطرق سوى الهوى وحكم الجاهلية، ولا طاعة فيه (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18). ويقول تعالى (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (المائدة: 48). ¬

(¬1) - ولأن القانون هو صياغة أحكام الشريعة بتفاصيل جزئية تَحْكُم في الوقائع على صورة مواد معينة في وقائع معينة وهو أشبه بالفقه المذهبي الفروعي، فإنه صياغة لأحكام الشريعة المتعلقة بالوقائع بصورة مختصرة جامعة، وهذا مباح. أما شرط كون الجهة مؤهلة؛ فلأن القول بغير علم محرم قطعي، فوجب سؤال مؤهل في فقه الشريعة، ولا تقنن الشريعة إلا به، وإن وجد غيره من الخبراء كأدوات مساعدة، أما الحكم الشرعي وإخراجه في صورة محددة جامعة مانعة بشروط وقيود فلا بد له من العالم الفقيه بالشريعة.

تعطل طاعة الحاكم

ويقول تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50). ويقول سبحانه (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26). وحكم الجاهلية هو كل حكم أو قانون أو تشريع أو دستور، كُلاً أو بعضا، صادم ما أمر الله به، أو ما نهى الله عنه، أو حرم ما أحله الله بالنص، أو أحل ما حرمه الله بالنص. تعطل طاعة الحاكم: وتتعطل طاعة الحكم فيما سوى هذه الثلاثة الأمور، أو اختلال شرط الولاية: وبيان ذلك في مسائل: المسألة الأولى: لا طاعة لحاكم كافر، أو منافق؛ للنص في قوله تعالى (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 48). والطاعة في أصل اللسان العربي تكون عن أمر ملزم، ولا إلزام إلا لولي الأمر في الأقسام الخمسة السابقة. والوالدان (¬1) الكافران يصاحبان بما جرى به الإحسان العرفي (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15)، فسماها الله مصاحبة لا طاعة. وأما العالم فطاعته لازمة من جهة لزوم سؤاله فيما لا يعلم من الشرع، يقول تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7)، ويقول سبحانه (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (يونس: 94)، وإخباره بذلك ملزم دينا لا قضاءً، وإذا تعددت الفتوى في المسألة أطاع واحدا ولا يخرج عن قول كل مفت. ¬

(¬1) - ذكر هذا دفعا أن يستدرك عليه أن الوالدين الكافرين يطاعان؛ وأن العالم طاعته غير ملزمة؛ لأن الفتوى غير ملزمة فبين أنها ملزمة ديانة لا قضاءً، وأن طاعة الوالدين الكافرين مصاحبة بلا إلزام، إذ لا يسمى عاقا لوالديه إلا إن كان والداه مسلمين أما الكافران فلم أجد من يقول ذلك من العلماء فيما اطلعت .. وهو ما أراه.

- ومن الأدلة على عدم طاعة أولي الأمر كافرا، أو منافقا قوله صلى الله عليه وسلم «إلا أن تروا كفرا بواحا». أي فاخلعوا الحاكم بالسيف إذا رأيتم الكفر البواح المبرهن عليه، فإذا وجب خلعه إن طرأ عليه الكفر البين، أو أمر به، أو هدم أصول الدين الكبرى، فعدم توليته أصلاً في الابتداء مثله في الحرمة وأولى منه. ولأن الخلع بالقوة المسلحة لكافر أو منافق معناه قطعا أنه لا طاعة له في أي أمر من خير أو شر، حق أو باطل، حتى لا يقال نطيعه في الخير لا في الشر. ومن الأدلة قوله تعالى (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) أي: من المسلمين لا كافر أو منافق. وقوله تعالى (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141). وهو أمر بأسلوب الخبر، وهو من أقوى أنواع الأوامر، أي لا تجعلوا للكافرين على المؤمنين أي سبيل. وأقوى وأعظم سبيل هو جعله من أولي الأمر حاكما على أهل الإسلام. - وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، والولاية العامة أعظم من الموالاة؛ إذْ جعله واليا حاكما على المسلمين أعظم من موالاته سرا وإلقاء المودة إليه. - وقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ) (النور: 55) فالاستخلاف في الأرض وعد إلهي للأمة المؤمنة الصالحة ومقصود، وهو أمر للمؤمنين بالسعي لذلك؛ وتولية المؤمنين حاكما كافرا عليهم هو خلاف مقصود الله ورسوله. ويعرف المنافق بأقواله، وأفعاله، فمنها: أ- إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. ب- ومنها الفرح بمصيبة المؤمنين وظفر الكافرين (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة: 50). ج- ومنها تذبذب المواقف نفاقا (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء) (النساء: 143).

د- ومنها التثبيط عن الخيرات، والسعي للتفريق، والفتنة في الصف (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47). هـ- ومنها المسارعة في إرضاء الكافرين من يهود ونصارى وغيرهم (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) (المائدة: 52). و- ومنها القعود عن الجهاد في قضايا الأمة، يقول تعالى (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81)، ويقول تعالى (وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 86). ز- ومنها عدم الإعداد (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46). ح- ومنها: محاربة الإنفاق في الخير (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب: 19). ط- ومنها: طول ألسنتهم على المصلحين في الأرض من المؤمنين (سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) (الأحزاب: 19). وصفات أهل النفاق كثيرة، وما ذكرها الله إلا حذرا وتحذيرا منهم. فمن أظهر صفات المنافقين كلا أو بعضا؛ فيحرم أن يكون حاكما ولي أمر للمسلمين؛ لأن طاعته محرمة (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 48). ونحكم بمن أظهر من صفاتهم بالنفاق العملي، وأمره إلى الله، ولا يحكم عليه بكفر أكبر إلا بإظهار مكفر قطعي. ومريض القلب في استعمال النصوص عند عدم التفصيل يشمل احتمال النفاق الأكبر والعملي، وقد يفصل (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ) (الأحزاب: 60 - 61). فالمنافقون في هذا النص قصد بهم من أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.

المسألة الثانية

والمرضى والمرجفون هم: أهل النفاق العملي ممن عمل بعمل المنافقين ولم يبطن الكفر الأكبر. فهؤلاء جميعا ملعونون لا ولاية لهم ولا طاعة، بل قد ينفوا من أماكنهم إن اشتد ضررهم الاجتماعي وفسادهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) (الأحزاب: 60). أي: إن لم يكفوا عن أعمالهم المفسدة فسنحملك على إخراجهم من المدينة. ومن كان حقه الطرد والنفي من الأرض لأعماله الفاسدة، فكيف يكون حاكما! ؟ بل يجب أن يكون شرط الحاكم مسلما عدلا. فشرط الإسلام خرج به الكافر، والعدالة خرج بها الفاسق العامل بأعمال أهل النفاق، وسواء كان منافقا أكبر أو مريضاً ومرجفاً بنفاق عملي. وأشهر الصفات العملية الظاهرة لهم: الكذب، والخلف، والخيانة والفجور في الخصومة وترك العدل فيها (¬1). ونُصَّ على هذه الأربع لأنها أظهر وأشهر وأضبط الصفات، فيسهل معرفتها للناس. المسألة الثانية: لا يطاع مطلقا من غلب عليه الفساد، لقوله تعالى (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152). وقلنا من غلب عليه الفساد؛ لأنه مقتضى الإسراف المذكور في الآية، المفسر فيها بأنهم المستمرون على الفساد في الأرض، ومستمرون على ترك الإصلاح في الأرض. والغلبة تشمل الكثير من الفساد ومناصفته فما فوق (¬2)؛ لأن الله ذكر عن فرعون كثرة الفساد وهو غالب (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) (الفجر: 12)، فإن ندر فلا يشمل. وقولنا: «المستمرون»؛ لأنه مقتضى ما يفيده الفعل المضارع في (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 152). ¬

(¬1) - هذه الصفات مذكورة في الأحاديث فمنها ما أخرجه البخاري برقم 33 ومسلم برقم 219، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» .. (¬2) - تقدم تخريج الحديث في ذلك.

المسألة الثالثة

ومعلوم لغة أنه يفيد العمل في الحال باستمرار المستقبل فيه؛ لأنه لو انقطع لذكره بالماضي الذين أفسدوا ولم يصلحوا. فدلت الآية على أن من غلب على أمره الفساد في الأرض حرم طاعته مطلقا لعموم (أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) في سياق النفي، أي: أي شأن من شأنهم قولا، أو فعلا صراحة، أو دلالة. فإن قيل: كيف نزلت الآية في الحاكم؟ فجوابه أن الطاعة للأمر لا تكون إلا لمن له الأمر من أولي الأمر في الأنواع الخمسة. والحكام داخلون في من لهم الأمر دخولا أولياً بالضرورة العادية، والعقلية المتبادرة، والشرعية. وهذه الآية (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59) عامة في كل أولي الأمر، وآية (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152) خاصة استثنت من الطاعة من كان من أولي الأمر مفسدا في الأرض. وقلنا: «خاصة»؛ لأن الصفة أخص من الموصوف؛ لأنها بعض صفاته؛ فوصف أولي الأمر بالعادل أو المفسد بعض صفاته فهي أخص حتى لا يقال إن الآيتين عامتان. بل إن الطاعة أخص صفة متعلقة بأولي الأمر تعاملا معه، فأمر في آية بالطاعة ونهى في آية عن طاعة المفسد فهذا أخص. فيكون الأمر بطاعة أولي الأمر مخصوصاً بالعدل العادل، لا كافراً، أو عاملاً بعمل المنافقين، أو مفسداً في الأرض. المسألة الثالثة: لا طاعة لمن لم يقم كتاب الله، وهذا منصوص عليه في قوله صلى الله عليه وسلم «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله» وهو في صحيح مسلم (¬1). وإقامة كتاب الله هي إقامة أحكامه كالأمر بالعدل والإحسان، وترك البغي والظلم والفساد، والدعوة لجمع الكلمة وحفظ الكليات الكبرى: الدين والعرض والنفس والمال والعقل ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المسألة الرابعة

والجماعة والنسب والنسل وسائر القواطع الشرعية، فإذا لم يُقِمْ هذه الأمور أو أغلبها أو بعض الأصول، فلا طاعة له. المسألة الرابعة: يجوز العصيان المدني الشامل لنظام أهلك الشعب، لما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هلاك أمتي على يد أغيلمة سفهاء من قريش. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: اعتزلوهم أو لو أن الناس اعتزلوهم» (¬1). وإهلاك الشعب علة مقتضية لحكم هو الاعتزال الشعبي العام للحاكم ونظامه وسفهه. ولفظ الإهلاك يدل على عظيم الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل وسفك الدماء، ويعم الإفقار والخوف والبطالة وتعطيل كثير من المصالح وتولية الفاسدين على رقاب الخلق. فإذا حصل هذا ترتب عليه: أن للشعب اعتزال النظام الفاسد وحكامه، وهذا إجراء سلمي شعبي لم يصل إليه العالم إلا في القرن الحادي والعشرين في عصرنا هذا، في القرن الرابع عشر الهجري. وإجراءات الاعتزال الشعبي السلمي للحاكم الفاسد وولاته ونظامه التي أمر بها الشرع هي طريق لا شك موصلة إلى أحد أمرين: إما إسقاط الحاكم ونظامه الإهلاكي الفاسد وتغييره، أو إلزام الحاكم بالإصلاح في الأرض وعزل المفسدين والعمل بالمصالح ودفع المفاسد. وكلاهما مقصود شرعا، فإما العدل وإما العزل. وإنما قال في النص «لو أن الناس اعتزلوهم» (¬2). بحرف «لو» ليدل على أمور هامة منها: أن لو تقتضي جوابا؛ فيكون «لو أن الناس اعتزلوهم» لقُضِيَ على الفساد. ومنها: جعل الأمر بالخيار الشعبي بحسب تقديراته المصلحية؛ فلو أنه أمرهم لوجب، فجعل هذا خيارا لا أمرا. وترك النص تفسير الهلاك؛ لأن تقدير بلوغ الوضع إلى درجة الهلاك للشعب يعرفه ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

المسألة الخامسة

الشعب ويقدره، وقد يذكر النص بعض مفرداته ليقاس عليها كقوله تعالى (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) (البقرة: 205). المسألة الخامسة: كل حاكم كذاب يقول ما لا يفعل ومنحرف عن لزوم المصلحة العامة للشعب، فيفعل ما لا يؤمر؛ فإنه لا طاعة له، ويقاطع ويعصى عسكريا وماليا ومجتمعيا. والدليل على ذلك النص «لا تكن لهم جابيا ولا شرطيا ولا عريفا ولا خازنا» (¬1). والجباية جمع المال من موارده إلى يد النظام الفاسد وحاكمه. والعرافة تمثل الآن مشايخ القبائل ومنظمات المجتمع المدني ووجهاءه وقياداته. والخازن: يمثل البنك المركزي وبيوت المال. والشرطة: تمثل المؤسسة العسكرية والأمنية. والنهي عن هذه الأمور يفيد التحريم؛ لأنه أصل استعمال النهي في المذاهب الأربعة والزيدية والظاهرية. والمقصود من الحديث تعطيل عمل الحاكم والنظام الفاسد في مؤسساته الاستراتيجية الهامة التي يقوم عليها، وهي المؤسسة العسكرية والأمنية «لا تكن لهم شرطيا»، والمؤسسة المالية «لا تكن لهم جابيا»، والبنك المركزي «لا تكن لهم خازنا»، والمجتمع «لا تكن لهم عريفا». ويصدق هذا بأمور: - الإضراب الشامل في موظفي هذه الجهات الأربع. - العصيان المدني في توريد أي مال إليهم. - العصيان المدني في ترك التعامل مجتمعيا معهم أو التجاوب لفعالياتهم ومؤتمراتهم وحشدهم. - انحياز القوات المسلحة والأمن إلى الشعب وحمايته، وعدم التعامل مع الحاكم الفاسد المهلك ونظامه، فلا يطاع لهم أمر في المؤسسات العسكرية، ويعبرون عن ذلك سلميا، دفعا ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المسألة السادسة

للفتنة إلا في حال حماية الشعب من أعوان الحاكم الفاسد أن يقتلوهم، أو يعتدوا عليهم؛ لقوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). - إضراب البنك المركزي والخزائن المالية وعدم التعامل مع الحاكم الفاسد ونظامه. المسألة السادسة: جهاد الحاكم الكذاب المنحرف عن إرادة الأمة من الإيمان، والدليل عليه الحديث الصحيح «سيكون عليكم أمراء -وفي رواية مسلم- خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان وغيرهم (¬1). وهذه العلة المنصوصة في الحديث «يقولون ما لا يفعلون» هي الكذب الشامل، وقد ورد في النص «إنه لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم» (¬2). والعلة الأخرى «ويفعلون ما لا يؤمرون» هي الحكم بالهوى دون الشريعة والنظام والقانون المتفق عليه المبني على المصلحة الشرعية العامة، والخروج عن إرادة الأمة وعقدها الدستوري وقانونها. وقد تكون العلتان علة واحدة مركبة كما هو معلوم في الأصول، ولا مانع؛ لأن الحاكم الكذاب منحرف قطعا في العادة عن الحق والمصلحة العامة؛ لانسحاب كذبه على أفعاله. وهذه العلة ظاهرة منضبطة يعرفها الشعب بمجرد وقوعها من الحكام (¬3). فالكذب والانحراف لا يخفى، خاصة من حاكم؛ لظهور أمره؛ فأفعال الحكام عامةٌ ظاهرةٌ؛ فالعلة صحيحة لانطباق شروط أهل الأصول عليها. وهي: الظهور والانضباط، ويرجع في الانضباط إلى صيرورته عادة عند الشعب لكثرته، وهو يدل على أن شهادة الشعب للحاكم عمدة صادقة مبينة لحقيقته، فلتعتمد. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - هذه هي شروط العلة.

المسألة السابعة

المسألة السابعة: ولا طاعة لأولي الأمر في حال التنازع؛ لقوله تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59). فأمر بالطاعة في الحالة الاعتيادية، وأمر بالتحكيم الشرعي عند التنازع، وهي الحالة الاستثنائية، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر بل نزع طاعتهم وجعلها لله ورسوله كتابا وسنة، وألزم أولي الأمر والشعب بذلك. وجعله رافعاً للنزاع حالا ومآلا (ذَلِكَ خَيْرٌ)، والخير يلزم منه رفع النزاع؛ لأنه قطع للشر (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي تحقيق المصلحة ودفع الفتنة في مآل الأمر مستقبلا. فمن نزل نصوص طاعة أولي الأمر على حالة التنازع فقد أخطأ؛ لتركه حكم النص في حالة النزاع. والفتوى في منصوص على خلافه باطلة، خاصة كونها في آية واحدة وسياق واحد ومسألة واحدة هي طاعة أولي الأمر. المسألة الثامنة: ولا طاعة بالنص لمن لم يطع الله ورسوله «لا طاعة لمن عصى الله» (¬1)، وحديث «فليس لأولئك عليكم طاعة» (¬2). ¬

(¬1) - حديث «لا طاعة لمن لم يطع الله ورسوله» أخرجه ابن ماجة برقم 2865 عن عبدالله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها». فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال «تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله». قلت: وسنده صحيح، وله شاهد حسن عند أبي يعلى الموصلي كما في إتحاف الخيرة برقم 4224، وله طريق أخرى عن عبادة بن الصامت في إتحاف الخيرة المهرة. قلت: وسنده حسن في المتابعات. وأخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس رضي الله عنه أن معاذا قال «يا رسول الله، أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني فيهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله». قلت: وسنده حسن. (¬2) - حديث «فليس لأولئك عليكم طاعة» أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن برقم 38876 عن الأعشى بن عبدالرحمن بن مكمل، عن أزهر بن عبدالله، قال أقبل عبادة بن الصامت حاجا من الشام فقدم المدينة، فأتى عثمان بن عفان، فقال: يا عثمان، ألا أخبرك شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بلى، قلت: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون ويعملون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة. قلت: وهذا إسناد حسن والأعشى بن عبدالرحمن قال الذهبي وُثِّق. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره أبو حاتم الرازي بدون جرح أو تعديل. وقال الهيثمي لم أعرفه. قلت: قد عرفه غيره. وقال الحافظ مقبول.

المسألة التاسعة

فالطاعة منتفية جملة وتفصيلا للعموم المستفاد من النكرة في سياق لا النافية للجنس «لا طاعة». وهي نص في العموم بدليل كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»؛ فإن احتملت التفصيل وعدم العموم القطعي لم تكن كلمة التوحيد توحيدا. وهذا الحكم عِلَّتُه منصوصة متى تحققت انبنى عليها حكمها؛ لأن العلة يدور معها الحكم وجودا وعدما. المسألة التاسعة: وإن خالف الحاكم العقد بينه وبين الشعب، فللشعب ترك طاعته للإجماع على ذلك من الصحابة ورأس السلطة الخليفة الأول إذ قال على المنبر في أول خطاب سياسي للأمة «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم» (¬1). وهذا عام يبلغ القطع في الدلالة لتركبه مع لا النافية للجنس في «لا إله إلا الله» ولو احتمل ظنية العموم لما كانت كلمة التوحيد قطعية لاحتمال الاشتراك معها، وهذا محال. وإقراره من عامة الصحابة على هذا القانون؛ لانبنائه على المفهوم الجامع للنصوص في الطاعة والصبر والتغيير لمواجهة انحرافات الحاكم ونظامه، ولا يعارض نصوص الصبر على الحاكم والسمع والطاعة، بدلالة إقرار الصحابة ذلك، ولو صادم لأنكروا معارضته النصوص؛ فدل على أن نصوص الصبر في حالات معينة محدودة لمخالفات معينة في حدود القلة والندرة كما سيأتي. وخطابه رضي الله عنه يبين شروط عقد الولاية العامة بينه وبين الشعب، وأن مخالفتها توجب ترك الشعب لطاعته للحاكم. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المسألة العاشرة

المسألة العاشرة: والحاكم إذا ظلم فردا، وتمنع من الإنصاف من نفسه ابتداء بمبادرة، أو إجابة قضاء بمثول للمحاكمة، فإن طاعته لا تجب على ذلك الفرد حتى يرفع مظلمته، وقد سن هذا القانون عمر رضي الله عنه في خلافته كما جاء بسند صحيح في السنة للخلَّال «من كانت له عند أمير مظلمة فلم ينصفه فلا طاعة له عليه دوني» (¬1). وأصل العمل به قوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59)، فَنَزَع الطاعة وقت التنازع مع الحاكم وألزم الطرفين بالتحكيم. فَفِعْل عمر مشروع، بل سنة، وهو نوع لتقنين مأخوذ من النص بصورة صاغه كمرسوم عام، أو أصل دستوري، أو مادة قانونية. المسألة الحادية عشرة: إذا صدر من الحاكم المصلح في الأرض أمر بما هو معصية في الشرع حرم طاعته فيها، وكذا في جزئية صادمت المصلحة العامة بقول القضاء أو الجهات المخولة كالبرلمان، وتبقى طاعته في غير هذه الجزئيات على الأصل. وشرط بقاء الطاعة فيما سوى ذلك ألا تكون المخالفات التي أمر بها تعود على الأصول الشرعية والدستورية بالإبطال. فالأول: كإصدار أمر بالتصريح لعمل العاهرات في الزنا، أو الشذوذ الجنسي، أو منع الصلاة في الكليات العسكرية، أو الدوائر الحكومية، أو إبطال فرض الزكاة، أو الترخيص للفطر في رمضان للناس بمبرر الحريات، أو الاقتصاد، أو السياحة، أو منع تعليم القرآن والسنة، لا رسميا ولا أهليا، ونحو هذه الأصول. ¬

(¬1) - أثر «من كانت له عند أمير مظلمة ... » أخرجه الخلال في كتاب السنة برقم 64 أخبرنا محمد، قال: أنبأ وكيع، عن شعبة، عن مخارق الأحمسي، عن طارق بن شهاب، قال: كتب عمر بن الخطاب رحمه الله إلى أهل الكوفة: من ظلمه أميره فلا إمرة له عليه دوني. قال: فكان الرجل يأتي المغيرة بن شعبة فيقول: إما أن تنصفني من نفسك، وإلا فلا إمرة لك عليّ. قلت: هذا سند صحيح. وأخرجه الطبري بسند صحيح أيضا في تاريخه برقم 1311، ط/ دار عز الدين -بيروت.

قواعد الصبر على الحاكم

أما الثاني: مما قد يصدر من الحاكم مما يعود على أصول عقد الدستور بالإبطال فكتغيير نظام الحكم من شعبي إلى عائلي بلا توافق ورضى شعبي؛ لأن عقده ومبايعته إنما هو على نوع من الحكم فكان غير مبايع في تحويله النظام إلى غيره. أو تغيير مادة مقيدة للولاية بتحايل وخداع بلا رضى عام؛ لأنه مبايع على مدة مقدرة محدودة، فكان ما فوقها بلا بيعة، فهو كالغاصب. أو ما يقتضي استبداده بالأمر؛ لأنه خلاف شرط العقد، وللإجماع على إبطال ولاية المستبد. أو ما فيه تفريط في سيادة الدولة ونحو هذه؛ لأنه حينئذ عاد على أصل مقصود الولاية بالإبطال، فبطل عقده. فهذه المسائل الأصول الشرعية أو الشرطية توجب عزله بواحدة منها، فإن تاب أو أظهر جهله بذلك فيمكن القول ببقائه حسب عقد الولاية، وإن أصر عزل. قواعد الصبر على الحاكم: والصبر على الحاكم له قواعد تعرف بتتبع النصوص السياسية المتعلقة بحقوق الشعب وواجباته، وما للحاكم وما عليه، ولا بد حينئذ من جمع النصوص، والنظر فيها، وما تدل عليه. ولا بد عند مقارنة النصوص من معرفة ما هو أصل، وما هو استثناء، ومعرفة حالات العمل بالاستثناء؛ لأن ما دونها تبقى على حكم الأصل. ولا بد من معرفة معنى الصبر، وهل يضاد لزومه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ولا بد من معرفة علة الحكم بالصبر ليقاس عليها. - الصبر على ثلاثة أنواع: فالصبر على الحاكم لا يخرج عن ثلاثة أنواع: الأول: السكوت عن الحاكم الظالم وفساده في الأرض. الثاني: مواجهة فساد الحاكم والصبر على تحمل إرهابه قولا وفعلا.

حكم النوع الأول من الصبر

الثالث: ترك الخروج المسلح على طاعة الحاكم المصلح في الأرض. ولو وجد منه أخطاء بقلة أو ندرة، وهو المقصود بلا شك بالنص في الحديث «السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى أثرة علينا» (¬1). - حكم النوع الأول من الصبر: فالأول: محرم؛ لأن السكوت العام عن الفساد العام يعود على المصالح العامة بالإبطال، وينقض الضروريات الكبرى؛ فالسكوت حينئذ تعاون على الإثم والعدوان. ولا تُقيد بقدرة ولا عدم قدرة بالنسبة للأمة والشعب ككل؛ لأن الأمة بأسرها لا تستثنى من التكليف بدفع الفساد في الأرض؛ لأنه إبطال للشريعة. ولا يستثنى إلا المستضعفون، وهم شريحة محدودة من الرجال والنساء والولدان (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 97 - 98). وظالمو أنفسهم هم المتعايشون مع الفساد في الأرض من حاكم أو غيره، فسماهم الله ظلمة، وأبطل اعتلالهم بالاستضعاف؛ لإمكان ترك محله كأقل إجراء جماعي سلمي؛ لأن دعوى عجز الكل محال عادة، فلم يقبل لهم الاعتذار بالاستضعاف وهم طائفة محدودة فكيف بالأمة أو الشعب! ؟ فلا حجة لهم عند الله في التعايش مع ظلم النظام وفساده في الأرض، وواجب عليهم حينئذ دفع الفساد. ويدل إبطال عذر الاستضعاف على ما ذكرناه من قاعدة، ويمكن صياغتها بقولنا: الاستضعاف حجة لا تُسْقِط التكليف العام، أو: لا يعذر الشعب بأسره بعذر الاستضعاف. فتحصل من هذا أنه لا تعذر الجماعة ولو في بلاد غير الإسلام بالاستضعاف، فأولى ألا يعذر شعب مسلم بأسره بالاستضعاف من حاكم عليه يدعي الإسلام وهم في عقر دارهم وبلادهم. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

نصرة المستضعفين فرض

ولذا أمرهم الشرع عند إهلاك النظام الفاسد للشعب بأقل إجراء شعبي سلمي عام هو «لو أن الناس اعتزلوهم» (¬1)، وهي المقاطعة الشعبية العامة للنظام حتى في أخص مؤسساته «لا تكن لهم جابيا ولا شرطيا ولا عريفا ولا خازنا» (¬2)، ومع كونها أقل تكلفة للشعب فهي أشد وأقوى فتكا بالفساد والمفسدين من حاكم ونظام. ولا يسمى صبرا السكوت عن مناكر ومفاسد الحاكم المفسد في الأرض، بل استضعافا واستكانة وذلا، وهو الاستضعاف الباطل الاعتذار به في الآية. ولا يجوز إلا للرجال المستضعفين من المسنين والعجزة، أو النساء والولدان الضعفة، ولا يسمون كذلك حتى يبلغوا درجة العجز عن أي حيلة أو أي طريق لدفع الفساد عنهم (لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 98). - نصرة المستضعفين فرض: وفرضٌ نصرة هؤلاء وإنقاذهم برفع يدٍ مفسدةٍ عنهم من حاكم، أو نظام عصابة إجرامية. فإن لم ينقذوا إلا بالقوة المسلحة وجب ذلك للنص في (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (النساء: 75). فإن كان هذا في غير بلاد الإسلام في دولة كفر؛ فإنقاذهم على كل قادر من أهل الإسلام وغيره، سواء كانوا مستضعفين من الأقليات المسلمة أو غير المسلمة. لأن إنقاذ الأنفس المستضعفة من متلفٍ بظلم، واجبٌ مطلق. وقولنا «واجب مطلق» ليشمل إنقاذ المستضعفين في الأرض، من مسلم وغير مسلم. فإن كان في بلاد الإسلام من حاكم ظالم مفسد، فالواجب على أهل الإسلام. ولا تدخل قوة لدولة الكفر بلاد الإسلام؛ لأن المفسدة لا تدفع بمثلها أو أعلى؛ ولأن أهل الإسلام على قدرة من رفع الظلم وإنقاذ الضعفة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

لا يهاجر شعب مسلم لاحتلال

- لا يهاجر شعب مسلم لاحتلال: ولا يهاجر شعب مسلم كلية من وطنه ودولته ولو لاحتلال دول الكفر فضلا عن احتلال الحكم وسلطته من حاكم مفسد في الأرض؛ لأدائه إلى ترك فريضة قطعية هي الدفاع عن وطن ودولة وبلاد الإسلام بالجهاد في سبيل الله بأنواعه، ولأنه لو أجزنا ذلك لجاز النزوح أو الهجرة من وطن آخر ثم ما يليه حتى تخلو بلاد الإسلام من أهلها ودولتها، وهذا لا يقول به مسلم؛ لأنه نقض للإسلام من أصوله وفروعه، ونقض ما أراده الله من أن يكون الدين كله لله والتمكين للمؤمنين، والتكليف بالدفع -حينئذ- فردي (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84). - بطلان زيادة «ولو جلد ظهرك»: ورواية «اسمع وأطع ولو جلد ظهرك وأخذ مالك» (¬1) روايةٌ من حديث حذيفة المشهور، وهذه الزيادة فيها علتان تسقطانها: الأولى: الانقطاع، والثانية: مخالفة كافة طرق الأثبات الصحيحة الموصولة التي لم تذكر هذه الزيادة في صحيح البخاري ولا مسلم في سياق روايات الأصول. وما كان كذلك فهو شاذ منكر ضعيف، وهذه علة لا ينفع معها شيء، لا في الشواهد ولا المتابعات، وإنما أخرجها مسلم في غير حديثه في الأصول بل في المتابعات لينبه على علته وشذوذه كما هو عادته وعادة أهل الحديث. ¬

(¬1) - رواية «ضرب ظهرك .. » تفرد بها أبو سلام عن حذيفة، قال الدارقطني لم يسمع منه. كما ذكر ذلك العلائي في جامع التحصيل، ط/ عالم الكتب، صـ 286. ورواه أبو إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة، فذكر الحديث وليس فيه هذه الزيادة فهي زيادة شاذة كما هو معلوم في علم المصطلح ومخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، فهذه علة، والعلة الأخرى هي الانقطاع بين أبي سلام وحذيفة، ولذلك أوردها مسلم متابعة ولم يعتمدها. قلت: وتابعه سبيع بن خالد عند الحاكم 8332، وهو مقبول، واختلف في اسمه. قلت: وقد تتبعت جميع روايات حديث حذيفة بن اليمان وليس فيها من طرق الثقات وليس فيها هذه الزيادة. وهذا هو السر في عدم ذكر البخاري له في روايته، وقد رواه عنه من الثقات أبو إدريس الخولاني وقيس ابن أبي حازم وعبدالله بن الصامت وأبو الطفيل، والسفر بن نسير، وزيد بن وهب، وعبدالرحمن بن قرط وغيرهم، فهؤلاء أصحابه من الأثبات وغيرهم لم يذكروا هذه الزيادة فعُلِمَ أنها شاذة منكرة، والله أعلم.

حكم النوع الثاني من الصبر

وإن صح على جهة الفرض والتنزل، فمحمول عند أهل السنة والجماعة على ضرب الظهر في حدٍ أو قصاص، وفي أخذ المال من حق كزكاة، أو حكم للنفقة على من تجب عليه نفقته، أو إجباره قضاء دين، أو الحجر على سفيه، أو مفلس دفعا لفساده عن نفسه، وعن الحقوق المتعلقة به وعن الغرماء. ولم يأخذ به علماء الأمة المعتبرون فيما اطلعت في الاستدلال على الصبر المتلفِ على حاكم مفسد في الأرض ينتهك الأعراض والأموال، واختص بإثارته وإظهاره حُكَّامٌ مفسدون في عصرنا، ولم يحمله على إطلاقه وعمومه سوى من لا تعمق له في فقه. فإن قال به معتبر في عصرنا، فلرهبة نظامه الفاسد، أو لرغبة دنيوية، أو جهله بتنزيل الفقه على الوقائع في هذه المسألة، والثانية تسقط العدالة ويفسق بها وتبطل فتواه. فإن لم تكن إحدى هاتين فلجهله بفقه تنزيل المسألة على الواقع، وعدم تحريه فيها وتحقيقه لمناطاتها ومقاصدها، وهي زلة عالم لا تتبع. وعلى عالم معتبر تنبيه الناس على تلك الزلة محذرا ومعتذرا بالتي هي أحسن، فإن تبين الحق له وبلغته الحجة ونوظر فيها ولم يتراجع فسق وسقطت عدالته إن تَيقَّن أو غلب ظَنُّه أنه أخطأ في المسألة فعاند بفتواه نصرة للفساد والظلم. وأخطأ على الخلق مدعٍ أن هذه الرواية الشاذة المُعلَّة مذهب أهل السنة والجماعة والسلف؛ لتركه أصول الشريعة ونصوصها الصحيحة في دفع الفساد في الأرض والمنكر والبغي والعدوان باليد واللسان والقلب متمسكا بواهيات لا تدفع الأصول، ولا تُعَارَض بمثلها الثوابت والصحاح ولا تؤثر في الاستدلال. - حكم النوع الثاني من الصبر: أما النوع الثاني من الصبر: فهو صبر الأنبياء والرسل والأئمة والعلماء والمجاهدين، وهو المقصود في قوله تعالى (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3) وفي قوله تعالى على لسان موسى (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128) بعد قول فرعون (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي

فقه أحاديث الصبر على الحاكم

نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127)، وهو فرض. وكل صبر في القرآن فهو من هذا النوع، أي الصبر على البلاغ ومواجهة الظالمين والمكذبين وجهادهم باليد واللسان والقلب. والصبر في مواجهة الحاكم الجائر من هذا النوع. وهو أعظم الجهاد بالنص «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (¬1)، فإن قتل فهو سيد الشهداء بالنص الصحيح الصريح (¬2). - حكم النوع الثالث من الصبر: وأما النوع الثالث من الصبر فهو: ترك الخروج على الحاكم المصلح في الأرض ولو وجد فيه خطأ، فيُتَعامل مع نفس الخطأ لعلاجه لا مع أصل الولاية بالبطلان والمعصية؛ لأن الحكم الشرعي يُورَد على الأغلب والأعظم من المحاسن والمصالح. ويعالج الأقل من المفاسد إلا إن كان قليلَ الخطأ في الأصول الشرعية، أو الدستورية كما مر، فبحسب حكمها حينئذ. فقه أحاديث الصبر على الحاكم: وجميع أحاديث الصبر على الحاكم هي من النوع الثالث، وهي راجعة إلى: 1 - حديث «سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (¬3). و«أثرة» نكرة تدل على القلة، وكذا «أمورا». وقلة أخطاء الحكام انبنى عليها حكم الصبر على الحاكم وعدم الخروج؛ لأن الاستئثار بالحكم وقلة المناكرِ: مفاسدٌ مع قلتها يقابلها قيام الحاكم بأكبر وأكثر أصول المصالح العامة، ودفع العظائم، والمعظم الأغلب من الفساد والمفاسد. فالقيام على الحاكم بالخروج هنا: اعتداء، وظلم، وفساد في الأرض، وتفريق للجماعة، وهذا كله محرم شرعا بالنصوص المتواترة المتكاثرة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

2 - حديث «من رأى من أميره ما يكره فليصبر ولا يخلع يدا من طاعة فإن من فارق الجماعة ... » (¬1). ولفظ «ما يكره» يدل على أن الكراهة المرئية شخصية، لا ينبني عليها موقف عام؛ لأن الكراهة قد تكون نفسية لا شرعية، وإن كانت شرعية فيحتمل أن يكون مكروها له لما عنده من نظر في الأدلة أو تقليدا، ويخالفه غيره في ذلك. فإثارة المواقف العامة لأجل اجتهاد شخصي شرعي أو نفسي أو سياسي ممنوع شرعا؛ لأن مفاسده العامة أكثر من مصلحة بيانه وإظهاره. ويحرم العصيان أو مفارقة الجماعة لأجل ذلك، وللتعليل النهائي في النص بذلك «فإن من فارق الجماعة». والتعليل بـ «الفاء» و «إنَّ» من مسالك العلة القوية، وهو ما يعرف بالمناسبة، أي مناسبة العلة للحكم. فالحكم هنا: الصبرُ وعدم ترك الطاعة، والعلة أن ذلك مؤدٍ إلى مفارقة الجماعة، وهي أصل من الأصول، والإنكار لمكروه شرعي أو عادي عمله الأمير فرع، ولا يجوز أن يعود الفرع على الأصل بالإبطال. 3 - وحديث «من أنكر فقد سلم ومن كره فقد برئ ولكن من رضي وتابع» (¬2)، وهذا يدل على مباشرة الإنكار على منكر الحاكم، ويحرم الرضى به أو متابعته، والإنكار هنا يفصله حديث: باليد واللسان والقلب (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 7054 ومسلم برقم 4897، واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية. (¬2) - حديث «من أنكر فقد سلم ... » أخرجه الإمام مسلم برقم 4906 من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع». قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال «لا ما صلوا». (¬3) - أخرجه مسلم في الصحيح برقم 186 عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

4 - «سيكون عليكم أمراء يسألون حقهم ولا يعطون حقكم» (¬1). وفي هذه النصوص: ألا يفارق الحاكم ما دامت الجماعة والسواد الأعظم معه بدلالة «فإن من فارق الجماعة»؛ فإن هذه العلة تدل أن السواد الأعظم لا زال مع الحاكم، وإذا كان كذلك حرم على فئة تفريق كلمة المسلمين والخروج عليهم، ولزم الإنكار عملا بما سبق من النصوص؛ لعدم معارضتها للصبر، إذ هو هنا عدم مفارقة الجماعة والسواد الأعظم بالسيف. ودل الحديث التزاماً أن الحق الممنوع في الحديث لا يصل إلى درجة المظالم العامة الكبرى، يدل على ذلك الروايات الأخرى التي نصت أن الجماعة مع الحاكم، فدل على استتباب الأمر وإلا لخرجت عليه عند عظائم الجور والظلم عادة، والشريعة أحكامها جارية على مجاري العادات. 5 - وحديث «ألا ننازع الأمر أهله» (¬2) فيه: حرمة منازعة من هو أهل للولاية. وأهليتها: مسلم، عاقل، بالغ، عدل، قوي، أمين، مصلح في الأرض. ومفهومه يدل على منازعة من ليس أهلاً للولاية؛ فالاستدلال به على الصبر للحاكم المفسد في الأرض خطأ محض. فتبين من أحاديث الصبر على الحاكم بترك الخروج المسلح واستمرار السمع والطاعة أنه في حالات غلبة إصلاحه في الأرض، وقلة زلاته؛ لأن النصوص الموجبة للخلع بالقوة دلت على أفعال معينة تنقض الأصول، أو تكثر لتكون فسادا في الأرض، ولا بد حينئذ أن يكون الغالب عدم إقامة المصالح العامة ودرء المفاسد العامة. وقولنا «أفعال معينة»، أي: ما ذكر في النص، وهي: استئثار سياسي (¬3)، أو منكرات شرعية، ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4888 من حديث سلمة بن يزيد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله: فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس وقال «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم». (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - لحديث «سترون بعدي أثرة».

وإذا وجدت العلة في الفرع

أو شخصية عملها الحاكم أو النظام (¬1) لم تبلغ حد الهدم لأصول الدين وكلياته الكبرى (¬2)، ولا تبلغ أن تكون هدما للعقد الدستوري المبرم عليه البيعة (¬3)، ولم تبلغ حد الكثرة التي تكون فسادا في الأرض (¬4). ومعلوم أن الاستدلال بالنصوص يلزم فيه: ألا يعطى الفرعُ حكمَ الأصل المنصوص عليه إلا بتحقق العلة في الفرع؛ فإذا وجد نوع استئثار بالسلطة من الحاكم مع غلبة إصلاحه في الأرض، فيعطى هنا حكم الصبر مِنْ نصّ، ومن نص آخر ينكر عليه بالتي هي أحسن؛ لعدم تعارض الصبر والإنكار، إذ الصبر هو ترك الخروج المسلح والسمع والطاعة بالمعروف. أما إن وجدت العلة وهي «الأثرة» ووجد معها مظالم وسفك للدماء وفساد في الأرض، من إهلاك التعليم، والتنمية، والزراعة، والموارد، وإفقار الشعب، وارتهان سيادة الدولة؛ فيحرم حينئذ أن يعطى نفس الحكم الذي يعطى لتصرف واحد، وهو الصبر عند وجود الأثرة وبعض المنكرات. ولا يعطي هذا الحكم على إطلاقه إلا من لم يبلغ درجة النظر في فقه النصوص، أو بلغها ولم يمحص المسألة ويعطها حقها من النظر، أو فعل ذلك فغلبته رغبة دنيا أو رهبة سلطان وهو على كل حال ظالم لنفسه. وإذا وجدت العلة في الفرع: فإن كانت ذات العلة نحو «الاستئثار بالحكم» فهذا ما يسمى عين العلة (¬5)، وهو أعلى مراتب التعليل؛ فإن لم توجد ذات العلة بل وجد أمرٌ أعم منها نحو: وجود منكرات بقلة، فهذا يشمل الاستئثار، وبعض المخالفات والأخطاء السياسية، والتجاوزات التي لا تخرجه عن دائرة ¬

(¬1) - لحديث «من رأى من أميره ما يكره». (¬2) - لحديث «لا، ما صلوا»، وحديث «السمع والطاعة ما أقام فيكم كتاب الله». (¬3) - لقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، فمن أبطل شرطا من أصول العقد أبطله؛ لأنه يناقض المقصود منه. (¬4) - لقوله تعالى (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152). (¬5) - وقد تكون هذه جنس علة؛ لأن الاستئثار متعدد ومتنوع.

القبول به مع معالجة ذلك الأمر فيه. فالأمر الجامع لهذه الأمور هو «مناكر بقلة»، فهذا يصلح علة لكنه يسمى جنس علة، ففي حال قلة منكر يحكم بالصبر، بمعنى عدم الخروج. وعليه فالناظر في حال الحكام لتنزيل الأحكام الشرعية عليهم، فلا بد له أن يستعمل ما في النص من العلل بعينها مع عدم وجود غيرها في الحاكم. وينزل عين تلك العلة على عين ذلك الحاكم، ويعطيه عين الحكم. وهنا سيجد أن من العلل المنصوصة «يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون» (¬1). فهذه في الجملة عين علة، وحكمها منصوص «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» رواه أحمد وابن حبان والبزار وهو في مسلم بلفظ «ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون». وكذلك علة إهلاك الشعب في النص «هلاك أمتي على يد أغيلمة من قريش»، جنس علة تشمل أنواع الإهلاك، والفساد، وتدل على غلبته (¬2). وحكمها في النص «لو أن الناس اعتزلوهم» (¬3). فإذا وجد الناظر نفس العلة نزل على الحاكم أو النظام نفس الحكم، ولا يصح إعطاؤها حكم الصبر؛ لأن علته غير هذه، وهي عيناً كالاستئثار، أو جنسا نحو منكرات نادرة أو غير غالبة على المصالح. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - لأنه لا يبلغ درجة الهلاك العام إلا بغلبة كثيرة، والحديث تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

فقه المؤسسة العسكرية

فقه المؤسسة العسكرية * إنشاء القوات المسلحة التي تحدث توازنا أمنيا دوليا فرض شرعي على الدولة * امتلاك العالم جميعا السلاح النووي فساد في الأرض، وامتلاك البعض ومنع البعض أكبر منه فسادا؛ لأنه يكرس سياسة العلو الفرعونية في الأرض * تدوير المناصب العسكرية أمرٌ مطلوب يحقق العدالة ويمنع الاستئثار الاستبدادي * العدل في الترقيات والرتب والأوسمة والنياشين والدراسات والإجازات والبدلات والعطاءات والحقوق أمرٌ مطلوبٌ شرعا * واجبٌ إيفاء حقوق الجنود وكل منتسبي القوات المسلحة والأمن، بلا بخس، أو مماطلة، أو غبن * إكرام أسر الشهداء والجرحى وتعويضهم التعويض العادل وإيصال حقوقهم وإيفاؤهم الرواتب بلا خصم، كل ذلك من العدل والإحسان * المؤسسة الأمنية والعسكرية ملك الشعب لحماية أمنه واستقراره ولا يحق الاستحواذ عليها من جهة فئوية أو حزبية أو شخصية أو مناطقية أو عرقية أو نسبية أو أي مسمى آخر تحت أي مبرر أو لافتة .. * يجب الاهتمام بسلاح البر والجو والبحر وبعيد المدى والتسلح الاستراتيجي صناعة وتدريبا

فقه المؤسسة العسكرية والأمنية وإنشاء المؤسسة العسكرية والأمنية فرض عام (¬1)، وهو فرض عين على الدولة الممثلة برأس النظام؛ فإن قصّر وجب على الحكومة، والأجهزة النيابية، والمعنية، وكل قادر إلزامه بذلك، ولو بضغط شعبي عام. ودليل فرضية إنشائها قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60). فالتقصير في الإعداد مخالفة للنص، ومعصية لقاطع من قواطع الشريعة. وكل ما تعلق لزوما ببناء القوات المسلحة فهو واجب، وهو من القوة المطلوبة كإنشاء الكليات العسكرية، والجامعات، والمعاهد، والمدارس العسكرية وغيره. والواجب ينزل على مقتضيات الوقائع، وهو الآن وجوب الأخذ بكل وسائل العصر وتقنياته. وولاة الأمر آثمون إن قصروا في هذا الإعداد الاستراتيجي المواكب لقوى العصر؛ لمعصية الأمر الشرعي في إعداد القوة وما يترتب عليه من ضعف سيادي وسياسي واقتصادي وحقوقي، وكل هذا من المفاسد العظيمة التي نتج عنها كبيرات الفواقر بالبلاد والعباد. وفرضٌ إيجاد تصنيع عسكري شامل برا وبحرا وجوا بتقنيات العصر؛ لأنه لا يتم إعداد القوة المقصودة شرعا إلا به. وقلنا: «المقصودة شرعا» ليخرج إعداد قوة بنحو استيرادٍ، فإنه غير معتبر في قوى العصر، فلا يعتبر المقصودَ شرعا؛ لأن شرط الإعداد هو الاستطاعة، ولم يعمل بها مع إمكانها هنا، ولعدم تحقيقه لمقصد الشريعة من الإعداد المنصوص (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). ومعناه قوة ردع تزيد أو تكافئ قوة موجودة في عصرها تحقق منع الاعتداء، لا قوة معتدية على مسالم لقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ¬

(¬1) - تقدم ما يخص المؤسسة الأمنية سابقا في ضمن «فقه الدولة» ونتكلم هنا عن القوات المسلحة وشيء من أحكام الأمن.

كشف مواقع التصنيع العسكري وأسراره

وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). ويدخل في الوجوب إنشاء معاهد الأبحاث، اختراعا، وتطويرا، وتصنيعا. فالأول: للسبق. والثاني: للمواكبة المستمرة. والثالث: للتغذية المسلحة إلى حد الكفاية التامة، ولا يحصل التمام إلا بوجود احتياطي مريح لطارئ، فإن توقع حصول هذا الطارئ تأكد الوجوب. كشف مواقع التصنيع العسكري وأسراره: ويحرم كشف مواقع التصنيع وأسراره، ومواقع المعسكرات، والاستراتيجيات العسكرية كخطط التدريب والعمل والتحرك. وأعظم حرمة منه السماح لفرق التفتيش الدولية عن الأسلحة الاستراتيجية بالدخول والكشف؛ فإنه من أعظم الطاعة للكافرين والموالاة والتمكين لهم والاستكانة والضعف لأهل الإسلام. والمراسلة لعدو المسلمين عن شأنهم وأسرارهم ولايةٌ محرمة بالنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، وهذه الآية نزلت بسبب مراسلة تكشف أحد التحركات (¬1)، فالتمكين لهم بالتفتيش أعظم تحريما وجرما. وهذا ما يسمى في علم الأصول بالقياس الأولوي، أو الأولى أو في معنى الأصل. ¬

(¬1) - قولنا «بسبب مراسلة تكشف أحد التحركات» أخرجه البخاري برقم 3007 ومسلم برقم 6557 واللفظ للبخاري من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا قال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت كفرا، ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صدقكم قال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق قال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

المعاهدات الدولية لمنع التسلح

المعاهدات الدولية لمنع التسلح: والمعاهدات الدولية لمنع أسلحة الدمار الشامل إن كانت شاملة لسائر الدول في العالم بلا استثناء لدول كبرى أو صغرى، فلا مانع من ذلك؛ لأنه تعاون على دفع المفاسد الكبرى عن الإنسان والحياة الناتجة من التسلح بأسلحة الدمار الشامل. ويحرم الدخول في معاهدات تحضر التسلح الاستراتيجي على المسلمين خاصة، ولو أدخل غيرهم من الضعفاء معهم فيها تحيلاً أو تحليلا أو استضعافا؛ لأنه معصية قطعية؛ لخلافها لقطعي وهو: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60). ولأنه تقوية للكفر وإضعاف للإسلام فحرم؛ لأن كل وسيلة أدت إلى تقوية أهل الكفر وإضعاف أهل الإسلام من المحرمات المعلومة بالدين ضرورة لكثرة نصوصها. وكل من وقّع تلك المعاهدات أو أمر بها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فإن كان متواطئا فهو فاسق وموالٍ لمن نهى الله عن موالاتهم وطائعا لمن نهى الله عن طاعتهم (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73)، ولقوله (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51). وهذه المعاهدة باطلة لا تلزم الشعوب لا حالا ولا مآلا، ويحاسب من فعل ذلك ولو رأس الدولة، ويحال إلى القضاء وجوبا؛ لأنه من نصرة الله ورسوله والمؤمنين، والنهي عن المنكر ودفع المفاسد. ويحرم السكوت على ذلك من قادر على البيان كعالم، أو محام، أو ذي شوكة، أو إعلامي، أو فرد عادي. ويتأكد وجوب البيان على الأحزاب والتكتلات والنقابات؛ لأن قيامهم بذلك أدفع وأوقع. فإن كان توقيع الاتفاقيات إكراها للاستضعاف العام اجتمع مع الحاكم أهل الحل والعقد من العلماء وقيادات الشعب وتشاوروا في الأمر وتقديره لقوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ

المؤسسة العسكرية ملك الشعب

وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). وعند التوقيع إكراها ملجئا فإنه لا يلزم؛ لأن تصرفات المكره غير نافذة. المؤسسة العسكرية ملك الشعب: والمؤسسة العسكرية ملك للشعب، فلا يصح شرعا خصخصتها باستحواذ أسري، أو قبلي، أو حزبي، أو مناطقي. بل الواجب وضع الأكْفاء في مواضعهم، وإعطاء كل ذي حق حقه، بنظر عام عادل؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان. ولأن السيطرة العسكرية لفئة يترتب عليها استعمال القوة العسكرية لنصرة عصبية أو فئة، وهذه جاهلية منهي عنها (¬1)، وتعطيل المؤسسة العسكرية عن واجبها العام المنوط بها، وهذه المفاسد واجبةُ الدفعِ، فحرم كل أنواع التمكين الفئوي على القوات العسكرية المسلحة. التعيين بالكفاءة: والقيادات الكبرى والوسطى في الجيش والمواقع الهامة يجب فيها التعيين بالكفاءات بآكدية وجوبية، لما يحقق ذلك من المصالح الكبرى للبلاد ويدفع المفاسد. والواجب إيجاد آلية تحقق هذه المصالح بشروط معتبرة في مثلها، من دورات، ودراسات، ومؤهلات. وقلنا «في مثلها» حتى لا تشترط شروط طاردة لبعض الفئات أو مُفَصَّلة على بعض. تدوير المناصب في المؤسسة العسكرية: والقيادة العليا وما يليها من المناصب في القوات المسلحة والأمن، يستسحن أن يشترط فيها التدوير للمناصب دفعا لمفاسد الأثرة، وتعيين من ليس بأهل. فإذا قنن التدوير وجب؛ لأنه شرط مباح فيعتبر، والشروط المعتبرة يجب الإيفاء بها في العقود ونحوها؛ لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولا مانع أن يوضع لكل مستوى من المناصب القيادية فترة محددة بالسنوات أو فترتين إذا اقتضت المصلحة ذلك. ¬

(¬1) - تقدمت الأحاديث في ذلك.

الإلزام بإقامة الصلوات والشعائر في المعسكرات والمواقع

وهذا الضبط هو ما يجب في زمننا لكثرة فساد النفوس والذمم وحب السلطة، وما نتج عنه من مفاسد أثرت في السير الصحيح للبلاد، وعرقلت كثيرا من المصالح الكبرى، لذا أفتيت في زمننا: بوجوب التدوير العادل الكفء لما ينبني عليه من دفع مفاسد غالبة مؤثرة في الفتوى الشرعية بذلك. الإلزام بإقامة الصلوات والشعائر في المعسكرات والمواقع: وفرض على القيادة الإلزام بالصلوات في أوقاتها، والعقوبة المناسبة للمتهاون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم أفراد الجيش المسائل الهامة في الشريعة من عقيدة صحيحة نابعة من الكتاب والسنة، وإلزامهم بفرائض الدين الكبرى عملا وتعلما؛ لأن الله أمر به بالنص (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج: 41). ويلزم شرعا بناء المساجد في المعسكرات لإقامة الصلوات في جماعة، ورفع الأذان لورود النص في استحواذ الشيطان على من لا تقام ولا يؤذن فيهم للصلاة (¬1). ولقوله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) (النور: 36 - 37)، وهذا الإذن أمر وتكليف (¬2)، لا إذن يدل على مجرد الإباحة المستوية الطرفين فعلا وتركا. وقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 114)، وهذا نص في تحريم منع المساجد. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 547 عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية». قال زائدة قال السائب يعنى بالجماعة الصلاة في الجماعة. قال أبو زكريا: هذا سند حسن. (¬2) - كقوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 39 - 40).

الزي العسكري والهندام

وقوله تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18). والرد على الشبهات، خاصة: ما تعلق بالدين واجبٌ لقوله تعالى (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان: 33). ولا يُرَد على شبهة إلا إذا فشت وانتشرت وإلا سُكِت عنها، وإنما قلنا «إذا فشت» دفعا لمفسدة إشهارها بلا داعٍ. الزي العسكري والهندام: والزي العسكري مأمور به أمر دولة، فلزم طاعته؛ لأنه في مباح عام مطلق (¬1) يترتب عليه مصلحة تخدم الضبط والنظام، وهذه مصلحة يعتبرها الشرع؛ لأنها من معاني القوة بالعرف الدولي الآن، ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). ويشرع للجندي نظافته، وحسن ترتيبه، وهندامه اللائق، وسائر مظاهر الحزم والاهتمام بالسيادة والسياسة العسكرية، وما يوضع من الأسس التي تخدم مظاهر الضبط في مختلف الأحوال، وهذا يعم كافة المظهر العسكري لبسا ولياقة. ويضع الشارات والأوسمة والرتب إن كانت؛ فالاهتمام بهذه الأمور وكل ما يتعلق بالجندية نظافة وترتيبا من المحاسن التي توافق مقاصد الشريعة التحسينية، ويشمل هذا: الحفاظ على الطهارة بدنا وملبسا ومكانا؛ فإنه شطر الإيمان بنص الحديث (¬2). وقد ورد التحذير من عدم الاستنزاه من النجاسات في حديث ابن عباس وأنه من سبب ¬

(¬1) - قولنا «في مباح عام مطلق» احترزنا بقيد «عام مطلق» عن المباح المنصوص المقيد نحوُ إباحة نكاح أربع، فلا يحل لحاكم سن قانون ينقضه؛ لأنه تشريع خاص منصوص، أما إن كان مباحا على الأصل العام بلا دليل خاص فيجوز للحاكم الأمر به نحو الزي العسكري. (¬2) - أخرج مسلم برقم 556 عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها».

الخدمات العسكرية والدوريات

عذاب القبر (¬1). الخدمات العسكرية والدوريات: والخدمات العسكرية والدوريات داخلة تحت لزوم طاعة ولي الأمر في قوله تعالى (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وشرط ذلك أن تكون وفقا للسياسة العامة الخادمة للمصالح العامة للبلاد، لا للاستغلال لغرض شخصي لفرد أو أسرة أو حزب، إن لم يكن مقننا له الاستفادة من ذلك ولا يتجاوز ما قنن له. ومن أحسن النية في ذلك فهو مرابط في سبيل الله مدة مقامه في المعسكر والمواقع، وداخلٌ في الحراسة والرباط في سبيل الله المنصوص عليه (¬2)؛ لأن هذا قصد حماية بلاد الإسلام من مباغتة عدو من غيرهم، أو دفع ضرر واقع أو متوقع ولو نادرا (¬3). ولأن هذه الدوريات والحراسات لتأمين ثغور بلاد الإسلام، فدخلت في عموم النصوص في فضل الرباط والسهر والحراسة في سبيل الله، فمن أخلص من القوات المسلحة والأمن نيته نال فضلا عظيما «وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬4). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 216، ومسلم برقم 703، واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا قال لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا، أو إلى أن ييبسا. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5047 من حديث سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان». (¬3) - النادر هنا لا يأخذ الحكم المعروف «النادر لا حكم له»؛ لأن النادر هنا نادر عام في إلحاق الضرر، وإذا حدثت الحوادث النادرة العامة فشت بالتسامع وتشجع أهل الإجرام فقاموا بتنفيذ مثلها بسبب الخلل الأمني، فيعم الفساد لذلك. فالنادر لا حكم له في الأصل إلا في مثل هذه المسألة، وهو النادر الذي يعم ضرره ويمكن تسميته بالنادر العام، ولم أطلع على كلام للعلماء فيه، لكن هذا ما نراه من القول فيه. (¬4) - أخرجه البخاري برقم 1، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».

العدل في الترقيات والحقوق

ولا بد أن يعدل في توزيع الدوريات والحراسة ومدة الاستلام؛ لأن الله أمر بالعدل والإحسان. العدل في الترقيات والحقوق: ويجب العدل في الترقيات، والحقوق، والدورات، والعلاوات، والبعثات، والدراسة، والإجازات، وكل العطاءات النظامية أو الطارئة، فلا يعطى لبعض دون بعض؛ لأن الله نهى عن الظلم، وهذا منه؛ ولأن هؤلاء من الرعية، والعدل فيهم بالسوية واجب بنصوص كثيرة. والمساواة تكون بين أصحاب كل فئة، لا بين كل الفئات مع الفئات الأخرى؛ لأن لكل فئة حكم، فينظر إلى الأقدم، والمناضل، والمجاهد، ومن له مواقف بطولية، والمؤهل، فكلٌّ في فئةٍ يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات. وقد فضل عمر في الرواتب المهاجرين الأولين على من تأخر، وهو اجتهاد حسن (¬1)، وسنته مأمور باتباعها (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «وهو اجتهاد حسن» أخرجه أحمد برقم 15946 عن ناشرة بن سمي اليزني قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في يوم الجابية وهو يخطب الناس: إن الله عزوجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسمه له ثم قال بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم ففرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا فعدل بينهن عمر ثم قال إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلما وعدوانا ثم أشرفهم ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف ولمن كان شهد بدرا من الأنصار أربعه آلاف ولمن شهد أحدا ثلاثة آلاف قال ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسانة فنزعته وأمرت أبا عبيدة بن الجراح فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وغمدت سيفا سله رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعت لواء نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم فقال عمر بن الخطاب إنك قريب القرابة حديث السن معصب من ابن عمك. قلت: سنده صحيح رجاله كلهم ثقات .. (¬2) - قولنا «وسنته مأمور باتباعها» الحديث في ذلك أخرجه أحمد بأسانيد حسنه صحيحة برقم 17182، وبرقم 17184، وبرقم 17185، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود برقم 4609، وأخرجه الترمذي برقم 2676 وقال حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجة برقمي 42 و 43، عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

تعيين القيادات العسكرية لا يجوز بالقرابة، بل بالكفاءة

تعيين القيادات العسكرية لا يجوز بالقرابة، بل بالكفاءة: ولا يجوز تعيين القادة للألوية، والكتائب، والسرايا، والفصائل؛ إلا بشرط الكفاءة والتأهل، لا لقرابة، أو جمالة، فإن هذه من الأمانات، وإن الله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وتوسيد الأمر لغير أهله خيانة لها «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قالوا: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (¬1). ويشرع تدوير هذه المناصب؛ لأنه مقتضى العدل الآن، وتقنين مدة القيادة في الكل، أو البعض بما يحقق العدل والمصلحة العامة ويدفع مفسدة السيطرة من جهة على مقاليد القيادة المسلحة والأمن، فإن غلب وجود هذه المفسدة وجب -حينئذ- نقل المناصب وتنظيمها. الجزاءات العسكرية: والجزاءات على التفريط والمخالفة العسكرية لا مانع منها بشرط العدل وعدم الإجحاف؛ لأن هذه الجزاءات إذا كانت عادلة وتحقق مصلحة الضبط مشمولة بمشروعية طاعة أولي الأمر بالعموم (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وتحرم الجزاءات إن كانت لأغراض شخصية، فإنها مولدة للعداوة والبغضاء، وهما محرمان بالنص، ويحرم ما أدى إليها. والتحريم لدفع مفسدة العداوة والبغضاء معتبر في النصوص (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة: 91). ويمنع توجيه ألفاظ قبيحة، لأي فرد كان في الطابور أو في الجزاء، أو التعليم أو غيرها؛ لعموم ¬

(¬1) - أخرجه البخاري وقد تقدم تخريجه.

الخروج من المعسكر وقت الحجز

النصوص «ليس المسلم بسباب ولا طعان ولا لعان ولا بذيء» (¬1). الخروج من المعسكر وقت الحجز: والخروج من المعسكر في وقت الحجز والمنع بلا إذن ممنوع، ويأثم من خالف وقد قال تعالى (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 62)، وفي الحديث «من أطاع أميري فقد أطاعني» (¬2). وهذا من الطاعة في أمر مباح فيه مصلحة عامة فوجبت الطاعة. تسليم الرواتب في وقتها المحدد وحرمة الاستقطاعات بلا حق: ويجب تسليم الرواتب في وقتها المحدد بلا تأخير؛ لأن التأخير ضرر بالغير وهو مدفوع؛ ولأنه أجير في الأصل فوجب إعطاؤه أجره فورا، كما في النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (¬3). وتحرم الاستقطاعات من الرواتب بلا وجه حق ولو أمرا يسيرا؛ لأنه سحت لقوله تعالى (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188). ولا يجوز ذلك لكُتّاب الرواتب ولا القادة ولا غيرهم، ومن عاون على ذلك فهو معاون على الإثم والعدوان آكل للسحت والمكس (¬4)، فإن كان لأمر قانوني كغياب فلا مانع؛ لأنه له حكم ¬

(¬1) - قولنا «لعموم النصوص» قلت: منها ما أخرجه البخاري برقم 6401 ومسلم 5787 من حديث عائشة «إن الله لا يحب الفحش والتفحش». وأخرج أحمد برقم 3839 من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بطعان ولا بلعان ولا الفاحش البذيء» وقال ابن سابق مرة بالطعان ولا باللعان. وسنده عند أحمد على شرط الشيخين. وأخرجه الطبراني برقم 13006 (مجمع) عن ابن عمر «ليس المؤمن بطعان ولا لعان». قال في المجمع: رجاله رجال الصحيح إلا كثير بن زيد وقد وثقه جماعة وفيه لين. (¬2) - أخرجه أحمد بسند على شرط الشيخين برقم 7330 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله عزوجل». (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - قولنا «آكل للسحت والمكس» ورد في المكس أحاديث منها ما أخرجه أبو داود برقم 2939 من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة صاحب مكس». قلت: وسند أبي داود حسن. والمكس هو أخذ أموال الناس ظلما، وقد جاء في صحيح مسلم برقم 4528 في حديث المرأة الزانية «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له»، وهذا يدل على أن المكس من أكبر الكبائر.

وجوب إيصال حقوق الجيش كاملة

عقد الإجارة، وإذا قصر الأجير تقصيرا مؤثرا خصم من أجره بقدر، لا ضرر ولا ضرار. وجوب إيصال حقوق الجيش كاملة: وحقوق الجيش من المواد الغذائية، والعينية، وسائر الصرفيات من فرش، وتوابعها، وألبسة وما يتعلق بها من أسلحة وذخائر، كل هذه ونحوها مما يصرف للأفراد يجب إيصاله كاملا تامّا إلى كل فرد بلا نقصان، ومن أنقص شيئا من ذلك فهو غال، والغلول من الكبائر، ويبطل أجر الشهادة، كما ورد في حديث الذي غل شملة وهو يجاهد مع رسول الله فعذب بها (¬1). حرمة التغطية على الفرار: ولا يجوز التغطية على الفرار والغياب، بغرض أكل رواتبه، أو الاتفاق معه على شيء، وهو من أكل السحت، وتعاون على الإثم والعدوان والمنكر. ويجوز في الغيابات غير القانونية خصم مقابل الغياب وتوريدها إلى محلها الرسمي في المال العام. كتمان الأسرار العسكرية: والأسرار العسكرية صغيرة أو كبيرة، يجب حفظها، ولا يجوز إفشاؤها تصريحا أو تلميحا، حتى كلمة السر. وكلمة السر مشروعة، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة في بعض غزواته «حم لا ينصرون» (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 323 عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة». وأخرجه البخاري برقم 3074 عن عبدالله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو في النار» فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها. (¬2) - قولنا «في بعض غزواته» من ذلك ما أخرجه أبو داود برقم 2599 عن المهلب بن أبي صفرة قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن بُيِّتُّمْ فليكن شعاركم حم لا ينصرون». قلت: سند أبي داود صحيح، وله شاهد عند أحمد من حديث البراء برقم 18183، وهو شاهد حسن. وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم 2512. قال الذهبي على شرط البخاري ومسلم. ومن حديث سلمة بن الأكوع وأخرج له شاهدا على شرط البخاري ومسلم كما قال هو والذهبي إنهم غزوا مع أبي بكر فكان شعارهم «أمت أمت».

العهد العسكرية

ومن أفشى أمرا من ذلك أثِمَ؛ فإن ترتب عليه ضرر في نفس أو عضو أو مال زاد جرمه وإثمه، ويمكن تعزيره وعقوبته عبر الجهات القضائية بما يناسب بالعدل. العهد العسكرية: والعُهَدُ الداخلية أو الخارجية كالأطقم العسكرية أو السلاح لا يُمَلّك في الأصل بل ينتفع به بحسب الإذن، ويجب الحفاظ عليه كالحفاظ على خاصيته المملوكة؛ لأنه أمانة وإهمالها من الخيانة، ومن فرط في شيء منه ضمن، ومن ادعى التلف بلا تفريط بَيَّنَ، وإلا ضمن. والعهد العسكرية أماناتٌ لا يجوز بيعها، أو اختلاسها، أو شيء منها، ولو يسيرا؛ لأنه غلول (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161)، وفي الحديث «من كتمنا مخيطا فهو غلول يأتي به يوم القيامة» (¬1). وسواء في ذلك السلاح والذخائر والفرش والبطانيات والملابس العسكرية والمواد العينية، كمواد غذائية، أو قرطاسية أو غير ذلك. ولا يجوز تبديل قطعة شخصية رديئة كسلاح شخصي لجندي أو ضابط اشتراه بماله بأخرى جيدة من المخازن؛ لأنها خيانة وغلول، وقد قال الله (وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) (النساء: 2). المساواة في الحقوق والواجبات العسكرية: ويجب المساواة بين النظراء المتساويين في المهام في: صرف الاعتمادات النقدية أو العينية، غذائية أو بترولية أو غيرها؛ لأن التصرف على الرعية قائم على العدل المأمور به في النصوص. والالتحاق بالكليات العسكرية والمدارس، والمعاهد العسكرية، يكون بالتساوي بين من وجدت فيه الشروط، ويحرم تقديم غير مؤهل، بتوصية أو أمر من جهة عليا، أو رشوة فهذا كله إثم وبغي داخل في قوله تعالى (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) (النساء: 85). كما يحرم تقديم أشخاص بمناطقية، أو حزبية، أو أسرية، أو مجاملة، ولو مؤهلا؛ لأن هذا ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المحاكم العسكرية

يمنع العدل بين الرعية، ويؤدي إلى انحصار التعليم العسكري لمناطق وأسر، ومنع مؤهل من غيرها، وهذا ما لا تجيزه الشريعة؛ لأنه هضم وظلم، ومؤد إلى العداوة والبغضاء. وقد كان فرعون يستضعف طائفة ويقوي أخرى، فلعنه الله ومقته لأفعاله المنكرة التي هذه من أكبرها. وتَفَرَّد ذكرُها في آية القصص، مع دعواه الألوهية وطغيانه، لقبحها. وما ورد مورد الذم فهو محرم في الأصل، ولأن الله إنما ذكر أكبر ما يصنعه من المنكرات؛ لأن غيرها لا حصر لها فدل على عظيم فعل ذلك بين الأمة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4). المحاكم العسكرية: والمحاكم العسكرية يجب أن تكون قائمة على حكم الشريعة بالعدل والقسط وحق الدفاع عن المتهم، واتخاذ محام، وسائر الإجراءات والحقوق. ويحرم سجن فرد بدون تحقيق وحكم قضائي إلا مدة يسيرة يحددها القانون العادل كيوم. والحبس للأفراد من القيادات في القضايا العادية والخفيفة بدون تحقيق ممنوع شرعا؛ لأنه ظلم؛ لحرمانه من الدفع عن نفسه والإجابة عن ما ادعي عليه. بل يجب سماع الدعاوى والتحقيق في الأمر واتخاذ الإجراء المناسب. فإن كان في قضايا التهم الجسيمة ونحوها، فيحول فورا للتحقيق، ومن ثم إلى القضاء، هذا هو ما يدفع المفاسد التي تترتب على الإجراءات الانفرادية من بعض القيادات، أقلها الظلم. رعاية الجرحى وأسر الشهداء: ويجب رعاية أسر الشهداء والجرحى، وإعطاؤهم حقوقهم تامة، وصرف رواتبهم بدون استقطاعات؛ لأن من عظمت مصيبته في أداء الواجب يعظم إكرامه ولا ينقص. هذا هو الأصل الشرعي (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). فمن لم يجاز الإحسان بالإحسان فهو مسيء ظالم.

والجرحى يداوون على حساب الدولة؛ لأن جرحهم كان لدفع المفاسد العامة، فيكون تعويضهم من مال العامة؛ ولأنه تعاون على البر والتقوى، وهو مأمور به (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)؛ ولأنه لو لم يصنع ذلك بهم لأدى إلى الامتناع عن الخدمة العسكرية؛ أو قلة الإخلاص، لغلبة وقوع مثل هذا من جريح وشهيد مع عجز راتبه عن ذلك، وهذه مفسدة ودفعها واجب، ووسيلة دفعها تعويضه من بيت المال العام. ولأن العاجز عن مداواة نفسه من ماله عسكريا أو مدنيا يجب مداواته على مسلم قادر، لا إهماله حتى تتلف نفسه أو عضو منه بإعاقة ونحوها، وهذا الوجوب بحسب الترتيب بدءا بالقربى، ونحوه على العموم. وهذا من الحق في قوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: 26)، ومن الحق العام لقوله تعالى (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) (النساء: 36). ولأن الغالب عدم إيفاء رواتب الجيش بذلك. ولأنه أولى من الصاحب بالجنب والجار، فشمله الحق، ومن أهمه العلاج للجرحى ورعاية أسر الشهداء. ويحرم تفضيل جريح على آخر مثله في الجرح، قائدا أو غيره، بل الكل سواء؛ لأن النفس البشرية واحدة في الحرمة. فلا يجوز إسعاف أناس إلى خارج الدولة أو إلى أماكن عالية التقنية وأمثالهم في الجرح والضرر لا يفعل بهم ذلك؛ لأنه خلاف العدل. وفي حال استدعى الأمر ذلك لعدم توفر إمكانات وخطر الجرح، فالكل في ذلك سواء في العناية، سواء كان بالعناية داخل الدولة أو بالسفر إلى خارجها. ولا يفضل القادة أو البعض في غرف صحية راقية لمعرفة، أو مجاملة، أو مناطقية، وأمثالهم في الجرح والضرر من الأفراد أو غيرهم في الغرف العامة، فهذا كله جور وحيف وظلم، إلا لوضع أمني لبعض القادة أو المستهدفين قادة أو أفرادا.

قوات الأمن والشرطة

قوات الأمن والشرطة: وقوات الأمن بأنواعه والشرطة وأجهزة المخابرات الواجب عليها شرعا القيام بخدمة الشعب، وحفظ أمنه واستقراره؛ لأن هذا هو مقتضى العقد معهم، وكل ذلك بالوسائل المشروعة. ويجب معاملة الناس بالرحمة والعدل والمساواة، ويحرم قطعا ممارسة القمع والإرهاب للمظاهرات السلمية؛ لأنه حق متفق عليه في العقد الدستوري؛ ولأن المسالم يدفع بالسلم لا بالسلاح؛ لحرمة إخافة المسلم (¬1)، فضلا عن العدوان عليه. الشرطة والأمن واستعمال السلاح وإرهاب المواطن: ولا يجوز توجيه السلاح والتهديد به لورود النصوص الدالة على حرمة الإشارة بالسلاح (¬2) إلا دفعا لمفسدة القتل أو الإصابة من صائل أو عدو رفع آلة قتل لاستخدامها، ولذلك منع من المرور بالسهام في السوق وأماكن الجمع لئلا يَعقِر بها أحدا أو يؤذي (¬3). وتوجيه الرصاص الحي لمسالم غير ممتنع بسلاح شروع في قتل، فإن قتل فهو عمد وعدوان، وسواء عند الخروج بأمر النيابة، أو الأمن، أو غيره، لطلب شخص من محله، أو أثناء المظاهرات. والضرب بالهراوات، أو الكهربائيات لمسالم غير ممتنع بسلاح محرم؛ لأنه عدوان (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، وإيذاء (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، ويضمن أي إتلاف في نفس أو عضو. ¬

(¬1) - قولنا «لحرمة إخافة المسلم» لأنه خلاف المقصود الشرعي في قوله تعالى (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55). (¬2) - قولنا «لورود النصوص .. » من ذلك ما أخرجه مسلم برقم 6832 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه». والرواية المتفق عليها في البخاري برقم 7072 ومسلم برقم 6834، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار». (¬3) - تقدم في ذلك أحاديث وتخريجها.

ويحرم في التحقيق

وتحرم الإهانة والسب والشتم؛ لعموم النصوص الدالة على التحريم. ويتعامل مع الممتنع المسالم بالأخذ إجبارا بطلب نيابي كما يحدده القانون المنبثق عن الشرع. وكل ذلك بلا إهانة فعلية أو لفظية، فإن كان بلا قانون أو نظام فهو اختطاف قد يأخذ في بعض حالاته حكم الحرابة. ما يحرم في التحقيق مع المتهم: ويحرم في التحقيق: إرهابه، وتخويفه بتعذيب، أو ممارسة ذلك فعلا بصعق، أو حرق، أو ضرب، أو كسر عظم، أو الاعتداء على عرضه، أو تسليط وحش، أو كلب، أو حية، أو عقارب، أو إدخاله في ماء للتعذيب، أو بتبريده، أو تسخينه، أو التهديد بالاعتداء على أقاربه، أو ماله، أو نسائه، أو أطفاله. كل هذا من الأمور المحرمة. ومن ارتكب شيئا من ذلك فهو مجرم تجب محاكمته وعقابه بما يردعه وأمثاله، ويضمن أي إتلاف، وقد يأخذ حد الفساد في الأرض في حالات راجعة لنظر القضاء. السجون السياسية: والسجون السياسية الأصل تحريمها شرعا؛ لأن المعارضة السياسية المدنية السلمية مشروعة على أصل الإباحة بكافة صورها السلمية، ومنع ذلك منع لقول الحق، وصد عنه، والوقوف أمام ظالم ومفسد. والسياسي أو المعارض إن ادعى على آخر ما لا يصح، أو اتهمه في صحافة، أو وسائل إعلام، أو على الملأ؛ جاز للمدعى عليه مقاضاته، ولو حزبا، أو سلطة حاكمة بدعوى وإجابة بنظر قضائي عادل. ويحرم خطفه، أو سجنه بلا قضاء، ولا دعوى؛ لأنه ظلم. حرمة التنصت والتجسس على الشعب: والتجسس على الشعب محرم بالنص العام (وَلا تَجَسَّسُوا) وهو عام.

النقاط الأمنية العسكرية

فيحرم التصنت على المكالمات الهاتفية، أو المحادثات عبر الإنترنت، أو تتبع العورات تحت أي مبرر، إلا على عدو حربي في الحرب، ولو باردة. النقاط الأمنية العسكرية: والنقاط الأمنية، والعسكرية الموضوعة دواما، أو لطارئ، يجب فيها: القيام بمكافحة كل محرم، ويحرم إدخال شيء مما حرم الله بتساهل أو بتواطؤ أو رشوة، ومن فعل ذلك خان الأمانة واستحق العقوبة قضاء وديانة. ومن مهمات ما يجب مكافحته: المسكرات والمخدرات. وكذلك في وقت الفتن يحرم تهريب الأسلحة إلى مناطق النزاع التي تعين على القتل وتوسع دائرة الفتنة، ويحرم على النقاط تمرير ذلك. ويحرم في النقاط العسكرية اختلاس المال، وهو سحت محرم وظلم، وأي وسيلة من تعنت وتهديد واستفزاز وتوقيف لأي أحد بغية جني المال منه فهو ظلم محرم، ويجب معاقبة فاعله وإحالته إلى التحقيق والقضاء. تنظيم حمل السلاح: وتنظيم حمل السلاح مشروع، فقد ورد في النصوص النهي عن حمل السلاح يوم عيد (¬1)، أو إظهار نصل في سوق أو مسجد ونحوه (¬2) من جمع لئلا يَجْرَح به أحدا. ومن وضع سلاحه في نقطة فهو أمانة محفوظة تسلم له عند خروجه، ولا يجوز التفريط به، أو تبديله، أو شيء منه، أو إعارته أو مصادرته؛ فهذا مال مسلم لا يحق للدولة ولا لغيرها فعل ذلك. ومن أخذت الجهات الأمنية سلاحه في مدينة يمنع فيها حمله، ولم يكن لديه تصريح، فإنه لا يجوز مصادرته بأي وجه، بل تتخذ الإجراءات القانونية التي لا تخالف الشرع، ثم يسلم له سلاحه، ولا مانع أن يكون في حوزة عسكري من الجهات الأمنية يرافقه ليسلم له إلى منزله ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

حرمة وجود طبقية مسلحة

-إن كانت الدولة تسمح بالاقتناء وهو الأصل، ولا مانع أن يلتزم خطيا بعدم حمل السلاح في أماكن يمنع فيها ذلك، حفظا للأمن والاستقرار. حرمة وجود طبقية مسلحة: ولا يجوز أن توجد طبقية مسلحة بحيث ينفردون عن الشعب بحمل السلاح في أماكن الحضر. سواء كانوا أسرة أو حزبا أو قبيلة أو مناطق معينة؛ لأن هذا من الفساد؛ لأدائه لتقوية جهات وإضعاف أخرى، وهذا مما ذمه الله على فرعون (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) (القصص: 4). بل يتفق الجميع على قانون ينظم ذلك يلتزم به الجميع في عمومه الكلي، وفي استثنائياته للبعض بقانونية مضبوطة عادلة يرضى بها الشعب بمباشرة أو بواسطة نوابه في البرلمانات ونحوها. التعبئة والتوجيه: وفرض تعبئة القوات المسلحة والأمن بما يخدم الدين والعقيدة (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84). وبما يخدم المصلحة العامة للشعب. ويحرم تعبئته لخدمة حزب حاكم، أو معارض، أو أسرة، أو قبيلة؛ لأن هذا خيانة للأمانة، وبه تحصل مفاسد كثيرة. وهذا الواجب، على القيادة العليا وكل القيادات، والجهات المعنية كالتوجيه المعنوي ونحوه من وسائل الإعلام. ويشرع كتابة الشعارات التي ترفع المعنويات، وترديدها في العرض، والسير، والقتال. ويشترط أن تكون الشعارات مباحة، فيحرم ترديد شعار تفريق، أو تكريس طائفية، أو مناطقية؛ فإن هذه من الجاهلية في كثير من النصوص نحو «ليس منا من دعا إلى عصبية» (¬1). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وإن كان الشعار «الله، الوطن، الثورة»؛ فإنه يفصل بين هذه بمبيِّن نحو «الله نعبده، الوطن نبنيه، الثورة نحميها»، وإلا بـ (ثم)، لورود «ما شاء الله وشئت. قال: جعلت لله ندا ما شاء الله وحده» (¬1). ولا يجوز أن يُجعل اسم رئيس أو ملك أو زعيم بجانب اسم الله، وهذا من باب أشد؛ لأنه لما حرم في النطق قول «ما شاء الله وشئت». فمن باب أشد مَنْ قَرَنَه فجعله شعارا ملفوظا، ومكتوبا يردده الناس، أو طائفة منهم؛ فإن هذا أشد في التحريم لعموم مفسدتها، ولدوامها، ولتكرارها، والمحرم إذا عم ودام وكرر عظم إثمه ووزره وتعين منعه. فإن كان الرجل القائل «لولا الله وأنت» قد جعل لله ندا، في نطق عابر لا يعظم ولا يكرر ولا يستدام، فكيف بمن جعل اسمه مع اسم الله على وجه التعظيم الدائم المكرر. والتعظيم جاء من جهة كونه شعارا لطائفة أو شعب، فإن الشعارات الوطنية والدينية للدول والشعوب والطوائف يقصد رفعها في الأصل تعظيما لمن ذكر في الشعار، وبذلا لحمايته وصيانته له. ولا يمكن تمييز ما لكلٍّ في الذهن العام، يعني للوطن الحماية، أو للزعيم، ولله التعظيم، فيؤدي إن كان لشخص، من ملك، أو زعيم، أو رئيس إلى نفخ الكبرياء فيه، وغرس الفرعنة والاستبداد في أمره ونهيه حالا أو مآلا أو كلاهما، وهذا فساد (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ ¬

(¬1) - أخرج البخاري في الأدب المفرد بسند حسن برقم 783 عن ابن عباس رضي الله عنه قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت. قال جعلت لله ندا ما شاء الله وحده. وأخرجه ابن ماجة برقم 2118 من حديث حذيفة أن رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب، فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشاء محمد. وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أما والله إن كنت لأعرفها لكم، قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد. قلت: سنده صحيح وله شاهد عند النسائي من حديث قتيلة امرأة من جهينة أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت. قلت وسنده صحيح. وقد أخرجه أحمد برقم 26463 وصححه الحاكم في المستدرك برقم 7815.

الجنائز العسكرية

أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) (القصص: 4)، (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83). ويؤدي إلى تعظيمه كتعظيم الله، وحبه كحب الله وهذا منهي عنه بالنص (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) (البقرة: 165)؛ لذلك يحرم جعل الشعار الوطني العام باسم شخص، أو حزب، أو أسرة؛ لما يكرس من المفاسد والاستبداد والتعظيم، وهذه يجب دفعها؛ فإن كان مقرونا باسم الله، فقد جعل نفسه ندا لله، إضافة إلى ما سبق من المفاسد، فهو أشد في التحريم. والوقوف لأداء النشيد الوطني أمر لا أرى فيه مانعا؛ لأنه لا يقصد به التعبد، أو التعظيم، ولأنه نوع من الانضباط العسكري كوقوفهم لسماع صفارة أو نداء أو أداء التحية العسكرية. وهي نوع من العرف الرسمي والدولي العام، ولا يناقض الدين ولا العقيدة. والأناشيد الحماسية للجيش، أفتى جماعة من العلماء بجوازها، ولو بالموسيقى العسكرية المعروفة، وهذا ما يترجح عندي؛ لأن مفاسد ما حرم الغناء لأجله منعدمة هنا، والشريعة قائمة على التعليل. الجنائز العسكرية: ودفن الجنائز العسكرية أو الرسمية بمراسيم عسكرية ورسمية من البدع المنكرة؛ لأن هذه الأمور تعبدية ورد فيها أمر ونهي. ويجب على من ظن أنه يُصْنَعُ به ذلك بعد موته منعه في حياته ولو بالوصية. وجوب الاهتمام بالرمي طويل المدى والمتوسط والقصير: ويجب الاهتمام بالرمي، فهو رأس القوة المأمور بها (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).

سلاح الجوية

ولحديث «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (¬1). ويحرم ترك تعلمه أو نسيانه، بل يجب التدريب المتواصل عليه للنهي المفيد للتحريم عن إهماله «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى» (¬2). والرمي شامل للسلاح الثقيل، والخفيف، والمتوسط، وبعيد المدى، ولا بد وجوبا من تأهيل مختصين في ذلك بشكل مستمر دائم؛ لأن عدم ذلك مؤدٍ إلى نسيانه وهو محرم. والسلاح بعيد المدى يدخل دخولا أوليا في وجوب تعلم الرمي، فيجب وجوبا مؤكدا؛ لأنه سلاح العصر المعتبر في توازن القوى؛ ولأن عدمه ضعف فاحش مؤد إلى غلبة العدو على أهل الإسلام وإذلاله لهم، وما أدى إلى هذه المفسدة حرم، وما دفعها وجب. فالواجب الحصول على السلاح بعيد المدى برا، وبحرا، وجوا، وما لا يتم هذا الواجب إلا به فهو واجب، تصنيعا، وتطويرا، وتدريبا، من صواريخ، وراجمات، وبطاريات، وأنظمة اتصالات، ومواد تصنيع، ومصانع، وخبراء، وفنيين، ومؤهلين بتقنيات عالية مضاهية لتقنيات العصر. سلاح الجوية: ويجب امتلاك سلاح الجو بتقنية تكافئ المثل الدولي؛ لأنه من رأس القوة المأمور بها زمانا، ومكانا، وأشخاصا .. تصنيعا، وتطويرا، وتدريبا، من طائرات بطيار، وبدون طيار، مقاتلة، وحاملة، واستخبارية، وأنظمة دفاع جوي تصل إلى أبعد نقطة يمكن للعدو اختراقها، وأنظمة دفاع صاروخي تحقق الأمن والحماية التامة للبلاد، وأنظمة الاتصالات الجوية، وسائر متعلقاتها، وتدريب وتأهيل دائم لمن يقوم بهم فرض الكفاية، وإنشاء كليات ومدارس عسكرية جوية متخصصة، وفتح باب التصنيع الحربي الشامل لسلاح الجو بسائر متطلباته. سلاح البحرية: وفرض العناية التامة بسلاح البحرية؛ لأنها من أكبر أركان القوة العسكرية المعاصرة، ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5058 من حديث عقبة بن عامر أنه قال «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى».

العدل في رواتب القوات المسلحة

وقد خصت شرعا بمضاعفة أجور العمل فيها عند الله، حتى عَدَل دوار البحر دم الشهادة (¬1)، و «غزوة في البحر كعشر في البر» (¬2). ويجب على الدولة بناء أسطول متكامل من القوة البحرية من بارجات، وحاملات طائرات، وسفن حربية، وزوارق، وإمداد، وغواصات، وما يلزم لها من المؤن والتجهيزات والدراسات والخبراء والأفراد المؤهلين تأهيلا تاما. العدل في رواتب القوات المسلحة: وفرضٌ الاهتمام بأفراد القوات المسلحة والأمن في رواتبهم، وإعطاؤهم العوض المجزئ عن المخاطرة بالأنفس؛ لأن الله أمر بالعدل والإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). وليس من العدل أن يبخس أفراد الجيش والأمن في رواتبهم وحقوقهم، وما لم يكن عدلا كان ظلما، وهو محرم. وتعاقب الدولة عقوبة إلهية من عند الله على الظلم، كما هي سنة الله على الظلمة، ويتخلف النصر لوجود المظالم. فالواجب دفع الظلم والضرر عن منتسبي المؤسسة العسكرية والأمنية، بإعطائهم رواتب عادلة تسد حاجياتهم وضرورياتهم ومن يعولون، ولأن الله أمر بالإحسان مقابل الإحسان (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). ولا إحسان فوق من يبذل دمه في سبيل الله حماية لبلاد الإسلام والمسلمين (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95). ¬

(¬1) - فيه حديث عند أبي داود برقم 2495 عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين». قلت: سنده حسن صحيح. (¬2) - أخرجه ابن ماجة بسند حسن في الشواهد برقم 2777 عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «غزوة في البحر مثل عشر غزوات في البر، والذي يسدر في البحر كالمتشحط في دمه في سبيل الله سبحانه». وأخرجه الحاكم في المستدرك بسند صحيح برقم 2634. وقال على شرط البخاري. ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.

فيقابل بإحسان راتبه ووضعه المعيشي الذي يدفع عنه الحاجة والفاقة. ولأن الجندية عمل بإجارة؛ فهي معاوضة، ويحرم في المعاوضات الغبن، فإن كان فاحشا بطل العقد أو أُبْطِل المسمى من العوض ورُجِعَ إلى أجر المثل. والثاني هو ما يمكن إجراؤه في وظيفة الجندي، فَيبْطُل المسمى من الراتب المعين، ويُنظَر إلى راتب أمثاله في الدول العادلة، ويُعطى الوسط إن استطاعت الدولة، أو يعطى الحد الأدنى من أجر المثل، لا ضرر ولا ضرار. وإذا تقاعد أو استشهد أو جرح فأعيق؛ أعطي راتبه بلا خصم مُخْرِج له عن العدل والإحسان إلى البخس والإساءة والجور؛ ولأن العقد المبرم منصوص فيه بقاء الراتب في هذه الحالات؛ ويجب الإيفاء بالعقود. ولأن الخصم المجحف ظلم، وهو محرم يخرج منصوص العقد في بقاء الراتب عن مقصوده، ولأن عدم دفعه دفعا معتبرا في تلك الحالات مؤد إلى عزوف الناس عن الجندية، أو التردد وقت القتال، وهذه علة معتبرة عند الفقهاء في القول ببقاء راتبه إن استشهد (¬1). ولأن الشرع قصد إكرام المجاهد في الدنيا والآخرة ففرض الغنائم، وشرع «من قتل قتيلا فله سَلَبه» (¬2)، وفَرَضَ النفل (¬3)، وفَرَضَ لمن خرج بفرسه فوق من خرج ماشيا (¬4)، ومن حضر المعركة بلا قتال يرضخ له (¬5). وشَرَع المعاوضةَ بالمفاداة لمن بيده أسير (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4)، وما عند الله أكبر؛ فدل هذا التعامل الشرعي على قصد الشرع إكرام المقاتلين في سبيل الله، ¬

(¬1) - ذكره ابن قدامة في المغني في كتاب الجهاد. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «وفرض النفل» فيه ما أخرجه مسلم برقم 4664 عن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك واجب كله. (¬4) - قولنا «وفرض لمن خرج بفرسه .. » لحديث أخرجه البخاري برقم 4228 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما قال فسره نافع فقال إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم. (¬5) - حديث الرضخ أخرجه مسلم برقم 4787 عن ابن عباس.

وجوب إنشاء حلف عسكري عربي وإسلامي موحد

والقوات المسلحة والأمن كذلك؛ لأنها مرابطة لحماية بلاد الإسلام وحماية الدين والأنفس والأموال والأعراض وعزة أهل الإسلام. وجوب إنشاء حلف عسكري عربي وإسلامي موحد: وفرض على الدول العربية والإسلامية إنشاء حلف عسكري موحد بقيادة موحدة يقوم بالحماية والدفع بكفاءة كافية للتوازن الدولي المسلح، وهو فرض؛ لعموم (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73). وتحالف الذين كفروا ظاهر بأحلاف دولية كبرى، وهذه علة الحكم؛ ففرض على دول العرب والمسلمين تحالف دولي مدني وعسكري مضاهٍ لذلك، وإلا يفعلوا فَتَنَهم عدوُّهم دينا ودنيا، وكثر الفساد الكبير في الأرض، ووقوع عليهم لا محالة، وهذه مفاسد كبرى، ودفعها فرض، ولا تدفع إلا بتحالف دول العرب والمسلمين في حلف مدني وعسكري فوجب ذلك (¬1). تجنيد المرأة والشرطة النسائية: وتجنيد المرأة إن كان في معسكرات مشتركة مختلطة بين رجال ونساء حرم؛ لأنه وسيلة عادت على مقصد حفظ العرض بالإبطال، والوسائل إذا أبطلت المقاصد بطلت؛ ولأن حفظ العرض يقاتل من أجله، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد (¬2). فقدم على حفظ النفس، وغاية التجنيد القتال لحفظ النفس والأموال والأعراض والدين والوطن، وتجنيد المرأة أدى إلى عكس مقصوده، وهو حفظ العرض فبطل التجنيد المشترك بين رجال ونساء. ¬

(¬1) - هذه الآية دليل على التعليل للحكم بدفع المفاسد، فقد علل الحكم وهو وجوب الموالاة للمؤمنين بدفع الفتنة والفساد الكبير، وتدل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لذلك فرض في الآية تحالف أهل الإسلام كوسيلة لدفع تحالف العدو من الذين كفروا، ودفع مفاسد ذلك، وكل وسيلة تتخذ لهذا التحالف واجبة. (¬2) - فيه ما أخرجه البخاري برقم 2480، ومسلم برقم 378، واللفظ للبخاري عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد. وما أخرجه أبو داود برقم 4774 عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد». قلت: سنده صحيح. وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

تجنيد الأطفال

وتجنيد المرأة في حالة فرض العين للقتال في سبيل الله يكون في معسكرات نسائية خالصة مهمتها توافق طاقتها ووسعها؛ لأنه (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، ووسعها دون الرجل خِلْقَة. فإن لم يكن القتال فرض عين فتجنيدها، ولو في معسكرات مستقلة، خلاف مقصد الشرع المنصوص «لا جهاد عليكن» (¬1)، فأسقط عنها الطلب فرضا وتطوعا. وذهاب من خرجت مع الجيش من آحاد النساء في زمنه صلى الله عليه وسلم لا يستدل به؛ لانه تبع زوج أو محرم مقاتل لا لقصد قتالها ابتداءً، ولو قاتلت اضطرارا فلا يبطل الحكم الأصلي وهو عدم الطلب عليها، وشرط القياس المساواة بين فرع وأصل ولم يثبت هنا. والشرطة النسائية للإشراف على السجون النسائية، وتفتيش النساء المحتاجِ إليه في المنافذ: ضرورةٌ تقدر بقدرها بضوابطها، ولا تتجاوز الضرورات إلى غيرها مما ليس بضرورة. تجنيد الأطفال: وتجنيد الأطفال غير مشروع، ويُرَدُّ طفل إن أدخل في القتال؛ لورود التشريع بذلك في الصحيح، عن ابن عمر أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال فرده ثم عرض عليه وقد بلغ فأجازه (¬2). وإذن الوالدين في التجنيد مشروع؛ لأن غايته القتال، وقد أمر الله باستئذانهما فيه (¬3). اتفاقيات الأمن والاستقرار العادلةُ والمهيمنةُ والقواتُ المشتركة: والاتفاق مع دول ولو كافرةٍ على حماية الأمن والاستقرار العادل المتكافئ الوطني والإقليمي والدولي لا مانع منه؛ لأنه إذا حقق المصالح المعتبرة ودفع المفاسد جاز. وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوى اليهود وثيقة للحماية العامة للمدينة (¬4). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 4097 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. (¬3) - قولنا «وقد أمر الله» دليله في صحيح البخاري برقم 5972 عن عبدالله بن عمرو قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: لك (ألك) أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد. (¬4) - وثيقة الصحيفة تقدمت وهي صحيحة.

وبدليل صلح الحديبية؛ إذ مقصوده تحقيق الأمن والاستقرار لهما. وآلية تحقيق الأمن والاستقرار العادل بحفظ كل طرف لما هو تحت سلطاته من دفع المفاسد وجلب المصالح عن الدولة وعمن تحالف معها من الدول. وقولنا «الأمن والاستقرار العادل المكافئ» احتراز عن اتفاقات دول الهيمنة والعلو في الأرض مع دول الإسلام القاصدة تمكينَ دول العدو ومصلحته لا مصلحة دولة مسلمة إلا إن كانت تبعا غير مقصود تحليلا لإبرام الاتفاق. فهذا النوع يحرم الدخول فيه؛ لأنه جعل العزة لدول الكافرين على أهل الإسلام فخالف مقصود الشرع (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8). ولأنه ناقضَ المصالح العليا للدولة المسلمة؛ وانتقص سيادتها؛ وناقض مقصود إبرام الاتفاق؛ فحَفِظ الأمن والاستقرار لطرف على آخر، وهذا بغي وظلم وإذلال وامتهان للدولة المسلمة وشعبها، وهذا كله محرم. وقولنا «بحفظ كل طرف لما هو تحت سلطاته»: هو شرط لدفع توهم إنشاء قوات مشتركة لذلك، فلها حكم آخر. في قولنا «وإنشاء قوات مشتركة من مسلمين وكفرة» إن كان في بلادهم جاز، وإن كان في بلاد الإسلام حرم؛ لأنه ضرر كبير ومفسدة غالبة؛ لقوله (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، وهذا من أعظم السبيل للتمكين من رقابهم. ومصالحه موهومة كحفظ السلام في بلد مسلم فيه نزاع. وفعل ذلك فرض على المؤمنين بالنص (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9). وإدخالهم قوات الذين كفروا لذلك خلاف الفرض المنصوص والتكليف به؛ ولأن الدول المحافظة على سيادتها لا تأذن بقوات حفظ السلام على أراضيها قطعا؛ لأنه انتقاص من

لا تسقط الصلاة على الجندي في أمن ولا خوف، ورخص العبادات

سيادتها ومصالحها واستقلالها، وهذه مفاسد كبرى معتبرة فرض دفعها. ولا يجوز للدولة المسلمة الإذن بدخول أي قوات مشتركة لحفظ السلام أو التحالف أو غير ذلك على أراضيها، فإن اضطرت في مرحلة الاستضعاف وأمن من مفاسد هذه القوات على أراضيها، فالاضطرار باطل والحكم باق على التحريم. وفرض على الدولة تقوية نفسها ومنع تواجد قوات أجنبية غير مسلمة على أراضيها، ودعوى اشتراط أمن مفاسد هذه القوات موهومة؛ لأنه لا أمن مع اضطرار وضعف. فإن استؤجرت قوات غير مسلمة لدفع عدوان دولة كافرة جاز، لاختيار أهون الشرين ودفع أعظم المفسدين، خاصة إن كانت الدولة المستأجرة مسالمة بشرط أمن حالاً ومآلاً واضطراراً. فإن كان لدفع عدوان دولة مسلمة فهو محرم، ووجب على المسلمين دفع ذلك بالمصالحة لعموم (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9)، فإن تخاذل المسلمون وضعت المسألة على الفقهاء حينئذ لتقديرها. وما قررناه في الفقه الوظيفي من دخول جندي مسلم في قوات حفظ السلام على أرض الدولة المسلمة هو في مرحلة الاستضعاف للدولة وإجبارها على ذلك، واجتياح أراضيها بالقوة المسلحة عند رفضها دخول قوات حفظ السلام أراضيها، فحينئذ دخول مسلم فيها أولى من تمحضها للكفرة، وإن استُطِيعَ تمحضها من مسلمين فواجب، أو غلبة عدد من الجنود المسلمين فيها؛ فكذلك؛ فليتنبه لظروف وشروط كل واقعة حتى لا يضطرب ذهن قارئ لم يتنبه لفوارق المسائل وشروطها الحالية والمآلية والواقع والمتوقع المصلحي، فيظنَّ تناقضا وليس كذلك. لا تسقط الصلاة على الجندي في أمن ولا خوف، ورخص العبادات: وإذا كان الموقع العسكري بعيدا عن الماء واحتاجوا ما لديهم لشرب جاز لهم التيمم للصلاة (¬1)، للحدث الأصغر والأكبر وهو الجنابة. ¬

(¬1) - قد بينا ذلك في كتابنا فقه المقاتل.

أذكار المقاتل

ولا تسقط الصلاة في سلم ولا حرب، ويصلي الجندي صلاة الخوف عند حصول القتال أو توقعه، وهي أنواع بحسب الخوف والقتال شدة وخفة (¬1). ويترخص في الفطر في نهار رمضان للمقاتل في سبيل الله إن كان الصوم يضعفه عن قتال العدو لورود الرخصة (¬2). أذكار المقاتل: ويشرع للجندي الحفاظ على الأذكار الصباحية والمسائية والأدعية الخاصة بلقاء العدو. الفرار من الخدمة العسكرية: والفرار من الخدمة العسكرية حالة السلم محرم؛ لأنه نقض للعقد (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، فإن كان الفرار حال الحرب ولقاء العدو من الذين كفروا اشتد تحريمه، وهو من السبع الموبقات المهلكات من كبائر الذنوب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 15 - 16)، ولحديث «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها «والتولي يوم الزحف» (¬3). وإن كان الفرار في حالة حرب عدو مسلم باغ (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (الحجرات: 9) حرم؛ لأنه مع نقضه بالوفاء بالعقد، يترتب عليه ضرر كبير في خذلان مقاتلين في سبيل الله أمرهم الله بالقتال شرعا. ¬

(¬1) - المصدر السابق. (¬2) - المصدر السابق. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 2766، ومسلم برقم 272، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».

فقه التربية والتعليم

فقه التربية والتعليم (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114) * «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» صحيح * أعطني تعليما أعطك نهضة، واعطني نهضة أعطك قيادة وريادة * إكرام المعلم هو في حقيقة الأمر إكرام لذواتنا وأنفسنا؛ لأننا بإكرامه نُكْرِمُ الجيل والأمة جمعا * الأمة التي لا تحترم نفسها لا تحترم التعليم، ولا تهتم به، ومن المؤكد أنها ليست هذه الأمة؛ لأنها ولدت بالأمر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1 - 5) * لا يمكن أن يهتم بالتعليم الاستراتيجي والبحث وأدواته إلا من كان يحمل في قرارة نفسه مشروعا عظيما للوطن والأمة * المناهج التعليمية إذا وضعها الخبراء ودرسها المؤهلون وأدارها الأكفاء لا بد أن تحقق مشروع نهضة شاملة خلال عقدين على أقصى تقدير * الغش والتزوير وتسريب الامتحانات والوثائق والشهادات والسمسرة بذلك من الجرائم الكبرى والفساد في الأرض ..

فقه المؤسسة التعليمية والتربوية فرض على الدولة خدمة العلم والمعارف. وكل معرفة وعلم يتعلق بخدمة الضروريات، أو الحاجيات، أو التحسينات فهو من وسائل المقاصد، وكان مطلوبا شرعا. فما تعلق بخدمة الدين، أو حفظ النفس، والمال، والعرض، والعقل، والجماعة، فهي علوم مطلوبة في الشرع، وتحصيلها فرض كفاية في الجملة، وفرض على الدولة تحقيق ذلك. ويشمل هذا علوم العصر التكنولوجية التي تبنى عليها نهضة الدولة والأمة مدنيا وعسكريا. تعريف التربية: والتربية: يمكن تعريفها من خلال ملاحظة مفردات ما تقوم به في الواقع بما يشمل الإنسان، والمجتمع، والدول، والشعوب، والإنسانية من الأمور، فنقول: التربية هي الإصلاح بالمكارم، وترك أضدادها تعلماً وعادةً وقناعةً وتدينا. فقولنا: «التربية هي الإصلاح»؛ لأن ذلك هو مقصدها، فهو تعريف بالتفسير. وقولنا: «بالمكارم» جامعة شاملة للقيم، والأخلاق، والمحاسن، والمبادئ الفاضلة. وقولنا «ترك أضدادها»، أي كل ما يضاد الإصلاح والمكارم (¬1). وقولنا «عادة»، هي مرحلة غائية أُوْلى للتربية؛ لتحويل الفضائل إلى عادات شخصية، ومجتمعية يعاب تاركها ويمدح ملتزمها (¬2). وقولنا «قناعة»، مرحلة ثانية؛ لأنها تلزم الشخص في مجتمعه وغيره. وقولنا «تدينا»، مرحلة ثالثة رفيعة مقصودة للشرع تجعل العمل بالمكارم تدينا، وعقيدة، وتعبدا لله طلبا لمرضاته، فيلتزم بها في السر والعلانية، والرضى، والغضب، فردا، أو جماعة، أو دولة في مختلف الظروف الحياتية، وهي أعلى رتبة تصل إليها التربية. ¬

(¬1) - إذ التربية مختصة بالفضيلة؛ لأنها على الرذيلة لا تسمى تربية، بل تسمى انحرافا. (¬2) - ولهذا اعتبرت العادات والعرف في الأحكام، وجعل لها قاعدة من القواعد الكبرى وهي «العادة محكمة»، وشرط ذلك استمرارها وعمومها وعدم مخالفتها للشرع.

المؤسسة التعليمية والتربوية

والتربية واجب شرعي، وتأخذ وسائلُها حكمَها في الجملة. المؤسسة التعليمية والتربوية: لما كانت الوسائل تأخذ أحكام المقاصد؛ فإيجاد المؤسسة التعليمية والتربوية أكبر وسائل تحقيق التعليم والتربية الآن، فإيجادها واجب؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وهو واجب عيني على الدولة لتحقيق الفرض الكفائي والعيني في التربية والتعليم (¬1). -المؤسسة التربوية والتعليمية، أو التربية والتعليم: ويمكن تعريفها أنها: عمل حكومي وأهلي منظم يدير التعليم والتربية. فقولنا «عمل»: جنس التعريف يدخل فيه كل عمل. وقولنا «حكومي وأهلي»: قيدان لذلك. وقولنا «منظم»: خرج به العشوائية التعليمية والتربوية، فلا يتحقق معها ما قُصِد شرعا. وهو قيد لا بد منه يدل على قيام العملية التربوية على الترتيب والتقنين والدراسة، وهذا واجب؛ لأنه يحقق المقاصد التعليمية. وقولنا «يدير»: يشمل كل المهمات المنوطة به تلقيا، وتلقينا، وتطويرا، ومتابعة. وقولنا «التعليم والتربية»: قيدان متممان للتعريف؛ لبيان محل هذا العمل المنظم المدير. ولا بد للدولة والشعب من وجود هذا الكيان المؤسسي؛ لأنه وسيلة معاصرة لا يمكن قيام العملية التربوية والتعليمية في جميع مراحلها إلا بها وما يتعلق بها من الإدارات العليا والدنيا، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. - شروط من يدير المؤسسة التعليمية: ويجب اختيار: عدلٍ راشدٍ كفءٍ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ خبيرٍ لتولي المنصب الأول في المؤسسة التعليمية والتربوية، سواء سمي وزيرا، أو ما كان حسب المسمى في الهيكلة الدستورية والقانونية للدولة. ¬

(¬1) - في قولنا «لتحقيق الفرض الكفائي ... الخ»: الفرض التربوي الكفائي هو ما يسقط الطلب به بقيام جماعة تكفي لتأهيل خبراء تربويين في كل مجال معين، أما الفرض العيني التربوي فهو الأمور التربوية التي تجب على كل فرد: كالتربية على الصدق، وأداء الأمانة، وترك الكذب والخيانة.

ولا بد من هذه الشروط في هذا المنصب، ووكلائه، ونوابه، ومدراء عموم المكاتب التربوية في المحافظات، ومدراء المجمعات التعليمية، والمراكز، والمدارس، والأساتذة، والمدرسين، والموجهين، والأقسام والإدارات؛ لأن هذه المؤسسة من أخطر وأكبر المؤسسات مسئولية لبناء الأجيال، والعقول، والأنفس، والأموال، والاقتصاد، والأمن، والاستقرار، وحفظ الدين، والنسل، والنشء، وحفظ كيان الجماعة، وسيادة وسياسة الدولة، والنهضة القومية والحضارية والصناعية بمباشرة أو تسبب رئيسي. ولا يمكن تحقيق هذه المقاصد الشرعية والواجبات الكبرى إلا بنهضة تعليمية وتربوية. ووجب حينئذ إقامة كيان المؤسسة المديرة لذلك، ولا يقوم بها على هذا الوجه إلا الدولة. فَفُرِضَ عينا على ولي الأمر ومعاونيه خاصة وعلى النظام الحاكم ككل إقامة هذه المؤسسة. ولتأثير هذه المؤسسة في تحقيق المقاصد الكبرى الآنفة الذكر؛ لا بد من اشتراط العدالة؛ لأن الفاسق ساقط العدالة يتعذر منه تحقيق هذه المقاصد؛ ولأنه ما حفظ نفسه تربويا فكيف يحفظ ذلك للغير حفظا محققا للأهداف والمصالح. وقولنا «راشد»: لأن السفيه في الرأي والتصرف يقوم بما يفسد ويتلف حتى على نفسه، لذلك شرط لدفع مال اليتيم إليه بلوغه ورشده (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). وإذا حجر عليه التصرف في مهمات من حقوقه الخاصة به، لعدم رشده، وكثرة فساد رأيه وتصرفه؛ فحجره عن تولي الولاية العامة أشد وجوبا، خاصة ولاية المؤسسة التعليمية والتربوية. وقولنا «كفء»: أي قوي أمين مؤهل للعمل في هذا المرفق، وقد رد الشرع ولاية من فقد شرطا مؤثرا وهو الكفاءة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنك ضعيف» (¬1)، فدل على اشتراط الكفاءة الشاملة للقوة والأمانة ونحوها. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وقولنا «مسلم»: لأن فرض الطاعة مقيد بأولي الأمر من المؤمنين (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). و«منكم»: قيدٌ؛ فخرج غيرهم، ولأن التمكين في النص هو أمر بالتمكين للمؤمنين بذلك، أي بتحقيق التمكين لمؤمن لا لفاسق أو كافر أو منافق. ولأن الخروج عن أولي الأمر لو ارتكبوا كفرا بواحا عن دليل برهاني من الكتاب والسنة مشروع، فلا ولاية للكافر ابتداء من باب أولى. ولأن الموالاة للكافرين محرمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، وتوليته على المسلمين أكبر وأعظم من الموالاة؛ لأنها ولاية وموالاة وزيادة تمكين؛ ولأن الله يقول (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141). وتوليته عليهم أعظم سبيل فمنع بالأوْلى. ولأن شرط الولاية إقامة أخص شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه إقامة المصالح ودرء المفاسد. وغير المسلم لا يقوم بذلك في نفسه ولا غيره في الصلاة والزكاة ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 40 - 41). فتولية المؤمنين نصرة لله ومستلزم لنصرته سبحانه، وتمكين أعدائه ليست نصرة لله بل معصية مستلزمة لسخطه وخذلانه، وهذا يدل على عظم هذا الشرط. وقولنا «بالغ عاقل»: شرطان لكل ولاية؛ لأن الصبي والمجنون لا نظر لهما معتبر على وجه المصلحة لنفسيهما، فولايتهما على نفسهما ممنوعة؛ فمنعهما من الولاية على الغير من باب أولى؛ لأنها نظرٌ عام على النفس والغير. وقولنا «خبير»: شرط أولوي؛ لأن الخبرة بالتجربة، وتكسب في هذا العمل سريعا (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «في هذا العمل»: هو قيد؛ لأن من الأعمال ما لا تكسب فيه الخبرة إلا بطول ممارسةٍ كالطب وسائر العلوم الشرعية والمهنية والتكنولوجية.

مصادر التربية

- مصادر التربية ومصدر التربية أم، ووالد، وأسرة، ومجتمع، ومَدْرسة، ومعلم، وتجربة، وعادة، وكتاب، ومؤسسات، ومنظمات، ونقابات، وإدارات. - الأم ومهمات واجباتها التربوية فالأم واجب عليها شرعا تربية ولدها وولد زوجها إن كان في بيتها؛ لأنها راعية ومسئولة عن رعيتها، كما في النص «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته». وفي لفظ مسلم «والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم» (¬1). ويدل قيد «في بيتها»: على وجوب التربية ابتداء من داخل البيت. ويدل قوله صلى الله عليه وسلم «المرأة راعية»: على أن هذا الواجب متعلق بالأم والزوجة لدخولهما في اللفظ. وفيه كذلك وجوب التربية؛ لعموم الاقتضاء في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث «مسئولة» فشمل المسئولية التربوية والجنائية، عرضا، ونفسا، وعضوا، وخلقا، ويدل كذلك على أن مسئولية المرأة -أُمّاً وزوجة- عن البيت وما فيه. ويدل على انحصار مسئوليتها عمن عندها في البيت من قُصّر كولد لها، أو لزوجها، أو ضعيف كوالد أو رحم لزوجها، أو يتيم كفله زوجها. وكذا مسئولة عن متاع، أو مالٍ لزوجها، ولا تسأل عن ما يتعلق بهؤلاء خارج البيت من تسجيل مدرسي، أو ذهاب بهم للمستشفى، أو معاملة لملفاتهم وأمورهم الشخصية في الجهات المختصة، أو الخروج لشراء ملابسهم وغذائهم، فهذه الأمور أخرجها مفهوم التقييد لمسئولية المرأة بالبيت وما فيه. وإنما أدخلنا ولد زوجها ونحوهم من القُصّر والضعفة الذين في كفالة زوجها في بيته لعموم ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الوالد وواجبه تربويا

دلالة الحديث، وعدم قصره على ولدها فقط، ويؤيده رواية مسلم المتقدمة، ففيها التصريح بأنها راعية على ولد زوجها. ويدل باللازم على بقائها في البيت للقيام بهذه المسئولية، وتخرج ما لم يكن الخروج تضييعا لهذه الأمانة. وعليها إرضاع بشرطه الشرعي وهو كونها والدة أو مرضعة بِعِوَض لنصوص الآيات في ذلك، وعليها حضانة ورعاية صحية ومعنوية، وتمريض في المنزل، وتعليم دين وخلق ومتابعة لذلك، ولدراسته ومذاكراته وواجباته، وخصوصياته كمعرفة من يصاحب كصديق في لعب وتعلم. كل هذا ونحوه من مسئوليات الأم والزوجة عمن تحت يدها في البيت من الأطفال لزوجها أو لهما داخل في عموم النص على المسئولية في الحديث، ولأن هذه الأمور من خصائص البيت عادة وغالبا، والعادة مُحَكَّمة وللنص (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، وليس من المعروف تركها ولد زوجها ونحوه عرضة للأضرار المترتبة على عدم قيامها عليه بما يصلحه دينا ودنيا (¬1). - الوالد وواجبه تربويا: وأما واجبات الوالد في التربية ففرض عليه ما في الحديث «الرجل راع وهو مسئول عن رعيته» من التربية لولده ويتيم يكفله، وولد زوجته إن كان عنده كافلا له وهو كاليتيم، وولد ولده إن كانوا في بيته، أو مع أبيهم في مسكن آخر يمكن متابعتهم مع تقصير أبيهم، أو سفره، أو مرضه، أو موته واستطاعة جدهم ذلك. وكذا واجب على الرجل تربية إخوته الصغار إن كانوا معه في بيته لعموم «والرجل راع وهو مسئول عن رعيته» سواء كانوا أيتاما، أو لمرض وعجز والدهم، أو سفره ولا قائم عليهم غيره مما لا يقوم به إلا الرجال، أو كان والدهم حيا صحيحا، ولكنه وضعهم عند أخيهم؛ لعلةِ مترتبة على سكنٍ في ريف أو مدينة، أو لغير علة، وهذا في الأصل الجملي ومبني على الاستطاعة. ¬

(¬1) - فصلنا هذا في فقه الطفل والولد وفقه المرأة من كتابنا هذا.

وكذلك أجنبي لو وضع ولده في منزل صديقه لعلة كدراسة، أو أمان، أو سفر ونحو ذلك لزم على الصديق وزوجته العناية بهم تربويا عند الاستطاعة؛ لأنهم قبلوا تحمل الأمانة، فإن لم تقبل الزوجة في هذه الصورة فلا يلزمها، لأنه تكليف لها بما لم يكلفها به الشرع، وعلى الزوج -حينئذ- القيام على شؤونهم بنحو استئجار حاضنة لهم، فإن لم يستطع لزمه عدم القبول دفعا لتحمل الأمانة. وأما النفقات فعلى والدهم، أو من تلزمه شرعا في هذه المسألة وما قبلها من المسائل المشابهة. ويجب على المرأة من المسئولية وكذا على الرجل ما كان جاريا على العرف العادل (¬1) (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). وكل ما يتعذر، أو يشق على المرأة أو الرجل مشقة ظاهرة خارجة عن المعتاد سقط عنه التكليف به (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، فلا تكليف عليهما في تلك المشقة، إلا بوالدين وولد وزوج، وزوجة، وكذا كل ما هو مختص بالآخر عرفا لزمه للأمر بالعشرة بالمعروف. وقولنا «مختص بالآخر» أي بأحد الزوجين من أبيه وأمه وولده من غيرها، فإن واجب القيام عليهم مفروض على الزوج وإلا لأدى إلى مفاسد العقوق والتلف، ولما كان رعاية الرجل لهؤلاء متعذرة في الغالب لانشغاله بأمور العمل وطلب الرزق خارج البيت فعلى المرأة القيام بذلك لأنه من العشرة بالمعروف المأمور بها في النص (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، وليس من المعروف ترك الزوجة هؤلاء بلا رعاية حسنة لما فيه من الإضرار بهم وبزوجها، فإن رفضت الزوجة رعاية والدي زوجها الضعيفين المقيمين معه في بيته تحت نفقته أو رفضت رعاية ولد زوجها القاصر المقيم مع أبيه في نفس البيت فلا بد -حينئذ- من تضررهم وتضرر الزوج للحوق الأذى بأخص أهله في عمود النسب والدا وولدا، وعليه -حينئذ- وعظها والمحاولة معها، فإن أبت إلا تركهم بلا رعاية وترتب على ذلك الضرر فيحرم عليه ¬

(¬1) - قلنا «العادل»: احترازا عن العرف إذا كان جائرا على أحدهما جورا ظاهرا مخالفا للشرع.

التربية المجتمعية

تقديم إرضائها، فإن طلبت إخراج أبويه أو أحدهما من بيته أو منعهما أو أحدهما من دخول البيت فهي امرأة سوء خالفت الأخلاق والعرف والعشرة بالمعروف ووجب وعظها كما أمر الله فإن أصرت حرم مطاوعتها لأداءه إلى أعظم الكبائر وهو العقوق، وحينئذ تتزاحم مفاسد كبرى مع مصلحة بقاء الزوجة فيقدم هنا دفع المفسدة الكبرى بطاعة الوالدين وبرهما وإن أدى ذلك إلى مفارقة تلك الزوجة بإحسان عند تعذر الجمع. ولأن الشرع أقر ما جرت به العادات على النساء في البيت وما يتعلق به وما جرت به العادات على الرجل والإقرار شرع، والعادة محكمة، وهذه الأمور مما جرت بها الأعراف والعادات وأقرها الشرع لأنها من المكارم في كل الأمم. - التربية المجتمعية وعلى الأسرة والمجتمع وكل راعٍ مسئولية على الرعية «ألا كلكم راع وهو مسئول عن رعيته». وهذا يدل على واجب المسئولية على الجميع؛ للعموم في النص، ولا بد من وجود رعية لكل شخص تحت يده، فالأسرة، والمجتمع، والمدرسة، والولاة، والجماعات، والأحزاب، والنقابات، والمؤسسات، والمنظمات، والإدارات، والمشيخات، كلٌّ مسئول عن رعيته. والتربية المجتمعية فرض كلي أصله (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). وهذا أمر، وهو يدل على وجوب التعاون على البر والتقوى. والتربية من البر والتقوى. فواجب على المجتمع معالجة الظواهر والمظاهر المنكرة والتعاون على ذلك، وحرم تعبئة النشء والشباب وشرائح الناس بعصبية مناطقية، أو نسبية، أو سلالية تنصر أفرادها ولو على باطل كحماية قاتل أو معتد، أو قاطع طريق، أو ناهب مال أن يمثل للإنصاف، أو تفيد تعييناً مناطقياً للولاية لمؤهل أو غير مؤهل لمجرد علة التعصب. ويحرم تشجيع أو سكوت عن أفعال أو أقوال أو اعتقادات تفرق الصف. والمنع شامل لأي دعوات تشطيرية، أو مناطقية، أو سياسية، أوتشييع للشعب، أو

قطيعة وتمزيق أسري أو مجتمعي، وقد لعن الشرع من خبب امرأة على زوجها أو زوجاً على زوجته (¬1). أي ألقى بينهما البغضاء والشحناء؛ لأدائه إلى الفرقة بينهما، وتشظي الأسرة، وما كان تخبيبا مجتمعيا أو شعبيا كان أكبر في الجرم البالغِ نصوصُه المانعةُ مبلغ الضرورة الدينية والقطع الشرعي دلالةً وسنداً في القرآن والسنن والإجماع وفتوى العلماء. وهذه الدعوات من الجاهلية «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» (¬2)، «ومن دعا إلى عصبة فهو من جثى جهنم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (¬3). والسكوت المجتمعي على المفاسد منكر (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 - 79). ومن البر والمكارم قيام المجتمع أسراً، وقياداتٍ، ووجهاء، ورجالا، ونساء، بالتربية على تنمية الفضائل، وترك الرذائل، وغرس وتكريس معاني المجتمع الفاضل (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 1 - 3). فيجب التواصي بحفظ الأعراض وصيانتها من قذف، أو شتم، أو سخرية، أو غيبة، أو تنابز، أو همز ولمز وتنقص؛ لأنها محرمات بالنصوص القطعية، وكذا محاربة الإشاعة (¬4)، أو تعال بنسب أو مال أو عقار أو مركب أو بيت، أو مغالاة أثاث وترف في ذلك، أو في مأكل ومشرب وملبس خارج مخرج الإسراف والبطر، وذلك للنصوص المانعة من هذه الأمور (وَلاَ تُسْرِفُوا ¬

(¬1) - حديث «من خبب .. » حديث صحيح أخرجه أبو داود برقم 2177 بسند على شرط مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده». (¬2) - تقدم تخريجه، وأصله في الصحيحين بلفظ «ما بال دعوى الجاهلية»، «دعوها فإنها منتنة». (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) (الحجرات: 11)، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58).

مجانية التعليم

إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141)، (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67). ويتواصى الناس بتوعيةٍ: بأمر ونهي، وترغيب وترهيب، وتشجيع، وحث، وتحذير، وإنكار، وقول، وفعل لصغير وكبير، لقريب وجار، وزوج وزوجة، وذكر وأنثى، وقائد ومواطن للوصول إلى تقليل وتعطيل المفاسد والمنكرات ومساوئ الأخلاق وتكثير وغلبة المصالح والمكارم والفضائل. ويربى المجتمع على قول الحق، وتعظيم لقاء الله، وإقامة الصلوات، وتوزيع الزكوات، والنفقات، وصلة الأرحام، ونجدة وإغاثة ملهوف، وإسعاف مريض، وإعارة ما يعار، وإرفاق، وقرض معسر، وتزويج عزب، وتيسير مهر ومشاريط، والتوسط في البناء والأثاث واللبس والطعام، وزيارة المريض، والشهادة بالحق، والتواضع للخلق، ونصرة مظلوم، وقمع ظالم، وكفالة يتيم، وسعي على الأرملة والمسكين، وإحسان لابن السبيل. ومراقبة التعليم والتعاون مع السلطة في الخير، والمحاسبة وعزل الفاسدين وتشجيع وتكريم من أحسن وأبدع؛ لأن جزاء الإحسان بالإحسان. وبالجملة فالتربية المجتمعية من أهم الواجبات الشرعية، ومشمولة بعموم النصوص في التعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبخصوص كثير من النصوص في الأخلاق، والأعمال المرضية وما يضادها. مجانية التعليم والتربية والتعليم قرينان. ويجب على الدولة رعايتهما، وتمام المصلحة أن توفر الدولة التعليم والتربية مجانا للمواطنين، وتدفع من المال العام تكاليف ذلك؛ لأنه مال عام وضع للمصلحة العامة، ومن أعظمها وأولاها التعليم والتربية؛ ولترتب مفاسد جمة على تجارية التعليم الرسمي؛ لانتشار الجهل -حينئذ- في شريحة كبيرة من الناس وذلك يؤثر على نهضة عامة، ونمو اقتصاد، وكثرة بطالة، وزيادة فقر، وتدهور الاستثمار، وضعف الدولة عموما.

سن التعليم والتربية، وحق التعليم للجميع

ودفع هذه المفاسد بتولي الدولة لمجانية التعليم للناس، خاصة في فروض الكفايات فلا تتم إلا بذلك، فتعينت على الدولة. ومنعنا من تجارية التعليم الرسمي يفهم منه أن هذه المفسدة لا تكون إلا بفرض رسوم مقصودها التجارة والربح، أما الرسوم الاعتيادية الرمزية التي لا يترتب عليها مشقة على عموم الناس فلا مانع منها. وأخذ الأجرة على تعليم العلم والقرآن مسألةٌ غير هذه؛ لأن مبحوثها في أخذ الأجرة من المتعلم لا من بيت المال، فمنع الأول وأجيز الآخر، وقد سبق (¬1). سن التعليم والتربية، وحق التعليم للجميع: وحق التعليم للجميع ذكورا وإناثا؛ لعموم النصوص في شأن العلم، وسن التعليم الدراسي من التمييز والقدرة على التعلم، وأوله أربع، وأوسطه وغالبه ست سنوات، بخلاف التربية؛ فسنها قبل الرابعة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن إذْ أراد أكل التمر من الصدقة «كخ كخ إنا لا تحل لنا الصدقة» (¬2)، وقوله «كخ كخ» زجر يقال للصبي قبل نطقه الكلام. وجرت العادات على زجر الصبي عن الخطأ وتحذيره من أمور كلمس النار أو الوقوع في حفرة أو أكل ضار، وكل هذا بالأفعال والزجر المناسب تعليما له، ويحصل ذلك قبل نطقه، وتستمر التربية في سائر مراحل الحياة. وعموم التربية ودوامها؛ لعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى. وهي أوسع معنى من التعليم الدراسي، إذ يقوم بها الأفراد والجماعات والمؤسسات، فالجيش يربي الجندي على الضبط والانضباط والصبر والطاعة والجلد والشجاعة. وفي الوظائف يُربَّى بالقدوة، أو القوانين على الأمانة وأداء العمل بكماله ومراقبة الله، وفي ¬

(¬1) - راجع الفقه الوظيفي. (¬2) - قولنا «بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن ... » قلت: هو في الصحيحين (البخاري برقم 1491، مسلم برقم 2522) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ -ليطرحها ثم قال- أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة.

أركان التعليم والتربية

المجتمع على العادات والمكارم الحسنة. أما التعليم الدراسي فله حد مرحلي ينتهي به بدءا بالابتدائية وانتهاءً بالشهادات العليا في الدراسات الجامعية العليا. ولا حد للتعليم بعد ذلك، تجربة وخبرة وبحثا ووهبا إلهيا (¬1). وكان الرسل والأنبياء يوحى إليهم في الأربعين من العمر ويعلمهم الله الشرائع ويبلغونها ويعلمونها للناس في كل سن، كلٍّ بحسبه. وقد يفتح الله على صبي كيحيى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12)، وعيسى في المهد (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم: 29 - 30). أركان التعليم والتربية وأركان التعليم: منهج، ومدرس، وإدارة، وطالب. أولاً: المنهج فالمنهج الدراسي يضعه علماء في الشريعة وخبراء ومختصون في علوم العصر وتربويون في مفردات المنهج وأصوله ووسائله، وكلٌ في تخصصه. - شرط من يضع المناهج وشرط هؤلاء تمام المعرفة والاختصاص فلا يجوز غير أهلٍ (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36). و«عِلْمٌ» نكرة في سياق النفي تعم كل علم؛ فيدخل علم الشريعة وعلومُ فروض الكفايات المتعلقة بمصالح الخلق من طب، وتكنولوجيا، وتصنيع، وهندسة، وغيرها. ولا يدخل أحد في لجنة المناهج لجمالة، أو إصلاح وضع، أو لقرابة؛ لأنها ولاية من أعظم ¬

(¬1) - قولنا «تجربة وخبرة وبحثا ووهبا إلهيا» .. هذه الأربعة -في نظرنا- هي مصادر للتعلم والتعليم وطرقه، فالتجربة هي اليوم أساس العلم التجريبي، والخبرة أساس في التمكين والتوسع، والبحث هو طريق التحقيق للمسائل، والعلم الوهبي أمر رباني يهبه الله لمن يشاء وكيف يشاء، فكم من شخص طلب العلم مع آخر فيزداد الفتح على أحدهما؟

أعضاء لجنة المناهج

الولايات، وعملها إلى عموم الخلق متعد بالإحسان أو الإساءة، وما تعدى إلى الناس من الأعمال عظم أجره في باب المصالح، وعظم وزره في باب المفاسد. وتتعلق بالمناهج من المقاصد الكبرى: حفظ الدين، والمال، والنفس، والعرض، والعقل، والجماعة. وهذا أكبر مقاصد الشريعة الضرورية، ولا بد -ضرورة- أن تكون المناهج خادمة لحفظها أو إهدارها، ولا وسط بين الحفظ والإهدار؛ لأن تبعيض حفظ الدين أو المال أو النفس أو العرض أو العقل أو الجماعة إهدار لها حقيقة، وقد لعن الله من رضي بحكمه في مواضع وترك في مواضع (وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (النور: 49)، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: 85). فإن كان هذا التبعيض التخريبي علته جهل واضع المناهج عُزِلَ وجوبا؛ لأنه غير أهل لحفظ وأداء الأمانة، وأُصلِح المنهج حينئذ وجوبا بأن يضعه مؤهل كفؤ؛ لأن إصلاحه من دفع الضرر وهو واجب. أو كان تخريب المناهج لخدمة قوى مخربة، فالواضع ومن ولَّاه -مع علم حاله- فاسقان، ومفسدان في الأرض، ويجب محاسبتهم ومقاضاتهم وعزلهم إن اقتضى الأمر، وقد تجتمع هذه العقوبات أو بعضها بحسب النازلة زمانا ومكانا وبحسب ما يترتب عليها من فساد. أو كان فساد المنهج بتآمر ومكر من خَدَمَةٍ لمشروع معادٍ للأمة، أو عائلي، أو طائفي، أو مذهبي، أو مناطقي ابتغاء تمكين هذه الفئة لنفسها في البلاد والدولة، ويكون إفسادهم المناهج قائم على مقصود هدم المقاصد الكبرى التي يقوم بها كيان الشعب، تسهيلا لهم فحكمهم أنهم مفسدون في الأرض واجب عزلهم. - أعضاء لجنة المناهج: ولا يدخل في لجنة إعداد المناهج إلا مسلم عاقل بالغ عدل عالم خبير بتخصصه. فلا يجوز أن يضعها غير مسلم، ولا فاسق، ولا غير ضالع في علمه؛ لأن عدم النصيحة في مهمات في المنهج وارد غالبا من هؤلاء.

وجوب وضع خطة المناهج ووجوب التزامها

ولا مانع في علوم التكنولوجيا الحديثة من استشارة ماهر ضليع فيها، ولو كافرا إن عدم مسلم، بشرط التحقق مما أشار به من جهات متخصصة مماثلة منافسة؛ لأن هذا من تمام النصح لأهل الإسلام، والدين النصيحة. وقولنا «منافسة»؛ لأنها أقرب إلى الإشارة بالحق حرصا على سمعتها. وجوب وضع خطة المناهج ووجوب التزامها فإذا تم وضع المناهج: وضعت خططها في التدريس؛ لأن السير بعشوائية مذموم في الشرع (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22)، فذم الماشي المكب ومدح الماشي على المنهج السوي المستقيم. ولأنه خلاف للإحسان المأمور به (وَأَحْسِنُوَا) (البقرة: 195). ولأدائه إلى الضرر والمفاسد الكثيرة، فوجب دفعه بوضع خطة السير في المناهج ومتابعة تنفيذها طوال العام. ويجب شرعا على مدرس، وسائر الجهات التربوية والتعليمية الالتزام بتنفيذ خطة المناهج، ويأثم المناقض لها؛ لأن طاعة أولي الأمر واجبة، وهذا منه، فيشمله عموم الأمر بالطاعة في النص (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، ولأنها طاعة قائمة على مصالح غالبة فلزمت؛ ولأن مناقضته لخطة المنهج خلاف مقصود الشورى التي بني عليها وضع المناهج، وخططها التي تحقق مصالح عامة تربوية وتعليمية وإصلاحية؛ بشورى وبحث مع أهل المعرفة والعلم والخبرات المختلفة والله يقول (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7). وهذا النص شامل لهم؛ ويقول سبحانه (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وهذا عام يشمل هذا الأمر، ولأن عقد التدريس، أو العمل في التربية والتعليم، شرطه الالتزام بالمناهج وخططها، وهذا شرط صحيح معتبر شرعا؛ لأدائه إلى المصالح الغالبة الكثيرة، ويحرم مخالفة شرط العقد الصحيح المعتبر؛ لأنه من مقصود العقد اللازم الوفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ولأن الله أمر بطاعة أولي الأمر في كل ما فيه مصلحة عامة معتبرة، ومنها ولا بد السير على المناهج وخططها التربوية والتعليمية، وهذا هو الأصل.

تهميش المواد الشرعية أو التكنولوجية منكر

وحرم تفويض وضع المناهج وخططها لجهات جاهلة، أو مضلة بعمد أو غير عمد، بإجارة عدو لها أو بدون أجر. فإن حصل ذلك وجب على مدرسٍ وسائر الجهات التعليمية فعلُ ما يعالج الخلل، من بيانٍ للصواب أثناء التدريس، وإعداد مذكرات مصاحبة للطالب تغني وتصحح ما أُفْسِد في المناهج. ووجب على نقابات التعليم اتخاذُ وسائل التغيير السلمية؛ لدفع الفساد بمظاهرات أو احتجاجات أو اعتصام ونحو ذلك بشروط في موضعها (¬1)، وهذا كله أدنى الواجب. وأعلاه قيام الشعب: بمحاسبة ومقاضاة مفسدي مناهج التعليم، وعزل متورط في ذلك؛ لأن فساد المناهج من الفساد العظيم في الأرض، ودفعه واجب. فإن قام به من الشعب فئة واستطاعوا؛ سقط فرض الكفاية، ورفع الإثم عن الناس. وإلا فواجب على الكافة تعزيزهم ونصرتهم بكافة الوسائل حتى التغيير للمنكر. وهذا من أكبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون عليه؛ لتعلقه بالضرورات الكبرى، والتعاون في ذلك فرض؛ لأدائه إلى زوال وكف المنكر وفاعِلِه بقوة الجماعة، ولو كان في أعظم الولايات رئاسة أو وزارة أو غيرها. - تهميش المواد الشرعية أو التكنولوجية منكر: وجعل مواد الشرع واللغة غير أساسية في المراحل الابتدائية والأساسية والثانوية؛ تعمد في تضليل الجيل بدينه وهويته العربية والإسلامية التي توصله لفهم الشريعة، وهو من الصد عن سبيل الله ومحاربة الله ورسوله؛ لأدائه إلى الجهل بالله ورسوله ودينه، وضروريات التكليف. ولأن جعلها في المواد الهامشية غير الأساسية تربية عملية للجيل على عدم تعظيم شعائر الله ودينه والاهتمام به؛ لانطباع هامشيتها في ذهن الجيل؛ ويظن أنه لا يجعلها الخبراء التربويون هامشيةً مع سكوت الساسة، ومجالس البرلمان، إلا أنها غير معظمة ولا مهمة ولا ضرورية. ¬

(¬1) - راجعها في آليات التغيير من كتابنا هذا.

بل قد ينغرس في قلوبهم أنها ليست مما يلائم العصر ونهضته؛ لذلك لم تجعل أصلا، ولا أساسا في التعليم. وهذا الفساد والتصور المنحرف يبين أن عدم الاهتمام بالمواد الشرعية والعربية في المناهج من أعظم المحاربة لله ورسوله والصد عن سبيله. وينبني عليه من المفاسد الفاحشة العامة المؤثرة على الجماعة والكلمة والقوة. ولا تظهر الفُرْقة وانشقاق صف أهل الإسلام إلا بإضعاف ما يجمعهم كفرض شرعي وهو دين الإسلام وما فيه من الأمر بالجماعة، والعدل والإحسان، ونبذ المظالم وإيتاء الحقوق والحريات والتكريم للإنسان وتعظيم الله ورسوله وإقامة الدين. ويظهر ما في النص «اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (¬1)، وهذه مفاسد كثيرة وكبيرة. ولا بد أن تظهر الفرق الضالة والغلاة في الدين، ويظهر نتيجة لهذا تكفيرُ المسلمين لبعضهم الموجب لسفك الدماء، وسب وتفسيق وتكفير الصحابة، وإيذاء عرض النبي صلى الله عليه وسلم، ودعوى حق إلهي في الحكم لعرق مفضل على غيره معارضين (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). وتؤدي هذه الأمور غالباً إلى: الفتنة والقتل والقتال بين أهل الإسلام. وتدخل الدسائس والمكر والكيد حال ذلك من عدوهم. وتضعف الأمة ويُتَمكَّنُ منها، ومن استعمار بلادها ونهب ثرواتها. ووقع هذا بتواتر التاريخ، ويقع إذا وجدت هذه السياسة الخاطئة. فوجب قطعا دفع هذه المفاسد الكبرى التي تغضب الله، وتوجب عقوبته. وأكبر دفع لها بتعليم شريعة الإسلام الوسطية بالدليل بلا تعصب، وتدريس آلاتها من: لغة وأصول ومصطلح وعقائد في مناهج التدريس للأجيال بمنهجية وسطية قائمة على الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، دافعة للتعصب لمذهب أو فئة أو سلالة أو أقوال، خادمة ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وجوب تدريس قطعيات الشريعة

لجمع الكلمة وحفظ المقاصد الكبرى: دينا، وعرضا، ونفسا، ومالا، وعقلا، وجماعة. وكذا تهميش المواد التكنولوجية المعاصرة وعدم الاهتمام بها منكر؛ لأنه يبطل القيام بفرض الكفاية، وتعلم هذه العلوم فرض كلي على الأمة؛ لأنه من أعظم وسائل القوة المعاصرة، والشرع أمر أمرا ملزما بالإعداد الشامل ووسائله (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). وتعليم علوم العصر بتقنيات العصر هو باب النهضة الشاملة، فإذا قصَّرت الدولة في تعليم ذلك، فقد أخلت بفرض، وعلى الشعب بوسائله السلمية الرسمية والجمهورية إلزامها بذلك، فإن التزمت وإلا عزلت. - وجوب تدريس قطعيات الشريعة: ولا بد في الدراسة من الابتدائية إلى الثانوية من معرفة قطعيات الشريعة التي لا يجوز الجهل بها، وهي (¬1): أولا: في باب الإيمان والتوحيد والعقائد: مثالا لا حصرا: حرمة الشرك بالله ووجوب توحيده، وحرمة التحاكم إلى غيره ووجوب الحكم بما أنزل، والإيمان به وبرسله وكتبه واليوم الآخر وما فيه، والقدر، وحرمة عبادة غيره كالسجود لصنم، ودعاء حجر أو شجر، وعمل السحر والشعوذة والكهانة، وأن دين الإسلام هو الحق وغيره باطل (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، وأن تفريق الأمة وتمزيقها والفتنة بين أهل الإسلام كله حرام. وأن الردة عنه من أكبر الذنوب ولا تقبل رسميا ولا شعبيا ولا مجتمعيا (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، وهذا حكم دنيوي؛ لأن الحكم الأخروي منصوص عليه آخر الآية (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). والمرتد كافر له حكم الكفار أهل الفتنة (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39). ¬

(¬1) - راجع كتابنا «فقه المقاتل» في مبحث العقيدة، وهذا منقول منه وهو كتاب طبع منه أكثر من 100 ألف نسخة للقوات المسلحة، وقدم له شيخنا العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، ووزع رسميا.

ثانيا: في باب العبادات

وأن الصحابة ومنهم آل البيت ناجون يوم القيامة قطعا بالدليل القطعي (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم: 8). ولم يقل «آمنوا به»، وإلا لشمل كل مؤمن إلى يوم القيامة، فدل على اختصاص هذه الآية بالصحابة. ومن سبهم أو فسقهم أو كفرهم فقد ناقض القرآن في قوله تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات: 7). ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأصحابه وآل بيته فهو ملعون في القرآن (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 57 - 58). والترضي عن الصحابة والآل مشروع؛ لأن الله ترضى عنهم (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100). وكذا الاستغفار لهم (وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10). وكل من آمن وقاتل قبل الفتح أو بعده فلهم الحسنى مع تفضيل الأولين (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد: 10). وما جرى بينهم فهو إلى الله؛ لأن الله لم يكلفنا بالحكم بينهم، ولا يسألنا عن ذلك؛ لعموم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 141). ثانيا: في باب العبادات: فمن قطعياتها وجوب الوضوء والطهارات للصلاة، ووجوب الصلاة والصيام على كل مسلم، والزكاة، والحج لبيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وبيان تفاصيل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه قولا وفعلا وتقريرا.

ثالثا: في باب الأموال

ثالثا: في باب الأموال: حرمة الربا وحل البيوع، وحرمة أكل أموال الناس بالباطل، وحرمة أكل مال اليتيم، وحرمة الغش والخداع والتدليس في السلع، والتغرير والغلول، والأصل الإباحة في المعاملات. رابعا: في أبواب الأسرة والمجتمع: الإحسان، والمعاشرة بالمعروف، والنفقة من قادر على من يلي أمرهم من والدين وزوجة وأبناء وأقرباء، وحرمة الإضرار بالزوجة والزوج، وحرمة عقوق الوالدين، وحرمة إظهار الفواحش ونشر الرذائل، وحرمة الزنا وسائر الفواحش، وفرض لبس الحجاب على المرأة وهو ستر كامل بدنها سوى ما ظهر، وفي الوجه والكفين خلاف. والإحسان إلى الخلق من جار وصاحب وذي قربى، وأن النكاح بين المحارم بنسب أو رضاع لا يجوز، وأن يتعاون الناس على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. خامسا: في أبواب السياسات والأمن الداخلي والخارجي والأبواب العامة: وجوب إقامة العدل بين الناس، وتحريم الظلم، ووجوب نصرة المظلوم، وحرمة تولية الفاسق الظالم، والإنصاف من الظالم، وحرمة الرشوة، ولزوم إقامة الحدود الشرعية على مستحقها، وحرمة القتل وقطع الطريق والسرقة والنهب والاختلاس والزنا والفواحش والخمر والميسر والقمار وأكل لحم الخنزير والميتة والدم، ولزوم الصدق، وحرمة التجسس -إلا على العدو المحارب- والغيبة والنميمة، والمنع من البطر والكبر والنفاق والرياء، وتحريم الفرار من الزحف، وشهادة الزور، وقذف المحصنات، وتحريم موالاة أهل الكفر على أهل الإسلام، والعمالة لهم على المسلمين. - التأهيل الشرعي للعلماء العدول: ويكون في التعليم الجامعي والعالي مناهج مختصة في أقسام وكليات شرعية محضة لتخريج العلماء العدول الحافظين لوسطية الإسلام، وهذا فرض على الدولة والمجتمع لما في ذلك من دفع المفاسد التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا

دراسة علوم التكنولوجيا المعاصرة مقصود شرعي للاستخلاف

ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» أخرجه البخاري. وذلك فرض على الدولة بدلالة قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)، ولا تمكين للدين مع الصد عن تخريج فقهائه لتعليمه ونشره ووضع مناهجه، بل هو عين الصد عن سبيل الله ومحاربة الله ورسوله؛ لأن منع الشيء بمنع سببه أمر قطعي في العادة. فمنع تأهيل عالم: منعٌ لتعليم الشرع، وتيسيرٌ للضلالات والجهل ومنع تأهيل الطبيب هو منع لتعليم الطب ونشر لفساد الأبدان، وهكذا في سائر العلوم والأسباب والعادات الجارية. فمن منع علوم الهندسة أو التصنيع أو الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء فهو محارب لمصالح العباد والبلاد، صادٌّ عن الخيرات، داع إلى المفاسد والشرور، وهكذا الشريعة وعلمها. ومنكر هذا منكر للأسباب ومسبباتها، جاهل أو فيه جنون، أو كاذب مفسد مزين للفساد ومجادل عنه بما تنكره العقول والعادات الجارية والعلل والأسباب والسنن المستمرة. - دراسة علوم التكنولوجيا المعاصرة مقصود شرعي للاستخلاف: وواجبٌ كلي التأهيل والتخصص في علوم العصر؛ لأنها من القوة العامة للأمة. ودراسة علم الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلوم التكنولوجيا فرض كفاية بإجماع، وفرض عين على الدولة تحقيقه، وهو مطلوب شرعا بعموم الطلب (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101) وهذا أمر بالنظر بـ (مَاذَا) فهو أمر للكشف عن الماهية والحقيقة للشيء، وهو ما تدور عليه هذه العلوم. وطُلِبَ شرعا السير في الأرض لكشف حقائق الأرض والمخلوقات وأحوال الأمم وأسباب هلاكها (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69).

لا يجوز استثمار العلوم للفساد في الأرض

والطلب فرض كفاية يوجب إقامة دراسات وأبحاث، ووسائلها مطلوبة. وشُرِعَ الطب بدليل «تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء» (¬1)؛ ولعموم (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) (الروم: 8). وعلة التفكر يُتوصَّل إلى حقائقها بتمام معرفة علوم الطب بمختلف فروعه وتخصصاته. ولأن هذه العلوم من إصلاح الأرض وعمارتها وهو مقصود شرعي للاستخلاف (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129). (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، (وَأَصْلِحُوا) (الأنفال: 1)، (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) (الأعراف: 56). - لا يجوز استثمار العلوم للفساد في الأرض: وحرم استعمال هذه العلوم للفساد في الأرض؛ لأنه خلاف مقصدها؛ ولأن الفساد في الأرض محرم قطعي، فحرم تدمير أصل الخليقة بالتغييرات الوراثية الجينية؛ لأدائه لتغيير خلق الله وفطرته وهو من عمل الشيطان المنصوص عليها (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119). وحرم استعمال الأسلحة الجرثومية والكيميائية والنووية؛ لعظيم فسادها في الأرض. ولزم دفعها ومنعها على كافة الدول، فإن اختصت بها دول وجب على أهل الإسلام صناعتها كسلاح ردع يدفع استعمال الغير له عليهم، لا صناعته لقتل الخلق به. - وجوب تدريس علوم التصنيع: وسائر علوم التصنيع الحديثة واجب تدريسها بمعرفةٍ لأسسها العامة بدءا من مراحل التعليم المتوسط والثانوي؛ لعموم الأمر بالطلب في النظر والبحث في الأرض، فشمل كافة المستويات، وقيدناه بالمتوسط والثانوي؛ لأنها لا تستوعب قبله غالباً. ¬

(¬1) - قولنا «وشرع الطب بدليل .. » الحديث في الأمر بذلك في سنن أبي داود برقم 3857 وسنده صحيح على شرط البخاري، وهو في الترمذي برقم 2038 وقال حديث حسن صحيح، واللفظ لأبي داود عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير فسلمت ثم قعدت فجاء الأعراب من ها هنا وها هنا. فقالوا يا رسول الله: أنتداوى؟ فقال «تداووا فإن الله عزوجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم».

علوم العقائد والتوحيد والإيمان

ووجب تعليمها في الدراسات العليا لطائفة مختصة في دراسات تخصصية بتقنية عالية؛ للقيام بفروض الكفايات الخادمة للمصالح العامة الكبرى للأمة. - علوم العقائد والتوحيد والإيمان: وفرضٌ تعليم العقيدة المدلل عليها كتابا وسنة، لحفظ الجيل من الانحراف والغلو. وعلمُ الإعجاز العلمي من بينات الرسالة في عصرنا، فهو مصدق للرسالة ومثبِّت للإيمان، ودامغ لشبهات الملحدين واللادينيين والماديين، وما كان كذلك كان من وسائل حفظ الدين، والوسائل لها أحكام المقاصد. والعقائد لها فروع تشمل: علم الأسماء والصفات، والفرق، واحترام الصحابة ومنهم الآل، وحفظ الجماعة العامة. ونوع يبين الشركيات وأنواعها، وإفراد الله بالحاكمية، والدعاء، والاستغاثة، ومصدر التلقي. ونوع يبين آيات الله في الخلق والكون. وكل هذه الأنواع مأمور بتعلمها على وجه العموم، وما اشتد طلبه أعطي أكثرية في التعليم بحسب الحال وواقعه والمآل ومتوقعاته. - علم اللغة: وعلم اللغة آلة قراءة القرآن وفهمه، فوجب منها ما يقوم بذلك، والتوسع فيها فرض كفاية على طائفة؛ لأن القرآن والشرع بلسان عربي مبين غير ذي عوج، ولا يتمكن من معرفة دقائقه إلا بالتعمق في لسانه؛ فَفُرِضَ كفايةً. - تشتيت العلوم والمعلومات سياسة خاطئة ولا يجوز تشتيت العلوم على الطالب بإساءة تأليف وترتيب وعرض؛ لأنه يعسِّر العلم ويبغِّضه إليه، وهذا ضرر فاحش فوجب دفعه شرعا، ولأن التعسير ممنوع شرعا بالنص «يسرا ولا تعسرا» (¬1)، قال ذلك صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما على اليمن واليين ومعلمين. ¬

(¬1) - متفق عليه وتقدم تخريجه.

توفير كتب المنهج قبل بدء الدراسة مصلحة شرعية معتبرة

ويدرس كل مادة مختصٌ فيها، أو متقن لها، فيلقن القرآن ماهر، ويدرس الشريعة من تفسير وحديث وفقه عالم بمسائل الكتاب المقرر -كحد أدنى- أو عالم شرعي مختص. واللغة يدرسها عارف، وعلوم التكنولوجيا الحديثة يدرسها مختصون خبراء. ويحرم في أي فن أن يدرسه من يجهله (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)، وهذا نهي يفيد التحريم. ولقوله تعالى (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) (آل عمران: 78)، فذم من أوهم الناس وهو يعلم، وكذلك ذم من أوهم الناس وهو لا يعلم، فقال ذاما لهم (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (البقرة: 78)، وقال (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 169). وإذا تعذر إيجاد مختص أُخِذَ الأدنى، وفي حالة الضرورة يقوم مقام المختص في التدريس عند عدمه آخر ولو لم يبلغ مبلغ سابقه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. - توفير كتب المنهج قبل بدء الدراسة مصلحة شرعية معتبرة: ومن المصالح توفير كتب المناهج للطالب قبل بدء الدراسة بمدة كافية لاستلام كافة الدارسين؛ لأن تأخيرها إلى بدء الدراسة يُضَيِّع على الطالب متابعة الكتاب، ومذاكرة الدروس، ويزداد الضرر بزيادة التأخير، وهذا خلاف العقد، والوفاء به واجب على الجهات المسئولة في المؤسسة التعليمية؛ لعموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). وتأخير توفير المناهج إخلال بمهمةٍ من شروط العقد، ويأثم ولي الأمر، ووزير التربية، والجهات المسئولة عن ذلك، ووجب مساءلتهم برلمانيا أو قضائيا؛ لأنه من اختصاصهم المنصوص عليه في لوائح وظيفتهم. فإن لم يُنصَّ فهو من مقتضيات العقد عرفا وشرعا، وكل شرط يقتضيه العقد للمصلحة فيه فهو منه، ويلزم الوفاء به؛ لأنه جزء معتبر مقصود من تفسيراته، فيدخل في عموم الأمر التكليفي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).

مجانية الكتب المدرسية

- مجانية الكتب المدرسية: وإن كانت الكتب مجانية، فلا مانع من إلزام الطالب برد الكتب آخر العام، ويضمن ما أتلف؛ لأن ذلك شرط مصلحي عام بأمر من الدولة فيلزم طاعتها فيه شرعا؛ لعموم (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وهو يخفف المؤنة على المال العام، وهذه مصلحة معتبرة، فإن ألزم بها من جهة الدولة دخلت في وجوب طاعة ولي الأمر. ولأن ذلك يعلم الطالب الحفظ للمال العام، والإحسان في الحفظ، والحب للغير الآتي بعده ما يحب لنفسه، من سلامة ونظافة الكتب. والأولى أن يكون الكتاب مجانيا؛ لأن المال العام أصل مقصوده خدمة مصالح المسلمين، ومن أكبرها دعم العلم وكتبه ووسائله. ومن تعذر عليه شراء الكتب لفقر وجب على الدولة توفيرها له مجاناً، فإن تعذر ضبط ذلك لكثرة الفقر وغلبته، وجب تعميم المجانية بدعم من المال العام؛ لأنه يخدم مقصد حفظ العقل، وخلافه يؤدي إلى غلبة الجهل العام، وهو من أعظم المفاسد العامة الواجبة الدفع. ولا يجوز لمدرس أو مدير أو جهة في المؤسسة التعليمية بيع ما يوزع مجانا من الدولة كالكتاب المدرسي، ولا الزيادة على سعره إن كان بيعا من الدولة، ولا مانع أن يحال مخالف ذلك إلى التحقيق للنظر في شأنه. ولا يتهاون في ذلك؛ لأنه من الفساد، وقد لعن الله بني إسرائيل لعدم تناهيهم عن المنكر (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 - 79). الركن الثاني للعملية التعليمية: المدرس المدرس قائم بوظيفةٍ من القربات الشرعية العظيمة؛ لأن تدريس العلوم النافعة وطلب العلم، وتعلمه، وتعليمه من أصول مطلوبات الشريعة.

حقوق المعلم وواجباته

والتعليم وظيفة الأنبياء والرسل (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2). والنصوص في ذلك قطعية الثبوت والدلالة في القرآن والسنة. ويجب للمعلم وعليه أمور: - حقوق المعلم وواجباته: يجب للمعلم: أ- تأهيل علمي تام. ب- كفاية مالية عادلة. ج- إكرامه معنويا في عمله من طالبٍ وإدارةٍ ودولةٍ ومجتمع. ويجب عليه: أ- تحضير تام. ب- تدريس مُفْهِمٌ للطالب. ج- متابعة الطالب فيما يتعلق بالتحصيل والسلوك. د- لزوم المحاسن؛ لأنه محل قدوة وتعليمٍ بالعمل كما هو محل تعليم بالقول. -تأهيل المعلم: أما لزوم تأهيل المعلم: فلأن وظيفته عقد على المال العام، وتوظيف غير مؤهل أو مؤهل يغلب عليه ضعف يعتبر غشا للأمة «ومن استرعاه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (¬1) وهذا نص على حرمة الغش للرعية وهو من كبائر الجرائم والذنوب؛ لتحريم الجنة عليه. والغش أصل استعمالاته العربية راجع إلى ستر الفساد في الشيء، وإظهار ما يوهم صلاحه. ومنه الغشاوة على العين (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (البقرة: 7)؛ لأنها تغطي الحقائق، وتصور الأمور على غير وجهها. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الجامعات والمعاهد العلمية لتأهيل المعلمين

وكون المعلم غير مؤهل مع اعتماده مدرسا، هو من تعمد التستر على فساده المتعدي إلى الخلق في التعليم، وكذا هو فساد باعتماده موظفا في التدريس بدرجة معقودة على المال العام. وهذا غش وضرر محرم على التعليم وعلى المال العام. والولاية العامة لا تتضمن الضرر، بل المصالح الغالبة، وهذا ليس منها. ولأنه تمكين للتكلم في العلوم من غير أهلها، وهو محرم (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36). ولأن مفاسده متعدية «اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (¬1)، لذلك وجب تأهيل المعلم. - الجامعات والمعاهد العلمية لتأهيل المعلمين: وواجبٌ اتخاذ وسائل تأهيلية على الدولة للقيام بتأهيل المعلم؛ لأن ذلك من المصالح العامة الكبرى، وتحصيلها على الدولة؛ لأن من مقاصد عقد الولاية رعاية المصالح الكبرى. وما كان لا بد منه من الوسائل لتأهيل المعلم شُرِعَ بِحَسَبه، وقد يجب إن لم يتم إلا به استقلالا أو استكمالا. ويطلب في الجملة ما حقق تمام المصالح العامة، كإنشاء كليات متخصصة في التربية والتعليم، والدراسات العليا، وكمعهد عال للتعليم والتربية يختص بإعداد تخصصات، وخبرات تعليمية وتربوية وإدارية مختصة للمؤسسة التعليمية، بدرجة عليا: كالماجستير والدكتوراة. والمتخرج من هذه المؤسسات مقدم على غيره في إدارة المناصب الهامة في التربية والتعليم: كمكاتب التربية، والمراكز والمجمعات التعليمية الكبرى، وإدارات المناهج والتوجيه والتأهيل، وتدريس المواد التخصصية في أهم مراحل التعليم، وتدريس المعلمين في كليات التربية والتعليم. وهذا كله ونحوه يحقق كثيرا من المصالح العامة الكبرى للبلاد. وما كان كذلك اشتد طلبه شرعا. ¬

(¬1) - الحديث في البخاري وتقدم تخريجه.

الكفاية المالية العادلة للمعلم

- الكفاية المالية العادلة للمعلم: وأما الكفاية المالية العادلة للمعلم؛ فلأن وظيفته هي عقد إجارة، وعقد الإجارة عقد معاوضة محضة. وقاعدة عقود المعاوضات المنع من الغبن الفاحش؛ لأنه من الظلم، ومن أكل أموال الناس بالباطل، وهو منصوص على حرمته. والغبن الفاحش هو: دفع العوض غير العادل بنقص كثير لا يتسامح الناس فيه غالباً. وراتب المعلم العادل هو: القائم على ضروريات حياته، وحاجياته، وتحسينياتٍ حافظة لمروءته. وإنما قلنا «تحسينات حافظة لمروءته»؛ لأن ما حفظ المروءة من التحسينات له حكم الحاجيات (¬1). وعلى هذا فالراتب العادل يكون كافيا له ولأسرته، مأكلا ومشربا وملبسا وسكنا -ولو بإيجار- وعلاجا اعتياديا (¬2)، ومواصلاته، وفواتير الخدمات من كهرباء وماء، فهذه ضروريات وحاجيات. ومن التحسينيات القائمة مقام الحاجيات له: كفاية راتبه لاتصالاته المعتادة، ولياقة ملبس بتوسطٍ له ولأسرته، وتوسط في أثاث، وإكرام ضيف، وصلة رحم بهدية، أو مال في مناسبات جرت العادة عليه كنحو عيد. وقلنا «بهدية» أو «مال»؛ لأن الصلة بالزيارة مستمرة طوال العام بما جرت به العادات، ويرفع به قطع الرحم. فالراتب العادل: قائم بذلك على وجه التوسط العرفي. ولما كان المعلم وغيره من موظفي الدولة يبذل ثلث عمره في دوام رسمي بمعدل ثمان ساعات يومياً، في مقر عمله ست ساعات، وساعة سابقة وأخرى لاحقة في الغالب للوصول ¬

(¬1) - هذه قاعدة هامة مقاصدية فتح الله بها، وهي «التحسينات الحافظة للمروءة لها حكم الحاجيات»، وهذه القاعدة تضم إلى قاعدة العلماء المشهورة «الحاجيات لها حكم الضروريات»، وإنما قيدنا التحسينات بهذا القيد؛ لأنها واسعة ويتعذر إن أطلقنا كفاية الراتب لها، فلزم هذا القيد. (¬2) - قلنا ذلك احترازا من عدم كفايته للحالات غير العادية، المزمنة والمستعصية ..

إلى عمله والرجوع إلى منزله باستمرار لا يقطعه إلا الموت، أو المرض المقعد، أو التقاعد بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وهو عامل في المصلحة العامة. فإن كان راتبه المعاوض به لذلك لا يوفر له طوال هذه المدة بناء سكن بأدنى مستوياته، ولا ملبس يليق به ولا بعياله، ولا أثاث كريم، أو تعليم له ولأولاده في مراحله الأساسية والثانوية، أو في مراحله الجامعية والعليا، ولا يستطيع به رعاية صحية لنوازل المرض في نفسه وأهله، ولا امتلاك سيارة للقيام بحاجياته، بل يظل محتاجا طوال شهره ودهره مدينا لا للترفهات؛ بل لتوفير المواد الغذائية الضرورية له ولأسرته. فهذا الوضع حيث كان، وأينما كان في دولة مسلمة أو كافرة وضعٌ مخالف لمقصد الشريعة في تكريم الإنسان وإيتائه حقوقه بالعدل، والله سبحانه يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). ويقول (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). فالموظف معلما كان أو غيره، قائم بإحسان في دوامه خدمةً للمصلحة العامة وللدولة، عمرَه وشبابَه؛ يجب في حقه معاوضته في راتبه بإحسان مقابل إحسانه. ويعدل معه كأمثاله الوسط في مجتمعات العالم، وهذه هي أجرة المثل العادل، بخلاف الذي يماثله في المظلومية، أو يكون أكثر منه مظلومية، فهذا لا يقاس عليه. فوجب تعديل قوانين الرواتب؛ لتكافِئ بتوسط حاجيات وضروريات وتحسينات الموظفين، فإن لم يكن ذلك كذلك فهو غبن فاحش محرم، وظلم ممنوع، وانتهاز للناس وجهودهم بغير عدل ولا إحسان. ويحق للموظفين في الدولة ونحوهم من القطاعات الخاصة إقامة النقابات للمطالبة بحقوقهم وتسوياتهم؛ لأنه تعاون على البر والتقوى المشمول بعموم النص (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2).

إكرام المعلم

- إكرام المعلم: وأما الأمر الثالث مما للمعلم فهو: إكرامه عموما؛ لأن الإكرام يثمر المنافع (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21). فالطلاب يُعَلَّمون إكرام المعلم وتوقيره، والتأدب معه، والإنصات لدرسه، وعدم الإساءة له، فكل هذه الأمور من المحاسن المأمور بها شرعا؛ لأن تركها إساءةٌ وقلة أدب تمنعه الشريعة. وما بُعِثَ رسول الله إلا لتمام المكارم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1)، وهو من مقاصد الشريعة الحاجية والتحسينية كما بينته في كتابنا الحاصر لمقاصد الشريعة (¬2). ويُكْرَمُ المعلم في محل عمله من زملائه، والموجهين، والإدارة. ومجتمعيا: من أولياء أمور الطلاب، وغيرهم من شرائح المجتمع، وقد قال الله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83) أي: ولو كافرا، وقال سبحانه (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8). فشرع البر والقسط مع العالم من مشرك وكافر مسالم؛ فكيف بالمسلم إن أحسن إليك، فعلمك العلم؛ فالبر والإكرام مأمور له بالأولوية القياسية، وبالنصوص العامة في الحقوق والآداب. - يجب على المعلم تحضير الدروس: وأما ما يجب على المعلم: فتحضيره للدروس، وهو واجب بالعقد لأنه من لوازمه، فيشمله عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ويأثم إن لم يحضر بإحسان يحقق مقصود العقد، أو إن لم يحضر البتة؛ لأن التحضير شرط معتبر في العقد، والإيفاء بالشروط المُقِيمة لمقتضى العقد لازم بلا خلاف، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا. ومن أخل بالتحضير أساء في التدريس، مع خلافه الضار لشرط العقد. والإساءة في العقود ضرر؛ والشريعة دافعة للضرر. ¬

(¬1) - صحيح، تقدم تخريجه. (¬2) - مؤلف جامع لمقاصد الشريعة، أعمل فيه من سنين مع صغر حجمه، قاصدا فيه أن يعرف الناس مقاصد الشريعة بعيدا عن وعورة اللفظ والمعنى، أسأل الله أن يعين على إخراجه ونشره ويجعل له القبول.

لا يخصم من الراتب إلا إن كان مجزئا عادلا

- لا يخصم من الراتب إلا إن كان مجزئا عادلا: ومن أخلَّ بما عليه لحقته العقوبات الإدارية العادلة المنصوصة في اللوائح والأنظمة؛ لأنها جزء مفسر للعقد فصارت منه. ويجوز وقد يجب خصمٌ من راتب مجزئ عادل على من أخل بواجبات العقد الوظيفي في التعليم وغيره، ففي التعليم كالتحضير للدروس والدوام والانضباط ونحو هذا؛ لأن الأجر معاوضة مقابلها عمله، والتحضير من أمهات مقصودات عمله. فإذا أخل بجزء مقصود في العمل؛ جاز خصم عادل. ويجب الخصم: إن فحش الإخلال؛ لأن المال العام أمانة، وتسليم راتب عادل كامل لأجير مخل تضييع وإهدار للمال العام؛ لأن الولاية عليه ولاية نظر، وليس هذا من النظر. وقولنا: «من راتب مجزئ عادل»، هذا شرط للخصم؛ لأن الراتب غير العادل، وهو: ما لا يقوم بضرورياته وحاجياته لا يخصم منه؛ لأنه قد خصم منه بالغبن الفاحش ظلما في أصل الراتب. فيعزر مخل بالعملية التعليمية إن ضاق راتبه وضعف بأمور إدارية لا مالية، لأن الضرر لا يدفع بالضرر. والخصم مع قلة وضعف الراتب زيادة في الضرر، ولا يقال: يحتمل الضرر الخاص بدفع الضرر العام هنا، لأن هذه القاعدة عند التزاحم وعدم إمكان غيره. وهنا يمكن تأديبه إداريا، وهو يحقق المقصود، فرجحت قاعدة: الضرر لا يدفع بالضرر أو بمثله «هنا»؛ لذلك (¬1). ولأن الضرر الخاص هنا، وهو: خصم من راتب ضعيف يلحق الضرر بالضرورات المعيشية المباشرة له ولأسرته بخلاف الضرر العام، وهو هنا: عدم التحضير أو الإخلال به، فعائد على وسائل تكميلية تخدم بعض المقاصد التحسينية، أو الحاجية المطلوبة. ¬

(¬1) - أي: لأن هذه القاعدة وهي: يحتمل الضرر الخاص بدفع العام، إنما يعمل بها عند تزاحم الضرر العام مع الضرر الخاص، والتزاحم هنا يمكن دفعه بعقوبة إدارية لا مالية من راتب ضعيف؛ لأنها ضرر فاحش مؤثر عليه وعلى من يعول، فأشبه العام.

الواجب على المعلم التدريس المفهم

وملاحظة الضروريات المعيشية له ولأسرته مقدمة؛ فلا يخصم من راتبه إذاً، ويعاقب بغير ذلك. - الواجب على المعلم التدريس المفهم: ويجب على المدرس تدريسٌ مفهمٌ للطالب. وقلنا «تدريس مفهم للطالب» ولم نقل: إفهام الطالب؛ لأن العبرة بالواقع في ركن العقد، وهو: عمل المدرس بإتقان، يَفْهم به الطالب الدروس عادة وغالباً. وليست العبرة بإفهام الطالب؛ لأن عدم فهمه قد يكون لانشغاله هو، أو لعدم تركيزه، أو لغير ذلك مما هو سبب فيه لا المعلم. - متابعة تحصيل وسلوك الطالب: ومما يجب على المدرس: متابعة تحصيل الطلاب وواجباتهم وسلوكهم، بما هو من مقصود عقده الوظيفي التربوي والتعليمي، وتحت يد الإمكان منه. وما تعذر وتعسر عليه في ذلك فلا يكلف به المدرس ولا يتحمل مسئوليته (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). وقلنا «تحت يد الإمكان منه»: حتى لا يكلف ما خرج عن ذلك، وهو ما كان في محل وظيفته في المدرسة، فلا يكلف متابعة الطالب خارج ذلك. الإدارة التربوية والتعليمية والواجب في تعيينات المؤسسة التعليمية في كافة إداراتها التزام شرط العدالة والكفاءة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وهي من أعظم الأمانات. وهذا الأمر شامل لوزراء التعليم المدرسي، والعالي، والمهني، ووكلائهم، ونوابهم، ومدراء العموم، ورؤساء الإدارات والأقسام، ومدراء المراكز التعليمية، ومدراء المجمعات التعليمية والمدارس والمعاهد، ورؤساء وأمناء وعمداء الجامعات والكليات، وسائر إداراتها. ويحرم تولية فاسد، أو غير كفء. وشرط الانتماء الحزبي أو المناطقي أو العائلي غير معتبر شرعا، فإن عاد على التعليم بالفساد بطل؛ لأن الشروط الضارة بالعقد باطلة في الأصل.

الدوام الإداري

الدوام الإداري: ويجب عليهم الالتزام بالعقد لفظا ومقصودا: من دوام تام، وقضاء مصالح العباد المتعلق بعملهم، وإنجاز الأوراق والمعاملات، ورفع ما يحتاج إلى رفع. وتحرم مماطلة وإهمال وتضييع الوثائق. ويضمن مخالفٌ، ويفسق بأخذ مال رشوة مقابل إنجاز عمل، ويحاسب، وقد يعزل إن اقتضى الأمر. ويجب إيتاء الحقوق والمرتبات والعلاوات في مواعيدها، ويحرم تأخيرها؛ لأنه حق أجير فوجب إيتاؤه فورا. ولا يجوز الخصم ولو قل إلا بأمر ينظم ذلك وتيقن المخالفة ممن خصم منه؛ لأن أموال الناس محرمة بيقين ولا تحل إلا بيقين. سرية الاختبارات وحرمة الغش ومحاسبة المتورطين: ويجب سرية الاختبارات؛ لأنها أمانة مقصود سريتها، فيحرم إفشاؤها، وتعظم حرمة إفشائها أو تسريبها مقابل مال أو عوض، ويقاضى فاعله فورا، ويعزل لعظيم فساده. وكذلك يقاضى ويعزل من تورط في تسهيل غش الطالب للاختبارات، أو باع دفاتر، أو سكت عن هذا المنكر وهو قادر على منعه؛ لأنه متواطئ فاسق ومعاون على الفساد، أو باع شهادة مزورة أو زورها، ولكل حالة حكمها بما يناسبها، فلا تجري المسائل على قانون واحد. ومن برئ اعتذر له، وعوض بما يراه قاض، أو نص قانون إن وجد؛ لأنه ضرر بالغ في سمعته، وهي عرضه وحفظها واجب، ولأن ذلك يلحق الضرر به ماديا ومعنويا، وقد تحجم جهات عن توظيفه، أو التعامل معه لذلك؛ فيدفع الضرر عنه وجوبا باعتذار مناسب دافع للضرر وتعويض عادل إن اقتضى الأمر. غياب الموظف والمعلم: وإن تغيب الموظف أو المعلم أقامت الإدارة مكانه، وإن بخصم من راتبه، إلا إن كان لعذر فالعوض على الجهة في ذلك. فإن طال غيابه لغير عذر، فلا يعاقب بالفصل حتى ينذر، وينظر في أمره؛ لأن سنة الله

الركن الرابع: الطالب

إقامة الحجج قبل المساءلة والمعاقبة (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، وهو كمال العدل، والله أمر به (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). ويجعل مكانه البديل عنه؛ لأنه استحق أولوية بالسبق مع الكفاءة، ولأن من سبق إلى مباح فهو أولى به (¬1)، وهذا أصل عام دلت عليه نصوص وتصرفات في الشرع، فيدخل فيه كل مباح في الأصل، وعقد الوظيفة مباح؛ فأثر في استحقاق الحكم بالسبق مع شرط الكفاءة. الركن الرابع: الطالب حق التعليم مشروع لذكر وأنثى؛ لعموم النصوص الطالبة للعلم والتعلم وما تعلق به. فتعم عموما ثلاثيا: عموم الأشخاص، والزمان، والمكان. كما هو مقرر في الأصول. والدفع بالطالب ذكراً وأنثى للمدارس التعليمية مطلوب شرعي وسيلي على الآباء والدولة والمجتمع؛ لأنه ما لا يتم المطلوب الشرعي إلا به فهو مطلوب. وطلب العلم مطلوب، ووسيلته الهامة الدفع بطلابه إليه من الأسرة والمجتمع والدولة، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. الحملة الإعلامية للتعليم والنفقة التعليمية: ويحسن حملة إعلامية حاثة على التعلم، خاصةً بداية كل عام، وفصل دراسي، وبداية الاختبارات، وتتولى نفقة ذلك الدولة؛ لأنها من وسائل خدمة المصالح العامة الهامة، فكان من المال العام؛ لأن من مقصوداته إقامة مثل هذه المصالح العظيمة. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوض عن المال مصلحة تعليمٍ للأميين: القراءة والكتابة. وهذه قصة صحيحة مشتهرة وقعت بعد غزوة بدر (¬2)، فاعتبر التعليم للناس مصلحة ¬

(¬1) - «من سبق إلى مباح .. » قلت: له أدلة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم «من أحيا أرضا ميتة فهي له» وهو حديث صحيح على شرط الشيخين، أخرجه الترمذي برقم 1379، وقال حسن صحيح. ومنها عند البخاري برقم 2335 عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق». (¬2) - قولنا «وهذه قصة صحيحة مشتهرة .. » قلت: أخرجها الإمام أحمد برقم 2216 عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوما غلام يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي. قال: الخبيث يطلب بذحل بدر والله لا تأتيه أبدا. قلت: هذا حديث حسن صحيح، وسند أحمد فيه علي بن عاصم مُخْتلَف فيه، وقد كان أحمد يقول: أما أنا فأحدث عنه، ومرة يكتب حديثه، ومرة يغلط ويخطئ ومرة هو والله عندي ثقة، ووثقه العجلي، وقال الحافظ صدوق يخطئ ويصر رُمي بالتشيع. قلت: يغني عن طريقه رواية الحاكم للحديث من طريق خالد بن عبدالله الطحان وهو ثقة حافظ من رجال الشيخين. فالحديث صحيح من هذه الطريق، وهو شاهد لطريق أحمد لأن ما نُقِمَ على علي بن عاصم هو الغلط والإصرار، وقد ارتفع هنا بموافقة الثقات له.

الزي المدرسي

شرعية عامة يعاوض بها بفك الأسير بدلا عن أخذ مال من الأسير الذي سيورد لبيت المال؛ فدل على أن الدولة تنفق على التعليم من المال العام؛ لأنها عاوضت به العلم. وعلى المولود له تكاليف تعليم ولده من قرطاسيات الطلب، ومواصلاته، ومصروف يومي، وزي مدرسي ونحو ذلك، ولا تكلف نفس إلا وسعها. وتتحمل الدولة ذلك إذا عجز، أو يتولى ذلك قادر من ذوي القربى، فإن لم فقادر مسلم؛ لعموم (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26). وحق التعليم لفقير على ذوي القربى من أخص مصالحه ومنافعه له دينا ودنيا فشمله الأمر في النص (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ). ولأنها مصلحة معتبرة من الحاجيات التي جرى عليها العصر. والأمر المطلق في نحو (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) يرجع في تقديره إلى العرف؛ لأن المقصود سد الحاجات، وهي تختلف زمانا ومكانا. وأما مشروعية النفقة من قادر مسلم على فقير إن لم يكن من ذوي قربى؛ فلأن من هذا حاله مسكين يشمله الأمر بإيتاء حقه في الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، وحقه حاجاته المعتبرة شرعا وعرفا. وأما الدولة؛ فلأن ولايتها ولاية نظر على الأمة في مال الأمة، وليس من النظر ترك قضاء حاجات الفقير، وحفظ ما هو من أخص مصالحه المتعلقة بحفظ مقصد من مقاصد الشرع الكبرى، وهو حفظ العقل. الزي المدرسي: ولا مانع من إلزام الطالب بزي مدرسي لأنه مباح متعلق بمصلحة عامة تحسينية،

مدارس الطالبات ومدارس الطلاب

ولأولي الأمر طاعةٌ في ما كان كذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وتَعلُّقُ الزي بمصلحة عامة تحسينية من حيث: إظهار نظامٍ ومنظرٍ حسن، ومساواةٍ بين فقير وغنيّ دفعا للخيلاء والفخر الحادث كثيرا في الصغار لقصورهم في النظر والرشد. وللذكر من الزي: ما يليق به فطرةً وديانة. وللأنثى: ما يليق بها خلقةً وفطرة وديانة. ولا يجوز إلباس الطلاب الذكور الزي المدرسي للبنات، ولا الطالبات زي الطلاب؛ لمخالفته الفطرة، والخلقة، والعقول، والأديان (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). ولعدم المصلحة في ذلك. ولأن الحجاب من جلباب وخمار: خاص بأنثى مراهقة، أو بالغة، لا لذكر؛ ولاختصاص الأنثى بوجوب إخفاء زينتها عن الأجانب حال مراهقة وبلوغِ ما بعدها من العمر (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31). وأكثر ما قيل في الاستثناء، الوجه والكفين. فبقي غيرهما بلا خلاف في وجوب ستره: كالشعر، والنحر، والصدر (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31). وسائر الجسد وغيره (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ) (الأحزاب: 59). وتوحيد زي مدرسي لذكر وأنثى باطل لا مشروعية له، ولا طاعة للجهة التي أمرت به، ولو كان ولي الأمر الأعظم؛ لمعارضته نصوصا قطعية؛ ولخلافه أصل الفطرة والخلقة؛ ولعدم جلبه لمصالح عامة سوى العبث، والهوى. والشريعة نزلت لإخراج المكلف عن داعية الهوى والعبث. مدارس الطالبات ومدارس الطلاب: والفصل بين طالبات وطلاب في التعليم يبدأ من: ظهور طفل على عورات النساء؛

لورود النهي عن إبداء زينة أنثى في حضرته (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء) (النور: 31). وغالب ذلك من العاشرة؛ ولذا فرق بين ذكر وأنثى أخوين في المضاجع من عشر سنين «علموا أولادكم الصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1). ولأن تصرف الدولة على الشعب باطل إلا بمصلحة راجحة أو محضة عامة، فإن لم تترجح المصالح ترجحا ظاهرا بطل التصرف. أو تساوت المصالح والمفاسد، فكذلك؛ لأنه عبث حينئذ، أو غلبت المفاسد، فكذلك. فما عدل عن رجحان المصلحة العامة أو تمحضها، لا حق للدولة ولا أولي الأمر أن يأمروا به الشعب، وأمرها باطل. وجمعُ بالغين ذكورا وإناثا أجانب في الدراسة لا يحقق أيَّ مصلحة غالبة، ولا محضة عامة، لا شرعية، ولا وطنية، ولا فطرية، ولا تعليمية، ولا يؤثر في نهضة، وما كان كذلك فالأمر به باطل. وإذا لم تكن المصلحة إحدى هذه الأمور فهي من اتباع الشهوات والأهواء (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء: 27). ولذا منع الاختلاط في التعليم في دول متقدمة كبرى، لا لملاحظة دين؛ بل لأنه عاد بالتأثير سلبا على التحصيل العلمي للجنسين، وهذه مفسدة تدفع، وهي كافية في المنع؛ لوقوعها بالتجربة والاستقراء من الدول المتقدمة، وهم ذوو خبرة أقر بها العالم بالاستفاضة والشهرة والتواتر، وهذا دليل على أنها لا تحقق مصلحة وطنية ولا تعليمية ولا نهضوية. ¬

(¬1) - قولنا «غالب ذلك من العاشرة .. » دليله حديث حسن صحيح أخرجه الترمذي برقم 407 بسند حسن، من حديث عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علموا الصبي الصلاة ابن سبع واضربوه عليها ابن عشر». وله شاهد حسن عند أبي داود برقم 495 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع». وبهذين الحديثين يكون الحديث حسنا لذاته وصحيح لغيره، وهو معنى قول الترمذي حسن صحيح، وتابعه الألباني.

الطابور

- الطابور: ولا مانع من إلزام الطالب حضورَ طابور الصباح؛ لأنه من المباحات الحسنة التي يتعلم فيها الطالب الإلقاء والمشاركة، ويستمع للتوجيهات التربوية من المدراء والأساتذة، وتُعلِّمُ الانضباط، والنظام، واللياقة، وتُساعد على حفظ صحة البدن وقوته. وهذه الأمور من المحاسن، والشريعة راعية للمحاسن القولية، والتعليمية، والمعنوية. وقد أثنى الله على إتقان الاصطفاف في القتال (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف: 4). فدل على أنه من المحبوبات الشرعية، وقد زادت القتال طاعة إلى طاعة. - تحية العلم: وتحية العلم عادة وطنية لا عبادية، فلها حكم العرف الرسمي أو المجتمعي؛ فلا تصادم الشرع؛ فلا مانع منها. والسلام الوطني أصله شعر حسن يحث على حب الوطن والدفاع عنه: دولة، وشعبا، وحماية استقلاله، وأمنه، واستقراره. وسماع معزوفته لا يشملها قول تحريم المعازف؛ لأن التحريم لما يؤثر في الغواية والهوى، والسلام الوطني ليس كذلك، بل يؤثر في محاسن تخدم الوطن. والقيام أثناءه أمرٌ لا مانع منه؛ إذ لا دليل يدل على تحريم ذلك، والقيام له ليس بقصد العبادة حتى يقاس على الصنم. وقد دافع جعفر رضي الله عنه عن الراية حتىقطعت يده، فتناولها بالأخرى؛ فقطعت، فاحتضنها (¬1) حتى لا تُنَكّس رايةُ المسلمين؛ لأنها رمزٌ على العزة والوحدة والظفر. ¬

(¬1) - قولنا «دافع جعفر عن الراية .. » القصة في صحيح البخاري برقم 1246 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب -وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له. والأدلة على حمل الرايات كثيرة في السنة، فمنها ما في الصحيحين «لأعطين الراية غدا لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله». وأما قصة أخذه للراية فهي في المستدرك برقم 4937 بسندين يحسن أحدهما الآخر.

دخول الفصل

ولم يكن فيها كتابة الجلالة أو الرسول حتى يقال: حفظها ورفعها لذلك؛ بل: مجرد قماشة اتفق على جعلها رمزا. والوقوف لأداء النشيد الوطني أمام الراية فيه نوع من هذا المعنى. - دخول الفصل: وإذا دخل المعلم الفصل ألقى السلام، ورد عليه طلابه ندبا أو وجوبا (¬1). ولا مانع من القيام له تأدبا، ومحبة، واهتماما، واحتراما. فهذه مقاصد القيام المباح: فالتأدب: كقيام الولد لوالديه، والمحبة: كقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلا فاطمة (¬2)، والاهتمام كالقيام على الضيف للخدمة، والاحترام كقيام لقائد «قوموا إلى سيدكم» (¬3). واختص الله سبحانه بالقيام عبادة له تعبدا (وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ) (البقرة: 238) فلا يقام تعبدا إلا لله. - مسائل طلابية وتعليمية وتربوية في الفصل: وعلى الطالب الاستماع للدروس، والإنصات للمعلم، والتركيز على شرحه؛ فإن الله ذم من لا يفهم ولا يفقه (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف: 179). فمن لم يستعمل حواسه للفقه والفهم في الخيرات، ومن أكبره تعلم العلم فهو كالأنعام. ¬

(¬1) - قلنا «ندبا أو وجوبا»؛ لأن البعض إذا رد سقط الوجوب عن البقية، فيكون رد البقية ندبا. (¬2) - قولنا «كقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلا فاطمة» أخرجه أبو داود بسند صحيح برقم 5219 عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كرم الله وجهها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها. وهو في الترمذي برقم 3836. وصححه ابن حبان 7111. والحاكم في المستدرك 4686. (¬3) - قولنا «كقيام لقائد» دليله حديث أخرجه البخاري برقم 3043 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد، هو ابن معاذ- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قريبا منه فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إن هؤلاء نزلوا على حكمك قال فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية قال لقد حكمت فيهم بحكم الملك.

الوسائل التعليمية

وشرود الذهن، وعدم التركيز على فهم العلوم مذمومٌ لقوله تعالى (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (الأعراف: 198). فذم مجرد النظر لمعلم الخير مع انشغال البصيرة. ويمنع الشغب والفوضى في الفصل؛ لأنه يلحق الضرر بالغير، ويفسد تعليمهم. وهذا أمر محرم، ويؤدب فاعل ذلك إداريا بزاجر له إن تمادى، دفعا للضرر عن زملائه. - الوسائل التعليمية: والمناقشة بين معلم وطلبةٍ، ومساءلتهم، واختبارهم شفويا أو تحريريا من وسائل خدمة العلم وتثبيته. وقد كان صلى الله عليه وسلم يضع المسألة على أصحابه كما في حديث «إن من الشجر ما لا يسقط ورقه وهو كالمؤمن فحدثوني ما هو» (¬1) والحديث في البخاري. واستنبط منه طرح المسألة على المتعلم لاختباره. وما خدم تعليم العلوم من: الوسائل البحثية، والنظرية، والتجريبية، والمسموعة، والمرئية، يعتبر مطلوباً في الشرع طلبَ وسيلة؛ لأن طلب المقاصد طلبٌ لما يحققها من الوسائل. وقد رسم صلى الله عليه وسلم خطوطا بيانية تمثل: الإنسان، والأجل، والأمل، والمصائب، ونقل رسمها العلماء في كتب الحديث (¬2). وعلمهم الصلاة عمليا فصلى على المنبر وهم خلفه، فكان إذا سجد نزل فسجد صلى الله عليه وسلم على ¬

(¬1) - فيه حديث ابن عمر في الصحيحين (البخاري برقم 61، ومسلم برقم 7276) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي فوقع الناس في شجر البوادي قال عبدالله ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة. (¬2) - قولنا «في كتب الحديث» أخرج ذلك البخاري برقم 6418 عن أنس قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا، فقال: هذا الأمل وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب. وللترمذي برقم 2454 عن عبدالله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط في وسط الخط خطا وخط خارجا من الخط خطا وحول الذي في الوسط خطوطا فقال هذا ابن آدم وهذا أجه محيط به وهذا الذي في الوسط الإنسان وهذه الخطوط عروضه إن نجا من هذا ينهشه هذا والخط الخارج الأمل. هذا حديث صحيح. قلت: وفي الباب غير هذا.

الأرض (¬1). وبالإشارة فقال صلى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه (¬2). وبالتجربة كما حصل في شأن النخل وتلقيحها (¬3). وفي دراسة الأرض والحياة (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20). وبضرب الأمثال، وهي كثيرة جدا في القرآن والسنن. وبالقصة، وهذا كثير أيضا في القرآن والسنة. وبالمنطق العقلي (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، (قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء: 42). وبالفرضيات (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف: 81). وبالتعجيز التنزلي مع الآخر (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (القصص: 49). ¬

(¬1) - قولنا «فصلى على المنبر .. » هو في صحيح البخاري برقم 377 من حديث سهل بن سعد حين سئل من أي شيء المنبر. فقال: ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ووضع فاستقبل القبلة كبر وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض ثم عاد إلى المنبر ثم قرأ ثم ركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه. (¬2) - قولنا «وبالإشارة .. » فيه حديث ابن عمر في الصحيحين (البخاري برقم 1908، ومسلم برقم 2551، واللفظ للبخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة». (¬3) - قولنا «وبالتجربة .. » فيه حديث طلحة بن عبيد الله في صحيح مسلم برقم 6275، قال مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال «ما يصنع هؤلاء». فقالوا يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أظن يغنى ذلك شيئا». قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عزوجل».

عقوبة الطالب

عقوبة الطالب: والعقوبة للطالب المستحق لها على ما جرت به العادات المستقيمة من غير ضرر، لا مانع منها؛ كإيقافه قائما بين زملائه، أو تحويله إلى الإدارة، أو تأنيبه بكلام، أو حرمانه من وقت الراحة ونحو ذلك، ولكل ما يناسب. وضربُ الصبي ضربَ تأديب من غير ضرر، لا مانع منه؛ إن اضطر إليه. وقد فرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن ابن عباس تنبيها له وكان يصلي إلى جانبه (¬1). ولا يجوز لطم وجهه؛ لأنه محل التكريم (¬2)، ومن باب أولى حرمة ما فوق ذلك من خدش الوجه أو وسمه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وسم وجه الحيوان (¬3)، فكيف بالإنسان. وعلى الإدارة منع تعارك طلبة وتعصيبهم ضد بعض، وعليهم تربيتهم على الأدب ومكارم الأخلاق وعدم الخصام والنزاع. مسجد المدرسة: وتتخذ المساجد والمصليات في المدارس وما لا بد منه من المرافق، ويصلي الطلاب الصلاة المكتوبة الحاضرة، ويجعل ذلك في الجدول العام، وتعمم الدولة ذلك؛ لأنه من أوائل واجباتها (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). ولأن جدولة ذلك تعظيم لشعائر الله، وهو مأمور به، وتعليم حفظ الصلاة وأدائها والجماعة. آداب عامة في المدرسة كالتشجير وحملات النظافة: وليحافظ على نظافة المدرسة، وأفنيتها، وفصولها، ودورة المياه؛ لأن هذا من المطلوبات ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «لأنه محل التكريم .. » فيه حديث أبي هريرة في صحيح مسلم برقم 6819 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه». (¬3) - قولنا «في وجهها .. » فيه حديث جابر في صحيح مسلم برقم 5674 أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال «لعن الله الذي وسمه».

الشرعية «الطهور شطر الإيمان» (¬1). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة الأفنية «طهروا أفنيتكم» (¬2). ويعلم الطلاب التشجير والحفاظ على الشجر؛ لما ورد فيها من الترغيب في غرسها «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (¬3). ولا يعبث بالجدران بكتابة، أو قرش طلائها؛ لأنه من إتلاف مال المسلمين وإفساده، وهو محرم. ولا يمسح بالقذر على الجدران؛ لأنه إيذاء للمسلمين، وهو محرم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). ولا تُرمى الأوراق وبقايا الطعام والمهملات في أفنية المدرسة؛ لأنه خلاف ما طلبه الشرع من النظافة وإزالة الأقذار والمؤذيات عن الطرقات. ويعلم الطلاب القيام بحملات النظافة في مدارسهم، وهذا أمر مشروع؛ لأن إزالة الضرر عن الطرقات ولو غصن شوك، أو شظايا زجاج، أو حجر مؤذي مشمول بقوله صلى الله عليه وسلم «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له» (¬4). وهو من الصدقات «إماطة الأذى عن الطريق صدقة» (¬5)، وهو من شعب الإيمان. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - حديث «طهروا أفنيتكم» حديث صحيح أخرجه الطبراني في الأوسط برقم 4057، ورجاله كلهم ثقات عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها. (¬3) - حديث «من غرس ... » أخرجه البخاري من حديث أنس برقم 2320، ومسلم من حديث جابر برقم 4050، واللفظ للبخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة. (¬4) - أخرجه البخاري برقم 652، ومسلم برقم 6835، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له. (¬5) - قولنا «وهو من الصدقات .. » دليله عند البخاري برقم 2989، ومسلم برقم 1704، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة.

نظافة الطالب والعناية الصحية المدرسية

ومن تعمد إتلاف أثاث في المدرسة ضمن وليه ذلك، وكذا لو استعمله بطريقة تتلفه عادة. نظافة الطالب والعناية الصحية المدرسية: ويعلم الطالب المحافظة على نظافة ملابسه، وشعره، وبدنه، ونعاله، ومجلسه، وأدواته، وفي الحديث «يحب أحدنا أن يكون نعله حسنا وشعره حسنا» فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» (¬1). وعلى الإدارة اتخاذ وسائل تحفظ صحة الطلاب بالتفتيش على بائع الأغذية لهم، من مطعوم، ومشروب، وعمل حملات تطعيم، واتخاذ عيادة للإسعاف الطارئ، وتنظيف دورات المياه وتعقيمها، وكل هذا من دفع الضرر عنهم لأن الطلبة تحت نظر ورعاية المدرسة ما داموا فيها، والإدارة المدرسية مسئولة عن ذلك لعموم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (¬2). وعلى الدولة توفير الوسائل الحافظة للصحة المدرسية؛ لأنه من حفظ مقصد هام وهو حفظ النفس. وتوفرها المدرسة إن كانت تجارية غير حكومية وجوباً شرعياً؛ لأنه من مقتضيات العقد معها، والإيفاء بالعقد واجب، ولأنه دفع للضرر، ودفع الضرر مطلوب شرعي وجوبا. تشجيع الطلاب وتحفيزهم وتأهيلهم: وعلى الدولة تشجيع الطلاب، وتكريم أوائلهم والنابغين والمبدعين. وإقامة حفل تكريم لذلك أمر حسن؛ لما يحققه من مصالح تربوية وتعليمية عامة. وابتعاث الدارسين المؤهلين وعلى رأسهم الأوائل للدراسة المتخصصة، والتأهيل والتدريب أمر مشروع أصله الرحلة إلى العالَم لطلب العلم (¬3)، وعلى الدولة كفالة تكاليفه؛ لأن ذلك من المصالح الكبرى للبلاد. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 275، عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس». (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - وقد رحل موسى عليه السلام لطلب العلم، ورحل الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلموا وعادوا إلى قومهم فعلموهم، كما أخرجه البخاري ومسلم.

التعليم الفني

وإعطاء الشهادات، والجوائز، والمنح لا يخل بالإخلاص ولو في علوم شرع؛ لأن الشهادة مبناها على إخبار الجهة بما تعلمه هذا الشخص، وكتمانه لا يجوز (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: 283). والجوائز مبناها على التحفيز، وقد قال في الجهاد «من قتل قتيلا فله سلبه» (¬1)، ولم يطعن هذا في الإخلاص، والمِنَحُ كذلك وأوضح؛ لأنها كفالة للرحلة في العلم. ولا تؤخر الوثائق والشهادات الدراسية تأخيرا يترتب عليه ضرر بالطالب؛ لأن الضرر مدفوع. التعليم الفني: وعلى الدولة إقامة التعليم الفني والتقني والإداري؛ لأن هذا يعتبر الآن من أعمدة الاقتصاد والنهضة الحديثة للدول. وهذه مصلحة عامة تعتبرها الشريعة، فطلبت شرعا، ويطلب لها وسائلها التي تقيم ذلك؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد. مدارس التحفيظ والمعاهد الشرعية ومراكز العلم: ويضاف إلى الطلب الشرعي على الدولة إقامة مدارس التحفيظ ودعمها، وإعطاء رواتب مجزية عادلة للمدرسين والمشايخ المعلمين للقرآن وعلومه كالقرآن والتجويد والتفسير. ويشرع إقامة المعاهد الشرعية الوسطية القائمة على الدليل كتابا وسنة بلا تعصب؛ لأدائها إلى مصالح عظيمة على فكر الأجيال، ودفع مفاسد الغلو والتطرف المؤدي إلى التمزق والتنازع بين الأمة. ويطلب شرعا من الدولة الاهتمام بالمراكز العلمية المبنية على الوسطية والاعتدال بالدليل كتابا وسنة، وحلقات العلم في المساجد، ودعم علمائها والقائمين عليها وتحفيز طلابها، واعتماد معادلة إجازاتهم العلمية بشهادات ودرجاتٍ تيسيرا لتوظيفهم في القطاع الحكومي وغيره. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وهذه من المصالح العظيمة التي تحقق خدمة العلم والشريعة والوسطية، وتحقق بذلك السلم الاجتماعي بعيدا عن الغلو واستهداف المسلمين بأقوال وأفعال غالية مؤدية للفرقة والتمزق والتشظي.

فقه المجتمع المدني والقبيلة

فقه المجتمع المدني والقبيلة * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13) * الطبقية المناطقية أو العرقية أو النسبية أو القبلية أو الشعوبية مفردات جاهلية لا يتعايش معها النظام الاجتماعي في الإسلام * الوصول إلى مجتمع الفضيلة غاية مطلوبة في الشرع * محاربة الفساد في الأرض والمناكر والإشاعات المجتمعية العامة والخاصة والنميمة والوشايات من الواجبات الشرعية * القطاعات القبلية وقطع الطريق من الفساد في الأرض، وتصل عقوبة بعضها إلى الحرابة * التصالح الاجتماعي والوطني الشامل من معاقد ما جاء به الإسلام الحنيف

تمهيد

فقه المجتمع - تمهيد: لا بد قبل أن نذكر تفاصيل الأحكام أن نقدم مجمل ما يتعلق بالمجتمع ومفرداته وتكوينه فنقول: المجتمع: هو تجمع بشري دائم أو متنقل وما ترتب عليه. ومكونات المجتمع: الأسرة بنوعيها: الأسرة الصهرية. والأسرة النسبية، وهي الأصول والفروع والحواشي والجميع يكون القبيلة ثم الشعب. وهو التكوين الفطري والإنساني والجبلِّي بِجَعْل الله تعالى (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13). وكل تجمع بشري له أسبابه المكانية، والجغرافية، والاقتصادية، والأمنية، والسياسية، والدينية، والإنسانية (¬1). وكل تجمع بمكوناته بدءا بالأسرة ثم القبيلة، والشعب، والأمة تتعلق بها أحكام كثيرة تشكل نظام الأسرة وفقهها: من زواج، وحقوق، ونفقات وكل ما تعلق بهذا، ونظام المجتمع ككل، وصلاته وحقوقه وآدابه وروابطه قبيلة وشعبا وأمة. ولا بد لكل تجمع من بنيان ونحوه للسكن؛ لأنه من الحاجيات البالغة مبلغ الضروريات. والأصل فيه شرعا الإباحة وله آداب وأحكام، من كيفية التملك للعقار، وجريان إجارات البناء والمنافع، وغير ذلك. ولما كان يجب جبلةً أن يَخُصَّ كلَّ أسرة ما يسترهم من مسكن، مما يؤدي إلى كثرة البناء؛ ¬

(¬1) - فالمكان له تعلق بالتجمع البشري من حيث توفر مكان البناء والماء والخدمات. والجغرافيا: من حيث المكان الجغرافي المناسب في المناخ والموقع. والاقتصادية: كونه مقصدا وملتقى عاما تتوفر فيه الخدمات للمساكن والمسافرين بسهولة. والأمنية: كونه بعيدا عن الأخطار الطبيعية كخطر مجاري السيول، وفيضانات الأنهار، أو انهيارات الصخور، أو ثوران بركان، او الأخطار العدوانية، كهجوم عدو إنساني أو حيواني. والسياسية: كونه مواطنا في الدولة، أو مقيما شرعيا، أو لاجئا، أو فارا من ملاحقة وطلب من الدولة.

ولا بد لكل تجمع بشري من قيادة بحسبه

تعين تنظيمه ضرورة: على مستوى السكن الواحد داخليا. وعلى مستوى الجوار. وعلى مستوى المحارم والأجانب. وعلى مستوى المحلات العامة والخاصة. ووضع لهذا كله أحكام الدخول والخروج والاستئذان، وسعة الطريق، ووضعية الأبواب والمداخل والشبابيك، والمنافذ، واختيار أماكن البناء. ومن مقتضيات التجمع البشري: وجود المياه، والموطن الزراعي: إما محليا، أو عبر طريق سالك يوصل هذه الضروريات. واقتضى ذلك: تنظيماً وترتيباً لهذه العملية بسائر أحكامها، وتنظيم البيئة السكنية، والزراعية، والمياه. ولا بد كذلك من ظهور التعليم والتعلم في كل شيء: في المعماريات، والزراعيات، والتجارة، والقراءة، والقيادة، والقتال. وهنا ظهر التعليم حتى قامت الثورة العلمية في كل الأمور. ولما كان الإنسان يحتاج للانتفاع بما في الأرض شرع تنظيم طرق التملك. ولا بد لهذا كله من وجود البيع، والشراء، والإجارات، والشركات لنقل التملكات، وإدارة المال. ولعلاقة الإنسان بغيره من البيئة، وأنواع المخلوقات نافعة وضارة، وبالهواء، ومشارب المياه؛ اقتضى هذا إقامة أنظمة الدواء والصحة، وكل ما له تعلق بهذا الأمر. ولا بد لكل تجمع بشري من قيادة بحسبه: بدءا من الأسرة، ثم القبيلة، فلا بد لها من مرجع مُحَكَّم مطاع، ولا بد للشعب من قيادة مطاعة. والقيادة تمثل الدولة، ولا بد أن تحمي المصالح العامة، ولا بد لذلك من قوة بكيفية معينة يمثلها اليوم المؤسسة الأمنية والعسكرية، والقضاء.

وتحتها شرائح مجتمعية كثيرة متعددة منها

وكل الشعوب لها علاقات مع بعضها على مستوى الأفراد، والجماعة، والمجتمع، وعلى مستوى السياسات والدول، فكان علم العلاقات الدولية. ويظهر لهذا كله في المجتمع شرائح متعددة شكلت طبقات ثلاث: اقتصادية، وقيادية، وعلمية. وهذه الطبقات التفاضلية متعلقة بالكسب بخلاف الطبقية العرقية، فهي جاهلية حيوانية؛ لأن كل ما للكسب فيه مدخل، ففيه تفاضل، ولا تخرج عن الثلاثة. وكل ما لا يأتي بالكسب مثل اللون والعرق والنسب والبلاد والجنسية فلا تفاضل فيه، لا عند الله ولا عند خلقه العقلاء، ومن زعم فيه التفاضل فقد جرى على قانون البهائم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). ولا توجد في الأصل الجبلي ولا الدليلي الشرعي طبقية لعرق بشري على آخر، بل الكل من تراب، وإن أوجدها الجاهليون (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). فأصل رسول الله وسائر الرسل والأنبياء، وكل إنسان صالحاً أو طالحاً من تراب. ولا تفاضل إلا بأمر واحد هو الكسب، وهو ديني بالتقوى، أو كسبٌ دنيوي، وهو ثلاثة مكاسب: اقتصادية وقيادية وعلمية. وترتب على هذا تقاسيم فئوية، وأسرية، وعمالية، ومناطقية، وتحتها شرائح مجتمعية كثيرة متعددة منها: - أصحاب المال، والجاه والقيادة والسلطان، والعلم، والعامة، والمنافقون والمرضى والمذبذبون، والمؤمنون أصحاب المبادئ والقيم، والكفار بالرسالة كلا أو بعضا، والظلمة وأعوانهم وأتباعهم. وتنوعت الأخلاق والأعمال بحسب ذلك. فأخلاق أهل المال غير السلاطين، والقيادات، والعلماء. وأخلاق المصلحين صالحة، وأخلاق المنافقين منافقة مع الكل، وأخلاق أصحاب الحرف البسيطة بسيطة عادة. وحتى لا تسير الجماعة بشكل عشوائي لا بد من قانون ينظم أمورها.

السكن

فأنزل الله الشريعة، فأمر بما يخدم المصالح ويدفع المفاسد، وكل هذا يدور على أمهات الإصلاح العام والخاص للإنسان والأرض والدولة والمجتمع والأسرة. وساقه بقواعد وأصول معيارها العدل والمصلحة ودرء المفسدة، والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. وأقر العادات الجارية الصحيحة. وكل ما يتعلق بصلاح البشرية شمله الإسلام، الدين الحق الخاتم. وأرسل الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فمن الناس من آمن، ومنهم من كذب، ومنهم من كذب فآمن ظاهرا وكفر باطنا وهم المنافقون، ولكل أحكام وأوصاف. السكن: لكل إنسان حق في السكن: أ- بالتملك. ب- أو الاستئجار. ج- أو التبرع. ولو موقوفا كمسكن لابن السبيل، أو كمسجد لمضطر؛ لأن أهل الصفة اتخذوا مسجده صلى الله عليه وسلم مقرا مؤقتا (¬1) لهم؛ لفقرهم؛ وعدم استطاعة بيت المال توفير سكن لهم. ولا يجوز ترك أسرة أو فرد من غير إيواء في سكن؛ لأدائه إلى ضرر في نفسه، وماله، وعبادته، وعرضه، ومن يشق عليه ممن معه من أسرته كولد أو والدين أو زوجة أو قريب. ودفع الضرر عنه واجب، والوجوب يكون عليه أولا بدفع ذلك الضرر عن نفسه وأهله بتملك مسكن، أو استئجار، أو الحصول عليه بتبرع؛ فإن عجز ففرضُ عين على الدولة أن تؤويه وأسرته، وهو فرض كفاية على المجتمع، ويأثمون جميعا بتركه. ¬

(¬1) - قولنا «مقرا مؤقتا» من أدلته ما أخرجه البخاري برقم 440 من حديث ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ولحديث أبي هريرة في البخاري برقم 442 قال: رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.

ويجب عيناً على مسلم قادر له فضل سكن، واطلع على وضع أسرة بلا سكن أن يؤويها إن لم يقم به غيره، ويكون الإيواء مدة مؤقتة لدفع ضرر الاضطرار؛ لأن الدوام ضرر بالمتبرع إلا إن رضي أو استمر الاضطرار ممن آواهم واستمرت قدرته على إيوائهم؛ ولأن هذا هو ابن سبيل، وابن السبيل مؤقت لا دائم. وسواء كان هذا الفرد أو الأسرة موافقا في الدين أم مخالفا؛ لأن دفع الضرر الواقع والمتوقع عن الأنفس والأعراض والأموال واجب مطلق لا يُقَدَّرُ بمن يوافق في الدين، وذلك لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). فهذه إباحة، والأُوْلَى أمرُ. ولعموم الأمر في (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 36). فلم يخصص مسلما عن غيره. ووصْفُ ابن السبيل يشمل من لم يجد مأوى، كان فردا أو أسرة؛ لأن السبيل هو الطريق: وهذا مثله. فوجب بنص الآية الإحسان إلى ابن السبيل، ولا إحسان مع تركه في الشارع مع ولده وأسرته أو حتى منفردا، بل هو من الإساءة والمخالفة لنص الأمر بالإحسان. وفي هذا الباب شرعت العمرى والرقبى وهو: أن يهب رقبة البيت لآخر ولأسرته مدة عمره، أو مدة معينة عارية، وقد شرعها الله وبين أحكامها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (¬1). وهل هو تمليك؟ خلاف. والذي يظهر من خصوص هذا الدليل، وعموم محاسن الشريعة، وأدلتها في الإحسان والإنفاق أن يقال: إن نَصَّ على الملك فهي هبة؛ لأنه تمليك بلا عوض أو معاوضة، وعليها يحمل نص الرقبى والعمرى، وإن نص على الإذن في السكن؛ فلا تمليك، وله قبض السكن ¬

(¬1) - قولنا «أن يهب رقبة البيت .. » فيه حديث في صحيح مسلم برقم 4276 عن جابر بن عبدالله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه».

طهارة المسكن ونظافته

متى شاء؛ لأنه عقد منصوص مشروط، ومقتضى الوفاء به أن له قبضَه متى شاء، وهو مشمول بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). فإن لم ينص: أ. فإن كان العرف يقضي بأنها هبة فهي كذلك. ب. وإن كان العرف أنه إذن في السكن حملت عليه. ج. وإن لم يكن عرفٌ في ذلك، ولم يُنص على إحدى الحالتين؛ حُمِل على مجرد الإذن؛ لأنه متَيقَّنٌ، ولأن الأصل بقاؤه في ملكه، وعدم انتقال ملكه إلى غيره إلا بيقين، لا بمجرد الاحتمال؛ لأن الملك لا ينقل إلا باليقين؛ ولأن الله يقول (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، ومن الباطل أخذه بتوهم التمليك لا بيقين. ويقول سبحانه (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وليس من الإحسان نزعه من مالكه بمجرد التوهم والظن بالتمليك. - طهارة المسكن ونظافته ويجب تطهير البيت من النجاسات والأقذار لحديث «الطهور شطر الإيمان» (¬1). والطهور هو: إزالة الخبث والنجس، فشمل الطهارة من النجاسات المعروفة ومن كل الأقذار والأوساخ والمؤذيات، ولحديث «كان لا يستنزه من البول فعذب» (¬2). وفي معنى البول سائر النجاسات؛ وللأمر بإزالة الأقذار وما في معناها في حديث «طهروا أفنيتكم» (¬3). والنظافة تشمل ما هو أعم من النَجَس والقذر من الأوساخ والأتربة ونحو ذلك، والأمر يدل على الوجوب في الأصل. وهذا دليل على التكليف بتمام العناية بنظافة البيت وتوابعه من منقول وثابت، كفرش، ووسائد، وألحفة، وغيرها؛ لقوله تعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر: 4). والثياب تشمل الملابس، ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

البناء ومواصفاته والسكن وأحكامه

والمفارش، والألحفة بدليل قوله تعالى (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) (نوح: 7)، وقوله تعالى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (هود: 5)، ومعناه حين يتغطون (¬1). - البناء ومواصفاته والسكن وأحكامه: ومن كان له أرض فلا يبيعها إلا إلى أرض لورود النهي في قوله صلى الله عليه وسلم «من كان له أرض فلا يبعها إلا إلى مثلها» (¬2). ويحسن أن تكون الأرض المعدة للبناء واسعة ندبا لحديث «البيت الواسع من السعادة» (¬3)، وأن تكون قرب مسجد لتيسر حضور الجماعة. النزوح والنقلة: ولا تنتقل جماعةٌ ولو إلى قرب المسجد -ولو بعدوا- إن كان انتقالهم يعري ذلك المكان. ولهذا نُهِي بنو سلمة عن الانتقال إلى قرب المسجد (¬4)، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بعظيم أجرهم وأراد من النهي كراهة أن يعروا المدينة. وإذا نهى عن ذلك، ولو كان بعلة القربة الشرعية؛ فإنه من باب أولى ينهى عن انتقال جماعي أو نزوح إلى مكان آخر للسكن بغير ضرورة، إن كان انتقالهم إعراءً للمكان. ¬

(¬1) - يستغشون ثيابهم يتغطونها ويلبسون. انظر تفسير الطبري (12/ 322) ط/ دار هجر. (¬2) - حديث «من كان له أرض .. » أصح ألفاظه ما أخرجه الطيالسي في مسنده بسند حسن برقم 423 عن حذيفة قال «من باع دارا ثم لم يجعل ثمنها في دار لم يبارك له». وهو شاهد لحديث سعيد بن حريث عند ابن ماجة برقم 2490. وأخرجه ابن أبي الدنيا بسند حسن برقم 278 عن عمرو بن حريث، رفعه قال «من باع أرضا أو دارا، لم يبارك له إلا أن يجعله في مثله». (¬3) - أخرجه عبد بن حميد في مسنده برقم 385 عن نافع بن عبدالحارث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعادة المرء المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيّ. قلت: سنده حسن. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من نفس الطريق برقم 116. (¬4) - أخرجه البخاري برقم 656، ومسلم برقم 1551 من حديث جابر بن عبدالله قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد». قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك. فقال «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم».

بعد السكن عن أماكن الأضرار والأقذار والكيماويات وخطوط الضغط العالي

ومعنى هذه العلة أمني؛ لأن وجود بيوت وسكان في أماكن معينة على الطرق والمداخل يؤمن الخطوط، والمارة، والمسافرين، ويدفع مفاسد كثيرة في هذا الشأن. فإن كان انتقالهم لضرورة كحصول جفاف، أو جوع، أو خوف من مداهمة سيل أو عصابات فساد في الأرض في مكان ناءٍ، ولا يمكن لأهل البيوت دفعهم، ولا يوجد من يؤمنهم منهم، أو ينجدهم في حال مداهمة، أو نحو ذلك من الضرورات والحاجيات، فإنه لا مانع من انتقالهم فرادى أو جماعات، وقد يجب (¬1). والنزوح الطارئ كالحاصل للمدنيين في الحروب من نساء وأطفال ونحوهم لا مانع منه، ولو كان في الحرب مع الكفار، ولا يُعَدُّ فرارا من الزحف؛ لأن الفرار الممنوع هو الفرار في حالة اللقاء بين الفريقين أهل القتال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) (الأنفال: 15). والمدنيون من النساء والأطفال والعجزة ليسوا كذلك؛ لاستثنائهم من وجوب المواجهة. - بعد السكن عن أماكن الأضرار والأقذار والكيماويات وخطوط الضغط العالي: ويختار في السكن كونه بعيدا عن الأماكن التي يغلب فيها النجاسة والأقذار كمصبات المجاري ومقالب القمامات العامة، كونها مواطن الشياطين. ولذلك تُبْعَدُ عن المساكن، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب المذهب أبعد حتى لا يشم له ريح ولا يسمع له صوت (¬2)، وكان يستعيذ من الخبث والخبائث (¬3)، وامتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة في واد فيه شيطان (¬4)، كما في الحديث، وأمرهم فزايلوه مع تأخرهم عن وقت إمكان أداء الصلاة. ومعلوم بالنصوص أن هذه الأماكن مواطن للشياطين. ¬

(¬1) - وذلك كالفرار بالدين أو العرض والنفس والمال من المتلفات غالبة التحقق. (¬2) - أخرجه الإمام أبو داود برقم 1 من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد. قلت: وسنده حسن. وقال الترمذي حسن صحيح. (¬3) - الحديث في الصحيحين (البخاري برقم 142، ومسلم برقم 857) واللفظ للبخاري من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. (¬4) - قولنا «وامتنع عن الصلاة في واد فيه شيطان» أخرجه مالك في الموطأ برقم 26. والقصة في الصحيحين بدون ذكر ذلك (البخاري برقم 344، ومسلم برقم 1595) من حديث عمران بن حصين.

التوسط في البناء والزينة

ولأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم كما ورد في النص (¬1). وإيذاء الملائكة محرم، والسكن هناك إيذاء؛ لأنهم ملازمون لابن آدم. ولقوله تعالى (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157)، أي: أكلا، وشربا، ولبسا، وسكنا؛ لأن حذف المقتضى يدل على العموم في متعلقاته. وكذا لأن الضرر على صحة الأبدان والعقول غالب عند السكن عند مصبات النجاسة ومقالب المخلفات العامة، وشرط الضرر أن يكون فاحشا، وهذا كذلك، والضرر الغالب واجب دفعه في الشرع. ويختار في السكن بعده عن مصانع الكيماويات السامة بعدا يغلب معه السلامة. وكذا عن مراكز الإشعاعات النووية من مصانع ومعامل ونحوها؛ لعظيم ضرر إشعاعاتها. والبعد عن خطوط الضغط العالي الكهربائي بسبب تأثيراته على صحة الأبدان. وعلى الدولة القيام بالتخطيط العمراني الذي يراعي ذلك كله، وغيره من المصالح. وعلى المرء أن يختار سكنه بجوارٍ حسن؛ لاستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة (¬2). - التوسط في البناء والزينة: والمشروع في بناء البيت التوسط في كل أموره: عمارة، وأثاثا، وزينة؛ لأن قاعدة الشرع التوسط. والأصل في تزيين البيت الإباحة للنص (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32). ¬

(¬1) - ورد ذلك في صحيح مسلم برقم 1282 من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أكل من هذه البقلة الثوم -وقال مرة من أكل البصل والثوم والكراث- فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم». (¬2) - قولنا «ويختار سكنه بجوار حسن .. » دليله ما أخرجه النسائي برقم 5502 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام فإن جار البادية يتحول عنك». قلت: سنده صحيح ورجاله رجال الشيخين.

شجر الزينة، واللوحات الطبيعية، والمجالس الافرنجية والعربية

وحديث «ستكون لكم أنماط» (¬1) هو على الإخبار لا النهي، ولذا عمله جابر بن عبدالله رضي الله عنه. - شجر الزينة، واللوحات الطبيعية، والمجالس الافرنجية والعربية: وشجر الزينة واللوحات الطبيعية من الجمال، والله يحب الجمال (¬2). والمجالس الإفرنجية ليست من التشبه؛ بل من عموم الزينة الإنسانية المشتركة في الدنيا خالصة للمؤمنين يوم القيامة بالنص (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32). ومفهوم خلوصها لهم في الآخرة يدل على الاشتراك بها في الدنيا اشتراكا إنسانيا عاما. وذلك يشمل كل تراث وإنتاج إنساني، عربيا كان أو أجنبيا، ومنه الزينة ما لم يخالف صراحة النصوص الصحيحة. ويجب أن يضبط ذلك بالتوسط وعدم الإسراف والبذخ وقصد الاستعلاء والكبر. فلا يجوز شراء لوحات باهظة الثمن للزينة؛ لأجل كونها لفلان مِنْ رَسْمه، أو ملكه قديمة أو حديثة؛ لأنه مخالف للأمر بالتوسط، وداخل في الإسراف والتبذير؛ ولأنه لا منفعة فيه سوى الفخر والخيلاء والبطر، وهذه المعاني كلها منصوص على تحريمها، قال تعالى (وَلاَ تُسْرِفُوا) (الأعراف: 31)، (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وتعليق صور ذوات الأرواح ورد النص بالنهي عنه (¬3)؛ فليجتنب ولو للذكرى احتياطا. ولا مانع أن توضع محفوظة في خزانة ونحوها. - مجلس الضيوف، والمطابخ ودورات المياه: ومن المحاسن جعل مجلس للضيوف للقادر على ذلك؛ لأنه داخل في أنواع إكرام الضيف ¬

(¬1) - حديث الأنماط أخرجه البخاري برقم 3631، ومسلم برقم 5570، من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم هل لكم من أنماط قلت وأنى يكون لنا الأنماط قال أما إنه سيكون لكم الأنماط فأنا أقول لها، يعني امرأته- أخري عني أنماطك. فتقول: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إنها ستكون لكم الأنماط فأدعها. (¬2) - من حديث «إن الله جميل يحب الجمال» وقد تقدم تخريجه. (¬3) - ورد النهي في الحديث المتفق عليه (البخاري برقم 3225، ومسلم برقم 5635) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب، ولا صورة تماثيل.

أحكام الدخول للبيوت

المطلوبة عموما في النصوص، كحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (¬1)، ووسائل الإكرام لها حكمه. إلا إن كان للفخر والبطر والخيلاء به، فهو مذموم عند الله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). ومن المحاسن اتخاذ دورات للمياه للتطهر من الأحداث والأنجاس والأقذار؛ إذ الطهور شطر الإيمان، ووسائل الطهور مطلوبةٌ بحسب أدائها لمطلوب الشرع، ودورات المياه من هذه الوسائل. ومن المحاسن اتخاذ المطابخ؛ لأنه توسعة على أهل البيت، وفي النص «البيت الواسع من السعادة» (¬2). وينهى شرعا أن تترك النار مشتعلة، خاصة ليلا عند النوم، لحديث «إذا نمتم فأطفئوا السراج فإن الفويسقة تضرم النار على أهل البيت» (¬3). ويقاس عليه إغلاق اسطوانات الغاز في المطبخ دفعا لاحتمال تسرب غاز قد يحرق المنزل، إما لارتخاء التوصيل، أو لإتلافٍ في أنبوب التوصيل بسبب قوارض كالفأرة. ويشرع تخصيص غرف للبنات من سن العاشرة مستقلة عن غرف الذكور؛ لورود «وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬4) أي وهم أبناء عشر، وهذا موافق للفطرة البشرية، والإنسانية، والاجتماعية، والأصل في الأمر أنه على الوجوب في المذاهب الأربعة والظاهرية. - أحكام الدخول للبيوت: ومن دخل بيت غيره استأذن وأعلم بنحو تنحنح أو حركة ثم دخل وسلم إن أذن له (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «وينهى شرعا أن تترك النار .. » دليله في الصحيحين (البخاري برقم 3316، ومسلم برقم 5364) واللفظ للبخاري، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما رفعه قال: خمروا الآنية وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وكفوا صبيانكم عند العشاء فإن للجن انتشارا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت. (¬4) - تقدم تخريجه.

آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور: 27)، (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) (النور: 61). وهذا النص الأخير فيه الأمر بالسلام عند دخول أي بيت، فيشمل بيت الشخص أو غيره، والنص قبله أمر عند دخول بيوت الغير بالاستئناس والسلام. والاستئناس تنبيه لمن في البيت لرفع المفاجأة والثاني السلام المشروع. ولا يوجد قانون على وجه الأرض ينظم هذا التنظيم الاجتماعي في شأن البيوت إلا ما ورد في هذه النصوص من لدن حكيم خبير. ويمنع النظر حال الاستئذان لدخول بيت الغير؛ لورود الحديث في ذلك «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (¬1). ومن نظر من شق أو ثقب في الباب أو الجوار بلا إذن فقد أثم لورود النهي «وقد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختل الرجل الفاعل ذلك بمشاقص كانت في يده» (¬2). وقال «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه» (¬3). ومن طرق باباً طرقه من جانبه الساتر حتى لا يسبق النظر حال الفتح، وقد ورد في ذلك حديث صحيح (¬4). ¬

(¬1) - الحديث في الصحيحين (البخاري برقم 6241، ومسلم برقم 5764) واللفظ للبخاري، من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فقال لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر. (¬2) - الحديث في الصحيحين (البخاري برقم 6242، ومسلم برقم 5767) واللفظ للبخاري، من حديث أنس بن مالك أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص، أو بمشاقص- فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 5768، من حديث أبي هريرة. (¬4) - قولنا «ومن طرق بابا ... » قلت: هذا الأدب ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أبو داود برقم 5188 من حديث عبدالله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول «السلام عليكم السلام عليكم». وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. قلت: وسنده حسن. وفيه بقية بن الوليد مشهور بتدليس التسوية، ولكنه متابع عند الضياء في المختارة 2976، تابعه عثمان بن سعيد حدثنا محمد بن عبدالرحمن فذكره.

ويطرق ثلاثا للنص (¬1)، وإن كان لا يميز الثلاث حال كونه ضاربا بالجرس؛ فإنه يقايس الأمور عرفا بتوسط غير خارج إلى الفجاجة والإيذاء. فإن أذن له بالدخول وإلا رجع، لقوله تعالى (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) (النور: 28). ولا يتذمرْ؛ لأنه عبد مكلف بالأمر الإلهي في الآية بالرجوع، وهو من سبل تزكيته عند ربه بالنص في الآية. ويجلسُ حيث أذن له إن دخل؛ لأنه في ملك غيره؛ فلا يتصرف فيه إلا بإذن ملفوظ أو عرفٍ. ولا يُجْلَس على مكرمة الرجل صاحب البيت إلا بإذنه للنص (¬2). ولا يصلي فرضا في بيته إلا بإذنه، فإن كانت جماعة فالأولى أن تكون بإمامة رب المنزل كما ورد في النص (¬3). وإن كان في البيت منكر قطعي من الكبائر، أنكر قطعا في الأصل؛ فإن كان غير قطعي؛ لاحتمال دلالات النصوص، واختلاف فهوم العلماء فيه، فلا عليه أن ينكر، ويجوز بالتي هي أحسن. وإن دخل فرأى حسنا قال (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) كما ورد في الآية (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) (الكهف: 39). ¬

(¬1) - قولنا «ويطرق الباب ثلاثا» دليله في صحيح البخاري برقم 6245، من حديث أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال والله لتقيمن عليه ببينة أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي بن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذلك. (¬2) - أخرج مسلم برقم 1564 من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يَؤُمَّنَّ الرجُلُ الرجُلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه». (¬3) - الحديث السابق.

الجوار

والمجالس بالأمانة (¬1)؛ فلا يفشي سرا (¬2)، ولا ينقل خبرا موغرا للضغينة. ولا بد في المجالس من ذكر الله، وورد ما يدل على وجوبه في نصوص كثيرة (¬3). - الجوار: وللجار حق عظيم (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء: 36)، والإحسان إليه فرض، وأذاه كبيرة منكرة (¬4)، ويصله بما جرت عليه العادة؛ لأنها مُحَكَّمة. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (¬5). ولا يجوز غيبته، ولا عرضه، ولا خيانته في نفسه، أو عرضه، أو ماله فإن ذلك من أكبر الكبائر، قال تعالى (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) (الحجرات: 12)، وفي الحديث «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» (¬6)، وفي حديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (¬7)، وكذا «أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك أو تزاني حليلة جارك» (¬8). ¬

(¬1) - قولنا «والمجالس بالأمانة» فيه حديث حسن صحيح عند أبي داود برقم 4871، من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق». وفيها ابن أخي جابر بن عبدالله مجهول مبهم، إلا أنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وهو لا يروي إلا عن ثقة، قاله ابن معين. وعليه فطريق أبي داود صحيحة. وله شواهد. (¬2) - قولنا «فلا يفشي سرا» دليله ما أخرجه أبو داود برقم 4870 من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة». قلت: سنده حسن. وأخرجه الترمذي وحسنه. (¬3) - من الأدلة على ذلك ما أخرجه أبو داود بسند صحيح برقم 4858 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة». (¬4) - قولنا «وأذاه كبيرة منكرة» دليله ما أخرجه مسلم برقم 181 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه». (¬5) - حديث «إذا طبخت .. » أخرجه مسلم برقم 6855 من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك». (¬6) - تقدم تخريجه. (¬7) - تقدم تخريجه. (¬8) - حديث «أكبر الكبائر .. » أخرجه البخاري برقم 4477، من حديث عبدالله بن مسعود، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي قال، وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك قلت ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك.

الرقابة المجتمعية

ويزوره في مرض، أو عزاء، ويجيب دعوته ولو كان مخالفا في الدين، وقد ورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في نصوص «فقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا» (¬1)، ويحرم ظلمه؛ لعموم «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (¬2)، ويجيب الدعوة؛ لحديث «وإذا دعاك فأجبه» (¬3). وأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا دعاه على شعير وإهالة سنخة، وأضافه اليهود ووضعوا له السم في الشاة، كما في الأحاديث الصحيحة. - الرقابة المجتمعية: وأهل الحي رقباء في التعاون على البر والتقوى، وإنكار المنكر ومحاربة الجريمة، والتعاون مع الجهات المعنية في الدولة؛ لعموم النصوص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 - 79)، ولقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2). وليحذر من أوكار الجريمة التي تتخطف الشباب، مما ظاهرها الإباحة وباطنها المنكر. ولا يقال لنا الظاهر والله يتولى السرائر؛ لأن ذلك في الأمر القلبي، أما الأمر المجتمعي والسياسي العام فالأصل فيه الحذر من ظواهر الجريمة وبواطنها، والله يقول (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (الأنعام: 120) وهذا عام في الفرد والجماعة. وكل وسيلة أدت إلى ذلك وجبت؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل المنافقين على ظواهرهم في دعوى الإيمان لا في الأعمال. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - حديث «وإذا دعاك فأجبه» أخرجه مسلم برقم 5778 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «حق المسلم على المسلم ست». قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال «إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه».

التخطيط العمراني

بل أمره الله بجهادهم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التحريم: 9). وجهادهم منه: تغيير منكراتهم باليد، ولو أظهروا منها الإحسان إيهاماً (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة: 11 - 12). ولذا نُهِي عن مسجد الضرار وهو مسجد ظاهره الدين، ونزلت فيه نصوص وهي أصل في إلغاء كل وكر اتخذ ظاهرا للإحسان وباطنا للجريمة؛ لأنه إن كان ذلك في المسجد فغيره أولى. - التخطيط العمراني: والتخطيط العمراني للمدن والسكن من المصالح العامة، والشريعة جاءت لرعايتها، وهي من الإحسان المأمور به في قوله تعالى (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، ولأن التخطيط يعتبر قياما من ولاة الأمر بحق المواطنين لأن ذلك من مقتضيات العقد لما فيه من المصلحة العامة والتيسير لهم ولمعايشهم وهو داخل في النصح للأمة، وقد ذمّ الشرع من شق على الأمة وفي ترك التخطيط والإحسان فيه إشقاق ظاهر على الأمة. ويكون في المدن وجوبا التخطيط لوسائل دفع الأضرار من مقالب القمامات ومجاري مياه الصرف بحيث تبعد وجوبا من السكن؛ لعظم ضررها إن لم يفعل بها ذلك، وهو فساد (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). والطريق العام ملك عام، وتكون سعة الشوارع بحسب عموم نفعها؛ فلا يتخذ في داخل الحي الصغير شوارع عظيمةَ السعة لا يبرر وجودها لمصلحة حالية أو مآلية؛ لأن هذا من العبث، والشريعة تنهي عنه. ولأن تصرفات الحاكم منوطة بالمصلحة العامة ولا مصلحة هنا. بل يجعل لكل شارع سعة بقدر عموم نفعه، بلا زيادة فاحشة ولا تقصير مفسد. والمرور في الطرقات مقيد بسلامة العاقبة. فمن مر بسيارته فضربت حجرا فحصل إتلاف به ضمن، هذا في الأصل؛ لأن الأموال والأنفس محترمة، وحقك المباح في العبور لا يطغى على حق غيرك في السلامة.

منظمات المجتمع المدني

ولكل بيت حق يسمى «حريم الدار» يستعمل لمنافع الدار كالوقوف أمام منزله بلا ضرر. ولا يرمي المخلفات على باب بيته فيؤذي الناس، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من آذى. ولا يرميها في شارع عام، ولا خاص؛ فكل ذلك داخل في الإيذاء للمجتمع (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). بل يضعها في مكان أعد لها؛ لأنه يدفع بذلك مفسدة الضرر والأذى. ومن ارتفع بيته عن بيت غيره؛ فلا يحل له النظر من نحو نافذة إلى دار غيره المكشوف، بل يسترها بستارة، ولا يجب سدها نهائيا؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار. ومن بنى بناءً أحاطه حال البناء؛ لئلا تقع الأضرار على المارة، أو يؤذي الناس. ولا يحفر في الطريق العام إلا بإذن مصرح مع وضع إشارات السلامة والتحويط، وإلا ضمن ما يتلف بوقوع في الحفرة. وشرطنا الإذن للحفر؛ لأن الطريق العام لمنفعة العامة، ومدة حفره ضرر عام، فلا بد من الإذن من الجهة المسئولة العامة؛ لأنها نائبة عن المسلمين في مصالحهم. فإن لم توجد اكتفى بالإذن العرفي ولا يتمادى في الضرر؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، فإن تمادى أثِم وإن أتلف ضمن. وتبنى المتنفسات والحدائق والنوادي الفكرية والثقافية والرياضية؛ وهي من الأمور المباحات والتحسينات. والشريعة ترعى الأمور التحسينية والجمالية والله يحب الجمال. منظمات المجتمع المدني: والمجتمع له شرعا أن ينظم نفسه في جمعيات، ومؤسسات، ومنظمات، ومجالس، وملتقيات، ومنتديات، وسائر أنواع التجمع الذي يخدم المصالح العامة ويدفع المفاسد والضرر، وسواء كانت إنسانية، أو حقوقية، أو خدمية، عامة أو خاصة، لفئة أو شريحة أو منطقة. وقد يصل حكم إقامة بعضها إلى الوجوب الشرعي بحسب ما تقوم به من مقاصد كبرى جاءت الشريعة لرعايتها وأمرت بخدمتها.

السلطة المجتمعية الكبرى

فالمنظمات الحقوقية التي تدافع عن المظلوم وتنصره بما يحقق دفع الضرر والمظلومية هو أمر لا شك في مشروعيته؛ لأدائه إلى ما أمر الله به من العدل ودفع البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كل ذلك نصوص بالغة حد القطع؛ فإن لم يقم بنصرة المظلوم أحد وجب ذلك على منظمات أقيمت لأجل هذه القضايا مع القدرة، ويحرم ترك نصرة مظلوم؛ لأنه إبطال لمقصود ما أقيمت له المنظمة وهو منهيٌ عنه؛ لقوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33)، إلا عند تحقق العجز؛ لعموم النص (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). السلطة المجتمعية الكبرى: ومن أكبر قواعد الشريعة قاعدة «العادة محكمة»، وهي إحدى القواعد الكبرى التي تدور عليها الشريعة. وهذه قاعدة مجتمعية هامة، فكل العادات والأعراف المجتمعية الصحيحة مُحكَّمة شرعا إذا لم تناقض المأمورات والمنهيات التكليفية الصريحة الصحيحة. وشرط اعتبار العادة أن تكون عامة مستمرة موافقة للمشروع. وشُرِعَ موافقة العادات؛ مراعاةً لعدم الفُرْقة والنُّفرة. وهذا أمر معتبر في الشرع؛ ولذا قال الفقهاء في مخالف العادات الصحيحة إنه مخروم المروءة، وهي جزء من العدالة في بعض الأمور كالرواية للحديث والشهادة. فالعادة المشروعة الفاضلة يمكن تعريفها أنها: إلزام مجتمعي على الفضيلة. فهي -إذا- من الوسائل في نشر مقصود الشريعة والتمسك بها، فوافقت خدمة الشرع في بناء المجتمع، فشرعت. ولما كان الإلزام القضائي متعذرا في البناء المجتمعي؛ لاحتياجه إلى رقابة شاملة على مكونات المجتمع، كانت العادة واقعا هي القضاء المجتمعي الملزم برقابة شاملة من عموم المجتمع لبعضه، فالعادة المجتمعية هي السلطة القضائية المجتمعية بلا كلفة مالية ولا رسمية، فاعتمدها الإسلام سلطة يرجع إليها، وجَعَلَها حَكَمَاً، وقَعَّدَ الفقهاء لها أصلا هو «العادة مُحَكَّمَة».

المجتمع السياسي، أو السلطة المجتمعية السياسية

ولأن العادات الشريفة الفاضلة الحسنة من مكارم الأخلاق. والشرع من مقاصده رعاية الأخلاق وحفظها وتتميمها «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1). ولورود الأمر بالعرف (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، وللأمر بالمعاشرة على وفقه (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228). ولأن الفضائل معتبرة والعادات ملزمة بها، فكانت وسيلة للخير تأخذ حكم المشروعية، ولأن العادات الحسنة تطلبها العقول والفطرة السليمة وتقرها الشريعة، ولو كانت في مجتمع جاهلي. وأثنى عليها شرعاً «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» (¬2). «وقال أسلمت على ما سلف من الخير» (¬3). المجتمع السياسي، أو السلطة المجتمعية السياسية ولا مانع أن ينظم المجتمع نفسه في تنظيمات، وتجمعات سياسية كأحزاب ومنظمات ونقابات، ونحو ذلك. وهي بحسب ما أدت إليه من المصالح العامة؛ فإن أدت إلى خدمة المصلحة العامة شرعت، وإن أدت إلى المفاسد منعت. والمصالح والمفاسد العامة يقدرها أهلها من الأمة العامة كالعلماء مع أهل الحل والعقد ممن رضيتهم الأمة من قيادات المجتمع (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - حديث «خياركم في الإسلام .. » أخرجه البخاري برقم 3374، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس قال أكرمهم أتقاهم قالوا: يا نبي الله ليس عن هذا نسألك قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا نعم قال فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا. (¬3) - متفق عليه (البخاري 1436، ومسلم 338) من حديث حكيم بن حزام.

الأمن المجتمعي

وللمجتمع كامل الحرية السياسية في مناقشة القضايا السياسية العامة العالمية، والخاصة الداخلية، وكل ذلك كان يقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وكانوا يتحدثون عن كافة الأمور ومنها السياسية، وتُنَاقش التحركات، ويؤتى بأخبار الملوك، والغزوات، والسرايا، والجيوش، والعزل، والتعيين. ولم يُنْهَ عن ذلك في زمن التشريع، ولا في زمن الراشدين؛ فدل على الحرية السياسية المجتمعية والشعبية. وقد قال الخليفة الأول: «إن أسأت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني» (¬1)، وهذا عين السلطة المجتمعية السياسية. والتوعية السياسية في الندوات، واللقاءات، والخطابات، والخطب جائزة؛ بل قد تجب إن كانت للتداعي لنصرة المظلوم وحمايته، وكف المفاسد والظلم. وهذا في الأمور العامة المعلومة على الوجه العام، أما الأمور غير المعلومة إلا على وجه خاص، والتي يؤدي نشرها إلى الضرر البالغ بالمجتمع والأمة؛ فلا تنشر إلا في إطار ضيق للمعالجة عبر الطرق والجهات المسئولة، وعلى هذا يدل عموم قوله تعالى (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). الأمن المجتمعي: والأمن المجتمعي طلبه مقصود؛ لأن الشرع قصد الامتنان به (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 3 - 4). وهذا الأمن في النص هو اللازم توفره شرعا في المجتمع، وهو مكون من الأمن الغذائي والأمن القومي؛ لأنه من ضروريات العيش. وقد أمر الله الناس بعبادته سبحانه مع استحقاقه للعبادة بلا علة؛ إلا أنه علل ذلك في سياق المنة على عباده بتوفير الأمن الغذائي والأمن القومي، مما يدل على أنهما من أعظم النعم الإلهية الربانية على العباد. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المجتمع والشعائر الكبرى

وفرضٌ أن يتعاون الناس على تحقيق ذلك؛ لأن دفع المفاسد واجب، وهذا منها. ولأن تحقق الأمن والاستقرار والغذاء يدفع مفاسد عظيمة عن المجتمع. ويجب الإبلاغ عن الفساد في الأرض، وفرضٌ على الدولة التجاوب، فإن قصرت أو لم تقم؛ فالواجب على أهل الحي والمجتمع القيام بإنهاء مظاهر المفاسد بالتشاور بينهم عن وسائل ذلك، فإن سكتوا أثموا جميعا وعمهم الله بعذاب (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). ولأن الفرض في الخطاب التكليفي بمحاربة المفاسد وإقامة المصالح وإقامة التكاليف هو -في الأصل- موجه إلى العموم العام، والدولة نائبة عنهم، فإن لم توجد، أو لم تفعل، وجب عليهم القيام بهذا الفرض. وكيفيته: راجعةٌ إليهم بما يناسب الوقائع، فقد يفرض اختيار جماعة مفوضة من المجتمع للقيام بالفرض دائمة أو مؤقتة. وقد يكون توقيتها أنسب، فيكون هو الأولى شرعا؛ لأنه يؤدي إلى تحقيق مصالح أكثر، وعكسه عكسه. فما كان أنسب فهو خادم المقصود الشرعي. المجتمع والشعائر الكبرى: وواجب على المجتمع إقامة شعائر الله وتعظيمها، وأعظمها الصلاة والزكاة. فالأولى أعظم صلة بين العبد وربه، والأخرى أعظم صلة مجتمعية مالية مفروضة. ويجب على أهل الحي بناء مسجد؛ لأنه وسيلة إلى أعظم الطاعات، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد؛ ولقوله تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18). ومفهومه أن غيرهم لا يفعل ذلك؛ فعمارة المسجد دليل الإيمان. وقال (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (النور: 36). وإذنه هنا إيجاب بدليل مثله في قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39)، ولأنه لو لم يكن إيجابا بل مباحا لاستوى حكمه مع أي بناء مباح، ولجاز للناس عدم بنائه، فدل على أن مقصود الإذن التشريع الموجب.

تحريم جعل التسجيل الصوتي للأذان عوضا عن المؤذن

وقال (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 114). فلا ظلم فوق المنع. والامتناع عن بناء مسجد بلا عذر هو كالمنع؛ لأنه إن كان لعجز فيجوز بناؤه بأدنى متيسر ولو بإحاطة مكانه وتعليمه كمسجد للصلاة، وإن كان لجهل فهذا نادر جدا قد لا يقع أصلا. فلم يبق إلا أن صدود قلوبهم عن بناء المسجد كائن عن عدم تعظيم شعائر الله، ويجب أن يتعاون من تقوم بهم الكفاية وإلا بناه فرد واحد بقدر استطاعته. وعلى قادرٍ إعانته، ولو من غير أهل الحي، إعانة مادية، وفعلية، ومعنوية. ورفع الأذان للصلوات الخمس في المساجد واجب؛ لأنه قوله وتقريره صلى الله عليه وسلم مدة حياته، ولم يتركه سفرا ولا حضرا، وأمره بلالا ومؤذنيه بما هو ظاهر في دلالته على الوجوب. - تحريم جعل التسجيل الصوتي للأذان عوضا عن المؤذن: ولا يجوز جعل تسجيل صوتي للأذان في مسجد بدلا عن المؤذن؛ لقوله تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32). وهذا ليس من التعظيم في شيء، بل هو إلى الاستخفاف أقرب. فإن كان عاما في مساجد بلاد أو دولة، فهو أعظم في الاستخفاف، ودليل سقوط تعظيم شعائر الله من قلب من أمر بذلك، ولا يفعلها إلا جاهل سفيه، وإن كان الآمر بذلك هو الإمام أو الحاكم فلا طاعة له؛ لأنه يصد عن سبيل الله ويهون شعائر الله في القلوب؛ ولأن مآل أمره منع ذلك؛ لأنه لا يتدرج إلى الكمال بل إلى النقص، وهو سعي في خراب المساجد لا في عمارتها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 114). وقوله سبحانه (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (البقرة: 114)، يدل على التدرج والاستمرار لا تخريبها جملة واحدة. ولأن الأذان بتسجيل صوتي موحد في الدولة مؤد كذلك لتقديم وتأخير الصلوات عن أوقاتها، والإفطار قبل أو بعد وقته؛ لاختلاف الغروب باختلاف الأماكن في الدولة الواحدة.

المجتمع وصلاة الجماعة

ولأن المؤذن مكلف شرعا بمراقبة الوقت الشرعي للصلوات والصيام، واتخاذ تسجيل صوتي موحد للمساجد يبطل ذلك؛ لأن اختلاف الأماكن موجود وتختلف المواقيت لذلك لا محالة، ولو في الدولة الواحدة، فهو مؤد إلى تخريب في مواقيت شعائر الإسلام الكبرى صلاة وصياما. وبالجملة فمن عمل بذلك فهو ساع في خراب المساجد، وصاد عن سبيل الله غير معظم للشعائر متبع غير سبيل المؤمنين مشاق لله ورسوله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 115). ولا أوضح في مشاقاة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين من هذا الأمر؛ فطريقة رسول الله، وسبيل المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها هو اتخاذ مؤذنين في المساجد إلى عصرنا هذا. فمن أراد استبدال المؤذنين بتسجيل صوتي عام فهو متبع غير سبيل المؤمنين. المجتمع وصلاة الجماعة: ويشهد أهلُ الحي في مسجدهم الصلاة جماعة، ولا مانع من اصطحاب الأطفال إلى المساجد لغرس ذلك في قلوبهم، وقد كان الأطفال يأتون إلى المساجد في زمنه صلى الله عليه وسلم، ونزل للحسن والحسين ليأخذهما وهو يخطب على المنبر (¬1). وكان إذا سمع بكاء الصبي خفف الصلاة لأجل أمه (¬2). فدل على اصطحاب الأطفال إلى المساجد. حكم إقفال السماعات أثناء الصلوات: وإقفال السماعات أثناء الصلوات، إن كان احترازا من تداخل أصوات سماعات المساجد لتقاربها، فيمكن جوازه بمحدودية لواقعة بعينها. ¬

(¬1) - قولنا «ونزل للحسن والحسين» أخرج ذلك أبو داود برقم 1111، بسند حسن صحيح عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال «صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) رأيت هذين فلم أصبر». ثم أخذ في الخطبة. (¬2) - قولنا «لأجل أمه .. » فيه أحاديث منها ما أخرجه البخاري برقم 707 من حديث أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه.

مشروعية التبرع لمحتاجين

وإن كان بحجة أن فيها إزعاجا للغير؛ فقائل هذا مريض القلب يخشى عليه أن يكون قوله هذا نوع ردة عن الدين؛ لأنه جعل إسماع القرآن في الصلاة وتكبيرات الانتقال إيذاء للناس. وهو كقول ابن سلول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تؤذنا في مجالسنا اذهب فمن جاءك فانصحه (¬1). مشروعية التبرع لمحتاجين: ويشرع جمع تبرع لمحتاج في المسجد كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم (¬2). والأصل الشرعي ذم التسول (¬3)، فإن اضطر شخص وجب على المجتمع سد حاجته. ومعرفة مدى حاجته حقيقة أولى؛ لأنه أنفع له ولقضاء حاجته. وأما من اعتاد السؤال تكثرا فيُتبين أمره، فإن ظهر محتاجا أعطي وإن كان لمهنة يقصد بها التكاثر منع ونصح. ولا ينهر السائل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (الضحى: 10)، ويصرف بالقول الحسن إن لم يتصدق عليه للآية (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا) (الإسراء: 28). الاحتفالات والندوات في المسجد: والاحتفالات والندوات والإنشاد في المساجد جائز، لحدوث ما يدل على ذلك في زمن ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «ويشرع جمع تبرع .. » الأصل فيه ما أخرجه مسلم برقم 2398 من حديث جرير قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال «(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى آخر الآية (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، والآية التي في الحشر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .. تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره -حتى قال- ولو بشق تمرة». قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت -قال- ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». (¬3) - تقدم فيه حديث الزبير بن العوام وأبي هريرة في صحيح البخاري.

والغيرة على الأعراض ومحاربة الإشاعة والقيل والقال من الواجبات

النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينصب المنبر لإلقاء حسان الشعر (¬1). وكان الحبشة يرقصون في المسجد وهو ينظر (¬2). وكذا يجوز مداواة مريض في المسجد (¬3). - والغيرة على الأعراض ومحاربة الإشاعة والقيل والقال من الواجبات: وذلك أن حفظ العرض من مقاصد الشريعة الستة الكبرى: حفظ العقل، والنفس، والعرض، والمال، والعقل، وحفظ الجماعة العامة. والغيرة على الأعراض أمر يحبه الله، ففي النص «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغْيَرُ منه والله أغْيَر مني» (¬4). والديوث ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحرمة عليه الجنة بالنص «لا يدخل الجنة ديوث» (¬5)، والديوث كل من لا يغار على العرض، لا عرضه ولا عرض غيره، ويرضى على أهله بالخبث. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 5017 من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». قلت: سند أبي داود حسن. (¬2) - الخبر في ذلك مخرج في صحيح البخاري برقم 988 قالت عائشة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعهم أمنا بني أرفدة يعني من الأمن. (¬3) - قولنا «وكذا يجوز مداواة مريض .. » أي في المسجد لما ثبت في صحيح البخاري برقم 463 من حديث عائشة، قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها. (¬4) - حديث «أتعجبون من غيرة سعد .. » أخرجه البخاري برقم 6846 من حديث سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني». (¬5) - حديث «لا يدخل الجنة ديوث» أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (2/ 33) برقم 677، عن عمار، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ديوث». قلت: سنده فيه مبهم، ولكنه من رواية شعبة عنه، وشعبة لا يروي إلا عن ثقة كما هو معلوم، فالحديث حسن.

ومن لا يغضب على عرضه في سمعة، أو طعن، أو قذف، ولا بمجالسة أهل الفواحش الأخلاقية، أو عدم مبالاة بداخل وخارج على عرضه، فهذا ديوث ملعون فاسق محرمة عليه الجنة. فيجب على المجتمع عموما، وعلى كل فرد فيه: حفظ الأعراض، ومنع كل ما يطعن فيها، ومحاربة الإشاعة على الأعراض؛ لأنها من أكبر الكبائر، ولذا حرمها الله وحرم الكلام فيها في المجالس العامة والخاصة، وجعل من ينشر ذلك من أهل النار والعذاب في الدنيا والآخرة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). وعذابه في الدنيا سماوي أو قضائي، فالأول كتسليط الله العذاب عليه في بدنه، ونفسه، وماله، وأعماله. والثاني تعزيره قضاء بما يردعه عن الإشاعة وبما يؤدي إلى منعها، ومواجهتها، ومنع نشرها. ويجب إحسان الظن بالمؤمنين لعموم (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12). والتكافل المجتمعي والإعانة بالقرض والعارية وإغاثة الملهوف مشروعة: وهذه الأخلاق من مهمات مما حث عليه الإسلام، فشرع القرض وأحكامه في أطول آية في القرآن، وأمر بإنظار المعسر (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). ومن أقرض شخصا فله أجر المتصدق بالنص (¬1). ¬

(¬1) - قولنا: «فله أجر المتصدق .. » الدليل عليه عام وخاص، أما العام فهو ما أخرجه البخاري برقم (6021) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كل معروف صدقة». وهو عن حذيفة في صحيح مسلم برقم 2375. وأما الخاص فمنه حديث بريدة بسند صحيح على شرط مسلم عند أحمد برقم (23096) ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة». قال: ثم سمعته يقول «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة». قلت: سمعتك يا رسول الله تقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة، ثم سمعتك تقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة. قال «له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة». =

ويجب رد القرض، ومن نوى عدم الرد فقد ارتكب خصلة من الكبائر والآثام، ويتولى الله إتلافه؛ للنص «من أخذ أموال الناس ليردها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (¬1). ولا يجوز في القرض اشتراط مبلغ زائد عند القضاء؛ فهذا من الربا المحرم، وهو المقصود قطعا بالنص (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). والعارية مشروعة، وما كان من الأشياء التي يعتاد الناس استعارتها بلا ضرر مع الحاجة ¬

= وقال الحاكم برقم (2225) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. قلت: وأما حديث «كل قرض صدقة» فهو عند الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 17) برقم 3498 عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل قرض صدقة ثم قال بعد تخريجه لم يرو هذا الحديث عن الربيع إلا هلال أبو ضياء ولا عن هلال إلا جعفر بن ميسرة تفرد به غسان بن الربيع. قلت: وحسن إسناده المنذري قائلا في الترغيب برقم (1331) وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كل قرض صدقة» رواه الطبراني بإسناد حسن والبيهقي. قلت: وتبعه الألباني، وأنى لهذا الإسناد الحُسْن. وفيه جعفر بن ميسرة قال ابن طاهر منكر الحديث. ومرة روى المناكير لا شيء في الحديث. انظر معرفة التذكرة لابن طاهر المقدسي - (1/ 186) (1/ 253) وقال البخاري والعقيلي وابن عدي: ضعيف الحديث منكر الحديث كما في الضعفاء للعقيلي (1/ 187)، (2/ 144). وقال بن حبان في المجروحين (1/ 213): عنده مناكير كثيرة لا تشبه حديث الثقات ... لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل التعجب. وقال الذهبي في المقتنى في سرد الكنى (1/ 324): أبو ضياء هلال عنه جعفر بن ميسرة لم يصح. وفي لسان الميزان لابن حجر (تحقيق أبو غدة) (2/ 476): قال أبو حاتم منكر الحديث جدا. وفي الأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم (5/ 202): أبو ضياء هلال عن أبي يزيد الربيع بن خثيم الثوري روى عنه جعفر بن ميسرة الأشجعي، لا يتابع في حديثه. قلت: وقد فتشت كثيرا في مظان ترجمته فلم أجد إلا التوافق من أهل الفن على إسقاطه فكيف يكون الإسناد حسنا وقد بحثت كثيرا عن متابع أو شاهد فلم أجد إلا أن معنى الحديث صحيح ويغني عنه ما ذكرناه وفي الصحيحين أن الله تجاوز عن رجل كان يداين الناس. (¬1) - أخرجه البخاري برقم (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله».

العزاء

إليها كالقدور وأشياء من أدوات المطبخ، أو بعض الفرش لمن عنده ضيف، أو مناسبة، أو نحو هذه الأمور فواجب إعارتها؛ لورود تحريم منعها (الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 6 - 7). ومن استعار شيئا فهو ضامن له، فإن أتلف شيئا منه، فإما أن يأتي بالبدل المماثل، أو القيمة المتوسطة لحديث «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬1). ومن المكارم إغاثة المحتاج والملهوف، والنجدة والمساعدة للناس، وعون من نزلت به مصيبة بالتعاون والبذل، وكل هذا مما يرضي الله؛ لعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). والصدق، والوفاء، وحفظ الأمانات واجبات: ففي الحديث «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (¬2). وهذا يدل على وجوب الصدق والوفاء وحفظ الأمانة، ومن فعل شيئا خلاف ذلك ولم يتب استحق مقت الله ونبذة الخلق، وفي النص أن هذه المنكرات تهدي إلى النار وأن الصدق يهدي إلى البر والجنة (¬3). - العزاء والتعزية مشروعة، ويحرم جعلها غرامةً على أهل الميت بالإقامة عندهم وتكليفهم الذبح والطعام والنثريات المختلفة، وهو معدود في النياحة المحرمة عند الصحابة لحديث جرير بن عبدالله البجلي، قال: كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة، وهذا ضرر، وهو مدفوع في الشرع، وهو خلاف السنة، وبدعة من البدع التي ناقضت السنن، ففي ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «وفي النص أن هذه المنكرات .. » قلت: مقصودنا من النص ما في صحيح البخاري برقم 6094 ومسلم برقم 6803، واللفظ للبخاري، عن عبدالله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا».

الحديث «اصنعوا لآل جعفر طعاما» (¬1). والسنة حضور الناس إلى بيت العزاء بلا إطالة، وهذه هي السنة الثابتة (¬2). ويشرع أن يقول «لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى» (¬3)، ولا مانع من كل كلام حسن للمواساة مع عدم اعتقاد التعبد به بلفظه مثل «عظّم الله أجركم ورحم ميتكم». والسنة الحضور للصلاة على الميت والدفن لحديث «من مشى مع جنازة حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها انقلب من الأجر بقيراطين أدناهما مثل جبل أُحُد» (¬4). ويكبر على الجنائز حال الصلاة عليها أربع تكبيرات: بعد الأولى الفاتحة، وبعد الثانية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الثالثة الدعاء للميت، وبعد الرابعة السلام، هذا ما ثبت في السنن الصحاح المنقولة، ويسلم إلى جهة أو جهتين، كل ذلك صحيح وارد، ويقف حال الصلاة حيال رأس الرجل، وحيال وسط المرأة؛ لورود النص من السنة الصحيحة في ذلك. ¬

(¬1) - قولنا «ويحرم جعلها غرامة .. » لأن السنة في التعزية هي أن يُصْنَع الطعام لأهل الميت لحديث أبي داود برقم 3134 عن عبدالله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم». قلت: سنده حسن، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت شيء لشغلهم بالمصيبة وهو قول الشافعي. قال أبو عيسى وجعفر بن خالد هو ابن سارة وهو ثقة روى عنه ابن جريج قلت وأبوه خالد قال الذهبي وثق وذكره بن حبان وقال الحافظ صدوق ولعل هذا هو سبب جمع الترمذي للوصفين الحسن والصحة. (¬2) - قولنا «بلا إطالة .. » لأن الإطالة في التعزية والمكث وصناعة الموائد للمعزيين خلاف السنة بل ورد أنه من النياحة كما في سنن ابن ماجة برقم 1612 عن جرير بن عبدالله البجلي، قال: كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. قلت سنده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) - حديث «لله ما أخذ .. » ورد في صحيح البخاري برقم 1284 عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابنا لي قبض فائتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع -قال حسبته أنه قال- كأنها شن ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». (¬4) - قولنا «والسنة الحضور للصلاة على الميت والدفن .. » دليله ما في صحيح البخاري برقم 1325 ومسلم برقم 2232، واللفظ للبخاري، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين».

الثأر

ولا يصلى على قاطع صلاة، ولا القاتل عمدا وعدوانا إلا إن قوصص به، ولا على الغال من الغنيمة، ومثله قياسا مختلس المال العام، ويصلى على السقط إذا كان تاماً، وبما مر ثبتت السنن الصحيحة. - الثأر وحرمة دم المسلم، وماله، وعرضه من أكبر قواطع الشريعة وفرائضها. ومن قتل متعمدا معتديا فهو من أهل النار المخلدين فيها بالنص (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)، ووجب فيه القصاص شرعا، ويوصل إلى القضاء وجوبا، دفعا للفتنة إلا إن أُصلح بينهم للعفو عن القصاص وأخذ الدية -حينئذ-، أو العفو عنهما معا. والثأر محرم؛ لأنه يفتح باب الفتنة، وإذا كان الثأر على شخص من قبيلة القاتل وليس هو بقاتل، فهو حينئذ قتل عمدٍ وعدوان، محرم، وملعون فاعله، ومخلد في النار (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93). - ظلم المرأة والمرأة مُكرَّمة كالرجل لعموم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وهي مكلفة بالشرع، لا فرق بينها وبين الرجل، ولها الحقوق تامة كما للرجل، وأكثر من الرجل في أمور كوجوب النفقة عليها وتخفيف التكاليف عليها مما هو لازم على الرجل، فلا جهاد عليها بمعنى القتال، ولا تلزم بحضور جمعة ولا جماعة. وفي الميراث فضلت المرأة على الرجال في كثير من المسائل، فتأخذ الأكثر في مسائل النصف والباقي للرجال من العصبات، وتأخذ إذا اجتمع منهن اثنتان فما فوق مسائل الثلثين والباقي للرجال من العصبات. وتتساوى المرأة مع الرجل في مسائل، فالأب والأم لكل واحد السدس مع الفرع الوارث الذكر.

التصنيف الجاهلي

والجد والجدة السدس في مسائل. والإخوة للأم سدس للأخت لأم، وسدس لأخيها من الأم، فإن كانوا أكثر قسم بينهم الثلث بالسوية ذكورا وإناثا (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ) (النساء: 12). ويفضل عليها الرجل في مسألة الأبناء والإخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين. ومن ظَلَم المرأة في ميراثها أو منعها فهو قاطع رحم، لا تستجاب له الدعوات وهو متعد حدود الله يؤدب ويعزر ويؤخذ منه الحق، وقد قال الله سبحانه بعد ذكره الفرائض (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء: 13 - 14). - التصنيف الجاهلي: ويحرم تصنيف الناس -على أساس العرق والنسب- إلى سيد وخادم وقبيلي ونحو ذلك مما يقتضي الطبقية التفضيلية، وهو أمر جاهلي لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، ولقوله صلى الله عليه وسلم لمن عيّرَ خادمه «إنك امرؤ فيك جاهلية» (¬1). وقد جمع الإسلام بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وسائر العرب من قريش وغيرهم. وزوج من كانوا عبيدا في الجاهلية بخيار نساء قريش (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (30)، ومسلم برقم (4403)، واللفظ للبخاري، عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر، أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم». (¬2) - قولنا «بخيار نساء قريش» أدلته كثيرة منها ما أخرجه البخاري برقم (5088) عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة =

ويحرم اشتراط نسب علوي للزواج بعلوية أو فاطمية؛ لأنه من أمر الجاهلية. ¬

= بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتى أنزل الله: (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب: 5) فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين. فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري -وهي امرأة أبي حذيفة- النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا وقد أنزل الله فيه ما قد علمت فذكر الحديث .. وفي البخاري برقم (5089) عن عائشة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج. قالت: والله لا أجدني إلا وجعة. فقال لها: حجي واشترطي قولي اللهم محلي حيث حبستني وكانت تحت المقداد بن الأسود. وفي البخاري برقم (5090) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك». وفي سنن أبي داود بسند صحيح برقم (2104) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه». قال «وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة». وقال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 377) منتقدا: وجعل بنات فاطمة رضي الله عنها أعظم شرفا وأرفع قدرا من بنات النبي صلى الله عليه وسلم لصلبه فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة والتصلبات على أمر الجاهلية. وأعجب من هذا كله ما وقع للجلال من نقل الأكاذيب المفتراة في شرحه لهذا الموضع وهو مصداق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تلك الخصال المذكورة في الحديث السابق كائنة في أمته وأنها لا تدعها أمته في جاهلية ولا إسلام كما وقع في الصحيح وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم فكيف يتركها من لم يعرف ذلك والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع ولهذا أخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس». قلت: ومما يدل لهذا ما نقله في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 144) قائلا: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). وقال تعالى. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10). وقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71)، وقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران: 195). وقال صلى الله عليه وسلم لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود. ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب. وقال صلى الله عليه وسلم إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا، (وعند الترمذي): عنه صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالوا: يا رسول الله وإن =

وقد زوج بناته صلى الله عليه وسلم من أهله، وغير أهله كعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وزوج عليُّ بن أبي طالب ابنته لعمر بن الخطاب. والطعن في الأنساب محرم «اثنتان من أمتي هما بعض كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت» (¬1). وتصنيف النساء إلى شريفة وهي من نسبها فاطمي، وغير شريفة وهي من نسبها إلى آدم عليه السلام، تقسيم قبيح وتسمية جاهلة. ولا يجوز لأحد منع ابنته الزواج إلا من نسب معين، ولو تقدم لها كفء من غيره رفضه. وإذا تقدم لها كفء من غير النسب الذي يريد الولي فامتنع عن التزويج مع رضى ابنته فهو عاضل مرتكب لمحرم (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 232)، ¬

= كان فيه؟ فقال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه وكان حجاما. وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه وتزوج بلال بن رباح بأخت عبدالرحمن بن عوف وقد قال الله تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: 26)، وقد قال تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) (النساء: 3). قلت: وفي مسند أحمد بن حنبل برقم 12416 من حديث أنس رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال حتى أستأمر أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذا قال فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها فقالت لاها الله إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبا وقد منعناها من فلان وفلان قال والجارية في سترها تستمع قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقالت الجارية أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إن كان قد رضيه لكم فانكحوه فكأنها جلت عن أبويها وقالا صدقت فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت قد رضيته فقد رضيناه قال فإني قد رضيته فزوجها ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة. قلت: وهذا صحيح على شرط الشيخين. (¬1) - أخرجه البخاري برقم 3850 عن ابن عباس، ومسلم برقم 236، واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت». وفي حديث لمسلم برقم 2203 عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة». وقال «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب».

(وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) (النساء: 19) (¬1). و«يفسق بأدنى عضل»؛ لإصراره على محرم، ولا ولاية له، ويحق للبنت أن يزوجها وليها غير أبيها، فإن لم تجد زوجها القاضي. ومن اشترط من الفقهاء شروطا للكفاءة فعلى وجه الأولوية لا الفرض والوجوب الشرعي، وقد نظمت ما استحسنه الفقهاء من الكفاءة مع ذكر بعض مشايخي، فقلت: الدِّينُ والحريةُ احترافُ ... والنسب اعتبره الأسلافُ ومالك شرط خصلتين ... بُرْؤٌ ومعْه الشافعي في الدِّين واشترط اليسار عند الحنبلي ... وشيخنا زيدان في المفصل والمالكي الأحناف أما الزيدي ... فشَرَطَ الدِّين بغير زيدِ (¬2) الناصرُ زيدُ بن عليْ والهاديْ ... وكمْ لهم من جاهلٍ معاديْ كالمتوكل وكالمنصورِ ... والمسوري أحمد المبتور ¬

(¬1) - من أسباب نزول الآية (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) ما في صحيح البخاري برقم 5130 عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه. قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. قال: فزوجها إياه. (¬2) - أي أن المذهب الزيدي اشترط للكفاءة في النكاح الدين فقط بدون زيادة، وهذا معنى قولنا «بدون زيدِ» أي بدون زيادة، وارجع في تفصيل هذه المسائل بتوسع كتاب (المفصل في أحكام المرأة) لشيخنا العلامة عبدالكريم زيدان.

الحلف بالطلاق

نقضه الأمير والشوكاني ... والمقبلي وشيخنا العمراني وشرف العلم علا فوق النسب ... للجعفري وسما فوق الرتب - الحلف بالطلاق والحلف بالطلاق لا يجوز، كأن يقول: الطلاق عليَّ إن كان كذا وكذا. أو يقول: عليّ الحرام والطلاق إن كان كذا وكذا. ولا يجوز اليمين إلا بالله «من حلف بغير اسم الله فقد أشرك» (¬1). وقد أفتى أكثر فقهاء العصر على أن الحلف بالطلاق ينظر فيه إلى نية الحالف، فإن نوى اليمين كفر كفارة يمين وهي (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: 89)، وإن نوى الطلاق وقع عليه طلقة، إذا وقع ما ذكره في يمينه. - أكل الأوقاف الوقف هو إخراج شيء ذي منفعة من الملك الشخصي، وجعل منافعه لوجه الله، وفي الحديث أنه «لا يباع ولا يوهب ولا يورث» (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «ولا يجوز اليمين إلا بالله» دليله ما أخرجه البخاري برقم 4860، ومسلم برقم 4349، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق». وفي سنن أبي داود بسند صحيح برقم 3253 عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلا يحلف (لا والكعبة). فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من حلف بغير الله فقد أشرك». (¬2) - قولنا «الوقف هو إخراج شيء .. » فيه حديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم 2737 أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمر به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول.

الأحكام القبلية

ومن أكل الوقف ومنعه مما وضعه له الواقف، فهو آكل الحرام والسحت (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 181)، ويجب على المجتمع والدولة منعه وردعه. ويحرم بيع الوقف، أو هبته، أو التصرف فيه بما يخرجه عن كونه وقفا. وبيع أراضي الوقف بمسمى إجارة حيلة قبيحة لأكل السحت والحرام، ووسيلة لتضييع الأوقاف؛ فحرمت. الأحكام القبلية: يمكن تعريف القبيلة بأنها تجمع بشري لأسر وأفخاذ وبطون، يجمعهم النسب الواحد غالبا. وقولنا «غالبا»: لوجود بعض التجمعات التي قد تنسب إلى أي أب آخر؛ لإمكان تفرق أبناء القبيلة في كثير من الأماكن، فإن كان التفرق قاطعا باتا بقي لهم صلة النسب لا حقوق القبيلة من التعاون حال النوازل والعاديات نحو دفع دية وغير ذلك. وهي قائمة جبلَّة من أصل الفطرة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). وعلة هذا منصوصة بقوله تعالى (لِتَعَارَفُوا). إذ المعرفة للأشخاص بأعيانهم تترتب على أسمائهم وأنسابهم القبلية. لا تفاضل بالنسب ولا بالقبيلة: ولا تفاضل في الأنساب إلى الأجداد ولا إلى القبائل ولا إلى الجغرافيا المكانية ولا إلى البيوت ولا إلى الوظائف والأموال والأولاد. وكل ما أصله من أصل الفطرة والخلقة والجبلة مما لا يد فيه لأحد فالقاعدة فيه: قطع باب التفضيل عند الله وعند خلقه، وما كان من باب الكسب ففيه تفاضل، والإيمان والعمل الصالح في الأرض باب التفضيل وأصله عند الله. مشايخ القبايل وأهم واجباتهم: وشيخ القبيلة أو العشيرة أو الأسرة هو من رضيه الناس ورَقَمُوا له ذلك؛ لجريان العادة على ذلك والعادة محكمة وأصلها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، ولكل قبيلة عرف في

البت في القضايا وعدم تعليقها

ذلك، فما تراضى عليه الناس في هذا الأمر اُعْتُبِر. وفَرْضٌ عليه أن يقوم بين الناس بالعدل لقوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وأن ينصر المظلوم وينتصر للضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» (¬1)، وحديث «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب» (¬2). البت في القضايا وعدم تعليقها: ويجب عليه إذا حكم أن يفصل في القضايا بين الخصوم، ولا يعلق ذلك، أو يتساهل، أو يؤجل إلا ما يمكن تأجيله من القضايا الخفيفة برضى الخصوم؛ فإن المفاسد تكثر والخصام يتسع، وقد يصل إلى أعظم المفاسد من قتل وفتنة، ووزره الأكبر على الشيخ المحكم لفظا أو عرفا؛ لتعليقه القضايا بين الخصوم؛ وعدم الحزم والحسم مع الإمكان؛ ولأن درء الفتنة بين الناس واجب فوري. فعلى المحكم درء الفتنة فورا بلا مماطلة لقوله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10)، والتعقيب بالفاء يقتضي الفور. ولكل قضية فور بحسبها، والفرض الواجب في الجميع حرمة التساهل والمماطلة عمدا مع عدم المانع من البت فيها. ردع المفسدين: ويجب على الشيخ أن يردع المفسدين ممن تحت مشيخته، وأن يمنع وجوبا قطع الطريق والسرقات والقتل والاقتتال، ويحرم إيواء القتلة والمحاماة عنهم، أو الدفاع عن الظلمة ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه أحمد في مسنده على شرط الشيخين وهو أول حديث في المسند، أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: 105) وأنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه». وهو في سنن ابن ماجة برقم 4005.

القيام بالقسط وحرمة المجاملات

والخونة لمعرفة أو قرابة أو مصلحة دنيوية أو حزبية. فإن فعل فعليه لعنة الله ورسوله بالنص «لعن الله من آوى محدثا» (¬1). وقاطع الطريق يقام عليه حد الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). القيام بالقسط وحرمة المجاملات: ويجب القيام بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو أقرب الأقربين كالوالدين. فلا يجوز للشيخ مجاملة الغني لغناه، أو مجاملة الفقير رحمة به، أو القريب عصبته له، فإن فعل فهو ظالم ينتقم الله منه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135). حفظ وثائق الناس: وفرض على المشايخ والمحكَّمين حفظ ما بأيديهم من وثائق الناس وأحكامهم، ويحرم إخفاؤها، أو نقضها بزور، أو منعها من صاحبها؛ لأن الله يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58). ردع المبطلين: وإن علم أن هذا المال لفلان، أو أن فلاناً على غير الحق ويستطيع ردعه، وجب عليه؛ لعموم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 5239 عن عامر بن واثلة قال: كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل، فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ قال: فغضب، وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى شيئا يكتمه الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: قال «لعن الله من لعن والده ولعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الأرض». (¬2) - تقدم تخريجه.

المرافقون والمشاورون

المرافقون والمشاورون: وليكن مرافقوه ومشاوروه من أهل الخير والحكمة والصلاح والقوة والعدل؛ ليكونوا أعوانا له على إقامة الحق لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو أن رجلا صالحا يحرسني الليلة» (¬1)، فإذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاحَ في الحارس فمثله أولى منه في المستشار. الضغط على الناس في الانتخابات: ولا يجوز في الانتخابات حمل الناس على انتخاب الفاسد، أو الظالم، أو تضليلهم، أو إكراههم، أو تهديدهم براتب، أو أخذ مال من تحت أيديهم كأرض، أو برواتب الحالات الاجتماعية المقررة من الدولة، أو الكذب عليهم بوعود يعلم أنها من البهتان والتغرير، ومن فعل ذلك فقد تحمل أوزارا ومظالم كثيرة، وعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه يقول (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) (النحل: 25)، ويقول (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» (¬2). وفعل هذه الأمور ليس من النصيحة، وقال صلى الله عليه وسلم «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (¬3). وقد أصبحت هذه الأعمال المنكرة سنة يستعملها النافذون والظالمون في الانتخابات لكسب الأصوات، فما ترتب عليها من المظالم كان لهم من وزرها. الأمر بالصلوات والزكاة وإقامة المساجد: ويجب على المشايخ والوجهاء الأمر بالصلاة وإقامة المساجد ومدارس التحفيظ وإيتاء ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2885 عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال: ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت سلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن أبي وقاص، جئت لأحرسك. ونام النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في مسلم برقم 6383. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

محاربة السحرة والمشعوذين

الزكوات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في الأرض، لقوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). محاربة السحرة والمشعوذين: ويجب محاربة السحرة والمشعوذين والمقذين (¬1) والمنومين (¬2)، وردعهم، والتبليغ عنهم؛ لمحاكمتهم؛ لأن أفعالهم من المنكرات (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102)، وقال صلى الله عليه وسلم: «حد الساحر ضربة بالسيف» (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (¬4). وشراء السحر مبطل ومحبط للعمل وموجب للنار (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102). العادات القبلية: والعادات القبلية الحسنة يحافظ عليها شرعا كنجدة وكرم وشجاعة وتعاون وبرٍ بوالدين وأقارب وصلة رحم ووفاء وصدق وعدم الضرر بالناس وترك الكذب؛ لأن إقامة المكارم ورعايتها من مقاصد الشرع «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬5). وكل عادة سيئة من تفاخر على البعض بالأنساب والأحساب والأملاك والأراضي ¬

(¬1) - التقذية هي نوع من عمل السحر ويتميز بطلب المشعوذ من المريض أن يتقيأ فيوهمه أنه قد خرج منه أمور منكرة وأنها هي المرض. (¬2) - المنوِّم هو من يزعم كشف السارق والقاتل ونحوه بتنويم شخص ثم يسأله وهو نائم. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - أخرجه الترمذي برقم 135 وسنده حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد». وهو في ابن ماجة برقم 639، وفي أحمد برقم 9532 من طريقين: الطريق التي أخرجها الترمذي، وطريق أخرى حسنة، إلا أن خلاس قيل لم يسمع من أبي هريرة، وصحح الحافظ سماعه في البخاري في موضعين متابعة. (¬5) - تقدم تخريجه.

قطع الطريق والقطاعات القبلية

والعمارات والمعرفة والجاه والعلاقات والصداقات وغيرها، تجتنب شرعا (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). ومن المحرمات الدس والنميمة بنقل الأخبار من فلان لفلان بما يثير الأحقاد وهذه من الكبائر «لا يدخل الجنة نمام» (¬1). والغيبة والفتنة بين الناس وسب العار والعرض والأمهات والوالدين واللعن وسائر الشتائم، وهذا كله من المحرمات المعلومة في الدين. - قطع الطريق والقطاعات القبلية: والتقطع والقطاعات بين القبائل من المحرمات؛ لما فيه من الفساد في الأرض والظلم وقطع مصالح الناس وأخذ البريء أو ماله، وما يقع فيها من إخافة المسلمين في السبيل العام، وغصب أموالهم وإهانتهم، أمور من كبار الجرائم عند الله، ويشمله في الأصل حد الحرابة. وأما قطع الطريق لنهب وسلب وإخافة للناس فهو من الحرابة في الأرض وحَدُّه ما ذكر الله في كتابه (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). حكم الزوامل والزوامل (¬2) والأشعار القبلية إن هيجت على الخير وحثت عليه جازت وندبت، فإن منعت قتالا، أو فسادا، أو فتنة فهي -حينئذ- من وسائل الخير المؤكدة، وإن حملت الناس على الشر والفتنة والسباب والعصبية فهي من نفخ ونفث الشيطان، والمتبع له حينئذ من الغاوين بالنص (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء: 224). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 6056 عن حذيفة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لا يدخل الجنة قتات». وفي مسلم برقم 304. (¬2) - هو شعر معروف يقوله الناس ويجيب آخرون بطرق جرت عليها العادة، وهو منتشر في القبائل.

الضيافة والأعراس

الضيافة والأعراس وإجابة الدعوة لضيافة أو عرس مأمور بها بالنص «وإذا دعاك فأجبه» (¬1)، ولا يتخلف عنها إلا إن كان معه دعوة سابقة أو عذر لا تكاسلا. فإن كان في العرس منكرات معلومة، وجب على من حضر إزالتها باليد إن كان لا يحدث فتنة، وإلا أبلغ القائم على العرس، أو نصح بحكمة. فإن كانت منكرات قطعية كشرب الخمر، أو رقص النساء مع رجال وجب تغييرها والإنكار وإلا حرم الحضور. والإسراف في الأعراس لا يجوز، سواء في مأكل أو مشرب أو غيرهما (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31). بل على التوسط بلا خيلاء ولا كِبْر ولا بطر (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). ولا يسرف في المظاهر والشكليات والنفقات؛ لأنها تكسر قلوب الفقراء والمحتاجين وتؤدي إلى التحاسد، والكبر، والعجب، وما أدى إلى المحرم محرم. وضرب العيارات النارية الحية: إن غلب أداؤه إلى مفاسد، أو أسرف فيه ولو لم يحصل منه ضرر حرم في الحالتين؛ لأن الإسراف والتبذير محرم، قال تعالى (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، وقال (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141). وأما الضرب بالسلاح الثقيل في الأعراس فهو محرم؛ لأنه خروج عن التوسط الذي قام عليه الدين إلى البطر والإسراف، والمخيلة على الخلق (¬2). وضرب الدف، والبَرَع (¬3)، والزوامل، والإنشاد في الأعراس كله من الأمور التي تدخل في المباح والمستحب؛ لأنه من إعلان النكاح، ولعدم المحضور الشرعي فيه، بل ورد فيه «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» (¬4). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - وهي من العادات في بعض قبائل اليمن. (¬3) - البَرَع: نوع من الرقص اليمني. (¬4) - أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم 16175، عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعلنوا النكاح». قلت: وسند أحمد حسن. وصححه ابن حبان برقم 4066، وأخرجه الحاكم وصححه برقم 2748، وقال الذهبي صحيح. والضياء في المختارة برقم 262. وقال ابن حبان: معنى «أعلنوا» بشاهدي عدل. قلت: وهو في موطأ عبدالله بن وهب برقم 223. ومن طريقه أخرجه أحمد. أما رواية الترمذي برقم 1089 عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف». قال أبو عيسى هذا حديث غريب حسن في هذا الباب وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث وعيسى بن ميمون الذي يروي عن ابن أبي نجيح التفسير هو ثقة. انتهى. قلت: وتحسين الترمذي له تفردٌ في تحسين حديث عيسى بن ميمون إلا إن كان يقصد التحسين في الشواهد. وتابعه ربيعة بن أبي عبدالرحمن عند ابن ماجة، إلا أنها متابعة غير صحيحة لأنها من طريق خالد بن إلياس وهو شديد الضعف ولا يصلح مثله في المتابعة. وقد حسنه السخاوي في المقاصد الحسنة برقم 127. قلت: ويغني عنه في ذكر الإنشاد واللهو في العرس ما أخرجه البخاري برقم 5162 عن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو».

ويحرم إعلان فض البكارة؛ لأنه كشف للعرض بما لا يجوز علمه إلا للزوجين، وفاعله كالشيطان في الشرع «إنما مثل ذلك كمثل شيطان لقي شيطانة فغشيها في الطريق والناس ينظرون» (¬1)، وهذا دليل التحريم؛ لأنه من فعل الشيطان. وأما الغناء الفاحش والمزمار والموسيقى، فجميع المذاهب على تحريمه، والمخالف كابن حزم ومن قلده أو رجح قوله إنما أجاز الغناء والموسيقى إذا لم يفحش ويدعو إلى الخلاعة والمنكر، ويد الله مع الجماعة. والخروج عن الخلاف مستحب، ومثل هذه المسألة قد تكون في أقل أحكامها من الشبهات، ¬

(¬1) - الحديث حسن صحيح أخرجه أحمد برقم 27624 عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال: لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها فارم القوم. فقلت: أي والله يا رسول الله إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون. قال «فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانه في طريق فغشيها والناس ينظرون». قلت: سنده حسن، وفيه شهر بن حوشب قال أحمد حسن الحديث، ومرة ثقة، ومرة لا بأس به، وقال في التقريب صدوق كثير الإرسال والأوهام. وحسن حديثه البخاري. وقال علي بن المديني لا أدع حديثه. وقال ابن معين ثقة، ومرة ثبت. وقال الفسوي ثقة. وقال يعقوب ثقة. وكذلك العجلي. وقال أبو زرعة لا بأس به. ومن ضعفه فحاصل كلامهم أنه ليس بحجة أو ليس بحافظ. قلت: وللحديث شاهد عند أبي داود برقم 2176 من حديث أبي هريرة وهو شاهد صالح فيه مجهول عن أبي هريرة. قلت: وأخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم 413 من طريق عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وسنده حسن. قلت: وله شاهد أخرجه البزار برقم 1373 (كشف الأستار) بسند حسن من حديث أبي سعيد.

حكم الهجر

ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام بالنص (¬1). ومن العادات السيئة البقاء أياما عند العروس ضيافة، وأكثر الناس ليسوا من المقتدرين على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم «ولا يقعد عنده حتى يحرجه» (¬2)، وهذا إحراج فدخل في النهي. فإن كان مستطيعا جاز ثلاثة أيام ضيافة، وفوق الثلاثة أيام منهي عنه ومذموم شرعا وخلقا وعادة؛ لأنه حرج ومشقة على الخلق، لجريان العادات على أن الأكثر في العرس ثلاث، والغالب يوم وليلة. حكم الهجر: والهَجَرُ والعقر هو: الحكم على شخص في قضية بإرضاء خصمه برأس أو أكثر من الغنم أو البقر أو الجمال. وحكم الهَجَرِ في الشريعة أنه محرم؛ لأنه لا يذبح إرضاء له ودفعا لغضبه إلا الله، ويمكن أن نعرف الهجر بأنه ذبح لمخلوق لا يرضى إلا به. وما كان كذلك فلا يكون إلا لله، ولذلك خص سبحانه نفسه بها فقال (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ) (الأنعام: 162 - 163). وقال (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2). أي لا لغيره. ولا تساق الأنعام إرضاء لأحد إلا لله كسوقها له في الهدي البالغ الكعبة. فإن اضطر الناس في الحالات الشديدة لإطفاء فتنة القتل ونحوه، فقد أفتى جماعة من علماء اليمن بأنه يُسلَّم الهَجَر حيا إلى من أرادوه له، وهو يتصرف فيه إن شاء بالذبح أو غيره. ¬

(¬1) - قولنا «ومن وقع في الشبهات .. » دليله في صحيح البخاري برقم 52، ومسلم برقم 4178، واللفظ للبخاري، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب». وقد بسطنا حكم الغناء والموسيقى فيما سبق. (¬2) - قولنا «ومن العادات السيئة .. » ورد النهي عنه في صحيح البخاري برقم 6135 عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه».

أما أن يذبحوه هم على باب بيته، أو في أي مكان يأمر به أو جرت العادة، فهذا لا يجوز، ولحمه رجس يحرم أكله؛ لأنه ذبح إرضاء لمخلوق لا يرضى إلا به، فهو كالذبح للجن، ولو ذكر عليه اسم الله، ويحرم أكله كحرمة ما ذبح للشياطين والجن. وهو ليس كالذبح لإكرام الضيف؛ لاكتفاء الضيف بما تيسر، بخلاف الهجر فلا يرضى إلا بذبح رأس من الأنعام بصفة معينة لإطفاء غضبه وجلب رضاه، فهو ذبح لمخلوق لا يرضى إلا به (¬1). وعندي -بعد هذا كله- أن الهجر من المشتبهات، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. ¬

(¬1) - وقد قال البعض هانحن نذبح إرضاء للضيف وهو مشروع، فكيف يحرم هذا؟ فالجواب: أن الضيف يمكن أن تكرمه ولو بشراء شيء من لحم، ولا يشترط عليك ولا يحكم بأي شيء، فالذبح للضيف ليس بالإجبار وليس لدفع غضبه. بل بالتطوع والإكرام بخلاف الهجر فلا يمكن أن يشتري له لحما، ولو فعل لعظمت المصيبة؛ لأنه يعده استهزاء به. وليس للإكرام بل للإرغام، فالضيف يرضى بأي شيء، وهذا لا يرضى إلا بالذبح المشروط، فتبين أنه من حكم الطاغوت ومشاركة الله فيما اختص به لنفسه من الذبح إرضاء له في الهدي والنذور والكفارات.

فقه البيئة والصحة العامة

فقه البيئة والصحة العامة * «الطهور شطر الإيمان». * «طهروا أفنيتكم». * «إماطة الأذى عن الطريق صدقة» * «إن الله جميل يحب الجمال» * الحفاظ على الإنسان متلازم مع الحفاظ على البيئة * غير ممكن فساد الأرض والغلاف الجوي والبيئة عموما بريها وبحريها وجويها إلا إذا أفسدناها نحن بتصرفاتنا الخاطئة (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41) * ما ضر بالبيئة والحياة لا بد أن يُبعد حيث لا يضر؛ لأنه من دفع المفاسد والضرر * عشوائية الصيد المؤثر في إتلاف نوع من الحياة البرية أو البحرية منهي عنه * الحدائق والمتنزهات والجماليات من المحاسن المرعية في مقاصد الشرع التحسينية * التعاون الدولي والاجتماعي الرسمي وغير الرسمي بين الشعوب على حماية البيئة مطلوب وتتحمل البشرية المسئولية عن ذلك؛ لأنه من الإصلاح في الأرض

حفظ البيئة

فقه البيئة والصحة العامة البيئة: هي ما تعيش فيه الأحياء بحرا وبرا وجوا من الإنسان وغيره، أو هي الأرض برا وبحرا وجوا (¬1). وقد وضع الله الأرض للناس ومنافعهم (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمن: 10)، فدل على إمكان الانتفاع بها برا، وبحرا، وجوا، فكل انتفاع للإنسان بري، أو بحري، أو جوي، داخل في المقصد الإلهي من وضع الأرض، فيحرم إفسادها (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56). وقال (بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)؛ لأنها موضوعة على وجه صالح للحياة، وكانت غير ذلك فأصلحها الله. ومن أفسد لحقته العقوبات الإلهية، فإن عم الفساد عم العقاب (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). فكل فساد في الأرض محرم لا يحبه الله (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). - حفظ البيئة: وحفظ البيئة المتعلقة بالعيش من الأنجاس والأقذار والأضرار واجب في الجملة؛ لأنه يدفع كثيرا من المفاسد التي تهلك الأنفس والأموال. والطهارة عموما واجبة من الأنجاس والأقذار. أما الأولى فلقوله صلى الله عليه وسلم في الذي يعذب في قبره «كان لا يستنزه من البول» (¬2). وأما الأخرى فلقوله صلى الله عليه وسلم: «طهروا أفنيتكم» (¬3)، والأمر على الوجوب. ¬

(¬1) - قلنا: أو هي الأرض برا وبحرا وجوا، سواء كان فيها عيش أو لا؛ لأن غالب الأحكام تتعلق بالبيئة التي تتعلق بها الحياة الحيوانية بخلاف غيره، كالصحراء المنعدمة الحياة فيجوز فيها طمر المضرات لا على طريق الإفساد لها؛ لأن الفساد محرم سواء تعلق بوجود حياة أو لا، أما مناطق الحياة كالبحار فلا ترمى فيها نفايات تضر بالحياة البحرية. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

المياه

وقلنا «عموما» في وجوب الطهارة أي أن الطهارة عامة للصلاة، ولغير الصلاة في عموم الحياة، بل هي مقصود شرعي عام (وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ) (المائدة: 6)، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222). واختصت الصلاة بشرطيتها لها «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (¬1)، أي طهارة بما فيها الوضوء وطهارة البدن والمكان. - المياه: ويحرم الإسراف في استعمال المياه لقوله تعالى (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، فإذا منع الإسراف في المشرب ففي غيره من الاستعمالات بدنا ومكانا وملبسا أشد منها بالأولى. ولا يجوز تلويثها لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة» (¬2). ولا يشرب من فم القربة للنص (¬3)، ولا يغمس يده في ماء بعد نوم حتى يغسلها للنص (¬4)، ولا يتنفس في الإناء (¬5). - الصرف الصحي: ويجب تصريف المجاري بعيدا عن ضرر المجتمع لحديث «كان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب المذهب أبعد حتى لا يوجد له ريح ولا يسمع له صوت» (¬6). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 557 من حديث ابن عمر قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول». (¬2) - أخرجه مسلم برقم 684 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب». فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال يتناوله تناولا. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 5627 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة أو السقاء وأن يمنع جاره أن يغرز خشبه في داره. (¬4) - أخرجه مسلم برقم 665 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده». (¬5) - أخرجه البخاري برقم 153 عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه. وهو في مسلم برقم 5404. (¬6) - تقدم تخريجه.

الحفاظ على المتنفسات والحدائق والأماكن العامة

ولأنه الآن ضرر عام أشد من مجرد ريح أو صوت، ويترتب على عدم تصريفه بعيدا عن الخلق مفاسدُ تلحق بالأبدان: إنسانا، وحيوانا. بل تضر عموم الحياة حيوانية ونباتية وجمادية. وهذا ضرر فاحش فيدفع. والضرر المتعلق بالجمادات كإفساد التربة والصخور عن منافعها. ومن الشريعة تعليم آداب ذلك «علمكم نبيكم حتى الخراءة» (¬1). ومن المصالح العامة وضع المخلفات بعيدة عن الإضرار والإيذاء للناس. وتجعل لها مقالب خارج المدن، ويتخلص منها بما يذهب ضررها من: طمر، أو حرق، أو تحليل، أو تدوير لما يمكن بلا ضرر. - الحفاظ على المتنفسات والحدائق والأماكن العامة: ولا يجوز قضاء الحاجة تحت الشجر، ولا الثمر، ولا الزروع، ولا في الطرق، ولا في الظل، ولا في متحدث الناس (¬2)، ولا في ثقب (¬3)؛ للنصوص الكثيرة في ذلك، وهي تدل على أن ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 629 عن سلمان الفارسي قيل له قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة. قال فقال أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. (¬2) - قولنا «ولا يجوز قضاء الحاجة تحت الشجر ... » فيه أحاديث منها ما أخرجه مسلم في الصحيح برقم 641 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اتقوا اللعانين». قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال «الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم». وأخرج أبو داود برقم 26 بسند حسن في الشواهد لجهالة أبي سعيد الحميري وانقطاعه بينه وبين معاذ، قال إن أبا سعيد الحميري حدثه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل». وقارعة الطريق والظل وردا في صحيح مسلم كما تقدم. وأخرجه الحاكم برقم 594 وصححه ووافقه الذهبي. وله شاهد عند أحمد من حديث ابن عباس برقم 2715، والراوي عنه مبهم، وهو حسن في الشواهد. وحسنه النووي وأقره الولي العراقي ومغلطاي كما في فيض القدير للمناوي (1/ 177). وقد أورد له المغلطاي في شرحه على ابن ماجة (1/ 127) شاهدا جيدا. (¬3) - قولنا «ولا في ثقب» لما أخرجه أبو داود برقم 29 عن قتادة عن عبدالله بن سرجس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر. سنده صحيح. ومن ضعفه كالألباني قال: لم يسمع قتادة من عبدالله بن سرجس. قلت: قد أثبت سماعه كثير من أهل العلم كعلي بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم وأحمد والمثبت مقدم على النافي، وصححه الحاكم برقم 666 على شرط الشيخين وتبعه الذهبي. وأما تضعيف بعض طلبة الألباني للحديث بتدليس قتادة فليس بشيء.

التشجير وحكم استيراد المواد الضارة

الحفاظ على البيئة مطلوب شرعا. ويدخل في هذا دخولا أوليا: الحدائق، والمتنزهات، والأرصفة، والمتنفسات الطبيعية؛ لأنها مجامع الناس؛ فيحرم تلويثها بما يؤذي من قذر، أو نجس، أو مخلفات؛ للأحاديث المتقدمة، ولعموم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، ومن موجبات الجنة للنصوص في ذلك (¬1). - التشجير وحكم استيراد المواد الضارة: والتشجير مندوب والمثمر آكد، لحديث «من غرس غرسا أو زرع زرعا فأكل منه إنسان أو بهيمة أو طير كان له أجر» (¬2)، ومكافحة التصحر مشروع لحديث «من أحيا ميتة فهي له» (¬3). وإفساد الشجر والزرع بقلع، أو بكسر، أو حرق بلا معنى صحيح خارج على العادة، وهو كل إتلاف على خلاف ما جرت به العادات وطبائع الناس، عبثٌ (¬4). فإن عم أو كثر ظهوره فهو فساد (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). ويحرم استيراد وبيع المواد الضارة بالزروع والثمار والبيئة التي يفحش ضررها. - الحرث والنسل: ويحرم إهلاك الحرث والنسل للنص (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). وهو شامل لنسل كل دابة؛ ولكل حرث صالح للزراعة، لعموم اللفظ المستفاد من (ال) الجنسية الداخلة على الحرث والنسل، والحرث يطلق على ما يشمل التربة، وأدوات الحراثة ووسائلها، وإهلاكه إفساده بما لا مصلحة فيه. بخلاف ما فيه مصلحة اقتضت ذلك، وترجحت على المفسدة كالبناء فيه عند اتساع رقعة العمران في المدن والقرى وضيق الأرض، ولا يوجد بديل متيسر؛ فيجوز حينئذ. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - قولنا «عبث»: هو خبر والمبتدأ قولنا «إفساد الشجر» أي: وإفساد الشجر عبث.

الصيد وتنظيمه ومنع صيد الأمهات

وإهلاك النسل: إتلافه بأي الوسائل، كان نسل إنسان، أو حيوان بري، أو بحري، إلا نسل ضار من أفعى مؤذية (¬1)، وطفيليات ضارة، أو ميكروبات، أو فيروسات ممرضة حالا؛ فإن قتلها بعلاج ونحوه من دفع الضرر. ولأن الشرع أمر بالمداواة من المرض، وهو يقتضي دفع مسبباته من أحياء طفيلية أو ميكروبية. - الصيد وتنظيمه ومنع صيد الأمهات: ويجوز الصيد البري والبحري إلا ما كان إفسادا وإتلافا لوجود نوع؛ لأنه في معنى إهلاك النسل؛ لأن المقصود الشرعي حفظ تواجده وتناسله. فالصيد بتوسط لا بإفراط، ولأن الإسراف محرم على العموم في الشرع (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31). ولا مانع من تقننين صيد الأمهات إن اقتضى الأمر حفاظا على النسل؛ لأن صيدها بإفراط إهلاك للنسل بعموم النص، وهو محرم. ويجوز بناء محميات طبيعية؛ لأن الأصل الإباحة. وقد حمى عمر لإبل الصدقة مواقع خاصة من بيت المال العام؛ حفظا للمال العام الإنتاجي من إبل الصدقة. وحمى لعامة المحتاجين محميةً للرعي كما في البخاري (¬2). - الحيوان وحقوقه، وصحته، والمنع من إيذائه والعبث به: وإيذاء عموم الخلق، من إنسان أو حيوان أو نبات أمر محرم، ففي النص «دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «مؤذية»: خرج بها غير السامة، وكذا السامة في غير البنيان كصحراء أو غابة؛ فإنها في موطنها لا تقتل ولا نسلها إلا إن اعتدت بخلاف البنيان؛ فإنها تنذر ثلاثا كما في الحديث ثم يسمى الله وتقتل. ولأن وجودها في البنيان السكني ضرر؛ لأنه اعتداء على مسكن غير مسكنها والضرر مدفوع. (¬2) - هو حديث هني، وقد تقدم تخريجه. (¬3) - صحيح البخاري برقم 3318 عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض». وهو في مسلم برقم 6845 عن أبي هريرة.

وواجب إطعام حيوان من الطوافين -كهرة، أو كلب- معرض للتلف عطشا أو جوعا، مع القدرة على إطعامه، وعدم توفر ما يأكل؛ لحديث الهرة. وإن لم يفرض فهو إحسان مأمور به (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولأن «امرأة سقت كلبا فغفر الله لها» (¬1). ولا يقتل شيء من الحيوان عبثا؛ للنهي (¬2). ويقتل المؤذي منه بلا تجاوز لأن رجلا أحرق قرية نمل فنهي (¬3)، لأنه قتل قرية لأجل نملة قرصته، ومفهومه يدل على جواز قتل عين المؤذي لا جنسه ولو لم يؤذِ. ويحرم دفع حيوانات لقتال بعضها (¬4). ووسم حيوان في وجهه محرم «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى حمارا قد وسم في وجهه فلعن من ¬

(¬1) - هو في صحيح البخاري برقم 3321، وفي مسلم برقم 5997، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك». (¬2) - حديث «من قتل عصفورا .. » حديث حسن لغيره أخرجه النسائي برقم 4446 من حديث عمرو بن الشريد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عزوجل يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة». قلت: في سنده صالح بن دينار وثقه ابن حبان. وفي التقريب مقبول. وللحديث شاهد عند النسائي من حديث عبدالله بن عمر وفي سنده صهيب الحذاء الراوي له عن عمر قال في التقريب مقبول، وبقية رجاله ثقات. وهو شاهد حسن لحديث عمر بن الشريد. وخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 5894. وقال الحاكم في المستدرك برقم 7574 صحيح الإسناد. وقال الذهبي صحيح. قلت: وحسنه السيوطي وقال الذهبي في المهذب عن صهيب مولى ابن عامر كان حذاءً بمكة فيه جهالة وقد وثق وهذا إسناد جيد. انتهى. فيض القدير (6/ 250). (¬3) - الحديث أصله في الصحيحين (البخاري برقم 3019، ومسلم برقم 5986)، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح. (¬4) - يدل له ما في صحيح مسلم برقم 5171 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا». وإنما حرم لما فيه من الأيذاء الشديد للحيوان ومثله مناقرة الديكة أو مصارعة الثيران أو دفع حيوانات لقتال بعضها بعضا لوجود العلة في هذه المسائل. والله أعلم.

الطيور وتعهد صحتها وصحة الحيوان

وسم في الوجه» (¬1)، وفي مأكول اللحم يمنع من الإساءة في ذبحها (¬2). - الطيور وتعهد صحتها وصحة الحيوان: وعصفور الزينة يجب إطعامه على من حبسه في قفص؛ لحديث الهرة. ويشرع تعاهد صحة الحيوان مما تحت اليد أو ما أمكن دفع الضرر عنه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن عصفور مريض «يا أبا عمير ما فعل النغير» (¬3). وقولنا «مما تحت اليد»: دليله هذا الحديث، وحديث الهرة. وقولنا «ما أمكن دفع الضرر عنه»: دليله حديث سقيا الكلب «وفي كل كبد رطب أجر». ونهى عن إيذاء طير بإتلافه أو إفساد عشه أو ترويعه بأخذ صغاره للحديث «من روع هذه بولدها؟ ردوا لها ولدها» (¬4). ولأن العدوان محرم، وإتلافه، أو إفساد عشه عدوان لعموم (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). - دفع ضرر المؤذي: فإن كان من المؤذية الضارة التي تعتدي على المجتمع، فيجوز دفع ضررها، ولو بقتلها للرخصة في نحو ذلك كالفواسق الخمس لغلبة تعدي مباشرتها الضرر على الناس. - الأمراض المعدية والوبائية والحجر الصحي: والحجْر الصحي واجب شرعا في الأمراض الوبائية للنص «إذا سمعتم بالطاعون في أرض ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدمت أحاديث في ذلك ومما يشهد لذلك ما أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم 3590 عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال أفلا قبل هذا تريد أن تميتها موتتين. قلت وسنده صحيح. فإذا كانت تلحظ الشفرة فمن باب أولى ذبح أختها. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 6129، ومسلم برقم 5747، واللفظ للبخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير. (¬4) - قولنا «ونهى عن إيذاء طير .. » دليله ما أخرجه أبو داود برقم 2677 عن عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال «من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها». ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال «من حرق هذه». قلنا: نحن. قال «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار». قلت: وسنده صحيح. وأخرجه الحاكم برقم 7599 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وهو كما قالا.

فلا تقدموا إليها ولا تخرجوا منها» (¬1)، «ولا يرد ممرض على مصح» (¬2). وممرض بصيغة مُفْعِل تدل على تعديته للمرض إلى الغير بمجرد وروده على الصحيح. وأما الأمراض المعدية غير الوبائية: فلا يحجر؛ لكثرة الابتلاء بها في المجتمع والأسرة، فيؤدي إن قيل بالحجر إلى حرج ومشقة على الناس، والحرج مدفوع (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). ولندرة الإصابة في هذا النوع بمجرد المخالطة نحو مرض الزكام، وبعض أمراض الجهاز التنفسي ونحوه. وأما النوع الثالث من الأمراض فهي غير المعدية وهي كثيرة. فهذا النوع والذي قبله هما مقصودان في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» (¬3)، أي: لا عدوى تنتقل بمجرد المخالطة إلا في الطاعون. بل حتى في وباء الطاعون ليست المخالطة هي المعدية؛ ولكن لأن المرض كثرت مسبباته في الهواء والماء في مكان معين، فمن أصيب بجرعة قوية منه مع ضعف بدن هلك غالبا؛ لا أنه يهلك بمجرد مخالطة المريض. بدليل أن أفراد الأسرة الواحدة في أرض الطاعون، منهم من يصاب ويهلك، ومنهم من لا يصاب وهو مخالط، فدل على أنه لا عدوى بالمخالطة وإنما لأمور أخرى، فالحديث عام. ولهذا رغب الشرع في زيارة المرضى، وجعلها من أعظم القرب عند الله (¬4)؛ والمستثنى هو أن يأتي شخص من خارج أرض الطاعون لزيارة مريض بداخل أرض الطاعون، فهذا يمنع للنص. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5728 عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» فقلت: أنت سمعته يحدث سعدا، ولا ينكره. قال: نعم. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5922 عن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا عدوى». ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يورد ممرض على مصح». (¬3) - أخرجه البخاري برقم 5707 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد». وهو في مسلم برقم 5920. (¬4) - في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم برقم 6717 عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع».

فتحصل أن الأمراض على أربعة أقسام

وأما حديث «فر من المجذوم فرارك من الأسد» (¬1)، فهو عند غلبة انتقال المرض، وكذا في كل مرض مهلك، أو شديد الضرر يغلب انتقاله كالإيدز ونحوه من الأمراض المعدية ولكل سببه. فتحصل أن الأمراض على أربعة أقسام: الأول: الأمراض المعدية الطاعونية الجماعية المهلكة، فهذا الحجر الصحي فيها واجب. الثاني: الأمراض شديدة الخطورة مع إمكان الإصابة به بكثرة كالإيدز الآن، ومرض الجذام في شدته، فهذا يبتعد عن مسبباته وجوبا. الثالث: الأمراض غير المعدية، سواء كانت خطيرة أو غير ذلك، مثل الأورام السرطانية، والحساسية، وكمرضى حوادث السير ونحوها، فهذه لا يحجر بها على المريض والزيارة فيها مشروعة. الرابع: الأمراض العامة التي يغلب وقوعها، وهي متوسطة وخفيفة، كالتهاب المسالك، أو الجهاز الهضمي، أو التنفسي، لأسباب قد تتعدى، فهذه لكثرة الابتلاء بها، ولوجود مناعة ذاتية منها غالبا رحمة من الله لعباده، فلا يشرع فيها الحجر، ولا تمنع الزيارة، ولا المخالطة، وإلا لأدى إلى تقاطع العالم عن بعض لكثرة الابتلاء بهذا النوع. - التلوث الهوائي، والوقود الصديق للبيئة: ويجب الحفاظ على البيئة من التلوث الهوائي ويحرم إفساده بما يلوثه من ضار أو مؤذ. وقد نهى الشرع عن حضور مجامع الناس لمن أكل ثوما؛ لإيذائه تنفس الخلق (¬2). وقد أخرج عمر شخصا إلى البقيع وكان أكل ثوما، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى حاجته أبعد حتى لا يشم له ريح (¬3). فإذا منع من هذا الإيذاء الهوائي المحدود، فأولى أن يمنع التلويث الشديد للهواء بعوادم المصانع والآلات والناقلات والوقود. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم الحديث في ذلك. (¬3) - تقدم تخريجه.

وإذا نهى عن حضور أكل الثوم المجامع وأخرجه عمر، فأولى أن تمنع المصانع ونحوها أن تكون داخل المجمعات السكنية بل تخرج إلى مكان لا يضر بالتهوية؛ لعموم قاعدة لا ضرر ولا ضرار. والضرر في الشرع مدفوع، وهذا ضرر فيدفع، وكذا يحرم إفساد التربة أو إفساد البحر؛ لعموم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). ويطلب شرعا كل ما فيه مصلحة لصلاح الأرض والبيئة كعمل أبحاث لإنتاج وقود صديق للبيئة غير ضار بالحياة؛ لأنه وسيلة للمصلحة المعتبرة شرعا، فطلبت.

فقه المرور وأحكام السير

فقه المرور وأحكام السير * (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63) * (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا) (لقمان: 18) * (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19) * (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ) (الزخرف: 13 - 14) * «أعطوا الطريق حقه» قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال «غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي، عن المنكر». البخاري * المشي في الطريق حق مكفول بشرط السلامة * اتباع تعليمات السلامة المرورية من جلب المصالح ودفع المفاسد، وهو مشمول بـ (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)

التوسط في السير

فقه المرور وأحكام السير - التوسط في السير: قال تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63). هذه الآية أصل دال على أن المشي في الأرض يكون هونا، وهو التوسط في السير من غير إسراع ولا تعجل، ومن ذلك قيادة السيارة ونحوها. وتدل على أن السرعة الزائدة في المشي أو القيادة ليست من صفات عباد الرحمن، ولا من الأمور المشروعة ولا مما يحبها الله. بل المشروع أن يقود أو يمشي مقتصدا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19). وهو: السير الوسط بلا سرعة زائدة مؤذية، وبلا بطء يعرقل حركة السير، فكلاهما ضرر مدفوع. - القيادة ببطر وتفحيط: ويحرم المشي والقيادة ببطر، أو مرح، أو تصعير؛ لأنه من الخيلاء والكبر المحرم (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وما يعرف اليوم في التعبير الدارج بـ «التفحيط» إنما هو عبث ومرح وخيلاء، فهو داخل في التحريم. - قوانين المرور وإشاراته ملزمة: وقوانين المرور وإشاراته تلزم الناس بأمر ولي الأمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). هي طاعة تعلقت بمصالح عامة ودفع مفاسد خاصة وعامة، إلا في حالة الضرورة والحاجة كإسعاف مع غلبة السلامة عند التجاوز. - حوادث المرور: وحوادث المرور مضمونة بحسب الشرع، وما انبثق منه من قوانين تنص على ذلك؛ لأن السير في الطريق مضمون بسلامة العاقبة، ولأن النفس البشرية والأموال مضمونة على من صح عليه وصف الجاني.

وعند الالتباس ينظر في الصلح. والأصل في حوادث المرور الخطأ؛ لأنها آلة لا للقتل إلا إن اعترف أنه تعمد قتل شخص معين بدهسه، وهو عمد عدوان أو فساد في الأرض (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). فإن لم يعترف وشهد الشهود عليه بالعدوان القاصد للقتل، كمن كانوا بجانبه على السيارة أو سمعوه مهددا بذلك وارتكبه أمامهم وقت تهديده بأن تتبَّعه بالسيارة وقتله، فيضمن عمدا في الأصل، وتقضي محاكم مختصة بذلك إن استدعى الأمر، خاصة عند حصول إزهاق النفس، ومن عفا وأصلح فأجره على الله. وقلنا محاكم خاصة؛ لأن حركة المرور وما يترتب عليها أمور مستجدة متكاثرة تحصل فيها خلافات ونزاعات كثيرة، تقتضي تفرغ قضاة ومحكمة مختصة لهذه القضايا، كمحاكم الأموال والمحاكم التجارية. ومن صح عليه وصف الجاني؛ فعليه كفارة عن كل نفس صيام شهرين متتابعين، فإن عجز لكثرة الأنفس كحافلة أو مقطورة وصح تحميله الجناية أجزأه واحدة عن الجميع؛ لأن المشقة تجلب التيسير. ومن صح عليه وصف المجني عليه؛ فلا صيام، كسيارة في خطها المشروع للسير اُعْترضَ عليها بمركبة عاكسة لخط سيرها في نفس خط الأولى غير المخالفة مع عدم إمكان التفادي، والأصل عدمه حتى يثبت خلافه (¬1). ¬

(¬1) - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 114) قرار رقم: 71 (2/ 8) بشأن حوادث السير مجلة المجمع (ع 8، ج 2 ص 171) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان، بروناي دار السلام من 1 - 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 حزيران (يونيو) 1993 م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط =

غرامات المخالفات

- غرامات المخالفات: وغرامات المخالفات تدفع لخزينة الدولة، ويحرم أن يقبضها جندي، أو ضابط المرور: له، ¬

= الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة، قرر ما يلي: أولا: أ- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعا، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال. ب- مما تقتضيه المصلحة أيضا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذا بأحكام الحسبة المقررة. ثانيا: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية: أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة. ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية. ثالثا: ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء. رابعا: إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال. خامسا: أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعديا، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعديا أو مفرطا. ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعديا والمباشر غير متعد. ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء. والله أعلم.

رخصة السائق

أو رشوة، أو يأخذها من مواطن بلا سند رسمي موثق معتمد؛ لأدائه إلى الفساد والابتزاز للخلق (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188). ويحرم التعنت لأحد، أو الطلوع معه في سيارته تعنتا وتهديدا ابتغاء أكل ماله ونهبه، ومن فعل ذلك أكل السحت واستحق العقوبة من الله؛ لظلمه، ووجب إحالته إلى التحقيق ومحاسبته. - رخصة السائق: ورخصة السائق مطلوبة بأمر ملزم من ولي الأمر ضمن قانون منظم لذلك، وطاعته في المباح والمصالح العامة مشروع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59). وهذا مباح يحقق مصالح عامة ويدفع مفاسد؛ فلزم بأمر ولي الأمر. ولا يجوز أن تعطى رخصة القيادة لغير عارف بالقيادة؛ لأنها شهادة على معرفته بذلك؛ فإن كان الواقع خلافه فهي شهادة زور، فإن كانت بشراء فهي رشوة وسحت فوق ذلك، وشهادة الزور من أكبر الكبائر «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ... ألا وقول الزور وكررها» (¬1). والرشوة ملعون آكلها «لعن الله الراشي والمرتشي والساعي بينهما» (¬2). - تجديد الرخصة: وتجديد الرخصة: إن كان لإعادة اختبار على المركبة وسائقها، فلا مانع. وإن كان لجباية، فلا معنى له إلا العبث، والحيلة الجبائية. وهما منهي عنهما في الشرع، ولعموم (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، وهذا إدلاء إلى الحكام بقصد أكل الأموال بلا مقابل، إلا إن كان لمصلحة عامة لدفع الأجور المتعلقة بموظفي المرور أو غيرهم، نظرا لحاجة الدولة. ¬

(¬1) - تقدم تخريج الحديث. (¬2) - تقدم تخريج الحديث.

غرامات تأخير التجديد

فإن كانت الدولة مفسدة في المال العام وعم الفقر وحاجة الناس، وجب التيسير على الشعب حتى لا تجتمع عليه الأضرار؛ ولورود النص على من شق على الأمة «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» (¬1). وهذا بخلاف تجديد كرت الملكية الخاص بالمركبة؛ فعلته توثيق الملك وحركة انتقاله، فجاز دوريا (¬2). - غرامات تأخير التجديد: وأخذ غرامات مالية على التأخر في تاريخ التجديد، يمكن القول بجوازه إن كان التأخر سيؤدي إلى ترك التجديد كلية، ويترتب على ذلك ضرر عام وخاص؛ نظرا لإهمال فحص السلامة الدوري على المركبات. ودفع الضرر واجب في الشريعة. ولا يبالغ في الغرامات؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار، ولأنه لا يزال الضرر بالضرر. - سن السائق: ويجوز إصدار قانون يحدد السن القانونية لإصدار التراخيص لسوق المركبات؛ لأنه مباح من باب العفو. وقد نص الله تعالى في كل أمر مسكوت عنه أنه عفو (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، بعد قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، وتحديده أمرا مباحا لمصلحة المجتمع العامة، ودفع الضرر عنهم؛ لا مانع منه. ولا تعرف المصلحة هنا إلا بمعرفة الخبراء. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - ولا يقال: فلم لا يجري هذا التجديد في وثائق العقارات إن كانت العلة واحدة؟ وهي توثيق الملك وحركة انتقالاته. فالجواب: أن وثائق المركبات تكثر حركة انتقال ملكيتها لكثرة البيع والشراء فيها في أزمنة يسيرة بخلاف العقارات.

لوحات الأرقام

وقد قال الله في شرط دفع المال للصبي بالغا (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6)، فشرط مع البلوغ الرشد لدفع المال، وهو كثير في ثمانية عشر عاما أو أغلبي. ودفع السيارة إليه هو دفع مال كثير مع ما يترتب عليه من إمكان الإضرار بالناس. والسفيه في قيادة السيارة يحرم إعطاؤه، ويجعل له سائق لاحتمال إضرار به وبالمركبة وهي مال، وكذا أموال الناس وأنفسهم (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). وعلى ذلك فلا مانع من تحديد سن بقانون للسماح بقيادة المركبة، ولدفع الخلاف في هذا يقوم إبراز الرخصة عند الاشتباه أو الطلب مقام معرفة تقدير العمر، أو خبرة القيادة؛ لعدم انضباط ذلك بمجرد الإخبار. - لوحات الأرقام: وإصدار لوحات تحمل رقم كل مركبة على حدة واجب شرعا وجوبا وسيليا؛ لأن به تحفظ حقوق الناس المتعلقة بملكية المركبة، ويتمكن من معرفة من ارتكب بها جرما كقتل، أو خطف، أو نهب، أو تهريب مخدرات، أو تقطُّع، أو من له علاقة بذلك، فلزم وضع هذه اللوحات؛ لأنها وسيلة لحفظ هذه الواجبات. ولا يجوز وضع لاصق على اللوحة، أو ما يمكن إخفاء الأرقام أو تغييرها به، ويضبط من فعل ذلك متعمدا؛ لأن إخفاء الأرقام هو في حقيقة الأمر كإزالة اللوحة. وفشو الأمر وانتشاره بلا ضبط، مؤد إلى تعذر ضبط الجناة والمجرمين، والحوادث ومرتكبيها؛ فحرم أي عمل لإخفاء الأرقام أو تشويهها أو تغييرها. - شراء اللوحات ذات الأرقام المميزة: وشراء لوحات بأرقام مميزة بأموال كثيرة لا معنى له سوى البذخ، وإنفاق المال فيما لا منفعة فيه لا شرعا، ولا عقلا. ويدخل فاعله في المبذرين والمسرفين والسفهاء (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ

كوابح السيارات وأدوات السلامة والحمولات الزائدة

تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). وقولنا: لا شرعا ولا عقلا؛ لأن الشرع لا يعتبر هذه منفعة معتبرة مباحة؛ بل على عكس ذلك إذ هي خادمة لمحرم شرعي خدمة كثيرة غالبة، وهو البطر والفخر (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18)، ولأن العقل لا يعتبر ذلك مصلحة عادة عند العقلاء، بخلاف أرقام التلفونات المميزة لعلة معتبرة شرعا كسهولة حفظها؛ لأهميتها كأرقام الطوارئ، والنجدة، وأرقام من له تعلق كثير بخدمة الناس لسهولة الوصول إليه. فإن كان لمجرد الزهو والفخر فهو سفه محرم. - كوابح السيارات وأدوات السلامة والحمولات الزائدة: ويجب الامتناع عن قيادة السيارة، أو المركبة حال تلف كوابح البريك «الفرامل»؛ لأنه تعريض للأنفس والأموال لتلف يغلب وقوعه. وهذا ممنوع شرعا لعموم (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، وللأمور التي يتعلق بها غالباً السلامة للأرواح والأموال نفس الحكم مثل: الذراعات، ومقبض القيادة، والإطارات، ونحو ذلك. فهذه الأمور ونحوها مما يجب الامتناع عن القيادة للمركبة حال تلفها الشديد المؤدي إلى التهلكة غالبا. ويحرم كذلك الحمولات الزائدة المؤدية غالبا وعادة إلى التلف بانقلاب ونحوه؛ لأنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو محرم (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). - الأمور المشروعة في الركوب: ويشرع الدعاء لمن ركب (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف: 13). ومن قيدها بالسفر قيَّدَ مطلقا بلا دليل. والنقل عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سفرا لا يمنع قوله في الحضر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يركب في الحضر إلا على وجه نادر، بل يمشي راجلا. فظهر أن قوله ذلك في السفر لأجل الركوب لا لأجل السفر والركوب، وهذا ما تدل عليه

السلام والإشارة به للراكب والماشي

الآية (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف: 13). وهذه العلة عامة، حضرا وسفرا، وهي (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ)، فجعل علة الدعاء الاستواء على الظهر لا السفر، وإن كانت العلة وهي الركوب في السفر أكثر قديما، فقد استوى حضرا وسفرا في زمننا. فتبين أن الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء سفرا لا حضرا محتمل؛ لأنه كان لا يستوي على راحلته إلا سفرا، ويندر ذلك في الحضر، كما ورد أنه ركب فرسا عريا (¬1)، لما أحس بخطر حاصل بليل على المدينة، وكذا لما أقبل وهو في المدينة راكبا على حمار فنزل على القوم وسلم ودعاهم إلى الله فقال ابن سلول: «لا تؤذنا في مجالسنا» (¬2). فهذه ونحوها من النوادر التي لا يفهم منها إلغاء أصل الحكم بعلته المنصوصة في الآية. وعلل الأحكام لا تقيد بالاحتمالات، فتبقى على أصل التشريع حضرا وسفرا. فيقولها من ركب السيارة، وسائر المراكب؛ لقيامها مقام الرواحل، بل أولى. وله أن يقول ذلك في المصعد الكهربائي والسلالم الكهربائية، ونحو ذلك قياسا، ويحتمل عدمه، والأول أولى لوجود العلة، وهي (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ). - السلام والإشارة به للراكب والماشي: ويشرع الابتداء بالسلام من راكب لماشي، ويجب رده (¬3). وإذا كان خلف الزجاج تلفظ بالسلام وأشار بيده. ¬

(¬1) - الحديث أخرجه البخاري برقم 3040 عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس قال وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا قال فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري وهو متقلد سيفه فقال لم تراعوا لم تراعوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرا يعني الفرس. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - صحيح البخاري برقم (6232) ومسلم برقم (5772)، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير».

بوق السيارة

وينهى عن الإشارة فقط بلا تلفظ بالسلام كما ورد في الحديث (¬1). - بوق السيارة: واستعمال بوق السيارة للتنبيه بلا إزعاج وإيذاء مباح، فإن آذى منع؛ لأنه في معنى (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 19)؛ لإمكان التحكم فيه. - فحص المركبة: وينبغي فحص المركبة، وآلات تمام السلامة فيها (¬2): كالأنوار، والإشارات، والمرايا، والحرارة، والزيت، ونحو ذلك؛ لأن هذا من الإحسان المشمول بعموم الأمر في (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). - إزالة حواجب الرؤية ونظافة السيارة وزينتها: وتزال الأتربة الحاجبة للرؤية، ويأثم إن ترتب على الإهمال ضرر في نفس أو مال. ويشرع تجميل السيارة وتنظيفها؛ لأن الله جميل يحب الجمال (¬3)، ولأنه من المركب الحسن المنصوص عليه (¬4). ولا يسرف في أدوات الزينة، بل بتوسط واعتدال غير خارج عن العرف؛ لأن العادة محكمة. فلا يزينها بما لا يليق من صور ونقشات ينكرها عرف الناس ولو كانت في بلاد غيرها كذلك (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199). ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم 2695 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف. وسنده حسن. وفيه بن لهيعة ضعيف، ولكنه من رواية قتيبة عنه، وقد تابعه يزيد بن أبي حبيب عند الطبراني في الأوسط برقم 7380، وله شاهد حسن عند النسائي برقم 10100 عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليمهم بالأكف والرؤوس والإشارة». قال الحافظ في الفتح (11/ 19): سنده جيد. (¬2) - وقلنا «آلات تمام السلامة»؛ لأن آلات السلامة كالفرامل والإطارات تتعلق بها أصل السلامة مباشرة، بخلاف المتممات. (¬3) - تقدم تخريج الحديث. (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه.

القيادة في الضباب وتعذر الرؤية

- القيادة في الضباب وتعذر الرؤية: ويُتَجنب القيادة عند حجب الرؤية بضباب كثيف، أو مطر غزير؛ دفعا لحصول حوادث السير، ويحرم إن غلبت التهلكة أو كثرت؛ لأن الشرع قائم على اعتبار الكثرة والغلبة في الأحكام. - قيادة المرأة للسيارة: ولا مانع أن تقود المرأة السيارة؛ لأنها من مسائل الإباحة الأصلية، كركوب الإبل وسائر الرواحل، إذ لم يرد نص في منع المرأة من ركوبها. ولم يقيد النص في القرآن بالرجل (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف: 13). ومن خصص حكمها على الرجل فقد أخطأ، ومن ادعى المنع لزمه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة. ومن استدل بالعادة قيل له: شرط العادة استمرارها وعمومها وعدم مخالفتها الشرع. ولم تكن هناك عادة أصلا في منع النساء؛ لأن قيادة السيارات أمر مستحدث فلا عادة هنا. ولا يقاس على ركوب الحمير والخيل في منع المرأة عند بعض العرب عادةً؛ للفارق البين بين هذا وذاك. وقولهم إنها مؤدية إلى فساد النساء أمر باطل؛ لأن ركوبها مع سائق أجنبي مستأجر، أو تنقلها مع سيارات الأجرة يقال فيه ذلك بأوضح، ولم تحرم في الأصل، بل مباحة بشروط عدم ما يؤدي إلى مخالفة نُهِيَ عنها شرعا. وما يقال في هذا يقال في ذاك.

فقه السياحة

فقه السياحة * (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا) (العنكبوت: 20) * كل من دخل الدولة بإذن الدولة فهو في أمان، من سائح، أو باحث، أو متعلم، أو تاجر، أو دبلوماسي، مدني أو عسكري * إيذاء السواح أو خطفهم أو ظلمهم أو قتلهم من الجرائم العظيمة في الشرع * المعالم السياحية تاريخية أو طبيعية مقصودٌ في الأمر الشرعي التعامل معها ترفها أو تفكرا أو اعتبارا لا تخريبها أو إتلافها * الآثار يحافظ عليها؛ لأنها أصبحت من المال العام والاعتداء عليها أو إهمالها أو تهريبها اعتداء على المال العام * الترويج السياحي الجنسي أو الخليع أو المصادم لقواطع الفواحش المحرمة شرعا لا يحل بتشريع ولا بأمر دولة ولا بقانون ولا بدستور كائنا مصدره من كان

تأمين السياح وحرمة إيذائهم وخطفهم

فقه السياحة يمكن أن نعرف السياحة بقولنا: هي السير في الأرض، نظرا، وترفها بالقصد، أو العرض. وقولنا «نظرا»: شمل النظر للاعتبار، ونظر البحث. وأصله قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20)، فهذا للبحث والتأمل. وقوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69)، وهذا في الاعتبار. وأما السفر للترفيه فيشمله عموم الإباحة الامتنانية في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). وأما السياحة عرضا لا قصدا؛ فدليله قوله صلى الله عليه وسلم «سياحة أمتي الجهاد» (¬1). ومعلوم أنها مع الجهاد عارضة لا قاصدة. وقد ذكر الله ذلك بقوله (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ) (التوبة: 112) وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالمجاهدين. وقال في الآية (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (التوبة: 2)، ومعناه حرية التنقل في هذه المهلة (¬2). تأمين السياح وحرمة إيذائهم وخطفهم: والسياح إذا دخلوا الدولة بطرق رسمية فهو أمان لهم وإن كانوا كفارا ومشركين من أهل الكتاب أو غيرهم. حتى ولو كانوا من دولة معادية محاربة، فإعطاؤهم تأشيرة الدخول تأمين لهم، فلا يجوز الغدر بهم ولا إخفار ذمتهم التي أعطيناها لهم؛ لعموم «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى ¬

(¬1) - الحديث في سنن أبي داود برقم 2488 عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة. قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى». قلت: وسنده حسن. وصححه الحاكم برقم 2398، وصححه الذهبي. (¬2) - وهي نازلة في شأن إخراج المشركين من جزيرة العرب وإمهالهم أربعة أشهر.

تحريم خطف السواح

بذمتهم أدناهم» (¬1)، وحديث «من أخفر ذمة معاهد فعليه لعنة الله» (¬2). وقد أجرى عمر رضي الله عنه مجرد الإشارة التي يفهم منها الأمان مجرى إعطاء الأمان كما أورد عنه الفقهاء ذلك (¬3). - تحريم خطف السواح: وخطف السواح محرم وكبيرة من الكبائر؛ لأنه غدر وخيانة للأمان والذمة التي أعطيناهم، وقد قال تعالى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (التوبة: 4). والسائح كالمعاهد داخل بتأمين رسمي، فوجب الإيفاء بهذا العقد. ولأنه إما أن يكون بعهد، أو ذمة، أو أمان، وكلها يحرم إخفارها ونقضها. ومن خطفهم فالواجب على الدولة ردعه وتعزيره بما يمنع تكرار ذلك. ولا يجوز تلبية مطالب الخاطفين إلا لأخذ السياح من أيديهم، لكن بعد ذلك معاقبتهم أشد العقاب، ونشر سلطان الأمة حتى لا يتخذ أمان أهل الإسلام لغيرهم خلفا وكذبا. والخاطف مشمول بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أخفر الذمة (¬4). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 4532، بسند حسن صحيح، عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي عليه السلام، فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا -قال مسدد قال- فأخرج كتابا -وقال أحمد كتابا من قراب سيفه- فإذا فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا فعلى نفسه ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». قال مسدد عن ابن أبي عروبة فأخرج كتابا. وأخرجه كذلك من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو حسن. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1870 عن علي رضي الله عنه قال ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف، ولا عدل وقال ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف، ولا عدل، ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف، ولا عدل. (¬3) - قال ابن قدامة في المغني (8/ 490): قال عمر رضي الله عنه «والله لو أن أحدكم أشار بيده إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله لقتلته به». (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه.

الدليل السياحي والمحاسن

الدليل السياحي والمحاسن: ويشرع عرض محاسن الإسلام عليهم، وإزالة الشبهة عنهم ليعرفوا حقيقة الدين الحق ويكون ذلك بالأقوال والأفعال، فإن هداية رجل واحد خير من أفضل الأموال (¬1). وعلى السائق والدليل السياحي الخبير بلغتهم تطعيم كلامه ببيان محاسن هذا الدين من غير تنفير ولا تشديد، لحديث «بشرا ولا تنفرا» (¬2)، وهو وارد في الدعوة. ويجب عليه حفظ أماناتهم لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وغض بصره عن محارمهم؛ لعموم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (النور: 30). ويحرم عليه إعانتهم على المعاصي: كأن يعطيهم الخمر، أو يناولهم، أو يحمله لهم أثناء نقل أمتعتهم؛ للنص «لعن الله في الخمر عشرة .. » (¬3). حرمة التصريح للفنادق في المحرمات: وعلى الدولة والجهات المعنية فيها منعهم من إظهار ما يخالف الدين وعادات المجتمع من عري وخمر وخنزير، وأخلاق مشينة. ولا يجوز التصريح للفنادق في بيع الخمر، ولا إقامة المراقص الماجنة، ولا القنوات الإباحية والدعارة، ولا بيع الخنزير. وكل محرم. التعامل مع القادم المصاب: ويجب التعامل مع القادم المصاب بمرض من الأمراض الفتاكة المعدية بما تقتضيه قواعد ¬

(¬1) - قولنا «فإن هداية رجل واحد .. » دليله ما أخرجه البخاري برقم 3009 عن سهل رضي الله عنه يعني ابن سعد- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله». فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه. فقال: أين علي؟ فقيل يشتكي عينيه. فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه. فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم». (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

السياحة والاقتصاد

الطب والصحة والمصلحة العامة، بإحسان، فإن الله أمر بالإحسان مع عموم الخلق في عموم الأحوال (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83). السياحة والاقتصاد: والمعالم السياحية ثلاثة أقسام: أ) طبيعية. ب) وآثارية وتاريخية. ج) ودينية. وإذا أدرت الحركة السياحية دخلا، وأنعشت الاقتصاد، ولم تحدث مفاسد على الدين والأعراض والأخلاق؛ فإنها تصير من المصالح المرسلة العامة. وقد كان عمر يشجع الحركة التجارية، ويؤمن التجار ولو من بلاد الحرب، طلبا لمصلحة حركة السوق، ودفع البطالة والحد من الفقر (¬1). والسياحة في هذا المعنى؛ لأنها أصبحت تجارة عالمية رائجة اعتمدتها دول في بناء اقتصادها؛ لذلك فالاهتمام بها أمر لا يخالف الشرع؛ بل يخدم بعض جوانبه التي أمر بها في باب الأموال والاقتصاد من تنمية وحفظ. المعالم الطبيعية: وإذا أنشأت الدولة المعالم الطبيعية السياحية حرم إتلافها؛ لأنه مال لأهل الإسلام ومتلفه معتد آثم. فالحفاظ على الحدائق والمتنفسات من حفظ المال. ولا تلقى فيها الأقذار والمخلفات؛ لورود النهي عن قضاء الحاجة في مجالس الناس وطرقهم؛ وورود لعن من فعل ذلك في نصوص كثيرة (¬2)، وقريب من هذا المعنى سائر المستقذرات المؤذية. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم الحديث في ذلك وشواهده.

المعالم التاريخية والآثار والحفاظ عليها وحرمة تهريبها

ويحافظ على معالمها، وإشاراتها الدليلية، وكل ما يتعلق بها؛ لأنه جزء من المال العام للمسلمين، وإفساده محرم. المعالم التاريخية والآثار والحفاظ عليها وحرمة تهريبها: وأما المعالم التاريخية الأثرية فهي من الأماكن التي أمر الله بالسير في الأرض والنظر والاعتبار منها (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ) (الحجر: 76)، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات: 137 - 138)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69)، وغيرها من الآيات. واللازم من الدعوة إلى الاعتبار والنظر ألا يعتدى عليها، ولا تهدم، ولا تطمس؛ لأن الله جعلها عبرة للعالمين إلى يوم القيامة. ولا تطمس تصاويرها، ولا أصنامها، ولا معابدها؛ لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا أمره رغم مروره بها (¬1). وإنما حصر أمره في تكسير الأصنام المعبودة في قبائل العرب آنذاك، ولأن الله لما ذكر هذه الآثار والمعالم للظالمين أمر بالنظر إليها والسير عبرة ولم يأمر بهدمها، وإنما أمر الرسول أن يهدم ما كان معبودا. هذا ما تحمل عليه الأدلة جمعا وتوفيقا، ومن رام خلاف هذا فقد أجحف وأخطأ، وخالف مقصود الشرع من الأمر بأخذ العبرة والعظة من هذه المعالم. وكما لا يجوز إتلافها؛ لا يجوز بيعها؛ ولا المتاجرة بأي شيء من تلك الآثار: كان منحوتا، أو ذهبا، أو فضة، أو كتابا؛ لأنها أصبحت ملكا عاما بنظر الدولة، ومالا استثماريا يعود بالنفع والمصلحة العامة على البلاد عامة. ¬

(¬1) - قولنا «رغم مروره بها» أخرجه البخاري برقم 3379، عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر فاستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة. وفي لفظ لمسلم برقم 7656 «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

المعالم الدينية الإسلامية

ولذلك فحكم تجار الآثار ومهربيها حكم نهابي ومختلسي مال أهل الإسلام في الجملة. فإن لم تكن الدولة؛ شكلت لجنة شعبية لحمايتها واستثمارها لما يعود بالخير على عموم الشعب لا على أفرادٍ، سواء كانوا نافذين، أو غيرهم. المعالم الدينية الإسلامية: وأما المعالم الدينية والإسلامية فمنها: المساجد التاريخية، والمدارس، والمخطوطات للمصاحف وكتب السنة والعلوم، والمحافظة على المساجد من إعمارها المأمور به ورفعها وتشييدها ورفع مآذنها مشمول بالإذن الصريح العام في رفع المساجد (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) (النور: 36). والرفع هنا شامل لسائر أنواع العمارة، والرفع المحسوس والمعنوي. وكذلك الحفاظ على مخطوطات القرآن والعلم هو أمر شرعي؛ لأنه داخل تحت عموم الأمر بحفظه ونشره وتعليمه وصيانته. دخول السياح إلى المساجد: وإذا أراد السياح دخول المساجد فيجوز أن يدخلوا المساجد بآدابها، وقد كان المشركون يدخلون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقابلته (¬1). ويجوز للسواح دخول المساجد إلا المسجد الحرام للنص (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28). وقد كانوا يدخلون مسجده صلى الله عليه وسلم بآدابه. ولهم مس المصحف، وأخذه؛ لأن هذا من مقتضيات دعوتهم وتعرفهم على الإسلام. ويحمل قوله تعالى (لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 79) على الكتاب المكنون عند الله، أي: لا يمس الكتاب المكنون عند الله إلا الملائكة المطهرون. ولا يحمل على الخبر والنفي؛ لأنه موجود، ولا على النهي؛ لأنه متعذر؛ لأن ما في أيدينا ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 469 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد.

الواجب على الجهات المعنية بالسياحة في الدولة

يتعذر منعه من الكفار لكثرته وانتشاره؛ لأنه اليوم نوع من الدعوة بعد انتشار المصاحف، وتفسيرها المترجم. فرؤيتهم لنسخه القديمة، ومطابقتها لما هو موجود اليوم أدعى لهدايتهم، وإقامة الحجة في قلوبهم. بل لا مانع أن توضع منها نسخ مخطوطة في متاحف العالم لرؤيتها للناس، فإن ذلك من أعظم الدعوة. الواجب على الجهات المعنية بالسياحة في الدولة: ويجب على الجهات المعنية بالسياحة وسائر موظفيها أن يكونوا ممثلين لدينهم ومحاسنه ولوطنهم وأصالته خير تمثيل، فإن الله أمر بذلك في عموم الإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). فيحسنون للسواح ولو كانوا على غير دينهم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وقال تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهذا عام. فهذا وما قبله في غير العدو المحارب. وقال تعالى (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة: 7). وهذا في المحارب المعاهد وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1). وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وإكرامهم مشمول لعموم نصوص إكرام الضيف؛ للإطلاق. ولا يكرم أحد إلا بما أباح الله تعالى، لا بمحرَّم، ولو كان السائح يعتقد حله في دينه. حرمة السياحة الماجنة: والسياحة الجنسية محرمة قطعا. ¬

(¬1) - تقدمت النصوص في إكرام الضيف وتخريجها.

حكم الجاسوس من السياح وحكم إيذائهم

ومن سهل لها، أو روج، أو صرح؛ فهو ديوث ملعون فاسق تسقط عدالته، وتبطل ولايته إن كان واليا أو وزيرا أو غير ذلك، ولو كان إمام المسلمين لوجب خلعه بشروطه (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). والإشاعة والترويج للسياحة الجنسية في بلاد العرب والمسلمين داخل قطعاً في عموم الآية، فدل على كون ذلك من المعاصي القطعية في الشرع ولأن حفظ العرض أحد المقاصد الكبرى الكلية في الشرع، والسياحة بالدعارة والجنس يعود بالنقض على هذا الأصل العظيم. ولا يروج للبلاد سياحيا كذلك بوضع صور النساء في الأدلة السياحية أو غيرها بمسمى عَرْض التراث، والأزياء؛ فإن هذا من قلة الدين والغيرة، ولأنه يخل بمقصد حفظ العرض فحرم. حكم الجاسوس من السياح وحكم إيذائهم: ومن ثبت كونه جاسوسا من السواح؛ فالدولة تتعامل معه بما تقتضيه المصالح العامة للبلاد، ويجوز إن كان قد نقل معلومات هامة من أسرار البلاد أو نحوها أن يقاضى بالعدل بما تقتضيه أحكام الشريعة ولا ذمة له؛ لأنه خالف عقد دخوله البلد. ومن اعتدى على السواح بقتل وجب على الدولة تعزيره أبلغ تعزير، وللقاضي الاجتهاد في الحكم عليه عقوبةً قد تصل إلى القصاص بالقتل، كما نص على ذلك عمر ونقله عنه ابن قدامه في المغني (¬1). ويحرم سرقة مال أي سائح، أو نهبه، أو خداعه، أو غشه، أو انتهاك عرضه؛ فإنه آمِنٌ نفساً ومالاً وعرضاً، وعموم هذه المنهيات يشملهم. ويعاقب بما يردع من فعل ذلك، ويضمن إتلافاته نفساً ومالاً. ويعوَّضُ من سُلِبَ أو نُهِبَ من السواح وأثبت ذلك ببينة عادلة. ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل.

إظهار محاسن الدين قولا وفعلا

إظهار محاسن الدين قولا وفعلا: ويجب على الجهة المعنية بالسياحة التنسيق مع الجهات في الدولة لترتيب حمايتهم والتعاون مع مراكز الدعوة والأوقاف؛ لإيجاد أحسن الأساليب لتوضيح محاسن الدين الإسلامي لهم، وترجمة أمور لازمة لذلك بلغتهم، وإهدائها ضمن مجموعة مطبوعات الوزارة لإهدائها لهم بطرق مناسبة لا تنفر ولا تعسر ولا تبغض.

فقه الشباب

فقه الشباب * إذا صغت الشباب .. صغت الحياة * إذا أهملنا جيلا واحدا من الشباب بكامله فإننا سنفشل، ولا بد أن تنهار دولة تصنع ذلك خلال بضع عقود * الحاجة والخوف والقلق والجهل من أهم مصادر التدمير، فأبعدوا الشباب عن الخوف والقلق والحاجة والأمية

وجوب تيسير الزواج

فقه الشباب الشباب هو سن معين معلوم بالضرورة الفطرية والعادية، ويبدأ بالبلوغ، والأصل في بلوغ الذكر خمسة عشر عاما أو الإنبات أو الاحتلام، والأنثى بذلك أو بالحيض. وبالبلوغ يكون التكليف المفروض، وقبله تعليمٌ واجب «علموا أولادكم الصلاة وهم أبناء سبع» (¬1). والاحتلام يوجب الغسل لكامل البدن لرفع حدث الجنابة لقوله تعالى (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) (المائدة: 6). والحائض لا تصلي، ولا تصوم وتغتسل إذا انقطع عنها الدم وطهرت. وتقضي الصوم لا الصلاة. ودم الحيض أسود يعرف. وسنن الفطرة: نتف الإبط، وحلق العانة، وغسل البراجم، وتخليل الأصابع، وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، والمضمضمة، والاستنشاق (¬2). وجوب تيسير الزواج: وفرض على الشاب غض بصره، وحفظ فرجه عن الحرام لعموم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (النور: 30 - 31). ومن استطاع النكاح فعل لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬3). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 5889 عن أبي هريرة «الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة- الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب. وفي لفظ مسلم برقم 620 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الفطرة خمس -أو خمس من الفطرة- الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب». (¬3) - أخرجه البخاري برقم 1905 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال «من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». وهو في مسلم برقم 3464.

سن الزواج

ومن لم يستطع استعف حتى يعفه الله؛ لقوله تعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النور: 33). والمجتمع مخاطب بتيسير الزواج، فلا يعسر بغلاء المهور والمشاريط الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32). فوجه الأمر إلى عموم المجتمع وألغى التعلل بالفقر؛ لعدم الإنكاح للفقير. سن الزواج: وسِنّ النكاح غير محدد في الشرع، بل هو مرتبط بالجبلة البشرية والطبيعية. والفطرة تأباه قبل البلوغ. وكل أمر موافق للفطرة فالشريعة تطلبه وتتمه، وما هو مخالف للفطرة منعته في الأصل، قال تعالى (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، فسمى الفطرة دينا. فمن بلغ جاز تزويجه؛ لأنه من دواعي الفطرة الضرورية كالطعام والشراب لكن بحسبه، وخادم أَحَدَ مقاصد الشريعة الكبرى وهو حفظ العرض. ومن بلغ فليس للإمام منعه كشخص؛ لأنه لا شأن له بهذا كشخص؛ لأنه كغيره من الأشخاص، ولا بقانون عام؛ لأن سن القوانين العامة يجب أن تكون على وفق المصلحة العامة. ولم يثبت ضرر عام لا مجتمعي، ولا طبي في زواج البالغ أول بلوغه على مر الدهور، وإلا لعمَّ وظهر، ومُنع مجتمعيا وعادة، فضلا عن منعه بقانون؛ ولأنه -أي القانون المانع- يصادم الجبلة والفطرة حينئذ ويمنع ما هو من الضروريات. ولا يقاس على المباحات كقيادة السيارة، أو الانتخابات. أما الأول وهو قيادة السيارة: 1 - فلأنه مباح لا من الضروريات الجبلية كالنكاح. 2 - كما أنه مباح كلي لا على الكل، فسيتغني الغير بقيادة غيره له بخلاف النكاح.

3 - ولأنه ثبت ضرره قبل ثماني عشرة سنة؛ لكثرة الحوادث المرورية، لعدم الدواعي له إلا الطيش. بخلاف النكاح فالداعي له الضرورة والجِبِلَّةُ، ولعدم ثبوت الضرر في الزواج بعد البلوغ قبل الثامنة عشرة بأكثرية عامة تؤدي إلى قانون عام، كالمنع. وأما الثاني وهو الانتخابات: 1 - فلأنها على الكفاية لا على العين بخلاف النكاح. 2 - ولأن الانتخابات يجوز فيها النيابة؛ فتصح من مجموعة عن أخرى (¬1)، بخلاف النكاح. 3 - ولأنها مطلب جماعي كلي. والنكاح مطلب شخصي فردي ضروري بالفطرة. وعلة أخرى هامة هي: أن سَنَّ القوانين العامة لتحديد أمر مباح لا يجوز قانونا ولا شرعا إلا إن تعلق بدفع مفاسد عامة غالبة وخدم مصالح غالبة. وإثبات أن الزواج قبل ثمانية عشر عاما له مفاسد غالبة يحتاج إلى استقراء لعدد حالات الزواج لثلاث فئات (15 - 16 - 17). فإن فرضنا عدد الشابات اللاتي تزوجن في هذه السن في اليمن مئة ألف شابة، ثم حصل في خلال هذه السنوات الثلاث موت عشرة بالمائة، أي عشرة آلاف من الأمهات اللواتي تزوجن في هذا السن، وتبين أن السبب هو الحمل في هذا السن. وأما تسعون ألفاً فلم يصبهن شيء؛ فالحكم الشرعي والقانوني في الأصل النظر إلى الأكثرية وهو تسعون ألفا. ومعالجة المفسدة على النسبة الأقل بإصدار قانون للفحص الطبي قبل الدخول؛ للنظر في عدم ترتب ضرر بالحمل لا منعه؛ لأنه يؤدي إلى الإضرار بأكثر من تسعين بالمئة، ودفع الضرر بالضرر محرم. ¬

(¬1) - فالذين ينتخبون هم في الحقيقة نيابة عن غيرهم ممن لم ينتخب، لذلك تصح البيعة وتلزم من انتخب ومن لم ينتخب.

الصداقة والشباب

ومع هذا كله فلو حدث هذا في كل الحالات التي تتزوج في هذا السن (15 - 16 - 17) بهذه النسبة. فإن حصل دائما فلا بد أن يكون أمرا مشتهرا بين المجتمع، بالغا حد التواتر من فجر التاريخ، حتى يبلغ التواتر على مستوى الأطباء والمجتمع والأسرة، وحينئذ فالمجتمع يمنعه عادة، أي على سبيل العادة، ولكن هذا لم يحصل أبدا بل على العكس من ذاك، وهو أن الأصل عدم الضرر من تزويج الشابة في سن (15 - 16 - 17)، والضرر طارئ أو نادر. والضرر يقدر بقدره، ويدفع بقدره ولا يتجاوز؛ لأنه إن تجاوز دَفْعُ الضرر إلى غير المتضرر تضرر، ولا يزال الضرر بالضرر خاصة على وجه العموم كما في مسألتنا. وهكذا يقال في دعوى كثرة الطلاق. زواج الولد على والده المستطيع والعدل بين الأبناء في ذلك: وزواج الولد على نفسه في الأصل. وعلى الوالد المستطيع تزويج ولده الفقير، وهو من حقه في قوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: 26)؛ لأن النص أطلق الحق فعلمنا رجوعه إلى الحقوق الضرورية والحاجية، وما قام مقامها من التحسينات وقضى بذلك عرف؛ لأن العادة محكمة. فإن زوج بعض أبنائه، ثم مات وله آخرون قُصَّر أخرج من ماله ما يفي بزواج القصر؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وهذا منه، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم» (¬1). ويُخْرج من الثلث من الوصية الواجبة (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180). الصداقة والشباب: وإذا اختار الشاب جليسا أو صاحبا لزمه اختيار الصاحب والصديق الذي تؤدي صحبته إلى النفع في أموره. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4267 عن النعمان بن بشير قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفعلت هذا بولدك كلهم؟ » قال لا. قال «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم». فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

الابتعاد عن الخبائث

ولا يصاحب تحريما: المتهتك، ولا الفاسق، ولا البذيء، ولا قطاع الصلاة. ويحرم مجالسة المنافقين، والذين في قلوبهم مرض كالساخرين بالدين ونحوهم من المستهزئين والمستهترين؛ لقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: 140). الابتعاد عن الخبائث: ويجب الابتعاد عن كل خبيث من مأكول ومشروب، وخاصة ما أسكر أو خدر من خمر وحشيش ومخدرات وغيرها؛ لأن الله حرم الخبائث بالنص (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157) وهذه منها. ويجتنب ما يضر كالدخان، وكثير من علماء العصر على تحريمه؛ لتبين ضرره. ويجب على الشباب البعد عن كل ما يوصل إلى الذنوب خاصة الكبائر. أخلاق الشباب: ويجب عليه التخلق بالصدق وترك الكذب؛ فإن الكذب معيب في الخَلْق، وكبيرة في الدين، ولا يتوهم النجاة فيه، بل هو قائد إلى الهلكة فإن عظم وصل إلى النفاق (¬1). «عليكم بالصدق وإن رأيتم فيه الهلكة ... وإياكم والكذب» (¬2). والكذب قائد إلى التهلكة وقد يصل إلى درجة النفاق. «آية المنافق ثلاث .. » (¬3). وفرض حفظ الأمانات، وترك الخيانة صغيرة أو كبيرة؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). والوفاء بالعهود والوعود وترك الخلف؛ قال تعالى (وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل: 91)، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 34). ¬

(¬1) - ولا يكون قائدا من كان كذابا؛ فإن الله أرسل من الناس من لا يؤثر عنه كذب أبدا. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

النهي عن الكسل والحزن والجبن والبخل

ويجب حفظ السر، وهو من الأمانات. النهي عن الكسل والحزن والجبن والبخل: والكسل مذموم في الشرع. فإن عطل به واجبا أو فرضا حرم، والتسويف يجمع الكسل والخلف والعجز. والهمُّ مستعاذ منه، وكذلك الحزن «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال» (¬1). فالهمُّ: حركة نفسية في القلب لأجل شيء يولد القلق والحزن. والحزن: غمة في القلب، إما على فوت شيء، أو عدم استطاعة ما يستقبل. وهو مذموم كله، حتى إن تعلق بالدعوة إلى الله بهداية غير المهتدي، وقد قال الله (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127)، وقال تعالى (لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) (المائدة: 41). فالواجب مدافعة الحزن، ولو في غاية الشدة، لقوله تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، فنهى عن الحزن وهو في أعظم الشدة محاصراً في الغار. وأما العجز المستعاذ منه فهو: انعدام العزم في القلب على فعل الشيء. ويترتب عليه أن يكون الإنسان عالة على غيره. وقد يوجد العزم، ولا توجد البصيرة في الأمور، فلا يستطيع الفعل، وهو عجز وعي، فيكون مؤديا إلى النتيجة السابقة. فهذا منهي عنه، ومستعاذ منه كما في الحديث. والكسل: ترك فعل ما ينفع ودفع ما يضر مع الاستطاعة. والجبن: ترك الإقدام والشجاعة؛ لضعف في الهمة القلبية عن المواجهة، وهو أمر غير محمود، ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4267 عن النعمان بن بشير قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفعلت هذا بولدك كلهم؟ » قال لا. قال «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم». فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

تنظيم الوقت

وضده الشجاعة، وهي من المكارم. والبخل: ترك الإنفاق للمال في وجهه المستحق فرضا ونفلا. وغلبة الدين: كثرته على الشخص حتى يولد الهم والحزن، فهو غلبة نفسية، ويولد الغلبة الحسية من المطالبين بالإهانة أو الحبس ونحوه. ولذلك لا يستدين الشخص إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها. وأما قهر الرجال فهو: ما يسببه الرجال من انهزام معتبر قولي أو فعلي. ولذا ارتبط بأصل لفظ القهقرى وهو: التراجع. وفي الحديث الاستعاذة من جميع هذه الأمور «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال» (¬1). ومن أعظم التكاليف الشرعية التي يجب ملازمتها الصبر على المكاره وتقلبات الحياة، وعدم التضجر. فإذا صبر الإنسان استقامت حياته كلها؛ لأنه يضاد جميع الأمور المذمومة، ويولد جميع المستحبات، فالشجاعة تحتاج إلى صبر، والصدق كذلك، وترك الجبن والشح والكذب، كله بالصبر وضبط النفس. تنظيم الوقت: وعليه تنظيم وقته (¬2)؛ لأنه عمره وتركه بعشوائية تفريط، وهو محرم في الجملة، ولأنه يترتب على إضاعته ضرر في حياته حالا ومآلا، والضرر مدفوع. التعامل مع الوالدين وطاعتهم وصلة الأرحام: وفرض عليه طاعة والديه في طاعة الله لا في محرم؛ للنص (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (النساء: 36)، (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - ولهذا سيسألنا الله عنه «يسأل عن أربع» ولأنه يؤدي إلى مفاسد، ودفعها واجب ويؤثر على مستقبله وهذا ضرر وهو مدفوع.

مفردات تربوية للشاب

ويجب عليه صلة رحمه وهم والداه، وآباؤهم وأمهاتهم مهما علوا، وعماته، وخالاته، وأعمامه، وأخواله. فإن أمره أبوه أو أمه بقطعهم فلا طاعة لهم؛ لأن صلة الرحم واجبة بأمر الله ولا طاعة لأحد فيما خالف أمر الله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22 - 23). ولحديث «لا يدخل الجنة قاطع» (¬1). وكذلك لو أمره بترك الذهاب إلى الصلاة في المسجد أصلا بلا ضرر بيِّن فلا يطاع، وكذا لو منعه من مجالسة العلماء الربانيين والأخذ عنهم فلا يطاع. ويحرم على أب وأم أمر الولد بما يضاد أمر الآخر؛ لأنه يحمله على العقوق، ويؤدي إلى الشقاق بين الزوجين. فإن أمر أحدهما امتنع الآخر عما ينقضه إلا بتفاهم وإذن؛ لأنه يترتب عليه ضرر بالولد وهو محرم. وعلى الولد إطاعة السابق بالأمر، ولا يعد عاصيا للآخر؛ لأن الشرع قائم على التكليف بما يستطاع. ولا يستطاع هنا الجمع بين الأمرين، ولأن التكليف بالضد في نفس الوقت وعلى نفس الشيء ممنوع شرعا، فيحرم على الوالد الآخر الأمر بما ينقض قطعا أمر الآخر، ولا يمكن جمعٌ؛ لأنه يؤدي إلى الأمر ألا يعمل بالتكليف السابق فسقط، ولأنه ليس من العشرة بالمعروف. مفردات تربوية للشاب: وعلى الشاب مراقبة الله والحفاظ على الصلاة (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) (لقمان: 17). وعليه التزام القول الحق والشجاعة في ذلك (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) (لقمان: 17). والصبر وعدم الإحباط والانتكاس إن أصابه شيء. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان: 17). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5984 عن جبير بن مطعم قال إن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لا يدخل الجنة قاطع». وفي مسلم برقم 6684.

وعليه وجوبا التزام التواضع وترك تصعير الوجه للناس (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (لقمان: 18). والاعتدال في المشي بلا كسل ولا تهور (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19). ولا يمش متكبرا (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا) (لقمان: 18). ويجب عليه ترك الافتخار باللسان عن نفسه وماله ونسبه أو شيء مما يتفاخر به، أو يختال بأفعاله، وسيارته، وماله، وملابسه (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وترك الرعونة والإيذاء برفع الصوت فوق الحاجة (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 19). وينبغي عليه التعامل مع الواقع والصبر على ذلك كما قص الله عن يوسف منذ كان صبيا. وليحافظ على سمعته وحقه وكرامته، فإن يوسف رفض الخروج من السجن حتى يرد له اعتباره حقيقةً أمام الملأ، ويحقق في الأمر (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) (يوسف: 50). وليعرض نفسه إن تأهل على القيادة بلا حرص ولا هلع (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55). وليحذر كيد النساء ويدعو الله لذلك (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف: 33 - 34). وليكن نبيهاً، فلا يفشي سر أبيه، ولا أحواله، خاصة إن كان ذا مكانة وقدر فإن الحسدة يأتونه من خلال ولده. وإن ظلمه أحد باعتداء رد ذلك بالمثل لقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39)، وقوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). وله أن يعفو عفو قادر على أخذ الحق، لا عفو هين ضعيف (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).

الشباب والزينة

فإن الشجاعة ورد البغي وأخذ الحق أمور حسنة يربى عليه من الصغر؛ لذلك قال لقمان لابنه (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) (لقمان: 17)، أي باليد واللسان، فالتعود على هذا من الدين، والضعف والهوان لا يحبه الله ولا يشرعه. وليحذر الغش في حياته ودراسته وأوراقه فإنه من الخيانة والباطل ومآلها إلى الفضيحة والعقوبة و «من غش فليس منا» (¬1). وليتجنب كثرة النوم خاصة بعد الفجر؛ فإنه يعوِّد على الكسل. ويتعود على النظام في غرفته وكتبه ونفقته ويتجنب الإسراف والتبذير، وإتلاف الأشياء، واللامبالاة بالأمور، فإن هذه من المنهيات في الإسلام. وسؤال الناس مذموم في الشرع، بل يأكل من عمل يده للنصوص الكثيرة، ويعتمد على نفسه في الكسب، ولا يسأل الناس أو يعتمد عليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم أحبله خير له» (¬2). الشباب والزينة: ويتجمل بما يليق، ولا يخرج عن التوسط. وكل ما يتجمل به داخل في الزينة المباحة في الأصل (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32). فينبغي أخذ الزينة والتجمل؛ لأن الله جميل يحب الجمال. والمرأة لها أن تظهره على من شرع الله إظهار الزينة لهم في قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31). ولا يقلد في لبسه المتهتكين، ولا الموضة المتفسخة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

بل يلبس الجميل الطاهر المطيب من الثياب بتوسط لا إفراط ولا تفريط. ويلبس ما هو زينة في مجتمعه؛ لأن العادة محكمة، ولا يلبس ما هو زينة في غير مجتمعه؛ لأنه يخالف الجماعة وموافقتها محمود، ولأن لبس ما يخالف المجتمع يعد لباس شهرة، وهو منهي عنه «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارا» (¬1). وليحذر أصدقاء السوء من قطاع الصلاة وقليلي الدين وطويلي الألسن، والمتهتكين بما حرم الله والمنافقين والمرضى من الخائضين في الدين بالسوء والمستهترين به وبعلمائه وبشعائره. أو يجالس أهل الضلال من الفاسدين فكريا أو عقائديا كالشاتمين الطاعنين في السنن أو الصحابة أو آل البيت. - وليستشر الوالدين في أموره ويطعهم فإنهم أولى الناس بحمايته ورعايته ورحمته. - وينبغي عليه الحرص على مذاكرة العلوم، وتحصيل المراتب العليا في ذلك؛ فإن الله يأمر بالإحسان في الأمور، وهذا منه. - وليتجنب أهل الخمول والرسوب والكسل والتثبيط عن العلم ومذاكرته؛ فإنهم همل لا خير في مجالستهم. ¬

(¬1) - قولنا «لباس شهرة وهو منهي عنه .. » الحديث الذي ذكرناه أخرجه ابن ماجة برقم 3607، وأبو داود برقم 4031، واللفظ لابن ماجة، عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارا». قلت: والإسناد حسن. وحسناه لأجل مهاجر بن عمر الراوي له عن ابن عمر. قال الذهبي في الكاشف وثق. قلت: وقد روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يعلم فيه جرح، فمن هذا حاله خاصة في هذه الطبقة وقد تقدم مرارا قاعدتها أنه يحسن حديثه. وله شاهد حسن في الشواهد عن أبي ذر عند ابن ماجة برقم 3608 بلفظ «من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه متى وضعه». وحديث ابن عمر قال المنذري إسناده حسن. وحسنه في أسنى المطالب برقم 1480. والسيوطي في الجامع الصغير. والسخاوي في المقاصد الحسنة برقم 1173. قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء عن حديث أبي ذر إسناده جيد برقم 4022. وقال البوصيري في شرح سنن ابن ماجة: هذا إسناد حسن برقم 8521.

فقه اللهو والترفيه

فقه اللهو والترفيه * (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: 32) * «حتى يعلموا أن في ديننا فسحة» * الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في كل لهو وترفيه الإباحة * من ادعى تحريم شيء لزمه الدليل الصحيح الصريح القائم الخالي عن المعارضة

فمن اللهو والترفيه المباح

فقه اللهو والترفية الأصل في اللهو والترفيه أنه مباح ما لم يرد نص على التحريم. فمن اللهو والترفيه المباح: 1 - الرياضة بسائر أنواعها خاصة ألعاب القوى. 2 - كرة القدم، لعبا ومشاهدة، بشرط عدم القمار فيها. والواجب لبس ما يستر من السراويل إلى الركبة للرجل. 3 - أما المرأة فلا تلعب الكرة إلا بين النساء بلا توثيق، أو تصوير، يمكن تسريبه لإيذاء الأعراض، وعدم مشاهدة أجنبي من الرجال لها، لا بمباشرة ولا بتصوير. لأن ما يحصل أثناء اللعب أشد من ضرب الرجل المنهي عنه (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31). وهو قياس مجمع عليه، ويسمى قياس الأولى. 4 - السباحة، وهي العوم في الماء بلا غرق. وهو علم لا ينسى، وتعلمه مما ينبغي، وقد قال عمر «علموا أولادكم ... » (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «وتعلمه مما ينبغي .. » قلت: ورد الحث عليه في السنة النبوية، فمنها ما أخرجه النسائي في الكبرى بسند صحيح برقم 8889 عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبدالله وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان قال: فأما أحدهما فجلس فقال له صاحبه: أكسلت؟ قال: نعم فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل شيء ليس من ذكر الله فهو لعب، لا يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة. وقال في مجمع الزوائد رواه الطبراني في الأوسط والكبير والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبدالوهاب بن بخت وهو ثقة برقم 9390. وقال الحافظ في الدراية برقم 976 «بإسناد حسن». وقال المنذري في الترغيب: إسناده جيد. أما أثر عمر «علموا أولادكم السباحة .. » فقد أخرجه أحمد بإسناد حسن برقم 323 عن أبي أمامة بن سهل قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي فكانوا يختلفون إلى الأغراض فجاء سهم غرب إلى غلام فقتله فلم يوجد له أصل وكان في حجر خال له فكتب فيه أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه إلى من ادفع عقله فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له. وفي رواية القراب في «فضائل الرمي» برقم 15 عن مكحول الدمشقي، أن عمر بن الخطاب، كتب إلى أهل الشام: «أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية». وسنده لا بأس به إلى مكحول.

ويلبس ما يستر عورته ما بين سرته وركبته. فلا يلبس شفافا، ولا قصيرا لا تستتر العورة معه وإلا حرم. 5 - وأما المرأة: فالسباحة لها جائزة بشرط عدم مشاهدة أجنبي لها، لا بحضور ولا بتصوير. ويشترط لبس ما يستر العورة للمرأة أمام المرأة. فتستر ثدييها، وما بين سرتها وركبتها بساتر غير شفاف، ولا ضيق يصف العورة لونا أو جرما. ولا يجوز لبس «المايوه» ولو أمام النساء؛ لأنه يصف العورة وصفا واضحا، ولا يستر ما بين سرة وركبة، ويدخل تحت نص «كاسيات عاريات» (¬1). ولا يجوز لبس المايوه إلا منفردة، أو أمام زوج لا يشاهدها غيره من رجال، أو نساء محارم أو أجانب. 6 - ويجوز مشاهدة المسابقات الرياضية في السباحة، والمشاركة فيها بالشروط السابقة. فإن اختل شرط حرم، كما هو حاصل في مسابقات الرجال والنساء من لبس ما يستر لون بشرة السوأتين فقط، مع انكشاف ما عداهما، لقصر شديد، وضيق مطاطي شديد يصف ما تحته. فهذا محرم لبساً ومشاهدة بين الرجال للرجال أو النساء للنساء، أو بين الجنسين (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27). وهذا يمكن معه رؤية السوءات، فحرم. 7 - لعب الشطرنج، والبلياردو، والورق، فالأصل في الكل الإباحة؛ ولعدم المانع المنصوص، أو ما هو في معناه. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه، وتقدم نقل تفسير العلماء لذلك.

ويشترط في ذلك عدم القمار، ولا غلبة ضياع الأوقات، ولا تضييع الواجبات والفرائض، ولا اختلاط كثير مؤثر بالمتهافتين والمتهتكين؛ لأنه يأخذ من أخلاقهم وأعمالهم، ومن حرم هذه الأمور من العلماء من المتقدمين والمعاصرين إنما حرمها لملاحظة غلبة هذه المفاسد. 8 - لعب الأتاري وسائر الألعاب الإلكترونية، وغيرها ثلاثية الأبعاد أو ثنائية أو غيرها، كلها الأصل فيها الإباحة، ويشترط في ذلك: أ) عدم اشتمال اللعب على الصور العارية، ونعني بها التي تظهر الرجال والنساء من شخصيات اللعبة الأساسية أو الثانوية، تظهرهم بما لا يليق من لبس «كاس عار» يصف السوأتين شكلا وحجما، لضيق وقصر، ويصور هذه الشخصيات ببطولية، ورقي خلقي وأخلاقي، مما يولد انغراس مفاهيم تعليمية وتفكيرية وأخلاقية خاطئة شرعيا ومجتمعيا ووطنيا. فتؤثر على الشباب تأثيرا سلبيا خاطئا، وهذه مفاسد عامة خاصة، ودفع المفسدة واجب شرعا. ب) عدم الذهاب لممارسة هذه اللعب في محلات أو نواد، أو مراكز مختلطة بين الجنسين؛ لكثرة الفساد. ج- أو أماكن يكثر فيها من لا خلاق له ولا دين ولا خُلُق؛ لأن طول مجالسة هؤلاء وخلطتهم تؤدي إلى الفساد. لذلك قال الله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: 140)، فنهى عن الجلوس مع المنافقين والكافرين والمستهزئين بالدين. ونهى عن القيام في مسجد الضرار؛ لأنه وكر للنفاق والمرضى والمتآمرين ومن لا دين له ولا خلق (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: 108). فإذا كان النهي عن الصلاة في مسجد؛ لأجل ما فيه من الضرر والمفاسد، مع أن الصلاة

من أعظم الطاعات، فالملاهي والمنتديات وغيرها أولى وأحرى بالنهي إن وجدت فيها المفاسد، ألا يذهب إليها أصلا. ولذلك أوجب الله على رسوله إزالة مسجد الضرر وهدمه، فأحرقه صلى الله عليه وسلم وأزاله (¬1). ومن باب أوجب، وأشد في الفرضية: على الدولة منع كل ملهى أو منتدى يفسد الدين والأخلاق. فإن لم تقم الدولة بذلك وجب على جماعة المسلمين؛ لأنهم مكلفون بذلك على وجه الكفاية (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، والأصل أن الدولة تنوب عنهم في ذلك، فلما قصرت استقر الفرض عليهم. ويحرم التقصير في ذلك والتهاون والذهاب ولو نادرا ولو بلا مباشرة لمحرم؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان. 9 - ومن الرياضات تعلم الرماية لقول عمر «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل» (¬2)، ولأنها من القوة «والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله ... » (¬3). 10 - ومن أنواع اللهو والترفيه: الرحلات الترويحية، والأولى كونها للنظر والتأمل، يقول تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20). ولا تسافر المرأة إلا مع محرم لها. ولا يُدْمَن الشات، والنت، والفضائيات؛ لأنها تضييع للوقت والعمر فيما لا يفيد. فإن كان في محرم كالتواصل بالنساء، ورؤية المجون، والعورات المحرمة فالواجب سرعة تركها، والإقلاع عنها، والندم وعدم العَوْد، ويتوب الله على من تاب. ¬

(¬1) - قلت: انظر تفسير الطبري عند قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) (التوبة: 107). (¬2) - تقدم تخريجه قبل قليل. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 6945 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان».

وأما الفن والتمثيل والإنشاد والفناء والتصوير والرسم والترفيه الإعلامي فكل هذا مذكور في الأبواب التالية. وبالجملة، فالرياضة خاصة في عصرنا قد توسعت كثيرا مما يجعلنا نلجأ إلى وضع قاعدة عامة فيها وهي: الإباحة العامة ما لم تناقض نصوص الشرع وقواطعه وقواعد ومقاصده، أو يترتب عليها ضرر لا يتسامح فيه الشرع على الأنفس والأموال، فكل رياضة أدت إلى الإعاقات البدنية أو القتل أو ضرر بالغ حرمت، وكذا كل رياضة أدت إلى إتلاف الأموال أو الإسراف فيها في غير المقاصد والمصالح المرعية فكذلك، وما أدى كذلك من الرياضات إلى التفريط في الفرائض الشرعية فلا شك في حرمتها؛ لأن الله لما حرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام علل ذلك بذكر بعض مفاسدها من إثارة العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فما أدى من الرياضات إلى هذه ونحوها من المقاصد فله حكم التحريم.

فقه الإعلام

فقه الإعلام * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70 - 71) * المزايدات والمناقصات الإعلامية وإعطاء الأمور غير حجمها الطبيعي والنميمة الإعلامية والكذب لا يصنعها إلا الإعلام المنافق * الخطاب الإعلامي لا بد أن يترقى إلى لغة البناء والأمل والطموح لا الإحباط واليأس والفتنة * إذا كان الخطاب الإعلامي راشدا مسئولا فلا بد كذلك أن يكون المجتمع والدولة والفرد والأسرة على القدر الموازي والمناسب من الرشد والمسئولية * الإعلام مرآة تعكس مع الصور والخبر حقيقة العقول الواعية واللاوعية والأخلاق والقيم للشعوب والأفراد

فقه الإعلام قال المؤلف غفر الله له: الإعلام هو لغة الإخبار، وهو كذلك واقعا. فهو: إخبار رؤية، أو سماع، أو كليهما، بنقل، أو توثيق، أو تحليل وتخييل وتمثيل، أو تعليم، أو ترفيه. ويمكن أن يعرف علم الإعلام بأنه: علم يبحث في نقل الأحداث الواقعة والمتوقعة بمشاهدة، أو سماع، وحال ناقلها، ووسائلها، وكيفية توظيفها. وقولنا «نقل»: يشمل سائر أساليب النقل من الأخبار، والتوثيق، والتحليل، والتخييل، والتمثيل، والتعليم، والترفيه. فقولنا «نقل الأحداث»: (الـ) في الأحداث مطلقة لا تفيد العموم؛ لاستحالة نقل عموم الأحداث الحياتية مع إمكانها تصوراً، لا عادة. وقولنا «الواقعة»: شمل الأخبار، والوثائقيات، والتحليل، والتمثيل، والتعليم، والترفيه. وقولنا «المتوقعة»: شمل التحليل، والتخييل، والتمثيل. وقولنا «بمشاهدة»: شمل الإعلام المشاهد من تلفزة، وفضائيات، وحاسوب، وشبكات عنكبوتية، وهاتف، وصحافة، وشامل للنقل بالحركة للأصم. وقولنا «وسماع»: شمل الراديو، والألبومات الصوتية، وسائر التسجيلات، والمقروء لأمي، أو أعمى، أو مشغول. وقولنا «وناقلها»: هو الإعلامي في شروطه، وتخصصاته، ودراسته، وخبراته، وكيفية إعداده، وتأهيله. وقولنا «ووسائلها»: هي الصحافة، والشاشة بأنواعها، والشبكة، والأثير، والاتصالات، وكيفية التعامل مع كل نوع إلى درجة الاحتراف، ومتطلبات ذلك من إخراج، وطباعة، ومونتاج، وجرافيك، ومؤثرات، وحواسيب، وآلات تصوير وغيرها. وقولنا «وكيفية توظيفها»: يعني لخدمة الهدف من هدف ديني، أو سياسي، أو اقتصادي، أو

حكم الإعلام وإطلاق الأقمار الصناعية

تعليمي، أو إنمائي، أو ديني، أو صحي .. وغير ذلك. حكم الإعلام وإطلاق الأقمار الصناعية: والإعلام فرض كفاية؛ لأن الإعلام ينبني عليه من المصالح الكثيرة ويندفع به من المفاسد العظيمة ما يوجب إيجاده والاختصاص فيه، فوجب دفع مفاسده وجلب مصالحه، وهي تتعلق بنواحي حياة الأمة كافة، فوجب القيام به على الأمة كفرض كفاية؛ لأنه لا يتم جلب تلك المصالح العامة الهامة إلا به، ولا دفع طامات المفاسد العامة المترتبة على الإعلام المنحرف إلا بإعلام راشد؛ فوجب. وما لا يتم إلا به فهو فرض: من كليات، ومؤسسات إعلامية، ومعاهد تخصصية، وهيئات وغيرها. وهو الآن فرض عين على الدولة؛ لأنها نائبة عن الشعب في إقامة المصالح ودفع المفاسد العامة. وعلى المسلمين إطلاق أقمار صناعية إعلامية؛ لما يحقق من مصالح غالبة، ويدفع مفاسد كثيرة وعظيمة كدفع مفاسد الإعلام المشتمل على مجون وفواحش، وعقائد باطلة، وشبهات، ونشر للباطل وتعظيم أهله. الخطاب الإعلامي: ويجب على الإعلامي: تحرى الصدق، والحقيقة، ونقل ما يبني وينفع لا ما يهدم ويضر. ويحرم الكذب، وتزييف الحقائق، وما عظم نشره من الكذب عظم ضرره، وعظم سخط الله عليه للنص في حديث البخاري في الرؤيا لمن يعذب في قبره بذلك (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «ويحرم الكذب .. » يدل على حرمة الكذب الإعلامي خاصة لانتشاره في الآفاق ما أخرجه البخاري برقم 1386 عن سمرة بن جندب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة، أقبل علينا بوجهه، فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول ما شاء الله، فسألنا يوما، فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس، ورجل قائم، بيده كلوب (قال بعض أصحابنا، عن موسى: كلوب من حديد) يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق ....... أما الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه، حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة.

تضخيم الأمور

- تضخيم الأمور: وتضخيم الأمور وإعطاؤها فوق حجمها كذب وزور وتضليل، وهو من كبائر الذنوب، ويعظم إثمه إذا عظم ضرره، خاصة في المواقف العامة كقول المنافقين (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة: 49). فجعل الذهاب للجهاد مع رسول الله مؤديا إلى افتتانه، فعظم إثمه لترتب مفسدة عامة عليه هي التخذيل عن الجهاد في سبيل الله. وكذا لعن أهل الإفك لعظيم ما أشاعوه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11)، ولا زال يضخم كذبه حتى قذف عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآيات مكذبة له ولاعنة، ومبرئة ومطهرةً للمطهرة الصديقة بنت الصديق (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: 26) وسماه إفكا لعظيم الكذب والبهت فيه (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (النور: 11). - تحقير الأمور: ويحرم عكسه، أي: عكس التضخيم للأمور، وهو التهوين والتحقير وعدم إعطائها حقها (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران: 167). فهونوا وخذلوا (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79)، فحرم الله تحقير الجهود والأعمال والأشخاص، وسخر الله من الساخرين وعذبهم، وهذا يدل على أن فعلهم من كبائر الذنوب. فالسخرية الإعلامية، وتحقير الجهود، والتهوين لحقيقة الأمور محرم، وما أدى إلى مفسدة كتخذيل أو فتنة حرم على الإعلام أن يمارسها. وكل إعلام يصنع ذلك، فهو من الإعلام المنافق؛ لأن الله ذكر هذه الصفات عن أهل النفاق.

الخطاب الإيجابي

- الخطاب الإيجابي: ويجب شرعا التبشير لا التنفير لقوله صلى الله عليه وسلم: «بشرا ولا تنفرا» (¬1). فالتبشير ووسائله مطلوبة شرعا، والتنفير ووسائله منهي عنه، والنهي في الأصل يدل على التحريم في سائر المذاهب. فالإعلام لما له من أثر متعد إلى عموم الناس نفعا وضررا واجب فيه أعظم التحري لما يبني المصلحة ويقيمها، ويدفع المفاسد بروح المسئولية التي يتَحمل المكلف ضمانَ ما يترتب عليها أمام ربه ديانة وقضاء «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .. » (¬2). ورب كلمة تقال لا يلقى لها بالٌ تؤدي إلى متالف ومهالك وأضرار، أو تؤدي إلى منافع ومصالح ومكاسب. وفي النص «رب كلمة لا يلقي لها الإنسان بالا تكون من غضب الله تهوي به في جنهم سبعين خريفا» (¬3). - خطاب الإحباط: ولا يستعمل لغة الإحباط والتيئيس للناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار» (¬4)، وهذا من الضرر. ولقوله تعالى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المجادلة: 10)، فجعل أساليب ووسائل الإحزان وسائل شيطانية. وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال» (¬5). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - صحيح البخاري برقم 6478 عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - تقدم تخريجه.

تبني المقاربة لوجهات النظر

فدل على حرمة إيقاعها على أحد؛ لأنها ضرر. وقد نهى عن الحزن والإحباط (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (الحجر: 88)، (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: 8). فنهى عن الحسرة والحزن ولو في شئون الدعوة. - تبني المقاربة لوجهات النظر: وعند حصول الفتنة بين طائفتين من المسلمين، فإنه يجب على الإعلام شرعا تبني كل ما يقارب وجهات النظر ويطفئ الفتنة؛ لقوله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9)، وهذا عام، والإعلام داخل في هذا التكليف الواجب. ولا يجوز عند حصول التصالح والوفاق بين المسلمين توظيف الإعلام لإفشاله أو إخراج أسراره التي تضر به وتحبط توجهه، أو تأويله وتحليله القاصد ذلك. وسواء ذلك كله بمباشرة أو تلميح؛ لأن وسائل المفسدة محرمة كتحريم المفسدة، ولقوله تعالى ذاما الإعلام المنافق (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). - خطاب البلبلة والتخذيل وقلب الحقائق: ويحرم السعي الإعلامي إلى بلبلة الجماعة والتخذيل وإشاعة الفتة، خاصة عند المواجهة (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47)، فسماهم الله ظالمين مع كون هذه صفات المنافقين. وهذا من أبلغ التحريم. ولا يجوز تقليب الحقائق؛ لقوله تعالى (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة: 48). - نشر الرذيلة: ونشر الرذيلة والفاحشة وإشاعتها من كبائر الذنوب. فيحرم الترويج لها بأي وسيلة إعلامية، مرئية أو مسموعة أو مقروءة، لقوله تعالى

التثبت والنخاسة الإعلامية

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). وتمنع كل جهة إعلامية مروجة للرذائل والمجون؛ لأنه من دفع الضرر العام والخاص المؤثر في مفاسد كبيرة، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركها تعاون على الضرر والمفاسد والإثم، والله تعالى يقول (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). - التثبت والنخاسة الإعلامية: ويجب على الإعلامي التثبت في الخبر؛ لقوله تعالى (فَتَبَيَّنُوا)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» (¬1). ويحرم نقل الكذب، والاستماع له؛ فإن قبض عليه مالا زاد جرما وإجراما؛ وشمله عموم النص (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة: 42). وسمّاع للكذب بصيغة المبالغة، وأكّال للسحت دليل على عظيم تحريم ذلك، وهو شامل للإعلام والإعلاميين السّماعين للكذب الأكّالين للسحت، فيجب على الإعلام وسائر قطاعاته والعاملين فيه التزام الصدق والحذر من الوقوع في جريمة النخاسة الإعلامية بيعا وشراء. ويحرم عليهم بيع أنفسهم بالسحت مقابل التعاقد مع من بضاعتهم الكذب وتزوير الحق والابتزاز للقضايا للنص على تحريم أن يكون أحد سمّاعاً للكذب أكّالا للسحت. وهذه الآية تشمل كل نوع من الإعلام الناشر للكذب القابض ثمن ذلك سواء كان لمستبد حاكم، أو لمواطن فاسد، أو لتوجهات تريد إفساد الأمة. ¬

(¬1) - حديث «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» أخرجه مسلم في خطبة كتابه، وقد أخرجه أبو داود برقم 4994 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع». قال أبو داود ولم يذكر حفص أبا هريرة. قال أبو داود ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني علي بن حفص المدائنى. قلت: سنده صحيح لولا الاختلاف في الوصل والإرسال بين أصحاب شعبة. وقد صححه ابن حبان برقم 30. والحاكم في المستدرك برقم 381. ورجح الدارقطني الإرسال في العلل (10/ 276)، ط/ دار طيبة -الرياض. قلت: وصححه الحافظ في فتح الباري (10/ 407). وهو يدل على ترجيحه الوصل.

النكاية الشخصية

- النكاية الشخصية: والوقيعة في ذوات الأشخاص بالتهكم والسخرية في هيئته، أو لبسه، أو كلامه لا تخدم المبادئ ولا تعالج القضايا. بل هو من النكاية الشخصية المحرمة في عموم النص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) (الحجرات: 11). واللمز والتنابز بالألقاب من الفسوق (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) (الحجرات: 11). حكم الرسم والكاريكاتير والتصوير الإعلامي: والكاريكاتير الهادف جائز لعدم المانع الصحيح الصريح الخالي عن المعارض بشرط قصد الفكرة والمبادئ، لا التهكم المبتذل بشخص في ذاته أو خواصه. ولا يدخل في الرسم المختلف فيه؛ لأن الشريعة أجازت لُعب الأطفال المصورة؛ لأنها قاصدة للترفيه والتعليم، «وكان لعائشة لعبة خيل ذي أجنحة تلعب به» (¬1). «وكان الصحابة يصنعون لأولادهم اللعبة من العهن» (¬2). والكاريكاتير الهادف لدفع مفاسد عامة وجلب مصالح كهذا في الحكم، وقد يكون بعضه أكبر مصلحة منه؛ فجاز. ¬

(¬1) - قولنا «وكان لعائشة لعبة خيل .. » فيه حديث أخرجه أبو داود برقم 4934 عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفى سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال «ما هذا يا عائشة». قالت بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال «ما هذا الذي أرى وسطهن». قالت فرس. قال «وما هذا الذي عليه». قالت جناحان. قال «فرس له جناحان». قالت أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة قالت فضحك حتى رأيت نواجذه. قلت: وسنده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلا شيخ أبي داود محمد بن عوف وهو ثقة. (¬2) - قولنا «وكان الصحابة .. » فيه حديث أخرجه البخاري برقم 1960 عن الربيع بنت معوذ قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم قالت فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.

وكذلك التصوير والتوثيق الإعلامي لا تشمله أحاديث النهي عن التصوير؛ لأن العلة كانت لحداثة الناس بعبادة التصاوير والأصنام وكان المقصود منها ذلك في الغالب؛ فمنعت لأجل ذلك. ولهذا طمس رسول الله صلى الله عليه وسلم كل التصاوير بظل وبغير ظل في داخل الكعبة وخارجها (¬1)؛ لأنها تعبد من دون الله، ولم يكن منها سوى هذه المفسدة الكبيرة. وهذا كله بخلاف التصوير والتوثيق الإعلامي اليوم؛ فمصالحه غالبة عند توجيهها. مع أنه بعيد عن تلك العلة التي لأجلها حرم التصوير، فجاز كفرض كفاية لعظيم مصالحه، لذلك أجازه أكابر علماء العصر إلا ما ندر خلافه. والعلة الأخرى التي لأجلها منع الرسم والنحت هي: مضاهاة خلق الله (¬2). والمقصود من فعل ذلك بقصد ذلك؛ لأنه يجوز بإجماع رسم الشجر والماء والجبل حتى في زمنه صلى الله عليه وسلم وما بعده (¬3). وهذه كلها من خلق الله. فدل على أن المقصود بالمضاهاة هو دفع الشرك بالله بتصوير ذوات الأرواح؛ لغلبة أدائها إلى عبادتها أو التذكير بذلك. ¬

(¬1) - أخرج البخاري برقم 1601 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه. وفي رواية «لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بأيديهما الأزلام فقال قاتلهم الله والله إن استقسما بالأزلام قط». (¬2) - قولنا «مضاهاة خلق الله» هذه العلة منصوصة في حديث الصحيحين (البخاري 5954 ومسلم 5650) واللفظ للبخاري عن عائشة، رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة، أو وسادتين. (¬3) - قولنا «يجوز بإجماع رسم الشجر ... » فيه حديث أخرجه مسلم برقم 5662 جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني رجل أصور هذه الصور فافتني فيها. فقال له ادن منى. فدنا منه ثم قال ادن منى. فدنا حتى وضع يده على رأسه قال أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقول «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم». وقال إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له. فأقر به نصر بن على.

هذا هو مقصد العلة أو نصها، وهو مضاهاة خلق الله. وهي في ظاهرها تدل أن من لم يقصد ذلك جاز له التصوير؛ بدليل جواز تصوير الشجر وما لا روح فيه مع أنه خلق الله. والمقصود بحديث لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة (¬1) هو: المنع من تعليق تلك التصاوير المرسومة والمنحوتة، ولم يكن يصنع ذلك إلا للتعظيم والعبادة، فمنعت أصلا. ولو لم يقصد بها ذلك عند من علقها بدليل منعها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة أن يقصد بها ذلك في بيته. هذه هي العلة الأصلية في نصوص كثيرة. أما في نفس النص «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلبٌ أو صورة»؛ فالعلة هي: مجرد الوجود للصور للإطلاق والعموم. وإنما قيدنا المنع (بالمعلقة) للنص الآخر في قوله صلى الله عليه وسلم «إلا رقما في ثوب» (¬2)، يعني إلا صورة في بساط يداس فلا تضر. ومعلوم أن التوثيق والتصوير الإعلامي ليس كذلك، لا في صحف، ولا تلفزة، ولا غيرهما. والتلفزة أظهر في الجواز؛ لأنها كالصورة المتحركة في المرآة، وهي غير محرمة قطعا؛ فدل على الفرق، ولو أن شخصا نقل صورة آخر بمرايا في أوضاع معينة تأخذ كل واحدة عن الأخرى حتى انتقلت إلى خارج مكان الشخص الواقف أمام المرآة التي تناقلت صُوَرَه، فهل يقول عالم بمنع هذا .. ! ؟ ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «وإنما قيدنا المنع ... » قلت: الاستثناء وارد في الصحيحين (البخاري برقم 5958، ومسلم برقم 5639)، واللفظ للبخاري، عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة. قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة. فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد، عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال «إلا رقما في ثوب».

التخصص الإعلامي

وما التلفزة والبث المباشر إلا أشبهُ لهذا وأحدثُ وأدقَّ، والحاصل أن العلة التي لأجلها ورد النهي في النصوص غير موجودة في التلفزة، والشرط للقياس مساواة الفرع للأصل، لا مجرد الاسم وإلا لحرمت المرآة؛ لأنها صورة؛ لكنها جازت للفارق وانتفاء العلة كانتفائها في لعب الأطفال وما يقاس عليها. فلما انتفت العلة في لُعب الأطفال والصور غير المرفوعة كالتي على الوسائد والفرش؛ أجازها الشرع بالإقرار وعدم النهي في زمن التشريع على مرأى ومسمع من رسول الله وبأمره، وهذا تشريع بالقول والفعل والتقرير وهو أقوى أنواع التشريع. فدل على ما أكدناه من أن: التحريم مرتبط بالعبادة والتعظيم لا غير، ومرتبط بوجود بيئة يمكن غالبا أن تصنع ذلك لذلك. والإعلام اليوم غير هذا كله. لهذا أفتى كبار فقهاء العصر والمجامع الفقهية بجوازه، نقلا وتوثيقا للخبر والعلم الشرعي والمشروع وكل ما ينفع، ويجب إن خدم الواجبات كبلاغ الدعوة، ورفع الظلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. التخصص الإعلامي: وعلى الإعلام التخصص في كل مجالات الحياة بإيجاد قنوات تخدم السياسة والاقتصاد والقضايا الكبرى، وأخرى بالخبر والتوثيق، وأخرى بتعليم الأسرة والمجتمع، وقنوات إعلامية للرد والمناظرات وتحرير الفكر، وأخرى للترفيه غير الماجن ولا الفاسد. وكل ما ينفع ويخدم، فهو مشروع ومطلوب. وكل ما يضر ويهدم فهو مدفوع شرعا. الإعلام ودوره في الإصلاح: والإعلام له دور أساسي في إصلاح الأوضاع واستتبابها، وإشاعة الفضيلة، وطاعة الله ورسوله. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 70 - 71). فالآية تدل على أن الأقوال السديدة تؤثر في الصلاح العام، والسديدة هي التي تسد باب كل شر، وتُسدِّد كل خير. فهذا هو القول السديد سواء على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الشرعي، أو المجتمعي، أو غيره. والإعلام إن التزم قاعدة التسديد عمل ما لا يعمله غيره ونتج عنه إصلاح مجتمعي، وسياسي، واقتصادي كثير في الأقوال والأفعال والأفكار والاعتقادات. والإعلامي والإعلام كله بمختلف وسائله: مرئية ومسموعة ومقروءة وشبكات، وفضائيات، إن خدم قضايا الأمة ودينها، ونصر المظلوم، وحارب الفساد، فهو من أعظم الجهاد في سبيل الله؛ لحديث «جاهدوا في سبيل الله بألسنتكم» (¬1). وحديث «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (¬2). وحديث «ستكون أمور أو فتن، وَقْعُ اللسان فيها أشد من وقع السيف» (¬3). ¬

(¬1) - حديث صحيح أخرجه أبو داود برقم 2506 عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم». قلت: ورجاله رجال الشيخين. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «وحديث ستكون أمور ... » قلت: الحديث في سنن أبي داود برقم 4267 عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف». قال أبو داود رواه الثوري عن ليث عن طاوس عن الأعجم. قلت: والحديث فيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وفيه جهالة الراوي عبدالله بن عمرو، قال في التقريب مقبول. قلت: وله شاهد عند أبي داود كذلك من حديث ابن عمر وفيه عبدالرحمن البيلماني ضعيف الحديث. ويمكن أن يصلح في الشواهد. قلت: وجدت له شاهدا حسنا وهو مرسل في السنن الواردة في الفتن للداني 444 (2/ 443) 168 - حَدَّثَنا عبدالرحمن بن عثمان قال حدثنا أحمد بن ثابت قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا علي بن معبد قال حدثنا بقية بن الوليد عن محمد بن الوليد القرشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام في الفتنة دم يقطر. قلت: هذا إسناد حسن في الشواهد، ومحمد بن الوليد هو الزبيدي مجمع على إمامته وكونه حافظا ثقة. قلت: ويزاد عليه قول أحمد فيه «لا يأخذ إلا عن ثقة». قلت: فعلى هذا من فوقه ثقة فيكون الحديث شاهدا حسنا. وعليه فالحديث حسن لغيره. ولم يطلع الألباني على هذا الشاهد فذكر الحديث في الضعيفة.

وللإعلامي المرابط على ذلك أعظم الأجور عند ربه؛ لأن قوله وفعله وجهده يبلغ ما لا يبلغه فردٌ أمَرَ أو نَهَى بمحدوديةِ مكان أو زمان. فالإعلام تجاوز أثره الزمان، والمكان حاضرا، ومستقبلا، لسائر الشرائح والأجيال. وهو من العمل الصالح الذي يجري على صاحبه بعد الموت، إن كان معلما للإصلاح والخيرات. ولسان الإعلام: يخاطب الرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والحاكم، والمحكوم، والصالح، والطالح، والواحد، والمجتمع، والفقير، والغني، ويؤثر ويوجه. فالعمل فيه بما يحقق مقاصد الشريعة الكبرى من أعظم الجهاد في سبيل الله وأعظم الأعمال الصالحة؛ لأن عظم أجر العمل بما يحققه ذلك العمل. فإن حقق خدمة مقاصد الدين الكبرى وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، والجماعة .. فهذا كله من أعظم الأجور؛ لأن ما خدم حفظ المقاصد من الوسائل فهو من عظيم العمل الصالح المطلوب شرعا.

أحكام إعلامية متعددة

أحكام إعلامية متعددة - احتراف المرأة للإعلام: يجوز لامرأة احتراف الإعلام بشروط: الانضباط بما أمر الله من حشمة، وعدم خلوة، ولا تسافر إلا بمحرم، ولا تخضع بالقول، ولا تبدي زينتها، وهي تشمل كل ما يجب ستره (¬1). وشرطه ألا تضيع بيتها وولدها ولا تفرط في حق زوجها، فإن فرطت امتنع الجواز؛ لأن هذه الأمور فرض عين. - وكون رجل مع امرأة لنشرة الأخبار أو غيرها من البرامج؛ بلا مصاحَبةٍ لحركات غير لائقة مع احتشام؛ يمكن جوازه؛ لأنه مما عمت به الوقائع، وما عم وقوعه وتعذر، عالجت الشريعة وقائعه بضوابط تحفظ من الوقوع في الضرر والفساد والمآثم (¬2). - الإعلانات التجارية: والإعلانات التجارية مباحة في الأصل، ولا يجوز اشتمالها على محرم، كالترويج لأماكن المجون والدعارة والخمور، والمعاملات الربوية، أو الإعلان المستغل لمفاتن المرأة ترويجا لسلعة؛ فهذه من المحرمات. العناوين الصحفية والسرقة الإعلامية: والعناوين البارزة في الصحف التي تُسَرِّع في شرائها وترويجها: إن ظهر ما في الصحيفة على خلافه، فهذا من الكسب الحرام؛ لأنه كذب وغش وغرر، وهذه من موانع صحة عقد البيع، فيحق إرجاع الصحيفة وأخذ العوض. ¬

(¬1) - (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31). (¬2) - وهذا ما يصنفه الفقهاء كثيرا فيما تعم به البلوى: وقد نقلنا في كتابنا الترجيح بالأكثرية مهمات من هذا «رسالة الدكتوراة أجيزت بامتياز».

الحرية الصحفية

ويحق لمصدر إعلامي مقاضاة آخر بسبب حقوق النشر كحدوث سرقة إعلامية ونحو ذلك (¬1). الحرية الصحفية: والحرية الصحفية مشروعة. وهي جزء من الحرية العامة التي دعت إليها الشريعة «وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» (¬2) (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39). (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (المائدة: 54). ويحرم استغلالها فيما يضر بعرض أو دين أو مال أو نفس أو العقول وحفظ الجماعة؛ لأن الضرر مدفوع. ويحرم كبتها ومنعها عن قول الحق ونشر الخير، وهو من الاعتداء والبغي؛ لأن الحرية حق محفوظ شرعا وهبه الله، وحَدَّ حدوده هو. فلا يحق لأحد ابتزازه، أو تحديده على خلاف ما أذن لنا من وهب، وهو الله سبحانه (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل: 116). نقابة الصحافة: وإقامة نقابات واتحادات صحفية وإعلامية أمر مباح؛ لأن يد الله مع الجماعة ما اجتمعت على التعاون على البر والتقوى والإحسان والعدل ومحاربة الظلم وحماية قول الحق. الإعلام الفاسد: وقنوات السحر والشعوذة محرمة؛ لأن عملها فساد في الأرض (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205)، وهو فساد نفسي وأسري ومجتمعي، وهو كذلك فساد عقائدي، بل هو من أعظم الفساد العقائدي في الأرض. ¬

(¬1) - وقد وضحنا الحقوق الفكرية والإعلامية في فقه المال الاقتصاد من كتابنا هذا. (¬2) - تقدم تخريجه.

إجابة الاستضافة الإعلامية

لذلك ورد النص القطعي حاكما بكفر معلمه ومتعلمه ومشتريه (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102). وتحرم قنوات المراقص النسائية الماجنة والقنوات الإباحية. وكل قناة أو موقع إلكتروني تنشر فيه الرذيلة والفواحش والبدع المخالفة للسنن في أصول الدين كقنواتٍ ناشرةٍ للذم والشتم واللعن للصحابة، وآل بيته من أزواجه وغيرهم. وكذا القنوات والمواقع الناشرة للطعن في السنة النبوية والتشكيك فيها وخاصة البخاري ومسلم إذ لا يطعن فيهما إلا أهل البدع والشذوذ عن الجماعة أو جاهل ضال؛ لأن من نقلوا الحديث والسنة هم من نقل القرآن، والطعن فيهم طعن فيه. والواجب حيال هذا كله إقامة المواقع الإلكترونية، والقنوات الفضائية، والصحافة التي تتبنى نشر الشريعة السمحاء، وما هي عليه من الوسطية بلا غلو ولا تفريط، وترد على الشبهات والبدع، وتحذر مما يبثه الإعلام الفاسد، والإعلام المفسد للأخلاق والعادات والعقائد والأديان فإن دفع هذه المفاسد بإعلام مصلح في الأرض من الواجبات الشرعية. والواجب الأول في هذا على العلماء والخبراء في العلوم والإعلاميين. فالإعلامي: يوثق، ويحقق، وينشر. والعالم يقيم الحق ويكشف الأباطيل، والخبير المختص في علم ينشر المصالح العامة من خلال علمه، فإن قصروا أثموا. إجابة الاستضافة الإعلامية: ومن دُعِي إلى الإعلام لنشر المصالح ودفع المفاسد في الأرض فامتنع فهو آثم إلا لمانع شرعي معتبر لا تكاسلا أو رغبة عنها، كعزوف بعض من يقصر في فقه الشريعة، وفهم تنزيلها

برامج المساج والكوافير والأزياء والرقص في الفضائيات

على الوقائع، وما يتنزل فيها من الفروض اتباعا لقائل بحرمتها قياسا على التصوير (¬1)، بلا تمحيص للعلل والمقاصد والأقوال. فيجيب لمحاضرة محصورة، ويعزف عن وسائل الإعلام، وهي تحقق المصالح العظيمة الكثيرة. فيأثم عالم ممتنع دعي، أو عالم لم يعرض ما عنده وإن لم يُدع؛ لأن دفع المفاسد وجلب المصالح واجب دُعي أحدٌ لفعل ذلك أو لم يُدْع، فالوجوب لا لأجل وصول دعوة من الإعلام لدفع المفاسد، بل لأن التكليف عام، ويتعين بآكدية عند دعوة للاستضافة الإعلامية بما لا يقوم بها إلا هو. ولأن الدعوة أصلها قائم على عموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو شامل لكل وسائله المؤدية لذلك. وأي وسيلة أدت إلى خدمة هذا المقصد العظيم بأكثرية، كانت مطلوبة بآكدية وأولوية، ومنه نشر وتوثيق الشريعة الآمرة بالمصالح والدافعة لكل المفاسد على أجهزة الإعلام، فمن امتنع أثم في الأصل إلا إن كان يقوم به غيره فعلا، أو لعذر يرفع عنه الطلب الشرعي في المسألة. برامج المساج والكوافير والأزياء والرقص في الفضائيات: وكل ما تكشف فيه العورات، والمفاتن من برامج المساج، والكوافير، والأزياء، وتعليم الرقص يحرم مشاهدتها على رجل وامرأة، أما الرجل فواضح، وأما المرأة؛ فلأن هذه البرامج يباشر الرجل فيها المرأة والعكس. ومشاهدة المعصية محرم من قادر على الإنكار ولم يفعل؛ لأنه كالمقر، ولأن الواجب الإنكار باليد، وهو هنا حذفها وإقفالها وآخر مراتب الإيمان هو الإنكار، وكراهية القلب «فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع .. » (¬2)، والمشاهد غير كاره غالبا. والله يقول (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (النور: 31). ¬

(¬1) - تكلمنا عن التصوير ومسائله سابقا. (¬2) - تقدم تخريجه.

المسابقات الإعلامية

ويقول (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ) (الأحزاب: 59). ويقول (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور: 30). ويقول (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31). ويقول (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31). ويقول (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31). وجميع هذه البرامج تناقض هذه النصوص وتخالفها؛ فحرمت. المسابقات الإعلامية: والمسابقات الإعلامية: إن كانت بدفع مال يدا بيد، أو باتصال، أو خسارة ما كسبه في سؤال إن أخطأ في سؤال؛ فهي من القمار المحرم، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن الحيلة والتلبيس والتغرير على المشاهد، والغرر حرام بالنص «نهي عن الغرر» (¬1). و «من غش فليس منا» (¬2)، (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) (المائدة: 91)، والميسر هو: القمار بدفع عوضٍ مقابلَ مجهول يغلب عليه عدمُ حصوله، ويندر جدا المعاوضة بربح. برامج الفتوى وقول الحق: وبرامج الفتوى مشروعة فرضا على عالم مؤهل، فإن امتنع (¬3) فهو كاتم علم، «ومن كتم علما ألجمه الله بلجام من نار» (¬4). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 3881 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «امتنع» يفيد أن الامتناع حصل من العالم عن دعوة وجهت إليه لبرنامج الفتوى أو لم توجه لكنه يستطيع القيام بذلك ولا يوجد مانع، فإن منع فلا حرج عليه. (¬4) - قولنا «فهو كاتم علم» الحديث الذي استدللنا به أخرجه ابن حبان في صحيحه بسند صحيح برقم 95 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كتم علما تلجم بلجام من نار يوم القيامة». وإنما عدلنا عن تخريجه من المسند لأن في الطريق التي أوردها في المسند الحجاج بن أرطأة، وأما طريق ابن ماجة ففيها كذاب هو محمد بن داب. فالطريق الصحيحة التي لا علة فيها هي طريق ابن حبان، وله شاهد حسن عنده من حديث عبدالله بن عمرو بلفظ «من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». وصححه الحاكم على شرط الشيخين برقم 346، وقال الذهبي في التلخيص على شرطهما ولا علة له.

ويجب قول الحق بحكمةٍ بلا خوف، أو تَحفُّظٍ من سلطان، أو خشية على جاه، أو مال، أو عقار، أو دار، أو ولد، أو وظيفة، يقول تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39). (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24). ويحرم من غير مؤهل الإفتاء. خاصة في وسائل الإعلام لعموم انتشاره، فيعم ما حذر منه في النص «اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (¬1). كما يحرم الكلام في أحكام شرعية إلا من متخصص عالم أقله في المسألة التي يتكلم عنها، كغيرها من العلوم التي يتعلق بها مصالح كبيرة كالطب والهندسة والتعليم، فلا يتكلم فيها إلا مؤهل متخصص. (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)، وهذا عام في كل علم. والشريعة أولى من هذا كله؛ لأن عليها مدار النجاة. (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33). فجعل القول على الله بغير علم محرما معطوفا بحرف الواو على أكبر المحرمات وهو الشرك. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

فقه الفن

فقه الفن * الجمال والفن والزينة واللهو والترفيه، كلها من المفردات التي تشملها الإباحة العامة، وكل مسألة لم ينص على تحريمها فهي مشمولة بالعفو بدليل (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) في كل مسألة ليس فيها تحريم، ولا يحرم شيء إلا بالدليل الصحيح الصريح، وإلا فالأصل الإباحة

الرسم والتصوير وحكم المنحوتات الأثرية

فقه الفن قال المؤلف وفقه الله: الفن: هو الآن مجموعة الأعمال المرسومة والمنشدة والمغناة والممثلة، وما تعلق بها. - الرسم والتصوير وحكم المنحوتات الأثرية: أما حكم الرسم والتصوير، فقد قدمنا ما فيه كفاية قبل قليل في فقه الإعلام. أما حكم الآثار، والاحتفاظ بها: فالجواز متعلق بها؛ إن كانت بقصد النظر في حالهم ومآلهم وعاقبتهم؛ لأن تركها مقصودٌ منصوص للادكار والعبرة (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 15). ويقول تعالى (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ) (الحجر: 76)، أي بطريق لا يزال قائما، يطرقه الناس، فهي باقية وسبيلها باق إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا يقول (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ) (الصافات: 137)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) (الروم: 42). وقد مر النبي والصحابة على قرى ثمود وبئر الناقة، ولم يأمر بتخريبها، ولا تكسيرها (¬1)، مع ما فيها من آثار ومنحوتات لا زالت إلى اليوم. فدل على قصد الشرع تركها عظة وعبرة، لا تكسيرها ولو كانت معبودة، كتركه جسد فرعون مع دعواه الألوهية (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (يونس: 92). وكان يقول ما ذكره الله عنه (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: 38). وقال سبحانه عن الأمم التي أهلكها وهي كافرة (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 15). ولا آية إلا بآثار وأطلال؛ لأن الآية المعْلَمُ الواضح، ولا شك من وجود منحوتات وتصاوير باقية في تلك المدن. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

حكم الشعر والنثر ومنظومات العلوم

فما كان من بقايا آثار الذين ظلموا ممن نزل بهم العذاب فلا مانع من النظر والسفر إليها؛ لأنه من السير في الأرض المطلوب شرعاً (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) (الروم: 42). فالسفر جائز؛ لرؤية هذه الأماكن، ولم نؤمر بخرابها ولا تكسيرها؛ لأن الله أبقاها للنظر والعبرة، وهكذا بقيت هذه المعالم كقرى عادٍ وثمودٍ ولوطٍ وفرعونٍ زمن الوحي والصحابة. وأما الأوامر بتكسير الأصنام، فإنها خاصة بما كان يعبد حال مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بدليل عدم تعرضه لتلك القرى الظالم أهلها، لا في منحوتاتهم ولا آثارهم ولا معالمهم. فتبين أن الأمر بكسر الأصنام خاص بما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي معبودة؛ فأمر بتكسيرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو أبقاها لظن عوام من الناس تعظيمها؛ لتركها منه صلى الله عليه وسلم. فظهر من هذا الفرقُ بين آثار الذين ظلموا من القرى التي أهلكت بعذاب لتكذيبهم الرسالات، وأمَرَ الله بالسير في الأرض للنظر إليها، وبين القرى التي لم تهلك بعذاب عام. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة وهي تعبد أصناما وأحجارا وتصاوير وأشجارا من دون الله، فتوجهت الأوامر إلى هذه بتكسير أصنامها، وكل معلم شرك فيها. بخلاف ما سبق من الأمم الهوالك، فإنها أهلكت على الكفر وأبقى الله آثارها ظاهرة، حكمة منه وعبرةً وآيةً؛ للنظر إليها، والسفر اعتبارا واتعاضا بأمره سبحانه؛ فبقيت، ولم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيجوز استغلالها اقتصاديا؛ للنظر والفرجة والسياحة والدراسة والبحث، وكلٌّ له بصيرة، فمنهم من يعتبر ومنهم من لا يعتبر. - حكم الشعر والنثر ومنظومات العلوم: أما الشعر والأدب وأخواته فإن نصر الدين والرسالة وقضايا الأمة ونفع فهو مشروع ومستثنى من الذم. (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 224 - 227).

فاستثنى الله شعراء أهل الإيمان (¬1) الذين ينتصرون بالشعر للدين والحق؛ فهؤلاء لا ذم فيهم، بل كان صلى الله عليه وسلم ينصب منبرا لحسان ويقول أهجهم وروح القدس معك. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها أشد عليهم من وقع النبل» (¬2). ¬

(¬1) - قولنا «فاستثنى الله شعراء أهل الإيمان» .. أي بالآية التي في سورة الشعراء، أما ما ذكرناه من نصب المنبر لحسان فتقدم تخريجه في سنن أبي داود بسند حسن، كما أخرج البخاري برقم 3212 عن سعيد بن المسيب قال مر عمر في المسجد وحسان ينشد فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني اللهم أيده بروح القدس قال نعم. وأخرجه البخاري برقم 3213 ومسلم برقم 6542 ولفظه عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان اهجهم، أو هاجهم- وجبريل معك. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 6550 عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل». فأرسل إلى ابن رواحة فقال «اهجهم». فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها -وإن لي فيهم نسبا- حتى يلخص لك نسبى». فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله». وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هجاهم حسان فشفى واشتفى». قال حسان: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمدا برا تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفى كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء

وسمع صلى الله عليه وسلم قصيدة بانت سعاد، وكان يتأثر بالشعر (¬1). وقد أمر بقتل الذين كانوا يكثرون من الأذى والمظاهرة على الرسول والقذاعة في سب الدين ورسوله والوقوع في الأعراض في أشعارهم (¬2). وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول شعرا (¬3) (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة: 41). ¬

(¬1) - قولنا «وكان يتأثر بالشعر» يدل له أحاديث كثيرة منها نصبه المنبر لحسان وسماعه لشعرائه كابن رواحة وكإدخاله الخيل في فتح مكة من حيث قال حسان، وغير ذلك. ومن ذلك سماعه لبانت سعاد وهي مشهورة في كتب الأدب واللغة وقد أخرجها الحاكم في المستدرك في قصة مطولة برقم 6477 وصححها. (¬2) - قولنا «وقد أمر بقتل الذين كانوا يكثرون .. » قلت: منه ما ورد في صحيح البخاري برقم 1846 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه .. ومنه مقتل سلام ابن أبي الحقيق المذكور في صحيح البخاري برقم 4039 عن البراء قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار فأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبدالله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد قال فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت فقلت يا أبا رافع قال من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط. (¬3) - قولنا «وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول شعرا» أي من نظمه وتأليفه، ولا من نظم غيره، سوى بيتين أو ثلاثة تمثل بهما، وهو ما أخرجه البخاري برقم 6146 سمعت جندبا يقول بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. ومنه كذلك برقم 6147 عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.

الإنشاد

ونهى عن الإكثار منه: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» (¬1). ويباح حفظ ما شاء من الشعر الجائز بلا إكثار؛ للنهي عن ذلك. ويجوز أن يحفظ منه ما يستعان به على حفظ غريب القرآن وتفسيره كما قال عمر «عليكم بديوان شعركم فإن فيه تفسير كتاب ربكم» (¬2)، لما فسر قوله تعالى (عَلَى تَخَوُّفٍ). والحداء نوع منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم للحادي «رفقا بالقوارير» (¬3)؛ لأنه يؤثر في إسراع حركة الإبل، والنساء راكبات على ظهورهن فيصيبهن من ذلك تعبٌ؛ لضعفهن. ونَظْمُ العلم محمود ومندوب؛ لأنه وسيلة إلى تيسيره، والوسائل لها أحكام مقاصدها. - الإنشاد: والإنشاد للشعر بلحن لا مانع منه بلا خلاف بدليل حداء الحادي مع رسول الله وقوله صلى الله عليه وسلم له «رفقا بالقوارير»، والحداء إنشاد الشعر بلحن. ¬

(¬1) - صحيح البخاري برقم 6155 ومسلم برقم 6030، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا. (¬2) - قول عمر ذكره كثير من المفسرين منهم القرطبي (10/ 110) ط/ عالم الكتب -الرياض، وفيه: وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عزوجل (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ)؟ فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه: تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 6149، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه ومعهن أم سليم فقال ويحك يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير قال أبو قلابة فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه قوله سوقك بالقوارير. وهو في مسلم برقم 6180.

وإنما المختلف فيه الإنشاد بالدف، والصحيح جوازه؛ لأنه ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري. وقد دخل أبو بكر وجاريتان تدففان بغناء بعاث فزجرهن فقال صلى الله عليه وسلم: «دعهن فلكل قوم عيد وهذا عيدنا أهل الإسلام» (¬1). وفي روايةٍ «حتى تعلم اليهود أن في ديننا فسحة». وفي هذا النص مسائل، منها: جواز غناء الجاريتين البالغتين. وسماعه جائز إن لم يكن فيه معنى التميع والتكسر والفتنة وإلا حرم لهذا المعنى لعموم (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، وهذا خضوع أو في معناه، وخروج عن القول المعروف المأذون فيه. وفيه: جواز الدف، وأنه مباح. وفيه: جواز فعل الشيء حتى يعلم سماحة الإسلام وسعته. وفيه: إنكار المنكر بحسب ما يعتقد الشخص، ولو كان في مجلس شخص كبيرٍ من رسول أو نبي أو عالم؛ كما فعل أبو بكر؛ فأنكر في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحضرته. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 987 عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى. وفي رواية للبخاري برقم 952 عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث -قالت وليستا بمغنيتين- فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله: وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا. وفي رواية أحمد برقم 24898 في لعب الحبشة في المسجد عن عائشة قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زفن الحبشة حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم .... (فـ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يومئذ لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة. قلت: وسنده حسن. وأخرجه الحميدي بسند على شرط الشيخين برقم 270، ولفظه (عن عائشة قالت: كان حبش يلعبون بحراب لهم، فكنت أنظر من بين أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاتقه، حتى كنت أنا التي صددت. وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منهم أحد إلا شيطان آخذ بثوبه يقول انظر، فلما جاء عمر تفرقت الشياطين». قالت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العبوا يا بني أرفدة، يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة». قالت عائشة: فلم أحفظ من قولهم غير هذه الكلمة: أبو القاسم طيب أبو القاسم طيب).

الغناء

وفيه: الاجتماع مع الأهل في يوم العيد، وتركهم يتوسعون في المباح. وكان صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة. وفيه: قلب الوجه عن النظر إلى الجاريتين المغنيتين كما فعل صلى الله عليه وسلم في الحديث. فأجاز السماع وأعرض بالنظر. وفي الحديث الآخر: أن جارية نذرت أن تضرب بالدف على رأسه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعها صلى الله عليه وسلم من ذلك (¬1). فدل على إباحته في العيد وغيره. ولو كان حراما في غير يوم العيد لبين صلى الله عليه وسلم الأصل والاستثناء في ذلك. ولم يفعل؛ فبقينا على أصل الإباحة في أي وقت، خاصة لسبب: كعيد، أو فرح، أو زواج، أو علة أخرى كصاحبة النذر. - الغناء: وأما الغناء الماجن والداعي إلى التعلق بمتابعة محاسن النساء ومواعدتهن والأخبار عن اللقاء وما حصل فيه: فهذا كله من الغواية التي نص الله على وجودها في أهل الشعر باستثناء أهل الإيمان. فهذا النوع محرم، والشاعر بالمجون والغواية والمغني والملحن له والمستمع مشمولون بقوله تعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء: 224)، وأما ما استثنى الله فلا يشمله الحكم، وإنما قلنا بمشموليتهم للنص على غواية من يتبعهم وهؤلاء كذلك. وإن صحت قصيدة «بانت سعاد» بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، حُمِلَتْ على ذكر المحاسن مطلقا بلا تعيين، أو قصدٍ يخرج إلى المحضور. ¬

(¬1) - قولنا «نذرت أن تضرب بالدف .. » الحديث حسن صحيح أخرجه أبو داود برقم 3314 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. قال «أوفى بنذرك». قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية. قال «لصنم». قالت: لا. قال «لوثن». قالت: لا. قال «أوفى بنذرك». وله شاهد صحيح في الترمذي برقم 3690، وأحمد برقم 23039 من حديث بريدة. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث بريدة. وصححه ابن حبان برقم 4386.

أما إن كان عن الزوجات، والوفاء، ومكارم الأخلاق؛ فلا مانع منه. فإن صاحبه الموسيقى والمعازف، فهاهنا حمي وطيس هذه المسألة قديما وحديثا. والذي يترجح عندي أنه لا يوجد نص صحيح صريح مجمع عليه خالٍ عن المعارضة دل على المسألة؛ لأن حديث «يستحلون الحر والحرير والمعازف» (¬1)، مع صحة سنده مختلفةٌ ألفاظه؛ مما يؤثر على الاستنباط فمنها: «يستحلون الحر والحرير يشربون الخمر تعزف على رؤوسهم القيان» (¬2). فدل على صورة أخرى في هذه الرواية، وهي: شرب الخمر مع وجود معازف بالقينات وهن النساء المغنيات. ¬

(¬1) - حديث المعازف علقه البخاري برقم 5590 عن شيخه هشام بن عمار قائلا: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبدالرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك- الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم، يعني الفقير- لحاجة فيقولوا ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. قلت: ووصله أبو داود برقم 4041 من طريق عبدالوهاب بن نجدة قال: حدثنا بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال سمعت عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك -والله يمين أخرى ما كذبني- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير». وذكر كلاما قال «يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة». قال أبو داود وعشرون نفسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أكثر لبسوا الخز منهم أنس والبراء بن عازب. قلت: وهو إسناد صحيح إلا أن زيادة المعازف غير مذكورة. وهذا اختلاف يضر. ووصله ابن حبان من طريق هشام بن عمار برقم 6754. قلت: وفيه اختلاف آخر أخرجه ابن حبان فقد خالف مالك بن أبي مريم عطية بن قيس عن عبدالرحمن بن غنم، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض. قلت: ومالك ابن أبي مريم ذكره ابن حبان في الثقات وفي التقريب مقبول .. وأما عطية بن قيس فلم يخرج له البخاري سوى هذا الموضع في الشواهد، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه أحد غير الحافظ ابن حجر في التقريب. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. قلت: وهذا اختلاف يضر في الاستدلال، فمرة يقول «والمعازف» ومرة برواية الثقات من دون هذه الزيادة، ومرة يجعلونها أمرا آخر، وهو وجود قينات تعزف مع شرب الخمر والمجون، فعلم السر في عدم إخراج البخاري للحديث، بل ولا حتى الحاكم في المستدرك. (¬2) - تقدم قبل قليل.

والغناء اليوم أنواع

ومعلوم أن هذه الصورة حرام لما فيها من المجون، وما يحدثه شرب الخمر والاختلاط بالنساء والمغنيات العازفات من فواحش، وينطبق اليوم كثيرا على الفيديو كليب المصاحب بالعري والرقص الفاتن الماجن، فهو محرم على جميع أقوال العلماء ومذاهبهم. وأما قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (لقمان: 6). فلا دلالة فيه على المسألة؛ لأن المقصود: كل لهو حديث يصد عن سبيل الله، وما كان كذلك حرم سواء الغناء، أو الشعر، أو الاحتفال، أو غيره. حتى مما أصله مباح؛ لأدائه إلى الصد عن سبيل الله، وتفسيرُ ابن مسعود رضي الله عنه اجتهادٌ محتمل. ومع هذا كله؛ فالاحتياط هو قول الأكثر من السلف والخلف في منع المعازف لقوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6 - 7). فجعل الهداية بالاقتداء بسبل المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء أبعد خلق الله عن المعازف، وسبيلهم هداية. والغناء اليوم أنواع: الأول: ما كان من الأناشيد الوطنية والحماسية المصاحبة بالموسيقى؛ فأجازها جماعة من العلماء؛ لعدم أدائها إلى الفتنة والغواية، ولا بد أن يستثنى منها منع ما كانت تدعو إلى دعوى جاهلية كالعصبة لفئة، وعداوة غيرها من المسلمين. الثاني: الأناشيد الإسلامية بدف وبدونه فالأصل فيها الجواز، ومن ادعى التحريم فعليه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة، وأنى له ذلك؟ فشملها الحل؛ لعموم قوله تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، في كل مسألة لم ينص على تحريمها .. الثالث: الغناء الماجن كالفيديو كليب الذي ترقص فيه القينات والنساء فهذا لا شك في تحريمه، سواء كان بموسيقى أو لا؛ لأن الله حرم مجرد ضرب الرِّجْلِ المؤدية إلى إسماع الزينة الخفية من المرأة (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31)، فهذا أشد، ولأنه يحرم إظهار

حكم التمثيل

الزينة إلا على من نُصَّ عليهم، والفيديو كليب كشف للعامة ما حرم الله كشفه عليهم. الرابع: التواشيح الدينية، والتراثية؛ فهي جائزة ما لم يصاحبها المعازف؛ فيجري فيها الخلاف. والحاصل: أن التقوى خير من الفتوى، فما كان حراما بَيِّنا كالفيديو كليب الماجن فيحرم مشاهدته أو سماعه. وما كان حلالا بينا كالأناشيد بدف أو بغيره؛ فيجوز مشاهدته وسماعه. وما كان بين ذلك؛ فهو المتشابه. ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كما في نص الحديث (¬1). حكم التمثيل التمثيل في الأفلام والمسارح والمسلسلات؛ الأصل فيه الإباحة؛ لأنها من المسائل المسكوت عنها، وما سكت عنه فقد نص الله على أنها من العفو في قوله (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، ما لم يشتمل على محضور. فمن المحضور: 1 - تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل. والدليل قوله تعالى (لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا) (النور: 63)؛ فإذا حرم الله دعاءه كأي شخص منا؛ فبالأولى تمثيله من أي شخص أنه هو، فإنه أبلغ في المنع. والرسل والأنبياء في الحرمة واحدة؛ لأن منزلة الرسالة والنبوة واحدة ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صليتم علي فصلوا على الأنبياء فإنهم أرسلوا كما أرسلت» (¬2). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا «والرسل والأنبياء في الحرمة واحدة» لا خلاف على هذا وهو أمر قطعي معلوم من الدين بالضرورة، وأما الحديث الذي أوردناه فقد ورد بهذا المعنى أحاديث وكلها متكلم فيها، قال الحافظ في فتح الباري (11/ 169) عند قول البخاري (باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم): أي استقلالا أو تبعا ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث أحدها حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن ففيه وصل علي وعلى سائر النبيين أخرجه الترمذي والحاكم وحديث بريدة رفعه لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله الحديث أخرجه البيهقي بسند واه وحديث أبي هريرة رفعه صلوا على أنبياء الله الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف وحديث ابن عباس رفعه إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني أخرجه الطبراني ورويناه في فوائد العيسوى وسنده ضعيف أيضا وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح وحكى القول به عن مالك وقال ما تعبدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبدالعزيز وعن مالك يكره وقال عياض عامة أهل العلم على الجواز وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد وهذا غير معروف عن مالك وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء. انتهى. وقد حسن العلامة الألباني بعض طرق الحديث في الصحيحة.

وقوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (النساء: 163). 2 - ومن المحضور تمثيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء) (الأحزاب: 32). ولنفس الدليل السابق في حق الرسول، فهو ليس كأحد من الناس في التعامل، فله منزلته الخاصة، ونساؤه كذلك بالنص. فهو وعائلته صلى الله عليه وسلم لا يجوز تمثيلهم. والدليل الثاني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله وفعله وإقراره تشريع. فأيُّ مَظهر أو مشيةٍ أو لِبْسةٍ سيظهر بها الممثل ستكون دعوى في أن هذا شرع يقتدى به، وهذا كذب. ومثله سائر الأنبياء لأن سيرتهم تشريع؛ لأن الله يقول (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). وكذلك تمثيل الخلفاء الأربعة لقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (¬1). فلبسهم وأحكامهم وقضاياهم وسمتهم سنة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فتمثيل هؤلاء ممنوع لاشتماله على كثير مما يحتاج إلى دليل على صحته، ولا دليل إلا على بعض ذلك، والممثل ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

يمثلهم بتفصيل، فكان أكثر ذلك دعوى في أن هذه سنتهم وهديهم وسمتهم ونحن مأمورون بالاقتداء بسنتهم، فالممثل يحتاج إلى دليل على أن هذه الحادثة كان صلى الله عليه وسلم لابسا كذا وكذا، أو جالسا أو قائما، وغير ذلك، وكذا القول في الأربعة. وهو أمر يحتاج لحجة وسياق صحيح منقول تفصيلي، ولا طريق إليه إلا الظن والتخمين ولا يصلح طريقا للنقل. فتبين من هذا أن تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الخلفاء يعتبر ادعاء نقل لكافة ما يظهر من قول وفعل وتقرير ولبس وهيئة وسمت أنه كذلك. وهذا نقل يتعلق به تشريع؛ فمنع. أما تمثيل بقية الصحابة، ومن بعدهم من الشخصيات؛ فيبقى على أصل الجواز. ويشترط في تمثيلهم التوثيق التاريخي الشديد، ونشر محاسنهم وفضائلهم، ونشر ما استفاض صحةً، وترك ما اختلفوا فيه كأيام الفتنة؛ لقلة الروايات الثابتة؛ بل أكثرها زيف وكذب. وأما التمثيل مطلقا فهو جائز بشروط كعدم ارتكاب المعاصي والمحرمات من فواحش ومجون وعري، فتمثيل الزنى ومواطن العري والمجون من المحرمات. لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). والفعل المنكر لا يبرره المقصد الحسن؛ بدليل حديث خرق السفينة (¬1). ومن المحرم تمثيل نوم الزوج مع الزوجة؛ لأن نوم الأجنبية مع الأجنبي في سرير واحد محرم، وهو من موجبات التعزير والعقوبة؛ لأنها دياثة وقلة مروءة وفسق ومقدمة للزنا. ¬

(¬1) - حديث السفينة في البخاري برقم 2686 عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم.

ولو كانا زوجين حقيقة لحرم تصوير ونشر ما بينهما؛ لحديث «أتتحدثون عما يصنع أحدكم مع زوجته فإنما مثل من يفعل ذلك كمثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون» (¬1)، وجعل الفعل من فعل الشياطين دليل على تحريمه. والقاعدة التي يمكن أن نقعدها هي: تمثيل الحرام حرام. لأن التمثيل فعل، وفعل الحرام حرام. وفي تمثيل شرب الخمر وجهٌ إن كان ليس بخمر. وأما الفواحش، والزنى، والرقص، والعري، والمجون، وأمور السرير، والعورات وما أمر الله بستره؛ ففعله تمثيلاً كفعله حقيقة، فينطبق عليه أنه فَعَلَ حراما. أما الأقوال الممثلة: فيجب تجنب النطق بكلمة الكفر، كسب الله ورسوله ودينه، ومن فعل ارتد، ولو تمثيلا (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ* لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة: 65 - 66). فسمى الاستهزاء عن طريق اللعب بهذه الأمور الكبيرة من الكفر. والتمثيل ليس حقيقة بل لعب، فله نفس الحكم. ولذلك قال الله مكفرا اليهود والنصارى في قولهم الكفر (يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ) (التوبة: 30)، أي يماثلون. ومن مَثَّل أنه يدوس المصحف فداسه حقيقة فهو مرتد، ومن نطق بسب الله أو دينه أو آياته أو رسله فهو كذلك. ولا يقبل التمثيل في هذا. وأما غير ذلك من المباحات والبطولات والواجبات والأمور الاجتماعية فلا مانع من تمثيلها. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

ويمكن للإعلام أن يوصلوا رسالة الحق بلا ارتكاب محضور بكل سهولة ويسر، لكن يقع من يقع في المحضورات؛ نتيجة لعدم الاستقلالية الإعلامية لحضارتنا الإسلامية، وفكرها، ومجتمعها. بل تبعوا غيرهم، فنقلوا لنا حضارتهم وفكرهم وعادات وأخلاق مجتمعهم؛ ولهذا فإيجاد منتجين لتغطية هذه الفجوة يحملون الرسالة ومشروعها، ويحملون حضارة هذه الأمة العظيمة إلى غيرهم، واجب كفائي. وهو من الدعوة ونصرتها، لأن الإعلام لسان العصر ومن أسلحته الفاعلة. فوجب؛ لأن الشريعة داعية إلى بناء المصالح ودفع المفاسد. وترك هذا الباب يأتي بمفاسد كبيرة على الأجيال والأمة بأسرها، سياسيا واقتصاديا وأمنيا وفكريا فوجب دفع هذه المفاسد. فإن كانت لا تدفع المفاسد الإعلامية إلا بإعلام قوي في سائر أصنافه: التمثيلي، والتوثيقي، والإخباري وغيره؛ فإنه يجب بفرضِ الكفاية.

المقدمة في فقه العصر (2) د. فضل بن عبدالله مراد

فقه التكنولوجيا

فقه التكنولوجيا * وضع الله في الإنسان من الإمكانات والطاقات الهائلة ما يناسب أن يكون خليفة الله في الأرض، ولذلك فالكون السماوي والأرضي مسخر له (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (لقمان: 20)، وما التكنولوجيا المعاصرة إلا قطرة من بحر هذا التسخير الإلهي لخليفة الله في الأرض «الإنسان» * الشات والنت والفضائيات والهاتف ووسائل التكنولوجيا نعمة ربانية كبرى لعمارة الأرض وإصلاحها فلا تكفرها باتخاذها وسيلة للشر والمعصية والإفساد

الاتصالات

فقه التكنولوجيا الاتصالات: الاتصالات الحديثة من نعم الله العظيمة على العباد، واستغلالها فيما يخدم التعاون على البر والتقوى ونشر السلام وقضاء الحاجات وتيسير سير الحياة ولا يجوز استعمالها في المعاصي. نغمة الهاتف واستعمال القرآن والسنة في ذلك: وجعل القرآن أو السنة نغمة للمكالمات يوقع كثيرا فيما لا يعد تعظيما لهما، ولأن الله يقول (لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا) (النور: 63)، فإذا حرم أن ننادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ننادي بعضنا، فمن باب أولى النهي عن جعل القرآن والسنة رنة للهاتف؛ لأنا جعلناه حينئذ كأي قول من أقوالنا، وهذا خارج عن التعظيم. ولأن الغالب قطعه للإجابة في غير محله، وهذا خارج عن التعظيم. ولأنه يُجْعلُ رنةً لما قد يصل من مكالماتِ معصية، فيكون القرآن تنبيها على المعصية من: غيبة، أو كذب، أو سب، أو شتم، أو وقوع في سيءٍ من الخُلُق، أو معاملة مالية محرمة، أو تآمر وحيلة وكيد، وجعل القرآن منبها على مثل هذه الأمور أقرب للعب وعدم التعظيم. ولأن الإنصات للقرآن هو المشروع عند سماعه وليس كذلك هنا، فلا يستمع له وينصت؛ لأنه ليس مقصودا، بل المقصود التنبيه به لجواب إنسان فخالف (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204). ولأنه يَكْثُر من يسمع رنةَ القرآن أو السنة وهو منشغل باللهو واللعب فيعرض أو يضجر، وقد يتكلم بكلام لا يليق، خاصة في أوقات الراحة أو الانشغال باللعب أو نحوه. ولورود مكالمات مكروهة للشخص أو ظروف سيئة تمر به، فيتعلق الكره بتلك الرنة المعينة المبرمجة من القرآن أو الدعاء أو السنة، فكلما سمع القرآن أو السنة أو الدعاء ذكره بما يكره؛ فلهذا لا يجوز.

برامج الجوال

برامج الجوال: ويستحب تحميل الجوال برامج القرآن والحديث، أو ما ينفع من الخير؛ لمطالعتهم لا لجعلها رنة تنبيه. ولا مانع من دخول الحمام به؛ لأنه كقلب الحافظ. ويجوز جعل رنة التلفون ما شاء من المباحات، لا ما يفسد كالأغاني الماجنة. ولا يجوز تعبئته بالمفاسد والصور القبيحة العارية. ولا إيذاء الناس، ولا أعراضهم، ولا تخويفهم باتصال أو رسالة. ومن فعل ذلك فهو آثم، فإن لم يتب انتقم الله منه (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58). العقود بالهاتف: ولا يجوز إجراء العقود بالتلفون لإمكان التقليد للصوت؛ فيؤدي إلى الخصام والنزاع، إلا إن استوثق قطعا كجهة معتمدة إلى مثلها. البدء بالسلام: ويبدأ المتصل بالسلام ندبا، ويرد عليه المجيب وجوبا؛ للأمر بها (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86)، ولا يقلد تحية غير المسلمين (ألو). اتصالات المرأة: وتتكلم المرأة مع أجنبي بلا خضوع، ولا ضحك، ولا تكسر في الكلام. ولا تطيل المكالمات معه إلا لضرورة أو لحاجة ماسة؛ لأنه ليس من القول المعروف المأذون فيه (وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). والقول المعروف هو ما جرت به عادة الناس مما يؤدي الغرض، بما لا يفهم حب المرأة للكلام مع الرجال الأجانب؛ لأن إفهام حبها للتكلم مع الأجنبي هو في معنى الخضوع، وهو محرم (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (الأحزاب: 32)، وخارج عن المعروف المشروع للحاجات (وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، وحكم الرسائل كذلك.

الشات (الدردشة)

والأولى: أن لا ترسل الرسائل لرجل أجنبي إلا لضرورة بحيث لو اطلع من يهمه صيانة سمعتها، ويتضرر إن تضررت، من ولي وزوج لا يَكْرَه ذلك. ولأن الخَبَث قد كثر؛ ولأن الله يقول (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34). يعني: إذا غاب زوجها حفظت غيبته فلا تفعل ما لا يرضى، ولحديث «إذا غاب عنها حفظته في عرضه وماله» (¬1). أما إخفاء ذلك؛ لعدم الرضى، فهو دليل على خروج القول عن المأذون به شرعا، وهو القول المعروف (وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، فلا يجوز. وليست من الصالحات من هاتفت أو راسلت بما لا يرضاه الشرع، أو بما يعيب سمعتها وأهلها بين الناس (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34). (قَانِتَاتٌ) يعني طائعات لله ولأزواجهن. (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ) يعني تحفظ غيبة زوجها، فلا تفعل في غيبته ما لا يرضاه أو يغضب منه أو يعيبه بين الناس (¬2). الشات (الدردشة): ومن اشترك في الشات حرم عليه إيذاء الخلق، والأعراض، وكل ما يسخط الله. وهو وإن لم يعرف شخصه، فإن الله يعلمه ويراه ويسمعه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (النساء: 108). وإذا اشتركت المرأة في الشات احترزت عن اللهو والخضوع مع الرجال الأجانب؛ لأنه محرم (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (الأحزاب: 32)، وليس من القول المعروف المأذون فيه بل نوع خضوع أو خضوع (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود بسند صحيح برقم 1666 عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (التوبة: 34) قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله عنه أنا أفرج عنكم. فانطلق فقال يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم». فكبر عمر. ثم قال له «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته». (¬2) - ذكر هذه المعاني وغيرها أهل التفسير، انظر تفسير ابن جرير الطبري (6/ 690) وما بعدها.

إعارة الهاتف

فإذا غلب أو كثر إمكان وقوع ذلك؛ فلا يجوز الاشتراك. ولأنها لا تعلم هل رجل أو امرأة من تخاطب، وهل هو عدل أو فاسق؛ لقلة الأمانات؛ ولكثرة ما وقع من الاستدراج للأعراض من شباب أوهموا كثيرات، حتى يقعن في المكاره، وينخرطن في أنواع البلايا والفساد إكراها. والقهقهة من المرأة كتابيةً على الشات من الخضوع بالقول (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (الأحزاب: 32)؛ لأن الكتاب كنص الخطاب في الأحكام من إقرار وعقد وفسخ وطلاق وبيع وشراء وغير ذلك. إعارة الهاتف: ومن طلب جهاز التلفون لمهاتفة به أعطي لاتصال، أو رنة به، أو استقبال. ولا يمنع لغير ضرر، وهو في معنى منع الماعون، وإنما ذم الماعون في الشرع؛ لأنه يمنع مع الحاجة له؛ وعدم ترتب ضرر على مالكه. والهاتف أصبح من الحاجيات؛ فإن تحققت العلة وعدم الضرر على مالكه؛ فمنعه قريب من حكم الماعون إذا منع. ويجوز منع ذلك لعذر؛ كمن لا يريد أن يُتَّصل برقمه؛ لغرض صحيح لا لبخل، إلا إن كان صاحبه محتاجا لوحدات الاتصال، ويعسر عليه شراؤها لفقر أو بُعْدٍ عن مكان شرائها، فحينئذ حاجته مقدمة على غيره. إيذاء الأعراض: ولا تنشر المرأة رقمها للرجال دفعا لأذاها. ومن آذى الأعراض بالهاتف وجب على الجهات المختصة تأديبه. ولهم فصل رقمه؛ لأن الاتصال منفعة بعقد معاوضة محضة، والعقود لا تتضمن الضرر. وإيذاء الأعراض من أكبر الأضرار ودفع وسيلتها واجب، وهو هنا فصل رقمه إن لم يتم دفع الضرر إلا به.

سرقة الجوال

وينبغي حفظ الجوال عن أيدي من لا ثقة به؛ لأنه قد يستعمله فيما لا يليق. سرقة الجوال: وسرقة الجوال من المحرمات. ولا يشتري مسلم تلفونا مسروقا بيقين أو غلبة الظن؛ لأنه معاون على الإثم والعدوان. والبيع باطل. ويحق لمالكه المسروقِ منه انتزاعُهُ بالبينة ممن اشتراه، ولا يعطيه أيَّ ثمن. مسابقات شركات الاتصالات وغيرها من الشركات التجارية: ومسابقات شركات الاتصالات التي يتم الاشتراك فيها اتصالا، أو بإرسال رسالة: قائمةٌ في أصلها على: طرف يدفع مالا قطعا، وهو المتصل المشترك في المسابقة وثمن مكالمته أو رسائله محسوبة عليه، وكثيرا ما يكون بأضعاف ثمنها العادي، فهذا المشترك عوضه متوهم لا محقق. وعلى طرف آخر ضامن للربحية قطعا أضعافا مضاعفة، بلا مقابل يعاوض به الدافعين الذين قد يصل عددهم إلى الملايين. فيتحصل من الربح بسبب هذا الإيهام الشيء الكثير جدا، وهذا هو أكل أموال الناس بالباطل. ولا يبيحه الدفع للفرد الفائز بالجائزة، وهم عشرة كأكثر احتمال؛ لأن فوزهم كان بالمقامرة لا بالمعاوضة. فتحريم تلك المسابقات ظاهرٌ؛ لأنها قائمة على أصل المعاوضة في نية المشترك، مع ما فيها من الغرر والجهالة والمخاطرة والمقامرة، ثم يؤكل ماله بلا مقابل إلا ما ندر جداً، وهذا من الباطل (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188). وهو من الميسر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90) والميسر هو القمار، وهذه المسابقات وافقت نفس صورة الميسر المحرم.

وهو كذلك من الغرر، وهو منهي عنه تحريما لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر (¬1). وفيها كذلك جهالة ما سيقبض من العوض من جائزة إن كان قابضا (¬2). وقد لا يقبض شيئا، وهم الأغلبية الساحة. وفيها التعاون على أكل أموال الناس بالباطل، وهو من التعاون على الإثم والعدوان. ولا يسلم من هذا مشترك فاز أو لا. وهذه الأمور من المنصوص على حرمتها بالكتاب والسنة. فتسمية المشترك في أصل الشرع هي «مقامر». وتسميته فائزاً إن تحصل على شيء من خداع الشيطان وأوليائه، وصاحب الشركة آكل سحت وميسر. وكل مسابقة تعلنها الشركات التجارية يكون فيها على المشترك شراء شيء كسلعة غذائية أو استهلاكية؛ فإن الاشتراك فيها هو من الميسر والقمار المحرم. والقول فيها كالقول فيما تقدم في مسابقات شركات الاتصالات، إلا في حالة واحدة، وهي أن يشتري الشخص سلعة تجارية، ثم يعطى من جهة الشراء جائزة، أو يدخل في من يمكن فوزه، وكان هذا بلا طلب ولا قصد، فهذه يمكن القول فيها أنها هبة على العقد، وهذا لا مانع منه؛ لأنه غير مشروط ولا مقامر فيه. التجسس على المكالمات والمواقع الإلكترونية، واختراقها، والفيروسات، والهاكرز، والآندرويد، والتانجو، والواتس آب، وغيرها: ولا يجوز التجسس على المكالمات، أو الرسائل: لا لدولة، ولا شركة، ولا شخص لعموم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12). فإن صدر قانون بالإذن للدولة بذلك فهو باطل؛ لنقضه ما هو أصل الباب وهو حرمة التجسس. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - وجهالة العوض تُحرِّم المعاوضة، وصورة الجهالة هنا عدم علم المشترك في المسابقة إن فاز ما سيقبض لتباين الجوائز من الأعلى إلى الأدنى، وأما إن لم يفز فلا شيء له.

الوسائط، ومقاطع الفيديو، والصور، والمواقع الإباحية

ويجوز في الحرب التجسس على: مكالمات العدو، ومراسلاتهم، ومواقعهم الإلكترونية السرية؛ لثبوت إرساله صلى الله عليه وسلم العيون لأخذ أخبار العدو (¬1). وكذا اختراق مواقعهم الإلكترونية، وشبكاتهم المعلوماتية، والاتصالات، وتدميرها إلكترونيا. وكله جائز في الحرب لجواز تدميرها حقيقة أثناء الحرب؛ لأنها من آلة القوة الحربية للعدو المحارب، فجواز تدميرها إلكترونيا في الحرب من باب أولى. ولا يصح اختراق المواقع الإلكترونية لغير عدو محارب لا لمسلم، ولا لغير مسلم مسالم (¬2). ولا التجسس بأي طريقة، والدليل عموم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، ولم يفصِّل واستثنى العدو المحارب؛ لورود النصوص من السنن الصحيحة فيه. وكذا يحرم إرسال فيروسات ضارة عمدا بقصد الضرر لهاتف محمول أو حاسوب أو شبكة أو موقع إلا لعدو محارب في الحرب. وكل البرامج الحديثة كالآندرويد والواتس آب والتانجو وغيرها لا بد من استغلالها والانتفاع بها فيما يصلح في الأرض. ويحرم جعلها آلة للفساد والإفساد وإجراء المعاملات المصرفية والتعاقدية من خلالها مشروط بالوثوق بذلك من مصدر معتمد لمثله لدفع إمكان التزوير أو الإضرار بالخلق أو انتحال شخصية ونحو ذلك، فإن أمكن هذا لم تعتمد. الوسائط، ومقاطع الفيديو، والصور، والمواقع الإباحية: ويحرم التراسل بالصور الخليعة، أو المثيرة للشهوة عبر أي وسيلة للتواصل. والتحريم شامل لامرأة ترسل لمثلها وعكسه. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود بسند صحيح برقم 2620 عن أنس قال بعث -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- بسبسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. وهو في مسلم برقم 5024. وفي الباب ما أخرجه البخاري برقم 3989 بلفظ (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل). (¬2) - بقاء على أصل عموم المنع، وجاز هنا في العدو المحارب فقط استثناء بالدليل.

وتعظم الحرمة وتزداد الآثام إن كان بين رجل وامرأة أجانب. فإن كانا من المحارم فهو أعظم في الجرم؛ لدلالته على انحراف الفطرة، وقلة ديانة، وخبث طوية. ومقاطع الفيديو المسجلة أو المباشرة عبر النت أو أي وسيلة إن كانت تثير الشهوات فيحرم تبادلها على سائر الوسائل. وهي أولى من تحريم ضرب الرِّجل؛ دفعا لسماع نحو خلخال في قوله تعالى (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31). ولوجوب غض البصر (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (النور: 30 - 31). وتبادل شيء من ذلك مع الأشخاص أو نشرها عبر النت وغيره داخل في عموم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). وهذا يدل على كونها من كبائر الجرائم عند الله. وعذابه الأليم في الدنيا تتولاه وجوبا الدولة بالتنكيل الرادع بفاعل ذلك ومروجه، فإن أفلت من يد العدالة تولى رب العالمين عقوبته. وحجب هذه المواقع المهينة فرض على الدولة، وعلى كل قادر. ويحرم التجاوب مع منظمات ناقدة لحجب المواقع المنحرفة باسم الحريات؛ لأنها ومن يقف خلفها مائلة عن الحق إلى الضلال واتباع الشهوات (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء: 27). ولأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ وهذا محرم بالنص. ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق بالنص (¬1). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

تأهيل المختصين في التكنولوجيا

والاحتساب على مثل هذه فرض. وهو على رب الأسرة أكثر في الفرضية، فيَمْنعُ أهله منه ولو طفلا، فضلا عن مميز أو بالغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للحسين «كخ كخ إنها من تمر الصدقة لا تحل لنا آل محمد» (¬1). فمنعه من تناول الحرام وهو طفل لا يعقل الكلام إلا بقوله «كخ كخ»، وهي كلمة تقال للطفل قبل فهمه الخطاب، فدل على وجوب حفظ الطفل مما لا يحل. ولقوله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (¬2). ولقوله تعالى (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6). تأهيل المختصين في التكنولوجيا: وإيجاد مختصين من المسلمين في المجالات التكنولوجية فرض عين على الدولة، واستعمال الوسائل التكنولوجية يأخذ أحكام المقاصد؛ لأنها من الوسائل. فنشر كل ما يقيم المصالح ويدرء المفاسد ويخدم المقاصد الشرعية الكبرى: دينا، ونفسا، ومالا، وعرضا، وعقلا، وجماعة، كله له حكم الوجوب في النظر الكلي. وهذا الحكم منسحب على كل الوسائل التكنولوجية المحققة، والخادمة لهذه المقاصد. تحديد القبلة بالإحداثيات وهلال الصوم بالمجهر: وتحديد القبلة بالإحداثيات عبر المواقع الإلكترونية المعتمدة لا مانع منه، وتبنى عليه الأحكام، بخلاف مسألة الهلال بالمجهر الإلكتروني، أو الحساب الفلكي. والفرق بين المسألتين أن التوجه للقبلة مشروع على غلبة الظن؛ فإذا اتجهنا بالقطع كان أولى، وتحديدها بالإحداثيات قطع أو قريب منه. بخلاف صيام رمضان، والوقوف بعرفة؛ فإنهما معلقان على القطع بالمشاهدة، أو الإتمام للعدة. والمشاهدة المجردة هي عين اليقين، ولا فوق لها إلا التكلف (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 7)، فجعل سبحانه عين اليقين هي المشاهدة بالعين المجردة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

ومن قواعد الشريعة (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86). ولأنه بالاستقراء عرفنا أن الشريعة في أحكامها التي تعم علقت معرفتها بالأسباب الظاهرة العادية لعموم الخلق (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165). ولو أجزنا الصيام بالمجهر؛ لتكلفنا الدخول في العبادات، وهو خلاف منهج ومقصد الشرع في النهي عن التكلف (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). وإلا لأجزنا استعمال مكبرات الرؤية في رؤية النجاسة على الثوب والماء. ولأنه ينبني كثير من المسائل على رؤية الهلال، وهي من أكبر المسائل مثل حساب العدة التي يتعلق بها حفظ الأنساب والأعراض، ويتعلق بها قضاء الديون، وصيام كفارات شهرين متتابعين، والطلاق المعلق، والأيمان، والنذور. فهل يقال بانقضاء العدة بالاعتماد على رؤية الهلال عبر المجهر المكبر، ولم يُرَ بالعين المجردة إلا بعد يوم؟ وفي هذا اليوم تبقى المرأة في ذمة زوجها المطلق وترثه، وهذه المسائل المرجع فيها رؤية الهلال بالعين أو التمام. ولا يقاس على النظارة الطبية على العين؛ لأن العمل بالرؤية بالمجهر للهلال تكبيرٌ لما لا يراه الناس جميعا بالرؤية العادية، فهو تكلف. وأما النظارة فهي فيما هو مرئي للناس في الرؤية العادية فهي علاج لضعف، فكانت في الهلال تكبير لما لا يشاهد لعموم الناس، وفي النظارة تكبيراً لما يشاهده الناس لخلل في عين فرد، فكيف يسوى هذا بهذا والمسألة عكسية؟ فتلك تكلف مذموم والأخرى علاج مشروع، ولا يقاس إلا مع تساوي فرع وأصل، والحاصل أن الله كلف الناس بالعاديات الجارية في الخلق رؤية وسماعا. فمن كلفهم بغير العاديات فقد خرج عن سعة التكليف إلى التكلف في التكليف. ونقل رؤية الهلال في الفضائيات مباشرة بواسطة تكبيره بالمجهر أو بغير تكبير لا يعتبر رؤية يجوز بها الشهادة أمام القضاء لمن رآها؛ لأنه كنقل خبر من رأى؛ فالمخبر شاهِدٌ، وناقل الخبر ليس بشاهد.

الصلاة في الطائرة

الصلاة في الطائرة: والصلاة في الطائرة إن دخل الوقت مشروعة فرضا ونفلا. أما النفل فظاهر؛ وأما الفرض؛ فلأن وقت الطلب إذا دخل فقام به المكلف؛ فإن الشرع يعتبر استطاعته الأداء في ذلك الوقت. فإن لم يستطع استقبال القبلة، جاز إلى حيث اتجه لعموم (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115) وهذه نزلت لمن لم تتحدد القبلة عنده في السفر. وإن لم يستطع الصلاة إلا بالإيماء على مقعده في الطائرة جاز (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وإلا للزم على عادم الماء ألا يصلي أول الوقت انتظارا للماء، والمريض ألا يصلي قاعدا أول الوقت انتظارا لزوال علة تزول آخر الوقت بخبر طبيب أو لأثر علاج، ولا يلزمه ذلك، بل يصلي بما توفر له من الاستطاعة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفريضة بأصحابه على راحلته لعلة المطر الكثير على الأرض (¬1). النقل المباشر للصلوات عبر وسائل التكنولوجيا: ونقل الصلوات والأذان بالتلفزة المباشرة من تعظيم شعائر الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32). ولا يجوز أن يأتم أحد بالإمام عبر الراديو أو التلفزة؛ لأنها لا تسمى صلاة جماعة، لا شرعا ولا لغة ولا عرفا؛ لعدم اجتماعه معهم في محل واحد. فالجماعة من الجمع والاجتماع، وهذا ليس منه. ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم 413 عن عمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فمطروا السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام -أو أقام- فتقدم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع. قلت: ضعيف الإسناد. وقال النووي في المجموع (3/ 106): إسناده جيد. وسكت عنه الحافظ في الفتح، وصححه عبدالحق الإشبيلي. قلت: فلعلهم احتملوا الجهالة في طبقة التابعين كما تقدم، وإلا فالحديث ضعيف، ولكن إذا حصل ذلك في مثل هذا الظرف صحت الصلاة.

الفاكس

أما من حضر الجماعة ولو امتدت الصفوف كالحرم وما شابهه، فهو مصل مع الجماعة لصدق الإطلاق عليه لغة وشرعا وعرفا. وإذا انقطع صوت المكبرات الصوتية، وتعذر متابعة الإمام؛ انفرد الشخص وأتم على حاله؛ لأن هذا هو مستطاعه (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وإنما أجزنا تكبير الصوت بالمكبرات هنا لثبوت التبليغ عن الإمام بالصوت (¬1). الصلاة والصوم خارج الغلاف الجوي: ورائد الفضاء يصلي الصلوات على ميقاتٍ وسط ويقدر لذلك قدره؛ لحديث «اقدروا لذلك قدره» (¬2)، ويتجه نحو جهة الأرض، وجهة الكعبة منها بما لديه من بوصلة وإحداثيات. ويصوم بوقت أوسط الأماكن، ويَقْدُر له. وراكب القطار كالطائرة. الفاكس: والفاكس من جهة معتمدة إلى مثلها، لا مانع من اعتماد ما يبعث به من الوثائق: سواء في الأنكحة، أو الأموال، أو الدراسات، وغيرها، وللقاضي حينئذ (¬3) القضاء بها. الإحرام في الطائرة ووسائل النقل: والإحرام في الطائرة والقطار والسفينة يكون بمحاذاة الميقات؛ لعموم «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة» (¬4). ¬

(¬1) - قولنا «لثبوت التبليغ عن الإمام بالصوت» دليله ما أخرجه البخاري برقم 712 عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل قلت إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة قال مروا أبا بكر فليصل فقلت مثله فقال في الثالثة، أو الرابعة إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل فصلى وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهادى بين رجلين كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر رضي الله عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - أي لأنها من جهة معتمدة إلى مثلها. (¬4) - أخرجه البخاري برقم 1524 عن ابن عباس قال إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة.

امتلاك التكنولوجيا العسكرية

ويصدق على المحرم في الطائرة أنه أتى على المواقيت فلزمه بالمحاذاة. ويجب على الطيار ونحوه من مساعد أو مخول تنبيه ركاب الطائرة لذلك، وكذا سائق القطار، وربان السفينة. فإن كان غير مسلم وجب عليه ذلك عرفا بمقتضى إلزام العقد له، وإلا ترتب ضرر، والعقود لا تتضمن الضرر، فإن لم يفعل أحرم الحاج من بلده وجوبا؛ لئلا يتجاوز الميقات من غير إحرام، فإن لم يفعل، وتجاوز الميقات بلا علم، أحرم إن علم من ساعته وجوبا. فإن أخر أثم، وفي لزوم الدم أو عدمه خلافٌ معروف في مثل هذه المسائل. والصحيح أنه لا تكليف إلا بيقين، أو غلبة الظن المستفادة من الدليل، وهذا هنا لا يوجد، وإن وجد بعض الآثار عورض بمثله. امتلاك التكنولوجيا العسكرية: الاستراتيجية والتقليدية صناعة وتسلحا وخبرة جوا وبرا وبحرا، أمر شرعي (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وهذا عام شامل لكل أنواع القوة، ويحرم الدخول في معاهدات دولية تمنع التسلح الاستراتيجي على أهل الإسلام، خاصة ولو أدخل معها من الدول الضعيفة تحليلا. فإن شمل المنع كافة دول العالم الكبرى وغيرها التزم الكل؛ لأن أسلحة الدمار الشامل من الفساد في الأرض فالامتناع الشامل لكافة القوى العالمية عنها واجب ويحرم الانتقائية وسياسة الكيل بمكيالين. والتكنولوجيا المدنية مطلوبة طلبا وسيليا شرعيا: وامتلاكها فرض على الأمة، وهو من فروض الكفايات، وتأثم الأمة إن فرطت، وسائر أنواع التكنولوجيا داخل في هذا الحكم. وسواء في ذلك التكنولوجيا الطبية، أو الاقتصادية، أو الإعلامية، أو الهندسية، أو الجيولوجية، أو التعليمية، أو الصناعية، أو تكنولوجيا البنية التحتية الكهربائية

والتكنولوجيا التعليمية

والموصلات والطرقات والاتصالات وشبكات المياه والتكنولوجيا الزراعية والجغرافية والتكنولوجيا الإلكترونية. أما التكنولوجيا الطبية فهي وسيلة إلى حفظ النفس، فوسائلها لها حكم ما توسل به إليه لعموم (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). ودعم هذه التكنولوجيا بحثا ودراسة وتجارب، وإنشاءُ مراكز البحث والدراسات والجامعات والمستشفيات العامة والمتخصصة، ودعم الدارسين في هذا المجال، كل هذه الأمور وغيرها مما يخدم هذا المجال داخل في الفرض، وهو عيني على الدولة. والتكنولوجيا الاقتصادية والتجارية التي تسهل عملية الاستثمار وتبادل الأموال والخدمات والتسهيلات وأعمال المصارف والبنوك والبورصات والشركات والمؤسسات التجارية، خادمة لحاجي من الحاجيات وهو التجارة والبيع والشراء والاستثمار. والحاجة تتنزل منزلة الضرورة، وما خدم الحاجي أخذ أحكامه من الوسائل. فالأصل المشروعية في كافة هذه الوسائل الحديثة في تداول المال، ولا يصح منعها بعلة عدم وجود تخريج لها على مسألة قديمة عند المذاهب، لأن الأصل الحِلَّ، ولا يحرم إلا ما قُطِع بتحريمه من النصوص الصحيحة الصريحة الخالية عن المعارضة مع صحة تنزيل النص على الواقعة يقينا أو قريبا منه، بحيث يعد مخالفه منفردا بشذوذ من القول. أما ما سوى ذلك من الخلاف المحتدم بين بحَّاثة العصر ومتفقهته وفقهائه فأكثره دائر على: هل تُخَرَّج على قول الشافعي، أو قول أحمد، أو مالك، أو أبي حنيفة، أو غيرهم؟ وهذا صوابه أبعد من خطئه إلى الصواب؛ لاختلاف واقع الحال اختلافا شديدا. بل الأصل أن يُتعامل بالحل المطلق في الأمور التجارية، ولا يستثنى إلا ما قطع به نصا، وهي موانع خمسة استقصيناها في فقه الأموال من كتابنا. والتكنولوجيا التعليمية: وسيلة موصلة إلى مطلوب شرعي كبير هو: العلم، والتعليم، وخادمة للمقصد الشرعي: حفظ العقل.

الدراسة عن بعد وسماع العلم عبر التكنولوجيا

فيطلب شرعا استغلال الوسائل الحديثة لخدمة العلم في كافة مجالاته التي تجلب المصالح وتدفع المفاسد. الدراسة عن بعد وسماع العلم عبر التكنولوجيا: والدراسة عن بعد بوسائل التكنولوجيا المعتمدة من جهات معتمدة جائزة معتبرة إذا آتت ثمارها المصلحية، وهي من التيسير في العلم، والتيسير مطلوب، وهو من قواعد الشريعة. وسماع العلم في علم الشريعة عبر شبكات النت، والقنوات الفضائية، والكاسيت، وشبكات الأثير، والتسجيلات الصوتية، من الأمور الجائزة؛ لأنها وسيلة لأعظم الأمور المشروعة، ويعتمد نقل الفتوى من عالم عبر مصدر معتمد له. وقولنا «معتمد» احترازاً عن مصدر يتطرق إليه إمكان التحريف. والمونتاج الإعلامي المحرف محرم نقله؛ لأنه كذب. ويجوز طلب العلم على العلماء بهذه الوسائل، فيكون للعالم تلاميذ عبر العالم بواسطة هذه التكنولوجيا، بشرط كون سماع دروسه من مصدر معتمد لا يحتمل دبلجته وفبركته والكذب فيه على العالم. فإن احْتُمِلَ أنه عُبِثَ فيه بقص وإضافة لصناعة فتوى يفهمها السامع على غير ما قاله العالم؛ فلا يجوز اعتماد ذلك المصدر. أما إن كان العالم في القناة أو المصدر الإعلامي يلقي في بث مباشر بلا إمكان تغيير، أو دبلجة؛ فيجوز الأخذ عنه من هذه المصادر ونسبتها إليه. ويجوز حينئذ أن يقول التلميذ: حدثنا شيخنا، وقد كان النسائي يقول: حدثنا الحارث بن مسكين من وراء حجاب وأنا أسمع؛ لأنه كان قد منعه من حضور مجلسه مباشرة فاضطر للسماع بهذه الصفة (¬1). ¬

(¬1) - قال الحافظ في فتح الباري (5/ 269): وفيه إشارة إلى التفرقة في صيغ الأداء بين الأفراد والجمع أو بين القصد إلى التحديث وعدمه فيقول الراوي فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ أو قصد الشيخ تحديثه بذلك حدثني بالإفراد وفيما عدا ذلك حدثنا بالجمع أو سمعت فلانا يقول ووقع عند الدارقطني من هذا الوجه حدثني عقبة بن الحارث ثم قال لم يحدثني ولكني سمعته يحدث وهذا يعين أحد الاحتمالين وقد اعتمد ذلك النسائي فيما يرويه عن الحارث بن مسكين فيقول الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع ولا يقول حدثني ولا أخبرني لأنه لم يقصده بالتحديث وإنما كان يسمعه من غير أن يشعر به.

النقل من الموسوعات الإلكترونية

وقد كان الصحابة يسألون الفقيهات كنساء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب وينقلون عنهن العلم والحديث. ولا فرق إلا البعد المكاني (¬1). فإذا تَيقَّن السامع الصوت والصورة من مصدر معتمد سقط معنى الفارق، وإذا طلب التلميذ عن بعد من شيخه إجازة أجازه عن اختبار يتيقن به معرفته، ويكون في طبقة تلامذته. النقل من الموسوعات الإلكترونية: والنقل من الموسوعات الإلكترونية والعزو إلى كتبها بالجزء والصفحة أمر لا مانع منه، بشرط كونها موثقة مقابلة من خبراء ومراكز موثوقة معتمدة؛ لأنه لا فرق بينها وبين الكتاب سوى تصغير الكتب تصغيرا مجهريا إلكترونيا بحيث يجمع في الاسطوانة أو الذاكرة الرقمية التي لا تتجاوز الإصبع آلاف الكتب وملايين المعلومات. وهذا من فضل الله ونعمته على الخلق في هذا العصر، وتقصير العلماء في البلاغ مع هذا التيسير إثم؛ لأن التكليف بقدر الاستطاعة. وفي استطاعتهم ما ليس في استطاعة من قبلهم قبل ثورة العلم التكنولوجي. والله أناط التكليف بالاستطاعة والوسع (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). التكنولوجيا العلمية وتوثيق وحفظ الأصول وبيع الحقوق الإلكترونية: ولا بد من استغلال الوسائل الحديثة في حفظ المخطوطات وتوثيقها وأصولها؛ لأن حفظ أصول العلم وسيلة لحفظه في الجملة؛ لاعتمادها مرجعا ومصدرا للعلم بصحة النقل، وعدم الخطأ فيه، ونسبة الأقوال والمذاهب والاجتهادات إلى أهلها نسبة صحيحة. ¬

(¬1) - قولنا: لا فرق إلا البعد المكاني نعني به أن السائل للفقيهة من الصحابة كان من وراء حجاب عن قرب بخلاف البث المباشر عبر الأقمار فعن بعد كبير مع سماع ورؤية كلٍ صوتَ وصورةَ الآخر فلا فرق إن كان من مصدر معتمد.

التكنولوجيا الأمنية والقضائية

وبيع الحقوق الإلكترونية والقنوات الفضائية ومواقع شبكة النت والصحف وكافة وسائل الإعلام جائز لعموم (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). ووسائل التكنولوجيا الجيولوجية في علم الأرض والكون مطلوبة شرعا على جهة الوسيلة؛ لأن الله طلب السير في الأرض للنظر والبحث عن كيفية الخلق وبدئه وسنة الله فيه (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20). وقال سبحانه وتعالى (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101). وامتلاك تكنولوجيا البنية التحتية من شبكات مواصلات، وطرقات، واتصالات، وكهرباء، ومياه، وتعليم، وصحة، وتكنولوجيا النهضة الشاملة الإلكترونية، والصناعية، والزراعية، والجغرافية، والاقتصادية: صناعةً واختراعا وبحثا وتطويرا هو: من فروض الكفايات؛ لأن الله أمر بالقوة وإعدادها وهذا منه، ولأن الله أمر بالإصلاح في الأرض وهذا منه، بل من أظهره وأعلاه؛ وأمر بالإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، وهذا من الإحسان. وبعموم النصوص التي تأمر بعمارة الأرض وعدم الإفساد فيها، وهي من النصوص الأصول الكبرى العامة التي تنظم الحياة إلى يوم القيامة. والتكنولوجيا الأمنية والقضائية: الأصل فيها الإباحة ما لم يحصل بها ما حرمه الله كالتجسس والتصنت على الآمنين لعموم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12). وتستعمل التكنولوجيا الأمنية لدفع فسادٍ في الأرض متوقع يقينا أو غالباً لا بالتوهم. فإن حصل تيقن وقوع الجريمة أو غلبتها ببلاغ من عدل أو مجهول مع قرائن تؤيده؛ وجب رصد تحرك المجرم المقْدِم على الجريمة لمنعه قبل إحداثها؛ لأن هذا من الفساد في الأرض ويجب دفعه ومنعه.

توثيق إقامة الحدود

فإن حصل بلاغ من مجهول ويمكن حدوث ما أخبر عنه للقرائن، وجب اتخاذ الإجراءات اللازمة لدفع المفسدة قبل حصولها. والشرع يأمر بدفع الفساد قبل وقوعه؛ لمجرد حصول خوف معتبر بوقوعه فقال (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58). وإنما قلنا عند حصول خوف معتبر بوقوعه؛ دفعاً للخوف المجرد عن القرائن الواقعية؛ فإنه لا يُعمل به، قال تعالى (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 61 - 62)، فأزال مخاوفه المحتَمَلَة بخداعهم واتخاذهم الجنوح للسلم وسيلة للإعداد والغدر بالتطمين من المخاوف، ولم يكلفه العمل بموجبها مجردة. وقال (وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 71)، وهذا النص كسابقه في الدلالة على عدم اعتبار المخاوف المجردة؛ فإنه طمأنه ولم يأمره بترتيب فعلٍ على الخوف من خيانتهم. وعُلِمَ بذلك الفرق بين الخوف المجرد وهو الوهم، وبين الخوف المبني على واقعية منظورة، أو ملموسة، أو مسموعة من مصادر صحيحة اجتمعت على تأكيد وقوع الضرر. هذا ما تجتمع به النصوص، والله أعلم. توثيق إقامة الحدود: ولا يجوز توثيق إقامة الحدود إعلاميا كان مرئيا أو مسموعا؛ لأن الأصل فيها الستر، ولأن الجواز الشرعي محصور في طائفة من المؤمنين، وفي بعض الحدود كالزنى (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2). والطائفة تصدق على واحد واثنين ونحو ذلك، ولا تحتمل العموم العام على عموم المؤمنين لأنها حينئذ فضيحة، وقصدها محرم، وبثها إعلاميا كقصد الفضيحة.

المحاكمة وبثها إعلاميا

ونقل إقامته صلى الله عليه وسلم الحد على من أقرَّ هو نقل تشريع، وهو واجب؛ لأنه من حفظ الدين بخلاف البث الإعلامي فلا يتعلق به مصلحة معتبرة (¬1). المحاكمة وبثها إعلاميا: والمحاكمة العلنية التي تبث عبر وسائل الإعلام لا مانع منها عند تعلق الأمر بالوضع العام؛ لردع المفسدين وبيان العدل في مجريات قضية تتعلق بالمصالح الكبرى، وذلك للضرورة وغلبة المصالح، فتقدر بقدرها، وتكون بقرار قضائي أو نيابي أو جهة مخوَّلة. وإلا فالأصل المنع لعموم (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). فهذه القضايا ونحوها مما تدخل في مقصود الآية من القضايا العينية المحصورة لا يجوز بث المحاكمة فيها على الخلق؛ لأنه لا يخدم المصالح المعتبرة ولا يدفع المفاسد، بل قد يؤذي الناس فيؤدي إلى مفاسد أكبر، ولأن الأصل الستر لا الفضيحة. الجريمة والتوثيق الإعلامي للإثبات: ولا تثبت الجرائم بمجرد التوثيق الإعلامي للجريمة إلا كقرينة في حال اعتماد المصدر قطعيا؛ لإمكان التلاعب في الصناعة الإعلامية للوثيقة، سواء كان بالصوت فقط أو الصورة أو بهما. وقولنا بالصورة يشمل الأشخاص والأماكن والوثائق المصورة المكتوبة. والأصل في باب جرائم الحدود «ادرءوا الحدود بالشبهات» (¬2)، ولا شك في تعلق الشبهة القوية بإمكان التزوير في هذه الوسائل التكنولوجية في توثيق الجريمة. ¬

(¬1) - قولنا هذا هو جواب عن تساؤل يمكن أن يقال فيه، فلماذا تناقل الناس خبر إقامته صلى الله عليه وسلم الحد فلا فرق بينه وبين بثه إعلاميا؛ فجوابه أن تناقله لأنه دليل شرعي في الأمر، وحفظه من حفظ التشريع بخلاف البث الإعلامي، فإن تناقلة إشاعة لا يترتب عليها مصلحة معتبرة. (¬2) - تقدم تخريجه.

فلا تثبت الجريمة إلا بإقرار صحيح، بلا إكراه من فاعلها، أو بشهادة عدول أثبات لا يطعن فيهم بما يعتبر في رد شهادتهم، مع كمال عددهم بحسب الواقعة؛ لأن هذا هو ما علق الله عليه إقامة الأحكام. والأصل عند عدمها عدم الحكم؛ إذ الأصل براءة الذمة عموما، وبراءة ذمة المتهم من الدعوى خصوصا، إلا بإثباتٍ بالبينات العادلة الناقلة عن الأصل القطعي.

فقه الطفل والولد

فقه الطفل والولد * (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: 46) * «اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم» * ضياع الأمومة ضياع للطفولة، وذلك عائد بالضرر على الفرد والأسرة والمجتمع * الكفاية والرعاية والحفظ للطفولة أمور مصالحية عظيمة والشريعة طالبة للصلاح * عمالة الأطفال مضارها النفسية والبدنية والأخلاقية والتعليمية والحياتية أكبر من مصالح قد يظنها البعض، فواجب على الدولة والمجتمع كفايتهم ومنع استغلالهم دفعا لهذا الضرر * العناية الصحية واللقاحات حق وسيلي مرعي في الشرع لحفظ النفس البشرية

طلب الولد ولو في الشيخوخة لمن ليس له ولد، وطفل الأنابيب

فقه الطفل والولد من مقاصد الشريعة الكبرى، وأحد المقاصد الست التي تدور عليها الشريعة حفظ النسل. فيتعلق به كل ما يصلحه ودفع كل ما يضره ويفسده. وفرض في الجملة طلب سبب الولد بالنكاح الشرعي، ويحرم التبتل شرعا (¬1). ويشرع طلب نكاح لأجله في قوله صلى الله عليه وسلم «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» (¬2). ويشرع الدعاء للطفل، ولو قبل حصوله، لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتى أحدكم أهله فقال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره شيطان» (¬3). وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). وهذا يشمل من خلق ومن لم يخلق. طلب الولد ولو في الشيخوخة لمن ليس له ولد، وطفل الأنابيب: ويشرع طلبه، ولو عند كبر السن جدا؛ لقوله تعالى عن زكريا (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) (الأنبياء: 89). وقوله (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 4 - 6). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5073 عن سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. (¬2) - أخرجه أبو داود 2052 بسند صحيح عن معقل بن يسار قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها قال «لا». ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم». وله شواهد كثيرة حسنة وصحيحه. وصححه الحاكم في المستدرك 2685، ووافقه الذهبي. (¬3) - تقدم تخريجه.

المولود الأنثى

وقول إبراهيم (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100). وفي الآيتين عدم اليأس من طلب الولد، ولو في انقطاع الأسباب الظاهرة؛ لأنهما طلبا ربهما ذلك وقد انقطع العمر وامتنع ذلك عادة. والبشارة به مشروعة لقوله تعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (الصافات: 101). ويجوز طلب الطفل بالأنابيب بمني الزوج، وبويضة زوجته، ويزرع في رحم زوجته صاحبة البويضة، وأما غيرها من الصور فمحرمة (¬1). والولد هبة ربانية محضة متعلقة بالمشيئة؛ قال تعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49 - 50). فقولنا: هبة .. وما بعدها مستنبط من الآية، ولا فرق بين ذكر وأنثى في الهبة الربانية. المولود الأنثى: ويحرم التمعر وإظهار السوء من المولود الأنثى، وفعل ذلك من الجاهلية؛ لقوله تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (النحل: 58 - 59). فيحرم إظهار الاستياء بولادة الأنثى، أو معاملتها بالإهانة، أو دفنها حية كما كان يفعل أهل الجاهلية. وقد سوى الله في الحكم العام بين الثلاثة الأمور بقوله (أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ). فالاستياء بها، أو إهانتها، أو دفنها حية أمور محرمة، وإن كان بعضها أكبر جريمةً من بعض. لذا خص بالسؤال جريمة الإعدام للأنثى صغيرة بدفنها حية، فقال تعالى: في أوائل الوحي (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8 - 9). وكذَّب الله الكافرين في قولهم أن لهم الحسنى وهم الذكور، وأن له ما يكرهون وهن ¬

(¬1) - تقدمت في قرار المجمع الفقهي، وقد ذكرناها في فقه الطب.

وفي الآيات

الإناث، فقال تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) (النحل: 62). فجعل الله الكذب من وجهين: من وجه نسبة الإناث لله، فهذا كذب، فهو سبحانه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (الإخلاص: 3). ووجه آخر: تسميتهم الحسنى بالذكور، وغير الحسنى للإناث، وهذا كذب، فالولد كله حسنى في أصل هبته. وهذا الأسلوب الجاهلي رده الله، وحرمه في نصوص كثيرة في القرآن. واختار لأفضل أنبيائه ورسله هبتَه الإناث لا الذكور مع عيب أهل الشرك له بالأبتر أي: مقطوع النسل؛ لعدم رزقه بِذَكَرٍ يحمل اسمه ونسبه. فرَدَّ الله هذا الكذب والسخافة والهراء بسورة مستقلة قائلا (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (الكوثر: 1 - 3). فالأبترية والانقطاع كائن فيمن عابك لا فيك. فحالك وشأنك في رفعة متصلة إلى يوم القيامة، وأما عدوك ولو أنجب الذكور فإنه منقطع. بل ومن قبل هذا مريم -عليها السلام- التي حملت بالرسول عيسى ابن مريم عليه السلام، المبشِّر بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد رفع الله شأنها؛ ذاكرا لها في كتابه إلى يوم الدين. وقد رد الله على أمها لما وضعتها، وأرادت المولود الذكر ليخدم المسجد؛ لأنه أكثر قوة من الأنثى، فقال تعالى (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) (آل عمران: 36). ثم قالت (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) فاعترض الله قولها مكرماً لمريم بقوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ). وفي الآيات: 1 - جواز النذر بالولد، ولو حملا لجعله لخدمة الدين؛ لأن الله قَبِله ورضيه، ولم يَرِدْ ما

يُخَصِّص ذلك بمريم، فالتشريع عام، وهذا يدخل في قول الفقهاء «شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه». والنذر بجعل الولد كذلك طاعة، والنذر في الطاعة جائز. فما دام الولد تحت يد والده فله ذلك حتى يستقل، فإن استقل ورأى الولد تغيير ما وُجِّه له جاز ذلك له في الأصل؛ لأنه حر في تصرفاته لا يقيدها فعل غيره، أو نذره، ولا إثم على الوالد. فإن أمره والده بطاعته في الوفاء بنذر الطاعة أطيع إن استطاع الولد. فإن لم، فلا إكراه، ولا إثم؛ لأن الطاعات متعلقة بالطاقات والاستطاعات (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). 2 - وفيه مشروعية توجيه الوالد لطفله في الطاعات. 3 - وفيه أن تصرفات الوالد في طفله بالنظر لا بالضرر؛ فقد أجاز الشرع تصرف أم مريم في توجيهها حَمْلَها لخدمة المسجد؛ لأن فيه نظراً بلا ضرر. ومَنْعُ تصرفات الإضرار بالطفل والنسل لعموم (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). 4 - وفيه: أن توجيه الوالد لطفله لخدمة خاصة في الدين جائز للذكر والأنثى، بلا فرق. 5 - وفيه: جواز هبة المجهول؛ لأنها وهبت مريم لله ولا تدري أذكر أم أنثى. 6 - وفيه: أن الأصل تصحيح النذور والعقود والهبات على ما يطابق الواقع، لا ما طابق الظن. فأم مريم صح هبتها لله بحملها الذي تظنه ذكرا، فخالف الظن ووقع النذر على الواقع. 7 - وفيه: العمل بالعموم (مَا فِي بَطْنِي) (آل عمران: 35)؛ فعمت ذكرا أو أنثى. 8 - وفيه: التفريق بين الذكر والأنثى في القوة والخلقة للعمل؛ لأن الله لم يعترض على قولها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) وعقب على قولها (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى) استقلالا. لأنه المقصود من السياق.

9 - وفيه: جواز تسمية المولود إثر ولادته مباشرة فإنها سمتها مريم إثر الولادة كما يدل عليه سياق النص. 10 - وفيه: إعاذته وذريته من الشيطان الرجيم وذريته. 11 - وفيه: أن الأم لها حق في تسمية المولود، ولا يختص بذلك الوالد. 12 - وفيه: عداوة الشيطان لابن آدم ولو قبل سن التكليف، فإنها عوَّذت منه مريم إثر ولادتها، فدل على مطلق عداوته لبني آدم ولو طفلاً. 13 - وفيه: الالتجاء إلى الله من عداوة الشيطان؛ لأن الاستعاذة هي التجاء. 14 - وفيه: تحصين الأبناء من شره وأبناء الأبناء وإن لم يكونوا موجودين حينئذ. 15 - وفيه: الدعاء للولد وذريته. 16 - وفيه: الدعاء لذرية الطفل على الأصل مع أنه قد يموت، وقد لا ينجب. 17 - وفيه: شمول الذرية إلى يوم القيامة، ذكورا وإناثا. 18 - وفيه: عظيم عطف الوالدة على مولودها واهتمامها به وهي في أشد حالة من الضعف إثر الولادة وشدتها وأتعابها. 19 - وفيه: إثبات عداوة الشيطان على الإنسان، ومشروعية رقية الولد منه بالاستعاذة وما ثبت في ذلك من السنن. 20 - وفيه: أنه قد يؤثر الشيطان على الإنسان طفلا مولودا، وضرره عليه من ذلك الوقت، ولا ضرر إلا بالاستحواذ عليه أو مسه؛ لأنه لا وسوسة بالمعاصي إلا على بالغ أو مقارب. 21 - وفيه: أن الله لا يضيع من تولاه؛ فإن مريم أنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا. 22 - وفيه: أن لطف الله ورحمته بمريم من صغرها، وهي أنثى. 23 - وفيه: مشروعية كفالة اليتيم؛ لأن مريم كفلها زكريا؛ فدل على يتمها، وعلى مشروعية الكفالة، وأنه تيسير من الله للعبد. 24 - وفيه: جواز القرعة على القُرَب، فقد اقترع بنو إسرائيل في من يكفل مريم.

ويتعلق بالحمل حقوق وأحكام

25 - وفيه: عناية الله بالعبد إذا سخر له عبدا صالحا يكفله، فإن زكريا كان نبيا، وهيأه الله لكفالة مريم. 26 - وفيه: بقاء المرأة في المسجد (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37). 27 - وفيه: قدرة الله المطلقة، ومنها رزق العبد بدون سبب، بل من عنده سبحانه وتعالى بلا واسطة بشرية كما كان يرزق مريم. والأسباب مشروعة: كما أمر مريم في أشد حالتها أثناء المخاض أن تهز جذع النخلة لتساقط الرطب، مع أنه يعجز عن هز جذع النخلة الرجل مفتول العضلات. ولكنها آيات لعباده سبحانه وتعالى. 28 - وفيه: اتخاذ المحراب، ومشروعيته، ولا إنكار في ذلك في شريعتنا. 29 - وفيه: عدم إنكار زكريا لهذه الكرامة الربانية لعلمه وإيمانه بإمكان حصولها، وحصول الكرامات للمرأة الصالحة. 30 - وفيه: الاعتراف بفضل الله في النعمة (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37). ويتعلق بالحمل حقوق وأحكام قال تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) (لقمان: 14). أي: ضعفا على ضعف. وعند الضعف تلحق التخفيفات، قال تعالى (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) (الأنفال: 66). فإن ضعفت الحامل عن الصيام، أفطرت ثم قضت؛ لعموم (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 184)، وضعف الحامل عن الصيام كالمرض لوجود الضعف والوهن المانع من القدرة على الصيام (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وليس في وسعها ذلك. أما الحامل المطيقة للصوم بلا ضرر فتصوم على الأصل.

العلاج للحامل والحمل

وتجب النفقة عليها حتى تضع حملها حتى ولو طلقت، بالنص في ذلك (وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 6). ولا نفقة لها هذه المدة الطويلة إلا لعلة الحمل، فدل على أن له ولها حقوقاً خاصة في فترة الحمل. وتراعى النفقة بحسب الوسع، لقوله تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7). العلاج للحامل والحمل: وإن احتاجت هي أو جنينها إلى علاج وجب ذلك؛ لأن الله يقول (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). وليس من المعروف أن تَهْلَك مرضا ولا يداويها. وأما الولد؛ فدفع الضرر عنه واجب على وليه؛ لعجزه؛ ولقوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: 26). وهذا من حقه؛ لأن حقه الإحسان إليه. فإن عجز فـ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). وفي وسعه الدعاء؛ فعليه به في هذا الحال وفي كل أحواله كان مليئا أو فقيرا. ذمة الحمل المالية: والحمل له ذمة مالية فيرث، ويملك الهبات والنذور والوصايا التي لا تحتاج إلى قبول معاوضة، وإن احتاجت إلى نوع قبول كالقبض في الهبة إلا أنه يعفى في حق الجنين ذلك القبض؛ لتعذره عليه، وينوب عنه وليه. الإجهاض: ويحرم الإجهاض للحمل، ولو في بدايته، ولو عَلَقةً؛ لأنه فساد في الأرض (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). والنسل عام، فيشمل مختلف مراحله من بداية الحمل إلى نهايته وما بعده. إلا إن تبين ضرره البالغ على الأم، كأن أضر بحياتها، لا لأجل خوف ولا عَيْلة؛ فإنه محرم (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام: 151).

نسب الحمل

ولا يجهض لأجل عمل والدته، أو دراستها، أو تأثير على أخيه الرضيع، ولا لجمال ورشاقة. ومن أجهض الحمل لأجل شيء من هذا فهو مرتكب لكبيرة ذكرت في أنواع الفساد في الأرض. فإن كان الجنين قد نفخ فيه الروح، فإجهاضه قتل نفس معصومة، وعليه الدية المشروعة. نسب الحمل: وفرض على الأم حفظ نسب الحمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم لم ترح رائحة الجنة» (¬1). ولهذا فرض على المطلقة الحامل: حرمة الزواج والعقد حتى تضع حملها؛ حفاظا على حق الطفل وأبيه في النسب (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 4). وحرم على معتدة وفاة ولو غير حامل الانتقال من بيت زوجها المتوفى إلا لضرورة ماسة، وذلك حفظا للحق النسبي والاجتماعي والمالي. دية السقط: ومن ضرب حاملا فأسقطت ما في بطنها، فعليه نصف عشر الدية وكفارة صيام قتل خطأ في الأصل؛ لعدم الفارق. إلا أن يقال إنما فرض نصف العشر لأجل الشك في حياته قبل ضربه، فأما إن تبين حيا قطعا فضرب بطن أمه فأجهضت؛ فالدية كاملة. ويَرِدُ عليه احتمال كونه ميتا في بطن أمه، ولا يتحقق من حياته إلا بالولادة، وكل هذا التشريع حفظا لحياة الطفل، ولو حملا. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 2265 عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين». قلت: هذا إسناد يحسن مثله وتفرد عبدالله بن يونس به مع ذكر ابن حبان له في الثقات صححه الدارقطني في العلل مع اعترافه بهذا التفرد كما قاله الحافظ ونقله عنه مقرا ومصححا المناوي في فيض القدير، وصححه في التيسير (3/ 177).

الأدوية الضارة بالجنين

الأدوية الضارة بالجنين: ويحرم على الأم تناول علاجات تضر بالجنين؛ لأن الضرر مدفوع، ويجب التحري من الطبيب المعالج، وإلا أثما؛ لأنه تفريط متعلق ضرره ببدن آدمي أمكن دفعه عنه؛ فحرم. فإن أسقطته بعلاج لزمها الكفارة وهي صيام شهرين متتابعين، وكذا يلزم الطبيب المعالج، ويلزمهما كذلك نصف عشر الدية، ويدخل في هذا الإلزام بالدية والكفارة الزوج إن أمر أو وافق، إن كانت موافقته مؤثرة بحيث لا يتم الإسقاط إلا بها. موت الأم الحامل بجنين حي: ومن حق الجنين المفروض شرعا أن أمه لو ماتت، وعُلِم حياة جنينها بحركته أو أي وسيلة تدل على ذلك مع استيفاء زمن الحمل؛ وجب إخراجه، ولو بشق بطن أمه الميتة؛ لعموم (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32)؛ ولأن تركه للتلف مع استطاعة إنقاذه منه بلا ضرر على المنقذ مطلوب شرعا على وجه الوجوب؛ لأنه من دفع الضرر الفاحش عن الحي. لا يقام الحد على حامل: وإذا أقرت حامل بجريمة وكان حكمها سيضر بالجنين أُجِّلَ النظر فيها إلى ما بعد وضع الحمل والإرضاع وجوبا، فإن لم تجد حاضنا له بعد الإرضاع أُوْقِفَ الحكم إلى استقلال الصبي بمنفعة نفسه؛ للنص في مثل هذه الحالة «دعيه حتى يأكل الطعام» (¬1). السقط: وإن أسقطت الأم حملها: 1 - فإن تبين منه شيء من خلقة آدمي وجب إكرامه بالدفن؛ لأنه آدمي. وسبيل إكرامه ميتا دفنه وجوبا ولو جزءا منه؛ لعدم الفرق؛ لأن العلة الإكرام. 2 - وإن لم يتبين منه خلقة آدمي فإن كان كشيء من لحم فالصحيح دفنه لاحتمال كونه جنينا؛ لأنه يستبعد غيره، إذ لا بد من أحد احتمالين: كونه جنينا أو شيئا من الأم، والأخير مستبعد لندرة كون الشيء الخارج من اللحم منها؛ لأنه لا يخرج من الرحم سوى الحيض أو ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الاستحاضة وهو دم النزيف، أو بعض الرطوبات، أو حمل، فيترجح الأخير في هذه المسألة؛ فيدفن لغلبة الاحتمال أنه جنين لم يتخلق. ولأن الله كرم بني آدم، فلا يرمى في قذارة بل يدفن؛ لأنه مقصود الإكرام. 3 - أما إن استهل صارخا ثم مات؛ فإنه يجري عليه من الأحكام ما على غيره: فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن. 4 - فإن لم يستهل صارخا وكان قد اكتمل خلقه، فله نفس الأحكام؛ لعدم الفارق؛ لأن الأصل أنه كان حيا ومات. فإِنْ كان لم يكتمل في الخلقة، فلا يصلى عليه؛ لأننا نقطع بعدم نفخ الروح فيه، فلا نقطع له بحياة أصلا، فيدفن فقط. ولأن أحكام الموت هي لمن مات عن حياة، ولم يحكم لناقص الخلقة بحياة أصلا. والأصل في الجنين الحياة إن اكتمل تخلقه للنص (¬1)؛ وإلا فلا. والجنين على أصل الفطرة، ويتبع والده المسلم في الدين. بل وولد الكافر إن وضعته أمه ثم مات من حينه، فهو على الفطرة بدليل النص «كل مولود يولد على الفطرة» (¬2)، فلا مانع من جريان أحكام الإسلام دين الفطرة عليه من تغسيل وتكفين وصلاة عليه ويقبر في مقابر المسلمين بخلاف ما لو ميز فهو يُهَوَّد أو يُنَصَّر أو يُمَجَّس. ¬

(¬1) - ولو أن النص ورد في أن التصوير قبل نفخ الحياة لكن لعدم إمكان الاطلاع على كونه قد نفخ أو لا، فنكتفي بالتخلق التام دليلا على أن الأصل أنه كان حيا في بطن أمه؛ لأن النفخ للحياة فيه بعد اكتمال تصويره نفخ في زمن متلاحق مع التصوير لا يمكن ضبطه بما يمكن أن نعتمده في الفتوى لنميز بين التصوير التام قبل النفخ أو بعده. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1358 حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب قال ابن شهاب يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام، أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخا صلي عليه، ولا يصلى على من لا يستهل من أجل أنه سقط فإن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) الآية.

حق تسمية الطفل

حق تسمية الطفل: وإذا ولد المولود وجب تسميته؛ لقوله (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5). ولا يدعى إلى أبيه إلا باسمه واسم أبيه، حقيقة أو تقديرا كابن فلان (¬1). ولأن هذا حق من أصل الفطرة والخلقة؛ لقوله تعالى (لِتَعَارَفُوا). والاسم يدخل في التعارف دخولا أوليا، ولقوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). فجعل الدين القيم وفق الفطرة، والاسم من الفطرة، ولأن هذا من الضرورات؛ لمعرفة الأنساب، والحقوق، والأموال. وحفظ الضرورات واجب، فلو لم يوجد اسم لجهلت الرسالة بجهل اسم الرسول، ولجهل نقل أسانيد العلم والسنن، وضاعت الحقوق وأهدرت الدماء والأموال؛ لتعذر ضبط الجناة حينئذ. وهذا كله هو من المعنى الحقيقي لقوله تعالى (لِتَعَارَفُوا). وذكر الله في الآية منتهى النسب التعريفي، وهو الشعب والقبيلة. فكم ممن اسمه زيد في العالم فإذا قيل اليماني حصر، وإذا قيل آل فلان حصر أكثر، وإذا ذكر أبوه وجده تبين قطعا. ولذا قال الله (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5). ولا يتوصل إلى التعريف المقصود الذي تقام به الحقوق والواجبات، وما له وعليه من قصاص وديات وديون عادة: إلا باسمه واسم أبيه وجده ثم قبيلته. ولا يتوصل إلى التعريف الذي تقام عليه الحقوق عادة بذكر اسم الشخص وقبيلته، أو شعبه (¬2) مباشرة مجردا عن اسم أبيه وجده. وكثيرا ما تتطابق الأسماء: اسمه، واسم أبيه، وكثيرا مع اسم الجد، والفاصل نسبته إلى القبيلة والشعب، فجُعِل التعريف بالنهاية الفاصلة فاصلاً. والشعب: ما نسب إلى جغرافيا غالبا. ¬

(¬1) - نحو قولنا: ابن خلدون فاسمه مقدر، وهذا معروف في علم التراجم (من نسب إلى أبيه أو جده). (¬2) - بدون أبيه وجده كزيد العربي فلا يتوصل به إلى حفظ الحقوق غالبا.

من يحق له تسمية الطفل

والقبائل: ما نسب إلى جد أو آل. فتبين أن التسمية المضافة إلى النسب للطفل حق شرعي، وطبعي، أو دليلي وجبلي. ويجب الإقرار بنسب المولود، فإن أنكره لاعن. ويكون الإقرار بالسكوت، والفرح، وقبول التهنئة على الأصل. من يحق له تسمية الطفل: والطفل يسميه والده لجريان الأعراف بذلك فشمله عموم (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6) ولإقرار الشرع ذلك زمن الوحي بلا نكير ولأنه ينتسب إلى أبيه بالنص (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ) (الأحزاب: 5)، فهو أخص به. وللأم تسمية ولدها لقوله تعالى (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) (آل عمران: 36). فإن لم يسمياه سماه جده؛ لأنه أولى الناس به بعد أبويه (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال: 75). ويجوز للإمام والحاكم تسميته إن اقتضى الأمر: اختياراً وابتداء بأن يأخذه وليه إلى الإمام الصالح لتسميته. أو اضطرارا عند عدم الولي، أو الكافل، أو تركهم تسميته، فيسميه الحاكم أو الجهة المسئولة. وقد كان جماعة من الصحابة يذهبون بأبنائهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيدعو لهم ويحنكهم، وقد يسميهم، وهذا ثابت في الصحاح (¬1). ويجوز تسميته من أول يوم؛ كما حصل لمريم إثر الولادة كما هو ظاهر سياق النص. وكما ثبت عن أسماء لما ولدت وهي في طريقها للحج في حجة الوداع فبعثت بوليدها إلى رسول الله فسماه أول يوم (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5467 عن أبي موسى رضي الله عنه قال ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إلي، وكان أكبر ولد أبي موسى. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 5469 عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها حملت بعبدالله بن الزبير بمكة قالت فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت قباء فولدت بقباء ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له فبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا به فرحا شديدا لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم.

حكم التلقيحات للأطفال

ويشرع تسميته يوم سابعه للدليل «المولود يوم سابعه يسمى ويذبح عنه ويختن» (¬1). ويذبح فرحا بالمولود شاتان تسمى عقيقة، وهي على وليه (¬2). ويشرع إثر ولادته الأذان في أذن المولود، والإقامة في الأخرى للحديث (¬3). حكم التلقيحات للأطفال: ومن حق الطفل اللقاح المضاد للأمراض، وهو على وليه. لأنه يجب على ولي الطفل دفع الضرر عنه؛ إذ هو مسئول عنه؛ لعموم حديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (¬4): نفسا وعضوا ومالا ودينا وعرضا. والمسئولية التي يؤاخذ عليها هي عدم دفع الضرر عنه من المهلكات والمتلفات لنفس أو عضو، ووجوبُ جلب منافعه ومصالحه مما يحفظ به الطفل. ومن ذلك تحصينه باللقاحات المضادة لأمراض العصر الفتاكة بالأطفال: من شلل، أو عاهة معيقة في سمعه، أو بصره، أو عقله، أو نفسه. ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم 2832 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب. قلت: وهو حسن كما قال الترمذي وله شاهد صحيح من رواية الحسن عن سمرة برقم 2840. (¬2) - أخرجه الترمذي برقم 1514 عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل في العقيقة على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أنه عق عن الحسن بشاة وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل في العقيقة على ما روي عن النبي من غير وجه. قلت: الحديث صحيح لغيره وسند الترمذي ضعيف. وله شاهد عنده من حديث علي برقم 1437، وحسنه. وشاهد صحيح عند أبي داود برقم 2843 عن ابن عباس. وشاهد من حديث بريدة عن النسائي برقم 4166 وسنده حسن. وله شاهد كذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي برقم 7588. (¬3) - تقدم قبل قليل. (¬4) - تقدم تخريجه.

حق اللعب للطفل

فوجب على وليه دفع ذلك الضرر عنه بإعطائه اللقاحات المضادة لذلك. فإن فرط فأصيب ولده بشلل، أو عاهة، أو ضرر، أو موت أثم. وعلى الدولة توفير ذلك؛ لأنه من رعاية المصالح العامة ودفع المفاسد العامة، وهو واجب على ولي الأمر وسلطاته المعنية. حق اللعب للطفل: واللعب للطفل حق فطري أقره الشرع، قال تعالى مخبرا عن إخوة يوسف (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف: 12). ومن حق الطفل أن تشترى له الألعاب ولو مصورة مجسمة بحسب عرفه وقدرة وليه (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) (الطلاق: 7). وقد ثبت في أطفال الصحابة أنهم كانوا يُعطَون اللُّعب ويصنعها لهم آباؤهم وأمهاتهم كما ورد أنهم كانوا يُصوِّمُون الأطفال تعليما لهم ويصنعون لهم اللعبة من العهن، وكان لعائشة لعبة، وأقره صلى الله عليه وسلم والنقل في هذا كثير. ويقاس عليه جواز أفلام الكارتون، ومجلات الطفل، وشرط ذلك عدم اشتمالها على الشرك أو اللاأخلاقيات أو تعليم التهتك والمعاصي. وقد ثبت عن ابن عباس أنهم كانوا يلعبون وهم أطفال على باب المسجد، ولا يعلمون انتهاء الصلاة إلا بالتكبير كما في الصحيح (¬1). وللطفل اللعب بعصفور إن كان لا يتأذى به العصفور؛ لأن إيذاء الحي ممنوع. وقد ثبت مرور النبي صلى الله عليه وسلم على طفل يلعب مع عصفور اسمه النغير فكان صلى الله عليه وسلم يداعبه قائلا: يا عمير ما فعل النغير .. وهو في البخاري. والحديث يدل على رعاية حق الطفل في الملاطفة والاهتمام به وسؤاله ولو من الإمام الأعظم. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (842) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير. وهو في مسلم برقم (1344).

الرضاعة الطبيعية

وإقامة أماكن عامة للعب الأطفال كالحدائق ونحوها جائز؛ لأن الأصل الإباحة، والشريعة راعية لحقوق الطفل وهذا منها لأنه من أصل خلقته. الرضاعة الطبيعية: ومن الحق الواجب للطفل إرضاعه رضاعا طبيعيا حتى يستغني بالطعام، وتمامه عامان، وهو واجب على أمه، وعلى وليه النفقة، لقوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة: 233). وفي حالة الطلاق يبقى وجوب الإرضاع على الأم؛ فإن تعذر ذلك لسبب وجب على وليه إرضاعه عند أخرى ولو بأجرة (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق: 6). الطفل في أعوامه الأولى: وفرض على الأم حضانة المولود، وهي: القيام بما يحتاجه الطفل من إطعام وتنظيف، وتمريض، وإلباسه ما يقيه حرا وبردا، ويزينه عرفا، ويدفع عنه وسخاً وقذراً وبولاً وغائطاً، وعموم ضرر ينشأ عن إهمال في حضانته ومتعلقاتها، ونحو ذلك. ودليله قوله صلى الله عليه وسلم «المرأة راعية في بيت زوجها في ماله وولده» (¬1)، وقال تعالى (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، أي: ليلزم كُلٌّ ما يأمره به المعروف بين الناس بلا ضرر، ومعلوم أن المعروف بين الناس هو أن الحضانة على الزوجة. فدل على وجوبها عليها، ولذا تقدم الأم على والده عند طلب حق الحضانة ولو مطلقة ما لم تتزوج. فلما قدمت شرعا (¬2) وقضاءً عند الاختيار (¬3) والاضطرار (¬4)؛ دل على أنه واجب عليها أولاً. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - قولنا شرعا لحديث «أنت أحق به ما لم تنكحي» أخرجه أبو داود في السنن برقم 2278. وهو حديث حسن صحيح، وقد صححه الحاكم برقم 2830 ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. (¬3) - عند الاختيار أي في حال عدم الخلاف وجريان الأمور العادية، فإنها راعية في بيت زوجها ومسئولة عن ولده. (¬4) - واضطرارا أي عند الخلاف تُلْزَم قضاء، ويلزم زوجها بما هو خارج البيت من الواجبات.

تكليف الطفل برعاية إخوته

فإن حُكِمَ للوالد بالحضانة؛ لعذر من قبل أمه كطلاقها وزواجها؛ لزمه القيام بكل معاني ذلك. وإن ماتت الأم وجب على والد الطفل القيام بذلك كله بمباشرة، أو إنابة ولو استأجر لذلك. تكليف الطفل برعاية إخوته: ولا يكلف ولد صغير بالقيام على أخيه فيما تقدم من أمور الحضانة؛ لأنه يخرج الحضانة عن مقصودها، وهي الحفظ؛ ولأنه إشقاق. إلا إن كان شيئاً خفيفاً على وجه غير كثير من غير اتخاذ ذلك عادة. ولو أمره أبوه أو أمه بذلك فقد كلفاه بغير تكليف شرعي. ويؤجر على طاعة والديه. ويحرم الإشقاق عليه في ذلك إلا أن تكون أخته المقاربة للبلوغ القادرة؛ فتكلف برعاية أخيها الصغير تعليما لها، لا إضرارا بها وإشقاقا عليها؛ لأنه من مصالحها تعليما لها وتدريبا، فلا مانع. إرسال الطفل انتفاعا به: ولوالد أو والدة إرسال طفل خارج المنزل بما جرى عليه العرف، كشراء غرض، أو رمي زبالة، أو حمل رسالة، أو هدية، وغير ذلك. وشرطه قدرته على ذلك والأمن عليه؛ ولأن هذا من مصالح تعليم الطفل وتمرسه، ولا مفسدة فيه؛ فجاز، ولجريان العرف عليه بلا نكير، والعادة محكمة من قواعد الشريعة الكبرى. صحة الطفل: ويسأل ولي الأمر عن الأطفال وأمورهم وصحتهم. ويوجه الشعب في ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: «علام تدغرن أولادكن بهذا الإعلاق عليكن بالقسط الهندي» (¬1) والحديث في مسلم. فنهى عن التصرفات الصحية الخاطئة مع الطفل، ووجه بما يصلح ذلك. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5713 عن أم قيس قالت دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلقت عليه من العذرة فقال على ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب. وهو في مسلم برقم 5893.

تعليم الطفل

وعلى الدولة توفير التوجيه الصحي والثقافة الصحية المتعلقة بالطفل ومستشفيات ودراسات وتخصصات للعناية بصحة النشء؛ لأنه من حفظ النسل، والوسائل لها حكم المقاصد. ويزداد الوجوب إذا لم تندفع المفاسد إلا بذلك كدفع الأمراض العصرية الفتاكة فيتأكد الطلب حينئذ. تعليم الطفل: وتعليمُ طفلٍ على والده أو وليه وجوبا، في الأصل؛ لأنه من أعظم مصالحه وولايته عليه ولاية نظر، ولا نظر في ترك تعليمه، بل مضارة وضرر. ويجب على الدولة توفير كل ما يلزم لتعليمه، وعلة ذلك أن ترك الطفل بلا تعليم مفسدة لا مصلحة، والمفسدة مدفوعة. ولا يتم إلا بتوجيه الأب، وتيسير الدولة لذلك فوجب؛ ولأن نظر الوالد لولده والدولة لمواطنيها مبني على نظر المصلحة الراجحة. ولا مصلحة في إهمال تعليمه ما ينفعه في دينه ودنياه، بل هو مفسدة منكرة؛ فوجب دفعها. وكذا تحصيل ما تدفع إلا به من المصالح. وفرض على الدولة وضع المناهج التعليمية الاستراتيجية الشرعية والمشروعة بما يحفظ الكليات الست: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والعرض، والجماعة. ويحمي البلاد من التجهيل والتخلف والاستعمار الفكري والعقائد المنحرفة والتمييع والانحلال. ويضع المناهج مسلم عدل مختص (¬1). ويستعان في غير مناهج الدين أو ما لا تعلق له بمسائل شرعية بكفء خبير. ولو بكافر إن عدم مسلم خبير؛ بشرط حاجةٍ ضروريةٍ له، ورقابة، وعدم مسلم مختص. ومتابعة تحصيل الولد على والده أو وليه أو أمه، وكذا على المعنيين في جهة تعليمه. لأنه قد يتفلت، أو يغيب، أو يهمل؛ لقلة عقل الصغير وطيشه، فاحتيج لمن ينظر في مصالحه. ¬

(¬1) - راجع «فقه التربية والتعليم» من كتابنا هذا.

إكرام النشء

والمكلف شرعا وليه بحكم الولاية الخاصة. وكذا الجهة المعنية التعليمية بحكم الولاية العامة؛ إذ الولايتان مبنيتان على النظر المصلحي. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» (¬1)، وهذا من النصيحة له؛ فإن أُهمل ففشل في تعليمه أثموا لتفريطهم. إكرام النشء: ومن الحكمة في التربية إكرام النشء مُقاما، وهيئة، ومطعما، ومشربا، وتعليما، وصحة بتوسط عرفي وشرط قدرة منفق. لأن هذه الأمور تجلب كثيرا من المصالح والنفع وقد قال الله تعالى (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21)، وقال (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) (يوسف: 21). فجعل سبحانه أمر وزير مصر لامرأته بإكرام مثواه من النعمة والفضل عليه والتمكين له. وفي الآية: أن المرأة ولو كانت عالية القدر كزوجة ملك أو وزير هي في الأصل الفطري من تتولى العناية بالنشء؛ لانشغال الرجل بأموره خارج بيته. فوجب عليها ذلك؛ ورُفِعَ عنه الوجوب بشغله بضروريات المعاش فتعين عليها، ولجريان الفطرة الخلقية على ذلك، والفطرة من الدين (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). ولذا وجبت حضانته في سن الحضانة عليها شرعا، وقضاء. ويلزم الرجل النفقة. ولأن النشء في البيت ألصق بأمه فأمرت برعايته نصا «والمرأة راعية .. » (¬2). وتدل الآية (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) مفهوما على أن الإهانة للنشء في أموره لا تجلب نفعا، عادة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

تأديب الولد

وقلنا «عادة» لتعليق النفع في الآية بـ (عَسَى) للترجي الجارية مجاري العادات السببية، وقد تتخلف قليلا، والأحكام تبنى على الغالب لا على النوادر. فالإكرام للطفل واجب في الجملة. تأديب الولد: وتأديب الولد بتوسط، وبما جرى عليه عرف صحيح غير معارض للشريعة -تأديبَ نظرٍ وإصلاحٍ لا ضررٍ ولا إتلافٍ- مشروع (¬1). ومنه ضربه تأديبا اضطرارا بلا ضرر في عضو أو نفس عند عدم جدوى غيره. وخاصة على الصلاة «علموا أولادكم الصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» (¬2). وضربه هنا تكليفٌ على الولي. وهو على الصبي تأديب لا تكليف، والحكمة منه تعويده على التكليف تدرجا؛ لأنه لا يتم لزومه التكليف تاما من أول لحظة في بلوغه إلا بتدرج تربية سابقة فوجب قبل البلوغ؛ لأنه لا يتم إلا بذلك، كمسح جزء من الرأس لتمام غسل الوجه، ولا يقال إن التكليف نزل فآمن الصحابة دون سابق تربية؛ لأنه نزل تدريجيا فأغنى عن سابق تدريج من التربية عليه. ما يحرم في تأديب الولد: وشتم طفل ولو أخطأ بمقذع الأصل فيه الحرمة، لعموم النص (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53)، (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11). وفُسِّرت عند البعض بقول شخص لآخر هو حمار، أو كلب، ونحو ذلك. وليس المؤمن بسباب، ولا لعان، ولا طعان، ولا فاحش، ولا بذيء (¬3). وغير هذه من النصوص. ¬

(¬1) - خبر لقوله وتأديبه، أي وتأديبه مشروع. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم الحديث في ذلك وتخريجه.

المفردات الهامة لتربية الولد

ولا مخصص، فدخل فيها طفل وبالغ وقريب وبعيد. ويحرم وسمه، أو صعقه بكهرباء، أو تهديده بسلاح، أو إحراق في يده أو وجهه أو بدنه. ويحرم تقييده بربط رجليه، أو يديه، أو بأي شكل غير هذا، أو ضربه بما يكسر عظما أو يدمي أو يقشر جلدا أو يغيره لونا، أو تورماً. ويحرم ممارسة أي نوع من التعذيب النفسي، أو البدني؛ لأن هذه من الضرر الفاحش، وهو محرم؛ لأنه ظلم وعدوان. وتحرم إخافته، فإن أخافه فأصيب ضمن، أو لحقه فهرب فوقع من عال، أو أمام سيارة ضمن، أو أفزعه فطار عقله أو استطلق بوله خوفا، فإنه يضمن ديانة وقضاء. المفردات الهامة لتربية الولد: ويتدرج مع الطفل في التربية، فيُعلَّم ضروريات الدين، ومكارم الأخلاق وجوبا على الوالد لولده منذ الصغر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للحسن وقد أخذ من تمر الصدقة: «كخ كخ»، وهذه الكلمة تقال للطفل قبل تمام نطقه، كما سيأتي بعد قليل. وقد جمع الله على لسان لقمان مفردات التربية، وذكرها تعالى مقرا لذلك كتشريع عام. فيعلم التوحيد لله وعدم الإشراك به (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) (لقمان: 13)، ويبين له خطره (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وطاعة والديه (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14). ويعلم مراقبة ربه وقدرته ولطفه (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16). وفرضٌ أن يُعلَّم الصلاة (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ). ولقوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132). أي اصطبر عليها دفعا للانقطاع عن المتابعة والاستمرار؛ لأنه واجب مستمر. ويختار لذلك الأسلوب الحسن، كقوله يا بني في (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ).

منع الحرام عن الطفل

وعموما طوال عُمْرٍ في آية (وَأْمُرْ أَهْلَكَ). ويعلم القوة في قول الحق وانتقاد الأفعال والتصرفات الخاطئة كالكذب، والسرقة، والأذى، وتخريب الأشياء، والحسد، والسب، وترك الدروس، والغش (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) (لقمان: 17). والصبر في حياته على كل ما يواجهه من متاعب ومصائب وردود الأفعال السيئة عند من لا يقبل توجيهه، ولا يحبط وييأس ويهزم (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان: 17). ويُعلَّم ترك الخيلاء في الأرض، والفخر على الناس بقول أو فعل (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18)، والاختيال يحصل بالأفعال والفخر يكون باللسان؛ فجمع بينهما في النص. وليجتنب تصعير وجهه (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (لقمان: 18). وهكذا كل ما ينفعه عليه تعليمه لولده حتى هيئة مشيته (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19). وأدب نبرة صوته (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) (لقمان: 19). وليُقَبِّح له السيئ بضرب الأمثال بما يذمه ويلامسه في حياته (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 19). وليفتح له آفاق الحياة والمستقبل ويحذره من أي فعل يؤدي إلى البغضاء والفرقة خاصة مع إخوته (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ) (يوسف: 5 - 6). منع الحرام عن الطفل: ويجب نهي الطفل عن محرم، تعليما له وتأديبا. ومنعه منه ولو باليد لحديث أن الحسن أخذ تمرة من تمر الصدقة وهو صغير فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد» (¬1). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

حفظ الطفل من الأضرار

فزجره عن أكل تمرة لا تحل له مع كونه لا يفهم النهي إلا بهذه الكلمة. وقوله «كخ كخ» يدل على صغر الحسن آنذاك؛ لأنها كلمة تقال لزجر الطفل في بداية عمره؛ لعدم عقله تفصيل الخطاب، فيزجر بما يناسبه ويعيه. ويدل هذا على زجر الطفل عن المحرمات عموما بالقياس؛ لعدم الفارق. فلا يحل إلباس الطفل الذكر الذهب، ولا الحرير، ولا يشرب محرما، ولا يطعم محرما، ولا يأتي بفاحشة. ويجب منعه من رفقاء السوء. ويجب السؤال والتحري عن صحبته حتى لا يقع في يد من لا خلاق له فيوقعه في المهالك، ويدل له (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يوسف: 5). فإذا حذره والده من إخوته في هذا الأمر لغلبة ضررهم في ذلك فغيرهم أولى. وفرض سد باب الاقتراب مما قد يوقع في منكر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1). فالأمر بالتفريق أثناء النوم يدل على حرص الشريعة على قصدها في حفظ الطفل، وسد كل موصل إلى ضرر. حفظ الطفل من الأضرار: ويجب حفظ الطفل عن المتلفات والمضرات: 1 - فلا يوضع في متناول يده السموم والمبيدات، والأدوية. 2 - ولا سلاح ناري، أو حادٌ. 3 - ولا ما يشعل به النار كثقاب أو ولاعة، ولا غاز، أو نحوه. 4 - ولا مفاتيح الكهرباء المفتوحة. ولا يوضع بمكان يمكن أن يغرق فيه إن كان بمفرده، كمسابح بيتية أو بانيو أو حوض ماء ممتلئ بقرب صغير يحبو يمكن أن يغرقه. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

تهريب الأطفال

5 - ولا يوضع على سطح بيت لا شفير له يتعذر اجتيازه على طفل. 6 - وقد نهي عن النوم على سطح بيت كما في الحديث الصحيح، والطفل له هذا المعنى. 7 - ولا يرسل لحاجة في طريق مخوف عليه كشاهق. 8 - أو طريق سيارات سريع يعجز مثله عن تفاديه. 9 - أو يجتاز بركة أو سدا لا يجتازه مثله. 10 - أو يمر بطريق فيه حفريات عميقة يغلب إصابته فيها، أو عصابات تخطف مثله، أو سبع يقتله. 11 - أو يسافر وحده في رفقة غير مأمونة، وطريق لا يأمن مثله فيه. 12 - ولا يُرْسَل لإيصال مسدس ونحوه، أو سكين، أو سام، أو ما يمكن أن يتلفه أو يضره لغلبة الضرر فيه عليه. 13 - ويحرم إعطاؤه ما يضره كدخان وقات؛ لأنه ليس من النصيحة له ولا مصلحته. 14 - ويحرم ولو على والد، أو والدةٍ، إرسال الطفل للتجسس على شخص. 15 - أو تعليمه أن يكذب إن سئل. 16 - أو يسب فلانا، أو يؤذي آخر. 17 - أو يتلف أو يسرق. تهريب الأطفال: ويحرم استغلال الأطفال لتهريب المخدرات والممنوعات. ويجب عقوبة المستغل له عقوبة رادعة. ويجب محاربة عصابات تهريب الأطفال والأحداث لاستغلالهم في أمور ضارة كفواحش من لواط أو زنا أو دياثة، أو تجارة الأعضاء البشرية، أو بيعهم كعبيد أو استغلالهم للعمل. والواجب على الدولة ردع هذه العصابات المستغلة المفسدة في الأرض، بما قد يصل إلى حد القتل إن اقتضى الأمر ذلك تعزيراً أو حَدَّاً؛ لأنهم من المفسدين في الأرض (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ

وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وتقدير العقوبات بحسب تقدير القضاء ونظره. الطفل وجناياته وشهادته وسجنه العمد في جناية الطفل خطأ. وضمان ما أتلفه من شيء على وليه. وسواء الجراح وغيرها إلا القتل فالدية على عاقلته. وإن ثبت تغرير شخص بطفل يمكن خداعه لارتكاب جريمة وحثه وتشجيعه عليها؛ فإن الضمان على المغرِّرِ لا على الطفل؛ لأن الطفل يمكن خداعه عادة بخلاف بالغ عاقل غالبا. وشهادة الأطفال على بعضهم قرينة لا حجة؛ لسرعة جريان الهلع والخوف المؤثر على ضبط الشهادة حين الحادث. ولإمكان ضغط قريب عليه بعده بأمر كتهديد يؤثر على إثباته. ولقول الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) (الطلاق: 2)، وهذا تكليف، ولا تكليف على غير بالغ عاقل، ولأن شهادة الصبيان تَرِدُها الشبهة المعتبرة، فلا يقام بها حد أو حقوق أو عقود. وسجن الطفل محرم، سواء من والد، أو والدة، أو وليه، أو حاكم؛ فإن ضرره عليه كبير. وليس فيه إحسان به ولا مصلحة. وقد قال يوسف (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (يوسف: 100). فدل على أن السجن ليس من الإحسان للكبير فضلا عن طفل. وإنما يسجن بالغ راشد مطيق فيما لا يندفع إلا بسجنه؛ لأنه يتحمله لوفور قوته بخلاف طفل. بل يحفظ إن جنى في بيت وليه، ويمنعه من الخروج تأديبا وحفظا حتى يظن انزجاره ويندفع الضرر.

أحكام متعددة

أحكام متعددة: وينظر للطفل في كل أموره بما يصلحه ويدفع عنه ما يضر ويفسد؛ لأن الدين النصيحة؛ ولأن غش الراعي لرعيته محرم «من مات وهو غاش لرعيته لم يرح رائحة الجنة» (¬1). ومن النصيحة له تعليمه كل حسن، وتجنيبه كل مستقبح عرفا أو شرعا. لأن العادة محكمة. وهي قاعدة من القواعد الخمس التي تدور عليها الشريعة. فيُعَلَّم مميز مستوعب: تنظيم وقته، ونومه، وفراشه، وهيئته، ويعوّد على ذلك. وينفر عن كل مستقبح في حياته، وأخلاقه، وتعامله، ومدرسته. ويعوّد على الطموح، فهو أسلوب الأنبياء كما قال يعقوب لولده يوسف طفلا (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6)، ففتح أمامه الخير وبشره وحثه. والنبوغ، والمصداقية، وتجنب الغش، والكذب، والخداع، والكسل، والتسويف، ويشجع بثناء عليه، خاصة أمام نظرائه، أو كإعطائه هدية، وكل بحسب اقتضاء ما ينفعه. ويزوره وليه إلى مدرسته؛ لأنها من مصالحه. ولا يحبطه بتيئيس، أو إسماعه أوصافا من الكلام تؤدي إلى إحباطه. وليصبر وليه على تعليمه وتأديبه ونفعه، فإن الله أمر الولي بأمر أهله بالصلاة، وأمرَ بالصبر على ذلك. لأن متابعته واستمرار ذلك وتحمل الخطأ والكسل والمخالفة من الطفل مع إمكان تكرارها كثيرا يحتاج إلى صبر عليه (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132). وليعلم أدب النوم، وماذا يصنع عند الفزع، والأذكار، وآداب الرؤيا. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

العدل بين الأبناء

وإذا رأى الطفل في نومه رؤيا فصِدْقُها واردٌ كرؤيا بالغ. وقد يتعلق بها خير كثير للولد ولأسرته وغيرهم، ويندفع بها شر كثير. وإذا قصها على والده استمع له، ويبشره بها ويشجعه لقوله تعالى عن يوسف (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 4 - 6). وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شريعتنا خلافه، ولم يرد هنا ما يخالف. وفيه إمكان رؤية الطفل رؤيا يتعلق بها حدوث أمر عظيم مما يكون في المستقبل حقا. وفيه الاستماع من الأب لذلك. وفيه تحذير الوالد لولده مما يضره في هذا الأمر، وغيره قياساً. وفيه تنبيه الولد على الضرر ولو أدى إلى ذكر قريب كأخ له فيه بلا تحريض، بل يعلل له أن منشأ ذلك نزغ الشيطان كما في الآية السابقة. وفيه فتح باب المستقبل، والتيسير للطفل، وتذكيره بنعمة الله عليه. وفيه تذكير الطفل بمآثر الصالحين، وخاصة من آبائه ليسير على ذلك (¬1). العدل بين الأبناء والعدل بين الأبناء واجب لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم» (¬2). وعند خلافهم يفصل بينهم بالحكمة (¬3) لكثرة خلاف الأطفال، فإن بلغوا فبالعدل والحكمة. ¬

(¬1) - وفي قصة يوسف من الأحكام المتعلقة بالولد الكثير، ذكرناها في مؤلف مستقل وكتبنا عنها كذلك في مقالات فقه التنزيل. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قلنا بالحكمة، ولم نقل بالعدل؛ لأن العدل هنا قد يؤدي إلى كثرة العقوبة للصغار؛ لكثرة خلافهم.

ولا يعطي أحداً عطية إلا عَدَلَ مع غيره نحوه بما يليق به (¬1). وإن أعطى عقارا لأحد ساوى بين الآخرين في ذلك ذكرا أو أنثى. وإن زوج أحدهم زوج غيره. فإن مات الوالد أخرج من رأس المال من الوصية الواجبة ما يفي بزواجه. وكل هذا أصله ما سبق من النص. وليحذر من افتتان بولدٍ، أو زوجةٍ، أو مالٍ؛ لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن: 14). ومع الحذر أمر بالعفو والصفح والمغفرة. ويحذر الالتهاء عن ذكر الله بمال أو ولد؛ لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون: 9). وقد يكون الولد عاقا ابتلاءً، كولد نوح، فليدْعُ له وليصبر عليه. والفخر بالولد محرم. ولا يجوز الإعجاب بمال حرامٍ أو ظالم وولد منحرف؛ لأنها أدوات تعذيب في الدنيا (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (التوبة: 55). (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: 4). ويحرم اعتقاد أن الولد أعطي لمحبة الله ورضاه عنك، فقد يكون نقمةً ولهوا وعدوا. والولد في الأصل نعمة ومتاع دنيوي يعطى لمسلم وكافر (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) ¬

(¬1) - قلنا عدل مع غيره، ولم نقل أعطي؛ لأن العدل يشمل العطاء المثلي والعطاء الإكرامي المناسب. ولما كان قد لا يناسب أن يعطى مثله، كمن أعطى ولده الكبير هبة كسيارة فليس من الحكمة إعطاء طفل ذلك. بل يحفظ له ذلك، ويعطيه إذا بلغ ذلك السن. وكذا من دعم ولده للدراسة خارج البلاد مثلا بمال كثير، لا يلزمه مثله في تدريس من في مكان تكلفته أقل. وكذلك يعطى الكبير من المصروف ما لا يعطى الطفل، فالعدل كل بحسبه.

(سبأ: 37)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران: 116)، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) (الإسراء: 6)، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف: 46).

فقه المرأة

فقه المرأة * (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228) * (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) (النساء: 32) * (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71) * (وَلا تُضَارُّوهُنَّ) (الطلاق: 6) * الحياة العظيمة مصدرها الأسرة العظيمة، والأسرة العظيمة مصدرها المرأة العظيمة. * الكون كله مركب بذرة سالبة وأخرى موجبة، وبهما تتولد الطاقة، وهكذا الرجل والمرأة. * المرأة لها الحقوق كافة سياسية، وتعليمية، واجتماعية، ومالية، وإنسانية، ونفسية، وطبية * المرأة تفضل الرجل في الميراث في حالات، وتساويه في حالات، ويفضلها في حالات * المرأة تفضل الرجل في الشهادة في حالات، وتساويه في حالات، ويفضلها في حالات

فقه المرأة المرأة جزء مخلوق من الرجل ابتداءً لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1). وجميع الخليقة منهما من رجل وأنثى بعدئذ (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء). وقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) (الحجرات: 13). إلا عيسى بن مريم فمن أنثى ولا أب له آية للناس. كما خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، ونفخ الله فيه من روحه. ومثل عيسى كمثله (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (آل عمران: 59). والمرأة تساوي الرجل في التكليف في الأصل، إلا ما خفف عنها مناسبة لخاصيتها الفطرية. وتتساوى في الخطاب في نحو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولا تخص إلا بدليل، ولا تفرقة إلا بدليل، وليس هذا خطابا ذكوريا؛ لأنه قصد به الوصف المشترك لا الجنس المعين. ومن قال إنه خطاب للرجال وتدخل فيه النساء تغليبا فقد أخطأ؛ لأنه نظر باصطلاح النحاة، وهو متأخر عن أصل الوضع اللغوي. فإنهم وضعوا هذه الأسماء على الاشتراك المتساوي بين الرجال والنساء لا على التغليب، وبهذا يرد على بعض من قلدهم في هذا العصر مسميا ذلك «الخطاب الذكوري» مظهراً الدفاع عن حق المرأة. وكل قطعي أو ظني هما فيه سواء في التكليف، إلا ما استثني تخفيفا لهما، كالتخفيف عن المرأة في وجوب القتال في سبيل الله، وعن الرجل في العناية بالصغار. والتمعر لولادة الأنثى من عمل أهل الجاهلية المذموم بالنصوص. والأحكام التي ذكرت في فقه المولود لا يفرق فيه بين ذكر وأنثى. وإنما يرش بول الطفل الرضيع قبل أكله الطعام، ويغسل بول الرضيعة لأنها تبول في

فضل الأنثى

موضع واحد فسهل غسله بخلاف الذكر الرضيع فيترشرش متفرقا؛ فخفف الشرع في غسله بالرش. وكل حقوق الرضاع، والحضانة، والنفقات، والتربية، والإحسان: لا فرق بين ذكر وأنثى في ذلك. - فضل الأنثى: ويزاد للأنثى فضل تربيتها في قوله صلى الله عليه وسلم: «من رزق بثلاث بنات أو اثنتين فأحسن تربيتهن كُنَّ له حجابا من النار» (¬1). وقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته أمامة طفلةً وهي بنت بنته (¬2)، وكان إذا سجد وركع وضعها وإذا قام أخذها، ولم يقع هذا لغيرها من الذكور. - لا وجوب في ختان الأنثى ولا تشريع عام: وختان ذكر واجب، لا أنثى؛ ويجوز ختانها فإن تضررت حرم. وختانها بشق، وجرح، ورتق بخياط للجانبين حتى لا ينفتح إلا لزفافها كله محرم، ومن المنكرات. وفاعله آثم ولو أذن له الولي. ولزم المباشر والآذن أرش جراحةٍ، وتعزيرٌ؛ لأنه تعذيب. وليس للولي ذلك؛ لأنه لا عمل لإذن الولي في تعذيبٍ؛ لأنه خارج النظر المصلحي. ولا يدخل هذا التعذيب في الأذن بالختان المباح إن اقتضى الأمر؛ لأنه إزالة يسيرة لزيادة قد تتضرر بها الأنثى في بعض البلاد. ¬

(¬1) - أخرجه ابن ماجة برقم 3669 عن حرملة بن عمران قال: سمعت أبا عشانة المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته كن له حجابا من النار يوم القيامة. هذا الحديث سنده عند ابن ماجة صحيح. وله شاهد عند الترمذي من حديث عائشة وقال حسن مع أن شيخه العلاء متهم بالوضع. قلت: وهو في أحمد برقم 17073. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 516 عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وهو في مسلم برقم 1240.

المرأة والاقتصاد المنزلي

وتُحلَّى الأنثى لا الذكر بذهب وحرير. وتثقب في الأذنين لعلاقة الحلي. وهو أمر جرت به العوائد، ولم ينكره الشرع، وهو واقع في زمنه صلى الله عليه وسلم، فدل على الجواز. والإيلام فيه خفيف (¬1). - المرأة والاقتصاد المنزلي: ومن مصالح الأنثى تدريبها على ما جرت به العادات، وأقرته الشرائع من تدبير شئون البيت طعاما، وشرابا، وترتيباً، وتدبير شئون الذرية، تدريبا لها، وهو من مصالحها، ومن النصح لها و «الدين النصيحة» (¬2). وتعليمها ذلك على أمها؛ لأنها راعية في بيت زوجها بالنص (¬3). ولأن العادة محكمة. وهل يلزم هذا أختها الكبرى عند وجود أم؟ الأصح لا؛ لأن الأم هي الراعية الشرعية إلا في يُتْمٍ، فقد يلزم؛ لأنه من النصيحة (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال: 75)، فإن عدمت لزم والدها تكليف زوجته الأخرى (¬4)، فإن تعذر دفعها إلى إحدى قريباتها؛ لأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، ولأنه من عموم الحقوق المتعلقة بمصالحها الهامة (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: 26)، فإن تعذر استأجر لها معلمة، فإن عَدِم ذلك سقط عنه. - حق المرأة في التعليم إلى أعلى المستويات: ومن حق أنثى أن تتعلم وتتأهل من أول التعليم الابتدائي إلى أعلى المستويات؛ لأنه يغلب عليه المصلحة: الخاصة لها والعامة للمجتمع، وتحصيل ما يترتب عليه مصلحة معتبرة مطلوب كلي. ¬

(¬1) - جواب عن اعتراض تحريم إيلام الحي. (¬2) - سبق تخريجه. (¬3) - سبق الحديث وتخريجه. (¬4) - قولنا «تكليف زوجته الأخرى» أي في حال عدم وجود أمها، لطلاق أو موت، وإنما قلنا بالوجوب لعموم «المرأة راعية في بيت زوجها» ولحديث جابر.

الزي المدرسي للطالبات

والنصوص المتواترة في العلم وفضل أهله، وذم الجهل عامة؛ فيدخل فيه ذكر وأنثى للعموم. فتعليمها من مصالحها بل من المصالح العامة؛ فلا خير في جهل النساء. وقولنا «من حقها» أي: لا تمنع منه. وعلى الدولة فعل ذلك؛ لأنه من المصالح العامة. ولم نقل يجب؛ لأن الوجوب أخص من الحق فتأثم بترك الواجب لا بترك ما هو حقها إلا في تعليم واجبات الدين. وشرطه حينئذ التزامها بأحكام شرعية تتعلق بأحوالها زمانا ومكانا. فالزمان ما تعلق بسنها من أحكام ككونها صغيرة، وكونها مراهقة، أو بالغة. وكون التعليم ليلا أو نهارا. وكذا ما يتعلق بالمكان: كونها في بيت والدها، أو وليها، ثم زوجها، وكون تعليمها في مكان عام، أو خاص محضٍ، أو مختلطٍ، وسيرها إليه راكبة، أو راجلة وركوبها في نقل عام، أو خاص وغير ذلك. ومن المصلحة الشرعية أن تخص بأمور في المنهج للقطاع التعليمي النسائي مما هو من خاصية أحكام المرأة وما هو من فطرتها. - الزي المدرسي للطالبات: وإن أُلزِمَت الطالبات بزي مدرسي، ففرض على الدولة إلزامها بما هو مفروض من حجاب للمرأة المسلمة. وهو إخفاء زينة البدن بستر كامله سوى وجه وكفين ففيهما خلاف إلا عند حصول فتنة، فتدفع بسترهما وغض البصر. وتسوية زي مدرسي أو تعليمي في أي مرحلة بين ذكر وأنثى محرم. وعلة التحريم؛ أداؤه إلى سقوط فرض قطعي هو الحجاب على المرأة البالغة، فإن لم تكن قد بلغت فلعلة مخالفة الفطرة، وكل ما خالف الفطرة فهو غير مشروع (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ

المرأة ووسائل المواصلات

النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، فسمى الله الفطرة دينا. فإن أمر به حاكم أو سلطة حرمت الطاعة في ذلك؛ لأن الطاعة إنما هي فيما وافق الشرع. فإن أدى إلى مخالفة الفرائض بطل الأمر، وحُقَّ للشعب مساءلته. فإن أصر على ذلك فولايته باطلة ووجب عزله؛ لأنه حكم بغير ما أنزل الله بواحا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إلا أن تروا كفرا بواحا» (¬1)، إذْ الحجاب على بالغةٍ فرضٌ قطعي بالنص في القرآن والسنة. فإصدار أمر من دولة أو جهة مديرة بتوحيد الزي التعليمي بين الجنسين يقضي بإبطال معلوم من الدين بالضرورة. وما أدى إلى إبطال ضروري فهو باطل ضروري، ويجب إنكاره وتغييره ضرورة، وخلع مُصرٍّ على إنفاذه واجبٌ. ولا يجوز لولي الطالبة تسجيلها في مدرسة منفلتة عن التعاليم الإسلامية والآداب والأخلاق، فإن فعل فهو غاش لرعيته مضيع لما ائتمنه الله له مما تحت يده، «ومن مات وهو غاش لرعيته لم يرح رائحة الجنة» (¬2). - المرأة ووسائل المواصلات: ومن استأجر سائقا خاصا لإيصال أهله وبناته إلى مدارسهن وحوائجهن: وجب عليه اختيار عدل أمين ذي دين، لا فاسق ولا خَوَّان. فإن كان مع هذا مسناً متزوجاً فحسنٌ؛ لوفور عقله وبُعْدِه عن الطيش. فإن انفرد سائق في السيارة مع امرأة بالغ، أو مراهقة كان في معنى الخلوة وقريبا منها، وأدى إلى نوع من فسادها؛ لإمكان نزغ الشيطان بخضوع قول وكلام غير لائق، وهذا محرم وطريق إلى الطمع في الأعراض (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

المرأة إذا تصدرت الوعظ للرجال

فإن كانت السيارة معكسة: فهي كالخلوة؛ فيحرم ركوب امرأة منفردة مع سائق في سيارة معكسة، فإن كن جماعة زالت الخلوة. فإن كان يوصلها سائق الجهة كمدرسة أو شركة لها سيارات خاصة لنقل موظفيها أخذت تلك الأحكام. وأولُ طالعة، وكذا آخرُ من تنزل من الموظفات أو الطالبات مع سائق بانفرادٍ إن تباعدت المسافة قد تكون في حكم خلوة، أو قريب منها إن أمكن حصول مفاسد الخلوة بخلاف ما لو قربت المسافة، وكذا لو كانت بعيدة لكن لا يمكن حصول المفسدة، والضرورات تقدر بقدرها. وللمرأة قيادة سيارة؛ لأن الأصل الإباحة. ومن منع فعليه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارض وأنى له ذلك؟ ويحرم كونها مضيفة في طيران لكثرة مفاسد المهنة عليها. وكل عمل كان الواقع فيه حصول محضور شرعي؛ فالفتوى على تحريمه. ومن أفتى بحله بشرط التزام الضوابط أخطأ أو احتال. إذ شرطه ذلك نظري ذهني، ففتواه عن أمر غير حاصل، والمطلوب الفتوى في واقعة حادثة بلا ضوابط شرعية. - المرأة إذا تصدرت الوعظ للرجال: وتصدر المرأة وعظ الرجال في المساجد، والإعلام، والمجامع العامة لم يُعْمَل بين يديه صلى الله عليه وسلم مع الحاجة إليه. ولوجود مقتضياته أيامه صلى الله عليه وسلم وأيام خلفائه ولم تفعل النساء ذلك، ولم يوجد مانع. وهذه هي شروط البدعة في الدين. ولا تخطب جمعة، ولا عيدا. وهذا هو سبيل المؤمنين أيام الرسالة والخلفاء والسلف وسائر الأمة تاريخيا (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 115).

سجن المرأة

أما إلقاؤها كلمة في حفل أو اشتراك في مداخلة كالأمسية، فالأصل أنه مباح بضوابطه شرعا من قول معروف وحشمة؛ لأن هذا مع قلة وندرة لا يدخل في محضور شرعي واضح، فإن تبين وقوع ذلك كتبرج منع للنص (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33). أو خضوع بالقول وتكسر الكلام (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). - سجن المرأة: والأصل تحريم سَجْن النساء لغلبة المفاسد. ولأن المرأة عرض، وإدخالها السجن فيه تضييع لمقصد الشرع في حفظ العرض (¬1). فإن اضطرت الدولة لذلك: أقامت سجنا لا يكون فيه عامل إلا منهن، وبإشراف قضائي ورقابة تامة. - تجنيد المرأة: وتجنيد المرأة في الجيش مع الرجال محرم، وكذا في شرطة، أو أمن مختلط، إلا في قطاع شرطة نسائية خالص بأكمله بطاقم نسائي لا يخالطه غيرهن، وإنما جاز في هذه حتى يتعاملن مع مرتكبات الجرائم من النساء من تفتيش، وتأكد من هوية وغير ذلك. والعلة في ذلك ما في تجنيدها من المفاسد العظيمة التي تناقض مقصد الشريعة في حفظ الأعراض وإكرام المرأة وصيانتها، فلا بد أن تحصل أمور مخالفة شرعا بكثرة كثيرة؛ لأن هذه هي طبيعة العمل في هذه المؤسسة، كخلوة محرمة، وخدمات ثنائية بين رجل وامرأة، ودوريات ليلية ونهارية ثنائية مشتركة، والاختلاط بالأفراد والقادة اختلاطا خارجا عن مقصود الدين في حفظ الأعراض. ولذا لم تكلف بالجهاد، لا وجوبا ولا ندبا في الأصل. ولم تخرج امرأة للقتال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحمل سيفا، ولا تقلدت عُدة. ¬

(¬1) - لأن سجنها متناف مع أحد أكبر مقاصد الشريعة وهو حفظ العرض والمرأة هي أصل العرض، ولا إضاعة بعد سجنها. ولما يكثر في السجن من إهانة، وتهديد، وتحقيق، وعقوبات. ولتنافي هذا مع فطرتها من رعاية زوج، أو أسرة لها.

لا يتعنت الزوج في منع زوجته الإجابة للدعوة

وخروج بعضٍ مع زوجها أو محرمها؛ لمداواة لا لقتال. وهما مسألتان مختلفتان؛ فلا يقاس هذا على هذا لاشتراط المساواة بين أصل وفرع في صحة القياس، وهو ما لا يوجد هنا. كما أن خروجها تبع، والتجنيد أصل، ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في الأصول. والتجنيد يوجب القتال عليها، ومن أوجب ما لم يرد الله إيجابه بالنص فهو مُشرِّع ما لم يأذن به الله، ولا طاعة له (¬1). ودعوى أن التجنيد من حقها مردودة بانتفاء كونه حقا شرعيا بالنص، ولاحقا وطنيا؛ لأن الوطن ليس بإله مشرع، ولا حقا فطريا؛ لأن الدلائل الواقعية والتاريخية والاجتماعية تدل على أنه من خلاف فطرتها وتكوينها. ولأن المرأة إن عسكرت اقتضى تضييعها لواجب عيني متعلق بالزوج والبيت وبناء الأسرة وصيانة سمعتها وعرضها من الأذى. وهذه أوجب الفروض عليها، وهي مقدمة على غيرها من الفروض، فكيف والتجنيد لها ليس بفرض، ولا مندوب! ؟ لا يتعنت الزوج في منع زوجته الإجابة للدعوة: وإجابة الدعوة لعرس الوليمة مشروعة وجوبا للأمر بها، وهو حق للمسلم على المسلم؛ لحديث «حق المسلم على المسلم ست»، وفيه «وإذا دعاك فأجبه» (¬2). ويأذن لها زوجها؛ فإن امتنع فحقه مقدم على حق غيره. ولا يتعنت في منعها؛ لأنه ليس من العشرة بالمعروف، وهو مأمور به (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، ومنهي عن مضارتها والتضييق عليها (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (الطلاق: 6). ¬

(¬1) - أو من شرع ما لم يرد الله شريعته بالنص فهو مشرع ما لم يأذن به الله. وقلنا بالنص ليخرج ما سكت عنه، ومسألتنا هذه منصوص على أنه لا جهاد عليهن ولا رباط، فمن ألزمهن بخدمة الجيش أو دعا إلى ذلك بلا إلزام فهو داعٍ إلى ضلالة. (¬2) - تقدم تخريجه.

كوافير النساء

فإن تعنت أثم. وهل لها الذهاب حينئذ؟ الصحيح لا تذهب؛ لأنه يفتح باب الشقاق بينهما؛ وهذه مفسدة قصد الشرع دفعها بين الزوجين حفاظا على الأسرة، فيجب دفع ما يوصل إلى ذلك. ولأن الظاهر معه عند التناكر والتقاضي؛ لأن للزوج حقاً عليها ألا يأذن لها لحاجته لها وحقه مقدم، ودعواها أنه مضار مجرد عن البرهان؛ فهو خلاف الأصل؛ فتكون ناشزا، وأمره إلى الله، فإن صبرت قضى الله لها. كوافير النساء ويجوز لها الذهاب إلى كوافيرة نسائية مأمونة لا إمكان لاطلاع الرجال عليها. وقولنا «مأمونة»: لحرمة إظهار زينتها على فاسقة لقوله تعالى (أَوْ نِسَائِهِنَّ) (النور: 31). والإضافة تخرج عموم النساء وتخص المؤمنات. ولأن الفاسقة لا تؤتمن على الأعراض؛ لإمكان تصويرها، أو الإيقاع بها: خاصة عند كثرة الفساد. فإن كان محلُّ الكوافير مختلطاً يعمل فيه رجال ونساء، أو تعمل فيه نساء كوافيرات للرجال والنساء، فيحرم الذهاب إليه؛ لحصول إظهار زينتها لأجنبي لا يجوز له الاطلاع عليها. وهذا محرم نصا (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31). وليس الأجنبي واحدا من الذين شملهم الاستثناء في إظهار الزينة. - لباس المرأة، وزينتها، والأعراس النسائية: ولبس المرأة على ثلاث درجات:

الأولى: لبسها أمام الرجال الأجانب، وهو ما يستر جميع بدنها من رأسها وعنقها وصدرها إلى أسفل الكعبين في أقدامها؛ لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59). فهذا في ستر كامل البدن بساتر كالجلباب أو ما يقوم مقامه مما يستر الزينة ويدفع الإيذاء عن المرأة. وأما ما يستر الشعر والعنق والصدر فهو الخمار (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31)، فالخمار للرأس، وأمر أن يكون على الجيب وهو النحر والصدر، فدل على ستر الشعر والعنق والصدر. أما الوجه والكفان ففيهما خلاف مشهور. الثانية: الزينة التي تلبسها أمام من يجوز لها إظهارها له من المحارم والنساء والزوج والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. وهي ما سنفصل عنها الكلام في زينة المرأة بعد قليل. الثالثة: ما لا يجوز إظهاره إلا على زوجها وهي ما بين سرتها وركبتها، وأما الأثداء فلها إظهارهما للإرضاع أمام المحارم والنساء. وأما ما لا يُظْهَر إلا على الزوج مما بين السرة والركبة فلا يجوز إظهاره ولو على النساء. ولا يجوز لبس ما يصفه شكلا ولا حجما ولا لونا، فيحرم لبس مقطع يظهر السرة أو «مايوه»، أو ضاغط يصف السوءتين إلا لزوج فقط، وسيأتي التفصيل والاستدلال. ويجوز للمرأة استعمال الزينة ما شاءت؛ لعموم (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32). ولأنه من أصل تنشئتها الفطرية (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) (الزخرف: 18)؛ ولأن الأصل الإباحة بشرط توسط، لا إسراف، ولا مخيلة، وعدم إظهارٍ لأجنبي يظهر على عورات النساء.

الحواجب وشعر الجسد

فجاز تحمير شفةٍ، وخدين، وبودرةٌ، وكحلٌ، وصبغٌ لشعر رأس، أو قص له، وخضابُ ما جرت عليه العادة. الحواجب وشعر الجسد: وتجتنب تحريما نتف حاجب، وشعر جسد على الطبيعة، إلا الإبطين والعانة. فالأول للنص «لعن الله النامصة والمتنمصة» (¬1). والثاني لعموم (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119). وإنما قلنا نتف شعر جسد على الطبيعة؛ لأنه يجوز إذا نبت الشعر في الجسم على غير الطبيعة العادية لدى النساء فهو حينئذ معالجة للضرر، وهو جائز. ويجوز لها صبغ أطراف حاجبها لتدقيقه، أو كله بسواد على أصل الإباحة؛ لأن المحرم النمص وهو النتف، ونحوه مما يزيل الشعر في الحاجب ولو بحرق طبي، أو حلق، أو مزيل؛ لعدم الفارق. فإن كان شعر جسدها نابتاً على غير عادة النساء، بل كالرجال، أو قريبا من ذلك، جاز لها إزالته؛ لأنه ليس بتغيير لما خلق الله من فطرة، بل هو معالجة عيب خرج عن أصل فطرة المرأة المخلوقة بها، فجاز لأنه كعلاج. الوصل، والباروكة، والأهداب، وتفليج الأسنان: وتجتنب تحريما وصل شعرها للنص «لعن الله الواصلة والمستوصلة» (¬2). وأولى منه لبس الباروكة وهو الشعر المستعار يلبس على الرأس. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5695 عن علقمة عن عبدالله قال لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقال عبدالله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عزوجل (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7) فقالت المرأة فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن. قال اذهبي فانظري. قال فدخلت على امرأة عبدالله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت ما رأيت شيئا. فقال أما لو كان ذلك لم نجامعها.

الإسراف في الزينة وحرمة إظهارها إلا أمام من يحل له ذلك من المحارم والنساء

ويحرم هذا، ولو لزوج؛ للعموم في النهي بلا تخصيص لزوج أو غيره. ويحتمل الجواز لزوج لأن الباروكة هنا ليست وصلا ولا تغريرا. وأما تركيب أهداب لإظهار طوله، فَتردّد، والأصل الإباحة، والإلحاق بالوصل قد يمكن. ولنا أن نفصل في هذه المسألة فنقول الأصل أنه مباح إلا في حالة تركيب الأهداب تغريرا براغب زواج. ولا يجوز لها برد أسنانها تفلجا وهي ملعونة إن فعلت نصا «لعن الله المتفلجات» (¬1). الإسراف في الزينة وحرمة إظهارها إلا أمام من يحل له ذلك من المحارم والنساء: وأما لبسها فتلبس ما شاءت من الزينة والثياب بلا إسراف ولا مخيلة. وتظهرها أمام من يجوز له ذلك في النص (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31). فإن أسرفت في ذلك كمن لبست ذهبا كثيرا خارجا عن التوسط أثمت؛ لإسرافها؛ ولأنه يدعو إلى الكبر والفخر والبطر غالبا، وما أدى إلى الحرام فهو حرام. ومثله لبس أنواع من الأقمشة فائقة الثمن خارجة عن وسطية الشريعة إلى حد البذخ والإسراف؛ لعموم (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141). لبس الضاغط، والمقطع، والشفاف، وما يظهر السرة أمام النساء والمحارم: وجائز لها بين نساء مأمونات أو أمام محارمها أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء إظهار زينتها من شعر ونحر وصدر وساعدين وساقين لا إظهار سُرّةٍ ولا ما تحتها إلى الركبة؛ لخروجه عن التوسط إلى الذم الوارد في حديث «نساء كاسيات عاريات مائلات ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها» (¬1)، ولأنه ليس من لباس التقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26)، ولأن ما تحت السرة وفوق الركبة لا يتم الستر للعورتين إلا بسترهما، وما أدى إلى انكشاف العورة فهو من عمل الشيطان (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) (الأعراف: 27). فنزع اللباس حول السوءتين فوق الركبة وتحت السرة وسيلة إلى إظهار العورة حال الحركة والجلوس والارتفاق ولا بد، وهذا عمل شيطاني لإظهار العورات وما كان كذلك فهو محرم كما في الآية. ولبس مقطع يظهر السرة وما تحتها كأسفل البطن والخصر، أو يظهر شيئا من فخذها كله محرم إلا منفردةً أو لزوج. ومن قواعد الشريعة المجمع عليها ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كغسل شيء من الرأس لاستيعاب الوجه لأنه لا يتم إلا به. فكذلك هنا لا يتم ستر السوءات إلا بلبس يعم الركبتين ويغطي السرة ويكون واسعا لا ضيقا يصف العورتين، وإلا أخذ حكم الكشف لورود النهي عن ضرب الرجل دفعا لكشف الزينة سماعا لتخيل خلخال (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31)، فمن باب أولى وأشد المنع من لبس ضاغط على السوأتين يصف حجمهما، أو شكلهما بالرؤية؛ فهذا محرم حتى على النساء؛ لأنه لا يصح كشف العورتين إلا للزوج. فيحرم ما كان كشفا لهما لشفافية اللبس، أو ضيقه الضاغط المبين للعورة وصفها أو شكلها أو حجمها. ولأنه مشمول بحديث لعن الكاسيات العاريات؛ لعموم النهي فيه «صنفان من أمتي لم أرهما نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، العنوهن فإنهن ملعونات» (¬2) أخرجه مسلم. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

والحاصل أن لبس الضاغط والمقطع والشفاف ومما يظهر حجم العورة أو شكلها أو «المايوه» محرم إلا لزوج

ولا يجوز لها لبسه ولو بين نساء ثقات، ولو أما أو أختا؛ لأنها عورة مجمع على تحريم إظهارها إلا لزوج لما سبق من الاستدلال ولحديث «غط فخذيك فإنهما عورة» (¬1). وهو صحيح. ولقوله تعالى (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) (الأعراف: 27). والقبل والدبر هما السوءتان دخولا أوليا قطعيا، وما حولهما إلى السرة والركبة يأخذ الحكم. لأن ستر السوأتين لا تتم إلا به فوجب؛ لأنه وسيلة إلى واجب كغسل شيء من الرأس لتيقن غسل جميع الوجه. ولقوله تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26)، وليس هذا من لباس التقوى، وغير لباس التقوى ليس بخير بمفهوم الآية. وكذا إخراج أثداء محرم إلا لإرضاع أمام غير أجنبي من الرجال. والحاصل أن لبس الضاغط والمقطع والشفاف ومما يظهر حجم العورة أو شكلها أو «المايوه» محرم إلا لزوج: ويحرم لباس شفاف ترى منه العورة أو تلاحظ، أو ضاغط يصف العورة لقوله تعالى (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، فنهى عن فعل ينبئ عن وجود زينة باطنة ولو سماعا مؤدياً إلى تخيل زينة باطنة كخلخال. فبالأولى ما لوحظ من العورة بالرؤية لشفافيته أو ضغطه. فهو مظهر بالمشاهدة لما خفي من الزينة، وأوْلى بالتحريم في موضع من العورة المحرم إظهارها إلا على الزوج، كالأرداف والأفخاذ وما بين سرة وركبة فلبس ضاغط أو شفاف أو مُقّطَّع عليها لا يؤثر في الستر؛ لأنه يصف العورة بالمشاهدة، فهو أشد من تحريم ضرب رجلها ليسمع خلخالها الرجال، ولأن الله جعل من عمل الشيطان فعل ما يظهر السوأتين (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم 2798 عن أبي الزناد أخبرني ابن جرهد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غط فخذك فإنها من العورة. قال أبو عيسى هذا حديث حسن. قلت: وهو كما قال.

الشرط في إظهار الزينة في الأعراس، وحكم التصوير وإدخال الجوال

(الأعراف: 27)، ولبس هذه الأمور أمام غير الزوج هو في هذا المعنى؛ لأن غايته إظهار العورتين شكلا أو حجما أو لونا فكان من عمل الشيطان. ولأنها كاسية عارية مائلة إلى الإفراط المؤدي إلى العري المحرم، مميلة لغيرها من النساء أن يخرجن عن التوسط والستر إلى ذلك، وهذا محرم بالنص (¬1). فيحرم لبس الضاغط، أو الشفاف أو المقطع إن وصف عورة أمام غير زوج. ولو من المحارم والنساء. وهو ليس من لباس التقوى المأمور به (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26)، أي: البسوا لباس التقوى وهو عام. واستثنى الزوج لحل نظره إلى ما شاء من زوجته. الشرط في إظهار الزينة في الأعراس، وحكم التصوير وإدخال الجوال: والشرط في إظهار الزينة المباحة في الأعراس أو غيرها: ألَّا يوجد بينهن رجل (¬2)، أو طفل يظهر على عورات النساء؛ للنص (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء) (النور: 31). وامتناع إمكان مشاهدتهن منهم بمباشرة، أو توثيق مصور. ولذا حرم إدخال الجوالات المزودة بالفيديو، وكاميرات التصوير إلى أعراس النساء. وكذا يحرم تصوير عام بالفيديو، أو الفوتوغرافي في العرس العام للنساء؛ لغلبة انتشار الصور، وتسربها. فيقع من الضرر للأعراض ما تنهى عنه الشريعة؛ لأنها في العرس تظهر أمام النساء من الزينة ما حرمه الله أن يظهر على أجنبي مما يتعلق بالمرأة من الفتنة: من زينة، وحركات، ورقص، ولهو، ولعب قولي، وفعلي. وقلنا: في العرس العام؛ لأنه يمكن استثناء تصوير خاص في يد امرأة معينة أمينة إن تيقن حفظه. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - لم نقل أجنبي لأنه قيد لا فائدة فيه؛ لأن الأعراس تجتمع فيه النساء، فلو جوزنا لرجل الحضور لوجود محارمه من النساء في العرس؛ لكان بالنسبة لغيرهن أجنبيا؛ يحرم إظهار الزينة عليه.

الصلاة في العرس وحكم الأصباغ والخضاب

وحينئذ فلا يجوز أن يطلع على ذلك إلا النساء، أو من يجوز له الاطلاع على زينة المرأة من المحارم لمن هن في الصورة. الصلاة في العرس وحكم الأصباغ والخضاب: وإذا حضرت الصلاة وجب على النساء في العرس الصلاة في وقتها، ويحرم تركها أو تأخيرها حتى يخرج الوقت. وليس بعذر ذهاب الأصباغ بماء الوضوء خاصة ممن يمكنها الحفاظ على وضوئها عدة صلوات. ويمكن القول بجواز جمع الصلاتين الظهرين والعشائين بإتمام لمن يشق عليها التوقيت في العرس نظرا لحديث ابن عباس في الصحيحين (¬1). ويجب للصلاة ستر سائر الجسد بلبس جلباب أو نحوه وخمار إلا الوجه والكفين للنصوص الكثيرة في ذلك. والخضاب والأصباغ على الأظافر والأيدي والشعر لا مانع منه، ولا يؤثر على الوضوء؛ لأن خضاب الأيدي وتغييرها بالأصباغ من فعل النساء منذ القدم، وفي زمنه صلى الله عليه وسلم أقره بل وحث عليه (¬2)، ولم يُفَصِّل بين ما يمنع الوضوء مما لم يمنع، ولم يبين تعارضه مع الوضوء من عدمه، فدل على إطلاق الإباحة. وقد كان الرجال والنساء يلبدون رؤوسهم. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 1667 عن ابن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. في حديث وكيع قال قلت لابن عباس لم فعل ذلك قال كي لا يحرج أمته. وفى حديث أبي معاوية قيل لابن عباس ما أراد إلى ذلك قال أراد أن لا يحرج أمته. (¬2) - أخرجه أبو داود برقم 4168 عن عائشة رضي الله عنها قالت: أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال «ما أدرى أيد رجل أم يد امرأة». قالت بل امرأة. قال «لو كنت امرأة لغيرت أظفارك». يعنى بالحناء. قلت: إسناده لا بأس به. وحسنه المناوي في التيسير بشرح الجامع (2/ 605). وقال ابن عدي في الكامل غير محفوظ. وتابعه الذهبي في الميزان ناقلا عنه. ونقل في فيض القدير عن أحمد في العلل أنه قال حديث منكر، ثم قال أحاديث الحناء ضعيفة أو مجهولة. قلت: وحسنه الألباني، ولم أجد له شاهدا أو متابعا ولذلك فالراجح تضعيف الأرناؤوط له في تعليقه على المسند وإن كان يحتمل التحسين في هذا الباب.

الوشم

والتلبيد كالصمغ والمثبت على الشعر وهو أشد من الأصباغ. وكانت تصبغ النساء بزعفران وحناء وغير ذلك، بلا نكير في عهد النبوة ولا تفصيل. فدل على الإطلاق. ومن قال إنه يمنع ماء الوضوء عُوْرِض بنحو وجود نحو دسم يُزْلق الماء ويمنعه عن الجلد مع صحة الوضوء فيه. ولا يقاس على «الجوانتي» والحوائل حتى يقال إنها موانع للماء عن وصوله إلى العضو حال الوضوء فوجب إزالتها، وكذلك الأصباغ والخضاب؛ لأن الأصباغ والحناء ونحوهما مما يغلب ملابسته من الرجال والنساء من زمن النبوة، فلو شرط إزالته لتعذر وعسر، والمشقة مدفوعة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). أما اللفافة الاختيارية بلا مرض كالجوانتي مثلا؛ فإنها مما يستغنى عنه عادة ولا يلبس غالبا فوجب خلعه حال الوضوء، بخلاف ما لو كانت موضوعة لمرض كسور أو جروح. ولذا رُخِّص لمريض الجبيرة في ترك غسل العضو للتعذر، والضرر؛ لأنها كالدائم، ولعموم (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: 61). وصبغ الشعر جائز بما تشاء إلا إن خرج عن العادة لأنها مُحَكَّمة. الوشم: والوشم حرام للنساء والرجال للنص «لعن الله الواشمات والمستوشمات» (¬1)، ولا فرق بين رجل وامرأة في التكليف على الأصل. ومن استطاع إزالته وجب ذلك لأنه إزالة منكر، وإلا تاب إلى الله واستغفره. والصحيح عدم تأثيره على وضوء، ولا صلاة؛ لعدم الدليل، مع النص على منعه والتشديد فيه. فدل على عدم تأثيره. ومن زعم أنه يبطل الصلاة قال محتجا: لاختلاطه بالدم، والدم نجس ظاهر على بدن المصلي، فوجب إزالته، وإلا بطلت الصلاة. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الطيب والعطور

والجواب أن المشقة تجلب التيسير، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولم يبين صلى الله عليه وسلم هذا الحكم -أي إبطاله للصلاة وأنه نجس- مع بيانه الحرمة، فدل على أنه معفو عنه، وإلا لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه؛ لأنه حكم شرعي متعلق بأهم العبادات وهي الصلاة. فمن ادعى بطلان الصلاة به فعليه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة. الطيب والعطور: ومن ذهبت إلى عرس فيجوز أن تتطيب بطيب النساء، وخيره ما جاء في النص، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه كما في النص «طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه» (¬1). وتجتنب ما له ريح ظاهر من العطور والبخور، إن كانت خارجة إلى سوق أو عمل لمرورها بأجانب من الرجال للنص «من تطيبت فلا تشهد معنا الصلاة» (¬2)، «ومن تطيبت ليشتم الناس ريحها فهي زانية» (¬3)، أي في الإثم؛ لأنها تسبب الفتنة للناس، فيترتب عليه زنا العين وزنا الأنف، وهو النظر والشم كما في الحديث الصحيح. والعدسات اللاصقة بالعين التي توضع لزينة المرأة (¬4)، لا مانع منها، إن لم يكن بها ضرر غالب على العين؛ لأن الضرر مدفوع. وجوازها؛ لأنها في معنى الكحل. ولأن الزينة الأصل فيها الإباحة بالنص، وهذه منها. ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم 2788 عن عمران بن حصين قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إن خير طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه ونهى عن ميثرة الأرجوان. هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. قلت: وهو كما قال. وله شاهد من حديث أبي هريرة حسن عنده. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 1025 عن زينب امرأة عبدالله قالت قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا». وفي مسلم أيضا برقم 1026 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة». (¬3) - أخرجه النسائي بسند حسن برقم 5126 عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية. وصححه الحاكم في المستدرك برقم 3497. وقال الذهبي صحيح. (¬4) - خرج بها الطبية فلا شك في حلها.

المرأة والبيت

وترقيق حاجب بلون كلون البشرة لتحديده لا مانع منه على أصل الإباحة؛ لأن المحرم النمص وهو النتف، وقد تقدم. المرأة والبيت: المرأة راعية في بيت زوجها: أصل من الأصول الشرعية المنصوصة في الباب. وهو يدل على وجوب رعاية المرأة بيت زوجها؛ لأنه خبر يراد به الأمر، بدلالة تحميلها مسئولية ذلك نصا في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «وهي مسئولة عن رعيتها» (¬1). والرعاية كلمة جامعة لمعاني الحفظ. وهي هنا تشمل كل ما يتعلق بحفظ المال والولد والأهل. حفظ ولدها وولد زوجها، فالولد حفظه يكون بحمايته من كل ضرر، ومفسد، ومتلف في جسد، أو عضو، أو خُلُق، أو نفس، أو عقل، أو دين، أو عرض. فتقوم على طفلها، وطفل زوجها بذلك لما سبق من النص. وبدليل حديث جابر أنه تزوج من تقوم على أخواته وتمشطهن فأقره صلى الله عليه وسلم بالنص (¬2). وما احتواه بيت زوجها مما يحتاج إلى رعاية جرت العادة برعاية الزوجة له؛ فإنه واجب عليها ذلك لعموم المسئولية في النص. ولأن العادة محكمة، ولأن الله أمر بالعشرة بما جرت عليها الأعراف، وهذه منها (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2097 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأبطأ بي جملي وأعيا فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال جابر فقلت نعم قال ما شأنك قلت أبطأ علي جملي وأعيا فتخلفت فنزل يحجنه بمحجنه ثم قال اركب فركبت فلقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تزوجت قلت نعم قال بكرا أم ثيبا قلت بل ثيبا قال أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك قلت إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن قال أما إنك قادم فإذا قدمت فالكيس الكيس ثم قال أتبيع جملك قلت نعم فاشتراه مني بأوقية ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي وقدمت بالغداة فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد قال الآن قدمت قلت نعم قال فدع جملك فادخل فصل ركعتين فدخلت فصليت فأمر بلالا أن يزن له أوقية فوزن لي بلال فأرجح في الميزان فانطلقت حتى وليت فقال ادع لي جابرا قلت الآن يرد علي الجمل ولم يكن شيء أبغض إلي منه قال خذ جملك ولك ثمنه.

المرأة ووالدا زوجها

وهي مؤتمنة على حفظه شرعا. المرأة ووالدا زوجها: ويجب عليها الإحسان إلى والدي الزوج إن كانا معه في بيته؛ لأنه في معنى النص في حديث جابر، إذ هو كمشروعية خدمة أخوات زوجها القُصَّر بالنص، بل أولى منه. والإحسان إلى والدي الزوج يكون بما جرت به العادات. فإن خرج زوجها من البيت لطلب المعاش ونحوه تعين عليها رعاية من يحتاج إلى رعاية كأطفالهما أو أطفاله، أو أخواته القصر، أو والديه الكبيرين لعموم المسئولية في النص. فإن فرطت فحصل ضرر أثمت، وضيعت الأمانة. فإن اشتكت لزوجها وتأففت من ذلك، وأنها ستمتنع عن رعاية ذلك، بلا ضرر معتبر عليها، فلا يحق لها ذلك؛ لأنها مسئولة عن الرعاية بالنص. ولأنها حينئذ تضار بزوجها، وهو منهي عنه. وهو خلاف العشرة بالمعروف؛ لأنه يجب عليه حينئذ حفظ ما تحت يده من والدين كبيرين، وأخوات قُصَّر وأطفاله. وهذا متعذر حال غيبته عن بيته. وبقاؤه لرعايتهم يؤدي إلى تركه أمور معاشهم وهو ضرر بالغ. فوجب عليها بالتكليف الشرعي عشرته بالمعروف (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228). و«على» تدل على الوجوب. وقَيْدُ المعروف أي: بالعرف المشروع؛ وهذا منه؛ لأنه مبني على تبادل المصالح بين الزوجين ودفع المفاسد عنهما وعن الأسرة، وهذا أمر شرعي. فإن أصرت على الامتناع تعنتا بلا ضرر عليها؛ وعَضَهَا. فإن وجد إعراضا هَجَر؛ فإن اضطر لتأديب أدبها بالمعروف بلا ضرر (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34).

فإن زاد الشقاق (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35). فإن تعذر طلقها؛ لأنها مضارة. يحرم على المرأة اعتياد التشكي من والد زوجها أو والدته؛ لأنه يؤدي إلى الكبائر كالعقوق: ولا يجوز لامرأة اعتياد التشكي لزوجها من والديه، سواء كانا يعيشان معه أحدهما أو كلاهما، أو لا. لأن الدوام في التشكي يؤدي إلى تأففه من والديه وترك الإحسان لهما، وهذا منكر منصوص عليه وما أدى إليه حرام (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (الإسراء: 23). ولأن نقل ما يؤدي إلى التباغض بين الخلق حرام، وهو نميمة، وهذا أقبحه. ولو طلبت المرأة من زوجها منع والديه أحدهما أو كلاهما من دخول بيته، أو من الإحسان إليهما، فقد أمرته بالعقوق. فتوعظ؛ ويصبر عليها، ثم يُحَكِّم كما أمر الله، فإن لم تنته وجب طلاقها؛ لأنها تؤدي إلى ارتكاب أعظم الكبائر وهو عقوق الوالدين وقطيعتهما، وهي امرأة سوء. طاعة الزوج وخدمته: وخدمتها لزوجها واجب بالعرف والفطرة، والشرع أقر ذلك؛ لأن الله أمر برد العشرة إلى العرف (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228). وقوله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). أي: آمركم بمعاشرتهن بالعرف، والأمر يدل على الوجوب، والغالب الأكثري في هذا الأمر على مدار تاريخ الخليقة إيجاب العرف على الزوجة الخدمة لزوجها. ولم يأت دين سماوي يعارض ذلك. بل أقر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره الله والوحي يتنزل.

وقد بلغ من خدمة المرأة من نساء الصحابة في شئون زوجها وبيتها أن ظهر آثار الخدمة على أيديهن، وأبدانهن. ومنهن فاطمة حتى اشتكت له صلى الله عليه وسلم ليعطيها خادما فلم يفعل، بل وعظها بالصبر والذكر (¬1). ومنهن أسماء كما في الأحاديث الصحيحة «أنها كانت تسوس فرس الزبير» (¬2). واطلع رسول الله على ذلك وأقرها على خدمة زوجها، وهو المبين صلى الله عليه وسلم ما أجمل من الأمر الواجب بالعشرة بالمعروف، فلو كان خلاف ذلك لنهى. ¬

(¬1) - أصل القصة في البخاري برقم 3705 ومسلم برقم 7090، عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا علي أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبى فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين وتسبحا ثلاثا وثلاثين وتحمدا ثلاثة وثلاثين فهو خير لكما من خادم. وأخرجه أبو داود بسند لا بأس به ثم أورد له متابعة صحيحة برقم 2990، عن ابن أعبد قال: قال لي علي رضي الله عنه ألا أحدثك عنى وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت من أحب أهله إليه قلت بلى. قال إنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم فقلت لو أتيت أباك فسألتيه خادما فأتته فوجدت عنده حداثا فرجعت فأتاها من الغد فقال «ما كان حاجتك». فسكتت فقلت أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثرت في يدها وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه. قال «اتقى الله يا فاطمة وأدى فريضة ربك واعملي عمل أهلك فإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين واحمدي ثلاثا وثلاثين وكبرى أربعا وثلاثين فتلك مائة فهي خير لك من خادم». قالت رضيت عن الله عزوجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 5822 أن أسماء قالت كنت أخدم الزبير خدمة البيت وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من الخدمة شيء أشد على من سياسة الفرس كنت أحتش له وأقوم عليه وأسوسه. قال ثم إنها أصابت خادما جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبى فأعطاها خادما. قالت كفتني سياسة الفرس فألقت عنى مئونته فجاءني رجل فقال يا أم عبدالله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت إني إن رخصت لك أبى ذاك الزبير فتعال فاطلب إلى والزبير شاهد فجاء فقال يا أم عبدالله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. فقالت ما لك بالمدينة إلا دارى فقال لها الزبير ما لك أن تمنعي رجلا فقيرا يبيع فكان يبيع إلى أن كسب فبعته الجارية فدخل على الزبير وثمنها في حجري. فقال هبيها لي. قالت إني قد تصدقت بها.

يجب في النكاح رضى المرأة وأهلها

فما لهج به من لم يلزمها بذلك ليس عليه ولا فيه حجة. والأصل قرار المرأة في بيتها للأمر في (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33). وهي عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بخصوص المخاطب. وتخرج لحاجتها إن أرادت، «أذن لكن أن تخرجن في حاجتكن» (¬1). وتستأذن زوجها في خروج يستأذن منه عرفا؛ للأمر بالعشرة بالمعروف، ومنه هذا، ولأن العادة محكمة. وطاعة الزوج حكم بها الله وشرعها بالنص؛ لقوله تعالى (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (النساء: 34)، ومن طاعته خدمته بالمعروف، ومنها إذنه في الخروج والقيام على بيته وحفظه وماله وولده بلا مضارة، وإلا فلا معنى للأمر بالطاعة إن لم تفعل ذلك بالمعروف، ونصوص السنن في هذا كثيرة. يجب في النكاح رضى المرأة وأهلها: ويجب في النكاح رضى أهل المرأة لقوله تعالى (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) (النساء: 25). وإذنهم رضاهم، فالرضا من الأهل واجب؛ لأنه مأمور به في الآية على سبيل الشرط، فيكون المعنى «إذا أذن أهلهن فانكحوهن» كقولك لمن استأذن في استعارة شيء: خذ بإذن فلان، أي إذا أذن لك فخذه، فهذا شرط، وكقول الفقهاء يجاهد الابن بإذن والديه، أي إذا أذنا جاهد وإلا فلا. فإن امتنع الأهل من الرضى فلا نكاح. لكن إن وصل عدم الرضى إلى التعنت في منع المرأة من الزواج فهو عضل محرم (فَلاَ ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 4795 عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.

تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 232). فالرضى من أهلها شرط، ولكنه إن وصل إلى العضل مُنِع. والاستئذان من الأهل غير إذن الأهل؛ لأن الأول مجرد إعلام الأهل بنكاح ابنتهم، والثاني: هو اشتراط إذنهم، ولا إذن إلا عن رضى فكان المقصود رضى الأهل. لأن الإذن يتضمن الموافقة على النكاح وهو الرضى. والأهل هم الذكور؛ لأنه هكذا يطلق في اللغة، والعرف، فيقال: أهل المرأة يعني عصبتها من الذكور. والقرآن خاطب بلسان عربي مبين، ولعموم قوله تعالى (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال: 75)، فشمل كل رحمٍ وبعضهم أولى من بعض كما يفيده النص. ورأسهم الأب؛ لأن الأبناء تحت طاعته (¬1). والأب أقرب من الإخوة بلا خلاف، ولذلك يسقطهم في الميراث. ولأنه يصدق عليه النص في (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، بخلاف رضى غيره مع عدم رضاه؛ ولأن النفقة على ابنته لازمة عليه لا على إخوتها؛ لأنه أولى بها وطاعته عليها فرض، بخلاف طاعة الأخ. ويبطل النكاح إن زوجت المرأة نفسها بلا إذن أهلها مع إمكان لولي؛ للشرط في الآية، والنص في الحديث «لا نكاح إلا بولي» (¬2) ونحوه كثير، وأصرحها «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (¬3). ولأن عقد النكاح بيد الولي؛ لقوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) (البقرة: 237). ولا يقصد به الزوج هنا؛ لأن الآية فيمن طلق قبل الدخول ومعلوم أنه بمجرد طلاقه تبين منه ¬

(¬1) - ولم نقل تحت ولايته؛ لأنهم إن كانوا بالغين راشدين، فلا ولاية للأب عليهم ولاية نظر لكن طاعة بالمعروف. (¬2) - أخرجه أبو داود برقم 2087 عن أبي بردة عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا نكاح إلا بولي». قلت: سند أبي داود صحيح. والاختلاف فيه لا يضر. وحسنه الترمذي وله شواهد كثيرة. (¬3) - أخرجه الترمذي برقم 1102 وحسنه. قلت: سنده حسن أو صحيح.

تزويج من ليس لها ولي أو تعذر إذنه

زوجته بلا عدة بالنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) (الأحزاب: 49)، فأي عقدة بيده! فالمقصود هنا الولي لا الزوج؛ لأن عقدة النكاح قد خرجت من يد الزوج هنا بالطلاق البائن، فهذا دليل على أن عقدة النكاح في يد الولي، وهم الأهل المأمور بطلب إذنهم. تزويج من ليس لها ولي أو تعذر إذنه: وعند طروء ظروف ضرورية، يجوز للمرأة أن تتزوج بلا إذن أهلها. وذلك في حالة العضل، أو عدم الولي، أو وجوده وعدم إمكان التواصل معهم كأسير عند عدو. ووليها حينئذ يجوز أن يكون من أرحامها من جهة النسب الأسري، أو من جهة أهل الأم لعموم (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال: 75). فإن لم يوجد لها ذو رحم، زوجها القاضي لحديث «فالقاضي ولي من لا ولي له» (¬1). فإن لم يوجد، فأولوا الأمر في المجتمع قياسا على القاضي. ولأن الميسور لا يسقط بالمعسور. فإن لم يوجد كمسلمة مهاجرة في بلاد الكفار زوجت نفسها بشهادة عدلين، لأن الشروط مشروطة إن وجدت، فإن عدمت ولم يتمكن منها سقطت (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286). زواج المغترب، وحرمة المتعة: ويجوز لمن نزل ببلد لدراسة ونحوها أن يتزوج بلا توقيت للنكاح في العقد، لأن الله أجاز بالمال الإحصان وهو: الزواج. وحرم المسافحة وهو الزنا، وأطلق في ذلك ولم يفصل. ودليله قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) (النساء: 24). يعني إذا أردتم النساء فيحل لكم ذلك بالزواج بأموالكم غير مسافحين معها دعارة وفسقا بلا عقد نكاح. ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل.

إكراه المرأة على النكاح ممنوع شرعا

فإن وَقَّتَ في العقد فهو متعة، وهي محرمة بنصوص الأحاديث (¬1). المسيار: ونكاح المِسْيَار، وهو: أن تسقط المرأة قسمتها، ونفقتها، وسكناها، وتكتفي بالوطء، جائز: إن كان بولي، وشهود. فإن لم يكن لها ولي حقيقةً، أو تقديرا (¬2)، والعقد موثق بشهود؛ فإن كانت مضطرة لإعفاف نفسها زوجت نفسها، ووليها القاضي، فإن لم يكن وهي راشدة زوجت نفسها. ولأن القضاء قد لا يُوَثِّق هذا النوع؛ فلا تستطيع رجوعاً إليه، مع حاجة إعفاف. ولأن الشرط يسقط بالضرر، فيُسْقِط هذا اعتبارَ الولي؛ لأن اعتبار شرط الولي ضرر بها، والحال أنه لا ولي لها لا حقيقة ولا تقديرا. ويحرم بلا شهود؛ لأنه يفتح باب ضياع نسب المواليد، وحقوقهم عند التناكر، وهذا ضرر فاحش متوقع كثيراً، فحرم. ولأن الله أمر بالأشهاد عند الإرجاع للمطلقة الرجعية، فالابتداء بالزواج أولى في الأمر؛ لأن العلة حفظ الأنساب، والأعراض، لكثرة التناكر عند الاختلاف، والاختلاف كثير. والفساد الكثير ممنوع، وواجب دفعه، خاصة إن تعلق بالمقاصد الكبرى كحفظ العرض والنسل. إكراه المرأة على النكاح ممنوع شرعا: ورضى المرأة شرط في صحة العقد؛ فإن أكرهت فهو باطل لقوله تعالى (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 232). فشرط التراضي بين الزوجين. فاعتبر رضاها شرطا في إنكاحها. ومع رضاها إن حصل عضل فلا ولاية. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 4216 عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الإنسية. وفي الباب أحاديث كثيرة. (¬2) - قولنا «تقديراً»: إما بعدم وجود الولي حقيقة فهو كموته، وإما بعدم وجود الولي تقديرا، فهو كعضله ومنعه زواجها أو عدم أهليته أو تعذر الوصول إليه كأسير.

لا ولاية إجبار في الشريعة

ويحرم إكراهها على النكاح كما كان في الجاهلية من جعل المرأة في النكاح كالمتاع الموروث بلا اعتبار للرضى. وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاء كَرْهًا) (النساء: 19). وكان إذا مات الأخ ورث أخوه ماله وزوجته كارهة؛ فحرم إكراه النساء بالنص. فإن رضيت جاز أن يعقد عليها. وورثها هنا مجازي، أي لا تزوجوا المرأة بالإكراه، وتساوونها بالإرث المالي فتكون من جملة الموروثات والمتاع. فالعلة في المنع هي إكراهها على الزواج. ولورود نصوص السنة الصحيحة بالمنع من إكراه المرأة في النكاح، ولذا وجب استئذانها بكرا أو ثيبا، والأولى إذنها صماتها، والأخرى يجب أن تنطق، فإن لم يكن لرضى المرأة اعتبار كانت هذه الأحاديث من العبث، وهذا محال في الشرع. لا ولاية إجبار في الشريعة: ولا ولاية إجبار في الشريعة، بل ولاية إذن ورضى. فإن لم يرض الولي وعضل سقطت ولايته. وهذا المصطلح، أي: ولاية إجبار، غير وارد في النصوص. واستنباطه من تزويج بعض الصحابة لبناتهم الأبكار البالغات في سن مبكرة غير صحيح؛ لأنه لم يثبت أن بناتهم كن غير راضيات، وأنهم أجبروهن وأكرهوهن. وقولهم «أنهم لم يرجعوا إليهن، ولم يخبروهن باطل»؛ لأن الاستئذان والسكوت يخفى نقله ولا يشتهر بخلاف الرفض، والإكراه، والإجبار، فينتشر خبره، ويشتهر عادة لحصول الخصومة، فلما لم ينقل في أي واقعة ذلك علم أنه كان عن رضى. ومن تزوج مكرهة مجبرة عليه؛ فلا يحل له ذلك لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاء كَرْهًا) (النساء: 19). وهذا دليل في تحريم تزويج النساء كرها، وترثوا معناه تنكحوا بلا رضاهن إجبارا كالميراث للمتاع.

وتختص المرأة بزيادة على الرجل في أمور

الحقوق المالية للمرأة كالرجل ولها النفقة، وتفضله في الميراث في حالات، وتساويه في حالات وجميع الأحكام المالية يستوي فيها الذكر والأنثى من الحلال والحرام، والواجبات والمندوبات، والمباحات في الأصل إلا بمخصص. ولا فرق بين رجل وامرأة في التملك. وطرق تملك المال خمس: 1 - بمعاوضة محضة كبيع وشراء وشركات وإجارات وسلم ونحوه. 2 - وبمعاوضات غير محضة من نفقات وأروش. 3 - وعقود البر كالوقف والهبات والنذور والصدقات. 4 - ما جاء عن طريق الفرض الشرعي بشرطه كالزكوات والفرائض والغنائم والمال العام. 5 - ما كان من المباحات، فمن أخذه فهو له كالصيد والاحتطاب وإحياء الموات. وجميع هذه الطرق الأصل استواء الرجل والمرأة في تحصيلها. وتختص المرأة بزيادة على الرجل في أمور: 1 - في وجوب النفقة عليها في جميع حالاتها صغيرة أو كبيرة على وليها أو على زوجها إن كانت ذات زوج. وتشمل النفقة تأمين الغذاء، والكساء، والدواء، ووجوب السكنى لها. 2 - وتختص بأن الله سبحانه وتعالى جعل لهن من المواريث الفروض، ولم يفرض للذكور إلا بقله. وأعطاهم ما بقي من السهام. فالنصف فرض خمسة: النساء أربعة أصناف فيه، والرجل وهو الزوج عند عدم الفرع الوارث؛ فدل على أنها فضلت على الرجل في مسائل النصف بنسبة 80%. والربع: فرض الزوجة عند عدم الفرع الوارث، وكذا هو للزوج عند وجود الفرع الوارث. والثمن: فرض للزوجة، إن وجد فرع وارث.

والثلثان: للبنات جمعا، ولبنات الابن، وللأخوات الشقيقات، والأخوات للأب. فأخذت المرأة من الثلثين ما يعادل 100%، ولم يفرض للذكور الثلثين بل ما بقي فهو لهم بتفاصيل وشروط. والثلث: للأم عند عدم الفرع الوارث، ولا جمع من الإخوة. وللأخوات والإخوة من الأم بالسوية إن كانوا جميعا. فحصل هنا تساو بين الإخوة والأخوات. والسدس: للأخ من الأم، أو الأخت من الأم في الكلالة، ولكل واحد منهما السدس، فتساوى الإخوة والأخوات. وهذا -أي السدس- للأم عند وجود جمع من الإخوة، أو الفرع الوارث. وللأب: مع وجود الفرع الوارث. وللجدة بالإجماع من الصحابة. فحصل في هذه المسائل تساو بين رجل وامرأة أما وأبا وجدة وأختا. والرجل والمرأة من الوارثين، لهم ثلاث حالات: 1) أن تفضل المرأة على الرجل كالبنات يرثن الثلثين، وأبناء الابن الذكور، أو الإخوة أو أبنائهم يرثون ما بقي. وهكذا في مسائل النصف، وفي أكثر المسائل. 2) أن يتساوى المرأة والرجل كالأب والأم، والجدة والجد، والأخ والأخت لأم، وهم في مرتبة واحدة. 3) أن يفضل الرجل على المرأة في مسألتين، وهو اجتماع الإخوة والأخوات والأبناء والبنات، إلا في مسائل الإخوة والأخوات لأم، فيتساوون بسهم سهمٍ لصلة الإخوة، أو البنوة، ويعطى الرجل سهماً آخر لإلزامه بالنفقات بخلاف المرأة فمنفق عليها. وأما بقية الماليات فهما سواء حتى في الغنيمة إن كانت مقاتلة كالرجل. وعدم النقل في إعطائها من الغنائم، هو لعدم قتالها أصلا كالمقاتلين، لا فرضا ولا تطوعا.

المهر

وفي المال العام يعطى كل بحاجته في الأصل. - المهر والصداق فريضة واجبة (وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء: 4)، ولا حد لأكثره للنص (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) (النساء: 20)، والقنطار المال العظيم. ولا حد لأقله لدلالة النصوص «التمس ولو خاتما من حديد» (¬1). ويجوز بمنفعة «قد زوجتكها بما معك من القرآن» (¬2) أي: ليعلمها ذلك. وقد آجر موسى نفسه (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص: 27). ومن لم يسم مهرا وجب عليه تسميته، ويرجعان إلى العرف في فرض ذلك (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، ولقوله سبحانه وتعالى (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 25). ومن طلق قبل الدخول ولم يسم مهرا فلا يلزمه شيء؛ للنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) (الأحزاب: 49). فإن كان قد سمى المهر فطلق قبل الدخول ففرض عليه نصفه؛ للنص (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة: 237). ومن عقد على امرأة فأرخى دونها الستور (خلا بها) بحيث يمكنه المسيس أو الاستمتاع بها فالمهر متقرر جميعه بذلك (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء: 21). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

الجناية على المرأة

- الجناية على المرأة إذا جنت المرأة على نفس أو عضو أو مال أو جنى عليها الغير، فالحكم الضمان عليها في الحالة الأولى، ولها في الحالة الثانية؛ لعموم النص والمسئولية والتكليف (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286). وأما الأروش: فالمرأة والرجل سواء، ولا فرق فيما قل أو كثر إلا بنص، ولا يوجد نص صحيح صريح يدل على التفرقة. وأما القصاص: فالرجل إن قتل امرأة عمدا قُتِل بها بلا خلاف؛ لعموم (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45). فإن عفوا سلم الدية؛ لعموم النص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178). وكذا يسلم الدية في الخطأ؛ لعموم النص (فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) (النساء: 92). والأصل أن الدية تامة لعموم الآية (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 92). ولم يرد نص من السنة متفق على صحته يخصص. وفتوى الجماعة هي الإجماع على التنصيف، وخالف قلة لعدم الدليل. فإن اجتمع علماء المجامع الفقهية، والهيئات، والاتحادات على التمام اليوم بأكثرية أو إجماع أو جماعية، جاز؛ لأن المسألة في التنصيف اجتهادية لا قطعية. وكذا لو اجتمع علماء بلد لتقنين التمام جاز؛ لأن المسألة لا تبلغ حد القواطع.

المرأة السياسية

- المرأة السياسية: وولاية المرأة الولاية السياسية العامة الأولى كالخلافة، والإمامة، والرئاسة، والملك، وكذا ما يليها وما في معناها مما ينوبها من الولايات العامة (¬1): محل اتفاق قديم على منعه في الجملة، وبين علماء العصر الحديث خلاف. ودليل من منع عموم «لا يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة» (¬2). ومن أجاز تأول الحديث، والتأويل خلاف الأصل. وعندي اجتهاد وسط بين القولين هو: أن ولايتها للرئاسة تجوز في حالة كون الدولة قائمة على المؤسسية، بحيث لا يمكن انفراد الرئيس بالقرار؛ لأن هذا يجعل الحكم للمجموع، فيضعف الشمولية، وهذا عندي السبب في إيراد الله لقصة ملكة سبأ ولم ينكر عليها سوى الشرك، وأقر ولايتها وحكمتها ومشاورتها ورأيها السياسي في تصرفات الملوك، وفي عموم مجريات القصة، بل صرح بموافقتها صراحة في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: 34). ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، على التولية الكبرى التي يستبد فيها الرئيس بالحكم والقرار استبدادا شموليا كما في قضية بنت كسرى. ¬

(¬1) - والولاية العامة السياسية الأولى: كالخلافة والإمامة والرئاسة والملك مقصودة قصدا أوليا في المنع عند من منع. لأن النص قيل في تولية ابنة كسرى العرش. ولا يختص المنع بالخلافة؛ لأن النص كان في أقل منها فيما هو في معنى الملك اليوم على دولة. وإطلاق الخلافة العامة إطلاق خاص على من تأمر على بلاد الإسلام كافة ووجبت له الطاعة منهم كافة. ولم يصدق تاريخيا على غيرهم من الأمم تاريخيا؛ لأن النصارى لهم ملوك، وإن كان هرقل أقواهم، والفرس محدودون بأقل من ذلك، فمثالهم بالدول الملكية والرئاسية اليوم، ولو عظمت قوتهم. ولا يُمَثَّلون بالخلافة لبعد ذلك جدا. فالحديث في أمثال هذا، وأما الخلافة فمن باب أولى. ومثل هذا المنصب الأول والولاية الأولى، من يقوم مقامها من الوزراء وولاة المحافظات وقيادة القوات المسلحة والأمن والشرطة. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 4425.

المرأة في مجلس النواب

وعلة ذلك أن المرأة في أنظمة الاستبداد بالقرار والحكم، لا تقوى على تحمل الأعباء العسكرية والاقتصادية والسياسية والسيادية وغيرها منفردة، وهذا هو الغالب، والحكم للغالب، بخلاف الرجل فيوجد بكثرةٍ من يستبد بذلك كله كما هو معروف على مدار التاريخ في أنظمة الفردية المستبدة. فيكون الحديث معقول المعنى، لا للتعبد المحض، ويكون في الولاية العامة الكبرى في الوضع الشمولي القابض فيه الفرد الحاكم على سائر الأمر العام في مصير البلاد والعباد الأمني والمدني. وهو ما يحمل عليه العموم الشمولي المستفاد من عموم الحديث «ولَّوْ أمرهم» لأن المضاف يدل على العموم، فيكون معناه: كل أمرهم الهام. ولا يمكن أن يكون معنى العموم أيَّ أمرٍ من أمورهم؛ لجواز توليتها في كثير من الأمور العامة كالإدارات العلمية، ومنصب المفتي العام، والإدارات المالية من شركات ومؤسسات، وهذا من الأمور العامة للمسلمين، وهي جائزة؛ فدل أن الحديث مقصور على وضع خاص في منصب خاص، وهو الولاية الشمولية في الولاية العامة الكبرى. والقاعدة أن من عمل بفتوى عالم مجتهد فقد اتبع التكليف (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7). وهذا يجري في غير القطعيات مما للاجتهاد والنظر فيه مدخل. ومسألة ولاية المرأة من مسائل الاجتهاد لا القطع، فلا مانع من تقليد مانع أو مجيز. - المرأة في مجلس النواب: ومجلس النواب يرجع القول فيه إلى تحقيق المناط. فمن رآه من الولايات منع على أصله، ومن رآه من نوع الوكالات، أو هو أقرب إليها من الولايات قال بالجواز. ومن تأول الحديث أجاز، كان ولاية أو غير ولاية. والمرجع في تكييفه إلى الخبراء.

المرأة القيادية

وعندي أن المجلس النيابي أو المسمى البرلمان والشورى أو مجلس الشعب كلها من الشورى، وهي حق جائز للرجل والمرأة لعموم النصوص في الشورى ولمشاورة النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أم سلمة في صلح الحديبية في أعظم شأن عام فأشارت عليه بالحكمة (¬1). - المرأة القيادية وقيادتها لجامعة، أو شركات تجارية، أو صناعية، أو نقابات المجتمع المدني كنقابات الأطباء أو المحامين، أو الصحافة، أو منظمات المجتمع، والاتحادات الأصل جوازه. وشَرْطُه التزام المرأة بضوابط الشريعة. - رئاسة المرأة للأحزاب السياسية ورئاستها للأحزاب السياسية قد تكون في معنى الولايات السياسية العامة، وقد تكون كالعمل المجتمعي: احتمالات تبنى عليها الفتوى زماناً ومكاناً. والذي أرى جوازه، ومن منعها إلحاقا لها بالولايات الكبرى يعترض عليه بعدم مساواة الفرع المقيس للأصل المقيس عليه، لأن قيادة الأحزاب السياسية ليست كالولاية الكبرى بدليل أن الخروج من الحزب ليس خروجا عن الجماعة، ولا يرد عليه ما يرد على البيعة للإمام أو الرئيس من حرمة نقض البيعة والخروج عليها. إلا أنه يتساهل في قياس الشبه ما لا يتساهل في قياس العلة وهو هنا إلى قياس الشبه أقرب وهو تردد الفرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها. أمور أسرية: الواجب في التعامل الأسري بين الزوجين العشرة بالمعروف، ويحرم في المعاملة الأسرية كل ضرر، فلا يجوز مضايقتها عمدا ولا ظلمها ولا التهاون بحقوقها. وكذلك لا يجوز لها فعل ما يضار زوجها ويؤذيه (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228). ويحرم الإضرار بالزوجة في الفراش لعموم (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (الطلاق: 6). ومن حلف ألا يقرب زوجته أثم؛ لأنه يمين على فعل ظلم، فحرم. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

صيانة عرض المرأة

ووجب عليه ديانةً التكفير عن يمينه؛ للأمر بها «من رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه» (¬1). فإن مضى أربعة أشهر ففرضٌ عليه إما الطلاق، أو الرجعة، فإن رجع غفر الله له ما مضى للنص، وإن طلق جاز (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 226 - 227). فإن أبى الطلاق والرجعة أجبر على أحدهما قهرا؛ لأن دفع الضرر واجب. فإن أرادت المرأة الصبر عليه ابتداء، فلم تخبر بشأنها وضررها مُحَكَّماً، أو قاضياً، أُجِرَت عند ربها، ويأخذ الله حقها منه؛ لأن عقابه بالظالمين سريع، إلا إن أسقطت، أو عفت عنه، ولها ذلك، ولو بعد الرفع إلى القضاء. ولا يسقط عفوها حقَّها مستقبلا؛ لأنها محسنة و (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) (التوبة: 91). ولأن حقوقها هذه من نفقة، وسكن، وعشرة بالمعروف تتجدد بالزمن. صيانة عرض المرأة: حفظ العرض أحد المقاصد الكبرى للشريعة، فيحرم الاعتداء ولو بالتهمة بالفاحشة على أحد في عرضه تلويحا أو تصريحا. أما التلويح فهو كل قولٍ يُفْهَم من مقصوده القذف في العرض؛ لقرائن حالية أو مقالية؛ فإن لم يُفْهِم فليس بشيء، وقد يلزم التعزير، وقد قال بنو إسرائيل عن مريم إذ أتت بعيسى تحمله إثر الولادة (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم: 28). فهذا تلويح بالقذف له حكم التصريح بالنص (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء: 156). فحكم الله أن قولهم السابق تصريح بالقذف بالبهتان العظيم، فهذا تلويح له حكم صريح القذف. ¬

(¬1) - قولنا «ووجب عليه ديانة التكفير .. » الحديث الذي ذكرناه أخرجه مسلم برقم 4361 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل».

والصريح هو: قذف امرأة أو رجل بالزنا صراحة كقوله: فلان زان أو فلانة زانية أو عاهر أو قحبة. وحكم القذف صراحةً أو تلويحا مفهما أنْ يُلْزَم القاذف بالشهود أمام القضاء، فإن لم يأت بأربعة شهود يصرحون برؤيتهم المقذوف رجلا أو امرأة يباشر الزنا بلا أدنى احتمال كالميل في المكحلة، فإن القاذف يُحْكَمُ عليه بالجلد ثمانين جلدة. ولا تقبل له شهادة في أي قضية وتسقط عدالته ويعتبر فاسقا بالنص. فإن جاء بهم وصحت شهادتهم لم يجلد، فإن لم تصح شهادتهم للاختلاف في الرواية، أو كونهم غير عدول، أو صرح أحدهم بعدم رؤيته التقاء الختانين بالإيلاج، فإن الشهود والقاذف يجلد كلٌّ منهم ثمانين جلدة علنا بقدر شيوع الإشاعة والبهتان؛ لأن هذا ما تقتضيه مقاصد الشرع في هذا الحكم (¬1) (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4). وأما من قذف زوجته، فإن رفعت أمرها إلى القضاء ولم يكن للزوج شهود أربعة عدول يشهدون صراحة برؤيتهم الزنا ألزمه القاضي اللعان أوْ يجلد إن لم يلاعن، وهو كما في النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النور: 6 - 7). فإن كانت المرأة حاملا، ولم ينف الولد في اللعان فهو إقرار بأنه ابنه؛ لأنه قد يكون ثبوت الزنا عليها خلال أشهر الحمل الأخيرة كالسابع والثامن والتاسع، فلا يتطرق إلى الزوج ظنٌ غالبٌ بأن الحمل ليس ابنا له. فتكون القضية منفكة أي: منفردة عن قضية الحمل. فيلاعن بلا نفي، وهو ابنه حينئذ. أما إن نفاه في اللعان فإنه ينتفي عنه وينسب إلى المرأة. ¬

(¬1) - قولنا «لأن هذا ما تقتضيه مقاصد الشرع»، قلت: لأن المقصود من الجلد هو رد اعتبار عرض المقذوف، فبقدر شيوع انتهاك عرضه بالقذف تكون علنية الجلد؛ لعلاج ذلك.

حق المرأة في خلع زوجها

فإذا لاعن الزوج فإن الزوجة تلاعن كما في النص لتبرئ نفسها، فإن أبت الملاعنة وجب عليها الحد للنص في أن لعانها يدرأ عنها العذاب (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 8 - 9)، فلعانه دافع للحد عن نفسه وموجب للحد عليها إلا أن تلاعن. حق المرأة في خلع زوجها: وللمرأة إذا تضررت ولم تستقم حياتها مع زوجها وحصل الشقاق بينهما التحكيم للصلح (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء: 35). ولهما الاتفاق على الخلع، وهو أن ترجع المرأة لزوجها ماله الذي أعطاها مقابل الزواج بها، وعليه الطلاق واحدة. وليس له حق المراجعة في العدة؛ لأنه يعود على أصل حكم الخلع بالإبطال، فبطل حقه هنا. وتعتد بثلاث حيض أو أطهار لعموم (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) (البقرة: 228). ولم يثبت ما يخصص المختلعة بحيضة فبقيت على العموم؛ لأنها مطلقة وحديث أنها حيضة لا يصح (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «وحديث أنها حيضة لا يصح .. » قلت: أصل الحديث بدون هذه الزيادة الشاذة والمنكرة أخرجه البخاري برقم 5273 عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق، ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة. قلت: أصحاب عكرمة عن ابن عباس الثقات كخالد الحذاء وابن أبي تميمة في صحيح البخاري وقتادة عند ابن ماجة وخالد الحذاء عند النسائي والدارقطني. قلت: فهؤلاء هم الأثبات من أصحاب عكرمة لم يذكروا في القصة زيادة أنها أمرت أن تعتد بحيضة. وتفرد بهذه الزيادة عمرو بن مسلم وضعفه أحمد والذهبي وابن خراش وابن القطان، وقال ابن معين والنسائي ليس بقوي، وقال في التقريب صدوق له أوهام، وقال ابن معين مرة أضعف من هشام بن حجير. قلت: فلا تقبل هذه الزيادة منه وهي في حكم المنكر لضعفه كما هو مقرر في مصطلح الحديث، وأقل أحكامها أنها شاذة على فرض أنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ثقة، وإلا فأين من وثقه؟ فتحسين الترمذي وتصحيح الألباني لهذه الزيادة متعقب وقوله غريب بعدها صحيح؛ لأنه انفراد عن الثقات، وتحسين الترمذي مع استغرابه دليل على التضعيف كما قيل. ويؤيد هذا أن جميع من روى القصة من الصحابة من غير هذا الحديث لم يذكروا أنه أمرها أن تعتد بحيضة. فمن ذلك ما أخرجه النسائي بسند صحيح برقم 3462 عن عمرة بنت عبدالرحمن أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل أنها: كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه قالت أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها. وهي مخرجة في سنن سعيد ابن منصور بسند على شرط الشيخين. وأخرجها أبو داود بسند على شرط الشيخين برقم 1904. وأخرجه البيهقي كذلك بسند صحيح فجعله عن عمرة عن عائشة ولا مانع أن تكون قد سمعت القصة من عائشة ومن امرأة ثابت. وكذا عند أبي داود برقم 1905 إلا أن في هذه القصة أنها حديقتان. قلت: لعل هذا الوهم من أبي عمر السدوسي لأنه يخطئ من حفظه كما قال الحافظ. ومما يؤيد عدم الزيادة -أعني أنه أمرها بحيضة- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجة برقم 2057 قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكان رجلا دميما، فقالت: يا رسول الله، والله، لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: فردت عليه حديقته، قال: ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر هذه الزيادة. قلت: ومن رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في ذكر القصة ولم يذكر هذه الزيادة التي هي «أن تعتد بحيضة» أخرجه الضياء في المختارة 3980. قلت: وأخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري في قصة أخته ولم يذكر الحيضة، وفيه عطية العوفي ضعيف، والحسن بن عمارة متروك، ومن هذه الطريق قالت: وأزيده. فقال: وزيديه. قلت: وهذه الزيادة منكرة، وخالفه عطاء بسند صحيح مرسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أما الزيادة فلا» عند البيهقي برقم 13741، ووصله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: بسند صحيح إلا أن البيهقي رجح الإرسال. قلت: ويعضده مرسل أبي الزبير المتقدم، وهو صحيح إليه في نفي الزيادة ورد الحديقة ولم يذكر الحيضة. وحديث أبي الزبير عن ثابت بن قيس عند الدارقطني 3179 بسند صحيح ولم يذكر فيه الزيادة -أعني زيادة الحيضة. قلت: ومع هذا التفرد والشذوذ لهذه الزيادة من عمرو بن مسلم فقد اضطرب، ففي رواية الدارقطني (3181) حيضة ونصفا. فهذه علة أخرى. والعلة الثالثة أن عبدالرزاق رواها عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= مرسلا ولم يذكر ابن عباس. قلت: وبهذه العلة أعله الحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيص المستدرك (2/ 224) فقال هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة. هذا حديث صحيح الإسناد غير أن عبدالرزاق أرسله عن معمر. وقال الذهبي: صحيح رواه عبدالرزاق عن معمر مرسلا. ثم أورد الحاكم الطريق المرسلة. وأعله أبو داود بنفس العلة برقم 2231، فقال: وهذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. تنبيه: ثم اطلعت بعد هذا التقرير على تضعيف الذهبي لطريق عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس «أنها تعتد بحيضة» في تنقيح التحقيق (2/ 208). وسبقه ابن عبدالهادي (4/ 414). وضعفه كذلك ابن حزم في المحلى، وابن دقيق العيد في الإلمام ناقلا إعلال الحاكم مقرا له كما هو معروف عنه. أما رواية الربيع بنت معوذ بن عفراء في قصة خلع زوجة ثابت بن قيس بن شماس فقد أخرجها غير واحد وهي معلولة فيها زيادة شاذة، والذي يفيده كلام المحدثين أهل العلل والجرح والتعديل أن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير واهية. قال يعقوب بن شيبة: رواية علي بن المبارك عن يحيى ابن كثير خاصة فيها وهاء. قلت: وهذه منها، فإن جميع من روى القصة من الثقات الأثبات لم يذكر زيادة «اعتدي بحيضة» في حديث امرأة ثابت بن قيس، وقد وردت القصة عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأمرت بحيضة، وهذه معلولة أعلها الدارقطني (16/ 56) فقال: لما سئل عن حديث الربيع بنت معوذ، أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تعتد بحيضة فقال: رواه الثوري، واختلف عنه؛ فرواه الفضيل بن موسى، عن الثوري، عن محمد بن عبدالرحمن، مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن الربيع بنت معوذ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه وكيع؛ فرواه عن الثوري، كذلك، ولم يقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: فأمرت أن تعتد حيضة، وهو الصحيح. وأعلها البيهقي في السنن (7/ 450) رقم 16014 وقال بعد إيراده قصتها مع عثمان: وظاهر الكتاب في عدة المطلقات يتناول المطلقة وغيرها فهو أولى. وأشار النسائي إلى إعلاله حيث أورد الحديث ثم أتبعه بقصة عثمان بن عفان برقم 3498 وهي من طريق ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن ربيع بنت معوذ قال قلت لها حدثيني حديثك قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألته ماذا علي من العدة فقال لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة قال وأنا متبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فاختلعت منه. قلت: والصحيح من القصة أنها في زمن عثمان كما قرر أهل العلل، والصحيح من القصة في زمن عثمان عدم ذكر زيادة الحيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من اجتهاد عثمان بن عفان كما قال البيهقي وقد تقدم، والإمام أحمد، قال ابن المنذر: وضعف الإمام أحمد حديث عثمان. =

العدة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض أو كلاهما

العدة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض أو كلاهما: وقلنا «أو أطهار»؛ لأن الله أمر بثلاثة قروء، وهو لفظ مشترك فيهما، كحكم شرعي لمسألة واقعية أكثرية بين الناس، فعلم أن هذا اللفظ مقصود بمعنييه. إذ لا يمكن أن يجمل الله الحكم في مسألة تعم الكافة بتكرار كثير دائم، فعلم حمله على معنيين، ويترك للفقيه تقدير ذلك بحسب مقتضيات المصلحة في اختيار أحد المعنيين أو كليهما. فمن عمل في العدة بالحيض فقد أصاب ما أمر الله به في اللفظ المشترك (قُرُوَءٍ)، ومن عمل بالأطهار فقد أصاب ما أمر الله به في اللفظ. وبدليل تأنيث ثلاثة قروء. والتأنيث في العدد (ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) لا يكون إلا لمذكر؛ فكان التقدير ثلاثة أطهار وجعل في آية أخرى الأشهر بدلا عن الحيض (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4)، فدل على جواز العدة بهذا أو بهذا لاقتضاء أحدهما الآخر لتلازمهما طبيعة وخلقة، ولا توصف من لم تحض، أو انقطع عنها الحيض يأساً أو حملاً أنها طاهرة. ¬

= وقد حسن الحافظ في تغليق التعليق (4/ 460) ط/ المكتب الإسلامي قصة خلعها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من غير ذكر هذه الزيادة، بل أنها افتدت بما دون عقاص شعر رأسها. ثم ذكر شاهدا لها في الموطأ ونقل في الموطأ برقم 1176 عن ابن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة مثل عدة المطلقة ثلاثة قروء. قلت: وبعد هذا التحقيق يتبين ما يلي: 1 - شذوذ ونكارة زيادة «أن تعتد بحيضة» لمخالفة الضعفاء فيها للثقات ولمخالفة كل من روى القصة من الصحابة. 2 - نكارة زيادة «وأزيده»، يعني تزيده على ما أعطاها. 3 - أن أحاديث زيادة «أن تعتد بحيضة» أعلها وضعفها الأئمة الأثبات، منهم الترمذي والحاكم والذهبي والدارقطني والبيهقي وابن عبدالهادي والإمام أحمد وأبو داود وغيرهم، وهو الراجح، فما ذهب إليه البعض من تصحيح هذه الزيادة غير صحيح، وأما العلامة الألباني فقد صحح في هذا الباب جميع الأحاديث المتناقضة من ناحية الفقه فغفر الله له.

بل لهن حالات أخرى لا توصف إحداهن بحيض ولا طهر؛ لأنه لا تسمى المرأة حائضاً إلا إذا كانت تحيض وتطهر، ولا تسمى المرأة طاهرا إلا إذا كانت تحيض وتطهر. ومن لا تحيض ولا تطهر هي إحدى خمس نساء: 1 - اليائسة: وهذه عدتها ثلاثة أشهر بالنص (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق: 4)، ولا يقال عنها إنها طاهرة؛ لأنها لا تحيض أصلا. 2 - الصغيرات: وهذه عدتها ثلاثة أشهر بالنص (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، عطفا على عدة اليائس ثلاثة أشهر. 3 - الحوامل: وعدتها وضع الحمل (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 4). 4 - المستحاضة الدائمة: التي لا تميز بين حيض وطهر، فعدتها بالأشهر. وأما تكليفها الصلاة والصيام قياسا على أمثالها من نسائها فهو قياس منصوص في الحديث لأجل التعبد احتياطا ولا يعتبر في حساب العدة؛ لأنه لا عدة إلا بيقين. 5 - المُطهَّرات: وهن الحور العين، سمين بذلك لعدم دورة الحيض والطهر فيهن بل هن مطهرات منه خلقةً (وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) (آل عمران: 15). ومن استدل بأن المقصود الطهر في الآية بدليل تأنيث لفظ ثلاثة قروء؛ لأنه لا يؤنث إلا المذكر، استُدِل عليه بجعل الأشهر بدلا عن الحيض (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق: 4) وبأن ثلاثة نص عددي قطعي، ولا قطع إلا بعدد الحيض لا بالطهر. والصحيح أن الله سبحانه في قوله (ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) (البقرة: 228) لو أراد الحيض لذكر اللفظ «ثلاث قروء» لأنه بلسان عربي مبين. فلما أنثه علم أنه الطهر، ثلاثة أطهار تامة، ولما جعل الأشهر بدلا عن الحيض علم أنه الحيض فجاز الأمران. وقلنا «تامة»؛ لأنه الأصل في الإطلاق؛ ولأنه لا يخرج من العدة إلا بيقين، والتمام هو اليقين. وتمام الثلاثة الأطهار تقتضي ثلاث حيض تامة قطعا، وثلاثة أطهار تامة قطعا. ولا يمكن أن يكون هناك ثلاثة أطهار تامة قطعا إلا بحيضة أولى تامة، ثم طهر تام إلى

الحيضة الثانية التامة، ثم طهر تام إلى الحيضة الثالثة تامة، ثم طهر تام بنزول أول دفعة دم من حيضة رابعة فهذه غير تامة ولا تحسب. وهكذا تكون قطعا ثلاث حيض تامات، وثلاثة أطهار تامة؛ فتخرج من عدتها قطعا، ولا يصح إخراجها من يقين الزوجية إلا بيقين العدة؛ فلو تبعضت الأطهار أو الحِيَضُ لم تخرج بالقطع. ولأن الزوج إذا مات وهي في العدة في آخر طهر بعد مرور ثلاث حيض تامات فلو قلنا «العدة بالحيض» لم ترث، ولو قلنا بالأطهار ورثت. ولكن لو تم الطهر الثالث ومات بعد نزول دفعة من الحيضة الرابعة فهي لا ترث بيقين، لتيقن ثلاثة قروء تامة من حيض وطهر. ولا يمكن نقل أحد من أصل قطعي في الحق إلى منعه من الحق إلا بقطع، فلا تمنع الميراث إلا بالقطع. فدل على عظيم بلاغة القرآن كلام الله في النص على العدد، وهو ثلاثة وفي تأنيثه بالتاء ليدل على القطع في اعتبار ثلاث حيض تامات لا تكون إلا بثلاثة أطهار تامة. ومن زعم أن في هذا تطويلاً على المرأة رُدَّ عليه: بل هو عين المنفعة؛ لأن فيه عدم الاستعجال في نقض عقدة الزوج، وهذه مصلحة لها، وهذا في الطلاق الرجعي. وفيه عدم حرمانها من الميراث بالظن لو مات زوجها في العدة، وهذا في الطلاق الرجعي وهو إجماع، وأما في الثلاث والخلعي البائن فيحتاج إلى نوع استنباط، فإن قلنا به فدليله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234). فالمختلعة البائن والمطلقة ثلاثا إذا مات زوجها وهي في العدة انتقلت إلى عدة الوفاة، فإذا أُفْتى بهذا لزم العلة في النص وهي (أَزْوَاجًا) فهي زوجته؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما اعتدت بالوفاة. ومعلوم أن كل زوجة ترث، ومن أخرج هذه لزمه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة، والشرع يؤخذ كله، فمن ألزمها بالعدة؛ لأنها زوجة ومنعها من الميراث فقد أخذ ببعض وترك بعضا، ويحتمل عدم ذلك لأنهن -أي المطلقة ثلاثا والمختلعة البائن بالثلاث

الطلاق الرجعي مرتان، فإن كان مقابل مال فهو خلع

والملاعنة- خرجن من دائرة الحلية لهذا الزوج بالنصوص، لزوال الزوجية، وإذا زالت وهي علة أو جزء علة انعدم الحكم بإرثهن. الطلاق الرجعي مرتان، فإن كان مقابل مال فهو خلع: والطلاق مرتان، بالنص أي الطلاق الرجعي مرتان، وهذا هو التقدير الصحيح. فإذا بلغت أجلها أي: قاربت انتهاء العدة، فله أن يراجعها، فإن لم يراجعها سَرَّحَها إلى بيت أهلها لقوله تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (البقرة: 231). وليس معنى السراح الطلاق كما ذهب إليه بعض الأئمة؛ لأنه لا معنى له في الآية (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (البقرة: 231)، فلا يمكن أن يكون معناها وإذا طلقت النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن بمعروف؛ لأنها مطلقة أصلا وهي في عدة طلاقها! ! و(مَرَّتَانِ) أن يقول لها إما باللفظ مجموعا أنت طالق أنت طالق .. أو يقول لها أنت طالق ثم يراجعها ثم يطلقها بعد ذلك. أو يطلقها في مجلس مرة بقوله أنت طالق، ثم في مجلس آخر مرة أخرى، فهذا كله طلاق رجعي وهو مرتان. أما أن يجمع الثلاث بالتمييز فيقول أنت طالق ثلاثا فهذه واحدة؛ لأن التمييز لا حكم له هنا مؤثر في إحداث الحدث بل هو إخبار عن عدد مرات الحدث الذي حدث فعلا، وهو كمن قال أستغفر الله ثلاثا فلا يعتد له ذلك ثلاث مرات، وكذا من قال سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثم قال ثلاثا وثلاثين، فما هي إلا واحدة حقيقية. فالتمييز لا يُحْدِث الحدث، بل يخبر عن واقعٍ قد حدث، فإن طابق وإلا فهو لغو. ولا يحل له أن يأخذ على الطلاق شيئا مما آتاه إلا إن كانت هي تريد أن تفادي نفسها ليطلقها، وهو ما يعرف عند الفقهاء بالخلع، وهو منصوص في نفس الآية (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229).

فهذا يدل على أن الخلع طلاق محسوب عليه لأن الله تعالى ذكر الطلاق فلم يُحِلَّ فيه أخذ المال ثم استثنى هذه الحالة، فأجاز أخذ المال فمن طلق ثم طلق مرة أخرى مقابل مال فهو طلاق خلع وعليه طلقتان، وبقي له طلقة واحدة إن أوقعها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره بالنص (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 230). ولا بد من الدخول الحقيقي «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (¬1). ولا يجوز الزواج بقصد التحليل للنص «لعن الله المحلل والمحلل له» (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2639 عن عائشة رضي الله عنها جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت عبدالرحمن بن الزبير إنما معه مثل هدبة الثوب فقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك، وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له فقال يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) - أخرجه أبو داود برقم 2078 عن الحارث عن علي رضي الله عنه -قال إسماعيل وأراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لعن الله المحلل والمحلل له». وهو في سنن ابن ماجة برقم 1934 عن ابن عباس، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل، والمحلل له. وعند ابن ماجة برقم 1936 عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلل، لعن الله المحلل، والمحلل له. وفي فيض القدير شرح الجامع الصغير برقم 7266 (لعن الله المحلل) بكسر اللام الأولى (والمحلل له) قال القاضي: الذي يتزوج مطلقة غيره ثلاثا بقصد أن يطلقها بعد الوطء ليحل للمطلق نكاحها فكأنه يحلها على الزوج الأول بالنكاح بالوطء والمحلل له الأول وإنما لعنهما لما فيه من هتك المروءة وقلة الحياء والدلالة على خسة النفس أما بالنسبة للمحلل له فظاهر وأما بالنسبة للمحلل فلأنه يعير نفسه بالوطء لغرض الغير فإنه إنما يطؤها ليعرضها لوطء المحلل له ولذلك مثل كما في خبر بالتيس المستعار وليس في الخبر ما يدل لبطلان العقد كما قيل بل لصحته من حيث إنه سمى العاقد محللا وذلك إنما يكون إذا كان العقد صحيحا فإن الفاسد لا يحلل هذا إن أطلق العقد فإن شرط فيه الطلاق بعد الدخول بطل ذكره القاضي ... قال الترمذي: حسن صحيح قال ابن القطان: ولم يلتفت لكونه من رواية أبي قيس عبدالرحمن بن مروان وهو مختص به. أ. هـ. وقال ابن حجر: رواته ثقات وقال الذهبي في الكبائر: صح من حديث ابن مسعود ورواه النسائي والترمذي بإسناد جيد عن علي. انتهى.

العدة وحقوقها

العدة وحقوقها: العدة قسمان فقط: أ. عدة وفاة. ب. وعدة طلاق. والنساء أقسام: 1 - المعتدة من طلاق رجعي. 2 - المعتدة من طلاق الثلاث. 3 - المعتدة من طلاق خلع. 4 - المعتدة من طلاق لعان. 5 - المعتدة من طلاق وهي حامل. 6 - المعتدة من طلاق وهي يائسة من الحيض. 7 - المعتدة من طلاق وهي لم تحض بعد. 8 - المعتدة من وفاة. 9 - المعتدة من وفاة وهي حامل. 10 - المعتدة من وفاة وهي في عدة طلاق. فهؤلاء النسوة من الأولى إلى الرابعة وهن المعتدات من طلاقٍ رجعيٍ، أو بائن، أو خلعٍ، أو طلاق لعانٍ، حكمهن واحد في أن تعتد المرأة بثلاثة قروء وهو حيض وأطهار تامات أو أحدهما لمن أراد العمل بقول عالم يقول بأحدهما. ومن قال إن المختلعة تعتد بحيضة فلا حجة له صحيحة، وأما الملاعنة فإنه يطلقها بعد اللعان وتأخذ أحكام الطلاق؛ لأنه سبحانه ذكر أن ملاعنتها تنفي الحد (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (النور: 8) ولم يذكر أنها فراق. فدل على أنها زوجته، ولا أثر للعان إلا لدرء الحد عنه وعنها. ونفي الولد لا يكون إلا إن نفاه.

عدة الحامل واليائسة واللائي لم يحضن

ويجب عليه الطلاق بعد اللعان لثبوت ذلك في الحديث بإقرار قوله إن أمسكتها فأنا كاذب فطلقها بين يدي رسول الله وأقره على قوله وفعله (¬1). عدة الحامل واليائسة واللائي لم يحضن: أما الحامل فعدتها وضع الحمل. واليائسة، أو اللواتي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر للنص (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4). عدة المتوفى عنها زوجها: أما من توفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا بالنص (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234). فإن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل، ويجوز أن تعتد بأبعد الأجلين، والمعتدة بطلاق وتوفى عنها زوجها في العدة؛ فإنها تعتد بأبعد الأجلين عملا باليقين. النفقة والسكنى والمتعة: وجميع المطلقات لهن النفقة والسكن والمتعة إلا الملاعنة بدليل قوله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) (الطلاق: 1) والملاعنة هي من هذا الباب؛ ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5259 عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها. قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها؟ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال يا رسول الله: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها» قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو في صحيح مسلم برقم 3816.

لأنها أتت بفاحشة مبينة بلعان. وفي المتعة أرى أنها تمتع بدليل من قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بالله منك»، فقال: «لقد عذت بمعاذ إلحقي ببيت أهلك، وكساها رازقيين» (¬1). فدل على أنه ليس لها السكن واستعاذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفحش القول في حقه. أما المختلعة والمطلقة الرجعية، والمطلقة ثلاثا، والمطلقة الحامل، واليائس، واللاتي لم يحضن فلهن جميعا السكن، هذا في أصل النظر إلى عموم النصوص -إلا ما سيأتي- لقوله تعالى بعد تفصيل أحكامهن (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى* لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 6 - 7). وهذا عموم للمطلقات وغير المطلقات أو هو خاص بالمطلقات؛ لأن هذا في سياق المطلقات؛ لأن سكن الزوجة غيرِ المطلقة معلومٌ، ونفقتها معلومة حاملا وغير حامل، ولأنه يجب عليها الإرضاع ولا يسقط بالتعاسر بينهما في حالة عدم الطلاق فهذه الأحكام كلها للمطلقات. وأما المبتوتة التي طلقت ثلاثاً فلولا حديث فاطمة بنت قيس لكان لها النفقة والسكنى (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5255 عن أبي أسيد رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجلسوا هاهنا ودخل وقد أتي بالجونية فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: هبي نفسك لي قالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة قال فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن فقالت أعوذ بالله منك فقال: قد عذت بمعاذ ثم خرج علينا فقال يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها. (¬2) - قولنا «وأما المبتوتة التي طلقت ثلاثا .. » قلت: حديثها أصل في الباب أخرجه مسلم برقم 3777 أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما. فقال «لا نفقة لك». فاستأذنته في الانتقال فأذن لها. فقالت أين يا رسول الله فقال «إلى ابن أم مكتوم». وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به فقال مروان لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. =

عدة الوفاة وإثبات متعة عام للمتوفى عنها زوجها وسكنها

إلا أن المختلعة لما فادت نفسها بمال فطلقها على ذلك، كان إلزامه بالنفقة والسكنى في عدتها نقصا فيما أرجعت إليه ويدخل في هذا الخصام؛ لأن الخلع مبنيٌ على المشاحة والخصومة والتعويض، فلهذا المعنى أرى: جريان الصلح هنا بما يناسب؛ لأن نص الآية يدل على إطلاق المفاداة (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229). وأما دليل المتعة فهو (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 241)، وهذا نص عام لكل مطلقة. والمتعة هو ما تعارف عليه الناس في المجتمع من كسوة ورزق وهدية ونحو ذلك وهي غير النفقة. وقد كسى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلقها رازقيتين (¬1). عدة الوفاة وإثبات متعة عام للمتوفى عنها زوجها وسكنها: وأما عدة المتوفى عنها زوجها فهي أربعة أشهر وعشراً بالنص (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234). وأما متعتها فهي سنة كاملة بالنص (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 240). ¬

= فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان فبينى وبينكم القرآن قال الله عزوجل (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ) الآية قالت هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها. قلت: وقد كان الأسود النخعي يعمل بأصل ما دلت عليه الآيات كما ثبت في مسلم برقم 3783 عن أبي إسحاق قال كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبى فحدث الشعبى بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به. فقال ويلك تحدث بمثل هذا قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله عزوجل (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ). (¬1) - تقدم تخريجه.

والسكن لها نوعان

وأخطأ من ظن أن الآية نسختها عدة أربعة أشهر وعشرا؛ لأن هذه الآية هي لغرض متعة المتوفى عنها زوجها وسكناها وهي متعة سنةٍ وسكن سنة، والمتاع هنا شامل للنفقة والمتعة؛ لأنه جعل غايته إلى الحول ولا يكون ذلك إلا بما يشمل النفقة لأنها تتكرر لا مجرد متعة بنحو كسوة، وإنما فرض الله لها ذلك لعظيم مصيبتها. فيجب على الزوج أن يوصي لها بهذين الأمرين للنص (وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: 240) ودليل السكن قوله تعالى في نفس الآية (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: 240) أي لا إخراج لها من سكن زوجها المتوفى طيلة عام كامل. وهذا استثناء من «لا وصية لوارث» (¬1) من باب تخصيص العام. والسكن لها نوعان: سكن للعدة أربعة أشهر وعشرا وهو سكن تعبد لا اختيار لها ولا لأحد فيه؛ لأنه تبع للعدة في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234). وهو ثابت في السنة بلا خلاف، وحفظا لحق حمل قد يتبين، وقياسا على المطلقة البائن؛ لأنها أعظم مصيبة منها عند من يقضي لها بالسكنى، أما المتعة فتمتع عند الجميع. ويشرع للمتوفى عنها زوجها سكنٌ فوق سكن العدة توفية للعام، وهو سكن المتعة وهو بالخيار بالنسبة لها للنص في الآية على تعليق الخروج لها إن أرادت (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 240). فإنه سبحانه جعل خروجها مباحاً، وما فعلت بنفسها مباحاً، يعني من زينة ونحوها، لكنه في الآية السابقة قيد أن تفعل بنفسها ما تشاء بالمعروف بعد أربعة أشهر وعشرا، وجاءت السنة مبينة أنها تلزم بيت زوجها مع ترك الزينة في مدة أربعة أشهر وعشرا. للمرأة الحكم بين الناس: وللمرأة أن تحكم في قضايا الخصوم وغيرها لعموم (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

للمرأة أن تكون في منصب المفتي العام

ولم يشترط الذكورية، وهذه قضية ليس فيها خصومة لها الحكم فيها بما يعدل الجناية على الصيد في الحرم، وهو المقصود بقولنا «وغيرها». ولقوله تعالى (حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35). وهذا عام ولم يشترط فيه الذكورية، وهذه قضايا خصوم. ولعموم (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9)، فشمل العموم النساء والرجال. للمرأة أن تكون في منصب المفتي العام: ولها أن تكون في منصب المفتي العام إن كانت فقيهة مجتهدة، وقد كانت عائشة وأم سلمة وغيرهما يسألهن كبار فقهاء الصحابة فيما أشكل. وللمرأة أن تصلح بين الأمة في القضايا الكبرى: ولها أن تصلح بين الناس، وثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها لما سعت بالصلح ولم ينكر عليها الصحابة وإنما أنكر أبو أمامة مستدلا بحديث «لا يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة» لظنه أنها ولاية ولم يوافَقْ. ولعموم (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10) ولم يشترط الذكورية في المصلحين في كل أوامر الإصلاح بين الناس (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128)، (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 114). والعمل والاستثمار للمرأة من المباحات فللمرأة أن تعمل في القطاع الاقتصادي، أو غيره، للاستثمار أو غيره؛ لعموم الأدلة في الإنعام على الخلق بذلك (لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس: 35)، وهذا عام في عمل اليد للرجال والنساء. ولعموم (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).

ولحديث أسماء أنها كانت تعمل في أرض زوجها (¬1). ولقوله تعالى عن المرأتين (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص: 23). ولأن الأصل الإباحة. والخطابات في العمل والسعي والمضاربات لا تخص ذكرا أو أنثى بل تعمهما ويشترط ألا تضيع ما عليها من فرض عين كرعاية ما تحت يدها من بيت وطفل ومال. وأن تلزم فرض الشرع في الحشمة وعدم الابتذال وإظهار ما لا يظهر إلا على من استثني في النص (¬2). ومشاركة المرأة في التبرعات والإنفاق المالي وكل تعاون على البر والتقوى مشروع: فلها أن تتصدق من مالها الخاص الذي تملكه لما جاء في الصحيحين «تصدقن فأخذت المرأة تلقي قرطها أو خاتمها» (¬3). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - لقوله تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31). (¬3) - قولنا «فلها أن تتصدق .. » الحديث في ذلك أخرجه البخاري برقم 1462 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر إلي المصلى ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال أيها الناس تصدقوا ... فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه فقيل يا رسول الله هذه زينب فقال أي الزيانب فقيل امرأة ابن مسعود قال نعم ائذنوا لها فأذن لها قالت يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم. ولمسلم برقم 2085 من حديث جابر بن عبدالله قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم». فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله قال «لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير». قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.

غزو النساء

ولها أن تدفع زكاتها، وصدقتها لزوجها إن كان فقيرا للنص في قوله صلى الله عليه وسلم «هي لك صدقة وصلة» (¬1). ولا تتصدق من مال زوجها مما تحت يدها إلا بإذن منه للنص (¬2) إلا ما جرى به العرف. ولها أن تنفق على ابن السبيل والفقير والمحتاج واليتيم من مالها. ويجب عليها ما يجب على الرجل من الصدقات والزكوات والكفارات والإنفاق الواجب في سبيل الله؛ لعموم الأدلة. ويشرع لها ما يشرع للرجل من سائر القربات المالية من الوقف، والإطعام، وسقيا الماء، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وبناء المرافق الخيرية والمؤسسات التنموية والمراكز الدعوية ودور القرآن وعلومه والسنة وعلومها، ونشر العلم، والدعوة، والدين، والخير، والتعاون على البر والتقوى، لعموم النصوص في ذلك كله. غزو النساء: ولا يجب على امرأة القتال في سبيل الله في الأصل تخفيفا عليها، وإلزامها بذلك إلزام وتكليف لما لم يكلفها الله به، سواء كان بتجنيد أو غيره. ولها أن تتطوع للقتال في سبيل الله بلا إلزام، لحديث «ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت منهم. فغزت مع زوجها في البحر فاستشهدت» (¬3). ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 5195 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره». وهو في صحيح مسلم برقم 2417. (¬3) - قولنا «ولها أن تتطوع .. » لما أخرجه البخاري برقم 2788 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة شك إسحاق قالت، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأول قالت، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.

سفر المرأة ورفقتها

سفر المرأة ورفقتها: وإذا سافرت المرأة سفرا يستغرق يوما وليلة وجب عليها أن تأمن على نفسها بِمَحرمٍ للنص الصحيح الصريح «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة إلا مع ذي محرم» (¬1)، ولو كان ذلك بوسائل النقل الحديثة جواً أو براً أو بحراً؛ لأن العلة موجودة، وهي السفر. ونصه على مسيرة يوم وليلة يدل على اختصاص المحرم بالسفر الطويل كهذا فما فوق، فإن كانت على طائرة في زمن يسير كساعة فهل نعتبر زمن الرحلة أم مقياس المسافة على الأرض؟ الظاهر عندي النظر إلى مقياس المسافة على الأرض، فإن كان مسيرة يوم وليلة وجب المَحْرَم، ولأنها علة منصوصة مضبوطة، وقياس الزمن علةٌ غير منضبطة، هذا هو الأصل. ثم تقرر عندي أن اعتماد الزمن أضبط سواء كانت الرحلة جوية أم برية أم بحرية، وهو ما يدل عليه منطوق الحديث، فالمرأة التي تسافر يوما وليلة (24 ساعة) في جوٍ أو برٍ أو بحرٍ لا شك أنه سفر طويل وشديد المشقة ولو كان بأحدث الوسائل مما يعوزها إلى ما نص الشرع عليه من المَحْرَم لشدة حاجتها إليه في مثل هذا السفر الطويل. ويستثنى حالة الحاجة للسفر فيجوز مع الأمن وغلبته ولو مع رفقة نساء ثقات أو في اضطرار فمنفردة، والضرورة تقدر بقدرها. وأما السفر مع النساء المأمونات بلا حاجة أو اضطرار فهو اجتهاد لا دليل عليه نصا، ولا معنى. أما النص فلعدم وروده، أما المعنى والتعليل الشرعي فهو حفظ المرأة وصيانة عرضها وسمعتها والقيام عليها في السفر وهذا كله يخدم مقصدا من أكبر مقاصد الشرع وهو حفظ العرض. ولا يحقق حفظ المرأة وصيانة عرضها وسمعتها تحققا تاما إلا بمحرم لها في السفر، والشريعة في حفظ مقاصدها قصدت تمام الحفظ لا مجرد الحفظ. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الدخول على المرأة الأجنبية

أما كونها مع نساء ثقات أو رفقة آمنة من النساء مع محارمهن، فهو انفراد من بعض الأئمة في مسألة الحج، ولا يحقق ما يحققه المحرم من الحفظ والرعاية خاصة عند طروء ضعفٍ على المرأة وهو كثير في السفر. ويرد عليه أن رجلا ذهبت امرأته للحج مع الصحابة ونسائهم فقال لرسول الله: يا رسول الله إن امرأتي ذهبت للحج وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. فقال: «الحق بأهلك» (¬1). فلو كان اعتبار الرفقة المأمونة معتمدا شرعا لكان ذلك في رفقة فيها صحابة رسول الله ونساؤهم، ولرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدل على عدم اعتباره. أما خروج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته للحج؛ فهو لأنهن أمهاتهم بالنص (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وهذه خاصية ليست لغيرهن. فَعُمِل بمدلول هذا النص في تلك الحجة، ولم يؤثِّر هذا المدلول في غير ذلك السفر أو الدخول عليهن في بيوتهن من أجنبي بالإجماع، ويعمل بفتوى الرفقة مع النساء المأمونات فيما يعمل به اضطرارا لا كأصل، والضرورات تقدر بقدرها؛ فإن لم تجد والسفر ضرورة جاز منفردة قياسا على فرار المرأة من المشركين مهاجرة منفردة بشرط غلبة السلامة. الدخول على المرأة الأجنبية: أما الدخول على النساء الأجنبيات في غير مكان عام ظاهر فالأصل حرمته للنص «إياكم والدخول على النساء» (¬2). وهذا عام يشمل أي دخول ويدخل فيه الخلوة دخولا أولياً. ويجوز للضرورة بشرط عدد من الرجال العدول «لا يدخلن أحد على مغيبة إلا ومعه الرجل والرجلان» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 3006 عن ابن عباس، رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم». فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة. قال «اذهب فحج مع امرأتك». (¬2) - أخرجه البخاري برقم 5232 عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو. قال «الحمو الموت». وهو في صحيح مسلم برقم 5803. (¬3) - تقدم تخريجه.

وقلنا «للضرورة»؛ لأنه من غير ضرورة يبطل أصل حفظ المرأة وصيانة سمعتها وعرضها وما عاد على الأصول بالإبطال فهو باطل. ولا يشك عاقل أن المرأة التي فتحت أبواب بيتها لكل من شاء من الرجال الدخول عليها لِتَرَفُّهٍ، وتبادل الحديث، والأقاويل أنها امرأة لا سلامة لسمعتها بين المجتمع، وتكثر حولها الشائعات والقيل والقال. ولذلك لم يحل الله لها إلا القول بالمعروف بدون خضوع (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32). والدخول عليها ولو بعدد من الرجال من غير حاجة وضرورة خروج عن المعروف؛ لأنه أشد من الخضوع بالقول، وخروج عن المعروف إلى عدم المعروف؛ لأنه إن لم يكن لحاجة بالمعروف؛ كان لمجرد الترفُّه للأجانب مع الأجنبيات، وهذا محرم أشد من تحريم الخضوع وأولى. فدل على أن الدخول لحاجة؛ ولأن «العادة محكمة» إحدى القواعد الخمس الكبرى، والعادة بين البشر أن كثرة دخول الرجال الأجانب على المرأة في غياب زوجها شبهة، وهذا يعلمه مسلم وكافر، وقد ضبطت الشريعة قولها وفعلها بالمعروف (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، فهذا في الأقوال، والأفعال أبلغ (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 234). وهذه في الأفعال؛ فضُبِطَتْ بالعُرْف. وهذا كثير في النصوص كقوله تعالى (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228)، وهذا يدل على اعتبار العادة والعرف في ذلك اعتبارا بينا مُحَكَّما. وأما حديث فاطمة بنت قيس أنها اعتدت عند أم شريك وكانت امرأة غنية، وكان الصحابة يأكلون في بيتها «إنها امرأة يغشاها أصحابي فتحولي من عندها حتى لا ينكشف منك ما تكرهين» (¬1) فهو دليل على ما قلنا. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

عبادة المرأة

وفيه الفرق بين الشابة والمسنة، ودليله أنه صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة الشابة أن تجلس في بيت يغشاه الرجال لئلا يرى أحد منهم ما تكره. فدل على أن المرأة التي كان يأكل عندها الصحابة امرأة من القواعد ويجوز لهن بالنص وضع ثيابهن (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 60)؛ لأنه نص في حديث فاطمة أنها لا تستطيع أن تضع ثيابها عندها. ولا يلزم أنها كانت تخدمهم؛ لأنها امرأة غنية بالنص ولها غلمان يقومون بذلك عادة. وأما حديث «كانت خادمتهم وهي العروس» (¬1) فهو دليل على أنه يجوز للمرأة ولو عروسا أن تصلح الطعام للضيوف، وليس المعنى أنها خرجت إليهم مباشرة بل خدمتهم في تجهيز مائدتهم وطعامهم وشرابهم، ثم ناولته من يعطيهم من محارمها كما جرت عليه العادات؛ فصح إطلاق أنها خادمتهم وهي العروس. عبادة المرأة: والأصل أنه لا فرق بين رجل وامرأة في العبادات كلها من طهارات وصلاة وصوم وحج وزكاة. وخفف الله عنها الصلاة والصوم في زمن الحيض والنفاس، فأما الصلاة فلا تؤديها ولا تقضيها، وأما الصوم فلا تصوم أداءً ولكن يجب عليها القضاء. وهذا من قطعيات الشرع «الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة» (¬2). والحيض دم أسود تعرفه النساء وغالبه سبعة أيام، ومن لم تميز الدم لا بلون ولا بريح تمكث سبعة أيام كعادة نسائها لورود الحديث فيه (¬3). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 321، ومسلم برقم 789 واللفظ له عن معاذة قالت سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة فقالت أحرورية أنت قلت لست بحرورية ولكنى أسأل. قالت كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 785 عن عائشة أنها قالت إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم فقالت عائشة رأيت مركنها ملآن دما فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي». وفي حديث حمنة بنت جحش في سنن أبي داود برقم 287 ولفظه «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلى ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك». قلت: وقد بسطت القول في الكلام على طرق الحديث وعلله وفقهه في كتابي «النفس اليماني في شرح سنن أبي داود السجستاني» أعاننا الله على إتمامه.

وأما الدم بعد الحيض وزمنه فهو استحاضة، وتصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، وهو دم أحمر ناتج عن نزيف عرق في الرحم وليس بحيض. وأما النفاس فهو دم يخرج عقب الولادة أو معها، والمرجع في معرفته النساء، وغالبه أربعون يوما «كانت النفساء تمكث زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما» (¬1). وإذا طهرت المرأة من الحيض أو النفاس تطهرت بالاغتسال على كامل بدنها؛ لورود النصوص الكثيرة في ذلك، وهذا من مقطوعات الشرع. فإن لم تجد الماء تيممت للصلاة، والصيام، ولزوجها جماعها. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 311 حدثنا أحمد بن يونس أخبرنا زهير حدثنا علي بن عبدالأعلى عن أبي سهل عن مسة عن أم سلمة قالت كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوما أو أربعين ليلة وكنا نطلى على وجوهنا الورس يعنى من الكلف. قلت: مسة هي الأزدية، قال الخطابي حديث مسة هذا أثنى عليه محمد بن إسماعيل البخاري. قلت: وجهالتها في هذه الطبقة لا تضر كما تقدم مرارا. وثناء البخاري على الحديث يدل على ذلك. وقد روى عنها جماعة وصحح الحاكم حديثها وأثنى عليه البخاري، فهو حديث حسن. وقد حسنه النووي في خلاصته كما قال ابن الملقن. وأورد له مغلطاي طريقا جيدا وجعلها مقوية للحديث في شرحه على ابن ماجة (1/ 913). ثم نقل إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على العمل بهذا الحديث وأن النفساء تمكث أربعين يوما لا تصلي إلا أن ترى الطهر. وقال الذهبي في تنقيح التحقيق بعد إيراده الحديث عن مسة عن أم سلمة: سنده جيد، وأبو سهل وثق (1/ 92). وقال النووي في خلاصة الأحكام برقم 640، ط/ الرسالة: حديث حسن. وله شاهد عند ابن ماجة برقم 649 عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت للنفساء أربعين يوما، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك. قلت: قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 83): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. انتهى. قلت: إلا أنه اختلف في سلام بن سليم فجعله ابن عدي سلام بن سليم آخر، وليس هو الثقة. قلت: وحديث الباب صححه ابن القيم في زاد المعاد في باب الطب (4/ 402) ط/ الرسالة. وصححه الحاكم والذهبي في المستدرك برقم 622.

وقد أكثر الفروعيون هنا من الأقسام والتناويع بما يحير العقول، ويشتت الأذهان ويشق في التكليف، ويخرج المسائل عن سماحة ويسر وسهولة الشريعة المنصوص عليها قطعيا (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). وحاصل أحكام الكتاب والسنة في الحيض والنفاس ما ذكرته، وما رامه أصحاب الفروع من عجائب التقاسيم هو تعسير على الخلق. وتسهيل السهل تعسير له، ومن أصول الشريعة (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86). وأما حج المرأة: فالمرأة إذا حجت البيت الحرام صنعت كما يصنع الرجل في المناسك إلا أنها لا تلبس الإحرام الذي للرجل، بل تحرم في ملابسها ولا تلبس القفازين، ولا ما مسه ورس أو زعفران ولا تنتقب، وهذا تخفيف عليها، وإذا حاضت أو نفست صنعت كل مناسك الحج إلا الطواف بالبيت والصفا والمروة للنص في الحائض «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» (¬1). فإذا طهرت طافت. وإذا كان الحج يقتضي سفرا فلا بد لها من محرم لما سبق. فإن لم تجد محرما سقط عنها الوجوب، إلا أن تجد رفقة مأمونة من نساء ثقات مع محارمهن الثقات كما أفتى به مالك والشافعي في مسألة الحج. وللمرأة أن تتناول دواء يمنع حيضها زمن الصوم والحج، لأن الحكم الشرعي يتعلق بوجود سببه، وهو هنا نزول الدم، ولم يوجد فبقيت على أحكام الطهارة، ولا ينظر الشرع إلى ما وراء ذلك من سبب قطع الدم، ولعدم المانع الشرعي عن ذلك. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 305 عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك قلت لوددت والله أني لم أحج العام قال لعلك نفست قلت نعم قال فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. وهو في صحيح مسلم برقم 2976 قال «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضى الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي». قالت وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر.

الظهار

الظهار: ومن ظاهر من امرأته امتنع عنها، وقد ارتكب منكرا من القول وزورا، ولا تصير كأمه بذلك الظهار بالنص (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة: 2 - 4). ولم يرد لفظ معين منصوص في الظهار إلا أن النص في الآية يبين أن الظهار هو: ذكر ما يفيد أن زوجته كأمه في الحرمة عليه ويؤخذ ذلك من (مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (المجادلة: 2) ومن (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ) (المجادلة: 2). فالمظاهرة تفيد لفظ الظهر، كأن يقول: أنت عليّ كظهر أمي. وتفيد معنى الحرمة كأن يقول أنت علي كأمي في الحرمة، أو بطن أمي أو فخذها أو نحو ذلك مما يعطي معنى الظهار؛ لأن العبرة بالمعاني. وكذلك إذا أبدل لفظ أمه بأخته فقال أنت علي كظهر أختي أو غيرها ممن يحرمن عليه مؤبدا من محارمه كابنته أو خالته أو عمته أو جدته أو حليلة ابنه لعدم الفارق في التحريم، وإنما ذكر الله الأم في الظهار لأنه الغالب. فإذا نطق الزوج بذلك امتنع عن زوجته، فإذا أراد العودة لها وجب عليه الكفارة، ولا يمسها حتى يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد فلا يمسها حتى يصوم شهرين متتابعين، ومن لم يستطع كَفَّر بإطعام ستين مسكينا. وسكت النص عن اشتراط عدم المسيس في إطعام المساكين فيبقى على العفو (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64)، ولقوله تعالى عن المسائل التي لم يحرمها أو يذكر حكمها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). وعلته أن الصيام يستطيعه كل أحد غالبا فلا مس إلا بعده، وأما العتق فلأن له بدلاً وهو الصوم عند عدم الرقبة.

شهادة المرأة وتفضيلها على الرجال في حالات وتفضيله في حالات

بخلاف إطعام ستين مسكينا، فليس له بدل لمن عجز عنه، بل يكون في ذمته؛ ولأن الفقر كثيرٌ في شرائح المجتمع، ووقوع الظهار قد يكون كثيرا، فمن كان فقيرا وعجز عن الإطعام والصيام لمرض أو كبر سن عفي عنه؛ لأن هذه الحالة لا بد أن تكون كذلك. إما أنه عجز عن الصيام لمرض أو كبر سن، وانتقل إلى الإطعام، وعجز عنه لفقره. وكبير السن العاجز عن الصوم، أو المريض مع فقر تلحقه التخفيفات، فسكت النص عن إلزامه قبل المس؛ لأنه لا يعجز عن آخر المراتب إلا من كان في مشقة بَيِّنة. وكل ما سكت الله عنه فهو عفو للنص (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). وقد مد الله زمن الإطعام بلا تحديد، فلو أطعم واحدا بين فترة وأخرى حتى يستوفى جاز. والمرأة إذا ظاهرت فهو لغو لعموم المسائل المسكوت عنها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). ومن أفتاها من الصحابة بعتق رقبة احتمل أنه ليمينها لا لظهارها؛ لأنها حلفت فلا تدل الحادثة على المظاهرة للمرأة. شهادة المرأة وتفضيلها على الرجال في حالات وتفضيله في حالات: والمرأة تفضل الرجل في الشهادة في حالات، وتساويه في حالات، ويفضلها في حالات: فللمرأة في الشهادة ثلاث حالات: الحالة الأولى: ما اعتبر الشرع فيها شهادتها وقولها عن فعل نفسها المؤثر على الغير (¬1)، ولم يعتبر قول الرجل كذلك، وهي في شهادة المرأة أنها أرضعت فلانا وفلانة، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادتها وفرق بينهما كما في البخاري (¬2). ¬

(¬1) - قلنا «وقولها»: لأنها قد لا تكون في مقام الشهادة كدعوى المرأة إنها أرضعت فلانا وفلانة ولكن عمل بقولها عن نفسها، وكذلك لو شهدت على أخرى. وهذا اصطلاح فقهي متأخر وإلا فقد بوب البخاري على حديث المرأة التي زعمت أنها أرضعتهما مطلقا على قولها ذلك أنه شهادة فقال: باب إذا شهد شاهد، أو شهود بشيء. فقال آخرون ما علمنا ذلك يحكم بقول من شهد. قال الحميدي هذا كما أخبر بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة. وقال الفضل لم يصل فأخذ الناس بشهادة بلال. كذلك إن شهد شاهدان أن لفلان على فلان ألف درهم وشهد آخران بألف وخمس مئة يقضى بالزيادة. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 88 عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها فقال لها عقبة ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقد قيل ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره.

رياضة المرأة

وكان الأصل أنها إقرار ومعلوم أن الإقرار حجة قاصرة على النفس لا تتعدى إلى الغير. وكذلك لو شهدت بالبكارة ويثبت النسب للمولود بشهادة المرأة القابلة وهي واحدة. الحالة الثانية: ما ساوى الشرع شهادتها بشهادة الرجل، وهي الشهادة على الهلال للصوم والحج والقبلة ونجاسة وطهارة الماء وفي سائر الأمور شهادتها كالرجل ومن ادعى الفرق في غير شهادتها في الديون احتاج إلى الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة ولا يوجد. الحالة الثالثة: شهادتها على وثائق الديون المالية وهذه مما قد تنساها المرأة بكثرة لعدم كثرة ملابستها لها فجعل لها الشرع امرأة معها تذكرها (¬1) بالنص (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا) (البقرة: 282). رياضة المرأة: الرياضة أمر مباح للرجال والنساء، وعلى كل الالتزام بضوابط الشريعة. فتكون رياضة النساء في صالات مغلقة على النساء لا يشاهدهن رجل أجنبي مباشرة أو بتصوير. لأن الرياضة ترفيه، ويحصل في الترفيه ما لا يجوز أن يظهر على من يظهر على عورات النساء. والله يقول (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور: 30). وغض البصر هو في هذا ونحوه. ¬

(¬1) - قلت: وجعل الله شهادة الرجل العدل لا تقبل إلا برجل عدل آخر، استيثاقا للشهادة، وكذلك المرأة لا تقبل المرأة العدل إلا بامرأة عدل أخرى استيثاقا للشهادة، وفي صورة رجل وامرأتين عندي يجوز في حالة أن تضبط هي الحادثة بتوثيق لا تشك فيه فيكفي رجل وامرأة؛ لأن العلة في الآية واضحة. وقد فضلت المرأة على الرجل هنا في أن المرأة يجوز لها أثناء الشهادة أن تكون الشاهدة الأخرى معها يتذكران بخلاف الرجال فإن الشاهد يكون على حياله وانفراده.

ولتحريم ضرب الرجل (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31) وهذا أشد منه. ولأنها تضع ثيابها حال الرياضة، وهو جائز أمام النساء والمحارم لا على من يظهر على عورات النساء، وأما القواعد من النساء فيجوز لهن وضع ثيابهن أي حجابهن في رياضة أو غيرها شرط عدم التبرج بالزينة (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 60). والمقصود هو صيانة المرأة وحفظها وسمعتها، وهو من مقصود حفظ الأعراض في الشرع، فإذا تعارضت مع مباح قدم الأصل؛ فإذا تحقق ذلك بما تقدم بقيت المسألة الرياضية للمرأة على الإباحة لا ينقلها عن هذا الأصل ناقل إلا ما أدى إلى معارضة تكريم المرأة، وحفظها من الأذى. ودفع الأذى عن المرأة مقصد شرعي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59)، فدل على أن مقصود الشرع دفع الأذى عن المرأة لجعله علة (فَلا يُؤْذَيْنَ). فإذا تحققت هذه الأمور فللمرأة حينئذ ممارسة الرياضات بأنواعها من كرة قدم، وألعاب قوى وسباحة، وسباق بالقدم أو الخيل، أو السيارات، وأنواع رياضة الكرة، والتنس، والجولف، والتزلج، وركوب البحر، والغطس، والرماية، والقفز. وتلبس في الرياضة أمام من يباح لها إظهار زينتها أمامهم من النساء والمحارم لباسا ساترا من أسفل الركبة إلى أعلى السرة، وستر الثديين إلا لإرضاع أمام نساء أو المحارم. ولا تلبس ما يسمى بالمايوه إلا أمام زوج؛ لإظهاره ما لا يجوز إلا له، وعلى نحو ما تقدم تفصيله.

فقه حقوق الإنسان

فقه حقوق الإنسان * (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70) * (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13) * منصب الخلافة في الأرض لا يتماشى إلا مع الحرية؛ لذلك خلق الله الإنسان بمشيئة حرة، وسخر له كافة الإمكانات، فإما أن يكون بهذه الحرية وهذا المنصب أكرم خلق الله، أو يكون بهما أرذل ما في الكون.

يمكننا تعريف حقوق الإنسان بأنها

فقه حقوق الإنسان يمكننا تعريف حقوق الإنسان بأنها: كل أمر شُرِعَ دفعا لكل ضرر فاحش على الإنسان كإنسان، ومعاملتُه بكل ما يحفظ له مقصد التكريم الإلهي، بما يعتبر حفظا لضرورياته وحاجياته، وتحسينياته الإنسانية. سواء في أموره العادية أو الاستثنائية. وكل عقوبة لا تنزل به إلا بحق وعدل دفعا للضرر الكلي، وحفظا -كذلك- لضروريات وحاجيات المجموع. فحقوق الإنسان هي أمور تختص بأصل التكريم للإنسان وحفظ ضرورياته وحاجياته المتفق عليها في سائر الشرائع غالبا وما اختص به الدين الخاتم، ومدارها على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض والجماعة العامة والفطرة. ودين الإسلام هو دين الإنسانية جميعا، ولذا قام على رعاية حقوق الإنسان أعظم رعاية برحمة وحكمة ووسطية وعدل وإحسان. والأصل تكريم الإنسان لقوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70). وتتساوى الإنسانية في أصل الخليقة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). فلا عنصر ولا شعب ولا عرق ولا لون ولا نسب خير من آخر، فالكل مرجعه لآدم، وآدم من تراب «كلكم لآدم وآدم من تراب» (¬1). فلا عنصرية في الإسلام، ولا فضل لعرق على آخر في أصل الخليقة، ولا تفاضل إلا بالكسب، وهو كسب يدور حول الإصلاح في الأرض وترك الفساد وحفظ المقاصد الجامعة، ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم (5118) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عزوجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن». قلت: سنده صحيح وأخرجه أحمد برقم (8537) والترمذي برقم (3920). وله شاهد في كشف الأستار من حديث أبي سعيد الخدري بسند حسن صحيح برقم (1926)، وشاهد آخر برقم (3354). وفيه حسن العرني ضعيف.

ومن كسب التقوى حاز مرتبة الفضل عند الله. ويجب تكريم الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، وترك التأفف منها ولو كافرين، ويطاعان إلا في معصية الله (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8). ومن خالفنا في الدين ولم يحارب أو يظاهر فالإحسان إليه مطلوب كإنسان، لقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). والبر: هو الإحسان. والقسط: هو العدل. ويحرم في الحروب قتل المدنيين غير المقاتلين عموما، ونص على خصوص حرمة قتل النساء والأطفال والعباد ونحوهم من الفئات المدنية. وكل محايد ومسالم يحرم قتله كذلك (أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (النساء: 90). ويحرم المثلة بالجثث «نهى عن المثلة» (¬1). ودفنهم مشروع كما فعل صلى الله عليه وسلم في قليب بدر. وفرض حق الجار، والصاحب، وذي القربى بالنص (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) (النساء: 36). فالجار ذو القربى والجار من غير ذي القربى له حقوق بعلة الجوار ولو كان على غير دين الإسلام. وللمسلم أن يأكل في بيت مخالف في الدين إن دعاه، وعكسه؛ لفعله صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريج حديث فيه، وهو حديث الشاة المسمومة.

وله أن يبيع ويشتري منه (¬1). ويرهن عنده للدين (¬2). ويزورهم في المرض لفعله صلى الله عليه وسلم مع اليهودي كما ثبت في الصحيح (¬3). ويدعوه إلى الدين الحق. ويصل القريب ولو كافرا إلا حربياً في الحرب. ويحرم مع كل إنسان في بيع وشراء كل ما حرم في التعامل به مع مسلم؛ لعموم النصوص. ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارض. فيحرم الغرر، والغش، والكذب، وبيع ما ليس عندك، والقمار، والميسر، والربا؛ لعموم الأدلة. وتحرم السرقة، والاختلاس، والنهب، والغصب لمال المسلم وغير المسلم. وجميع المعاملات من بيع وشراء وشركات ومضاربات وسلم الأصل جوازها مع مسلم أو كافر، وهكذا كل المعاملات التجارية والاستثمارية. والتملك مكفول لكل إنسان بطرقه المشروعة؛ لأنه من ضرورات الاستخلاف في الأرض. وضمان ما أتلف من الأموال مكفول كذلك. ونهى الشرع عن القتل والنهب والسلب والإفساد في الأرض والسرقات والاحتيال والخداع. وفرض العقوبات العادلة للأمور الكبرى خاصة، كالتي تصادر حقوق الإنسان في الحياة، فالقاتل يقتل، والجاني على عضو يقاص به، العين بالعين والأنف بالأنف. ودعا إلى العفو الإنساني (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). وأمر بالستر وعدم الفضيحة على أحد. ¬

(¬1) - تقدم تخريج الحديث في ذلك. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

وأمر بحل الخلافات اجتماعيا بالصلح حتى لا تصل إلى القضاء فتحصل الفضيحة؛ ففي الحديث «تعافوا الحدود فيما بينكم»، وفي الآية (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10). ويحمي الأعراض من كل اعتداء جنسي، أو بدني، أو سب، أو قذف، أو لعن. ويرفع الضرر الخاص والعام. ويدافع عن المظلومين، ويحاصر ويمنع القمع والظلم والاستبداد. ويحمي المستضعفين. ويحرم السجن بلا حق؛ لأنه من الظلم. ويساوى بين الخصوم. ويحرم التعذيب للإنسان تحت أي مبرر، سواء كان أسيرا أو سجينا أو طليقا متهما أو غير متهم. فالتعذيب للإنسان محرم، بحرق، أو صعق، أو ضرب وصفع، أو منع من طعام أو شراب، أو بتجريد من الثياب، أو تعذيب بالإغراق، أو إدخال الوحوش عليه أو الهوام كالأفاعي والعقارب ونحوها، أو مساومته بعرضه وتهديده بنسائه وأطفاله وماله، أو التبريد والتسخين، أو التعذيب بمنع من النوم، أو بمنع زيارة الأهل له، أو جعله في وضعية تعذيبية كتعليق أو مد أو مط، أو جرح بمحدد، أو تقطيع شيء منه، أو إتلاف عضو منه، أو ثقبه بثاقب مسمار أو حديدةٍ أو مثقاب أو غيره، أو تعذيبه بالضوضاء الشديدة الصوتية أو شدة إضاءة. وتحريم هذه الأمور؛ لأنها بغي وعدوان (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، ولأنها من الفحشاء والمنكر، وهو محرم قطعي (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90)، ولأنها مفاسد وأضرار فاحشة، وهذا واجب الدفع وباطل أي تشريع به. ويحرم السجن الانفرادي؛ لأنه تعذيب نفسي مضاد للفطرة. وكل مضاد للفطرة محرم، لقوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). فما وافق الفطرة فهو الدين القيم.

ويحمي -الإسلام- حق المرأة في كافة حقوقها الإنسانية، والمالية، والنفسية، والسياسية، والاجتماعية، والعلمية (¬1). ولها حق اختيار الزوج، فلا تجبر كرها على من لا تريد، ويحمي حق الترابط الأسري والمجتمعي، فيُعقَد للمرأة بإذن أهلها، وحضور شهادة العدول، وإشهار العقد حتى لا تضيع الحقوق وتتفكك الأسر. وأمر فرضا بحفظ حقوق اليتيم، والشرائح الضعيفة من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ (¬2). ونهى عن استغلال اليتيمات، فلا يُتَزَوج بهن إلا إن أدي لها سائر الحقوق، ولو كان كافلا من قبل (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 220)، (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) (النساء: 3). وقوله تعالى (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) (النساء: 127). وأمر بإدخال اليتيم في ضمن الأسرة لا بإقصائه وقهره (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة: 220). وحرم التحايل على ماله بأي وسيلة من الوسائل (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6)، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10). ¬

(¬1) - وقد بسطنا هذا لأهميته في فقه المرأة وفقه الطفل والولد من كتابنا هذا. (¬2) - وفيه نصوص كثيرة جدا في القرآن والسنة.

الحرية لكل إنسان

الحرية لكل إنسان: وكل مولود يولد حرا، ولا يجوز استعباده، من أية ملة كان. هذه هي قاعدة الشريعة وأصلها ما روي عن عمر رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ والأرقاء حررهم الإسلام بإجراءات صارمة مفروضة، فكل عبد لَحِقَ بدار الإسلام مسلما فهو حر «أيما عبد لحق بنا مسلما فهو حر» (¬1). وكل رقيق عند مسلم له حق الحرية بتعويض مناسب مُقَسَّط كتعويض لصاحبه عن خسارة ماله؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار. وفَرْضٌ عليه قبول المكاتبة ديانة، أو قضاء. وفَرْضٌ إعانة صاحبه له بعطاء مالي بالنص (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33). وكل امرأة رقيق: لها ذلك الحق، فيكاتبها مولاها وجوبا إن طلبت. ويزاد في أحكامها أنه لو وطأها مولاها فحملت فهي أم ولد حرة، وولدُها حر. وجميع أولاد الرقيق أحرار على الأصل، ومن قال إنهم مملوكون أرقاء فقد جاء بشرع من عنده بلا حجة ولا برهان. ولا أعلم نصا من الكتاب ولا من السنة صحيحا صريحا في ذلك، بل كل مولود يولد على الفطرة، ومن الفطرة الحرية. ¬

(¬1) - قولنا «فكل عبد لحق بدار الإسلام ... » فيه أحاديث حسنة صحيحة، فمنها ما أخرجه الإمام أحمد برقم 2229 عن بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إلينا من العبيد فهو حر فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وسنده من طريق متهم وهو شيخه وكان يقويه. قلت: ولكن له متابعات وشواهد، فمنها ما أخرجه مسدد في مسنده وأحمد بن منيع والموصلي (إتحاف الخيرة المهرة رقم 4542) بطرق صحيحة عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وهذا سند حسن في الشواهد. روى الإمام مسلم لحجاج مقرونا لضعفه وللاختلاف فيه. قلت: وله شاهد عن علي في الأوسط لابن المنذر برقم 3274 وسنده حسن. وشاهد صحيح من حديث موسى بن عقبة لما سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1936 وسنده حسن إلى موسى بن عقبة.

ومن اعتدى عليه بضرب أو جرح اقتص بالنص (¬1)، وهو حرٌ. ومن قتله قتل به؛ لعموم (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45). ومن لطمه فهو حر للنص «من لطم عبده فهو حر» (¬2). ومن ظاهر من زوجته، أو قتل خطأ، أو جامع في نهار رمضان؛ فالواجب عليه: أولا: عتق رقبة، ثم ما يليها حسب النصوص. ومن حلف فأراد أن يكفر فمن كفاراته عتق رقبة، وهو أول ما نص عليه من أنواع الكفارة. وتبين من هذا أن الإسلام حارب العبودية والرق، ودعا إلى التحرر الجبري (فَكَاتِبُوهُمْ)، وهذا أمر جبري عام. وكل بلاد فتحت فلا يحق سبي نسائها ولا رجالها؛ لعدم الدليل النصي على ذلك من القرآن والسنة ولا الفعلي من الفاتحين. بل يتعامل بالمثل مع الأنظمة الأخرى في حال حضور النساء والذرية المعركة، أو تسلم بفدية، أو يمن عليها. ولا تقتل لعموم الآية (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) (محمد: 4). وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك في سبايا هوازن (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «ومن اعتدى عليه بضرب ... » قلت: الأصل هو القصاص لعموم الأدلة، ولم يأت نص صريح من الكتاب أو السنة الصحيحة يبين عدم القصاص، بل النفس البشرية واحدة، والحديث الذي ذكرناه «يقودكم بكتاب الله» تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 4388 عن ابن عمر أنه أعتق مملوكا وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه». (¬3) - قولنا «وقد فعل ذلك في سبايا هوازن .. » القصة مخرجة في صحيح البخاري برقم 2307 عن عروة أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بهم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا فإنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس قد طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.

فالأصل فيه: أنه تعامل بالمثل، مع حق العفو، والفداء، لا القتل بالنسبة للرجال وللنساء والذرية، واحتماله للرجال إن أُعْدِمَ الأسرى في الطرف الآخر (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194). ويحتمل العفو (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). فإن لم يحصل فداء للنساء والذرية ولم تعف الدولة وتمن عليهم فإنهم يكونون مواطنين في الدولة المسلمة، فإن استرقت الدولة المقاتلة الأسرى من النساء والذرية أو المقاتلين تعاملت دولة الإسلام بالمثل، ويكون قد فرض عليهم الأمر واقعا وشرعا (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، مع احتمال العفو والمن. ويكون للمرأة سائر حقوقها إن تزوجها. ويحق لها كذلك طلب المفاداة بالمكاتبة، وفرضٌ قبوله بالنص (فَكَاتِبُوهُمْ). وإن أراد وطأها فأبت حرم إكراهها؛ لأنه عقد بالرضى لا بالغصب. أما شراء الرقيق من السوق: فإن اشتراه مسلم فادعى أنه حر وجب إطلاقه إن بين البينة. وكذا إن كان ذا قرابة للمشتري للنص «ومن اشترى ذا رحم فهو حر» (¬1). وإلا فله طلب المكاتبة وفرض قبولها والإعانة للنص. وكل ما سبق كذلك. وجميع ذريات الأرقاء أحرار، فإذا انقرض الجيل الأول انقرض الرق في الإسلام بمئة عام. ولم يبق إلا من خلال بيع الرقيق من قبل الكفار فيشتريه مسلم، فيجري فيه ما سبق من الأحكام وعلى رأسها تحريره بالكتابة. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 3951 بسند صحيح عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال موسى في موضع آخر عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ملك ذا رحم محرم فهو حر».

حق السكن لكل إنسان

حق السكن لكل إنسان: ولكل إنسان حق السكن بتملك أو إيجار أو تبرع، فإن لم يجد شيئا من ذلك وجب دفع الضرر عنه بإيوائه. وهو واجب فرضي كفائي على الناس والدول. والأصل -أولا- وجوبه على الحكومات والسلطات؛ لأنها قائمة على التصرف في الناس بالمصالح العامة من المال العام، وهذه المصلحة من أهمها. والبشرية كلها مكلفة بحقوق الإنسان: وقولنا «على الناس»: يعم المسلم والكافر؛ لأن الله أمر الجميع بذلك وهم عبيده وعليهم طاعته، ولورود الذم على الكفار في عدم الإطعام والرفق بالشرائح الضعيفة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1 - 3)، فحرم الله التكذيب بالدين كما حرم معه في سياق ونص وموضع واحد عدم التعامل بإنسانية مع الإنسان في حاجاته الإنسانية، فاليتيم بحاجة إلى الرفق لا الدفع والإغلاظ، والمسكين بحاجة إلى سد جوعه وحاجته. وقال عن أهل النار من الكفار (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المدثر: 42 - 46)، فدل على تكليف الإنسانية جميعا بحقوق الإنسان على العموم؛ لأنه سئل عن كفره وعذب به، وسئل عن تركه إطعام المساكين وعذب به. وقال تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل: 88). وزيادة العذاب فوق عذاب الكفر؛ لتركهم الإصلاح في الأرض دليلٌ على التكليف به على وجه عام للبشرية، ومن أهم الإصلاحات رعاية حقوق الإنسان الضرورية والحاجية والتكريمية. وأمر الله الناس جميعا المسلم والكافر بالإغاثة العامة للإنسان حال الكوارث الإنسانية كالمجاعات (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد: 11 - 17).

الجرائم ضد الإنسانية

وهذا خطاب في السورة يخاطب به الكافر الذي لا يفعل ذلك (¬1)، كما هو أمر للمسلم بفعله. وقال تعالى (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215). وهذا عام بلا تخصيص، ومطلق بلا تقييد. وقال (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) (النساء: 36)، وهذا بلا تقييد. وثبت في الصحيح تصدق عائشة رضي الله عنها على اليهودية (¬2)، وقال سبحانه (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فأمر بالبر والقسط. وحقوق الإنسان الإنسانية هي من البر والقسط. الجرائم ضد الإنسانية: والجرائم ضد الإنسانية مصنفة في أعلى مستويات الجريمة، وهي من أنواع الفساد في الأرض الذي تعد الحرابة جزءاً واحداً منه، وهي عقوبة قطع الطريق (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وجرائم الإبادة كالإبادة الجماعية، وقتل المدنيين المسالمين العزل، والإرهاب في الأرض على المدنيين العزل، وجرائم الخطف والتعذيب الجسدي المنكر، وقصف الأحياء السكنية المدنية والمستشفيات وزرع الألغام إلا في منشأة عسكرية للعدو في حال الحرب عند الحاجة لذلك، كل هذا مما يدخل في الجرائم المصنفة من الفساد في الأرض. ¬

(¬1) - لأن السياق في مطلق الإنسان المتمرد على الشرع كفرا (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (البلد: 5). (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1049 عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك ... وفي رواية أحمد برقم 24564، أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر. قلت: ومعنى تسألها في الحديث أي: تستطعمها كما في رواية أحمد.

حق العمل المعيشي لكل إنسان في أي مكان على الأرض مكفول مباح

وللقضاء النظر بحسب النص القرآني المتنوع العقوبة في إنزال العقوبة المناسبة بالحادثة. حق العمل المعيشي لكل إنسان في أي مكان على الأرض مكفول مباح: وهو من الحقوق الضرورية التي لا بد منها في الأصل لكل إنسان. وقد فرضها الله قسمة بين الناس بحسب كسبهم وأرزاقهم المكتوبة، وأسبابهم المشروعة (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الزخرف: 32). والعمل المعيشي هو من مقاصد الحِكَم لوضع الأرض وما فيها على الإباحة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). وقال صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول» (¬1). وتأثيمه دليل على وجوب وسيلة تدفع ضياع من يعول الشخص ووسيلته -عادة- العمل المعيشي. ومن لم يجد عملا للمعيشة له ولمن يعول وجب على الناس دفع حاجته، إما بتوفير عمل، أو بكفالة واجبة؛ لأن دفع الضرر واجب على النفس والغير، ووجوبه لا يثبت شرعا إلا على قادر على دفع الضرر. وإذا عجز الشخص عن دفع الضرر المعيشي عن نفسه وعياله وجب دفع الضرر عنه على قادر في المجتمع. والدولة مسئولة عن ذلك على وجه عام للشعب؛ لأنها من أعظم المصالح العامة، وتحقيق المصالح العامة واجب عليها وكذا وسائلها. فوجب عليها التنمية الاقتصادية التي تُوجِدُ سوق عمل للناس، فإن لم تفعل ظهرت البطالة وعم الفقر ونتجت المفاسد الكبرى فينهار التعليم، ويظهر الفساد المالي والإداري، وتضعف الدولة علميا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

هذا من الجانب السياسي، أما من الجانب الإنساني فعلى الدولة أن توفر العمل المعيشي، أو تطعم الناس، أو تعتزل، وهذا مما قرره عمر كما في البخاري (¬1). وعلى الدول عامة أن تتعاون في إيجاد سوق العمل المعيشي؛ لأن هذا من الحق الإنساني المشترك العام؛ لأن الله وضع الأرض للإنسان ككل، يشترك فيها الجميع في حق المعيشة بالفرض الإلهي السنني (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الزخرف: 32)، ويقول (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ) (الرحمن: 10 - 11). فهذه للناس جميعا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). فهي موضوعة على الاشتراك الإنساني العام في ضروريات وحاجيات المعيشة. وقد كان الخلفاء يسهلون للتجار دخول بلاد الإسلام من كافة الديانات والجنسيات، حفاظا على مردوده المصلحي العام في السوق، ومن أهم ذلك تشغيل العاطلين؛ مما يوفر المعيشة للشعب. وكلما زادت فرص العمل المعيشي زادت المصالح العامة للإنسان، والوطن، والدولة، والعالم أجمع. ولا يجوز للدولة أن تمنع الناس من دخول بلادها بحثا عن العمل المعيشي؛ لأنه منع من حق مشروع مباح إلهي (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). ويجوز لها اتخاذ إجراءات تنظم ذلك من غير تعنت بشروط ونظام يخدم المصالح الإنسانية والمصالح العامة. ويجب على دول العالم التعاون في إرساء هذه الحقوق لعموم قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2). والتعاون على الإثم والعدوان محرم على الناس جميعا، ومقابله مشروع، وهو التعاون على المصالح ودفع المضار. ولقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ومن البر والقسط التعاون على تسهيل ما يقيم البر والقسط من وسائل العمل المعيشي. ¬

(¬1) - حديث هني تقدم تخريجه.

ولعموم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهذا يدل على التعامل بالحسنى بين الخلق في الأصل إلا ما استثني من باغ ومعتد. وقد اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في أمور عامة تخدم المصالح العامة للمدينة، وكانت الأسواق بين المسلمين والكفار من المشركين وأهل الكتاب جارية كسوق بني قينقاع وعكاظ وغيرهما. والحركة التجارية بين الشعوب أمر من النعم الربانية العامة على البشرية التي بينها الله امتنانا في قوله (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 1 - 4)، وهذا ساقه في سياق الامتنان. فيجب على الإنسان أن يحفظ النعم شاكرا لله، وحفظُها من شكرها. ومِنْ كفر النعمة: منعها أو عرقلتها وكفر النعمة محرم، وهو من البغي في الأرض. وأمر الله بالتبادل المصلحي والمنافعي الضروري المشترك، وحرم منعه، وأصل هذا تشريع حكم الماعون. قال المؤلف غفر الله له: وتعريف الماعون الآن هو: تبادل كل ما يحتاجه الإنسان من الإنسان ولا يضر أحدهما. فمن منعه فهو مرتكب لجرم ولو كان كافراً (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1 - 3). فإذا كانت هذه الآيات فسرت في زمن سالف بحسب واقع المكلفين حال النزول بمنع الحبل، والقدر والفأس (¬1)؛ فمنع ما المجتمع الإنساني بحاجة إنسانية له محرم من باب أولى، كمنع الدواء، والتعليم، والعمل المعيشي الضروري. والمحرم في الماعون منعه مع أنه بلا عوض. ¬

(¬1) - في ذلك حديث حسن أخرجه أبو داود برقم 1416 والبزار برقم 1719، واللفظ له عن عبدالله قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلو، والفأس، والقدر.

فكيف بمنع ما هو من ضرورات وحاجات المجتمع الإنساني، خاصة وهو بمعاوضة لا تبرع. وحق الأجر العادل مرعي شرعاً: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). وهذا نص عام يدخل فيه ضبط سياسة الأجور؛ فيجب فرض أجر عادل، ويحرم الغبن الفاحش؛ لأنها معاوضة، والغبن الفاحش فيه ضرر فاحش وظلم، وهو محرم يوجب بطلان الأجرة هذه، وفرض أجرة عادلة مماثلة لمثله سواء كان كافرا أو مسلما؛ لمعاملة الشرع يهود خيبر بشطر ما يخرج منها، وهو ما كان يتعامل به المجتمع من المسلمين وغيرهم آنذاك (¬1). وحق التنقل لكل إنسان في عموم الأرض مكفول: سياحةً وبحثا ونظرا وتعلما ومعيشة، وأي مصلحة معتبرة لا ضرر منها على الآخر (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد: 10). فالسير في الأرض حق إنساني مشترك عام لا يحق لأي دولة أو جهة منعه عن شخص إلا بمبرر معتبر كالضرر؛ لأن الضرر يزال، ولا ضرر ولا ضرار، وهي ضرورة تقدر بقدرها. ولا يجوز الخضوع لأي إملاءات من دول مهيمنة تفرض عرقلة السير المباح في الأرض والتنقل على جنس معين أو اتباع دين معين بغيا وعدوانا وتعنتا. لأن هذا حق إنساني من خالق الإنسان والأرض، ولا ينزع هذه الهبة إلا هو، ولكن الضرورات الضارة تقدر بقدرها العادل (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 173). فشرط في الاضطرار عدم البغي والعدوان، وأكثر العرقلة على أهل الإسلام في حركتهم الإنسانية الدولية على الكوكب هو من البغي والعدوان والعدائية الدينية (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109). فإذا حصل ذلك العدوان فقد شرع الله رد العدوان بالمثل (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191). ¬

(¬1) - قولنا «آنذاك»، أي معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، والحديث في صحيح مسلم برقم 4048 عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها.

ويمنع التمييز العنصري تحريما

(وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39). وهذا عرف دولي مقر معروف بسياسة المعاملة بالمثل. ويمنع التمييز العنصري تحريما: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1). وفي الحديث «كلكم لآدم وآدم من تراب» (¬1). ويحرم الاضطهاد والاستضعاف الطائفي (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4). فسمى عمل فرعون الاضطهاد الطائفي فسادا، وهو في أعلى أنواع الجرائم. والاضطهاد الديني محرم: لعموم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256). ولقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج: 10). والتعايش السلمي بين سائر البشر إلا لمحارب مقاتل مشروع (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 - 9). والإكراه في اعتناق الدين منهي عنه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256). والقتال واجب لحماية المضطهدين في دينهم من أهل الإسلام (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193)، وجعل الفتنة عن الدين الحق دين الإسلام أشد من القتل (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة: 191)، وأذن لمن فتنهم المشركون ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المساواة العادلة

واضطهدوهم وأخرجوهم من المهاجرين بالقتال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 39 - 40). ويجب حماية الأقليات الدينية المستأمنة، ويحرم الاعتداء عليهم وظلمهم بأنواع من الظلم أو اضطهادهم «من قتل معاهدا فعليه لعنة الله ... » (¬1). وأوجب جماعة من فقهاء أهل الإسلام وهم الحنفية أن من قتل معاهدا قتل به. وقولهم أقرب إلى الأصول الكبرى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45). وحديث «لا يقتل مسلم بكافر». أي بكافر حربي، هكذا أولوه، وهو وجه قوي. وقول عمر فيمن أشار إلى محارب فَفَهِم منه الأمان فلما جاء قتله أنه يقتله به (¬2)، دليل على ذلك. وللدولة منعهم من الوظائف السيادية؛ لأنها ليست من حقوق الإنسان الإنسانية، بل هي من حقوق السيادة الدينية والوطنية. وكل دولة تشترط الوطنية واعتناق دينها الرسمي لهذه الوظائف الكبرى كالرئاسة وغيرها من كبار الوظائف السيادية والسياسية، لا لأنه تمييز ديني أو عنصري، بل لأنه حق سيادي للشعب الذي اختار التوافق على هذه الشروط، واختار اعتناق الدين الذين يمنع الوظيفة السيادية على غير أتباعه في وطنهم، وهذا من حق أي شعب؛ مراعاة لمصالحهم العامة. والإسلام قضى بشرط ولاية المسلم على المسلم في الوظائف السيادية، ومنع غير مسلم. وهو ما يجرى عليه الغالب من التعامل الدولي الآن. المساواة العادلة: والمساواة العادلة، وحفظ الحقوق، وإيتاؤها، وعدالة العوض، والجزاء في الدنيا والآخرة أمور مقررة شرعا. والقاعدة الشرعية المستفادة من تصرفات الشرع: أن من تساووا في الواجبات تساووا في الحقوق، وهي قاعدة العقل والعدل. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم نقله عن ابن قدامة في المغني.

والأمن والاستقرار للإنسان في العالم هو الأصل

فإذا تفاوتت الواجبات تفاوتت الحقوق. وخلاف هذا خروج عن العقل والعدل والنقل والعادة البشرية والسنن الكونية والإلهية والفطرة. فهل يعطى الخامل كالعامل، والمخترع البارع كالبليد الجاهل، والمصلح في الأرض كالمفسد فيها؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9). والأمن والاستقرار للإنسان في العالم هو الأصل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) (البقرة: 208) وهذا أمر دال على الوجوب في الالتزام بالسلم للكافة، فمن اعتدى بعد هذا رد عدوانه بمثله، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194). ويحرم العدوان ابتداء (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). والدفاع عن النفس مشروع (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39). والإعداد للعدو المحارب فرض كحق للأمة ولإيجاد توازن الأمن والاستقرار العالمي والإنساني (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). وإنقاذ المستضعفين المضطهدين من المدنيين المسالمين واجب شرعي ولو بالقتال (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (النساء: 75). فهذا أمر بالقتال لإنهاء الاستضعاف والعلو والهيمنة على المدنيين المسالمين العزل المستضعفين ظلما وعدوانا. ويجب مساندتهم ونصرتهم بكافة الوسائل التي تدفع الطغيان والعدوان عليهم. وكل من أخرج من أرضه وولده شرع له القتال (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (البقرة: 246).

ويكون بالمثل (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (البقرة: 191). ومن بدأ بالقتال عدوانا شرع ردعه ولو بالقتال (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) (التوبة: 13). فعلل الشرع مشروعية القتال ببدء العدو ذلك (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (البقرة: 191). وحق اللجوء السياسي: مكفول لكل إنسان في الأصل، يقول تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6). فهذا نص على وجوب منح الاستجارة لمن طلبها ولو مشركا، ويدخل فيه حق اللجوء السياسي. وغايتها (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6)، وهذا غاية الأمان والرعاية للاجئ والمستجير. ولا يسلم لبلده إن كان مستجيرا منها، بل لمأمنه أينما كان. ويعرف مأمنه بإخباره عن نفسه؛ لأن المكان الآمن للشخص يرجع فيه إلى معرفته الشخصية عادة. وقد يكون مأمنه في الدولة عموما، أو في مكان ما فيها، أو مكان وبلد من العالم؛ فيوفر ذلك للمستجير ولو كافرا. ويجوز للمسلم اللجوء السياسي إلى دولة غير مسلمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في جوار المطعم وكان المطعم كافرا (¬1). والحق الصحي للإنسان: وحفظ النفس، وإحياؤها، وإغاثتها مطلوب شرعا، قال تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). ¬

(¬1) - القصة صحيحة ذكرها أهل السير وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 324) وفيها (حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي وقد ذكر بن إسحاق القصة في ذلك مبسوطة وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل وفيه أن المطعم أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة فبلغ ذلك قريشا فقالوا له أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك).

وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم «زار يهوديا في مرضه» (¬1). فدل على أن زيارة المريض حق إنساني أقره الشرع، ولا يخضع لعرف أو يقيد بطائفة. والنص دال على أن إحياء النفس البشرية والحفاظ عليها مقصد عظيم؛ لأنه عَادَلَ إحياء نفس واحدة بإحياء البشرية جميعا، وهذا غاية الإصلاح، وإتلافَهَا بإتلاف البشرية، وهذا غاية الإفساد. وحفظها وإحياؤها من المقاصد الكبرى الشرعية التي يجب الحفاظ عليها قطعا ضروريا بالشرع والسنن، وهي حفظ الدين والعقل والمال والعرض والنسل والجماعة والفطرة. وكل الوسائل الصحية والطبية الخادمة لحفظ النفس واجبة وجوبا كليا؛ لأنها وسائل المقاصد ولا يتم المقصد إلا بها. فيدخل في هذا صناعة الأدوية، واللقاحات، وحملات التوعية، والمعاينة، والتطعيم، وإنشاء الجامعات ومراكز البحث، وإغاثة المناطق الوبائية، ومنع وسائل المرض ونشر ثقافة الصحة، وإقامة جمعيات ومؤسسات ومنظمات محلية ودولية تعتني بذلك؛ لأنها وسائل لحفظ ضروري وخدمته، فتجب وجوبا كليا بالنظر الكلي المقاصدي. وتجب وجوبا جزئيا فيما لا يتم حفظ النفس إلا به، استقلالا أو استكمالا، كاللقاحات للأطفال، وإغاثة المناطق الموبوءة والنازحين، وإسعاف المرضى وجرحى الحروب، وإنقاذ الغرقى، وإغاثة أهل الحوادث والكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير وجفاف وفيضانات ومجاعات. وكذا إنقاذ ما تخلفه الحوادث في وسائل المواصلات والنقل الجوي والبحري والبري بأنواعه، وإغاثة النازحين من الحروب والصراعات والكوارث، وما إلى ذلك. فهذه مطلوبة شرعا كونها من وسائل حفظ النفس. وهو حق إنساني مشترك عام، ومن الإحسان العام (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195). ومن إحياء النفس المقصود بالنصوص (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

المساواة العادلة واختصاصات المجتمعات الإنسانية

ويحرم استعمال كل ما يؤدي إلى إهلاك الأنفس من السموم والأسلحة البيولوجية والجرثومية والنووية. ومن اخترع هذه الأسلحة فهو آثم؛ لأنه سن سنة سيئة عامة للفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل. وإذا اتفقت جميع دول العالم بلا استثناء الدول الكبرى أو غيرها على إتلافها والتخلص منها وعدم صناعتها وجب الالتزام بذلك على أهل الإسلام وغيرهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: 208) فإن كان انتقاء فلا يلزم. والتصريح لدول محدودة ومنع غيرها سياسة إجرامية مصنفة في الجرائم الكبرى في الأرض؛ لأنها وسيلة له، ووسيلة إلى العلو والهيمنة لجانب، والاضطهاد والإذلال والاستضعاف لجانب آخر، وهي سياسة الفساد والمفسدين (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4). المساواة العادلة واختصاصات المجتمعات الإنسانية: المساواة العادلة في الحقوق والواجبات والحريات من مقصودات الشرع؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وهذا منه (¬1). وكل إنسان مضبوط بمجتمع الإنسان، ولكل مجتمع وشعب وأمة حقوق لا يمكن تجاوزها، وكلها تدور على حق حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، والجماعة، والدولة. ¬

(¬1) - وقلنا «العادلة» لأنه قيد هام جدا ضابط لأمور كثيرة، فمن أراد الترشح لرئاسة دولة بلا كفاءة ولا شروط توافق عليها الشعب في نصوص العقد الدستوري؛ فلا يحق له الترشح بمسمى حقوق الإنسان، فالدول الكبرى وغيرها تشترط أن يكون مواطنا يحمل جنسيتها، معتنقا لدينها، وهذا شرط تطبقه كافة الدول ويزيد بعضها شروطا على زوجته وأسرته، وهذه الشروط من الأمور السياسية المباحة التي جعلتها الدول من مسائلها السيادية التي تخدم مصالحها العليا ولا تمنع منه الشريعة؛ لأنه شرط يخدم مقتضى العقد، ومقتضى العقد هو المصلحة العامة. وهكذا يضبط قولنا «المساواة العادلة» في الأمور التي قد يعتبرها البعض من حقوق الإنسان وليست كذلك، لعدم بعض الشروط الصحيحة، وقد جاء أبو ذر يطلب الولاية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له «إنك ضعيف»، فمنعه. ومن ادعى أنه يحق له استعمال مصطلح حقوق الإنسان وحرياته للإضرار بالآخر فقد جنى على نفسه أولا؛ لأن الغير سيعتدي عليه بنفس الدعوى. ولجاز حينئذ أن يبني شخص في الطريق العام، ولجاز لآخر أن يعتدي على آخر.

العلل الخمس المترتب عليها الحقوق والواجبات

ولا يحق لأحد في مجتمع أن يضر بحقوق المجتمع الآخر المتوافق عليها بينهم؛ لأن كل أمة لها حقوق، فما اشترك بين الناس جميعا من الحقوق وجب رعايته من الجميع، وهي الحقوق الإنسانية العامة. وما اختصت به بعض المجتمعات والأمم من الحقوق الخاصة فلا يحق لأحد العدوان عليها. ولكل إنسان حق الدفاع عن نفسه من البغي والعدوان لقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39)، ولحديث «من قتل دون دمه وعرضه وماله فهو شهيد» (¬1). ولكل إنسان حق رد العدوان والبغي المماثل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). ولا يحق لأي إنسان العدوان والبغي على أي إنسان آخر (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190). العلل الخمس المترتب عليها الحقوق والواجبات: والحقوق والواجبات والحريات في بني البشر جميعا مرتبطة بخمس علل باعثة على ذلك: - العلة الأولى: الإنسانية. - العلة الثانية: الوطن والمواطنة. - العلة الثالثة: الأهلية، وهي: فطرية وشرطية. - العلة الرابعة: الدولية. - العلة الخامسة: الدينية. أما العلة الإنسانية: فيجب بها حفظ الضرورات والحاجيات وتكريم الإنسان كإنسان، فله حق السكن والطعام والشراب واللباس والأسرة وصيانة السمعة وحق التعلم والمعاملات التجارية والتنقل في الأرض ووسائل الحياة من الحاجيات. وأما العلة الوطنية: فهي بحسب التوافق الوطني الأغلبي أو الإجماعي وشروط الترشح للولايات. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وأما العلة الدولية: فكل ما ترتب على التعامل السياسي من حقوق المعاهدات والأمان والتكتلات والأحلاف. وأما العلة الأهلية: فهي في شروط الأعمال والعقود أو الوظيفة والإجارات ونحوها. وأما العلة الدينية: فهي كل حق ترتب على كونه مسلما أو غير مسلم. والعلل الأربع: الوطنية، الدولية، الأهلية، الدينية، لا يحق لأحد أن يطالب بحقوقها بعلة حقوق الإنسان العامة؛ لأن هذه حقوق خاصة لمن فيه هذه العلة الخاصة. أما العلة المشتركة فهي الإنسانية، فلها حق عام مشترك ترعاه الشرائع والأعراف والعقول.

فقه اليتيم

فقه اليتيم * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220) * «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» متفق عليه * حقوق اليتيم والشرائح الضعيفة من المسائل الغاية في الأهمية في التشريع * الجمعيات والمؤسسات وبيوت اليتيم ودور المسنين والشرائح الضعيفة لا بد أن تقوم على تمام الحفظ والرعاية وواجب حينئذ دعمها وتطويرها والرقابة عليها * نرى أن تعليم اليتيم إلى المستوى الثانوي الفني أو الجامعي هو من تمام كفالته الشرعية؛ لأنه يتمكن حينئذ من الإدارة الراشدة لنفسه وحياته وشعوره وبلوغ الرشد قصده الشرع غاية في إنهاء النظر (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6)

قاعدة التعامل مع اليتيم في دينه ونفسه وماله وعقله وعرضه وحاجياته وتحسيناته

فقه اليتيم اليتيم هو: من مات أبوه قبل البلوغ. وفرضٌ حفظ دينه، ونفسه، وماله، وعرضه، وعقله. والولاية عليه ولاية نظر لا ضرر. ويحرم قهره بأي نوع من القهر القولي أو الفعلي، ولو بإشارة كهمزٍ، أو لمز، أو سخرية، أو بتنقص؛ لعموم مُتَعَلَّق (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى: 9). أي لا تقهره في أي أمر؛ لأن حذف المعمول يدل على العموم. ودعُّه باليد من الكبائر للنص (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون: 1 - 2). ويقدم إطعامه في الاختيار، أو الاضطرار على غيره من المساكين، ولو متربة لتقديم اليتيم في الذكر في قوله تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 14 - 16). وشرط ذلك كونه فقيرا فاجتمع عليه اليتم والفقر، ولذا قدم. ووصفه بذي مقربة، أي من ذوي القربى يدل على آكدية الوجوب في اليتيم والفقير من ذوي القربى. قاعدة التعامل مع اليتيم في دينه ونفسه وماله وعقله وعرضه وحاجياته وتحسيناته: وفرضٌ في التعامل معه العمل بقاعدة (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220)، (وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) (النساء: 127)، (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) (النساء: 6)، (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة: 220)، (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا) (النساء: 6)، (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (النساء: 2)، (وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) (النساء: 2)، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10). فهذه الآيات نصوص تفيد في قواعد التعامل مع اليتامى، والجامع لهذه الآيات هي الآية الأولى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220).

وهذه الآية نص عام في التعامل مع اليتامى بالإصلاح في دينهم، وأموالهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وعلمهم. فأما دينه: فيعلم ما أمر الله به من الفرائض والآداب والأخلاق ويؤمر بالصلاة لسبع، ويؤدب بما ينفعه في أموره الدينية. وينظر له في دينه ما ينظر إلى الولد النسبي، وإنما قلنا كالولد النسبي في النظر؛ لأن الدين النصيحة (¬1). ولأنه «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬2). ولأن الأمر في قوله تعالى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220)، راجع إلى كل إصلاح عرفي مع أمثاله في السن، فالكافل يعامله كأمثاله من أبنائه في كل ما يصلحه من تعليم وتربية ودربة على الالتزام بالواجبات والسنن، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ويحذره من الشرك والمعتقدات الفاسدة، ويأمره بالبر وإيتاء ذي القربى حَقَّه، ويأمره بالتواضع، وترك البطر، والكبر، والفخر في قول أو فعل: كالفخر بالمال، أو النسب، أو الحطام، ويأمره باجتناب الاختيال مشيا، والتصعير للناس، ويأمره بالقصد في المشي وغض الصوت، وترك الكسل والتسويف (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ* وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 17 - 19). ويُعَلَّم بالقدوة قيام الليل والذكر والآداب كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل مع ابن عباس وابن مسعود (¬3)، ويعلم فرضا التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم؛ لأنها من أعظم مصالحه الشرعية التي تدخل في الأمر (إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 138 عن ابن عباس قال بت عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل فلما كان في بعض الليل قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا وقام يصلي فتوضأت نحوا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فحولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ قلنا لعمرو إن ناسا يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.

وأما حفظ أموال اليتامى: فإصلاحها بسائر ما يصلحها واجب؛ لأنه مقتضى الأمر. فيحرم بيعه إلا بغبطة ظاهرة لليتيم. ومنه جواز استثمار أموال اليتيم في كل استثمار مباح يغلب فيه الربح، وقد يجب إن لم يتم إصلاح ماله إلا بذلك. وهل يأخذ له أجرة في ذلك؟ إن كان الاستثمار في شركات وبنوك استثمارية فإن صافي الربح لليتيم لا يأخذ منه الولي شيئا. وينفق منه على اليتيم نفقة قصد وتوسط بالمعروف، فإن أسرف في النفقة على اليتيم من مال اليتيم فمحرم؛ إذ يحرم أن يسرف الشخص في نفقة نفسه من ماله، فالأولى الحرمة في الإسراف في مال الغير ولو عليه كصرف على اليتيم بإسراف من مال اليتيم. ولأن الإسراف محرم؛ لعموم (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141)، ولأنه غش وضرر على اليتيم فلا يجوز «من غش فليس منا». ولأنه خلاف الإصلاح (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). أما إن كان مال اليتيم في يد ولي اليتيم لا في بنك، أو شركة استثمارية: فإنه يجب عليه استثماره لليتيم في كل تعامل مباح يغلب فيه ربح ويندر فيه خسارة. والوجوب إن كان الاستثمار لا يتم حفظ مال اليتيم إلا به. ويدفع من المال أجور الموظفين العاملين في مال اليتيم. وكذا إن لزمه إيجار عقار أو ناقلة، وأجور تراخيص، وما يلزم به من الدولة كجمارك أو ضرائب وزكوات ونحوها. وصافي الربح يرجع كله لليتيم وهل للولي شيء من ذلك؟ الحق لا مانع إن كان فقيرا وإلا امتنع للنص (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 6). وهو هنا أكل بالمعروف؛ لأن العرف جار على أن المضارب يأخذ له من الربح، وولي اليتيم

هنا ضارب في مال اليتيم، فلا مانع من أخذه من الربح ما تعارف عليه الناس في ذلك بدلالة الآية. ويحرم رهن مال اليتيم، أو إقراضه، أو التبرع منه والتصدق ولو للجهاد. ولا يلزمه شيء من الحقوق إلا الزكاة على الراجح؛ لأن الأصل فرض الزكاة على كل مال. ومن قال إن الزكاة تكليف، والتكاليف لا تكون إلا على بالغ واليتيم غير بالغ فلا وجوب عليه، فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتلف مال اليتامى لما طرأ عليه الحرمة لما حرم الخمر فسألوه عن خمر كان ليتامى هل يخلل؟ فقال: لا، أريقوه (¬1). فأتلف مال يتيم يمكن أن ينتفع به بالتخليل فيصير مالاً. فنظر إلى المال لا إلى مالكه اليتيم غير المكلف. فتعلقت الأحكام بالمال لا بالتكليف. وكذا يحرم في مال اليتيم الربا، وهو تكليف. وإن تزوج اليتيم مراهقا قبل البلوغ لحاجة وجب في ماله النفقة، وألزمه بها الحاكم وهو غير مكلف. وكذا يجب في ماله غرامات المتلفات والديات والأروش التي ارتكبها. فوجدنا الأنواع من التكاليف لازمة عليه في ماله وهي: - التزام اجتناب المنهيات كالربا. - إتلاف ماله إن كان حراما قطعيا كالخمر. - التزام دفع الواجبات كالنفقة على الزوجة. - التزام التعويض عن إتلاف في مال أو أرش. فعلة منع إيجاب الزكاة بعدم تكليفه باطلة بهذا. فبقينا على أن الأصل التزام الفرائص واجتناب المحرمات في الأموال، كان لمكلف أو غير مكلف لصغر كيتيم، أو لزوال عقل كمجنون، ولعموم الأدلة بلا تفصيل ولا بيان منه صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

ولأنه منع الحسن أو الحسين من أكل تمرة من الصدقة قائلا: «أخ أخ لصغرهما وعدم عقلهما الخطاب، إنا لا تحل لنا الصدقة» (¬1). فتبين أن إلزام الولد بالديانة الاستطاعية واجب على الولي فعليَّةً أو تركيَّةً. وأما الواجبات الفِعْلِيَّة فما تعلق باستطاعة فعل: فيضرب على الصلاة لعشر (¬2)، ويصوّم باستطاعته كما جاء في السنن (¬3)، ويؤدب مقارب بلوغ في ترك صوم. وأما الحج فلا يؤمر به، وإن جاز؛ لتعلقه بالمشقة البالغة المتعلقه بالمال مع أنه غير واجب عليه. والنظر في مال الطفل للولي إنما هو نظر مصلحة وغبطة وليس من النظر له إنفاقه في أمر لا يجب كحج وجهاد. وأما التَرْكيَّات فهي المحرمات، فيجب تجنيب اليتيم وماله كل محرم. وتدفع من ماله الواجبات كشراء لباس يستره للصلاة، وضمان المتلفات والأروش وسائر الأجور. فالحاصل أن مال اليتيم المحرم فيه: أكله بدارا وإسرافا، أو ضمه إلى مال الولي أو تبدل الخبيث بالطيب، أو أكله ظلما وعدوانا (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) (النساء: 2). والواجب فيه إصلاحه بالخير، وهو النظر المصلحي الغالب فيه، والزكاة داخلة في قاعدة (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) لما فيها من البركات المنصوص عليها. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

طرق كفالة اليتيم

فليست بابا من أبواب الإفساد أبدا. ومن ادعى أنها لا تدخل في القاعدة هذه فقد زعم أن الزكاة إتلاف وإفساد وهو خلاف النصوص. ولا يقال: فلم مُنِع الولي من أن يحج باليتيم من مال اليتيم مع أن الحج ليس بإفساد ولا إتلاف؟ فالجواب أن الحج عليه تطوع للقطع الشرعي، وأما الزكاة فهي فرض في المال بالقطع فإدخال اليتيم في ما هو تطوع مالي بالقطع ليس من النظر له، وإدخاله فيما هو فرض عام في المال على الأصل هو عمل بالأصل المقطوع وإخراج ماله منه خلاف الأصل. طرق كفالة اليتيم: والكفالة لليتيم المأمور بها والمرغب فيها في قوله صلى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» (¬1) تكون بطرق: الأولى: إيواؤه في أسرة الكافل، وهذه أعلاها (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة: 220). والأصل أن كفالة اليتيم تكون بإيوائه ضمن أسرة الكافل مع ولده، يربيه، ويؤدبه، ويعلمه، وينفق عليه. فإن كان اليتيم لا مال له أُنْفِق عليه من مال الكافل. فإن كان له مال وكان الكافل غنيا فلا يأخذ منه في ماله شيئاً. وإن كان الكافل فقيرا أخذ من مال اليتيم بالمعروف، فجعلها في النفقة العامة للأسرة لقوله تعالى (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة: 220)، ولقوله (وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 6). الثانية: النفقة عليه كفاية في مأكل ومشرب ومسكن وتعليم، وتدفع إلى يد من يسكن اليتيم معه كأمِّه. فإن كانت متزوجة دفعت إلى يد من يلي أمره من أقاربه أو المسلمين. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5304 عن سهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. وفي مسلم برقم 7660 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة». وأشار مالك بالسبابة والوسطى.

والكفالة نوعان

الثالثة: دفع مال يقوم بسائر حاجاته من مأكل ومشرب ومسكن ونفقات وتعليم إلى مؤسسة أو جمعية أو بيت للأيتام يؤويه ويقوم على كل أمره. والكفالة نوعان: النوع الأول: كفالة نظر وتربية وتعليم ومتابعة وتسيير لأموره، وتدبير لماله إن كان له مال، والإنفاق عليه من مال نفسه لغناه. فهذا الكافل مع أنه لا يخسر شيئاً من ماله إلا أنه قائم مقام الوالد، فهذا داخل في النصوص التي وعد الله عباده لكافل اليتيم ويدخل فيها القائمون على دُور الأيتام بالإدارة والإشراف والمتابعة. النوع الثاني: كافل بماله فقط يدفعه للعدل القائم على اليتيم لتسيير أموره، وهذا يشمله النص، ويدخل فيه الكافل بالمال، والكافل بالنظر المدفوع له المال. وأعلى الكفالات: إيواؤه في أسرة الكافل، والنفقة عليه وتربيته والإحسان والنظر له في دينه ودنياه في ماله ونفسه. يليها: دفع مبلغ مالي إلى آخر يقوم بذلك ضمن أسرته وأبنائه. يليها: دفع مبلغ مالي يفي بذلك إلى مؤسسة أو جمعية تقوم بذلك. وشرط القائم على اليتيم: البلوغ والرشد والعدالة. فلا نظر لصغير على آخر، ولا نظر لسفيه، ولا لفاسق؛ لأن السفيه محجور عليه في حق نفسه، والفاسق لا يؤمن على مال ولا عرض ولا نفس ولا دين، وهذه مقصودات الكفالة. بيت اليتيم الخيري: وإقامة الجمعيات الخيرية والمؤسسات الخاصة برعاية اليتيم وتربيته وتعليمه من فروض الكفاية على المجتمع؛ لأنها وسيلة إلى فرض كفاية شرعي. والقائمون عليها لهم أجر كفالة يتيم تامة، لأنهم أحد المتصدقين «الخازن الذي يؤدي ما عليه أحد المتصدقين» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 1438 عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ، وربما قال يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيب به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين. وهو في مسلم برقم 2410.

التوظيف في مؤسسات اليتيم

ولأنهم القائمون بالكفالة والرعاية المباشرة، وهذا ركن الكفالة. وكل موظف له أجره عند الله، ولو عمل بأجرة؛ لأنه يعمل في طاعة الله. والساعي على هذه الدور والمؤسسات «كالصائم الذي لا يفطر والقائم لا يفتر والمجاهد في سبيل الله» (¬1) للنص في ذلك. التوظيف في مؤسسات اليتيم: ولا يجوز التوظيف في مؤسسات اليتيم، وسائر المؤسسات الخيرية لمجرد إيجاد عمل لمعرفة أو قريب بلا حاجة أو بدون اعتبار الكفاءة، فإنه أكل لمال اليتيم بالباطل، فلا يوظف إلا للضرورة أو حاجة داعية لذلك وإلا كان داخلا في الحرام (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا) (النساء: 6)، وهذا إسراف. ويحرم توظيف غير العدل القوي الأمين؛ لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). والعدل هو: المحافظ على فرائض الدين وشعائره، المجتنب للكبائر، غير مصر على المعصية، لقوله تعالى (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135). ولأن القوة والأمانة شرط الإجارة، خاصة في المال العام، ومال اليتيم له هذا الحكم. ولأن الفاسق لا يؤمن على دين، ولا مال، ولا عرض، ولا نفس، وهي أمهات كفالة اليتيم. ورب الأسرة -مع ما سبق- الخبير أولى من غيره؛ لأنه الأقرب لأن يحقق الإصلاح لليتيم بأحسن درجاته، وما كان كذلك فهو مقصود الشرع قصداً أولوياً. - الإشراف الداخلي في بيوت اليتيم: ويجب وجود مشرفين للقسم الداخلي في بيوت رعاية الأيتام على مدار الأوقات ليلا ونهارا، لرعاية الأطفال ومتابعة سلوكهم حفظا لهم من أي سلوك غير سوي؛ لأن وجود الإشراف وسيلة إلى تحقيق واجب، وهو حفظ النشء فوجب. وهو داخل في عموم قوله تعالى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وسيلة إثبات اليتم

ويفصل المراهقون عن غيرهم من الأطفال في السكن وعن الكبار البالغين عنهم كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1). لأنه أحفظ لهم، وكل وسيلة حققت الواجب على وجه الكمال والإحسان فهو المقصود شرعا بالقصد الأولوي، ولأن هذا من الإحسان وهو مطلوب شرعا (وَأَحْسِنُوَا) (البقرة: 195). ويكون لكلٍّ دورات مياه مستقلة تابعة لسكنهم لا مشتركة؛ لأنها تحقق غاية الحفظ والمصلحة. ويحفظون من اعتداء بعضهم على بعض بالضرب، أو الشتم، أو التهديد، وكل ما يمس الأخلاق والأعراض، والأنفس، والأموال. ويعنى بنظافة فرشهم وغرفهم وأغراضهم، ويُعَلَّمون ذلك. ويؤمرون بالانضباط والنظام والتطهر وشعائر الدين والصلاة على رأسها، لأن ذلك كله من مصالحهم وحفظها هو مقصود الكفالة. وسيلة إثبات اليتم: ولا بد من إثبات اليتم بشهادة عدلين، أو الاستفاضة، حرصا على إيصال الحق إلى أهله بالوجوب الشرعي (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). وكل وسيلة لذلك فهي واجبة، كالبحث، وطلب إثبات اليتم بحكم قاض ونحو ذلك. الموظفون في دار اليتيم، والميزانية العامة، والمنع من خصم نحو 10% للمصاريف الإدارية: والموظفون في هذه الدور يعطون أجرهم من مال اليتيم بالمعروف، بلا إسراف ولا إقتار. ويجب تحديد الميزانية كل عام؛ فيحسب بالدقة عدد الموظفين وأجورهم وتخصم من رأس المال الكلي المدفوع من الكافلين. ودليل الوجوب أنه سبيل إلى حفظ مال اليتيم، فله حكمه، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). ولا يجوز خصم نسبة ثابتة كعشرة في المئة للمصاريف الإدارية؛ لأنه إجحاف بمال اليتيم ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

في حالة قلة الموظفين؛ ولأن الأكل بالمعروف من مال اليتيم هو إعطاء الأجير قدر أجره عرفا، ولا أجرة بالنسبة هنا إذ العرف جار على الدفع للموظفين بالشهر وبأجر معلوم. والنسبة مخالفة لذلك من جهة أنها تزيد عادة على مستوى المصاريف والأجور، أو يحصل عجز مالي في ذلك. ويترتب عليه إخلال بالعمل، فيؤدي إلى سحب مبالغ أخرى من أموال اليتيم، وهذا يفتح باب عدم الضبط. ولجريان العرف في سائر الشركات والمؤسسات والبنوك وموازنات الدول على ذلك، أي على ضبط الأجرة بالراتب المقطوع. مع حرصهم التام على الضبط الدقيق للأجور والرواتب، ولو عمل في هذه القطاعات بالأجرة بالنسبة الكلية كهذه الطريقة؛ لأدى إلى العبث بالأموال والتلاعب بها. فالحاصل أنه لا يجوز التعامل بخصم مبلغ كلي بنسبة معينة للأجور من رأس مال مؤسسة اليتيم؛ لأنه لا بد أن يزيد أو ينقص، والمطابقة نادرة، وهذا ليس فيه إصلاح لليتامى خير وليس فيه أكل بالمعروف. أما الأولى فاحتمال الزيادة وارد بكثرة، وهذا من أكل مال اليتيم ظلما، وأما الثانية فلأنه خلاف المتعارف عليه لدى المؤسسات الخاصة أو الحكومية الحريصة على الضبط التام لمبالغ أجور الموظفين. ولو كان في النسبة خير وإصلاح لفعلوا ذلك، ولكنهم تعمدوا تركها لعدم انضباطها. وأموال مؤسسات اليتيم قد تفيض كثيرا فتكون مقدار النسب عالية، وهذا هو من عين ما نهى الله عنه؛ لأن الفائض الكثير من المتبقي من النسبة عشرة في المئة مثلا قد يكون بالملايين، وهذا باب ضياعها. ولأن الإجارة يجب أن تكون معلومة الأجر. وما يؤخذ من مال اليتيم لها يجب أن يكون معلوما؛ لأن أخذ المجهول من مال اليتيم لدفعه في معلوم القدر معناه التضييع والإهمال والأكل بالباطل.

وفي حال كثرة أموال اليتامى المتبرع لهم بها من الكافلين

ولأن أخذ الأجور من مال اليتيم ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها. وتقديرها هنا يكون بالنص على مقدارها حقيقة لا بالنسبة. وفي حال كثرة أموال اليتامى المتبرع لهم بها من الكافلين: فما فاض عن ميزانية العام جاز استثماره لهم لمدة عام في مشاريع استثمارية مباحة يغلب عليها الربح عادة؛ لأن هذا من إصلاح مال اليتيم والنظر له لقوله تعالى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). وقيدناها بعام واحد ليمكن سحبها إن حصل عجز في موازنة العام الآخر وتشكل له لجنة استثمارية ضمن إدارة مؤسسة اليتيم وهم موظفون يعطون أجرهم بالعرف، وتشكيل هذه اللجنة إن لزمت وكان لا بد منها؛ لإصلاح مال اليتيم؛ فحكمها الوجوب لأنها وسيلة إلى واجب. كيفية استثمار مال اليتيم: وكيفية استثمار مال اليتيم يكون بإدخاله ضمن مؤسسات وشركات وبنوك تجارية ناجحة بالمضاربة بشرط التزامها بضوابط الشريعة، ويحرم إن تعاملت بالربا. وأما استقلالا بإنشاء مؤسسات تجارية أو أعمال خاصة بأموال اليتامى فالأصل فيه الجواز إن تحقق تمام الضبط والرقابة والإصلاح. فإن لم يكن ذلك فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى ضياع أموالهم عادةً أو غالباً أو كثيراً لقلة الخبرات في ذلك، ولضعف الرقابة والمحاسبة كثيراً في العمل الطوعي الخيري، وهذا مفاسده واقعية كثيرة. فوجب دفع هذه المفاسد بمنع الاستقلالية الاستثمارية بأموال اليتيم من القائمين على المؤسسة أفرادا أو جماعة، مضاربة أو شركة أو متاجرة بالأجرة إلا مع ثبوت وسائل الحفظ. وجاز مع شركات أو بنوك عامة، حكومية أو مدنية، بشرط استفاضة شهرةٍ وخبرةٍ وتعاملٍ بالشرع.

ما يعطى اليتيم من المصاريف، والصلات، والعيديات

إيداع أموال دور اليتيم يكون تحت لجنة من العدول الأمناء ولا ينفرد بها شخص، ولا تؤخذ إلى منزله: وتودع أموال اليتامى في هذه المؤسسات تحت لجنة من الأمناء العدول الخبراء، ولا يصرف منه شيء إلا موافقا للوائح المقرة المبنية على ما أمر الشرع من (إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). والأَوْلَى ألا يتفرد بتوقيع صرف الأموال أو سحبها شخصٌ، سداً لباب الإخلال والفساد. ولا يحق لأحد أخذ أموال منها إلى منزله الخاص في الأصل إلا لضرورة ماسة تحددها لجنة الأمناء، لأن الأخذ الخاص يفتح باب الإفساد، ودفعه واجب. ما يعطى اليتيم من المصاريف، والصلات، والعيديات: ويعطى اليتيم في المؤسسة من هذه الأموال مصاريفه المدرسية واليومية والعيدية، وما يحتاج من سفر لضرورة، أو حاجة، أو لترفه بما جرى عليه عرف مُقرٌّ في عيد ونحوه. ويعطى من المال ما يصل به والدته أو أخته عرفا في عيد مثلا؛ لأنه ليس من إفساد ماله بل من تعويده على مكارم الأخلاق ولما يترتب على ذلك من مشاعر نفسية إيجابية عليه فهو من مصالح اليتيم التي يشملها قوله تعالى (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). وهذا كله إن اتسع له المال وإلا اقتصر على الضروريات والحاجيات. حكم الذين يجمعون التبرعات وكم يعطون من الأجر: ويجوز لمؤسسات اليتيم التعاقد مع أشخاص يسعون في تسويق ملفات المؤسسة لدى جهات مانحة، أشخاصا أو هيئات، ويعطون أجرهم بعقد الجعالة لا بالإجارة؛ لأن الإجارة قائمة على إعطاء أجر مقدر بزمن أو عمل، ولا يمكن تقديره بالعمل هنا؛ لأنه مجهول، ولا بالزمن، وهو عرفا راتب شهري؛ لأنه لا يلزم بدوام وظيفي شهري. ولأنه قد لا يجد ولا يحصل شيئا من المال، إما حقيقةً أو لتلاعبه أو لتقصير؛ لعدم إمكان رقابة عليه؛ فيؤدي إلى إهدار مال من أموال اليتامى بغير مصلحة، فحرم. بخلاف الجعالة فلا تحصل فيها هذه المفسدة لأنها تكون بإعطائه نسبة معينة على كل مبلغ حصله وجمعه، فجازت بهذه الكيفية وبنحوها؛ لتحقيقها مصلحة غالبة لمال اليتيم؛ ولدفعها ضرر الدفع بلا مقابل في حالة الأجرة.

إذا عين المانح يتيما بعينه

والشرط فيها: أن تكون بما جرى عليه العرف، وبما يندرج تحت قاعدة (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). فيحرم المبالغة فيها لأنه إفساد، بل تكون أدنى ما يمكن أن يؤدي إلى تحفيز الراغب في الجعالة، لأنه ضرورة، فتقدر بقدرها، وأكثرها عشرة بالمئة لجريان عرف العمولات الغالبة على ذلك. ونحن مأمورون بالعرف في مال اليتيم، فتعين ذلك. ولا حكم لندرة كإعطاء ثلاثين بالمئة، فإنه مبالغة في الأخذ، وهو ظلم وإسراف (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا) (النساء: 6)، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10). ومن سعى من الموظفين في المؤسسة مع جهات مانحة خارج عمله ولم يكن مكلفا به فحصّل أموالا أعطي من الجعالة كما يعطى الأجنبي ولو بلا عقد معه، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطا. وقلنا: خارج دوام عمله؛ لأن عمله في مرافق المؤسسة عقد إجارة الواجب فيه الالتزام والإيفاء به، فلا يعمل في وقته ما ليس منه. وقلنا: ولم يكن مكلفا به؛ لأنه لو كان كذلك فهو ضمن عقد الإجارة، ويمكن أن يعطى علاوة أو تحفيزا مناسبا. إذا عين المانح يتيما بعينه: وإذا عين المانح الكافل يتيما بعينه باسمه فالمال كله له، يصرف عليه منه وما فاض منه دفع إليه عند بلوغه راشدا، أو عند خروجه من الدار، أو المؤسسة. وقبل رشده يعطى للقائم عليه ليكون بنظره فيما فيه إصلاح لليتيم، بشرط كون القائم عدلا راشدا بالغا. ويجوز للمؤسسة أن تخلط هذا المال الذي ليتيم معين بالمال الكلي للمؤسسة بشرط حفظ قدره، ويخصم منه لليتيم بقدر ما تصرفه المؤسسة على نظرائه، فيوضع في المالية العامة المنصرفة.

تزويج اليتيم

وفي حال توقع غالبٍ لعجز المالية العامة للمؤسسة، فإن مال اليتيم المعين يعزل منفردا. ويجوز فيما فاض من مال هذا اليتيم المعين استثماره له بالشروط كما سبق. تزويج اليتيم: ومن بلغ سن النكاح من اليتامى جاز تزويجه من ماله، وللمؤسسة تخصيص جزء من ماليتها لذلك؛ لأنه من مصالح اليتيم وحاجياته. ولا تكلف دفع راتب شهري له ولزوجته بعد ذلك إلا إن كان له مال خاص معين لديهم، فيجوز ذلك إن كان لم يرشد اليتيم ماليا. وإلا إن كان راشداً دفع له جميع ماله، لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). تعليم اليتيم وتأهيله من الكفالة المشروعة ومتى ينتهي: ويدخل في كفالة اليتيم تعليمه حتى يتأهل للقيام بوظيفة وإدارة ماله، ويتحقق ذلك بنهاية التعليم الجامعي غالبا. ويجب تدريب اليتامى وتعليمهم ولو بعد سن البلوغ إلى سن الرشد المالي، لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى)، أي: التعليم والاختبار. فيستمر تعليمه وتدريبه إلى بلوغ سن الزواج ثم ينظر، فإن كان مؤهلا وراشدا لإدارة ماله انتهى النظر عليه ودفع له ماله إن بقي وتنتهي كفالته في المؤسسة. ولا يحصل هذا الرشد غالبا إلا بعد التعليم الجامعي؛ فدخل التعليم الجامعي في الكفالة من طب وهندسة وحاسوب وشريعة وزراعة وغيرها. ومن تعليمه وتدريبه الذي يشمله النص (وَابْتَلُوا) تعليم حرفة مهنية ولو قبل البلوغ؛ لأن النص (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) يفيد أن الابتلاء -أي التعليم والتدريب- يبدأ قبل البلوغ، بل وبعده إلى الرشد.

الدولة ومؤسسات اليتيم ودعمها والوقف عليها

وحكم تعليم اليتيم كنظرائه من أبناء عصره الوجوب، للنص (وَابْتَلُوا)، ولأنه من الإصلاح لهم (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). والأمر يدل على الوجوب ويستمر إلى بعد البلوغ للنص. ويواصل حتى يمكن الاعتماد على نفسه في إدارة المال، وهو الرشد المقصود في الآية. والغالب -كما تقدم- حصوله بعد دراسته الجامعية، فتبين أن حكمها شمولها للكفالة؛ لأنها اليوم من مقتضيات إدارة الأعمال والحياة في الغالب، وشرطٌ للإجارة الوظيفية عادة. ويستقل الشخص بعدها -في الغالب- بأمور نفسه ماليا، فدخل ما قبلها تحت الأمر الشرعي بالرعاية والنظر. والغالب في الشريعة هو المعتبر لإجراء الأحكام. فإن تأهل تأهيلا مهنيا في المعاهد الحرفية، ولو بعد الإعدادية إلى تمام التعليم الفني الثانوي أو ما بعده قام مقام ذلك إن أدى الغرض وبلغ به الرشد المالي المشروط، ولا يكفل بعد ذلك لتعليم جامعي ولا غيره؛ لأن شرط الاستقلال المنصوص في الآية قد وقع، فخرج عن كونه يتيما منظورا له. الدولة ومؤسسات اليتيم ودعمها والوقف عليها: ويجوز الوقف على اليتامى، وكذا إعطاؤهم من مال الزكاة ومن أموال الكفارات بالشروط المعروفة. ويجب على الدولة رعايتهم رعاية تامة من المال العام، والقيام بمصالحهم، وفتح باب التشجيع على بناء مؤسساتهم، ومتابعة ذلك، ودفع كل ما يفسدهم دينا ودنيا؛ لأن هذا من النظر المصلحي العام، وهو واجب على الدولة. فإن قصرت الدولة أثم ولي الأمر والمعنيون. ووجب على المجتمع ذلك كفرض كفاية؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، وحفظٌ لواجبات شرعية لضَعَفةٍ من دينٍ ومال وعرض ونفس.

وهذا واجب، وما لا يتم إلا به كمؤسسات ودور رعاية؛ فلها حكم الوجوب؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. ولأنه من النصيحة في الدين لعامة للمسلمين، وهي واجبة «الدين النصيحة» (¬1). ولأنه لا إيمان حتى يحب المؤمن لغيره ما يحب لنفسه «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لغيره ما يحب لنفسه» (¬2). ولأنه دفعٌ لمفاسد عامة وخاصة، وتحقيقٌ لمصالح عامة وخاصة؛ فوجبت. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

فقه الجهاد

فقه الجهاد * (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190) * (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8) * (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60) * فرض على الأمة إعداد قوة مدنية وعسكرية واقتصادية وبشرية وتعليمية وتكنولوجية ونهضوية شاملة بما يكافئ المثل الدولي العالمي لقوى العصر * إقامة مجلس أعلى للسلم والحرب يجمع من له أهلية النيابة عن الأمة في أمورها العامة الكبرى أمر وسيلي هام يخدم كثير من المصالح الكبرى * إخراج الاحتلال فريضة شرعية (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191) * الأصل السلام والحرب استثناء عند وجود دواعيه وأسبابه وشروطه وانتفاء موانعه

والتعريف الجامع المانع له أن نقول

فقه الجهاد الجهاد في سبيل الله فرض مطلق معلل. وقولنا «فرض»؛ لكثرة النصوص فيه، وقولنا «مطلق» أي لم يحدد بزمن ولا مكان باطراد. بل يتنزل بحسب السبب، فقد يكون طلبا أو دفعا، كفائيا أو عينيا. وقولنا «معلل» أي ليس بتعبد محض غير معقول المعنى فيطلق فيه قول واحد وكيفية واحدة، بل هو معلل. والتعريف الجامع المانع له أن نقول: الجهاد فرض مطلق معلل، أي مسبب بأسباب، ونزيد هنا «بشروط وأركان وواجبات وموانع». فنقول: القتال في سبيل الله فرض قطعي مطلق معلل بشروط وأركان وواجبات وموانع. فقولنا «القتال في سبيل الله» هو أخص من قولنا الجهاد؛ لأنها أعم لصدقها على كلمة حق عند سلطان جائر، فهي أعظم الجهاد بالنص. وهو يشمل القتال داخل الدولة لعدو كافر، أو باغٍ مسلم، أو مفسد في الأرض. ويشمل القتال خارج الدولة ولا يكون إلا لمعتدٍ كافر. وقولنا «فرض قطعي» لثبوته بالنصوص قطعية الورود والدلالة من الكتاب والسنة. وقولنا «مطلق» معناه: أنه لا يقيد بزمن مضى أو مستقبل، ولا يقيد بمكان ولا بأشخاص. وقولنا «معلل» معناه: أن له أسباباً باعثة عليه، وهي اثنا عشر سببا ذكرناها بأدلتها. ويشمل قولنا «معلل» الحِكَمُ والغايات والمقاصد من القتال. وقولنا «بشروط»: أي لا بد لأداء القتال في سبيل الله من شروط يلزم من عدمها العدم، أي عدم القتال إلا بالشرط. وشروطه راجعة إلى الاستطاعة، ويندرج تحتها سائر الشروط التي سنذكرها. وقولنا «وأركان»: سيأتي بيان أركانه، والفرق بينها وبين الشروط مع تداخلها أن الركن

والجهاد فرض على أنواع

داخل في ماهية الشيء، والشرط في أمر خارج عنه لازم له. وقولنا «واجبات»: هي ما يأثم تاركها. وقولنا «وموانع»: هي أمور يلزم من وجودها عدم الشيء، وستأتي. والإعداد له فرضٌ كفائي دائم، وهو فرض عين على الدولة فيما لا يقوم إلا بها. وفرضٌ على غيرها فرادى أو جماعات فيما لا يقوم إلا بهم من أنواع الجهاد، فالعالم فرضه العيني نشر العلم وقول الحق، وهو مقدم على غير ذلك من أنواع الجهاد كالقتال إلا إذا تعين عليه وتضيق كمداهمة عدو، فهو -حينئذ- مقدم على العلم، وإنما قدم على العلم لإمكان القيام به موسعا في غير وقتٍ بخلاف نحو قتال عدو داهم البلد فهو مضيق لا يمكن تأخيره، وهكذا إذا تعارضت الفرائض. والجهاد فرض على أنواع: الأول: الإعداد التام للوصول إلى النهضة الشاملة، وهذا فرض دائم عيني على الدولة وكفائي بالنظرة الكلية (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60). الثاني: التعبئة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65)، وهو فرض عند استدعاء سببه. الثالث: القتال، وهو فرض مطلق معلل مسبب كما سبق. الرابع: جهاد النفس وتطهيرها وتزكيتها، وهو ربع الرسالة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2). الخامس: الإصلاح الشامل وإنهاء الفساد، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 1 - أما الإعداد فهو في كل معنى للقوة يحصل منه ردع للعدو استقلالا أو استكمالا. وأدناه الآن مكافأة قوة العدو تسليحا، وتدريبا، وإعدادا، وتصنيعا لا عددا بالنص (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65).

وإنما قلنا أدناه؛ لأن الغرض في الإعداد معلق بالاستطاعة، وهذه العلة متحققة في دول العرب والمسلمين، وأدناها المماثلة وهي مستطاعة. ووحدتهم من القوة فهي فرض بالوسيلة هنا، وفرض بالنص في مواضع. ودول الجزيرة العربية السبع (السعودية والإمارات والبحرين وعمان وقطر والكويت واليمن) أشد في فرضية الوحدة، ويليها العراق والشام ومصر (¬1). ويدخل في القوةِ القوةُ الاقتصادية؛ لأنه لا إمكان لإعداد معتبر في ميزان القوى المعاصر إلا بذلك. وكل وسائل ذلك من قوة المؤسسة العلمية التي تخرج المتخصصين في مختلف علوم النهضة، شرعيةً وتكنولوجيةً وفكريةً. وكل هذه الأمور مستطاعة للعرب والمسلمين اليوم؛ فهم آثمون لتقصيرهم وحكامهم أشد إثما؛ والواجب دفع مفاسد استطالة عدوهم عليهم وعلى دينهم، احتلالا ونهبا واستضعافا وفتكا وأسرا وسجنا وابتزازا لقراراتهم السياسية والسيادية، وصدهم عن سبيل الله كثيرا، واستهزائهم بالله وآياته ورسوله، وقتلهم لأهله، وإخراجهم من ديارهم بغير حق، واعتدائهم ابتداء بالقتال والبغي (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13)، ونكثهم للعهد والميثاق الدولي والإنساني (نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) (التوبة: 13). فتلخصت القوة الإعدادية الفرضية في النص بخمسة أمور لا بد منها، وهي القوة العسكرية، والاقتصادية، والتعليمية، ووحدة الصف، فهذه الآن هي القوة، وفرض تحصيلها، وكل ما لا تتم إلا به من الوسائل فهو واجب. وقبل ذلك كله تحقيق الإيمان والعمل الصالح فهو ضرورة يتعذر تمكين الأمة إلا به (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55). ولكل عصر قوةٌ بدليل أمر عمر للمقاتلين ألا يقصوا أظافرهم في الغزو؛ لأنها تحل عقدة ¬

(¬1) - انظر العلاقات الدولية من كتابنا هذا في فقه الدولة.

2 - أما النوع الثاني من الجهاد فهو: التعبئة

وتخدش عدوا؛ فجعلها من معاني القوة، وهو فقه واقعي دقيق في عصره (¬1). وقوله تعالى (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) هو كناية عن القتال ومعسكراته الكثيرة؛ لأن العرب تقول بنو فلان كثيرو مرابط الخيل أي: مقاتلون. وقوله تعالى (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) تعليل للإعداد وهو إحداث قوة ردع ترهب العدو من الاعتداء سواء كان العدو الظاهر وهو ما نعلمه أو الأعداء السريين الذين لا نعلمهم، الذين في قوله تعالى (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ). 2 - أما النوع الثاني من الجهاد فهو: التعبئة وهو المستنبط من قوله تعالى (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)، فهذا فرض للأمر به ومعلل بقوله تعالى (عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84)، فالتحريض والتعبئة على قتال العدو يكف بأسهم ويوقف أطماعهم. وهو شامل لنوعين من التعبئة: 1) التعبئة المنهجية العامة. 2) التعبئة الخاصة. أما الأولى فهي في إشاعة أحكام الجهاد الشامل للناس وجعله ضمن المناهج التعليمية الدراسية من المستويات الوسطى؛ لأنه منهج منزل منصوص في القرآن بكثرةٍ واسعة مقصودة لتعليم أهل الإسلام. فتعليمه مقصد رباني، ولا يقال ليس كل مذكور بكثرة في القرآن واجباً تعليمه كقصة فرعون مثلا. فالجواب: كل ما ذكر في القرآن تعليما لأهل الإسلام؛ فواجب عليهم أن يعلموه بحسبه، ولكل عصر وسائله، وسواء كان تعليما لأهل الإسلام للاعتقاد أو العمل فهو لازم تعلمه وتعليمه بحسبه زمانا ومكانا وأشخاصا. ¬

(¬1) - قولنا «ولكل عصر قوة ... » الأثر الذي ذكرناه عن عمر في ابن أبي شيبة برقم 19797 عن أبي بكر بن عبدالله، عن أشياخه، قال: قال عمر: وفروا الأظفار في أرض العدو فإنها سلاح.

وقولنا «للاعتقاد» ليشمل العقائد والإيمان. وقولنا «العمل» يشمل كل ما يقصد من العمل فرضا أو تطوعا. وقصة موسى مع فرعون فيها من الاعتقاد والعمل ما هو لازم لنا في شريعتنا، فتعليمها في المناهج الدراسية مطلوب موافق لمقاصد القرآن المنزل. ولا يجوز حذف آيات الجهاد من المناهج الدراسية، ومن فعل ذلك فهو منافق، أو جاهل عَمِلَ عَمَلَ أهل النفاق؛ لأن الله ذكر عنهم كرههم لنزول آيات الجهاد فمنهم من ينصرف أو يستأذن كذبا، أو يقول هي لا تزيد في الإيمان فلا فائدة فيها (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) (التوبة: 124)، ومنهم من يقول: دفعا لعملية السلام فلتحذف هذه الآيات من المناهج. وكل هذا من النفاق؛ لأنه فرض؛ وآيات السلام فرض؛ وبيان ما أنزل واجب؛ وإخفاء بعضه وإظهار بعض هوى عمله أهل الكتاب يهودا ونصارى فلعنهم الله وذم فعلهم. ومن التبعئة القتالية الداخلة في عموم النص (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)، إصدار الأفلام الوثائقية والتاريخية وإنزالها على شاشات العرض بأنواعها وعلى الشبكات الإلكترونية، ومن ذلك دعم المقاومة المجاهدة بالمال والخطاب السياسي والإعلامي، وبالكتابة والشعر، وإنشاء المنظمات والهيئات والحركات الداعمة. وكل وسيلة ترفع معنويات الأمة، وتحيي قضاياها العامة وتدفع عدوها عن بلادها فهي داخلة تحت عموم الأمر بالتعبئة. أما التعبئة الخاصة فيدخل فيها دخولا أوليا القوات المسلحة والأمن، سواء في المعسكرات، أو الكليات العسكرية والثكنات في مختلف البلاد، وهذا واجب على قيادة الجيش. ولا بد من تخصيص جهة لذلك كالتوجيه المعنوي تعبئ وتنشر بمختلف الوسائل الإعلامية المتاحة، وقد جاء في الحديث الصحيح «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف» (¬1)، فهذا يدل على حث الشرع على التوجيه والإلهاب ورفع المعنويات في الجيش بتوظيف الوسائل كذلك الصوت وغيره. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

3 - النوع الثالث للجهاد: القتال.

3 - النوع الثالث للجهاد: القتال. والقتال في سبيل الله أسباب وجوبه متعددة، وله شروط وأركان وواجبات، فإذا توفرت الأسباب والشروط اجتمع أولو الأمر وجوبا للمشاورة؛ لعموم النص (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل، والأسباب: 1 - وجود قوة عسكرية في داخل دولة الإسلام بدليل (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 5)، فلم يجعل خيارا في التعامل معهم إلا السيف أو الأخوة الإسلامية، وحملناها على ذلك لامتناع حمله على ما كان خارج الدولة؛ لاحتمال كونه مسالما فيشمله النص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8). ففرض إنهاء كل تواجد مسلح كافر داخل دولة مسلمة، خاصة جزيرة العرب، ولا يحدث لهم ذلك بعد هذا لا بمعاهدة ولا حلف، وللنص الصحيح «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (¬1)، وفي نص آخر «اليهود والنصارى والمشركين» (¬2). ومن كان ذا عهد فيوفى عهدهم إلى مدتهم إن وفوا؛ للنص (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4). والدليل على أنه يقصد بها داخل الدولة أنها داخلة دخولا أوليا قطعيا وأنها نزلت في مشركي العرب بعد الفتح؛ فأمرت بإنهاء كل تواجد لهم داخل الدولة في جزيرة العرب، وعدم إحداث أي معاهدات معهم والإيفاء لمن له عهد قبل هذه ووفى به. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

ولا يمكن حملها على المشركين خارج الدولة؛ لأن منهم أهل سلم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8)، (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: 61). ولا يجوز داخل دولة الإسلام تواجد قوات مسلحة غير مسلمة ولو كان باتفاقية سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم؛ لذلك أجليت قوات اليهود زمن عمر (¬1)، وإن كان الأمر قد صدر زمن النبي صلى الله عليه وسلم لتوافر شروط الإجلاء، أما الجاليات المسالمة منزوعة السلاح فلها الإقامة في بلاد الإسلام إلا الحرم، كنصارى نجران، وقبط مصر، ونحوهم من مواطني الدولة. 2 - ويجب لحماية حدود دولة الإسلام من عدو مقاتل للنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123). 3 - ولدفع فتنة دينية عن أهل الإسلام (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)، فإذا اضطهد المسلمون وفتنوا في دينهم وجب القتال لدفع ذلك إن لم يتم دفع الفتنة إلا به، إلا أن يكون المضطهدون في بلاد كفر بيننا وبينهم معاهدة سلام (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) (الأنفال: 72). 4 - ولدفع استضعافٍ واضطهادٍ للنساء والولدان وضعفاء الرجال من المسنين، وهذا يجب فيه القتال في سبيل إنقاذهم ولا تُقَيَّد بوجود ميثاق (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (النساء: 75). 5 - ويجب ردا على العدوان (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، ويجب فيه التماثل، والزيادة بغي محرم. وظاهره وعمومه يفيد رد العدوان بالمثل، احتلالا وضربا، أو غزوا خاطفا، أو حصارا، جوا، أو برا، أو بحرا. فإذا نزل الكافرون بأرض دولة الإسلام وجب عينا إخراجهم منها. وهل تحتل بلادهم عملا ¬

(¬1) - أخرج ذلك البخاري برقم 2286 ومسلم برقم 4049 واللفظ له، عن رافع بن خديج «فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء».

بالمثل؟ هذا راجع إلى تقدير الوضع من أهله زمانا ومكانا، والنص أفاد الاعتداء بمثل الاعتداء، وأفاد الآخرُ إخراجَهم. والعمل بالنصين عند القدرة هو كمال التكليف؛ ولأن ذلك من مقتضيات كمال الردع. 6 - والقتال في سبيل الله واجب لإخراج محتل للنص (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191). وفرق بين الأمر بإخراجهم كما أخرجونا، وبين من حيث أخرجونا؛ لأن الأخير هو إخراجهم من أرضنا التي أخرجونا منها، وسابقه إخراجهم من أرضهم احتلالا ردا للعدوان بالمثل كما يفيده (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194). 7 - ويجب قتال من قاتلنا للنص (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190). 8 - وكذا قتال من بدأنا بالقتال (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13). والفرق بين هذه والتي قبلها أن هذه تفيد تعليل فرض قتال في سبيل الله لكافر بدأ بقتال أهل الإسلام. والتي قبلها تفيد فرض القتال لمن قاتلنا ولو لم نعلم البدء؛ لأن تمييزه قد يخفى؛ فيدعي كل طرف أن الآخر بادئ؛ فرفع هذا الوهم فأوجب قتال من قاتلنا ولو لم يتميز البادئ بيننا وبينهم. 9 - وبلاغ دعوة الإسلام الحق إلى الناس يكون بالحسنى والحكمة (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وليس الأصل القتال، بل السلم والرحمة. فمن منع الناس عن الدخول في الإسلام ومنع الدعوة إليه في دولته بالحوار والسلم والتي هي أحسن؛ فإنه يقاتل إعلاء لكلمة الله (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29).

فأوجب قتال أربع فئات، وهم الملاحدة اللادينيون (الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، والدهريون المشركون المنكرون للبعث (وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)، ودول المنافقين الذين يبيحون ما قطع بتحريمه (وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وأهل الكتاب (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ). وإنما حملنا هذه الآية على هذه الأصناف؛ لأن جعلها في أهل الكتاب فقط يقطع بعدم وجود الوصفين الأولين من الآية فيهم، فهم يؤمنون بالله وهم يؤمنون بالبعث. وغاية القتال الاستسلام إرغاما في ترك الصد عن دين الله من أراد الدخول فيه ومنع دعاته وأهله من تبليغه. وفرض عليهم دفع رسوم مواطنة؛ لأن المسلمين يدفعون الزكاة، وهؤلاء الجزية على قادرٍ. وإنما شرطنا في قتال هذه الفئات صدهم الناس في دولهم عن دخول الإسلام ومحاربته وإيذاء أتباعه؛ لأن الله منع قتال المسالم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8). 10 - ويقاتل عدو حربي نقض العهد والهدنة للنص (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13). 11 - وكذا يقاتل في سبيل عدو هجَّر المسلمين من وطنهم وديارهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 39 - 40)، (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (البقرة: 246). 12 - ويقاتل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب أو شتم أو إساءة، وإذا كان معاهدا فينتقض عهده (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) (التوبة: 13). ففرض القتال على مجرد التآمر والتخطيط لإخراج الرسول وتهجيره ولو لم يقع، فسبه وشتمه والإساءة إليه توجب ذلك. وفي سب الله أولى، وكذا الإساءة للدين الإسلامي وشعائره وامتهانه كالمصحف. وهذا إذن راجع إلى تقدير المصلحة، وترتيب هذه المراتب كلها خاضع للشورى المصلحية والقدرة والاستطاعة.

شروط القتال في سبيل الله

فما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الروم حتى كانت دولته قد قويت وأمِن من العدو الداخلي. شروط القتال في سبيل الله ورأس شروط القتال في سبيل الله أمران: الأول: بذل غاية الاستطاعة في إعداد القوة العامة، وهي أربعة أمور: القوة البشرية، وجمع الكلمة، والقوة المالية، والقوة التدريبية. وهذه الأربع خاصة بالقتال بخلاف ما سبق من الإعداد العام مما ذكرناه آنفا. الثاني: بذل غاية الاستطاعة في الإعداد الحربي والتسليح؛ فتكون الشروط تفصيلا خمسة: الأربعة المذكورة، والتسليح. وتكون الشروط إجمالا شرطين: القوة العامة، والقوة الحربية. ودليل هذين الشرطين قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60). فالقوة العامة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، وهذا عموم. فيشمل ما هو عام بالأمة ونهضتها على وجه عام وما هو متعلق بالقتال، وهو ينقسم كذلك إلى عام وخاص، فالقوة العامة أربعة أمور، والخاصة هي القوة الحربية. والقوة الحربية: معطوفة عليها (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ). وإنما قلنا «غاية الاستطاعة»؛ لأن الآية تدل على ذلك بـ «ما» المصدرية المنسبكة مع المصدر الدالة على غاية الاستطاعة. ورباط الخيل: هو كناية عن القوة الحربية، وهو كقول العرب فلان له أياد بيضاء، أي عطاءات، ومنه قوله تعالى (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: 29). وهذا كناية عن الإسراف والإقتار، ومن ظن آية رباط الخيل على ظاهرها أشكل عليه أن القوة في هذا العصر مختلفة. وجوابه أنها كنايةٌ عربية بليغة معروفة عند العرب دالة على البأس والإعداد الحربي.

والقوة العامة هي

والقوة العامة هي: - القوة البشرية. - وجمع الكلمة. - والقوة المالية. - والتدريب القتالي. فهذه أربعة أمور يضاف لها التسليح بدلالة رباط الخيل، فتصير شروط القتال خمسة: القوة البشرية: فالقوة البشرية محددة بالنص لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ* الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 65 - 66). فشرط للقتالِ وجود حد أعلى أو أدنى من القوة البشرية. فالأعلى: أن يكون واحد مقابل اثنين من الكافرين. والأدنى: أن يكون واحد مقابل عشرين من الكافرين. ثم جعل الأصل واحداً مقابل اثنين وغيره تخفيفا بالنص. وترك الخيار فيما سوى ذلك لتقدير المسلمين؛ فإن كان العدو المحارب الكافر أضعافهم عشرين مرة لكن يستطيع المسلمون المواجهة ومعادلة التوازن بأنواع من التخطيط والتكتيك القتالي ففرضٌ المواجهة. وذلك في أكثر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي بدر وأحد كان العدو ضعفهم نحو ثلاث مرات، وفي الخندق كان العدو ضعفهم نحو عشر مرات، ولكن التكتيك الحربي والقتالي في هذه الوقائع سد الفجوة؛ كاختيار المكان القريب من الماء في بدر؛ وكجعل فئة من المقاتلين في مكان استراتيجي تصيب العدو وتحمي الظهر في أحد. وأما في الخندق فحَفَرَ الخندق وهي وسيلة حربية فاجأت الأعداد الكبيرة من الأحزاب

جمع الكلمة

وعطلت إمكاناتهم، وأصبحت المعركة دائرة على استنزاف القوى، ولا شك أن ذلك أثر في معسكر الأحزاب تأثيرا بالغا فاستنزف المؤن التموينية طعاما وشرابا للمقاتلين وللمراكب الحربية من خيل وأبعرة. وأوقع ذلك بينهم التلاوم والخوف؛ مما هيأ للجهد المخابراتي لمعسكر الإسلام في الوقيعة بينهم، وتفكيك حلفهم بأمرٍ واطلاعٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). جمع الكلمة: أما الشرط الثاني للقتال في سبيل الله فهو جمع الكلمة ووحدة الصف وعدم الفرقة والتنازع. فإذا تفرقت الكلمة تفرقا يعود على المقصود من القتال في سبيل الله بالضرر والإبطال، انتظرنا عن بدء مباشرة القتال؛ لوجوب إزالة هذا المانع مع استمرار الإعداد. والدليل على أدائه إلى خلاف مقصود الجهاد في سبيل الله قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46) والفشل وذهاب الدولة والهيبة من أعظم المفاسد (¬2). القوة المالية: أما اشتراط القوة المالية المستطاعة لوجوب الجهاد فدليله قوله تعالى (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء ¬

(¬1) - قولنا «مما هيأ للجهد المخابراتي .. » فيه قصة نعيم بن مسعود وتخذيله وهي قصة صحيحة مشهورة في السير وأخرجها عبدالرزاق (5/ 367) وفيه: إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان كان موادعا لهما فقال إني كنت عند عيينة وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة أن اثبتوا فإنا سنخالف المسلمين إلى بيضتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم فلعلنا أمرناهم بذلك وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث فقام بكلمة النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عمر فقال يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فأمضه وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال فقال النبي صلى الله عليه وسلم علي الرجل ردوه فردوه فقال انظر الذي ذكرنا لك فلا تذكره لأحد فإنما أغراه فانطلق حتى أتى عيينة وأبا سفيان فقال هل سمعتم من محمد يقول قولا إلا كان حقا قالا لا قال فإني لما ذكرت له شأن قريظة قال فلعلنا أمرناهم بذلك قال أبو سفيان سنعلم ذلك إن كان مكرا فأرسل إلى بني قريظة أنكم قد أمرتمونا أن نثبت وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم فأعطونا بذلك رهينة فقالوا إنها قد دخلت ليلة السبت وإنا لا نقضي في السبت شيئا فقال أبو سفيان إنكم في مكر من بني قريظة فارتحلوا. (¬2) - وهذا دليل على التعليل للحكم التحريمي بترتيب المفاسد. والملاحظ أن الأحكام السياسية وأحكام الدولة كثيرا ما تبنى في القرآن والسنن على هذا التعليل تنبيها لنا على أنه ركيزة للحكم الشرعي في هذه الأبواب.

التدريب القتالي

وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 91). فلما لم يجدوا ما ينفقون بالنص ولم يجدوا عطاء رفع الله عنهم الحرج. التدريب القتالي: وأما اشتراط التدريب فلقوله تعالى (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 91). والضعفاء هنا هم كل من لا يستطيع القتال لعلة ضعف، كالنساء والأطفال والشيخ الهرم، ويلحق بهم الأعمى والأعرج كما تفيده نصوص أخرى. فإن كان الضعف لعدم تدريب معتبرٍ على القتال والسلاح والكر والفر؛ فإن النص يشمل في الأعذار من كان فيه ذلك. وفرض عليه وعلى الأمة كافة تحصيل هذه الشروط الخمسة للقتال في سبيل الله كما يفرض على المصلي الوضوء ونحوه؛ لأنه شرط لا تصح الصلاة إلا به. وفرض عين على الدولة أن تحصل شروط الجهاد في فئة كافية من الشعب للقيام بذلك ببناء قوات مسلحة عالية التدريب والكفاءة قادرة على القيام بذلك (¬1). قوة التسليح: وأما اشتراط التسليح فدليله (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) (التوبة: 92)؛ لأنهم لما عدموا المال لشراء السلاح وعدة الحرب ذهبوا إلى رسول الله ليعطيهم السلاح والعدة ولم يكن عنده ما يعطيهم فأعذرهم الله، فدل على اشتراط التسليح لفرض حضور المعركة. أركان القتال في سبيل الله: أما أركان الجهاد في سبيل الله فهي الثبات عند اللقاء، والإخلاص لله، والقتال لتكون كلمة ¬

(¬1) - انظر بتفصيل فقه المؤسسة العسكرية.

الله هي العليا، وطاعة الأمر، ووحدة القيادة ووحدة القرار وطاعته. والفرق بين الأركان والشروط أن الأركان مفروضة حال المعركة المعيَّنة وما يتعلق بها من السوابق واللواحق. أما الشروط فهي أمور مفروضة قبل مباشرة أيِّ معركة قتالية في سبيل الله. فالثبات ركن لصحة الجهاد حال اللقاء، ودليل ركنيته الأمر به والنهي عن ضده المعين (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) (الأنفال: 15)، واجتماعهما نصا على أمر واحد يدل على عدم الصحة إلا بوجوده، وهذا دليل على الركنية أو الشرطية. وإنما جعلناه ركنا لا شرطا؛ لأن الركن جزء من الشيء بخلاف الشرط، والثبات جزء من القتال حال المعركة، فهو كالقيام في الصلاة حال أدائها. وأما الإخلاص لله فهو أمر قلبي، وهو ركن لصحة العمل عند الله. وأما القتال لتكون كلمة الله هي العليا فللنص «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬1)، و «من قاتل تحت راية عمية ينصر عصبة فهو من جثي جهنم» (¬2). والقتال حينئذ محرم، وقد جمع هذان الركنان في قوله تعالى (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال: 47)، فحرم القتال رياء وبطرا بلا هدف مشروع. وأما طاعة الأوامر فلأن معصيتها مؤد إلى مفسدة الفشل والتنازع وعدم النصر (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152). وأما توحد القيادة على قائد مطاع فوجوبه الركني حال القتال في سبيل الله مستفاد من (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، والنهي يفيد الفساد كما هو معلوم في الأصول. ¬

(¬1) - فدل على الركنية مع كون تركه مؤدياً إلى إبطال مقصود الجهاد .. (¬2) - تقدم تخريجه.

واجبات القتال في سبيل الله

وهذا التكليف في النص هو حال اللقاء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 45 - 46). وأما ركن الطاعة أعني طاعة الله ورسوله فللأمر به حال اللقاء (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وهذا يفيد الوجوب الخاص، ويرفعه إلى كونه من أركان الجهاد في سبيل الله أنه إذا فقد بطل الجهاد؛ لأن المقاتلين إذا كانوا عصاة لله ورسوله في أمهات التكليف؛ فجهادهم ليس في سبيل الله، ولو ادعوا؛ لأن الدعوى إذا خالفتها الظواهر فهي باطلة. فدعوى أنهم في سبيل الله مع اعتدائهم على حدود الله وشربهم الخمر، وقطعهم الصلاة، وارتكابهم الفواحش، نفاق. واجبات القتال في سبيل الله: وأما واجبات القتال: فَذِكْرُ الله تعالى كثيرا للنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45). والإكثار منه مقصود بالنص، فلا يجزئ الذكر بقلة. والأمر دليل الوجوب، وتعليله بالفلاح دليل على عظيم إيجابه. ويحرم السماح للمنافقين بالخروج في سبيل الله. ويجب منع مخذل ومرجف وعميل؛ لأنهم منافقون (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة: 83). (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47). ومن ذكر الله في القتال الدعاء نحو (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 147). ويجب التحريض على القتال والتعبئة ورفع المعنويات والتبشير (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُوا

أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65). والتعبئة المعنوية على القتال تحريضا، وتبشيرا، وترهيبا من التخاذل، مقصودة في النصوص. فمن أبلغ ما ورد في ذلك: (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة: 12). (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) (التوبة: 13). فعلل لهم أسباب القتال بنكثهم للعهود وطعنهم في الدين وذكرهم بأبشع غدرهم واستهدافهم قيادتهم (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ). وهو تنبيه على السوابق الإجرامية بحيث يندفع الشك في احتمال حسن النوايا واحتمال أن الواقعة الحالية كانت فلتة وخطأ. وسبَّب لهم بأسباب تزيل ذرائع البعض بعدم العدوان (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13). وبعد استقصاء السوابق والعلل عيَّرهم بما لا يرضى أحد أن يوصف به عادة، وهو الذل والخوف والجبن رغم عدالة قضيتهم، وإمكان انتصارهم لو أعدوا (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) (التوبة: 13). ثم بشرهم بحسم المعركة ونتائجها (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) (التوبة: 14). ثم بين لهم أن هذا الأمر أصبح واقعا لا خيار فيه، وليس طارئا بل هو الواقع الذي لا مفر منه ولا مناص كسنة لابتلاء المؤمنين (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة: 16). ثم بين لهم أن الجهاد في سبيل الله أعظم من عمارة المسجد الحرام وخدمته، ثم بين لهم الخيار

التفصيل القتالي بما يتعلق بالمعركة من الأحكام

بين الله ورسوله أو الأهل والأموال والمتاع والمساكن ولا ثالث لهذين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 23 - 24)، ثم ذكرهم بأيام الله وقدرته (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة: 25). وهذا البيان من أول النصوص إلى آخرها لا يدع لأحد مجالا للتخاذل والتراجع إلا إن كان منافقا. قاعدة هامة تستنبط من هذه النصوص وأمثالها وهي: التحريض على الفعل أبلغ من الأمر به (¬1). التفصيل القتالي بما يتعلق بالمعركة من الأحكام: وإذا حصل سبب يوجب الجهاد في سبيل الله من الأسباب السالفة أرجع الأمر إلى أهل الشورى من العلماء وأولي الأمور (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). والعلماء قائمون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الشرع، وأولو الأمر يمثلهم القيادات المعتبرة، فإن كانوا معينين في مجلس رسمي رجع إليهم. إنشاء المجلس الأعلى للسلم والحرب: ووجب إيجاد مجلس أعلى مختص بذلك يجمع قيادة العلماء الكبار، والقيادات الكبرى في الجيش، ونواب الشعب، وأهل الشورى، والقيادات الكبرى المتبعة. ويكون المجلس الأعلى من عدد مرجعي من هؤلاء شرعيين وسياسيين وقياديين. ¬

(¬1) - وهي قاعدة استنبطتها من أساليب التكليف في النصوص في كثير من المواضع وصغتها بهذه الصياغة كقاعدة أصولية هامة تضاف إلى هذا العلم، وعدم اطلاعي على سابق في هذا لا يعني العدم ولا يعني البطلان؛ لأن علم الأصول واسع.

وقلنا بوجوب تشكيله بما سبق؛ لأنه مقصود بالنص قصدا أوليا وسيليا؛ لأنه لا يتم الرجوع في الأمن والخوف العامين الآن إلى أهل الأمر المعتبرين إلا بذلك، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ولا بد قبل اتخاذ قراراته النهائية الكبرى التي تتعلق بالأمن والحرب أن تعرض على نواب الشعب وأهل الشورى. ويتخذ المجلس الأعلى للأمن والحرب قراره بعد ذلك حتى يتحمل كافة أولي الأمر مسئولية القرار؛ ولأن الآية أطلقت (أُوْلِي الأَمْرِ) فشمل سائر القيادات المطاعة في الشعب، ولتعذر استقصاء مشورتهم يقوم عنهم نوابهم وأهل الشورى والمجلس الأعلى بمكوناته السابقة. ولأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وهذا متيسر بخلاف استقصاء كل أولي الأمر في الأمة أو الشعب. فإذا صدر قرار المجلس -حينئذ- وجب طاعته والعزم فيه، وحرم التردد بعده (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159). وقراره بالجهاد في سبيل الله يجعله فرض عين على من استنفروا، بدءا بالقوات المسلحة، ثم كافة أفراد الشعب؛ لأن الاستنفار العام يوجب الجهاد العيني على كل فرد للنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة: 38). ثم عمم ولم يستثن أحداً (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة: 41)، وتوعدهم عند التخلف (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة: 39). وفي الحديث «وإذا استنفرتم فانفروا» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 1834 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم قال: قال إلا الإذخر.

وعلى هذا كلمة العلماء كافة. وواجب بحسب القضية حينئذ التعبئة العامة في كافة أجهزة الإعلام التابعة للدولة المسلمة حكوميا وأهليا وقنوات وصحافة وإعلام مرئي ومسموع ومواقع إلكترونية (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84). ويمنع مخذل ومرجف وهو منافق ويتعامل معه بالمصلحة العامة، وقد تصل إلى المنع (فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة: 83). ووجود مناهضين للحرب بعد تعذر السلام وفشل مساعيه؛ إن كان في القتال مع كافرٍ مُحْتَلِّ فهو نفاق، أو كان في قتال داخلي لصد بغاة على الجماعة بعد الصلح فلا حرج عليه؛ لأنه يجوز الاجتهاد في المسألة لوجود نصوص مانعة عن قتال أهل الإسلام، وأخرى تجيز قتال باغ بعد الصلح (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) (الحجرات: 9). وبها اعتزل بعض الصحابة القتال في الفتنة، وعذروا من الجانبين، فكان الإجماع. ولا عذر لمتخلف في قتال الكفار المعتدين عند النفير العام؛ للنص في النفير خفافا وثقالا. ولعقوبة الثلاثة المؤمنين المتخلفين بالنص (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 118). وللحكم على القاعدين بالنفاق في نصوص صريحة (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 90). ولحصر أهل الأعذار بالنص (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 91 - 93).

وإذا وجب الجهاد فللأمة أحوال

وإذا وجب الجهاد فللأمة أحوال: أ- فإما أن تكون بإمام واحد، وسياستها الخارجية متحدة سواء كانت في دولة متحدة كليا، أو كانت في دولة متحدة في السياسة الخارجية والأمن الداخلي والخارجي والاقتصاد فقط، فواجب النفير العام بأمر الدولة. ب- أو كانت في اتحاد أقل من ذلك، فواجب على دول الاتحاد كافة الدفع والنفير. ج- وإن كانوا دويلات متفرقة فواجب على رؤساء الدول وقياداتها الدعوة للنفير العام. د- فإن لم يفعلوا وجب على كل قادر النفير ويأثمون للترك. وإذا احتل الكفار بلاد الإسلام وتخاذل حكامهم؛ فلا يسقط وجوب الجهاد على الشعوب، وفَرْضٌ وجود طائفة تدفع الاحتلال (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191)؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84). ويكون رباطهم وجهادهم في الأرض التي بها احتلال العدو؛ لأن هذا هو محل الفرض. ولا يجوز لهم قتال كافر في داخل دولة مسلمة دَخَلَ برضا ولي الأمر لتلك الدولة ولو كان محتلا لدولة مسلمة أخرى. لأن الفرض يؤدى في محله وهي الأرض المحتلة؛ ولأَن وجوده في دولة مسلمة أخرى لم يكن احتلالا؛ لأنه بأمان وتوافق، وبغير قوات عسكرية؛ لأن ذمة المؤمنين واحدة. وسواء كان هؤلاء في تلك الدولة تجارا، أو سواحا، أو شركات استثمارية، أو عمالا، أو مبعوثا عسكريا. فإن كانت قوات عسكرية فيحرم على الإمام والدولة إعطاؤها الإذن والأمان بالتواجد داخل الدولة المسلمة؛ لأنه إن كانت ضعيفة فهو احتلال، أو كانت قوية فهو عمالة ونفاق (¬1)، إلا في حالة الضعف وكان ذلك تقية لدفع ما هو أعظم (إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) (آل عمران: 28). فيرجع النظر فيها إلى أولي الأمر لعموم النص (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا ¬

(¬1) - انظر مسائل الأجواء في فقه المال.

بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). ويقدر الأمر قدره. ويشترط في العقد إخراجهم في أي وقت، وعدم استعمالهم الأرض لضرب دولة أخرى. فإن لم يشترط ذلك لشدة ضعف، وفرقة دول المسلمين، فهي مصيبة عامة حينئذ أصلها ذنوب عظيمة في الأمة وجب التوبة منها والسعي لجمع الكلمة والخروج من الوضع القائم العام، وهذه فروض. وأحكام الإسلام ودولته تبدأ بالتدرج كما تدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة والدولة، ولم يقاتل المعتدي حتى اشتدت قوة الدولة، ولم يعلن إخراج المشركين من جزيرة العرب حتى كان الإسلام قوة عظيمة، وقد واجه محاور القوة للمشركين وغلبهم، وهي قريش، والطائف، وحنين، وقوى اليهود، وأعلن بعد ذلك إخراج القوات المشركة من جزيرة العرب. ونزلت براءة مفتتحة ذلك. ويستنبط من هذه الاستدلالات أنه إذا تواجدت قوات كافرة في دولة مسلمة باتفاق رسمي لا باحتلال حال ضعف المسلمين كما هو حاصل الآن فالواجب الأول هو السعي لجمع الكلمة وتوحيدها، والإعداد، والتوبة، وغرس الإيمان في الأمة. وقيام طائفة مسلمة بالعدوان على تلك القوات الكافرة غير المحتلة الموجودة باتفاق رسمي في وضعنا الراهن متعذر؛ ومفاسده عظيمة، فيمنع. بل يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يمنع التواجد المسلح للكفار في الجزيرة حتى كان قد وحد جزيرة العرب، وظهر الإسلام فيها على غيره، واجتمعت الكلمة العامة. وقد شرط الله للجهاد جمع الكلمة، وعدم التنازع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 45 - 46). ومنع نصرة المستضعفين في بلاد الكفار إن كان بيننا وبينهم ميثاق (حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) (الأنفال: 72).

إجراءات قتالية

واكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء على قبيلة رعل وذكوان، وقد قتلوا غدرا القراء المرسلين إليهم (¬1). ولم يبعث لقتالهم، فدل على أن خيار القتال له شروط وأركان. ولا يكون في أي حال حتى لو اعتدى الكفار على المسلمين فقتلوهم كحال رعل وذكوان لما قتلوا القراء. ففتح جبهات قتالية تضر المسلمين عامة هو من المحرمات الشرعية. وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير من البقاء في الدولة (¬2) حتى لا يحمل المسلمين ودولتهم ما لا طاقة لهم به آنذاك؛ ولوجود عهد وميثاق جعلهم يتفرغون للدعوة سماه الله فتحاً وهو صلح الحديبية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (الفتح: 1). - إجراءات قتالية: ويعين قيادات القوة المتحركة للقتال، بدءا بالقائد، ونوابه، ومساعديه. وهو أمر متعلق بالمصالح. وقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم قيادات في سرايا وجيوش، وعين نوابا كما في مؤتة (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 1003 عن أنس قال قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان. وهو في مسلم برقم 1577 عن أنس بن مالك قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا يدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية عصت الله ورسوله. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قولنا «وقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم .. » منه ما أخرجه أحمد بسند صحيح في قصة مؤتة برقم 22604 عن أبي قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وقال عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة الأنصاري فوثب جعفر فقال بأبي أنت يا نبي الله وأمي ما كنت أرهب أن تستعمل على زيدا قال امضوا فإنك لا تدري أي ذلك خير قال فانطلق الجيش فلبثوا ما شاء الله ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وأمر أن ينادى الصلاة جامعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناب خير أو ثاب خير شك عبدالرحمن ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب زيد شهيدا فاستغفروا له فاستغفر له الناس ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيدا أشهد له بالشهادة فاستغفروا له ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة فأثبت قدميه حتى أصيب شهيدا فاستغفروا له ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه وقال اللهم هو سيف من سيوفك فانصره وقال عبدالرحمن مرة فانتصر به فيومئذ سمي خالد سيف الله ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد فنفر الناس في حر شديد مشاة وركبانا.

وتوديع الجيش إلى مشارف البلد من ولي الأمر، أو القيادات العليا مشروع، وقد ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. ويستقبلون الجيش العائد كما ورد في جيش مؤتة. ولا مانع من إطلاع الشعب على مجريات المعركة إعلاميا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال على المنبر «أخذ الراية زيد فأصيب». وإذا سار الجيش كبروا على مرتفع، وسبحوا على كل سهل للنص (¬1). ولأنه أوقع في نفوس من يمرون عليهم (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60). وإذا حضرت الصلاة صلوا صلاة الخوف (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا* وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (النساء: 101 - 102). ولها كيفيات عديدة، بحسب الوضع ومردها إلى ثلاثة أنواع: الأول: أن يصلوها جماعة بكيفيات وتكتيك معين (¬2). الثاني: أن لا يستطيعوا أن يصلوا أي صلاة، لا فرادى ولا جماعة، فيؤخرونها حتى إمكان الاستطاعة، ثم يجمعونها كما ورد في الخندق (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2993 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا. (¬2) - أورد الإمام أبي داود في سننه سبعة عشر كيفية فراجعها. (¬3) - تقدم تخريجه.

الثالث: إن استطاع أن يصلي الفرد بالإيماء؛ فيجوز لورود ذلك (¬1). وأما الصوم فإن كان الفطر أقوى لهم فالفطر واجب ويقضون؛ لورود تسمية من لم يفطر في فتح مكة بالعصاة (¬2)، لاقتراب القتال؛ فإن كان لا قتال ولا خوف فلهم الإفطار لعلة السفر، ولهم الإمساك. ومن أفطر قضى وجوبا. وأما الأذكار فقد بيناها في كتابنا «فقه المقاتل» (¬3). وواجب الأخذ بعوامل النصر، وهي: الإعداد التام، والثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ¬

(¬1) - قولنا «لورود ذلك» مما ورد فيها ما أخرجه أحمد برقم 16090 عن عبدالله بن أنيس قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فأته فاقتله. قال: قلت: يا رسول الله، أنعته لي حتى أعرفه. قال: إذا رأيته وجدت له اقشعريرة. قال: فخرجت متوشحا بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا وحين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقشعريرة فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا. قال: أجل أنا في ذلك. قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: أفلح الوجه. قال: قلت: قتلته يا رسول الله. قال: صدقت. قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا فقال: أمسك هذه عندك يا عبدالله بن أنيس. قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها. قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا. قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ يوم القيامة. فقرنها عبدالله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعا. قال الحافظ في الفتح (2/ 437) برقم 904: أخرجه أبو داود وإسناده حسن. (¬2) - أخرجه مسلم برقم 2666 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال «أولئك العصاة أولئك العصاة». (¬3) - وهو كتاب ألفناه في مهمات ما يحتاجه الجندي من العقائد والعبادات والطهارات والأذكار والجهاد وأعذاره والفتاوى، وطبع منه أكثر من مائة ألف نسخة -الطبعة الأولى- ووزع على كثير من وحدات القوات المسلحة والأمن رسمياً.

ورسوله وترك التنازع، والصبر، وترك البطر، والرياء، والتكبر على الخلق بعدد أو عدة، ووجوب اعتقاد أن النصر من عند الله، وهذه مجموعة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 45 - 46). ومن كان مخذلا أو مرجفا حرم إخراجه في الجيش (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (التوبة: 47). ويجوز إرسال العيون والاستخبارات على العدو كما ثبت في النصوص (¬1). والإيهام والخداع والتحرك والتكتيك والقتال من أصول الحرب عرفاً وشرعاً على المستوى الدولي الرسمي وغيره «الحرب خدعة» (¬2). وإن اطلع على جاسوس للعدو قبض عليه لمحاكمته والنظر في أمره. والإلهاب والتحفيز للمقاتلين والتحريض واجب (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء: 84)، وهذا أمر. ويجب إنشاء جهة مسئولة عن ذلك كالتوجيه المعنوي؛ لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ويختار مكان المعسكر بما يفيد قتاليا، ويشاور في ذلك كما ورد في بدر (¬3). ويتفحص الرأي لأهل القيادة والخبرة فيما يتعلق بالقتال كما في بدر (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 3029 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة. وهو في مسلم برقم 4638. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 4178 عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال إن قريشا جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك، عن البيت ومانعوك فقال أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا، عن البيت فإن يأتونا كان الله عزوجل قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين قال أبو بكر يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال امضوا على اسم الله.

ويكثرون من التضرع لله، وطلب النصر، والبعد عن المعاصي (¬1). وواجب الالتزام بالأوامر للقيادة ويحرم عصيانها، وهو مأثم مؤدٍ إلى الفشل (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152). ولا إثم إلا من ذنب. ويجب اعتقاد أن الموت والحياة بإذن الله، ويحرم ربطها ببقاءٍ وتخلف عن قتال؛ وهو من قول الكفار والمنافقين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران: 156)، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). والفرار من الزحف محرم، وهو من كبائر الموبقات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) (الأنفال: 15). إلا إن كان بتكتيك قتالي، أو لإعادة جمع القوات وهو وارد في النص (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 16). ¬

(¬1) - قولنا «ويكثرون من التضرع .. » فقد تضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر حتى سقط الرداء عن منكبه وهو يناشد ربه، وقد أخرجه مسلم برقم 4687 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد فى الأرض». فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه. وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عزوجل (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9) فأمده الله بالملائكة.

ويختار وقت المعركة بما هو أنفع للجيش كاعتدال الحرارة، وحركة الشمس «كان صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى تزول الشمس وتهب الأرواح» (¬1). وواجب الرد على الإشاعات والدعايات والشعارات التي يطلقها العدو؛ لورود «أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا الله أعلى وأجل ... » (¬2). وقلنا بالوجوب؛ لأنه أرفع للمعنويات، وأدفع لمفسدة الوهن والإرجاف. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 3160 عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 3039 عن البراء بن عازب رضي الله عنهما يحدث قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلا- عبدالله بن جبير فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبدالله بن جبير الغنيمة -أي قوم- الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبدالله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومئة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان أفي القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوؤك قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز أعل هبل أعل هبل قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوا له. قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. قال: إن لنا العزى، ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوا له. قال: قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم.

فقه الأموال والاقتصاد المعاصر

فقه الأموال والاقتصاد المعاصر * كل المعاملات التجارية على وجه الأرض بين شعوب العالم مباحة على الأصل، ولا يزحزحها عن هذا الأصل اليقيني إلا دليل صحيح صريح، لا مجرد الاحتمالات والظنون والتخريجات المتكلفة، فإن اليقين لا يزول بالشك * (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275) * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29) * (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90) * وجود طبقية مالية تتداول المال من دون الناس أمر مرفوض شرعا (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7) * (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10) * (أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) (البقرة: 267) * المال وسيلة للحياة لا لمحاربة الحياة * بقاء الثروة ونحوها من المتاع مقترن بالعطاء

قال المؤلف عفا الله عنه

فقه الأموال والاقتصاد المعاصر قال المؤلف عفا الله عنه: المال هو: كل ما سوى الإنسان مما تقوم به المنافع، وينتفع به حالا أو مآلا. لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29)، فهذه تدل على أن ما سوى الإنسان خلق للإنسان، واللام للتمليك. وقوله تعالى (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5)، فوصف المال بكونه (قِيَاماً)، أي تقوم به الحياة. فكل مال عُدَّ قواما مما تقوم به الأمور وتسير به الحياة داخل في هذا. وحفظ المال من مقاصد الشريعة الكبرى. فحرم إعطاؤه لسفيه ينفقه فيما لا يخدم المصالح، ويحجر عليه فيه للنص (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). وإذا حجر على السفيه فعلى المفسد أولى؛ لأنه سفيه وزيادة. ونعني به هنا من ولي ولاية عامة فعمل على الفساد في الأرض وإتلاف الأموال العامة وحماية المفسدين، وترك محاسبتهم. وتعيين مفسد محرم، وتوليته باطلة. وكل عقد في الثروات الكبرى من نفط، وغاز، وذهب، وغيرها، إذا أبرم مع شركات محلية أو أجنبية بثمن غير ثمن المثل، وهو: السعر العالمي المتعارف عليه، فإن العقد باطل. ووجب محاسبة من أبرمه، ويعزل إن اقتضى الأمر. وكل ما فيه حفظ للمال؛ فالشريعة طالبة له بِحَسبه. وكل ما أدى إلى عدم حفظه من إهدار وإسراف وتبذير فهو إتلاف محرم.

قواعد مالية عامة

قواعد مالية عامة: وللمال قواعد كبرى استنبطناها من تصرفات الشرع في الماليات، أو أخذناها من منصوصه، فجعلناها قاعدة بالتتبع لفروعها وثباتها في الضبط، وصغت ما يحتاج إلى صياغة، فمنها: قاعدة: لا يؤكل مال إلا بوجه حق مشروع (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188). وقاعدة: الأصل في المعاملات التجارية الحل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). وقاعدة: الرضى ركن التجارة، فإن انعدم بطل التصرف (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وقاعدة: احتكار تداول المال ممنوع (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7). وقاعدة: لا ولاية للسفيه على مال (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً). وقاعدة: الحرام لا يباح بحكم قضائي (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188). وقاعدة: التملك حق لكل إنسان. أي: من حق الجميع، الرجل والمرأة. وقَيْدُ الحرية غير معتبر (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) (النساء: 32). وقاعدة: الإنفاق قائم على التوسط (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29). وقاعدة: الإنفاق راجع إلى الوسع (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (الطلاق: 7). وقاعدة: الإنفاق يكون مما فضل عن الضروري (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219). وقاعدة: أيُّ مال لم يتملك فهو ملك عام (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً). وقاعدة: من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد فهي له.

وقاعدة: ليس لعرق ظالم حق (¬1). وقاعدة: مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته (¬2). وقاعدة: الأصل في أموال الناس الحرمة «إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ... » (¬3). وقاعدة: لا بيع إلا بملك مقبوض (¬4). ولا تصح هذه القاعدة إلا في الطعام، ولا يصح الاستدلال على التعميم بنحو «لا تبع ما لا تملك ولا ما ليس عندك» (¬5). ¬

(¬1) - قولنا «وقاعدة ليس لعرق ظالم حق» هذه منصوصة في حديث صحيح عند أبي داود برقم 3075 عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق». وسنده على شرط الشيخين. ورواه بعضهم مرسلا ولا يضر؛ لأن من رفعه من الأثبات وهو أيوب بن أبي تميمة من الحفاظ الأثبات، بل قدمه أحمد على مالك. وله شاهد عند الضياء في المختارة برقم 1184 من حديث سمرة، وهو شاهد جيد. وله شاهد بسند حسن في الشواهد عند الدارقطني برقم 4506 من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البلاد بلاد الله والعباد عباد الله ومن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له وليس لعرق ظالم حق». قلت: وله شاهد في معجم الصحابة لابن قانع برقم 726 من حديث بكر بن عبدالله المزني، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحيا مواتا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، ليس لعرق ظالم حق». قلت: سند الحديث صحيح رجاله كلهم ثقات إلا حسن بن عفان. قال الدارقطني ثقة، وقال مسلمة ثقة، وقال الحاكم ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم والذهبي والحافظ صدوق. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2287 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع». وهو في مسلم برقم 4085. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - القبض عندي هو القدرة على الحيازة حسب المشيئة بلا مانع. (¬5) - أخرجه أبو داود برقم 3505 بسند على شرط الشيخين عن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق؟ فقال «لا تبع ما ليس عندك». وكذلك الترمذي برقم 1232. وابن ماجة برقم 2187. وله شاهد عند أبي داود برقم 3506 من حديث عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه حتى ذكر عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس عندك». وهو حسن صحيح، سنده إلى عمرو رجاله رجال الشيخين. وأخرجه الترمذي برقم 1234. وقال حسن صحيح. وهو كما قال. وأخرجه النسائي برقم 4611. وابن ماجة برقم 2188. وأخرجهما من حديثهما أحمد برقم 15346 وبرقم 6671. قلت وحديث حكيم بن حزام رواه عنه يوسف بن ماهك وزعم البعض أنه لم يسمع منه، وقد أورده البيهقي في السنن الكبرى من طريق شعبة عن جعفر بن إياس عن يوسف بن ماهك فذكره. قلت: وغالب ما أراه أنه أورد طريق شعبة ليرفع احتمال عدم سماع يوسف بن ماهك من حكيم بن حزام لأن شعبة لا يحدث عن مشائخه ومن فوقهم إلا ما سمعوه كما قررناه سابقا عن أهل العلم بالعلل كأبي زرعة الرازي. وأخرجه أبو داود الطيالسي من طريق شعبة برقم 1456. وله شاهد في المطالب العالية برقم 1398 من حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاه عن سلف وبيع وعن شرط وبيع وعن بيع ما ليس عندك. هذا منقطع بين عطاء وعتاب مع ضعف ليث بن أبي سليم. قلت: ولكنه إسناد حسن في الشواهد. وهو في إتحاف الخيرة للبوصيري (3/ 83).

وقاعدة: كل مقبوض مضمون «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬1). وقاعدة: الولاية على مال الغير ولاية نظر لا ضرر (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ). وقاعدة: لا وصية لوارث غير الوالدين، لقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» (¬2). وأما الأقربون في الآية فيحمل على غير الوارث جمعا بين النصوص، وكذا يجوز الوصية بمتاع سنة للمتوفى عنها زوجها بالنص، والآية ليست منسوخة كما بينته. وقاعدة: لا يغتفر الإخلال اليسير في الموازين والمقاييس (¬3) (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين: 1). وقاعدة: كل محرمٍ محرمٌ بيعه. وقاعدة: كل محرمٍ بيعه لا يحل بحيلة، «لعن الله اليهود حرم عليهم الشحوم فجملوه ثم باعوه ثم أكلوا ثمنه» (¬4). وقاعدة: غسيل الأموال لا يطهرها ولا يجعلها حلالا؛ لحديث «لعن الله اليهود حرم عليهم ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - قلنا: الإخلال بدلا عن الخلل؛ لأن الهمزة تدل على فعل فاعل بخلاف الخلل فإنه لو كان غير متعمد فقد يتسامح فيه ديانة أما قضاء فله مقاضاته. (¬4) - أخرجه البخاري برقم 2236 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه. وهو في صحيح مسلم برقم 4132.

الملكية

الشحوم ... » (¬1)، وللعن أصحاب السبت. وقاعدة: كل طيب مباح، وكل خبيث محرم. وقاعدة: الأصل حل بيع المنافع المباحة (¬2) المعتبرة (¬3). وقاعدة: الأصل حرمة الغش ولو يسيرا؛ لحديث «من غش فليس منا» (¬4). وقاعدة: النجش ممنوع؛ لحديث «نهي عن النجش» (¬5). وقاعدة: لا يحتكر إلا خاطئ (¬6). وقاعدة: الإضرار بالسوق مفسدة يجب دفعها؛ «نهي عن تلقي الجلب وبيع حاضر لباد» (¬7)، «لا ضرر ولا ضرار» (¬8). وقاعدة: ملك المنفعة بمعاوضة تجيز بيعها لا بالإباحة (¬9). وقاعدة: كل ما لم ينص على تحريمه فهو عفو، بدليل (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) في كل مسألة لم ينص على تحريمها. وقاعدة: الوعود تلزم بالعقود والعهود. الملكية: وتتملك الأموال بخمس طرق استنبطناها بالتتبع: 1 - بالمعاوضة المحضة. ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل. (¬2) - المباحة: خرج بها المنافع المحرمة كأجرة البغي. (¬3) - المعتبرة: خرج بها ما لا يعتبر منفعة إلا سفها كمزاين الإبل وشراء الأرقام المميزة للسيارات والتلفونات. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - أخرجه البخاري برقم 2142 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي عن النجش. وهو في مسلم برقم 3893. (¬6) - أخرجه مسلم برقم 4207 من حديث معمر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يحتكر إلا خاطئ». (¬7) - تقدم تخريجه. (¬8) - تقدم تخريجه. (¬9) - كالهبة: فمن وهب منفعة دار لشخص، فلا يباح له إيجاره إلا بصريح الإذن، لأن الإباحة خاصة له فقط، فملكه ضعيف بدليل عدم إرثها لو مات. بخلاف ملك المنفعة بمعاوضة كالإيجار، فتورث في الأصل.

حفظ المال

2 - وبالمعاوضة غير المحضة. 3 - وبالتبرعات والتبررات، وبَابُها. 4 - وبالفرض الشرعي. 5 - وبوضع اليد على غير مملوك من المباح العام. فالمعاوضة المحضة هي: ما قصد منها الربح، وهي البيع والشراء، والسَّلَم، والمضاربات، والشركات، والأجارات، والصرف، والمساقاة، والمزارعة، والاستصناع. وكل أنواع المعاملات المالية الربحية داخلة في هذا. وأما المعاوضة غير المحضة فهي: ما لا يقصد بها الربح، بل المكارمة أو المصالحة، فالأول كالمهور والنفقات، والثاني كالديات والأروش. فليست معاوضات بل تعويضات. وأما التبررات والتبرعات والتسهيلات: فالهبة والوقف والوصايا والنذور ومطلق الإنفاق في وجوه البر والقروض والحوالات. وأما الإباحة العامة: بوضع اليد فإحياء الموات، والاحتطاب، والاحتشاش، والصيد. وأما الفرض فالزكاة والغنائم والفيء والفرائض المواريث. حفظ المال: وحفظ الأموال يكون بالحفظ القضائي والحفظ الاستيثاقي والحفظ المدني والمجتمعي بالتكليف الشرعي العام والخاص. فالحفظ القضائي بالحدود والتعازير والعقوبات وسائر ما يطلب في القضايا المالية أمام القضاء من الشروط والأركان للتوقف عن الدعاوى، وحفظ الدولة للأموال العامة والخاصة، والحجر على السفيه والصبي وناقص الأهلية. وأما الاستيثاقي: فالرهن، وضمان الغصب والإتلاف والكتابة، والكفالة، والضمانة. وأما الحفظ المدني المجتمعي: فاللقطة، والصلح، والحسبة على المال العام، ومال اليتيم، وحرمة مال الغير، ودفع الصدقات ومساءلة الولاة في مثل المجلس النيابي، والودائع والأمانات وحفظ العواري والعمري والرقبي ونحو ذلك.

المعاملات والأموال

وأما أنواع الأموال فهي: نقد، وسهم، وحق، وعين، ومنفعة. فأما النقد الذهب والفضة والعملة الورقية. وأما السهم فنعني به الأسهم بأنواعها في الشركات والأسواق المالية والبنوك وغيرها من المعاملات المعاصرة. وأما الحق فهو: كل حق تعلق بأي نوع من الأموال كالعلامات التجارية والحقوق الفكرية، وحق براءة الاختراع. وأما العين إما مأكولة، أو مشروبة، أو ملبوسة، أو مقروءة، أو مسموعة، أو للسكن والأثاث، أو وسيلية كوسائل النقل والاتصالات وجميع ما أنتجته الثورة التكنولوجية الحديثة، أو عقارات تجارية أو زراعية، أو ثروات ظاهرة أو باطنة، كالبحرية والنفطية. وأما المنفعة فرأسها الإجارات وما يتعلق بها من الأحكام، ويدخل في هذا النوع أحكام العواري والوقف، وعقود الخدمات، ومسائل وعقود معاصرة كثيرة ستأتي. وقبل أن نتكلم عن هذه الأنواع الخمسة بتفصيل، يحسن هنا التنبيه إلى شيء مما أضر بفقه المعاملات والأموال: 1 - التوسع في علة الربا فوق المنصوص أو ما هو قريب منه، والذي يقطع به ويتفق عليه الجميع أن الشرع لم ينص لا في قرآن ولا في سنة على علة الربا، وإنما حرمه بنصوص قطعية، وهو نوعان عند نزول التحريم: النوع الأول: ربا الديون، وهو أن يقرضه بفائدة مشروطة على القرض، فهذا محرم قطعا. ومنه نوع يحصل في وقت وجوب السداد للدين، فإن جاء وقت السداد ولم يستطع أجَّله زيادة على ما مضى بشرط زيادة ربوية على الدين، وهذا محرم قطعا، وهو من المقصود في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) (آل عمران: 130). النوع الثاني: ربا الفضل والنسيئة، وهو في أصناف ستة منصوص عليها في أحاديث بلغت حد التواتر، وهي الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. هذا ما ثبت، وما سواه تخريج للمناط والعلة بالاجتهاد الشخصي، وقد تفرقت وتشعبت الآراء هاهنا، وهي راجعة إلى أربعة عشر قولا مسطورة في مطولات الفقه، وأما تشاعيبها

فلا تكاد تحصى كثرة حتى أصبح هذا الباب من أصعب وأعقد أبواب الفقه، وفيه من الأقوال العسرة والمعسرة والضيقة والمضيقة والمحيرة ما يُقْطَع أنه خلاف أصل التشريع القائم على التيسير ورفع الحرج والمشقات والقائم على أصل العفو والإباحة في هذه الأبواب، وصدق الله (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) (النساء: 82). وقد تلقف هذا الخلاف والاختلاف والتعسير كثير من بحاثة وفقهاء العصر وجعلوه أصلا لفقه العصر المالي. 2 - قاعدة التخريج على ما مضى. وهذه انبثقت عن جعل كل ما مضى من الآراء الفقهية المالية أصلا، فما تخرج عليها من المعاملات المعاصرة أجيزت أو منعت، وهذه مثل سابقتها في الخطأ، إذ لم يتعبدنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالتوقف على صور العقود القديمة التي نص عليها الفقهاء، وتحريم استجداد غيرها بحيث لا تصح أي صورة لعقد جديد إلا إن كانت على وفق تلك، وقد بينت في مواضع من هذا الكتاب في الماليات بطلان هذا النوع من المسلك وما أدى إليه من الارتباك في الفتوى، وسترى ذلك في التأمين وفي العقود المستجدة في ثنايا هذا البحث. 3 - التوسع في تحريم المعاملة بالغرر والجهالة. وهذا النوع لا يخرج عن قسمين: الغرر والجهالة التي هي من نوع المقامرة، وهي الميسر والقمار المحرم قطعيا، ومنه ما كان يعرف ببيع الملامسة والمنابذة والحصاة. والقسم الثاني: الغرر الشديد أو الجهالة الفاحشة، وضابطها كل غرر أو جهالة ترتب عليها ضرر لا يتسامح بمثله. أما غير هذين القسمين فلا مدخل للقطع ببطلان المعاملة بوجوده، وإلا لأبطلنا أمهات من العقود كالمضاربة والمساقاة والمزارعة والسلم وغير ذلك. 4 - الاعتماد على أحاديث ساقطة وشديدة الضعف في أمهات المسائل في الماليات، ومنها: أ) حديث «الكالئ بالكالي والدين بالدين»، وهو شديد الضعف ساقط كما ستراه في محله.

ب) حديث «أي قرض جر نفعا فهو ربا» وهو باطل وساقط بإجماع المحدثين، وقد خرجته وبسطت ذلك في الفقه الوظيفي. ج) حديث «فلا يصرفه إلى غيره» وهو شديد الضعف. فهذه الأحاديث جعلها علماء وطلبة علم في عصرنا أصلا، وكم حرموا ومنعوا وعسروا من معاملات وعقود معاصرة مستدلين بها، وهي باطلة. 5 - بالاستقراء والتتبع الشديدين لا يصح إبطال أي معاملة إلا بأحد موانع خمسة، وهي: الربا، وعدم الرضى، والميسر ومنه القمار، والغرر الشديد، ومانع تحريم العين التي يراد بيعها، ومانع الضرر العام أو الخاص، فهذه خمسة موانع وإن جعلنا الغرر قسما مستقلا صارت ستة. ووجدت أن جميع النصوص في البيوع والمعاملات لا تخرج عن هذه أبدا، وقد عرفت ذلك عن تحرٍ وبحثٍ وتتبعٍ واستقراءٍ. 6 - جعل أحاديث مختلف في صحتها بين كبار أئمة الفن أصلا لمنع مهمات مما تعم بها البلوى في المعاملات المعاصرة، وستراها في هذا البحث. وعند التسليم أو الترجيح للصحة فلا تجعل أصلا، بل تبقى المسائل على الأصول الشرعية القطعية، ولا تخرج عنها بمثل هذه الأحاديث التي يحتمل ضعفها وحسنها احتمالا قويا في الجانبين. 7 - ما هو ضعيف الاستدلال في المنع ومنها تحريم التأمين لأجل التحيُّر في تخريجه على مسألة ذكرها الأئمة الأربعة ونحوهم، والحق أنها على الإباحة؛ لعدم وجود مانع من الموانع الخمسة الشرعية على وجه التحقيق أو الغلبة المعتبرة شرعا في الفتوى لا مجرد الوجود بدون هذين الوصفين، وقد حققنا ذلك في محله، ومما لا دليل عليه اشتراط تقديم رأس مال السَّلَم ولم أجد دليلا من كتاب أو سنة عليه، بل كان مالك يفتي بجواز تأخيره لثلاثة أيام، ومع هذا فقد جعل البعض هذا الشرط أصلا في كثير من المعاملات والعقود المعاصرة، والحق أنه لا أصل له من كتاب ولا سنة، فنبقى على أصل الحل والإباحة المتيقنة حتى تزحزح بيقين.

ومما لا دليل عليه اشتراط القبض في غير الطعام، فإن القبض في الطعام مذكور في الصحيحين، أما غيره فلا يصح فيه دليل، ولذلك اختلف فيه العلماء القدامى من الأئمة الأربعة وغيرهم على سبعة مذاهب، والاستدلال بحديث «إذا بعت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه» استدلال لا يصح؛ لأن هذه اللفظة شاذة ومعلة، واللفظة الصحيحة -عند التسليم بصحة حديث حكيم بن حزام- هي «لا تبع ما ليس عندك»، وإنما صححنا هذه اللفظة فقط لوجود شاهد لها من حديث عمرو بن شعيب ومع هذا فالخلاف في ضعفها معتبر فهي مضطربة معلة كما قرر ذلك كبار علماء الفن. ولذلك اضطربت أقوال العلماء في اشتراط القبض على أقوال كثيرة، والصحيح منها ما دل عليه حديث الصحيحين، وهو الاشتراط في الطعام، لا في كل شيء، ولذلك أعرض البخاري ومسلم عن إخراج حديث القبض مع شدة حاجتهما للاستدلال به، وما ذلك إلا لاعتبار قوة إعلاله عندهما، وقد تتبعت طرقه وشواهده فوجدت أرجحية ما ذهب إليه البخاري ومسلم في ذلك. 8 - ومما أضر بفقه المعاملات الفهم غير الصحيح للنصوص، كنص «لا تبع ما ليس عندك» على فرض صحته، وأنا وإن كنت قد رجحت الصحة لهذه اللفظة، ولكن يبقى في النفس شيء، على أن معناه هو (لا تبع ما لا تملك)، أما ما هو في ملكك وليس عندك في مجلس العقد فيصح لك بيعه، وقد اطلعت بعد هذا التقرير على أقوال لكبار العلماء وافقت في هذا ما ذهبوا إليه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله ابن حزم وغيرهما كثير. ولا يصح الاستدلال به على بيع ما تملكه ولم تقبضه؛ لأن لغة العرب تأباه، وهذه الشريعة عربية، ولا يصح كذلك من باب المقاصد الشرعية التي أمرت بحفظ المال وجعلته أصلا من أصولها؛ لأن المقصود هو حفظ أموال وحقوق الخلق، فبيع ما لم تقبضه جائزوقد دخل في ملكك وهو مضمون في الغالب لا مرية في مضمونيته ومضمونية تسليمه للمشتري، وعلى هذا جرت كثير من تجارات العصر، ومنعها من منع لهذه العلة مستدلا بالزيادة الشاذة في حديث حكيم، أو مستنبطا ذلك من لفظة «لا تبع ما ليس عندك».

وهو استدلال غير صحيح يدل على بطلانه أن الشرع أجاز بيع السَّلَمِ وهو بيع موصوف في الذمة معدوم إلى أجل، وما أجازه إلا لحاجة الخلق الشديدة إليه، وضبطه بضوابط تضمن حفظ أموال المتبايعين. ومسائل العصر كذلك تضبط بضوابط في تسليمها ودفع ثمنها، وما وجد من اللوائح والأنظمة الشديدة في البنوك والأسواق المالية في التسلم والتسليم يجعلنا نقول بجواز البيع قبل القبض إلا في الطعام للنص الصحيح الصريح فيه، بخلاف غيره، وهو مذهب مالك عليه رحمة الله تعالى. 9 - مما أُخطئ في تكييفه شرعا الإيفاء بالوعد، وَخَرَّجوا عليه الوعد للآمر بالشراء، وخرجوا هذه المسألة على بعض أقوال العلماء في هل يجب الوفاء بالوعد أو لا؟ وليس الأمر كذلك، فقد غفل من غفل عن أن الوعد ضُمِّنَ في عقد، والعقود واجبة الوفاء بالنص (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). فالوفاء هنا ليس لأنه وعد، بل لأنه عقد بالوعد. فهذه نبذة مختصرة عما ضر من الأنظار والتأويلات بفقه المعاملات والاقتصاد الإسلامي الذي يعد النموذج الراشد للعالم.

الأنواع الخمسة للمال: النقد، والسهم، والحق، والعين، والمنفعة

الأنواع الخمسة للمال: النقد، والسهم، والحق، والعين، والمنفعة النوع الأول من الأموال: النقود، وهي ثلاثة أنواع: فالذهب نوع، والفضة نوع، والعملة الورقية الحالية وفروعها نوع. فأما الذهب والفضة فهما أصل الثمنية، ولها أحكام ظاهرة مشهورة، وهي أصل النقدية ويتعلق بها الربا، وفيها الزكاة بالشروط، ومنها حل لبسها للنساء، وحرمة الذهب على الرجال، وكذا حرمة اتخاذها للاستعمال في أواني المآكل والمشارب ونحو ذلك. أما النقود الورقية فهي: عملة تصدرها الدولة رسميا باسمها، ولها قيمة اعتبارية لا ذاتية. وتجري فيها أحكام الذهب والفضة، كون العملة الورقية صارت بدلا جارياً عنهما، فيجري فيها الربا والمعاملات، وتكون عِوَضَا في المهور والديات والأروش وتصح في الشركات والضمان والأجور (¬1). ¬

(¬1) - من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي للرابطة -مكة (1/ 22): قرار رقم (22) حول العملة الورقية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية، وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه قرر ما يلي: أولاً: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة. وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل. وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوَّمُ الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلاً ونسيئةً، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسًا عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها. ثانيًا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق =

ويجب على الدولة الحفاظ على العملة؛ لأنها قيم أموال الناس. وتحفظ من تزويرها، أو التلاعب بقيمتها، أو طباعتها بلا مصلحة ظاهرة معتبرة عامة. وتغييرها ممنوع إلا للمصلحة العامة، وبقول من يمضي قوله في تقدير المصالح العامة في هذه الأمور. ويحرم تزوير العملة لعموم «من غش فليس منا» (¬1)؛ ولأنه أكل لأموال الناس بالباطل وهو سحت محرم، والعملة المزورة هي من الباطل. ¬

= النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس. وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسيئةً، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان. وهذا كله يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة ريالات سعودية ورقًا، بأحد عشر ريالاً سعودية ورقًا، نسيئة أو يدًا بيد. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك، أو أكثر. وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية، أو أقل من ذلك، أو أكثر، إذا كان ذلك يدًا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر يدًا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، لا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثالثًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم، والشركات. والله أعلم. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الرئيس: عبدالله بن حميد (غائب لمرضه). نائب الرئيس: محمد علي الحركان. الأعضاء: عبدالعزيز بن باز، محمد بن سالم بن عبدالودود، مصطفى الزرقا، محمد رشيدي، محمد بن عبدالله السبيل، حسنين مخلوف (لم يحضر)، محمد رشيد قباني، صالح بن عثيمين، اللواء محمود شيث خطاب (بدون توقيع)، محمد الشاذلي النيفر (متحفظ)، محمد محمود الصواف، عبدالقدوس الهاشمي (اعتذر)، مبروك العوادي (لم يحضر)، أبو الحسن الندوي (اعتذر). (¬1) - تقدم تخريجه.

ومن ضُبِطَ معه عملة ورقية مزورة حقق معه، فإن ظهر مخدوعا لا علم له كمن أعطيها بقيَّة مبلغ، أو صرف ونحوه، وهو لا يميز ذلك؛ فلا ضمان عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته لإمكان ذلك. ويجب تتبع الأمر حتى يتوصل إلى الجناة وجوبا؛ لأنه من دفع الفساد العام، وهو فرض على الدولة؛ ولأنه مما يخدم حفظ المال وهو أحد مقاصد الشريعة الكبرى. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر على السوق ويدخل يده في الطعام فأحس فيها بللا، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام من غش فليس منا». أخرجه مسلم (¬1). ويُعَزَّرُ التعزير الرادع له ولغيره بما يحفظ المال العام؛ لأنه من جلب المصالح العامة ودفع المفاسد. ويحرم على الدولة طباعة العملة بدون مصلحة راجحة؛ لأنه يؤدي إلى تضخمها وضياع قيمتها؛ فلا تشترى السلع إلا بمبالغ كثيرة. فيؤدي إلى قلة قيمة العملة لدى الأشخاص؛ لأن ما يتقاضونه من دخل رسمي أو غير رسمي لا يكافئ حاجاتهم وضرورياتهم. فيشترون بدخولهم الضرورات، ولا يزيدون بل قد لا يُحصِّلون حاجتهم من الضرورات. فيؤدي حينئذ إلى الكساد التجاري لقلة من يشتري؛ لتوجه الناس إلى الضرورات العاجلة، ويؤدي هذا الكساد إلى قلة الاستثمار، وظهور الفقر، والبطالة لقلة الأعمال. ويؤدي ذلك إلى مفاسد في الأخلاق والأعراض والسياسات، وتظهر الرشوات وبيع الذمم وشهادات الزور، وشراء الأصوات في الانتخابات، وتظهر الأتباع والأذناب والجواسيس والعملاء وغير ذلك. هذا إذا طبعت العملة الورقية مع عدم الحفاظ على قيمتها. أما لو طبعت بكثرة مع الحفاظ على قيمتها الشرائية بما يؤدي إلى وفرتها؛ فإنه يقابلها زيادة سعر السلع لكثرة النقود؛ وزيادة الطلب على السلع. ويؤدي إلى زيادة الرواتب والأجور. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

إصدار العملة العربية الإسلامية الموحدة من غير ارتباط بالعملات المهيمنة الخارجية

ويؤدي إلى موجة غلاء قد لا يشعر بها لتدرجها فتؤدي في الحقيقة إلى نقص قيمة العملة وهو تضخم نسبي. وإن كان ليس كالأول إلا أنه لا يدعم الاقتصاد الاستراتيجي؛ لأن التصنيع وتصدير التصنيع إن كان تكلفته في بلد الصنع كبيرة لا يكون رائجا ومقبولا في الأسواق العالمية لارتفاع سعره، وهذا هو ما يحصل حقيقة في هذه الحالة. فطباعة العملة بكثرة، ولو مع الحفاظ على قيمتها مضر بالاقتصاد الاستراتيجي للدولة. وهذا ضرر عام فيدفع. لذا فلا يجوز طباعة العملة إلا بمصلحة راجحة تقتضي ذلك. ويكون بتوسط يعادل ويكافئ التوازن بين وفرة النقد والحفاظ على قيمته. والحفاظ على الاقتصاد المحلي الداخلي المتمثل في: تعادل السلع الضرورية والحاجية والترفيهية بتوسط مع الدخل. والاقتصاد الاستراتيجي الخارجي المتمثل في التصنيع وتصدير التصنيع للأسواق العالمية بأسعار منافسة من بلد الصنع. ولا يكون هذا إلا بالحفاظ المتوازن على العملة الورقية الرسمية للدولة. إصدار العملة العربية الإسلامية الموحدة من غير ارتباط بالعملات المهيمنة الخارجية: وفرض على الدول العربية والإسلامية إصدار عملة واحدة مستقرة متوازنة لا ترتبط قيمتها بالعملات الأجنبية المهيمنة كالدولار الأمريكي. ودليل الفرضية أن الارتباط بالدولار أو أي عملة مهيمنة أخرى؛ تجعل الاقتصاد رهنا لتلك الدولة سياسيا؛ لإمكان إسقاط اقتصادها بإسقاط قيمة عملتها. فيؤدي إلى انهيار اقتصادي عام وفقر وبطالة، وتظهر كافة المفاسد السالفة الذكر. والتي تؤدي إلى تفكك المجتمع والكيان السيادي والسياسي؛ فتقدم التنازلات تلو الأخرى حفاظا على سياسة المالية في سوقه المحلي والخارجي.

حكم تغيير العملة

وهذه المفسدة الكبرى وما يترتب عليها من مفاسد ومهالك يجب دفعها ضرورة لأن الله لا يحب الفساد. والوسائل لها حكم المقاصد؛ لذلك فرض على الدول العربية والإسلامية فك ارتباطها بالدولار وغيره كارتباط مصيري وسيادي. ولا يكون ذلك إلا بإصدار عملة واحدة قوتها من اقتصادها ووحدة سياساتها فتكون مستقلة يرتبط غيرها بها لا العكس. حكم تغيير العملة: وإذا غيرت الدولة العملة بعملة أخرى؛ فإن ذلك لا يجوز إلا بشرط تقدير دقيق لتحقق المصلحة الراجحة من ذلك، ودفع المفاسد المتوقعة التي قد تؤثر على مالية الدولة واقتصاداتها وديونها لها وعليها، وصناعاتها تصنيعا وتصديرا. لأن تغيير العملة إن كانت بأقل أو أكثر قيمة لا بد أن ينعكس مباشرة على المال العام أولاً. والاستقرار الاقتصادي الداخلي والخارجي ثانيا وليس آخرا. وأما تأثير ذلك على القطاع الخاص أفرادا ومؤسسات وشركات وبنوك وصناديق فإن رد الديون بالعملة الورقية له صور عدة: الأولى: إن كانت العملة قد ألغيت وحل بدلها نقد آخر رسمي. ففي هذه الحالة ينظر في قيمة العملتين يوم الإلغاء، ويعطى صرفها من العملة الجديدة. ويجب على الدولة حينئذ بيان قيمة العملة الجديدة أمام السابقة، ليبادر الناس إلى تغيير ما في أيديهم في البنوك الرسمية وحتى لا يترتب على ذلك ضرر على الفرد الواحد. الثانية: إذا كانت العملة باقية لكن تعرضت لانهيار، أو هبوط قيمتها، مما أدى إلى تضخمها فالديون ترجع حينئذ بنفس عدده يوم الإقراض لا بالنظر إلى قيمته. وذلك عملا بأصل التشريع في رد الديون. ولا ينقل عنه ناقل إلا إذ تعذر السداد في مسألةٍ معينة بسبب تغيير العملة. ولأن تغيير قيمة العملة لا ينضبط، حتى في العملة الثانية ظاهرا، لأنها ولو كانت ثابتة بالنظر إلى العملات الأخرى إلا أنها بالنظر إلى قيمة السلع غير ثابتة غلاء ورخصا.

وعلة عامة أخرى هي

ولعدم انضباط التعويض عند الرجوع إلى القيمة يوم الإقراض؛ لتردده بين كونه بذهب أو فضة أو سلعة أو نقد. ولا يمكن اختيار صاحب الدين؛ لأنه يختار الأحظ له فيظلم المدين. ولا اختيار المدين لأنه يختار ما يضر صاحب الدين. ولا عدلين؛ لأنه حينئذ صلح ولا إلزام في الصلح، وردُّ الدين يكون إلزاما. ويجب الصلح حين الخوف من فتنة للأمر (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10) ويجب الالتزام به حينئذ. وعلة عامة أخرى هي: أن التقويم بالسلع يوم الاستدانة لا ينفع؛ لغلبة التغير على سعر السلع يوم الدفع عما كانت عليه حين الدين. فإن كانت قديما غالية ثم هي اليوم رخيصة كان الضرر يسيرا، لأن الرخص قابل هبوط العملة فكان متقاربا. وإن كانت رخيصة يوم الدين غالية يوم السداد تعذر الضبط بها. والخلاصة أن الأمر لا ينضبط البتة. فإن اتفقا يوم الدين على أنه يردها كذا جراماً من الذهب بثمن يوم الدين جاز، وكذا بعملة أخرى سواء رخص أم غلا السعر. لأنها انتقلت إلى ذمته بذلك الدين من ذهب أو عملة أخرى ورضي. والرضى وافق شرطا مباحا؛ لأن شرط دفعها بالعملة المقابلة، أو الذهب مثلا أمر مباح لا يقتضي حراما. ولأن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، وهذا ليس منه. ولأن الحديث أنهم كانوا يبيعون بالدنانير فيأخذون بالدراهم، فسألوا رسول الله، فقال: «لا بأس إذا كان بسعر يومه، وانصرفتما وليس بينكما شيء» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 3356، وأحمد برقم 5555، والترمذي برقم 1242، والنسائي برقم 4582، واللفظ لأبي داود عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ =

فالحاصل أن الديون النقدية بالعملة المعاصرة ترد بمثلها عددا، ولو رخص ثمنها. وسواء في ذلك البنوك أو المؤسسات أو الأفراد وبهذا أفتى المجمع الفقهي وهو ما نفتي به (¬1) إلا في حالة وقوع فتنة بينهما فيجب الصلح وقبوله درءا للفتنة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10)، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحب الدين أن يخصم النصف، وأمر المدين أن ¬

= هذه من هذه وأعطى هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطى هذه من هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء». قلت: هذا حديث حسن صحيح. وأما من أعلّه بتفرد سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر في الرفع، ورواه غيره من أصحاب ابن عمر موقوفا على ابن عمر. قلت: هذه العلة التي ذكرت عن شعبة ردها الإمام ابن معين حيث قال: أسند أحاديث لم يسندها غيره، قال وسماك ثقة. قلت: وإنما ضعفوه في روايته عن عكرمة لأنه اضطرب وليس هذا منها. وقال ابن عدي: ولسماك حديث كثير مستقيم إن شاء الله، وهو من كبار تابعي أهل الكوفة وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به. ولذلك قال أبو حاتم: صدوق ثقة. قلت: ثم إن من وقفه على ابن عمر لا تنافي بينها وبين الرفع لأن ابن عمر كان يصنع ذلك، فبعضهم رواها من فعله، وبعضهم رواها من فعله وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك صحح الحديث ابن حبان في صحيحه برقم 4920. وقال الحاكم في المستدرك برقم 2285 بعد إخراجه: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرط مسلم. قلت: وهو كما قالا. وصححه الدارقطني كما نقله عنه الحافظ في الدراية (2/ 155). وقال الشوكاني في السيل الجرار: ولم يأت من أعله بحجة مقبولة وسماك إمام حجة. وسكت عنه الحافظ في الفتح .. وحسنه الأرناؤوط في تعليقه على ابن حبان وقال على شرط مسلم، واضطرب في تحقيقه في المسند، وأما الألباني فضعفه لإعلاله بسماك، وليس كما قال. (¬1) - قولنا «وبهذا أفتى المجمع الفقهي» وهو في قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 66) قرار رقم: 42 (4/ 5) بشأن تغير قيمة العملة -مجلة المجمع (ع 5، ج 3 ص 1609). إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 هـ الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 21 (9/ 3) في الدورة الثالثة، بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها، قرر ما يلي: - العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيا كان مصدرها، بمستوى الأسعار. والله أعلم.

يسلم فورا دفعا للخصومة، وكان صلى الله عليه وسلم قد سمع ارتفاع صوتهما في المسجد لذلك (¬1). وثم وجه آخر يؤيد ذلك هو أن مالك الدين المضمون غير الميئوس يؤدي زكاته كل عام مع ماله عند من يقول بذلك. ولا أحد من العلماء يقول إنه يؤدي بالقيمة عند كساد العملة وتضخمها بعد وجوب الزكاة فيها، بل يخرج زكاته بمقدار دينه عددا لا بالتقييم مقابل السلع أو العملات أو الذهب أو الفضة. وما لم نقل بذلك لا تلزم المدين بما لا يلزم الدائن في مال واحد. لأن الزكاة حق للفقراء مفروض. ورد الدين حق لمالكه مفروض. فيدفع كلّا بما ثبت في ذمته لا بقيمته. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 457 عن عبدالله بن كعب بن مالك عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب قال لبيك يا رسول الله قال ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال لقد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه. وهو في مسلم برقم 4067.

النوع الثاني من الأموال هو: السهم

النوع الثاني من الأموال هو: السهم والنوع الثاني من الأموال هو: السهم. وهو: جزء مشاع مقدر متساو مع مثله. وشاع في الأسواق المعاصرة انقسامه إلى سهم لحامله وسهم باسم مالكه، فالثاني ظاهر في أصل الجواز والأول يجوز؛ فإن فُقِدَ وأخذه آخر فهو لُقَطَةٌ وجب تعريفها. والواجب اتخاذ غاية الإجراءات التي تحقق حفظ الحقوق والأموال وتدفع ضياعها؛ لأن الشريعة قائمة على مقاصد كبرى، وحفظ المال منها. فإذا كان السهم لحامله يغلب عليه ضياع المال بإمكان غلبة ذلك؛ نتيجة لعدم تسجيل اسم مالكه عليه، فإن القول بمنع إصدار مثل هذه الأسهم قريب، وعكسه عكسه. ولا يجوز جعل أسهم ممتازة وعادية إن ترتب على الامتياز فائدة مسماة على السهم؛ لأنه ربا ظاهر. وكذا إن ترتب عليه خروج صاحب السهم الممتاز من الخسارة، أو تقديمه على غيره في تقاسم الأصول عند الإفلاس، بل الكل سواء حال الإفلاس. والتصويت في الجمعية العمومية لمالكي الأسهم ترتيبه قائم على مراعاة المصلحة للشركاء، ولهم جعل التصويت لكل مالك، وهو الأصل. فإن تعذر لكثرة الملاك فينتخبون منهم وكلاء كمجلس للجمعية لتسيير أمور الشركة. ولا تفاضل في التصويت باختلاف السهم كممتاز وعادي؛ لأنه الله يأمر بالعدل والإحسان، فيعطى مالك السهم الحق في التصويت مباشرة أو بالنيابة؛ لأن له مالاً هو ناظر عليه، ووضعه في يد شركاء لا يرفع حقه في النظر، والتصويتُ من مسائل النظر مباشرةً أو نيابةً، ويمكن القول بجواز التفاضل في التصويت بحسب الأسهم (ممتاز وعادي). ويجري في الأسهم العينية من الخلاف ما جرى في قبول العروض في الشركات، وهي مسألة قديمة، والصحيح عندي جوازه لأن مدار المنع القديم إنما هو لكثرة حصول الاختلاف عند التقويم والتحاصص، وهذا غير وارد الآن؛ لأن آليات ضبط هذه الأمور واضحة. أما الأسهم النقدية فلا خلاف في قبولها، فإن آل الأمر في السهم العيني إلى النقد أول الشركة جاز؛ لأنه آل إلى محل إجماع بالجواز.

والأسهم أموال تجري فيها الزكوات بقيمتها يوم وجوب الزكاة بشرط بلوغها نصاب الذهب (85 جراماً) وحال الحول عليها. ولا تزكى بأصل رأس مالها يوم الدخول في الشركة؛ لأن هذا هو الأصل (¬1)، إذ الزكاة وجبت فيه وهذه قيمته يوم الوجوب، وأداء الواجب مضبوط بشروطِ وأركانِ زمنِ الوجوب لا قبله. ولأنه يعود على الزكاة بالضرر غالبا؛ لقلة ثمن رأس مالها كثيرا عن سعرها بعد ذلك، ولا تقاس بعروض التجارة في التقويم لثبات هذه المستهلكات عادة، وقلة الفارق بين رأس المال والربح المقدر. على أن الأصل في عروض التجارة تقويمها بثمن يوم الزكاة فيها لا بأصل رأس مالها، وإن عُدِلَ عنه استحسانا؛ فلعدم الضرر على الزكاة ولا على المالك بخلاف زكاة الأسهم فالضرر ظاهر على الزكاة. هذا إن كانت الأسهم للتبادل التجاري، فإن كانت لا للتبادل بل ريعها فقط جرى فيها خلاف زكاة المستغلات. والإجماع فيه على زكاة ريعه إن بلغ نصابا، وحولا. وصُوَرُه الباقية فيها خلاف (¬2)، فنبقى ¬

(¬1) - أي التزكية بالقيمة السوقية يوم وجوب الزكاة. (¬2) - قولنا «وصوره الباقية فيها خلاف»: (وهو في قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 40) قرار رقم: 28 (3/ 4) بشأن زكاة الأسهم في الشركات مجلة المجمع (ع 4، ج 1 ص 705) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 صفر 1408 هـ الموافق 6 - 11 شباط (فبراير) 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زكاة أسهم الشركات، قرر ما يلي: أولا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانيا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال =

على محل الإجماع، ولا تكليف مع اضطراب الدلالات كما هو الحال في بقية الصور. ومن استفتى مفتيا فأفتاه في محل خلاف، لزمه؛ لأن الله أمر بسؤالهم لأجل الالتزام بالعمل، وإلا لزم محال وهو عدم فائدة التكليف بالسؤال. ومن مات وله أسهم قسمت بين ورثته على المواريث الشرعية بتقويم يوم الوفاة؛ لأنه زمن انتقال الملك. ويجوز أن يشترك جماعة في ملكية سهم؛ لعموم النصوص الدالة على الجواز وإطلاقها ولعدم المانع الشرعي، ويجعل التصويت لواحد اعتبارا بالسهم لا بتعدد مُلاَّكه. ومن اشترى أسهما بقصد التورق، أي طلب النقد؛ فإن اشتراها بدين مقسط ثم باعها في السوق من ساعته بعد قبضها، أو دخولها في ملكيته عرفا، وهو القبض تقديرا؛ جاز، ولو بثمن أقل مما اشتراه؛ لأن الله أحل البيع والشراء. ¬

= المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشيا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2، 5% من تلك القيمة ومن الربح، إذا كان للأسهم ربح. رابعا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. والله أعلم.).

فإن باعها لمن اشتراها منه فالأصل حل ذلك؛ لأن بيعه لها في السوق مباح، وممن اشتراها منه مباح وإحسان و (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، فكيف تجيز للغير، وتمنع لمن أحسن وباع بالتقسيط والدَّين؟ ولأنهما لم يقصدا الربا، والأمور بمقاصدها. ولأن الأعمال بالنيات، ولا نية للمراباة بينهما. وتحرم إن نوى إقراضه بفائدة، ثم أخرجا ذلك في صورة بيع؛ لأن الحيل التي تعود على أصول الشريعة بالإبطال باطلة. ولا معرفة لباب الحيل إلا بمعرفة مقاصد النيات، فالقول بالحرمة حينئذ أمر تديني بينه وبين ربه، والقول بالبطلان متعلق بالظواهر. فإن أظهر لنا مقصده قضينا بالمقاصد وأبطلنا المعاملة دفعا للربا.

النوع الثالث من الأموال: الحقوق المالية

النوع الثالث من الأموال: الحقوق المالية والنوع الثالث من الأموال: الحقوق المالية. وأصل النظر في هذا النوع هو النظر في مدى حقيقة كونه من الماليات فيعطى أحكامها فينظر: هل هو مال يصح فيه أحكام المال أو ليس بمال؟ وتعريفه بالتتبع والاستقراء هو: استحقاق ترتب عنه مال أو ترتب على مال، فما كان حقا ترتب على مال فهو الشفعة، وحق الخيار والرد بالعيب، والضمان، والكفالة، ونقل القدم، وحق التصويت في شركات الأسهم، والسبق بوضع اليد في الأمور العامة. وحقوق الارتفاق المتعلقة بالمال كالتوابع، والمداخل، والمخارج ونحوها، وحق المسيل. والحقوق السيادية: كالأجواء، والمداخل، والمعابر في الدولة، والمياه الإقليمية. وأما ما ترتب عنها مال فـ: حقوق التأليف: وهو الحق الأدبي والمادي المترتب عليه. وحق الاختراع. وبيع المعلومات. والحقوق الإعلامية. وحق العلامة التجارية والاسم التجاري. والحق الوظيفي لأنه ترتب على أمر معنوي، كالكفاءة والمواطنة ويترتب عنها مال. والحقوق كذلك تشمل الحقوق التي لها عُلقة بالمال من أي وجه. ومنه حق التعويض عن الأضرار أثناء العمل. والحق في انتزاع الملكية الخاصة للعامة. وحق الناظر على مال الوقف، وهل هو مال يمكن التنازل عنه بمال؟ والحق في المال لحاضر قسمته، ولمن دخل بستانا، وحق الجوار، والحق العام. فالأول (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) (النساء: 8)، والثاني لورود الإذن في السنة بالأكل لمن دخل بستانا غير متخذ خبنة، وأما حق الجوار فكقوله صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (¬1). وأما الحق العام فهو نوع حق يدفع للدولة على أمر منصوص فيه ذلك. والأصل في الحق المالي أنه مال باعتبار أنه يعاوض به معاوضة محضة. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 6855 عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك».

يمكن تقسيم الحقوق المالية إلى ثلاثة أقسام

ويمكن تقسيم الحقوق المالية إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما له تعلق بالمال من وجه أكسبه حقا معنويا. والثاني: الحق المترتب على مال. والثالث: الحق المترتب عنه مال. ويمكن تعريفها تعريفا جامعا فنقول: الحقوق المالية أمور معنوية ترتبت عن مال، أو ترتب عنها مال، ويمكن المعاوضة به. فقولنا «أمور معنوية» هي الحقوق والمنفعة التي يمكن بيعها بثمن لا ينضبط بثمن المثل عادة. وخرج بالقيد الأخير الإجارات، فهي منفعة تباع بما جرت به العادات من أجرة المثل. وقولنا «ترتب عن مال» وذلك نحو الشفعة. وقولنا «ترتب عنها مال» وذلك نحو الحقوق الفكرية، والعلامة التجارية. وقولنا «ويمكن المعاوضة به»: المعاوضة هنا إنما صحت لجريان التعامل عليها الآن في هذه الحقوق، وما جرى عليه العمل اعتمد في الشرع، والحقوق كذلك، فشملها عموم (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، وعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). أولا: حقوق التأليف: وحقوق التأليف لها اعتبار مالي الآن، ودخل فيها التعاوض، فهي مما يباع ويشترى، فصار عرفا، وهو لا يعارض الشرع؛ فشمله أصل الجواز (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275). وقولنا «المادية» خرج به الفكرية، فلا يجوز بيعها؛ لأن نسبة القول إلى غير قائله من الكذب؛ فحرم. ويعظم الإثم بنيل شهادات بذلك البحث المنسوب إليه زوراً نسبة فكرية. ومن فعل ذلك فسق وسقطت عدالته إلا إن تاب. واما الحقوق المادية فهي حق طباعة الكتاب، ونشره، وتوزيعه تجارة، وذلك جائز بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (¬1)، وهو في الصحيحين وهو دال على جواز ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

الحقوق الأدبية لا تباع

بيع المنفعة المعنوية المتعلقة بالعلم، ومنها الرقيا بالقرآن التي ورد هذا الحديث في سياقها. ولأن الطبيب يأخذ أجرة على الإخبار بالمرض، وتقرير الدواء، ولا خلاف في جوازه، وهو إنما باع المعلومة الفكرية فقط، سواء اشترى المريض العلاج أم لا. فإذا جاز ذلك، فمثله إذا اخبرَ الطبيبُ بالمرض وعلاجه في كتاب أرسله إلى المريض بعوض مقابل المعلومة المكتوبة، فإذا عظم الجهد وكتب كافة الأمراض وعلاجاتها في كتاب عام للناس، وباعه بيعا، فهو جهد معتبر جواز بيعه بالأولوية من بيع منفعة إخبار شخص واحد مشافهة أو بمكتوب. وإذا كتب شخص تفسير القرآن، والحديث، وفقهه، وباع ذلك جاز لعموم «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». وحذف المقتضى يدل على العموم فيكون المعنى في النص «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» تعليماً وتفسيراً وكتابةً وتداوياً. ويستثنى من هذا الدعوة، فأصلها قائم على المجانية (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 90). وكذا يستثنى تعليم فرض العين للصلاة لمن طلب التعلم كالفاتحة ونحوها من قصار السور التي تقرأ في الصلاة. فإذا امتنع إلا بأجر أثم، وعليه تحمل الأحاديث التي تنهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنها واردة في قضايا عينية لا على وجه العموم بخلاف «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله»، هذا ما أراه جامعا للأدلة. الحقوق الأدبية لا تباع: والحقوق الأدبية في التأليف، وهي نسبة التأليف إلى مؤلفه، واجب حفظها؛ لأن النسبة إلى غير المؤلف عمدا من القول الكذب والباطل، وهو محرم. فإن كان على الله كفعل كفرة أهل الكتاب إذ نسبوا إلى الله ما لم يقل فهو كفر. والقول على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل إن كان قولا كفريا ففاعل ذلك عمدا مرتد، وإن كان غير كفري فهو ضال فاسق ساقط العدالة، ووجب تعزيره.

وإذا جُهِلَ اسم مؤلف الكتاب فينسب إلى الكتاب، ويحرم نسبة الكتاب أو ما ينقل منه إلى آخر، فإن كان عالما عامدا فهو فاسق لعموم (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 188). وذم الفعل والتوعد عليه يدل على تحريمه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولحديث «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» (¬1). والزور من الكبائر ووصف العمل به يدل على حرمته، ولأن هذا كذب وهو من الكبائر. ويحرم نسبة تأليف، أو قول، أو فتوى لمعتمد معتبر لم يقلها تلبيساً على الناس لما ينشر باسمه بالقبول، تسريعا لبيع الكتاب، أو طلبا للثقة بما في الكتاب من فكر وقول ولو لم يقصد التجارة، بل لخدمة فكر أو معتقد، أو فئةٍ، أو جماعة، أو حزب، أو قول. ويحرم لو كان مقصده حسنا، كحث الناس على خير ديني كترغيب وترهيب أو دنيوي كتعاون ونحو ذلك. فهذه الصور مشمولة بحكم التحريم شرعا، والمقصد الحسن لا يبرر الفعل السيئ بدليل «إن جماعة استهموا على سفينة ... » (¬2). ويحرم أن يقول مؤلفٌ «قلت»، ثم ينقل نص كلام لآخر بغير بيان إيهاما أنه من تحريره وقوله. ودعوى توافق الأقوال بعيدة؛ لأن المذهب قد يتفق كثيرا، لا نَصُّ الأقوال بحروفها؛ فهو محال عادة إلا في صياغة قاعدة نحو: الحرج مرفوع، فيمكن التوافق بين مؤلفين فيها مذهبا ونصا، ولو لم يطلع أحدهما على الآخر. ويجوز في النقل الشفوي كمحاضرة، أو نحوها من خطب، أو فتوى أن يذكر القول على جهة العموم بلا ذكر لقائل، ولا نسبة إلى نفسه، وله أن يقول قال البعض، أو الأكثر، أو الجمهور بلا تحديد لأسماء. ¬

(¬1) - متفق عليه (البخاري برقم 5219، ومسلم برقم 5706) عن أسماء أن امرأة قالت يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. (¬2) - تقدم تخريجه.

الإكرام على الاختراعات والتآليف

والحقوق المادية للتأليف تبقى محفوظة للمؤلف إن نص، وإلا فهي عامة إن لم ينص على أنها لجهة تبرعا أو معاوضة، إلا إن جرى العرف على حفظ الحقوق المادية، نص أو لم ينص؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا. والمعاوضة هنا هي أشبه بالمعاوضات غير المحضة، بل هي على سبيل التعويض، والإكرام، والمكافأة، فالمؤلف إذا أعطى الحقوق المادية لجهة، فإنها عادة تشتريها تجارةً مقصود منها الربح، ومنه ما يكون طائلا ويندر الخسارة، ومقابل ذلك يعوض المؤلف بما يتراضى عليه. وليس فيها غبن فاحش في الأصل؛ لعدم ضبط تقويمها بالتحديد الغالب في السوق، ولا يكون غبن إلا بثمن مثل معتادٍ عرفا، والله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29). والتجارة يحددها العرف العادل، فالناشر متاجرٌ والمؤلف ليس كذلك في الأصل، إذْ التجارة بالنسبة للتأليف تبع لا أصل، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصول. ولأن المؤلف محسن (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وهذا أمر عام بصيغة الإنشاء الاستفهامي الإنكاري المراد به الأمر بالإحسان مقابل الإحسان، ولحديث «من أحسن إليكم فكافئوه» (¬1). الإكرام على الاختراعات والتآليف: فجميع الاختراعات والتآليف النافعة هي إحسان عام للأمة، فيجب شرعا إكرام المخترع والمؤلف في كل نافع للناس، والوجوب هنا أصلاً على الدولة؛ لأن هذا من المصالح العامة للأمة، والأصل في المصلحة العامة أن تقوم بها الدولة وبوسائلها. والبحث والاختراع والتآليف من هذا الباب. ويجوز مع التشجيع والإكرام من الدولة للمخترع بيع اختراعه؛ لأن بيع المعلومة والمنفعة ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

بذل المال على المعلومة والمراهنة على ذلك

جائز، أما إن كان متعاقدا مع شركة منتجة براتب أو بنسبة على أن ما اخترعه يعتبر ملكا لها فلا يحق له بيعه لأنه أجير أو مستصنع. بدليل ما سبق، ولأن من أخبرك عن شيء مباح تنتفع به بشرط العوض إن كان كما قال جاز له ذلك جعالة، وهذه معلومة جرى فيها عقد معاوضة محضة، ومن بشر ببشارة وشارط على المعاوضة جاز له ذلك، فإن لم يشارط فأعطي جاز؛ لحديث الثلاثة الذين خلفوا وإعطاء من بشرهم بالتوبة كساء (¬1)، وكان قد جرى العرف على هذا وأقره الشرع. والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، وقد جرى العرف على حق البشارة مكارمةً، وأقرها الشرع وأمر بالمكافأة عموما «من أحسن إليكم فكافئوه» (¬2). بذل المال على المعلومة والمراهنة على ذلك: وبذل المال لمعلومة نافعة عامة على سبيل الإلزام جائز ورد في مراهنة أبي بكر مع مشرك بمئة من الإبل مقابل مئة إن غلبت الروم في بضع سنين، ففاز بها أبو بكر، وكان فيها مصلحة عامة للإسلام والمسلمين (¬3). ¬

(¬1) - قولنا «وإعطاء من بشرهم بالتوبة كساء» دليله من حديث الثلاثة الذين خلفوا وهو حديث طويل في صحيح البخاري برقم 4418 ومحل الشاهد منه «فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ». وهو في مسلم برقم 7192. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - أخرجه الترمذي بسند حسن برقم 3194 عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1 - 4) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب وفي ذلك قول الله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 4 - 5)، فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال =

ومن قال إنها منعت بعد تحريم القمار فقد أخطأ؛ لأن القمار هو بذل العوض على عوض مجهول يغلب فيه الضرر، والغرر، والغبن الفاحش على المقامر بخلاف قضية أبي بكر في المراهنة، فهو بذل عوض معلوم مقابل عوض معنوي مصلحي معتبر عام محقق، فقد بذل مئة من الإبل وهو متيقن أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين، للنص القطعي في القرآن، بخلاف المقامرة؛ لأنها قائمة على الجهالة وأكل المال الباطل وعدم النفع. فما كان مثل قضية أبي بكر جاز. فإذا تراهن اثنان على صحة أبحاث علمية من عدمها، كالمراهنة على بطلان نظرية داروين في قردية الإنسان ونشرت المراهنة واشتهرت جاز؛ لشهادة القرآن على بطلانها. وكمناظرة عامة متلفزة على بطلان أو صحة أمر من الأمور التي يتعلق بها مصلحة، كدفع اتهام بفساد نسب إلى جهة بعينها فلا مانع منه عند تيقن صحة المآل؛ لكون المراهنة حينئذ سببا لكشف الحقائق، ودفع المفاسد. ¬

= ناس من قريش لأبي بكر فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى -وذلك قبل تحريم الرهان- فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر كم تجعل؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين قال فمضت الست سنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين لأن الله تعالى قال في بضع سنين قال وأسلم عند ذلك ناس كثير. قال هذا حديث صحيح حسن غريب من حديث نيار بن مكرم لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن أبي الزناد. قلت: وفي جواز الرهان أحاديث صحيحة غير هذه، منها حديث أنس عند أحمد بسند حسن برقم 13714 عن أبي لبيد قال: أرسلت الخيل زمن الحجاج والحكم بن أيوب أمير على البصرة قال فأتينا الرهان فلما جاءت الخيل قلنا لو ملنا إلى أنس بن مالك فسألناه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه وهو في قصره في الزاوية فسألناه فقلنا يا أبا حمزة أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن قال نعم والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له يقال له سبحة فسبق الناس فانتشى لذلك وأعجبه. وأخرجه الضياء في المختارة برقم 2580. وأما ما ورد في النص السابق (وذلك قبل تحريم الرهان) فهو مدرج من كلام أحد الرواة، ولعله كان يرى الحرمة، فتأول الحديث بذلك. وقد أورد العلامة الألباني عدة أحاديث وآثار في إرواء الغليل في هذا الباب تدل على ما رجحناه.

بيع المعلومات

أو كمناظرة لإثبات البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة. وضبط المراهنة الجائزة يمكن استنباطه من قصد أبي بكر ونحوها أن نقول المراهنة المشروعة هي: دفع عوض معلوم لإثبات مصلحة مادية ومعنوية محققة أو غالبة يدفع بها ضرر عنه، أو عن العامة. فخرج بقولنا «محققة أو غالبة»: القمار على الحظ؛ لأنه يغلب عليه الضرر. وخرج بقولنا «يدفع بها ضرر»: المسابقات الفضائية بالأسئلة الثقافية التي يربح عند الإجابة الصحيحة، ثم يضع ماله الذي ربحه على المراهنة، للسؤال الثاني، فإما أن يخسر كلاًّ، أو بعضا، أو يربح، فهذا قمار لوضعه مالاً معاوضاً به على مجهول شديد الغرر والخطر والضرر. وقولنا «مادية أو معنوية»: فأما المادية فمصلحة المراهنة على سباق الخيل، وقد ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم (¬1). وأما المعنوية فهي كصدق خبر أو إثبات معلومة كما مر في قضية الصديق رضي الله عنه. بيع المعلومات: وبيع المعلومات لا يخلو من أن يكون البائع قد خسر في تحصيلها أموالا، أو لا. فالثاني نادر وأكثره في نشاط فردي (¬2)، وبيعه جائز على الأصل، إلا إن اشتمل على مانع شرعي. أما الأول فهو الأصل الذي تقوم عليه مراكز البحث والاختراع والمعلومات والاستشارات. فهي لا تحصل على المعلومات إلا بأموال وتكاليف ونفقات تشغيلية وتمويل للأبحاث والاختراعات وتوظيف لخبراء ومستشارين، فالمعلومة مكلفة لهم، فمزاولتهم العمل على ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 420 عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبدالله بن عمر كان فيمن سابق بها. وهو في مسلم برقم 4950. (¬2) - أمثاله توثيق شخص حادثة ينفرد بها اتفاقا حال وجوده، ثم يبيعها للإعلام ويتفاوت عوضها المالي بحسب تفاوت أهميتها وتعلقها بقضية عامة أو خاصة يرغب الناس في الاطلاع عليها.

بيع المعلومات المخابراتية

سبيل التجارة والربح والاستثمار، فجاز لهم المعاوضة عليها لعموم النصوص في جواز التجارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). فالأصل الشرعي حل العمل التجاري ولا يستثنى إلا ما قطع بتحريمه كالربا والغرر والغش والخداع، ولا يوجد في تجارة المعلومات في الأصل ذلك فكانت مباحة، فإن وجد حرم في ذلك الشيء لا في كل شيء. بيع المعلومات المخابراتية: وبيع المعلومات الاستخبارية ضد العدو المحارب ولو تجارةً جائزٌ على أصل جواز التجارة، وحل البيع، إلا إن تعلق بها محرم كتسليم مسلم، أو مسالم مستجير ولو كافرا. أما بيع المعلومات التجسسية لأجهزة الأمن في الدولة على مواطنيها فهو عمل محرم في الأصل لعموم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، ولأن ضرره متحقق على الشعب بدليل ما عُرِفَ من الأنظمة البوليسية الديكتاتورية التي ما جنى منها شعب سوى القمع والإذلال والإرهاب، وتكريس حماية سلطة فرد مفسد في الأرض، وتصفية الخصوم السلميين غير المقاتلين من حملة الحق من علماء، وساسة، وقادة، وأفراد. ولحديث «من أكل بمسلم أكلة أطعمه الله مثلها في جهنم» (¬1). بيع الإنتاجات الإعلامية: ويجوز بيع الإنتاجات الإعلامية من صور أو صوتيات أو فيديو على الأصل؛ لأنها من التجارات الرائجة التي جرى التعامل بها اليوم، فيشملها أصل الإباحة، وتحرم إن اشتملت على محرم وأدت إلى مفاسد مؤثرة معتبرة في الفتوى بالمنع. ثانيا: حق نقل القدم أو بدل الخلو: حق نقل القدم أو بدل الخلو عبارة عن تنازل من المستأجر السابق لمستأجر جديد مقابل تعويض مالي يتفق عليه، وهو جائز في الأصل؛ لأن العرف يعده من الحقوق التجارية. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

ثالثا: حق الشفعة

والتجارة مباحة على العموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). ولم يمنع منه مانع شرعي صحيح صريح؛ فبقي حل نقل القدم بعوض على أصل الإباحة التجارية المنصوصة. فإن انتهى عقده، وأراد صاحب الملك أخذَ العقار فله ذلك، ولا يحق للمستأجر منعه بعلة دفعه لسابق نقل قدم ولو كثيرا. لأن حبس الحقوق عن أصحابها غصب، وغرامته للسابق الذي دفع بدل الخلو لمن قبله لا يصلح علة لحبس المحل حتى يجد آخر يدفع له بدلا؛ لأن انتهاء العقد يقطع حق المستأجر، ويعيد ملك المنفعة إلى مالك العقار. وهو على الخيرة في قبضه لنفسه أو عقده لمستأجر آخر؛ ولأنه لا تصرف في مال أحد تصرفا شرعيا إلا بولاية نظر، أو وكالة، أو عقد منفعة بعوض أو بغير عوض. فولاية النظر تكون على مال القاصر أو السفيه بأمر الحاكم، والوكالة عقد تصرف مشروط للغير نيابة عن المالك. وعقد المنفعة بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالهبة والعارية والعمرى والرُّقبى. وكان تصرف المستأجر بعقد منفعة بعوض، وقد انتهى ولا تعلق له بصورة شرعية أخرى مما سبق ولم يبق سوى الغصب. فإن كان العرف جاريا بين الناس في هذه الإجارة أن له حق الانتظار لمستأجر آخر يبيعه بدل الخلو جاز؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا؛ ولأن الشروط التجارية في عرف التجار كالمنطوقات. إلا إن تيقن أن صاحب الملك يقبضه لنفسه فله انتزاعه منه، ولا يجب عليه تعويضه ببدل نقل القدم، إلا إن كان على جهة الصلح والمطايبة؛ لأن الصلح خير كما في النص (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128)، وهذا عام. ثالثا: حق الشفعة: وهو حق مترتب على مال بالجوار المشترك، أو الشراكة المشاعة، ويُثْبِتُ تقديماً في الشراء ولو بفسخ شراء أجنبي.

فقولنا «مال بالجوار المشترك» قلنا ذلك عملا بحديث «الجار أحق بسقبه» (¬1)، وقد أطلقت الحنفية الشفعة بالجوار بهذا، ومنع الأئمة الثلاثة الشفعة للجار؛ لحديث جابر «إذا وقعت الحدود والطرقات فلا شفعة» (¬2). والصحيح الذي نراه مطابقا للنصوص جميعا ومطابقا للواقع العملي أن الجوار إذا كان منفصلا بالمداخل والمخارج ولم يبق بينهما سوى لفظ الجوار فلا شفعة. وعليه صريح حديث جابر. أما إن كان الجوار مشتركا في نفس الأرض، ولا تفصل بينهما سوى علامة من وضع حجر، أو غرز حديدة، أو علامة شجرة، والمداخل والمخارج مشتركة فهذه يشفع فيها بالجوار وعليها يحمل حديث «الجار أحق بسقبه». ولذا قلنا في التعريف بالجوار المشترك، احترازا عن الجوار المنفصل. وقلنا «أو الشراكة المشاعة»: وهي ما قبل القسمة بين الشركاء، فالشفعة فيها مشروعة بدلالة النصوص والإجماع. وإطلاق النصوص يدل على إثبات حق الشفعة ولو قل النصيب، فإن كان الشركاء جماعة وشفعوا جميعا جاز على عدد الرؤوس بالتساوي وجاز على حسب نسبة ملك كل شخص لاندراج هذه الكيفية في عموم الإطلاق بلا تفصيل، فعلم جوازهما؛ ولدخولها تحت قوله تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). فكل مسألة لم يحرمها الله فهي من العفو بالنص. فإن اختصموا فالقول قول صاحب الملك في اختيار الأنسب له؛ لأن له حق تقدير دفع ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2258 عن عمرو بن الشريد قال وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك فقال سعد والله ما أبتاعهما فقال المسور والله لتبتاعنهما فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة، أو مقطعة قال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمئة دينار ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «الجار أحق بسقبه» ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمس مئة دينار فأعطاها إياه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2213 عن جابر رضي الله عنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.

رابعا: حق العلامة التجارية

الضرر عن نفسه، وقد تضرر بفسخ البيع السابق، فلا يتضرر بتنازع الشركاء، فيدفع الضرر بالضرر بل له النظر لأنه مالك له حق البيع لمن شاء في الأصل. واستثنيت الشفعة دفعا للضرر عن الشركاء، فلا تجعل ضررا على المالك؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار. رابعا: حق العلامة التجارية: الأصل في كل ما يعتبر عرفا أنه تجارة عموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29). فأخرج التجارات القائمة على الرضى من دائرة أكل أموال الناس بالباطل. والعلامة التجارية هي حق تجاري مباح «ومن سبق إلى مباح فهو أولى به» (¬1). والتصرف بها يعتبر تجارةً معتبرةً في العرف المحلي والدولي، ولأنه لم يرد مانع شرعي صحيح صريح خال عن المعارضة يخرجها عن أصل عموم النص في الحل التجاري. خامسا: حق الخيار: أما حق الخيار فهو أنواع: أ- فمنها خيار المجلس: وهو الحق في الرجوع عن عقد الصفقة ما دام أطراف العقد في مجلس العقد لم يفترقا لحديث الصحيحين «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (¬2). ب- ومنها خيار الشرط: والأصل جوازه لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وخيار الشرط جزء مقصود من العقد ولعدم المانع الصحيح الصريح، ومدته راجعة إلى التقدير والتراضي؛ لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2079 عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما». وهو في مسلم برقم 3937.

سادسا: حق التعويض عن الضرر أثناء العمل

تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). ومن قدره بثلاث ليال أو بشهر فقد حكَّم عرفه في زمنه (¬1)، ولا يصلح إمضاؤه على زمن وعرف آخر كعصرنا، بل نرجع في هذا إلى النصوص ولم يُشترط فيها سوى التراضي، فإذا رضي الطرفان أجزنا، وإلا فالمنع مطلقا؛ لأن صحة العقد التجاري قائم على التراض (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). ج- خيار العيب الضار: وهو خيار جائز، سواء نص عليه في العقد أم لا؛ لأن العقد لا يتضمن الضرر، فإن اطلع على عيب فاحش ينقص الثمن نقصا فاحشا لا يتسامح بمثله، والسلامة منه غالبة. فالمشتري بالخيار لظهور اختلال شرط في صحة العقد وهو الرضى، فإن اطلع على العيب قبل العقد فهو صحيح لتمام الرضى؛ فإن اطلع عليه بعده ورضي بقول أو فعل أو تصرف بالسلعة على وجه الرضى فالعقد صحيح لتوفر شرطه وهو الرضى. د- خيار الغبن: وهو خيار لمن يطلع على غبن فاحش في ثمن السلعة مما لا يتسامح في مثله، وهو جائز. ويجوز اشتراطه لحديث الصحيحين «إذا بعت فقل لا خلابة» (¬2). والخيارات كثيرة غير هذه تراجع في المطولات، وما ذكرنا من الخيارات هي أكثر ما يدور في الفقه العملي. سادسا: حق التعويض عن الضرر أثناء العمل: لا بد قبل أن نقضي في مسألة التعويض من الضرر أثناء العمل أن نؤصل بأصول: الأصل الأول: الأموال والأنفس مضمونة قطعا. الأصل الثاني: من أتلف نفسا أو مالا فالأصل الضمان قطعا. ¬

(¬1) - وزيادة «ثلاثا» في حديث حبان بن منقذ وردت من طرق ضعيفة مخالفة لرواية الثقات الواردة في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، فهي شاذة. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2117 عن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما أن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. فقال «إذا بايعت فقل لا خلابة». وهو في مسلم برقم 3939.

الأصل الثالث: لا ضمان إلا بمباشرة فعل الإتلاف، أو تسببٍ متلفٍ عادة. أما دليل الأصل الأول فقوله صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» (¬1)، ولعموم قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) (البقرة: 178)، وهذا يدل على ضمان الأنفس. وحرمة الأموال والأنفس تقتضي حفظها وأنها مضمونة، ولأن حفظها من مقاصد الشريعة الستة. أما دليل الأصل الثاني فعموم قوله تعالى (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا) (الأنعام: 164)، وعموم (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، وعموم (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). فمن أتلف نفسا أو مالا فالجزاء بمماثلة الإتلاف، وهو في النص القصاص، والدية تخفيف (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178). وفي الأموال بالثمن، فإذا جاز المال بدل النفس تعويضا فالمال بدل المال من باب أولى. ولقوله (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، فقضى في المال أنه يعوض بمثله بحكم عدلين في تقدير المماثلة، ولحديث «طعام بدل الطعام وإناء بدل الإناء» (¬2). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه أبو داود برقم 3570 عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به، فأخذني أَفْكَل، فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال «إناء مثل إناء وطعام مثل طعام». و «أَفْكَل»: أي رعْدَة. وأخرجه النسائي برقم 3957. قلت: سنده حسن وجسرة بنت دجاجة وثقها العجلي، وقال الحافظ في الإصابة (7/ 568) برقم 11008: جسرة بنت دجاجة تابعية معروفة روت عن أبي ذر وعلي وعائشة وأم سلمة وهي معدودة في أهل الكوفة روى عنها قدامة بن عبدالله العامري وأفلت بن خليفة وممدوح الهذلي قال العجلي ثقة وورد ما يدل على أن لها إدراكا فأخرج ابن مندة من طريق عثام بن علي عن قدامة عن جسرة قالت أتانا آت يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأشرف على الجبل فقال يا أهل الوادي انحرف الدين ثلاث مرات مات نبيكم الذي تزعمون فإذا هو شيطان فحسبنا فوجدناه مات ذلك اليوم وذكرها ابن مندة في الصحابة ولم يذكر سوى هذا الأثر وأخرجه عن أبي علي بن السكن بسنده إلى عثام وهو بمهملة ومثلثة ثقيلة وليس صريحا في إدراكها لاحتمال أن تكون أرادت بقولها أتانا آت من قومها وتكون نقلت عنهم ولم تدرك هي ذلك ولم يذكرها ابن السكن في الصحابة وحديثها عن الصحابة في السنن لأبي داود والنسائي وغيرهما. انتهى. قلت: وذكرها في الصحابة أبو نعيم في المعرفة، وروى عنها جمع، ووثقها ابن حبان والعجلي، وقال الذهبي وثقت، وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة .. فعلى هذا فحديثها حسن، وقد حسنه الأرناؤوط في المسند، وضعفه الألباني، والصحيح تحسين الأرناؤوط؛ لأنه الموافق لقواعد علم الجرح والتعديل، ثم اطلعت على قول الحافظ في الفتح (5/ 125): إسناده حسن. ومما يؤكد صحة الحديث أن القصة في صحيح البخاري برقم 5225 من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.

أما دليل الأصل الثالث فقوله تعالى (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164)، فهذا يدل على المسئولية الشخصية عن الفعل، وعلى عدم تحميل شخص فعل آخر لا علاقة له به. وإذا علم هذا: فالله يقول (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا) (البقرة: 195)، فمن ألقى بنفسه أو بغيره إلى التهلكة سواء باشر التهلكة، أو تسبب في التهلكة ضمن. والمتسبب في التهلكة هو: من عمل محرما غير مأذون فيه شرعا هلك به غيره. أما من عمل مباحا أو مشروعا فتسبب في هلاك شخص أهلك نفسه لأن سببه ليس من المشروع بل من نفسه. فأصل الضمان قائم على مباشرة فعل الإتلاف، أو التسبب المتلف بغير المشروع، أما المباشرة فهي: مباشرة فعل الإتلاف بعمل يحصل به التلف عادة، أو كل فعل يحصل به التلف عادة. ليشمل المباشرة والسبب القائم مقامها ولا يفعل إلا للإتلاف نحو قطع بآلة حادة لنفس أو عضو منها، أو ضرب بحجر تقتل عادة، أو بإعطاء سم في طعام أو دواء، أو إشعال نار في نفس أو عضو أو مال أو بتيار كهربائي قاتل، أو رمي بحجر متلف، أو رمي به في صحراء متلفة، أو حبسه بلا ماء ولا غذاء حتى الموت، أو وضعه في غرفة مغلقة لا تتسع إلا له، وإدخال حية مهلكة فلدغته، أو وحش لا يمكن له دفعه كأسد فقتله. أو حقنه بالإيدز أو بطاعون مهلك، أو وضع لغم في سيارته أو طريقه أو مكتبه أو محله، أو رميه برصاص، أو اتباعه بسيارة لدهسه فقتل، أو منع الهواء عنه حتى قتل اختناقا.

فجميع هذه الأفعال: لا ترتكب إلا للقتل والإتلاف. والأصل فيها القصاص إلا بعفو إلى الدية ممن له العفو من ولي الدم. أما التسبب، فإن كان فعل السبب مشروعا كحفر بئر في ملكه، فسقط فيه شخص، أو بناء بيت صعد فيه شخص فسقط، أو سقط عليه حجر بغير فعل فاعل حال البناء وهو أجير يعمل فيه. فهذ النوع هو: مما فعل، والسبب فيه مباح، ولا ينسب إلى فاعله إتلاف عادةً. ولا ضمان ولا كفارة؛ لأن الشخص ألقى بنفسه بفعله إلى التهلكة لا بفعل غيره. ومثله من رمى نفسه أمام سيارة مسرعة، فلا ضمان ولا كفارة؛ لأنه عَمِل محرما قطعا وألقى بنفسه إلى التهلكة، وذلك عامل بمباح شرعا وهو السير في الطريق ولا يمكن نسبة خطأ أو تفريط إليه. ومثله من عكس السير فساق مركبته في اتجاه مصادم لغيره، ولا يمكن تفاديه فالضمان والكفارة على العاكس. ومنه كذلك من غرقت سفينته وعليها ركاب كثيرون فلا ضمان عليه؛ لأنه عمل بعمل مشروع إلا إن ثبت الضرر من جهة إهمال سفينته من صيانة ونحو ذلك، وكان ركوبها يحتمل الخطر الكثير. فالحاصل من هذا النوع أن تكون قاعدته: الأفعال المشتركة في الإتلاف الضمان منها على فاعل الفعل المحرم شرعا؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولا ضمان على من فعل الفعل المشروع المباح من كل جهة أصلية أو طارئة. وقولنا «أصلية»: أي أصل الفعل على المشروعية والإباحة. وقولنا «طارئة»: أي الطوارئ التي قد يتغير بها الحكم من الإباحة إلى المنع كركاب سفينة متقادمة تغرق إذا تعرضت لحادث عادي لا يغرق مثله، فغرقها لأجل تقادمها وعدم صيانتها لا للحادث. فهنا يتغير حكم الأصل وهو الإباحة إلى حكم المنع لعارض أجنبي هو التقادم المضر الذي لا يتسامح في مثله، بل يضر مثله عادة.

وعلى هذا التأصيل نقول: إن أصحاب المصانع والشركات الذين يشغلون اليد العمالية أصل عمل الطرفين العامل وصاحب العمل مباح مشروع. فإذا حصل تلف للعامل في عضو ووقع عليه الضرر في عمله فلا يخلو من ثلاث صور: الأولى: عدم ارتكاب غيرمأذون فيه فتثبت هنا الإباحة التامة من كل الجهات، فالعامل محسن غير مسيء، وصاحب العمل محسن غير مسيء، فآلاته مصونة لا يمكن أن يترتب عليها ضرر في الأصل. ففي هذه المسألة لا ضمان على صاحب العمل؛ لأنه محسن (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، و (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وتضمينه إساءة. أما العامل فهو محسن كذلك والله يقول (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، فقطع يده بحادث في المصنع مثلا مع إحسانه في مسالك الأمان والعمل يقتضي الإحسان إليه بالأمر. ويكون الإحسان ممن أحسن إليه العامل وهو صاحب العمل، فحصل تبادل الإحسان من الطرفين، فالعامل لا يُضمِّن صاحب العمل بقصاص ولا دية، فيجب هنا مبلغ مالي مقابل الضرر تعاونا لا ضمانا، والتعاون على البر والتقوى واجب في الجملة إحسانا لأمر الله به، وتسميته تعويضا لا ضمانا؛ لأن الضمان يوجب كمال العِوض المقدر شرعا من أرش الجناية بخلاف التعويض فهو قائم على الصلح والبر. الحالة الثانية: إن كان الإحسانُ من صاحب العمل بسلامةِ آلاته وغلبة أمان استعمالها لكن قصر العامل فأدخل نفسه في محل لا يمكن دخوله إلا بتلف شيء منه، فهنا لا ضمان، والعامل ملق بنفسه إلى التهلكة ويندب التعاون في التعويض. الحالة الثالثة: ثبوت الإحسان من العامل بِسَيْرِه بإتقان وأمان في عمله بلا مخالفة ولا تفريط، ووقع الخلل من جهة صاحب العمل بتقصيره باتخاذ إجراءات السلامة لعماله بحيث يكثر أو يمكن لأجل التقصير في الصيانة من حدوث إتلاف، أو ضرر على عامل سببه ترك الصيانة قطعا أو غلبة.

سابعا: الدرجات الوظيفية

فهذا يحكم فيه بالضمان على صاحب العمل؛ لأنه تسبب في الإلقاء بغيره إلى التهلكة، ففعله غير مشروع بطروء هذا الخلل. هذا ما فتح الله به من النظر في هذه المسألة، والله أعلم. ودفعا لمفسدة الاختلاف فينبغي سن نصوص قانونية أو شرطية في العقد، فإن نص لزم إلا على باطل. سابعا: الدرجات الوظيفية: الدرجة الوظيفية حق يترتب عليه مال بالإجارة. فإن أراد التنازل عنها لآخر مؤهل جاز، ولو بعوض؛ لأن الله أحل البيع (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، وهذا عموم، والأصل حل كل بيع كلي نافع وهذا منه، والأصل عدم المانع، ولم نقل تجارة ولم نستدل بنصها؛ لأن بيع مثل هذه لا يقصد به التجارة عادة. ثامنا: حقوق الارتفاق: وحقوق الارتفاق في الأموال كحق الشرب والسقي والمداخل والمخارج حقوق تابعة للأموال، ويجوز التنازل عن شيء من ذلك بمال؛ لأنه يجري مجرى المال. ولأن الأصل الإباحة العامة، ومن ادعى التحريم لزمه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارض. تاسعا: حق التصويت في شركات الأسهم: وحق التصويت في شركات الأسهم للملاك أو نوابهم جرى العرف ألا يتنازل عنها بمال، والعرف عادة محكمة يقرها الشرع، فإن تغير جاز على أصل الإباحة. عاشرا: حق النظارة على الوقف ومال اليتيم: وحق النِّظارة على مال الوقف واليتيم لا مانع من المعاوضة عنه بمال لآخر كفء لذلك، وهو إكرام وإحسان. الحادي عشر: حق حاضر القسمة: ومن حضر قسمة المال فحقه إعطاؤه منه بالنص (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 8).

الثاني عشر: الحق العام والحق السيادي

الثاني عشر: الحق العام والحق السيادي: وأما الحقوق العامة للدولة، أو الحقوق السيادية، فالقاعدة فيها أن الدولة تتصرف فيه بما يخدم عامة الشعب، وما جرى العرف الرسمي الدولي والمحلي على المعاوضة عليه جاز كحقوق الأجواء والمياه الإقليمية وحق المرور من أرض الدولة، وحق المضايق والمعابر ونحو هذا. فإنها حقوق سيادية كبرى تجري فيها معاملة العرف الدولي بسعر المثل، ويحرم دونه؛ لأنه خلاف النظر إلا ما يتسامح فيه ولا يعد إضرارا. ويحرم التنازل عن أي حق من ذلك بلا عوض إلا فيما جرى العرف الإنساني والدولي عليه، كنقل الإغاثات وموادها والحملات الإنسانية. وكل حق عام صحيح يتعلق به مال، فإن استغلاله للمصلحة العامة من مقتضيات عقد الولاية الواجب الوفاء (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ويحرم التفريط المضر بما لا يتسامح في مثله، ويضمن مرتكبه بحسبه. الثالث عشر: حق انتزاع الملكية: وانتزاع الملكية الشخصية للمصلحة العامة بتعويض عادل مع شدة الحاجة له وعدم البديل جائز؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، ولإمكان التعويض عن المصلحة الخاصة بما يدفع الضرر فجاز. وقلنا «بتعويض عادل»؛ لأنه إن خرج عن العدل حرم انتزاع الملكية؛ لأن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل، وأجاز تجارة مرضية، وهذه ليست كذلك. وقولنا «مع شدة الحاجة العامة» شرط، فإن لم تشتد الحاجة حرم انتزاع الملكية الشخصية؛ لأنه عدوان وضرر (وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). وقولنا «وعدم البديل» شرط؛ لأنه إن وجد بديل حرم الإضرار به، إذ لا ضرورة ملجئة له، والمحضورات إنما تبيحها الضرورات، ولا ضرورة هنا.

فإذا توفرت الشروط جاز، ويكون ذلك من التعاون على البر والتقوى، ولأنه بهذه الشروط دُفِع الضرر وخُدمت المصالح العامة والخاصة، فكان مباحا. فإذا أمرت به الدولة لزم طاعتها في ذلك المباح المتعلق به مصالح عامة غير المشتمل على مظالم خاصة. ولأنه لو امتنع مع التعويض العادل وشدة الحاجة وعدم البديل أصبح مضارا للناس بلا مبرر يسوغ ذلك، فيكون من نوع الاعتداء والضرر، وهو مدفوع ويكون معصية لولي الأمر المأمور طاعته في المباح المصلحي العام الذي لا يترتب عليه ضرر خاص. والله أعلم.

النوع الرابع من الأموال: العين، أو الأعيان المالية

النوع الرابع من الأموال: العين، أو الأعيان المالية وهي ما تسمى بالأصول، وهي قسمان: أولهما: الثابت، ويشمل العقار والمباني وسائر الأراضي. ثانيهما: المنقول، ويشمل كل المواد الاستهلاكية والإنتاجية. وكلاهما يشمل أربعة أقسام: القسم الأول: الأرض والأصول التابعة واللازمة لها، وهي العمارة وموادها، والزراعة، والمياه، بحرية ونهرية وعامة. القسم الثاني: الثروات الكامنة، وهي النفط والغاز والمعادن. القسم الثالث: الأصول الإنتاجية. القسم الرابع: الأعيان أو المواد الاستهلاكية. القسم الأول: الأرض والأصول التابعة لها الأرض هي الأصل الأول، أو أصل الأصول المالية، ويمكننا الاصطلاح على ذلك؛ لأنها أصل الإنسان (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه: 55). وأصل الماء الذي هو أصل الحياة (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعات: 31)، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: 30). وأصل كل ما ينبت (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (النحل: 65). ويتعلق بها أحكام كثيرة، والانتفاع بالأرض بأنواع الانتفاعات جائز؛ لأن هذا أصل مقصود من وضعها شرعا (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمن: 10) أي: منافعهم من عمارة وبناء وغير ذلك، وقال تعالى (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) (الأعراف: 74). والاستخلاف في الأرض انفرد به الإنسان بحكم الله وقضائه في ذلك، وما سواه من الخلق جناً وحيواناً وإمكانات متممات ابتلائية (فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129).

فالتصرف المطلق المباح الانتفاعي مقصور على الإنسان. وقلنا «المطلق»؛ لأن تصرف غيره من المخلوقات مقيد محصور، فلا يحق التصرف الاستخلافي التام المطلق لا لملك ولا جن ولا حيوان، فالملائكة سيارون نورانيون مكلفون جبلة ولا سكن لهم في الأرض؛ لعدم حاجتهم للسكن أصلا. والجان والشياطين ناريون من مارج من نار سكنهم من الأرض للابتلاء لا للاستخلاف بلا معارضة التصرف الإنساني الاستخلافي في الأرض. والحيوان له حقه من الأرض (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 32)، «ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (¬1). ولكل رزق وحق حياة، ولكل مستودعاته وسكنه (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6). وكل ما على الأرض وفيها مملوك للإنسان ملك انتفاع مباح (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). ومقتضى الملكية أن ما على الأرض وما فيها مال يتملك وينتفع به. ثم هو أقسام: فما يتملك للفرد نوع، وما لا يمكن لفرد تملكه بل لتجمع خاص، أو لمجتمع، أو لشعب كالمال العام، أو لأمة كالعربية والإسلامية وهو الملك الدولي برا وبحرا وجوا، ومنه ما لا يمكن تملكه لفرد أو مجتمع أو شعب أو أمة بل هو مملوك على جهة الاشتراك العام الإنساني، فلكل الانتفاع به بلا ضرر بانتفاع آخر كالمياه البحرية الدولية، والأجواء الدولية. والملك للأرض على سبع درجات: الأولى: الملك الأصلي، وهو لله تعالى. الثانية: الملك الإنساني، وهو بالاستخلاف المنصوص. الثالثة: الملك الدولي. الرابعة: الملك العام، وهو المال العام. الخامسة: الملك المجتمعي. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

السادسة: الملك المشترك الخاص. السابعة: الملك الخاص. فأما الأول فهو قطعي ظاهر، وكذا الثاني غني عن الشرح. وأما الملك العام فقد تكلمنا عنه في فقه الدولة في فقه المال العام. وأما الملك الدولي فهو ما تملكه كل دولة من أرض تقيم عليها سيادتها ودولتها ولها التصرف التام بها وفق المصلحة العامة المعتبرة؛ لأن تصرف الولاة منوط بالمصلحة العامة الخالصة أو الراجحة. فالدولة مكلفة بالفرض العيني بالدفاع والدفع والنهوض بالبلاد، والحفاظ على أراضيها وسيادتها وثرواتها ومواطنيها وقاطنيها ومصالحها كافة (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي سياسة الإصلاح العام في كل ما تحتاجه البلاد. وملكية الدولة على أراضي وطنها لا تخول لها بيع شيء من أرض الوطن أو التنازل عنه لدولة أخرى؛ لأن ملكيتها ناتجة عن الولاية على الشعب. والولاية وكالة ونيابة قائمة على النظر المصلحي، وباطلة في الضرر، وهذا من أشد الضرر وأعلاه إلا أن يكون بتفويض شعبي عام في عين قضية بعينها لدفع نزاع في قضايا الحدود ونحو ذلك. والدولة لها حق التصرف المصلحي العام في أراضيها برا وبحرا وجوا، وفرض عليها حماية الحدود دفعا للضرر (¬1)؛ لأن هذه الأمور من سياسة الإصلاح العام ودفع المفاسد وهي من مقصود (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41)، فهي نوع من الأمر والنهي. ويحرم على الدولة أن تفتح أراضيها البرية أو الجوية أو مياهها الإقليمية لدولة لضرب دولة مسلمة أو مستضعفين مستجيرين. ¬

(¬1) - من إدخال ضرر على الشعب من مخدرات أو أمراض أو مواد كيماوية سامة تضر بالوطن أو أدوية تالفة أو عصابات دولية تمر عبر الحدود منها وإليها، أو عدوان من دولة على حدودها ..

ولا يجوز التمكين لدول الكفر أن تضرب أهدافا داخل أراضي الدولة؛ لأن هذا من أعظم الضرر وأعلاه، لأن وجود الدولة قائم على حماية شعبها مواطنين وقاطنين ومستجيرين وعكسه محرم، وهو تعاون على الإثم والعدوان وخيانة لأمانة الولاية وهو مبطل لها بشروطه، ولأنه عاد على مقتضياتها المصلحية الكبرى بالإبطال. ولأنه يحرم قطعا إعطاء معلومات مجردة للعدو على المسلمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة: 1)، وفتح الأجواء أعظم وأشد، فقطعية تحريمه أظهر من تلك. ولأنه أعظم سبيل للكافرين على الدولة المسلمة وهو محرم بأدنى من هذا (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، وهذا أمر بصيغة الخبر يفيد أشد التحريم وأبلغه. ولأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ولا يخذله بالنص (¬1)، وهذا أعظم الخذلان وأشده. ولا يجوز للدولة السماح بوجود قوات دولية على أراضيها، لأنه امتهان وإذلال واستضعاف لسيادتها وقرارها وشعبها والأمة المسلمة جمعاء، وتقوية لعدوها، وهذا محرم غاية التحريم لعظيم مفاسده وضرره، ولأنه في أعلى أنواع الموالاة، فتحريمه أشد من تحريم موالاتهم بإيصال خبر إليهم برسالة في أمر للمسلمين الذي نزلت فيه الممتحنة. والخلافات الحدودية بين دويلات العرب والمسلمين فرض حلها داخليا بصلح عادل ملزم لعموم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10). وقلنا داخليا؛ لأن تدويلها مفاسده أكبر من مصالحه بالتجربة الواقعة، كأدائه إلى إذكاء الفتنة من أطراف دولية لها مصلحة في ذلك، وكاستغلاله كورقة ضغط على الدولة في قضايا مختلفة. وقد ينتهي الأمر بإنزال قوات دولية بذريعة فض النزاع وحفظ السلام، وهذا غايةٌ في التمكين على رقاب المسلمين. وإذا احتلت دولة كافرة جزءا من أراضي دولة مسلمة وجب على أهل الإسلام النفير العام ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

دولا وشعوبا، فإن عجزت الدولة عن الدفع تعين على المسلمين دولا وشعوبا الدفع جهادا في سبيل الله بما يدحر الاحتلال (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191)، (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13)، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 40). وفرض أن تتكتل دول الإسلام على ذلك (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73)، فإن لم يقم حكام الدول الإسلامية بالدفع والتحالف، وجب عند استطاعةٍ وأمن فتنةٍ خلع معرقل ومخذل ومثبط منهم؛ لأن بقاءه يفتح ما حذر الله منه في النص (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73). والفتنة أشد من القتل بالنص، والفساد الكبير واجب دفعه، ويحرم طاعة متسبب فيه، وولايته محرم لحرمة طاعته (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152). وأي حاكم لدولة مسلمة يصد عن إيجاد تحالف دول الإسلام يعتبر شرعا مسببا لوقوع الفتنة والفساد الكبير في الأرض المحذر منه في النص، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعزله يكون عبر مؤسسات الدولة المخولة بذلك أو بثورة سلمية شعبية عامة إن غلبت مصالحها على مفاسدها ويحرم الخروج المسلح لغلبة ضرره. وفرض الآن أن توجد الدول العربية الإسلامية حلفا مدنيا وعسكريا بينها لتحقق العلة في النص ووجودها بتحالف دول الكفر (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73). والحلف العسكري يشمل قوات مسلحة حديثة تكافئ القوى الدولية لحماية دول العرب والمسلمين. والحلف المدني يشمل كافة وسائل النهضة الحديثة التعليمية والاقتصادية والتكنولوجية والصناعية وغيرها.

ويقوم الحلف المدني بإيجاد شركات كبرى حديثة للتنقيب عن الثروات في البلاد العربية والإسلامية عوضا عن شركات دول الهيمنة؛ لأنه يحقق تمام المصلحة للمسلمين، وما حقق تمام المصلحة طلب وقصد شرعا؛ لأنه من الإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، و (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). ولأنه يعود بالمصلحة على دول المسلمين وسياساتها واقتصاداتها فطلب شرعا. ولأن المسلمين بعضهم أولياء بعض (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71)، ومن الموالاة تقوية بعضهم بعضا بأنواع القوة، وهذه المسألة منها؛ لأن التعاون في مجال التنقيب عن الثروات النفطية والغازية والمعدنية من أهم ركائز القوة المعاصرة فضلا عما يتبع ذلك من تشغيل لليد العاملة ونشاط اقتصادي وبنية تحتية، وهذه مصالح كبرى عامة فوجب أن تتعاون دول الإسلام في ذلك، وهو مشمول بعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2). وكل من دخل أرض الدولة من المسلمين فهو آمن. ويحرم طرده أو سجنه إلا مفسدا. أما غير هذا من أهل الإسلام فالأصل حرية دخولهم وتنقلهم في أراضي أي دولة عربية وإسلامية، بالجواز أو البطاقة الشخصية؛ لأن الله أباح ذلك على وجه العموم (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). ولأن أرض الإسلام أورثها الله لأهل الإسلام الصالحين (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، وأهل الإسلام مقصودون بهذا لأنه نزل النص إليهم ويستحيل أن يراد غيرهم، لنقض المعنى مقصود الشرع من التمكين للمؤمنين، إذ يكون المعنى: كتب أن الأرض يرثها عباده غير المسلمين، وهذا محال. ولأن التمكين وإزالة الخوف مقصود شرعي لأهل الإسلام (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55). وطرد وسجن مسلم مسالم غير فار بفساد أو جناية لمجرد دخوله دولة عربية وإسلامية

بدون تأشيرة من أنواع المظالم؛ لأنه منع لمسلم من حق مباح بلا مصلحة معتبرة شرعا سوى العصبية الوطنية، وزيادة القطيعة والفرقة بين بني الإسلام مع فعل الأمم غيرهم اليوم من الكافرين نقيض ذلك، فأجازوا لمواطني دولهم الدخول إلى بعضها بمجرد البطاقة الشخصية. وفعلهم معلل بالمصلحة الوطنية المدروسة المعتبرة؛ لأنه يحقق مصالح كبيرة في الوحدة والجماعة والتحالف المدني والعسكري. فدل على أنه مصلحة معتبرة، وهي من مفردات المصالح الخادمة للتحالف والموالاة المقصودة في قوله تعالى (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال). ولا مانع من اتخاذ إجراءات لدفع المفاسد حال التنقل لا منعه البتة، أو تعسيره بإجراءات تخدم المفاسد كالفرقة والقطيعة بين دول الإسلام وأهلها. ومن دخل بلاد المسلمين من غير المسلمين بتأشيرة، فهو آمن لا يجوز الاعتداء عليه بأي نوع من العدوان، سواء كان كتابيا أو وثنيا أو لا دينيا، جاء لعمل دبلوماسي أو لسياحة أو زيارة أو لتجارة أو غيرها. ومن أخفر أمنه فاعتدى عليه فهو ضامن، وعليه لعنة الله ورسوله والمؤمنين بالنص (¬1)، وقد قضى عمر بقتل من قتل محاربا كافرا أعطي الأمان (¬2). ويجوز التنقل والسفر في الأرض لأي إنسان في الأصل (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20). فإن كان لمعصية أو إضرار بآخر حرم (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). وقلنا التنقل والسفر ليشمل النوعين: ما له حكم السفر وما ليس له؛ وذلك لاختصاص المسافر بأحكام قصر الصلاة الرباعية وجمع الظهرين والعشائين تقديما وتأخيرا لثبوته. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

ويجوز القصر عند خوف فتنة الذين كفروا بالنص (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) (النساء: 101). ويفطر المسافر رخصة ويقضي صوم الفرض (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 185). وإذا ركب دعا (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ). وإذا صعد نحو جبل كبَّر. وإذا انحدر سبح الله (¬1). ويكبر إذا أقلعت الطائرة ويسبح حالة استوائها وهبوطها قياسا لعدم الفارق المعتبر. والهجرة إلى أرض جائزة، فإن كانت فرارا من فتنة في دين وجبت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 97). ولعلم (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122). وتجب إن لم يتم إلا بها تعلم فرض عين أو كفاية، دينا أو دنيا. وللبحث والنظر (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20). وللعبرة والبحث (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69). ولطلب الرزق (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل: 20). ولجهاد (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: 20). ولعلاج؛ لأنها وسيلة إلى دفع الضرر. ويجوز السير ليلا أو نهارا (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات: 137 - 138). وإذا سار في الثلث الأخير من الليل أو السحر دعا بالمأثور «عياذا بالله من النار: اللهم ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2993 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا.

صاحبنا في سفرنا» (¬1). والآثار التاريخية في الأرض يحافظ عليها؛ لأنه تحقيقٌ لمقصود الشرع في الأمر (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69)، ولا نظر إلا بوجود هذه الآثار، والأمر بإتلاف الأصنام هو لما كانت تعبده العرب في مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا لم يأمر بهدم أصنام ومعبودات القرى البائدة لما مر عليها، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع (¬2). وتستغل الآثار سياحيا، ولا يجوز لأحد بيعها بل هي ملك عام للدولة. وينتقل عن أرض فرارا من معصية لا يمكن تركها إلا بذلك لحديث «أن رجلا من بني إسرائيل قتل مئة نفس .... » (¬3). وأخذ جنسية دولة أخرى جائز ولو دولة كفر؛ لأن وصف الدين والوطن لا يتضادان كصهيب الرومي، وحديث «أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين» (¬4) محمول على ما قبل الفتح لعموم «لا هجرة بعد الفتح» (¬5)، أو على بلد محارب لأنه قد يصاب ويهدر دمه (¬6). والفساد في الأرض محرم بأنواعه (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). وإذا صنفت الجريمة فسادا في الأرض فحدها حرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 7075 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول «سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار». (¬2) - انظر فقه «الفن وفقه السياحة» من كتابنا هذا. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 3470 عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له هل من توبة قال: لا فقتله فجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له. وهو في مسلم برقم 7184. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - تقدم تخريجه. (¬6) - أنظر «فقه الأقليات».

وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). ويحافظ على جمال الأرض عمارة وبيئة لعموم «إن الله جميل يحب الجمال» (¬1). ويجوز في الأصل أنواع الزخارف المعمارية والأشكال والزينة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: 32). وارتفاع بناء مباحٌ كناطحات سحاب، وحديث «يتطاولون في البنيان» (¬2) إخبار لا ذم، ولا تلزم الحرمة بكون ذلك من أشراط الساعة؛ لورود ما ليس بمحرم وهو من أشراطها كحكم على منهاج النبوة والمهدي، وتقارب الزمان، وعودة جزيرة العرب مروجا وأنهارا. والاستثمار في المستغلات المعمارية جائز؛ لأن التجارة مباحة، وهذا منها. ويراعى في الفنادق والمستغلات عدم احتوائها على محرم كخمر ودعارة. والاعتصامات في الساحات والميادين العامة مباحة، لتحقيق مصالح ودرء مفاسد عامة. وينظر العلماء من أهل الاجتهاد في ذلك الزمان وفي تلك البلدة، وقولهم هو المعتبر في ذلك تحليلا وتحريما بالنظر والموازنة بين المصلحة من الاعتصام، والضرر الذي قد يلحق بالمارة والأحياء، أو الضرر العام، وقد سبق الحديث عن هذا بشيء من التفصيل في موضعه. ومن اعتدي على أرضه بغير حق دافع، فإن تعذر دفع الضرر قضاء فإن صال عليه معتد باغ رده بمثله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194). ومن قتل دون ماله فهو شهيد بالنص (¬3). ولأرض الجزيرة أحكام خاصة، وحدودها كما أفاده ابن الأعرابي واعتمده الجمهور من عدن في اليمن جنوبا إلى بحر الشام شمالا، وإلى بحر الخليج والعراق بنهريها، وحدودها الشامية شرقا، إلى الأردن والشام المتاخم له وبحر جدة والبحر الأحمر غربا (¬4). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - هو في الصحيحين وقد تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬4) - انظر معجم البلدان (2/ 137) وما بعدها، ط/ دار الفكر.

الملك المجتمعي

الملك المجتمعي وما لا يتملكه فرد كالمال العام والمرافق المجتمعية نوعان: أما الأول فبسطنا أحكامه في فقه الدولة، وهو المال العام. وأما الثاني فهو الملك المجتمعي، وهو ما توافق الناس عادة على أن يكون مشتركا في المنفعة بينهم كالمراعي والمحاطب والمساقي. وهذه مقصودة في الحديث «الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ» (¬1). وكذا الطرقات العامة، والمواقف، والحدائق، والمتنفسات، ونحو هذا؛ فلا يباع ولا يوهب، ولا يوقف، بل يكون منفعة للمجتمع. وقريب منه الملك الخاص المشترك بين طرفين مالكين، من مداخل ومخارج ومنافذ الأموال ومراعيها وتوابعها من الشجر والحجر. الملك الخاص المتعلق بالأرض وأحكامه: ويتعلق بالملك الخاص للأرض عقود وأحكام أظهرها الثروة الزراعية واستثمارها، ومنها المزارعة، والمساقاة، والإيجار، وإحياء الموات، والرهن، والوقف، والهبة، والأرض المغصوبة، والشفعة، والزكاة، والمستغلات، والاستثمار بيعا وشراء، وكنز الأرض المملوكة وثرواتها، وانتزاعها للمصلحة العامة اضطرارا بتعويض عادل مرض. وتجري هذه الأحكام في الأرض العامة للدولة بحسبها إلا الزكاة. ¬

(¬1) - قولنا «الناس شركاء .. » دليله أحاديث منها ما أخرجه ابن ماجة برقم 2473 عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار. قلت: وسند حديث أبي هريرة صحيح، وقد صححه العراقي وتبعه المناوي كما في فيض القدير (3/ 412)، وقال الضياء إسناده جيد ونقله عنه ابن الملقن (2/ 113)، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة برقم 876. وهو شاهد صحيح لحديث ابن عباس عند ابن ماجة برقم 2472 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار، وثمنه حرام. قال أبو سعيد: يعني الماء الجاري. قلت: وإنما جعلنا هذا الحديث -أعني حديث ابن عباس- في الشواهد لما في سنده من الضعف، وله شاهد صحيح عند أحمد برقم 23132 عن أبي خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار». قلت: وسنده صحيح رجاله ثقات، ثم اطلعت على قول الحافظ في الدراية برقم 987: ورجاله ثقات.

الأحكام الزراعية

الأحكام الزراعية: الثروة الزراعية نعمة يتعلق بها الوجود البشري ضرورةً، فهي من الضروريات التي يتعلق بها حفظ الحياة، وهي أربعة أقسام: الحبوب، والفاكهة، والنخيل، والنبات. وهي مجموعة في قوله تعالى (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن: 10 - 12). فذكر الفاكهة والنخل والحب، والنوع الرابع النبات، وهو الريحان (¬1). وكل ما في القرآن راجع إلى هذه الأربعة بالاستقراء. ورأس الفواكه الرمان والأعناب والزيتون، ولذا استقلت بالذكر. والنخل نوع مستقل ليس بفاكهة، ولا حبوب؛ بل هو جامع للنوعين التفكه والتقوت، ويغني عن فاكهة وقوت لجمع ثمرته ما تفرق فيهما من خواص النوعين. وفرض على الدولة العناية بالثروة الزراعية لقيام أكبر المصالح العامة على الأمن الغذائي، ولأن المقياس الدولي المعاصر للقوى العالمية هو بميزان الأمنين الغذائي والقومي. وقد جمعا في قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 3 - 4). وأرض الدول العربية خاصة والإسلامية عامة مهيأة لنهضة إنتاجية زراعية؛ إذ الأنواع الأربعة من الثروة الزراعية مستوعبة فيها. ولا يزرع بعضها في غيرها البتة كالنخيل، أو بجودتها كالزيتون فهي أرض طيبة مباركة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: 15)، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (سبأ: 18)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) (البقرة: 61). ¬

(¬1) - الريحان في قول أهل العلم: قيل الرزق. وهذا قول الأكثر منهم ابن عباس وغيره. وهذا القول يشمل كل نبات لأنه رزق فيه ألوان المنافع، وقولٌ آخر أنه الأخضر من الزرع. وهو يدل على اعتبار الخضرة في كل نبات خضرة، فدل على ما قلنا. راجع تفسير الآية في تفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي والكشاف.

والبركة في اليمن والشام وبلاد الحرمين ثابتة بدعوة رسول الله إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام (¬1). ودعا صلى الله عليه وسلم لليمن والشام «اللهم بارك لشامنا ويمننا ثلاثا» (¬2). وهذه نعم تمكينية. والإعراض عن النعم إعراض عن شكر المنعم وإيذانا بعذابه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7). وإهمال الحرث الزراعي مؤد إلى مفاسد كثيرة من إضرار بالتربة، وتعطيل لليد العاملة ووفرة البطالة واحتياج الدولة إلى غيرها لسد عجزها غذائيا، وقد ترتهن قراراتها لدول الهيمنة. وإذا فسدت الأرض الزراعية هلكت الثروة الحيوانية وتضرر الشعب، وهذا فساد محرم (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). ولا يجوز استيراد مواد ضارة بالتربة لأنها من الخبائث (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157)، ويعاقب مخالف، وتراقب الدولة الأسمدة الزراعية وكيفية استعمالها دفعا لإفساد الأرض والمحاصيل. واستصلاح الأراضي الزراعية مشروع بالأمر، والأصل فيه الوجوب «ليزرعها أو يُزرعها» (¬3). وكذا استصلاح الأرض الميتة «من أحيا أرضا ميتة فهي له» (¬4). ¬

(¬1) - مع وفرة مياه نهرية عظمى في دجلة والفرات والنيل والوفرة الباطنة وسيل وغيل وعين وكثرة سقيا دائمة سماوية وتنوع مناخ وتضاريس. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1037 عن نافع، عن ابن عمر قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال، قالوا وفي نجدنا قال: قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال، قالوا وفي نجدنا قال: قال هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 3998 عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه». (¬4) - تقدم تخريجه.

والمزارعة والمساقاة الأصل فيهما (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). فالأرض الزراعية إن سُلِّمت لمن يعمل فيها بالأجرة فالعقد جائز أصله عقد الإجارة. والإجارة عقد بيع لأنها بيع منفعة وجوازها على تخريج أنها إجارة قد يرفع الخلاف؛ لأن الإجارة جائزة بلا خلاف، وتسميتها مزارعة لا يغيِّر حكمها الشرعي، وأجر الأجير يدفع بحسب الاتفاق؛ فجاز نقدا، وجاز جزءا من نماء كأجير المضاربة. والمساقاة هي دفع أرض بها شجر لعامل بعوض من ثمرتها. والخلاف القديم فيهما -أي المزارعة والمساقاة- مضطرب لاضطراب حديث رافع في المزارعة. وما كان كذلك أخذنا منه ما وافق الأصل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، ووافق أصل النهي عن الظلم والغرر وأكل أموال الناس بالباطل. ولا تصح حينئذ سوى رواية «كنا نزارع على الأربعاء والجداول ولك هذه ولي هذه وقد تنبت إحداهما ولا تنبت الأخرى فنهينا» (¬1). وهذا النهي للتحريم؛ لأنه ظلم وغرور وأكل لأموال الناس بالباطل، وتصح رواية الكراء بالدنانير والدراهم (¬2)، لموافقة متنها الأصول. ويظهر حينئذ أن رواية «نهى عن كراء المزارع» (¬3)، ورواية نهى عن المخابرة، ورواية ما ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2344، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وبشيء من التبن. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2346 عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم. وقال الليث: وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة. (¬3) - تقدم قبل قليل.

تصنعون بمحاقلكم (¬1)، ورواية «من كان له أرض فليزرعها أو يزرعها ولا يؤاجرها» (¬2) من حديث جابر، كلها محمولة على الإجارة بجزء خارج من الأرض معين بمكان معين، وهذا محرم؛ لأنه قد لا ينبت موضع منهما، وتبقى الصور الباقية على الجواز. ودليله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها» (¬3). وعاملهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حتى زمن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (¬4). وأقر معاذ أهل اليمن على المخابرة (¬5). فتحمل جميع روايات النهي على ما لا خلاف فيه لا رواية ولا فقها مع موافقةٍ للأصول في الإباحة. وهي ما ذكرنا. والعقد المبرم في الاستثمار الزراعي، مزارعة أو مساقاة، الأصل فيه الإباحة في كل زرع وشجر. فإن لم يكن للشجر ثمر ولا للزرع كالذي يعطى غذاء للأنعام فيتفق الطرفان على أجرة مقطوعة مقابل العمل. فإن كان يُتاجر في ورق الشجر والمساقاة فيها فهو كالثمرة. وإطلاق الثمر على الورق والزهر صحيح بلغة القرآن (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) (النحل: 69). ¬

(¬1) - هي رواية من حديث رافع في صحيح البخاري برقم 2339 قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير قال: لا تفعلوا ازرعوها، أو أزرعوها، أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة. (¬2) - تقدم ونعيد ذكره هنا لهذه الزيادة «ولا يؤاجرها» أخرجه مسلم برقم 4001 عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه». (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - أخرجه ابن ماجة برقم 2463 بسند صحيح إلى طاووس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، على الثلث والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا. (¬5) - انظر بداية المجتهد (2/ 223).

والزرع المعد لطعام الأنعام مما لا يثمر يجوز دفع أجرته بجزء مشاع منه كثلث وربع على الأصل في الإباحة بشرط التراضي، والأصل عدم المانع الناقل عنه. وتصح المساقاة والمزارعة في الأنواع الأربعة: الفواكه، والنخل، والزرع، وكل نبات يتعامل فيه الناس بذلك وقع التعامل قديما أو لم يقع. أما الفواكه بأنواعها فظاهر؛ لأن الأصل الإباحة، ولا ناقل صحيح ينقل عن هذا الأصل وعضد الأصل بالنص العام (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، و (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). والمساقاة بيع منفعة من العامل بثمن مشروط مشاع من إنتاج الشجر من ثمرتها. وإن كان استثمارا فهي تجارة كالمضاربة، والأصل في الاستثمارات التجارية الحل بالنص، والنص لم يفصل، فشمل الاستثمار الزراعي في شجر الفواكه أو النخل أو الحبوب أو النبات. وتقييدها بالنخل أو الكرم أو بنوع دون آخر معارض للعموم، والنص لا يعارض إلا بنص. ولا تُقَيَّد بمعاملة أهل خيبر، وكانت ثمرتهم النخل؛ لأن التقييد حصر وإلغاء، فالحصر هو إعطاء حكم يتناول ما لا يحصى لفرد منه، والإلغاء: هو إلغاء حكمه عما بقي. ولا يكون إلا بنص صريح صحيح يفيد ذلك. فإن كان بالمقايسة الاجتهادية على ما هو في مورد آخر منع، فلا يصح قياسه على منع بيع المعدوم، أو النهي عن الغرر أو المحاقلة، وهي بيع الحبوب المكيل بالحبوب في السنابل خرصا (¬1). لأن هذا يقال في المساقاة على النخل؛ لأنه بيع معدوم وفيه غرر، فلما أجازه الشرع قولا وفعلا كان الأصل قياس المساقاة في غيرها من الثمر عليها؛ لأنها من نفس بابها؛ فيحكم حينئذ بمشروعية المساقاة في النخل وغيره؛ لا الذهاب إلى ما يخالفه من بيع معدوم كبيع ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2207 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة.

الحمل الحادث بعد زمن، وهو حبل الحبلة أو بيع ما في بطون الأنعام (¬1)؛ لكثرة الخطر والغرر في ذلك المترتب عليه الضرر الفاحش، بخلاف المساقاة والمزارعة فالأكثر السلامة. وحصول الضرر والغرر قليل وجريان العادة الإنسانية المستمرة على ذلك مفيد لغلبة المصالح فيها، بخلاف بيع المعدوم مما لا يغلب فيه المصلحة فمتروك عادة؛ لضرره الغالب، فطابق حكمُ الشرع ما جرت به العادات من المصالح الغالبة كالمزارعة والمساقاة، ومنع ما تُرِكَ عادة لغلبة أو كثرة ضرره وغرره كبيع حبل الحبلة والسمك في الماء؛ لعلة الغرر الفاحش والضرر الكثير. ومن المصلحة الشرعية أن تدفع الدولة الأرض إلى من يستثمرها من الشركات والمؤسسات والأفراد والجهات الاستثمارية الوطنية لعموم «فليزرعها أو ليزرعها أخاه». وهذا أمر والأصل فيه الوجوب، فواجب على الدولة أحد أمرين في الاستصلاح الزراعي: الأول: مباشرتها للاستصلاح الزراعي. والثاني: إبرام عقود مع الغير استثمارا. أما الأول وهو زراعة الأرض واستصلاحها؛ فللأمر في النص، ولأنه يحقق المصالح الكبرى للدولة والشعب من الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وصولا إلى الأمن الغذائي، ويدفع مفسدة الفاقة والمجاعة، وذل حاجة سؤال آخر، دولة أو مجتمعا أو جهة. وكل وسيلة خادمة لذلك فهي مطلوبة شرعا بحسبها من دراسات وأبحاث وتولية كفء وإعداد المعاهد والكليات الزراعية. وكذا الرقابة على القطاع الزراعي وتأهيل المختصين الزراعيين؛ لأن الوسائل لها أحكام ما توسل بها إليه. فإن لم تباشر الدولة بجهاتها المعنية الإصلاح الزراعي، وجب الأمر الآخر، وهو إبرام عقود ¬

(¬1) - قولنا «وفي بطون الأنعام» فيه أحاديث منها ما أخرجه البخاري برقم 2143 عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها. ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس وسنده حسن في الشواهد، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد كذلك لا بأس به في الشواهد.

استثمارية زراعية مع جهات مختصة وطنية لعموم «أو ليزرعها أخاه» (¬1). وقلنا «وطنية» لأنه ملفوظ النص بقوله «أخاه»، فدل على أولوية الاستثمار الوطني الزراعي، ولا يلجأ إلى جهات مستثمرة أجنبية زراعية إلا للحاجة لعدم كفاية وطنية، أو نقص تأهيل أو خبرات. ويجوز اشتراط شرط عادل كتشغيل اليد العاملة الوطنية لتحقيق مصلحة الخبرة والحد من البطالة وتأهيل الخبرات. ويؤقت العقد بما يحقق المصلحة، ولا يضر الطرفين؛ فإن حصل استغناء عنهم أبرم مع وطنيين. ويتفق في العقود على كل شرط عادل يحقق المصلحة العامة ويدفع الضرر. وقولنا «عادل» لأنه لا ضرر ولا ضرار، فلا يضيق على مستثمر، ولا يضر بالمال العام. ومن المصلحة العامة أن تدعم الدولة المزارعين وتوفر لهم التسهيلات والتحفيز، ويجوز أن تشتري الدولة المحاصيل الزراعية المحلية إن استدعت المصلحة ذلك، أعني المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والسكر. لأن بيع المُزارع لها في السوق متعذرٌ؛ لأنه يبيعها بسعر التكلفة مع ربح فيرتفع الثمن للمحصول المحلي فيُرغَبُ عنه إلى الاستيراد الخارجي الأرخص سعرا. فإذا اشترته الدولة دعمته من المال العام؛ لتوفره في الأسواق بسعر منافس. وهذه مصلحة تحقق الأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي، والاستثمار الزراعي الوطني. وعليهم الاعتناء بالمحصول من الحبوب والفواكه وغيرها بما يحفظها ويدفع عنها التلف؛ لأن إتلافها إهدار للمال وعبث وهو محرم. فتغلف وتعلب وتهيأ لها المخازن المركزية لحفظها تبريدا وتخزينا وعناية وتسويقا داخليا أو خارجيا. وتحديد ما على الجهة المزارعة، وما على الدولة، أو الجهة المالكة راجع إلى الاشتراط العادل ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل.

في العقد، أو العرف، أو نصوص تقنن ذلك، أو مذهب فقيه. وأولاها العقود، دفعا للخصومة والضرر عن الطرفين. تملك الأرض: ولا تتملك الأرض إلا بالطرق الخمس للتملك، وهي بعقد معاوضة محض، أو غير محض، أو تبرر وتبرع، أو فرض، أو سبق. فعقد المعاوضة المحض هو البيع والشراء بأنواعه. وغير المحض هو المدفوع في مهر ونفقة وتعويض جنايات كالأروش والديات. وأما التبرر والتبرع فوقف الأرض وهبتها. وأما الفرض فالميراث والغنيمة والزكاة. وأما السبق فهو إحياء الموات، ونحوه. والكلام على هذه العقود في بابها سوى الأَخِيْرَيْن. فالملك إما أن يكون للدولة، أو للمجتمع، أو للأشخاص. والأخيران لا مدخل لإحياء الأرض فيه؛ لأن الملك المجتمعي منافعه عامة للمجتمع، كالطرقات العامة، وأراضي المرافق والمنابت، والمسارح للأنعام، وغابات الاحتشاش والاحتطاب، ولأنها إذا امتلكت لشخص تضرر العامة. ولأنها ليست مَيْتة، لانتفاع المجتمع بها. وأما الملك الشخصي فلا يحق إحياؤه تملكا لأحد غير مالكه؛ لعموم «إن أموالكم عليكم حرام» (¬1). والإضافة في «أموالكم» إضافة ملك. ولأن التصرف في ملك الغير محرم إلا بإذنه، ولا إذن هنا، فيكون غصبا. وأما ملك الدولة فهو نوعان: أحدهما الملك العام وهو هنا ما المقصود به الملك السياسي والسيادي، وهي تشمل سائر ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

الأراضي داخل حدود الدولة. والآخر بملك خاص مسجل باسم الدولة. وهذا الأخير لا يحيا إلا بإذن الدولة. والأول يجوز إحياء الميت منه وإصلاحه ولو بلا إذن؛ لعموم «من أحيا أرضا ميتة فهي له». فإن منعت الدولة استصلاحه إلا بإذن نُظِر: فإن كان أمرها تعنتا مع عدم استصلاحها للموات؛ فالأمر باطل؛ لأنه خارج عن المصلحة العامة، وتصرفات الدولة منوطة بالمصالح العامة وإلا بطلت. ولأنه يؤدي إلى إهلاكٍ لكثير من الأرض الصالحة للمنافع من زراعة وبناء واستثمار؛ فحرم؛ لأنه مفسدة. وإن كان استئذانها تنظيما ودفعا لمفسدة العشوائية في التملك جاز؛ لأنها مصلحة معتبرة. ويجوز أن يُحْييَ الموات مواطنٌ مقيم في الدولة. فشمل قولنا ذلك الذكر، والأنثى، والمسلم، وغير المسلم؛ لأن حق الإحياء من حقوق المواطنة. وقولنا «مواطن مقيم» لا يشمل غير المواطن في الدولة المسلمة من تاجر مارٍّ بأرض الدولة، أو سائح، أو مبعوث لمهمة مدنية، أو رسمية؛ فهؤلاء لا يحق لهم إحياء الموات في أرض الدولة المسلمة؛ لأن هذا ممنوع بالعرف الدولي الرسمي، والعمل بالعرف جائز بلا مخالفة للشرع، وهو هنا كذلك. إذ مقصده إصلاح أرض الدولة بما يعود بالنفع العام على الشعب، وإحياء غير المواطن يبطل هذا المقصد؛ لأدائه إلى تملك منفعةٍ وعقاراتٍ للخارج تملكاً نافذ التصرف فيها، وهذا ضرر على الدولة. والإحياء للأرض هو استصلاحها بكل ما يعد حياة لها: بالزراعة، والاستثمار، والسكن، أو اتخاذ مسجد. فالزراعة شاملةٌ لكل ما ينبت من زروعِ وشجرٍ مثمر، أو غير مثمر. والاستثمار يشمل: بناء محطات الوقود، أو تربية الثروة الحيوانية أو الطيور، أو المصانع، أو

الفنادق والاستراحات، وغير ذلك. وقولنا «اتخاذ مسجد» لا يشمل معبدا أو كنيسة؛ لأنه ليس في معنى الإحياء؛ لأن الله جعل الكافر ميتا موتا دينيا (وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ) (فاطر: 22)، أي: ما يستوي المسلم والكافر. والكنيسة هي دار الدين عندهم، فلم يعتبر بناؤها إحياء للأرض بل إماتة؛ لأن ما هم عليه موت بالنص. وشرط إحياء الأرض أن تكون مَيِّتَة ليست لأحد. فالميتة هي ما لا ينتفع بها بوجه عام ولا خاص، وليست ملك أحد لا ميت ولا حي، كان حاضرا أو غائبا، ولو تقادم الملك، إذ التقادم يقوي الملك ولا يضعفه. أو ما هي قريبة من ملكه وتحسب عرفا وعادة أنها تابعة لذلك الملك؛ فلا إحياء لها. ويعرف الملك بالاستفاضة، أو خبر العدول، أو الوثائق، فإن اندثر المُلَّاك، ولا يعلم لهم بقية وارث، لا من عصبة ولا رحم، جاز إحياؤها وتملكها؛ لأنها تصير حينئذ في النظر العام للدولة، وهو يجوز إحياء مواته. وإنما قلنا بالنظر العام لأنه متعلق بعموم نظرها على الشعب احترازا عن النظر الخاص لأنه يكون من الدولة في أموالها. ومن أحيا أرضا وملكها ثم أهملها في حياته مدة يُعْلَمُ بها زهده وتركه لها؛ جاز لغيره إحياؤها؛ لأن الأول خالف المقصود الشرعي من إحياء الموات وهو حصول المنفعة عامة، وخاصة. فلما عاد السبب وهو الإحياء على المقصد بالإبطال بطل ما ترتب عليه، وهو الملك. وقولنا «في حياته» احترازٌ عما إذا كان الإهمال وقع بعد موته لانتقالها إلى ورثته؛ فإنه لا يحق لأحد إحياؤها؛ لأن تبدل سبب الملك كتبدل العين. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «هي لها صدقة ولنا هدية» (¬1). فَتَغيُّر سبب الملك يغير الأحكام. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 1493 عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها فذكرت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق قالت وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقلت هذا ما تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة ولنا هدية. وهو في مسلم برقم 2536.

القسم الثاني من الأعيان المالية: الثروات

وللدولة التمليك من أراضيها هبةً لجهة أو فرد، بشرط اعتبار المصلحة العامة كتمليك المجاهدين، وأسر الشهداء، والجرحى في سبيل الله. ولا مانع من تمليك الشرائح الضعيفة والفقراء، أو تمليك جهات استثمارية تسهيلا وتحفيزا للجانب الاستثماري، وهي مصلحة معتبرة عامة؛ لتعدي منافعها إلى العموم وهو النمو الاقتصادي العام. ويحرم تمليك نافذين في الدولة احتيالا دون غيرهم من عموم المواطنين، والملك باطل؛ لأنه لا مصلحة فيه. وقد نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك من أبيض بن حمال -وكان قد أقطعه إياه- لما أخبر أنه إنما أقطعه المال العد أو الماء العد، أي: الخالص الذي ينتفع به عموم الناس، فتحويزه لأحد ضرر. ولا يجوز للأسر الحاكمة احتكار تمليك أراضي الدولة فيما بينها لأفرادها إلا بما يتساوى مع عموم الشعب؛ لأن هذا مقتضى العدل. ولا مانع من زيادتهم بما يكافئ حاجياتهم زيادة مكافئة لمثلهم في الطبقة والحاجيات من الشعب، بعدل وإحسان بلا إسراف، ولا تقتير، ولا تعسير. ولأن المال العام ملك عام؛ فاحتكاره على طائفة مخرج له عن ذلك. ولأن التصرف على المال العام مشروط بالنظر الأحظ المصلحي العام، ولا أحظ هنا؛ فكان ضررا؛ وهو ممنوع. القسم الثاني من الأعيان المالية: الثروات والأصل في الثروات المالية قول الله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29)، (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13)، (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 14)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) (إبراهيم: 32)، (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل: 5)، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف: 7).

الثروة الجوية

فالأُولى: عمومٌ في خلق كل ما في الأرض و (مَّا فِي) تدل على الظرفية الباطنة، فتعم كل الثروات الباطنة، وتدخل الثروات الظاهرة؛ لأنها مقصودة في النص، ويدل لها (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). فما على الأرض مقصودُ وَضْعِه داخل في قضية الاستخلاف القائمة على الابتلاء، وهذا هو مقصود النص (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). فأصبح العمل فيما على الأرض عملاً؛ لأنه داخل في التكليف الابتلائي المحاسب عليه، والقائم على طلب التنافس في الإحسان في العمل (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). والثروات على وجه الأرض وباطنها أقسام، فمنها: 1 - الثروة الحيوانية. 2 - والثروة النباتية من نابت ومستنبت، ويلحق بها الثروة الجغرافية والسياحية. وقد نذكرها استقلالا. 3 - والثورة الصخرية. 4 - والثروة المائية البحرية والنهرية. 5 - والثروة البترولية. 6 - والثروة الغازية. 7 - والذهب والفضة. 8 - وسائر المعادن. 9 - والأجواء. ولنبدأ من هذا الأخير فما فوقه، فنقول وبالله التوفيق: الثروة الجوية: أما ما هو متعلق بالأرض، وليس منها فهو الهواء والأجواء. وهو داخل في الثروة الكبرى العامة من حيث ملك النظر في تنظيم حركة الملاحة الجوية والطيران لكل دولة بحسب أجوائها.

والأجواء أنواع ثلاثة

ودليل كونه حقا للإنسان قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13)، فهذا نص عام على تسخير كل ما في السماوات من الإمكانات، ويدخل في ذلك الهواء والأجواء والجاذبية والمجموعة الشمسية وسائر الكواكب؛ لعموم (مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ). فالهواء هو: غلاف الأرض، وهو موضوع على أصل التسخير المشترك العام لسائر المخلوقات على الأرض. ولا يستطيع أحد احتكاره. ومن حاز شيئا منه فهو ملكه؛ يجري عليه حكم الأموال بيعا وشراء، وغير ذلك. واسطوانة الأكسجين الطبية أو المهنية من هذا الباب. والأجواء أنواع ثلاثة: - أجواء دولية. - أجواء وطنية. - أجواء شخصية خاصة. النوع الأول: الأجواء الدولية فالدولية ما يشترك فيه العَالَم في حق المرور، والطيران، والملاحة الجوية، ولا تملكها دولةٌ بعينها. ولا يحق لأي دولة أو جهةٍ السيطرة عليها. ومن اعتدى على الطيران في الأجواء الدولية فهو باغ، وله حكم قطاع الطرق، وحَدُّه الحرابة؛ لأنه من الفساد في الأرض (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). فإن كانت دولةٌ فإن أَقَرَّت بالخطأ؛ لزمها التعويض التام. فإن لم تقر البتة نُظِر في وسائل الإثبات عند الخصومة الدولية. أو أقرت بعمدية العدوان في الأجواء الدولية فهي معتدية مفسدة في الأرض، سواء كان عدوانها على طيران عسكري أو مدني.

النوع الثاني: الأجواء الوطنية

والواجب رد العدوان بالمثل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194). ويجوز العفو صلحا (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40). وقلنا «العفو صلحا»: لدلالة الآية؛ فإن العفو عليه أجر، والصلح عليه أجرٌ، واجتماعهما كذلك. فلا يصح في مثل هذه الحالة العفو ابتداء؛ لأن الدولة المعتدية على دولة النظر فيها ليس كالنظر في حق الفرد؛ لأن الولاية قائمة على النظر المصلحي العام، ولا مصلحة في مجرد العفو الصريح أو السكوت؛ لأنه امتهان لسيادة الدولة المعتدى عليها ويؤدي إلى الاستهانة بها وبشعبها. فلا يجوز هنا العفو إلا إن كان صلحا تدخلت فيه أطراف تحكُم بتضمين المعتدي وعدم عوده إلى العدوان. وهذا واجب كلي على سائر الدول والمنظمات العالمية؛ لأنه من منع الفساد في الأرض، وهو فرض على كل الإنسانية، ويأثم تاركه ولو كافرا بدليل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل: 88). فعذبهم بكفرهم، وعذبهم بفسادهم في الأرض. فدل على التكليف العام بالإصلاح في الأرض وعدم الفساد. واختطاف الطائرات حده الحرابة وجزاء الفساد في الأرض (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). إلا طائرةً حربية للعدو المحارب في الحرب، لا مدنية؛ فيحرم ولو كانت للعدو. النوع الثاني: الأجواء الوطنية أما الأجواء الوطنية: فهي أجواء كل دولة تابعة لأراضيها. والمرور بالطيران المدني يكون بإذن الدولة وتؤمنه لزوما؛ لأنه من الإصلاح في الأرض. ورسومه مجانية في الأصل إلا ما تعارفت عليه الدول وتوافقت بما لا يضر بحركة الملاحة الجوية.

ولا يجوز لدولة التعنت بمنع أو عرقلة حركة الطيران المدني في أجوائها؛ لأنه بغي وعدوان وضرر، وهذه محرمات. وأما الطيران الحربي؛ فإن كان للكافرين فلا يجوز دخوله أجواء الدولة المسلمة بأي وجه؛ لأنه لا معنى له سوى الهيمنة على دولة الإسلام وإرهابها وانتهاك سيادتها وإذلالها. ولأنه لا يخلو الأمر حينئذ من أن يكون بإذنٍ أو لا. أما إن كان من غير إذنٍ فواضح تحريمه قطعيا؛ لأنه لا معنى له سوى العدوان المسلح على الدولة، إلا إن كان خطأ واعْتُذِر منه، ومنع تكراره، فإن تكرر فهو عدوان لا يُقْبَل الاعتذار منه، ووجب ردعه. فإن كان بإذن فهو محرم؛ لأن الإذن الصادر من الدولة ممنوع في هذا الباب؛ لأن ولايتها على الشعب ولاية نظر مصلحي عام، وليس هذا منه، بل هو ضرر غالب أو محض. لذا لا يمكن لدولة قوية أن تأذن به تحت أي مبرر فضلا عن دول الهيمنة الكبرى، إذ هو مصنف في المخالفات الدستورية والسيادية والوطنية الكبرى، فدل على أن المنع مصلحة معتبرة مقررة في دولهم، وهي كذلك. فيحرم على دولة الإسلام الإذن لطيران حربي للكافرين من دخول الأجواء تحت أي مبرر؛ لأنه من أعظم السبيل للكافرين عليهم، وهو محرم (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141). فإن كان الطيران الحربي للكافرين يخترق الأجواء للدولة المسلمة لضرب أهداف فيها تحت أي مسمى فيجب إسقاطه، أو إسقاط النظام الحاكم في الدولة المسلمة؛ لأنه عميل موال على أهل الإسلام، فصار منهم لا منا للنص (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51). وبطلت طاعته؛ لأن شرطها أن يكون «منا» للنص (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59). وإن كان لضرب أهداف في دولة أخرى، وأذنت دولة الإسلام بذلك، فالإذن باطل كذلك. فإن كان الضرب لدولة مسلمة أخرى؛ فخلع السلطة الحاكمة الآذنة فرضُ عينٍ على كل فرد

إن كان اختراق الأجواء في حال ضعف المسلمين لا لعمالة

في الشعب بشروطه، ولا طاعة له لما سبق، وهو عميل وَلِيٌّ لأهل الكفر على أهل الإسلام، وحكمه حكم الجاسوس، بل أشد لعظيم ضرره. أما إن كان الطيران الحربي المخترق للأجواء من دولة مسلمة أخرى؛ ففرض على المسلمين دولا وشعوبا الصلح بينهما منعا لحدوث عدوان واقتتال، فإن حدث اشتدت فرضية المصالحة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10). فأوجب في النص أمرين: الأول: المصالحة بين المتقاتلين من أهل الإسلام. والثاني: الصلح العام في كل أمر يحتاج إلى صلح وتقطع به الفتنة. ويجوز للطيران الحربي لدولة مسلمة دخول الأجواء لدولة مسلمة بالإذن. ودخوله للمناورات العسكرية بين الدولتين المسلمتين من وسائل المصالح والتعاون بين أهل الإسلام؛ لعموم (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60). والمناورات العكسرية بين دول الإسلام من القوة؛ فدخلت في النص. ولا يجوز المناورة مع دول الكفر؛ لأنهم يتعرفون على نقاط الضعف عندنا وهذه مفسدة لا تجيزها مصلحةُ معرفةِ نقاط ضعفهم؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. هذا إن كانت المناورة على أراضيهم، أما على أراضينا؛ فيحرم أصلا لما سبق، وهو انعدام المصلحة الحقيقية في ذلك، بل هي متوهمة ومفاسدها أكثر، ودفعها مقدم على جلب المصالح. - إن كان اختراق الأجواء في حال ضعف المسلمين لا لعمالة: أما إن كان اختراقهم الأجواء لحال ضعف المسلمين لا لعمالة؛ فتعذر السلطة بعد أن تستفرغ جهدها في العمل لمنع ذلك؛ لعموم (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28)، مع وجوب رد المسألة للشورى بين أهل الإسلام (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ

النوع الثالث: الأجواء الشخصية الخاصة

اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83)، وهذا من أعظم الأمور المتعلقة بالأمن والخوف فدخل في حكم الآية. النوع الثالث: الأجواء الشخصية الخاصة أما الأجواء الخاصة فهي ما يختص بها المالك للأرض أو العقار من أجواء تابعة لملكه. فله حق استغلالها بالبناء والاستثمار التجاري والانتفاع بأنواعه؛ لأن من ملك الأرض ملك سماءها ضرورة. لأن هذا هو المقصود من امتلاك الأرض في سائر الانتفاعات، وإلا لأدى إلى إبطال الانتفاع بأي أرض إلا ما كان ذاهبا إلى جوفها كحفر بئر، وهذا إبطال للحياة الإنسانية؛ لأن الأرض ينتفع بها للسكن والزرع والبناء، وكل هذا انتفاع بهواء الأرض ضرورة. وقد جعلها الله من النعم العامة (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) (الأعراف: 74). فالأرض حقيقة هي فرش لقواعد البناء والنبات وأساسه وأصله، وأما غايته فلا تكون إلا في جهة السماء، وهذا عندي من تفسير قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22). أي للافتراش الأفقي والسعة، والسماء لعلو البناء وارتفاعه. والدليل على هذا التفسير أن الآية نص في تمليك الانتفاع بدلالة اللام (لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء) (البقرة: 22). ولو كان المقصودُ أن الله جعل السماوات السبع التي عنده لنا بناء لكان التمليك في اللام غير مفيد، لا تملكا ولا انتفاعا (¬1). ¬

(¬1) - وهل سُبِقْتَ إلى هذا الاستنباط؟ سؤال سيطرحه بعض، وجوابه أن علم القرآن لم يحط أحد به؛ لأنه منزل معصوم على وجه الإعجاز لسائر الناس إلى يوم القيامة، فيستنبط منه علماء كل عصر أحكام الحوادث في عصرهم، ولا يلزمهم تكليفا الإحاطة بما لم يحدث في غيره، وقد جريت في تأليف كتابي هذا على تقديم مسائل العصر للناس بأحكامها المستنبطة من القرآن والسنة وما هو راجع إليها من: المقاصد، والأصول، والقواعد، والعلل، والحكم، مقتصرا على ذلك؛ لأني على يقين قطعي أنهما يتضمنان ذلك (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً =

ومن اشترى مسكنا في عمارة مرتفعة سواء كان ما اشتراه منها شقة أو أجنحة أو غرفة؛ فإنه وسائر الملاك في العمارة شركاء بالشيوع في ملك أصل الأرض ويختص كل منهم بملك معين في البناء. هذا هو الأصل؛ لأن الهواء تابع للأرض بالعرف المتفق عليه بين الناس بالعادة الجارية. والعمل به مقر شرعا (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199). فلا يستقل الهواء بالحكم؛ لأنه تابع، والتابع تابع. ويجوز النص في العقد على أن ملك الأرض لمالك الدور الأرضي، ويكون البيع لما فوقه بيعا للبناء بالتراضي، فشمله عموم الإباحة الأصلية والنصية الدالة على حل البيع والتجارة، والأصل عدم المانع؛ ولأن شرط البيع التراضي بالنص (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). فصح العقد، ولا يخرجه عن الصحة إلا دليل مانع، والأصل عدمه. والهواء في آخر طابق ملك مشترك تبعا للاشتراك في ملك الأرض؛ لأنه تابع لها. ومن ملك الأرض منفردا جاز أن يبني على آخرِ دوْرٍ، ويبيعَه؛ لأنه مالك للأصل والهواء تابع؛ فجاز له التصرف في الملك وتوابعه، إلا إن جرى الشرط على تركه للانتفاع لملاك العمارة؛ فلا حق له، وانتقلت المنفعة إلى الملَّاك بهذا الشرط؛ لأنه شرط مؤثر معتبر صحيح. والشرط الصحيح جزء من العقد واجب الوفاء به بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ¬

= وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89). فهذا نص قطعي على أن القرآن فيه تبيان لكل شيء، ومن هذه الأشياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وفعله وتقريره. فقد نص الله أن أركان بعثته أربعة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2). فالتلاوة معروفة أنها للقرآن، وأما التزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة فهي أمور غير تلاوة القرآن، وهي التزكية بأقواله وأفعاله وتقريراته وتعليم القرآن أحكاما ودلالات عملية تطبيقية قولا وفعلا وتقريرا. وتعليم الحكمة هي: فقه التعامل للوصول إلى الحق عند الاشتباه والتعارض وفقه الموازنات عند تعارض الحوادث. فهذه الثلاثة الأمور التي هي (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) لا تكون إلا بأقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، وتلك هي سنته صلى الله عليه وسلم. وهذا استنباط كذلك لا أعلم إن كنت سبقت إليه.

الثروات المعدنية والبترولية

وإن انهدمت العمارة لغش في مواد البناء، أو خلل في العمارة مع عدم اطلاع المشتري عليه تعميةً؛ فالضمان على البائع مالك العمارة؛ لأن بيعه تضمن ضررا فاحشا بالغير. والعقود لا يجوز تضمنها الضرر. ويضمن كل إتلاف في نفس أو عضو أو مال ترتب على ذلك؛ لأنه باشر فعل ما يحرم عليه فعله من سبب مهلك غالبا؛ وعماه عن الغير في عقد مقصوده المنفعة للطرفين؛ فخالف مقصود العقد. ومن باشر عمل أسباب الإتلاف للغير وعمّاها، فإن قصد قتله فهو قتل غيلة عمدا وعدوانا. فإن لم يقصد القتل كصاحب العمارة في مسألتنا فضمانه الأنفس بالدية، والأموال بالتقويم، والأضرار والخسائر المترتبة على ذلك بالتعويض العادل. وإن كان انهدام العمارة لنازلة عامة كحرب، أو زلزال، أو إعصار، أو حريق؛ دفع الضرر بالتعاون مجتمعيا ورسميا من الدولة، ودوليا من عموم الدول والشعوب إن عظمت الكارثة؛ لأن التعاون على البر والتقوى أصل شرعي مقرر (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2)، وشموله هذه الحالات ظاهر. وشُرِع ولو كان من نزلت عليه الكارثة على غير دين الإسلام للعموم؛ ولقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وهذا من البر. والشعوب المدنية الأصل أنها مسالمة حتى يثبت خلافه. والعلاقة الإنسانية أصلها قائم على السلام والتعارف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). - الثروات المعدنية والبترولية: والثروة المعدنية بكافة أنواعها من ذهب وفضة وحديد ونحاس وجواهر وأحجار كريمة وغيرها من وجدها في أرضه الخاصة المملوكة له فهي له؛ لأنها جزء من الأرض.

إذْ الملك للأرض يسري على ظاهرها وباطنها بالعادة الجارية المستمرة العامة المقرة (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6). ومن ادعى عدم دخول باطن الأرض في البيع عاد قوله بالضرر الفاحش على المشتري؛ لأن الانتفاع بظاهر الأرض لا يتم إلا بباطنها من حرث، وتقليب، وحفر آبار، وأساسات بناء، ونحو ذلك. وله أن يبني طوابق سفلية تحت الأرض ما شاء إلا ما استثني دفعا للضرر عن الغير. ومن استخرج معدنا من أرضه ملكه، سواء كان المعدن المستخرج مسبوكا، أو نقدا من ذهب أو فضة، أو كنزا؛ لحديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا (¬1). وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأرض تملك بما فيها؛ لأن الحكم بإنفاقه على ولديهما لا يكون إلا عن ملك، ولا بد أن يكون لأحدهما ولا يكون إلا المشتري (¬2)؛ لأنه لو كان للبائع لكانت لمن قبله ممن كان مالكا للأرض بشراء أو إرث أو غيرهما من طرق الملك، حتى لو كان بإحياء لكانت كنزها صدقة عامة؛ لأن الأرض قبل الإحياء ملك عام. ويدل على أن كنز الأرض لمالكها قوله تعالى (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف: 82). فدل على أن من ملك الأرض ملك كنزها، وكل ما في القرآن فهو شريعة لنا إلا ما ثبت ¬

(¬1) - البخاري برقم 3472 ومسلم برقم 4594. (¬2) - قولنا «إلا المشتري» ويكون حينئذ ما أعطاه لابن الآخر هبة، وصح الحكم بينهما على هذا الوجه صلحا، والصلح خير.

اختصاصه بأمة سبقت، ولم يثبت هنا خلاف ما في الآية ولا الحديث، فدل على الإقرار على الأصل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). فإن ادعى البائع أو شخص آخر ملكية الكنز أثبت دعواه ببينة عادلة مطلعة على أمره عالمة بصفة الكنز بما لا يدع مدخلا للشك في صدقهم. وهل يكفي المدعي أن يذكر وصف الكنز من نحو عدد ونوع وأمارات لا يمكن أن يطلع عليها إلا مالك؟ احتمال إن ألحقناه باللقطة كونه مالا ضائعاً بنسيان محله، أو جرف سيل له في حادثة كفيضانه على محلة، أو على مجتاز في مجراه فتفلَّت عليه الكنز ونحو ذلك. وأما إن كانت الأرض عامة غير مملوكة فلكل أحد حق التعدين فيها، ويملك ما أخذ بالحيازة والقبض، فإن كنزا فهو لمن وجده، ويملكه بالحيازة، ومن ادعاه أثبت كما مر. ويجوز للدولة تنظيم التعدين الشعبي بما يعود بالنظر المصلحي؛ لأن لها النظر المصلحي على الناس لا منعه؛ فإنه مضارة لما وضعه الله للانتفاع (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). وإن كان المنع لمصلحة معتبرة أعم جاز كما فعل عمر في الحِمَى، وهو في البخاري (¬1). أما الثروة النفطية والغازية: فهي ملك للشعب. والدولة نائبة عنهم في ذلك؛ لأن هذا هو النظر المصلحي العام للأمة، ولا يتملكها فرد أو جماعة من دون عامة الناس؛ لما في ذلك من الضرر الفاحش على عامة الشعب. والضرر مدفوع وجوبا، خاصة العام. ولأن الله يقول (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7). فَقُصِدَ شرعا عَدَم الاستحواذ على الثروة من فئة. وأظهَرُه في حال استئثار فئة بملكية هذه الثروة الكبرى فهي أولى بمنع الاستحواذ عليها من الملح الذي نزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان ملّكه لشخص، وجعله للناس كافة (¬2). ويجوز في حالات جعل البئر النفطية والغازية ملكا لمن هي في أرضه؛ لأنه الأصل، إذ هي ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2370 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حمى إلا لله ولرسوله. وقال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى السرف والربذة. (¬2) - تقدم تخريجه.

تابعة للملك في الأرض، فمن ملكها ملك ما في باطنها، ولعدم المانع سوى تعارض المصلحة العامة للخاصة، فإن لم يحصل تعارض جاز. وعلى الدولة وجوبا استغلال هذه الثروة في مصالح الشعب، ونظرها عليه مبناه على النظر المصلحي الغالب كسائر الولايات (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58). (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5). فهذه النصوص أصول في مثل هذا؛ فيجب على الدولة الإصلاح العام في هذه الثروة النفطية والغازية، والواجب التسويق للتنقيب لدى الشركات المشهورة بالأمانة والاتفاق؛ لأن هذا هو مقتضى عقد الولاية لمن ولي على الثروة النفطية، والإيفاء بما يقتضيه العقد واجب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). فالجهة المخولة رسميا في إدارة النفط: وزارة أو شركات، أو هيئات، أو مؤسسة واجبٌ عليها القيام بتمام هذا التخويل؛ لأنه المقصود الشرعي من العقد لولايتها. ولا يتولى النفطَ الغازَ خوَّانٌ ولا مفسد؛ لأنه ليس من أهل الولاية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وفي النص «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قالوا: وكيف إضاعتها. قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (¬1). ومن مقتضيات عقد الولايات على المؤسسة النفطية المسح التام لأماكن الاحتمال في البلاد، والتنقيب الشامل للوصول إلى تحقيق غاية المصلحة الكبرى للشعب. ولا يعقد مع شركات التنقيب إلا بسعر المثل العالمي وزمنه وشروطه، وكذا في حال بيع الإنتاج. فإن أخل بذلك بطل العقد؛ لأنه خارج عن النظر المصلحي (قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وفرض توريد ما بيع به الإنتاج من النقد إلى خزينة المال العام؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). والنقص منه ولو يسيرا من الغلول المحرم ومن كبائر الذنوب، وخيانة للأمانة (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161)، «من كتمنا مخيطا فهو غلول» (¬1). ويوثق بما لا إمكان معه للإخلال. ولا يستقل بالنظر في صرفه فرد ولو حاكما، بل يوضع ضمن المال العام الذي يتولى صرفه والنظر فيه وإقراره أهل الشورى من نواب الشعب وجهات لا يمكن تواطؤهم على الغش؛ لعموم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38). وهذا من الأمر العام المؤثر في المصالح الكبرى للبلاد، فشمله النص بالأولوية. وتوفيره للمواطنين بسعر مناسب لا بالسعر العالمي؛ لأنه يتعذر ويشق تحصيله على الناس حينئذ، والمشقات خاصة العامة واجبة الدفع. والحفاظ على أنابيب النفط والغاز وشبكتها في عموم ما تمر به واجب شرعا؛ لأنه حفظ لمال مسلم، والعبث به أو إتلافه محرم؛ لعموم «إن أموالكم عليكم حرام» (¬2). وهذا مال الشعب؛ ولأنه لو كان مالا لشخص معين لحرم عليه إتلافه؛ لأنه عبث وإسراف، وهو محرم؛ فما كان للناس فهو أعم في الضرر وأعظم في الحرمة. وتعمد الإضرار بالشبكة النفطية أو الغازية، أو الاعتداء عليها فساد في الأرض وقد يصل في بعض حالاته إلى الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وأما الثروة الصخرية ومشتقاتها: فما تبع ملكا خاصا فهو كذلك، وما كان للعامة اشتركوا فيه انتفاعا. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

والثروة البحرية والنهرية

وللدولة تحجير مناطق من غير المملوك لاستثمارها للمال العام؛ لأنه من نظر المصلحة، وإقامة تصنيع للإسمنت ومواد البناء وما يدخل في الصناعات من الوسائل كثيرة المنافع والمصلحة العامة؛ فطلبت. والثروة البحرية والنهرية: واجب على الدولة استغلالها. والوجوب مأخوذ من مقتضى عقد الولاية، وهو النظر المصلحي، والوفاء به واجب. ولا بد من حماية مياه الدولة. واختراقها من عدو والهيمنة عليها احتلال واجب الدفع. وما سبق قوله من أحكام الجو يقال هنا .. واستغلال النقل البحري والموانئ والمنافذ والثروات الحية، والمكنوزة البحرية مقصود في نصوص الشرع (وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (فاطر: 12). ويحرم الإفساد للبيئة البحرية بسموم، أو مبيدات، أو مخلفات، أو منتجات نفطية أو غيرها (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). فعاقبهم على الفساد في البر والبحر، وهو دليل التحريم، وتسميته فسادا كاف في التحريم. والصيد العشوائي الضار ممنوع؛ لأن الضرر مدفوع في الشرع؛ ولأنه من إهلاك النسل المحرم (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). والثروة الحيوانية مال عيني موضوع على وجه المنة الإلهية للانتفاع به (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 5 - 8). والإحسان إليها ورعايتها وإيتاؤها حقوقها مطلوب شرعا، فيجب إطعامها ويحرم حبسها وتعذيبها، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها كما جاء في الحديث (¬1). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

ويحرم إيذاء الحيوان، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال «لعن الله الذي وسمه» (¬1). وما أتلفت فلا ضمان «جرح العجماء جبار» (¬2)، أي هو هدر إلا إن فرط صاحبها؛ لأن تفريطه تسبب في العدوان، وهو محرم (وَلاَ تَعْتَدُوا) (المائدة: 87)، «ولا ضرر ولا ضرار» (¬3)، والتسبب في العدوان كمباشرته. وواجبٌ الإحسان إليها كما أحسَنَتْ لعموم النص (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، ولحديث الجمل (¬4). ويقصد شرعا تنميتها، خاصة المنتج منها؛ للنهي عن ذبح الحلوب «إياك والحلوب» (¬5). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1499 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس». وهو في مسلم برقم 4562. (¬3) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬4) - أخرجه أحمد برقم 1745 عن عبدالله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسّر إليَّ حديثا لا أخبر به أحدا أبدا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه قال بهز وعفان فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه فسكن فقال من صاحب الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال هو لي يا رسول الله فقال أما تتقى الله في هذه البهيمة التي ملككها الله انه شكا إلى انك تجيعه وتدئبه. قلت: سنده صحيح رجاله كلهم ثقات من رجال مسلم. ورواه أحمد برقم 17583 عن يعلى بن مرة بسند حسن في الشواهد. (¬5) - أخرجه مسلم برقم 5434 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة». قالا الجوع يا رسول الله. قال «وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوموا». فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين فلان». قالت ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصارى فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى -قال- فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذه. وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياك والحلوب». فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر «والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم».

ويعطى في الزكاة الأنثى من الأنعام من الأبل بالنص، واختيارا في الأبقار تبيعٌ أو تبيعةٌ، وفي الغنم الأنثى للنهي عن أخذ الفحل (¬1)؛ لأن الإناث أصول منتجة نافعة. والطب البيطري من وسائل حفظها وتنميتها ودفع الأذى عنها؛ فهو مطلوب لذلك. وحرم إتلاف وإهلاك الثروة الحيوانية ونسلها؛ فإن عم فهو من الإفساد في الأرض (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205). وواجب تمام الرفق بها في مسرحها ومراحها ومشربها لعموم «شر الرعاء الحطمة» (¬2). ولا تستعمل في غير ما خلقت له لحديث «أن رجلا من بني إسرائيل كان راكبا بقرة فقالت له: لم أخلق لهذا خلقت للحراثة» (¬3). أما الثروة الجغرافية فتشمل الموقع الجغرافي، والمعابر، والمضايق، والمنافذ بحرا وجوا وبرا، وتشمل الثروة الزراعية والنباتية، والمتنفسات الطبيعية، والمناطق السياحية، وتشمل كثيرا مما ذكر من الثروات وتقدم الكلام عنها. وأما الموقع الجغرافي فدولة الإسلام في أهم موقع، وهي قلب العالم وصلته بالاختيار الإلهي لا بالمجازفة؛ فواجب توظيف موقعها في جلب المصالح ودفع المفاسد، وحرم تمكين غير المسلمين من الاستحواذ عليه عسكريا، أو سياديا، أو سياسيا، أو اقتصاديا، وكل مضر يضر بالإسلام والمسلمين. ¬

(¬1) - أخرج مالك في الموطأ برقم 601 عن سفيان بن عبدالله أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا فكان يعد على الناس بالسخل فقالوا أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئا فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره قال مالك والسخلة الصغيرة حين تنتج والربى التي قد وضعت فهي تربى ولدها والماخض هي الحامل والأكولة هي شاة اللحم التي تسمن لتؤكل. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 2324 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت لم أخلق لهذا خلقت للحراثة قال آمنت به أنا، وأبو بكر وعمر وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي فقال الذئب من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري قال آمنت به أنا، وأبو بكر وعمر قال أبو سلمة ما هما يومئذ في القوم. وهو في مسلم برقم 6334.

المأكول والمشروب

القسم الثالث والرابع من الأعيان المالية: الأموال الإنتاجية والاستهلاكية أما القسم الثالث من الأعيان المالية فهو الأعيان الإنتاجية، وتشمل كل ما سبق في الأرض والعقار وتوابعها، والزراعات، والثروات؛ لأنها منتجة ومثمرة، وكذا كل الآلات التكنولوجية المنتجة من مصانع ومعامل. وفرض عين على الدولة امتلاك التكنولوجيا المنتجة والتصنيعية، لأنه من القوة المطلوبة شرعا (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وقد تقدم في فقه التكنولوجيا. وهو من تمام أسباب التمكين في الأرض، وهو مقصود شرعي، وفرض إيجاد وسائله؛ لأن ما لا يتم المقصود الشرعي إلا به فهو واجب (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55). وفرض إيجاد السياسات اللازمة لذلك، وهي تسع سياسات للنهضة الشاملة ذكرتها في فقه الدولة. أما الأعيان المالية الاستهلاكية وهي القسم الرابع فمن ذلك ما هو من الضرورات كالطعام والشراب والملبس والسكن، ومنه ما هو من الحاجيات وهو ما يقوم به الضروري من الوسائل وما لا بد منه لإخراج الحياة عن مرتبة الضيق إلى السعة، ومنه الترفيهيات وهي ما يقصد بها التوسعة الترفيهية على الخلق. ويشمل النوعان وسائل النقل والاتصالات، والزينة، واللهو، واللعب، ووسائل الراحة. وقد سبق الحديث عنها في أبوابها من الكتاب باستثناء: المأكول والمشروب: وحاصل أحكامهما أن الأصل فيهما الإباحة (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20). ويشترط أن يكون من الطيبات والحلال، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172).

فيباح كل طيب حلال، ولا حد له لسعته، وخلافه محدود. فالطيب خلافه الخبيث (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157). والخبائث كل ما ترتب عن تناوله الضرر على النفس من متلفات ومهلكات كالمآكل السامة. وقد يثبت الاستخباث بإجماع الناس أو جمهورهم على عدم استساغته طعاما، وقد يكون عاما أو خاصا بشعب أو بلد. أما اشتراط الحلال؛ فلاجتناب ما حرم بالنص أو كَسْبٍ بطرق محرمة. فما حرم بالنص فهو كالدم والميتة والخنزير، وما ذبح للأصنام، أو أهل به لغير الله من الشياطين والمخلوقات. أو لم يمت بالتذكية ذبحا، بل بثقل كالموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع (¬1). ومن المشروب لا يحرم بالنص إلا ما أسكر وهو الخمر، وأشد منه المخدرات ومثله الحشيشة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 3). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90). وأما ما كسب بطرق محرمة كالسرقة، والغش، والقمار، والخداع، والغصب والنهب، أو بالدعارة، أو السحر، أو بيع المخدرات والخمور، أو الأجرة على قتل أو ظلم أو رشوة، فيحرم الكسب وأكله من هذه الطرق. ¬

(¬1) - قولنا «لم يمت بالتذكية ذبحا .. الخ» الموقوذة هي المرمية بحجر، والمتردية هي التي وقعت من شاهق فماتت، والنطيحة ما نطحتها بهيمة فقتلتها ومثلها ما صدمت بنحو سيارة.

وحرم بالنص أكل كل ذي مخلب من الطير أو ناب من السباع (¬1) والجلالة حتى تطهر (¬2)، والفواسق الخمس لظهور ضررها واستخباث الطبائع لها (¬3). والصيد مباح بآلة محددة تنهر الدم كالسهم والرمح والأسلحة النارية، أو الطيور، والكلاب المعلمة، ويذكر اسم الله عند مباشرة الصيد (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة: 4). وكل ما في البحر من الأحياء البحرية ولو ميِّتَة مباح أكلها ما كانت، إلا إن ثبت ضرر شيء منه؛ لعموم الحل؛ ولعدم ذكرها في منصوصات التحريم، ولورود التصريح «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (¬4)، سواء كانت على صورة ما في البر أو لا، ولعموم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101) في كل ما لم ينص على تحريمه. وما عاش في البر والبحر فهو مباح إلا ما كان من الخبائث. لأنا إن غلبنا كونه بحريا أبحناه، وإن غلبنا كونه بريا فالأصل إباحته لعدم وروده فيما نص على تحريمه، ولم يبق سوى ضابط الاستخباث. والأصل في كل مشروب الإباحة إلا ما أسكر أو خدَّر. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 5530 عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. (¬2) - أخرجه أبو داود برقم 3787 عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. قلت: حديث حسن. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 2918 عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أربع كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والفارة والكلب العقور». قال فقلت للقاسم أفرأيت الحية قال تقتل بصغر لها. (¬4) - أخرجه أبو داود برقم 83 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». قلت: حسن صحيح.

وفي مشروبات الطاقة يجري أصل الإباحة حتى يثبت غلبة التحريم أو يقينه، ولا يكون إلا إن حصل بها الإسكار، أو كان فعلها كالمخدرات، أو ثبت خلطها بالخمر لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. وجميع طعام وشراب العالم بمختلف الشعوب الأصل فيها الإباحة إلا ما نص على تحريمه وهو: الميتة والخنزير والدم والخمر، وما ذبح لمعبود غير الله وعلم ذلك. وما جهل ذكر اسم الله عليه من المذبوحات سَمَّى وأكل للحديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها «إنا نؤتى بلحمان وطعام لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال سموا الله عليه وكلوا» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2057 عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا الله عليه وكلوه.

النوع الخامس من أنواع المال: المنفعة

النوع الخامس من أنواع المال: المنفعة والنوع الخامس من أنواع المال: المنفعة، والمنافع أقسام. 1) قسم جرى عليه التعامل تجارةً، وضبطُ عوضه المالي بالمثل. 2) وقسم مالي مقصود به التعبد لله لا يجوز أخذ ثمن له كالقرض والوقف، فالواقف نفع الناس بمنافع ماله ولا أجرة له إلا من الله. 3) وقسم ديني محض كالخطابة والدعوة، وتعليم القرآن والحديث، فالأصل مجانية هذه المنافع. وواجب على المجتمع أو الدولة كفاية من فرغ نفسه لذلك، إن كان فقيرا لعموم (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). فإن لم يكفوه ولم يجد ما يكفيه ومن يعول فرض عليه عينا التكسب، وفرض عليه تعليم الدين بما يقوم به فرض العين لا التفرغ لفرض الكفاية. 4) وقسم من المكارم لا يؤخذ عليه عوض وأقرها الشرع وجوبا كحق الضيف وإيواء ابن السبيل، والنصيحة، وحق الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين والصاحب بالجنب والجار؛ فإيصال المنافع المالية لهم لا ثمن له إلا من الله. وتعريف المنافع المالية هي: سلعة معنوية يترتب عليها ثمرة مادية أو معنوية متقومة بثمن معلوم في السوق. فقولنا «سلعة معنوية» سميناها كذلك لجريان التعامل فيها بأحكام السلع التجارية. وقولنا «يترتب عليه ثمرة مادية» مثالها: نحو منفعة التوكيلات والخدمات المعاصرة يترتب عليها ثمرة مادية. وقولنا «معنوية» نحو منفعة الدعاية الإعلامية إن كانت لصناعة شائعة كالانتخابات، فإن كانت لمنتج فثمرتها مادية.

فالفرق بين القسمين الحقوق والمنافع

وهذه الثمرة المادية المعنوية هي للمستفيد (¬1) من المنفعة ومشتريها. وقولنا «متقومة بثمن معلوم» هذا الثمن معاوضةٌ تدفع لبائع المنفعة مقابل تلك الثمرة. وقولنا «معلوم في السوق» خرج به الحقوق التي سبق الكلام عنها في قسم مستقل للمال كالحقوق الفكرية؛ لأنها متقومة لكن بثمن غير معلوم في السوق، فلا يرجع فيه إلى سعر المثل عند الحاجة؛ لأنها مبنية على التعويض لا على المعاوضة. فالفرق بين القسمين الحقوق والمنافع: أن الحقوق المالية تُقَوَّم بثمن التوافق (¬2)، ولا قيمة لها مثلية في السوق. وأما المنافع فلها ثمن، وهو المتوافق عليه، ولها قيمة مثلية في السوق يرجع إليها. أولا: المنافع التي جرى عليها التعامل تجارة. فأما ما جرى عليها التعامل تجارة بيعا وشراء فيدخل فيها عقود جرى التعامل بها قديما وحديثا: فالأولى الإجارة وبعض الوكالة بالمعنى القديم. والثانية: عقود التوكيلات، وعقود الخدمات البنكية، وعقد التخليص الجمركي، وعقد التحويلات، وعقد خطوط الاتصالات، وعقد الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وعقود الاعتماد المستندي، وعقد الضمان، وعقد التأمين، وعقد التسويق، وعقد الوساطة التجارية، وعقد الدعاية والإعلان، وعقد الخدمات الاستشارية، وعقود المسابقات، وعقود المراهنة، إلا أن هذين الأخيرين ألصق بالحقوق المالية لعدم تقومهما بسعر المثل. والأصل في جميع هذه العقود الصحة والحل ما لم تشتمل على محرم مقطوع بحرمته أو قريب منه. - الاستدلال على عقود المنافع والعقود على المنافع من الحاجات البشرية المقرة في الشرائع والأديان أصلها منتشر في النصوص (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (الكهف: 77). ¬

(¬1) - قولنا «للمستفيد .. الخ» إنما فرقنا بين المستفيد والمشتري لأن من المنافع ما لا يشترى بل يستفاد بنوع آخر من طرق التملك، كالوقف مثلا. (¬2) - قولنا «التوافق» أي بين بائع ومشتر بأن يتفقا على الثمن.

فجعل موسى عليه السلام مقابل العمل الأجر وأقره الله في مصدر شريعتنا ولم ينكر عليه، بل علل له قضية التبرع (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف: 82). وللنص على جواز بيع المنافع المختلفة في عقد واحد من رعي وإصلاح زرع وخدمة، وحراسة مقابل منفعة أخرى متقومة عرفا وشرعا (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص: 27). ولقوله صلى الله عليه وسلم «قد زوجتكها بما معك من القرآن» (¬1). فجعل منفعة التعليم مقابل منفعة النكاح. ولقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (الطلاق: 6)، فقابل منافع الرضاعة بالأجرة؛ لأن بيع الحليب غير مقصود بانفراد، بل هو ومجموع المنافع معه. (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 25) فسمى مقابل منفعة النكاح أجرة. وفي النص «من قتل قتيلا فله سلبه» (¬2)، وهذا وإن كان من الحقوق المالية لعدم وجود ثمن المثل، فهو وما سبق في الحقوق أصل في المنافع فجعل عمل المقاتل متقوما مع كثرة الجهالات فيه، وعلق الحكم -وهو إعطاؤه السلب- على تحقق المقصود، وهو قتل محارب من العدو، وفي النص «للفارس سهمان وللراجل سهم» (¬3). فحدد نسبة ثابتة مقابل منفعة دينية وهي الجهاد مع اختلاف المجهود الحربي بين معركة وأخرى وجهالة غنائمها. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2310 عن سهل بن سعد قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قد وهبت لك من نفسي فقال رجل زوجنيها قال قد زوجناكها بما معك من القرآن. وهو في مسلم برقم 3553. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - تقدم الحديث وتخريجه.

والأدلة على المعاوضة على المنافع كثيرة بنوعيها، أعني ما له ثمن في العرف مستقر وهي هذه، وما ليس له ثمن مستقر في العرف، وهي: الحقوق المالية التي سبقت، كأخذ الأجرة على الحق الفكري والرقيا، وهي منفعة غير متقومة وليس لها سعر مثل في العرف «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (¬1). ولأن الشريعة جاءت لرعاية المصالح ودفع المفاسد، وهذه منها؛ ولأن العادات محكمة إن لم تخالف شرعا، وهذه لم تخالف. ولعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). فأحل كل عمل تجاري قائم على التراضي، وهو عقود المنافع والخدمات التي صارت اليوم من أظهر التجارب. ولقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). فأحل كل بيع وأطلق في المبيع، وحرم الربا. فمن حددها ببيوع معينة، أو تجارات معينة احتاج إلى قاطع للإخراج من هذه القواطع الأصول. ولم يأت من محرمات المعاملات التجارية تحريمُ بيع المنافع، أو حصرُ الحل على صورةِ العقد في زمن التشريع. وقد ذكرنا مهمات الأصول والقواعد في مبدأ فقه المال. ونذكر إن شاء الله في الأنظمة المالية كل دليل غير ثابت سبب الاستدلال به اختلافا في الأنظار. ونقرر قاعدة في العقود المالية، ونحصر مع قديمها حديثَها. ونذكر أصولها بلا تحير أو تكلف في ليِّها لتوافق عقدا قديما. إذ القديم مقر شرعا بالأصول العامة، والعلل والقواعد، والمقاصد المالية. والجديد مقر شرعا بالأصول والعلل والقواعد والأصول المالية. لا لمجرد أنه وافق القديم. ونحرر قواطعَ ما ثبت من الأمور التي تؤثر في صحة العقود وعدمها؛ لتكون ملاذا للناظر ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

فالإجارة هي بيع المنافع.

والفقيه والباحث الاقتصادي، إن وجدها في العقد فسدت المعاملة وإن لم يجدها صحت (¬1). فالإجارة هي بيع المنافع. والمنافع هي مقصود الأموال، وارتفاعها يرفع القيم والأسعار، وعكسه عكسه، وذهابها ذهاب لقيمة المال وقد يخرجه عن التمول حينئذ (¬2). وإذا انفردت عن المال صارت مالاً مستقلاً وقومت به كمنفعة الإنسان؛ إذ هو بعينه ليس بمال ومنفعته مال. فالمنفعة قد تنتج من غير مُتَمَوَّل. وعقد الإجارة يقع على منافع الإنسان، أو الحيوان، أو الأرض، أو العقار، أو الأعيان المالية سوى هذه. فهذه خمسة أنواع: فالإجارة على منافع الأشخاص هي العقد الوظيفي الثابت، والتعاقدي على مدة وعمل فيها بوظيفة، أو إجارة معينة على عمل معين، أو إجارة معينة في زمن معين. فالأولى هي الدرجات الوظيفية الحكومية وما يلحق بها من الوظائف الأهلية، وقد تقدم في «الفقه الوظيفي». والثانية الوظائف التعاقدية وهي شائعة وأحكامها كسابقتها. والثالثة والرابعة هي الإجارات المشتركة، وهو ما يسمى بالأجير المشترك، والإجارات الخاصة، وهو الأجير الخاص. وما سبق في «الفقه الوظيفي» يغني عن إعادته هنا. وعقد التوكيلات: عبارة عن تعاقد بين طرفين: الأصيل والوكيل على بيع منتج الأصيل والدعاية له وضمان صيانته، وقطع غياره ويُضْربُ لذلك أجل. وفيها نوع مضاربة؛ لأنه دفع مال لبيعه بنسبة في الربح، وفيه نوع إجارة؛ لأنه يبيع مال ¬

(¬1) - وقد حصرناها بفضل الله في خمسة أمور جامعة لكل نصوص الشرع من الكتاب والسنة. (¬2) - قولنا «حينئذ» قيد، أي يخرج عن التمول حال ذهاب قيمته؛ فإذا عادت عاد.

غيره بأجر مقطوع، أو نسبة. وقد تكون التوكيلات في معنى لا في سلعة، كشركات النقل والسفريات والسياحة؛ فإنها توكيلات على منفعة معنوية مستفادة للعميل مقابل عوض على الوكالة. وقد تجتمع هذه المعاني جميعا في عقد واحد كبعض شركات التوكيلات التي تجمع بين الوكالة في منتج معين وبين المنافع والخدمات والإجارات، وقد لا يكون ذلك، وهو أمر راجع إلى منصوص العقد. ولا يمكن تخريج هذه العقود على أحكام الإجارات، أو المضاربات، أو الوكالة المفردة المنصوصة في كتب الفقه، ومن رام ذلك تكلف، والتكلف مذموم (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86). ولأن الشريعة سهلة يسيرة: تطبيقا، وفهما، وعملا، وتفقها. وتعسير تصور مسائلها خروج عن سننها. وكل من تكلف في تخريجٍ أو تشبيهٍ بما سبق فالخطأ صنوه. فمسمى هذه العقود هو ما جرى عليه السوق والعادة من الأسماء؛ لأن الشرع لم يسم العقودَ وإنما بيَّن ما يصح منها، وما لا يصح. ولم يثبت في نص أنه غيَّر اسما لعقد مع جريان هذا في أسماء الأشخاص والأماكن (¬1). فدل على أن الأسماء تؤخذ من التعامل الجمهوري العام بين الناس، ولا يحتاج الفقيه إلا إلى معرفة حقيقة المسمى لينظر في موافقته للشرع ويعطيه حكمه. وجميع تسميات عقود العصر تبقى على ما هي عليه في السوق، وعمل الفقيه بيان حكمها من النصوص لا من العقود القديمة ولا تغيير اسمها لتكون عقد قرض أو سلم أو صرف أو غيره. فهذه قاعدة هامة أدى الغفول عنها إلى كثير من التعب والإرهاق لبحَّاثة ومتفقهةٍ وفقهاء. وعقد الوكالات هو عقد مباح في الأصل؛ لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). ¬

(¬1) - قولنا «جريان هذا» أي التغيير في الأسماء، فقد ثبت تغيير أسماء أماكن مثل يثرب إلى طيبة، وثبت تغيير أسماء أشخاص كذلك، بخلاف أسماء العقود التجارية فلم يتعرض الشرع لتغييره.

الموانع الخمسة التي تبطل العقود

وهو أحد أهم عقود التجارة والاقتصاد الجاري في العالم، فشمله حكم الإباحة التجارية من عموم النص. والنظر في حكمه أولاً هو أن يعطى حكم الإباحة على الأصل المقطوع، ثم ينظر فيما يخرجه عن هذه الدائرة، من محرم مقطوع كعقد ربا، أو محرم منصوص، أو قمار، أو ما ليس عن رضى. فهذه هي الموانع الأربعة الأصول التي ترجع على كل عقد بالإبطال ويزاد لها خامس هو: العقد المترتب عليه الضرر العام الاقتصادي أو العبادي أو الأخلاقي. الموانع الخمسة التي تبطل العقود والموانع التي تعود على عقود المعاملات بالإبطال خمسة ترجع إليها سائر الموانع في النصوص، وهي عقد الربا، وعقد على المحرم المنصوص، وعقد الميسر، وعقد لم يقم على الرضا وعقد ضار عام. فالربا محرم قطعي (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) (آل عمران: 130)، (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ) (الروم: 39)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278 - 279). وعقد البيع غير عقد الربا للنص (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). فباين الله بين العقدين؛ لأن البيع مقصود به محض المعاوضة والربح، وأما الربا فمقصوده المحض بيع القرض بربح، والقرض لا يباع؛ فَجَعْلُه من أنواع البيع أو الاستثمار خارج عن الحقيقة إلى الحيلة. وهذا ربا الديون، وهو من النسيئة. أما ربا الزيادة فهو: زيادةٌ في مجلس العقد في أحد العوضين من جنس واحد من الضروريات الغذائية أو النقدية.

فقولنا «في مجلس العقد» خرج به ربا النسيئة. وقولنا «من جنس واحد» احتراز عن اختلاف الجنسين، فالزيادة مباحة. وقولنا «من الضروريات» احتراز عن غير هذه المنصوصة؛ لأن عليها تدور الضرورة البشرية «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إن كان يدا بيد» (¬1). وفي الأمن الغذائي وضحنا اقتصار العلة على هذه بما لا يمكن للناظر رده. ويدل على خطأ التعليل بغير هذا شدة الاختلاف في العلة على نحو أربعة عشر قولا. وكل مسألة اشتد التباين فيها؛ فذلك دليل على عدم النص فيما اختلف فيه ولا قريب من النص، ودليل على خروج الاجتهاد فيها عن سنن التيسير في الشريعة، ودليل على خطئه إلا محل الوفاق. فيرجع هنا إلى المحل المجمع عليه، ويترك ما سواه. وكل اجتهاد في حال شدة الاختلاف يدور على المحل المجمع عليه فهو صحيح. وهذه قاعدة عرفتها بالتتبع والتأمل (¬2)، ودليلها (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) (النساء: 82). فكل ما ليس من عند الله اشتد فيه الاختلاف. وثاني الموانع المفسدة للعقود هو معاوضة أو بيعٌ لمحرم بالنص. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4139 عن ابن عمر قال له رجل من بني ليث إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية قتيبة فذهب عبدالله ونافع معه. وفى حديث ابن رمح قال نافع فذهب عبدالله وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد». (¬2) - قولنا «بالتتبع والتأمل» أقول: منها مدة القصر في السفر فهي من المعارك، ومنها علة الربا وباب الربويات، ومنها وضوء النائم والمتحيرة في الحيض، ومنها دماء الحج، ومنها في أبواب الطلاق كثير، وغير ذلك.

مُحرَّمٌ منصوص على حرمة بيعه. وهي: بيع الميتة والأصنام والخنزير ومهر البغي وحلوان الكاهن وبيع الدم وبيع الخمر ومثله أو أشد المخدرات (¬1). والمانع الثالث: بيع الميسر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90). والميسر قسمان: القمار، وهو بيع على الحظ والمغامرة، وَحُرِّم لأنه شديد الخطر والجهالة ويترتب عليه ضرر شديد، والضرر مدفوع. ومن أنواعه بيع الحصاة والملامسة والمنابذة، فهذا هو القسم الأول من الميسر وهو أشده. والثاني: بيع الغرر. وهو منهي عنه بالنص «نهي عن بيع الغرر» (¬2). وبيع الغرر: هو ما اشتد غلبة إيصاله إلى الضرر على المشتري، ويدخل فيه بيع الملاقيح والمضامين (¬3) وما في بطون الأنعام (¬4) وبيع السمك في الماء (¬5)، وبيع الحب في السنابل بالحب كيلاً، والتمر على النخل بتمر كيلاً (¬6). وبيع الحي بالميت في اللحوم (¬7). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2086 عن عون بن أبي جحيفة قال رأيت أبي اشترى عبدا حجاما فسألته فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى، عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله ولعن المصور. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - قولنا «الملاقيح» قلت: فيه حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس وكلاهما في كشف الأستار برقم 1191 و 1192 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة. وكلاهما حسنان في الشواهد فيكون الحديث بهما حسن لغيره. (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬5) - روى أحمد في المسند برقم 3676 عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر. قلت: حديث حسن في الشواهد. (¬6) - أخرجه البخاري برقم 2171 عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا. وهو في مسلم برقم 3958 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة والمزابنة أن يباع ثمر النخل بالتمر والمحاقلة أن يباع الزرع بالقمح واستكراء الأرض بالقمح. (¬7) - قلت: هذا حديث حسن صحيح، جاء من حديث سمرة وابن المسيب والقاسم، أما ابن المسيب ففي المراسيل =

وبيع الرطب باليابس من جنسه كالزبيب بالعنب والتمر بالرطب (¬1)، وبيعتين في بيعة (¬2) ¬

= لأبي داود برقم 165 عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحي بالميت». قلت: سنده صحيح إلى ابن المسيب. وله شاهد من حديث سمرة في المستدرك برقم 2251 أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشاة باللحم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات ولم يخرجاه. وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة. وله شاهد مرسل في موطأ مالك. وقال الذهبي في التلخيص: احتج البخاري بالحسن عن سمرة. قلت: وهو كما قالا. وقال البيهقي في السنن الكبرى (5/ 296): هذا إسناد صحيح ومن أثبت سماع الحسن البصرى من سمرة بن جندب عده موصولا ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد بن المسيب والقاسم بن أبي بزة وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قلت: أثبت سماعه البخاري وابن المديني والترمذي وغيرهم ولم يأت من قال بعدمه بحجة وقد تقدم تحقيق المسألة. وأما مرسل القاسم فسنده حسن وأثر أبي بكر رضي الله عنه كذلك. وهما عند البيهقي. وعن ابن المسيب بسند صحيح أنه كان من قمار الجاهلية. ولفظه في الموطأ من رواية محمد بن الحسن برقم 781 عن سعيد بن المسيب قال: وكان من ميسر أهل الجاهلية يبع اللحم بالشاة والشاتين. قلت: وأما النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فهو عند الدارقطني برقم 3058 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. قلت: سنده صحيح. وما ورد من الأحاديث الصحيحة في أخذ البعير بالبعيرين نسيئة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على جوازه فيحمل الحديث على مجرد الإرشاد لا التحريم. (¬1) - قولنا «وبيع الرطب باليابس من جنسه .. » فيه أحاديث في الصحيحين في النهي عن المزابنة وقد تقدمت، وفيه ما أخرجه مالك بسند صحيح برقم 1293 عن عبدالله بن يزيد أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد أيتهما أفضل قال البيضاء فنهاه عن ذلك وقال سعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أينقص الرطب إذا يبس» فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك. (¬2) - قولنا «وبيعتين في بيعة» الحديث في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا». قلت: هذا حديث حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود برقم 3463 وأخرجه الترمذي برقم 1231 ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. وقال وفي الباب عن عبدالله بن عمرو وابن عمر وابن مسعود قال أبو عيسى حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم وقد فسر بعض أهل العلم قالوا بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما قال الشافعي ومن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا فإذا وجب لي غلامك وجب لك داري وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته. وقال الحاكم في المستدرك (2/ 52): صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط =

وبيع ما ليس عندك (¬1)، أي لم تملكه أو ملكته وقبضه محتمل العدم بكثرة، وبيع ما لم يقبض إن غلب عدمه (¬2)، وربح بما لا يضمن (¬3). وما خف الضرر والغرر فيه والجهالة مما لا يوصل إلى خصومه غالبا خرج عن المنع، كالجهالة بأساس الجدار، وبالخرص، والصبرة، والمزروعات مما تحت الأرض، وجهالة عمل المساقاة والمزارعة والمضاربة وخدمات كثيرة معاصرة. ويختلف القول في المسائل هنا في المذاهب لاختلاف تحقيق التغرير عند المجتهد في الحادثة من عدمه. والرابع من الموانع المبطلة للعقود: عدم الرضا (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). فشرط للتجارة الرضا. والخلل فيه مؤثر. ¬

= مسلم. قلت: الظاهر أنه حسن صحيح وليس على شرط مسلم لأنهما أخرجا له لأحد الرواة في السند متابعة كما قال المزي في ترجمته والذهبي في الكاشف. قلت: وله شاهد صحيح عنده برقم 1309 عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مطل الغني ظلم وإن أحلت على مليء فاتبعه ولا تبع بيعتين في بيعة». وقول أبي عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. قلت: وهو كما قال وإنما جمع له اللفظين لحال شيخه إبراهيم الهروي ثقة صدوق. ثم اطلعت على قول الحافظ فيه إذ قال صدوق حافظ. قلت: وهو ما قلناه ولله الحمد. قلت: وفي الباب كذلك عند أحمد برقم 6628 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن بيع وسلف وعن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما ليس عندك. قلت: هذا حسن صحيح. (¬1) - قولنا «وبيع ما ليس عندك» تقدم الحديث فيه وهو صحيح. وقال البخاري باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك. وأورد فيه برقم 2135 حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس، ولا أحسب كل شيء إلا مثله. قلت: لم يصح على شرطه النهي الصريح فأورد قياس بن عباس. قلت: وجعل البخاري حديث النهي عن بيع ما ليس عندك معناه القبض وهو أعم في ما لا تملكه أو ما ملكته ولم تقبضه أو قبضته ولا تستطيع أداءه في العقد. (¬2) - قلت: إنما حملته على هذا لأنه ما تدل عليه مقاصد الشريعة وقواعدها في الباب، ثم اطلعت على أن ما اخترته لم انفرد به، بل هو اختيار شيخ الإسلام وابن حزم وغيرهما. (¬3) - تقدم الحديث في هذا وتخريجه.

ويدخل فيه بيع المعيب بلا بيان، وبيع ما ليس ملكا، ولا ولاية عليه بوكالة أو ولاية نظر؛ لأن الرضى إنما هو من المالك أو من له ولاية. وبيعُ المجنون والسفيه والصبي لانعدام الرضى أو نقصه. وبيع المحجور عليه والمفلس، لأن الرضا تعلق بآخرين. وبيع المغصوب والمسروق والمنهوب وبيع الخداع والمغشوش؛ لأنه لا رضى في هذه المسائل ممن له الرضى. وبيع ما لا منفعة فيه. وبيع المصراه (¬1)، وبيع المكره؛ لظهور اختلال الرضى. وضابط هذا: كل بيع جرى مع فَقْدٍ أو نقص مؤثر للأهلية، أو مع خلل مؤثر في العين فهو مبطل في الأصل، وخلل العين يدخل فيه العيوب. وبقي مانع خامس: وهو ما ترتب عنه الضرر العام: بالسوق، أو بالشعائر الدينية الكبرى، أو الأخلاق والمكارم والإنسانية. ومنه النهي عن تلقي الركبان (¬2). وبيع حاضر لباد (¬3)، والاحتكار. وبيع التجار خارج السوق حتى يحوزوه إلى رحالهم في السوق (¬4). ومن الآخر أعني الضرر بالشعائر الدينية النهي عن ¬

(¬1) - هو في صحيح البخاري برقم 2151 عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر. وهو في صحيح مسلم برقم 3907. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2123 عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام. وفي البخاري برقم 2149 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تلقى البيوع. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 2149 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تلقوا الركبان، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر. (¬4) - قولنا «وبيع التجار خارج السوق .. » فيه أحاديث منها ما أخرجه البخاري برقم 2131 عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم. وفي البخاري برقم 2132 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه قلت لابن عباس كيف ذاك قال ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ. وفي البخاري برقم 2133 عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. قلت: ففي الطعام زيادة على مجرد القبض ألا يباع إلا في محله من السوق لا في خارجه بالتلقي لما يرد إلى السوق ويدخل في هذا الحكم الأخير كافة السلع التجارية لعموم النهي عن تلقي الركبان في الصحيح، وقد سبق قبل قليل.

وكل معاملات العالم التجارية بين المسلمين وغيرهم الأصل فيها الإباحة والحل.

البيعٍ حال النداء للجمعة. والبيع في المسجد، وأخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم الشرعي والأذان والدعوة وبيع الأوقاف. ومن الثالث أعني ما ترتب عنه ضرر ظاهر بالمكارم والإنسانية، بيع فضل الماء، وعسب الفحل؛ لأنه من المكارمات بذلا بلا عوض. فهذه هي الموانع الخمسة. فكل عقد في الدنيا -قديماً أو حديثاً إلى يوم القيامة- لا يوجد فيه مانع قاطع منها أو قريب منه فهو مباح. وكل معاملات العالم التجارية بين المسلمين وغيرهم الأصل فيها الإباحة والحل. والعقود المالية قديمها وجديدها كثيرة، والأصل فيها الحل (¬1)، وسنتكلم عن مهمات أحكامها في الأنظمة المالية، ونذكر هنا ما يتعلق بهذا الموضع، فمن ذلك: - عقد التخليص الجمركي: وهو: عقد منفعة على استكمال إجراءات تخليص السلع من الجهات الجمركية الرسمية إلى يد المستورد أو من يوكله مقابل عوض مالي. وهو بهذا عقد إجارة واضح. - عقد خدمة التحويلات: والتحويلات المالية خدمة مصرفية عمّت إليها الحاجة، وما كان كذلك فقد رعته الشريعة في الحاجيات؛ إذ يؤدي عدمها إلى تعطل كثير من المصالح التجارية والشخصية وتعسرها. وبعض الحاجيات تنزل منزلة الضروريات. وقيدناها «ببعض» لأن إطلاقها عَسِرٌ، فلا يقال الحاجيات تنزل منزلة الضروريات بل بعض الحاجيات، إذ الضروريات مرتبة عالية تختل الحياة وجوداً باختلالها، بخلاف الحاجيات، فإطلاق كون الحاجيات كالضروريات في الحكم لا بد أن يقيد بالبعض. ¬

(¬1) - ومهمات أحكامها في الأنظمة المالية.

وصورةُ التحويلات الإلكترونية، أو التلكسية، أو الهاتفية: أن يدفع شخص مبلغا يريد تحويله إلى مستقبل في مكان آخر محلي أو دولي. ويكون عمل مكتب التحويلات أن يقبضها منه بسند فيه اسمه واسم المحوَّل إليه، والمبلغ، والبلد، ورقم التحويل، وما يحتاج إليه من تفاصيل، ثم يأمُر المكتبَ المحولَّ عليه أن يسلم للمحول له ذلك المبلغ. وهذه الخدمة بعوض مالي معلوم عند التحويل تؤخذ من العملاء. وهو عقد مباح، وكسبه حلال؛ لأنه بالنسبة للشخص المحوِّل بالمبلغ عبر مكتب التحويلات عقد مع المكتب على منفعة إيصال المبلغ إلى المستلم المحول إليه بأجرة مدفوعة. ولأنه بالنسبة إلى مكتبي التحويلات عقد وكالة بينهما، إذ كل منهما وكيل عن الآخر مقابل عوض متفق عليه؛ ففيها وكالة على عمل بأجرة. ولأن أحدهما يقبض أموالا ويأمر الآخر بدفعها فلا بد من ضمان جهة على تعاملهما كالبنك المركزي أو وكلائه. ولا شأن للشخص المرسِل والمستلِم إلا بعقد الحوالة المبرم، ولا يتعلق صحة أو بطلان هذا العقد بالعقود الأخرى الخاصة بين المكتبين. ولو أردنا تعسيرا لقلنا تخريجا: إن الشخص المحوِّل حين دَفْعِ المبلغ هو مقرض للمكتب بالعاجل، والمكتب محيل على مكتب آخر ملء بأجرة برضا المحوِّل؛ فهو قرض جر نفعا؛ فحرم. وكذلك نقول فيما بين المكتبين، فأحدهما دائن والآخر مدين، ثم يجري السداد ويتقاسمان مقابل ذلك الفائدة المحصلة من العملاء كأجرة للحوالات. أو نقول عقد إجارة وقرض؛ فحرم؛ لأن الحوالات إجارة كما مر، وفيها دفع مبلغ قرضا ليعطيه آخر عاجلا بأجرة. وجميع هذه التخريجات من التعسير على الخلق؛ لأن كل عقد تجاري جرى به التعامل الأصل حله؛ ولا يؤخذ حكمه من عقد آخر بالإلحاق؛ بل حكمه الأصلي الإباحة قطعا على الأصل؛ فمن زحزحه عن هذا كان بدليل في أحد الموانع الخمسة للعقود وإلا فلا حجة له.

عقود خدمة الهاتف

ويجب أن يكون المانع واضحا إما بالقطع أو قريب منه، بحيث ينقله عن الإباحة إلى التحريم، وإلا فلا يحق بالاحتمالات والتخريجات المشككة تحريم ما جعله الله مباحا على الأصل للعباد (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، و (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). وهذا الخلق يقتضي سائر التصرفات، ومنها العقود، فما أكثر ما في الأرض جميعا وما أكثر عقودها؛ فإن كان لا يحل إلا إذا شابه عقدا قديما بطل الامتنان وضاق على الخلق معاشهم. عقود خدمة الهاتف: وعقود خدمات الهواتف الثابتة والمتحركة والسلكية واللاسلكية عقود مباحة قائمة على بيع المنفعة، وهي وحدات الاتصال المقدرة بالزمن والمسعرة بحسب ذلك. وهو عقد خدمي مباح جارٍ في التعامل التجاري من حاجيات العصر الحديث، فهو على أصل (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). ولو خَرَّجناه على أنه عقد بيع للشريحة المشفرة -التي تبيعها الشركة ومزودو الخدمة- مجموعٌ مع عقد إيجار للمنفعة التي تُشْتَرى على الدوام بتعبئة كروت الشحن، أو أي وسيلة. فيجتمع عقدان، وقد نهي عن بيعتين في بيعة بالنص لخرجنا حينئذ عن التيسير، وعن أصل الإباحة في عقود التجارات باجتهاد محتمل لا يُسَلَّم عند آخر، ويضيق به على الخلق، وما عسر على الخلق فهو غير موافق لأصل التشريع في التيسير، فبطل. بل نقول هو عقد بيع خدمة يتم به نقل ملكية الرقم والشريحة وتزويد المالك بخدمة الاتصال. وأما شراء وحدات الاتصال كلما نفدت فهو بيع جديد لا علاقة له بأصل العقد السابق، وهو كشراء مستأجر الأرض الزراعية الحبوب لزراعتها. ولو أن الشركات تبيع الهواتف ضمن العقد ولا يمكن إجراء الخدمة إلا بذلك لجاز على الأصل. ولكن لما جرى التعامل على فصل عقد شراء الشريحة، والإمداد بالخدمة، وعقد شراء

عقد الاعتماد المستندي

الهاتف كان جمعهما بالإجبار حينئذ حيلة لإنفاق السِّلَع؛ ولحصل اختلال في ركن الرضى، فحرم؛ ودخل في بيعتين في بيعة وهو منهي عنه. ويجوز إجراء عقد على توفير الخدمة باشتراك شهري مقطوع، سواء حصل الاتصال أو لا. نظيره إيجار عقار؛ فيجب الدفع لمجرد القبض، ولو لم يسكن. والجمع بين اشتراك شهري وشراء وحدات جائز -كذلك- على الأصل إن كان عن تراض وكان للاشتراك ميزة على غيره؛ فإن لم يكن له ميزة فهو أكل للمال بالباطل؛ لأنه بلا عوض. وخدمات الانترنت: منفعة معتبرة جرى عليها التعامل المعاصر تجارةً، وصارت من حاجيات العصر كوسيلة لإقامة خدمات العالم اقتصاديا، ومدنيا، وعلميا، وتجاريا، وسياسيا، واجتماعيا. والخدمة تزود بعقد معاوضة مقصودها الربحية. فهي مال متقوم من نوع المنافع يعاوض عليه بالثمن. والأصل فيها الإباحة، كانت باشتراك مقطوع أو بالدفع المسبق أو غيره. وإبرام عقود المعاوضات من خلاله جائزٌ في حال جريان التعامل به والوثوق بالمصدر، وقد سبق (¬1). عقد الاعتماد المستندي: الاعتماد المستندي هو عقد على خدمة يقوم بها البنك للعميل المستورد سلعة علتها تسهيل التجارات الدولية وموثوقية مطابقة مواصفات البضاعة للمستورد المشتري وموثوقية استلام ثمنها للمورد البائع. فهذه علتها الأصلية. وأما أركانها فهي: المستورد، والبنك، والسلعة، والمورد، والعقد مع البنك. أما المستورد فهو طالب السلعة. وهو مشترٍ. وأما المورِّد فهو بائع السلعة. وأما البنك فهو وكيل وضامن في الجملة بأجرة، ولأن البنك ضامن ووكيل على الطرفين فإنه لا بد له من ضمان على ما يدفعه. ¬

(¬1) - انظر فقه التكنولوجيا.

فيطلب من المشتري المستورد ضمانا على تغطية القيمة التي سيقدمها عنه البنك، وعلى أثره يقوم البنك بإصدار مستندات توضح الدفع والملكية للمستورد وله أن يحجزها عنده كرهن حتى الدفع. ويقوم بإشعار الطرف الآخر المورِّدِ بذلك، أي بالدفع وما يتعلق بإتمام العملية، ويأمره بإرسال وثائق الشحن، فإذا تأكد البنك من المطابقة وتمام العملية حول له القيمة على بنك آخر أو إليه مباشرة. فإن دفع المستورد كامل الثمن للبنك فظاهر، أو دفع جزءا ودفع البنك ما تبقى طلب منه ضمانة لتغطية ذلك. وللبنك أن يسلك مسلكا آخر، وهو أن يشتري السلعة ثم يبيعها للمستورد بالمرابحة. أو يقرض المستورد القيمة، ويكون وكيلا في بقية الإجراءات بعوض مالي. وجميع الصور جائزة. فإن أقرضه المبلغ وفرض عليه فائدة على المبلغ فيمكن القول بالبطلان. ويمكن القول بالجواز لأن المعاملة ليست قرضاً إنما هي شراء لشخص، وتقديم الثمن ثم أخذ أجرة على عملية الوكالة وإجراء الاعتماد المستندي. وما أجاز خير مما منع؛ لأن الأصل الإباحة. وقد أجاز العلماء «تصدق بدارك عني، واشتر لي كذا» والتقدير: بعني دارك، وثمنه قرضةً عندي ثم كن لي وكيلا في التصدق به. والتقدير في الآخر: أقرضني واشتر لي كذا وكذا به، وأنا أعطيك القرض وأجرة السعاية في الشراء. فليست الأجرة على مجرد القرض، وإنما هي مقابل عمل معتبر شرعا وعرفا. أما عقد الضمان: فهو إحدى عقود الخدمات التجارية اليوم، وهو متداخل في كثير من العقود والخدمات. فقد يكون أصل العقد بيعا مع ضمان السلعة، أو الجودة، أو العيب، وهو جائز. وقد يكون عقدا مستقلا، وهو عقد ضمان أجنبي عن آخر، إما ضمانا ماليا أو ضمانَ

إيصال، وهما: عقدان في الفقه. ويجوز أخذ العوض المالي مقابل الضمان؛ لعدم ورود المانع الصحيح الصريح عن ذلك. ولجريان التعامل التجاري عليه؛ إذ أصبح عقد الضمان أحدَ المعاملات التجارية الربحية؛ فيشملها النص (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وخطاب الضمان البنكي بعوضٍ جائز؛ لأنها أجرة للبنك على إصداره، والقيام مقام الوكيل في الدفع؛ فالأجرة ليست على فائدة المبلغ الذي يدفعه البنك، بل هي عمولة على عمل يقوم به البنك هو الوكالة في كافة الإجراءات المتعلقة بالخطاب والدفع أمام المستفيد، وكل ما يمكن شرطه عليه مقابل ذلك وعليه فالأصل فيه الإباحة. وهو عقد وكالة واضح والأجرة عليها. وللوكيل أن يقدم من ماله عن الأصيل ما هو مفوض فيه، ويكون قرضا، ومن ادعى المنع لزمه الدليل القائم الخالي عن المماثل والمقاوم. وعقد التأمين: عقد جديد تجاري قائم على الربحية في الأصل. مقابل تقديم خدمة دفع المفاسد عن العميل طالب التأمين في مجال معين. ولا أجد فيه مانعا من الموانع الخمسة المعتبرة التي يدور عليها المنع الشرعي وهي: مانع الربا في الدين والعين الربوية المحددة شرعا في النص، ومانع كون المعقود عليه محرما بالنص، ومانع كون العقد من الميسر وهو القمار، وكون العقد من الغرر الفاحش الذي يضر بأحد الطرفين بما لا يتسامح فيه وهو نوع من الميسر. ومانع اختلال الرضى بخلل الأهلية أو خلل ما عقد عليه. ومانع الضرر العام على السوق أو الناس أو الدين أو الأخلاق والمكارم. أما أن تجعله عقدا آخر قديما ثم تُورِدُ عليه مانعاً؛ فهذا خلاف الحقيقة؛ لأن محل التحقيق هو في هذا العقد بكيفيته الآن لا على عقدٍ آخر قديم. فورود المانع عليه لا على هذا العقد. ولأن الأصل الإباحة بيقين؛ فمن نقله عنها احتاج إلى دليل.

ولأنه عقد تجارات، وركنها الرضى وعدم الموانع؛ والرضى موجود، والموانع غير موجودة. فالربا لا يوجد فيه لأنه ليس قرضا، ومن حرمه لذلك فقد حرم عقدا آخر؛ لأن عقد التأمين ليس بعقد قرض أصلا، بل هو عقد بيع منفعة معروفة المحل معلومة غايتها القصوى والدنيا. ولأن القرض قائم على «أقرضني» كذا، ولا تقول شركات التأمين ذلك، بل تقول أقدم خدمَة دفع الضرر عنك الأقصى والأدنى. وما بينهما في نفسك، أو مالك، وقيمة الخدمة اشتراك سنوي، أو شهري بمبلغ معين. والشريعة ما جاءت إلا لدفع المفاسد والضرر، وعمل شركات التأمين كذلك. ولأن مصالحها غالبة للطرفين، والشريعة راعية للمصالح. ولأنها ليست بيع نقد بنقد حتى تجري فيه أحكام الصرافة، ولا بيع نقد بسلعة تجارية يلزم قبضها عاجلا أو مؤجلا. فلا يجري عليه المانع، ولا بيع محرم عينه بالنص، ولا بيع قمار؛ لأنه غير دافع مالا مقابل سلع متعددة بالحظ. ولا غرر فاحش فيه يؤدي إلى الضرر بأحد الطرفين. بل هو محدد بأعلى وأدنى وما بينهما، وبشكل مدروس وعوض مرض، لدفع الضرر حال حصوله. ولأن بيع المنافع أوسع من بيع الأعيان، والجهالات فيها أوسع. ولذا شرط للعامل جزء الربح مع جهالة عمله في المضاربة، وجهالة هل يربح أو لا؟ وجهالة كثير من الجهد الذي يبذله العامل في المساقاة، كلها بالتقدير العام بحد أعلى وأدنى وغالب متوسط، وجواز الأجرة على الرقيا بالنص مع جهالة القدر وجواز الأجرة للوكيل على الخصومة، والمحاماة، وجواز الأجرة على الاستصناع وهو بيع وأجرة مع جهالة تفاصيل الجهد والمواد إلا بتخمين عام كلي بحد أعلى وأدنى. وجواز رد القرض من جنس آخر إن رضي المقرض حال الدفع. والتأمين يغتفر فيه الجهالات التفصيلية؛ لأنها معلومة بالتحديد الكلي كحد أعلى وأدنى ومتوسط.

كما تغتفر تلك الجهالات التفصيلية فيما سبق، ولأنها جهالة لا تؤدي إلى ضرر ولا خصومة على الطرفين. وأعظمُ دليلِ مَنْ مَنَعَها جَعْلُها عقدا قديما كالقرض، ثم إنزال أحكام القرض عليه. وهذا خطأ فقهي أثر على الاستنباط والاجتهاد حتى في العقائد؛ إذ هرب فريق إلى التأويل أو التعطيل؛ لأنهم ألزموا أنفسهم تشبيه الصفات الرحمانية بالصفات المخلوقة؛ فأوجبوا القياس فيما لا يجب، وكذلك هنا لا يوجد نص لا يبيح العقود إلا إذا خرجت على عقد مسمى فقهي، بل جعل الشرع الأصل الإباحة التجارية العامة؛ ثم فرض ركن الرضى، وامتناع موانع محددة إن خلا عنها العقد فهو شرعي صحيح. فكل عقد تجاري في العالم أصله إلى يوم القيامة (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). فإذا وجد مانع شرعي وهو أحد الخمسة الموانع اليقينية حرم، ولا يحرم حتى يكون المانع موجودا يقينا أو قريبا منه، وقد بينا ذلك فيما مر. أما الاحتمال والتخمين والشك فهو مذموم (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، (وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (البقرة: 78)، (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12). وإذا أردت أن تعرف حكم أي عقد شرعا، فهب أنه مباح على الأصل ثم اعرضه على الموانع الشرعية؛ فإن سلم بقي على يقين الإباحة. وأما عقود التسويق والوساطة التجارية والدعاية والإعلان فلا غبار على جوازها؛ لأنها إجارة على عمل معين، فإن اقترنت بصناعة الإعلان ومواده مع نشره وتوزيعه والترويج له فهو عقد جامع لمعان كعقد الصناعة والإجارة، وهو صحيح على الأصل، ولعدم الموانع، ولا حاجة لتخريجه على الإجارة أو الوكالة أو الاستصناع حتى يحل؛ لأنها عقود تفتقر إلى الدليل وليست هي الدليل. فإن كان مفوضا بالبيع فهو وكيل بأجرة، ويجوز أن يجمع بين التسويق ووكيل البيع

والأنظمة المالية خمسة

وضمان السلعة ويأخذ عمولة على الكل؛ لأن عقد التسويق قد يتضمن هذه جميعا، والعمولة هي أجرة على هذه الأعمال الخدمية التي هي مقومة بعوض مالي في السوق التجاري الآن؛ فيجري فيها أصل الإباحة. والأنظمة المالية خمسة: 1 - نظام التملك 2 - نظام الاستثمار 3 - نظام الحماية 4 - نظام الإنفاق وتوزيع الثروة 5 - نظام الإرفاق والتسهيلات أما النظام الأول فهو: نظام التملك، وهو قائم على خمس طرق: الأولى: المعاوضات المحضة: وهي البيع والشراء وكافة المعاملات التجارية. الثانية: المعاوضة غير المحضة: وهي ما لا يقصد بها الربح، وإنما التعويضات والمكارمات كالأروش والديات والمهور والنفقات. الثالثة: التبرر والتبرع، ويشمل الهبات والأوقاف، والوصايا، والنذور. الرابعة: الفرض الشرعي، ويشمل الزكوات، والمواريث، والغنائم، وتوزيع الثروات الواجبة (وهو ما يشمل الفيء بالمعنى الأوسع الذي وضحناه في هذا الكتاب بأنه سائر ثروات الدولة بشرط معين). الخامسة: الإباحة العامة، كالصيد البري والبحري، والاحتطاب، والاحتشاش، والسبق بوضع اليد كإحياء الموات. ولنبدأ بالمعاوضات المحضة: فالمعاوضات المالية رأسها عقود البيوع النقدية والعينية والمنافعية والسهمية والحقوقية. فالأول الصرف. والثاني ظاهر والثالث باب الإجارات والمنافع والخدمات. والرابع عقود بيع الأسهم في البورصات والشركات والبنوك والصناديق. والخامس عقود بيع الحقوق المالية.

قاعدة هامة

قاعدة هامة: قلنا: إن جميع المعاوضات المالية المدنية والتجارية على وجه الأرض الأصل فيها الصحة والإباحة، ولا يحرم منها شيء إلا بأحد موانع خمسة هي: الربا، وبيع محرم بالنص، والميسر وهو القمار والغرر وهو نوع من القمار، وانعدام ركن الرضى، والضرر العام على السوق أو الدِّين أو المكارم. فإذا طرأ مانع عليها يقينا أو غالبا منع العقد شرعا. وقلنا «إذا طرأ» ولم نقل «إذا خلت عن الموانع صحت»؛ لوجود فرق هام بين العبارتين؛ إذ الأولى مفيدة أن المعاوضة قائمة على يقين الصحة فلا تزول إلا بمانع معتبر. والثانية تفيد أن المعاوضة فيها موانع يجب أن تخلو منها حتى تحل. وبهذين الاعتبارين تختلف الفتاوى والفهوم والأنظار. وهذه الثانية طريقة خاطئة في النظر؛ لأنها مخالفة للأصل. ولأدائها إلى إبطال أي معاملة بمجرد أن الأصل الوجود لأي اشتباه بالمنع. فيلجأ أهل هذه الطريقة إلى البحث في عقد قديم للإلحاق به، وتحصل هنا العجائب؛ لأنه قياس على أضعف قياس وهو مجرد الشبه. وقياس على عقد أعطي حكما شرعيا بالنص العام والأصل العام وهو الإباحة (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة: 5) أي أكلا وشربا واستعمالا ومعاوضة، وكل بحسبه. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157) فالخبائث محرمة في استعمالاتها والمعاوضات عليها. وكل المعاملات التجارية داخلة تحت هذا. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم معاملات أقرها على هذه الأصول إلا الربا، وبيع الميسر، والمحرمات من خمر وميتة، وما كان عن غير رضى، أو أضر بالناس.

ركن التراضي

وما جاء بعده من المعاملات المستجدة إلى عصرنا هذا لا تخرج عن هذه الأصول، ولا حاجة إلى مشابهتها لعقد مسمى قديم، لأننا غير متعبدين بها كوسائل للمعاوضات، ومنع غيرها إلا إذا شابهتها. فالعقود وسائل للتملك والانتفاع بما في الأرض؛ فكل عقد قديم كان وسيلة في زمن وقد يستجد في زمن آخر غيره باسم آخر وتراكيب أخرى، فلا مانع شرعا من هذا الاستحداث، ومن ادعى أننا متعبدون بتلك العقود محرم علينا استحداث غيرها فلا حجة له. ومن ادعى أننا متعبدون بالاستخلاف في الأرض بكافة إمكانياتها المسخرة وبكل عقد خدم ذلك إلا إن طرأ عليه مانع به لا مفر منه فقد أصاب. وإذا تبين ما تقدم وجب علينا بيان ما يناقض أصول المعاملات التجارية مما هو ضعيف وأدى التقليد بلا نظر فيه إلى استنباط أصول منه جعلت المعاملات الشرعية أشد صعوبة وارتباكا. وقد آثرنا ذكرها في أول فقه الأموال لتكون كالقانون الكلي للناظر وشأنه أن يذكر في المقدمات لأن ما سواه مضبوط به أو دائر عليه. - ركن التراضي: وركن البيع الرضى، وخلوه من مانع من الموانع الأربعة؛ لقوله تعالى (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). والاكتفاء بالرضى في النص يشمل: أ- كمال الأهلية، فلا بيع لمجنون ولا سكران ولا نائم ولا مغمى عليه؛ لعدم إمكان الرضى الحقيقي منهم، ولا صبي ولا سفيه ولا مكره إكراها ملجئا لنقص أهلية الرضى؛ لأن أصله من الرشد وكمال معرفة المنافع والمضار. ب- وركن الرضى يقتضي أن يكون العاقد مالكاً، أوله وكالةٌ أو ولايةٌ؛ فيحرم بيع المسروق؛ لأنه غير مملوك للبائع، فلم يقع الرضى من المالك؛ فبطل البيع. وهو مشمول بالنص (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، وبيع المال

المختلس محرم، والعقد باطل لنفس العلة، وكذا بيع المنهوب والمغصوب إذا باعه الناهب والغاصب. ج- ويجب ظهور ما يدل على الرضى في البيع من صيغة أو تصرف. فالصيغة نعني بها كل ما أفاد تناقل الملك بين العاقدين بالمعاوضة، كبعت، وقبلت، ولو قدم أحدهما جاز، كقبلت الشراء فقال: بعت؛ لأن الشرع ترك النص على تفصيل هذه المسائل؛ فعلم صحة ما تراضى الطرفان على كونه ناقلا للملك بأي لغة، أو تصرف، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال يحمل على العموم في المقال. فكل صورة دالة على التراضي بالتعاوض جاز عقد البيع. ولأن الله يقول (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، أي عن المسائل التي لم ينص على تحريمها، وهذه منها، ويقول (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، ويقول (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، فدل على اعتبار جريان العادة بين الخلق في بناء الأحكام، فما جرت به العادات من ألفاظ تناقل الملك في المفاوضات والبيوع صح. ويجب في اللفظ أن يكون صريحا في المطلوب على الرضى في التعاوض، والصراحة هنا عند المتبايعين، ومن لزم العقد حضوره من الشهود. وقولنا «هنا» حتى لا يحمل على الصرائح اللغوية؛ لأنها قد تكون مهجورة في تعامل الناس. وقولنا «من لزم العقد حضوره» ولم نطلق القول في الأشهاد؛ لأنه لا يقع في أكثر معاملات البيع البسيطة. وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (البقرة: 282) أمر على الإشهاد في البيع. وقبله في نفس الآية الأمر بالإشهاد على الديون (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ) (البقرة: 282). والأصل فيهما الإيجاب. واستثني بالنص المعاملات التجارية الحاضرة الدائرة بين الناس (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا) (البقرة: 282).

والمقصود بها أكثر التجارات العادية اليومية التي تدور بين الخلق بيعاً وشراءً، ولو لم يرد هنا الاستثناء لوجب كتابة كل البياعات التجارية البسيطة الدائرة في الحاجيات اليومية، ولو محقرا، ولأدى هذا إلى التعذر وشدة الضيق والحرج على الناس في أرزاقهم، وللزم وجود شهود وكاتب على وجه الدوام في كل محل تجاري ولتعذرت التجارات التي يدور عليها رزق الخلق، وما عسر خرج عن مقصود الشرع في التيسير، فبطل. ولا يكون الإشهاد شرطاً في البيع إلا فيما لا يتم إلا به عادة وعرفا، كبيع العقارات والسيارات. وكل ما قضى العرف والعادة بالطعن في العقد لأجل الشهود فالإشهاد فيه ركن أو شرط لا يتم العقد إلا به؛ لأن العادة محكَّمة، والعرف معتبر (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)؛ ولأن دفع وسائل ضياع الأموال واجبة؛ فإن كان لا يتم الحفظ إلا به فهو واجب ركني أو شرطي كالإشهاد في البيعات التي لا يعترف بنفاذها وصحتها عرفا وعادة وقضاء إلا بها. ولورود «البينة على المدعي واليمين على المنكر» (¬1). ¬

(¬1) - قلت: حديث «البينة على المدعي .. » حديث حسن صحيح وثبوته متواتر معنى. وفيه أحاديث منها ما أخرجه الترمذي برقم 1342 عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه. قلت: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. ومن ذلك حديث عند الترمذي برقم 1340 عن وائل بن حجر عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي ليس فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلا ذلك. قال: فانطلق الرجل ليحلف له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أدبر لإن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقين الله وهو معرض». قلت: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. قال الترمذي وفي الباب عن عمر وابن عباس وعبدالله بن عمرو والأشعث بن أبي قيس. قال أبو عيسى حديث وائل بن حجر حديث حسن صحيح. قلت: وعند ابن ماجة برقم 2322 عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف. قلت: إذا يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) إلى آخر الآية. قلت: هذا على شرطهما. وعند الترمذي برقم 1341 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. قلت: إسناده فيه العزرمي، وهو ضعيف والحديث صحيح من غيره.

فمدعي الملك أمام القضاء أو المحكَّم عليه بينة عادلة، ولا بينة غالباً إلا بإشهاد وإلا بطلت دعواه الملك، فوجب كركن أو شرط في البيع الذي لا يتم إلا به دفعا لضياع الحقوق والأموال. وكتابة العقد والإشهاد عليه في كل معاملة لا يتم اعتمادها إلا بهما يدخلهما في الواجب الركني في العقد. واعتماد كتابة عقود البيع والإشهاد عليها صريح في معرفة الرضى؛ لأنه ينبئ عنه صراحة. وإصدار توثيق آلي من جهة معتمدة كشركة أو بنك أو بورصة يقوم مقام تعيين الشهود والكاتب؛ لأن المقصود الشرعي متحقق فيه بالأولى. فتحصل من هذا: أ- أن ركن البيع هو الرضى. ب- وأن أركان الرضى راجعة إلى ما لا يستفاد إلا به من الأهلية واللفظ أو التصرف والإشهاد والتوثيق. ج- والقاعدة التي نستنبطها من هذا أن أركان البيع وشروطه تتغير زمانا ومكانا وأحوالاً. د- وأن أركان البيع راجعة إلى الرضى والمعرفة التامة بالسلعة والعوض؛ بما يفيد صراحة الرضا عن الصفقة، ولا يتم الرضا إلى بذلك، فأفاد الركنية. فركن البيع في الجملة هو الرضى. وأركانه بالبسط هي أركانٌ تحقق الرضى، وهي كل ما لا يتم معرفة الرضى وتحققه إلا بها. وهي في عصرنا في كبار المعاملات كالعقارات والسيارات والشركات والمعاملات المصرفية ونحوها: 1 - أهلية العاقدين، وهو يشمل العقل والبلوغ والرشد والأهلية على العقد بملك أو وكالة أو نظر. 2 - صراحة اللفظ أو الفعل في البيع، ونعني بالصراحة ما عرف عادة أنه صريح من إيجاب وقبول لفظي أو فعلي.

شروط البيع

3 - العوض والمعوض، وهي السلعة والثمن وشرطهما معرفة السلعة وثمنها بما يخرجها عن حيز الجهالة ويتحقق بها الرضى. وقولنا «في كبار المعاملات» خرج بها ما دار من معاملات البيع والشراء الاستهلاكي الحاضر بين الناس لأنه يتم تحققه بمجرد التعاطي ودفع الثمن وسقط الإشهاد حينئذ؛ لأنه متعذر ونظيره الكتابة (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ) (البقرة: 282). وقام صريح الفعل مقام صريح القول في لفظ الإيجاب والقبول. - شروط البيع: وشروط البيع هي كل ما دفعت الموانع، أو لا يتم العقد إلا بها من الأمور الخارجة عن الأركان. فيشترط الخلو من الربا، وكون العقد على مباح لا على محرم. ويشترط الإشهاد والتوثيق فيما لا يتم التملك إلا به من المعاملات كالعقارات، ومعرفة العوضين معرفة تخرجهما عن الجهالة والغرر والخطر احترازا عن الميسر وهو القمار ومن التغرير الشديد أو الجهالة المؤثرة. وإن توفرت الأركان والشروط وعدمت الموانع صح عقد البيع. - الموانع الخمسة: والموانع الخمسة هي ما تعود على العقود بالإبطال؛ لكونها واردة على إبطال ركن أو شرط. وهي: الربا وتحريم عين السلعة، والميسر وتشمل القمار والغرر والجهالة الفاحشة، وعدم الرضى، وترتب ضرر في الصفقة عاما أو خاصا. 1 - فعقد الربا ليس بعقد بيع أصلا (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). والبنوك والمصارف والبورصات وبيوت المال التي تقدم القرض على أنه بيع تجاري مبني على الفائدة واضحٌ التحريم فيها؛ للنص على تحريم عقد الربا، وإخراجِه من عقد البيع المباح. فليس هو بعقد بيع، بل عقد قرض مؤجل لازم الفائدة.

القرض وأحكامه

والنص على التحريم وارد في عين هذه المسألة؛ لأنه في الديون بالفائدة بدليل (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). - القرض وأحكامه: والقرض يصح في أنواع المال الثلاثة: السهم، والنقد، والعين. ولا يجري في الحقوق ولا في المنافع. فمن أقرض أسهما لآخر ردها أسهما من نفس النوع، فلو باعها له وأجله الثمن فالقرض في الثمن لا في عين السهم. ويجوز القرض في النقد من أي عملة وترد من نوعها بلا فائدة. فإن ردها له بعملة أخرى بقيمة يوم القضاء جاز إن رضي المقرض. ولا يعتبر صرفا؛ لأنه -أي الصرف- بيع عملة بأخرى في مجلس العقد بقصد الربح. وعقد القرض ليس ببيع، بل هو إحسان وإرفاق، فلو ردها بعملة أخرى فلا يغير أصل العقد؛ لأن هذا الصرف تابع لا يستقل بالحكم، إذ هو غيرُ مقصودٍ إجراء عقد مصارفة منه؛ فصح؛ ولأنهم كانوا يبيعون بالدراهم ثم يقبضون دنانير فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «لا بأس إن تفرقتما وليس بينكما شيء» (¬1). وهذا في الأعمال التجارية كثيرٌ في بيوع الآجال؛ إذ ما استقر من نقد في الذمة يُرَدُّ بنوعه أو مساوٍ له من عملة أخرى. وقرض الأعيان جائز مما يمكن أن يقرض. وهذا القيد وهو ما بعد قولنا «جائز» قيد احترازي مما لا يمكن قرضه مثل الأرض والعقار. وكذا كل ما لا ينقل لا يقرض. وجاز في الحيوان ويرد مثله. فإن أخذه بيعا بمثليه جاز، كبعير ببعيرين إلى أجل؛ لأنه ليس بقرض فهو مباح؛ ولأنه ليس بمنصوص عليه في أفراد الربويات (البر، والشعير، والتمر، والملح، والذهب، والفضة). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

والقاعدة

ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأنها ضرورات لا تقوم الحياة إلا بها إلا في حالة الانتقال إلى الحاجيات، وهي البقوليات من فول وعدس ونحوهما بشرط أن يصيرا ضروريا عند فقد الضروريات، أو يقوما مقامهما في الطلب كقيام العملة الورقية مقام الذهب والفضة، وهذا ما لم يحصل. وبسطه في الأمن الغذائي من فقه الدولة. وجاز قرض البر، ويرد مثله كيلا أو وزنا بحسب جريان العرف. فإن رد له شعيرا جاز بالزيادة كضعفين إن رضي المقرض؛ لأنه كأخذ الفضة بدلا عن دين الذهب السابق النص على جوازه. فإن أقرضه البر، أو أحد أنواع الربويات المنصوصة وشرط عليه رده شعيرا أو آخر من غير جنس القرض فهو بيع لا قرض، فيحرم فيه تأجيل العوض؛ لأنهما ربويان منصوصان. ومن أقرض آخر نقودا وشرط عليه ردها بعملة غيرها معينة حرم؛ لأنه صرف في بدايته، وعقد الصرف واجب فيه التقابض في المجلس؛ لعموم «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، سواء بسواء وزنا بوزن ويدا بيد، فإن اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» (¬1). فالذهب بالفضة جائز بزيادة سواء نظر إلى القيمة أو الوزن بشرط التقابض. وإقراض الملبوسات جائز ويرد مثله؛ فإن رد من جنس آخر فزاد أو نقص بحسب القيمة جاز للنص السابق «نبيع بالدراهم فنأخذ الدنانير». فإن شرط عليه حال عقد القرض رده من جنس آخر وحدده نوعا وقدرا جاز، وهو بيع لا قرض؛ لأنه انعقد من أول العقد كذلك. وإنما جاز بالزيادة أو النقص بحسب الشرط؛ لأنه بيع غير مشروط التقابض في المجلس؛ لأنه ليس إحدى المنصوصات الربوية. والقاعدة: أن المقرض في حال العقد إن شرط فيه رد أكثر منه من نفس جنسه فهو ربا قطعي محرم. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

وإذا شرط حال العقد رد غير جنسه فهو بيع لا قرض؛ فيجوز فيه الربح، إلا إن كانا عملتين نقديتين فهو صرف وشرطه التقابض بالنص، أو كانا ربويين منصوصين شرط فيهما التقابض. فإن كانت الزيادة عند الرد نفس نوع القرض أو غيره جاز؛ لأنه إكرام وإحسان أو كان الأداء أصلا وزيادة من جنس آخر فهو جائز. وشرط فيه رضى المقرض إن كان امتناعه لعلة معتبرة، وإلا فهو عنت ودليله أخذ الذهب عن دين الفضة وعكسه، وجوازه بالنص بسعر حينه، وقد تقدم. أما قرض النوعين الماليين: المنفعة أو الحق المالي فلا يتصور قرضهما؛ لعدم إمكان رد مثله؛ لأنه في الحقوق المالية نحو الحق الفكري متعذر رد حق فكري آخر، أو قرض علامة تجارية برد مثلها، وفي المنافع يتعذر قرض سكنى بيت عادة بسكنى بيت آخر. فالقاعدة أنه لا يجري في المنافع والحقوق المالية إلا البيع أو التبرع. فلا قرض في ثابت ولا منفعة ولا حق؛ لتعذره عادة. فإن أمكن في العادة وقوعه جاز لعموم النصوص ولأن الأصل عدم المانع شرعا. وأما المانع الثاني فهو كون العقد محرما لتحريم السلعة بالنص وهي الخمر والميتة والخنزير والأصنام بالنص عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى به السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها. فقال عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» (¬1). متفق عليه وأخرجه الأربعة وأحمد. فالميتة كل ما مات بدون تذكية شرعية عادية أو طارئة أو ذبحت للنُّصُب أو لغير الله. فالعادية هي ذبح بمحدد في العنق بما ينهر الدم «ما أنهر الدم» (¬2). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2488 عن رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلا وغنما قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير فند منها بعير فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله ثم قال إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا فقال رافع إنا نرجو، أو نخاف- العدو غدا وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة.

وقوله صلى الله عليه وسلم «أنهر» لفظة تفيد تدفق الدم وسيلانه من مجاريه، وهي احتراز عن بعض سيلانٍ من نحو جرح ينزف، فلا يعد تذكية. وقولنا «أو طارئة» في نحو تدارك مشرفة على الموت للنص (وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) (المائدة: 3). وقولنا «أو ذبحت للنصب» وهي ما عبد من دون الله من صنم وحجر وشجر. وكذا ما ذبح لغير الله ميتة (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (المائدة: 3)، (وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: 121)، (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (الأنعام: 145)، كالذبح للجن والشياطين. وما جاء من اللحوم من أرض أهل الكتاب حل للنص (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ) (المائدة: 5). وكذا ما جاء من أي أرض ولم يتيقن ذبحه على الطريقة الإسلامية، فيذكر اسم الله عليه وتؤكل «إنا نؤتى بلحمان وطعام لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال سموا الله عليه وكلوا» (¬1). وذبائح كل إنسان من أي دين مباحة ما لم يتيقن أنه ذبحها للنصب، أو أهل لغير الله به. وإنما قلنا بذلك؛ لأن المحرم من المطعوم حصر في ذلك (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (الأنعام: 145). (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة: 3). فالتبادل التجاري بين الأمم مطعوم ومستهلك مفتوح على مصراعيه، إلا ما استثني في النص وعلم أنه كذلك. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وعقود الدعارة محرمة «نُهِيَ عن مهر البغي» (¬1). وإن رخص لها الإمام فيراجع فإن أبى فواجب خلعه بشروطه؛ لأنه ناقض مقصود الولاية في ركن قطعي وهو حفظ الأعراض، وتعمد عالما إشاعته على وجه العموم بِحُكمٍ عام بقانون أو مرسوم أو غيرهما (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44). وهذا نص يشمل الكفر الأكبر، أو كفرَ معصيةٍ عامة في الحكم؛ فوجب خلعه «إلا أن تروا كفرا بواحا» (¬2). ولأن طاعته مقيدة بما أقام كتاب الله «ما أقاموا فيه كتاب الله» (¬3) كما في الصحيح. وحرم بيع العقار لشركة أو جهة تقيم عليه محلا للدعارة والعقد باطل؛ لأنه في محرم. وفرض منع بيع وسائل الدعارة من أفلام وإعلانات وقنوات وصحف وصور ووسائط ومواقع على النت. وكل عقد روج لشيء من ذلك فهو باطل، وثمنه سحت، وواجب تعزير عصاباته ومن يقوم به لعموم (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). والعذاب في الدنيا بتعزيره وتأديبه. وبيع الخنزير محرم، ولحمه رجس للنص. وكذا الأصنام بيعها وشراؤها وجعلها في البيوت إلا لعب الأطفال (¬4). وبيع الدم محرم بالنص، ولعمومه يشمل دم الآدمي. والتبرع لمحتاج جائز، وحرم أخذ عوض مقابله. ومثله أعضاء الآدمي؛ لعدم الفارق. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - انظر «فقه الفن» من كتابنا هذا.

وليست العلة في المنع من بيع الدم نجاسة الدم؛ لعدم ثبوت ذلك ولعموم «إن المسلم لا ينجس» (¬1). وعقود الخمر بيعا وشراء واستيرادا وتصنيعا محرمة قطعا. وأما المانع الثالث فهو الميسر والغرر. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90). والميسر نوعان: القمار، والغرر الفاحش. أما القمار فهو المخاطرة بدفع مال لربح مال أكثر منه أو خسارته كله، وهو محرم. أو يقال هو دفع عوض مالي بغرض ربح عوض كثير سلعة أو نقدا أو خسارته كله، أو ربح ما لا يريد من السلع، أو ما لا قيمة له، ويغلب فيه المخاطرة والضرر. ونوادي القمار محرمة للنص على حرمة الميسر، ويحرم تأجيرها أو المشاركة فيها. وحرم بيع الملامسة والمنابذة والحصاه بالنص (¬2)؛ لأنه قمار، وهو أن تلزمه السلعة بمجرد اللمس بالحظ أو بمجرد النبذ إليه، أو رمى حصاة فعلى ما وقعت وجب. وتحرم المشاركة في مسابقة الاتصالات؛ لأنها مبنية على شراء وحدات اتصال مقابل الفوز بسلعة يندر الحصول عليها. ويقطع فيه بربح شركة الاتصالات أو جهة إعلان المسابقة بما يعظم، ويقطع فيه بخسارة ملايين المشتركين كلهم سوى عدد الأصابع (¬3). وكذا مسابقات شركات المبيعات قائمة على هذا النهج فحرمت؛ لأنها قمار وميسر. وأما الغرر الفاحش؛ فيشمل كافة عقود البيع المحرمة لعلة الجهالة الفاحشة، وأصل الباب الميسر والغرر وهو ممنوع «نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر» (¬4). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم النص وتخريجه. (¬3) - راجع «فقه التكنولوجيا» من كتابنا هذا. (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه.

وقد تقدم الكلام عن جميع أنواعه. وقيدناه بالفاحش أو المترتب عليه ضرر يجب دفعه أو خصومةٌ؛ لأن الغرر التي جرت المعاملات على عدم اعتباره لا يكون فاحشا ولا مترتبا عليه الضرر. وأما المانع لأجل الضرر العام فهو إما ضرر على السوق أو على الشعائر الدينية أو على المكارم والأخلاق. فالأول: منه النهي عن تلقي الركبان (¬1)؛ لأن الضرر المترتب على حركة السوق التجارية أكبر من مجرد ملاحظة الضرر بالبائع أو المشتري؛ لأن الضرر بالسوق واقع لأدائه إلى التأثير السلبي على الحركة والعمالة والوفرة، وينعكس ذلك على الاقتصاد الكلي؛ لأن خروج الصفقات التجارية عن السوق الرسمية موصل إلى تعطلها وإنشاء سوق هامشية غير رسمية (السوق السوداء). وإذا حصل ذلك تعطلت كثير من التجارات وأضر باليد العاملة، ومن ثم بالاقتصاد العام، بخلاف لو اعتبرنا الضرر شخصيا وهو احتمال الغبن في الثمن؛ لأنه يمكن حصوله ولا يمكن؛ لأنه قد يكون عارفاً بالسعر في السوق فيتلقى الركبان ويشتري بسعر السوق فلا يحصل الضرر، بخلاف السابق فإمكانه شديد، والشريعة قائمة على الغالب. ومنه النهي عن بيع حاضر لباد (¬2)، وهو لنفس علة المسألة السابقة بدليل التعليل الوارد في النص «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق بعضهم بعضا» (¬3). والنهي مفيد للتحريم، فيحرم بيع حاضر لباد؛ لأنه مؤد إلى كثير من الضرر بالسوق؛ إذ ينتج عنه الاحتكار ورفع السعر، وذلك بالاتفاق مع المورِّد على عدم بيعها حالاً؛ وتخزينها عنده كوكيل مبيعات بأجرة. وهذا ضرر عام مؤد إلى غلاء السلع، ومحدودية تداولها بين مورد ووكيل قاصد حكرها، وهذا ينعكس بالضرر على التداول التجاري، ورواج السلع، ورخص الأسعار، ويقلل من ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 3902 عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض».

فرص شرائها بين الناس؛ لغلائها ولاحتكارها؛ فيكون فيه نوع مما قصد الشرع النهي عنه (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7). وهذان العقدان باطلان؛ لأن النهي يقتضي الفساد؛ ولأن الضرر العام أشد طلبا للدفع من الضرر الخاص. وللدولة تقنين هذا المنع، وعدم الاعتراف بهذه العقود لمعارضتها مقصودات الشرع في المعاملات التجارية؛ حفاظا على السوق. والثاني: هو النهي عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لأن الجمعة شعيرة من الشعائر العظمى ولا تصح إلا جماعة، ويقصد بها سماع الوعظ وحضور الجماعة؛ وإبرام البيوع يعود على هذه الشعيرة بالإخلال، وعلى مقاصد الشرع منها بالإبطال؛ فحرم البيع حال النداء إلى الفراغ من صلاة الجمعة للنص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 9 - 10). وواجب إصدار الدولة قانونا بمنعه وإبطاله؛ لأنه وسيلة إلى إقامة شعيرة والحفاظ على مقصوداتها؛ فوجب؛ لعموم (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41). وأما الثالث: فهو النهي عن أخذ العوض على ما جرى أنه من المكارم أو إنفاقها بما يخل بالمكارم كعوض ضراب الفحل «نهي عن عسب الفحل» (¬1) وإنفاق السلعة بما يخل بالمكارم «كالحلف الكاذب» (¬2)، و «النجش» (¬3). والشريعة قاصدة حفظ المكارم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬4). والعقد باطل إذا أبرم على ذلك، والعوض لمثل عسب الفحل غير لازم. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم الحديث في هذا وتخريجه. (¬3) - تقدم الحديث في هذا وتخريجه. (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه.

ويصحح العقد بالتراضي وبإزالة الضرر المانع، وإذا زال المانع عاد الممنوع كما كان على الإباحة. ويحرم أن يبيع على بيع أخيه بالنص «لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يسم على سومه ولا يخطب على خطبته» (¬1). وهذا النهي يفيد التحريم والمقصد الشرعي منه الحفاظ على المكارم، ودفع مفاسد الفتنة والشحناء، أو الخصومة. وأما القبض من المشتري للسلعة فليس ركنا أو شرطا لصحة الشراء لكن لا يجوز إحداث عقد بيع عليه إلى آخر حتى يقبضه (¬2). فالقبض شرط لصحة تصرف المالك إذا أراد البيع لآخر، وهو معنى «لا تبع ما ليس عندك» (¬3)، لأن الشريعة يفسر بعضها بعضا، فيشمل ما هو ملكه بشراء لكنه لم يقبضه، ويشمل ما لم يشتره مطلقا بل يبرم الصفقة ثم يشتريها من السوق ويدفعها للمشتري. ولا يشمل المنع ما إذا كانت السلعة في المخازن أو لدى وكيله فيبيعها ثم يحيله إلى مخازنه أو وكيله لاستلامها، فهذا لا مانع منه. وما قدمناه من المنع مطلقا عن بيع السلعة قبل قبضها ليس محل اتفاق عند العلماء بل فيه سبعة مذاهب (¬4)، والذي تدل عليه الأدلة أن الربويات يشترط فيها القبض وأن الصرف لا يصح إلا بالقبض، فهذان الموضعان مما يقطع بثبوتهما وهما محل إجماع. وهل يشترط القبض في سائر الطعام ربوي أو غير ربوي؟ الذي تدل عليه ظواهر الأدلة واستصحاب محل الإجماع المتقدم أنه لا يشترط إلا فيما كان ربويا، فيحمل حديث «لا يباع الطعام حتى يقبض» الذي رواه البخاري على الطعام الربوي. وما قدمناه هو ما ذهب إليه الإمام مالك وهو أرجح المذاهب هنا. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم نص الحديث وتخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - انظر بداية المجتهد لابن رشد (3/ 277)، ط/ مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

أما من أطلق القبض في كل شيء كالشافعي، أو القبض في المنقول كأبي حنيفة، فالأدلة لا تساعدهم على ذلك وأقوى ما استدلوا به «لا تبع ما ليس عندك»، و «نهى عن ربح ما لا يضمن»، وقد ورد الخلاف القوي في صحتهما، وهما بعد التسليم بصحتهما لا يدلان على المطلوب لكثرة الاحتمالات الواردة في تفسيرهما مع تكافئ الاحتمالات قوة مما يجعلهما غير قويين في الاستدلال بهما على اشتراط القبض لا رواية ولا دراية، وتكليف العالمين في مسألة كهذه تواترت حاجة الناس في معاملاتهم إليها بمثل هذا يكفي في رده (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). والحرج المترتب على اشتراط القبض في غير الربويات كثير جدا خاصة في عصرنا هذا الذي توسعت فيه المعاملات التجارية بما لم يكن يخطر على بال مجتهد حتى ينظر فيه. وأما ما ذهب إليه الإمام أحمد من اشتراط القبض في المكيلات والموزونات من الطعام فهو أخص من اشتراط القبض في الطعام بإطلاق والقول فيه كالقول المتقدم. وأما من اشترط المكيل والموزون بإطلاق كأبي عبيد وإسحاق، أو المكيل والموزون والمعدود كابن حبيب وعبدالعزيز بن أبي سلمة وربيعة، فقولهم إنما هو بالتسليم في أن علة الربويات هي هذه، أو بأحاديث خاصة دلت على أن ما يكال ويوزن لا بد من قبضه، ولا توجد أحاديث تدل على أن ما يكال ويوزن لا بد فيه من التقابض إلا إن بيع بالكيل أو بالوزن المعين فلا يقبضه المشتري إلا بإعادة الكيل أو الوزن من قبله، وهذا هو معنى حديث «حتى يجري فيه الصاعان» لا أن الشرط هو القبض. فهذه سبعة مذاهب في المسألة ولا يصح منها سوى ما نصت عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة وأجمع عليه العلماء أن القبض مشترط في الربويات الستة وفي الصرف، وكم تشدد أقوام في عصرنا تقليدا فمنعوا كثيرا من أنواع المعاملات التجارية في البورصات والبنوك والشركات والمؤسسات بسبب اشتراطهم القبض في كل شيء تبعا لإمام مع أن في قول غيره من الأئمة تيسير يوافق أصول الشرع ونصوصه ومحل الإجماع (¬1). ¬

(¬1) - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 81) قرار رقم: 53 (4/ 6) بشأن القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها =

والنص الموجب للاستيفاء بالوزن أو الكيل لما هو مكيل أو موزون عند شرائه (¬1) يدل على عدم صحة الصفقة حتى يتحقق المشتري من الوزن أو الكيل بنفسه وما ذلك إلا لأن الكيل أو الوزن مقصود في العقد وليس المقصود القبض لأنه لو باعه جزافا لصحت البيعة ولو لم يقبضه لكن لا يبيعه لآخر حتى يحوزه بالقبض على حسب ما تقدم، ولا يلزم كيله لأنه غير مقصود في العقد ولا منصوص عليه فيه. ولا يجوز بيع تأجيل الدين بفائدة عليه؛ لأنه سبب قطعي في نزول تحريم الربا لأنه نزل في ربا الديون. وقد يتحيل ببيع الدين بدين آخر بزيادة مع تأجيل، وهو محرم لنفس العلة، والنص في تحريم ¬

= مجلة المجمع (ع 6، ج 1 ص 453) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: أولا: قبض الأموال كما يكون حسيا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارا وحكما بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضا لها. ثانيا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا: القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: أ- إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية. ب- إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. ج- إذا اقتطع المصرف -بأمر العميل- مبلغا من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية. ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي. 2 - تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف. والله أعلم. (¬1) - تقدم تخريجه.

الربا في الآية، أما حديث «نهي عن بيع الدين بالدين» (¬1) فلا يصح. وتعجيل أداء الدين مع الخصم منه جائز لوروده «ضع هذه أي الشطر وأنت قم فاقضه» (¬2). وهو «ضع وتعجل» (¬3) وجوازه ظاهر، وإنما استدللنا بحديث الصحيحين لا بحديث «ضعوا وتعجلوا» (¬4) لأنه ضعيف ووجه الاستدلال بحديث الصحيحين عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) - قلت: حديث «الكالئ بالكالئ والدين بالدين» لا يصح من وجه، اتفق حفاظ الحديث ونقاده وحذاقه من المتقدمين والمتاخرين والمعاصرين على تضعيفه، وهو كذلك. ووهم الحاكم في تصحيحه بسبب تصحيف في اسم الراوي فأخرجه في المستدرك برقم 2342 عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقيل عن موسى بن عقبة عن عبدالله بن دينار. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. قلت: حصل وهم وغلط في السند فليس هو موسى بن عقبة بل موسى بن عبيدة الربذي قاله الدارقطني برقم (3085) وكذا قال غيره من الحفاظ. قال في نصب الراية (4/ 40): وغلطهما البيهقي، وقال: إنما هو موسى بن عبيدة الربذي. قلت: كلامه في السنن (5/ 290) ولفظه: موسى هذا هو ابن عبيدة الربذى وشيخنا أبو عبدالله قال في روايته عن موسى بن عقبة وهو خطأ والعجب من أبي الحسن الدارقطنى شيخ عصره روى هذا الحديث في كتاب السنن عن أبي الحسن: علي بن محمد المصري هذا فقال عن موسى بن عقبة. وقال أيضا: ورواه شيخنا أبو عبدالله بإسناد آخر عن مقدام بن داود الرعيني فقال عن موسى بن عقبة وهو وهم والحديث مشهور بموسى بن عبيدة مرة عن نافع عن ابن عمر ومرة عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر وبالله التوفيق. وقال الحافظ في التلخيص (3/ 70): وصححه الحاكم على شرط مسلم فوهم فإن راويه موسى بن عبيدة الربذي لا موسى بن عقبة .... وقال أحمد بن حنبل لا تحل عندي الرواية عنه ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وقال أيضا ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين وقال الشافعي أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. انتهى. وقال أبو حفص الموصلي في المغني عن الحفظ والكتاب (1/ 82) صـ 405: نقلا عن أحمد في باب (بيع الكالئ بالكالئ): «ليس في هذا الباب ما يصح». وضعفه الحافظ في بلوغ المرام من أدلة الأحكام (1/ 322)، فقال: رواه إسحاق، والبزار بإسناد ضعيف. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - انظر المغني لابن قدامة (4/ 189). فقد نقل الجواز عن ابن عباس وأبي ثور والنخعي. ونقله في بداية المجتهد (3/ 275) عن زفر. (¬4) - قال الهيثمي بعد أن عزاه إلى الأوسط (4/ 130): وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق.

وعدم الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال، فدل على أن الحكم بوضع شيء من الدين مقابل تعجيل الدفع جائز. وأما بيع اللحم بالحيوان من جنسه فالأصل جوازه، ومَنَعَهُ العشرة (¬1) للنص «نهي عن بيع اللحم بالحيوان» (¬2). وأجازه أبو حنيفة لضعف الحديث. وقد قلت نظما زمن الطلب: والميْت بالحي من الجنس يره ... وجوَّز بن ثابت في الربوي نعمان والمنع مقال العشرة ... رطبا بيابس وليس بالقوي وبيع الحيوان بالحيوان جائز ولو بأكثر؛ لأنه ليس من الربويات المنصوصة. ومن اجتهد بالمنع فممنوع؛ لأنه شكٌّ في مقابلةِ تَعَيُّن الإباحة، ولا زحزحة له إلا بمثله لا بمجرد التوهم. وأما بيع جنس الربوي بفروعه مثل الدقيق بالبر أو الخبز بالبر أو الدقيق، فالأصل جوازه؛ لأنه لا يصنع ذلك إلا على وجه الندرة والحاجة، وما كان كذلك فلا حكم له، وكان حاجة كالعرايا المرخص فيها «رخص في العرية بأوسق من تمر بخرصة من رطب» (¬3). ¬

(¬1) - وهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد والفقهاء السبعة، ونعني بابن ثابت في البيت الثاني أبا حنيفة النعمان. وقولنا «يره»: ضرورة شعرية. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 2192، ومسلم برقم 3956، واللفظ للبخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا. قال موسى بن عقبة والعرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها. ونقل البخاري تفسير العرايا فقال: وقال مالك العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر. وقال ابن إدريس العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد لا يكون بالجزاف ومما يقويه قول سهل بن أبي حثمة بالأوسق الموسقة. وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما كانت العرايا أن يعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين. وقال يزيد عن سفيان بن حسين العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر.

وأما أنواع البيوع

وما عَسَّر باب الربويات إلا مثل هذه الإلحاقات المظنونة، على خلاف أصل (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، في كل مسألة لم ينص على حرمتها. ولذلك اشتد خلاف الفقهاء القدامى في هذه المسألة (¬1). وأما أنواع البيوع (¬2): فالمرابحة، والتولية، والمناقصة، والمزايدة. فالأولى: بذكر رأس المال أو بما قام عليه ثم يجعل ربحه بالنسبة أو المسمى. والتولية: هو أن يولي العقد غيره بعد كمال الاتفاق على سائر الأمور. أما المناقصة فهي الخصم بالنسبة، أو المسمى. أما المزايدة فهي طلب الزيادة بالإعلان لمريدي الشراء؛ فمن دفع أكثر عقد له. الطريق الثاني من طرق التملك: المعاوضة غير المحضة وهذه الطرق راجعة إلى المكارمات والتعويضات، لا محضَ الربح. فالمكارمات هي: النفقات، والمهور. والتعويضات هي: الديات والأروش. ولنبدأ بها: الديات والأروش: ودية النفس إما عن عفو من قصاص، أو من قتل خطأ، فالأولى لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 178). فأمر بالأداء بإحسان أي الدية، بعد عفو القصاص. وإنما قال (شَيْءٌ) في (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (البقرة: 178)؛ لأن العفو يكون عن كل شيء، وعن شيء، فالأول عن القصاص والدية، والثاني عن القصاص. ¬

(¬1) - وهذا ما حمل بعض الفقهاء إلى نقد كثير من هذا كابن رشد إذ قال بتعسر وجود قانون في هذا الباب. بداية المجتهد 3/ 266. (¬2) - وهذه عقود مذكورة في كتب الفقه وهي معلومة مشهورة لا نطيل ببسطها.

وأما دية الخطأ فللنص (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 92). ومقدارها شرعا مئة من الإبل فإن غلظت فأربعون في بطونها أولادها. وفرضت على أهل الذهب ذهبا، وعلى أهل الفضة فضة، وعلى أهل الحلل حللاً، وتفرض الآن على كل بلد بعملتها بتقويم عادل. والدية هي: تعويض مالي مفروض مقدر شرعا على الجاني للمجني عليه في النفس أو العضو. فقولنا «تعويض» جعلناه من باب التعويضات لا من باب المعاوضات؛ لأن الآدمي وأجزاءه لا تدخلها المعاوضات. والرق طارئ (¬1) زال (¬2) بالشرع، والملك فيه وارد على المنفعة لا على البدن (¬3). وقولنا «مالي مفروض مقدر شرعا» يفهم أن التعويض يكون ماليا بأي نوع من أنواع المال الخمسة حسب تقسيمنا السابق الجامع وهو السهم، والنقد، والعين، والحق، والمنفعة. وقولنا «مقدر» أي بتقدير يدفع النزاع، وبابه مفتوح ولا دليل لمن منع. وقولنا «مفروض شرعا» لأنه منصوص عليه في الكتاب والسنة (فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ)، وهذا يفيد الوجوب. وإنما قلنا «شرعا» في التعريف لورود النص على ذلك. ¬

(¬1) - قولنا: «والرق ... الخ» نبهنا على هذا لدفع توهم ما قد يفهم من قولنا السابق بعدم جريان المعاوضات في الآدمي وأجزائه فيقول» وما تقولون في الرق؟ (¬2) - قولنا: «طارئ» زال بالشرع؛ لبيان أنه ليس أصلا، بل الحرية الأصل، والشرع أعادها كذلك، فشرع كل موجبات التحرر من الرق. (¬3) - وقولنا: «لا على البدن» دليله جريان القصاص على المالك إن جنى على عبده.

وفي النص من الأحكام

وفي النص من الأحكام: - أن الإيمان يَدْفع قتل المؤمن عمدا عدوانا. وفيه أنه لا يقتل مؤمنا متعمدا إلا من لا تجري عليه أحكام أهل الإيمان من الموالاة، والنصرة، والعون، والحقوق، والصلاة عليه حال موته، وإيتائه الحقوق العامة للمؤمنين، ولا يجوز تزويجه؛ لأنه ليس بمؤمن. «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» (¬1)، (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ¬

(¬1) - حديث «إذا أتاكم من ترضون .. » حسن لغيره جاء من حديث أبي هريرة وفيه من هو ضعيف وفيه انقطاع، وله شاهد من حديث أبي حاتم المزني وفيه عبدالله بن مسلم ضعيف. وكلاهما عند الترمذي برقم 1084 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» قال وفي الباب عن أبي حاتم المزني وعائشة. قال أبو عيسى حديث أبي هريرة قد خولف عبدالحميد بن سليمان في هذا الحديث ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. قال أبو عيسى قال محمد وحديث الليث أشبه ولم يعد حديث عبدالحميد محفوظا. وعند الترمذي كذلك برقم 1085 عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا يا رسول الله! وإن كان فيه؟ قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وأبو حاتم المزني له صحبة ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث. انتهى. قلت: ومنهم من لم يجعل له صحبة، قال العلائي في تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (1/ 360): أبو حاتم المزني قال أبو زرعة أبو حاتم الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فأنكحوه الحديث. لا أعرف له صحبة ولا اعلم له حديثا غير هذا. قال العلائي أخرج له الترمذي هذا الحديث. وقال فيه حسن غريب وأبو حاتم المزني له صحبة ولا نعلم له غير هذا الحديث وأخرجه أبو داود في كتاب المراسيل وكأنه لم يجعل أبا حاتم صحابيا. انتهى. قلت: وممن جعل له صحبة ابن عبدالبر فقال في الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 18): أبو حاتم المزني له صحبة يعد في أهل المدينة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». وسبقه البخاري في التاريخ الكبير (9/ 26) فقال: أبو حاتم المزني له صحبة قال عبدالله بن أبي الأسود حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي عن حاتم بن اسمعيل عن عبدالله بن هرمز ومحمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جاء كم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة =

وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32). والقاتل عمدا غير مرضي الدين ولا الصلاح؛ ولأنه ليس من عباد الرحمن بالنص (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) (الفرقان: 68). فدل على أنه ليس بمؤمن فلا حقوق له. وتعود إليه الحقوق بالتوبة للنص (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الفرقان: 70). وشرط التوبة (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) (الفرقان: 71). أي ليس أي توبة ولا أي عمل صالح، بل تكون التوبة دائمة مستمرة لا يخرج منها ولا يعود للموبقات كما يفيده (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا)، وصيغة (مَتَابًا) مع تركيب النص يدل على أن التوبة صارت مَحَلَّه وموطِنه، ويدل على كثرة فعله ذلك كما يفيده (مَتَابًا). أما النص (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)، فهو أصل الحكم. ¬

= في الأرض وفساد عريض» قالوا: يا رسول الله، وإن كان فسادا. فأعادها عليهم ثلاثا، قال عبدالله بن عبدالوهاب حدثنا حاتم قال عبدالله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد أظنه عن أبي حاتم المزني -كذا قال حاتم- عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قلت: وإذا رضوا بسيئ الخلق جاز، وقد فعله أخو بلال، وفيه قصة كما في المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم 5237 عن عمرو بن ميمون: أن أخا لبلال كان ينتمي إلى العرب ويزعم أنه منهم فخطب امرأة من العرب فقالوا: إن حضر بلال زوجناك قال: فحضر بلال فقال: أنا بلال بن رباح وهذا أخي وهو امرؤ سيئ الخلق والدين فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه وإن شئتم أن تدعوا فدعوا فقالوا: من تكن أخاه نزوجه فزوجوه. صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأخو بلال هذا له رواية. وقال الذهبي: صحيح. وقال ابن طاهر المقدسي في ذخيرة الحفاظ (1/ 266): حديث «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». رواه عمار بن مطر الرهاوي: عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، وعمار هذا ضعيف، والحديث باطل. ورواه عبدالحميد بن سليمان: عن محمد بن عجلان، عن ابن وثيمة النصري، عن أبي هريرة. وعبدالحميد هذا هو أخو فليح، ليس بشيء في الحديث.

وأما الاستثناء (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الفرقان: 70) فهو فيمن عمل بشروطه، وداوم على ذلك حتى الموت، فإنه لا مفر من القول بدخوله في عباد الرحمن. هذا بخصوص ما بينه وبين الله. أما بحق العباد فالقصاص إلا إن عفوا. والدية لهم إسقاطها بالرضى من كافة من يرثها (¬1). والدية واجبة على كل قاتل مؤمنا خطأ أو غير مؤمن، ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، مجنونا أو عاقلا، بالغا أو غير بالغ؛ للعموم المستفاد من (وَمَن قَتَلَ). فعلى هؤلاء دية. وإطلاق النص يفيد الجماعة والواحد؛ لأن «من» تفيد ذلك. ففي حال الجماعة يقتلون شخصا خطأً (وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ). وهل الدية على كل شخص كاملة، أو هي عليهم جميعا كاملة؟ احتمال يرجحه المعطوف (فَمَن لَّمْ يَجِدْ) أي الرقبة (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ولا بد أن يكون على كل واحد. فإن مات قبل الصيام فوليه مقامه، ولا يجوز صيام أولياء متعددين لشرط التتابع بخلاف قضاء رمضان. ويضعف الوجه أن الدية حق العباد، والمفروض إيفاؤها بكمالها ولو من سائر العصبات بخلاف الصوم والرقبة فلا يكون إلا على من وجب عليه. فالجماعة يقتلون خطأ عليهم دية واحدة. وفرض تسليم الدية إلى أهل المقتول للنص (مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ). وشرط تسليمها لهم إلى أيديهم للنص؛ فلو استلمها محكمون لم يقع حتى تصل إلا إن رضي أهل المقتول أو جرى به عرف. والدية تقديرها منصوص في خمسة أمور: الإبل وهي الأصل، والذهب والفضة والبقر والغنم. ¬

(¬1) - وبسط هذا في محله لأن غرضنا هنا الأمور المالية وفي فقه الجريمة ذلك إن شاء الله.

وفرض كل نوع على أهله يدل على أنه ينظر في التقدير حالا وزمانا بدليل تقويمها «بالحلل» (¬1)، وثبت تقويمها بالدينار والدرهم في السنن الصحيحة، كما سيأتي. ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 4544 حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبدالرحمن بن عثمان حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين قال فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله فقام خطيبا فقال ألا إن الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. قلت: وإنما ضعفنا إسناده لحال عبدالرحمن بن عثمان اتفقوا على تضعيفه، بل قال أحمد: أنهم طرحوا حديثه. وقال ابن شاهين معلقا على ذلك: هذا كلام شديد في أبي بحر، وإذا طرح حديث الإنسان كان أشد من الضعيف والمضطرب. قلت: ولكن له رواية أنه لا بأس به، وقال أبو داود: صالح. قلت: الخلاصة، أنه لا بأس به في الشواهد والمتابعات، وطرحوا حديثه في الاحتجاج مستقلا، هذا ما يجمع كلامهم، ولذلك قال أبو حاتم: وحديثه لا يحتج به. وله طريق أخرى حسنة ستأتي بعد قليل. قلت: وفي الديات أحاديث صحيحة منها ما أخرجه البخاري برقم 3845 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فقال أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا فقال الذي استأجره ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل قال ليس له عقال قال فأين عقاله قال فحذفه بعصا كان فيها أجله فمر به رجل من أهل اليمن فقال أتشهد الموسم قال ما أشهد، وربما شهدته قال هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر قال نعم قال فكنت إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم فإن أجابوك فسل، عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال ما فعل صاحبنا قال مرض فأحسنت القيام عليه فوليت دفنه قال قد كان أهل ذاك منك فمكث حينا ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال يا آل قريش قالوا هذه قريش قال يا آل بني هاشم قالوا هذه بنو هاشم قال أين أبو طالب قالوا هذا أبو طالب قال أمرني فلان أن أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال فأتاه أبو طالب فقال له اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مئة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فقالوا نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له فقالت يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مئة من الإبل يصيب كل رجل بعيران هذان بعيران فاقبلهما عني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف.

فتقدر في زماننا بعملة البلد الرائجة بالعدل؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). ولا يلزم الإبل إلا على أهلها للنص «إن الإبل قد غلت» (¬1). والدية تجب في الخطأ للقتيل المؤمن، وكذا للقتيل غير المؤمن وهو من أهل الموادعة والعهد والأمان (وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً) (النساء: 92). فإن كان المقتول في بلد حرب فلا دية له ولو كان مؤمنا وتلزم الكفارة (فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) (النساء: 92). وهذه الأحكام عامة لذكر وأنثى، فتنصيف دية المرأة خلاف الأصل لعدم الفارق الصحيح في الآية. ولم يرد نص صحيح صريح من السنة في تنصيف دية المرأة سوى الآثار الشاهد بعضها لبعض مع عمل أو فتوى الأمة. ¬

(¬1) - قلت: الحديث أخرجه أبو داود بسند حسن برقم 4566 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق يقومها على أثمان الإبل فإذا غلت رفع في قيمتها وإذا هاجت رخصا نقص من قيمتها وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق ثمانية آلاف درهم وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان دية عقله في الشاء فألفى شاة قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن العقل ميراث بين ورثة القتيل على قرابتهم فما فضل فللعصبة». قال وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثندوته فنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق أو مائة بقرة أو ألف شاة وفى اليد إذا قطعت نصف العقل وفى الرجل نصف العقل وفى المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث أو قيمتها من الذهب أو الورق أو البقر أو الشاء والجائفة مثل ذلك وفي الأصابع في كل أصبع عشر من الإبل وفي الأسنان في كل سن خمس من الإبل وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها فإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئا». قال محمد هذا كله حدثني به سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم .. قال أبو داود محمد بن راشد من أهل دمشق هرب إلى البصرة من القتل.

والعمل بأمر ولي الأمر والقضاء به كان كنص قانوني لا كنص شرعي. وكذا تنصيف دية الذمي أو المجوسي رجالا أو نساء لا دليل عليه يثبت الحكم. ولما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود، ولزمهم الديات لهم وعليهم، لم يرد نص يفصل مع شهرة القضية (¬1)؛ فدل على البقاء على أصل النص في عدم التفريق حتى يرد دليل صحيح ناقل. والإجماع على العمل إنما هو كنص قانون لا كنص شرعي؛ لأنه كان بأمر من ولي الأمر عمر رضي الله عنه وتعميمه في الأقطار، ويلزم الأمة العمل بأمر الإمام بالنص. وكان عمر لا يعمم حكما حتى يشاور؛ فالفتوى غير حكم الإمام بالفتوى أو حكم قاض بها؛ إذ ترفع الخلاف العملي في المحاكم والأحكام، فهو إجماع تنفيذ بأمر حاكم عام لا إجماع بالرأي والنظر (¬2). ودية الجنين إن خرج ميتا بنحو ضرب بطن حامل، أو شربها دواء مسقطا، فنصف عشر الدية للنص (¬3). وهي على الأم التي شربت ما يسقط؛ فإن كان طبيبا بإذنه اشتركا في الدية ولو أذن الوالد أو ولي أمر الحمل؛ فكذلك وليس لهم منها شيء؛ لأن القاتل لا يرث المقتول (¬4). ولا صيام عليهم كفارة إلا إن نزل الجنين حيا ثم مات إثر ذلك، لأن هذا هو المتيقن بالنصوص، وأما غيره فلا شيء فيه ولولا النص في ثبوت غرة وهي نصف عشر دية في الجنين لما وجب فيه شيء، فيبقى الأصل في عدم الكفارة بالصيام هنا. والدية حينئذ تامة عليهم، ولا حظ لهم فيها لمانع القتل. ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل في القسامة. (¬2) - وهذا تفريق هام لم أر من ينبه له وهو يعالج كثيرا من القضايا. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 5758 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة فقال ولي المرأة التي غرمت كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان. (¬4) - تقدم الحديث في هذا وتخريجه.

وأما ديات الأعضاء فواجبة بالنص «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وفي الأنف إذا أوعب جدعة الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرِّجلِ الواحدةِ نصف الدية» رواه النسائي (¬1). وأما الجراح ففي حديث عمر بن حزم «وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجلَ يُقْتَل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار» (¬2). وأما غير هذه من الجراح فالمرد الاجتهاد (¬3). وفرض على الدولة النص في كل مسألة من الجراح مما يقطع النزاع، وتعميم ذلك على المحاكم؛ لأنه من دفع المفاسد العظيمة والفتنة والخصومة؛ لكثرة الابتلاء بهذه الحوادث. ¬

(¬1) - قلت: تقدم حديث عمرو بن شعيب في الديات، وهو حسن، وهو شاهد لكتاب أبي بكر ابن حزم المشهور في الديات، وفيه هذا النص، وقد أخرجه النسائي برقم 4853 عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد وكان في كتابه أن من أعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضي أولياء المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار خالفه محمد بن بكار بن بلال. قلت: صحح النسائي وغيره أنه مرسل، ولكن يشهد له حديث عمرو بن شعيب المتقدم، ثم إن الكتاب مقبول، فإن الزهري قال وجدت كتاب أبي بكر بن حزم ومعلوم أن الكتب الصحيحة تقبل، وهذا الكتاب من أشهر الكتب، وقد نبه ابن عبدالبر عن أن شهرة الكتاب تغني عن إسناده. قلت: فإذا انضم إليه حديث عمرو بن شعيب الحسن فلا شك في ثبوته، على ما هو معلوم عند أهل الحديث. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - وهو ما يسمى حكومة، واختلفت أنظار الفقهاء ذلك اختلافا كثيرا ويلزمنا الآن التقدير من أهله بالعدل ويقدر بالنقود أو ما يتراضى عليه من المال.

النفقات

وأما إجراءات الحوادث فمحلها فقه الجريمة. - النفقات: وأما النفقات فهي تعويض مالي واجب لمعين على معين بالمعروف مكارمة. وتعريفنا هذا يشمل النفقة على الزوجة والأولاد والوالدين ومن لزم الشخص نفقته من ذوي القربى أو حيوان. وقولنا «مكارمة» خرج به المعاوضة على سبيل التعويض كالديات وعلى سبيل الربح كالبيوع. وواجب النفقة على الوالدين الفقيرين؛ لأنه مقتضى الإحسان وهو مقدم حينئذ على الأولاد والزوجات. وقيدناه بقولنا «حينئذ» أي حين فقرهما لعدم وجوب ذلك حال الغنى. وإنما يجب تقديمهما؛ لأن تقديم الأولاد والزوجة عليهما مع فقرهما يعود على أصل فرض الإحسان لهما بالإخلال الفاحش؛ ولحديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، وكان أحدهم بارا بوالديه، وجاءهما بغبوقهما، فجاء بالعشي وقد ناما، وكان لا يغبق قبلهما أهلا ولا مالا، وصبيته الصغار يتضاغون جوعا، فما قدمهم إلى الفجر واستيقاظ والديه؛ فأغبقهما، ثم أغبق الصغار فأجاب الله له (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2272 أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا، ولا مالا فنأى بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبدالله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبدالله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.

وهو دليل على إقرار الله له على أنه عمل صالح؛ إذ لو كان الصغار من أولاده مقدمين في النفقة على الوالدين مع شدة الحاجة والجوع ونوم الوالدين وإمكان تعويضهما؛ لما كان عملا صالحا؛ بل ظلما لأهل الحق الواجب تقديمهم وهم الأولاد والزوجات. وخلاف فقهاءَ في ذلك دليلٌ على إغفالهم هذا الدليل والنظر في مقاصده. ولقوله تعالى (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215). ولتقديمهما بالذكر في كل آية ذكرت فيها الحقوق لأهلها (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء: 23). ولثبوت تقديمهما في الحق والنفقة في السنة الصحيحة (¬1). ¬

(¬1) - أصل الحديث في صحيح مسلم برقم 6665 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة قال «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك». وفي مسند أحمد 7105 عن أبي رمثة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك وقال رجل يا رسول الله هؤلاء بنو يربوع قتله فلان قال ألا لا تجني نفس على أخرى وقال أبي قال أبو النضر في حديثه دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول يد المعطي العليا. قلت: وسنده حسن صحيح. قلت: وله شاهد بسند صحيح عند أحمد برقم 16664 عن رجل من بني يربوع قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: يد المعطى العليا أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك قال فقال رجل يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين أصابوا فلانا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا تجنى نفس على أخرى. قلت: وله شاهد صحيح عن الضياء في المختارة برقم من حديث طارق المحاربي فذكره. ولفظه (فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس ويقول يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك) .. قلت: وله شاهد آخر صحيح عند الضياء برقم 1389 عن أسامة بن شريك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقول: أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك قال فجاء قوم فقالوا يا رسول الله قتلنا بنو يربوع فقال لا تجني نفس على أخرى قال ثم سأله رجل نسي أن يرمي الجمار قال إرم ولا حرج ثم أتاه آخر فقال يا رسول الله نسيت الطواف فقال طف ولا حرج ثم أتاه آخر حلق قبل أن يذبح قال إذبح ولا حرج قال فما سألوه يومئذ عن شيء إلا قال لا حرج ثم قال أذهب الله عزوجل الحرج إلا رجل اقترض مسلما فذلك الذي حرج وهلك وقال ما أنزل الله عزوجل داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم.

والنص الترتيبي المفهم عند البعض لتقديم الأولاد «أطعم نفسك ثم ابنك ثم زوجك ثم أدناك فأدناك» لا يصح بهذا اللفظ. وورد في المعنى حديث «إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فهاهنا وهاهنا» وهو في صحيح مسلم من حديث جابر (¬1). وفي حديث أبي هريرة «وابدأ بمن تعول» (¬2). فالأول عند عدم الوالدين أو وجودهما مع الغنى جمعا بين النصوص. والثاني عام. وأما الزوجات فالإنفاق عليهن منصوص بالمعروف حتى المطلقة في العدة (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) (الطلاق: 7)، أو المتوفى عنها (مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ) (البقرة: 240). أو المرضعة المطلقة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، أو الحامل المطلقة (فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 6). ومقدار النفقة وماهيتها راجعة إلى العرف، وهو الآن مأكل ومشرب وملبس ودواء وسكن (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228)، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). ومَنْعُ جماعة من الفقهاء القدامى وجوبَ احتساب الدواء في النفقة راجعٌ إلى الجريان العرفي آنذاك بذلك؛ ولخفة الأمراض والمؤنة فيها، بخلاف عصرنا، فالمرض والدواء والمعاينات واللقاحات، وما انتشر من أمراض العصر الفتاكة يوجب جريان النفقة في الدواء؛ فليس من ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 2360 عن جابر قال أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «ألك مال غيره». فقال: لا. فقال «من يشتريه منى». فاشتراه نعيم بن عبدالله العدوى بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا». يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك. (¬2) - حديث «وابدأ بمن تعول» أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة برقم 1426، ومن حديث حكيم بن حزام برقم 1427، وهما عند مسلم كذلك، الأول برقم 2447، والثاني برقم 2433، وفي مسلم كذلك من حديث أبي أمامة برقم 2453.

الإحسان من يرى زوجته في مرض ولا ينفق لعلاجها، والإحسان بها مأمور به لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولأنه من وسائل حفظ النفس كسائر الضروريات من المأكل والمشرب، ولجريان العرف الحادث على هذا (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19). والإنفاق على الأولاد تقدم (¬1). ومهماتٌ من مسائل الإنفاق على الحيوان (¬2). وأما المهر فهو عوض واجب شرعا للمرأة مقصوده المكارمة عند العقد عليها (وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) (النساء: 4). ولم نقل عوض مالي لجوازه بغير مال عرفي (¬3). فيجوز بالقرآن «زوجتكها بما معك من القرآن» (¬4). وبالخدمة (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ) (القصص: 27). وبخاتم من حديد «التمس ولو خاتما من حديد» (¬5). ¬

(¬1) - انظر «فقه الطفل والولد». (¬2) - انظر «فقه الصحة والبيئة». (¬3) - قولنا «عرفي» أي ما جرى عليه التعامل عرفا أنه مال، وإلا فالمال خمسة أنواع في استقرائنا: سهم، ونقد، وعين، وحق، ومنفعة. (¬4) - تقدم تخريجه. (¬5) - حديث «التمس ولو خاتما من حديد» قلت: هو في الصحيحين (البخاري برقم 5087، مسلم برقم 3553) واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي قال فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال وهل عندك من شيء قال: لا والله يا رسول الله فقال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري- قال سهل ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها فقال تقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن.

الطريق الثالث للتملك هو: ما كان على سبيل التبرر والتبرع وتشمل الوقف، والهبات، والهدايا، والوصايا، والنذور، والعارية، والمنح، والعطايا، والإغاثات، والإعانات، والكفالات، وحملات التبرع، والتسكين، والتمليك العقاري المجاني، وإكرام الضيف، والتعاون الجماعي من العاقلة على دية الخطأ. وقاعدة هذا النوع من التملك بالاستقراء هي: أن ما كان لله محضا وهو الوقف والصدقات والنذور فيحرم المعاوضة عليها بما يفهم قصد المعاوضة، لا عرفا، ولا شرطا، ولا قرينة حال. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) (الإنسان: 7 - 9). (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل: 17 - 21). فقصد وجه الله منصوص، وهو يدل على اعتباره وإلا كان لغوا، وهو محال. والثاني: ما كان على سبيل مكارم الأخلاق، فالمعاوضة عليه محرمة، كإكرام الضيف، لأنه خروج عن مقصود الشرع في رعاية المكارم. والثالث: ما كان على سبيل الإحسان الإنساني العام كالإغاثات في الكوارث والمنح ونحو ذلك. فيجوز مقابلتها بالإحسان في مثل حدوث ذلك الظرف، ويعاب تركه حينئذ. والرابع: ما قصد به معاوضة يذم تاركها عرفا لا معاملة ربحية مقصودة. وقد جرى فعله عند بعض العرب في الهدايا حيث قصد عوضها بأكثر منها أو مثلها (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه النسائي بسند حسن صحيح برقم 3759 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي». وأخرجه الحاكم برقم 2365 وقال على شرط مسلم وكذلك قال الذهبي. قلت: وهو كما قالا.

وقد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يأخذ الهدايا من هؤلاء (¬1)؛ لإلزامهم إعْناته عادة وعرفا يذم تركها، لا معاوضة مقصودها البيع والربح. وهمه صلى الله عليه وسلم وإعلانه أسماء من قبائل تفعل ذلك دليلٌ على المنع الشرعي المفيد للكراهة لا للإثم. ومن ألزم المعاوضة بها من الفقهاء فلجريان العادة بذلك. أما الأحكام التفصيلية لكل نوع من هذا النوع والنوع الرابع فمحله سيأتي في نظام الإنفاق وتداول المال. الطريق الرابع للتملك هو: ما فرض بالشرع دَفْعُه مقدرا زمانا ومكانا وأشخاصا، وهو الزكاة والمواريث والغنائم والفيء. والطريق الخامس للتملك هو: التملك عن طريق السبق ووضع اليد والإباحة العامة كإحياء الموات، أو تقاسم الثروات الطبيعية، وقد تقدم هذا. ¬

(¬1) - وقد ذكرها الفقهاء قديما، انظر بداية المجتهد لابن رشد، ج 4، ت حلاق.

النظام المالي الثاني وهو: نظام الاستثمار

النظام المالي الثاني وهو: نظام الاستثمار شرع الله الاستثمار برا وبحرا وجوا، في الأرض وخارجها، أما في البر فلقوله تعالى (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 1 - 4). وقوله تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل: 20). وفي البحر قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الجاثية: 12). وفي الجو قوله تعالى (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (لقمان: 20). وتسخير ما في السماوات وما في الأرض عام لعموم دلالة الاقتضاء المحذوفة المقدرة (سَخَّرَ لَكُم) أي للتجارات، والمنافع، والاهتداء، والاستخلاف. والاستثمار أصله من «ثمر» وهو استفعال يدل على الطلب «للثمرة». وهي الفائدة المترتبة على الفعل الاستثماري. وهذا المبنى دال على أن الثمر ناتج عن التفاعل الاستثماري عرضا وطلبا بالأقوال والأفعال والأفكار والأزمنة والأمكنة وأنواع المال والأشخاص؛ لأن «استثمار» هو استفعال عام يشمل كل هذه. فالأقوال والأفعال شاملة لكل إيجاب وقبول، وإبرام، ووعد، وإعلان، وفسخ، وإلغاء، وعقد. وللأفعال كتابة، وتسليماً، وتسلماً، ونقلا، وحيازة، وقبضا، وإزالة، وإنشاء. والأفكار ما يتعلق بالقناعات والخطط والأهداف. والأزمنة ما يتعلق بتاريخ الصفقات، والبيوع، والمعاملات، والآجال، والشروط والخيارات، وتاريخ التسليم، وتاريخ الضمان، والوكالات، والشيكات، والكمبيالات، وأوقات الدوام الرسمي في الأسواق الكبرى. وزمن الوفرة، والندرة، ومواسم الذروة الاقتصادية والاستثمارية.

التفاوض الاستثماري

والأمكنة تتعلق بمحل الصفقات والمعاملات المالية، دولية ومحلية، رسمية وشعبية، وبالمراسلة أو السلكي، أو البريد، أو النت. وما يتعلق بمحل الإيفاء والتسليم، ومكانه وبلده مسماةً موضحة في كل ذلك كبنك أو شركة أو تحويلات، أو كان محله البحر أو الجو أو البر، أو كان محلا حصريا بوكالة أو جهة كوكيل بلد معين، أو بلدان، أو كان باطن الأرض أو فوقها، أو في أنفاقها، أو في أدغالها، أو كان في محل تاريخي سياحي، أو ديني كالحرم أو المسجد، أو المشاعر المقدسة، أو في مكان عام أو خاص. أما الاستثمار بالأموال والسلع فهو شامل لكل أنواعه العالمية التي حصرناها في خمسة: سهم، ونقد، وعين، وحق، ومنفعة. وأما الأشخاص المستثمرون فالنظر فيهم من جهة الأهلية وكونُهم ملاكاً أو وكلاء أو جهاتٍ اعتيادية، أو أولياء، أو ناظرين. والكلام في مسائل الاستثمار يرجع إلى أن الاستثمار معاملة تجارية قائمة على ركن التراضي (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، والخلو عن الموانع الخمسة. والتراضي أمر نفسي خفي يرجع في معرفة تحققه إلى ما يبينه الإنسان، وهو أمر جبلي في أصل الخلقة (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن: 1 - 4). والأقوال رأس البيان، وهي في عقود الاستثمار ركنٌ؛ لأنه لا تتم المعاملات الاستثمارية المعاصرة إلا بالأقوال منطوقةً أو مكتوبةً، ولا تجري بالمعاطاة فلم تعتبر؛ ولأن المشروط بين التجار عرفا كالمشروط شرعا وكالملفوظ. التفاوض الاستثماري والتفاوض قبل الإبرام مشروع وهو السَّوْم. أ- ولا يجوز دخول طرف مفاوض آخر حتى يدع الأول للنص «لا يسم على سوم أخيه» (¬1). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

ولأنه أدفع للخصومة؛ ولأن دخوله مؤد إلى حرص البائع على السلعة طلبا لسعر أعلى من مساوم آخر، ويترتب عليه كثيرا فشل الصفقة معهما، مما يؤدي إلى قلة حركة المبيعات، ونوع من الركود. فمقصود الشرع من تحريم المساومة على المساومة حفظ التعاون، والمودة بين عملاء السوق مع بعضهم وبينهم وبين التجار، إذ انصراف التاجر إلى الآخر مع إعراضه عن الأول طمعا في الزيادة مؤد إلى نفور العملاء منه، وسوء سمعته مما يؤدي إلى نوع خسارة عليه. ونفوق السلع سريعا وجريان حركة السوق والتجارة ودورانها هي إحدى أجدى الطرق للانتعاش الاستثماري والاقتصادي وتشغيل اليد العاملة. فلذلك حرم السوم على السوم، والبيع على البيع؛ لأنه يعود على هذا المقصود الشرعي التجاري بالإخلال. ب- والمداراة والمماراة ممنوعتان في الاستثمار حال التفاوض وأثناء العقود وبعدها للنص على قصد تركهما «كان شريكي، وكان لا يداري ولا يماري» (¬1). والمداراة هي المجاملة على حساب الحقائق، فالواجب بيان الحق في كل ما يتعلق بالمعاملات؛ لأنه من النصيحة «الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم» (¬2). والمماراة كل جدل عقيم بالباطل -وهو الغالب- أو بالحق؛ لأنه يرتب الخصومة والضغينة مما يؤدي إلى فشل العلاقات التجارية والاستثمارية. فالنهي عن المماراة في المعاملات المالية له مقصدان، الأول: حفظ الود ودفع الضغينة، والثاني: حفظ العلاقات التجارية وهما أدعى لمقصود أبعد وأعلى، وهو حفظ جريان ودوران المال وحركة الأسواق. ¬

(¬1) - حديث «كان شريكي، وكان لا يداري ولا يماري» قلت: سنده حسن، وصححه الحاكم برقم 2357، وقال الذهبي صحيح. وصححه الهيثمي في المجمع. قلت: وتضعيف الأرناؤوط له في مسند أحمد لا وجه له. وذكره الضياء في المختارة برقم 371. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

والنهي عن المداراة له مقصدان، الأول: حفظ الثقة؛ لأن المجامل يفعل ما يرضي الآخر على خلاف الحقائق، فيثمر نزع الثقة التجارية منه. والثاني: أن كشف الحقائق أدعى للثقة، وجريان التعامل، وتجنب المشاكل التجارية بحلولٍ قبل وقوعها. ج- ويحرم النجش للنص «نهي عن النجش» (¬1). وهو دخول طرف يظهر إرادة الشراء والحرص على السلعة ليوقع المشتري الأول ويكون عادة بالتوافق مع التاجر. وهو محرم؛ لأنه غش؛ ولأنه آيل إلى كساد تجارة ذلك التاجر لانتشار عدم الثقة به وغشه وخداعه. د- ويجب الصدق من التاجر وبيان حقيقة السلعة «فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما محقت بركة بيعهما» (¬2). والصدق عند التفاوض يكون ببيان حقيقة السعر بلا مغالاة ولا انتهاز لجهل متستر، أو اضطراره، وبيان صفة السلعة، وصنعها، وعيبها، ومدى توفر قطع غيارها، وإمكان صيانتها إن كان الأمر مما يجري فيه ذلك. وفي الشركات والمضاربات بيان الشروط والمواصفات والحقوق للأطراف، وما لكل وما عليه. وقاعدة هذا في قولي: ويجب بيان كل ما لو عرف لأثر في التفاوض. وأما البركة المقصودة في النص فهي نوعان: بركة سببية، وبركة سماوية. فالأولى ما يترتب على الصفقة من ربح، وتملك، وأثر الربح على حركة المبيعات ورفاهية التاجر. وأثر التملك على المشتري في الانتفاع بالسلعة أو الصفقة فيما قصد به الانتفاع في حياته. ومحق هذه البركات عند الكتمان والكذب ظاهر إذ للمشتري الرد عند ظهوره على عيب ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

قادح، وله الإمساك والمطالبة بتعويض؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وهذا منه. وفي العيوب غير الملزمة للرد أو التعويض محقُ بركة الصفقة بالخصومة والضغينة، ونزع الثقة في سلع التاجر البائع. أما الثانية وهي البركة السماوية، فهو أمر يحدثه الله في الصفقة وآثارها عند الصدق، والبيان من الأطراف يؤثر على تضاعف الاستفادة من الربح والسلعة، ومحقُه عند الكذب والكتمان قلة الجدوى من الربح، وقلة النفع والجدوى من السلعة إلى أمور عامة كونية يحدثها الله في التجارات والمناخ والأوضاع (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). هـ- والحلف في المعاملات مذموم لعموم (وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ) (البقرة: 224). ومحله حال التفاوض غالبا، فإن كان كذبا فهو من الكبائر والموبقات «والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (¬1) أي لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم. و- والإيهام بدفع طرف ثمنا أكثر مما دفع المساوم محرم؛ فإن كان في وقت بوار السلعة كذهاب وقت الذروة وانتهاء حركة السوق عظم الإثم، وكان من الكبائر «ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ورجل حلف بعد العصر أنه أعطى ما لم يعط ليوقعه» (¬2). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2369 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ورجل منع فضل ماء فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك». وعند مسلم برقم 306 من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». (¬2) - تقدم تخريجه.

وبعد العصر كان وقتا تبور فيه السلعة، فجريان تعاملهم على أسواق تقوم في ساعات من نهار أو زمن من الأسبوع أو السنة ثم تنتهي. فبدلا من أن يُصَرِّف التاجر السلعة حينئذ أوقع بإيهامه وقَسَمِه المشتري خداعا وكذبا. فهذا في التفاوض التجاري محرم، وكبيرة من الكبائر، وضار بالسوق والمستهلك والمشتري. ز- ويندب عند التفاوض طلاقة الوجه والابتسامة؛ لأنه من الإحسان لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، ولأنه من السماحة وهي محمودة في البيوع، ولأنه من مكارم الأخلاق والشريعة قصدت حفظها وتتميمها، ولأنه أوقع وأوثق لاستمرار التعامل التجاري، وهذه مصلحة مباحة والشريعة رعت المصالح. ح- ويشرع السماحة في التفاوض والتساوم؛ لعموم «رحم الله امرءا باع سمحا واشترى سمحا» (¬1)، ولأنه خلق فاضل يدفع الطمع والحرص، ودفع هذه مرغوب في الشرع. ط- ويحرم تعمد البخس للسلعة أو ثمنها؛ لعموم (وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (الأعراف: 85)، والبخس تحقير الشيء بما يسقط قيمته إسقاطا فاحشا، وهذا ضرر فاحش واجب الدفع؛ إذ يحمل على الزهد في السلعة؛ ويؤدي بالمالك إلى عرضها وبيعها بما هو ضرر عليه حقيقة، وإن رضي بالصفقة المبخوسة ظاهرا. ولا مانع حال التفاوض من شرط الرد عند ظهور خداع في الصفقة؛ لحديث «كان رجل يخدع في البيوع، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل لا خلابة» (¬2)، أي لا خداع. وله عند التفاوض والسوم أن يأخذ السلعة ويقلبها ويتأملها، سواء كانت هي أو نموذجا لها. ويجوز له الذوق للمطعوم وتجربة ما يحتاج إلى معرفة مطابقته للطلب، لأن هذه الأمور وسيلة تحصيل ركن الرضى في التبايع. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2076 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى». (¬2) - تقدم تخريجه.

نتائج التساوم التفاوضي

وإن تلفت السلعة حال السوم في يد من يريد الشراء؛ فإن كان لتفريط منه فعليه ضمانه؛ لأنه مال لأجنبي وحفظه مقصود شرعي، والتفريط فيه خلافه، والعدل ضمان مثله أو قيمته (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). والعدل مأخوذ من المعادلة والموازنة: وهذا منه، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إناء بدل الإناء، وطعام بدل الطعام» (¬1). فضمَّنها ما أتلفت، وبسطه في الضمان. ومبدأ التفاوض في الاستثمارات مضبوط بقاعدة «لا ضرر لا ضرار». فلا يشترط ما يضر بالآخر أو يستخدم أساليب تضر بالتعامل أو بأحد الطرفين أو بالسوق. نتائج التساوم التفاوضي وإذا تم التفاوض فلا بد أن ينتج عن إبرام عقد عاجل، أو آجل، أو فسخ عقد، أو وعد بالشراء ملزم أو غير ملزم، أو عرض سعر ملزم مؤقت، أو غير مؤقت، أو وعد بإتمام الصفقة واستكمال إجرائها ملزم، أو غير ملزم. وعلى كل حال لا بد أن يتفق على صيغة آلية لذلك. فإن كان إبرام عقد فهو إما بيع وشراء بأنواعه، أو شركة، أو مضاربة، أو توكيل، أو تسويق، أو تصنيع، أو استيراد وتصدير، أو تأجير، أو تأمين، أو ضمان، أو خدمات استثمارية عامة. وقد تجتمع عدة معان في عقد فيكون له مسمى آخر ولا يأخذ أحكام ما اجتمع فيه من معاني العقود، وأكثر هذه صيغ العقود الاستثمارية المعاصرة. والأصل فيها الإباحة مهما كانت إلا إن اشتملت على أحد الموانع الخمسة التي قدمناها، وهي -أعني صيغ الاستثمار- إضافة إلى ما سبق: عقد صرافة، أو عقد زراعي، أو عقاري، أو عقد صيانة، أو وديعة، أو عقد فتح حساب جار أو توفير أو استثمار أو عقد إحالة، أو عقد رهن، أو استشارات، أو عقد وظيفي، أو تورق، أو ضع وتعجل، أو عقد جعالة، أو اعتماد مستندي، أو خطاب ضمان، أو بيع للآمر بالشراء، أو عقود خدمات الأوراق المالية من كمبيالات وشيكات وسندات وصكوك. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

عقد البيع

أو عقد بطاقة الائتمان والفيزا، أو عقد وساطة تجارية وسمسرة، أو عقد فكري، أو عقد إعلامي كالإنتاج، أو عقد مقاولات، أو استيراد وتصدير، أو عقد إقراض، أو عقد منفعة وتوفير خدمه كالكهرباء والنت والهاتف. ولا بد في العقود من ذكر السلعة وثمنها بما يفيد تمام البيان والمعرفة وكذلك الأطراف والشهود وجهة التوثيق بما يحفظ به الأموال. فلنتكلم عن هذه العقود وصيغها وموضع العقد فيها والحقوق والواجبات وأحكامها بما يناسب. وإنما اخترنا ذكرها عداً ليكون أجمع لذهن القارئ، وإن كنا قد ذكرنا عقودا منها فيما تقدم، وسنذكر هنا أمهات المسائل الاستثمارية المعاصرة بما يليق بهذه المقدمة، فمنها: - عقد البيع وهو مبادلة مال معلوم بمال معلوم بقصد التملك والربح غالبا بالتراضي من كاملي الأهلية بعقد خال من الموانع الشرعية. فقولنا «مبادلة» خرج به المكارمات والتعويضات في الجنايات وعقود التبرر والتبرع كالوقف والهبة؛ إذ لا تبادل فيها. وخرج به أخذ المال بوضع اليد والسبق كإحياء الموات، وكذا تملك المال عن طريق فرض شرعي كالزكاة والمواريث. وقولنا «مال معلوم بمال معلوم» شامل لأنواع المال الخمسة في العالم التي حصرناها في السهم والنقد والأعيان والمنافع والحقوق. وقولنا «معلوم» احترازٌ عن عقود الميسر والقمار والغرر والجهالة الشديدة. وقولنا «بقصد التملك» لأنه المقصود الأصلي من البيع، ويقع إجبارا، وخرج به ما لو اشتريت السلعة في بيع مزايدة خيري بقصد التبرع بالثمن مقابل ما لا يساويه على أي وجه كشراء قلم يساوي درهما بمليون درهم، والتبرع بها لجهة خيرية، فالبيع هنا غير مقصود بل الحث على المزايدة في السلعة لرفع مبلغ التبرع.

عقود السلم

وقولنا «والربح غالبا» لأن من البيوع ما لا يقصد به الربح بل للتصريف والتملك، والربح مقصود في البيوع التجارية ولو لم يحصل، وفي البيوع المدنية وإن لم يقصد أحيانا. وقولنا «بالتراضي» ركن البيع؛ لأنه بعدمه غصب أو إكراه. وقولنا «من كاملي الأهلية» ركن لإخراج بيوع الصبي والمجنون وغير الرشيد من سفيه ومحجور عليه، ومن ليس له أهلية بيع السلعة لعدم الملك أو الوكالة أو الولاية. وقولنا «بعقد» شمل الملفوظ والمكتوب. وقولنا «خال من الموانع الشرعية» وقد حصرناها في خمسة تقدمت. فشمل تعريفنا هذا أركان البيع وشروطه وتمييزه عن غيره وخلوه من مانع، وهذا هو العقد الصحيح شرعا. وإن كان نقدا بنقد فهو صرف، وإن كان بتأجيل السلعة فهو عقد السلم. فإن كان الثمن مؤجلا فهو بيع بآجل، وهو الدين. وأحكام ذلك تقدمت إلا السلم والصرف. - عقود السلم فالسلم هو شراء سلعة موصوفة في الذمة مؤجلة بأجل معلوم، بثمن معلوم. وهل يلزم تقديم رأس المال في المجلس أو بعضه؟ الأصل جوازه، وحديث «نهي عن بيع الدين بالدين» ضعيف (¬1). فيجوز أن يدفع بعضَه، ويؤجل الباقي إلى وصول السلعة، أو الكل تعجيلا وتأجيلا لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وهذه تجارة عن تراض، ولعدم وجود مانع من الموانع الشرعية الخمسة المعتبرة شرعا. ولأن الله قال عن المسائل التي سكت عن تحريمها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). ولأن النص في «من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» (¬2) ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 2240، ومسلم برقم 4202، واللفظ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».

لم يذكر تعجيل الثمن، فيبقى على أصل الإباحة تعجيلا وتأجيلا. أما السلعة المسلم فيها فيجب وصفها بما يخرجها عن الجهالة، والنص دال على معرفة الكمية «كيل معلوم، ووزن معلوم» بمعايير المعرفة الكمية. وهي لا تخرج عن كيل فيما يكال، ووزن فيما يوزن، وهي الحبوب. والسوائل والأدوية ونحوها مما يضبط بمقاييس الأوزان والأحجام المعاصرة. وجميع السلع في العالم الآن من الملبوس والمأكول والمشروب والمستهلكات لا تخرج عن هذا الضبط. وأما العدد فهو الآن: فرع عن معدود من المقدرات والموزنات؛ فلا سلعة في التجارات في العالم إلا وهي مركبة من معايير بوحدات المليجرام، أو وحدات المليمتر. حتى الإلكترونيات معلومة كل قطعة فيها في الواحدة وزنا، ومعلوم الوزن الكلي للواحدة، ولو بيعت بالعدد فلا عدد إلا مسبوق الوزن. فمن زاد العد أو الذرع أو المتر في السَّلَمِ زاد معيارا لا ينضبط به حتى يعلم وزن الواحدة. فعلم بهذا الدقةُ التقديرية في النص النبوي المزيلة لكل لبس على كل جهة. وأما الأجل المعلوم فلا بد منه. وهو شامل لكون السلم على فترات زمنية محدودة، أو فترة. والأجل يجوز، قل أو كثر، ولو ساعة أو يوما أو أكثر من ذلك. فيجوز مع موصوف في الذمة إلى ساعة معلومة من نفس اليوم. وهذا يغني عن السلم الحال الذي قاله الشافعية ومنعه الجمهور. والحالُّ هو: بيع موصوف في الذمة بدون ذكر زمن معلوم للتسليم، وما كان كذلك فيحق طلبه حالا؛ لعدم التأجيل بزمن. وهذا من البيع لا من السلم؛ لأن السلم مقصود شرعا تحديده بزمن معلوم بالنص، وخلاف مقصودات الشرع يخرجه عن كونه شرعيا، إلا إن وافق شرعيا آخر، وهو هنا البيع. ودعوى اشتراط الرؤية للمبيع حال العقد لا دليل عليها إلا أن من شرطها عللها بكونها

تدفع الغرر، والوصفُ المطابقُ رافعٌ له؛ فإن اطلع على خلافه بطل البيع؛ لانعدام الرضى على هذه الصفة. فإن رضي جاز، بدليل أنه لو رآها أثناء العقد ثم تفرقا بعد إيجابه فتبين له عيب فيها حق له الإرجاع مع أنه رأى السلعة، فإذا رضي جاز العقد. فعلم أن المؤثر هو الرضى، وهو المنصوص عليه (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وإطلاق النص «إلى أجل معلوم» يدل على جواز عقد السلم إلى أجل معلوم محدد بساعة واحدة أو أقل أو أكثر من نفس اليوم، ويمكن أن نسميه السلم السريع أو القصير وهو ملاءم للمعاملات المالية المعاصرة. ودليله إطلاق «إلى أجل معلوم»، أي إلى أي أجل معلوم طويلا أو قصيرا، فيشمل الساعة واليوم والشهر والسنة، ومن حدد أقل وأكثر الأجل فلا دليل له. وأما بيع السلعة على النموذج أو الرؤية السابقة أو المعرفة التامة بالسلعة التجارية كما هو حاصل الآن وتحويل المشتري لاستلامها من غير محل العقد كالمخازن أو الوكيل أو الموزع أو المصنع فهو بيع لا سلمٌ، وحضور السلعة في مجلس العقد ليس شرطاً عند أحد إلا في الربويات الست فإن ضرب لاستلامها وقتا محددا أشبهت السلم. ولا يرد هنا حديث «لا تبع ما ليس عندك» لأن معناه دائر على ما لم تقبضه، أو ما لم تملكه كما تدل عليه النصوص الأخرى؛ لأن حمله على مكان العقد يُخْرِج كثيرا من السلع عن المعاوضات، ويبطل بيعها خاصةً غير المنقولة، وكذا ما يعسر إحضاره لمجلس العقد من ثابت ومنقول كثير، ولم يقل بهذا أحد فيما أعلم. ولا يشترط في شيء من السلع وجوده في مجلس العقد إلا في الصرافة، وبيع الربويات المنصوصة للنص على كونها يدا بيد. مع أننا لا نرى بأسا في شراء ألف طن من التمر المعين بألف طن من القمح المعين، ثم يحيل كل طرف صاحبه إلى الاستلام من المخازن المعلومة المضمونة؛ لتعذر إحضار هذه الكميات

مجلس العقد، فيكون معنى النص «يدا بيد» أي بلا تقييد للعقد بزمن محدد للاستلام؛ لأنه حينئذ يكون آجلا. فإن لم يضربا زمنا فهو حالٌّ يُقْبَض حالا إثر العقد ولو لم تحضر السلعة إلى مجلس العقد. وكل سلعة بحسبها كما وكيفا، فقد لا يتمكن من تمام القبض إلا بأيام من التفريغ والشحن والنقل لكثرة الكميات أو الطلبيات المستحقة للعملاء. ولا يخرج عن كونه يدا بيد؛ لأن التكليف بحسب الاستطاعة العادية والعرفية (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وقد جرت الأعراف التجارية والاستطاعات المتعلقة بها على نحو هذا، فإن كان تأخر القبض والإقباض للربويات الحالة لتساهل مع استطاعة القبض أثما جميعا؛ لمخالفة المناجزة المفروضة شرعا «يدا بيد» (¬1). ويبطل العقد، فإن أمضياه دخلا في محرم وعلى الدولة إصدار قانون ينظم التعامل ويمنع الصور المخالفة للنصوص. ويجري السلم في أنواعٍ من الخمسة الأموال: النقد والسهم والعين والمنفعة والحق. فالنقد هو: العملة الورقية الآن ولا يصح جريان السلم فيها بأن تدفع نقداً مع تأجيل في النقد المقابل سلما، وهو صرف يشترط فيه التعجيل والإقباض في المجلس. وأما الذهب والفضة فإن كانا نقدين فكذلك، وإن كانا سلعتين أو معدنين فدفع العميل رأس المال من الذهب نقدا في ذهب سلعة كحلي أو معدن أو في فضة حرم، وبطل العقد لاشتراط التعجيل وحرمة التأجيل بالنص «يدا بيد» (¬2). والسَّلَمُ قائم على التأجيل؛ فحرم في منصوصٍ على تعجيله وهي الذهب والفضة ببعضها، والبر والشعير والتمر والملح ببعضها. وقولنا «ببعضها» يشمل من جنسها، ويشمل من أحد الأجناس الربوية الأربعة المذكورة. أما الذهب أو الفضة بإحدى هذه الأربعة فلا مانع سلما، للإجماع، وجريان التعامل به من ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

زمن الرسالة فما بعد بلا نكير من العلماء، ولأن منع ذلك تعسير شديد، وهو مدفوع؛ ولأنه يلزم في العملة الورقية كذلك لأنها مقامه الآن، وهذا من أشد الحرج والتعسير، فدفع. ويجوز عقد السلم بدفع عملة ورقية الآن في ذهب أو فضة سلما، أو استصناعا؛ لعدم المانع الربوي. أما السَّلَم في المعادن الأخرى غير الذهب فجائز بلا إشكال، ويجوز العقد مع جهة لاستخراج المعادن سلما بحسب سعره وكميته ونوعه حال التسليم، فيجوز تسليمها على دفعات، ويجوز أن يسلم رأس مالها حسب سعرها زمانا ومكانا، وتحديد سعرها راجع إلى مقاييس عالمية مضبوطة ترفع النزاع والجهالة، وأدلة المسألة هي عموم النصوص وإطلاقاتها فمن ادعى قيدا أو مانعا فقد ادعى خلاف الأصل لأن الأصل عدم المانع. ولا جهالة فاحشة هنا؛ لأنه قائم على معايير تجارية دقيقة منضبطة، وجهة مرجعية فاصلة حال النزاع كبنك ونحوه. وتقوم الضمانة البنكية مقام صاحب رأس المال في الدفع والاستيفاء (¬1)؛ لأنه لا دليل على تعجيل رأس مال السلم في المجلس، فيجوز كون رأس المال بضمانة بنك يدفع حين الاستحقاق عن صاحب رأس المال. ويشترط ضرب أجل كعام للتنقيب أو التسليم خلالها على دفعات؛ لأنه مشروط في الحديث، ولحصول الغرر الشديد والخصومة بدونه بخلاف عدم تقدير الكميات في كل مرة تسلم فيها كمية لإمكان دفع الجهالة بتقدير زمن الدفع وقيمتها حسب نوعها وكميتها حال التسليم. فيجتمع في النص الأجل المعلوم وهو العام مثلا، والوزن المعلوم وهو حال التسليم، وحال توقيع العقد حيث يذكر الكمية الكلية المطلوبة. وحديث الدين بالدين والكالئ بالكالئ ضعيف لا حجة فيه ولو صح فَرْضاً لكان في دين في الذمة يحل أجله فيبيعه الدائن بدين آخر بزيادة على المدين طلباً للتأخير، وهو ربا. ¬

(¬1) - قولنا هذا لبيان جواز هذه الصورة حيث يقوم البنك بتمويل سلم بضمانة له أو بضمانة فقط، وهو حينئذ قائم مقام صاحب رأس المال في الدفع.

وأما السلم في الأسهم فلا أعلم وقوعه، إلا أنه لو دفع أحدٌ رأس مال في أسهم معلومة من جهة معلومة يسلم له صكها في أجل معلوم فلا أرى فيه ما يمنع. وأما السلم في الأعيان المالية وهي الأربعة الأنواع المتقدمة: فالأرض يجوز السلم فيها لشراء قطعة محددة الأوصاف، وتصوير المسألة واقع في جمعيات عقارية أو زراعية تجمع أموالا من الراغبين في الشراء بمواصفات معينة، ومحل معين على الشيوع لا على التعيين الشخصي، وأجل معين للتسليم، وبعد الاستيفاء يتم شراء أرض كبيرة تقسم بحسب أسهم المشاركين ثم تقسم بنظام الكمبيوتر أو القرعة أو بحسب لوائح الجمعية المتوافق عليها. ويخرج لكل اسم سهمه تحديدا على التخطيط والواقع، ويصدر له صك ملك بذلك. وأما السلم فيما يخرج من الأرض فجائز بشروط السلم المتقدمة. والسلم في العقارات جائز بأن يدفع الراغب في الشراء إلى جهة البيع قيمة العقار عمارة أو شقة أو فيلا حسب الوصف والمخطط الشامل الدقيق. وتقوم جهة البيع بعد تمام المساهمين بالإنشاء حسب المواصفات وتسلمها في المدة المحددة، بعقد تمليك للمشتري. وأما السلم في النوع الثاني من الأعيان المالية وهي الثروات فبحسب نوع الثروة، وقد ذكرناها بالحصر، وهي الثروات المعدنية، والذهب والفضة، والنفطية، والغازية، وثروة المياه، والثروة البحرية، والثروة النابتة، والثروة الزراعية، والحيوانية، والصخرية ومشتقاتها، والثروة الجغرافية، والجوية. ففي معدن الذهب والفضة إن كان بالنقد جاز السلم فيه لعدم مانع الربا، ويشترط معلومية الأجل والوزن والسعر وقد تقدم. ويجوز دفع السعر عند العقد وأخذ ضمان على المدفوع إليه، وهو المسلم إليه، أو رهن. ولا دليل يدل على منع ذلك؛ لأنه دين والنص يجيز أخذه على الدين (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا

الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283). ومن زعم أن الرهن لأجل الإيفاء منه عند عدم التسليم يجعله ممنوعا في السلم لأنه لا يستوفي منه السلعة فجوابه أنه يستوفي منه ما دفع إليه من رأس المال هذا إن سلم أن العلة حقا هي تلك، والصحيح أنه للتوثق بإطلاق. ويجوز أن تقوم الجهة بدفع المعدن على أقساط معينة متفق عليها؛ لعموم «إلى أجل معلوم» وهذا أجل معلوم، ولأن الأصل عدم المانع. وإن خالف المواصفات فلا يلزم قبضه؛ لأنه خلاف العقد الواجب الوفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). والعقد على مواصفات مغايرة، فلا يلزم القبض إلا بما جاء وفق العقد بالمطابقة أو تفاوت يسير يتسامح في مثله. والمعادن بالمعادن جائزة بتفاوت وتأجيل بعض وتعجيل؛ لأنها ليست من الربويات. والنفط والغاز كذلك فيجوز بيع نفط بنفط مع تفاضل وتآجل في طرف لعدم الربوية. ويجوز السلم في النفط والغاز بشروط السلم، ويتفق في جميع دفعات السلم على محل التسليم إن كان بحاجة إلى نص، وشرط النقل وكلفته؛ لأنها شروط تدفع الضرر والغرر والجهالة المؤدية إلى الخصومة. والسلم في استيراد المياه المعدنية والغازية جائز. وفي الثروة البحرية من سمك وأحياء وأعشاب وكل ما يمكن ضبطه كما بالوزن أو الكيل وكيفا بالوصف المخرج له عن الجهالة. وسواء كان السلم فيه رطبا أو جافا فلا يشترط جفافه؛ لعدم الدليل إلا في الربوي، وهذا غير ربوي. والسلم في الثروة العشبية والخشبية يشمله عموم الجواز بشروط السلم. وكذا الثروة الصخرية مع ضبطها بالوزن. ويجوز السلم في مشتقاتها كالإسمنت ونحوه ومسبباتها.

وكذا يجوز في الحيوانية التي يمكن ضبطها وزنا لا بالعدد أو السن لعدم انضباطه إلا في سلم في الأضاحي الشرعية فبالسن والسلامة من العيوب الشرعية في الأضاحي؛ لأنه ضبط شرعي خاص، فيقدم على ضبط باب السلم التجاري. وأما السلم في النوع الثالث من الأعيان المالية وهي الأصول الإنتاجية فما كان طبيعيا كالأرض وتوابعها من العقار والحيوان فقد تقدم. وبقية الأصول الإنتاجية الصناعية كالمصانع والآلات المنتجة، فالسلم فيها جائز بمواصفاتها المعلومة وآجالها. وأما السلم في النوع الرابع من الأعيان المالية وهي: الاستهلاكيات من ملبوس ومأكول ومشروب وكماليات، وكل السلع الاستهلاكية والترفيهية؛ فالأصل في الجميع جريان السلم بلا مانع شرعي إلا ما كان من الربويات الستة بالتفصيل المتقدم، فيجوز السلم في الورقيات، والإلكترونيات، والهواتف، والحواسيب، والسيارات، والآلات، وقطع الغيار، والأدوية، والمعلبات، والألبسة، وسائر أنواع هذا الباب. وأما السلم في القسم الرابع من الأموال وهو الحقوق: فما أمكن فهو جائز كدفع شركة فنية منتجة لمخرج معين في أن ينتج لها عملا فنيا معينا. ويسلم في أجل معلوم بأوصاف مشترطة تخرجه عن الجهالة. وكل وصف في الدنيا يدخل في الميزان وهو المعيار الضابط، وله صور بحسب المادة، فميزان الماء المليلتر، والأثقال الكجم، وميزان البورصة إشارة الأسهم، وميزان الكون تقديراته (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7). وميزان السلعة معاييرها؛ فالأفلام والكتابات ميزانها معاييرها ومواصفاتها. فشملها النص «فليسلم في وزن معلوم». ويجوز لدار نشر أن تدفع لمؤلف أو كاتب مبلغا في إصدار معين بأوصاف معينة وزمن معين، إذ لا مانع شرعي في ذلك، ومن ادعاه فهلم به صحيحا صريحا. ولا يحضرني الآن صورٌ للسلم في الحقوق غير ما ذكرت.

وأما السلم في القسم الخامس من الأموال وهي: المنافع والخدمات، فصورها في جهة مع أخرى عقد خدمات طبية للعاملين بمبلغ مقطوع معلوم مقابل خدمات طبية معلومة في أوقات معلومة من العام. ومثله خدمات الصيانة بأجل معلوم محدد، ولهم توزيعه على فترات من السنة مقابل ثمن مقطوع عند العقد. وجعلها إجارة أوضح، وجعلها سلما على المنافع والخدمات اجتهاد جديد وهو أسلم إذ الإجارة لها اشتراطات معلومة يتعسر معها هذه المعاملات على كثرتها وكثرة الحاجة إليها في عصرنا، وإذا جاز السلم في الأعيان جاز السلم في المنافع والخدمات لأنها أختها وقسيمتها فما جرى في تلك يجري في هذه بدليل واحد هو (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وهذا عقد بالتراضي لا مانع فيه من الموانع الخمسة ولأنه عقد بيع فيحل فإذا كان دليل أصل مشروعيتهما واحد واشتركا في كثير من التعاملات وكان أصلهما واحدا وهو البيع فما هو المانع هنا من جريان السلم في المنافع والخدمات كجريانه في الأعيان؟ ومن ادعى المنع فقد ادعى ما هو على خلاف الأصل، فعليه بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة. وكذا خدمات التخليص الجمركي إن كانت بعقد لمدة كعام يدفع مقابلها عند العقد مع العلم بالكميات والآجال الموزعة على السنة حسب الصفقات القادمة. ويمكن أن يجعل هذا عقد وكالة بأجرة، لكنه ليس كذلك في العرف التجاري، والحاصل جوازه على كل وجه. ويجوز البيع على أساس بوليصة الشحن المحددة الأوصاف الكاملة للسلع والأجل، ويجوز بتظهيرها، أي نقل الملكية إلى آخر وإثبات ذلك على ظهر البوليصة إن جرى التعامل بذلك، وهو من عقود السلم. وإذا تأخر دفع السلعة المسلم فيها عن تاريخ الدفع: فإن كان التأخر فاحشا وضر المشتري

فلا يلزمه القبض، وله أخذ رأس ماله، وهل يعوض بدفع الضرر عنه صلحا؟ الظاهر لا مانع؛ لأنه غير مشروط أول العقد كشرط جزائي، فلو شرط كان ربا؛ لأنه دين ولا يصح أن يشترط زيادة عليه عند التأخير، وهو ما نزل فيه النص في التحريم. ومع عدم اشتراط الجزاء في تأخير البضاعة المسلم فيها يجوز عند وقوع الضرر للتأخير الفاحش أن يقضى بينهم بالعدل وفق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار). والبيع والشراء في البورصة من الوسيط للمشتري: إن كان بالمواصفات فهو سلم، ولا يشترط فيه أن يكون مقبوضا للوسيط، ويشترط له أجل سريع كساعة أو يوم أو أجل آجل، أما إن باع سلعة بعينها بالأوصاف وهو يملكها ولم يقبضها فإنه كذلك يجوز، وحديث «فلا يبعه حتى يقبضه» مختلف في صحته وقد تقدم، وإن صَحَّ حُمِلَ على ما يكون عدم قبضه دخولا في بيع القمار؛ لغلبة عدم تمكن قبضه، أما إن قطع بالقبض كما يجري بين التجار وكما هو الحال في المعاملات في الأسواق المالية المعاصرة؛ فإنه لا مانع منه. لأن مقصود الشرع حفظ أموال وحقوق الناس ودفع الخصومات وقد تحقق مقصوده بالضوابط الدقيقة في اللوائح والقوانين المنظمة للعمليات التجارية المعاصرة، وأما حديث «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» فهو ضعيف معل (¬1)، وهو كحديث «الدين بالدين ¬

(¬1) - حديث «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ضعيف كما سترى، وقد أخرجه أبو داود برقم 3470 عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره». قلت: عطية بن سعد هو العوفي لا يحتج به، وأخرجه ابن ماجة برقم 2283، وأخرج له طريقا أخرى عن عطية تبين اضطرابه، فهذه علة أخرى. وقال البيهقي بعد إخراجه برقم 11484: الاعتماد على حديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، فإن عطية العوفي لا يحتج به. وقال المناوي في فيض القدير (6/ 80): ضعيف وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبدالحق وابن القطان بالضعف والاضطراب. قلت: وهو ما قلناه، ولله الحمد. ثم نقل أن الترمذي حسنه في العلل الكبير ونقل إقرار الحافظ له. قلت: وليس له شاهد ولا متابع حتى يحسن. بل وفيه علة ثالثة وهي الوقف على ابن عباس كما قال أبو حاتم في العلل برقم 1158. وضعفه الذهبي في تحقيق التنقيح بعطية (2/ 105). وسبقه ابن عبدالهادي. وضعفه كذلك ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 71). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (29/ 519): في إسناده نظر. وقال في صـ 517: الحديث ضعيف. وأعله المزي في تحفة الأشراف بالاختلاف في سنده. وضعفه الشوكاني في الدراري المضية (2/ 269). وتبعه صديق حسن في الروضة الندية (2/ 125). وضعفه العلامة رشيد رضا -مجلة البحوث الإسلامية (48/ 45)، وقال: وإذ كان هذا الحديث غير صحيح ولا حسن فلا =

عقد الصرافة

والكالئ بالكالئ». وحديث «نهي عن ربح ما لا يضمن» ضعيف أو مختلف في صحته، ويؤول مع ذلك بما لم يضمن وصوله إلى يده. وأما حديث «لا تبع ما ليس عندك» (¬1) فمع اختلاف في صحته فغير وارد هنا لأن معناه لا تبع ما لا تملك كما في رواية أحمد، وقد ملكها بإبرام العقد ولا يشترط القبض كما بينا سابقا إلا في الربويات الست، ولا حضور السلعة مجلس العقد لتعذره في الصفقات الكبرى، ولعدم اشتراطه شرعا إلا في الصرف. وهذه الأحاديث من أحاديث ضعيفة أدت إلى خلاف وعسر في أبواب المعاملات واضطراب كثير في آراء الفقهاء، ونحن اليوم لا نعمل بها أبدا ونكتفي بالأصول الصحيحة المتفق على صحتها بين الأئمة، وسنبين كل ضعيف من هذا النوع في المعاملات في محله، وقد ذكرنا أكثرها في مقدمة فقه الأموال. - عقد الصرافة: عقد الصرافة هو عقد بيع نقدٍ بنقد، وشرطه التقابض في المجلس بالنص «يدا بيد هاء وهاء» (¬2). فإن جرى تبعيا في بيع أو قضاء دين فهو جائز. فما كان في الذمة دينا ورده المدين إلى صاحبه صرفا بعملة أخرى سقط فيه التقابض في نفس المجلس حقيقة، وإن قدر تقديرا؛ تجويزا للمسألة. والصحيح أنه يجوز؛ لأنه ليس عقد مصارفة، بل عقد بيع أو دين رد بدله بصرفه لا بقصد عقد الصرف. ¬

= يوجد حديث غيره يدل على امتناع جعل المُسْلَم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه، أو امتناع بيعه قبل القبض. انتهى. قلت: وضعفه الألباني .. وهو إذا انضاف إلى ما سبق من المضعفين للحديث صار من ضعفه ممن اطلعنا عليه خمسة عشر إماما، وتفرد الترمذي بتحسينه، ولم يصب. (¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

العقد الصناعي

والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في الأصل؛ لحديث «كنا نبيع بالدراهم ونقبض بالدنانير». فقال صلى الله عليه وسلم «لا بأس إن افترقتما وليس بينكما شيء». فأجاز الصرف في الذمة؛ لأنه تابع لا أصل. - العقد الصناعي: العقد الصناعي هو عقد جديد ولا يخرج على عقد الاستصناع القديم في كل صوره؛ لأنه أعم منه وأشمل وأوسع وأكثر تركيبا، فالقول فيه على ما قررناه مرارا هو أن كل معاملة تجارية جارية في العالم الأصل فيها أنها مباحة لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، ولعموم العفو عما لم ينص على تحريم فيه (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). والعقود الصناعية على هذا الأصل ما لم يزحزحها مانع من أحد الموانع الخمسة القاطعة. والعقود الصناعية هي تجارة سمها ما شئت، ولا يلزمنا موافقتها ما كان قبل أكثر من ثلاثة عشر قرنا في أيام أبي حنيفة وغيره من الأئمة عليهم رحمة الله ورضوانه. ولا يلزمنا تسميتها عقد استصناع، لأن الاسم ليس توقيفيا بل اجتهادي خاص بزمن معين، ولأن التزامنا بذات التسمية القديمة يدخلنا في إرباكات فقهية وإلزامات راجعة إلى تشبيه ما نحن فيه بذاك؛ فنقول بعدم الجواز أو به، ولم ينزل الله القرآن والسنة إلا ليفهمها الناس جميعا لا لأفراد بأعيانهم ولو كانوا كالأئمة الأربعة، ولذلك اشتد إيصاؤهم بعدم تقليدهم بل الأخذ من حيث أخذوا. ولذلك سميتها في هذا الكتاب اسما جديدا جامعا لكل الأنواع، وهي العقود الصناعية بحيث تشمل كل عقد صناعي في العالم كيفما كان، فهو مباح ما لم يمنع بقاطع من أحد الخمسة. والعقود الصناعية بحسب تقسيمنا للمال إلى سهمٍ ونقدٍ وعينٍ وحقٍ ومنفعةٍ تشمل كل هذه الأمور. وسنبدأ بالأعيان لكونها الباب الأكبر للصناعات، وبحسب تقسيمنا لها إلى أربعة أنواع: 1 - الأرض والعقار.

2 - والثروات الكبرى، وهي خمسة عشر نوعا بحسب حصرنا الاستقرائي المتقدم. 3 - والأصول الإنتاجية. 4 - والمواد الاستهلاكية. وأركان العقود التجارية الصناعية الآن: عاقدان، ومعقود عليه من ثمن ومثمن، وصيغة عقد ملفوظ ومكتوب ومشهود. فالعاقدان يشترط فيهما أهلية التصرف، جهةً اعتبارية كبنك، أو شخصيةً كفرد. وصيغة العقد بحسب مقصود العقد بما لا يفهم غيره ويرفع التوهم. وقولنا مكتوب ومشهود ركن في الصيغة؛ لأنه لا نفوذ لها في التعامل التجاري رسميا إلا بذلك. والمعقود عليه هو الثمن والسلعة. أما الثمن فهو: ما تراضيا عليه في منطوق العقد عوضا للسلعة؛ لأن النطق هو الأصل؛ فإن لم يذكرا ذلك نطقا رجع إلى العرف؛ فإن لم يكن عرف فالعقد باطل؛ لاشتماله على المقامرة والتغرير الشديد في أحد طرفي العقد، وهذا محرم لتحريم الميسر والغرر. وحينئذ يجوز تحديد السعر ولو بعد إبرام العقد لتصحيحه؛ لأن ارتفاع المانع المبطل للعقد يعيد العقد إلى الصحة. ويجوز تأخير الثمن إلى التسليم، أو تقسيطه على أقساط، ويجوز دفع قسط أول بعد إبرام العقد. ويجوز دفع كامل الثمن أوله، والسلم يجوز فيه ذلك، ولا دليل على الإلزام بتعجيله كما مر. ودليل الصور السابقة (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، فأطلق صحة عقود التجارات بركن التراضي. وهذا عقد بالتراضي لا مانع فيه من الموانع الخمسة، ولأنه عقد بيع فيحل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275). وهذا عموم، ولأن الله يقول عن المسائل التي لم يحرمها أو يحكم فيها بإيجاب (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101).

فيدل على عموم العفو في سائر صور العقد، تقدم الثمن أو تأخر بتقسيط أو كمال. وأما المثمن وهو السلعة المعقود عليها في العقد الصناعي فيشترط فيها أن تكون من الطيبات لا الخبائث (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) (الأعراف: 157). والشرط الثاني أن تكون السلعة حلالا غير محرمة. فَشَرْطٌ فيما يجوز أكله وأكل ثمنه أمران: الأول أن يكون حلالا فخرج به الحرام الميتة والخنزير والميسر والأقمار والخمر والدم والأصنام. والثاني أن يكون طيبا غير مستخبث. فلا يجوز العقد الصناعي على سلعة محرمة بالنص على عينها كالخمر، أو معناها وهي الخبائث. فالعقد على إنتاج الخمر والمخدرات باطل لتحريمه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90)، «لعن الله في الخمر عشرة بائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها وآكل ثمنها وشاهدها» (¬1). وكذا عقود المخدرات، وهي من الفساد في الأرض، وحدها حد الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). ويبطل عقد استصناع أعلاف من دم ومستخلصات الميتة والخنزير ولو خلط بغيره، لأن ما حرم بالنص حرم قليله وكثيره «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (¬2). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - أصله في البخاري برقم 242 عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شراب أسكر فهو حرام. وأما رواية «فقليله» فهي في سنن أبي داود برقم 3683 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام». قلت: وهو حسن صحيح. وله شاهد حسن صحيح عند النسائي برقم 5607 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد برقم 12120 بسند على شرط مسلم من حديث أنس. وله شاهد حسن في الشواهد من حديث خوات بن جبير عند الحاكم في المستدرك برقم 5745. وله شاهد حسن في الشواهد عن ابن عمر عند أحمد وفيه أبو معشر.

ولحديث «لعن الله اليهود لما حرم عليهم شحوم الميتة أخذوه وباعوه وأكلوا ثمنه» (¬1). واستصناع الأسمدة من المخلفات الحيوانية للزراعة جائز؛ لعموم العفو عن كل مسألة لم تحرم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، سواء مأكولة أو غير مأكولة للعموم، إلا ما كان من الخبائث كالبول والغائط الإنساني لعموم تحريم الخبائث، ولوجوب الاستنزاه منهما في البدن والثوب والمكان لعموم العلة في حديث الصحيحين أن رجلاً كان لا يستنزه من البول فعذب في قبره (¬2). وللعن من يتخلى أي يتغوط في الطريق وتحت الشجر المثمر وفي الظل (¬3). واستعمالها سمادا زراعيا أشد من معنى التخلي، فيحرم. وصناعة الأصنام محرمة، فيحرم عقود استصناعها وبيعها، ويستثنى ما كان للعب الأطفال، لورود إقرار الشرع عليها، وأصنام الأزياء كلعب الأطفال في الحكم؛ لأنها ممتهنة. وصناعة أصنام الزعماء والحكام محرم؛ لأن مقصودها التعظيم. وكذا العلماء والأنبياء والرسل وهو أشد تحريما لغلبة تعظيمها وأدائه إلى الاعتقاد المحرم فيها عند العوام (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) (نوح: 23 - 24). وهذه أسماء عباد صالحين صنعت لصورهم أصنام ثم جاء من بعدهم فاعتقدوا فيها الضر والنفع، فضلوا وأضلوا كثيرا. والعقد الصناعي في الأرض إن كان لصناعة أرض كردم جزء من البحر أو جسر عليه أو نفق فيه أو صناعة جزيرة لغرض. فهذه وأمثالها جائزة؛ لعموم (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (لقمان: 20)، ولعموم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - تقدم تخريجه.

فعموم التسخير والتمليك يقتضي حل التصرف، ومنه هذا. ويشمله عموم حل التجارات (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وعندي أن يختص هذا النوع باسم مستقل هو «العقود الإنشائية» وهي أنواع ومنها عقد المقاولات والعقود الهندسية؛ لأن الصنع هو إيجاد شيء مستخلص من مواد خام، أو هو تحويل المادة من طبيعتها الخام إلى منفعة أو تحويل المادة من طبيعتها الخلقية الخام إلى وضعها المنفعي الغائي. والإنشاء إيجاده بالمواد المصنعة، وبالمواد الخام، فيقال: صنع سيفا، وأنشأ بيتا. - العقود الصناعية في الثروات: وأما الثروات وهي خمسة عشر نوعا فيتعلق بها عقود صناعية كثيرة: فالثروة الجوية تجري فيها عقود استصناع الطائرات، وقطع غيارها، ومحركاتها، وصناعة مستلزمات المطارت والطيران التشغيلية والخدمية. وإنشاءُ المطارات هو عقد إنشاء لا استصناع، وقد يشمل على استصناع بعض المواد بمواصفات، ولا تعارض في اجتماع المعاني في عقد واحد. وفي الثروة البحرية على صناعة السفن وسائر النقل البحري وقطع غيارها وموادها ووقودها، وتجري في الصناعات البحرية والأحياء والنبات والمواد المعدنية والملحية والصخرية والنفط والغاز والحلية. وفي الثروة الزراعية على صناعة الأسمدة والآلات الزراعية للحرث والحصاد والمطاحن والتغليف والنقل وصوامع الغلال، وغيرها. ومن الثروة النباتية عشبية وخشبية على صناعة الخشب والدواء، والعطور، والروائح والزينة والوقود، وغير ذلك. والعقد على الصناعة بمواصفات معينة، والصناعات النفطية والغازية، وكذا على المواد الاستهلاكية -ملبوسةً، ومأكولةً، ومشروبةً- ومستعملات الزينة والإلكترونيات، والتسلح، ومنتجات النهضة التكنولوجية الحديثة.

كل هذه الأنواع تجري فيها العقود الصناعية، والاستصناع، والإنتاج والإنشاء، وكل بحسبه. وكافة ما يمكن صناعته يجوز إبرام العقود في تصنيعه ما كان، لا محرم. والوسيط الصناعي جائز، فلا يلزم كون العقد مع الجهة المباشرة للتصنيع، بل يجوز عبر وسطاء من بنوك وشركات وأشخاص وجهات يعقد معها. وتتولى العقد، وتكون مسئولة أمام المشتري عن المواصفات المطلوبة، ولا علاقة للمشتري بالمُصَنِّع المباشر حينئذ. وإن كانت السلعة المطلوب تصنيعها جاهزة بنفس المواصفات فله شراؤها للعميل، ولا يلزم صناعة أخرى مماثلة إلا إن كان شرطا؛ للزوم الوفاء بالشرط، لأنه جزء من العقد الواجب الوفاء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). عقد الإنشاء والمقاولات: وعقد الإنشاء نوع من الاستصناع، ويختص عرفا بالمباني والإنشاءات الخدمية كالعقارات والجسور والطرق، وصيغها عقد مقاولات. ويجوز لمقاول مقاولة العمل لمقاول آخر بالباطن أو العلن، لجري التعامل على ذلك في العرف التجاري، فهو مشمول بعموم الإباحة الأصلية والنصية للبياعات والتجارات، ولا مانع منه شرعا، والأصل عدم المانع. ويكون الأول هو المسئول أمام المالك أو وكيله؛ لأنه طرف العقد؛ فهو ملزم به وضامن تنفيذه، ويكون المقاول الآخر مسئولاً أمامه وضامناً تنفيذ ذلك. ويجوز أن يكون طالب عقد الصناعة أو الإنشاء هو المنشئ والصانع نفسه، كأن يطلب من جهة كبنك أو شركة أن تصنع له آلة أو تنشئ له عقارا وهو يتولى الصناعة والإنشاء. عقود الإنتاج الإعلامي والأعمال الفنية والعقد لإنتاج مادة إعلامية مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة، جائز. وهي من العقود المعاصرة الجديدة، وليس لها نظير فيما سبق، والعقد الاستثماري فيها

عقد الإنتاج الفكري

مباح على الأصل العام (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). إلا أن يكون على أمر محرم كالأفلام الإباحية والماجنة؛ فالعقد فيها باطل، والكسب المترتب عليها حرام، وقد نهى الشرع «عن أجرة البغي» (¬1)، وهذا منه. وحرم إشاعة الفاحشة، وهذا منه (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). ولا تُخَرَّجُ عقود الإنتاج الإعلامي على الاستصناع أو السلم أو الإجارة أو المضاربة إلا بتعذر وعسر، وفيه نوع من جميع هذه المعاني، فهو عقد مستجد تجاري جائز ما لم يمنع منه مانع شرعي معتبر من الموانع الخمسة. عقد الإنتاج الفكري العقد الفكري هو: عقد لكتابةٍ فكرية في صحيفة معينة، أو موقع، أو إصدارات مطبوعة. ويكون العقد معلوم المدة؛ لينتج به بحسب الاتفاق يوميا أو أسبوعيا أو شهريا أو سنويا، كمقال صحفي، أو إصدار معين كل مدة معينة، ويقبض على هذا العمل بموجب العقد راتبا شهريا، ونسبة من المطبوع، أو إحداها. وهذا عقد استثماري رائج لا مانع منه على أصل الإباحة. العقد الاستشاري العقد الاستشاري هو: عقد مع جهة استشارية في مجال معين لمدة معينة لتقوم بأعمال استشارية حسب العقد والعوض المتفق عليه، وهو إجارة. وعقود الاستيراد والتصدير مع جهة قد تكون إجارةً أو مضاربةً أو شراكةً بحسب العقد، وصورها جائزةٌ ما لم يكن في العقود مانع من الخمسة يحرمه. وخدمات الفيزاكارت منفعة مقصدها الاستثمار والربح مقابل عوض، فجازت وقد يُخَرَّج البنك على أنه وكيل بإجارة يدفع للمحل المراد. ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2237 عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. وهو في مسلم برقم 4092.

عقود الشركات

وإذا لم يكن الرصيد مغطى، فهو -أي البنك- وكيل سداد بأجرة ومقرض كـ «بع عبدك عني» (¬1). والأجرة مقابل عملية السداد، لا مقابل القرض؛ فإن كانت فائدة على القرض مع ذلك حرم. وبقي أن نذكر عقود الشركات لأنها من أصول العقود الاستثمارية. وأما بقية عقود الخدمات الاستثمارية فمنها ما مر كالعقود الزراعية، والعقارية، والتأمين والصيانة، ومنها ما سنذكره في البنوك، وهي عقود التسهيلات والخدمات البنكية. عقود الشركات والشركة أنواع كثيرة، وأشملها لسائر الأنواع شركة المضاربات، وهي مال من طرف وعمل من طرف. فإن كان منهما المالان والعمل فهي شركة العنان، وهي جائزة بإجماع. فإن كانت بماليهما وعمل أحدهما جاز كذلك. أو كانت باتفاق طرفين على أن يعمل كلٌ فيما فتح الله عليه ثم ما ربحا فهو بينهما، وتسمى شركة الأبدان. والأصل جوازها؛ لعموم الحل في كل مسألة لم ينص على تحريمها بدليل (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101). ولأنها أصبحت الآن من التجارات المعروفة، والأصل حل كل التجارات بعموم النص (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وصفتها بأن تكون مجموعة من الأطراف التجارية اتحادا مشتركا، يعمل كل طرف في أنشطته المختلفة، وما حصل من الربح من جميع الأطراف فهو بينها. والهدف من هذا توسيع النشاط التجاري وتقويته، وشرطه الخلو من الموانع الخمسة. وأما إن كانت بالوجاهة، كأن تأخذ كل جهة أعمالا وأنشطة ورأس مال وتعطى ذلك دينا لثقة السوق بها ثم يتقاسم الربح بينهم، فلا مانع منه على الأصل، وتسمى شركة الوجوه. ¬

(¬1) - هذه من المقولات الفقهية والأصولية المشهورة، ويمثلون بهذا المثال في باب المقتضى في الأصول، وتقديره: بع لي عبدك ثم بعه لي كوكيل عني.

والمضاربة تكون في الأنواع الخمسة من المال.

وأما شركة المضاربات التجارية فهي: عقد على عمل من طرف ومال من آخر، وهو جائز بلا خلاف، وأخذ اسمه من (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل: 20)، وأصله (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)؛ لأنه عقد تجاري استثماري. وركنه التراضي والأهلية والإبرام. فأما التراضي فلأنه عقد تجاري (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). أما الأهلية من العاقدين فلأنه لا تصرف إلا برشد مالي، وهو البلوغ والرشد والعقل (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6). فشرط مع البلوغ الرشد لدفع مال اليتيم إليه؛ وللنص (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5). وقولنا «الإبرام» ليشمل سائر صور التوثيق من صيغة وكتابة وشهادة. وكذا اعتماد جهة معتمدةٍ؛ لأن هذا ما تقتضيه العقود في السوق التجاري الآن، ويسقط بعض هذه بحسب العادة التجارية. والمضاربة تكون في الأنواع الخمسة من المال. فهي في الأسهم بأن يدفع طرف لآخر أسهما للمضاربة بها بيعاً وشراء على ما يتفقان من المدة، ومقدار الربح، ونوع الأسهم المضارب فيها. ويجوز شراء أسهم من بنك أو شركة وجعله مضاربا فيها بشروط الربح والخسارة. ورأس المال إن كان نقدا -وهو الأصل- إن شرط عليه أن يشري به سلعا بعينها لزمه، ولا يجوز له المخالفة؛ فإن خالف فخسر ضمن؛ لأنه لم يوف بالعقد (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولأنه على غير المعقود، فكان تصرفا من نوع الاعتداء والبغي، فبطل. ويضرب مدةً للعقد، يوزع آخرها الربح، ولهما ألا يوقتا، لأن هذه الشروط ترجع إلى العقد بالإصلاح؛ فلم تمنع، وتكون جزءا من العقد الواجب الوفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ولا دليل يدل على أن المضاربة لا تصح إلا على عدم التوقيت، ولأن ما علل به من ذهب إلى المنع غير وارد الآن في المعاملات المعاصرة لقيامها على الدراسات الدقيقة والأنظمة واللوائح التي يندر معها ذلك.

وإذا دفع له رأس مال من الأعيان المالية كالعقار، والسلع من الملبوس، والمأكول والمشروب أو الإلكترونيات أو الترفيهيات أو أدوات النقل على أن يبيعها مضاربة وما زاد عن رأس مالها فهو ربح بينهما. ولا بد من جرد رأس مالها حال العقد وتحديده بالنقد إن كان المقصود بيعها وتحويلها إلى نقد، فما زاد فهو ربح. فإن لم يقصد تحويلها إلى نقد فينظر في الزيادة الحاصلة على رأس المال وصورته بأن يدفع إليه محل بضائع مختلفة أو متحدة ليضارب فيه، فيلزم جرد ذلك عددا وسعرا، وما زاد بعد انقضاء مدة المضاربة من عدد السلع فهو ربح، لا زيادة سعرها بل زيادة العدد؛ لأن السعر لا يتحكم فيه بالعمل إذ لا مدخل للعمل في زيادة السعر بل يؤثر على زيادة عدد السلع، فيجعل هو المرجع هنا؛ لأنه منضبط. وما كان أضبط وأبعد عن الغرر والخصومات فهو المقصود شرعا. ورأس المال إن صح أن يحيل عليه صح أن يضارب به، والإحالة عليه كالدين الحال عند ملئ يصح أن يجعله عند المدين رأس مال مضاربة وأن يحيل عليه من يقبضه عنه، وكذا يصح أن يجعله رأس مال سلم. وقلنا «الدين الحال» ليخرج الدين المؤجل ولم يحل أجله؛ فلا يحال عليه لأنه لم يتحقق دخوله في استحقاقه حتى يحل الأجل؛ فلا تصح الإحالة عليه، ولا المطالبة بقبضه. ولا يصح جعله رأس مال مضاربة ولا سلم؛ لأن المضاربة مال وعمل، والمال لم يستحق قبضه، فكان على لا شيء، وهذا تغرير محرم. فإن استحق قبضه بأن حل أجله وكان مليئا جاز؛ لأنه يكون كالوديعة عند المدين. وشرطنا أن يكون مليئا؛ لأن المعسر لا يحل استحقاق القضاء عليه بالنص (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). والسلم في ذلك كذلك. أما الاستصناع فيجوز بالدين، لعدم الدليل على المنع؛ ولأنه عادة يجري مع تأخير رأس

المال بخلاف المضاربة، فعمدتها رأس المال لأن العمل إنما هو فيه، فإذا كان معدوما كدين لم يحل، أو حل عند معسر، كانت المضاربة لغوا؛ لانعدام ما يمكن العمل فيه. وأما السلم فيجوز بالدين بشرط أن يكون تسليم المسلم فيه مساويا لزمن حلول الدين ولزومه، ولا دليل من كتاب ولا سنة صحيحة على تعجيل رأس مال السلم في المجلس. وهذا المدرك هو ما حدا بالإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- إلى القول بجواز تأخير رأس مال السلم يسيرا. وقد شرط في المعتمد من المذاهب الأربعة ألا يكون رأس المال في المضاربة دينا. وأطلقوا ذلك ولم يفصلوا هذا التفصيل ولا بد منه. ولا دليل يدل على المنع مطلقا، ولا أظنهم إلا قاصدين للمنع من الدين غير الحال أو حالاً عند معسر. ثم اطلعت على قول آخر لأصحاب الإمام أحمد بالجواز في الدين وأطلقوا، وفيه نظر، بل الصحيح ما قدمنا من التفصيل، وهو أن يكون الدين حالا عند ملئ؛ لأنه إن كان غير حال فهو طلب بغير حق فضلا أن يطلب منه المضاربة به، أو كان حالا على معسر فطلبه منه إلزاماً خلافُ النص (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). والمضاربة به منعها أولى؛ لأنه طلب وزيادة؛ أي لأنه طلب إيجاد المبلغ والعمل بالمبلغ. وشرط رأس المال أن يكون معلوما، ويحرم كونه مجهولا. والأسهم إذا عينت بالوصف، وعلمت بما يرفع الجهالة جاز دفعها لمن يضارب فيها، فإذا باعها فربح كان الربح بينهما بحسب الاتفاق. ويجوز أن يضع مالا في البنك لشراء أسهم للمضاربة بها، وشرط أهل المذاهب الأربعة في المعتمد أن يكون رأس المال نقدا، ولا دليل عليه إلا عدم الانضباط وهي علة معتبرة إذا حصلت؛ فإن أمكن ضبط المضاربة بالعروض بما يرفع هذا جاز. والأنظمة المحاسبية اليوم، والطرق الاقتصادية، والأدوات، والوسائل، والنظم كفيلة بهذا الضبط؛ ففتواهم صحيحة في زمنها، وما نحن عليه الآن إنْ انضبط صح.

مضاربة البنك بالودائع غير الاستثمارية والاستثمارية والتصرف فيها

- مضاربة البنك بالودائع غير الاستثمارية والاستثمارية والتصرف فيها وإذا دفع البنك إلى عميل تمويلا بحسب طلبه؛ فإن أعطاه على جهة القرض الحسن تمويلا لمشروع صغير جاز. ويرد له القرض في أجله، ولا بد من أخذ ضمان عليه حفاظا على أموال المودعين. ويؤخذ القرض الحسن من الودائع غير الاستثمارية؛ لأن التصرف في الودائع الاستثمارية لا يكون إلا بالاستثمار؛ لأن هذا هو مقصود العقد مع البنك، فوجب الوفاء (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولا يلزم إعلام صاحب الوديعة؛ لأنه قد علم بالعرف الرسمي في البنوك. وتصرف المودَع في الوديعة بالضمان؛ لأن حفظ الأمانات واجب، ويلزم إن سحبها صاحبها أداؤها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وهذا عام؛ فلزم ردها عند الطلب، والبنك ضامن لها. وهذه الودائع يجوز للبنك استثمارها، ولا يدفع لصاحبها من الربح شيئا؛ لأنه أذن له إذنا عرفيا رسميا بحسب التعامل البنكي العام حال الإيداع أن يصنع بها ما يشاء، ويضمن له ردها كما هي إذا طلبها. والعلم بالتصرف منهم مع الإقرار والرضا بالتعامل معه كالنص على الإذن. ولأن حفظ المال إحسان، ولا مقابل له إلا إحسان التعامل، ومنه الإذن في تحريكها واستثمارها (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). فإن صرح بعدم الإذن للبنك بالمضاربة في الوديعة فلا بد أن يستأجر لها خزينة بنكية مستقلة، أو يترك الإيداع العام البتة؛ لأن وديعته تختلط بسائر الأموال عند وضعها، ويتعذر عدم ذلك، ويؤدي الشرط إلى الخلل في أعمال البنوك فيضر بهم، والمودع لا يضر بمن أودع عنده بأن يشرط شرطا ضارا أو غيره مما يضر؛ لأنه إحسان (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60). وإن دفع البنك تمويلا للعميل في عملية تجارية فيكون البنك ممولا والعميل قائما بالعمل، وهذه هي المضاربة؛ فتجوز.

والبنك حينئذ مضارب مستقل مع العميل بعقد مستقل، وهو -أي البنك- مع المودعين المستثمرين عامل مضارب بعقد مستقل. فالعقود مستقل بعضها عن بعض؛ لورود النصوص المبيحة للعمل التجاري على العموم والإطلاق بلا تفصيل، ومن ادعى المنع لزمه الدليل المقيد أو المخصص. وعليه فلا مانع من ذلك شرعا، ولأن يد البنك المضارب مطلقة في التصرف، ولأن المستثمرين المودعين علموا بهذا التصرف عند العقد وحصل الرضى فجازت، ولا يمكن تخريجها على الخلاف في المسألة القديمة في مضاربة العامل لمضارب آخر، لأن البنوك لا تضارب بنفسها فقط، بل بنفسها ومع غيرها بدفعه إلى جهات استثمارية. ومعلومية هذا التعامل يخرجه عن الخلاف في المسألة عند تخريجها على ما مضى. بل العمل التجاري لا تقوم مصالحه في هذا العقد إلا بإطلاق نظر المضارب، وهو البنك أو الشركة في التصرف المصلحي. ولا حاجة إلى القول بأنها عقد جديد بمسمى المضاربة المشتركة بجعل البنك وسيطا بين الطرفين لعدم الحامل الداعي لذلك إلا تكلف لا معنى له، فإن اصطلح على ذلك فلا يضر؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولأن جعلها مضاربة ثلاثية مشتركة لا يؤثر على أحد العقدين؛ إذ لا علاقة لكل بالآخر. مسئولية البنك في النظر المصلحي ودراسة الجدوى: والبنك مسئول في مضارباته التجارية أن ينظر بالنظر المصلحي في أموال المستثمرين لديه، فلا بد أن يجعل له نسبة من الربح كافية مع الجهات التي يضارب بالأموال فيها؛ لأنها -أي المضاربة- حقيقة بينه وبين المودعين، فوجب النظر المصلحي لهم؛ وهذا من النظر المصلحي للمودعين المستثمرين. والنظر المصلحي واجب عليه فلا يجوز للبنك أن يتصرف في تقليل نسبته من الربح بما يضر بالعملاء، بل الأموال المدفوعة إليه شَرْطُها تحصيل غايةِ المصلحة الاستثمارية، وهو شرط معتبر، فيعمل به كجزء من الإيفاء بالعقد؛ لأن دونه مع الاستطاعة لما فوقه ضرر لا نظر.

التمويل الجزئي

ولأنه حال الخسارة من رأس المال يتحملها المستثمرون في البنك ويتحمل البنك المضارب خسارة أرباح كانت متوقعة، فخسارة المستثمرين في محقق وهو رأس مالهم، وفي متوقع وهو الربح، وخسارة البنك المضارب في متوقع وهو الربح. فوجب حينئذ غاية النظر، والدراسة للمشاريع وجدواها؛ لأن ذلك أدفع لمفسدة الضرر الفاحش على الأموال، ووجب ما لا يتم إلا بها استقلالا أو استكمالا، من رقابة، ومتابعة، وتقويم، ومحاسبة؛ ولأن الشرع إنما حجر على السفيه ومنع إعطاءه المال نظراً لعدم نظره المالي الراشد (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5). فإذا تصرف البنك في مشروع بلا دراسة كافية للجدوى فهو محجور عليه الدخول فيها لغلبة المخاطرة. ولأنه لم يتصرف تصرف المصلحة، وهو عين ما حجر على السفيه به. - التمويل الجزئي: وإن مول البنك جزءا من العملية وطالبُ التمويل جزءا، فالبنك مضارب بجزئه ويقسم الربح أولا بين المالين، فيأخذ المضارب نسبته من الربح الكلي بحسب ماله، وبقية الربح الخاصة بمال البنك يأخذ نسبته بحسب الاتفاق بينه وبين البنك. إذ العقد مع البنك على المضاربة بمال البنك ولا شأن للبنك بالمال الآخر ممن كان، سواء من المضارب طالب التمويل أو من غيره. فلا يتعلق الوجوب الشرعي في الوفاء له إلا بالعقد في ماله بقدره. وعقد المضاربة تحكمه أصول كبرى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وخلوه من الموانع الخمسة التي استقرأناها بالحصر وهي: الربا المنصوص، والسلعة المحرمة بالنص، والميسر ومنه القمار والتغرير، واختلال الرضا، وترتب الضرر العام على العقد. فما كان وفق هذه من المضاربات التجارية فهو صحيح، ومن ادعى شروطا، أو أركانا، أو موانع في الثمن والسلع، أو الصيغ، أو التوثيق، أو العاقدين خارجة عن هذه فقد جاء بما لا حجة له.

فاشتراط كون رأس المال نقدا لا عروضا لا دليل عليه سوى احتمال الغرر، والاحتمالات لا تبطل الأحكام؛ فإن غلب الغرر أو تيقن صح هذا الشرط، وتقدم ندرة وقوع هذا الآن في المعاملات الحديثة لدقة الضبط في سائر أمورها. واشتراط كونه منقودا لا دينا خارجٌ عن الأدلة الشرعية السابقة إلا في صورة الدين غير الحال مع عدم الرضى بالتعجيل؛ فإن طلب المضاربة بالدين فوق طلب استيفائه، ولا يحق له استيفاؤه أصلا؛ لأنه مؤجل إلا إن رضي صاحب الدين بالتعجيل ودخلا معا في مضاربة بهذا المال جاز؛ لأن التعجيل جائز والتراضي على عقد المضاربة جائز. فالمدين يأخذ قدر الدين من ماله للمضاربة فيه على الربح المتفق عليه في العقد. فلا مانع لا شرعا، ولا عقلا، ولا عادة، لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وقد استقرأت حجة من منع فلم أجد لها نصا من كتاب ولا سنة، ولا معنى معقول صحيح تقصده الشريعة، وجميع الموانع الخمسة وما يدخل تحتها من الأدلة منعدمة هنا. وأما اشتراط أن يكون رأس المال معلوما فعليه دليل؛ لأن عدم معلومية رأس المال تغرير فاحش، فهو من نوع المقامرة كبيع الملامسة والمنابذة. فلا يصح العقد إلا بذكر مال معلوم. أما الربح فشرطه المعلومية؛ فيحرم ويبطل العقد مع عدم معرفة نسبة الربح بينهما؛ لأنه ميسر ومقامرة، وهو محرم. فيجب ذكر نسبة كل طرف وأن يكون شائعا في جميع المال المستثمر مضاربة وأن يكون نسبة لا بعدد؛ لأن الدفع بالعدد إجارة لا مضاربة. ولأنه لو أعطي بقدر العمل إجارة لأمكن استغراق جميع الربح، وقد يستهلك أجرته من رأس المال فتحصل الخسارة لطرف، وهو خلاف مقصود العقد القائم على توزيع الربح بالنسبة. ولا يصح ضمان الربح؛ لأنه حينئذ ضرر بالعامل في المضاربة وضرر فاحش وهو مدفوع؛ ولأنه حينئذ يجب عليه رد رأس المال؛ لأن الربح فرض عليه مضمون ولا ربح إلا بضمان رد رأس المال، وهذا هو الربا المحرم؛ لأنه مطابق حينئذ للدين بفائدة، وهذا مانع مبطل للعقد.

وإذا صُحِّح العقد بإبطال هذا الشرط؛ جاز وصح؛ لأن تصحيح العقود المالية بإزالة المانع يدل عليه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة: 278)، فأمر بترك ما بقي من الربا ولم يأمر بإبطال أصل المعاملة، بل قال (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279)، فأبطل الله شرط الربا وأمر بأخذ رأس المال، وهذا يدل على عدم إبطال المعاملة كليا في صورة من باع ذهبا بذهب مع الزيادة في أحدهما، أو باع سلعة بثمن آجل بشرط الزيادة على الثمن في حال عدم الدفع عند حلول الدين. فأمر الله بالتوبة وأخذ رأس المال فقط وهو في الصورتين جار مع صحة الصفقة لإطلاق النص. وما ذهبت إليه هنا وفي غير هذا الموضع من الاجتهاد القائم على المقاصد وقواعد الشريعة ودلالات نصوصها مع اعتبار واقع الحال الذي نعيشه في هذا القرن، قد لا يروق لناسك في التقليد هاجر للنظر الفقهي، وحسبي أني بفضل الله قد فتحت بابا فتحه الله علينا بهذا الكتاب، سيكون له ما بعده بحول الله وقوته من تجديد في الفقه خصوصا ولهذا الدين عموما. والمضاربة تدخل في الأرض فلو دفع له مالا فاشترى به أرضا ليبيعها، أو بناها للبيع، أو للإيجار مدة معينة، أو دائمة ويديرها ولهما ربح ريعها، جاز كل ذلك. وما ارتفع من سعرها وسعر عقارها فمنه رأس المال للمالك وما فوقه ربح بينهما. فإن تراجع السعر فغطى رأس المال فهو للمالك، وإن لم يغط فهو خسارة عليه. ويجوز أن يزرعها ويبيع محاصيلها ثم يقسمان الربح، ويجوز أن يؤجرها بيضاء أو للزرع أو للبناء. والمضاربة عقد شراكة تجاري عام قائم على (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، فشمل هذه الصور وغيرها ما لم يرد مانع شرعي، والأصل عدمه. ويجوز أن يستثمر بالمال في الثروات الخمس عشرة وهي: الجوية، والبرية، والبحرية، والمائية، والجغرافية، والمعدنية، والذهب، والفضة، والنفط، والغاز، والحيوانية، والنباتية، والزراعية، والصخرية، والخشبية.

ففي الجوية بالنقل والتصنيع والإيجار والتوكيلات والتخليص والخدمات والتفويج، ونحو ذلك. وفي البرية بالإنشاءات والإعمار والنقل البري والتصنيع للوازم ذلك. وفي البحرية بالنقل البحري والتأجير والتصنيع والصيد والتصدير والاستيراد. والأحياء البحرية وثروات البحر المختلفة العشبية والنباتية والصخرية والمعدنية. وفي المائية بالتنفيذ والتعليب والتعبئة والطاقة والري. وفي الجغرافية بالسياحة والموانئ والمعابر والمضايق والمطارات والإنشاءات والإيجارات. وفي المعدنية بالتنقيب والتصنيع والتنقية والتجارة والاستيراد والتصدير والبحث. وفي الذهب تنقيبا وتصنيعا وسبكا وتشكيلا وبيعا وشراء وضربا وصياغة وصرافة. وفي الفضة كذلك. وفي النفط بحثا وتنقيبا وتنقية وبيعا وتصديرا واستيرادا. وفي الغاز بحثا وتنقيبا وتعبئة وبيعا. وفي الثروة الحيوانية رعاية وتنمية ومشتقاتها الحيوانية من الألبان والدهون والأثاث واللحوم والجماليات. وفي الثروة النباتية من تشجير وزينة ومعالجة وأدوات تجميل وزينة وعطور وأدوية. وفي الزراعية في الحبوب والبقوليات والخضروات والفواكه سلما وبيعا وشراء وزراعة. والصخرية تشكيلاً وبناء ومشتقاتها الإسمنتية والرخامية وأدوات الرفاهية والزينة والحماية. وفي الخشب قطعاً ونقلا وتشكيلا وغيرها. أما المضاربات في الأصول الإنتاجية فمنها ما سبق، ومنها الآلات الاستثمارية الإنتاجية كالمصانع وآلات النقل، ويكون بشراء مصانع أو آلات إنتاجية لاستغلالها، أو استئجارها، أو إيجارها، أو بيعها. أما في الاستهلاكيات الإنسانية من مأكل، ومشرب، وملبس، وآلات نقل، وترفيه، وزينة، وإلكترونيات، ونواتج النهضة؛ فتجري فيها عقود المضاربة بكل صيغ الاستثمار سلما

واستصناعا وإيجارا وشركة وغير ذلك. أما المضاربة في الأموال من نوع الحقوق فالتعاقد جائز مع جهات علمية لإصدارات معينة، أو شراء حقوق تأليف وطباعته مع إعطاء نسبة من الربح معينة دائمة أو مؤقتة للمؤلف، أو إنتاج أفلام، أو مواد إعلامية، أو تسويق. وفي الأموال من نوع المنافع والخدمات، فكافة الإيجارات، والعقود الوظيفية، والخدمات والصيانة، والتسويق، والتسهيلات، والحوالات، والإيداعات، والتأمين، وإدارة المرافق السياحية، والشركات، ونظم المحاسبات، وغير ذلك. فهذه أنواع المال الخمسة وفروعها، وتجري فيها عقود المضاربة بصيغها المختلفة، من سلم، وبيع، وشراء، وصرافة، وتحويلات، وإجارات، وشركات، واستصناع، ومرابحات، وكل بالشروط الشرعية المدلل عليها. ونفقات المضاربة تخصم من الأرباح من إيجارات وعمالة، ونقليات، وكل ما لزم لإنجاح المشروع التجاري مما هو معروف في السوق أو ثبت جدواه، ولو لم يكن معروفا؛ لأن الولاية على المال حينئذ ولاية نظر، فكل ما يضر بالمال يُدفَع، أو كان يضر بالأرباح أو يضر بالمضارب أو رب المال، فكله ضرر مدفوع. وتحميل المضارب مصاريف نفسه اللازمة للعمل ضرر فاحش عليه، فينظر فيما يتعلق بالعمل حُمِل من مال المضاربة، وما ليس له تعلق بالعمل كمرضه وشراء أدوية له فلا علاقة له بذلك إلا إن كان بسبب المضاربة كسفر إلى بلد فيه ذلك الوباء. أما مصاريفه الشخصية التي لا علاقة لها بالمضاربة فهي عليه. وأما مصاريف عمل رب المال كبنك مثلا فإن كان له تعلق بهذه المضاربة جاز؛ لإطلاق النصوص، والأصل عدم المانع. فإن خصم البنك نسبة معينة كمصاريف إدارية من رأس المال: فإن جرى بها عرف ولم تكن مجحفة جاز؛ لما قدمنا من إطلاقات وعموم النصوص والأصل عدم المانع، ولأن المعروف بين التجار كالمشروط؛ ولأنه مع عدم الإجحاف لا ضرر على طرف فصح؛ لعدم الضرر الفاحش؛ ولأن المصالح في التصحيح غالبة.

وإن شرط رب المال على المضارب أن الربح إذا كان كذا نحو عشرة بالمئة فهو لرب المال كله، وما زاد عن كذا فالزيادة للمضارب، فهذا شرط باطل؛ لأنه تغرير بالمضارب والتغرير الفاحش نوع من الميسر كبيع الملامسة والمنابذة. والعقد باطل يمكن تصحيحه بإزالة الشرط المبطل، فإن مضى في المعاملة رجعنا فيها إلى مضاربة المثل يحكم به ذوا عدل وخبرة مختاران منهما؛ لأن الله أجاز الإرجاع إلى المثل بحكم عدلين في قوله (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، فدل على اعتبار المثلية ودل على أنها تكون بحكم عدلين من الخبراء والعقود الباطلة إن تعومل بها، فإن أمكن تصحيحها ابتداء أو في الأثناء صحت، أو في الانتهاء فكذلك؛ لأن الضرر مدفوع بقدر الإمكان. ودفع الضرر عن المضارب العامل بتصحيح العقد بمثل أجره العادل، ودفع الضرر عن رب المال بتصحيح العقد بإزالة الشرط الفاسد المفسد، وإعطائه ربح المثل. ودليل تصحيح العقود أنه في الربا لا يأخذ إلا رأس المال (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279). فأسقط زيادة الربا الباطلة ولم يبطل عقد القرض بدفعه حالا بل إلى أجله؛ فإن كان حالَّا وهو معسر فإلى ميسرة؛ فدل على أن دفع الضرر عن الأطراف كلها بنظر مصلحي عادل أمر معتبر شرعا وقد تقدم بيان هذا. وإن شُرِطَ احتياطي يؤخذ من رأس المال بضابط مضبوط: إما على العمل فتؤخذ عن كل صفقة من صافي ربحها نسبة منه لوضعه في صندوق كاحتياطي. أو على الزمن فتؤخذ كل ربع سنة مثلا أو شهر أو ما يتفقان عليه ولو رأس كل يوم، فينظر في رأس المال في الفترة وربحه الصافي مخصوما منه ما اتفق عليه من المصاريف والنثريات المتعلقة بالعمل، فيؤخذ من صافي الربح نسبة معينة كرصيد احتياطي لمواجهة الطوارئ، فهذا الشرط إن رضي به المضارب العامل فلا مانع؛ لأنها عملية تجارية ركنها التراضي (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).

فإن كان لحماية رأس المال جاز أيضا؛ لنفس العلة، ولأن سلامة رأس المال مقدم على الربح، إذ الربح فرع عنه فلا يقدم عليه، ولعدم الضرر على الطرفين في هذا الشرط. ولأنه يخدم المصلحة التجارية من حيث الاستمرارية لضمان رب المال ما يسد خسارته؛ ولعموم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101) في كل مسألة لم يحكم الله فيها بالحكم المعين، والأصل عدم المانع، فمن ادعاه فدعواه خلاف الأصل. والاحتياطي ملك لرب المال والمضارب إن كان عن الربح في مضاربة بصفقات متعددة مستقلة كل عن الأخرى. أما لو كانت مضبوطة بأجل كعام فما جرى من الصفقات المستقلة لا يظهر استحقاق المضارب فيه إلا آخر المدة، فإن سلم رأس المال فالاحتياطي من الربح بينهما، وإن لم يسلم وفَّى منه وما بقي فلهما. وإن انسحب أحد المشاركين قبل نهاية المدة فليس له إلا حسابه إلى ذلك الوقت، وأما الاحتياطي فيجب فيه أحد أمرين: إما التبارؤ، أو الحساب بعد نهاية المدة. وهذا ما تقتضيه المنصوصات الأصول الكليات كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وقوله تعالى (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279). وصناديق المضاربة الاستثمارية بأنواعها من العملات، أو السلع، أو الأسهم، أو العقار، أو الإيجار جائزة على ما يتفق عليه أطراف العقد. وشَرْطٌ خلو عقدٍ من أحد الموانع الخمسة. وهو في العملات صرف، وفي السلع تقليب تجاري، وفي الأسهم إما عامة، أو شركات بعينها بأنواع العمليات التجارية، وفي العقار بالإنشاءات، وفي الإيجار بكافة عمليات التأجير العقاري والنقلي أو الوظيفي أو العمالي أو الآلي. ويجب أن يذكر في العقد كل ما جهالته توجب الضرر الفاحش أو التغرير او الخصومة؛ لأن دفع المفاسد واجب، وهذا منه. ولأن التغرير محرم وهو من الميسر والقمار؛ فوجب دفعه بالبيان الرافع له في العقد؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ويجوز دفع رأس مال المضاربة على أقساط؛ لأنها تجارة قائمة على التراضي، وهذا منه بشرط عدم الإضرار بالمضارب وإلا مُنِع. وفي نسبة الربح يجوز جعله تصاعديا للعامل بحسب تصاعد الأرباح والمبيعات، وإذا شرط وجب الوفاء به؛ لأنه جزء من العقد المتراضى عليه فيشمله عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). وحرم ضمان ربح معلوم مقطوع عند العقد بالنسبة، كأن يقول العامل للممول المضارب: أضمن لك عشرة في المئة على رأس المال، لخروج هذا عن التجارة القائمة على الربح وإمكان الخسارة إلى عدم الخسارة ولو خسر المضارب، وهذا ضرر فاحش على المضارب، والعقود لا تتضمن الضرر. ولأنه عند الخسارة يلزمه رد رأس المال وربحه المضمون، وهذا صورته قرض وفائدة عليه لا مضاربة على الربح والخسارة؛ فحرم. إلا إن كان الضمان لبيان الجدوى وندرة الخسارة؛ فإن وقعت الخسارة حكم بها لا بالضمان، وهو حينئذ تحفيز لا تغرير؛ لأنه قائم على دراسة صحيحة معتبرة في السوق أو في مثلها، والطارئ المؤدي إلى الخسارة خارج عن التفريط، وإذا شرط ضمان هامش الربح، فالشرط باطل، فإن مضيا في العقد كان على مضاربة المثل. لأن الرجوع إلى المثل عند التقويم معتبر شرعا (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95). ويجوز التقدير بالعدل عند عدم المثل لاعتباره في الحكم شرعا كخيار (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) (المائدة: 95). وربح الأرباح: إن كانت كل صفقة في المضاربة مستقلة عن الأخرى، فالأرباح ملكت بكمال الصفقة، فإن أضيفت على رأس المال الأصلي الذي دفعه طرف كانت رأس مال مشترك، فيملك المضارب من رأس المال ما وضعه من ربحه. وتقسم الأرباح عند الانتهاء بأن يأخذ العامل جميع نسبة ربح ماله، ثم يأخذ نسبته من رب المال الأصلي مقابل عمله.

هذا وجه، أو على حسب ما يتفقان حال إضافة الربح على رأس المال وتحويلها إلى شركة أموال؛ فيجوز أن يقسم الربح نصفين ولو تفاوتت الأموال لعلة عمل العامل، أو كان التفاوت لعلة نحو كون الشراكة مع رب المال الأصلي يمنح القبول في السوق نظرا لشهرته. وجوزنا ذلك لإطلاق النصوص في الحل التجاري، ولعدم أحد الموانع الخمسة، ولعموم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101) في كل مسألة غير منصوصة الحكم. ولأن العلة التراضي في التجارات، وقد وجد؛ ولعدم وجود مفسدة على طرف، فمن ادعى المنع لزمه نقض إعمال هذه الأصول في المسألة بما ينقل عنها. واشتراط تحمل العامل جزءا من الخسارة إن حصلت ضررٌ فاحش عليه؛ لأنه خسر من جهتين: الأولى عوض جهده المبذول في المضاربة، والثانية ضمان شيء من رأس المال لصاحبه يدفعه من ماله الخاص، وخسر رب المال من جهة واحدة هي من رأس ماله. والضرر الفاحش يجب دفعه على من وقع عليه، وهو أحد الموانع الخمسة للعقود. ولأنه لا ضرر ولا ضرار؛ ولأن الخسارة لم تكن بتفريط وتقصير فلا يضمن، كما لو حصل حريق عام. وعندي وجه آخر في جواز المسألة إن جرى السوق التجاري على التعامل بها بالتراضي؛ لعموم النص التجاري بالتراضي بشرط عدم إجحاف الشرط الجزائي في تحمل شيء من الخسائر؛ لأن الإجحاف ظلم محرم ومفسدة ظاهرة كثيرة، فيعمل بقاعدة (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)، ولا ضرر ولا ضرار، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح (¬1) كعلاج للطوارئ عند التعامل التجاري لتخفيف الضرر على المتضرر، ولأنه صلى الله عليه وسلم طلب إسقاط شطر الدين المؤجل وأمر بعد الإسقاط بتعجيله (¬2). فهذا الشرط المعتدل، أعني تضمين العامل، هو تعاون على تحمل النازلة، والتعاون محمود؛ ولعموم (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، ولأن رب المال محسن والمضارب محسن في عمله فيتعاونان في دفع الضرر إحسانا. ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 4063 عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

ولعدم ما يمنع منه شرعا صراحة؛ فإن نُصَّ عليه في العقد مع عدم الموانع الشرعية واعتدال الشرط كان جزءا من العقد الواجب الوفاء (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، ولعموم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101) في كل مسألة لم ينص على حكمها في التحريم أو الإيجاب، خاصة في البنوك؛ لأنها كالوسيط الناظر على أموال المودعين بالمصلحة، وهذه منها. فيشترط البنك على طالب التمويل الاستثماري بالمضاربة شرطا جزائيا بالعدل. وإذا دفع عميلٌ كمبيالة لبنك ليدفع له ما فيها بلا زيادة ولا نقص، ويتولى البنك تحصيل الكمبيالة في أجلها مع عمولته للوكالة في السداد والتحصيل؛ جاز. ولو عرض البنك على العميل أن يكون هذا المال رأس مال مضاربة بربح بينهما جاز، وتكون الكمبيالة كرهن في يد البنك. فإن حصلت خسارة فهي بينهما. هذا الأصل، إذ ليس للبنك ضمان جميع رأس ماله بواسطة الكمبيالة وتحميل المضارب جميع الخسائر؛ لأن هذا ضرر فاحش يجب دفعه ويغلب عليه الاستغلال والحيلة. والصحيح أن يجعل في المسألة عقدان: عقد مضاربة مستقل بتغطية ضمان الكمبيالة، وعقد كمبيالة مستقل يستوفى في حينه. فالعقد الأول يعود رأس المال للبنك والربح بينهما؛ لأن هذا عرف المضاربة، ولزومه كالشرط «والعادة محكمة»، (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6). والعقد الآخر يتعلق بالكمبيالة، فإن كانت في نفس أجل عقد المضاربة أو قبلها أو بعدها دفعت كاملة لصاحبها وليس للبنك سوى العمولة. وإنما تدفع كاملة لأنها حقيقة لم تدفع له أول مرة، بل دفع البنك له قرضا آخر كرأس مال مضاربة، ولا تعطى العين الواحدة حكمَ عينين متضادتين، فهي كرأس مال ملكٌ للبنك، وهي كدفع ما في الكمبيالة ملكٌ للمضارب، وهذا تناقض، ولا بد أن يدخل في معنى النهي عن بيعتين في بيعة لأدائهما إلى مقصود المعنى من التناقض في الأحكام والخصومة. ويجوز تحويل رأس المضاربة دينا بالتراضي ولو قبل تمام مدة العقد، وتحسب الأرباح حين فسخ المضاربة ثم يجعل رأس مالها دينا محضا بلا فوائد.

ولا مانع من تحويل عملية المضاربة إلى مرابحة إن كان في جميع رأس المال؛ لأنه حيئنذ يتعين الربح إن كان موقوتا بهذه الصفقة؛ فإن كان بالزمن فلا يتبين إلا في نهاية المدة. أما إن كان في بعض رأس المال فلا يعتبر مرابحة؛ لأنه لا يعلم الربح إلا ببيع كامل رأس المال وتَنْضِيْضِه -أي تحويله إلى نقد- إن كان العقد على هذه الصفقة فقط، فإن كان على مدة فلا يتبين إلا بعدها إلا إن فسخت المضاربة ووزع الربح المتبين بالتراضي. عقد الإجارة الاستثماري: هو عقد على المنافع، وسبق شيء منه. وركنه عاقدان ومعقود عليه من المنفعة، وعوضها، والتراضي. وما يجب في العاقدين من الأهلية: عقل، وبلوغ، ورشد؛ ليخرج المجنون والصبي والبالغ غير الراشد، لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). فَشَرَط لدفع مال اليتيم بلوغاً ورشداً. ومن الأهلية أهلية التصرف، وهي بثلاثة أمور: بملك، أو وكالة، أو نظر بولاية خاصة أو عامة. فالأولى كناظر اليتيم أو الوقف، والثاني كالقاضي يبيع مال المفلس. وأما المنفعة: فيشترط كونها معلومة يمكن استيفاؤها. وفي العوض -وهو الأجرة- كذلك. وشرط التراضي يخرج الإكراه لا الاضطرار؛ لأن هذا فعل مع كامل الإرادة بخلاف الإكراه الملجئ من آخر فترتفع معه حقيقة الإرادة والاختيار. ويشترط في عقد الإجارة خلوه من الموانع الخمسة: الربا، والعقد على المحرم، والميسر وهو القمار والتغرير، أو عقد تضمن ضررا فاحشا، أو اختل فيه التراضي. فأما الربا فيحرم تأجير عقار لبنك ربوي، أو تأجير موظفين له، أو استيراد لوازم خاصة به

بإجارة، أو الوظيفة فيه محاسبا، أو بيع نظام محاسبي له؛ لأنه في معنى النص «لعن الله الربا وموكله وآكله وشاهده وكاتباه» (¬1). فموكل الربا هو البنك، وآكله الجهة المتعاملة بالربا، وكاتبه هم جهات التوثيق كافة في البنك من محاسبين ومراجعين ومدراء وصناديق وصرافة ونحوهم. وأما بقية الأعمال والوظائف فيه فهي ممنوعة؛ لأنها تعاون على الإثم والعدوان على حدود الله القطعية. والتأجير لهم من هذا الباب. وعقود الصيانة: هي إصلاح لمحل المعصية، فحرمت، لأن الواجب في المعصية الإنكار باليد واللسان والقلب كما هو معلوم، وهذه نقضت هذا الأصل وغيره كقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وقوله (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17). ويحرم التقدم لمقاولة بناء منشأة البنك الربوي؛ لأنه محل معصية قطعية التحريم، وهي الربا. وإذا تأخر المستأجر من سداد ما عليه، فلا يجوز فرض غرامات عليه؛ لأنه من الربا. فإن كان معسرا أنظر (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280). وإن كان موسراً مماطلا، فلا مانع من عقوبةٍ للنص «مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته» (¬2). واستئجار النقود من ذهب وفضة لغرض صحيح معتبر لا أرى فيه مانعا، أما للحلية فجائز. واستئجار النقود الورقية الحالية لغرض صحيح نحو أخذ ورق عملات من جهة لعرضها للفرجة للهواة والسواح مثلا، فلا مانع إن جرى فيه نفع وربح، وليس من الربا؛ لأنه ليس بقرض ويردها له إذا انتهى العقد. ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

وتأجير محلات للصرافة جائز إلا إن تعاملت بالربا، وكذا لشركات التأمين. وتأجير الأراضي للاستثمار الزراعي جائز، ويكون بنقد أو جزء مما يخرج منها شائعا معلوما إن كان مزارعة، ويضرب للإجارة في العقار والأراضي أجل معلوم؛ لأنها تجارة متعلقة بالزمن. وعقود التأجير جائزة في كافة المجالات السياسية، والرسمية، والاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية، والصحية، والأمنية، والعسكرية، والفنية، والترفيهية، والدينية، وغيرها. ففي المجال الرسمي يجوز تأجير الأراضي لاتخاذها مقرات لمؤسسات الدولة إلا مؤسسة الربا. أو للسجون السياسية فيحرم تأجير عقار لها لغلبة الظلم. والتأجير لمقرات الأحزاب والجماعات وكافة أنشطتها التابعة لها جائز إلا لحزب مفسد في الأرض يتخذ المقر للتآمر والتخريب والعمالة، وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول مسجد الضرار، وهو مسجد ظاهره العبادة وباطنه الضرار (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (التوبة: 107 - 108). والتأجير للفعاليات السياسية والمؤتمرات عقارا أو أرضا أو مستلزمات إعلامية أو أثاث أو وسائل نقل وغيرها، هو جائز ما لم تكن للفساد في الأرض الظاهر، وكل الفعاليات والمظاهر السياسية مباحة على الأصل. والتعامل معها حينئذ مباح بالإيجار وكافة العقود المالية إلا ما منع لمانع من الخمسة. والتأجيرات المتعلقة بالمجال الديني الأصل جوازها، فيجوز تأجير مقر لتحفيظ القرآن، ولمسجد لضرورة لا على الدوام ككونهم مهاجرين في غير بلاد الإسلام. أما في بلاد المسلمين فيحرم استئجار مسجد، بل يجب توفيره واتخاذه على المسلمين، ويجوز شراء أرضه، ثم وقفها. والفارق أن الشراء ينقل فيه الملك بغرض جعله ملكا لله، بخلاف الإجارة فيبقى فيه الملك

لا لله، وهذا خلاف مقصود الشرع في المسجد (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن: 18)، فيجب أن تخرج عن الملك الخاص إلى الملك لله وقفا. وتأجير المصحف للقراءة فيه محرمة؛ لأن الإجارة بيع منفعة بعوض مالي استثمارا والمنفعة هنا هي تمكينه من تلاوة كتاب الله من المصحف، وهي منفعة واجب بذلها بلا عوض؛ لأنها تعبدية لله محضة كالصلاة (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 109)، ولأنه ليس من تعظيم شعائر الله بل الامتهان فيه أقرب (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32). أما بيع المصحف فجائز؛ لأن العقد على الورق والجلد والمداد والتكاليف. وبخلاف تعليم القرآن وعلوم الشريعة فإن الإعطاء مقابل التفرغ، وهو جائز بدليل أن من مصارف المال العام جزءا مخصوصا لله وللرسول وجزءاً في سبيل الله، أما الأول (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (الأنفال: 41). ولا معنى لها إلا شعائر الله وكتابه ومساجده وسنن نبيه. وأما الثاني فمن مصارف الزكاة (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهو كل ما لا يقصد به المعاوضة إلا منه، كطباعة المصحف وتعليم الكتاب والسنة والدعوة والجهاد (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: 41). والجهاد هو بذل الجهد في كل ما هو لله ودينه وشريعته بالأموال والأنفس، ولذلك كان حرب الله ورسوله في حد الحرابة في النص (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33) لا معنى له إلا محاربة دينه وشعائره ومساجده وكتابه وسنة نبيه. والاستثمار في الجوانب الدينية جائز إلا ما عاد على مقصود الدين بالإبطال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) (البقرة: 198).

فالعمل التجاري في الحج جائز، فيجوز العمل في عقود توكيلات الحج والعمرة ونقل الحجاج وتفويجهم، وخدمتهم إيجارا، ومضاربة، وشركات، وبيعا، وشراء في مجال الإنشاءات، والمقاولات، والنقليات، والإسكان، والغذاء، والصحة. وقولنا «إلا ما عاد على مقصود الدين بالإخلال أو بالإبطال» يدخل فيه النهي عن البيع والشراء في المسجد وتعليم الفرض القطعي العيني من قرآن وصلاة، ونحو ذلك. وأما تأجير كتب العلم الشرعي فيرجع النظر فيه إلى: هل تعود على مقصود الشرع من نشر العلم وتعظيمه بالإبطال أو لا؟ وفي المجال الأمني والعسكري يجوز عقود نقل السلاح والمؤن والجنود والمساكن إلا في نقل محرم لهم كخمر ودعارة، أو كانوا جنودا لدولة كافرة محاربة، فيحرم التأجير لهم ونقلهم، هذا في داخل دولة الإسلام لأنهم ممنوعون من البقاء فيها كقوات مسلحة؛ لأنه في معنى الاحتلال، فيحرم التعاون معهم أو التأجير أو التوريد أو الترفيه أو النقل، لورود الأمر بعدم قبول المشركين المسلحين داخل الدولة، ونزلت في ذلك مطلع سورة براءة (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 5). ولحديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (¬1). إلا لمواطن أصلي مسالم غير مسلم من أهل الكتاب، وتفرض عليه رسوم مواطنة باسم الجزية، أو أي اسم غيرها. وهي رسوم مواطنة؛ لأن أهل الإسلام يدفعون الزكاة. ولأن وجود قواعد عسكرية، أو قوات في العرف الدولي قديما وحديثا هو استضعاف للدولة، وانتقاص لسيادتها؛ ولأن الظهور على المسلمين محرم. ولا يكون إلا بدخول بلادهم، إذ لا ظهور بغير ذلك إلا فيما ساواه من الضرر (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وهذا تعليل لمنع وجود مسلح بمعاهدة داخل الدولة، أما خارجها فـ (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). وعقود نقل السلاح وتوريده لفتنة داخلية محرم. وإبرام عقود الإجارة في المجال التعليمي باق على أصل الإباحة ومشمول بعموم النصوص ما لم يعد على الشرع بنقض أو إبطال كمراكز تعليم حرية الردة والعلاقات الجنسية المحرمة والفكر الضال المبني على سفك الدماء واستباحتها أو السحر والشعوذة ونحو ذلك. وما عداه مما لا حرمة فيه جائز كتأجير المدارس، والمعاهد، والجامعات، والكليات، والوسائل التعليمية، وسائر عقود إنشائها وما يخدمها. وتأجير العقار للأعمال الفنية والإعلامية جائز، لأن الأصل الإباحة إلا إن كان لعمل ماجن، أو لقناة أو جهة إعلامية تعمل على نشر الرذيلة أو محاربة الأمة ودينها. والتأجير المنتهي بالتمليك جائز على كل وجه؛ لأنه تجارة وهي مباحة مطلقا (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29) إلا إن ورد مانع شرعي قطعي من الخمسة، ولا يوجد مانع في التأجير المنتهي بالتمليك من هذه الموانع. وهو عقد تجاري جديد يقوم على خدمة المصالح. وغلبة المصلحة للأطراف ظاهرٌ والتراضي موجود، والمفسدة نادرة أو منعدمة للطرفين؛ فما جاء من حرمها باستدلال معتبر، والمنع من ذلك استدلالا بكونها بيعتين في بيعة، وهو منهي عنه هو وهم؛ لأن مقصود بيعتين في بيعة هو دفع التغرير والجهالة؛ لأن البيعة الواحدة إذا ترددت بين بيعتين متناقضتين لا يدرى ما وجب منها؛ فيحرم. كبعتك أحد بيوتي هذه، ثم يوجبان العقد، ولا يدرى على ماذا، أو بعتك هذا أو هذا ثم يعقدان على ذلك. أو إن دفعت عاجلا فبكذا، وإن أخرت إلى شهر كذا فكذا، ثم عقدا. أما إن لم يكن جهالة أو تغرير فيجوز (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص: 27) فالخيار في زيادة المدة رفع الغرر.

فالإجارة المنتهية بالتملك، إما أن ينص على أنه بمجرد انتهاء المدة فالسلعة ملك له، أو فيدفع مبلغ كذا ويملكها، فالشركة ملزمة ببيعها له إن أراد، ولا جهالة في شيء من هذه العقود إلا إن كان ملزما بشرائها بقيمتها زمانا ومكانا بلا تحديد لسعر حال العقد، فهذا تغرير فاحش، فيحرم. وأما تخريجها على عقد جائز حتى تجوز فلا يلزمنا؛ لأن الأسماء والكيفيات ليست تعبدية لا يجوز غيرها. بل إنما جازت لموافقها أصول التجارة والبيع الشرعية؛ وخلوها عن الموانع. فأي عقد كان كذلك فهو شرعي. ومع هذا يمكن أن نقول تنزلا: هو عقد بيع مقسط. وأقساط الإجارة هي أقساط الثمن. هذا في صورة التمليك بمجرد الانتهاء. والإجارة هي بيع في أصلها. وإن كان بدفع مبلغ جديدٍ ليملكها رمزياً أو فعليا؛ فإن رضي بالعقد على هذا التركيب صح؛ لأنه إن كان رمزيا أو كان فعليا فهو عقد تابع، والتابع تابع ولا يستقل بالحكم. وإن كان بالخيار له والإلزام للشركة فهو كذلك. ولا يقال هو وعد وكيف يلزم؛ لأن الوعد بالشراء نوعان: أ- إن كان بعقد فهو ملزم وخرج من مجرد الوعد إلى العقد بالوعد فشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ب- أو كان بلا عقد لا ملفوظ، ولا عرفي، ولا مكتوب؛ فلا إلزام، ولا يعتبر مخلفا للوعد لخلوه عن مؤكدات تبين جديته فأصبح كاللغو، وقد وضع الله المؤاخذة عن يمين اللغو مع كونها أكثر من وعد غير مقصود على وجه الانعقاد، ويمكن تسميته وعد اللغو. ويمكن صياغة قاعدة جديدة «الوعود تلزم بالعقود أو العهود». ولغو الوعد معروف في العرف، أو القرائن. ولا يتخرج قول مالك في الوفاء بالوعد إذا ترتب عليه ضرر على الآخر على أي وعد، بل على ما إذا دل على كمال قصده فيه بعرف، أو قرينة، أو قصد عقد.

ولم يتنبه -فيما طالعت- باحثٌ على لزوم الوفاء بالوعد إذا كان في عقد؛ لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، فالعقد أخرجه من مجرد الوعد، بل ذهلوا عن إيراد هذا النص هنا، وهو محله لأن الوعود التجارية تصاغ الآن في عقود، ولهذا كثر خلاف التخريج في هذه المسائل. وتأجير الحقوق المالية كالعلامة التجارية أو الاسم التجاري أو الرخصة التجارية أو المهنية لا مانع في الشرع منه؛ لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وهذه كذلك، ولعموم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101) للمسائل غير المنصوص على حكمها في التحريم، ومن ادعى الحرمة فقد كلف عباد الله بلا دليل. وأخذ مقابلٍ على الكفالة أو الضمان الأصل إباحته، والأصل عدم المانع، أما حديث «من شفع شفاعة فأخذ عوضا فهو سحت» فلا يصح، وتصحيح الألباني له ضعيف. ولعموم (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا) (النساء: 85) والنصيب لفظ واضح يشمل الأجر والأجرة، أو العوض أو الإكرام، ولو أراد الأجرة لقال «يكن له أجر». ثم لو سُلِّم فالكفالة والضمان ليست شفاعة، فهما خارجَ محل النزاع. والاشتراك في شراء الخدمات هو من نوع الإجارة المباحة. هذا هو الأصل. فدفع مشترك مقابل خدمات شركة طبية، أو خدمات طرق، أو خدمات صيانة مقابل ما يتفقان عليه من الخدمات والميزات كالفحص الدوري الصحي، أو الميكانيكي، أو إسعاف من تعطلت سيارته في مكان منقطع بالوصول إليه ونحو ذلك فهذا أصله الإباحة؛ لأنها أصبحت من عموم التجارات فشملت بعموم النص (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وأما عقود خدمات البنوك فالكلام على ما تبقى منها سيأتي بعد قليل. وصيانة العين المستأجرة على المالك، وطروء عطل حال الإجارة يكون على المالك إلا بالتفريط الظاهر، أو ما جرى العرف والعادة التجارية على كونه على المستأجر بشرط عدم معارضة دليل ظاهر. والأجير المشترك ضامن، وقد فصلنا هذا في الفقه الوظيفي.

السوق التجاري

ومزاولة الوساطة التجارية بأي صيغة استثمارية لم ينقلها عن أصل الجواز دليل صحيح صريح. - السوق التجاري: والسوق التجارية أقسام هي: السوق العرفي: وهو التجمع المكاني لعملية البيع والشراء السلعي. والسوق العام: وهو ما يشمل كافة الأنشطة التجارية في مكان معين. والسوق الوطني: وهو ما يشمل كافة الأنشطة التجارية في بلد معين، وقد يطلق على النشاط التجاري في السلع المصنعة محليا. والسوق الدولي: وهو ما يشمل كافة الأنشطة التجارية على المستوى الدولي. وللسوق أحكام خاصة راجعة إلى الحفاظ على مصالح الخلق، وقوة الشراء والطلب والحركة التجارية، وما يترتب عليها من مصالح عظيمة، فواجب عموما على الدولة الرقابة والتفتيش على السوق؛ لأن هذا خادم للمصالح العامة ودافع لمفاسد الإضرار بالناس وحركة التجارة. وقد كان صلى الله عليه وسلم يمر بالسوق (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان: 20). وقد يفتش على السلع كما حصل مع صاحب الطعام؛ إذْ أدخل يده فيه فوجد أسفله مبلولا، فقال صلى الله عليه وسلم «من غش فليس منا» (¬1). ونهى عن البيع على أطراف السوق حتى يحوزه التجار إلى رحالهم (¬2)، لأن ذلك يؤدي إلى وجود سوق ثانوي يؤثر على حركة السوق الأصلي، هذا ما أراه تعليلا للحديث ومن جعل علته أن الحيازة لأجل القبض فقد أبعد؛ لأنهم قد قبضوا في مكان البيع ولم يبق سوى النقل إلى المكان المخصص من السوق وهي الحيازة المقصودة في الحديث. والله أعلم. وفي هذا دفع لما يسمى «السوق السوداء» لتأثيره على الحركة التجارية واليد العاملة ووفرة ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

السلع؛ كونه يعتمد على الفردية، والبعد عن العرض في السوق، وهذه مفاسد معتبرة، فدفعها الشرع. وحرم تلقي الجلب (¬1) لما فيه من الخروج عن السوق فيضر به من حيث ورود السلع ووفرتها ومن حيث السعر، واحتكار السلعة بدلا عن عرضها العام في السوق المؤدي إلى زيادة العرض والطلب. ويؤدي ذلك إلى بطالة اليد العاملة تدريجيا؛ لعلة قلة ورود البضائع والنشاط التجاري إلى السوق العام، وقلة العرض والطلب ويؤثر ذلك على المعيشة والوضع الاقتصادي العام. ونُهي أن يبيع حاضر لباد (¬2)، دفعا للاحتكار، وتخزين السلع، ورفع الأسعار. وكل ما يخدم مصلحة السوق وحركة التجارة وتشغيل اليد العاملة أمر مصلحي عام، والمصالح جاءت الشريعة لرعايتها. وعلم التسويق والإدارة التجارية وكل ما تعلق بها من الوسائل الخادمة لهذه المصالح، فهي مطلوبة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. - خدمات سوق المال في البنوك عقود الخدمات والاستثمار الجارية في البنوك الأصل فيه الإباحة؛ لعموم (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). وهذه العمليات تجارة، فشملها أصل الإباحة، ولا يحرم شيء من عمليات البنوك إلا ما كان فيه أحد الموانع الخمسة. وهي عقود الربا وعقود السلع المحرمة، وعقود الميسر ومنه القمار والتغرير وعقود جرى فيه اختلال التراضي، وعقد اشتمل على الضرر العام على السوق أو الديانة أو المكارم الإنسانية. فالبنوك الربوية يحرم التعامل بوجه معها؛ لأنها قائمة على أساس قطعي البطلان شرعا ومعلوم الحرمة بالضرورة الشرعية. ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

وكل سلعة محرمة من خمر أو خنزير أو ميتة أو دعارة أو أصنام معبودة أو دم يحرم التعامل فيها بعقد بيع أو شراء أو استيراد أو تصدير أو عقد صناعي أو سلم أو مضاربة أو إيجار أو شركة أو إنشاء أو إعمار أو نقل أو صيانة أو مقاولة أو اعتماد مستندي أو توكيل أو خصم أوراقه كالكمبيالات أو تحويل أمواله المعلومة أنها لذلك، أو في الصفقة أو خطاب ضمان أو تمويل أو تشغيل. وتحرم هذه العمليات إن اطلع البنك على حقيقة الصفقة، فإن لم يطلع أو لم يكن مخولا كتحويل مال أو خصم شيك فالأصل السلامة. وتحرم هذه العقود إن اشتملت على التغرير والجهالة الفاحشة، أو الضرر العام كشراء سلاح في فتنة وتمويل ذلك بما يزيدها. ويجوز عمل سائر العقود والصيغ والخدمات غير ذلك فمنها: 1 - فتح حساب جار للعميل وأخذ عمولة للبنك على ذلك أو الاكتفاء بالمضاربة لصالح البنك بالمال مع ضمان رده عند السحب، أو يجمع بين العمولة والمضاربة. والأصل في الوديعة حفظها، والبنك قائم بذلك. وهذا الأصل هو الفرض الشرعي (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، والوديعة أمانة فيجب أداؤها إلى أهلها، ووجوب الأداء أبلغ من مجرد الحفظ لاشتماله عليه؛ لأنه إن لم يحفظها فلم يؤدها بل ضيعها وخانها، وكل استعمال ينقض أصل الحفظ والأداء فهو خيانة محرمة. وقولنا «ينقض أصل الحفظ والأداء» يشمل إعارة الوديعة، أو استعمالها بما يضر. وكل استعمال للوديعة يُعَدُّ تعريضاً لها لعدم الحفظ، إلا في ما لا يتعين، وهي النقود الورقية. ولا يجري هنا الخلاف القديم أنها تتعين؛ لأنه جار في النقود من الذهب والفضة؛ لأنها تتعين بالنظر إلى معدنها، ووزنها بخلاف العملة الورقية الآن فلا نظر لذلك. فإذا استعمل البنك ودائع العملة الورقية في تغطية معاملاته المالية فلا حرج؛ لأن استعماله لم يعد على أصل الحفظ والأداء بالإخلال ولا الإبطال.

فإن شرط عليه العميل عدم استعمالها ألزمه البنك باستئجار خزينة خاصة، فإن أبى امتنع البنك عن الإيداع، وهذا كله احتياط، وإلا فالشرط لاغ لتعذر عدم استعمالها مع خلطها بأموال المودعين عموما. والشرط المتعذر لاغ؛ لأنه ضرر فاحش على العقد، فيدفع. وأما الودائع الاستثمارية فهي بحسب عقد الاتفاق، وتجري عليها عقود المضاربة الشرعية. وقلنا «عقود» بالجمع؛ لأن صيغها متعددة. ويجب ذكر ما لكلٍّ من الأرباح بالنسبة الشائعة، وينص على ذلك في العقد إلا إن جرى عرف البنك على عدم النص، وعلم القدر بالعرف التعاملي الجاري صح. وإنزال الراتب على البنك خدمةٌ يَخْصُم البنك عوضها منه، وهو أجير، أو وكيل بأجرة. وخطاب الضمان الذي يصدره البنك لجهة تطلبه جائز، ويجرى فيه حكم الضمان، وللطرف المضمون له الرجوع على البنك أو العميل بحسب الاتفاق أو العرف الجاري. وللبنك أخذ رهون أو ضمانات على العميل طالب خطاب الضمان. ويجوز أخذ معاوضة على العملية بحسب الاتفاق؛ لأنها مقابل العمل، وهو القيام بتوفير غطاء ضامن، ولا دليل على الحرمة أو المنع حتى في صورة ضمان الأفراد المعروفة في الفقه. والاعتماد المستندي عملية تجارية يشملها (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وسبق ماهيتها. والأجرة فيها مقابل العمل من مراسلة ومطابقة وتوثيق وإصدار لا مقابل القرض إن حصل في بعض الصور. وخصم الكمبيالة لا يُخَرَّج بأنه قرض والبنك أخذ عليه فائدة، بل أخذ الأجرة مقابل مجموعة من الأعمال الإدارية، والوكالة في قبض دين الكمبيالة من الآخر في حينها. وليست من شراء الدين، أو بيع الدين بالدين على ضعف الحديث بل أجرة على وكالة قبض دين في وقته، وقبول إعطائه حالا بضمان.

فالمبلغ المعطى للعميل من البنك هو دين إلى أجل بضمانِ شخص آخر هو مصدر الكمبيالة. والإحالة على سداده في شهر كذا من حساب الكمبيالة عملية إحالة تتضمن نفقة ومصاريف هي ما يدفعها العميل لا أنها ربا على الدين. وقد جاز «ضع وتعجل» (¬1). وهذا مثله من وجه أن البنك وكيل لِمُصْدر الكمبيالة، فيده كيده؛ لجريان العرف التجاري على أن البنك وكيل التجار في القبض والإقباض ويأخذ أجره على ذلك، فأحاله مُصْدِر الكمبيالة على وكيله، وهو البنك، ففاوضه البنك على شرط: ضع من الدين وتعجله الآن. ودفعه من ماله لا من حساب مصدر الكمبيالة بضمان إلى الأجل؛ فإن أمكن رجوع البنك على الأصل في حين أجل السداد وإلا استوفى دينه من ضمان العميل وكان الأجر مقابل هذه العمليات الكثيرة والشديدة الدقة، أو مقابل التعجيل بوضع شيء من الدين، وهو ملك لمصدر الكمبيالة، ويجعلها له أجرة على وكالته في الدفع. وعلى كل حالٍ فلسنا مضطرين إلى هذه التخاريج على وضوحها إلا تنزلا، وإلا فالأصل الإباحة في العقود التجارية ما لم تشتمل على محرم، ولا اشتمال للعقد على بعض ذلك إلا بتكلف مع إمكان تخريجه على ما يبيحه. وما أجاز أولى مما منع؛ لأنه الأصل. وخصم الشيكات مع عمولة عليها جائز، ولا أعلم فيه خلافا، وتظهيرها لآخر لا حرج فيه؛ لجريان العرف التجاري بذلك (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199) بشرط معرفة حقيقية للتظهير ومصدره. وأما السندات فهي وثيقة على دين في ذمة آخر؛ فإن كانت شروطها كالكمبيالات فهي في حكمها. ومن باع سندا أو كمبيالة قابلة للبيع لآخر، وأمكن تظهيرها، أو توثيق ذلك وأعطاه ما فيها مع خصم أجرة المتابعة فلا أرى في ذلك مانعا، وحديث بيع الدين بالدين لا يصح حجة لشدة ¬

(¬1) - وقد استدللنا على جوازه بحديث أخرجه البخاري تقدم تخريجه.

ضعفه، وعلى فرض صحته فهو على من باع دينا في ذمته لصاحب الدين إلى أجل مع زيادة ثمن، فهذه حيلة للربا. أما لو أعطاه ما فيها كاملا أو زائدا فلا كلام في صحته، وهو محسن حينئذ قصد الإرفاق والبر، وهو أمر من مطلوبات الشرع. ومثله بيع تذاكر طيران أو نقل بحري أو بري لم يحن موعد سفره لآخر بسعر أقل أو مساو أو أكثر عاجلا ومن ادعى المنع لزمه الدليل. وخدمات الفيزاكارت إن كانت مع خلو الرصيد فالأجرة المأخوذة هي مقابل الضمان والتوكيل لا مقابل دين الدفع للآخر، أو كانت برصيد متاح فالأجرة مقابل توكيل بالدفع، فهي أجرة على الوكالة. - حكم التطهير والفرق بين العقد المحرم لأنه على محرم قطعي والعقد المباح على مباح مع من أكثر ماله حرام والمساهمة في شركات أو جهات تتعامل بالربا محرم، وحيلة التطهير لا ترفع الحرمة، وهي التصدق بمثل نسبة الربا؛ لأن التطهير مفروض شرعا لتائب عن الربا لا مستمر فيه؛ فلو طهر مع عدم توبةٍ وسحب رأس ماله، فالتطهير عناد وإصرار على المعصية، وهو اسم يدل على النجاسة، والعائد المستمر في النجاسة مرتكب لمحرم موجب لعذاب القبر ولو تطهر مع إصراره على تنجيس نفسه وعناده بهذه المعصية (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135)، (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279). وأدلة القول بالتطهير لا تخرج عن التكلف، أو الاستدلال بغير محل النزاع، أو بقواعد مقولة في معاملة من أكثر ماله حرام. وإبطالها أن معاملة من أكثر ماله حرام محل الخلاف فيها بأن يكون العقد معه على مباح قطعا، فيبقى هنا النظر إلى أصل ماله من أين اكتسبه، فإن كان بحرام أو شبهة أو غيرها فقد تحرم معاملته، وقد تجوز خلاف بين العلماء. أما المعاملة بعقد محرم قطعا فهي محرمة قطعا، ولو مع من رأس ماله كله مباح، فافهم هذا الفارق.

والمساهمة مع شركات الربا هو معاملة بعقد حرام قطعا وهو عقد الربا بغض النظر عن ما كان عليه أصل ماله قبل العقد: هل من حلال أم من حرام؟ فالنظر الفقهي هو في نوع عقد المعاملة مع من رأس ماله فيه حرام أو حلال كله. فإن كان بعقد حرام كالربا والدعارة مع من رأس ماله حلال أو فيه حرام فهذا عقد قطعي التحريم بالنظر إليه لا بالنظر إلى ما كان عليه مال الآخر. فإن النظر في مال الآخر أصله إنما هو من باب الورع لا من هذا الباب. وقد أباح الله معاملة اليهود والنصارى والمشركين ولا شك في وجود شبهة في أموالهم، ولم تبن الأحكام الشرعية إلا على النظر في نوع عقدنا معهم، هل هو حلال أم حرام؟ لا بالنظر إلى ما في أموالهم من الحرام والشبهة. وبهذا يعلم الخطأ الفقهي الفادح في فهم القواعد وتنزيلها لمن قال بالتطهير. ولو جاز هذا العقد ثم تطهيره لجاز على تجارة مشتركة فيها عقود حلال وحرام كالدعارة ثم تطهير ما يتعلق بها، وتجارة الخنزير ثم خصم ما يتعلق بها، والاشتراك مع شركة لها فروع: منها الحلال ومنها حرام كصناعة الخمر والإباحية والمجون ثم يطهر المشترك ما أتى من الخمر وغيره من قواطع المحرمات، وهذا لم يقل به عالم أو يجيزه. ودعوى عدم تركها للفسقة هو كدعوى التكليف بالحرام لمنع استيلاء المجرمين على الحرام، وما فاعل الحرام إلا عاص ولو نوى الخير. والمقاصد الحسنة لا تبرر وتجيز الأعمال المحرمة بدليل حديث السفينة (¬1). وإلا لجاز الاشتراك في شركة حبوب وأدوية وخمر ودعارة ثم تطهيرها وكفالة اليتامى بها، وهذا إن لم يكن عقدا حراما قطعيا -لأنه على محرم قطعي ومباح قطعي- فلا ندري ما المحرم. وعقد المرابحة للآمر بالشراء ملزم، لا لأنه وعد يترتب على خلفه ضرر بل لأنه وعد لزم بصيغة عقد، فدخل في عموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

وللعميل أن يطلب من البنك شراء سلعة للبنك على أن يبيعها له بآجل مع زيادة في السعر مرابحة، ويقوم العميل باختيار السلعة، ومناظرتها كوكيل عن البنك، ثم أخذ الأوراق من البنك وإبرام البيعة كوكيل في القبض عن البنك، ويبيعها لوكيله. هذا على التنزل في التخريج، وإلا فهو عقد تجاري مباح غير مشتمل على مانع شرعي. ودعوى عدم القبض من البنك وبيعه قبل القبض مردودة بضعف حديث اشتراط القبض، ولا يثبت القبض في نص صحيح إلا في الربويات الست، فلا يلزم الناس بالتكليف مع براءة الذمة منه إلا بصحيح صريح لا معارض له معتبر. وقد تقدم بيان مسألة القبض وتحقيقها. ولو سلم ذلك لجاز تخريجا على أن البنك وكل العميل. أما الرؤية فالمواصفات كافية لدقتها، ورؤية العميل كافية؛ لأن مقصودها له، والعمل بالمقاصد هو منهج الشرع على أن العميل وكيل البنك في القبض والرؤية سداً للباب. وهذا مع التكلف في النظر والخروج عن التيسير (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). وإلا فالأصل ما قدمنا من الإباحة إلا بمانع ظاهر لا متكلف. وعقود التمويل الاستثمارية في البنوك مضاربة، جوازها ظاهر وقد سبق. ومنه التمويل التشغيلي باستيراد البنك مواد للعميل ثم تأجيرها منه مدة يتم فيها تقسيط كامل رأس المال والربح، ثم تعاد للبنك، أو يبيعها للعميل بعقد مستأنف أو بنفس العقد إن كان شرطه الانتهاء بالتمليك، وهذا جائز، ولا مانع شرعي معتبر فيه. أما سوق الأوراق المالية «البورصة» ففي معاملاتها كثير من الاختلاف الفقهي المعاصر والأصل عندي في جميع معاملاتها الجواز إلا ما منع منه أحد الموانع الخمسة المتقدمة. وبيع ما لم يقبض، وكذا بيع ما ليس عندك على تقدير صحة الأحاديث؛ فالعلة المقصودة منهما حفظ الأموال للناس وحقوقهم. فإذا كانت المعاملة مضمونة الدفع والتسليم في البورصة فسواء كانت مقبوضة أو ليس عنده، فهي جائزة على الأصل الكلي في الإباحة.

والسمسرة جائزة، ويضبطها الموانع المتقدمة. والواجب شرعا إنشاء سوق مالية إسلامية موحدة؛ لأنه من أعظم القوة في هذا العصر، وطلبها -أي القوة- من أعظم المصالح الخادمة للإسلام والمسلمين. وما جاء الشرع إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد. وقد تقدمت أحكام السندات والكمبيالات والأسهم (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «أما سوق الأوراق المالية» فمن ضمن قرارات المجمع الفقهي الإسلامي للرابطة -مكة- (1/ 30) قرار رقم (30) (1/ 7) حول سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد. وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)، وما يعقد فيها من عقود: بيعًا وشراء على العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجَّل، وما كان منها على مؤجَّل. كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها. فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فهي: أولاً: أنها تقيم سوقًا دائمة، تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة، على الأسهم والسندات والبضائع. ثانيًا: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية، والتجارية، والحكومية، عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع. ثالثًا: أنها تسهل بيع الأسهم، وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها، لأن الشركات المصدرة لها، لا تصفي قيمتها لأصحابها. رابعًا: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم، وسندات القروض والبضائع، وتموُّجاتها في ميدان التعامل، عن طريق حركة العرض والطلب. (ب) وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي: أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق، ليست في معظمها بيعًا حقيقيًّا، ولا شراء حقيقيًّا، لأنها لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعًا. ثانيًا: أن البائع فيها، غالبًا يبيع ما لا يملك، من عملات، أو أسهم، أو سندات قروض، أو بضائع، على أمل شرائه من السوق، وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم. ثالثًا: أن المشتري فيها غالبًا، يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضًا لآخر قبل قبضه، وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشترى الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير، على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تمامًا. رابعًا: ما يقوم به المتمولون، من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون، على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج. خامسًا: أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة، لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليًّا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع، أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها، وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعًا، لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرًا سيئًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددًا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضًا في سوق البضائع. ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلاً كبيرًا بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة، من تاريخ العالم الاقتصادي، ضياع ثروات ضخمة، في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد، حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم، طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، وبوقت سريع، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية. ولذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) وما يجري فيها من عقود عاجلة وآجلة على الأسهم وسندات القروض، والبضائع والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي: أولاً: أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة، يتلاقى فيها العرض والطلب، والمتعاملون بيعًا وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع، ومن هو محتاج إلى الشراء. ولكن هذه المصلحة الواضحة، يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة)، أنواع من الصفقات المحظورة شرعًا، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجرى فيها، كل واحدة منها على حدة. ثانيًا: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع، التي يجري فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعًا، هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودًا على محرم شرعًا، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع، فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه. ثالثًا: أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات، حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعًا، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرَّم شرعًا، كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعًا وشراء. =

العقود الرياضية والسياحية والمزاين: والعقود الرياضية استثماريةٌ جرى عليها التعامل، فجازت على الأصل العام. ¬

= رابعًا: أن العقود العاجلة والآجلة، على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعًا، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم. خامسًا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعًا؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك اعتمادًا على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعًا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع، حتى يَحُوزَها التُّجارُ إلى رِحالِهم. سادسًا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين: (ج) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد. (د) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها- وهي في ذمة البائع الأول- وقبل أن يحوزها المشتري الأول عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه. وبناء على ما تقدم، يرى المجمع الفقهي الإسلامي: أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية، ألاَّ يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة، تتعامل كيف تشاء من عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أو محرمة، وألاَّ يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعًا، ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين، لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام: 153). والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز. نائب الرئيس: عبدالله عمر نصيف. الأعضاء: عبدالله العبد الرحمن البسام، صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، محمد بن عبدالله بن سبيل، محمد محمود الصواف، حسنين مخلوف (غائب)، مصطفى الزرقا، صالح بن عثيمين، محمد سالم عدود (غائب)، محمد رشيد قباني، محمد الشاذلي النيفر، أبو بكر محمود جومي، عبدالقدوس الهاشمي الندوي، محمد رشيدي، اللواء محمود شيت خطاب (لم يحضر)، أبو الحسن علي الحسني الندوي (لم يحضر)، مبروك العوادي (لم يحضر). مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي: محمد أحمد قمر.

وشراء اللاعب لموسم معين بأجر معين إجارة؛ لأنه عمل بزمن. ولا يشترط الفوز؛ لأنه غير منضبط، فإن شرط فالعقد باطل؛ لأنه شمله مانع التغرير والجهالة كاشتراط الشفاء على الطبيب. ويجوز مع الإجارة المعينة التراضي على تحفيز مشروط في العقد عند الفوز، وهي جعالة. وما يدفع لفوز أحد الفريقين عقد جعالة مباح. والعقد على البث الحصري للفعاليات عبر أي وسيلة إعلامية جائز؛ لأنه تجارة معتبرة في العرف التجاري العالمي الآن، فشملها الحل (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29). والعقود الفنية المسرحية والدرامية كذلك إلا إن اشتملت على محرم. وكذا العقود السياحية وإدارة الفنادق على أصل الجواز إلا في محرم كتقديم الخمر والسياحة الجنسية. وشراء الإبل في أسواق مزاين عقد تجاري مقصود الربح جرى عليه التعامل، فشمله (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وكذا (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، ويرجع التحريم إلى شيء آخر هو الإسراف والتبذير أو الفخر والخيلاء، وكذا يقال في شراء الطيور. ويجري مثله في عقود المزاد أو البيع على أرقام مميزة للتلفونات والسيارات. فإن كانت للتجارة جازت بهذا النظر، أما بالنظر إلى من يشتريها فإن كان له مقصد صحيح من تجارة جاز، أو بلا معنى سوى الفخر والخيلاء صارت من الكبائر، فإن لم يكن ذلك فهي سرف وتبذير منهي عنه (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26 - 27).

النظام المالي الثالث: نظام الحماية

النظام المالي الثالث: نظام الحماية نظام الحماية المالية نظام راجع إلى إقامة المقصد الشرعي «حفظ المال». أنواع الحماية المالية: وتتنوع الحماية إلى حماية تعاقدية، وقضائية، ومدنية، وتوثيقية، وحماية ضد الطوارئ، وحماية إصلاحية. أما التعاقدية فَشَرْطٌ كمال الأهلية للعاقدين؛ فلا يبيع مكره، ولا ومجنون، ولا صبي، ولا غير راشد. ولا يباع بعقد تغرير أو جهالة فاحشة، أو عقد فيه ضرر عام أو غش وخداع وقد مرَّت. وأما الحماية القضائية: فلا تملك الأموال إلا بالإثبات والبيانات العادلة «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (¬1). ويُلْزَم المختلس والغاصب بالرد والضمان، وللقاضي التعزير، والسارق إن ثبتت جنايته بشروطها ووصل إلى الحاكم أقام عليه حد السرقة، وكذا الناهب بقطع الطريق، والحجر على السفيه والمفلِسِ، والنظرُ لأموال اليتامى والقُصَّر. وأما المدنية فمنها: حفظ اللقطة، وتحريم الغصب والنهب. أما التوثيقية فمنها: كتابة الديون، والرهن، والضمان، والكفالة، والإشهاد، وتوثيق العقود. وأما الطارئة: فالرد بالعيب، ووضع الجوائح، وفصل نزاع المتعاقدين. أما الإصلاحية: فتحريم الإسراف والتبذير، ووجوب حفظه بإصلاحه وإدارته لا بكنزه. فلنتكلم على مهمات الباب بدءاً بالحجر على السفيه فنقول: - الحجر: أما الحجر على السفيه فأصله النص (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

والسفه هو عدم الرشد في التصرف المالي، ولا يقترن بالبلوغ، فقد يبلغ غير راشد ماليا. وفرض لذلك اختبار الرشد لليتامى حين البلوغ؛ فإن ظهر الرشد دفع له ماله وإلا انتظر (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). والحجر على السفيه نوعان، فمنه مدني: فيمنع من تمكينه على إدارة مال حتى مال نفسه. وقضائي: وهو بحكم القاضي إن استدعى الأمر ذلك. والأمر في المنع مطلق (وَلاَ تُؤْتُوا) ليعم المنع قضائيا أو مدنيا، فإن لم يتم المنع إلا بالقضاء رفع. والأموال التي لا تُدْفع للسفيه هي: ما كان معتبرا تقوم به أمور الحياة، ويؤخذ هذا من (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)، أي: تقيم حياتكم وشؤونكم، فخرج بهذا الوصف الأموال التي لا شأن لها عرفا. وقلنا «عرفا» لأن مرد معرفة مقدار المال ونوعه الذي تقوم به الأمور راجع إلى العرف (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6). ولا بد من معرفة العدول العارفين المشهود لهم بالمعرفة، بالاستفاضة والشهرة أو بقبول قولهم في ذلك؛ لأن المسألة هنا حكم فـ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ). ومن النص (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5)، يفهم من هو السفيه وما أحكامه. فتعريف السفيه المقصود في النص هو: كل من في يده ما يقيم به حياته من المال ولم يقمها؛ لإهمال، أو إتلاف، أو إنفاق في غير نفع. فقولنا «من في يده .. الخ» لم نقل من يملك، لأنه قد يكون في يده من مال غيره تجارة كمضاربة. وقولنا «ما يقيم به حياته»؛ ليخرج إن كان في يده مال قليل لا يقيم به حياته وهو الفقير والمسكين ونحوهم.

أو كان في يده مال كثير لكنه لا حق له في إقامة حياته به؛ لأنه مملوك لغيره وديعة أو أمانة. واخترنا لفظ «يقيم به حياته» لأنه مأخوذ من النص (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)، أي: ما تقومون به في الحياة. ولا يقوم الإنسان إلا بمال معتبر، والمال الذي تقام به الحياة غير المال التي تقوم بها الأرزاق المعيشية والكسوة ونحوها فاستثناها الله؛ لأنها ضروريات (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). وقولنا «ولم يقمها لإهمال» أي: أهمله فلم يحفظه حتى هلك، أو ضاع، أو انعدمت فائدته. وقولنا «أو إتلاف» كأن تصرف فيه بما يتلفه من الاستعمالات غير الآمنة. وقولنا «أو إنفاق في غير نفع» وهو كل ما لا يعتبر منفعة معتبرة في الحياة. وهي المنفعة التي وضع لها هذا النوع من المال. وهي «قياما» أي إقامة الحياة شخصية، أو مجتمعية، أو أكثر من ذلك. أقسام الناس في إدارة المال: والناس في المال أربعة أقسام: فمنهم راشد أمين، ومنهم راشد غير أمين، ومنهم سفيه أمين، ومنهم سفيه غير أمين. والخلل في إدارة الأموال يأتي من هذه الطرق. فالرشد هو القوة والخبرة على إدارة المال، والأمانة عدم الخيانة. وهما أُولى صفتين للتعاملات الولائية المالية (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص: 26)، (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55). فالحفظ عدم الخيانة، والعلم هو الرشد وعدم السفه. وأقبحهم السفيه غير الأمين، وأفضلهم الراشد الأمين. ويليه الأمين غير الراشد في إدارة المال وحفظه، ويليه الخائن الراشد؛ فهذا يدير المال الذي في يده من حق غيره بالرشد لما يصلح لنفسه ولا يصلح للناس.

ومنهم الولاة المختلسون والغَالُّون والذين كونوا ثروات لأنفسهم بخيانة أموال في أيديهم للغير، فهذا راشد ماليا غير عدل بل فاسق مفسد. وأما السفيه الخائن فيخون ما في يده ولا ينتفع به لشخصه، وهو في الإثم أقل من السابق؛ لأن الأول أصلح حاله المالي فجمع ثروة من الإفساد في مال الغير، فعمل على خلاف ما هو يستطيعه من إصلاح المال بحسب العقد بخلاف السفيه الخائن فلا يستطيع أصلا إدارة المال، فالمال ضائع على كل حال، وعلى من دفع له المال إثم. أما الأمين غير الراشد فلا يُمَكَّن من إدارة الأموال، لكن يمكن من الرزق المعيشي فيها بنحو وظيفة يستطيع عملها مناسبةً له غير خارجة عن قدراته. وأما الأمين الراشد فهو المقصود شرعا أن يُولَّى في إدارة الأموال وحفظها. والنص منطوقا ومفهوما يشمل التعامل مع جميع هذه الأصناف (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). فالراشد العدل يؤتى الأموال حفظا وإدارة، والسفيه الخائن لا يعطى لا حفظا ولا إدارة، ولكنه يرزق فيها. وإنما جاء النص (فِيهَا) ولم يقل «منها» ليشمل إمكان توفير عمل مناسب له في ذلك المال، ويشمل الهبات والصدقات والكفالات والإعانات. وليشمل التعامل معه بيعا وشراء لحاجياته، فلو قال «منها» لكان يعطي منها هبة أو صدقة ولما شمل ما ذكرنا. فـ (فِيهَا) أشمل؛ لأنها ظرفية، أي اجعلوا رزقهم في هذه الأموال أو في ذات الشركات والعقارات والتجارات ورزقه فيها بما يناسب. فإن كان من نوع السفيه الخائن وهو فقير أعطي من الزكوات والهبات، وجعل له في الأموال حق معلوم. وإن كان من نوع السفيه الأمين فقد يعطى من الزكوات، وقد يعطى فيها رزقا بوظيفة وعمل يناسب هذا الوصف، وإن كان راشدا خائنا فلا يوظف فيها بما يمكنه من الخيانة، وإن كان فقيرا أعطي، وإن كان راشدا عدلا مُكِّن من الأموال إدارة وحفظا.

وقد يجعل لأحد هذه الأقسام سهم في الأموال يدر عليه دخلا دائما، وهذا ما يشمله (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا). وفي هذا النص الإلهي من صور الحياة والتعامل ما لا يتسع ذكره هنا؛ لأن النص يشمل صور الحياة في هذا الباب (¬1). ¬

(¬1) - وصور الحياة المفترضة الأصلية في التعامل المالي كثيرة ونذكر أصولها: فالأولى: الأسرة ومكوناتها من زوج وزوجة وأبناء، وهو يشمل الوالدين وأبناءهما وأبناء أبنائهما وزوجاتهم. والثانية: الأقربون من الإخوة وآباؤهم والأعمام وأبناؤهم وهم (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال: 75). والثالثة: الجار (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء: 36). والرابعة: الصاحب (وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) (النساء: 36). والخامسة: اليتامى. والسادسة: الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين «الشرائح الضعيفة». السابعة: العموم. فأما الأسرة فالصغار، وهم من لم يبلغ النكاح لا يعطون المال الذي جعله الله قياما للأسرة أو للوالد أو للوالدة. فلا يعطون دخل الأسرة ليتولوا الإنفاق على الأسرة منه طوال الشهر إلا إن كان شيئا منه تدريبا لمن بلغ أهلية التدريب؛ لأن تعليم الولد الإدارة المالية الشخصية بما ينفعه في حياته قصد الشرع طلبه (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6)، والابتلاء هو غاية التدريب على المال وصولا إلى تحقيق الرشد. ولما كان الأب يدرب أبناءه جبلة كُلِّفَ ولي اليتيم بتدريبه ديانة. ولا يسلم للطفل أو البالغ غير الراشد بيتا مستقلا يسكن فيه؛ لأنه مال هام مما تقوم به الحياة، ولا تدفع له وثائق الأموال وبصائر العقارات استقلالا إلا تدريبا محدودا في غير إمكان تضييع. ولا تدفع للطفل أو البالغ غير الراشد سيارة لقيادتها استقلالا، إلا إن كانت مما لا يدخل في المال الذي هو (لَكُمْ قِيَاماً). أما إن كانت مصدرا للرزق أو للتجارة أو لتسيير الأمور فلا. ويعطى للتدريب فإن فطن استقل. ولا نعني بالتدريب السواقة، بل التعامل مع السيارة باستعمال آمن. وأما الزوجة فإن كانت راشدة مدبرة دفع لها ما تدير به أمور الأسرة وإلا فلا، بل تدرب حتى ترشد ماليا. وكذا الوالد أو الوالدة إن كان غير التدبير من شأنهما فيعطيان ما يكفيهما وجوبا وكل بحسب سعته. وأما الأقربون فحقهم من صلة ونفقة بالمعروف والسعة ظاهر.

فلا يُدْفَع مالٌ مما جعله الله قياما إلا لراشد أمين. وأما مال السفيه نفسِه، فلا يصح أن يَعاوِضَ به مالا هو قيام للحياة؛ لأنه إيتاء للسفهاء المال الذي جعله الله لنا قياما. فالمعاوضة مع السفيه محجورة في هذا النوع من المال؛ لأنه إيتاء. وأما ما دون ذلك من البيع والشراء فيما جرت به الحاجات والضرورات من أكل وشرب وكسوة ونحو ذلك فلا مانع وهو مقصود في النص (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5). وللسفيه زواج الثانية والثالثة والرابعة إلا إن كان رشده المالي يؤثر على رشده الأسري، فلا؛ لأنه ضرر متعد إلى الغير فَيُدْفَعُ، ويكتفى بواحدة تدفع الضرر ونفقته لا حجر عليه فيها بالنص (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5)، وإنما استثنيت هذه الأمور من الحجر لأنها ضروريات وحاجيات لا تستقيم الحياة إلى بها، ونفقة زوجته لا تتعدى هذه الضروريات والحاجيات فكانت بنفس المعنى. وله الحج والعمرة تطوعا؛ لأن الإنفاق فيهما ليس من السفه. وله الصدقة بما جرت به العادات لا بما خرج عنها مما يعتبر من عادات غير الراشد؛ لأن الصدقة من غير رشد مذمومة شرعا (وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29). والحجر عليه هو عدم إيتائه الأموال تبرعاً أو معاوضةً أو مال نفسِه؛ بدليل منع ناظر اليتيم البالغ من دفع ماله إلا إذا انضاف إلى البلوغ الرشد (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6). ويحق للقاضي الحجر على السفيه الذي طرأ عليه السفه وعرف به، وذلك بالرفع إليه من أوليائه (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال: 75)، وهذا عام، وهو من النصح له بحفظ ماله. فاجتمع عليه حجران، حجر مدني ومجتمعي في عدم إيتائه أموالهم التي جعل الله لهم قياما لا بمعاوضة، ولا بتبرع. وحجر قضائي بحكم.

الغصب

ويرفع بحكم، أو بمجرد زوال المانع؛ لأنه حكم معلل؛ فإن زالت علته زال. ورفعه بشهادة عدول عند قاض، أو بالاستفاضة بين الناس. - الغصب: والغصب هو أخذ مال الغير بغير حق. وقولنا «مال الغير»: يشمل الأقسام الخمسة للمال حسب تقسيمنا: سهماً ونقداً وحقاً وعيناً ومنفعة. وقولنا «بغير حق»: شرط؛ إذ هو بحقٍّ حقٌّ. والغاصب إن كان على الطريق فحده الحرابة، وكذا لو غصب أرضا أو شيئا عنوة بنحو سلاح وتكرر منه. وقولنا «تكرر منه» لأنه مفاد قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا)، لإفادة المضارع الاستمرارية. وينزع منه عنوة، ويجب أن تتولى ذلك الدولة دفعا للفتنة؛ فإن لم تكن أو كانت وعجزت أو قصرت؛ فالتعاون عليه من المجموع؛ فإن لم؛ فللرجل دفع الظلم عن نفسه بما هو مقر شرعاً (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 39 - 40). واستعمال المغصوب مضمون؛ لأن هذا هو مقتضى العدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90). فإن تلف لزمه المثل إن كان مثليا أو القيمة بالعدل بحكم عدلين خبيرين لعموم دلالة قوله تعالى (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، فحكم الله بالمثلية عند الإتلاف بحكم عدلين فإن انعدمت المثلية فللعدلين التقويم؛ لأنه لا يدفع الضرر إلا بأحد هذين فتعينا ترتيبا، ولعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)، وهذا منه. وإن استغله وكسب به مالا فالمال كله للمغصوب منه؛ لأن المنافع مملوكة كالأصول، وتأجيرها بدون ملك، ولا وكالة ولا ولاية أكل بالباطل، وهو محرم (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، فالغلة للمالك، وليس للغاصب شيء منها، لعموم «ليس

لعرق ظالم حق» (¬1)، ولعموم (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، وطريق الغصب باطل، وما ترتب على الباطل باطل. ولو أدخل ماله في المغصوب: كأن زرع الأرض المغصوبة، فله قيمة الحبوب قبل الزرع، وما فعله بعد ذلك باطل ويحتمل ألا قيمة للحبوب لأنه أهدرها بيده لعموم «ليس لعرق ظالم حق»، ولو حكمنا له بشيء لكان أكلا لأموال الناس بالباطل، وهو محرم؛ لأن أتعابه وزرعه كله عن طريق الباطل وهو الغصب؛ فحرم نماؤه لأنه عدوان في مال الغير. وكل أكل منه محرم سواء أكله الغاصب مباشرة أو حكمنا على صاحب الأرض المغصوبة أن يعطيه العِوض عن الزرع، فالعوض حرام؛ لأن المعاوضات لا تكون إلا بتجارة عن تراض ولا تراضي هنا بل هو إجبار ناتج عن عدوان الغاصب، وقد قضى الشرع بإهدار الحق لعرق الظالم، وهذا منه. ولو أدخل ماله في المغصوب وكان قبل إدخاله لا ثمن له فهو باطل؛ لأنه ليس له إلا ماله منفردا عن المغصوب، لأن كافة التصرفات باطلة في المغصوب فلا تقويم لها، زاد الثمن أولا. ولو أدخل جهده فهو هدر لما قدمنا. ولو أمر صاحب المغصوب بخلع الزرع فله ذلك، ولا تعويض لعموم ما تقدم «ليس لعرق ظالم حق»، (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). ولو كانت خشبة في دار أو حجر فلا يعوض إلا القيمة؛ لأن الأصل في هذه الأمور المسامحة وعدم المشاحة، والتسامح من مكارم الأخلاق، والشريعة جاءت لرعايتها بخلاف ما لو كانت مما له خطر وثمن كبير لا يتسامح فيه عادة كمن بنى على الأرض، فلا يعوض إلا برضى المغصوب منه. والقاعدة أن لا تقدير لعمل الغاصب، بل هو هدر. وأما ماله إن أدخله في المغصوب فإن أمكن إزالته بلا ضرر على المغصوب كإزالة الزرع ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه.

وهدم العمارة فهو الأصل وقد جاء في النص «فأمر بقلعها» (¬1). فإن لم يمكن إزالته إلا بإتلاف المغصوب، أو الإضرار به ضررا فاحشا، فلا حق له فيه لأنه هدر «ليس لعرق ظالم حق». ولو حكمنا للغاصب بتعويض لكنا أجبرنا المغصوب منه على ذلك المضاف، ولا بيع إلا بالتراضي ولا تراضي هنا فهو باطل، فيكون الثمن أكلا لأموال الناس بالباطل. أما إن تراضيا فلا مانع؛ لأنه صلح والصلح خير. فإن كان الغصب يتعلق به إنقاذ نفس المغصوب كخيط للجراحة، أو أرض مغصوبة دفعها للمستشفى ضمانا للعلاج الطارئ لعدم قدرته؛ فإن الحكم هو التعويض إن فات، لأن فوته كان لطارئ إنقاذ النفس، وهي أولى من المال لإمكان تعويضه بخلاف النفس. ولأن المال يدفع به قبل النفس بدليل الأمر بالجهاد بأموالكم قبل أنفسكم في جميع النصوص المقترنة (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: 41). ولأن الجهاد المالي من مقصوداته إيجاد القوة الدافعة الحامية للأنفس. وإن كان لإنقاذ حياة حيوان محترم؛ فالتعويض؛ لأن إنقاذ نفس الحيوان المحترم صدقة «في كل كبد رطب أجر» (¬2). ولأن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، وأخرى سقت كلباً فغفر الله لها وكانت بغيا، وهذه المعاني لا توجد في غيرها من الأموال. فيجمع بين المصالح بالتعويض للمغصوب منه. وبيع الغاصب المال باطل. ويجوز لمالكه بيعه إلى طرف رضي بالبيع عاقلاً راشداً، سواء أراد نزعه أو لا، استطاع أم لا، لأنه قد يشتريه لقطع الخصومة والنزاع ودرء الفتنة إن أمكن حصولها بلا قصد لانتزاعه. وهو غارم حينئذ يعوض جوازا من الزكاة في سهم (وَالْغَارِمِينَ). ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - سيأتي تخريجه بعد قليل.

وقولنا «حينئذ»: أي: إذا اشتراها ليدفع بها خصومة وفتنة لا لينتزعها. فتحصل أن الغاصب: 1 - جهده هدر. 2 - ماله المضاف هدر. 3 - إن أمكن نزع ما غصبه بلا ضرر للمغصوب منه جاز. هذا الأصل؛ لأن إلزام المغصوب منه شيئا إجبارٌ وإكراهٌ بمعاوضة؛ وذلك لا يحل؛ فكان باطلا (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). والتزوير وسيلة للغصب، فحرمت، وباطل ما ترتب عليها. فحرم انتحال شخصية مؤلف وسرقة جهده، وكل ما كسبه منه المنتحل فهو للمؤلف الحقيقي، وجهده هدر بل يلزمه تعويض تعزير إن اقتضى الأمر ذلك. وتزوير ختم ترتب عليه ضياع حق أو كسب هو في معنى الغصب. وكذا تزوير وثائق الأملاك. ومن أخذ علامة تجارية لأحد بلا اتفاق فهو غاصب، وكل ربحه فهو للمالك، وكل ضرر ألحقه وجب تعويضه، ولا تعويض للغاصب، لأنه «ليس لعرق ظالم حق». ولأن التعويض معاوضة تفرض على المغصوب منه بالإجبار، فبطلت (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، إلا إن تراضوا بالصلح. والاختلاس من المال العام أو غيره في معنى الغصب؛ لأنه أخذ لأموال الناس بالباطل ولا فرق إلا أن العرف قضى في الغصب بأنه عنوة وذاك خفية أو بحيلة. ولكن الأثر واحد يشمله عموم (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29). وحد الغاصب حد الفساد بالاختيار؛ لأنه مفسد في الأرض، وأقله النفي، أي الطرد، أو الحبس، مع الضمان للمغصوب وثمراته. وكل مختلس للمال كذلك، لأنه سعى في الأرض فسادا لا إصلاحا، فإن أخذ المال بقطع الطريق فهو من أعلى الفساد في الأرض، وحده بالاختيار المصلحي أو المعادل لفعله (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ

أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33). وإنما قلنا «بالاختيار»؛ لأن «أو» في النص تقتضي ذلك. وقلنا «المصلحي أو المعادل لفعله»؛ لاحتمال النص، فإن أمكن الجمع بين الاحتمالين في الحادثة كان أجمع للمراد من دلالة النص، وإن لم يمكن فينظر إما بالمصلحة بحسب اقتضاء الحادثة أو ينظر بجنايته المعادلة لما في النص من قتل أو سرقة وغيرهما. وأما السرقة فحدها (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وهو عادةً: مَنْ أَخَذَ مالاً للغير محرزا. ولا قطع عندي إلا بما كان يعدل نصف الدية؛ لأن الله جعل مقابل اليد المال المكسوب والباء ليست سببية وإلا لجاز في أدنى شيء، بل هي للمعادلة والمماثلة كقوله تعالى (جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17)، و (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام: 146). فلم يعاقب الله بمجرد أي ظلم بل بما يقابل استحقاق العقوبة. ولا أعلم حديثا صحيحا صريح الدلالة يحدد النصاب، مما أدى إلى اضطراب أقوال العلماء، ما بين قاطع بأدنى شيء وما بين محدد على خلاف بينهم، فتبقى المعادلة إلى القضاء مع جواز إسقاطه بعفو صاحب المال، إلا إن ثبت القطع بتأويل حديث «هلَّا كان قبل أن تأتوا إليّ». وثبوته يقينا يكون بإثبات أنه صلى الله عليه وسلم قطع السارق في تلك الحادثة مع تنازل المسروق منه؛ لأن هذا التنازل شبهة قوية، والحدود تدرأ بالشبهات. ولأن الله شرع التنازل في القصاص في النفس فما دون قصاصا، ودية؛ وقتل الأنفس أعظم من باب السرقة فكيف لا يصح التنازل. فالظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم «هلا قبل أن تصلوا إليّ» إنما هو دلالة على ما كان الأصل سترا عليه لا أنه دلالة على أنه نفذ الحد. ولأنه الآن في موضع تدفع الحدود فيه بالشبهة بإجماع، وهذه أقواها، لأن العفو أسقط حد القصاص في النفس وفي العضو، فأولى منه إسقاط حد القطع بالعفو؛ لأنه إذا أثر في النفوس ففي الأموال أولى. فيلحق حد السرقة بغيره من الحدود في هذه القاعدة.

أما الضمان والكفالة

ولا أذكر الآن نصا صحيحا صريحا يدل أنه قطع في تلك الحادثة فإن اختلفت الروايات أورثت الشبهة (¬1). أما الضمان والكفالة: فالضمان إما على الأموال، أو على من تعلقت بهم الأموال من الأشخاص. فأما الأولى: فهي أن أموال الناس محفوظة بحفظ الشرع، فمن أهدر الحفظ فقد اعتدى، والعدوان محرم (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190). ولا يجوز أن تصل أموال الناس إلى بعضهم إلا بطريق من طرق خمس: معاوضةُ بيع أو تجارة. أو معاوضة إكرام وتعويض وهي ما لا يقصد به الربح. أو طريق التبرع والتبرر. أو طريق الفرض الشرعي كالمواريث والزكوات والإنفاقات. أو طريق الإرفاق وهي تشمل اللقطة والوديعة. وكل طريق غير هذه لوصول أموال الناس إلى بعضهم فهي محرمة؛ لأنها إما غصب، أو سرقة، أو خيانة، أو خداع وغش. وسواء وصل إليه بهذه الطرق: سهماً أو نقداً أو عيناً أو حقاً أو منفعة. أنواع الضمان: والضمان وارد للأموال في جميع هذه الطرق. فضمان التجارة ما أتلفه المشتري حال السوم وما أتلفه المضارب والمستأجر والأجير في العمل أو النقل، وما أتلفه الوكيل التجاري، وضمان الدرك، وضمان العيب، وضمان الجودة، وضمان توفير غيارها وصيانتها، وضمان الصلاحية، وضمان المواصفات المطابقة، أما ما كان في الإرفاق فضمان الودائع، وضمان المرهون، وضمان العواري. وأما الضمان على الأشخاص: فضمان حضوري، أو ضمانٌ تجاري مسلم أو خطاب بنكي، ¬

(¬1) - ثم تتبعت طرق هذا الحديث، أعني حديث «فهلا كان قبل أن تأتيني» فوجدت اختلاف الأئمة فيه، فمنهم من أعله بالاضطراب. وأما حديث «أيما حد بلغني فقد وجب» فأعله الدارقطني بالإرسال. وقال عبد الحق -كما نقله عنه ابن الملقن في البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير (8/ 652): لا نعلم يتصل من وجه يحتج به. قلت: وما ذهبت إليه هو ما رجحه الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله.

ولنبدأ بالسوم فنقول: ضمان السوم يكون بتلف السلعة في يد المشتري حال المساومة، فالواجب فيها القيمة لا المثل؛ لأنها موضوعة في السوق على ذلك أي: بيعها بالقيمة؛ ولأن العادة التجارية جرت على هذا والعادة محكمة؛ فلا يكلف المثل ولو كانت السلعة مثلية، إلا في غير المعروض للبيع كمن أتلف مالا لآخر غير معروض للبيع بعمد أو بخطأ، لأن المقصود منه اقتناؤه، فيكلف بالمثل ثم القيمة عند التعذر، ودليل الضمان قوله تعالى (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، وحديث «طعام بدل طعام وإناء بدل إناء» (¬1)، وحديث «إن أموالكم عليكم حرام» (¬2). ووجه الاستدلال بالآية تحريم أكل المال بالباطل، والباطل هو ما لم يكن بعوض أو برضا من غير عوض كهبة، والإتلاف في حال السوم وغيره ليس بمعاوضة ولا هبة، فإن أهدرناه صار إتلافا لأموال الناس بالباطل فوجب ما كان له من العوض في المعاوضة الصحيحة المماثلة أو القيمة، ولأن الله أمر بالمثل في جزاء الصيد وأحال في التقدير بالحكم على عدلين. ومقصد الشريعة حفظ الأموال، والضمان للمتلفات خادم أصيل لهذا المقصد؛ لأن عدم التضمين ينقض مقصد الشرع في الحفظ، ويؤدي إلى إهدار حرمة الأموال وأكلها بالباطل وهذا خلاف النصوص والمقاصد. وإنما يكون الضمان بالعدل والإحسان لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، فمن أتلف حال المساومة التجارية ضمن الثمن؛ إذ هو مقصود التجارة؛ ولأنه محل اتفاق البائع والمشتري؛ إذ الأول لا يريد من التجارة إلا تحصيل أثمانها. والثاني إن أبى كلف بالمثل المطابق، وأدى ذلك إلى شرائه لها من آخر بثمن، فرجع الأمر إلى دفع الثمن فيدفعه أولا. هذا عند التشاحن والتشاح؛ فإن تراضيا على الثمن أو المثل جاز؛ لأن مقصود الشرع حفظ الأموال وعدم الإضرار، وقد تحقق. ويحكم بينهما عدل عارف بالثمن، أو القيمة السوقية إن اختلفا؛ فإن لم يرض البائع بالثمن ¬

(¬1) - تقدم تخريجه. (¬2) - تقدم تخريجه.

أو المساوم المتلف فلا يلزم غير المثل المطابق بأي ثمن؛ فإن عسر وجوده، أو ليس من المثليات أجبر الطرفان على تقويم عدلين عارفين؛ لأن الشرع أرجع التقويم في إتلاف ما يحرم إتلافه إلى عدلين (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، ولأن هذا قاطع للتنازع، فتعين طريقا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما ما تلف في المضاربة: فإن أتلفه أجنبي فهو هنا على العامل؛ فإن أهمل العامل متابعة التضمين فهو ضامن؛ لأنه مفرط. أما لو كان الإتلاف من جهة عامل المضاربة؛ فإن كان بتفريط فهو ضامن بلا خلاف على الأصل، وإن كان بلا تفريط كأن غرفت السفينة، أو احترق المحل، أو انقلبت الناقلة، ولا يد له في تفريط فلا ضمان عليه؛ لأن هذه من الجوائح التي يقع الابتلاء بها، فإن ظهر تفريط أو خيانة ضُمِّن، ولا يثبت ذلك إلا بالبينات العادلة. وأما ضمان المستأجر للدار أو الأرض أو العربة أو الناقلة، وكذا كل منقول مستأجر، فالضمان فيه عند التفريط بلا خلاف؛ لأنه الأصل، ولأنه مأذون له في المنفعة بعوض لا في الإضرار بالعين ضررا فاحشا؛ فكان تعديا إلا إن جرت العادة على عدم التضمين مطلقا، أو في أمور معينة، فالعادة محكمة لأنها قائمة على التراضي المشروط عرفا (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6). وما جرت به العادات من الضرر أثناء الانتفاع فهو هدر؛ لأنه عادةً لا يمكن استيفاء المنفعة المعاوض عليها إلا بشيء من الضرر؛ فإن فحش فقد خرج عن العادة؛ فيضمن. وكذا لو شرط في العقد الضمان فهو ضامن، لأن الشرط جزء من العقد؛ فوجب الإيفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1) إلا ما لا يمكن استيفاء المنفعة إلا به. بخلاف المضاربة، فلا يشترط ولا يصح شرط لأدائه إلى ضمان الخروج من الخسارة لصاحب رأس المال مطلقا، سواء خسر العامل أو لا، وهذا باطل؛ لأنه ضرر فاحش على العامل. وأما ضمان الأجير المشترك أو الأجير العام فعلى الأصل أنه يضمن. أما الأجير الخاص فلا؛ لأن يده مع يد صاحب الملك مشتركة، ولا تضمين مع اشتراك

الأيدي (¬1)، وهنا تجري قاعدة: الأجر والضمان لا يجتمعان. والوكيل بأجرة أو بغيرها إن قبض لموكله شيئا ثم تلف في يده فمحل حكم الأصل الذي هو الضمان، إن كان بتفريط ضمن، أو كان بلا تفريط فهو قسمان: إن كان خارجا عن العادة كأمر لا مدفع له ولا تسبب له من طرفه كحصول انقلاب سيارة هو فيها ومعه المال المقبوض فتلف جراء الحادث فلا ضمان. أو كان هو من فعله كأن كان هو السائق؛ فيدفع الضرر عنهما بقدر الإمكان صلحا؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وهذا منه. وأما ضمان الدرك فهو: ضمان السلعة من ظهور عيب أو استحقاق وهو جائز؛ فإن حصل ضمان الدرك فهو جزء من العقد المأمور بالإيفاء به، ومنه ضمان المطابقة للمواصفات، وضمان الصيانة، والصلاحية والجودة وتوفير قطع الغيار. وقاعدة الضمان خلاصتها أن الأصل في الأموال الضمان، وما تلف على خلاف العادات فيه فهو مضمون؛ لأنه يغلب فيه التفريط؛ لأن ما تلف والعادة عدم تلفه فالتفريط ظاهر، وما جرت العادة على إمكان إتلافه كثيرا فينظر إلى العادة في التضمين. لأن ما كثر حصوله وأصبح عادة يكون تعامل العادة معه بالتضمين أو عدمه هو ما تراضى الناس عليه؛ فيعمل به. والغالب التراضي على ما يتسامح فيه أنه لا ضمان. والغالب التراضي على ضمان ما لا يتسامح فيه من الأموال عادة؛ لكونها تعود بالضرر الفاحش على مالكها. وقاعدة أخرى هي: كل مدع للتلف بلا ضمان فهو خلاف الأصل؛ وعليه البينة لعموم «البينة على المدعي». وضمان الرهن إن تلف هو الأصل، ويضمن بالمثل أو القيمة. وكذا الأصل في الودائع؛ لأن التلف خلاف أداء الأمانة؛ فأوجب النظر في التفريط من عدمه. ¬

(¬1) - وقد تقدم في نظام الاستثمار وفي الإجارة وفي الفقه الوظيفي.

وتجري فيها القواعد السابقة. وضمان العواري كذلك؛ فإن ادعى التلف ثبت الضمان؛ لأن مدعي التلف لما في يده كالمقر بالضمان ضمنا؛ ولا مدفع له إلا ببينة؛ لأنه مدع. وأما الضمان على الأشخاص فهو عقد لآخر على آخر بمال يسلم، أو شخص يحضر، وهو واجب الوفاء؛ لأنه عقد فشمله عموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1). وللمضمون له مطالبة من شاء؛ لأن هذا هو مقتضى العقد؛ لأنه لو شرط عليه ألا يطالب إلا الأصيل فالضمان باطل. ولو شرط عليه ألا يطالب إلا الكفيل فهو عقد حوالة بالحق من ذمة إلى ذمة وقع التراضي عليه، وهذا عقد مباح؛ فوجب الإيفاء به. وأما ضمان الإحضار فالمطالب به هو الضامن؛ لأن هذا هو مقصود العقد، ويجب إلزامه عند لزوم الإحضار للأصيل المكفول عنه، ولم يحضر. أو عند إمكان عدم حضوره بفرار أو نحوه؛ لأنه -أي الإحضار- محل العقد وزمانه ومقصوده. أما اللقطة فهي مال ضائع يحل أخذه لمن وجده على سبيل التعريف. وإذا كانت من بني آدم فهي «لقيط» وهو الطفل الرضيع الذي يجده شخص، ولا يعلم له أب ولا أم. فاللقطة شرعت أحكامها حمايةً لمال الناس من الضياع ولو قلت. ويجب لمن وجدها تعريفها سنة إن كانت مالا من غير المحقرات. ويعرفها بما يحفظ حق الغير. فإن جاء مدع للملك سئل عن بيان أوصاف لا يعلمها إلا من ضاعت منه للنص في ذلك (¬1). ¬

(¬1) - أخرج البخاري برقم 2372 ومسلم برقم 4595، واللفظ للبخاري عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة. فقال اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال فضالة الغنم قال هي لك، أو لأخيك، أو للذئب قال فضالة الإبل قال مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها. وفي لفظ لمسلم برقم 4599 «فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه».

ولا حد للأوصاف؛ فإذا لم يأت صاحبها بعد سنة؛ فهو بالخيار: إما أن يستهلكها فإذا جاء صاحبها يوماً ضمنها له بالمثل، أو القيمة للنص (¬1)، وإما أن يحفظها أمانة. وضالة الإبل لا تؤخذ للنص «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء والشجر حتى يجدها ربها» (¬2). وضالة الغنم تلتقط، فهي «لك أو لأخيك أو للذئب» (¬3)، ويجري فيها ما مر من الأحكام. ولم ينص على ضالة البقر لأنها لا تضل عادة لقرب مراعيها بخلاف الإبل والغنم، فإن ضلت عُرِّفت. واللقطة من المحقرات كالسوط ونحوه تعرف ثلاثة أيام، ثم يجري فيها الحفظ أو الاستمتاع والضمان للنص (¬4). ويجوز إنشاء مركز لحفظ اللقطة، والحرم في هذا وغيره سواء، ولا مانع من الإعلان عن الضوال في أي وسيلة إعلامية. ¬

(¬1) - تقدم قبل قليل. (¬2) - تقدم قبل قليل. (¬3) - تقدم قبل قليل. (¬4) - تقدم قبل قليل.

النظام المالي الرابع: نظام الإنفاق وتوزيع الثروة

النظام المالي الرابع: نظام الإنفاق وتوزيع الثروة الإمكانات المسخرة في السماوات والأرض للإنسان موضوعة على السواء (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (لقمان: 20)، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29). والمعيشة على الأرض مقسومة (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الزخرف: 32). والمعيشة معناها مصادر العيش؛ فكل يعمل في مجالٍ؛ فمنهم المعلم ومنهم الصائد ومنهم المزارع (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، أي في المعيشة حيث تكون بعض الوسائل أرفع رفاهية واقتصادا من بعض، وهذا هو معنى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) (النحل: 71). وعلة القسمة هذه (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32)، أي ليكون بعضهم مسخرا لخدمة الآخر. فالعلة لقسمة المعيشة لا لرفع الدرجات فقط أو لكليهما (¬1). فالمعيشة مقسومة بين الخلق، وبعضهم أرفع درجة من بعض في ذلك؛ لاختلاف الأسباب، ولتحقيق حكمة إلهية في احتياجهم لبعض، سواء في ذلك الشعوب، والقبيلة، والمجتمع، والأسرة. ولم تجتمع وسائل المعيشة كلها لأحد على وجه الكمال، ولن تجتمع إلا في الجنة، كما أن موارد الشقاء لا تجتمع إلا في النار (¬2). ¬

(¬1) - وهذه القسمة اعتيادية بحسب الزمان، والمكان والجغرافيا، ففي بلد بحرية يكون للصيد فيها رتبة وللثروة البحرية درجة على دولة ليس فيها بحر ولا ثروة. وأخرى فيها ذهب، وأخرى نفط وغاز، وفي بلد الثروة الحيوانية، وفي بلد الثروة الجغرافية والسياحية، وفي بلد العلمية، وفي بلد الثروة الدينية، ولكلٍّ درجات. (¬2) - فاقتضت المشيئة الإلهية احتياج البشرية بعضها لبعض إجبارا مهما علت درجاتهم المعيشية. فلا بد أن يكون الشخص تسخيرا لآخر يعمل معه ضرورة بالنظر الكلي العام، أو بالنظر الجزئي الخاص حيث يكون شخص موظفاً لآخر؛ فيفرض على ذلك معيشة للآخر بهذا الإجبار، ويفرض على الآخر تقديم ما عنده للآخر إجبارا للتعايش. هذا هو فقه الآية، ومن فهمها على غير هذا الوجه فقد زلت قدم فهمه. فهذا التوزيع التسخيري إجباري على البشرية جميعا؛ ليحتاج بعضهم لبعض. فالإجبارية المعيشية هي التخصص المعيشي الذي لا يوجد عند الآخر؛ لعلة بقاء الحاجة بين الخلق؛ ليجري بينهم التعامل السلمي طلبا للحاجة المعيشية التي ليست عنده. فبلد توفر الضروريات، وبلد توفر الحاجيات، وبلد توفر الترفيهيات، ولا توجد هذه الثلاثةُ مجموعةً كلها في بلد، بل تحتاج لغيرها في ذلك. وهكذا الشعوب، والقبائل، والأسر، والأشخاص.

وفرة القوت تساوي الطلب

ولا بد لإقامة الحياة من إقامة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ولا يستطيع أحد توفير هذه الثلاث إلا بغيره، ومن غيره، ومع غيره، وفي غيره، فالأولى التعاون، والثانية التبادل والأخذ والعطاء، والثالثة الشراكة، والرابعة المجتمع والقبيلة والشعب والدولة والأمة. والأرض فيها الكفاية للبشرية جميعا لقوله تعالى (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (إبراهيم: 34)، وقوله تعالى (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) (فصلت: 10)، وقوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا* أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا) (المرسلات: 25 - 26)، والكفت أي الضم، أي ضمتهم أحياء وأمواتا، ويلزم من هذا وجود الكفاية للبشرية فيها؛ لاستحالة عدمها أو نقصها؛ لأدائها -حينئذ- إلى تلف الأنفس وهذا مستحيل، لأنه خلاف مقصود الشرع من الاستخلاف في الأرض. فدعوى نقص الموارد باطلة تستخدمها قوى الهيمنة للهيمنة. والكفاية البشرية مشتركة بالتبادل على وجه المعاوضة أو غيرها، فما فاض من الضروريات والحاجيات في موطن كان ضرورة أو حاجة لموطن آخر. ولهذا فمقاطعة دولة في مواردها الضرورية والحاجية ضرر إنساني، والقرار السياسي بذلك باطل، فإن كان ولا بد فإنما يكون بمقاطعة سياسة الدولة كدولة لا كشعب، فهو ظلم «يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (¬1). والأرض موضوعة على الاشتراك الإنساني (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن: 10 - 12). فهذه الغذائيات والنباتات الأربع ضرورية وحاجية وترفيهية تشترك فيها البشرية جميعا، وكل بلد اختصت بنوع يفيض عنها يحتاجه الآخر. - وفرة القوت تساوي الطلب: وكل ما في الأرض موضوع على الكفاية التامة للبشرية بالتقدير الإلهي (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ¬

(¬1) - تقدم تخريجه.

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ)، فقدر القوت لكل من سأل القوت من بشر أو حيوان أو جن، دليله قوله تعالى (سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) أي الأقوات مستوية مع الطلب (¬1)، فكل طالب للقوت واجد له لا كل محتاج، وإلا لقال «سواء للمحتاجين». وهذا يعلل حصول الفقر بأنه ناتج عن عدم الطلب، إما للعجز والقصور من الطالب، أو لحصول موانع، وقد تكون الموانع نفسية كالعي، أو خارجية كالاضطرابات والحروب والإحصار والجوائح السماوية، وقد قال الله سبحانه (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 283)، فوصف الفقير بأنه من لا يستطيع ضربا ولا تقلبا في الأرض للرزق. وهذا من تعليل الحكم بمناسب؛ إذ عدم التقلب طلبا للرزق مؤد إلى الفقر. وقال سبحانه (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 1 - 4). فجمع بين توفر الأمن والغذاء والتقلب في الحركة التجارية والائتلاف والاستقرار. والموانع السابقة وجودها وعدمها ناتج عن الكسب البشري. وكذا جميع الظواهر العامة ناتجة عن الكسب البشري صلاحا وفسادا، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، وقال سبحانه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). ¬

(¬1) - «سواء للسائلين» .. هو متعلق بما قبله، وهو بارك، قدَّر، جعل على التنازع كما قرره غير واحد من أهل التفسير. وخلاصة كلام أهل التفسير لا يخرج عن هذا، وعلى قراءة الرفع تكون الجملة مبتدأة لما سبق جميعا تقديره (وذلك سواء للسائلين). ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما قاله ابن جرير الطبري في تفسيره (20/ 390): «سواء» بالنصب وقرأه أبو جعفر القارئ: (سواء) بالرفع، وقرأ الحسن: (سواء) بالخفض. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه، ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة، وعلى ما يصلحهم. وقد ذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: (وقسم فيها أقواتها).

إمكانية الرفاهية للكل

فما من وفرة أو شح في الموارد إلا وللإنسان فيه يد. وفرض حال حصول الكوارث الإنسانية -سواء كانت لحروب أو تقلبات مناخية- تعجيل الإنفاق، والإغاثة للمتضررين لورود النص في خصوص ذلك (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 11 - 16). وقلنا «فرض»؛ لأن دفع الضرر العاجل عن الغير واجب كلي كفائي. فيجب القيام به على المجموع، ولا يسقط الطلب والإثم إلا بذلك؛ لأن الشريعة جاءت لدفع المضار وجلب المصالح، وهذا منها. وتقدم بسط هذا وغيره مما يتعلق به (¬1). - إمكانية الرفاهية للكل: وتحقيق المعيشة الحسنة والطيبة ممكن للكافة بل إلى الرفاهية بدليل (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى) (الأعراف: 96)، وبدليل (لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) (المائدة: 66). أما تحقيق الرفاهية الباذخة؛ فمتعذر للكافة؛ لأدائه إلى تعطيل العالم وسيره (¬2)؛ بدلالة قوله تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى: 27). وقوله تعالى (وَيَقْدِرُ لَهُ) في آية أخرى، ولم يقل «يقدر عليه» لبيان أن الحالتين لأجل الإنسانية والإنسان لا عليه (¬3). - معوقات الرفاهية البشرية وحصول البركات الإلهية: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96). (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ¬

(¬1) - انظر «فقه حقوق الإنسان». (¬2) - لعدم حاجة البعض إلى بعض، وعند حصول الحاجة لا يجدها بمقابل ولا بغير مقابل نظرا لعدم حاجة الطرف الآخر للمعاوضة مما يضطر إلى أخذ ما في يد الآخر بالقوة فيفسد العالم، ويحصل البغي. (¬3) - انظر «فقه حقوق الإنسان» من كتابنا هذا.

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 65 - 66). والبركات السماوية والأرضية هي أعم من مجرد الوفرة، بل هي في اجتهادنا تحقيقُ مقصودات الحياة بنسبة عالية مضاعفة مقابل نسبة الكسب والجهد القليلة. وتفسير ذلك أن الوفرة المالية تعوقها أفكار وتصرفات الخلق وهي أمور: الشح، والمنع، والحسد، والبغي، والتكاثر، والكنز، والإسراف والتبذير. فأما الشح والمنع فهما مؤديان لمنع الحقوق المتعلقة بالمال وقد قال الله تعالى (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). وأما المنع فحرمه الله بالنص (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (القلم: 12)، والخير هو المال وغيره، وقد دمر الله ثروة أصحاب الجنة لما منعوا الخير منها عن الناس وشحوا عن إعطاء الحقوق إلى أهلها، وقصتهم معروفة منصوصة في القرآن. وأما الحسد ففيه نصوص كثيرة تحرمه، وتأثيره على التجارات والوفرة وتداول الخير ظاهرٌ؛ لأدائه إلى التقاطع والتدابر والكيد والمكر، وهذا مؤثر على الحياة عموما وعلى التجارات خصوصا عند حصوله بين التجار والمستثمرين. وأما البغي المتعلق بالمال فهو أن يتخذ المال وسيلة للفساد في الأرض وللطغيان والعدوان وارتكاب المآثم والجرائم والفخر والخيلاء على الخلق (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: 76). والبغي هو العدوان والطغيان (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق: 6 - 7). وقد بين الله في سورة الليل أن البخيل المستغني مآله إلى التعسير والتردي، ومآل المعطي المُصَدّق بالجزاء من الله إلى التيسير في الدارين (¬1)، (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل: 5 - 10). ¬

(¬1) - في تفسير البحر المحيط (8/ 363): أي نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة.

قانون الكسب والحياة الحسنة

وأما التكاثر فهو: نهم الجمع، وهو يؤدي إلى كنز المال لأنه إن تكاثر إما أن ينفقه أو يكنزه، وذم الله التكاثر؛ لأنه يلهي عن مقاصد الحياة الاستخلافية (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر: 1 - 8). وأما الكنز فهو: جمع المال، وتعداده بلا إخراج ولا تدوير ولا إنفاق في حقه، وهو محرم في نصوص كثيرة (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34)، (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ* نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ* إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) (الهمزة: 1 - 9). ويزاد على هذه الأمور الإسراف والتبذير وترك الاقتصاد والتوسط وقد حرمه الله في مواضع من كتابه لما يؤدي إليه من الضرر الكلي العام على الاقتصاد وعلى الدولة والشعب والمجتمع والضرر الجزئي على الاقتصاد الجزئي والفردي (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29)، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67). فإذا زالت هذه التصرفات كان الصلاح في الأرض؛ فيأمن الناس، وتكثر الأنشطة والعمالة، والإنفاقات على الخلق، ويكثر البيع والشراء، والتجارات، وينزل الله إضافة إلى هذا ما شاء من بركات في الأنفس والأموال والزروع والثمار لا يعلمها إلا هو. - قانون الكسب والحياة الحسنة وقانون الكسب مرتب على بذل الأسباب التي جعلها الله في الأرض، وإمكان الحياة الحسنة بالقول المرتبط بالكسب لسائر البشرية متوفرٌ (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ* وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة: 200 - 202).

نظام توزيع الثروة ونسقاته في الإسلام

فأعطى الله كل من سأله الحياة الحسنة بشرط الكسب مع القول (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة: 202). واقتران الحياة الحسنة بالقول والكسب فوري؛ لذلك ختمت الآية بدلالة الإشارة على سرعة حصول ذلك من الله (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). بخلاف مجرد الأقوال والإرادات بلا كسب وعمل بالأسباب، فلا يعم (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) (الإسراء: 18). فقيد الإجابة بقوله (لِمَن نُّرِيدُ)؛ لأنه ارتبط بالإرادة لا بالأقوال والأفعال والكسب. وأما اقتران الحياة الحسنة بالكسب فلأن الإيتاء بمشيئة الله لكل من فعل الكسب وبذل السبب كقانون لا يتخلف وسنة ماضية (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) (هود: 15). فذكر الإرادة وقرن الإيفاء لها بحسب الكسب والعمل؛ فأعمالهم في ذلك تظهر نتائجها بلا بخس، فدل على ارتباط إيتاء زينة الحياة الدنيا، إنما هو بالعمل لأجل ذلك، وبقدر العمل لا بمجرد الإرادة والأقوال (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا). ومن جمع بين طلب الدنيا والآخرة والعمل لهما آتاه الله ذلك (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة: 201 - 202). نظام توزيع الثروة ونسقاته في الإسلام: النسق الأول: الفيء وهو: كل دخل للدولة بلا قتال ولا فرض، ولا معاوضة من المواطن، فشمل سائر الخيرات التي أفاء الله بها على الدولة من الثروات. فقولنا «بلا قتال» لاقتضاء النص ذلك (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحشر: 6). وقولنا «ولا فرض» خرج بها الزكاة المفروضة التي تأخذها الدولة من المسلمين ورسوم المواطنة «الجزية» من غير المسلمين.

وكذا كل دخل فرضته الدولة لطارئ نحو الضرائب. وقولنا «ولا معاوضة من المواطن» خرج بها رسوم الخدمات التي تأخذها الدولة عن المواطنين مقابل الخدمات. وغير هذا من دخول الدولة يعتبر فيئاً؛ لأن الله علل إجراء الحكم عليه بعدم الإيجاف بالخيل ولا الركاب، أي القتال. وإنما زدنا في التعريف قولنا «ولا فرض» لاعتبار نصوص أخرى، وهي الزكاة، فإن مصرف الزكاة آخر (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60). ويشتركان في أربعة مصارف: في سبيل الله، والفقراء، والمساكين، وابن السبيل. وتختص الزكاة بزيادة مصرف العاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين. ويختص الفيء بمصرف رسول الله وذوي القربى. وينوب عن رسول الله خدمةُ سنته، وأما ذو القربى فهم من تحرم عليهم الزكاة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخمس الغنائم مصرفها مصرف الفيء، وهي ما كانت عن قتال (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41). فكل خيرات وثروات الدولة من غير الزكاة بلا إيجاف قتال هي من الفيء ولها حكمه، ولا يقال إن لفظ (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) قيد؛ لأنه وصف طردي لا قيدي. والنفط والغاز والذهب والثروات الخمس عشرة للدولة التي ذكرناها آنفا هي فيء ولها حكم الفيء. وهي الثروة الجغرافية، والجوية، والبحرية، والمائية، والنابتة، والحيوانية، والمعدنية، والذهب، والفضة، والنفط، والغاز، وثروة الأحياء البحرية، والصخرية، والبرية، والزراعية. ومصارف هذه الثروات الدولية هي كما في النص.

أ- (فَلِلَّهِ) أي في سبيل الله لخدمة كتابه وإقامة دينه، وكل طريق يرضيه، وكل جلب للمصالح العامة، ودفع المفاسد؛ لاستحالة كونه لله بغير هذا المعنى بدليل (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج: 37). ب- (وَلِلرَّسُولِ) له في حياته، ولخدمة سنته، وكل ما أمر به بعد وفاته. وكل ما يجلب المصالح العامة للأمة، ويدفع المفاسد عنها، فهو داخل في هذا؛ لأنه من سنته، وأمره التي توفي وهو عليها. ت- (وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن تحرم عليهم الزكاة. ث- (وَالْيَتَامَى) كل من مات أبوه قبل البلوغ. ج- (وَالْمَسَاكِينِ) كل محتاج في الأمة، ومنهم الفقراء، والمسكنة والفقر وصفان ظاهران يعلمهما أهل العرف وضبطهما راجع إليهم، وقد بين الله بعض أوصاف ذلك فمنها: 1) عدم استطاعة الضرب في الأرض (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 273). 2) كل نازح عن أرضه وماله نتيجة لحرب أو تهجير أو احتلال من قبل الكفار أو كارثة طبيعية، وإنما ألحقنا هذه الأمور لوجود المعنى فيها الذي نبه عليه النص (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8). 3) المتربة الذي لا يجد إلا التراب ليفترشه (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 16). 4) كل من كانت له وظيفة أو آلة إنتاجية يعمل عليها لكنها لا توفر له الكفاية (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) (الكهف: 79). ح- (وَابْنِ السَّبِيلِ) كل مار ببلادٍ، وسواء كان مسلما، أو كافرا، ولو كان غنيا في بلده. وبهذا الإجراء الإلهي المفروض فرضا على الدولة في توزيع الثروة والدخل يترتب عدم

وجود طبقة تحتكر تداول المال بينها وطبقة فقيرة هم الغالب (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7). ثم خصص من هذا الدخل جزاءً لكل فقراء المهاجرين (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، ثم كامل الأنصار (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، ثم كل من جاء بعدهم من الأمة يدعو لهم ويستغفر لهم، ولا يحمل حقدا عليهم (وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10). فأما من جاء بعدهم يحمل حقدا عليهم أو يسبهم أو يلعنهم فلا حظ له من ثروات الدولة وخيراتها، وقد استنبط مالك أنه ليس لهم من الفيء، ونحن نزيد عليها في تكييف الفيء بأنه كل ثروات الدولة وخيراتها من غير قتال. النسق الثاني: هو خصم مفروض معلوم من المال الشخصي لشرائح المجتمع الثمان. وفَرْضٌ على كل من كان عنده مال يبلغ النصاب أن يخرج منه جزءا معلوما في وقت معلوم للشرائح الثمان (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60). وتأخذها الدولة وتوزعها على مصارفها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103). فإن لم تؤخذ حكوميا ففرض على الشخص أن يخرجها ويوزعها على مصارفها وإلا أثم. ويُقَاتل من امتنع من أدائها إلا بقتال (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 5). والزكاة تعم كل مال مكسوب وكل نابت من الأرض (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ

مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة: 267). وهي من أموال التجارات كل عام اثنان ونصف بالمئة (2.5%) أي: ربع العشر، بشرط بلوغ النصاب، وهو ما عادل قيمة ثمانين جراما من الذهب فما فوق، ولا تجب في أدنى من ذلك. أما في الأموال غير التجارية: فإن كانت مما تنبت الأرض؛ فيخرج منها العشر إن كانت تسقى بالمطر، وإن كانت بالمجهود الشخصي فربع العشر من المحصول للنص (¬1). ولا نصاب فيها إلا فيما له أوسق فليس فيما دون خمسة أوسق صدقة بالنص (¬2). وفي كل النقد من الذهب كلما حال عليه الحول وهو عام وبلغ 80 جراما ففيه ربع العشر 2.5%، ومن الفضة كذلك (¬3). وكذا في معدن الذهب والفضة أو حليهما، للعموم. والنقود الورقية الآن كالذهب. وأما الأنعام فهي واردة في النص الثابت في صحيح البخاري «عن ثمامة بن عبدالله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر، رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت واحدة ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 1483 عن سالم بن عبدالله، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر». (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1484 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في أقل من خمسة من الإبل الذود صدقة، ولا في أقل من خمس أواق من الورق صدقة. وهو في مسلم برقم 2310. (¬3) - قولنا «كذلك» يعني ربع العشر، وأما نصابها بالجرامات فهو (595) جرام.

وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت، يعني -ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة ففيها حقتان طروقتا الجمل فإذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين شاتان فإذا زادت على مئتين إلى ثلاثمئة ففيها ثلاث فإذا زادت على ثلاثمئة ففي كل مئة شاة فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها وفي الرقة ربع العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومئة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» (¬1). ولا يستثنى من الزكاة شيء من الأموال المكسوبة والنابتة والحيوان إلا ما كان للاستعمال الشخصي الذي لا يخرج عن تغطية الضرورة والحاجيات للمالك كالمسكن والمأكل والمشرب والأثاث ووسيلة النقل ونحو هذه «ليس في فرس المسلم صدقة» (¬2). وكذا السلاح الشخصي بدليل «أما خالد فاحتبس أدراعه في سبيل الله» (¬3)، أي فلا زكاة عليه. ولم يشرع الإنفاق فرضا ولا طوعا إلا ما فضل عن هذه الحاجيات والضروريات (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219). وعند الكوارث أو المجاعات أو حاجة الغير وجب إنفاق الفاضل عن الضرورات والحاجيات، وحرم الادخار «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لأجل الدافة التي ¬

(¬1) - صحيح البخاري مع فتح الباري، باب زكاة الغنم (2/ 146). (¬2) - أخرجه البخاري برقم 1463 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة. وهو في مسلم برقم 2320. (¬3) - أخرجه البخاري برقم 1468 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبدالمطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله وأما العباس بن عبدالمطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها. وهو في مسلم برقم 2324.

دفَّت» (¬1). والدافة هم مجموعة من النازحين من أهل البادية إلى الحضر وكان فيهم حاجة وفاقة. والمعنى العام هو حصول طارئ من مجاعة ونحوها تصيب قوما، فهذا النص خاص أريد به العام (¬2). ويدل عليه أصول النصوص من محكمات القرآن والسنة، فمنه (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (البلد: 11)، وهذا محكم فدل على وجوب الإطعام حال المسغبة والمتربة وما في معناهما من طوارئ الكوارث، ودليل الوجوب ظاهر السياق في جعل المنع في هذه الطوارئ من صفات الكافرين ويؤيده قوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1 - 3)، فجعل من صفات المكذب بالدين تركه الحث والحض على الإطعام وهي خصلة محرمة سواء كانت في مسلم أو كافر ولكن جعلها في الذين كفروا المكذبين بيوم الدين يفيد شدة التحريم، ولأن المجاعة ضرر يلحق بالضروريات الكبرى ومنها النفس والعرض والمال، ودفع الضرر واجب ولحديث «من كان له فضل فليعد به على من لا فضل له فلا يزال يعدد حتى ظننا أنه ليس لأحد حق في فضل يدخره» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم 5215 عن عبدالله بن واقد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. قال عبدالله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة فقالت صدق سمعت عائشة تقول دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ادخروا ثلاثا ثم تصدقوا بما بقى». فلما كان بعد ذلك قالوا يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون منها الودك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما ذاك». قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا». (¬2) - وليس منسوخا كما قال جماعة، واحتمل الشافعي في الرسالة بقاء العلة لا النسخ، واحتمل لمن قال بالنسخ، وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية بعدم النسخ، ويرجحه ما أفاده كلام النووي من أن التعليل في الروايات ترجح القول بعدم النسخ. قلت: لا نسخ إلا بدليل ظاهر أو إجماع لأن الأصل بقاء الأحكام فتوهم هنا من توهم أن زوال العلة المانعة من الادخار هو نسخ، وإنما سقت كلام هؤلاء دفعا للاعتراض. (¬3) - أخرجه مسلم برقم 4614 عن أبي سعيد الخدري قال بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له». قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. وفي رواية لمسلم برقم 4004 «من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها».

ولا زكاة في الدين على صاحبه وهو الباذل للدين «الدائن» أو المقرض، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) (البقرة: 267). وهذا ليس مما كسب الشخص، بل مما أخرج من كسبه ورزقه. وكل أمر بالإنفاق من الأموال فلا يخرج عن هذا النص؛ لأنه إما مال داخل بالكسب، أو مما أخرج الله لنا من الأرض. ومن قال بزكاة الديون قال إنه مال، فشمله عموم (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (التوبة: 103). فجوابه: أي خذ من جميع أموالهم المكسوبة والخارجة من الأرض، لأن هذا قطعي تفصيلي، وذلك قطعي عام؛ فيحمل على هذا، وكذا يقال في (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (البقرة: 3) أي من النوعين. والرزق والكسب ما دخل لا ما خرج. فأمر بالإخراج مما دخل لا بالإخراج مما خرج. فإذا عاد الدين إلى مالكه شمله (أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (البقرة: 267)؛ لأنه رجع إلى كسبه المدخل، فيدخله في ماله ويزكيه معه. أما زكاة الدين على المستدين فهو مال مكتسب طيب فإن بلغ نصابا وحال عليه حول عنده زكّاهُ. وإن أنفقه فجعله تجارة فكذلك بشرط النصاب والحول. وإن أنفقه على نفسه في حاجياته كمسكن أو مركب أو أثاث أو لبس أو زينة فليس فيه زكاة؛ لعموم (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219)، أي الفاضل عن الضرورات والحاجيات. وأما زكاة المستغلات وهي العمارات والعقارات والسيارات والآلات المنتجة فقاعدتها كذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) (البقرة: 267). وهذا كسب داخل فشمله النص، وشرطه النصاب والحول.

ويكون في الربح إن بلغ نصابا وحولا. فمن بنى مدينة سكنية لإيجارها استثمارا؛ فهذه تجب الزكاة في إيجاراتها؛ لأنها من الكسب. وتدفع بحسب أخذ الإيجار، فإن كان كل شهر وهي نصاب أخرج كل شهر؛ لأنه كسب وإن كان ربع السنة أو آخرها فكذلك. وما زُكِّي بالشهر أو ربع العام فلا يعاد تزكيته مرة أخرى مع الشهر الآخر بل يكون مالاً مكنوزاً يشترط له الحول والنصاب لإخراج الزكاة عنه. وهذا بخلاف مكاسب التبادل التجاري؛ لأنها لا تنضبط بالشهر عادةً بل أقل عادات التجارة هو ربع كل عام، وغالبها كل رأس عام فتحمل على الغالب؛ ولأنها لو حسبت كل ربع سنة أو كل شهر تضرر المالك؛ لأن أصولها وأرباحها تحسب كل مرة بخلاف إيجار المستغلات فلا يحسب إلا الربح الشهري. وما سبق في الشهر الماضي فهو مال مكنوز وزكاته كل عام. ويجوز حساب التجارات كل ربع عام بشرط عدم تكرار زكاة ما زكى في الربع الأول من الأصول والأرباح حتى يحول عليها الحول، ولكن لما كان هذا لا ينضبط لكثرة تقليب التجارات أصولا وأرباحا فلا يميز ما زكى مما لم يزك فنبقى على ما ينضبط معينا، وهو الحول التام. وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ زكاة الحيوانات الأنعام والثمار كل عام لأنها لا تنتج إلا كذلك، ولو أنتجت الغنم كل ستة أشهر والأبقار تسعة؛ لكن طلب زكاتها مرتين يؤدي إلى حساب أصولها وفروعها مرتين فيضر المالك، وقد لا تبلغ الأولاد نصابات في النصف الثاني إن أفردناها، فيتضرر الفقراء فيبقى الحساب بالعام هو المنضبط للمالك وللفقير، وكذا هي قاعدة كل أموال الزكاة إلا المستغلات؛ فلسهولة تمييز إيجاراتها الحادثة عن السابقة؛ ولأن السابقة أصبحت مكنوزة إن حفظت فلا زكاة حتى تحول عاماً. أما لو أضيفت إلى تجارة فهي تجارة لها حكمها؛ ولو بنى بها مستغلات أخذ من ريعها. وكذا المزروعات يؤخذ منها كل عام؛ لأنها موسمية إلا ما أمكن في السنة مرتين أو مرات مما تخرج الأرض فيزكي يوم حصاده (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141).

فلم يعلقها بالحول بل بيوم الحصاد، وسواء كان مرة في العام أو مرات. وإنما قلنا بأنه لا يجب في المستغلات إلا في إيجاراتها وريعها لا في أصولها فلأن أصولها غير مقصودة في التجارة بل أرباحها كالأرض الزراعية؛ فإن الله لم يفرض في أصولها زكاة ولو بلغت ما بلغت؛ بل في ريعها الزراعي وهذا مثله، ولا فرق مؤثرٌ في فرق الحكم. وأما زكاة الأسهم فتزكى بقيمتها يوم وجوب الزكاة لا يوم الشراء. وهذه -أي الأسهم- أصبحت عروض تجارة؛ لأن التجارة هي المقصود منها، ولو كنزها فلها حكم الكنز كذلك؛ لأن الكنز يزكى كل حول بالنصاب فكان كالتجارة. ولا تزكى كالمستغلات لعدم تمييز ريعها عنها؛ لأن نموها إنما هو زيادة سعرها ولا يستفاد منه إلا في حال بيع الأصل؛ فهو نماء متصل كسِمَن الأنعام. وإن زكيت أرباح المستغلات كما مر فلا زكاة في أسهمها. وإن كانت أسهما للثروة الحيوانية فإنها تزكى زكاة التجارة؛ لأن الحيوان أصبح عروض تجارة. ولا يمكن جعل زكاة الأسهم زكاة الحيوان؛ لأنها تُخْرج من جنس الأنعام، وهذا في الأسهم متعذر، فتبين أنها تجارات. وإن زكيت الأنعام من جنسها فلا زكاة في أسهمها؛ لعدم اجتماع زكاتين في عين واحدة. وكذا لو كانت أسهما لشركات الحبوب والثمار ففيها زكاة التجارة؛ لأن التجارة أعظم مقصودها. وكل شركة أو جهة لها أسهم؛ فإن زكت الأسهم سقط عن أصول الأسهم، وإن زكت الأصول سقط عن الأسهم. وأما التفصيل فنقول إن الأسهم إن كانت مستوعبة لكل الأصول 100% فإن قِيَمَ الأسهم هي المعتبرة. فإن كانت غير مستوعبة للأصول بل تمثل بعضها كـ 20%، فتزكى هذه النسبة من الأسهم وتزكى نسبة 80% من الأصول.

وأسهم المستغلات إن عبرت عن الأصول والريع فهي عروض تجارة، ولم تَعُدْ مستغلات. وإن كانت معبرة عن الأصول فكذلك وأضيفت الأرباح لتزكى جميعا. وإن كانت الأسهم تمثل الأرباح فقط فزكاتها على الريع فحسب؛ لأنها مستغلات. وتضم التجارات بعضها إلى بعض لمالك واحد أو مشتركين في الزكاة؛ لأن إطلاق النصوص يدل على الإيجاب بدون تفصيل. وتضم النقود بعضها إلى بعض؛ لأنه لا معنى للفصل سوى الخروج من الإيجاب العام لإسقاط التكليف، ولا يسقط إلا بقاطع. وكذا تضم الذهب والفضة معا لإتمام النصاب إن كانا عروض تجارة أو نقوداً لا إن كانا حليا أو معدنا؛ لأن الذهب والفضة إن كانا نقوداً أو عروضاً فهما في معنى واحد ولا فرق بينهما بخلاف كونهما حليا أو معدنا. والأنعام الثلاثة أجناس لا تضم بعضها إلى بعض إلا في عروض التجارة؛ لأن علتها صارت واحدة بذلك وهي كونها عروض تجارة. والحبوب والثمار كذلك لا يضم شيء إلى آخر لأجل إكمال النصاب إلا في عروض التجارة. النسق الثالث: الوصية والفرائض. 1 - الوصية: أما الوصية فيجب على المسلم وصية في ماله إن كان له خير للنص (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 180 - 182). وفي الحديث «لا يبت أحدكم إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2738 عن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. وهو في صحيح مسلم برقم 4291.

ومقدارها راجع إلى تقدير الموصي، وشَرْطٌ ألا يزيد على الثلث؛ لأن الشرع منع ما فوقه بالنص «النصف. قال: لا. قال: فالثلث. قال: الثلث والثلث كثير» (¬1). وتخرج الوصية قبل الفرائض بالنص (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ) (النساء: 12). والوصية هي: فرض شرعي مالي يبينه المالك في ماله يؤخذ بعد موته. فقولنا «فرض» لأن النص قضى بذلك بقوله سبحانه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180). وقولنا «يؤخذ بعد موته» هو بيان لزمن انتقال ملك المال الموصى به إلى جهة الإيصاء. «ولا وصية لوارث» (¬2) إلا الوالدين جمعا بين الآية والحديث. ويحمل «الأقربين» في الآية على غير الورثة منهم. ويكون الإيصاء للوالدين بما هو إحسان لهما زيادة على الفرض. ولا وصية إلا على من ترك مالا كثيرا لا أي مال؛ لأن لفظ النص يدل عليه (إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ). والخير في لسان العرب لا يطلق على قليل المال. وهي بالعرف غير خارجة عنه (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا)؛ فلا تجب الوصية في المال الحقير التافه؛ لأنه في العرف غير معتبر، ولا تجوز أكثر من الثلث للنص الشرعي. وإذا لم يوص جاز إخراج قدر الوصية من ماله تبرعا، وقد يكون وجوبا لأنه فرض في الذمة كتبه الله تعالى. ويحرم تغيير الوصية وتبديلها للنص على ذلك (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 181). وإذا تسبب عن الوصية إثم أو جنف عن الحق فيجوز الانتقال إلى الصلح ولا إثم حينئذ في تغيير الوصية؛ لأنه دفع لمفسدة أكبر وإصلاح بالتراضي فجاز بالنص (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ ¬

(¬1) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 182). 2 - الفرائض (المواريث): الفروض المقدرة في كتاب الله ستة: الثُمُن، وضعفه، وضعف ضعفه، والسدس، وضعفه، وضعف ضعفه. فأما الثمن فهو ميراث الزوجة بعد زوجها إن كان له ولد، ولها الربع إن لم يكن له ولد، وله النصف بعدها إن لم يكن لها ولد، فإن كان لها ولد فله الربع (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء: 12). والنصف فرض البنت بشرط الانفراد عن معصب، وهو أخوها الذكر. وفرض بنت الابن بشرط الانفراد عن معصب ذكر في منزلتها، وهو أخوها أو ابن عمها أو أنزل منها أو ابن أخيها. وفرض الأخت الشقيقة النصف بشرط الانفراد عن معصب ذكر، وهو أخوها. وفرض الأخت لأب النصف بشرط الانفراد عن معصب ذكرٍ، وهو أخوها. والدليل على أن للبنت النصف (وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)، وهذا الدليل شامل للبنت الصلبية وبنت الابن وإن نزل. والدليل على ميراث الأخت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) وهذا شامل للأخت الشقيقة ولأب. وأما ميراث الثلثين: فهو لنفس هذه الأصناف الأربعة من النساء بشرط كونهن اثنتين فما فوق، وانفرادهن عن المعصبين الذكور المذكورين (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)، (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فذكر الله ما فوق الاثنتين والاثنتين. والأب يأخذ الثلثين والأم الثلث بشرط عدم الولد للميت بالنص (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ).

وأما ميراث الثلث: فهو للأم بالنص في حال موت ابنها عنها ولم يكن له ولد، أو جمع من الإخوة اثنين فما فوق، فالشرط الأول مأخوذ عن النص (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ). والشرط الثاني مأخوذ من النص كذلك (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ). والثلث كذلك فرض للإخوة من الأم بالسوية ذكورا وإناثا إن كانوا فوق الواحد (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ) (النساء: 12). وأما السدس فهو فرض للأب والأم في حالة وجود فرع وارث للميت وهو الولد. (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ) وهو كذلك للجد والجدة من قبل الأم والأب. وميراث الجدة والجد مأخوذ من دلالة النص، وعليه الإجماع؛ فدلالة النص إطلاق الأبوين في الآية السابقة. وهو يشمل كل والد وهم الأب المباشر فما فوق، والأم المباشرة فما فوقها من أمهاتها. وأما الإجماع فنقل قضاء الصحابة بالسدس للجد والجدة (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح برقم 1076 عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى اسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه لها أبو بكر الصديق ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها فقال لها مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ولكنه ذلك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيتكما خلت به فهو لها. وهو في مسند أحمد بسند رجاله رجال الشيخين. وأخرجه الحاكم برقم 7978 وقال صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي على شرط البخاري ومسلم. قلت: وهو كما قالا، وله شاهد عند الحاكم برقم 7984 من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدتين من الميراث السدس بينهما بالسوية. وله شاهد عند الحاكم برقم 7980 من حديث معقل بن يسار قال: قال عمر: من عنده في الجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: عندي. قال: ما عندك؟ قلت: أعطاه السدس. قال: مع من؟ قلت: لا أدري. قال: لا دريت. وقال: هذا حديث =

الحجب

والسدس كذلك لبنت الابن مع البنت المباشرة التي تأخذ النصف فيتم بالنصف والسدس الثلثان، وهو فرض النساء (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ). وتأخذه كذلك الأخت مع البنت، فالبنت تأخذ النصف والأخت السدس تكملة الثلثين للنص العام (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ). وتأخذه في حالة عدم الفرع الوارث، ولا الأصل الوارث المباشر، وهو الأب. وتأخذه الأخت لأب مع الأخت الشقيقة، فالشقيقة لها النصف والأخت لأب السدس تكملة الثلثين. ويحتمل أنهما هنا بالسوية في الثلثين لإطلاق النص (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ). ولا يحضرني الآن مانع عن هذا الاجتهاد من نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أو إجماع مقطوع. وللأخت لأم والأخ لأم عند الانفراد وعدم أصل وارث ذكر ولا فرع وارث (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ). - الحجب: والأبوان المباشران والولدان والزوجات لا يُحجبون إسقاطاً أبدا. ¬

= صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص على شرط البخاري ومسلم. قلت: وهو كما قالا. قلت: فالحديث بهذا صحيح لا شك فيه، وأما تضعيف الألباني له في ضعيفة أبي داود بسبب عدم معرفته لعثمان بن عبدالله بن خرشه فغير جيد؛ لأنه قال: أنه ليس بمشهور. قلت: بل وثقه ابن معين، وهو مشهور كما قال البخاري، فلم يتنبه لهذا. أما إعلاله بأن قبيصة لم يدرك أبا بكر؛ لأنه ولد في عام الفتح .. قلت: إن سلمنا بهذا، فإن مولده في عام الفتح وأدرك قطعا أبا بكر في سن التمييز، وقد أورد البخاري أن السماع للحديث يصح في الرابعة من العمر وأورد له في ذلك حديث المجة المشهور في كتاب العلم من صحيحه. وعليه فهي علة غير صحيحة، وأما الاضطراب في الزهري فإن الزهري بحر كما قال الحافظ في الفتح في غير مرة. وقاله الحفاظ أن الزهري وأمثاله عند اختلاف الإسناد عليهم قد لا يعد اضطرابا لسعة حفظه، وعلى كل حال فإن أكثر ما يمكن قوله أن ما أبهمه في سند وضحه في سند آخر فكان عثمان المذكور وهو ثقة كما تقدم، فتبين أن هذه العلل غير صحيحة، والصواب تصحيح الحاكم له والذهبي وابن حبان، وقال الترمذي حسن صحيح كما نقله عنه الحفاظ في نسخهم، كابن الملقن، وقال الحافظ إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل. وله شاهد من حديث بريدة حسن في الشواهد عند أبي داود. فالحديث لا شك في ثبوته وعليه الإجماع من الصحابة.

ومن يسقط هُمْ: الجد «أبو الأب» يسقط بالأب، والجدات تسقط من كل جهة بالأم. وابن الابن يسقط بذكر فوقه، وهو الابن. أما الإخوة فيسقطون بالفرع الوارث الذكر، وبالأصل الذكر المباشر وهو الأب، وفي الجد خلاف (¬1). أما الإخوة لأم فيسقطون بهؤلاء جميعا بمن فيهم الجد وبالبنات وبنات الابن. النسق الرابع: الإنفاق على من تجب عليهم النفقة فعلى الشخص نفقة والديه المحتاجين وولده الصغار وزوجته وذوي القربى. وقد سبق تفصيل ذلك. النسق الخامس: إيتاء حق ذي القربى، والقربى هي الصلة الواجبة وهي بحسب العرف والحاجة، فإن كان محتاجا زاد في إيتائه بقدر حاجته إن كان قادرا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) (الطلاق: 7). - واليتامى: ولهم حق الكفالة وجوبا على المجتمع على وجه الكفاية؛ فإن قام به البعض سقط عن الآخرين. وقلنا من الفروض؛ لأنه مأمور في النصوص بإيتائه حقه، وعدم قهره، وبإطعامه، وهو أمر عام للمجتمع والدولة، فمن قام به أسقطه عن البقية. - والجار ذو القربى والجار الجنب وحقهما الإحسان إليهما؛ بأن يدخل تحت هذا المسمى؛ وليس من الإحسان تركه جائعا فقيرا مع قدرة جاره. ولورود الأمر بإشراكه في الطعام «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (¬2). ¬

(¬1) - ولولا هيبة الإجماع المنقول لذهبت إلى أن الإخوة يرثون مع الأب لدلالة الآية (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ) (النساء: 11)، ففصل المسألة في حال عدم الولد أن للأم الثلث وسكت عن الأب، وفي حال وجود الإخوة أعطى الأم السدس وسكت عن الأب، والأب وارث قطعا وسكت عنه النص لمعلومية ذلك، فيكون له في المسألة الأولى الثلثان، كذا قيل، ويحتمل عندي الثلث كالأم ويأخذ الباقي تعصيبا. وأما في المسألة الثانية وهي حال وجود الإخوة فتأخذ الأم السدس، والأب السدس، والباقي تعصيبا يأخذه الأب، كذا قيل. ويجوز عندي لولا الإجماع أن يأخذ الأب الثلث على ما كان أعطي في الحالة السابقة فرضا، وتعطى الأم السدس بالنص. ثم يقاسم الإخوة في الباقي، وهذا اجتهاد مني، إن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطئا فمن نفسي .. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه.

وهذا يدل على الوجوب، وتعاهد معناه النظر لمدى حاجتهم؛ فإن ظَهَرتْ أعطاهم وجوبا، وإلا فإهداء وتبرر. والنص «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جوعان إلى جنبه وهو يعلم» (¬1). وهذا أبلغ إيجاب. وفي النص عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (¬2). وكان أكبر الكبائر الزنى بحليلة الجار (¬3). وملعون «من لا يأمن جاره بوائقه» (¬4) أي: مصائبه. - والصاحب بالجنب: وهو كل مصاحب للشخص، فله حق عليه ألا يحتاج وهو قادر على قضاء حاجته، والحاجة هنا هي النفقة، وما يقيم أمره وأسرته. فإن لم يكن قادرا فيواسيه بقدر استطاعته (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (الطلاق: 7). - وابن السبيل: وهو كل مار ببلد وأصابته حاجة. وهؤلاء مذكورون في نص واحد (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 36). وقد ذكروا في نصوص كثيرة. ومن الإنفاق الواجب الإنفاق على الحيوان الخاص بالمكلف، أو الطواف الذي لا يجد من يعطيه، أو الحيوان المضطر لحديث «أن امرأة من بني إسرائيل بغيا سقت كلبا كاد يموت عطشا فغفر الله لها» (¬5). ¬

(¬1) - ما ذكرناه من الحديث «ما آمن بي .. » حسنه الحافظ في القول المسدد في الذب عن مسند أحمد. قلت: وله شاهد في المستدرك بسند يحسن مثله في الشواهد برقم 2103 عن عائشة، وشاهد من حديث ابن عباس كذلك بسند حسن في الشواهد عنده برقم 7388، وهذا الأخير عند الضياء في المختارة برقم 3870. (¬2) - أخرجه البخاري برقم 6015 عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». وهو في صحيح مسلم برقم 6854. (¬3) - تقدم تخريجه. (¬4) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬5) - تقدم الحديث وتخريجه.

أما الخاص بالمكلف فوجوب الإنفاق عليه معلوم ودليله حديث المرأة التي دخلت النار في هرة؛ فإن كان خاصا أطعم وإلا وجب تركه بدلالة الحديث، والطواف والمضطر إن لم يطعمهما أحد قريب من هذا المعنى من حيث ارتكابه لعمل أدى إلى قتلهما مع استطاعته دفع ذلك. النسق السادس: وهو الكفارات والنذور أما الكفارات الواجبة عن اليمين فمن أقسم أن يفعل، أو لا يفعل ثم أراد الرجوع عن اليمين، فعليه كفارة إطعام عشرة مساكين من الأوسط، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة للنص (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 89). ولا يوجد في الدنيا قانون كهذا القانون الإلهي في ذلك. إذ الأيمان تكثر من الخلق، ولكثرتها جعلها الله خادمة لمقصد إنفاق المال؛ ففرض الكفارة على الحالف، وجعلها طعاما أو كسوة أو تحريراً. ويحرم عليه أن ينتقل عن إحدى هذه الثلاث إلى الصيام إلا عند العجز (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) (المائدة: 89). ومن الكفارات الإطعام في الحج، والصدقة كما هو مفصل في النص للمتمع وللقارن ولمن كان به أذى فأزاله وارتكب لذلك محظورا في الإحرام (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة: 196). وكفارة من ظاهر من زوجته فيها إطعام ستين مسكينا إن عجز عن الأوليين (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) (المجادلة: 3 - 4).

والنذور في الجملة تدخل في هذا النسق، فمن الواجبات هنا الإيفاء بالنذور في الطاعات فمن نذر أن يطعم أو يتصدق وجب عليه. النسق السابع: هو الإغاثات في النوازل (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 11 - 16). ودليل وجوبه أنه دفع ضرر فاحش عن آدمي؛ فوجب؛ لأن الشريعة فرضت دفعَ الضرر والمفاسد وجلب المصالح؛ ولأن حفظ الأنفس واجب ومن مقاصد الشريعة، وهذا خادم لها فوجب؛ لأنه وسيلة إلى فرض. وَفُرِضَ الجهاد في سبيل الله بالمال في نصوص كثيرة، وهو من هذا الباب. النسق الثامن: بذل الانتفاع بمنافعه، وهو في الماعون وجوباً. والماعون كل ما يمكن إعارته بلا ضرر عليه. ومنع الماعون محرم بالنص (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 1 - 7). والعواري مضمونة عند تلفها ولا يلتفت إلى التفريط وعدمه؛ لأن الأصل الضمان. ولا أعلم ما ينقل عنه، أو يفصل الحكم بالتفريط وعدمه. النسق التاسع: الطعام. ما لا بد منه للحياة الإنسانية بحيث لا يقوم الوجود الإنساني إلا به أقسام: الأول: ما يتلف الإنسان بانعدامه فورا وهو الهواء. الثاني: ما يتلف الإنسان بانعدامه سريعا وهو الماء. الثالث: ما يتلف الإنسان بانعدامه على مهل وهو الطعام. الرابع: ما لا بد منه للحياة الإنسانية كإنسان وهو الملبس والمسكن. الخامس: ما لا بد منه لدفع الأضرار وهو قسمان: وقائي ودوائي. السادس: ما لا بد منه للإنسان لإقامة التكليف الاستخلافي وهو الأمن.

أما الأول فلخطورته القصوى جعله الله موفرا في كل زمان ومكان بلا احتياج لبشر أو مخلوق ونزع الله إمكان احتكاره من أي مخلوق كائنا من كان. أما الثاني فجعله الله من الوفرة الهائلة في الأنهار والأمطار وباطن الأرض وظاهرها ما لا يمكن معه لبشر أن يحتكره. أما الثالث وهو الطعام فلإمكان احتكاره والتحكم فيه من طرف على الآخر شدد الله فيه أعظم تشديد وكثرت فيه النصوص الآمرة ببذله سواء في السراء والضراء في الأحوال الطارئة والاعتيادية، وكثر الترغيب في جزائه عند الله. فمن ذلك: 1 - إيجاب الزكاة في الطعام والنصوص فيه كثيرة، وهو العشر أو نصف العشر إن كان بمؤونة، وقد تقدم. ويجب إعطاء ذلك حال الحصاد لورود النص (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141). 2 - وفي التفكه رخص في شراء الرطب باليابس ولو على شجره خرصا رعاية لحق المحتاج في التفكه مع أن الأصول الشرعية تنهى عن هذا البيع لما فيه من الجهالات والغرر خاصة إذا كان في الربويات. 3 - شرع الإطعام لكل محتاج للطعام من مسكين ويتيم وأسير (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) (الإنسان: 8 - 9). 4 - أوجب الحض على إطعام المساكين (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1 - 3). 5 - أوجب الإطعام حال الطوارئ والكوارث والمجاعات وجعلها من أعظم الواجبات والقربات وقد أسقط عمر رضي الله عنه حد السرقة في أيام المجاعة (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 11 - 16).

6 - أباح طعام الحاجة من الثمر على الشجر بلا اتخاذ خبيئة (¬1). 7 - أباح شرب اللبن عند الحاجة من ضروع الأنعام المملوكة للغير ولو بلا إذن. 8 - أباح تعليق القنو في المسجد من التمر. 9 - شرع الهدي في الحج وجعل رأس الكفارات الإطعام وعلى رأسها لحوم الهدي ثم إطعام مساكين (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج: 36)، (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28). 10 - جعل الفدية لمن لم يطق صوم رمضان لكبر أو مرض مزمن لا يبرأ منه ولا يستطيع معه الصوم الإطعام (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184). 11 - جعل جزاء الصيد في الحرم هو الإطعام ابتداء بالمثل لما أتلف من الصيد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة: 95). 12 - جعل كفارة اليمين الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة بالاختيار (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 89). 13 - جعل كفارة النذر لمن لم يستطع القيام به أو كان نذرا في معصية كفارة يمين وعلى ¬

(¬1) - أخرجه الترمذي برقم (1289) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه. وأخرجه الترمذي برقم (1287) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة.

رأسها الإطعام كما تقدم، وقد ثبت في الصحيح أن كفارة النذر كفارة يمين (¬1). 14 - جعل كفارة الظهار إطعام ستين مسكينا عند عجز الصيام لشهرين متتابعين (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة: 3 - 4). 15 - جعل إطعام الجار المحتاج حقا واجبا «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع» (¬2). 16 - جعل الإطعام من المسئوليات التي يسأل عنها العبد أمام الله (¬3). 17 - جعل أفضل الغرفات في الجنة لمن أطعم الطعام «وأطعم الطعام وألان الكلام» (¬4). 18 - جعل الإطعام مهما قل حجابا من النار (¬5). ¬

(¬1) - أخرج مسلم برقم (4342) عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كفارة النذر كفارة اليمين». (¬2) - تقدم تخريجه. (¬3) - أخرج مسلم برقم (6721) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عزوجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى. قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين. قال أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى. قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين. قال أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدى فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندى». (¬4) - كما في مسند أحمد بن حنبل برقم (7919) عن أبي هريرة قال قلت: يا رسول الله انى إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء فقال كل شيء خلق من ماء قال قلت يا رسول الله أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة قال أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام. (¬5) - أخرج البخاري برقم (1413) حدثنا محل بن خليفة الطائي قال: سمعت عدي بن حاتم، رضي الله عنه، يقول كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجلان أحدهما يشكو العيلة والآخر يشكو قطع السبيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير وأما العيلة فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له ثم ليقولن له ألم أوتك مالا فليقولن بلى ثم ليقولن ألم أرسل إليك رسولا فليقولن بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة.

19 - فتح باب الإطعام بلا احتقار لنوعه أو مقداره (¬1). 20 - جعل الساعي على الأرملة والمسكين واليتيم كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر (¬2). 21 - جعل المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة (¬3). 22 - وسع باب الإطعام إلى الحيوان وإلى كل كبد رطب (¬4). 23 - بلغ تأكيده على الإطعام وفضله إلى من يجب على الإنسان نفقتهم فضلا عن غيرهم (¬5). 24 - أحرق الجنة التي منع أصحابها الإطعام لمجرد تبييت النية (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلا يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ* أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ* فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ* وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) (القلم: 17 - 25). ¬

(¬1) - كما في موطأ مالك برقم (1646) عن بن بجيد الأنصاري ثم الحارثي عن جدته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ردوا المسكين ولو بظلف محرق. (¬2) - كما في صحيح البخاري برقم (6007) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال يشك القعنبي - كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر. (¬3) - كما في مسند الإمام أحمد بن حنبل برقم (17371) عن عقبة بن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال يحكم بين الناس قال يزيد وكان أبو الخير لا يخطئه يوم الا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا. (¬4) - كما في صحيح البخاري برقم (6009) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا فقال في كل ذات كبد رطبة أجر. (¬5) - كما في صحيح البخاري برقم (2742) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال يرحم الله ابن عفراء قلت يا رسول الله أوصي بمالي كله قال: لا قلت فالشطر قال: لا قلت الثلث قال فالثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون ولم يكن له يومئذ إلا ابنة.

25 - أوجب في زكاة الحيوان الإخراج من الجنس لا من القيمة وأن تكون أنثى في الغالب لما في ذلك من الدر والنسل ولا يخفى ما فيه من تحقيق نوع هام من الأمن الغذائي للأسرة بذلك. 26 - شرع الأضاحي وشرع إطعام ثلثيها صدقة وهدية. 27 - شرع العقيقة عن كل مولود ولا يخفى مع كثرة المواليد ما في هذا من الحكمة. 28 - شرع في العرس الوليمة وهي الإطعام، ونهى عن اختصاص الدعوة بالأغنياء دون الفقراء (¬1). 29 - شرع إطعام الضيف وإكرامه بل جعله من الإيمان (¬2). 30 - جعل من أسباب دخول جهنم عدم الإطعام (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (المدثر: 42 - 44). 31 - جعل من صفات الكافرين وأعمالهم القبيحة ترك الإطعام (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (يس: 47). 32 - جعل من أكبر وأهم وأبرز أسباب أشد العذاب عدم الحض على طعام المسكين (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ* إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ* وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ* لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ) (الحاقة: 31 - 37). 33 - شرع المزارعة والمساقاة (¬3). ¬

(¬1) - كما في صحيح مسلم برقم (3598) عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»، وفي صحيح البخاري برقم (5177) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه كان يقول شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (¬2) - كما في صحيح البخاري برقم (6136) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت. (¬3) - كما في صحيح مسلم برقم (4001) عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه».

تعريف الوقف

34 - حرم الربا في الطعام أشد التحريم (¬1). النسق العاشر: التطوعات والقرب والتبرعات، ورأسها الوقف. تعريف الوقف: والوقف هو حبس أصل إنتاجي، وجعل منافعه لأوجه الخيرات ابتغاء وجه الله. وقولنا «حبس»؛ لأن الوقف من إيقاف تداول تملكه، فلا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. وهو لفظ النص «حَبِّسْ أصلها» (¬2). وقولنا «أصل إنتاجي» خرج به الاستهلاكيات مما المنفعة فيه باستهلاك عينه كالفواكه والأطعمة والأشربة فلا توقف هي بل يتصدق بها، إنما يوقف أصولها من شجر وأرض، كليهما أو الشجر فقط، وإذا وقف الأرض فالشجر تبع له. فقولنا «أصل إنتاجي» أعم من ضبطه بغير المنقول؛ لأن من المنقول ما يتحقق مقصود الوقف، وهو الانتفاع بريعه وإبقاء أصله مثل طائرة نقل، أو سفينة، أو قطار، أو سيارة، وصيانة هذه من ريعها. وإذا قاربت الاستهلاك جاز بيعها. وشراء أخرى وتكون وقفا؛ لأن الثمن وقف. وإنما جاز بيعها هنا مع منع بيع الوقف لأن المقصود من المنهي عن بيعه هو حفظه، إذ بيعه يعود على مقصود الوقف بالإبطال؛ فحرم. وأما في هذه الصورة فهو بيع للحفظ، ومثله بيع أرض موقوفة يوشك السيل على إزالتها. فتباع لعارف بذلك، ويشترى غيرها مثلها، وتكون وقفا على الأصل ولا تحتاج إلى إنشاء جديد بوقفها (¬3)، وقد باع عمر رضي الله عنه وقفا واشترى غيره دفعا لمفسدة ضياعه (¬4). ¬

(¬1) - كما في صحيح البخاري برقم (2170) عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. (¬2) - تقدم الحديث وتخريجه. (¬3) - والإنشاء هنا هو أن يقول (وقفت هذه الأرض). (¬4) - انظر المغني لابن قدامة (6/ 250).

وقف الأسهم

ومن المنقولات المنتجة المصانع فيجوز وقفها. ولا حجة لمن قال بعدم وقف المنقول؛ إذ الأصل الصحة. وإنما منعنا وقف المواد الاستهلاكية كالطعام؛ لأنه لا منفعة فيه إلا استهلاك عينه. وهذا لا يوافق مقصود الوقف، وهو الانتفاع بريعه، ومنافعه وإبقاء أصله. فيكون وقف المستهلك صدقة تملك للمدفوعة إليه، إلا إن كانت كمية كبيرة فتباع ويوقف ثمنها. ووقف الأسهم جائز؛ لأنها مال ينتفع بريعه؛ ولأن أصول الأسهم من شركات ومؤسسات ونحوها في حكم الثابت؛ لأن الغالب أو اليقين كذلك، والحكم الشرعي مبني على الغالب. وإنما قلنا «غالب أو يقين»؛ لأنها ولو كان بعضها أصوله من المنقولات كشركات النفط والأنعام إلا أن لها أصولا ثابتة غير منقولة، ولها منقولات في حكم الثابت؛ لأنه يحقق مقصوده، وهذا يقين وغالب. وأما المستهلكات كشركات الأطعمة والمشروبات فأصولها وريعها محلُّ الوقف ومقصوده، فجاز. فتبين أن النظر الفقهي الجديد للوقف يكون بحسب الأصول الإنتاجية أو المنفعة حالا ومآلا أو مآلا فقط لا إلى الضابط القديم الذي وضعه بعض الفقهاء -رحمهم الله- مناسبا لزمنهم. فمن أبطل اليوم لأجل هذا القيد الوقف في هذه الأمور سيبطل أكبر إمكانات العصر عن الوقف كوقف شركات الثروة الحيوانية، وشركات النفط، ومصانع الاستهلاكيات، وصار تفقهه حينئذ ضرراً على أصل من الأصول المالية في الإسلام وهو الوقف، وعاد عليه وعلى مقصوده بالإبطال. فيجيز وقف أرض أو عمارة، ويُحَرِّم وقف طائرة، أو مصنع إنتاجي يعطي أضعافا مضاعفة من الريع، ويمكن بريعه شراء مئات العقارات والمزارع. وما خدم مقاصد الشرع بأكثرية، أو أولوية، فهو المقصود شرعا، فبطل القول بغير هذا؛ لأنه مصادم لما يعود على الأصول في الوقف والمقاصد منه بالإبطال والإخلال.

وقف الأموال النقدية

وقولنا «مآلا فقط» ليشمل جواز الوقف للنقود وللفواكه وكل مأكول ومستهلك وذلك بالتصرف فيه بما يجعل المنفعة منه مآلية كبيع الفواكه ووقف ثمنها بشراء أسهم أو عقار أو وضعها في بنك أو صندوق استثماري والاستفادة من ريعها على الدوام. وقف الأموال النقدية: ويجوز الآن وقف الأموال النقدية، وتوضع في البنوك الاستثمارية للاستفادة من ريعها، ومن منع لزمه الدليل، أما مجرد نقل قول قاله فلان قبل ألف سنة أو الآن بلا حجة شرعية؛ لا لشيء إلا لأنه قول فلان، فلسنا متعبدين به (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 65)، ولأن الأصل الإباحة، وعلى المانع الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة، ولأن الله يقول في كل مسألة لم ينص على حكمها تحريما (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، وهذه منها. ولأن هذا يخدم المقصود الشرعي للوقف، وما خدم المقصد وحققه فهو مشروع. وإنما قيدناها بوضع الأموال النقدية في نحو بنك الاستثمار احترازا من وقف النقود ذهبا، أو فضة، أو عملة ورقية معاصرة بدون وضعها في جهة استثمارية معتمدة يغلب عليها الربح؛ لأنها حينئذ صدقة يستهلك أصلها. والخروج من هذا بذلك، أو بشراء أصل إنتاجي ثابتٍ أو منقولٍ، فالأول كالعقار والثاني كمصنع. وقف الأعيان المالية: ويجوز الوقف من سائر الأعيان المالية الأربعة (¬1) إذا كانت أصولا إنتاجية أو كانت استهلاكية وأمكن بيعها وشراء أصل إنتاجي، أو وضعها في جهة استثمارية؛ لأن الأصل الجواز والمانع لا دليل له، ولأنه يحقق المقصود من الوقف، فجاز. والأصول المالية العينية أربعة هي: 1 - الأرض والعقار وما يتبعها. 2 - والأصول الإنتاجية. ¬

(¬1) - راجع تقسيمنا للأموال في محله من كتابنا هذا.

وقف الحقوق المالية

3 - والثروات الأصول، وهي خمسة عشر نوعا. 4 - والأعيان المالية الاستهلاكية. وقف الحقوق المالية: ويجوز وقف الحقوق المالية كالعلامة التجارية، وحق التأليف المادي، وبدل الخلو، ويتصرف في هذا الأخير بما يتصرف في وقف النقود حسب ما ذكرنا آنفا. والأوقاف الإعلامية هي من هذا النوع كوقف قناة، أو حقوق إنتاج فني كفيلم وثائقي أو تمثيلي جائز شرعا كفيلم الرسالة، ووقف صحيفة، وموقع إخباري ووقف آثار سياحية تدر دخلا إلا إن كانت من أملاك الدولة فلا توقف؛ لأنه لا معنى له، إذ الأملاك العامة مصلحة عامة، فإن رأت الدولة وقفها للمصلحة العامة حتى لا تقسم أو تباع جاز. ومنه فعل عمر في سواد العراق حيث جعله لعامة المسلمين، وهو كالوقف العام حينئذ. ووقف متحف شخصي جائز من هذا الباب، ومقصود الوقف متحقق فيه، ومن زحزحه عن الأصل أعوزه الدليل القائم الخالي عن المماثل والمقاوم. ويجوز وقف محطة توليد كهربائية وجعل ريعها للجهة الموقفة الخيرية. وكذا وقف شركة اتصالات أو سوبر ماركت بما فيها من أصول وسلع؛ لأنها بدوران وتحريك مالها كانت أصلا دائما في الحكم. ووقف الثروة الحيوانية جائز، ويجعل إنتاجُها من الولد وقفاً. ويستفاد من ألبانها ومشتقاته وسائر ما يتعلق بالثروة الحيوانية من الاستثمار من جلود وشعر وصوف ووبر. ويجوز بيع بعض إنتاجها من الولد للاستفادة من ريعه، ويجب الإبقاء على نسبة من الولد تحفظ بقاء الثروة الحيوانية. وأما وقف الثروة المائية كمشروع مائي أو سد أو بئر؛ فلا إشكال في جوازه، وقد وقف عثمان بئر رومة (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم 2778 عن أبي عبدالرحمن أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر رومة فله الجنة فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتهم قال فصدقوه بما قال وقال عمر في وقفه لا جناح على من وليه أن يأكل وقد يليه الواقف وغيره فهو واسع لكل.

وقف المنفعة المالية بسائر أنواعها

ووقف نسبة ثابتة من ثمر مزرعة جائز؛ والأصل عدم المانع، فمن ادعاه لزمه الدليل، ويجب أن يوقف من الأرض بقدر تلك النسبة، وإلا لأدى إلى بطلانها بالبيع للأرض. فإن لم يكن وقفٌ لجزء من الأرض فالثمرة صدقة مستمرة، وتنقطع ببيع أصله لآخر، وهي الأرض، ولا يصلح الاشتراط على المشتري إخراج تلك النسبة (¬1)؛ لأنه شرط مؤثر يقيد التصرف في ملك الغير، فبطل. وقف المنفعة المالية بسائر أنواعها يجوز وقف المنفعة ولا يصح إلا بوقف ما يحفظ الأصل المنتج من بيع، أو هبة، أو ميراث. وجهات الوقف الحياتية سياسية ومدنية، ونقابية، وتعليمية، واجتماعية، وخدمية، وإغاثية، وعسكرية، وأمنية، واقتصادية، فردية أو اعتبارية. والوقف إما من هذه الجهات أو على هذه الجهات. أما من هذه الجهات فلا إشكال؛ لأن الواقف كامل الأهلية يجوز وقفه سواء كان فردا أو جهة اعتبارية مخولة، وأما الوقف عليها، فكذلك إلا ما كان في محرم. الوقف السياسي والنقابي ومنظمات المجتمع وسائر الجهات: فالوقف على الجهة السياسية نحو الوقف على حزب سياسي، أو حركة، أو تنظيم. وعلى الجهة النقابية كالوقف على نقابات ومنظمات المجتمع المدني القائمة على خدمة المقاصد الستة للشرع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، والجماعة. وعلى جهة اجتماعية كوقف للمنافع، والمناسبات الاجتماعية من عرس وعيد أو صندوق تطوع للإنفاق على الشرائح الضعيفة من مساكين وأرامل ويتامى وابن السبيل. وعلى جهة خدمية كوقف وسائل نقل، أو مركز صحي، أو مشروع مياه. وعلى جهة إغاثية كالمنظمات الخيرية الإغاثية والجمعيات الخيرية. ¬

(¬1) - قولنا «تقدر تلك النسبة»، أي ما ينتج تلك النسبة من الثمار، فإن كانت الثمار الموقوفة 60% أوقف من الأرض ما ينتج هذه النسبة ولو كانت أكثر من 60%.

وعلى جهة عسكرية كالوقف للمرابطين في سبيل الله لإعلاء كلمته. وعلى جهة أمنية رسمية أو غير رسمية كالتعاون المجتمعي على التصالح، وجمع الكلمة، وحل مشاكل الفتنة، فجعل وقف لهذا جائز، وهو قربة شرعية. وعلى جهة اقتصادية كوقف لتمويل مشروع استثماري اقتصادي يقيم المال العام، أو يخصص ريعه لجهة خيرية معينة. ويجوز استثمار الوقف بأنواع الاستثمار المذكور (¬1)، وجعل ريعه للجهة الموقوف عليها. ولاستثمار الوقف مصلحة كبيرة تحقق المقصود الشرعي للوقف وتخدمه، فطلبت شرعا؛ لأنها وسيلة لمشروع. النسق الحادي عشر: هو المبادرة التطوعية العامة بالصدقات العامة الطوعية، ومنها العمرى والرقبى (¬2). والصدقات من أعظم القربات عند الله وأعظم الأعمال الشرعية. وفضائلها وطلبها والحث عليها لا تكاد أدلته من نصوص القرآن والسنة تحصى، وهو بالغ حد التواتر القطعي الضروري المعلوم من الدين علما ضروريا كعلمنا أن النار محرقة. ¬

(¬1) - راجع الاستثمار من كتابنا هذا. (¬2) - سبق الكلام في ذلك.

النظام المالي الخامس فهو نظام الإرفاق والتسهيلات

وأما النظام المالي الخامس فهو نظام الإرفاق والتسهيلات ومباحثه ذكرت، وهي: القرض والوديعة والحوالة والوكالة، فلا معنى لإعادتها إلا مسائل في الوكالة، فنقول: الوكالة: عقد عام إلا أنه بالماليات ألصق، ويليه الصلح. فالوكالة: هي عقد نيابة عن أصيل بالتراضي غالبا بآلية إبرام. فقولنا «عقد» يفهم منه اشتراط أهلية العاقدين، وصحة المعقود عليه شرعا، وآلية إبرام العقد. وقولنا «عن أصيل» يشمل الأول ويشمل الوكيل إن وكل آخر. وقولنا «بالتراضي» لأن العقود لا تصح إلا به. وقولنا «غالبا» ليشمل نَصْبَ القاضي وكيلا عن آخر بأمر قضائي ولو لم يرض الآخر في حالات محدودة يحددها القضاء. أوْ تَعَذر الحكم بالحق إلا بذلك؛ نظرا لتمنع الشخص عن أداء الحق. وأهلية العاقدين كونهما بالغين، عاقلين، راشدين من غير إجبار، ولا إكراه عليهما. واشتراط البلوغ والعقل؛ لأن الصبي والمجنون أو غير الراشد لا نظر له إلا بوليه؛ فلا يصح له التوكيل. وأما اشتراط صحة المعقود عليه فاحتراز عن كونها في محرم شرعي. أو ما لا تصح فيه النيابة والوكالة كأداء الصلاة والأكل والشرب والوطء ونحو ذلك. وقولنا «بآلية إبرام» قلنا ذلك ليشمل اللفظ، والكتابة أو كليهما، أو أحدهما. فما صح اعتباره إبراما للعقد جاز. ويشترط الإشهاد في الوكالة لصحتها؛ لأن إخبار شخص أنه وكيل فلان ادعاء ينبني عليه أمور متعلقة بالأصيل ودعوى وإجابة، وأخذ وعطاء، ولا تصح إلا من الأصيل، أو من وكله بيقين، ولا يتقين هذا إلا بالإشهاد.

فإن أمكن جريان بعض الوكالة بلا إشهاد جاز؛ لأن الاشتراط متعلق بخدمة المقصود الشرعي من الوكالات، وهي إثبات كونه نائبا عن الأصيل يحق له ما يحق له في الأمر الموكل إليه. وهي تجري في الأمور المالية كلها وفي عقد الزواج وفي المرافعات والحج وتوزيع الزكاة، لا في وضوء، ولا صلاة، ولا شهادة التوحيد، ولا وطء، فهذه لا تصح فيها النيابة والوكالة بحال. أما الوكالة بالنيابة في منصب القاضي من القاضي فخاضع للنظر.

لوحات من فقه النفس والحياة

لوحات من فقه النفس والحياة

تقديمنا الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله الصادق المصدوق، أما بعد: فهذا برنامج شخصي من فقه الوحي، استنبطته لمواجهة سهولة الحياة وحزونتها. دعوني أقول لكم إن هذا المنهج الذي أخذته ومنَّ الله به من تدبر لفقه جديد لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من عين اليقين الذي آمنت به من أن الكتاب والسنة فيهما حلول غير ريبية .. حلول لا إمكان فيها للخطأ .. إنها حق مئة بالمئة .. وواقعية مئة بالمئة .. ومرنة وسهلة .. صدقوني إن خطأنا هو أنا لا نرجع إلى هذا الدواء الرباني .. قد يكون لتقصيرنا .. ولتقصير الراسخين في العلم عن البيان .. أو قصر النظر .. أو قصور علم وفقه وفهم أو غير ذلك. لقد سلكت في هذا أن أعنون وأترجم عنوانا ملخصا جامعا للمراد، ثم أتبعه بالدليل، وأريد أن أقول لك: إذا فقهت ما في هذه اللوحات فسيفتح الله عليك بإذنه في فهم وتدبر ما شاء الله من القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تأمل في العبارة ثم تأمل في النص ولاحظ ذلك في واقع حياتك .. تأمل .. لأن كل كلمة وضعت بعناية لمعنى ... فلنبدأ إذن بعون الله ..

لوحة (أ)

لَوْحَة (أ) تحت أي ظرف، هز جذع الحياة. هذه امرأة صالحة في ربوة في حالة ولادة يدفعها المخاض إلى جذع نخلة (فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ) (مريم: 23)، يعنى دفعها وألجأها. هي تحتاج إلى غذاء للوضع ... لم يرسل لها جبريل ليهز لها النخلة أو يعطيها رزقاً من الجنة كما كان وهي في المحراب وهي الآن في نظرنا أحوج إلى ذلك من ذي قبل إلا أن الأمر الإلهي أن كلمها ولدها من تحتها وهو عيسى بن مريم المولود اللحظة (أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم: 24) أي جدول ماء (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم: 25) مع أن جذع النخلة لا يهزه الرجل الفتي مفتول العضلات ... كيف بامرأة في حالة ولادة .. ! ! إلا أنه اتخاذ سبب والنتائج من عند الله تعالى. إنه تعليم لنا أن نهز جذع الحياة حتى تساقط علينا رطباً ولو كان ذلك -في نظرنا- لا يؤثر؛ لضعفه إلا أن الله هو من يتولى البسط ويتولى العطاء. هذه دعوة إلى العمل أمام أكبر الصعوبات .. في أقسى المتغيرات، دعوة لنا جميعاً أن لا نحبط أو نيأس .. أن لا نرى شيئاً بعيد المنال؛ لأنه يجب علينا العمل السببي فحسب. إن الوضع الاقتصادي حتى لو بلغ درجة التعذر وجاعت بطون كثيرة، وفي ظل هذا الإزراء قد يولد الإحباط في نفوس، إلا أن هذا ليس هو ما شرعه الله للإنقاذ. إن المحبط سيهلك نفسه، ويدمرها ومستقبله ومستقبل ولده، قد يكون من النوابغ فيفقد ذلك النبوغ والإبداع، لأنه لم يصمد أمام هذه الظروف الحالكة، بل استسلم للإحباط .. فإياك أن تحطم أحلامك وآمالك لصعوبات قد تكون قاسية فعلاً .. إنك مأمور معلم أن تتسبب ولو أمام أعتى وأقسى ما قد تواجه.

لوحة (ب)

لَوْحَة (ب) من فقه تعاملك مع الأزمات والغليان خاصة وعامة. 1 - إفهم، وتعامل بفهم: ينبغي عليك أن تفهم الوضع .. الأزمة، بحقيقة عميقة، حتى تتعامل مع الأمر. افهم من أنت؟ ما موقعك؟ .. تأثيرك؟ انظر إلى تفهيم الله لرسوله من هو في مواضع متعددة: قال له ربه مقسما بالقرآن (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (يس: 1 - 3). ليؤكد له موقعه ومن هو، والمهمة المكلف بها. لقد كثرت في القرآن الكريم حملات التعريف به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه وبدعوته وأعدائه وسنة من سار على هذا المنهج. حملة هدفها الفهم والتعامل من خلاله، وصلت حتى إلى داخل نفس المتآمر ماذا يريد .. وكيف تتعامل معه؟ (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (آل عمران: 118). إنه كشف عميق لحركة النفس العميقة الخفية .. إنك إن لم تفهم فلن تعمل، أو لن تقدم صحيح التعامل، وانظر بالله عليك إلى هذا الذي غاب عنه الفهم كيف سيتعامل بعشوائية، واضطراب، تستفزه المواقف، وكم يؤزه من يريد أن يحقق من خلاله هدفا ورقما. 2 - لا تتعامل بالاستفزاز مع المواقف: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: 60). هذا النص فيه وجوب الصبر على المنهج وعلى الاستفزازات .. فيه النظر إلى المآلات .. إلى المستقبل، وهو ما دل عليه قوله تعالى بعد الأمر بالصبر (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، وهذا تنبيه على التعليل كما هو معلوم في الأصول.

وفيه النهي التحريمي عن التعامل بخفة وطيش واستفزاز واستخفاف. إن كلمة (يَسْتَخِفَّنَّكَ) تجمع كثيرا من المعاني الهامة، إنها تدل على الطيش .. على العجلة .. على سرعة الاستفزاز .. تدل على الاستخفاف بمآلات الحدث .. تدل مع (وَلا) على وجوب الابتعاد عن سياسة رد الفعل اللحظي الذي يضر أكثر مما ينفع. لقد استوقفتني هذه الآية كثيرا .. ففيها كثير مما نحن بحاجة إليه في الحياة .. في تعاملنا مع المواقف والأحداث والأزمات ..

لوحة (ت)

لَوْحَة (ت) 3 - ارتبط بقوة مع الله: أنت محتاج للحماية، للإمداد الرباني، للتثبيت، للهداية والتبصير والتوفيق للرزق، للأنصار، لانشراح الصدر، للتأييد والنصرة، لوضع الوزر لعافية البدن، لحفظ الولد والأهل والمال. الخلاصة: أنت محتاج للرعاية المطلقة والحماية المطلقة، وليست بيد أحد أبدا، إنها بيد واحد فقط، واحد أحد هو الله. إذاً أنشئ علاقة تعبدية خاصة قوية معه وسترى كل ذلك أمام عينيك، وسأدلك على ما يمكن أن أسميه زاد الرسالي، أو زاد الثبات، استنبطه من الكتاب والسنة وهنا أذكره باختصار لكن تنبه إلى أنك إن أدمت هذا ستنجح نجاحا موفقا: أ- أقم الصلوات الخمس في جماعة. ب- أقم الليل بعضه. ت- اجعل لك ورداً من القرآن كل يوم. ث- الذكر الكثير خاصة التسبيح والاستغفار، وضابط الكثرة هو ما تخرج به عن (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 142)، وتدخل به في (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) (الأحزاب: 35) .. وإنما خصصنا التسبيح والاستغفار لكثرة اختصاصهما في القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب: 41 - 42)، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر: 3). ج- كن مع الجماعة أهل الإيمان .. كن مع الصادقين .. الثابتين .. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) .. لا تصاحب المنافق أو المذبذب أو من يحبطك،

أو يؤلمك، أو يقلقك، أو يجعلك في اضطراب، أو تثبيط أو خلاف مع الحياة. ح- اتخذ صاحبا خاصا معينا مثبتا (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (طه: 31). خ- اصبر .. تحمل .. اترك الملل والسآمة .. والتسويف .. والتحسر .. ولو .. فإنها أدوات للهدم، لذلك دلت نصوص القرآن والسنة على هجر هذه الأمور والحذر منها. د- الدعاء، الدعاء، الدعاء، وذكر النعم والامتنان لله بها وشكره ثم شكر من قدم لك شيئا من ذلك (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (المائدة: 7)، وهذا أمر يدل على الوجوب، فواجب على العبد أن يتذكر نعمة ربه عليه .. ويحمده سبحانه عليها؛ لأنها طريق إلى دوامها وزيادتها (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7). ذ- لا تمشِ بعشوائية بل وفق هدف محدد واضح وخطة مرسومة وتدرج ولا تعجل .. (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22). انظر كيف ذم الله من يمشي بعشوائية في حياته .. إنها الكبكبة الدالة في ميزانها الصرفي على الاضطراب والاختلال والتردد وتقلب المواقف واهتزازها.

لوحة (ث)

لَوْحَة (ث) 4 - سياسة القول: سياسة الثناء الحسن على الحسن والدفع بالتي هي أحسن والقول الحسن والجدال بالأحسن. أ- (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: 152)، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8). ب- (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53). ج- (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، النتيجة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34). إننا أيها الإخوة بحاجة إلى سياسة القول، أعني سياسة من فقه الوحي لا من الذات والأنا. نحن بحاجة لهذا في كل حياتنا إلا أنا أحوج إليه في إدارة الأزمات ودوامات الصراع .. اثن على الجهود .. اترك الملاقفة والملاسنة .. قل وأحسن وسدد .. هذا هو مفتاح الإصلاح الشخصي والاجتماعي والوطني العام ودليله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (الأحزاب: 70 - 71). إن الأقوال إذا كانت سديدة أصلح الله الأعمال، فالعمل تبع للقول .. هذا ما تدل عليه الآية. إذاً .. هذا طريق الإصلاح العام، بل والخاص، بل والأخص من مغفرة الذنب .. تأمل كيف ختم الله هذا التوجيه بقوله (وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 71) مبينا أن ترشيد الأقوال بالعدل والصدق والحق والحكمة كما تدل عليه لفظة (سَدِيدًا) ينتج الفوز في الحياة الأولى والخالدة .. فهيا إلى الفوز العظيم، لأن دونه الخسارة.

5 - لا داعي لتحقير جهود أحد: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79)، هؤلاء منافقون احتقروا جهودا بسيطة من بسطاء كانت جهدهم؛ فذمهم الله وسخر منهم وعذبهم. لا داعي لهذا الخلق، كفى تجريحا .. كفى تحقيرا للآخر .. كفى غمزا ولمزا .. لنقل للمحسن شكرا وللمسيء أصلح الإساءة .. لا تنسف بتشنجات اللحظة جهود المصلحين؛ لأنك حينئذ تنسف نفسك وقوتك. 6 - لا تصطدم الآن: لأنك حينئذ تبدد طاقتك خاصة إذا كان في دوامات صغيرة لأن القيمة الكبيرة إذا اصطدمت بالقيمة الصغيرة فقدت من قيمتها؛ لذلك وجه الله رسوله ألا يصطدم بها (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان: 63)، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) (المزمل: 10). اعلم أيها الأخ أنه قد يثير لك الأعداء دوامات صغيرة .. مشاكل .. مواجهات، الغرض منها استنزافك وشغلك ليبعدوك كقوة عن المواجهة لهم، أو عن هدفك في الحياة، فتنبه .. حلها الآن .. فوض من يحلها .. أعرض عن الإساءات من هذا النوع.

لوحة (ج)

لَوْحَة (ج) 7 - استمر ولا تتوقف عن برامجك مهما كانت الظروف: أخرج أحمد بسند على شرط مسلم (12925) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها» وفي رواية له «فسيلة». تصور هذا الانفجار الهائل، الجبل الذي تراه راسخا أصبح شظايا وذرات (كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) (القارعة: 5) الخليج، والبحر، والمحيط نار واحدة، هذه الصورة الرهيبة وأنت في المزرعة تغرس النخل «الفسيلة» التي تثمر بعد سنوات .. هل تفر وترمي بها جانبا؟ لا لا .. رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: استمر في برنامجك، اغرس ما في يدك ولا تتردد. إذاً مهما ألمت بك الظروف والحروب والصعوبات، لا تترك برنامجك ثم تعلل وتبرر لنفسك قائلا: حتى تهدأ الأوضاع نواصل. هذا هو التغرير بعينه، إن القلاقل والصراع والصدام من سنة هذا الكون إلى قيام الساعة، فلو توقفت لها ستتوقف دائما. لقد تأملت في تراثنا الهائل الذي تركه لنا الأفذاذ، فقلت كيف وهم خاضوا وشغلوا وجاهدوا؟ ثم أدركت أنهم برمجوا أنفسهم على النجاح والاستمرار وعدم الفشل والاعتذار بالظروف والأحوال فأنتجوا وأبدعوا، وسلموها إلينا، فلنكن كذلك.

لوحة (ح)

لَوْحَة (ح) * تأملات من فقه الوحي .. استنباطات من فقه الوحي لك ولي في الحياة، تعتبر كالمفكرة الشخصية تواجه بها وتستضيء: 1 - أول مادة في الدستور الإلهي بعد الفاتحة (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) (البقرة: 1 - 2)، حتى نتعامل معه بهذه القاعدة، من أوله إلى آخره. إذا فتحت المصحف، اطرح الريب والشكوك والأوهام أرضا، وثق فقط بما سينبئك الله به (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء: 122). 2 - أول آية على الإطلاق البسملة التي تضمنت الابتداء بإعلان البدء باسم الله الرحمن الرحيم، والرحمة هي الوصف الحصري لهذا الدين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، ثم ذكره مرة أخرى بعد آية واحدة في الفاتحة (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ولم يقدم في فاتحة كتابه الكريم اسما من أسمائه الدالة على أنه شديد العقاب أو سريع الأخذ، بل قدم لعباده عنوان معاملته الأصلية، وجعله في سورة تتكرر في الصلوات فرضا ونفلا. 3 - لا تقلق على علاقاتك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم: 96)، أي مودة. 4 - لا تحزن ولا تتضايق (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127)، حتى أمام المكر والخداع لا تحزن ولا تتضايق .. هذا مما تقتضيه هذه الآية، لكن انظر إلى ما بعدها مباشرة (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل: 128). إذاً .. هنا السر .. إذا كنت مع الله بالتقوى وتعاملت بالإحسان فإن الله حينئذ معك، فلماذا الحزن والضيق والقلق! ؟

5 - لا تتحسر، فالحسرات تذهبك شيئا فشيئا (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: 8). 6 - لا تقتل نفسك بالهموم ولو كانت دعوية (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3). 7 - لقد آتاك الله أعظم ثروة، السبع المثاني والقرآن فلا تلتفت لغيره من الحطام (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ* لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 87 - 88). 8 - قد تكون فقيرا، فلا تجعله عائقا أمام الحياة الطيبة، وانظر إلى حملة الرسالة فإنهم لم يكونوا أثرياء، بل من بسطاء الناس وأوسطهم، إلا داوود وسليمان ابتلاءً، ولذلك قال الله (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، ولو كان عيبا ما وُصِفَ به هؤلاء الصفوة، وقد كان لهم الأثر في تغيير العالم، فلم يعقهم وضعهم ذلك عن الحياة الطيبة وحملها للناس بهذا الدين العظيم دين الإسلام. فكن كهؤلاء العظماء ولا تتوقف لأجل الظروف والصعوبات والعقبات .. اسعَ مستعينا بالله لتغيير وضعك دائما إلى الأفضل في حياتَيْك واحمل المشروع الذي حمله هؤلاء وكُلِّفنا كأمةٍ بحمله تجمع النجاح والسعادة الحقيقية والوفرة الوافرة والرضى ..

لوحة (خ)

لَوْحَة (خ) 9 - جرعة الرضى أربع مرات في اليوم (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130). 10 - علاج الضيق (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97 - 99) .. إنه التسبيح وما بعده في الآية .. لكن أَحْسِنْه لتحقق النتائج. 11 - من مصادر القوة: أ. الاستغفار (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) (هود: 52). ب. صلاة الليل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 1 - 5)، فتحمل التكليف وأعباء الحياة لا بد لها من القوة التي نبه الله رسوله إليها وهي (قُمِ اللَّيْلَ). ت. الذكر المتواصل خاصة عند الشدائد (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه: 42)، فانظر كيف أمرهما الله وهما ذاهبان لملاقاة الفرعون بأعظم أسباب القوة وهو الذكر، بل الكثير كما تفيده (وَلا تَنِيَا). ث. الذكر عند اللقاء (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45). ج. جماعة أهل الإيمان (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 62) .. وغير ذلك. ح- الصبر والصلاة (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45).

خ- تجنب المعصية (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) (الشرح: 2 - 3) .. فالذنوب والأوزار حمل ثقيل على الظهر .. إنها تنقض الظهر وتضعف البدن وإذا ضعف الإنسان ضعفت حياته .. وكلما زاد ذلك فسدت الحياة (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). د- حفظ الجماعة في اجتهادنا هو المقصد السادس الضروري للشريعة .. والجماعة تشمل «الأمة والشعب والدولة والمجتمع والأسرة». وقد بسطنا هذا في كتابنا «المقدمة في فقه العصر».

لوحة (د)

لَوْحَة (د) 12 - كيف تعيش سعيدا إلى الموت وتنال مكانتك رغما عن كل أحد (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3)، إنه إذن المتاع الحسن وليس مؤقتا بل إلى نهاية العمر، إلى أجلك المسمى في اللوح المحفوظ، فقط ما عليك إلا أن تتخلص من المظالم والآثام والجرائم والذنوب واستغفر الله وتب إليه، إذا فعلت ذلك فمضمون لك قطعا الحياة السعيدة الراضية في الدنيا والآخرة. 13 - تعامل مع من قوله هو الذي سيمضي، وقراره وأمره هو الذي سيتعامل معه؛ لأن الكل طوع أمره ونهيه (قَالُوا حَرِّقُوهُ) (الأنبياء: 68)، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69) فمن الذي مضى أمره وكلامه فتعامل معه، إنه الله. 14 - تعامل مع من كيده هو النافذ (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا) (الطارق: 15 - 16). 15 - ارتبط بمن مكره هو النافذ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30). 16 - لا تحبط من الخيانة (وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (يوسف: 52) فهذه آية الأمان من الكيد والخيانة، لقد قضى الله، وحكم، وأكد أنه لا يهدي ذلك الكيد بل يضله ويحبطه. 17 - إذا تعاملت بأمر الله فلا تقلق من المخادعين (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال: 61)، ثم أمَّنه المخاوف بقوله (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) (الأنفال: 62) .. فهذا دفع لما قد يرد على النفس من إمكان أن يتخذ هؤلاء السلم للغدر والخداع، وقال كذلك (وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) (الأنفال: 71). 18 - لا تتعامل بالاستفزاز مع المواقف (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: 60) .. أعدناها هنا تأكيدا عليها.

لوحة (ذ)

لَوْحَة (ذ) 19 - من مفردات التربية: أ) علم ولدك التوحيد وحذره من الشرك وأكد له فضاعة هذه الجريمة الكبرى (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13). ب) علمه البر بوالديه (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ). ت) علمه الثقة بالله ومراقبته في السر والعلانية (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16). ث) علمه الصلاة (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ). ج) علمه ألا يفعل الخطأ بل علمه أن لا يتردد في تصحيح الخطأ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ). ح) علمه التحمل وعدم الإحباط والأخذ بالعزائم في الحياة (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ). خ) علمه ترك الحركات غير السليمة وترك الفخر والاختيال (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ). د) علمه ترك الفخر بالأقوال والاختيال بحركاته وتصرفاته وأفعاله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). ذ) علمه المشي السليم (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا)، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ). ر) علمه حتى الأدب الصوتي (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ). ز) اضرب له الأمثال (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). س) اعطه حق اللعب لكن احرص على إجراءات الرعاية والحماية (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) فأرسله معه لكنه حذرهم وأمرهم بأخذ الاحتياطات.

ش) سل عن ولدك وشاركه اهتماماته «يا أبا عمير ما فعل النغير» (¬1) .. فالنص دليل على السؤال عن الأطفال وملاطفتهم ولو من الإمام الأعظم فهو من الوالد أولى، وفيه جواز اتخاذ عصفور للزينة. ص) كخ كخ .. هذه كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن وهذا يدل على إلزام الولد من البداية أكل الحلال وتجنيبه المحرمات ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة خمر لأيتام بعد نزول تحريمها. ويجب تعليم الولد ما ينفعه دينا ودنيا بحسب سنه وتجنيبه كل المضار والمحرمات الاعتقادية والسلوكية والأخلاقية والأسرية والمجتمعية. ض) يجب على الوالد والوالدة والأسرة وولي الأمر توفير العناية الصحية بالطفل لعموم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعية» (¬2) وتحميله المسئولية دليل الإيجاب. ولأن حفظ النفس واجب، وهذا منه لعموم (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32)، ولأن دفع الضرر واجب وهذا منه ولأنه خادم لمقصد شرعي هو حفظ النفس فوجب لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. وقد شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال عن صحة الطفل والاهتمام من الإمام الأعظم «علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (6129) ومسلم برقم (5747) واللفظ له عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير كان فطيما فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال «أبا عمير ما فعل النغير». قال فكان يلعب به. (¬2) - أخرجه البخاري برقم (893) ومسلم برقم (4828) واللفظ له عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». (¬3) - أخرجه البخاري برقم (5713) ومسلم برقم (5893) واللفظ للبخاري عن أم قيس رضي الله عنها قالت دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلقت عليه من العذرة فقال على ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب.

وما ذكرنا من أدلة الإيجاب توجب كل سبب لدفع الضرر عن الطفل فتجب اللقاحات والتطعيمات والرعاية الصحية للطفل على الأسرة والدولة ويأثم من قصر. ط- اختر الاسم الحسن لولدك؛ لورود الشرع بذلك (¬1). ظ- الرضاعة الطبيعية حق مفروض شرعا للطفل (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة: 233). وقد بسطنا ما تقدم في كتابنا «المقدمة في فقه العصر» وذكرنا ما يتعلق بسائر الحقوق للطفل. ¬

(¬1) - فيه أحاديث حسنة صحيحة تدل على ذلك ويشهد بعضها لبعض فمنها ما أخرجه أحمد برقم (2329) عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير ويعجبه الاسم الحسن. وله شواهد منها حديث ابن أبي حدرد برقم (812).

لوحة (ر)

لَوْحَة (ر) 20 - لا تحاصر نفسك (وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127) .. إذن حتى لو كان هناك من يمكر بك فلا تنهزم أو تضرب على نفسك دوائر من المضايق والقلق؛ لأنك حينئذ قد حاصرت نفسك فعلا قبل أن يحاصرك من مكر بك. 21 - التآلف الحق لله لا يمكن شراؤه بالمال (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال: 63). 22 - ادفع الإيهام والظنون ما استطعت، واقطع حبالها ومواردها قبل أن تحصل .. «على رسلكما إنها صفية بنت حيي». فقالا سبحان الله يا رسول الله. قال «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا». متفق عليه (¬1). 23 - حتى ولو بلغت درجة الولاية قد تهم بالفشل (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) (آل عمران: 122). 24 - قد تهتم في لحظات حاسمة بالدنيا لكن آخرين ليسو كذلك (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) (آل عمران: 152). 25 - يمكن أن يتآمر على أعلى القيادات، بأشكال وأنواع التآمر والكيد، وبلافتات متعددة ومبررات مختلفة، ومسميات ومقترحات ... لقد حاولت العصبة النخبوية من كفار قريش أن تتوصل إلى انحراف يسير من الرسول صلى الله عليه وسلم .. هاهنا تحتاج ونحتاج كلنا إلى التثبيت، حتى رسول الله بحاجة إلى تثبيت الله (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا ¬

(¬1) - البخاري (2035) ومسلم (5808) واللفظ له، عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معى ليقلبنى. وكان مسكنها فى دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم «على رسلكما إنها صفية بنت حيي». فقالا سبحان الله يا رسول الله. قال «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا» ..

غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 73 - 75)، (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ) (النساء: 113)، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج: 52). 26 - التأثر بكلام الناس: لا تترك بعض الأحكام أو تتحرج من تبليغها ولا تضق نفسك بذلك (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ) (هود: 12)، (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 2).

لوحة (ز)

لَوْحَة (ز) 27 - لا تتكلف في أي شأن من شئون حياتك (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86). 28 - قد يوجد في الصف من لا يدرك بعد العدو ومخططه (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة: 47). 29 - المحسن الكبير قد يسيء إساءة كبيرة فليتجاوز عنه، فإن حاطبا من أهل بدر راسل قريشا يخبرهم ببعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم لا شكا منه ولا نفاقا ولكنها فلتة، فقوبلت بالعفو أمام إحسانه الكبير ومواقفه العظيمة، ويكفي أنه من أهل بدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). 30 - قد لا تجد حولك أحداً بل قد يكون الكيد من داخل البيت حتى من زوجتك فلا تحبط أو تستسلم (إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 60)، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: 10). ¬

(¬1) - الحديث أخرجه البخاري برقم (3983)، ومسلم برقم (6557) واللفظ له. عن علي بن أبي طالب قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال «ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها». فانطلقنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بالمرأة فقلنا أخرجي الكتاب. فقالت ما معي كتاب. فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا حاطب ما هذا». قال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا فى قريش -أي حليفا لهم ولم يكن من أنفسها- وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق». فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).

حتى ولدك قد يكون أعتى من فرعون (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء) (هود: 42 - 43). أما فرعون فقال عند الغرق (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 90). حتى والدك (يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم: 46). حتى إخوتك (لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) (يوسف: 5). وقد يكون الأمر غير هذا كله، وقد يكون شيء منه فقط، المهم هكذا الحياة والابتلاء. 31 - من حولك ليسوا ملائكة بل هم بشر لهم حاجيات، فأكرمهم إن أردت أن ينفعوك (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21). 32 - إذا كان من حولك في مرتبة إيمان الصحابة فالضعف البشري الأصلي -لا العارض- موجود (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) (الأنفال: 66).

لوحة (س)

لَوْحَة (س) 33 - أهل التقوى قد يزلون زلة عظيمة ويظلمون أنفسهم لكنهم يتوبون ويستغفرون ولا يصرون (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 133 - 135) (¬1). 34 - قد يتبنى العدو شائعة أخلاقية عن زوجتك وعرضك كما حصل من المنافقين في الإفك! ! فانظر ماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تعامل القرآن مع الشائعات وحاربها، وكيف برأ الطاهرة المطهرة ووصفها بقوله تعالى (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) (النور: 26)، واتخذ الإجراءات التالية: - سماه إفكا، وهو أعظم الكذب والبهتان. - جعل هذه الحادثة للتمييز بين صف المؤمنين الذين ردوا الإفك وكذبوه وبين صف المنافقين الذين جاءوا بالإفك. - الظن الحسن واجب شرعا عند حصول الشائعة على المؤمنين (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) (النور: 12). - المبادرة بتكذيب الشائعة بناء على هذا الظن الحسن (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12). ¬

(¬1) - قال ابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 60) في تأويل قوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) يعني بقوله جل ثناؤه (والذين إذا فعلوا فاحشة) أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين، المنفقين الذين ينفقون في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة، وجميع هذه النعوت من صفة المتقين الذين قال تعالى ذكره (وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين).

- إلزام كل من قال بالإفك بأربعة شهداء وإلا فهو كاذب يقام عليه حد القذف ثمانين جلدة، وتسقط عدالته إلا بتوبته النصوح، وهذا الحكم إلى يوم القيامة في كل قاذف لحي أو ميت، أما بخصوص أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فمن قذفها بعد هذه النصوص الواضحة المحكمة فهو مكذب لله فيما أنزل بلا خلاف بين أهل الإسلام. - وجوب الاستنكار بالقول لكل شائعة في الأعراض (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور: 16). - كل من أشاع خبر الفاحشة وروج لها عن مؤمن أو مؤمنة فله في الدنيا والآخرة عذاب أليم، أما في الآخرة ففي النار، أما في الدنيا فينزل الله عليه ما شاء من العذاب وفيه تنبيه للمجتمع المسلم والدولة على إنزال العذاب الأليم بكل مشيع للفاحشة من تنكيل وتأديب وتعزير (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). - لعن كل من يقذف مؤمنا أو مؤمنة بالفاحشة (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23). - برأ الله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الإفك وكتب لها السعادة في الدنيا والآخرة (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور: 26)، فالتبرئة في الدنيا والمغفرة والرزق في الآخرة، وهذه آية خبرية محكمة بلفظ المضارع المستمر لا تنسخ ولا توؤل، ويعضدها قوله تعالى (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (النور: 17). 35 - قد تلصق بك شائعة أخلاقية ظلما تتحول إلى تهمة تسجن بها كما حصل ليوسف عليه السلام! ! فلاحظ كيف تعامل يوسف وكيف صبر ولم ينهزم أو يتحطم بل كان عظيما في السجن كما كان خارج السجن؛ لأن السجن عند هؤلاء الكبار حالة من حالات الحياة الابتلائية .. ونوع قد يحصل فيكون من هجرة العظماء المحتملة وخلوتهم وتنوع حياتهم الكثير.

36 - لا يخرج معك من يروج للشائعة؛ لأن هناك من يستمع (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة: 47). 37 - الأمور المتعلقة بالأمن والخوف ترد إلى أهل الاختصاص (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83). 38 - الخشية من كلام الناس وعدم تفهمهم وتقبلهم للأمر (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (الأحزاب: 37). 39 - الضيق من كلام الناس وشائعاتهم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ) (الحجر: 97 - 98)، (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ) (هود: 12).

لوحة (ش)

لَوْحَة (ش) 40 - من الذين لا يستشارون ولا يطاعون؟ (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (القلم: 10 - 12)، (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 1) .. وفي هذه النصوص تحريم طاعتهم ومن باب أولى تحريم ولايتهم على المسلمين؛ لأن الولاية قائمة على السمع والطاعة في المنشط والمكرة، وهذا محرم لهم بالنص، ولأن الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) (الممتحنة: 1) .. وفي توليتهم موالاة وزيادة .. ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، و (مِنكُمْ) أي من المؤمنين .. والمنافق والكافر والموالي لهم ليس منا بل منهم بالنص (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51) .. ولقوله (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، وولايتهم أعظم سبيل، ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران: 118)، وفي هذا تحريم اتخاذ المستشارين من غير أهل الإسلام فضلا عن توليتهم ولاية عامة على المسلمين، والأدلة على هذا كثيرة بسطناها في كتابنا «المقدمة في فقه العصر». 41 - اختيار الرفيق والصاحب والمستشار والوزير، لماذا؟ (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) (طه: 31 - 35). 42 - مع من تجلس وتصبر؟ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).

43 - حل المشاكل قبل وقوعها (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) (النساء: 34)، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا) (النساء: 128)، (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) (الأنفال: 58). 44 - صورة لأسرة صالحة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90). 45 - إذا عجزت عن الدعوة باللسان فادع بالإشارة (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم: 11) .. هذا النبي الكريم كان قد أمسك الله لسانه ثلاث ليال سويا كآية منه على البشارة وفي خلال هذا لم يتخل عن الدعوة بل أوحى لهم بالإشارة أن يسبحوا الله بكرة وعشيا. 46 - لا تسخر فتنشغل عن الحقائق، فكثرة الانشغال بالخلق يلهي عن الحق (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي) (المؤمنون: 110). 47 - في المصائب الظاهرة مفاتيح الحقائق (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (النور: 11). 48 - لا يفتن إلا المريض أو القاسي القلب (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (الحج: 53). 49 - حتى تصل إلى الأمن المطلق (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82). 50 - الولاية تحقق الأمن (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62).

51 - نملة تحرك الشارع إلى بر الأمان (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) (النمل: 18)، وخطابها مبرر (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، بل وخطابها ملتمس للعذر (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل: 18) .. فهذه نملة، أفلا يجدر بنا أن نرتقي بخطابنا إلى هذا .. لقد خلد الله هذا النوع من الخطاب في قرآن يتلى إلى يوم القيامة. 52 - الاستعجال في الحكم على الشيء (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ) (القصص: 19)، فهذا المستعجل أخرج هذه الكلمات مخاطبا موسى، وهو إنما توجه إليه لينصره، ولكنه الظن السيئ والعجلة، وكانت نتائجها أن أصبح موسى مطاردا حتى خرج فارا أكثر من عقد من الزمن. 53 - لا تستعجل (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) (مريم: 84). 54 - إذا كنت مع الله استطعت مواجهة أكبر الطواغيت (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص: 35). 55 - اثنان في مواجهة أكبر الطواغيت فقط لأنهما مع الله (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46).

لوحة (ص)

لَوْحَة (ص) 56 - سلطان من عند الله (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) (القصص: 35) .. ولم يجعل لهما ذلك السلطان إلا حينما كانا معه سبحانه وتوكلا عليه ونفذا أمره. 57 - الاستغفار يؤثر على المناخ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) (نوح: 10 - 11). 58 - الاستغفار يؤثر على النمو الاقتصادي (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ) (نوح: 12). 59 - الاستغفار يؤثر على الإنجاب (وَبَنِينَ) (نوح: 12). 60 - الاستغفار يصلح البيئة (وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح: 12). 61 - الاستغفار يؤثر في زيادة القوى (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) (هود: 52). 62 - الاستغفار يؤثر في زيادة السعادة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (هود: 3). 63 - الاستغفار يؤثر في الوصول إلى ما تستحق (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3). 64 - الصلاة تمنع الجفاف والتصحر، بدليل صلاة الاستسقاء. 65 - الصلاة لها ارتباط بالتأثير على الكون، بدليل صلاة الكسوف والخسوف. 66 - الإيمان والتقوى تؤثر على القوة الشرائية وتحارب التدهور الاقتصادي (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) (الأعراف: 96). 67 - الصلاة تؤثر على اختفاء الجريمة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45).

68 - الإيمان والتدين يؤدي إلى استتباب الأمن والسلام (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82). 69 - كيف تثري مالك وتضاعفه (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد: 11)، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39) .. «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (¬1)، وأما الشح والبخل ففيه الهلكة (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن: 16). 70 - السبب في زيادة معدل العمر «صلة الرحم تزيد في العمر» بدلالة الحديث السابق فهو معنى «وينسأ له في أثره». 71 - كيف توسع المنزل «صلة الرحم، وحسن الخلق يعمرن الديار ويزدن في الأعمار» (¬2). 72 - لا تكن محاميا للخيانة والخونة (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105). 73 - إياك أن تكون يوما حماية أو محاميا أو ظهرا للمجرمين والخونة والمفسدين، فيغير الله نعمته عليك (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17)، (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (النساء: 107)، (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105). 74 - تقدم بطلباتك فور التكليف بالمهمة (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا* قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 24 - 36). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (5986)، ومسلم برقم (6688) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) - أخرجه أحمد بسند صحيح برقم 25298 عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.

75 - قد تدعو إلى الله كثيرا وتبذل وتجتهد وقد لا تجد غير واحد معك (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت: 26). هذا هو الرصيد التراكمي لهذه الفترة بأسرها، ولكنه بداية الإكرام، لقد آمن لإبراهيم فرد واحد هو لوط، ثم جعلت الرسل والأنبياء من ذريته إلى يوم القيامة.

لوحة (ض)

لَوْحَة (ض) 76 - قد تكون النقلة ضرورية لتغيير جذري في حياتك كما هاجر قاتل المائة إلى أرض الصالحين اضطرارا لعدم جدوى البقاء في إعانته على التوبة (¬1). 77 - انسحب فورا الآن (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) (النساء: 140). 78 - التغيير لأجل النشاط «إذا نعس أحدكم وهو فى المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره» (¬2). 79 - إذا كانت رحمة الله معك حتى لو كنت في كهف فإن الراحة والرفق والسعادة لن تفارقك؛ لأن معك رحمة الله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف: 16). 80 - يمكن ألا يكون الولد والمال سوى أدوات تعذيب لأشخاص (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (التوبة: 55). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (3470)، ومسلم برقم (7184) عن أبي سعيد الخدرى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا. فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك فى صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التى أراد فقبضته ملائكة الرحمة». (¬2) - أخرجه أبو داود بسند حسن برقم (1121) عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا نعس أحدكم وهو فى المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره».

81 - اترك لمن خلفك رصيدا (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف: 82)، فحفظ الله اليتيمين وكنزهما بصلاح الأب. 82 - إذا تعاملت بـ «أنا» وليذهب الغير إلى التهلكة فأنت على صفة من النفاق (أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ) (آل عمران: 154). 83 - لا تضخم الأمور فوق حجمها ولا تقلب الحقائق لأن الحق آت لا محالة فيفضحك (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة: 48). 84 - من طبيعة الحياة والابتلاء وجود بعض الأعداء، فلا تقلق أو تفاجأ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان: 31). إذا هي سنة ربانية في الصراع بين الحق والباطل، وحتى تثق ولا تقلق وتطمئن ولا تضطرب ختمها الله بقوله (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان: 31). إذا فهو يتولى هدايتك ونصرتك في هذه المواجهة (وَكَفَى بِرَبِّكَ). 85 - تعامل بالحق وسر على القواعد الصحيحة وحسبك الله من المخادعين (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) (الأنفال: 62).

لوحة (ط)

لَوْحَة (ط) 86 - الحزن والقلق والهم يتلف الأعضاء فلا تحزن (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84). 87 - الدولة المقصودة شرعا هي التي تُنْهي المخاوف وتوصل المواطن إلى درجة الأمن الشامل بكل أنواعه ومعانيه (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55). 88 - اللجوء السياسي إلى الدولة المسلمة واجب قبوله من طالبه (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6). 89 - من أنجح أسلحة المواجهة الصبر والصلاة (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) (البقرة: 45). 90 - لو كنت من كنت ولو عملت ما عملت من الصالحات، فإذا تعاملت مع السحر والسحرة فلا وزن لك عند الله، ولا قيمة ولا عمل (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102). إنه نسف عام فلا خلاق ولا وزن ولا قيمة عند الله لمن اشترى السحر أو طلبه أو عمله. 91 - الإصابات ملح الحياة فاصبر وأبشر ولا تجزع إن حدث شيء من الخوف، وشيء من الجوع، ونقص من الأموال، ونقص من الأنفس، ونقص من الثمرات، لكنها تنتهي مع الصبر بأبواب الفتح والخير (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة: 155 - 156). 92 - أنت مصدر ما يقع لك فتحمل ذلك والمسئولية تقع عليك (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30) ... فتحمل مسئوليتك 100%.

93 - لا تحمل الآخرين ما يقع عليك؛ لأنه وسيلة الفاشلين من قبل (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ) (النمل: 47)، (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ) (الأعراف: 131). 94 - إذا فسدت أعمال البشر تأثرت البيئة برا وبحرا فلا يمكن أن يفسد الكون أو المناخ أو البيئة البحرية أو الجوية أو البرية ونحن مصلحون (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41). (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117). 95 - استمع لابنك وافتح له باب التحفيز والأمل والطموح حتى في قصص رؤياه وأحلامه في المنام فإنها قد تحمل في طياتها ما لا تتوقعه (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 4 - 6). 96 - نبه أبناءك إلى ما يمكن أن يدخل بينهم الخصومة والكيد (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يوسف: 5).

لوحة (ظ)

لَوْحَة (ظ) 97 - التأمين الشامل المجاني «من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي» (¬1). «من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» (¬2). 98 - كيف يستغفر لك سبعون ألف ملك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا رياء، ولا سمعة، وخرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه أبو داود برقم (5090) وفي رواية للترمذي برقم (3388) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضر بشيء. وقال حسن صحيح غريب، وهو كما قال. (¬2) - أخرجه مسلم برقم (7053) عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت خولة بنت حكيم السلمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬3) - أخرجه أحمد برقم (11172) وحسنه الحافظ بن حجر في نتائج الأفكار «1/ 272»، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والحافظ أبو الحسن شيخ المنذري كما نقله هو عنه في الترغيب والترهيب، واستدل به ابن المنذر في الأوسط، والإمام محمد بن عبدالوهاب في رسائله، وابن القيم في الزاد من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لوحة (ع)

لَوْحَة (ع) 99 - قاوم المخاوف ولا تستسلم لها؛ لأنك مع الله وهو معك (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) (الزمر: 36)، (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46)، (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175). 100 - المصدر الأول للمخاوف الوساوس الشيطانية (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ) (آل عمران: 175). 101 - الهواجس والشك وعدم الثقة والمخاوف والتوهم واتهام الآخرين بمجرد الوهم أو الوشاية وكثرة الظن فيهم، كلها وغيرها حصاد الوسواس الجني والإنسي، لذلك أفرد بالاستعاذة منه في سورة مستقلة ختمت القرآن. ولخطورة الوسواس جمعت الاستعاذة بالله ثلاثة أسماء له تعالى (الرب، الملك، الإله) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس: 1 - 6).

لوحة (غ)

لَوْحَة (غ) من حوارات الديكتاتور فرعون - قاعدة الاستبداد .. (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى) (غافر: 29). - تغرير بالشعب وضحك على السذج .. (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29). - تبرير ديني وخوف على الوطن من الدعوات الدينية الدخيلة والأفكار الوافدة .. (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (غافر: 26). - تبرير وطني (خيانة الوطن)، الخوف على المصلحة الوطنية ومسيرة التنمية من التوقف وإظهار محاربة الفساد .. (أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26). - جنون الاستبداد وسعار العظمة .. (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: 38). - سياسة التحقير للآخر، والتطمين للشعب .. (إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (الشعراء: 54). - سياسة المن بأدنى الحق .. (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) (الشعراء: 18). - تهديد مبطن .. وسياسة إخراج الملفات (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) (الشعراء: 19). - حملة التشويه .. (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه: 63). - سجن الكلمة، (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء: 29). - حشد التأييد .. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) (الشعراء: 53). - غرور بشع .. (آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) (الأعراف: 123). - جرائم ضد الإنسان .. (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ) (الأعراف: 124). - تهمة التآمر لقلب النظام .. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ) (يونس: 78). - كيل للتهم ودعوى محاربة التخريب .. (لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا) (طه: 57).

لوحة (ف)

لَوْحَة (ف) .. قائمة السلامة الاجتماعية أ- حتى لا تندم: تثبت من كل خبر يصلك، ولا تبن على خبر حتى تتبين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6). ب- المصالحة العادلة هي طريق السلامة الوحيد لإنهاء النزاعات المسلحة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، وتنبه إلى أن الله أمر بالمصالحة العادلة والمقسطة، أتدرون لماذا؟ هذه اللفتة الهامة والدقيقة؛ لأن النزاعات الاقتتالية لا يمكن حلها بإصدار الأحكام القضائية القائمة على المشاحة والدفع والرفع والبينات والشهادات والدعاوى والإجابات، فإن هذه الإجراءات متعذرة حال النزاعات القتالية، فالإجراء السليم والسريع هو المصالحة العادلة لا غير، وهذا يتحمل وهذا يتحمل وهذا يلتزم وهذا يلتزم. ت- لا تسخر من الآخرين (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) (الحجرات: 11). ث- لا تلمز أحدا لأنك حينئذ تلمز نفسك (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) (الحجرات: 11). ج- لا تنابز بالألقاب (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) (الحجرات: 11). ح- حارب الظنون ولا تستمع لها أو تسلم نفسك وعقلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12). خ- لا تقترب من دائرة الجاسوسية، فإنها خلق ذميم (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، وهذا نص عام يحرم التجسس ويمنعه سواء كان من فرد أو جماعة أو دولة، ولا يستثنى من ذلك إلا التجسس على الحربي في الحرب كما ثبت ذلك في السنة.

د- أنت إنسان لا آكل جيف فلا تخرج من هذه الدائرة بالإساءة إلى الغير في ظهره (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12). ذ- لا لطبائع القطيع .. اللون .. الجنس .. العرق .. النسب .. المناطقية كلها لا تتفاضل بها الإنسانية بل هي من طبائع القطيع الحيواني أما الإنسان فلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). 104 - من قواعد السلامة المرورية (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان: 63). - التوسط في السرعة (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19). - تحريم السرعة الزائدة؛ لأنها ليست من صفات عباد الرحمن ولأنها من البطر والفخر والخيلاء والمرح في الأرض (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا) (لقمان: 18). ويدخل في هذا تحريم التفحيط بالسيارات ونحوها؛ لأنه خارج عن صفات عباد الرحمن وعن القصد في المشي وداخل في البطر والمرح ومتلف للأموال والأنفس (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195).

لوحة (ق)

لَوْحَة (ق) 105 - تحذير .. إذا كنت ممن يحبون نقل الأخبار الفاحشة فمصيرك مزرٍ، ويدخل في هذا التحذير الشديد نقل الوسائط الجنسية والدعارات والمجون والإشاعات الفاحشة في الأعراض والقذف بالفواحش، فمن دخل في هذا الباب فلا بد أن يتجرع شديد العذاب الأليم في الدنيا أولا، قد يكون بتسليط من ينكل به، أو العذاب النفسي والضنك والقلق، أو الأمراض والمهلكات، أو محق في الرزق والمال، أو المشاكل، والاضطرابات الدائمة في حياته، أما في الآخرة فهو أشد (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19). 106 - لا يمكن أن تغير أو تتغير أو تؤثر أو تتأثر وأنت تحمل قناعات سلبية أو تصر على التعايش مع معوقات التغيير في نفسك (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11). 107 - تولي السلطة من مصلح رحمة به وبالشعب (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء) (يوسف: 56). 108 - زوال دولة الظلم وتمكين المصلحين في الأرض منة إلهية وإرادة ربانية (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص: 5). 109 - لا تتخل عن الصادقين بطلب من أحد أو مساومة (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 52).

وهذه قد سبقت قديما كما ذكر الله عن نوح لما ساومه الملأ في التخلي عن أفراده المؤمنين معه متهمين لهم بأنواع التهم والجرائم والتي على حسب زعمهم تمنع الناس من الإيمان معه (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ) (الشعراء: 111)، فقال لهم (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 114)، ثم رد على تهمهم (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) (الشعراء: 113). 110 - بَشِّر إذا حلكت الأزمات وثبِّت من حولك، فقد بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم في أشد حالة في الخندق حينما اعترضتهم الصخرة (¬1). ¬

(¬1) - قولنا «حينما اعترضتهم الصخرة»، فيها حديث حسن صحيح أخرجه أحمد برقم 18716 عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قال وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عوف وأحسبه قال وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ثم قال بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ثم قال بسم الله وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا. قلت: سنده فيه ميمون أبو عبدالله ضعفوه ووثقه ابن معين مرة ووثقه ابن حبان وقال الحافظ في الفتح بعد إيراده هذا الحديث (7/ 397) بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب، وقال الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (1/ 181)، وذكره عبدالحق في أحكامه في كتاب الجهاد من جهة النسائي وسكت عنه فهو صحيح عنده على قاعدته في ذلك. قلت: الخلاصة، الحديث حسن صحيح. وله شاهد حسن عند النسائي برقم 3176 عن أبي سكينة وفيه زيادة حسنة وهي «فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم». وحسنه الألباني وهو كما قال.

لوحة (ك)

لَوْحَة (ك) 111 - اعترف بالمبدأ الصادق واقتل فكرة التآمر به. قال علي رضي الله عنه مطبقا هذا المبدأ «كلمة حق أريد بها باطل»، فقد أقر بأن قولهم (لا حكم إلا لله) كلمة حق لكنها استخدمت شعارا للتآمر والباطل، فوضع علي رضي الله عنه هذه الكلمة التاريخية العظيمة. 112 - تعامل بوضوح ولا تستعمل خائنة الأعين «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» (¬1). 113 - لا تتآمر ولا تبتئس بالتآمر (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (فاطر: 43). 114 - إذا أردت حماية أسرتك وأطفالك حتى بعد موتك فاتق الله (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) (النساء: 9). ¬

(¬1) - حديث صحيح أخرجه أبو داود برقم 2685 عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وسماهم وابن أبي سرح. فذكر الحديث قال وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله». فقالوا ما ندرى يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك قال «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين». قلت هذا حديث صحيح وقال الحاكم بعد إخراجه في المستدرك (3/ 47): هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.

لوحة (ل)

لَوْحَة (ل) 115 - علاج الهم: «كان إذا نزل به هم أو غم قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (¬1). 116 - من ورد النوم: كان لا ينام حتى يقرأ (الم* تَنزِيلُ) السجدة، و (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك: 1) (¬2). 117 - شارك في تجارة لا حد لها: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» (¬3). 118 - لاحظ الإيجابيات وشجعها ووظفها: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» (¬4). 119 - حتى لا تغتر بما عملت: «لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله لحقره يوم القيامة» (¬5). إما لأنه يرى كرم الله وعظيم أجره بما لا يوازي عمله، أو لما يرى من أهوال القيامة فيحتقر ما عمل خاصة إذا رأى الأنبياء وقد التزم كل منهم نجاة نفسه فحسب «نفسي نفسي» إلا محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) - أخرجه الحاكم وصححه برقم (1875). وصححه السيوطي في الجامع الصغير والنووي في الأذكار (1/ 121) مقرا للحاكم، ولعله لشواهده، ولذلك حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8922). (¬2) - أخرجه الترمذي برقم (2892) والحاكم برقم (3545) وقال هو والذهبي: صحيح على شرط مسلم. وهو كما قالا. (¬3) - أخرجه مسلم برقم (7022) عن أبي هريرة مرفوعا. (¬4) - حديث حسن لغيره، أخرجه الحارث في مسنده كما في «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» برقم (4025). (¬5) - أخرجه أحمد في المسند برقم 17686 عن عتبة بن عبد قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله عزوجل لحقره يوم القيامة. قلت: سنده حسن. وقال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 592): إسناده جيد. وقال الهيثمي: إسناد أحمد جيد وفي سند الطبراني بقية مدلس لكنه صرح بالتحديث وبقية رجاله وثقوا. أ. هـ. كما في فيض القدير.

120 - أنت أقل المخلوقات طاعة لله، فتنبه: «ليس شيء إلا وهو أطوع لله من ابن آدم» (¬1). 121 - قد يساوي الواحد ألفا: «ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان» (¬2). 122 - ارتبط بالله في كل شيء: «ليسترجع أحدكم في كل شيء حتى شسع نعله، فإنها من المصائب» (¬3). وفي رواية «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع» (¬4). 123 - بع السواك واستغن: «ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك» (¬5). ¬

(¬1) - هو في المعجم الصغير (2/ 132) بإسناد حسن عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس شيء إلا وهو أطوع لله من ابن آدم». وقال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 628): إسناده حسن. وكذا قال السيوطي والألباني في الجامع الصغير. وهو كما قالوا. (¬2) - أخرجه الطبراني برقم (5971) عن سلمان وسنده صحيح، وفي الصغير برقم (412) من حديث ابن عمر، وفي سنده ضعف، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه برقم (2622) مرسلا عن إبراهيم النخعي. ويمكن أن يحسن كما فعل العلامة الألباني. (¬3) - هذا الحديث صحيح بشواهده أخرجه البزار برقم (3475). (¬4) - أخرجه أبو يعلى برقم (3403) بسند على شرط مسلم عن أنس مرفوعا. (¬5) - أخرجه البيهقي في الشعب برقم (3252) وهو صحيح.

لوحة (م)

لَوْحَة (م) 124 - ندامة السلطة: «ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا ولم يل من أمر الناس شيئا» (¬1). 125 - أعلن شكر من أحسن إليك: «إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» (¬2). 126 - حتى لا تقلق على الحطام: «ما أحب أن أُحُداً ذاك عندي ذهب أمسى ثالثة عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه أحمد برقم (8888) والحاكم برقم (7015) كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال هو والذهبي صحيح. وهو كما قالا. (¬2) - أخرجه البخاري برقم (466) ومسلم برقم (6320) واللفظ للبخاري، عن أبي سعيد الخدري قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله. فبكى أبو بكر رضي الله عنه. فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا قال يا أبا بكر لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. (¬3) - أخرجه البخاري برقم (2388)، ومسلم برقم (2351) عن أبي ذر قال كنت أمشي مع النبى صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر». قال قلت لبيك يا رسول الله. قال «ما أحب أن أحدا ذاك عندي ذهب أمسى ثالثة عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين إلا أن أقول به فى عباد الله هكذا -حثا بين يديه- وهكذا -عن يمينه- وهكذا -عن شماله». قال ثم مشينا فقال «يا أبا ذر». قال قلت لبيك يا رسول الله. قال «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا». مثل ما صنع في المرة الأولى قال ثم مشينا قال «يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك». قال فانطلق حتى توارى عني -قال- سمعت لغطا وسمعت صوتا -قال- فقلت لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له -قال- فهممت أن أتبعه قال ثم ذكرت قوله «لا تبرح حتى آتيك». قال فانتظرته فلما جاء ذكرت له الذي سمعت -قال- فقال «ذاك جبريل أتانى فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». قال قلت وإن زنى وإن سرق قال «وإن زنى وإن سرق».

127 - ما يصيبك إلا بما جنت يدك: «ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر» (¬1). 128 - سبب الخلاف والتفرق بين الأصدقاء: «ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما» (¬2). 129 - لا تكن غبيا: «ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم» (¬3). 130 - اغتنم هذه الآن: «ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر» (¬4). ¬

(¬1) - أخرجه الطبراني في الصغير برقم (1053) وهو صحيح. (¬2) - أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (401) بسند صحيح، وله شاهد في مسند ابن المبارك برقم (13) من حديث أبي هريرة، وآخر في مسند أحمد عن ابن عمر برقم (5357). (¬3) - أخرجه الطبراني في مسند الشاميين برقم (960) وفيه بقية بن الوليد، والحديث يحسن مثله، ولذلك ذكره الألباني في صحيح الجامع. (¬4) - أخرجه الترمذي برقم (3460) وحسنه، وأقره الألباني وهو كما قالا. والاختلاف في وقفه ورفعه لا يضر.

لوحة (ن)

لَوْحَة (ن) 131 - احصل على التعويض والوفرة الهائلة: «ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة إلا زاده الله بها كثرة» (¬1)، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39). 132 - حتى ترافقك الملائكة في السفر والحضر: «ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك» (¬2). 133 - حتى لا تقنط ولا تيأس، هذه طبيعة التكليف الابتلائي: «ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق، وإن المؤمن خلق مفتنا توابا نساء إذا ذكر ذكر» (¬3). 134 - عدد المستهدفين لك: «مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع فى الهرم حتى يموت» (¬4). 135 - انتبه للريشة: «مثل القلب مثل الريشة تقلبها الرياح بفلاة» (¬5). 136 - دع أخلاق الكلاب: «مثل الذي يتصدق ثم يرجع في صدقته كمثل الكلب» (¬6). ¬

(¬1) - أخرجه الإمام أحمد برقم (9622) والطبراني برقم (668) عن أبي هريرة بطرق حسنة صحيحة. (¬2) - أخرجه الطبراني برقم (14309) عن عقبة بن عامر. وقال الهيثمي: إسناده حسن. وكذا حسنه المنذري برقم (4709) ووافقهما الألباني في صحيح الجامع. وهو كما قالوا. (¬3) - أخرجه الطبراني برقم (11645) عن ابن عباس، وهو صحيح. وقال الهيثمي في المجمع برقم (17533): رجاله ثقات. (¬4) - أخرجه الترمذي برقم 2150 عن عبدالله بن الشخير عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: حسن غريب. وهو كما قال. (¬5) - أخرجه ابن ماجه برقم (88) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا، وسنده صحيح. (¬6) - أصله في الصحيحين (البخاري برقم (1490) ومسلم برقم (4248) واللفظ له، عن عمر بن الخطاب قال حملت على فرس عتيق فى سبيل الله فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال «لا تبتعه ولا تعد فى صدقتك فإن العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه».

137 - قد يكون الربح في أمر لا تتوقعه: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة» (¬1). 138 - لا تتدخل فيما لا يعنيك «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬2). 139 - احذر التلف: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (¬3). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم (6836) عن أبي هريرة مرفوعا. (¬2) - أخرجه مالك في الموطأ برقم (1604) عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وهذا مرسل، وقد وصله الترمذي فأخرجه برقم (2317) عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح. (¬3) - أخرجه البخاري برقم (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لوحة (هـ)

لَوْحَة (هـ) 140 - لا تضيع العقار: «من باع دارا، ثم لم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيها» (¬1). 141 - تبرع بشيء من جسدك: «من تصدق بشيء من جسده أُعْطِيَ بمثل ما تصدق» (¬2). 142 - بدائل ربحية هامة: «من ظن بالمال أن ينفقه وبالليل أن يكابده فعليه بسبحان الله وبحمده» (¬3). 143 - تعويض هام: «أربع ركعات قبل الظهر يعدلن بصلاة السحر» (¬4). 144 - الزواج السياحي: «إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوج امرأة فلما قضى حاجته منها طلقها وذهب بمهرها ورجل استعمل رجلا فذهب بأجرته وآخر يقتل دابة عبثا» (¬5). ¬

(¬1) - أخرجه ابن ماجه برقم (2490) عن سعيد بن حريث مرفوعا. وهو حديث صحيح. (¬2) - أخرجه الإمام أحمد بسند رجاله رجال الشيخين، برقم 22846 عن ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه». وهو عند النسائي في الكبرى برقم 11146. وله شاهد عند أبي يعلى بلفظ «من تصدق بدم أو دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق». وسنده حسن في الشواهد والمتابعات؛ لأن فيه عمران بن ضبيان قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه. وقال يعقوب الفسوي ثقة يميل إلى التشيع. وقال البخاري فيه نظر. قلت: وهو جرح شديد من البخاري. ولولا كلام أبي حاتم الرازي في اعتبار حديثه لأسقطناه ذهابا إلى قول البخاري، وإنما قدمنا أبا حاتم الرازي لأنه قال فيه ذلك مع أنه متشدد في الجرح فدل على صلاحيته في الشواهد والمتابعات. (¬3) - أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (275)، وظاهره الوقف. وأخرجه البزار برقم (4904). وعبد بن حميد برقم (641) عن ابن عباس مرفوعا. وهو بهذين صحيح. (¬4) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم (5991) مرسلا بإسناد حسن إلى أبي صالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اعتضد عند الألباني من طريق أخرى صالحة في المتابعات. فالحديث حسن مرفوع. وقوله هذا صحيح لما للحديث من أصول تشهد له عند ابن أبي شيبة، والآثار لمحمد بن الحسن، ومختصر قيام الليل للمروزي. ففيها عن الصحابة آثار صحيحة تدل على نحو هذا. (¬5) - أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (2743) عن ابن عمر، وقال هو والذهبي صحيح على شرط البخاري. وهو كما قالا.

145 - أمة لا تهتم بالشرائح الضعيفة وحقوقها، أمة لا وزن لها ولا احترام: «إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع» (¬1). 146 - الخطوات الاستراتيجية الأربع لتحقيق الربحية الشاملة: 1 - الإيمان. 2 - الإصلاح الشامل في الأرض. 3 - التقويم بالحق باستمرارية. 4 - الثبات وعدم التراجع والتحمل ومواجهة المصاعب بصبر. كل هذا في آية واحدة من سورة العصر (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 1 - 3). 147 - لا تهتم بالكثرة بل بما يخدم الهدف، فإنك إذا انشغلت بالكثرة ألهتك عن غيرها وغابت عنك الحقائق والأهداف الكبرى (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر: 1 - 2). 148 - كيف تتحول في حياتك في كل شئونها إلى التيسير (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل: 5 - 7). 149 - من أين تأتي التعسيرات في الحياة (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل: 8 - 10)، البخل عن إنفاق المال في وجوه الخير من أهم وسائل التعسير في الحياة والتي يصاب بها الممسك البخيل عقوبة من الله. ¬

(¬1) - أخرجه ابن ماجه برقم (2426) بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك، فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت، أوفى الله لك، فقال: أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.

150 - راقب العداد الذري دوما (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7 - 8). 151 - لا تمض بعشوائية، بل حدد الهدف، وخطط وإلا كنت مضرب المثل في الفشل (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22).

لوحة (و)

لَوْحَة (و) 152 - اتخذ المخرج الآمن في الطوارئ والأزمات .. دائما (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق: 2). 153 - قانون المفاجآت السارة في المال والرزق بدون توقعات (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2 - 3). 154 - أحد أكبر قوانين التيسير والسهولة والسلامة في الحياة (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4). 155 - التعامل مع المشاكل الأسرية لا بد فيه من العفو والصفح والحذر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التغابن: 14). 156 - الشخصية الممقوتة (يقول ولا يفعل) (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3). 157 - قانون النجوى والسوالف وتبادل الحديث (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء: 114)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المجادلة: 9). 158 - المنافق دائما يتسلح بالحلف ليصدقه الناس في كذبه، فإياك أن تحمل هذا الخلق المنافق (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (المنافقون: 2).

لوحة (ي)

لَوْحَة (ي) إذا أوقفتك المخاوف فلن تتحرك أبدا. صدقني .. إذا تعاملت بنفسية خوفية أنك ستعيش في حملات رعب نفسي أنت مصدرها، ستحاصر نفسك وعقلك وتحركك، لكن غيِّر الآن وعش بنفسية أخرى ... عش بنفسية تركت الحزن وتسلحت بالصبر ... إلغِ التعاقد مع المضايق النفسية ... إنْهِ هذا التعاقد المشئوم الآن. ستلقي محاضرة، ستلقي خطابا، ستحاور في مجالسك، ستنصح الآخر، ستحل مشاكل الناس، يمكن أن تبني مشروعا، يمكن أن تنظم احتجاجا أو تكتب مقالا، أو تشكل تحالفا أو تنشئ جمعية ومؤسسة، أو تقود تنظيما، أو جامعة، أو وظيفة صغرت أو كبرت .. إن أصابك خوف أو قلق فلن تعمل شيئا. احذر الحَزَنْ والهموم والقلق .. الحزن علة معلة، وداء دوي يورث البلادة في الفكر، والضعف في البدن، والانهيار النفسي .. إنه يدخلك ثلاجة الموتى وأنت حي، إنه يقعدك بلا عجز، ويعجزك وأنت قادر، ويربكك وأنت متكامل القوى العقلية .. قد تهدر مالك في المساء وتندم في الصباح، قد تخاصم اليوم وتتأسف غداً، قد تزعج من حولك وتعلن حالة الطوارئ .. في منزلك، على زوجتك وأبنائك .. على موظفيك وجيرانك وإخوانك .. تصبح ناقماً نقمة قد تورث التآمر والكيد وقد توصل إلى هاوية المحرمات الكبرى من قتل واعتداء وفاحشة، الحزن يزيد تسلط المستبد، ويمكن للظالم والفاسدين والمفسدين في الأرض، حقا إن الحزن والهم والقلق يفتك بك كما فتك بعيني يعقوب (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84).

لقد أثر عليه الحزن فبدأ يفتك بأهم أعضائه وأضعفها وأغلاها، العين النافذة إلى العالم، لاقطة الصور والمواقف والتعابير، مترجمة الأحاسيس بلا منطق وهي أبلغ من المنطق، إنها اللسان الصادق الذي لا يكذب لأنها ترجمان الحب ومعاني النفس، نقرأ في عيون الآخرين ما في قلوبهم لنا من مكنون .. من حب .. من بغض .. من عطف .. من غضب .. بدون أن يستطيع أحد مهما بلغت مهارته الكذب في لسان العين، وبإمكانه الكذب بلسان المنطق إن اختار هذا الخلق المريض. إذاً توقف عن القلق والهموم والأحزان والتزاماتها .. توقف عن دفع فواتير باهظة من حياتك وصحتك.

لوحة الختام .. التعويذ من الطابور السادس

لَوْحَة الختام .. التعويذ من الطابور السادس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِن شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق: 1 - 5). في ذلك وجوب الالتجاء والتعوذ به سبحانه لدفع السوء والمكاره .. والأمر «قل» دال على الوجوب وهذا الوجوب مطلق مستمر استمرارية الفلق وحصول الشرور. إن هذا الوجوب وهذه الاستمرارية وهذا التعوذ هو الدرس المقدم في هذه السورة. وفيه على وجه العموم أن هذه الدنيا أصلها قائم على الابتلاء، ومن ذلك الشرور والخيور .. ودفع الابتلاء بالشرور بهذه السورة المباركة .. وفيه أن الله تبارك وتعالى رحيمٌ بعباده حيث أنزل لهم ما يدفع به عنهم .. وفيه العمل بالأسباب الدافعة ومنها هذه السورة والتي تليها. وفيه حاجة حامل الرسالة إلى التحصن المقوي له على الأمر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور بهذه الاستعاذة لدفع ما يواجه من الكيد والمكر والشر. وفيه أنه لا يكاد يسلم من شر هذه الأمور حتى الأنبياء والرسل فإذا كان الأمر لهذه الصفوة فغيرهم أولى. وفيه أهمية هذه السورة والتالية «الناس»؛ لأنها تعويذ خاص من الله تعالى العالِمِ بالدوافع والموانع والشرور والخيور .. فهذه رقية لا تساويها رقية .. ولا يعادلها تعوذ .. وهذا ما ثبت به النص النبوي كما أخرجه النسائي وغيره (¬1). ¬

(¬1) - ولفظ النفاثات يشمل كل ما ينفث في العقد فمنه السحر كما ذكره غير واحد ومنه في عصرنا -والله أعلم- الطائرات النفاثات؛ لأنها تخرج النفث من العقد في داخل مسارات الطاقة، وكذا أنواع الآليات والمسدسات؛ لأنها تنفث في مواصير بها عقد، وكذا يشمل ضغط الدم؛ لأن الدم يمشي عبر الشرايين والأوردة ذات العقد والصمامات، ومنها السيارات ومنها الحنجرة، وما تنفث من أقوال قد تقلب الموازين عبر عقدها المعروفة. ومنها الأفاعي والعقارب التي تنفث السموم من عقدها ولو تأملت في هذه الآية ستجد الكثير والكثير مما يدخل في عموم هذا، ولأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فهذه المعاني داخلة تحت هذا الشمول واللفظ. والله أعلم.

إن حمَلَة الدعوة بحاجةٍ ماسة للتواصل الواثق بالله ذي القوة المطلقة، والقدرة المطلقة .. وربنا سبحانه وتعالى يمدهم بهذا؛ لأنه مطلعٌ وعالمٌ بما يكتنف مسيرة الدعوة من الشرور والمؤامرات والحسد والنكايات ووساوس الصدور. سورة خاصة بالاستعاذة من الشر الكلي العام من كل ما خلق .. فيشمل كل شر حتى شر النفس التي بين جنبيك بما يصيبها من هوى وتخذيل وتثبيط عن المضي في خط الصراط المستقيم. وهكذا شر الليل المتدفق؛ لأن في الليل تحاك المؤامرات والكيود عادة وتدبر ويخطط لها .. وهكذا كثير من الشرور يحويها الليل وظلمته؛ ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج عند هدأة الرجل من الليل (¬1) .. حتى شر النفاثات والشعوذة والدجاجلة وشر الحاسدين والحاقدين الذين ينفثون كما تنفث النفاثات، ينفثون بحسدهم فيكيلون التآمر والشر .. كل هؤلاء قوى تواجه بالآيات الربانية .. ثم أفرد سورة مستقلة هي سورة الناس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس: 1 - 6)؛ للاستعاذة من شر الوسواس فقط .. كأنه أخطر الشرور .. إنه يهاجم من الداخل يغويك .. يربكك .. هذا الذي يزرع الشكوك والظنون ويزرع الأوهام .. وهو خناس -أي يضع الكلمة ثم يخنس هارباً- هذا ما يعطيه اللفظ .. وهو كذلك يفر إذا تذكر العبد ربه كما هو أحد وجهي التفسير، وهو من نوعي مخلوقات التكليف خناس وسواس جني وإنسي .. كلهم يؤدون الطابور السادس .. ¬

(¬1) - أخرجه الحميدي برقم (1327) بسند صحيح على شرط مسلم، وأبو داود برقم (5106)، وكلاهما عن جابر بن عبدالله مرفوعا بلفظ «أقلوا الخروج بعد هدأة الرجل فإن لله تعالى دواب يبثهن فى الأرض».

وساوس وظنون وأوهام وأحقاد وتشجيع على المكايد والآثام والظلمات .. وفي طريقنا جميعا .. لكل هذا أمرنا بهاتين السورتين صباحا ومساءا وقاية تامة جدا، إضافة لسورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: 1 - 4)، التي تعني الارتباط بمن له كل الأمر وحده وهو الله، ومن بيده الخلائق .. من إليه تعمد الخلائق فقيرة محتاجة .. ليس له كفؤ في قدرته وأسمائه وصفاته أبدا .. في حفظه .. في لطفه .. وقد ثبت أنه لا أفضل من هذه التعاويذ .. ولما نزلت هذه السور الثلاث ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سواها وحافظ على هذه السور الثلاث (¬1) .. فعليك بالاقتداء به تسلم. الآن إذاً: بادر إلى محاربة الطابور السادس بهذه الثلاثة الأسلحة .. سور الإخلاص .. الفلق .. الناس، ثلاثا إذا أصبحت وثلاثا إذا أمسيت. ¬

(¬1) - أخرجه النسائي في الكبرى برقم (7804) والترمذي برقم (2058) عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما. قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب. قلت: هو حسن صحيح، وقد ورد في فضلهما غير هذا من الأحاديث الصحيحة التي تدل على كثرة قراءته صلى الله عليه وسلم لهذه السور الثلاث.

الخاتمة .. الإعلان الكبير للحساب الختامي

الخاتمة .. الإعلان الكبير للحساب الختامي انفجار عملاق مرعب، ظلمات وظلمات، يتحول فيه البحر إلى حريق ناري مسجر، والصم الرواسي إلى ذرات هوائية محمولة. إنه إعلان عن انتهاء فترة الحرب الابتلائي بين الحق والباطل، إعلان عن انتهاء ظلم الظالمين ومكر الماكرين، إعلان عن سقوط التيجان, والعروش والقروش، إعلان عن انتهاء معاني المال والأعمال. إنه اليوم العالمي الخاتم المصيري: يوم جني، إنسي، طيري وحشي حيواني، ملائكي رباني. يوم عالمي: لسائر الأديان يقضى فيهم بالحق في أعلى محكمة، وأعدل محكمة، وأرحم محكمة، وآخر محكمة بلا استئناف، مدتها خمسون ألف سنة، النظر فيها لواحد والفصل لواحد والقول لواحد، والملك لواحد، يحاسب العوالم فيه بأدق التفاصيل الذرية، واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. إنه يوم عالمي: تجتمع فيه الزعامات والحكام بعد انتهاء مدة حكمهم الانتقالية، فهم اليوم محكومون موقوفون مسئولون. إنه يوم عالمي: تسلم فيه العهد والأمانات وتورد إلى خزائن ملك الملوك، فتتضح بهذا التوريد كافة الخيانات، والاختلاسات. يوم عالمي: تنتهي فيه جميع القيم الأرضية، فلا حاكم ولا محكوم ولا لبس ولا لباس، ولا أحذية ولا نعال، ولا شبهات ولا شهوات، «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» (¬1). ¬

(¬1) - أخرجه مسلم برقم (7377) من حديث عائشة رضي الله عنها.

يوم الوقوف العالمي: لا يجلس أحد فالكل واقف، إلا الأنبياء والمتحابين في الله -المتباذلين فيه. يوم الشمس: الناس جميعاً في الشمس المتقدة، لا يستظل أحد إلا من أظلته صدقته، أو كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (¬1). يوم العطش العالمي: الجمهور ظامئ وتكاد تحترق من شد ظمئه الأكباد، وتتشقق الحلوق، فيا سعد من شرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة هنية لا يظمأ بعدها أبداً وما أقل ثمنها (¬2)، وما أبخلنا في دفعه الآن مقدماً، وهو ليس بدينار ولا درهم بل الثمن اتباع الله ورسوله. إنه يوم الأنانية العالمي: شعار الجميع فيه «نفسي نفسي»، إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول: «أمتي أمتي» (¬3)، فلك الحمد أن جعلتنا من أمته. إنه يوم مشهود: فيه خوف وقلق ووجل، ويقول الأنبياء: اللهم سلِّم سلِّم. لا كلام .. الكل ساكت صامت، (لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) (هود: 105). يوم النطق بالحكم النهائي: بلا ضمانات، أو كفالات توقف التنفيذ ... لا وساطة ولا شفاعة إلا من رضي له الرحمن (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء: 28) من الشهداء والصالحين والأنبياء والرسل. يوم القطيعة العالمي: تنقطع فيه كل أواصر القربى، ومعاني الأسرية والنسب، بل يلوذ بالفرار بعضهم من بعض (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (عبس: 34 - 36). ¬

(¬1) - أخرجه البخاري برقم (660) ومسلم برقم (2427) واللفظ له عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ بعبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». (¬2) - أحاديث الحوض رواها أكثر من خمسين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الصحيحين وغيرها. (¬3) - هذا جزء من حديث الشفاعة المتواتر، وهو في الصحيحين وغيرهما.

يوم الفقر العالمي: الكل فقير لا يملك ديناراً ولا درهماً، فقد وردت العهد المالية إلى خزائن الواحد الأحد، وأصبح الملياردير لا يملك القطمير. يوم الإفلاس: المفلس فيه من ضرب هذا، وأخذ مال هذا، وظلم هذا، فيقضيهم بتعويضات ليست ذهباً ولا فضة؛ لأنها أغلى منها وأجدى وأنفع، إنها الحسنات، يقول صاحب المال (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ) (الحاقة: 28)، ويقول صاحب السلطان (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) (الحاقة: 29)، ويقول الله (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) (الحاقة: 30). يوم تغيير العملة: فلا عقار ولا دار .. لا زرع ولا ضرع .. لا دينار ولا دراهم .. لا عملات سهلة ولا صعبة. كل هذه لا قيمة لها، إن القيمة اليوم غير هذه، إن الملياردير من جاء بالعمل الصالح كرصيد له غطاء وتأمين في بنك الرحمن بنك وحيد، غير معترف بغيره، فمن كان يضع رصيده في بنوك غيره فكله مال ضائع، يقول الله لهم: اذهبوا إلى الذي كنتم تراؤونهم وتعملون لهم .. فهل تجدون عندهم شيئاً؟ يوم البطاقة العالمي: بطاقة التأمين والأمن الشامل التي ليست للعمر .. بل للأبد، إنها بطاقة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله» (¬1). يوم يحمل فيه المجاهدون والمتقون التصريح بالمرور من كل نقاط التفتيش المذهلة. يوم النور والظلمة: فالمتوضئون لهم أنوار تجري بأيديهم وبأيمانهم (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم: 8) .. ¬

(¬1) - أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (6994) وسنده حسن صحيح، والترمذي برقم (2639) وحسنه واللفظ له عن عبدالله بن عمرو بن العاصي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يارب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول: احضر وزنك فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فقال: إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء.

قراء سورة الكهف كل جمعة يكون لهم بها نور إلى عنان السماء (¬1)، وهو ظلمة حالكة على غيرهم. يوم المسئولية: إن المسئولين في الدنيا هم المسئولون يوم القيامة .. فيا ويل من نوقش الحساب وكثر معه التحقيق والتدقيق (¬2). يوم اللعن لزعماء السوء من أتباع السوء: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب: 67 - 68). يوم التغابن: لأن فيه يندم الناس على ما غبنوا أنفسهم وضيعوها. يوم قراءة التقرير النهائي: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) (الحاقة: 19)، يقرأ كل واحد بنفسه. إنه يوم الحساب الذَّرِّي الختامي: نعم إنه حساب ذري وحساب ختامي (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7 - 8). إنه يوم السهر العالمي: لا نوم فيه لأحد (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) (النازعات: 14). إنه يوم قريب: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج: 6 - 7). إنه يوم الحرية العالمي: يتحرر فيه الجميع من عبادة أي شيء إلا الله، ومن تعبيد بعضهم لبعض. ¬

(¬1) - أخرجه الإمام أحمد برقم (15664) بسند صالح في الشواهد والمتابعات من حديث سهل بن معاذ عن أبيه، وأخرجه الحاكم برقم (3392) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه. وفيه نعيم بن حماد فلا يصحح الحديث وهو فيه، لكنه صالح في الشواهد فيكون الحديث بمجموع الطريقين حسن. (¬2) - أخرجه البخاري برقم (103) ومسلم برقم (7406) واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حوسب يوم القيامة عذب». فقلت أليس قد قال الله عزوجل (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال «ليس ذاك الحساب إنما ذاك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب».

إنه يوم الحشر: يحشر الأنبياء إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم والعلماء يقدمهم اليماني معاذ بن جبل (¬1)، ويحشر الطغاة وإمامهم فرعون، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (هود: 98). يومٌ آخره جنة أو نار .. وقيل الحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) - أخرجه الطبراني برقم (16471) عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ بن جبل أمام العلماء برتوة». قال المناوي في شرح الجامع الصغير: صحيح.

تم بحمد الله

وثائق

وثائق

الإعلان العالمي الإسلامي لحقوق الإنسان

الإعلان العالمي الإسلامي لحقوق الإنسان

الإعلان العالمي الإسلامي لحقوق الإنسان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13). إنّ الدول الأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلامي، إيماناً منها بالله ربّ العالمين خالق كلّ شيء، وواهب كلّ النعم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرّمه وجعله في الأرض خليفة، ووكّل إليه عمارتها وإصلاحها، وحمّله أمانة التكاليف الإلهيّة وسخّر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً. وتصديقاً برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بالهدى ودين الحقّ رحمة للعالمين ومحرّراً للمستعبدين ومحطّماً للطواغيت والمستكبرين، والذي أعلن المساواة بين البشر كافّة، فلا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى، وألغى الفوارق والكراهيّة بين الناس، الذين خلقهم الله من نفس واحدة. وانطلاقاً من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام، والتي دعت البشر كافّة ألاّ يعبدوا إلاّ الله ولا يشركوا به شيئاً ولا يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، والتي وضعت الأساس الحقيقي لحريّة البشر المسئولة وكرامتهم الخالدة، من المحافظة على الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، والنسل، وما امتازت به من الشمول والوسطيّة في كلّ مواقفها وأحكامها، فمزجت بين الروح والمادّة وأخذت بين العقل والقلب. وتأكيداً للدور الحضاري والتاريخي للأُمّة الإسلاميّة التي جعلها الله خير اُمّة أورثت البشريّة حضارة عالميّة متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشريّة الحائرة بين التيّارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة الماديّة المزمنة. ومساهمة في الجهود البشريّة المتعلّقة بحقوق الإنسان التي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهدف إلى تأكيد حريّته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتّفق مع الشريعة الإسلاميّة.

المادة الأولى (المساواة)

وثقة منها بأنّ البشرية التي بلغت في مدارج العلم المادي شأواً بعيداً لا تزال وستبقى في حاجة ماسّة إلى سند إيماني لحضارتها وإلى وازع ذاتي يحرس حقوقها. وإيماناً بأنّ الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة في الإسلام جزء من دين المسلمين، لا يملك أحدٌ بشكل مبدئي تعطيلها كلّياً أو جزئيّاً، أو خرقها أو تجاهلها في أحكام إلهيّة تكليفيّة أنزل الله بها كتبه، وبعث بها خاتم رسله، وتمّم بها ما جاءت به الرسالات السماويّة، وأصبحت رعايتها عبادةوإهمالها أو العدول عنها منكراً في الدين، وكلّ إنسان مسئول عنها بمفرده، والأمة مسئولة عنها بالتضامن، إنّ الدول الأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلامي تأسيساً على ذلك تعلن ما يلي: المادة الأولى (المساواة): أ- البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبوديّة لله والبنوّة لآدم، وجميع النّاس متساوون في أصل الكرامة الإنسانيّة وفي أصل التكليف والمسؤوليّة، دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللّغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات، وإنّ العقيدة الصحيحة هي الضمان لنموّ هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان. ب- إنّ الخلق كلّهم عيال الله، وإن أحبّهم إليه أنفعهم لعياله، وإنّه لا فضلَ لأحد منهم على الآخر إلاّ بالتقوى والعمل الصالح. المادة الثانية (حق الحياة): أ- الحياة هبة الله وهي مكفولة لكلّ إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كلّ اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتض شرعي. ب- يحرم اللجوء إلى وسائل تقضي بفناء الينبوع البشري. ت- المحافظة على استمرار الحياة البشريّة إلى ما شاء الله واجب شرعي. ث- يجب أن تصان حرمة جنازة الإنسان وأن لا تنتهك، كما يحرم تشريحه إلاّ بمجوّز شرعي، وعلى الدول ضمان ذلك.

المادة الثالثة (حق المدنيين وغيرهم بالحروب)

المادة الثالثة (حق المدنيين وغيرهم بالحروب): أ- في حالة استعمال القوّة أو المنازعات المسلّحة لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحقّ في أن يداوى وللأسير أن يطعم ويؤوى ويكسى، ويحرم التمثيل بالقتلى ويجوز تبادل الأسرى واجتماع الأسر التي فرّقتها ظروف القتال. ب- لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنيّة للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك. المادة الرابعة (حق الميت): لكل إنسان حرمته والحفاظ على سمعته في حياته وبعد موته، وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمانه ومدفنه. المادة الخامسة (حق تكوين الأسرة): أ- الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها وللرجال والنساء الحقّ في الزواج ولا تحول دون تمتّعهم بهذا الحقّ قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسيّة. ب- على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها. المادة السادسة (حق المرأة): أ- المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانيّة، ولها من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات، ولها شخصيّتها المدنيّة وذمّتها الماليّة المستقلّة وحقّ الاحتفاظ باسمها ونسبها. ب- على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة ومسؤوليّة رعايتها. المادة السابعة (حق الطفل والأبوين): أ- لكلّ طفل منذ ولادته حقٌّ على الأبوين والمجتمع والدولة في الحضانة والتربية والرعاية الماديّة والعلميّة والأدبيّة، كما تجب حماية الجنين والأم وإعطاؤهما عناية خاصّة. ب- للآباء ومن بحكمهم، الحقّ في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب

المادة الثامنة (حق الأهلية)

مراعاة مصلحتهم ومستقبلهم في ضوء القيم الأخلاقية والأحكام الشرعيّة. ت- للأبوين على الأبناء حقوقهما وللأقارب حقٌّ على ذويهم وفقاً لأحكام الشريعة. المادة الثامنة (حق الأهلية): لكلّ إنسان التمتّع بأهليّته الشرعيّة من حيث الإلزام والالتزام، وإذا فُقدت أهليّته أو انتقصت قام وليّه مقامه. المادة التاسعة (حق العلم والتربية المؤسسية): أ- طلب العلم فريضة والتعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليها تأمين سبله ووسائله وضمان تنوّعه بما يحقّق مصلحة المجتمع، ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون وتسخيرها لخير البشريّة. ب- من حقّ كلّ إنسان على مؤسّسات التربية والتوجيه المختلفة من الأسرة والمدرسة والجامعة وأجهزة الإعلام وغيرها أن تعمل على تربية الإنسان دينيّاً ودنيويّاً تربية متكاملة ومتوازنة وتعزّز إيمانه بالله واحترامه للحقوق والواجبات وحمايتها. المادة العاشرة (حق حرية التدين): لمّا كان على الإنسان أن يتبع الإسلام دين الفطرة فإنّه لا تجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد. المادة الحادية عشرة (حق الحرية وعدم العبودية والاستعمار): أ- يولد الإنسان حرّاً وليس لأحد أن يستعبده أو يذلّه أو يقهره أو يستغلّه ولا عبوديّة لغير الله تعالى. ب- الاستعمار بشتّى أنواعه باعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد محرّم تحريماً مؤكّداً، وللشعوب التي تعانيه الحقّ الكامل للتحرّر منه وفي تقرير المصير، وعلى جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كلّ أشكال الاستعمار أو الاحتلال، ولجميع الشعوب الحقّ في الاحتفاظ بشخصيّتها المستقلّة والسيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعيّة.

المادة الثانية عشرة (حق التنقل واللجوء)

المادة الثانية عشرة (حق التنقل واللجوء): لكلّ إنسان الحقّ في إطار الشريعة بحريّة التنقّل، واختيار محلّ إقامته داخل بلاده أو خارجها، وله إذا اضطُهد حقّ اللجوء إلى بلد آخر، وعلى البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتّى يبلغه مأمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشرع. المادة الثالثة عشرة (حق العمالة): العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكلّ قادر عليه، وللإنسان حريّة اختيار العمل اللائق به، ممّا تتحقّق به مصلحته ومصلحة المجتمع، وللعامل حقّه في الأمن والسلامة وفي الضمانات الاجتماعيّة الأخرى كافّة، ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه، أو إكراهه، أو استغلاله، أو الإضرار به، وله -دون تمييز بين الذكر والأنثى- أن يتقاضى أجراً عادلاً مقابل عمله دون تأخير، وله الإجازات والعلاوات والترقيات التي يستحقّها، وهو مطالب بالإخلاص والإتقان، وإذا اختلف العمّال وأصحاب العمل فعلى الدولة أن تتدخّل لفضّ النزاع ورفع الظلم وإقرار الحقّ والإلزام بالعدل دون تحيّز. المادة الرابعة عشرة (حق العمل والكسب): للإنسان الحقّ في الكسب المشروع، دون احتكار أو غش أو إضرار بالنفس أو بالغير، والربا ممنوع مؤكداً. المادة الخامسة عشرة (حق الملكية): أ- لكلّ إنسان الحقّ في التملّك بالطرق الشرعيّة، والتمتّع بحقوق الملكيّة بما لا يضرّ به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع، ولا يجوز نزع الملكيّة إلاّ لضرورات المنفعة العامّة ومقابل تعويض فوري وعادل. ب- تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلاّ بمقتض شرعي. المادة السادسة عشرة (الحق الأدبي): لكلّ إنسان الحقّ في الانتفاع بثمرات إنتاجه العملي أو الأدبي أو الفني أو التقني، وله الحقّ

المادة السابعة عشرة (حق توفير بيئة نظيفة أخلاقيا ورعاية صحية واجتماعية وعيش كريم)

في حماية مصالحه الأدبية والماليّة الناشئة عنه، على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة. المادة السابعة عشرة (حق توفير بيئة نظيفة أخلاقيا ورعاية صحية واجتماعية وعيش كريم): أ- لكلّ إنسان الحقّ أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقيّة تمكّنه من بناء ذاته معنويّاً، وعلى المجتمع والدولة أن يوفّرا له هذا الحق. ب- لكلّ إنسان على مجتمعه ودولته حقّ الرعاية الصحيّة والاجتماعيّة بتهيئة جميع المرافق العامّة التي يحتاج إليها في حدود الإمكانات المتاحة. ت- تكفل الدولة لكلّ إنسان حقّه في عيش كريم يحقّق له تمام كفايته وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية. المادة الثامنة عشرة (حق حرية الأمن الشخصي وحرمة السكن): أ- لكلّ إنسان الحقّ في أن يعيش آمناً على نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله. ب- للإنسان الحقّ في الاستقلال بشؤون حياته الخاصّة في مسكنه وأسرته وماله واتّصالاته، ولا يجوز التجسّس أو الرقابة عليه أو الإساءة إلى سمعته، وتجب حمايته من كل تدخّل تعسّفي. ت- للمسكن حرمته في كلّ حال ولا يجوز دخوله بغير إذن أهله أو بصورة غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه. المادة التاسعة عشرة (الحق القضائي): أ- النّاس سواسية أمام الشرع يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم. ب- حقّ اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع. ت- المسؤوليّة في أساسها شخصيّة. ث- لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بموجب أحكام الشريعة.

المادة العشرون (حق عدم التعذيب والتعريض للخطر والتجارب الطبية الخطرة)

ج- المتّهم بريء حتّى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تأمّن له فيها كلّ الضمانات الكفيلة بالدفاع عنه. المادة العشرون (حق عدم التعذيب والتعريض للخطر والتجارب الطبية الخطرة): لا يجوز القبض على إنسان أو تقييد حريّته أو نفيه أو عقابه بغير موجب شرعي، ولا يجوز تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي أو لأيّ نوع من المعاملات المذلّة أو القاسية أو المنافية للكرامة الإنسانيّة، كما لا يجوز إخضاع أي فرد للتجارب الطبيّة أو العلميّة إلاّ برضاه، وبشرط عدم تعرّض صحّته وحياته للخطر، كما لا يجوز سنّ القوانين الاستثنائيّة التي تخوّل ذلك للسلطات التنفيذيّة. المادة الحادية والعشرون (حق عدم جواز ارتهان الإنسان): أخذُ الإنسان رهينة محرّم بأيّ شكل من الأشكال ولأي هدف من الأهداف. المادة الثانية والعشرون (حق التعبير والحسبة والإعلام): أ- لكلّ إنسان الحقّ في التعبير بحريّة عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعيّة. ب- لكلّ إنسان الحقّ في الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلاميّة. ت- الإعلام ضرورة حيويّة للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرّض للمقدّسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كلّ ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكّك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد. ث- لا تجوز إثارة الكراهيّة القوميّة والمذهبيّة وكلّ ما يؤدّي إلى التحريض على التمييز العنصري بأشكاله كافّة. المادة الثالثة والعشرون (ضوابط الولاية العامة وحق الاشتراك في إدارة البلد وتقلد الوظائف العامة): أ- الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريماً مؤكّداً ضماناً للحقوق الأساسيّة للإنسان.

المادة الرابعة والعشرون (الشريعة ضابطة)

ب- لكلّ إنسان حقّ الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنّ له الحقّ في تقلّد الوظائف العامّة وفقاً لأحكام الشريعة. المادة الرابعة والعشرون (الشريعة ضابطة): كلّ الحقوق والحريّات المقرّرة في هذا الإعلان مقيّدة بأحكام الشريعة الإسلاميّة. المادة الخامسة والعشرون (الشريعة مفسرة): الشريعة الإسلاميّة هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد الإعلان.

بيان المجمع الفقهي

بيان المجمع الفقهي

بيان المجمع الفقهي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أن مجمع الفقه الإسلامي إيمانا منه بأن الباري جل وعلا هو الذي وهب للإنسان الكرامة التي هي أساس الحقوق والواجبات، واوجب على الإنسان حقوقا لربه وحقوقا لنفسه وحقوقا لأبناء جنسه وحقوقا لمكونات البيئة من حوله، وان نظرة متعمقة وشمولية ومحايدة للتشريع الإسلامي تجعل المرء يجزم بصلاحيته للمجتمع البشري، وانسجامه مع طبيعة الإنسان والكون، وهذا ما جعل الإسلام يسمى بدين الفطرة. كما يشهد لذلك قول الله تبارك وتعالى (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). وحقوق الإنسان في الإسلام هي عبارة عن المزايا الناشئة عن التكريم الإلهي الذي وهبه الله للإنسان، وألزم الجميع باحترامها طبقا للضوابط والشروط الشرعية. وإيمانا بما أجمعت عليه أمة الإسلام من أن الشريعة الإسلاميّة صالحة لكل زمان ومكان، وإيمانا بحق الشعوب في الاحتفاظ بخصائصها الثقافية والدينية المميزة لها، وحق كل مجتمع وكل أمة في أن تحكم بالنظم والتشريعات التي ترتضيها لنفسها، وانطلاقا من كل ما تقدم فإن المجمع يؤكد على ما تضمنه إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، والصادر عن وزراء خارجية الدول الإسلاميّة بتاريخ 14 محرم 1411 هـ الموافق 5 أغسطس 1990 م، وما صدر عن ندوة حقوق الإنسان التي عقدها مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة بتاريخ 8 - 10 محرم 1417 هـ الموافق 25 - 27 مايو 1996 م. وحيث أن الشعوب المسلمة التزمت نظم الإسلام وتشريعاته برغبة ذاتية لا لبس فيها في الأحوال الشخصية وشؤون المرأة والروابط الأسرية وغيرها من المجالات الاجتماعية

والاقتصادية وقد اتفق معها في كثير من جوانبها مع أهداف ومضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في مضمونه وأهدافه في بعض، وتختلف معه في بعض الجوانب التي تعود أساسا إلى مسألة الأخلاق ونظام المجتمع المستند إلى الدين الإسلامي. فإن المجمع يؤكد في هذا الخصوص على ما يلي: أولاً: أن الشريعة الإسلاميّة قررت الأحكام التي تضمن حفظ مقاصدها في الخلق والتي من أهمها ما يعرف بالكليات الخمس، وبذلك ضمن الحقوق الأساس للإنسان في نفسه ودينه وماله وعرضه وعقله. وقد عالجت الشريعة الإسلاميّة أنواع الانحرافات المختلفة باتخاذ إجراءات وقائية، وزجرية بقصد حماية المجتمع وإصلاح الانحراف، علماً بأن الإجراءات الردعية الزجرية موجودة ومعتمدة في كل تشريع وفي كل زمان ومكان. ثانياً: أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على حق كل دولة في بسط سيادتها في إطار رقعتها الجغرافية ومنع التدخل في شؤونها الداخلية. ثالثاً: أ- على المنظمات العالمية المهتمة بحقوق الإنسان على اختلاف مواثيقها ونظمها أن تمتنع عن التدخل في المجالات التي تحكمها الشريعة الإسلاميّة في حياة المسلمين، وليس من حقها إلزام المسلمين، وليس من حقها إلزام المسلمين بنظمها وقيمها التي تخالف شرائعهم وقيمهم، ولا يجوز أن تحاسبهم على مخالفتهم لقوانين لا يرتضونها ولا يحكمون بها. ب- يؤكد المجمع على أن التشريعات الخاصة في الدول ذات السيادة لا تخضع للنظم والمواثيق الأجنبية عنها. رابعاً: أن كثيرا من الهيئات والمؤتمرات العالمية قد أقرت صلاحية التشريع الإسلامي لحل مشكلات البشرية مما يحتم على عقلاء البشر أن يأخذوه بعين الاعتبار وان يفيدوا مما فيه. خامساً: يدعو المجمع الدول والهيئات العالمية والإنسانية العمل على احترام حقوق الأقليات

المسلمة في مختلف بلاد العالم وإنصافها خاصة في هذا الوقت العصيب تحقيقا لمبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه. سادساً: يقرر المجمع إنشاء مركز لحقوق الإنسان تابع له وتتخذ الترتيبات اللازمة لإنشائه ووضع النظام الخاص به. سابعاً: يعبر المجمع عن استعداده للتواصل مع رجال القانون والهيئات والمؤسسات العلمية والعالمية الرسمية والشعبية من كل الآفاق والاتجاهات لدراسة سبل التفاهم والتعاون في مجال حقوق الإنسان، بما يكفل الأمن والعدل والرخاء والحياة الكريمة، ويدرأ الفساد، ويقيم التعايش بين الناس وفقا للأسس التي سبق ذكرها. وليكن شعارنا في ذلك قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أعلنه في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». والحمد لله أولاً وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

دليل محتويات الكتاب

دليل محتويات الكتاب (4 - 19) لوحات المقدمة (فاتحة الكتاب .. مقدمة الناشر .. كلمة الناشر -الطبعة الثانية .. كلمات من نور عن المؤلف للإمام يوسف القرضاوي ... كلمة لمفتي اليمن العلامة محمد بن إسماعيل العمراني .. كلمة للبروفيسور العلامة عبدالمجيد الزنداني .. وإجازتان نادرتان .. كلمات للسيد العلامة محمد بن علي عجلان .. رسالة مجمع الفقه الإسلامي (الهند) .. كلمة الدكتور عائض بن عبدالله القرني .. ). (20) تقديمنا (27 - 33) من سيرة المؤلف (35) الفقه الوظيفي (36 - 40) تمهيد يبين أن الأصل جواز الإجارة وبعض مسائلها، التأجير على التأجير، تقبيل المحلات التجارية، إجارة الباصات وضمانها، استئجار الكاسيت ونحوها وأدوات الزينة والأعراس وضمانها (40 - 44) الوظيفة العامة وتكييفها وبيان أنها أمانة، ما يجب على الدولة من الشروط الوظيفية، معنى الكفاءة الوظيفية، طريق معرفة الكفاءة، الوساطة والتزكية والشهادة، تقديم من ثبتت فاقته وحاجته في الوظيفة وطريق إثبات ذلك في الجهات الرسمية، لا يجوز التغاضي عن الشروط الهامة في الوظيفة العامة، تحريم تولية السفيه على الأموال، واجب الدولة في توزيع الدرجات الوظيفية بالعدل (44 - 47) التوزيع المناطقي للدرجات الوظيفية، الواجب على الموظف الالتزام بتوجيهات الإدارة وحدود ذلك، علة الجمع للفظ «وأولي الأمر منكم»، الإدارة إجارة ونوع إمارة، مخالفة الأوامر الإدارية العامة أو الخاصة المتعلقة بالوظيفة والداخلة في مضمون مقتضى العقد، ضمان ما ترتب على المخالفة، حكم الخصم عند المخالفة الرجوع إلى اللوائح عند المخالفة وتكييف اللوائح وبيان أنها جزء مفسر للعقد وإذا لم تكن لائحة فماذا يصنع؟

(47 - 50) السكن الوظيفي وتكييفه وبيان إباحته للانتفاع وعدم جواز تأجيره وعلة ذلك (50 - 52) حكم الوظيفة في مرفق آخر، حكم الاشتراط على الموظف عدم العمل لفترة أخرى في جهة أخرى، تأجير الفنادق، بيان ضوابط تأجير العقارات وبيان تأجيرها لمعصية، التأجير في الحرام حرام، ضمان الموظف والأجير وتفصيل ذلك وبيان الفرق بين المسائل ومحل جريان قاعدة «لا يجتمع الأجر والضمان»، الأصل في الطب الضمان ودليل ذلك (52 - 55) بيان حكم الوظيفة في البنوك الربوية، بيان حكم عقود الصيانة، وظيفة المرأة جائزة وما يجب عليها حينئذ، جواز أخذ الضمانات التجارية للوظائف وتأجير الأعيان، جواز إصدار قانون ينظم الإيجارات وأسعارها، مهنة المحاماة وبيان جوازها وحرمة المحاماة عمن تبين ظلمه (55 - 60) الوظيفة العلمية وجواز أخذ الأجرة عليها والجمع بين النصوص ونظم المسألة، المعلم ووظيفته وبيان عظيم أمانته وبيان اشتراط الكفاءة للمعلم وما هي بالنسبة له والاستدلال على اشتراط حسن السيرة والسلوك (أصل وحاشية)، حكم الغياب والبدل، وجوب بذل الإحسان في وظيفة التعليم وحكم التأديب (تفصيل ذلك في فقه التربية والتعليم)، واجب الدولة توفير وسائل التعليم، حكم من أتلف شيئا من الأثاث الوظيفي، حرمة الغش وحكم من عاون عليه وبيع الوثائق ووجوب التحقيق مع المتورط وعقوبته إن تبين تورطه، حكم التأخر عن الدوام، يجب على الدولة إصلاح المناهج على المستويات الأربعة وبيان ذلك، فرض على الدولة تعليم الشعائر وتعظيم القرآن والسنن وغربلة الطلاب ودعم الأذكياء والتخصصات والمنح الدراسية وتوزيعها وبيان ما يحرم من الشفاعات والوساطات فيها (60 - 63) التزام الدوام من أول الوقت إلى آخره، واجب الموظف للقيام بكل ما عليه من عمل بلا ترحيل مماطل، بيان ما يترتب على التفريط الوظيفي أو التعاقدي من الأضرار وما حكم ذلك، أخذ الموظف الأموال من العملاء بمسمى «إكرامية» وبيان حكم ذلك، بيان حكم الوساطات والهدايا للموظفين، بيان حكم التدوير الوظيفي للمناصب وتوريثها (63 - 64) حكم العهد الوظيفية داخلية أو خارجية والتعامل معها، أوقات الراحة للموظف وتناول الإفطار وقراءة الصحف، سجل الحضور والغياب الإلكتروني والعادي (64 - 67) حرمة التوقيع بدلا عن الموظف الغائب، الصلاة وشعائر الله في المرافق الوظيفية وبيان فرضية ذلك وحكم منع الموظف أو الطالب من أداء الصلوات في أوقات

الدوام، حقوق الموظف وبيان وجوب إعطائه الراتب العادل وحرمة البخس الوظيفي في الراتب والحقوق وحرمة الغبن والاستغلال (67 - 70) حرمة الاحتجاب لمسئولي المناصب عن الناس الذين لهم حاجة، تحريم الغلول والاختلاس والتحايل، صرف النثريات وأحكامها، وجوب المحاسبة الوظيفية، ترك محاسبة المفسدين من الكبائر، حرمة الدفاع عن المفسدين من جهات نافذة حماية لهم وتواطؤاً، واجبات الوظيفة الأمنية، ضبط مفسد ولو كان نافذا، محاربة ومنع الجرائم والمنكرات، حرمة استغلال الجهات الأمنية لأي غرض شخصي أو حزبي أو طائفي أو مناطقي، «تعيون» العسكر والرسامة، التغطية على مهربي كل ضار ومحرم (70 - 73) التقدم للوظيفة وحكم طلبها وبيان مشروعية ذلك وما يتعلق به من مسائل، المكافآت والتحفيزات، الزي الوظيفي (73 - 74) عمالة الأطفال وبيان حكمها وضررها، تأهيل أصحاب الاحتياجات الخاصة، نقابة الموظفين والعمال (74 - 78) حكم إنشاء جمعية بين الموظفين بالراتب أو جزء منه والجواب على من منعها، الوظيفة في بلاد غير المسلمين وبيان جوازها ومناقشة الاعتراضات والاستدلالات وحكم الإقامة، يجوز للمسلم أن يلي ولاية لغير المسلمين في بلادهم تعود بالنفع الإنساني عليهم (78 - 80) وظيفة المسلم في القوات المسلحة غير المسلمة، الوظيفة في قوات حفظ السلام الدولية، الوظيفة في الأمم المتحدة، الوظيفة في المنظمات الدولية، وظيفة غير المسلم في بلاد الإسلام مباحة (81 - 84) استثناء الولايات العامة لأنها وظائف سيادية وبيان الاستدلال لذلك وتفصيله وبيان جريان التعامل الدولي على ذلك لدى دول كبيرة وكثيرة، بيان حكم اشتراط السن والمواطنة في الوظيفة، بيان الشروط الوظيفية وأنواعها وما هو الذي يشترط في كل الوظائف وما تختص به بعضها دون بعض وحكم كلٍ (84 - 87) أنواع المهن والوظائف، الوظائف من حيث الأهمية

(89) الفقه الطبي (90 - 92) مهنة الطب وبيان أنها فرض كفاية وبيان أن من وسائلها الواجبة بناء الجامعات عالية التقنية وكل ما يلزم للبحث والدراسة والتطوير والإنتاج الدوائي، ما يجب على المريض وعلى الطبيب، أمراض النساء والتخصص فيها، أمر المريض بالصدقة والاستغفار والتوبة (92 - 94) يحرم على الطبيب إفشاء سر المريض، كشف العورة للطبيب وحدودها، يجب على الطبيب النصيحة وعدم تكليف المريض ما لا داعي له من فحوصات ورقود ونحوها (94 - 96) هل يجوز للطبيب أن يحيل على عيادته حال دوامه الرسمي؟ المرأة الطبيبة، زميل العمل، التبرع بالدم (96 - 100) التبرع بالأعضاء، التبرع بالأعضاء التناسلية، موت الدماغ (100 - 102) التعقيم للأدوات الطبية، إسقاط الحمل، جراحة التجميل، خلوة الطبيب بامرأة للمعاينة، الأدوية على خلاف الطبيعة والجبلة، المنشطات (102 - 105) الحجامة والرقية وما يتعلق بهما من المسائل (106 - 109) حكم من به سلس، التداوي بالمحرم، اشتراط المريض الشفاء، القَسَم الطبي، الطبيب والصبر على المريض، الوصية من المريض واجبة (109 - 114) كيفية وضوء المريض وصلاته، الإغماء والإسعاف وما يتعلق بهما من أحكام، الجنون وذهاب العقل (115 - 116) التشريح، التجارب على الحيوانات، إرجاع عضو قطع في حد (116 - 118) الاستنساخ والهندسة الوراثية، الصيام والأحكام الطبية (119 - 120) الصحة النفسية

(121) فقه الدعوة (122 - 124) تعريف الدعوة إلى الله وأركانها وأنها أفضل الأعمال والتفرغ لها، الواجب في الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة والتبشير لا التنفير، التدرج في الدعوة وقصد وجه الله بها والبدء بالنفس والأسرة، علاج ما عليه العمل هو الأصل، البدء بالأصول القاطعة، لا يثار الخلاف المفرِّق، اتباع المذاهب وحكمه، لا يتعصب للقول المحتمل، من أخذ بقول مجتهد فلا يحرج عليه بالإنكار، المنع من التجريح، لا يكفر المعين (124 - 126) القوة في الحق، دوام العبادات والاستغفار والتسبيح بكرة وعشيا وقيام الليل والصلوات جماعة، الصبر على ما يصيب الداعية، الوثوق برزق الله ونصره، الحذر من الذنوب وحرمة مظاهرة المجرمين والمجادلة عن الخونة، الواجب أن لا يخاف في الله لومة لائم وليصبر نفسه مع عامة المؤمنين وليحذر المنافقين ويوالي المؤمنين والقيام بحق الشرائح الضعيفة ونصرة المظلوم وقضاء الحوائج، الحذر من غيبة أهل العلم والمؤمنين، القيام بالعدل والقسط وشهادة الحق، الحذر من أكل المال بالباطل والتكاثر في الدنيا، الاهتمام بوسائل الدعوة الحديثة، ترك الإكثار من ذكر الدنيا ومد العين إلى المتاع الزائل (126 - 129) جواز الانتماء إلى جماعة على الكتاب والسنة والتعاهد معهم والفرق بينها وبين البيعة العامة، لا يجوز للجماعة أن تأمر فردها ألا يحضر مع الجماعة الأخرى بسبب خلافات اجتهادية، يجوز للمرأة بإذن زوجها ووليها الانتماء إلى العمل الدعوي النسائي والبيعة فيه، وبيان أن طاعة الزوج فرض عين والعمل الدعوي فرض كفاية، شرط انتماء المرأة للعمل الدعوي أن تكون في قطاع نسائي لا مختلط وبيان موافقة ذلك لمقاصد الشريعة ومناقشة ذلك، ممارسة المرأة للدعوة في مجالس الرجال ومحافلهم ومجامعهم، الحلقة التنظيمية المشتركة (131) فقه الأقليات (132) الأرض لله وضعها للأنام جميعا فالإقامة في أي بلاد جائزة وأخذ جنسيتها، من لم يستطع إقامة دينه في بلد، عموم أحكام الشريعة وقيامها على الوسطية ودفع المشقات، الشريعة قائمة على التسهيل لا التساهل، قاعدة بصياغة جديدة (134 - 138) الأصل دعوة كل كافر ويشرع البر والقسط معهم وجواز تبادل الزيارات والتحية والتهنئة بمباح والإهداء لهم ومساعدتهم والإغاثة وحفظ أماناتهم وتبادل الخبرات

والزواج من أهل الكتاب والمعاملة المالية إلا في الربا والمحرمات، الموظف في محل فيه محرم قطعي وتفصيل ذلك، المساهمة في شركات مشتملة على محرم قطعي (138 - 139) بيان أن من أسلم من أهل الكتاب ولم تسلم زوجته استدام النكاح ولو كانت وثنية جاز الدوام لحديث زينب وبيان صور المسألة بتفصيل والجمع بين الأدلة من الكتاب والسنة (139 - 143) من أسلم فمات مورثه الكافر ورثه ودليل ذلك، تعقد رئاسة الجالية للمسلمة التي لا ولي لها، حكم التأمين (تفصيل ذلك في الماليات)، لباس المرأة له ركنان وهما ما ستر الزينة الفاتنة ودفع الإيذاء وتفصيل ذلك. وبيان أن هذا الاستنباط الجديد هو المحقق لمقصد الشرع والجامع بين آية النور وآية الأحزاب في اللباس (143 - 144) على المقيم تعليم ولده وأهله الشريعة واللغة العربية وبيان حكم بناء المراكز والمساجد وإقامة الصلوات والشعائر (145) فقه الدولة (146 - 150) إضافة المؤلف مقصدا سادسا للشريعة هو «حفظ الجماعة العامة»، مصدر التشريع والقانون وتعريف الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومن هو الذي يصوغ القانون ويحكم به والمنفذ له؟ وبيان أن السياسة تدير الدولة بأربعة أصول، والجماعة أصيل والحاكم وكيل والدولة نائبة عن الجماعة ومنها مشاعا بالتراضي وأجراء وتصرفاتهم منوطة بالمصلحة وبيان هذه القيود والاستدلال عليها، شكل الحكم وتقدير المصالح العامة وطريق ذلك والإلزام بالشورى والترجيح بالأكثرية (150 - 151) وضع الدستور، ومتى يجب؟ ومن يصوغه؟ وماذا ينص فيه من المهمات؟ الأصل الشرعي ألا يعطى أحد حصانة من المساءلة، تعديل الدستور (151 - 153) من هو الذي يلي الولاية العامة؟ اشتراط الإسلام والبلوغ والعقل والرشد والعدالة والكفاءة (القوة والأمانة) والاختيار من الشعب ومحترزات ذلك، بيان أن الولاية الكبرى سيادية، يشترط لها الإسلام، شرط المواطنة للولايات العامة السيادية إن جرى التعامل الدولي عليه والاستدلال على ذلك (153 - 155) حرمة أخذ الحكم بغير إرادة الأمة، وما يندرج تحته من الفروع، وبيان طرق الوصول إلى الولاية العامة (الإحالة على فقه السمع والطاعة من كتابنا هذا)، الولاية

العامة لا تتم إلا بالبيعة العامة، الولاية مِنَّةٌ ربانية، الوصول إلى التمكين والاستخلاف مقصد شرعي، التمكين أعلى رتب الاستخلاف (155 - 161) طلب الولاية ليس من المذام الشرعية بل هي مِنَّةٌ ورحمةٌ ووعدٌ إلهي ومطلوب شرعي للأنبياء والرسل، والجواب على الاستدلال المخالف لهذا، التنافس الانتخابي، وأصله، والاستدلال على ذلك، واللجنة الانتخابية، والبرنامج السياسي، وعرض المرشحين على الأمة وبرامجهم، والتأصيل لذلك، تنازل من عقدت له البيعة للمصلحة العامة، حديث الأئمة من قريش، وبيان فقهه، والجواب على من وَهِمَ فحمله على غير مراده (161 - 163) من ولي ولاية حرم عليه تولية غيره لمجرد قرابة أو نسب، والاستدلال على ذلك، فصل السلطات، وزيادة ثلاث سلطات إن خدمت المصالح (163 - 166) الانتخابات النيابية والمحلية والرئاسية، تعيين لجنة الانتخابات، وشروطها، أعضاء اللجنة الانتخابية يجب عليهم الحفاظ على نزاهة الانتخابات، وسلامة العملية الانتخابية، وتفصيل ذلك، الآلية العادلة في الانتخابات، ووجوب ما تقوم عليه المصلحة من نظام النسبية أو الدائرة، تصحيح جداول الناخبين واجب شرعا وتعليل ذلك، تحديد سن الانتخابات، آلية توزيع اللجنة العليا وما يتبعها من اللجان (166 - 168) التصويت لمرشح الرئاسة قائم مقام البيعة، لا فرق في التصويت بين الرجل والمرأة في الانتخابات؛ والاستدلال على ذلك، ويشترط للإدلاء بالصوت الانتخابي شروط، حرمة شراء الأصوات بالمال، جواز التحالفات والتكتلات، وشرطها (169 - 171) فرائض عامة على الدولة (171 - 176) أصول الحكم، وأهم سياساته الكبرى، وبيان ذلك في ستة وثلاثين أصلاً استنبطناها من القرآن والسنن وقواعد ومقاصد الشريعة (177) مؤسسات الدولة، وجود مؤسسات للدولة تقوم بتمام حفظ المقاصد الستة، العشر المؤسسات الكبرى في الدولة، واندراج سائر الوزارات وإدارات الدولة تحتها، وبيان أن المقصود المعاني لا الأسماء (177 - 179) المؤسسة الأمنية، الكلام عن المؤسسة الأمنية، والإحالة على فقه مستقل للمؤسسة العسكرية في كتابنا هذا، الأجهزة الأمنية وسائر الجهات الأمنية يجب أن تتبع

قيادة قانونية، وبيان حكم إنشاء حاكم الدولة أو أي شخص أجهزة أمنية تابعة له مباشرة لا تخضع للأنظمة والقوانين (179 - 181) أقسام الأمن في المديريات وواجباتها، وحرمة استغلالها لخدمة أغراض خاصة، وبيان حكم من ثبت عنه ذلك من مدراء الأمن أو الأقسام، الخصومات الواصلة إلى أقسام الأمن والجهات الأمنية، والتعامل معها، من أرسل في مهمة رسمية وأحكامه، وتعيونه (الأجرة)، التجاوب مع الطلب من الجهة الأمنية، ووجوب نصرة المظلوم (181 - 183) شروط تعيين وزير الداخلية ومسئولي الأمن، وجوب حفظ العهد من أطقم وسلاح ولوازم أمنية، وحرمة الغلول، لا يجوز أثناء التحقيق الضرب، ولا التهديد بعرض ولا مال ولا ولد، ولا التعذيب، ولا السجن إلا بحكم قضائي، ولا يسجن إلا في مكان يليق بالآدمي، وحرمة السجون الانفرادية، وحكم سجن المرأة والحدث، الأقسام وقضايا الحدود، فرض على الجهات الأمنية منع الفساد في الأرض بأنواعه (183 - 184) وجوب وضع خطة أمنية، تنظيم حمل السلاح، حكم مصادرة السلاح، حكم وضع السلاح في النقاط العسكرية، وبيان أنه أمانة مضمونة، حرمة تمرير أي محرم شرعا في أي منفذ أمني، ولا يجوز للجندي طاعة آمره بذلك، البلدية والضرائب والواجبات، وحكم اختطاف الناس وإيداعهم السجن، وواجب الناس عند نزول مفسد (184 - 185) المواكب الرسمية، وأحكامها، وحرمة السرعة الزائدة والتخويف وإرعاب الناس، رواتب منتسبي الجهات الأمنية، والعدل فيها، وتوفير ما يكفيهم ومن يعولون بلا تقتير وتضييق (185 - 186) مؤسسة الأمن الغذائي، وبيان أنها مؤسسة مفترضة قد لا توجد في دولة على أهميتها، وبيان علة ذلك، وضرورة وجودها، تعريف الأمن الغذائي تعريفا محققا، والاستدلال عليه، بيان ما هي الضرورات الغذائية؟ الواجب على الدولة توفير الضروريات الغذائية، حكم حصار دولة لأخرى في الضروريات الغذائية (186 - 187) الحاجيات الغذائية، وبيان أنها أربعة أنواع، التحسينات الغذائية نوعان، وبيانها، الحكمة البالغة لله عزوجل في النوع الأول والثاني من الغذاء، وهو الضروري والحاجي أنه لا يتسارع إليه الفساد، بل يمكن ادخاره، وعليه مدار القوت الآدمي والحيواني

(187 - 190) ما يتسارع إليه الفساد عوضه الله بجعله سريع الإنبات، تناوب الضروريات والحاجيات، بيان الحكمة الصحيحة في قصر الربا على الأنواع الستة الضرورية، واجب مؤسسة الأمن الغذائي، توفير الضروريات تامة، وتفصيل ما يجب من الحاجيات والتحسينات، واجب الدولة اتخاذ كافة الوسائل الموصلة إلى الأمن الغذائي بدرجاته الثلاث، وبيان أكبر الوسائل لذلك، مؤسسة النهضة الشاملة، والإحالة على بيان السياسات التسع في سياسات الدولة (هامش) (190 - 193) المؤسسة الدينية، وبيان خدمتها للمقصد الأول وهو «حفظ الدين»، وعلة إيجادها، مهمات المؤسسة الدينية، واجبات المؤسسة الدينية في قضايا الأمة الكبرى، ونهضتها، ووحدتها، والوقوف ضد الغلو والتطرف والظلم والاستبداد والفرقة والتنازع، مؤسسة الرقابة والمحاسبة والتقويم، وبيان دليلها، وفرض تمكينها، المؤسسة الخدمية، وماذا يندرج فيها، وما تخدم من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، المؤسسة القضائية، وولايتها، ووجوب حكمها وفق مقاصد الشريعة وقواعدها ونصوصها، كفاية القضاة في رواتبهم، وتأهيلهم، استقلالية القضاء (194 - 196) المؤسسة النيابية «مجلس النواب»: تعريفه، وعلة إنشائه، العضو ونيابته عن من؟ نظر هذا المجلس أولا في رفع الضرر العام عن الشعب، حرمة السكوت عن الظلم والاستبداد والتحايل السياسي، وجوب النظر في مسائل التعليم وتطويره؛ لأنه أساس النهضة، حرمة تلقي عضو مجلس النواب التوجيهات المؤثرة على رأيه حال التصويت، وبيان سقوط عدالة من صنع ذلك، استجلاب الخبراء المختصين إلى المجلس في حال مناقشة القضايا التي تحتاج إلى رأي الخبراء (196 - 199) يجب على العضو دراسة الموضوع المطروح دراسة متأنية، التصويت إنما يكون في غير قواطع الشريعة، غياب عضو المجلس، وأحكام ذلك، وما يترتب عليه، إعطاء بدلات مالية للجلسات الرسمية، وحكم ذلك، الانسحاب من الجلسات، جواز الترجيح بالأكثرية (200) سياسات الدولة الخاطئة والراشدة. (201 - 205) بيان أهم السياسات الخاطئة، السياسة بالظلم وأنواعه، الظلم الديني، التضييق على المساجد، والشعائر الدينية، والعلماء، وحكم من فعل ذلك، إفراد الله بالحاكمية أمر قطعي، وما يجب النص عليه في الدستور حيال ذلك، إذن الحاكم بالردة عن الإسلام يوجب خلعه، والاستدلال على ذلك

(205 - 206) سياسات الظلم العام، وحرمة الاعتداء على الأنفس بتخويف أو جرح أو قتل أو إيلام أو إفقار، الاعتداء على الأموال، وفرض الغرامات، الاعتداء على الأعراض والإساءات الظالمة في أي وسيلة إعلامية ولأي غرض، الظلم المتعلق بحفظ العقل والعلم (206 - 208) سياسة الفساد، وتعريفه، وبيان أنه لا يكون فسادا في الأرض إلا إذا كان ظاهرة عامة، والاستدلال على ذلك، تنوع الحكم على المفسد في الأرض، السلطة إذا مارست الفساد في الأرض حاق بها ما يحيق بالأفراد، ولاية المفسد في الأرض باطلة، من الجرائم التي يمكن تصنيفها من الفساد في الأرض (208 - 210) سياسة العلو في الأرض هي انحراف عن مقصد الولاية العامة ومخالفة للعقد، ومظاهر العلو في الأرض، سياسة الاستبداد، وبيان تحريمها، وبيان نقل إجماع العلماء على خلع من لا يشاور، الكذب السياسي، وتحريمه، وحرمة تصديقه، وإعانة السياسيين الكذبة (210 - 212) الإدارة بالأزمات، وحرمتها، وبيان تصنيفها من جرائم الفساد في الأرض، وحدها أحد حدود الحرابة، واجب الشعب في مواجهة هذه السياسة، وآليات ذلك، والتشاور في ذلك مع العدول الصادقين والخبراء، ولاية السفهاء، وبيان تحريمها، وإبطالها (212 - 215) العطايا المالية لشراء الذمم من السياسات المحرمة، وبيان ما ينتج عنه من المفاسد، سياسة التسويق الخاطئ للشعب داخليا وخارجيا مندرجة في تقويض المقصود من عقد الولاية، الواجب على الشعب حيال هذه السياسة، وبيان ما يترتب على هذه السياسة من المفاسد الضارة بالبلاد (215 - 219) الإدارة بسياسة العصابة محرمة شرعا، وبيان آلياتها ووسائلها، وصور ممارسة النظام الفاسد لها، سياسة إيجاد الند والضد سياسة خاطئة ظالمة محرمة مخالفة لمقصد جمع الكلمة مؤدية إلى الفتنة والصراع وبيان ذلك (219 - 223) الارتهان للخارج أو قوى في الداخل أمر محرم في الشرع، وبيان ما يترتب على ذلك من المفاسد الخارجية والداخلية، بيان أركان الاستخلاف في الأرض، ومناقضة سياسة الارتهان لها، ماذا يجب على الشعب حيال الارتهان؟ (223 - 225) جعل الوظيفة والحقوق تبعا لورقة المناطقية والفئوية أمر خارج عن العدل والإحسان، وبيان ما يترتب من المفاسد بسبب هذه السياسة والواجب حيالها، سياسة إذكاء الصراع الديني، واللعب بالورقة الدينية محرم قطعا، ودليل ذلك، ووجوب مواجهته

(225 - 227) تحريم خصخصة المؤسسة الأمنية والعسكرية لحماية الحاكم لا الشعب، والاستدلال على ذلك، وبيان ما يترتب على ذلك من المفاسد والفساد في الأرض، وبيان ما يفرض لمواجهة هذه السياسة (227 - 229) تحريم السياسة بالكذب، وبيان تأثيرها الخاطئ على الشعب، وما يجب على الصحافة والإعلام والعلماء والخطباء وكل قادر من بيان ذلك (229 - 230) سياسات خاطئة ناتجة عن السياسات السابقة (231 - 235) السياسات الراشدة للدولة، وأولها سياسة حفظ الضرورات الست الكبرى، وما يندرج في ذلك من مسائل (235 - 238) الشراكة الوطنية الحقيقية الواسعة في إدارة البلاد سياسة راشدة مطلوبة شرعا لما تؤدي إليه من المصالح الكثيرة، سياسة العدالة الشاملة، وتكافؤ الفرص، وعدالة الأجور، والعدل الوظيفي واجب، سياسة الإحسان والإكرام والتحفيز والجزاء (238 - 244) بيان معنى الإحسان، ووجوب التزام الدولة بسياسة الإحسان في إدارة البلاد، الوصول بالبلاد إلى منافسة أعلى مستويات القوى العالمية في كافة المجالات أمر مطلوب شرعا، الوسائل التكريمية والتحفيزية وطلبها الشرعي، على الدولة تشجيع الباحثين والمخترعين والمبدعين والموهوبين، وتكريم من هو أهل لذلك، تكريم أسر الشهداء والمناضلين، العلاوات والتسكين الوظيفي والقرض الحسن والشهادات والأوسمة والترقيات، السياسات التسع للنهضة الشاملة (244 - 248) وجوب مواجهة ومعالجة كافة السياسات الخاطئة، سياسات الاستنفار العاجلة والهامة، وبيان ما يندرج تحتها من السياسات، سياسة الاستنفار الاقتصادي، ووضع الخطط والدراسات واتخاذ كافة الإجراءات للنهضة الاقتصادية (248 - 250) الاستغلال التام للموارد، المسح الشامل للاستكشاف النفطي والثروات الكامنة، الاستصلاح الزراعي، التنمية الحيوانية الشاملة، الاستثمار البحري، النقل الجوي والبري والبحري، الاتصالات استثمارا وتحديثا (251 - 252) النهضة التصنيعية، البنية الصحية، الأصول الشرعية الاستدلالية على ما سبق من هذه السياسات

(253) التعددية السياسية (254 - 256) بيان حكم التعددية السياسية وشروطها، تحريم قيامها على مشاريع ضيقة لا تخدم المصالح العامة، حكم من ظهرت خيانته أو فساده من الأحزاب والتنظيمات السياسية، تعريفنا للمعارضة السياسية تعريفا جامعا مانعا، وشرح التعريف، وبيان محترزاته، بيان ما يجب على المعارضة، حرمة التقصير أو التواطؤ أو السكوت عن مفاسد السلطة (256 - 258) شرط المعارضة السياسية أن تكون بالوسائل السلمية، المعارضة السياسية ليست خروجا عن الجماعة، التشهير بالمناكر السياسية وضوابطه، والجمع بينه وبين الأوامر بالستر، الحوار بين المعارضة والسلطة قبل التشهير بالمناكر السياسية (258 - 259) على السلطة والمعارضة تحقيق ما يدعون إليه من حريات وقبول الآخر وتبادل سلمي للسلطة داخل التنظيمات وخارجها، حرمة تضخيم الأمور وإعطائها فوق حجمها، القيام بالعدل، التنابز السياسي بالألقاب، والنميمة السياسية، وإصلاح الخطاب السياسي (259 - 261) آليات التغيير الشعبي السلمي، العقد الدستوري، والفرق بينه وبين البرنامج، وما يذكر في العقد الدستوري من حقوق الشعب وواجباته، ومنها ما يتعلق بحكامه رقابة ومحاسبة ومقاضاة، تقويم الشعب للحاكم جائز شرعا، والاستدلال على ذلك، إلقاء الخطاب السياسي من الرئيس المنتخب بعد فوزه، والتأصيل لذلك، بيان آليات التقويم الشعبي للحاكم ضمن الدستور دفعا لمفسدة التنازع، البدء باللين ولو لمكثر في الفساد، ومن اللين الإسرار إلا لمن ظلم، أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وبيان معنى «عند»، ترك التصريح بظلم الحاكم الجائر علامة على كثرة الشر في الأمة (261 - 263) حرمة تصديق النظام المفسد في الأرض، وإعانته، آلية اعتزال الشعب لحكامه المفسدين ومقاطعته لهم، المقاطعة العسكرية والمجتمعية والاقتصادية، استقالة الحاكم ولو كان ببيعة مشروعة حقنا للدماء وتقديما لمصلحة الشعب، اختيار لجنة تحكيم في شأن الحكام عند التنازع، إذا جاعت أسرة فلها الذهاب إلى باب الحاكم والمرابطة هناك، والدليل على ذلك، إذا ظلم الحاكم شخصا ولم ينصفه وجبت نصرته، المنظمات المدنية وحكمها، الحاكم فرد في ضمان الإتلافات

(263 - 268) للشعب محاسبة الحاكم جهارا، للشعب اتخاذ آليات التغيير السلمي لدفع المنكر، والاستدلال على ذلك، أهم مظاهر آليات التغيير السلمي، المظاهرات والمسيرات، تعريفها تعريفا جامعا مانعا، وشرح ذلك، الأصل في المظاهرات الجواز، والاستدلال على ذلك، حصول الإتلافات في المظاهرات، كشف مفسد تعمد التخريب في مظاهرة، من أتلف شيئا ضمنه شخصيا حال مظاهرة أو غيرها، حرمة إخراج المظاهرات لنصرة ظالم أو لفتنة أو التفاف على الشعب (268 - 271) الاعتصامات وتعريفنا لها بما يميزها عن غيرها، والأصل فيها الإباحة، لا تجوز الاعتصامات إلا بعد تبين حقيقة الأمر بجلاء، حرمة الاعتصامات إن كانت للمعاندة والمناكفة، أنواع الاعتصامات، الاعتصامات الطلابية، وبيان حكمها وتقسيمها، قاعدة الاعتصامات والإضرابات وأخواتها، اعتصام الأجراء والموظفين، وقاعدة ذلك، كل اعتصام للإيفاء ببنود العقد فهو مشروع على الأصل (271 - 274) الاعتصامات والإضرابات للمطالبة بزيادة الراتب، أنواع الإضرابات والاعتصامات للأجراء والموظفين، الإضراب والاعتصام في المجال الطبي، قواعد هامة ضابطة لمسائل الإضرابات والاعتصامات بالنسبة للضرر (275 - 279) العصيان المدني، وتعريفنا له تعريفا جامعا مانعا، وشرحه، بيان من تجب طاعته مطلقا ومقيدا، شرح حديث «من جاهدهم بيده فهو مؤمن»، وبيان مراتب الاستطاعة، فقه حديث «لو أن الناس اعتزلوهم»، التفريق بين الحاكم العاصي والآمر بالمعصية، خروج الجماعة ككل على الحاكم وخروج شرذمة من الجماعة على الجماعة، وبيان ذلك، وخروج الحاكم عن إرادة الأمة (280) العلاقات الدولية والسياسات الخارجية (281 - 284) الأصل دعوة غير المسلمين لا قتالهم، والأصل السلام لا الحرب، الأصول الستة التي تقوم عليها العلاقات والسياسات الخارجية، استنبطناها بالتتبع والاستقراء من النصوص والمقاصد والقواعد، وهي تعاونية، تبادلية، سلمية، مثلية، عادلة، وهذه هي الأصول، وأما القتالية فهي استثناء عند العدوان، وشرح ذلك كله بالأدلة، مشروعية التعاون بين الدول رسميا وشعبيا وفي كل المجالات، العلاقات التبادلية والفرق بينها وبين التعاونية، العلاقات السلمية وبيان أنها أصل، والاستدلال على ذلك، العلاقات المثلية، والاستدلال على ذلك من النصوص

(284 - 288) لا يلزم من كون الدولة دولة حرب أن شعبها كذلك، بل عامة مواطنيها وقاطنيها أهل سلم، وبيان ذلك والاستدلال عليه، العلاقات الأمنية وتقسيم الأنظمة إلى ستة أقسام، أنظمة الحرب غير المعاهدة، والآليات الثمان للتعامل معها (288 - 290) أنظمة الحرب المعاهدة، أنظمة السلام المحايد، أنظمة السلام المناصر، دول المتاركة أو السلام على الأصل، أنظمة السلام المشروط، العلاقات العامة، الدخول إلى بلاد الإسلام، السواح والزوار والتجار وغيرهم، الجاسوس، وحكمه (290 - 292) حرمة إيذاء الداخلين إلى بلاد الإسلام بأمان، اللجوء السياسي، منع استهداف السفارات والشركات الأجنبية والمصالح في بلاد المسلمين، العلاقات الدينية (293 - 295) حكم معاهدة التسلح، وجوب وحدة دول الجزيرة السبع والعرب والمسلمين، وجوب الحفاظ على الوحدة اليمنية (295 - 299) محكمة العدل العربية والإسلامية والتحاكم الدولي، وجوب المساعي العربية والإسلامية لفض النزاعات الداخلية بين دولهم، اللجوء إلى التحاكم الدولي، الأصل فيه المنع، واستثناء حالة الاضطرار عند تيقن العدل، والاستدلال على ذلك، حرمة تسليم المسلمين ومواطني الدولة تحت أي مسمى (301) فقه المال العام (302 - 303) تعريف المال العام تعريفا جامعا مانعا وشرحه، الآليات السبع لحفظ المال العام (303 - 308) حصر أنواع المال العام في أحد عشر نوعا بالاستقراء والتتبع، موارد الدولة، الموارد الأربعة الكبرى للدولة، إيرادات خزينة الدولة، وأنواعها، الإيراد بالفرض الشرعي، الإيراد بالإيجاب الرسمي، حكم مقاولة الضرائب والجمارك ودخول الدولة، الإيراد بالرسوم مقابل الخدمة (308 - 309) المورد الثاني للدولة: الثروة الجغرافية، وبيان معناها، وما تشمل هذه الثروة، المورد الثالث للدولة: الثروة القومية، وبيان معناها، والإحالة على شرحها في الأبواب المالية، المورد الرابع للدولة: الثروة الاستثمارية، والإحالة على بسطها في فقه المال والاقتصاد

(309 - 311) الأحكام العامة للمال العام، بيان من يلي الولاية المالية، بيع المال العام، وشروطه، وأجرة السعاية، حرمة الكميشن التي تدفعها الجهات الراغبة في الشراء لأشخاص نافذين، حرمة بيع المال العام بأقل من سعر مثله، وبيان ذلك، إذا أبرم العقد في المال العام مع الضرر الفاحش فهو باطل لا يلزم الشعب ولا الدولة (311 - 314) الإقراض من المال العام، وآلية ذلك، وشروطه الخمسة، حكم الاقتراض بالربا لبناء مسكن أو شراء سيارة، ومناقشة وتحقيق المسألة (314 - 316) المصاريف الإدارية على القرض، الإقراض من المال العام لدولة أخرى، وبيان عدم اختصاص الثروات بالحدود السياسية بين الدول العربية والإسلامية، إقراض دولة مسلمة لدولة كافرة (316 - 320) رهن المال العام، وبيان حرمة رهن الثروات السيادية، تحصيل المال العام، ومسائله المتعلقة به، من عجز عن دفع المقرر للدولة، تبديل المال العام، سرقة المال العام واختلاسه ونهبه (320 - 323) ضمان من أتلف شيئا من المال العام، وبيان ذلك، الاستعمال الآمن للمال العام، وبيان ذلك بيانا شافيا، التوزيع العادل للمال العام، ومراعاة الشرائح الضعيفة، والمتضررين (324 - 326) دعم مهن أصحاب الدخل المحدود والشرائح الفقيرة والمحتاجة من المال العام، ومنع كبار الملاك، دعم الوسائل المعيشية لشرائح محدودة الدخل، دعم المشاريع الإنتاجية، دعم الضرورات المعيشية، الغذائية، والصحية، والتعليمية، والمشتقات النفطية (326 - 328) العدل في توزيع الثروة والبنية التحتية بلا مناطقية أو فئوية، الكفالات الاجتماعية، العدل في توزيع الدرجات الوظيفية، إكرام موظفي الدولة مدنيين وعسكريين من المال العام، رعاية أسر الشهداء والمناضلين من المال العام، دعم البحث العلمي والاختراع والتصنيع، استثمار المال العام (329) فقه نصوص السمع والطاعة (330 - 332) الأمر بطاعة أولي الأمر، وشروط ذلك، الأنواع الخمسة الذين يصح أن يطلق عليهم «أولو الأمر»، النوع الأول: رأس الدولة، طرق الوصول إلى الحكم والولاية العامة الأولى وحصرها في ست طرق، وبيان المشروع منها والمحرم، الترشيح التوافقي، ودليله، ترشيح الحاكم السابق وموافقة الناس، ودليله

(332 - 334) ولاية العهد من الحاكم المرضي السابق، ودليله، الفراغ الدستوري، وحكم من ولّى نفسه حينئذ، وتفصيل ذلك، الوصول للحكم بالقوة المسلحة محرم، وتفصيله، وبيان أحكامه، النوع الثاني من أولي الأمر (334 - 338) النوع الثالث من أولي الأمر، وهم أولو الأمر الشعبي والمجتمعي، النوع الرابع: أولو الأمر الديني، وهم العلماء، النوع الخامس: الولاية الخاصة، حدود طاعة ولي أمر المسلمين، وبيان أنها في ثلاثة أمور لا رابع لها، والاستدلال على ذلك بما يسر الناظر، تعطل طاعة الحاكم، وبيان ذلك في مسائل (338 - 341) المسألة الأولى: لا طاعة لحاكم كافر أو منافق وتفصيل ذلك والاستدلال عليه، وبيان تحقق هاتين الصفتين فيه (341 - 342) المسألة الثانية: لا يطاع مطلقا من غلب عليه الفساد، والاستدلال على ذلك بما فيه مقنع (342 - 345) المسألة الثالثة: لا طاعة لمن لم يقم كتاب الله، المسألة الرابعة: لا طاعة لنظام أهلك الشعب، والاستدلال عليه، وشرح حديث «هلاك أمتي»، المسألة الخامسة: الحاكم المنحرف عن المصلحة العامة، وشرح حديث «لا تكن لهم جابيا»، وبيان الفقه المعاصر (345 - 346) المسألة السادسة: الحاكم الكذاب المنحرف عن إرادة الأمة، وشرح حديث «سيكون عليكم أمراء»، المسألة السابعة: طاعة أولي الأمر في حال التنازع (346 - 349) المسألة الثامنة: لا طاعة لمن لم يطع الله ورسوله بالنص، المسألة التاسعة: مخالفة الحاكم العقد الدستوري بينه وبين الشعب، وما ينبني عليه، المسألة العاشرة: الحاكم إذا ظلم وامتنع عن الإنصاف من نفسه، المسألة الحادية عشرة: الحاكم المصلح في الأرض إذا أمر بما هو معصية، شرط بقاء الطاعة ألا تكون المخالفات التي أمر بها تعود على الأصول الشرعية والدستورية بالإبطال (349 - 351) قواعد الصبر على الحاكم، وبيان ذلك بالتتبع للنصوص الشرعية وعلله وقواعده، الصبر المأمور به في النصوص على ثلاثة معانٍ بالاستقراء، حكم النوع الأول من الصبر، وهو الصبر على الظالم وفساده في الأرض، وبيان مدى موافقته للنصوص والأصول، نصرة المستضعفين فرض

(352 - 354) لا يهاجر شعب مسلم لاحتلال، بطلان زيادة «ولو جلد ظهرك»، حكم النوع الثاني من الصبر، وهو صبر الأنبياء والرسل، والاستدلال عليه، حكم النوع الثالث من الصبر، وهو ترك الخروج على الحاكم الغالب صلاحه في الأرض (354 - 358) فقه أحاديث الصبر على الحاكم، حديث «سترون بعدي أثرة» وفقهه، حديث «من رأى من أميره ما يكره»، حديث «من أنكر فقد سلم»، حديث «سيكون عليكم أمراء يسألون حقهم»، حديث «ألا ننازع الأمر أهله»، بيان قواعد علم الأصول وإعمالها للجمع بين النصوص، وبيان عين العلة وجنس العلة، وتأثيرات ذلك على الحكم الشرعي (359) فقه المؤسسة العسكرية والأمنية (360 - 363) إنشاء المؤسسة العسكرية والأمنية فرض على الشعب، وهو على الدولة عينيٌّ، وكل ما تعلق بإنشائها من الوسائل فهي وسيلة مفروضة، بيان وجوب الأخذ بوسائل العصر وتقنياته العسكرية، وبيان إثم ولاة الأمر إن قصروا في الإعداد الاستراتيجي المواكب لقوى العصر، كشف مواقع التصنيع العسكري وأسراره، المعاهدات الدولية لمنع التسلح، وبيان وجوب منع التسلح النووي على العالم أجمع؛ لأنه من الفساد في الأرض، وبيان تحريم منعه على دولٍ وترخيصه لدول، وبطلان ذلك، المؤسسة العسكرية ملك للشعب لا لفئة ولا لحزب، التعيين في المؤسسة العسكرية بالكفاءة (363 - 368) تدوير المناصب في المؤسسة العسكرية، الإلزام بإقامة الصلوات والشعائر في المعسكرات والمواقع، الزي والهندام العسكري، والشارات والأوسمة والرتب، الخدمات العسكرية والدوريات، العدل في الترقيات والحقوق، تعيين القيادات العسكرية لا يجوز بالقرابة والمناطقية بل بالكفاءة (368 - 372) الجزاءات العسكرية، الخروج من المعسكر وقت الحجز، تسليم الرواتب في وقتها المحدد، وحرمة الاستقطاعات بلا حق، وجوب إيصال حقوق الجيش كاملة، حرمة التغطية على الفرار، كتمان الأسرار العسكرية، العهد العسكرية، المساواة في الحقوق والواجبات العسكرية (372 - 375) المحاكم العسكرية وحكم الحبس للأفراد، رعاية الجرحى وأسر الشهداء، وبيان أن علاج الجرحى على حساب الدولة وتعليل ذلك، والمنع من إسعاف أناس إلى خارج الدولة أو إلى أماكن عالية التقنية وأمثالهم في الجرح والضرر لا يفعل بهم ذلك، قوات الأمن

والشرطة وأجهزة المخابرات، الشرطة والأمن واستعمال السلاح وإرهاب المواطن، ما يحرم في التحقيق مع المتهم (375 - 379) السجون السياسية، حرمة التنصت والتجسس على الشعب، النقاط الأمنية والعسكرية، حرمة وجود طبقية مسلحة وحكم حمل السلاح، التعبئة والتوجيه، حرمة جعل اسم رئيس أو ملك أو زعيم بجانب اسم الله في الشعارات (379 - 383) الجنائز العسكرية، وجوب الاهتمام بالرمي طويل المدى والمتوسط والقصير، سلاح الجو، وتقنياته، ووجوب تحصيلها، سلاح البحرية، وبيان أهميته، ووجوب امتلاكه، العدل في رواتب القوات المسلحة وإكرامهم، وبيان عظيم جهدهم، التقاعد أو الاستشهاد أو الإعاقة، وبيان إعطاء الراتب فيها بلا خصم، وبيان ذلك، وجوب إنشاء حلف عسكري عربي وإسلامي موحد (383 - 387) تجنيد المرأة في الشرطة النسائية، تجنيد الأطفال، اتفاقية الأمن والاستقرار العادلة والمهيمنة والفرق بينهما، والقوات المشتركة وحكمها، لا تسقط الصلاة على الجندي في أمن ولا خوف، ورخص العبادات، أذكار المقاتل، الفرار من الخدمة العسكرية (389) فقه المؤسسة التعليمية والتربوية (390 - 397) تعريف التربية تعريفا من خلال ملاحظة مفردات ما تقوم به، وشرح ذلك، المؤسسة التعليمية والتربوية، وفرض إيجادها، وتعريفها، شروط من يدير المؤسسة التعليمية، وتفصيل ذلك تفصيلا واضحا، مصادر التربية، الأم أول مصادر التربية، وبيان مهمات واجباتها، الوالد من أول مصادر التربية، وواجباته (397 - 404) التربية المجتمعية، ومعناها الشامل، وصورها، وتفصيل ذلك، مجانية التعليم، سن التعليم والتربية، وحق التعليم للجميع، أركان التعليم والتربية، الركن الأول: المنهج، شروط من يضع المناهج، تعلق المناهج بخدمة المقاصد الستة الكبرى، وكل ما يقيم النهضة الشاملة، حرمة تخريب وتدمير المناهج والتآمر عليها، أعضاء لجنة المناهج، وجوب وضع خطة المناهج، ووجوب التزامها (404 - 410) تهميش المواد الشرعية أو التكنولوجية أمر منكر شرعا، وجوب تدريس قطعيات الشريعة، بيان قطعيات الشريعة، التأهيل الشرعي للعلماء العدول، دراسة علوم التكنولوجيا المعاصرة مقصود شرعي للاستخلاف، لا يجوز استثمار العلوم للفساد في الأرض

(410 - 413) وجوب تدريس علوم التصنيع، علوم العقائد والتوحيد والإيمان، علم اللغة، تشتيت العلوم والمعلومات سياسة خاطئة، توفير كتب المنهج قبل بدء الدراسة مصلحة شرعية معتبرة، مجانية الكتب المدرسية (413 - 417) الركن الثاني للعملية التعليمية: المدرس، حقوق المعلم، وواجباته، وينحصر ذلك في سبعة أمور، لزوم تأهيل المعلم تأهيلا تاما، الجامعات والمعاهد العلمية لتأهيل المعلمين، الكفاية المالية العادلة للمعلم، وحرمة بخسه وغبنه المالي والمادي، وبيان ذلك بيانا شافيا (418 - 420) إكرام المعلم وما يشمل ذلك، يجب على المعلم تحضير الدروس، الخصم من الراتب عند التفريط بواجبات العقد، وشروط ذلك، الواجب على المعلم التدريس المفهم، متابعة تحصيل وسلوك الطالب (420 - 422) الإدارة التربوية والتعليمية، الدوام الإداري، سرية الاختبارات، وحرمة الغش وبيع الوثائق والشهادات زورا، ومحاسبة المتورطين، غياب الموظف والمعلم (422 - 426) الركن الرابع للعملية التعليمية: الطالب، حق التعليم مشروع للذكر والأنثى، الحملة الإعلامية للتعليم، النفقة التعليمية، الزي المدرسي، الزي المدرسي للبنات، مدارس الطالبات، ومدارس الطلاب، الطابور، تحية العلم (426 - 432) دخول الفصل، القيام للمعلم، وحكمه، مسائل طلابية وتعليمية وتربوية في الفصل، مناقشة الطلاب، والوسائل التعليمية، وأصولها، عقوبة الطالب، مسجد المدرسة، آداب عامة في المدرسة، كالتشجير، وحملات النظافة، والاهتمام بجدران المدرسة وأثاثاتها، ودورات المياه (432 - 434) نظافة الطالب، والعناية بالصحة المدرسية، تشجيع الطلاب وتحفيزهم وتأهيلهم، التعليم الفني، مدارس التحفيظ والمعاهد الشرعية ومراكز العلم والأبحاث (435) فقه المجتمع المدني والقبيلة (436 - 442) تمهيد لا بد منه يبين تكوينات المجتمع ونشوئه وشرائحه، السكن وبيان وجوبه لكل إنسان كحق إنساني، ولا يجوز ترك إنسان بلا سكن بتملك، أو استئجار، أو تبرع، وتفصيل ذلك، والاستدلال عليه، المسكن وطهارته ونظافته والعناية به وبجميع أثاثه

(442 - 446) البناء ومواصفاته، النزوح والنقلة من مكان إلى آخر وأحوالها وأحكامها، يشرع بُعْد السكن عن أماكن الأضرار والأقذار والكيماويات وخطوط الضغط العالي والمصانع النووية والإشعاعات، التوسط في البناء والزينة والأثاث، شجر الزينة واللوحات الطبيعية والمجالس الإفرنجية والعربية، مجلس الضيوف، والمطابخ، ودورات المياه، وغرف البنات والأولاد (446 - 450) أحكام دخول البيوت، والاستئناس، والسلام، وحرمة النظر قبل الدخول، وحكم من نظر من شق أو ثقب في الباب، أدب قرع الجرس أو الباب، الجلوس وآدابه، الصلاة في بيت الرجل، والقعود على مكرمته، وجود منكر قطعي في البيت، المجالس بالأمانة، الجوار، وحقوقه، وعظيم عرضه وماله ودمه، وحرمة غيبته وخيانته (450 - 453) الرقابة المجتمعية، التخطيط العمراني من المصالح العامة، وبيان دفع الأضرار والأقذار ومياه الصرف بعيدا، وتنظيم الشوارع ومقاييسها بحسب جغرافيتها، ومدى خدمتها المجتمعية، المرور في الطرقات مقيد بسلامة العاقبة، الحفاظ على الشوارع العامة ونظافتها، لكل بيت حق يسمى «حريم الدار»، الحفر في الطريق العام، بناء المتنفسات والحدائق والنوادي، منظمات المجتمع المدني (453 - 456) السلطة المجتمعية الكبرى، المجتمع السياسي أو السلطة المجتمعية السياسية، وبيان الحريات السياسية في المجتمع، والأنشطة السياسية المجتمعية، الأمن المجتمعي، ووجوب التعاون على توفيره، الإبلاغ عن الفساد في الأرض وتجاوب الدولة (456 - 460) المجتمع والشعائر الكبرى، بناء المساجد، تحريم جعل التسجيل الصوتي للأذان عوضا عن المؤذن، المجتمع وصلاة الجماعة، قفل السماعات الخارجية أثناء الصلوات، التبرع لمحتاجين، الاحتفالات والندوات (460 - 465) الغيرة على الأعراض، ومحاربة الإشاعة والقيل والقال، من الواجبات المجتمعية، التكافل المجتمعي، الإعانات والإغاثات أمور مطلوبة شرعا، الصدق والوفاء وحفظ الأمانات واجبات، العزاء والمآتم (465 - 470) ظاهرة الثأر، تحريم ظلم المرأة، ووجوب العدل معها وإيتائها حقوقها، التصنيف الجاهلي للمجتمع كسيد وقبيلي وخادم، أو المناطقي، كله من الجاهلية، ومن صفات القطيع الحيواني لا للإنسان الذي كرمه الله، وبيان مخالفته للقرآن، الكفاءة في

الزواج، وبيان تساوي النساء، ونظمنا لأنواع الكفاءات والمذاهب نظما جامعا من بحر الرجز، وبيان المذاهب القديمة والحديثة فيه، العادة المجتمعية المنكرة وهي الحلف بالطلاق (470 - 475) أكل الأوقاف، الأحكام القبلية، وتعريف القبيلة، لا تفاضل بالنسب ولا بالقبيلة، مشايخ القبائل من هم؟ ومهماتهم، البت في القضايا القبلية وعدم تعليقها، ردع المفسدين، ومنع قطاع الطرق، والسراق، وحرمة إيواء القتلة، القيام بالقسط، وحرمة المجاملات، حفظ وثائق الناس، ردع المبطلين، المرافقون والمشاورون، حرمة قيام مشايخ القبائل بالضغط على الناس في الانتخابات للتأثير عليهم، الأمر بالصلوات والزكوات وإقامة المساجد، محاربة السحرة والمشعوذين (475 - 480) الحفاظ على العادات القبلية الحسنة ومكارم الأخلاق، وحرمة الدس والنميمة والفتنة والوقيعة في الأعراض، قطع الطريق والقطاعات القبلية، حكم الزوامل، الضيافة والأعراس، إجابة الدعوة، وجود منكرات قطعية في العرس، حرمة الإسراف في المظاهر والشكليات والنفقات، ضرب السلاح الثقيل في الأعراس محرم، إعلان النكاح وضرب الدف والبرع والزوامل في الأعراس، حكم الهجر والعقر (481) فقه البيئة والصحة العامة (482 - 485) تعريفنا للبيئة، وضع الله الأرض ومنافعها للناس، حرمة الإفساد في الأرض ولحوق العقوبات الإلهية جراء ذلك، حفظ البيئة من الأنجاس والأقذار والأضرار واجب في الجملة، المياه واستعمالها وحرمة تلويثها وآداب استعمالها شربا وغسلا واستعمالا، الصرف الصحي، وإبعاده عن البيئة، وآدابه، ووضع المخلفات، الحفاظ على المتنفسات والحدائق والأماكن العامة، التشجير، ومشروعيته، وحكم استيراد المواد الضارة (485 - 488) الحرث والنسل، والحفاظ عليه، والمنع من إفساده، وبيان ذلك، وصوره، تنظيم الصيد، وتقنين صيد الأمهات، وبناء المحميات الطبيعية، حقوق الحيوان وصحته، والمنع من إيذائه والعبث به، الطيور وتعهد صحتها، وصحة الحيوانات، دفع الضرر المؤذي (488 - 491) الأمراض المعدية والوبائية والحجر الصحي، وبيان فقه النصوص، والجمع بينها، وتقسيم الأمراض إلى أربعة أقسام، وبيان حكم كل قسم، الحفاظ على الهواء والأوزون وتوفير الوقود الصديق للبيئة

(493) فقه المرور والسير (494 - 500) التوسط في السير، صفة لعباد الرحمن، ومنع السرعة الزائدة، القيادة ببطر وتفحيط ممنوعة شرعا، قوانين المرور وإشاراته ملزمة، حوادث المرور وأحكامها، غرامات المخالفات، رخصة السائق، تجديد الرخصة وأحكامها، غرامات تأخير التجديد، تحديد سن السائق، لوحات أرقام السيارات، شراء اللوحات بأرقام مميزة، كوابح السيارات، وأدوات السلامة، والحمولات الزائدة (500 - 503) الأمور المشروعة في الركوب، دعاء الركوب، وبيان مشروعية قوله حضرا وسفرا، وجريان هذا الحكم في وسائل النقل الحديثة، وجريانه في السلالم الكهربائية والمصاعد؛ لوجود العلة، السلام والإشارة للراكب والماشي، بوق السيارة، فحص المركبة، إزالة حواجب الرؤية ونظافة السيارة وزينتها، القيادة في الضباب وتعذر الرؤية، قيادة المرأة للسيارة، وبيان جوازها، والجواب على من حرمها (505) فقه السياحة (506 - 509) تعريفنا للسياحة، وشرح ذلك، وبيان أصلها من النصوص، تأمين السياح، وحرمة إيذائهم، تحريم خطف السواح، الدليل السياحي والمحاسن، حرمة التصريح للفنادق في المحرمات، الفحص الطبي على القادمين (509 - 511) السياحة والاقتصاد، المعالم الطبيعية والحفاظ عليها، المعالم التاريخية والآثار والحفاظ عليها وحرمة تهريبها وبيان أنها ليست مقصودة بالنص بإزالة التصاوير والأصنام (511 - 514) المعالم الدينية الإسلامية، دخول السياح إلى المساجد، الواجب على وزير السياحة وموظفيه، حرمة السياحة الماجنة، والترويج للسياحة الجنسية، والترويج للبلاد بوضع صور نسائها عليها، الجاسوس من السياح، حرمة إرهاب السواح وابتزازهم، إظهار محاسن الدين قولا وفعلا (515) فقه الشباب (516 - 519) تعريف الشباب، وبيان سنن الفطرة، وجوب تيسير الزواج، وبيان سن الزواج، وتحديده، والمناقشة المستفيضة في ذلك، زواج الولد على والده المستطيع، والعدل بين الأبناء في ذلك

(519 - 522) الصداقة والشباب وأحكام ذلك، الابتعاد عن الخبائث وكل مسكر ومخدر، أخلاق الشباب، مدمرات الذات، والنهي عن الكسل والحزن والجبن والبخل، وبيان تأثيراتها (522 - 525) تنظيم الوقت وإدارته، التعامل مع الوالدين وطاعتهم وصلة الأرحام، يحرم على الأب والأم أمر الولد بما يضاد الآخر؛ لأنه يحمل على العقوق، مفردات التربية الكبرى، وبيانها، والاستدلال لها، التعامل مع الواقع والصبر، الحفاظ على السمعة والحقوق والكرامة، عرض النفس على القيادة، الحذر من كيد النساء، النباهة وترك إفشاء سر الوالد وأحواله، خاصة إذا كان ذا مكانة، رد العدوان بالمثل، الضعف والهوان صفتان مذمومتان، الشجاعة ورد البغي وأخذ الحقوق أمور حسنة، الغش في الحياة والدراسة من مدمرات المستقبل، تجنب كثرة النوم والكسل، النظام في سائر الأحوال، السؤال مذموم (525 - 526) الشباب والزينة، وبيان أن التجمل مشروع، بلا تقليد للمتهتكين، ولا الموضة المخرجة عن المروءة، الحذر من أصدقاء السوء وأهل الضلال، الحرص على مذاكرة العلوم وتحصيل المراتب العليا (527) فقه اللهو والترفيه (528 - 529) الأصل في اللهو والترفيه الإباحة، الرياضة بأنواعها، كرة القدم، المرأة وكرة القدم، السباحة، المرأة والسباحة، مشاهدة الرياضة والمسابقات الرياضية (529 - 532) الشطرنج والبلياردو والورق، الأتاري وسائر الألعاب الإلكترونية، تعلم الرماية والرحلات الترفيهية والشات والنت والفضائيات والفن والتمثيل والإنشاد، والإحالة على أبوابها الخاصة في الكتاب (533) فقه الإعلام (534 - 536) تعريفه تعريفا جامعا ومانعا، وبيان شموله لكافة أنواع الإعلام ووسائله وأهدافه، حكم الإعلام وإطلاق الأقمار الصناعية، الخطاب الإعلامي، تضخيم الأمور، تحقير الأمور (537 - 540) الخطاب الإيجابي، خطاب الإحباط، تبني المقاربة لوجهات النظر، خطاب البلبلة والتخذيل وقلب الحقائق، نشر الرذيلة، التثبت والنخاسة الإعلامية، النكاية الشخصية

(540 - 545) حكم الرسم والكاريكاتير والتصوير الإعلامي، التخصص الإعلامي، الإعلام ودوره في إصلاح الوضع (546 - 549) أحكام إعلامية متعددة، احتراف المرأة للإعلام، الإعلانات التجارية، العناوين الصحفية والسرقة الإعلامية، الحرية الصحفية، نقابة الصحافة، الإعلام الفاسد، إجابة الاستضافة الإعلامية (549 - 551) برامج المساج والكوافير والأزياء والرقص في الفضائيات، المسابقات الإعلامية، برامج الفتوى وقول الحق (553) فقه الفن (554 - 558) الرسم والتصوير وحكم المنحوتات الأثرية، حكم الشعر والنثر ومنظومات العلوم (558 - 563) الإنشاد، الغناء (563 - 567) حكم التمثيل (569) فقه التكنولوجيا (570 - 573) الاتصالات، نغمة الهاتف واستعمال القرآن والسنة في ذلك، برامج الجوال، العقود بالهاتف، البدء بالسلام، اتصالات المرأة، الشات (573 - 578) إعارة الهاتف، إيذاء الأعراض، سرقة الجوال، مسابقات شركات الاتصالات، التجسس على المكالمات والمواقع الإلكترونية، واختراقها، والفيروسات، الوسائط، ومقاطع الفيديو، والصور، والمواقع الإباحية (578 - 582) تأهيل المختصين في التكنولوجيا، تحديد القبلة بالإحداثيات وهلال الصوم بالمجهر، الصلاة في الطائرة، النقل المباشر للصلوات عبر وسائل التكنولوجيا، الصلاة والصوم خارج الغلاف الجوي، الفاكس، الإحرام في الطائرة ووسائل النقل (582 - 585) امتلاك التكنولوجيا العسكرية، التكنولوجيا المدنية مطلوبة طلبا وسيليا

شرعيا، التكنولوجيا التعليمية، الدراسة عن بعد وسماع العلم عبر التكنولوجيا، النقل من الموسوعات الإلكترونية (585 - 589) التكنولوجيا العلمية وتوثيق وحفظ الأصول وبيع الحقوق الإلكترونية، التكنولوجيا الأمنية والقضائية، توثيق إقامة الحدود، المحاكمة وبثها إعلاميا، الجريمة والتوثيق الإعلامي للإثبات (591) فقه الطفل والولد (592 - 597) طلب الولد ولو في الشيخوخة لمن ليس له ولد، وطفل الأنابيب، المولود الأنثى وفضله وذكر ما يستنبط من ولادة مريم في آيات سورة آل عمران (597 - 601) ويتعلق بالحمل حقوق وأحكام، العلاج للحامل والحمل، ذمة الحمل المالية، الإجهاض، نسب الحمل، دية السقط، الأدوية الضارة بالجنين، موت الأم الحامل بجنين حي، لا يقام الحد على حامل، السقط (602 - 606) حق تسمية الطفل، من يحق له تسمية الطفل، حكم التلقيحات للأطفال، حق اللعب للطفل (606 - 610) الرضاعة الطبيعية، الطفل في أعوامه الأولى، تكليف الطفل برعاية إخوته، إرسال الطفل انتفاعا به، صحة الطفل، تعليم الطفل، إكرام النشء (610 - 614) تأديب الولد، ما يحرم في تأديب الولد، المفردات الهامة لتربية الولد، منع الحرام عن الطفل، حفظ الطفل من الأضرار، وتعداد سبعة عشر نوعا منها (614 - 619) تهريب الأطفال، الطفل وجناياته وشهادته وسجنه، أحكام متعددة، العدل بين الأبناء (621) فقه المرأة (622 - 627) المرأة جزء مخلوق من الرجل، فضل الأنثى، لا وجوب في ختان الأنثى ولا تشريع عام، المرأة والاقتصاد المنزلي، حق المرأة في التعليم إلى أعلى المستويات، الزي المدرسي للطالبات، المرأة ووسائل المواصلات

(627 - 630) المرأة إذا تصدرت الوعظ للرجال، سجن المرأة، تجنيد المرأة، لا يتعنت الزوج في منع الإجابة للدعوة، كوافير النساء (630 - 636) لباس المرأة، وزينتها، والأعراس النسائية، الحواجب وشعر الجسد، الوصل، والباروكة، والأهداب، وتفليج الأسنان، الإسراف في الزينة وحرمة إظهارها إلا أمام من يحل له ذلك من المحارم والنساء، لبس الضاغط، والمقطع، والشفاف، وما يظهر السرة أمام النساء والمحارم (636 - 640) الشرط في إظهار الزينة في الأعراس، وحكم التصوير وإدخال الجوال، الصلاة في العرس وحكم الأصباغ والخضاب، الوشم، الطيب والعطور (640 - 644) المرأة والبيت، حفظ ولدها وولد زوجها، المرأة ووالدا زوجها، يحرم على المرأة اعتياد التشكي من والد زوجها أو والدته؛ لأنه يؤدي إلى الكبائر كالعقوق، طاعة الزوج وخدمته (644 - 647) يجب في النكاح رضى المرأة، تزويج من ليس لها ولي أو تعذر إذنه، زواج المغترب، وحرمة المتعة. حكم المسيار (647 - 652) إكراه المرأة على النكاح، لا ولاية إجبار في الشريعة، الحقوق المالية للمرأة كالرجل وتفضله في الميراث والنفقة عليها، الجناية على المرأة (653 - 658) المرأة السياسية، المرأة في مجلس النواب، المرأة القيادية، رئاسة المرأة للأحزاب السياسية، أمور أسرية، صيانة عرض المرأة (658 - 664) حق المرأة في خلع زوجها، العدة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض أو كلاهما (664 - 667) الطلاق الرجعي مرتان، فإن كان مقابل مال فهو خلع، العدة وحقوقها (667 - 670) عدة الحامل واليائس واللاتي لم يحضن، عدة المتوفى عنها زوجها، النفقة والسكنى والمتعة، عدة الوفاة وإثبات متعة عام للمتوفى عنها زوجها وسكنها (670 - 673) للمرأة الحكم بين الناس، للمرأة أن تكون في منصب المفتي العام، للمرأة أن تصلح بين الأمة في القضايا الكبرى، العمل والاستثمار للمرأة من المباحات، مشاركة المرأة في التبرعات والإنفاق المالي مشروع

(673 - 677) غزو النساء، سفر المرأة ورفقتها، الدخول على المرأة الأجنبية (677 - 681) عبادة المرأة، حج المرأة، الظهار (681 - 683) شهادة المرأة وتفضيلها على الرجال في حالات وتفضيله في حالات، رياضة المرأة (685) فقه حقوق الإنسان (686 - 688) تعريف حقوق الإنسان، الأصل تكريم الإنسان، لا تتفاضل الإنسانية بعنصر أو نسب أو شعب أو عرق أو لون، لا تتفاضل الإنسانية إلا بالكَسْب الدائر حول الإصلاح في الأرض، تكريم الإنسان والدا أصلا وفرعا، الإحسان إلى المخالف في الدين، تحريم قتل المدنيين في الحروب وكذلك النساء والأطفال وكل محايد ومسالم، تحريم المثلة، حق الشرائح الإنسانية المختلفة، التعامل الإنساني العام (688 - 690) ما هو محرم في المعاملات التجارية مع المسلم يحرم مع كل إنسان، التملك مكفول لكل إنسان، العقوبات العادلة والدعوة إلى العفو والمصالحة والستر وحل الخلافات ونصرة المظلوم والمستضعفين، تحريم التعذيب بأنواعه للإنسان تحت أي مبرر، وسرد أنواع التعذيب المحرمة، تحريم السجن الانفرادي، تحريم كل معاملة تضاد الفطرة، حماية كافة حقوق المرأة، الحوار والمجادلة مع العالَم بالتي هي أحسن، حماية حقوق الشرائح الضعيفة بالنصوص القطعية (691 - 693) الحرية لكل إنسان (694 - 697) حق السكن لكل إنسان، البشرية كلها مكلفة بحقوق الإنسان، الجرائم ضد الإنسانية، حق العمل المعيشي لكل إنسان في أي مكان على الأرض مكفول مباح (697 - 700) على الدول التعاون في إيجاد سوق العمل المعيشي، تحريم الإجراءات التعنتية لدخول العاملين إلى الدولة، الماعون الإنساني، حق الأجر العادل مرعي شرعاً، حق التنقل لكل إنسان في عموم الأرض مكفول (700 - 702) يمنع التمييز العنصري تحريما، الاضطهاد الديني محرم، الوظائف السيادية والعامة في الدولة خاضعة لاشتراط توافقي شعبي يختلف من شعب إلى شعب ومن أمة إلى أخرى، المساواة العادلة

(702 - 705) الأمن والاستقرار للإنسان في العالم هو الأصل، حق اللجوء السياسي مكفول، الحق الصحي للإنسان (705 - 707) المساواة العادلة واختصاصات المجتمعات الإنسانية، العلل الخمس المترتب عليها الحقوق والواجبات (709) فقه اليتيم (710 - 715) قاعدة التعامل مع اليتيم في دينه ونفسه وماله وعقله وعرضه وحاجياته وتحسيناته (715 - 718) طرق كفالة اليتيم، بيت اليتيم الخيري، التوظيف في مؤسسات اليتيم، الإشراف الداخلي في بيوت اليتيم (718 - 720) وسيلة إثبات اليتم، الموظفون في دار اليتيم، والميزانية العامة، والمنع من خصم نحو 10% للمصاريف الإدارية (720 - 723) كيفية استثمار مال اليتيم، إيداع أموال دور اليتيم يكون تحت لجنة من العدول الأمناء ولا ينفرد به شخص، ولا تؤخذ إلى منزله، يعطى اليتيم من المصاريف، والصلات، والعيديات، حكم الذين يجمعون التبرعات، وكم يعطون من الأجر؟ إذا عين المانح يتيما بعينه (723 - 725) تزويج اليتيم، تعليم اليتيم وتأهيله من الكفالة المشروعة، ومتى ينتهي؟ الدولة ومؤسسات اليتيم ودعمها والوقف عليها (727) فقه الجهاد (728 - 723) تعريف الجهاد تعريفا جامعا مانعا، وشرحه، وبيان أحكامه، أنواع الجهاد، وبيان أنه النهضة الشاملة والإعداد التام والتعبئة والقتال وجهاد النفس وتطهيرها والإصلاح الشامل، الإعداد، ومعناه، وما يلزم فيه الآن، وبيان أنه يشمل خمسة أمور: عسكرية واقتصادية وتعليمية ووحدة الصف والنهضة الشاملة، لكل زمن إعداد، التعبئة القتالية وأنواعها، التعبئة العامة، التعبئة الخاصة، حذف آيات الجهاد من مناهج التربية والتعليم وحكمه

(733 - 737) القتال في سبيل الله، أسباب القتال في سبيل الله اثنا عشر سببا، وشرحها، والاستدلال عليها (737 - 740) شروط القتال في سبيل الله، وإرجاعها إلى شرطين إجمالا، الشروط الخمسة التفصيلية للقتال في سبيل الله، القوة البشرية والعددية، جمع الكلمة، القوة المالية، التدريب القتالي، قوة التسليح (740 - 742) أركان القتال في سبيل الله، الفرق بين الركن والشرط، معنى القتال في سبيل الله وبيان أنه ركن، وحرمة القتال تحت راية عصبية، القتال بطرا وعدوانا ورياء، طاعة الأوامر، توحد القيادة (742 - 746) واجبات القتال في سبيل الله، الإلهاب والتحفيز القتالي، التفصيل القتالي بما يتعلق بالمعركة من الأحكام، إنشاء المجلس الأعلى للسلم والحرب، قرار المجلس الأعلى بالجهاد في سبيل الله، متى تجب التعبئة؟ مناهضة الحرب (747 - 749) إذا وجب الجهاد القتالي فللأمة أحوال: إما أن تكون متحدة أو اتحادية أو دويلات، الجهاد القتالي يكون في محل وجود العدو المحتل، حرمة قتال كافر مدني أو عسكري داخل الدولة المسلمة دَخَلَ برضاها وأمانها لا احتلالا، وتفصيل المسألة، أحكام الإسلام بالنسبة للدولة تدرجية (749 - 751) فتح جبهات قتالية تضر المسلمين محرم شرعا، إجراءات قتالية، تعيين القيادات العليا والوسطى والدنيا، توديع الجيش واستقباله، إطلاع الشعب على مجريات المعركة، صلاة الخوف (751 - 754) عوامل النصر، منع المخذلين والمرجفين، الجاسوس في الحرب، الجهة المسئولة عن التوجيه، اختيار المكان العسكري، أخذ الرأي من القيادات وأهل الخبرة، الإكثار من التضرع لله، الالتزام بالأوامر، لا تموت نفس إلا بإذن الله، الفرار من الزحف محرم، اختيار وقت المعركة، الرد على الإشاعات والدعايات والشعارات (755) فقه الأموال والاقتصاد المعاصر (756 - 760) قواعد مالية عامة استنبطناها وعليها تدور كثير من الأحكام المالية، خاصة المعاصرة

(760 - 763) الملكية، حفظ المال، (تنبيهات هامة) مما أضر بفقه المعاملات والأموال، التوسع في علة الربا وبيان خطأ ذلك، قاعدة التخريج للعقود المالية المعاصرة على ما مضى قبل مئات السنين، التوسع في التحريم بسبب الغرر والجهالة (763 - 766) الاعتماد على أحاديث ساقطة وشديدة الضعف في أمهات المسائل كحديث «الكالئ بالكالئ»، وحديث «أي قرض جر نفعا»، وحديث «فلا يصرفه إلى غيره»، والإحالة على تحقيق تخريجها وبيان شدة ضعفها في محلها، التوسع في إبطال المعاملات وإرجاع إبطالها إلى خمسة موانع بها تحصر جميع النصوص، جعل أحاديث مختلفة الصحة أصولا، ما هو ضعيف الاستدلال في المنع كتحريم التأمين، خطأ اشتراط القبض في غير الطعام، الفهم غير السليم لبعض نصوص المعاملات، ما وقع الخطأ في تكييفه شرعا (767) تقسيمنا المال إلى أنواع خمسة، تقسيما جديدا معاصرا يشمل كافة الأموال المعاصرة وهي: 1 - النقد، 2 - السهم، 3 - الحق، 4 - العين، 5 - المنفعة (767 - 770) النوع الأول من الأموال: النقود، تعريف النقود الورقية، جريان أحكام الذهب والفضة فيها، قرار المجمع الفقهي -هامش، حفظ العملة وأنواع الحفظ، حرمة تزوير العملة والعقوبات الرادعة، طباعة العملة وما يترتب على ذلك (770 - 774) إصدار العملة العربية الإسلامية الموحدة التي لا ترتبط بالعملات المهيمنة الخارجية، حكم تغيير العملة وما يترتب عليها من الأحكام وقضاء الديون والالتزامات، قرار المجمع الفقهي في قضاء الديون بالعملة بعد تغيرها -هامش (775 - 778) النوع الثاني من المال هو: السهم، وبيان أحكامه ووسائله، أقسام السهم، السهم لحامله، الأسهم الممتازة، التصويت في الجمعية العمومية، الأسهم النقدية والعينية، زكاة الأسهم، قرار المجمع الفقهي بشأن زكاة الأسهم -هامش، اشتراك جماعة في السهم، الأسهم بقصد التورق (779 - 783) النوع الثالث من المال: الحقوق المالية، وأنواعها، تعريف الحقوق المالية، تقسم الحقوق المالية إلى ثلاثة أقسام، أولا: حقوق التأليف المادية، الحقوق الأدبية لا تباع، المعاوضة في حقوق التأليف المادية هي معاوضات غير محضة من باب التعويضات والإكرام (783 - 790) الإكرام على الاختراعات والتآليف، بذل المال على المعلومة والمراهنة على ذلك، بيع المعلومات، بيع المعلومات المخابراتية، بيع الإنتاج الإعلامي، ثانيا: حق نقل القدم أو بدل الخلو، ثالثا: حق الشفعة، رابعا: حق العلامة التجارية

(790 - 796) خامسا: حق الخيار، أ- خيار المجلس، ب- خيار الشرط، ج- خيار العيب الضار، د- خيار الغبن، سادسا: حق التعويض عن الضرر أثناء العمل (796 - 798) سابعا: الدرجات الوظيفية، ثامنا: حقوق الارتفاق، تاسعا: حق التصويت في شركات الأسهم، عاشرا: حق النظارة على الوقف ومال اليتيم، حادي عشر: حق حاضر القسمة، ثاني عشر: الحق العام والحق السيادي، ثالث عشر: حق انتزاع الملكية (799 - 805) النوع الرابع من الأموال: العين، أو الأعيان المالية وتقسيمها إلى أربعة أقسام، القسم الأول: الأرض والأصول التابعة لها، الملك للأرض على سبع درجات، الملك الدولي والملك العام، أراضي الدولة والتصرف فيها وفي أجوائها والحدود السياسية، التنقل في أراضي الدول العربية والإسلامية وحصول ذلك بالبطاقة الشخصية (805 - 809) التنقل والسفر في الأرض لأي إنسان، مقاصد التنقل في الأرض، ناطحات السحاب، الاستثمار المعماري، حدود الجزيرة العربية، الملك المجتمعي (809 - 811) الملك الخاص المتعلق بالأرض وأحكامه، الأحكام الزراعية، العناية بالثروة الزراعية، الأنواع الأربعة من النباتات في الأرض، إهمال الحرث الزراعي، استيراد مواد ضارة بالأرض الزراعية، الاستصلاح الزراعي (812 - 817) المزارعة والمساقاة وجمع النصوص في ذلك وتحقيق المسألة، عقود الاستثمار الزراعي، صحة المساقاة والمزارعة في الأنواع الأربعة وتحقيق المسألة والرد على المانع، استثمار الشركات والمؤسسات والأفراد في الزراعة، الاستثمار الوطني، دعم الدولة للمزارعين والتسهيلات والتحفيزات (817 - 820) تملك الأرض، إحياء الأرض وأنواعه وشروطه، الدولة وتمليك الأراضي، تمليك الشرائح الضعيفة، حرمة تمليك النافذين من دون الناس (820 - 822) القسم الثاني من الأعيان المالية: الثروات، وهي خمسة عشر نوعاً، الأصل في الثروات المالية، أنواع الثروات في الأرض، الثروة الجوية، أنواع الأجواء (822 - 826) النوع الأول: الأجواء الدولية، اشتراك العالم في الأجواء الدولية، العدوان في الأجواء الدولية، النوع الثاني: الأجواء الوطنية وهي ما تختص بها كل دولة على حدة، مرور الطيران المدني، مرور الطيران الحربي، التفصيل في ذلك، المناورات الجوية، إن كان اختراق الأجواء في حال ضعف المسلمين لا لعمالة

(826 - 831) النوع الثالث: الأجواء الشخصية الخاصة وهي ما يختص به كل فرد وبيان ما له من حقوق فيها، العمارة المملوكة لمتعددين، وبيان ما يتعلق بها من أحكام، انهدام العمارة وتفصيل الضمان فيه، الثروات المعدنية والبترولية، بيان أن المعادن والكنوز سواء كانت خاما أو مسبوكة فإنها تابعة للأرض في الملك، والاستدلال على ذلك، ادعاء غير المالك ملكيته للكنز في الأرض أو المعدن، على الدولة تنظيم التعدين الشعبي، الثروة النفطية والغازية وبيان أنها لا تتملك إلا ملكا عاما، وحكم ظهورها في ملك خاص (831 - 833) استغلال الثروة البترولية في مصالح الشعب، التسويق للتنقيب لدى الشركات وشروطه، الولاية على النفط، المسح الاستكشافي، التزام السعر العالمي مع شركات التنقيب، توريد الإنتاج وتوثيقه، أنابيب النفط والغاز وشبكتها، الثروة الصخرية ومشتقاتها (833 - 835) الثروة البحرية والنهرية، استغلال النقل البحري والنهري، الثروة الحيوانية وحفظها ومهمات أحكامها، الثروة الجغرافية، الموقع الجغرافي (836 - 839) القسم الثالث والرابع من الأعيان المالية: الأموال الإنتاجية والاستهلاكية وبيان ما يدخل فيها وأحكامه، المال المأكول والمشروب وتفصيل أحكامه، وبيان أن الأصل الواسع في ذلك الحل إلا ما استثنته النصوص، وذكر ذلك (840 - 844) النوع الخامس من أقسام المال: المنفعة، تقسيم المنفعة إلى أقسام، وبيان كل قسم، تعريف المنافع المالية، الفرق بين الحقوق المالية والمنافع المالية، أنواع المنافع المالية التي جرى عليها التعامل التجاري، وبيان أن الأصل فيها الصحة، التأصيل للاتجار في المنافع (844 - 852) الإجارة هي بيع المنافع وأنواعها، عقود التوكيلات، بيان قاعدة كبرى هامة تضبط استنباط فقه الماليات جميعا، الموانع الخمسة التي يدور عليها الكلام في أحكام المعاملات المالية، وبيان كل مانع، وتفصيل ذلك، وحصر كافة النصوص المالية المتعلقة بالمنع فيها، العقود المالية، قديمها وجديدها (852 - 856) عقد التخليص الجمركي، عقد خدمة التحويلات الإلكترونية والتلكسية والهاتفية، عقود خدمة الهاتف، عقد خدمات الإنترنت، عقد الاعتماد المستندي (856 - 860) عقد الضمان، عقد التأمين، وبيان إباحته، ومناقشة ذلك مناقشة مستفيضة، عقود التسويق والوساطة التجارية والدعاية والإعلان

(860 - 865) الأنظمة المالية، نظام التملك، وبيان حصره في خمس طرق لا سادس لها، وإرجاع كافة عقود الأموال إليها، المعاوضات المحضة، تعريف المعاوضات المحضة، البيع، وركنه الرضى، وبيان ما يتخرج عن ركن الرضى من الأركان والشروط، الصيغة والتصرف في عقد البيع، وبيان جوازهما، الإشهاد في البيوع وتفصيل حكمه، الكتابة في المعاملات، التوثيق الآلي من جهة معتمدة، (865 - 869) بيان أن أركان المعاوضات المالية تتغير زمانا ومكانا، وبيان الثابت منها، وأركانه في عصرنا، تعريف شروط المعاوضة المالية (شروط البيع) وبيان عقد البيع الصحيح، تفصيل الموانع الخمسة الواردة على العقود وتنزيلها على مسائل عقد البيع، المانع الأول: عقد الربا وبيان صور جريانه الحديثة، القرض وأنواعه وجريانه في السهم والنقد والعين، إقراض المطعومات، إقراض الملبوسات، الصرف حال رد العقد، البيع حال رد العقد بأن يبدله شيئا آخر من السلع (869 - 872) المانع الثاني: كون العقد محرما لتحريم السلعة بالنص، وبيان ذلك، الذبائح المستوردة، التبادل التجاري بين الأمم من مطعوم ومستهلك مفتوح على مصراعيه، عقود الدعارة محرمة، وخلع من رخص لها إن اقتضى الأمر، بيع العقار لجهة تقيم عليه محلا للدعارة، وسائل الدعارة من أفلام وقنوات ووسائط ونحوها والترويج لذلك، بيع الخنزير والأصنام، بيع الدم والتبرع به وأعضاء الآدمي وبطلان عقود الخمر والمخدرات والحشيش (872 - 874) المانع الثالث: الميسر، وهو القمار والغرر وبيان صوره، تحريم المشاركة في مسابقة الاتصالات لأنها من القمار، المانع الرابع: وهو الرضى واختلاله، المانع الخامس: الفقه الاقتصادي في حديث النهي عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد، والاحتكار، وبيان بطلان هذه العقود (874 - 879) النهي عن البيع وقت نداء الجمعة وبيان واجب الدولة، النهي عن أخذ العوض عن المكارم، بيان الطريقة الخاطئة في استخراج أحكام عقود العصر، وتفصيل الطريقة الصحيحة وبيان أننا غير متعبدين بالأسماء، القبض من المشتري ليس ركنا ولا شرطا لصحة الشراء، وبيان ذلك، ضع وتعجل، وبيان ضعف حديث «نهى عن بيع الدين بالدين والكالئ بالكالئ» (879 - 880) بيع اللحم بالحيوان، بيع الأجناس الربوية بفروعها، وبيان جوازها، وعلة الجواز، بيع المرابحة والتولية والمناقصة والمزايدة

(880 - 884) الطريق الثاني من طرق التملك المعاوضة غير المحضة، وهي التعويضات والمكارمات، الديات والأروش وهي من أبواب التعويضات، وبيان دية النفس، من فقه آية القتل الخطأ، وبيان الجمع بين النصوص في القاتل العمد، إذا قتل الجماعة شخصا خطأ فالدية واحدة أو متعددة، الدية وتقديرها وبيان أنها تقدر في زماننا بعملة البلد الورقية (884 - 887) الدية ووجوبها للقتيل المؤمن وغير المؤمن إن كان من أهل الموادعة والعهد والأمان، الدية لمؤمن قتل في أرض العدو، سقوط الدية، دية المرأة وكذا غير المسلم لم يرد في تنصيفها أو غيره نص صحيح فيبقى على الأصل، وبيان ذلك، وبيان الفرق بين الإجماع النظري والإجماع العملي (887 - 892) دية الجنين، والحكم إذا شربت الأم دواء فأسقطت، ديات الأعضاء، النوع الثاني من المعاوضات غير المحضة هو النفقات والمهور، تعريف النفقات، بيان النفقة على الوالدين قبل الأولاد والزوجة والاستدلال على ذلك، الإنفاق على الزوجة في حالاتها المختلفة وشمول النفقة عليها الأمور الصحية على خلاف ما كان مقررا في المذاهب الأربعة قديما (الإحالة على النفقة على الأولاد والحيوان في محله من الكتاب)، تعريف المهر، وأنواعه (893 - 894) الطريق الثالث للتملك: ما كان على سبيل التبرع والتبرر وصور ذلك، قاعدة هذا النوع من التملك وضبطها بالاستنباط من فقه النصوص، بيان المنع من المعاوضة المقصودة والمشروطة في هذه الأنواع، المعاوضات الإغاثية، المعاوضات في الهدايا، الطريق الرابع للتملك: ما فرض بالشرع، والإحالة على نظام الاستثمار في تفصيله، الطريق الخامس للتملك: ما كان عن طريق السبق ووضع اليد وبيان مروره في الكتاب (895 - 896) النظام المالي الثاني وهو نظام الاستثمار، الاستثمار برا وجوا وبحرا، معنى الاستثمار وتقسيم أحكامه على الأفعال والأقوال والأزمنة والأمكنة والأفكار وأنواع المال والأشخاص وبيان ما يدخل تحت كل ذلك، الأقوال والأفعال، الأزمنة وما يتعلق منها بالصفقات، الأمكنة وما يتعلق منها بمحل الصفقات وعقود الاستثمار، أنواع السلع والأموال التي يدخلها الاستثمار، الأشخاص المستثمرون، الكلام في مسائل الاستثمار وبيان أن ركنه التراضي وبيان أن الأقوال منطوقة أو مكتوبة تصح في عقود الاستثمار (896 - 899) التفاوض الاستثماري وبيان أحكامه وما يحل فيه وما يحرم، لا يجوز دخول طرف مفاوض آخر حتى يدع الأول، والاستدلال على ذلك، وبيان علله ومقاصده، المداراة والمماراة ممنوعتان في الاستثمار، وبيان معناهما وما يترتب عنهما في الاستثمار،

تحريم دخول طرف يظهر إرادة الشراء ولا يريد إلا رفع السعر أو الإيقاع بالمشتري أو إنفاق السلعة، المصداقية التجارية في بيان حقيقة السلع وبيان وجوبه، قاعدة هامة صغناها لضبط بيان ما يخل بالصفقة، معنى البركة المقصودة في النص وبيان أنها سببية وسماوية وشرح كلٍّ، الأيمان في المعاملات محرم (899 - 902) الإيهام بدفع طرف ثمنا أكثر مما دفع المساوم، ما يندب عند التفاوض، السماحة حال التفاوض وفي البيع والشراء، البخس وبيان تحريمه، تلف السلعة حال المساومة، نتائج التساوم والتفاوض الاستثماري، وبيان ما ينتج عنه من العقود والوعود والعروض وغيرها، ذكر سائر العقود المعاصرة التي قد تنتج عن التفاوض (902 - 905) عقد البيع وتعريفه تعريفا جامعا مانعا، عقود السَّلَم، جواز تقديم رأس مال السَّلَم في المجلس أو تأخيره لأيام أو بحسب الاتفاق، والاستدلال على ذلك، السلعة المُسْلَم فيها وشروطها، بيان دقة المعيار الذي وضعه الشرع في الضبط للسَّلَم ولا يخرج عنها نوع في العالم، أجل السَّلَم ولو ساعة أو أكثر، «السَّلَم السريع» مصطلح أطلقناه ويمكن جَعْلُه حلاً لكثير من قضايا العصر والاستدلال عليه، لا يشترط في شيء من السلع حضوره مجلس العقد إلا الصرف والربويات الست (905 - 908) شراء ألف طن من التمر بألف طن من القمح والإحالة على الاستلام، جريان السَّلَم في الأنواع الخمسة من المال، السَّلَم في العملة الورقية، السَّلَم في الذهب والفضة، السَّلَم في المعادن، الضمانة البنكية تقوم مقام صاحب رأس المال في الدفع، السَّلَم في الأسهم، السَّلَم في الأعيان المالية الأربعة، السَّلَم في العقار والجمعيات الزراعية، السَّلَم فيما يخرج من الأرض (908 - 910) السَّلَم في الثروات الأربع عشرة، معدن الذهب والفضة، الرهن في السَّلَم وبيان جوازه، المعادن بالمعادن جائز، جواز النفط بجنسه والغاز بجنسه مع تفاضل وتآجل، استيراد المياه المعدنية والغازية بالسَّلَم، الثروة العشبية والخشبية والصخرية والحيوانية والسَّلَم فيها (910 - 914) السَّلَم في الأصول الإنتاجية والاستهلاكية، السَّلَم في المنافع والخدمات، السَّلَم في خدمات التخليص الجمركي، إذا تأخر دفع السلعة المُسْلَم فيها عن تاريخ الدفع، السَّلَم في البورصة وبيان تنوعه وجواز توقيته بأجل معلوم ولو ساعة واحدة أو أقل أو يوماً أو أكثر، ضعف حديث «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره»

(914 - 916) العقد الصناعي وبيان سبب تسميته بذلك، وتقسيمه إلى أنواع بحسب الأنواع المالية، العقد الصناعي في الأعيان المالية، أركان وشروط العقد الصناعي، يجوز تأخير الثمن إلى التسليم في العقد الصناعي أو تقسيطه، شروط السلعة في العقد الصناعي، بطلان العقد الصناعي في الخمر والمخدرات وبيان أنه من الفساد في الأرض (916 - 920) استصناع الأعلاف من الدم، استصناع الأسمدة من المخلفات الحيوانية، صناعة الأصنام وبطلان العقد فيها، أصنام الزعماء والحكام والعلماء والأنبياء وغيرهم، العقد الصناعي في الأرض، العقود الصناعية في الثروات الجوية والبرية والبحرية والباطنة، الوسيط الصناعي، عقود الإنشاء والمقاولات، مقاولة المقاول لآخر في الباطن، عقود الإنتاج الإعلامي والأعمال الفنية (920 - 924) عقد الإنتاج الفكري، العقد الاستشاري، عقد الاستيراد والتصدير، خدمات الفيزا كارت، عقود الشركات، أنواع الشركات، الأهلية في إبرام عقود الشركات، دخول شركة المضاربة في أنواع المال الخمسة، المضاربة في النقديات والأسهم، جواز رأس مال المضاربة من الأعيان المالية، ما صح أن يحال عليه صح أن يضارب به، جواز الاستصناع بالدين، معلومية رأس المال (925 - 929) مضاربة البنك بالودائع الاستثمارية وغير الاستثمارية وتفصيل ذلك، الودائع غير الاستثمارية والتصرف فيها، تمويل البنك للعميل وتفصيل ذلك، مسئولية البنك في النظر المصلحي ودراسة الجدوى، التمويل الجزئي، الأصول الكبرى التي تحكم شركات المضاربة، مناقشة كون رأس المال نقدا لا عروضا ولا دينا، وبيان الصحيح في ذلك، لا يصح ضمان الربح، المضاربة في الأرض (929 - 933) الاستثمار في الثروات الخمس عشرة بشركات المضاربات، المضاربات في الأصول الإنتاجية، المضاربات في العقود الحقوقية، نفقات شركات المضاربة، مصاريف المضارب، مصاريف البنك الإدارية، وبيان جوازها بشروط، شرط رب المال على المضارب نسبة ثابتة من الربح، قاعدة في تصحيح العقود، الشرط الاحتياطي والتفصيل فيه (933 - 936) صناديق المضاربة الاستثمارية وأنواعها، ما يذكر في عقود الشركات، ضمان ربح معلوم مقطوع، ربح الأرباح، اشتراط تحمل العامل جزءاً من الخسارة، جواز الشرط في تحمل جزء من الخسارة، وبيان متى يكون ذلك ودليله، العميل والكمبيالة والبنك والدخول في شركة، تحويل رأس المضاربة دينا، تحويل المضاربة إلى مرابحة

(936 - 939) عقد الإجارة الاستثماري، أهلية العاقدين، معلومية المنفعة، خلو العقد من الموانع الخمسة، وبيان ذلك، عقود الصيانة، غرامات تأخير السداد، استئجار النقود، تأجير محلات الصرافة، تأجير الأراضي للاستثمار، عقود التأجير جائزة في كافة المجالات السياسية والرسمية وغير الرسمية والمدنية والعسكرية، تحريم التأجير للسجون السياسية، التأجير لمقرات الأحزاب، التأجير لفعاليات سياسية (939 - 944) التأجير المتعلق بالمجال الديني، تأجير المصحف، بيع المصحف، العمل التجاري في الحج وتفويج الحجاج، تأجير كتب العلم، التأجير في المجال الأمني والعسكري والتسليح، الإجارة في المجال التعليمي، الإجارة المنتهية بالتمليك وبيان جوازها، صياغة قاعدة جديدة هي: الوعود تلزم بالعقود والعهود، بيان أن الوعد يلزم بالعقد والتنبيه على هذا الفارق المهم بين الوعد المجرد والوعد بعقد، تأجير الحقوق المالية كالعلامات التجارية والاسم التجاري والرخص، أخذ مقابل على الكفالة والضمان (944 - 947) الاشتراكات لشراء الخدمات: طبية أو مهنية أو ميكانيكية أو غيرها، صيانة العين المستأجرة، جواز السمسرة، السوق التجاري وأقسامه، الأحكام الخاصة لحفظ السوق، مطلوبية علم التسويق والإدارة التجارية، خدمات سوق المال البنكي، الخدمات والاستثمارات الجارية في البنوك (947 - 950) فتح حساب جار للعميل، بيان أن النقود الورقية لا تتعين بالتعيين ولا يجري فيها الخلاف القديم في الذهب والفضة وبيان الفرق، الودائع الاستثمارية، إنزال الراتب على البنك، خطاب الضمان البنكي، الاعتماد المستندي، خصم الكمبيالة وتكييفه وإبطال التخاريج المتكلفة، خصم الشيكات، السندات والكمبيالات وبيان جواز بيعها (950 - 952) بيع تذاكر طيران أو نقل بحري أو بري، حكم التطهير وبيان فرق هام غفل عنه من أجاز التطهير وهو: الفرق بين العقد المحرم قطعا وبين العقد مع من في ماله شبهة أو حرام، بيان أن استدلالهم خارج محل النزاع، وتفصيل ذلك، عقد المرابحة للآمر بالشراء ملزم، وبيان ذلك، وتفصيله، عقود التمويل الاستثماري في البنوك (952 - 956) سوق الأوراق المالية «البورصة» والإحالة على ما سبق من أحكام الأسهم والسندات وغيرها من الأوراق وبيان جواز السمسرة وغيرها من المعاملات في الأصل، بيان المجمع الفقهي -هامش، العقد على البث الحصري التلفزيوني، العقود الفنية، العقود السياحية، أسواق مزاين الإبل، عقود المزاد والبيع على الأرقام المميزة

(957 - 959) النظام المالي الثالث: نظام الحماية، أنواع الحماية المالية، الحجر على السفيه، ما هو السفه؟ الحجر على السفيه نوعان، تعريف السفيه المقصود في النص (959 - 963) أقسام الناس في إدارة المال وبيان المقصود شرعا واستنباط الأحكام من النص (ولا تؤتوا السفهاء)، من صور الحياة الواردة في النص -أصل وهامش، المعاوضة مع السفيه، مال السفيه، حاجياته وضرورياته، زواج السفيه بالثانية والثالثة والرابعة، الحج والعمرة والصدقة، معنى الحجر على السفيه (963 - 966) الغصب وتعريفه، بيان اجتماعه مع الفساد في الأرض والحرابة، استعمال المغصوب، تلف المغصوب، استغلال ومكاسب المغصوب، إدخال المال المغصوب في غيره وتفصيل ذلك، لا تقدير لعمل الغاصب، بل هو هدر والتقعيد لذلك، الغصب المتعلق بإنقاذ نفس المغصوب، بيع الغاصب للمال، بيع المغصوب، إهدار جهد الغاصب وماله المضاف إلى المغصوب في الأصل، التزوير واجتماعه مع الغصب في صور، التعويض للمغصوب، لا تعويض للغاصب، الاختلاس من المال العام (966 - 971) حد الغاصب، السرقة، اجتهاد غير تقليدي في بيان حد السرقة، شبهة التنازل من أهل المال المسروق، الضمان والكفالة، أنواع الضمان وتفصيل ذلك، ضمان السوم التجاري، الضمان بالعدل والإحسان، تشاحن البائع والمشتري عند التلف، الحاكم بينهما وبم يحكم، المتلفات في الشركات المضاربة وغيرها، ضمان المستأجر، ضمان الأجير المشترك، الأجير الخاص وضمانه، الوكيل بأجرة وضمانه، انقلاب سيارة والوكيل فيها، ضمان الدرك (971 - 973) خلاصة قواعد الضمان، ضمان الرهن، ضمان العواري، الضمان على الأشخاص، ضمان الإحضار، اللقطة وأنواعها (974 - 977) النظام المالي الرابع: نظام الإنفاق وتوزيع الثروة، الإمكانات المسخرة في السموات والأرض، المعيشة المقسومة، معنى المعيشة ومعنى القسمة، معنى تسخير الإنسان للإنسان والأمم للأمم، الأرض فيها الكفاية للبشرية، المقاطعة الدولية، الغذائيات والنباتات المشتركة، وفرة القوت تساوي الطلب، علة الفقر، الظواهر العامة السالبة والموجبة ناتجة عن الكسب البشري، مواجهة الكوارث العاجلة (977 - 980) إمكانية الرفاهية للكل، امتناع حصول الغنى الفاحش للكل وإمكانه للبعض، والحكمة في ذلك، والفرق بينه وبين الرفاهية، المعوقات الستة للرفاهية البشرية

وحصول البركات الإلهية والاستدلال على ذلك وشرحه، ارتباط الحصول على الحياة الحسنة بالكسب لا بمجرد الأمنيات والأقوال فقط (980 - 983) النسقات العشرة لتوزيع المال والثروة، النسق الأول: دخول الدولة، تعريف الفيء تعريفا جديدا جامعا مانعا يوافق مقصد الشرع وبيان شموله لأكثر موارد الدولة، النفط والغاز والذهب والثروات الخمس عشرة داخلة في معنى الفيء ومقصده الشرعي، مصارف مدخول الدولة وشرحها (983 - 987) النسق الثاني لتوزيع الثروة: الزكاة، انحصار الزكاة في النابت والمكتسب والاستدلال على ذلك، لا زكاة في الحاجيات والضروريات، لا زكاة في الدين على صاحبه، زكاة الدين على المستدين، وبيان ذلك (987 - 990) زكاة المستغلات، موعد أخذ زكاة المستغلات، والفرق بينها وبين مكاسب التبادل التجاري من غير المستغلات، جواز حساب التجارات كل ربع عام، وبيان شرط ذلك، بيان أن الحول شرط منضبط في التجارات والإيجارات وغيرها، المزروعات الأصل حَوَلَان الحول عليها إلا ما أمكن حصاده أكثر من مرة في الحول للنص، زكاة الأسهم وتفصيل أحكامها، الأنعام أجناس، والحبوب والثمار متى يُضَمْ، ومتى لا يُضَمْ؟ (990 - 997) النسق الثالث لتوزيع الثروة: الوصية والفرائض، الوصية تعريفها وحكمها، الجمع بين حديث «لا وصية لوارث» والآية التي تنص على الوصية للوالدين والأقربين، المواريث، النسق الرابع لتوزيع الثروة: النفقة، النسق الخامس لتوزيع الثروة: الصلة الواجبة للشرائح الضعيفة من ذوي القربى واليتامى وغيرهم، الجار ذو القربى، الصاحب بالجنب، الإنفاق الواجب على الحيوان (997 - 998) النسق السادس لتوزيع الثروة: الكفارات، النسق السابع لتوزيع الثروة: الإغاثات، النسق الثامن لتوزيع الثروة: بذل الانتفاع بالمنافع (998 - 1004) النسق التاسع لتوزيع الثروة: الطعام (1004 - 1009) النسق العاشر: التطوعات والقرب والتبرعات، الوقف: تعريفه تعريفا جامعا مانعا موافقا لمجريات العصر مستنبطا من مقاصد الشرع ونصوصه، وقف المنقولات وبيان جوازه، جواز وقف الأسهم، وقف المستهلكات وجوازه، وقف النقود، وبيان جوازه، والاستدلال على ذلك، وقف الأعيان المالية من أرض وعقار وأصول وثروات، وقف الحقوق

المالية كالعلامة التجارية وحق التأليف، وبيان جوازه، الوقف الإعلامي، وقف متحف شخصي، وقف في الكهرباء والاتصالات، وقف سوبر ماركت، وقف الثروات الحيوانية، وقف نسبة ثابتة من ثمر مزرعة، وقف المنافع المالية والخدمات جائز، جهات الوقف الحياتية كلها جائزة في الأصل: سياسية، ومدنية، وعسكرية، وغيرها، الوقف السياسي والنقابي، الوقف الاجتماعي والخدمي والإغاثي، الوقف الاقتصادي، استثمار الوقف (1009 - 1011) النسق الحادي عشر لتوزيع الثروة: المبادرة التطوعية، النظام المالي الخامس وهو نظام الإرفاق والتسهيلات، الوكالة وتعريفها وما يشترط فيها ومحل جريانها، الوكالة عن القاضي (1013 - 1075) لوحات من فقه النفس والحياة (1079 - 1094) وثائق، الإعلان العالمي الإسلامي لحقوق الإنسان، بيان المجمع الفقهي (1097 - 1136) دليل محتويات الكتاب

§1/1