المقدمات الممهدات

ابن رشد الجد

[مقدمة]

[مقدمة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الفقيه محمد بن أحمد بن رشد، أما بعد، حمد الله تعالى الذي هدانا للإيمان والإسلام، والصلاة على نبيه الذي استنقذنا به من عبادة الأوثان والأصنام، وعلى جميع أهل بيته وصحابته النجباء البررة الكرام، فإن بعض أصحابنا المجتمعين إلى المذاكرة والمناظرة في مسائل كتب المدونة سألني أن أجمع له ما أمكن مما كنت أورده عليهم عند استفتاح كتبها وفي أثناء بعضها مما يحسن المدخل به إلى الكتاب وإلى ما استفتحت عليه من فصول الكلام وتعظم الفائدة ببسطه وتقديمه وتمهيده من معنى اسمه واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك واختلفوا فيه بوجه بناء مسائله عليه وردها إليه وربطها بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها، جريا على سنن شيخنا الفقيه

أبي جعفر ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وطريقته في ذلك واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت أكثر احتفالا منه في ذلك لا سيما في أول كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في فن من فنون الشرع قبلها، فله الفضل بالتقدم والسبق؛ لأنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من تقدم من شيوخه إليه. فلقد سألته- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عما كان يستفتح به شيخه الفقيه أبو عمر بن القطان مناظرته في ابتداء كتب المدونة، فقال لي: كان لا يزيد على ما ذكره ابن أبي زيد في أوائل الكتب من مختصره، وكان لا ينتهي إلى ما وفق إليه فلقد كان- أكمل الله كرامته لديه- أفقه من شيوخه وأنفع للطالب منهم، وليس ذلك بغريب، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو أوعى له منه، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء. فأجبت السائل لما سألني من ذلك رجاء ثواب الله تعالى ورغبة في حسن المثوبة عليه، ووصلت ذلك ببعض ما أستطرد القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة ناقصة مفرقة، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة بعللها مبينة، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد لم يسبقني أحد ممن تقدم إلى مثله، سميته بكتاب المقدمات الممهدات، لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات. والله أسأله التوفيق في القول والعمل. من الزيغ والزلل بعزته ورحمته.

فصل في معرفة الطريق إلى وجوب التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع

فصل في معرفة الطريق إلى وجوب التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع قال الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] والدين الذي أمرنا بإقامته هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله سواه. قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وإقامته تفتقر إلى التفقه في شرائعه التي شرعها الله لعباده، وأوجبها عليهم في محكم كتابه، من الوضوء والصلاة والزكاة وسائر شرائع الدين، والتفقه فيها لا يستقيم إلا بعد المعرفة بوجوبها، ولا طريق إلى المعرفة بوجوبها إلا بعد المعرفة بالله تعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، أو ما يقوم مقام المعرفة من الإيمان والتصديق، على القول بأن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى؛ لأن المعرفة بوجوب الواجبات وحظر المحظورات مع الجهل بموجبها والجحد له من المستحيل في العقل، فلا يعلم الله تعالى إلا بالنظر في الأدلة التي نصبها لمعرفته والاستدلال بها عليه. ولا يصح النظر والاستدلال إلا ممن له عقل ينظر به ويستدل. وقد جعل الله تبارك وتعالى لمن أراد تكليفه من عباده عقولا يعرفونه بها بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، ويعقلون بها ما خاطبهم به وشرعه لهم في كتابه وعلى ألسنة

فصل في معرفة شرائط التكليف

رسله، إذ لا يصح تكليف من لا يعقل التكليف. وأنعم على المؤمنين بأن وفقهم لذلك وهداهم له وشرح صدورهم لمعرفته. قال الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. فصل في معرفة شرائط التكليف وشرائط التكليف ثلاثة: أحدها العقل، ومحله عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القلب. وحده معرفة بعض العلوم الضرورية كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد، وأن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا، وأن الجمل لا يلج في سم الخياط، وما أشبه ذلك مما تعلم معرفته العقلاء. وألخص من هذا الحد أن يقال فيه إنه مادة يتأتى بها درك العلوم؛ والأول أصح وأبين، وهذا أخصر. والدليل على أن العمل شرط في صحة التكليف من الكتاب قول الله عز وجل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وقوله: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. ومن السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث»،

فصل في وجوب الاستدلال

فذكر فيهم المجنون حتى يفيق. والثاني البلوغ، وهو الاحتلام في الرجال أو بلوغ حده من الأعوام. واختلف في ذلك فقيل خمسة عشر، وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر، والاحتلام أو الحيض أو الحمل في النساء، أو بلوغ ذلك أيضا من الأعوام. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث»، فذكر الصبي حتى يحتلم. فصل وللصبي فيما دون الاحتلام حالان: حال لا يعقل فيها معنى القربة، وحال يعقل فيها معناها. فأما الحال التي لا يعقل فيها معناها فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس بمخاطب بعبادة ولا مندوب إلى فعل طاعة. وأما الحال التي يعقل فيها معنى القربة فاختلف هل هو فيها مندوب إلى فعل الطاعة كالصلاة والصيام والوصية عند الممات وما أشبه ذلك، فقيل إنه مندوب إليه، وقيل ليس بمندوب إلى شيء من ذلك وإن وليه هو المخاطب بتعليمه وتدريبه والمأجور على ذلك. والصواب عندي أنهما جميعا مندوبان إلى ذلك مأجوران عليه. «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي أخذت بضبعي الصبي ورفعته من المحفة إليه وقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر» وهذا واضح. والثالث بلوغ دعوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وما أشبه ذلك من الآيات. فصل في وجوب الاستدلال وقد نبه الله تبارك وتعالى عباده المكلفين على الاستدلال بمخلوقاته على

ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وتلا عليهم فيه القصص والأخبار، ليتدبروها ويهتدوا بها، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20]، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ} [الواقعة: 58 - 59] الآية إلى أخرها. وقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقال: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، وقال تعالى:

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ - فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48 - 50]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، وقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ} [الروم: 28]، وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].فصل وليس رجوع إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما استدل به أولا من أن الله يحيي ويميت إلى أنه يأتي بالشمس من المشرق انتقالا من دليل إلى دليل لأن الانتقال من دليل إلى دليل عجز عن قطع الخصم بالدليل الذي استفتح الكلام به، ولا يصح ذلك، بل إنما قطع الكافر بالدليل الذي استدل به أولا ولم يخرج عنه إلى غيره لأنه إنما حكم بالربوبية لمن يقدر على خلق الأفعال واختراعها فقال إن الله يحيي ويميت أي

يفعل الموت والحياة، فلما ادعى الكافر القدرة على ما يصح أن يراد بالإحياء والإماتة من فعل ما أجرى الله العادة بخلق الموت والحياة عنده في الجسد المفعول به ذلك كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وكان القتل أيضا قد يعبر عنه بالإماتة عند العرب، بين له إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن علته ليست الأفعال التي حمل عليها كلامه جهلا منه بمراده أو تمويها؛ لأن الإحياء والإماتة إذا أطلقت أظهر في اختراع الموت والحياة منها فيما حمله عليه الكافر، فكيف إذا اقترنت بها قرينة تدل على أنه لم يرد بها إلا ذلك، وهي ما استفتحا الكلام فيه. من الربوبية التي تقتضي ذلك، وأتاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بألفاظ لا يمكنه فيها تمويه ولا يسعه فيها عمل، ولم يخرج عما ابتدأ به الكلام معه من الحكم بالربوبية لمن يقدر على اختراع الأفعال وخلقها؛ لأن الصفة في ذلك واحدة لا تتزايد ولا تختلف، فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] أي إن كان ما ادعيت حقا من أن الإحياء والإماتة أنت فاعلها وتقع بحسب إرادتك؛ لأن من يقدر على فعل شيء يقدر على فعل مثله. فلما رأى الكافر ما ألزمه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - به ولم يقدر على دفعه ولا أمكنه فيه تمويه ولا عمل بهت كما قال تعالى. فلم يخرج إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دليل إلى دليل، بل إنما قطعه وأبهته بالدليل الذي استفتح به كلامه والحمد لله. وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] إلى قوله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، فاستدل إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بما عاين من حركة الكواكب والشمس والقمر على أنها محدثة؛ لأن الحركة والسكون من علامات المحدثات. ثم علم أن كل محدث فلا بد له من محدث وهو الله رب العالمين. وهذا وجه الاستدلال وحقيقته قصه الله تبارك وتعالى علينا تنبيها لنا وإرشادا إلى ما يجب علينا. وهذا- في القرآن كثير

فصل في وحدانية الله عز وجل وأسمائه وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله

لا يحصى كثرة. ولم يستدل إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما عاينه في الكواكب والشمس والقمر لنفسه، إذ لم يكن جاهلا بربه ولا شاكا في قدمه، وإنما أراد أن يري قومه وجه الاستدلال بذلك ويعيرهم بالذهول على هذا الدليل الواضح ويوقفهم على باطل ما هم عليه، وكان من أحج الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وذلك بين من كتاب الله تعالى. ألا ترى إلى ما حكى الله عز وجل من قوله بعد أن أراهم أنهم على غير شيء {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي} [الأنعام: 80] فِي اللَّهِ إلى قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وقوله في أول الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] وقد قيل إن ذلك كان في صباه وفي أول ما عقل، والأول أصح وأبين والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل في وحدانية الله عز وجل وأسمائه وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله فالله تبارك وتعالى إله واحد قديم بصفاته العلى وأسمائه الحسنى لا أول لوجوده، وباق أبدا إلى غير غاية ولا انتهاء، تعالى عن مشابهة المخلوقات، وارتفع عن مماثلة المحدثات، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وردت بذلك كله النصوص عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ودلت عليه دلائل العقول. فمن أدلة العقول على أنه واحد أنهما لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها. أحدها أن يتم مرادهما جميعا، والثاني أن لا يتم مرادهما جميعا، والثالث أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فيستحيل منها وجهان وهو أن يتم مرادهما جميعا، وأن لا يتم مراد

واحد منهما؛ لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فتمت إرادتهما جميعا لكان الجسم حيا ميتا في حال واحد، ولو لم تتم إرادة واحد منهما لكان الجسم لا حيا ولا ميتا في حال واحد، وهذا من المستحيل في العقل، فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فالذي تتم إرادته هو الله القادر، والذي لم تتم إرادته ليس بإله لأنه عاجز مغلوب. وهذا الدليل يسمونه دليل التمانع، وقد نبه الله تعالى عليه في كتابه بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وبقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]. ومن أدلة العقول على أنه قديم أنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له محدث، إذ لو جاز وجود محدث دون محدث لجاز وجود كتابة دون كاتب وبناء دون بان، وهذا من المستحيل في العقل. وكذلك القول في محدثه ومحدث محدثه حتى يستند ذلك إلى محدث أول لا محدث له وهو الله رب العالمين. فصل ومن أسمائه التي دلت دلائل العقول على استحقاقه لها كونه حيا عالما قادرا مريدا. فمن أدلة العقول: على أنه عالم قادر مريد كونه خالقا لجميع المخلوقات مخرجا لها من العدم إلى الوجود. فلو لم يكن قادرا لما تأتى له الفعل؛ لأن الفعل لا يتأتى إلا لقادر. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]، ولو لم يكن عالما لما ميز ما يوجده ويخلقه مما لا يوجده ولا يخلقه، ولاشتبهت عليه صفات المخلوقات على اختلاف أجناسها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد نبه الله تعالى

فصل

على هذا الدليل بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ولو لم يكن مريدا لما صح تقدم المتقدم من الحوادث والمخلوقات على المتأخر منها ولا تأخر المتأخر منها على المتقدم، إذ ليس المتقدم بأولى بالتقدم من المتأخر ولا المتأخر بأولى بالتأخر من المتقدم، ولما صح اختصاص كل جنس منها بصفته دون صفة صاحبه لاحتماله صفة صاحبه. فعلمنا بهذا أن المتقدم إنما تقدم على المتأخر وأن المتأخر إنما تأخر عن المتقدم وأن كل جنس من الأجناس إنما اختص بصفته دون صفة صاحبه بقصد الفاعل إلى ذلك وإرادته له. وقد نبه الله تبارك وتعالى أيضا على هذا الدليل بقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. فصل وإذا علمنا أنه عالم قادر مريد علمنا أنه حي لاستحالة وجود العلم والقدرة والإرادة من الموات. وقد نبه الله تبارك وتعالى على هذا وأعلم به بقوله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، وقَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله: {الم} [آل عمران: 1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 2 - 3] يريد عز وجل من الكتب المنزلة على من قبله من الأنبياء، ومثل هذا في القرآن كثير. وإذا علمنا أنه حي عالم قادر مريد علمنا أنه سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات من المشمومات والمذوقات والملموسات، لاستحالة خلوه منها، إذ لو خلا منها لكان موصوفا بضدها، وأضدادها نقائص يستحيل وجودها به

فصل

تعالى. إذ لو جازت عليه صفات النقص وصفات الكمال لما اختص بإحداهما دون صاحبتها إلا بمخصص يخصصه بها وذلك باطل. وإذا علمنا أنه حي مريد عالم قادر سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات علمنا أن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وإدراكا يدرك به جميع الملموسات، وإدراكا يدرك به جميع المذوقات، وإدراكا يدرك به جميع المشمومات، لاستحالة وجود حي بلا حياة، وعالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، ومتكلم بلا كلام، ومدرك بلا إدراك. فصل فهذه عشر من صفات ذاته تعالى لا تفارقه ولا تغايره، تدرك من جهة العقل ومن جهة السمع، ولا اختلاف فيها بين أحد من أهل السنة. وأما ما وصف به نفسه تعالى في كتابه من أن له وجها ويدين وعينين فلا مجال للعقل في ذلك، وإنما يعلم من جهة السمع، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به من غير تكييف ولا تحديد، إذ ليس بذي جسم ولا جارحة ولا صورة. هذا قول المحققين من المتكلمين. وقد توقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس وقالوا لا يجوز أن يثبت في صفات الله تعالى ما لا يعلم بضرورة العقل ولا بدليله، وتأولوها على غير ظاهرها فقالوا المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق ووجه الأمر أي ذاته ونفسه. والمراد بالعينين [إدراك المرئيات، والمراد باليدين] النعمتان. وقَوْله تَعَالَى: {بِيَدَيَّ} [ص: 75]، أي ليدي لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى، فعلى هذا تأتي صفات ذاته تعالى خمس عشرة صفة.

واختلفوا فيما وصف به نفسه من الاستواء على العرش، فمنهم من قال إنها صفة فعل بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا على العرش. ومنهم من قال إنها صفة ذات من العلو، وإن قوله استوى بمعنى علا، كما يقال استوى على الفرس بمعنى علا عليه. وأما من قال إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة، والله يتعالى عن أن يغالبه أحد. وحمل الاستواء على العلو والارتفاع أولى ما قيل، كما يقال استوت الشمس في كبد السماء أي علت، ولا يمتنع أن يكون صفة ذات وإن لم يصح وصفه تعالى بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه. واختلفوا أيضا في القدم والبقاء، فمنهم من أثبتهما صفتين، ومنهم من نفى أن يكونا صفتين وقال إنه قديم لنفسه وباق لنفسه لا لمعنى موجود به. والذي عليه الأكثر والمحققون إثبات البقاء ونفي القدم. فصل وأما صفات أفعاله تعالى فكثيرة. منها التفضل والإنعام والإحسان والخلق والإماتة والإحياء وما أشبه ذلك. فصل وكذلك أسماؤه تعالى كثيرة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وهي تنقسم على أربعة أقسام: (قسم)

منها راجع إلى نفسه وذاته كشيء وموجود وغير لما غايره وخلاف لما خالفه وقديم وباق على مذهب من قال من أهل السنة إنه قديم لنفسه وباق لنفسه وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى صفة ذاته كحي وعالم وقدير وسميع وبصير وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى نفي النقائص عنه تعالى كغني وقدوس وسلام وكبير وعظيم ووكيل وجليل؛ لأن معنى غني لا يحتاج إلى أحد، والقدوس الطاهر من العيوب، والسلام السالم من العيوب، والكبير والعظيم الذي لا يقع عليه مقدار لعظمته وكبره، والجليل الذي جل عن أن تجري عليه النقائص، والوكيل إنما تسمى الرب به لما كانت المنافع في أفعاله لغيره، إذ لا تلحقه المنافع والمضار، فهو على هذا التأويل راجع إلى نفي نقيصة. ويحتمل أن يكون الوكيل بمعنى الرقيب والشهيد، فيرجع ذلك إلى معنى العالم. (وقسم) منها راجع إلى صفة فعله كخالق ورازق ومحيي ومميت وما أشبه ذلك. فصل ولا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجمعت الأمة عليه، هذا قول أبي الحسن الأشعري. وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني إلى أنه يجوز أن يسمى الله تعالى بكل ما يرجع إلى ما يجوز في صفته مثل سيد وجليل وجميل وحنان وما أشبه ذلك، ما لم يكن ذلك الجائز في صفته مما أجمعت الأمة على أن تسميته به لا تجوز مثل عاقل وفقيه وسخي وما أشبه ذلك. وإلى القول الأول ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فقد سئل في رواية أشهب عنه من العتبية عن الرجل يدعو بيا سيدي فكرهه وقال أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكره الدعاء بيا حنان. فصل فأما ما لا يجوز في صفته تعالى فلا يجوز باتفاق أن يسمى الله تعالى به وإن كان الله عز وجل قد وصف نفسه بالفعل المشتق منه ذلك الاسم، نحو قوله:

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]؛ فلا يقال يا مستهزئ ولا يا ساخر؛ لأن ما يستحيل في صفته تعالى فلا يجوز أن يجري عليه منه إلا قدر ما أطلقه السمع عليه مع الاعتقاد بأنه على ما يجب كونه تعالى عليه من صفاته الجائزة عليه. واختلف في وقور وصبور، فذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى بهما لأن الوقور الذي يترك العجلة بدفع ما يضره، والصبور الذي يصبر على ما يصيبه من الأذى، وذلك ما لا يجوز في صفته تعالى. ومن أجاز ذلك على أحد المذهبين فإنما يرجع معناهما إلى الحلم. فصل ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز على الجواهر والأجسام من الحركة والسكون والزوال والانتقال والتغير والمنافع والمضار، ولا تحويه الأمكنة ولا تحيط به الأزمنة. فصل فإذا علمنا الله تبارك وتعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وما يجوز عليه مما لا يجوز، عرفنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بما أظهره الله تعالى على أيديهم من المعجزات؛ لأن المعجزة لا تكون إلا من الله تعالى. فإذا أظهرها على يدي من يدعي الرسالة عليه فهي بمنزلة قَوْله تَعَالَى صدق رسولي. ولا يصح عليه تعالى أن يصدق إلا صادقا؛ لأنه لو صدق كاذبا لكان كاذبا، والكذب مستحيل عليه تعالى؛ لأنها صفة نقص، وصفات النقص لا تجوز عليه تعالى، ولا تليق به سبحانه وتعالى على ما قلناه وبيناه. فصل وإذا علمنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - علمنا صدقهم فيما

جاءوا به عن الله تبارك وتعالى من الشرائع وغيرها، وأنه أوجب على عباده أن يؤمنوا به ويوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا؛ لأنه قال في كتابه الذي أنزل على رسوله: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13]، وقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 23] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25]، وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]. والأمر على الوجوب. ومن قال من أصحابنا إن الأمر ليس على الوجوب فقد وافقنا على أن الأمر بالإيمان على الوجوب لما اقترن به من الإجماع. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وهذا في القرآن كثير. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فإنها آية عامة وليست على عمومها. والمراد بها السعداء من الجن والإنس لأنهم هم الذين خلقهم الله تعالى لعبادته، وأما الأشقياء منهم فإنما خلقهم لما يسرهم له واستعملهم به من الكفر والضلال. قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]،

فصل

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]، وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ميسر لما خلق له». وجاء في الحديث «أن رجلا من مزينة أتى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون، فقال: بل شيء قضي عليهم ومضى، قال فلم نعمل إذا قال من خلقه الله لواحدة من المنزلتين فهو يستعمل لها». وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. وقد قيل إن معنى الآية وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي. وقيل معناها ليذعنوا لي بالعبودية ويعترفوا لي بالربوبية؛ لأن معنى العبادة التذلل للمعبود. فكل الخلق على هذا التأويل متذلل لأمر الله مذعن لقضائه لأنه جار عليه لا قدرة له على الامتناع منه إذا نزل به. وإن خالف الكافر أمر الله تعالى فيما أمره به من الإيمان والطاعة فالتذلل لقضاء الله الجاري عليه موجود منه. فصل وحكم الله تعالى أن لا يعذب الخلق على ترك ما أمرهم به وإتيان ما نهاهم عنه إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل إليهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى} [الملك: 8 - 9]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36]؛ فبعث الله عز وجل في كل أمة رسولا بما أوجب عليهم من الإيمان به والانقياد لعبادته والتزام طاعته واجتناب معصيته، فكان من آخر المرسلين

فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع

بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد المرسلين وأمين رب العالمين وأكرم البشر وأفضل الأنبياء والرسل، بعثه الله إلى الخلق كافة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] بالمعجزات التي دلت على نبوته، وأوجبت العلم بصحة رسالته، فدعا إلى الإسلام والإيمان، ونهى عن عبادة غير الرحمن، وبين مجمل التنزيل، ودل على طرق العلم ووجوه التأويل؛ لأن الله تعالى فصل كتابه فجعل منه نصا جليا ومتشابها خفيا ابتلاء واختبارا ليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات بتدبرهم آياته واعتبارهم بها واستنباطهم منها الأحكام التي فرض الله عليهم امتثالها وتعبدهم بها؛ لأنه تعالى رد إليهم الأمر في ذلك بعد الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فجعل المستنبط من الكتاب علما والمصير إليه عند عدم النص والإجماع فرضا. فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع فأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه، أحدها كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والثاني سنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الذي قرن الله تعالى طاعته بطاعته وأمرنا باتباع سنته فقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]

فصل

والحكمة السنة. وقال. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. والثالث الإجماع الذي دل تعالى على صحته بقوله. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؛ لأنه عز وجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين فكان ذلك أمرا واجبا باتباع سبيلهم. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا فقال عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس؛ لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. فصل فإذا ثبت هذا فالكتاب ينقسم إلى قسمين مجاز وحقيقة. فالمجاز: ما تجوز به في اللفظ عن موضوعه، وهو في القرآن كثير، ينقسم على أربعة أضرب: زيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13]. ونقصان كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]،

فصل

وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29]. وتقديم وتأخير كقوله: {أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]، وإنما تقدير الكلام وحقيقته أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء. واستعارة كقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} [البقرة: 93] والإيمان لا يأمر في الحقيقة، وكقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، والصلاة لا تنهى في الحقيقة، وكقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] والموات لا تصح منه الإرادة، وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له في الحقيقة، وهو في القرآن كثير أكثر من أن يحصى عددا. وقد ذكر ابن خويز منداد من أصحابنا أن القرآن لا مجاز فيه. وحجته أن القرآن حق، ومحال أن يكون حقا ما ليس بحقيقة. وهو خطأ واضح؛ لأن الحق ليس من الحقيقة بسبيل؛ لأن الحق ضد الباطل، والحقيقة ضد المجاز. وقد يؤتى بحقيقة اللفظ ويكون الكلام باطلا ويؤتى بالمجاز فيه ويكون الكلام حقا نحو لو رأيت رجلا قد قاتل فأبلى بلاء عظيما فقلت رأيت اليوم أسدا قاتل فأبلى بلاء عظيما كنت قد قلت الحق ولم تأت بالحقيقة في اللفظ إذ عبرت عن الرجل بالأسد وليس بأسد على الحقيقة. ولو قلت قاتل فلان اليوم قتالا شديدا وهو لم يفعل لكنت قد قلت الباطل وأتيت بحقيقة اللفظ دون تجوز فيه. فصل والحقيقة تنقسم على قسمين: مفصل ومجمل.

فأما المجمل فهو ما لا يفهم المراد به من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فلا يفهم من لفظ الحق جنسه ولا مقداره إلا بعد البيان ومثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، و {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قد قيل في هذه الآيات إنها عامة وليست بمجملة، والصحيح أنها مجملة، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد قال الحج كله في كتاب الله، والصلاة والزكاة ليس لهما في كتاب الله بيان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك. وأما المفصل فإنه ينقسم على وجهين محكم ومنسوخ. فالمنسوخ: ما نسخ حكمه وبقي خطه، وهو في القرآن كثير، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13]، ومثل قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]. ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها. وأما المحكم: فإنه ما لم ينسخ، وهو ينقسم على قسمين محتمل وغير محتمل. فأما غير المحتمل فهو النص، وحده ما رقي في بيانه إلى أبعد غاية، مأخوذ من النص في السير وهو أبعده، وقيل إنه مأخوذ من منصة العروس التي ترفع عليها لتجلى للناس، وذلك مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]،

فصل

فهو نص في الثلاثة لا يحتمل غير ذلك، مثل قَوْله تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، و {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]. فصل ويجري مجرى النص عندنا ما عرف المراد به من جهة عرف التخاطب وإن لم يكن نصا، نحو قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، إذ ليس بنص في تحريم وطء الأمهات ولا بنص في تحريم أكل الميتة وإنما هو مجاز لأنه علق التحريم في الأمهات وسائر المحرمات على الأعيان، والمراد به تحريم الأفعال في الأعيان؛ لأن اللفظ إذا كثر استعماله فيما هو مجاز خرج عن حد المجاز ولحق بالمفصل لفهم المراد به من جهة عرف التخاطب، نحو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، ونحو ذلك. فقد علم وفهم من لغة العرب أن التحريم والتحليل إذا علق على عين من الأعيان فالمراد به تحريم الفعل المقصود [منه] فالمقصود من الميتة أكلها، والمقصود من النساء الاستمتاع بهن بالوطء فما دونه، وهو الذي وقع عليه التحريم دون ما سواه؛ لأنه الفعل المقصود منه. وإن قال له حرمت عليك الفرس فهم منه تحريم ركوبه لأنه المقصود منه، وإن قال حرمت عليك الجارية فهم منه تحريم الوطء. فصل وقد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة الإجمال في ذلك وليس بصحيح

فصل

لما قدمناه ومثله قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بطهور»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»، فإنه قد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة في ذلك الإجمال وذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر، والصحيح ما قدمناه لأنه يعرف بعرف التخاطب أن المراد بذلك نفي الانتفاع بالعمل دون نية لا نفي العمل بعد وقوعه وحصوله. فصل وأما لحن الخطاب فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به نحو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، معناه فأفطر فعدة من أيام أخر. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، معناه فحنثتم، فيجري مجرى النص سواء عند الجميع. وكذلك فحوى الخطاب مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] يفهم منه المنع من الضرب والشتم ويجري مجرى النص سواء في وجوب العمل به عند الجميع ولا خلاف في ذلك. فصل وأما المحتمل فإنه ينقسم على قسمين، أحدهما أن لا يكون أحد محتملاته

فصل

أظهر من الآخر. والثاني أن يكون أحد محتملاته أظهر من الآخر. فأما القسم الأول وهو أن لا يكون أحد محتملاته أظهر من الآخر فإنه يجري مجرى المجمل في أنه لا يصح امتثال الأمر به إلا بعد البيان. وأما القسم. الآخر وهو أن يكون بعض محتملاته أظهر من الآخر، نحو الأوامر التي ترد والمراد بها الوجوب والندب والإباحة والتعجب إلا أنها أظهر في الوجوب عند أكثر أصحابنا فتحمل عليه، ونحو ألفاظ العموم فإنها قد ترد والمراد بها الخصوص، وترد والمراد بها العموم، إلا أنها في العموم أظهر فتحمل عليه عند أكثر أصحابنا حتى يدل الدليل على تخصيصها. ويندرج تحت هذا النحو من الخطاب الحكم بالقياس لأنا قد استدللنا عليه بعموم قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وما أشبه ذلك أيضا من الألفاظ. ومن ذلك أيضا ألفاظ الحصر مثل إنما وما أشبه ذلك، الظاهر منها أنها ترد لتحقيق الحكم في المنصوص عليه ونفيه عما سواه فيحمل على ذلك، وإن كانت قد ترد لإيجاب الحكم في المنصوص عليه لا لنفيه عما سواه. فصل والسنة تنقسم على أربعة أقسام: سنة لا يردها إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهي ما نقل بالتواتر فحصل العلم به ضرورة، كتحريم الخمر، وأن الصلوات خمس، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالأذان، وأن القبلة هي الكعبة وما أشبه ذلك. وسنة لا يردها إلا أهل الزيغ والتعطيل، إذ قد أجمع أهل السنة على تصحيحها وتأويلها، كأحاديث الشفاعة والرؤية وعذاب القبر وما أشبه ذلك. وسنة توجب العلم والعمل وإن خالف فيها مخالفون من أهل السنة، وذلك نحو الأحاديث في المسح على الخفين وأن ما دون المسكر من الأنبذة حرام.

فصل في وجوب الحكم بالقياس

وسنة توجب العمل ولا توجب العلم، وهو ما ينقله الثقة عن الثقة، وهو كثير في كل نوع من أنواع الشرائع، وهو نحو ما أمر الله به من الحكم بشهادة الشاهدين العدلين وإن كان الكذب والوهم جائزا عليهما فيما شهدا به. فصل والإجماع لا يصدر إلا عن دليل، إما توقيف عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وإما استدلال من الكتاب والسنة، وإما اجتهاد، كنحو إجماعهم على جلد شارب الخمر وما أشبه ذلك. وهو ينقسم على قسمين: فمنه ما يجتمع فيه العلماء والعامة كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام. ومنه ما يجتمع عليه العلماء دون العامة غير أن العامة مجمعة على أن ما اجتمعت عليه العلماء من ذلك فهو الحق وهو فروع العبادات وأحكام الطلاق والحدود وما أشبه ذلك. فصل في وجوب الحكم بالقياس وأما الاستنباط وهو القياس فالتعبد به جائز في العقل واجب في الشرع. والذي يدل على أنه أصل من أصول الشرع الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، والاعتبار تمثيل الشيء بالشيء وإجراء حكمه عليه. روي عن ثعلب أنه فسر قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] بأن المراد به القياس وقال الاعتبار هو القياس وهو ممن يعول على قوله في اللغة والنقل عن العرب. ودليل آخر من الكتاب وهو أن الله تعالى كلفنا تنفيذ الأحكام وأعلمنا أن جميع ذلك في القرآن بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلما لم توجد

جميع الأحكام في القرآن نصا علمنا أنه أراد أنه نص على بعضها وأحال على الاستنباط و [هو] القياس في سائرها. فمن منع من الاستنباط وهو القياس فقد كذب بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] إذ لا يجوز له أن يدعي أنه نص على جميع الأحكام في القرآن نصا. ودليل آخر من الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] فوبخهم على إنكارهم النشأة الثانية مع أن لهم طريقا إلى معرفتها وهو القياس على النشأة الأولى التي يقرون بها وهي في معناها. ومثل ذلك: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] ومثله في القرآن كثير. وأما السنن الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فكثيرة أيضا ترفع العذر وتوجب القطع عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بالحكم بالرأي والاجتهاد وإقرار أصحابه على ذلك في زمنه ومع وجوده ونزول الوحي، فكيف به اليوم بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانقطاع الوحي. ومن ذلك «الخبر المشهور لمعاذ بن جبل حين أنفذه إلى اليمن حاكما فقال له بم تحكم قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسوله، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي. قال الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله.» ومن ذلك «قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى» فقاس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل

وجوب قضاء دين الخالق على وجوب قضاء دين المخلوق. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم» فأعلمهم بالعلة ليعتبروها. وهذا نص منه على وجوب الحكم بالقياس. «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم، فقال فلا إذا». ففي سؤاله إياهم هل ينقص الرطب إذا يبس دليل واضح على أنه إنما أراد بذلك تنبيههم على العلة في بيع الرطب بالتمر وتوقيفهم عليها ليعتبروها حيثما وجدوها، إذ لا جائز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهل أن الرطب إذا يبس ينقص، وإنما أراد أن يعلمهم أن معنى نهيه عن بيع التمر بالتمر متفاضلا موجود في بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل، وهذا بين. وروت أم سلمة أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «إني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل به وحي». ومصداق هذا الخبر في كتاب الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. فصل وأما الإجماع في ذلك فمعلوم حصوله وتقرره قبل خلق أهل الظاهر القائلين بنفيه. والدليل على ذلك أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - اختلفوا في أشياء كثيرة كتوريث الجد والعول في الفرائض وديات الأسنان وما أشبه ذلك، واحتج كل

فصل

واحد منهم على صاحبه لمذهبه بالقياس وشاع ذلك بينهم وذاع من غير نكير، ولو كان باطلا ومنكرا لتسارعوا إلى إنكاره على ما وصفهم الله تعالى به في كتابه حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ولو لم يوجد في ذلك إلا حديث عمر في أمر الوباء لصح به الإجماع، ووجب له الانقياد والاتباع، حين خرج إلى الشام بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان بسرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، فمنهم من قال له: أرى أن لا تفر من قدر الله، ومنهم من قال له: لا تقدم ببقية أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الوباء. ثم دعا الأنصار فاختلفوا كاختلاف المهاجرين قبلهم. ثم دعا من حضر من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه وأمروه بالرجوع، ولم يكن منهم أحد ذكر في ذلك آية من كتاب الله ولا حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل أشار كل واحد منهم عليه برأيه وما أداه اجتهاده إليه، ولم ينكر عليه أحد فعله، فقال عمر: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل في واد له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ فاعترض عليه أبو عبيدة بالرأي وجاوبه عمر بالرأي والقياس، ولم يحتج أحدهما في ذلك بكتاب ولا سنة ولا إجماع. ثم شاعت هذه القضية وذاعت ولم يكن في المسلمين من أنكر على واحد منهم القول فيها بالرأي، وما أعلم مسألة يدعى الإجماع فيها أثبت في حكم الإجماع من هذه المسألة، والتوفيق من عند الله. فصل فطريق التعبد به السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة دون دلالة العقول

فصل

على ما قدمناه. وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه واجب بالعقل، وأن الشرع ورد بتأكيد ما في العقل منه، ولو لم يرد فيه شرع لاكتفي بإيجاب العقل له. والصحيح أن العقل لا حظر فيه ولا إباحة. فصل وإنما منع من الحكم بالقياس أهل التعطيل والزيغ، فقال منهم قائلون إنه محال لا يصح ورود الشرع به، وقال داود وابنه ليس من المستحيل، ولو ورد في الشرع لكان جائزا ولكنه لم يرد به شرع. فمنهم من يدعي أنه لا نازلة إلا وفي الكتاب عليها نص، ومن بلغ هذا الحد فقد سقط تكليمه لأنه عاند الحق وجحد الضرورة، وإن كلمناه مسامحة أوردنا عليه نوازل مثل العول في الفرائض وتقدير أروش الجنايات، وتقويم المتلفات، ومقاسمة الجد الإخوة والأخوات، ومثل ثوب أطارته الريح في قدر صباغ، ودينار وقع في مجمرة رجل وما أشبه ذلك، وطالبناه بالنص على ذلك من الكتاب فلا شك في عجزه عن ذلك. والحذاق منهم يقرون أن النص لم يحط بجميع أحكام النوازل، وأن منها عفوا مسكوتا عنه لا حكم لله فيه، وأنه قد بين في الكتاب والسنة أنه لا حكم لله فيما سكت عنه. وقائل هذه المقالة لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يحكم في هذه النوازل عند نزولها بهواه فيقع في أشد مما أنكر علينا؛ لأنا لا نحكم فيها بالهوى وإنما نحكم فيها بأدلة الشرع؛ لأن الله تعالى قد نهى عن الحكم به فقال: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. وإما أن يترك الحكم فيها فيؤول ذلك إلى إبطال الأحكام ووقوع الحرب والقتال، وهو باطل بإجماع. ومنهم من يقول إن ما لا نص فيه فهو باق على حكم العقل من حظر وإباحة كل على مذهبه، وهذا باطل، إذ لا يمكن من جهته

فصل

تنفيذ الأحكام، ولو أمكن ذلك لما صح اعتقاده لأنه يبطل فائدة قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. فصل فالقياس هو حمل الفرع على الأصل في إثبات الحكم أو إسقاطه لعلة يدل الدليل على أن الحكم إنما ثبت في الأصل أو سقط منه لتلك العلة، وتكون تلك العلة موجودة في الفرع فيقتضي ذلك إلحاقه بالأصل في إثبات ذلك الحكم فيه أو إسقاطه منه. فصل فإذا علم الحكم في الفرع صار أصلا وجاز القياس عليه بعلة أخرى مستنبطة منه، وإنما سمي فرعا ما دام مترددا بين الأصلين لم يثبت له الحكم بعد. وكذلك إذا قيس على ذلك الفرع بعد أن ثبت أصلا بثبوت الحكم فيه فرع آخر بعلة مستنبطة منه أيضا فثبت الحكم فيه صار أصلا وجاز القياس عليه إلى ما لا نهاية له. وليس كما يقول بعض من يجهل أن المسائل فروع فلا يصح قياس بعضها على بعض، وإنما يصح القياس على الكتاب والسنة والإجماع. وهذا خطأ بين، إذ الكتاب والسنة والإجماع هي أصول أدلة الشرع، فالقياس عليها أولى، ولا يصبح القياس على ما استنبط منها إلا بعد تعذر القياس عليها. فإذا نزلت النازلة ولم توجد لا في الكتاب ولا في السنة ولا فيما أجمعت عليه الأمة نصا ولا وجد في شيء من ذلك كله علة تجمع بينه وبين النازلة ووجد ذلك فيما استنبط منها أو فيما استنبط مما استنبط منها وجب القياس على ذلك. فصل واعلم أن هذا المعنى مما اتفق عليه مالك وأصحابه ولم يختلفوا فيه على

فصل

ما يوجد في كتبهم من قياس المسائل بعضها على بعض، وهو صحيح في المعنى وإن خالف فيه مخالفون؛ لأن الكتاب والسنة والإجماع أصل في الأحكام الشرعيات كما أن علم الضرورة أصل في العلوم العقليات. فكما بني العلم العقلي على علم الضرورة أو على ما بني على علم الضرورة هكذا أبدا من غير حصر بعدد على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب. ولا يصح أن يبنى الأقرب على الأبعد، فكذلك العلوم السمعيات تبنى على الكتاب والسنة وإجماع الأمة أو على ما بني عليها أو ما بني على ما بني عليها بصحته هكذا أبدا إلى غير نهاية على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب ولا يصح بناء الأقرب على الأبعد. مثال هذا الذي ذكرناه أني أعلم نفسي ضرورة، فإذا علمتها ضرورة نظرت هل أنا محدث أو قديم، فعلمت بالنظر أني محدث. ولا يصح أن أنظر هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فعلمي بأني محدث علم نظري مبني على علم الضرورة، فإذا علمت أني محدث نظرت هل لي محدث أم لا، فعلمت بالنظر أن لي محدثا، فالعلم بأن لي محدثا علم نظري مبني على علم نظري مبني على علم الضرورة. فإذا علمت بأن لي محدثا نظرت هل محدثي قديم أو محدث فعلمت بالنظر أنه قديم وهو الله رب العالمين. فعلمي بأنه قديم علم نظري مبني على علم نظري وهو أن لي محدثا، والعلم بأن لي محدثا مبني على علم نظري وهو العلم بحدوثي، والعلم بحدوثي مبني على علم الضرورة وهو العلم بوجود نفسي. فصل والعلة الشرعية لا توجب الحكم في الأصل بنفسها وإنما توجبه بجعل صاحب الشرع لها علة. مثال ذلك أن السكر قد كان موجودا في الخمر ولم يدل

فصل

ذلك على تحريمها حتى جعله صاحب الشرع علة في تحريمها، فليست علة على الحقيقة، وإنما هي أمارة على الحكم وعلامة عليه. فصل والذي يدل على صحة العلة في الأصل الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتأثير وشهادة الأصول. والتأثير هو أن يعدم الحكم بعدم العلة في موضع ما. وشهادة الأصول هو مثل أن يستدل المالكي على الحنفي بأن القهقهة لا تنقض الوضوء في الصلاة كما لا تنقضه قبل الصلاة كالكلام فيطالب عن صحة العلة فيقول الأصول متفقة على التسوية بين الأمرين. فصل وهذا كله يرجع إلى وجهين: أحدهما: أن تكون العلة معلومة قد ثبتت بدليل قاطع لا يحتمل التأويل من نص، كقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم». أو تنبيه كقوله: «أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذا» أو دليل أولى كنهيه عن التضحية بالعوراء فإنه يدل على أن العمياء بذلك أولى. أو مفهوم من اللفظ من غير جهة الأولى كنهيه عن البول في الماء الدائم والأمر بإراقة السمن الذائب إذا ماتت فيه فأرة؛ لأن هذا يعرف من لفظه أن الدم مثل البول وأن الزيت مثل السمن الذائب. أو إجماع كإجماعهم على أن حد العبد إنما نقص لرقه وما أشبه ذلك. وهذا كله هو القياس الجلي، وإن كان بعضه أجلى من بعض. والثاني: أن تكون العلة مظنونة غير معلومة إذا لم تثبت بدليل قاطع لا

فصل

يحتمل التأويل كنحو ما عرف بالاستنباط وحمل عليه التأثير كالشدة المطربة في الخمر، فإنه لما وجد التحريم بوجودها وزال بزوالها دل على أنها هي العلة، ولا يقطع على ذلك؛ لأن أبا حنيفة يقول إنما حرمت لاسمها. وهو محتمل؛ لأن الاسم يوجد بوجود الشدة ويزول بزوالها. وكنحو علة الربا التي اختلف فيها الفقهاء وفي أوصافها وشروطها، فذهب كثير من المالكيين إلى أنها كون الجنس الواحد مطعوما مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت. وزاد بعضهم في صفات العلة أصلا للمعاش غالبا. وذهب كثير من الشافعيين إلى أن الطعم بانفراده هو العلة حتى حرم التفاضل في السقمونيا والطين الأرميني. وذهب الحنفيون إلى أن العلة فيه الكيل والوزن. فكل واحد من هؤلاء الفقهاء يغلب على ظنه ترجيح علته على علة صاحبه، وما منهم أحد يعلم أنها العلة ولا يدعي أن له عليها نصا من الكتاب أو السنة أو ما يقوم مقام النص من التنبيه. وإنما الدليل عليها عنده غلبة ظنه على صحتها فهي مظنونة والحكم بها إذا غلب على الظن صحتها معلوم مقطوع على وجوبه. وهذا النوع من القياس هو القياس الخفي. وكذلك العلة المنصوص عليها مظنونة أيضا إذا جاء النص عليها في السنة من طريق الآحاد والحكم بها معلوم. مثال هذا الذي ذكرناه وبيناه شهادة الشاهدين لا يقطع على عدالتهما وإنما يقال إنهما عدلان لغالب الظن. فإذا غلب على ظن الحاكم عدالة الشاهدين كان الحكم عند غلبة ظنه بذلك معلوما مقطوعا عليه. فصل فكل قايس حامل لأحد المعلومين على الآخر بالمعنى الجامع بينهما. وقالوا إنه على ثلاثة أضرب: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبهة. فقياس العلة نحو قياس الأرز على البر، وقياس النبيذ على الخمر، وقياس الأكل في رمضان

فصل

على الجماع، بالعلة الجامعة بين كل واحد من ذلك وبين صاحبه وما أشبه ذلك. وقالوا في قياس الدلالة إن ذلك مثل أن يستدل على منع وجوب سجود التلاوة بجواز فعلها على الراحلة، فإن جوازه على الراحلة من أحكام النوافل. ومثل أن يستدل بنظير الحكم على الحكم، فيقول الصبي لا تجب الزكاة في ماله فلا يجب العشر في زرعه، ولا يلزمه الظهار فلا يلزمه الطلاق. فيستدل بربع العشر على العشر، وبالظهار على الطلاق. وقالوا في قياس الشبه إنه يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين ويشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به. وذلك كالعبد يشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ويشبه البهيمة في أنه مملوك مقوم فيلحق بما هو أشبه به. وهذان القياسان يستندان إلى العلة وإن لم يكونا قياس علة على التحقيق، وبالله تعالى التوفيق. فصل والقياس لا يكون إلا ما رد إلى أصل، وهو أحد أقسام الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد يقع على ما رد إلى أصل وعلى ما لم يرد إلى أصل، نحو أروش الجنايات ونفقات الزوجات وما يحمل الرجل من العاقلة من الديات وما أشبه ذلك. فكل قايس مجتهد وليس كل مجتهد قايسا، فالاجتهاد أعم من القياس. فأما الرأي فهو اعتقاد إدراك صواب الحكم الذي لم يرد فيه نص فلا يكون إلا بعد كمال الاجتهاد. فصل وكل ما ذكرنا من أصول الدين وأصول الفقه وأقسام الكتاب ومعاني الخطاب ووجوب العمل بالقياس وتبيين وجوهه وشرح معانيه مما يحتاج إليه ولا يستغني عنه من انتدب إلى ما ندب الله إليه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التفقه في دينه والعلم بشرائعه وأحكامه.

فصل في وجوب طلب العلم

فصل في وجوب طلب العلم وطلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد، أوجبه الله تعالى على الجملة فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ومن للتبعيض. فإذا قام به بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم، إلا ما لا يسع الإنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصومه وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، فإن ذلك واجب عليه لا يسقط عنه الفرض فيه معرفة غيره به. وكذلك من كان فيه موضع للإمامة والاجتهاد فطلب العلم عليه واجب قاله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقد سئل عن طلب العلم أواجب هو أم لا فقال أما على كل الناس فلا. وروي عنه أن ابن وهب كان جالسا معه فحضرت الصلاة فقام إليها فقال له: ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه. وهذا كلام فيه نظر، كيف يكون طلب العلم على أحد أوجب عليه من صلاة الفريضة، فالمعنى في ذلك عندي إن صحت الرواية أنه أراد ما الذي قمت إليه بأوجب عليك في هذا الوقت من الذي قمت عنه؛ لأن الصلاة لا تجب بأول الوقت إلا وجوبا موسعا، فأراد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن اشتغاله بتقييد ما يخشى فواته من العلم آكد عليه من البدار إلى الصلاة في أول الوقت. فصل وكما يجب على المتعلم التعلم فكذلك يجب على العالم التعليم. قال الله عز وجل: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، ويقرأ تعلمون وتعلمون بمعنى تتعلمون فتجمع القراءات الثلاث العلم والتعلم والتعليم. وقال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]،

فصل

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159]، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بلغوا عني ولو آية»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب». وروي عن أبي ذر أنه قال لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها. فصل ولا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على الطلب، كما حكى الله تعالى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وقال سعيد بن المسيب إني كنت لأرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي وبذلك ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أقمت خمس عشرة سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز وأقيم عنده إلى صلاة الظهر مع ملازمته لغيره وكثرة عنايته، وبذلك فاق أهل عصره وسمي إمام دار الهجرة. وأقام ابن القاسم متغربا عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنة حتى مات مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ورحل سحنون أيضا إلى ابن القاسم فكان مما قرأ عليه مسائل المدونة والمختلطة ودونها فحصلت أصل علم المالكيين، وهي مقدمة على غيرها من الدواوين بعد موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ويروى أنه ما بعد كتاب الله كتاب أصح من موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة. والمدونة هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل

فصل

النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، وموضعها من الفقه موضع أم القرآن من الصلاة، تجزئ من غيرها ولا يجزئ غيرها منها. وكانت مؤلفة على مذهب أهل العراق، فسلخ أسد بن الفرات منها الأسئلة وقدم بها المدينة ليسأل عنها مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويردها على مذهبه، فألفاه قد توفي، فأتى أشهب ليسأله عنها فسمعه يقول أخطأ مالك في مسألة كذا وأخطأ في مسألة كذا، فتنقصه بذلك وعابه ولم يرض قوله فيه وقال ما أشبه هذا إلا كرجل بال إلى جانب البحر فقال هذا بحر آخر، فدل على ابن القاسم فأتاه فرغب إليه في ذلك فأبى عليه، فلم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله فجعل يسأله مسألة مسألة، فما كان عنده فيها سماع عن مالك قال سمعت مالكا يقول فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده من مالك فيه إلا بلاغ قال لم أسمع من مالك في ذلك شيئا وبلغني عنه أنه قال فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده سماع ولا بلاغ قال لم أسمع من مالك في ذلك شيئا ولا بلغني والذي أراه فيه كذا وكذا حتى أكملها. فرجع إلى بلده بها فطلبها منه سحنون فأبى عليه فتحيل سحنون حتى صارت الكتب عنده فانتسخها ثم رحل بها إلى ابن القاسم فقرأها عليه فرجع منها من مسائل وكتب إلى أسد بن فرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون. فأنف أسد من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابن القاسم فدعا عليه أن لا يبارك له فيها، وكان مجاب الدعوة، فأجيبت دعوته ولم يشتغل بكتابه ومال الناس إلى قراءة المدونة ونفع الله بها. وكان سحنون إذا حث على طلب العلم والصبر عليه تمثل بهذا البيت: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا فصل ومن أفضل ما يستعان به على الطلب تقوى الله العظيم فإنه عز وجل يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].

فصل

فصل ويجب على طالب العلم أن يخلص النية لله تعالى في طلبه، فإنه لا ينفع عمل لا نية لفاعله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نية المؤمن خير من عمله». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، ويجب عليه أيضا أن لا يريد بتعلمه الرياء والسمعة ولا عرضا من أعراض الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: مَنْ {كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. وروي أن رهطا من أهل العراق مروا على أبي ذر فسألوه فحدثهم ثم قال لهم هل تعلمون أن هذه الأحاديث التي يبتغى بها وجه الله لن يتعلمها أحد يريد بها عرض الدنيا يجد عرف الجنة. وعرفها ريحها. وروي عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد

اجتمع الناس عليه فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة. قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فكلما سكت وخلا قلت له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في هذا البيت عقلته وعلمته، ثم نشع أبو هريرة نشعة فسكت قليلا ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشع أبو هريرة نشعة أخرى ثم نكس حتى أفاق فمسح وجهه ثم قال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشع أبو هريرة نشعة شديدة ثم مال خارا على وجهه فاشتد به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم فكل أمة جاثية فأول ما يدعي به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال والصدقة. فيقول الله تعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ماذا عملت فيما علمت، فيقول كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت، ثم يقول الله له أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول بلى يا رب. فيقول فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت، ويقول الله له بل أردت بذلك أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله. فيقال له في ماذا قتلت؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت وبقول الله له بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيه فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم

فصل

النار يوم القيامة.» وحدث شفي بهذا الحديث معاوية فقال: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس فبكى حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق فمسح على وجهه وقال صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ} [هود: 15 - 16] الآية وروي عن مجاهد أنه قال في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] إنه الرياء. فصل وهذا الوعيد والله أعلم إنما هو لمن كان أصل عمله الرياء والسمعة فأما من كان أصل عمله لله تعالى وعلى ذلك عقد نيته فلا تضره إن شاء الله الخطرات التي تقع بالقلب ولا تملكه. وقد سئل مالك وربيعة عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوء فأما ربيعة فكره ذلك وأما مالك فقال إذا كان أول ذلك وأصله لله تعالى فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى قال الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84]؛ وقال عمر بن الخطاب لابنه: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا إذ أخبره بما كان وقع في نفسه من أن الشجرة التي مثلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجل المسلم وسأل أصحابه عنها فوقعوا في شجر البوادي هي النخلة. قال: فأي شيء هذا إلا هذا فإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك، فهذا إنما يكون من الشيطان ليمنعه من العمل، فمن وجد ذلك فلا يكسل عن التمادي في فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع ويجدد النية لذلك ولقد روي عن بعض المتقدمين أنه قال طلبنا العلم لغير الله فردنا لله. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ما يؤيد ما ذهب إليه مالك. وقع في جامع المستخرجة

فصل

في سماع ابن القاسم من «رواية معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل فمنهم من القتال طبيعته ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة فقال يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة». وروي «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له أجر السر وأجر العلانية. » فصل ويجب على من تعلم العلم أن يعمل به، فإن لم يعمل به كان حجة عليه يوم القيامة وحسرة وندامة. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وسيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته، ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي، ابن آدم ما غرك بي، ابن آدم ما عملت فيما علمت، ابن آدم ماذا أجبت المرسلين» وروي عن أبي الدرداء أنه قال: من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه. وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها» فصل وكان العلم في الصدر الأول والثاني في صدور الرجال، ثم انتقل إلى جلود

فصل

الضأن وصارت مفاتحه في صدور الرجال، فلا بد لطالب العلم من معلم يفتح عليه ويطرق له. وقد قال بعض الحكماء: العلم يفتقر إلى خمسة أشياء متى نقص منها شيء نقص من علمه بقدر ذلك، وهي ذهن ثاقب، وشهوة باعثة، وعمر طويل، وجدة، وأستاذ. وله خمس مراتب، أولها أن تنصب وتسمع، ثم أن تسأل فتفهم ما تسمع، ثم أن تحفظ ما تفهم، ثم أن تعمل بما تعلم؟ ثم أن تعلم ما تعلم. فصل وطلب العلم إذا أريد به وجه الله تعالى وأخلصت النية فيه لله من أفضل أعمال البر وأجل نوافل الخير. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]؛ جاء في التفسير أنه الفقه في دين الله. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». وقال: «من سلك طريقا يطلب فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة». وروي «أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع». وقال أبو هريرة: من غدا أو

فصل

راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما. وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر». فنص في هذا الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد، ومعناه في الموضع الذي يكون الجهاد فيه فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به؛ لأنه يكون له نافلة. وأما القيام بفرض الجهاد أو الجهاد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم والله أعلم. وظاهر الحديث يدل على أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها» معناه في الفرائض، وأما في النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث المذكور والله أعلم. وقد سئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه القعود معهم أحب إليك في ذلك أم الصلاة؟ فقال بل الصلاة. وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي اختلافا من قوله. ومعناه أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، والصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة نفسه من صفة وضوئه وصلاته وصيامه. وقال سحنون يلزم أثقلهما عليه. فصل والأجر في العناية بالعلم على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته». والله تبارك وتعالى قد قسم بين عباده الأعمال وتفضل عليهم بالثواب. روي أن بعض العباد كتب إلى مالك يحضه

فصل في تحرير القول في الإيمان والإسلام

على الانفراد وترك مجالسة الناس، فكتب إليه مالك يقول: إن الله قد قسم بين عباده الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصيام، ورب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الصلاة، ورب رجل فتح له في كذا ولم يفتح له في كذا فعدد أشياء ثم قال وما أظن ما أنت فيه بأفضل مما أنا فيه، وكلانا على خير إن شاء الله والسلام. فصل في تحرير القول في الإيمان والإسلام ولا يصح شيء من العبادات إلا بعد الإقرار بالمعبود والتصديق به. فأول الواجبات الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وكل ما جاءوا به من عنده. والإيمان هو التصديق الحاصل في القلب قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]. وأما الإسلام فهو إظهار الإيمان والإعلان به، مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد؛ لأن من أظهر الإيمان فقد انقاد واستسلم لجريان حكمه عليه. فكل مؤمن مسلم؛ لأن من اعتقد الإيمان في الباطن فهو معلن به في الظاهر. وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن المنافق والزنديق يظهران الإسلام ويعتقدان الكفر، فهما مسلمان في الظاهر كافران في الباطن. فالإسلام أعم من الإيمان. وهذا في بلد الإسلام وحيث يجب على المؤمن إظهار إيمانه ولا يحل له كتمه. وأما في بلد الحرب إذا أكره على الكفر فواجب عليه إذا خاف على نفسه فأظهر الكفر أن يعتقد الإيمان بقلبه، فيكون إذا فعل ذلك مؤمنا غير مسلم؛ لأن الله تبارك وتعالى قد سماه مؤمنا في كتابه فقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28]، وقال: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وليس بمسلم

فصل

إذ لم يستسلم بإظهار الإيمان. وقد قيل إن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنى واحد، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله عز وجل وقوله الحق: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36]، وهذا لا حجة فيه؛ لأن المؤمنين إذا أظهروا الإيمان مسلمون بإظهار الإيمان كما بيناه والدليل على أن الإيمان غير الإسلام قول الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أي انقدنا {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فنفى عنهم الإيمان الحاصل في القلب وأوجب لهم الإسلام الذي هو الانقياد بإظهار الإيمان دون اعتقاده. وما روي أيضا «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صورة أعرابي وقال: يا محمد ما الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره. قال فما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. قال صدقت.» ففرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الإيمان والإسلام بأن جعل الإيمان من أفعال القلوب الباطنة والإسلام من أفعال الجوارح الظاهرة. فالإيمان خصلة من خصال الإسلام التي ينقاد بها المكلف لأمر الله تعالى كما ينقاد للصوم والصلاة والحج وسائر العبادات. فصل فهذا هو الإيمان في الشرع. وأما في اللغة فكل من ظهر منه التصديق يسمى مؤمنا. فالمسلم في اللغة مؤمن، ويصح أن يسمى في الشرع مؤمنا مجازا؛ لأن إظهار الشهادة يدل على الإيمان، فيحكم لمن أظهرها بحكمه في الدنيا لا أنه إيمان ينتفع به في الآخرة. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه، ويصح على هذا أن يسمى ما يظهر من أعمال الطاعات كلها إيمانا لأنها دالة على الإيمان ومن أفعال المؤمنين وسجاياهم. ووجه آخر أيضا صحيح جيد، وهو أن أعمال

فصل

الطاعات كلها لا تكون طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها، ومتى لم يقارنها لم تكن طاعة ولا قربة، فسميت الطاعات باسم الأصل الذي لا يثبت لها الحكم بأنها طاعة وقربة إلا به. وهذا بين في المعنى وعليه يحمل قول من قال من أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح. وما روي أن معنى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت مقارنة للإيمان ولذلك حصل الانتفاع بها والجزاء عليها، فبان بما قلناه وأوردناه أن أنفس الطاعات من الأقوال والأفعال إذا لم يصح أن تسمى طاعات إلا بمقارنة الإيمان لها فلا يصح أن يقال إنها غير الإيمان، إذ لا يصح مفارقتها له، ولا أنها الإيمان كالصفة القديمة لا يصح أن يقال إنها هي الموصوف ولا أنها غيره. فصل وأما قول من قال من أهل السنة إن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال ففيه تأويلان: أحدهما أن المعنى في ذلك أن ثواب الإيمان يزيد مع الطاعة وينقص مع تركها، بمعنى أنه يتجرد ثواب الإيمان عن ثواب الطاعة إذا تركها إلى مباح أو معصية، فلا يكون ثواب الإيمان في حال الصلاة كثوابه في حال الجلوس ولا كثوابه في حال المعصية. يؤيد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»، أي ليس هو في تلك الحال مؤمنا يثاب على إيمانه فيها مثل ما كان يثاب عليه لو كان في عمل مباح أو مندوب إليه أو واجب على هذا يحمل الحديث إذ لا يصح أن يقال إن المؤمن في حال المعصية منسلخ عن الإيمان. وقد قيل في معنى هذا الحديث إن الإيمان إيمانان، فإيمان يؤمن به من الخلود في

النار، وإيمان يؤمن به من دخول النار. فالإيمان الذي يؤمن به من دخول النار هو الإيمان الذي لا معصية معه، والإيمان الذي يؤمن به من الخلود في النار هو الإيمان الذي معه المعاصي. فالزاني والسارق في حال السرقة والزنا ليس بمؤمن الإيمان الذي يؤمن به من دخول النار؛ لأنه في تلك الحال مصر على المعصية غير تائب منها، فإنما نفي عنه على هذا التأويل الإيمان الممدوح. وقد كان بعض الشيوخ يرويه لا يشرب بكسر الباء على معنى الأمر يقول إذا كان مؤمنا فلا يشرب الخمر ولا يسرق ولا يزن. وقد قيل في معنى الحديث إن الإيمان لما كان مضمناته التصديق بالوعيد بالعقاب على هذه الكبائر صار كالمناقض للشهوة الباعثة عليها فأيهما غلب صاحبه نفاه. فلما كان مرتكب الكبائر في حال ارتكابه إياها قد غلبت شهوته تصديقه وخوفه جاز أن يوصف بانتفاء الإيمان عنه على ضرب من التوسع والمجاز. وقد قيل إن معنى الحديث إنما هو فيمن زنى أو سرق وهو مستحل لذلك. والتأويل الثاني في معنى زيادة الإيمان بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصان الأعمال أنه يزيد بتكراره بفعل الطاعة لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا مع مقارنة الإيمان لها، فإذا كثر عمله زادت أجزاء إيمانه بتكررها، وإذا نقص عمله نقصت أجزاء إيمانه على قدر ما كانت تكون لو كثر عمله. وهذا كما يقال نقص ماء العين وزاد. على هذا التأويل لا يخرج الكلام عن الحقيقة إلى المجاز بخلاف التأويل الأول؛ لأن حقيقة المراد بالزيادة في الشيء هو أن يضاف إليه غيره، وحقيقة المراد بالنقصان منه هو أن ينقص منه بعض أجزائه. وأما الشيء الواحد فلا ينقص في نفسه ولا يزيد في نفسه لأن ذلك من المحال.

فصل

فصل وقد نص الله تبارك وتعالى على زيادة الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. ومعنى ذلك زيادة اليقين في الإيمان والبعد من دخول الشك فيه عليه؛ لأن آيات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقواله وما ينزل عليه يصدق بعضه بعضا، وذلك يوجب زيادة اليقين في الإيمان والاستبصار في التمسك به والبعد من دخول الشك عليه فيه. فصل فالإيمان يتفاضل في زيادة اليقين والقوة فيه والعلم به والبعد من دخول الشك عليه فيه، فكلما قوي اليقين بالله والعلم به لمن عرفه كان أبعد من طرو الشكوك عليه، فليس من آمن بالله ولم يعرفه بالاستدلال عليه كمن عرفه به، ولا من عرفه بوجه واحد من وجوه الأدلة كمن عرفه من وجوه كثيرة، ولا من عرفه بالأدلة دون معاينة الآيات كمن شاهدها وعاينها بحضرة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في قوة اليقين في القلب وبعده عن أن يفتن فيه أو يزيغه الشيطان عنه. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أصحابي من الإيمان في قلبه أثبت من الجبال الرواسي». وقال في بعض أصحابه أراه أبا بكر: «لو رفع له الغطاء ما زاد يقينا». ويروى أن عمر بن الخطاب أتاه منكر ونكير فقالا له: من ربك وما دينك، فقال لهما أما أنا فالله ربي والإسلام ديني ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيي، وأنتما فمن ربكما وما دينكما ومن نبيكما؟ فنظر بعضهما إلى بعض فقالا إنه عمر وانصرفا عنه. فهل

فصل في زيادة الإيمان ونقصانه

يساويه أحد من أهل هذا الزمان في قوة اليقين هذا ما لا يكون والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل في زيادة الإيمان ونقصانه يكون على هذه الوجوه الثلاثة زيادة في اليقين وزيادة في العدد وزيادة في الثواب، وهو أبعد التأويلات؛ لأن الكلام يحمل في هذا التأويل على المجاز، وحمله على الحقيقة أولى. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان ويكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته. فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني، إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وهو ينقص الإيمان يزيد وينقص. وهو الصحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل فهذا هو حقيقة القول في الإيمان والإسلام على مذاهب أهل السنة. وذهبت المعتزلة إلى أن الإيمان هو فعل الواجبات من العبادات وترك المحظورات، وأنه قد نقل هذا الاسم في الشرع على مقتضى اللغة وجعل اسما لجميع الواجبات وترك المحظورات، فكفروا المسلمين بالذنوب، وقال منهم قائلون إنه اسم في الدين لجميع الطاعات فرائضها ونوافلها، وقالت طائفة من المرجئة إن الإيمان هو الإقرار باللسان وإن وجد مع عدم المعرفة، وهذا كله باطل يرده القرآن. فصل وهذا الذي قلناه من أن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى هو على مذهب من

يرى أن الإيمان بالله هو التصديق الحاصل في القلب وليس من شروط صحته المعرفة هو الذي اختاره القاضي أبو الوليد الباجي واحتج له. وأما على مذهب من رأى أن الإيمان بالله تعالى لا يصح إلا بعد المعرفة فيقول إن أول الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري في كتابه فبوب باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم، وهو الذي ركن إليه القاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه قال: إن الإيمان هو العلم، وكل مؤمن بالله فهو عالم به. والذي ذهب إليه أن من لم يكن عالما بالله تعالى فهو جاهل به، والجاهل بالله تعالى كافر به. وليس ذلك ببين؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله تعالى إلى الاعتبار به في غير ما آية من كتابه. ومن قال إن الإيمان بالله هو العلم به، والعلم به لا يصح إلا بالنظر والاستدلال فأول الواجبات عنده النظر والاستدلال. وقد قال القاضي أبو بكر المذكور في بعض كتبه إن الإيمان ليس هو العلم، وإنما سبيله أن يتضمن العلم، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، والتصديق هو من قبيل الأقوال التي تكون في النفس ويعبر عنها تارة بالقول، وذلك القول الموجود بالقلب لا يصح وجوده مع الجهل ولا بد أن يكون متضمنا للعلم. قال بعض من تكلم على قوله من الفقهاء: وهذا هو التحقيق الذي يمر مع النظر. وقد حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن شيخه القاضي أبي جعفر السمناني أنه كان يقول: القول بأن النظر أول الواجبات مسألة من مسائل الاعتزال بقيت في المذهب عند من التزمها؛ لأن من جعله أول الواجبات أوجبه

بالعقل، إذ لا يصح أن يعلم أحد أن الله أوجب عليه النظر وهو لا يعلم الله إلا بعد النظر. ومن أصول أهل السنة أن العمل لا حظر فيه ولا إباحة. وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الشيء الواجب في ذاته لا يخرجه عن الوجوب في حق أحد جهله بمعرفة وجوبه عليه. ألا ترى أن الإيمان واجب بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات، [فكما يكون الإيمان واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات]، فكذلك يكون النظر واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات. وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلدين مؤمنين. قال فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال وأيضا لو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم لا يحل لكم قتلنا لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل، وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم وأن لا يقاتلوا حتى ينظروا ويستدلوا. قال ولا خلاف في بطلان هذا. وهذا لا يلزم لأن من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات لا يقفهما على الحد الذي رتبه أهل الكلام من الاستدلال بالأعراض المتوالية على الأجسام على حدوث العالم وإثبات محدثه على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، بل يقول إنه يعرف ذلك بأول بديهة العقل؛ لأن العاقل إذا نظر إلى السماء والأرض واختلاف الليل والنهار وإلى نفسه واختلاف أحواله وخروجه من العدم إلى الوجود علم أن لذلك كله خالقا ومدبرا ليس كمثله شيء. والذي أقول به إن النظر والاستدلال على هذا الوجه هو أول الواجبات عند من جعل النظر أول الواجبات، ويصح به الإيمان لأن اليقين يحصل به وإن لم يقع به العلم، إذ لا يقع العلم إلا بعد إمعان النظر، وقد يصح تيقن المعتقد من غير علم. فمن آمن بالله بتقليد أو نظر يحصل به اليقين أو يقع به العلم فهو مؤمن

فصل

حقيقة، وإن كانت مرتبة من آمن بالله وعلمه بالنظر والاستدلال أرفع من مرتبة من آمن به بيقين حصل عنده من غير علم. فصل فإذا قلنا إن أول الواجبات الإيمان بالله وهو التصديق به وبما أخبر به عن نفسه من صفات ذاته وأفعاله، فإن النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى واجب أيضا أوجبه الله على عباده وافترضه عليهم وتعبدهم به كسائر العبادات الواجبات. والدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية، وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية، ومثل هذا في القرآن كثير. ومن الدليل أيضا على وجوب النظر والاستدلال أن الله تعالى قد أوجب المعرفة به وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17]، والعلم بشيء من ذلك لا يصح إلا من جهة

فصل

النظر والاستدلال، وما لا يصح الواجب إلا به فهو واجب مثله. فمن عرف الله تعالى بالأدلة التي نصبها لمعرفته فهو مؤمن، ومرتبته في الإيمان أرفع من مرتبة من آمن به من غير علم. قال الله عز وجل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فصل فكل عالم بالله مؤمن وليس كل مؤمن بالله عالما به. فصل وقولنا إن الإيمان شرط في جميع العبادات ليس على الإطلاق؛ لأن ما يصح فعله بغير نية من العبادات يصح مع عدم الإيمان إذا قلنا إن الكافر متعبد بشرائع الإسلام، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف. وكذلك النظر الموجب إلى معرفة الله تعالى عند من جعله أول الواجبات ليس من شرطه الإيمان ولا النية، وقد دللنا على فساد هذا القول. فصل والعبادات لا تفتقر إلى النية إلا بخمسة شروط: أحدها أن تكون فعلا أو تركا تختص بزمن معلوم مؤقت كالصيام، فإن كانت العبادة تركا لا تختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وما أشبه ذلك لم تفتقر إلى نية. والثاني أن تكون العبادة مما يصح أن تفعل لله ويصح أن تفعل لغيره. فإن كانت العبادة مما لا يصح أن تفعل إلا لله كإرادة التقرب إليه بالعبادة، أو كانت مما لا يصح أن يفعل إلا لغير الله كالنظر المؤدي إلى معرفة الله عند من جعله أول الواجبات لم يفتقر ذلك

إلى نية. والثالث أن تكون العبادة واجبة لحق الله كالصلاة والزكاة والصيام، فإن كانت واجبة لحق مخلوق لم تفتقر إلى نية، كقضاء الديون وأداء الودائع والأمانات، وبر الآباء والأمهات، وما أشبه ذلك من العبادات. والرابع أن لا تكون العبادة واجبة لعلة ترتفع بامتثال العبادة دون نية، فإن كانت واجبة لعلة ترتفع بامتثالها دون نية لم تفتقر إلى نية، كالاستنجاء وغسل النجاسات من الثياب والأبدان وما أشبه ذلك. والخامس أن تكون العبادة يفعلها المتعبد بها في نفسه، فإن كانت مما يفعلها في غيره لم تفتقر إلى نية، كغسل الميت، وغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ومن وضأ غيره؛ لأن النية إنما تجب على الموضأ لا على الموضئ، وهذا بين وبالله التوفيق.

فصل في أحكام الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصل في أحكام الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات وأحكام الشريعة تنقسم على خمسة أقسام: واجب، ومستحب، ومباح، وحرام، ومكروه. فالواجب حده ما حرم تركه، وقيل ما توعد الله على تركه وترك بدله إن كان له بدل بالعقاب، والأول أخصر وهذا أبين. وفائدة هذا التقييد أن من العبادات ما لا بدل له كغسل الوجه فيستحق العقاب بتركه، ومنها ما له بدل كغسل الرجلين فلا يستحق العقاب إلا بترك الغسل والمسح على الخفين الذي هو بدل الغسل. وله خمسة أسماء: واجب، وفرض، وحتم، ولازم، ومكتوب؛ وكلها قائمة من القرآن. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام واجب بالقرآن، وواجب بالسنة، وواجب بالإجماع، وهي كلها سواء في لحوق الإثم بترك الامتثال. وإنما يفترق في قدر ما يتوعد به على الترك، فرب ذنب أعظم من ذنب وإن كان الأصغر إذا انفرد عظيما. والواجب والفرض عندنا سواء خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من أن الفرض آكد من الواجب، وأن الفرض ما وجب بالقرآن والواجب ما وجب بالسنة والإجماع.

فصل

والمستحب ما كان في فعله ثواب ولم يكن في تركه عقاب فبالوصف الأول بان من المكروه والمباح والمحظور، إذ ليس في شيء من ذلك كله ثواب، ووافق الواجب. وبالوصف الثاني بان من الواجب ووافق المكروه والمباح والمحظور. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: سنن، ورغائب، ونوافل. فالسنن ما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله واقترن بأمره ما يدل على أن مراده به الندب أو لم تقترن به قرينة على مذهب من يحمل الأوامر على الندب ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب. أو ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعله، بخلاف صفة النوافل. والرغائب ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعله بصفة النوافل أو رغب فيه بقوله من فعل كذا فله كذا. والنوافل ما قرر الشرع أن في فعله ثوابا من غير أن يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به أو يرغب فيه أو يداوم على فعله. والمباح ما لم يكن في فعله ثواب ولا في تركه عقاب، نحو القيام والجلوس والحركة والسكون والاستمتاع بالمباحات من المطعم والملبس والمركب وما أشبه ذلك. والحرام ضد الواجب، وهو ما توعد الله على فعله بالعقاب. والمكروه ضد المستحب وهو ما كان في تركه ثواب ولم يكن في فعله عقاب، وهو المتشابه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات» الحديث. فصل والعبادات التي لها هذه الأحكام تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يتوجه إلى القلوب. وقسم منها يتوجه إلى الأبدان. وقسم منها تشترك فيه القلوب والأبدان. فالذي يتوجه منها إلى القلوب خمسة أجناس: نظر، واعتقاد، وعلم، وظن، وإرادة. والذي يتوجه منها إلى الأبدان: ما لم يفتقر في امتثاله إلى نية. والذي تشترك فيه القلوب والأبدان ما افتقر في أدائه إلى نية، وقد تقدم بيان ذلك.

فصل

فصل فمن العبادات المتوجهة إلى الأبدان أو إلى القلوب والأبدان على ما بيناه طهارة الثياب والأجسام. وأصل الطهارة في اللغة النظافة والنزاهة؛ ولذلك كانت العرب تستعملها في الطاهر دون النجس فيفترق بين الأمرين. ومنه قول الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي قلبك فنق من الآثام والأدناس. ومنه قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] أي ينزهكم عن الدناءة ويبعدكم عنها ويعلي درجاتكم. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] معناه نزهك وأبعدك مما قذفت به ورفع درجتك. فصل والطهارة في الشرع من هذا المعنى مأخوذة، وهي تنقسم على وجهين: طهارة لإزالة نجاسة، وطهارة لرفع حدث. فأما الطهارة لإزالة النجاسة فحدها إزالة النجاسة، وهي من العبادات المتوجهة إلى الأبدان دون القلب، إذ لا تفتقر في أدائها إلى نية. واختلف فيها فقيل إنها فرض، وقيل إنها سنة، وقيل إنها استحباب، وليس ذلك بصحيح على ما أصلناه. وقيل إنها فرض مع القدرة والذكر تسقط مع النسيان، كالكلام في الصلاة، وستر العورة فيها. وهذا غير صحيح على ما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما الطهارة لرفع الحدث فإنها من العبادات المتوجهة إلى الأبدان والقلوب لافتقارها إلى النية على مذهب مالك والشافعي. وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: غسل، ووضوء، وبدل منهما عند عدم القدرة عليهما وهو التيمم. ومن الناس من يذهب إلى أنه لا يصح أن يقال في التيمم على مذهب مالك إنه بدل من الوضوء

فصل

لأنه لا يرفع الحدث عنده على الإطلاق كما يرفعه الغسل والوضوء، وإن كان يستباح به عنده جميع ما يستباح بالوضوء من الفرائض والنوافل. والأظهر أنه بدل منه على مذهبه لأنه يستباح به عنده جميع ما يستباح بالغسل والوضوء، وإنما لم يرفع الحدث عنده لأن الأصل كان إيجاب الوضوء. والتيمم عند عدم الماء لكل صلاة بظاهر قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فخرج من هذا الظاهر الوضوء بما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على الأصل فلم يقس على الوضوء لأن البدل لا يقوى قوة المبدل منه. والله أعلم. ولا اختلاف في أنه بدل من الوضوء عند من رأى أنه يرفع الحدث على الإطلاق أو إلى أن يجد الماء، ولا في أنه استباحة للصلاة عند من رأى أنه لا يصلى به سوى الفريضة خوف فوات وقتها. فصل فأما الغسل فإنه يتنوع: فمنه واجب، ومنه مسنون، ومنه مستحب. فالواجب منه الغسل من الجنابة والحيضة والنفاس، والمسنون منه غسل الجمعة، والمستحب منه غسل العيدين، وغسل المستحاضة إذا ارتفع عنها دم الاستحاضة، والغسل للإحرام ولدخول مكة وللوقوف بعرفة. فصل وكذلك الوضوء أيضا منه واجب ومنه مسنون ومنه مستحب. فالواجب منه ما يفعل لما لا يصح فعله إلا بطهارة من الفرائض والسنن والنوافل، لا يتنوع تنوعها لأنه لا يراد لنفسه وإنما يجب لغيره، فلا يقال فيه إنه واجب على الإطلاق، وإنما يقال إنه واجب لكذا بمعنى أنه شرط في صحة ذلك الفعل، وغير واجب لكذا بمعنى أنه غير شرط في صحته. والمسنون منه وضوء الجنب إذا أراد أن ينام.

فصل في معرفة اشتقاق الوضوء

والمستحب منه الوضوء للنوم، ووضوء المستحاضة والذي يسلس منه البول لكل صلاة. وتجديد الوضوء أيضا لكل صلاة مستحب مرغب فيه. فصل في معرفة اشتقاق الوضوء الوضوء مشتق من الوضاءة وهي النظافة أيضا والحسن. ومنه قيل فلان وضيء الوجه أي نظيفه. فكأن الغاسل لوجهه أو لشيء من أعضائه وضأه أي نظفه بالماء وحسنه. والوضوء في اللغة يقع على غسل العضو الواحد فما فوقه، والدليل على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفصلا من أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم ويصح البصر. وسمى غسل اليد وضوءا. وأما في الشرع إذا أطلق فلا ينطلق إلا على غسل جملة أعضاء على وجه مخصوص، وهو يشتمل على فروض وسنن ومستحبات على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل فيما يجب منه الوضوء ويجب الوضوء من تسعة أشياء على اتفاق في المذهب، وهي المذي، والودي، والبول، والغائط، والريح إذا خرج ذلك كله على العادة، سواء خرج الريح بصوت أو بغير صوت. والقبلة مع وجود اللذة أو القصد إليها، والمباشرة، واللمس مع وجود اللذة، وزوال العقل بنوم مستثقل أو إغماء أو سكر أو تخبط جنون. وإنما شرطنا الاستثقال في النوم لأنه ليس بحدث في نفسه وإنما هو سبب للحدث. والقدر الذي يحكم على النائم بانتقاض وضوئه من أجله يختلف باختلاف هيئته في نومه، وهي على أربع مراتب: أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها

بالنوم الاضطجاع ثم السجود، ثم الجلوس والركوع، ثم القيام والاحتباء. واختلف في الركوع فقيل إنه كالقيام وقيل إنه كالسجود. واختلف في الاستناد فقيل إنه كالجلوس وقيل إنه كالاضطجاع. فإذا نام الرجل مضطجعا وجب عليه الوضوء بالاستثقال وإن لم يطل. وإذا نام ساجدا لم يجب عليه الوضوء إلا أن يطول، وقيل إنه يجب عليه بالاستثقال وإن لم يطل. وإذا نام جالسا أو راكبا فلا وضوء عليه إلا أن يطول. وإذا نام قائما أو محتبيا فلا وضوء عليه وإن طال لأنه يثبت. ومن أهل العلم من زاد على هذه التسعة الأشياء الحقنة وليس بصحيح؛ لأن الحقنة ليست بحدث ينقض الطهارة، إذ لو ارتفعت بعد وجودها لما لزم الوضوء منها. ويجب من تسعة أشياء أيضا على اختلاف في المذهب، وهي مس الرجل ذكره أو مس المرأة فرجها، والتذكر مع الاشتهاء، وخروج شيء من المعتادات من أحد المخرجين على غير العادة، والقبلة مع عدم اللذة وعدم القصد إليها ممن يشتهى؛ لأن من لا يشتهي لصغره أو لكونه من ذوات المحارم فلا وضوء في قبلته على الصفة المذكورة، والمباشرة والملامسة مع عدم اللذة ووجود القصد إليها، والارتداد، ورفض الوضوء، والشك في الحدث. والأخصر من هذا أن تقول إن الوضوء يجب من وجهين: أحدهما ما يخرج من المخرجين من المعتادات على العادة باتفاق أو على غير العادة باختلاف. والثاني ما هو سبب لما يخرج منهما قوي باتفاق أو ضعيف على اختلاف. فيندرج تحت هذا الوجه زوال العقل بالنوم المستثقل وبالإغماء والسكر والجنون، ويندرج تحته أيضا القبلة والمباشرة واللمس

فصل

مع وجود اللذة أو القصد إليها على الاختلاف في ذلك، ويندرج تحته أيضا مس الرجل ذكره ومس المرأة فرجها والتذكر مع الاشتهاء على مذهب من يوجب الوضوء لذلك؛ لأن الأصل في وجوب الوضوء من ذلك كله هو ما يخشى أن تكون اللذة قد حركت المذي عن موضعه وأخرجته إلى قناة الذكر من غير أن يشعر بذلك. فهذه الأقوال في الأحداث الموجبة للوضوء مجملة، وستأتي مفسرة في مواضعها إن شاء الله تعالى. فصل ولوجوب الوضوء من هذه التسعة الأشياء خمس شرائط: وهي الإسلام، والبلوغ، والعقل، وارتفاع "الحيض والنفاس، ودخول وقت الصلاة. فصل والأصل في وجوبه من هذه التسعة الأشياء بهذه الخمس الشرائط قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. والأمر على الوجوب. ومن قال من أصحابنا إنه ليس على الوجوب فقد وافقنا في أمر الله تعالى بالوضوء أنه على الوجوب للآثار الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أبان ذلك ورفع الاحتمال منه. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول»، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا هو أحدث حتى يتوضأ»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء

فصل

مواضعه»، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تبارك وتعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين»، «وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للأعرابي لما علمه الوضوء: "توضأ كما أمرك الله». ووجوب ذلك معلوم من دين الأمة ضرورة فلا معنى للإطالة في جلب النصوص في ذلك. فصل وآية الوضوء قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية نزلت بالمدينة، وكان سبب نزولها التيمم، وقد كان الوضوء قبل ذلك واجبا بالسنة. وفي قوله في حديث التيمم فأصبحوا على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ولم يقل آية الوضوء دليل واضح على أنه إنما طرأ عليهم في ذلك الوقت العلم بالتيمم وأن الوضوء قد كان معلوما عندهم مشروعا لهم. لا خلاف بين أحد من الأمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل قط وهو جنب ولا هو على غير وضوء. روى زيد بن حارثة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول ما أوحي إليه، يريد في الصلاة، أتاه جبريل فعلمه الوضوء.» «وجاء في الخبر أن جبريل أتاه حين افترضت الصلاة فهمز بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء عذب فتوضأ جبريل ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فوضأ وجهه ومضمض واستنشق ومسح برأسه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه ثم قام فركع ركعتين وأربع سجدات. »

فصل

فصل والوضوء مما خص الله به أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه يعرف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم على ما جاء في الحديث: «قيل يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك، قال: أرأيت لو كانت لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله، قالوا بلى قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض» وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة فقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين؛ ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» رواه المسيب بن واضح عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فقال أبو محمد أراه الأصيلي ليس هذا بثابت. والمسيب بن واضح ضعيف وليس يصح عن ابن عمر حديث في الضوء. وهذه الأمة مخصوصة بالوضوء والله سبحانه وتعالى أعلم. قلت وإن صح الحديث فالمعنى فيما روى أن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خصت بالغرة والتحجيل. فصل واختلف في تأويل الآية جملة وتفصيلا. فأما الاختلاف في تأويلها جملة فهو ما قيل إن فيها تقديما وتأخيرا وإن تقديرها يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق

فصل

وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. وإنما قدر هذا التقدير من ذهب إلى هذا التأويل، وهو محمد بن مسلمة من أصحابنا؛ لأن ظاهرها أن السفر والمرض حدث يوجب الوضوء كالمجيء من الغائط سواء، وذلك لا يصح بإجماع. وقيل إنها على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير. واستدل من ذهب إلى ذلك بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتوضأ إلا على نسق الآية، فمسح رأسه قبل غسل رجليه على ما عليه العمل. ولو كانت الآية مقدرة على غير تلاوتها من التقديم والتأخير لوجب أن تغسل الرجلان قبل مسح الرأس لأن التقدير بمنزلة التفسير، ولا يصح أن يكون العمل بخلاف التفسير، فيكون معنى قَوْله تَعَالَى وإن كنتم مرضى إذا حملت الآية على تلاوتها دون أن يقدر فيها تقديم وتأخير أي مرضى لا تقدرون على مس الماء أو على من يناولكم إياه لأن المرض يتعذر معه مس الماء أو الوصول إليه في أغلب الأحوال. واكتفى الله تبارك وتعالى بذكر المرضى وفهم منه المراد كما فهم من قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أن معناه فأفطر. وكذلك قوله عز وجل: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] يريد غير واجدين للماء، فاكتفى بذكر السفر وفهم منه المراد به؛ لأن السفر يعدم فيه الماء في أغلب الأحوال. ولما كان الغالب في الحضر وجود الماء صرح بشرط عدمه فقال أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. وهذا أولى وأظهر عندي من حمل الآية على التقديم والتأخير لأن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز لا سيما ومن أهل العلم من نفى أن يكون في القرآن مجاز. فصل وعلى أن الآية على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير فيها ذهب مالك في

فصل

المدونة؛ لأنه قال فيها إن المريض الذي لا يقدر على مس الماء يتيمم وإن كان واجدا له، وإن الصحيح الحاضر غير المسافر يتيمم إذا عدم الماء على التأويل الذي ذكرناه. وهو قول مجاهد في المدونة: للمجدور وأشباهه رخصة أن لا يتوضأ، ويتلو: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6]، قال ذلك مما يخفى من تأويل القرآن. ومن حمل الآية على التقديم والتأخير لا يجيز التيمم للمريض مع وجود الماء وإن لم يقدر على مسه، ولا للصحيح الحاضر وإن عدم الماء لأنه يعيد قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] على السفر والمرض. فصل والذي أقول به في تأويل الآية أن أو في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو؛ لأن الآية على هذا تبقى على ظاهرها لا يحتاج فيها إلى تقديم وتأخير، ولا يفتقر فيها إلى إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها لتبين معناها مع كونها على تلاوتها دون تقديم ولا تأخير ولا إضمار؛ لأنه إذا قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] فقد بين أن من جاء من المرضى والمسافرين من الغائط أو لامس النساء يتيمم إن لم يجد الماء. وعلى هذا التأويل لا يكون أيضا المريض الواجد للماء إذا لم يقدر على مسه ولا الحاضر العادم للماء من أهل التيمم. فصل وأما الاختلاف في تأويل بعض وجوهها تفصيلا. فمن ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فقيل معناه إذا قمتم محدثين، وقيل معناه إذا قمتم من المضاجع، وهو قول زيد بن أسلم، وهو أولى من التأويل الأول؛ لأن الأحداث

فصل

مذكورة في الآية، والنوم ليس بحدث وإنما هو مسبب للحدث، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار لغير فائدة. وقيل إن الكلام على غير عمومه في الأمر بالوضوء لكل قائم إلى الصلاة وإن الوضوء كان واجبا لكل صلاة فنسخ الله ذلك بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة تخفيفا عن عباده. وهذا على مذهب من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف في ذلك. وحمل الحديث على البيان للقرآن على ما ذهب إليه زيد بن أسلم أولى من حمله على النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون في النصوص التي تتعارض والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يتوضأ لكل صلاة ثم يتلو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] وكل قائم الصلاة يتوضأ على مذهبه على ظاهر الآية ولم يبلغه الحديث والله أعلم. ويحتمل أن يكون إنما كان يتوضأ لكل صلاة لما اختص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل بيته من إسباغ الوضوء. روي عن «ابن عباس أنه قال ما اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمر على الخيل». وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه كان إذا أحدث لم يكلم أحدا حتى يتوضأ وضوءه للصلاة فنسخ الله هذا وأمر بالطهارة عند القيام للصلاة، ثم نسخ هذا بفعله يوم فتح مكة. ومن العلماء من قال ينبغي لكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ طلبا للفضل فحمل الآية على الندب. فصل ومعنى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وفي الكلام دليل على هذا ومثله قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي إذا أردت أن تقرأ القرآن. وليس المراد بذلك القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما المعنى بذلك إذا نهضتم إليها

وعمدتم لها وأردتم إصلاح أمرها من قولهم هو يقوم بأمر القوم، وفلان قائم بأمر فلان وبدولة السلطان، وقائم بشأنه وقائم على ماله، أي بالإصلاح والتعاهد. وفي تعليق الله الأمر بالوضوء بإرادة الصلاة بيان ظاهر أن الوضوء يراد للصلاة ويفعل من أجلها وأنه فرض من فرائضها وشرط في قبولها وصحتها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ أحدث حتى يتوضأ». ودليل واضح على افتقاره إلى النية لأن الله تعالى قد شرط في صفة فعله إرادة الصلاة. وفعله من أجلها وإذا فعله تبردا أو تنظفا فلم يفعله على الشرط الذي شرطه الله في فعله وذلك يوجب أن لا يجزئه. وهذا أمر متفق عليه في المذهب، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم إن الغسل والوضوء يجزئ بغير نية بخلاف التيمم، وخلافا للأوزاعي في قوله إن الغسل والوضوء والتيمم تجزئ بغير نية. والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] والوضوء من الدين فوجب أن لا يجزئ بغير نية وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات»، والوضوء عمل من الأعمال فوجب أن لا يجزئ بغير نية. ومن طريق القياس على من فرق في ذلك بين الوضوء والتيمم أن الوضوء طهارة تتعدى محل موجبها فافتقرت إلى النية كالتيمم. وإنما الكلام في المذهب هل من شرط صحة النية في الوضوء والغسل من الجنابة أن تكون مقارنة لأول الفعل أم لا ويجزئ إذا تقدمتها بيسير. وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتاب ردنا على المرادي فمن أراد الوقوف على ذلك فليتأمله هناك.

فصل

فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] والوجه مأخوذ من المواجهة. وحد الوجه الذي يجب غسله في الوضوء من منابت شعر الرأس إلى اللحى الأسفل إلى الصدغ. واختلف في البياض الذي بين الصدغ إلى الأذن على ثلاثة أقوال: أحدها أنه من الوجه يجب غسله. والثاني أنه ليس من الوجه فلا يجب غسله. والثالث أن الأمرد يغسله ولا يغسله الملتحي. وقيل إن غسله سنة، ذكر ذلك عبد الوهاب. واختلف فيما طال من شعر اللحية فقيل ليس عليه أن يغسله، وهو ظاهر ما في سماع موسى عن ابن القاسم. وحكى سحنون في سماعه عن مالك أن اللحية من الوجه وعليه أن يمر الماء عليها ويغسلها، فإن لم يفعل أعاد، وقال به سحنون. واختلف في تخليل اللحية في الوضوء فروى ابن وهب وابن نافع عن مالك إيجاب تخليلها في الوضوء، وروى أشهب عن مالك وابن القاسم عن مالك في العتبية أنها لا تخلل. وقد قيل إن ذلك مستحب وليس بواجب. والصواب أن تخليلها ليس بواجب في الوضوء لأن الفرض إنما هو في غسل ظواهر الأعضاء دون البواطن. فإذا كان شعر اللحية الذي على الوجه كثيفا انتقل الفرض إلى الشعر ولم يجب عليه تخليل الشعر وإيصال الماء إلى البشرة لأن ذلك من البواطن. وقد نص على ذلك عبد الوهاب في بعض تواليفه. فصل وأما غسل الأيدي والأرجل في الوضوء فقد حدهما الله تبارك وتعالى في كتابه فقال في اليدين {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وفي الأرجل {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] إلا أن أهل العلم اختلفوا في إيجاب غسل المرافق من اليدين والكعبين من الرجلين. فظاهر ما في المدونة إيجاب غسل ذلك. وروى ابن نافع عن مالك أنه ليس عليه أن يجاوز

بالغسل المرفقين والكعبين، وإنما عليه أن يبلغ إليهما لأن إلى غاية، وهو الأظهر، إلا أن إدخالهما في الغسل أحوط لزوال تكلف التحديد. ومن قال بإيجاب غسلهما قال إلى بمعنى مع، وذلك موجود في اللسان، قال الله عز وجل: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله. وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي مع أموالكم. وقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، فتقول بعت الثوب من الطرف إلى الطرف، فالطرفان داخلان في البيع. ويلزم من قال في آية الوضوء إن إلى بمعنى مع أن يوجب غسل اليدين إلى المنكبين؛ لأن العرب تسمي ذلك يدا. وأما قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فاختلف في هذه الباء فقيل إنها للتبعيض، وقيل إنها للإلزاق وليست للتبعيض. فأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فذهب إلى أن الواجب مسح الرأس كله، وأن من قصر عن ذلك وجبت عليه الإعادة، كمن قصر عن غسل بعض وجهه خلافا لأبي حنيفة والشافعي، وقال محمد بن مسلمة إن مسح ثلثيه أجزأه، وقال أبو الفرج إن مسح ثلثه أجزأه. وقال أشهب في بعض روايات العتبية إنه لا إعادة على من مسح مقدم رأسه. والدليل على صحة قول مالك قول الله تبارك وتعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] كما قال في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] فلما لم يجز الاقتصار في التيمم على بعض الوجه دون بعض [كان الرأس كذلك. وكذلك الطواف بالبيت لا يجوز أن يقتصر في الطواف على بعضه دون بعض]، وإن كان الله يقول في كتابه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] لأن الباء إنما دخلت للإلزاق لا للتبعيض. ومن الدليل على صحته أيضا أن الاستثناء يصلح فيها لو قلت امسح برأسك إلا ثلثه جاز، كأنك قلت

فصل

امسح رأسك إلا ثلثه. ولو صح أن الباء تصلح للمعنيين وأشكل الأمر لكان فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دافعا للإشكال لأنه مسح جميع رأسه وقال هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به. وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بعض رأسه شاذ لا يعمل به. ويحتمل أن يكون فعل ذلك لعذر أو مجددا من غير حدث. ولا يجوز عند مالك أن يمسح رأسه على حائل إلا لعلة. وقد رويت إجازة ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الثوري وأحمد بن حنبل والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام، وبه قال داود بن علي للآثار الواردة في ذلك وقياسا على الخفين. والصحيح ما ذهب إليه مالك؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فمن مسح على حائل لم يمسح على رأسه. والآثار الواردة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطربة، فقد روي أنه مسح على عمامته فأدخل يده من تحتها، وإن صح أنه مسح عليها فلعله فعل ذلك لعذر أو لتجديد من غير حدث والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وأما قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فإن الناس اختلفوا في قراءتها فقرأها قوم وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين، وقرأها قوم وأرجلكم بالخفض. فأما من قرأها وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين فهو الغسل لا كلام فيه؛ لأن الشيء يصح عطفه على ما يليه وعلى ما قبله، وهذا كثير موجود في القرآن ولسان العرب، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وأما من قرأ وأرجلكم بالخفض ففي قراءتها لأهل العلم أربعة أوجه. الأول أنها معطوفة على اليدين وإنما خفضت للجوار والإتباع كما قالوا جحر ضب خرب. وقد قرئ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] بالخفض. والثاني أنها

فصل

معطوفة على مسح الرأس وأن الغسل إنما وجب بالسنة لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ويل للأعقاب من النار» فتكون السنة على هذا ناسخة للقرآن. والثالث أن المراد بذلك المسح على الخفين. والرابع أن الغسل يسمى مسحا عند العرب لأنها تقول تمسحنا للصلاة أي اغتسلنا، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مراد الله تعالى بقوله فامسحوا برؤوسكم إمرار اليد على الرأس دون نقل الماء إليه وأن مراده بأمره بمسح الرجلين إمرار اليد عليهما مع نقل الماء إليهما. وذهبت طائفة من الشيعة إلى إجازة مسح الرجلين في الوضوء، وروي ذلك عن بعض الصحابة وبعض التابعين، وتعلق به بعض المتأخرين، وهو شذوذ لا يعد به الخلاف، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسل رجليه في وضوئه مرتين أو ثلاثا، وأنه قال «ويل للأعقاب من النار ويل للعراقيب من النار» والوعيد لا يكون إلا في ترك الواجب. فصل وقوله في الآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] اختلف في الملامسة التي عناها الله تعالى ما هي، فمذهب مالك ما قدمناه أنها ما دون الجماع وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنها كناية عن الجماع. ومن ذهب إلى ذلك لم يوجب الوضوء في القبلة ولا في المباشرة ولا في اللمس إذا سلم في ذلك من المذي. فصل وفي قوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] دليل على أن الوضوء لا يجوز إلا بالماء وقد اختلف أهل العلم في حد الماء الذي يجوز به الوضوء فحده عند مالك الماء المطلق الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر أو نجس حل فيه. وحده عند أبي حنيفة ومن أجاز الوضوء بالنبيذ الماء الذي لم تحله نجاسة؛ لأن ما حلته

فصل في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته

نجاسة فهو عنده نجس وإن لم يتغير بها شيء من أوصافه إلا أن يكون الماء الكثير المستبحر الذي لا يقدر آدمي أن يحرك طرفيه. وحده عند الشافعي فيما دون القلتين ما لم تحله نجاسة، وفيما فوقهما ما لم يتغير أحد أوصافه من شيء طاهر أو نجس حل فيه. فصل في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته وقد ذكرنا فيما تقدم أن الوضوء الشرعي يشتمل على فرائض وسنن واستحبابات. ففرائض الوضوء ثمانية، منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم وهي التي نص الله تبارك وتعالى عليها: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. واثنان متفق عليهما في المذهب وهما: النية، والماء المطلق الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر حل فيه أو نجس. واثنان مختلف فيهما في المذهب، وهما الفور، والترتيب. فأما الفور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على الإطلاق، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. والثاني أنه سنة على الإطلاق وهو المشهور في المذهب. والثالث أنه فرض فيما يغسل وسنة فيما يمسح وهو قول مطرف وابن الماجشون عن مالك وهو أضعف الأقوال. فعلى القول بأنه فرض تجب إعادة الوضوء والصلاة على من فرقه ناسيا أو متعمدا، وعلى القول بأنه سنة إن فرقه ناسيا فلا شيء عليه، وإن فرقه عامدا ففي ذلك قولان: أحدهما أنه لا شيء عليه وهو قول محمد بن عبد الحكم. والثاني أنه يعيد الوضوء والصلاة لترك سنة من سننها عامدا لأنه كالمتلاعب المتهاون، وهذا مذهب ابن القاسم. ومن أصحابنا من يعبر على مذهبه هذا في الفور أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة. فعلى التأويل الأول من أهريق ماؤه في أثناء الوضوء وابتدأ وضوءه بماء

فصل

يغلب على ظنه أنه يكفيه فعجزه أنه لا يضره القيام لأخذ الماء وإن بعد، وعلى التأويل الثاني إن بعد عنه الماء في الوجهين ابتدأ الوضوء لأنه ذاكر. فصل وأما الترتيب فالمشهور في المذهب أنه سنة، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وروى علي بن زياد عن مالك أن من نكس وضوءه أعاد الوضوء والصلاة فجعله فرضا. وإلى هذا ذهب أبو المصعب وحكاه عن أهل المدينة، ومعلوم أن مالكا منهم وإمام فيهم. فصل فإذا قلنا إنه سنة فإن كان بحضرة الوضوء أخر ما قدم ثم غسل ما بعده ناسيا كان أو عامدا، وإن كان قد تباعد وجف وضوؤه وكان متعمدا ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعيد الوضوء والصلاة. والثاني أنه يعيد الوضوء ولا يعيد الصلاة قاله ابن حبيب. والثالث أنه لا إعادة عليه لا للصلاة ولا للوضوء وهو قوله في المدونة لا أدري ما وجوبه. وإن كان ناسيا فقال ابن حبيب يؤخر ما قدم ويغسل ما بعده. وفي قوله نظر لأنه إذا فعل ذلك ولم يعد الوضوء من أوله فقد حصل وضوؤه مفرقا، ومن قوله إن من فرق وضوءه ناسيا أو متعمدا أعاد الوضوء والصلاة في الوقت وبعده. وقال ابن القاسم: يؤخر ما قدم ولا يغسل ما بعده، وهو بعيد؛ لأنه لا يخلص بذلك من التنكيس. والذي يأتي على أصله في تفرقة الوضوء ناسيا أن لا شيء عليه في تنكيسه إذا فرق وضوءه. ووجه قوله إن ما قدم فوضعه في غير موضعه بمنزلة ما نسيه فذكره وقد تباعد أنه يفعله وحده ولا يعيد ما بعده. وإذا جعل ما قدم كان تركه فيلزمه على هذا إذا نكس وضوءه إعادة الوضوء والصلاة خلاف ما في المدونة. وهذا في ترتيب المفروض مع المفروض. وأما في ترتيب المفروض مع المسنون فظاهر ما في الموطأ أن الترتيب بين المفروض والمسنون مستحب لأنه قال فيمن

فصل

غسل وجهه قبل أن يمضمض إنه يمضمض ولا يعيد غسل وجهه، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب هو سنة إلا أنه جعله أخف من ترتيب المفروض مع المفروض، فقال مرة يعيد الوضوء إذا نكس متعمدا كالمفروض مع المفروض، وله في موضع آخر ما يدل على أنه لا شيء عليه [إذا فارق وضوءه، وقال إن نكسه ساهيا إنه لا شيء عليه]، قال فضل: معناه إذا فارق وضوءه، وأما إذا لم يفارق وضوءه فإنه يؤخر ما قدم ويغسل ما بعده على أصله. فمن نسي شيئا من مسنون الوضوء فذكره بحضرة وضوئه فإنه يفعل ما نسي وما بعده. ويحتمل أن يكون ذلك اختلافا من قوله فيكون أحد قوليه مثل ما في الموطأ. فصل وأما سنن الوضوء فاثنتا عشرة، منها أربع متفق عليها في المذهب، وهي المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، ومسح الأذنين مع تجديد الماء لهما. والمنصوص لمالك أنهما من الرأس وإنما السنة في تجديد الماء لهما. وقد قيل في غير المذهب إنهما من الرأس يمسحان معه ولا يجدد لهما ماء. وقيل إنهما من الوجه يغسلان معه. وقيل إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس. والصواب ما ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث: «إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه إلى قوله فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه». وثمان قيل فيها إنها سنة، وقيل إنها استحباب وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إذا أيقن بطهارتهما، وما زاد على الواحدة بعد العموم، والابتداء

باليمين قبل الشمال، والابتداء بمقدم الرأس، ورد اليدين في مسحه، وغسل البياض الذي بين العارض والأذن على ما قال عبد الوهاب، واستيعاب مسح الأذنين، وترتيب المفروض مع المسنون. وأما استحباباته فثمان، وهي التسمية، وجعل الإناء على اليمين، وأن لا يتوضأ في الخلاء، وتخليل أصابع اليدين، وتخليل أصابع الرجلين، وتخليل اللحية، وقد قيل إن ذلك واجب في الوضوء عن مالك وليس بصحيح، والسواك عند الوضوء، ويجزئ الأصبع منه إذا لم يجد سواكا قاله مالك، وذكر الله على الوضوء مستحب، وبالله التوفيق.

القول في توقيت الوضوء

القول في توقيت الوضوء هذا الباب يشتمل على سبع مسائل: إحداها أن الأعداد في الوضوء غير واجبة وأن الواجب الإسباغ، أسبغ في مرة واحدة أو مرات. والثانية أن تكرار الغسل ثلاثا مستحب فيه إن أسبغ فيما دونها. والثالثة أن ما فوق الثلاث مكروه إن أسبغ بها أو بما دونها. والرابعة أن الثلاث أفضل من الاثنتين وأنه مخير بين الاثنتين والثلاث. والخامسة أن الاقتصار على الواحدة مكروه، واختلف في وجه الكراهية في ذلك فقيل إنما كره لتركه الفضيلة جملة، وقيل إنما كره ذلك مخافة أن لا يعم فيها، وهو دليل ما روي عن مالك أنه قال لا أحب الواحدة إلا للعالم بالوضوء. والسادسة أن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون الممسوح. والسابعة أن التكرار إنما يكون باستئناف أخذ الماء؛ ولذلك لا يقال في رد اليدين على الرأس في مسحه إنه تكرار لمسحه. وقوله اختلفت الآثار في التوقيت يريد في الأعداد. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، ومرتين في بعض الأعضاء وثلاثا في بعضها. وليس الاختلاف في هذا اختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير وإعلام بالتوسعة، وبالله التوفيق.

القول في المياه

القول في المياه الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ} [الأنفال: 11]، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، «وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته» يريد إلا ما غير أحد أوصافه على ما بين في الحديث المتقدم. فصل فالأصل في المياه كلها الطهارة والتطهير، ماء السماء وماء البحر وماء الأنهار

فصل

وماء العيون وماء الآبار، عذبة كانت أو مالحة، كانت على أصل مياعتها أو ذابت بعد جمودها، إلا أن تكون مالحة فتذوب في غير موضعها بعد أن صارت ملحا فانتقلت عنه فإن لأصحابنا المتأخرين في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنها على الأصل لا يؤثر فيها جمودها. والثاني أن حكمها حكم الطعام فلا يتطهر بها وينضاف بها ما غيرت من سائر المياه. والثالث أن جمودها إن كان بعناية وعمل وصنعة كان له تأثير فلا يتطهر بها وإن لم يكن بعناية وعمل لم يكن له تأثير. فصل وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: ماء طاهر مطهر، وماء لا طاهر ولا مطهر، وماء طاهر لا مطهر. فأما الماء الطاهر المطهر فهو الماء المطلق، وصفته أنه لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك عنه. وإنما سمي مطلقا لأنه إذا أطلق عليه مجرد الاسم وهو ماء كان كافيا في الإخبار عنه على ما هو عليه. والماء الطاهر غير المطهر هو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه بما ينفك عنه من الطاهرات. ومعنى قولنا فيه إنه طاهر أنه غير نجس فلا يجب غسله من ثوب ولا بدن. ومعنى قولنا فيه غير مطهر أنه لا يرفع الحدث ولا حكم النجاسة وإن أزال عينها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرفع الحدث على أصله في إجازة الوضوء بالنبيذ، ويرفع حكم النجاسة إذا أزال عينها على أصل مذهبه أن كل ما أزال العين رفع الحكم. وأما الماء الذي ليس بطاهر ولا مطهر فهو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه بنجاسة حلت فيه، وإن لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة فلا يؤثر ذلك في حكمه كان الماء قليلا أو كثيرا على أصل مذهب مالك، وهي رواية المدنيين عنه. وروى المصريون عنه أن ذلك يؤثر فيه إذا كان قليلا، وقاله كثير من أصحابه. فأما ابن القاسم فأطلق القول فيه، بأنه نجس على طريق التوسع في العبارة والتحرز من المتشابه لا على طريق الحقيقة. يدل على ذلك من مذهبه أنه لم يأمر من توضأ به بإعادة الصلاة أبدا كما يأمر من توضأ بالمتغير. ومن أصحابنا من عبر عنه بأنه مشكوك فيه، وهي عبارة

فصل

غير مرضية؛ لأن الشك في الحكم ليس بمذهب فيه، وإنما يكون الماء مشكوكا فيه إذا شك في تغيير أحد أوصافه بنجاسة حلت فيه أو في حلول النجاسة فيه على مذهب من يرى أن حلول النجاسة في الماء تنجسه وإن لم تغير له وصفا. وأما إذا أوقن أن أوصافه لم يتغير منها شيء بما حل فيه من النجاسة فهو طاهر في قول ونجس في قول. فصل وقد اختلف أصحاب مالك الذين التقوه ولم يحققوا القول فيه بأنه نجس في الحكم فيه؛ فقال ابن القاسم يتيمم ويتركه، فإن لم يفعل وتوضأ به أعاد في الوقت ولم يفرق بين أن يكون جاهلا أو متعمدا أو ناسيا. وقال ابن حبيب في الواضحة: إن كان جاهلا أو متعمدا أعاد في الوقت وبعده. وقال ابن الماجشون: يتوضأ ويتيمم ويصلي. وقال سحنون: يتيمم ويصلي ويتوضأ ويصلي. فصل وحد هذا الماء الذي يتقى لحلول النجاسة فيه هو أن يكون قدر ما يتوضأ به فتقع فيه القطرة من البول أو الخمر، أو يكون قدر القصرية فيتطهر فيها الجنب ولا يغسل ما به من الأذى، فقس على هذا. وكذلك إذا كان الماء قدر ما يتوضأ به فرأى الهر أو الكلب أو شيئا من السباع يلغ فيه وفي فيه نجاسة، أو شيئا من الطير التي تأكل الجيف والنجاسات وفي مناقرها نجاسة. فإن لم تر في أفواهها ولا في مناقرها نجاسة في وقت شربها ففي ذلك تفصيل: أما الهر فهو عند مالك وأصحابه محمول على الطهارة للحديث الوارد فيه من الطوافين والطوافات عليكم. وأما السباع والدجاج المخلاة فهي في مذهب ابن القاسم في روايته عن مالك محمولة

على النجاسة وتفسد ما ولغت فيه فلا يتوضأ بالماء ولا يؤكل الطعام إلا أن يكون الماء كثيرا لقول عمر بن الخطاب لا تخبرنا يا صاحب الحوض فإنا نرد على السباع وترد علينا. غير أن ابن القاسم قال في الطعام إنه لا يطرح إلا بيقين لحرمتها وهو استحسان على غير قياس؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أعلم بطهارة سؤر الهرة وبين أن العلة في ذلك طوافها علينا ومخالطتها لنا وجب باعتبار هذه العلة أن يكون ما عداها من السباع التي لا تخالطنا في بيوتنا محمولة على النجاسة، فلا يتوضأ بسؤرها ولا يؤكل بقيتها من الطعام وإن لم يوقن بنجاسة أفواهها في حين ولوغها. وقال علي بن زياد: الطعام والماء سواء إن رئي في مناقرها أذى طرح وإلا لم يطرح. وهو قول ابن وهب وأشهب إنها محمولة على الطهارة في الماء والطعام، فلا يطرح شيء من ذلك إذا ولغت فيه إلا أن يوقن بنجاسة أفواهها تعلقا بظاهر ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا». وتعلقا أيضا بظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا لما سأله عمرو بن العاص هل ترد حوضك السباع؟ وهذا لا حجة فيه؛ لأن الحياض ماؤها كثير فهي تحمل هذا القدر من النجاسة. وأما الكلب فاختلف فيه اختلافا كثيرا من أجل الحديث الوارد بغسل الإناء من ولوغه فيه سبع مرات، فروى ابن وهب عن مالك أنه يغسل الإناء من ولوغه فيه سبع مرات كان طعاما أو ماء. فظاهر الرواية أن الطعام يطرح فحمله على النجاسة وجعله أشد من السباع. وجعله ابن القاسم أخف من السباع لأنه حمله فيها على الطهارة في الماء واللبن جميعا فقال إنه يؤكل الطعام ولا يتوضأ بالماء إلا من ضرورة، ويغسل الإناء سبع مرات في الماء خاصة تعبدا. وقال ابن الماجشون عن

مالك إنه يغسل سبعا من الماء واللبن جميعا، ويؤكل اللبن ويطرح الماء إلا أن يحتاج إليه، فإذا احتاج إليه توضأ به ولم يتيمم على مذهبه ومذهب ابن القاسم في المدونة، ثم لا إعادة عليه وإن وجد ماء غيره في الوقت. وقد روى أبو زيد عن ابن الماجشون أنه مشكوك فيه يتوضأ به ويتيمم ويصلي، على مذهبه في الماء المشكوك فيه. فإن توضأ به ولم يتيمم أعاد في الوقت كما لو رأى في فيه نجاسة حين ولوغه فحمله على النجاسة كسائر السباع. قال وإن عجن بذلك الماء خبزا أو طبخ طعاما لم يأكله كان بدويا أو حضريا. وأما إن شرب من إناء فيه لبن فإنه يأكل اللبن ويشربه إن كان بدويا كان له زرع أو ماشية أو لم يكن، ثم يغسل الإناء سبع مرات للحديث، ويطرحه إن لم يكن بدويا. وقال أصبغ: أهل البادية وأهل الحاضرة في ذلك سواء، والماء واللبن سواء، يؤكل اللبن وينتفع بالماء إن احتيج إليه، ولا بأس بما صرف فيه من خبز وطبخ. وقال مطرف إن كان اللبن كثيرا أكله وإن كان يسيرا طرحه والبدوي والحضري في ذلك سواء. واختلف قول مالك في الحديث الوارد في الكلب، فمرة حمله على عمومه في جميع الكلاب، ومرة رآه في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه. وتفرقة ابن الماجشون بين البدوي والحضري قول ثالث. فيتحصل في سؤر الكلب أربعة أقوال: أحدها أنه طاهر، وهو الذي يأتي على قول ابن وهب وأشهب وعلي بن زياد أن السباع محمولة على الطهارة؛ لأن الكلب سبع من السباع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك فيها على ما حكى عنه من أن الكلب ليس كغيره من السباع. والثاني أنه نجس كغيره من السباع، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه. والثالث الفرق بين الكلب المأذون في اتخاذه وغير المأذون في اتخاذه وهو أظهر الأقوال؛ لأن علة الطهارة التي نص النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عليها في الهرة موجودة في الكلب المأذون في اتخاذه بخلاف الذي لم يؤذن في اتخاذه. والرابع الفرق بين البدوي والحضري،

وهو قول ابن الماجشون في رواية أبي زيد عنه. فمن رأى سؤر الكلب طاهرا قال أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه تعبد لا لعلة، ومن رآه نجسا قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة وبقية السبع غسلات عبادة لا لعلة، [ومن رآه نجسا قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة، وبقية السبع غسلات تعبد لا لعلة]، كالأمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار الواجب منها ما يقع به الإنقاء وبقية الثلاث تعبد. واختلف متى يغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلاب، فقيل بفور ولوغه، وقيل عند إرادة استعماله. وإذا كان غسله تعبدا فلا معنى لتأخير العبادة، وإنما يجب غسله عند إرادة استعماله على القول بأنه يغسل لنجاسة لا لعبادة. قلت: والذي أقول به في معنى أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، والله أعلم وأحكم، إنه أمر ندب وإرشاد مخافة أن يكون الكلب كلبا يدخل على آكل سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عما يضر بالناس في دينهم ودنياهم، فقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة» حتى ذكرت أن الروم وفارسا يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا. لا لنجاسة إذ هو محمول على الطهارة بالأدلة المذكورة. وإذ لا توقيت في عدد الغسل من النجاسة فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام على هذا التأويل، ووجب أن يتوقى من شربه أو أكله أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة أن يكون الكلب كلبا فيكون قد داخل ذلك من لعابه ما يشبه السم المضر بالأبدان على ما أرشد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بما أمر به من غسل الإناء الذي ولغ فيه سبعا إشفاقا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل

على أمته، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما. ويدل على هذا التأويل تحديده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغسل الإناء سبعا لأن السبع من العدد مستحب فيما كان طريقه التداوي لا سيما فيما يتقي منه السم. فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه: «هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر». فصل فعلى هذا التأويل لا ينبغي شرب الماء الذي ولغ فيه الكلب لما أرشد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إليه مما يتقي منه ولا ينفع غسل الإناء به ويجوز الوضوء به وجد غيره أو لم يجد. وعلى القول بأنه يغسل سبعا للنجاسة لا يجوز شربه ولا غسل الإناء به لأنه نجس. ويختلف في الوضوء به إذا لم يجد سواه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتوضأ به ولا يتيمم وهو مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي وهو مذهب ابن الماجشون. والثالث أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي وهو قول سحنون. وعلى القول بأنه يغسل سبعا تعبدا لا لنجاسة يجوز شربه ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره مراعاة للخلاف في النجاسة. وكذلك لا ينبغي أن يغسل الإناء به إذا وجد غيره مراعاة للخلاف. وأما إن لم يجده غيره فقيل إنه يغسل الإناء به كما يتوضأ به. والأظهر أنه لا يغسل الإناء به وإن كان يتوضأ به؛ لأن المفهوم من أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء من ولوغ الكلب فيه أن يغسل بغير ذلك الماء ويجوز على قياس هذا أن يغسل بماء غيره قد ولغ فيه كلب. فصل وقد اختلف في معنى ما وقع في المدونة من قول ابن القاسم: وكان

فصل

يضعفه، فقيل إنه أراد بذلك أنه كان يضعف الحديث لأنه حديث آحاد وظاهر القرآن يعارضه وما ثبت أيضا في السنة من تعليل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طهارة الهرة بالطواف علينا والمخالطة لنا. وقيل بل أراد بذلك أنه كان يضعف [وجوب الغسل، وقيل بل أراد بذلك أنه كان يضعف] العدد. فالتأويل الأول ظاهر في اللفظ بعيد في المعنى، إذ ليس في الأمر بغسل الإناء سبعا ما يقتضي نجاسته فيعارضه ظاهر القرآن وما علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهر. والتأويل الثاني بعيد في اللفظ ظاهر في المعنى؛ لأن الأمر محتمل للوجوب والندب، فإذا صح الحديث وحمل على الندب والتعبد لغير علة لم يكن معارضا لظاهر القرآن ولا لما علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهرة. وأما التأويل الثالث فهو بعيد في اللفظ والمعنى، إذ لا يصح تضعيف العدد مع ثبوت الحديث لأنه نص فيه على السبع، ولا يجوز أن يصح الحديث ويضعف ما نص فيه عليه، وبالله التوفيق. فصل واختلف قول مالك في غسل الإناء من ولوغ الخنزير فيه، فعنه فيه روايتان: إحداهما أنه لا يغسل، والثانية أنه يغسل سبعا قياسا على الكلب، وهي رواية مطرف عنه، حكى الروايتين عنه ابن القصار. فصل وإذا قاس الخنزير على الكلب فيلزمه ذلك في سائر السباع لوجود العلة فيها وهي أنها أكثر أكلا للأنجاس من الكلب. وأيضا فإن الكلب اسم للجنس يدخل تحته جميع السباع لأنها كلاب. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدا عليه الأسد فقتله».

فصل

فصل وموت الدابة في الماء الدائم على مذهب ابن القاسم ورواية المصريين عن مالك بخلاف حلول النجاسة فيه؛ لأن النجاسة تنماع في الماء ويخشى أن يخرج من الدابة عند موتها شيء لا ينماع في الماء ويبقى على وجهه، فإن كان الماء غير معين مثل القصرية أو الجب طرح ولم يتوضأ منه مخافة أن يكون ذلك الشيء النجس قد حصل فيما يتوضأ به، وإن كان بئرا نزف منها قدر ما تطيب النفس به إلا أن يتغير الماء فلا بد أن ينزف منها حتى يزول التغير. فصل وهذا في الدواب التي لها دم سائل. وأما الخشاش مثل التي ليس لها دم سائل ودواب الماء مثل السرطان والضفدع فلا يفسد الماء موته فيه. فإن تقطعت أجزاء الخشاش في الماء جرى ذلك على الاختلاف في جواز أكلها بغير ذكاة.

القول في استقبال القبلة لبول أو غائط

القول في استقبال القبلة لبول أو غائط ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه «نهى أن تستقبل القبلة ببول أو غائط». وروي «عن ابن عمر أنه قال لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته.» وفي غير رواية مالك «مستقبل بيت المقدس مستدبر القبلة»، وهو مفسر لما وقع في رواية مالك. وروي «عن عائشة أنها قالت: ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال أوقد فعلوا استقبلوا بمقعدي القبلة». وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من رواية جابر بن عبد الله «أنه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط، ثم قال رأيته بعد ذلك مستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام». واختلف أهل العلم في تخريج هذه الأحاديث واستعمالها، فمنهم من أخذ بالحديث الأول وحمله على عمومه في القرى والمدائن والفيافي والقفار. ومنهم من جعل حديث جابر ناسخا له فأجاز استقبال القبلة للبول والغائط وهم أهل الظاهر. وأما مالك فاستعمل الحديثين الحديث الأول وحديث ابن عمر، وجعل حديث ابن عمر مخصصا للحديث الأول وقال إنما عنى بذلك الصحارى والفيافي ولم يعن بذلك القرى والمدائن. هذا قوله في المدونة. فعلى قوله فيها يجوز

فصل في القول في الملامسة

استقبال القبلة واستدبارها في القرى والمدائن من غير ضرورة إلى ذلك. والدليل على ذلك أنه أجاز مجامعة الرجل امرأته إلى القبلة ولا مشقة عليه في التحول عنها في ذلك. ويؤيد هذا المذهب حديث عائشة «استقبلوا بمقعدي القبلة». فالمعنى على هذا في النهي من أجل أن لله عبادا يصلون له، فإذا استتر في القرى والمدائن بالأبنية ارتفعت العلة. وكذلك على هذا لو استتر في الصحراء بشيء لجاز أن يستقبل القبلة لحاجته، وقد فعل هذا عبد الله بن عمر. روى مروان الأصفر عنه أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها، فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ فقال إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به. ولمالك في المجموعة أنه لا يستقبل القبلة لبول أو غائط في القرى والمدائن إلا في الكنف المتخذة لذلك للمشقة الداخلة عليه في التحول عنها. فالمعنى عنده على هذه الرواية في النهي إعظام القبلة، فلا يجوز له أن يجامع امرأته مستقبل القبلة على هذه الرواية إذ لا ضرورة إلى ذلك. ويحمل حديث ابن عمر أن اللبنتين كانتا مبنيتين ولم يصح عنده حديث عائشة أو لم يبلغه والله أعلم. وذكر أبو إسحاق التونسي أنه قد تؤول على ما في المدونة أنه أجاز مجامعة الرجل امرأته في الصحراء إلى القبلة، وهو بعيد والله أعلم. فصل في القول في الملامسة المعنى في الملامسة الطلب. قال الله عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] أي طلبنا السماء وأردناها فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا أي حفظة يحفظونها. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل سأله أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "هل معك شيء تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا. قال فإن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك

فصل

فالتمس شيئا أي اطلب قال ما أجد شيئا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا» ". فصل فلا يقال لمن مس شيئا قد لمسه إلا أن يكون مسه ابتغاء معنى يطلبه من حرارة أو برودة أو صلابة أو رخاوة أو علم حقيقة. قال الله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] ألا ترى أنه يقال تماس الحجران ولا يقال تلامس الحجران لما كانت الإرادة والطلب مستحيلة عليهما. فصل فلما كان المعنى المقصود من مس النساء الالتذاذ بهن علم أن معنى قول الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] هو اللمس الذي يبتغى به اللذة دون ما سواه من المعاني. فصل وقد اختلف في قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فقيل المراد بذلك الجماع، روي ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وهو قول عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. روي أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز، وقال عبيد بن عمير هو النكاح، فخرج عليهم ابن عباس وهم كذلك فسألوه وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ الموليان وأصاب العربي، هو الجماع ولكن الله يعف ويكفي وهو

فصل

محفوظ عن ابن عباس من وجوه كثيرة. روي عنه أنه قال ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانة. وإلى هذا ذهب أهل العراق وحجتهم ما روي «عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة فلا يتوضأ». وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] قالوا فالملامسة مفاعلة من اثنين فلا يكون إلا الجماع. وقيل إن المراد به ما دون الجماع من القبلة والمباشرة واللمس، وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود. وتأول إسماعيل القاضي مثله على عمر بن الخطاب في قوله إن الجنب لا يتيمم، وقال به جماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك وأصحابه. والدليل على ذلك أن الله عز وجل قد ذكر في أول الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فلو كان معنى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] الجماع لكان مكررا لغير فائدة ولا معنى. ودليل آخر وهو أن لفظ الملامسة حقيقة في اللمس باليد ومجاز في الوطء، وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز. ودليل ثالث وهو أن الملامسة واقعة على التقاء البشرتين، فإذا كانت كذلك لم يخل اللمس باليد من أن يكون أولى بإطلاق هذا الاسم عليه من الجماع فيقتصر عليه، أو أن يكون هو وغيره من أنواعها سواء فيجب حمل الظاهر على عمومه في كل ما يقع عليه الاسم، ولأن الآية قد قرئت أو لمستم النساء، ولا خلاف أن ذلك لغير اللمس باليد فصح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فصل فإذا ثبت أن الملامسة ما دون الجماع من القبلة والمباشرة واللمس باليد فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها أن يقصد بهذه الأشياء إلى الالتذاذ فيلتذ، والثاني أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ ولا يلتذ، والثالث أن يقصد بها إلى الالتذاذ فلا يلتذ، والرابع أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ. فصل فأما الوجه الأول وهو أن يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ فلا خلاف عندنا في إيجاب الوضوء لوجود الملامسة التي سماها الله ووجود معناها وهو الالتذاذ.

فصل

وأما الوجه الثاني: وهو أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ ولا يلتذ فتفترق فيه القبلة من المباشرة واللمس. فأما المباشرة واللمس فلا يجب عليه فيهما وضوء إذا لم يلامس اللمس الذي عناه الله تعالى بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ولا وجد معناه. وأما القبلة فاختلف فيها على قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منها وهي رواية أشهب عن مالك وقول أصبغ ودليل المدونة. وعلة ذلك أن القبلة لا تنفك من اللذة إلا أن تكون صبية صغيرة فيقبلها على سبيل الرحمة أو ذات محرم فيقبلها على سبيل الوداع أو ما أشبه ذلك. والثاني أن لا وضوء منها كالملامسة والمباشرة وهو قول مطرف وابن الماجشون وغيرهما. وأما الوجه الثالث وهو أن يقصد بها إلى اللذة فلا يلتذ ففي ذلك اختلاف. روى عيسى عن ابن القاسم أن عليه الوضوء، وهو ظاهر ما في المدونة. والعلة في ذلك وقوع الملامسة التي عناها الله تعالى بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وهي الملامسة ابتغاء اللذة على ما بيناه. فإذا ابتغاها بلمسه وجب عليه الوضوء وجدها أو لم يجدها على ظاهر القرآن إذ لم يشترط في الملامسة وجود لذة. واعتل في الرواية بأنه قد وجدها بقلبه حيت وضع يده على امرأته وليس ذلك بعلة صحيحة؛ لأن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة به فلا معنى للاعتبار بها. وروى أشهب عن مالك أنه لا وضوء عليه. ووجه ذلك أن المعنى في إيجاب الملامسة الوضوء اقتران اللذة بها فإن عدمت لم يجب الوضوء، وهذا الاختلاف فيما عدا القبلة. وأما القبلة فإنها توجب الوضوء إذا قصد بها اللذة وإن لم يلتذ لا أعرف في المذهب نصا خلاف ذلك، ولا يبعد دخول الاختلاف فيه بالمعني. وأما الوجه الرابع وهو أن لا يقصد بها إلى اللذة فيلتذ فهذا لا اختلاف فيه في المذهب إنه يوجب الوضوء لأنه وجد معنى الملامسة، والأحكام إنما هي للمعاني. فصل وسواء على مذهب مالك كانت الملامسة على ثوب أو على غير ثوب إلا أن

فصل

يكون الثوب كثيفا، روى ذلك علي بن زياد عن مالك، وهو مفسر لجميع الروايات عندي .. فصل وهذا التفصيل كله في اللامس. وأما الملموس فإن التذ وجب عليه الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء عليه. هذا تحصيل مذهب مالك. والشافعي يوجب الوضوء على اللامس إذا لمس على غير حائل قصد بلمسه اللذة أو لم يقصدها وجدها أو لم يجدها، وله في الملموس قولان أحدهما كقول مالك، والثاني أنه لا وضوء عليه. وحجته في ذلك «حديث عائشة فقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتمسته فوقعت يدي على باطن قدميه وهو يصلي».

القول في الوضوء من مس الذكر

القول في الوضوء من مس الذكر ومما يتعلق بالملامسة وهو من معناها مس الذكر. اختلفت الآثار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروى عنه الأمر بالوضوء من مس الذكر جماعة منهم أبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وزيد بن خالد الجهني وأبو أيوب الأنصاري وابن عمر وجابر وبسرة وأم حبيبة، وروي بألفاظ مختلفة ومعان متفقة في بعضها: «من مس ذكره فليتوضأ» «ومن مس فرجه فليتوضأ» «ومن مس فرجه فلا يصلين حتى يتوضأ وضوءه للصلاة» «ومن أفضى بيده إلى فرجه ليس بينها وبينه حجاب فقد وجب عليه الوضوء» «والوضوء من مس الذكر» «وويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون». «وروى قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي أنه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال: "وهل هو إلا بضعة منك» فصل واختلف أهل العلم في تأويل هذه الأحاديث وتخريجها وفي المعمول به منها فذهبت طائفة منهم إلى الأخذ بوجوب الوضوء من مس الذكر جملة من

فصل

غير تفصيل وصححوا الآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسه وضعفوا حديث طلق بن علي. ومنهم من جعله منسوخا بحديث بسرة، واستدل على نسخه بأن إيجاب الوضوء وارد من جهة الشرع، وقوله هل هو إلا بضعة منك حجة عقلية، فجاز أن ينسخ ما في العقل بالشرع، ولا يصح أن ينسخ الشرع بما في العقل. ومنهم من تأوله فقال ليس فيه نص بإسقاط الوضوء، فيحتمل أن يكون المراد به إجازة مسه وإسقاط غسل اليدين من مسه كسائر الأعضاء. ومنهم من ذهب إلى أن لا وضوء من مس الذكر جملة من غير تفصيل، وهم أهل العراق، وصححوا حديث طلق وضعفوا الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء منه بأن قالوا إن هذا أمر تعم به البلوى، فلو كان الوضوء منه واجبا لألقاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمته إلقاء ذائعا ولو فعل ذلك لم يخف على أكابر الصحابة مثل عثمان وعلي وابن عباس وعمران بن الحصين وغيرهم [ممن أنكر الوضوء من مس الذكر. وهذا يعكس عليهم فيقال لهم لو كان الوضوء غير واجب منه لم يخف ذلك على أكابر الصحابة الذين أوجبوا الوضوء منه مثل عمر بن الخطاب وسعيد وابن عمر وغيرهم] .. ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل حديث طلق في مسه ناسيا، والآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسه في مسه عامدا. فصل وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاختلفت الروايات عنه في ذلك، فروى عنه أشهب أنه سئل عن مس الذكر فقال: لا أوجبه وأبى فروجع في ذلك فقال يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا. وروي عنه في موضع آخر من مس ذكره انتقض وضوؤه وقال في المدونة إن مسه بباطن كفه أو أصابعه انتقض وضوؤه، وإن مسه بظاهر الكف أو الذراع لم ينتقض وضوؤه. واختلف قوله في مسه ناسيا على قولين رواهما عنه ابن وهب في العتبية. فتحصيل هذا أن له في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها ألا وضوء من

فصل

مس الذكر ناسيا كان أو متعمدا كمذهب أهل العراق، وهي رواية أشهب الأولى عن مالك؛ لأن الإعادة في الوقت استحباب، وهو قول سحنون وروايته عن ابن القاسم في العتبية. والثاني إيجاب الوضوء من مسه ناسيا كان أو متعمدا. قيل إذا مسه بباطن الكف أو الأصابع التذ أو لم يلتذ لأنه الموضع المقصود بمسه له فخرج الحديث عليه، وإن مسه بظاهر الكف أو الذراع لم يجب عليه الوضوء وإن التذ. وقيل بل إذا التذ وجب عليه الوضوء مسه بباطن الكف أو بظاهره أو بأي عضو كان. أما التأويل الأول فهو لبعض أهل النظر على قول مالك في المدونة، وأما التأويل الثاني فمنهم من يتأوله على ما في المدونة ويقول إن تخصيصه فيها لباطن الكف من ظاهره تنبيه منه على مراعاة اللذة، ومنهم من يتأوله على مذهب مالك قياسا على ملامسة النساء. والقول الثالث إنه إن كان ناسيا فلا وضوء عليه بحال، وإن كان متعمدا فعليه الوضوء على التأويلين المذكورين. وقد قيل إن معنى رواية أشهب عن مالك الأولى إذا مسه على غير الصفة المراعاة في نقض الوضوء إما ناسيا وإما متعمدا بظاهر الكف أو الذراع التذ أو لم يلتذ على الاختلاف المتقدم. هذا تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة، وهذا إذا مسه على غير حائل. وأما إن كان مسه على حائل رقيق فاختلف قول مالك: روى عنه ابن وهب أنه لا وضوء عليه وهو الأشهر، وروى علي بن زياد عن مالك أن عليه الوضوء. وأما إن مسه على حائل كثيف فلا وضوء عليه، فعلى ما حكيناه من الاختلاف لا اختلاف في المذهب أنه إن مس ذكره ناسيا أو متعمدا بظاهر الكف أو الذراع ولم يلتذ فلا وضوء عليه. فصل وأما مس المرأة فرجها فعن مالك في ذلك أربع روايات: إحداها سقوط الوضوء، والثانية استحبابه، والثالثة إيجابه، والرابعة التفرقة بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. فأما الرواية الأولى والثانية فهما واحدة في سقوط الوجوب. وذهب أبو بكر الأبهري إلى أن ذلك كله ليس باختلاف رواية، وإنما هو اختلاف أحوال، فرواية ابن القاسم وأشهب في سقوط الوضوء معناها إذا لم تلطف ولا قبضت عليه فالتذت، ورواية علي بن زياد عن مالك في وجوب

فصل في القول في الرعاف

الوضوء معناها إذا ألطفت على ما بين في رواية ابن أبي أويس عن مالك. ومن أصحابنا من يحمل الروايات كلها على روايتين: إحداهما وجوب الوضوء، والثانية سقوطه، والوجوب متعلق بالإلطاف والالتذاذ. فصل فإذا مست المرأة فرجها فلم تلطف ولم تلتذ فلا وضوء عليها عند مالك، ولم يختلف عنه في ذلك، فإذا ألطفت والتذت وجب عليها الوضوء عند مالك بلا خلاف، وقيل إن عنه في ذلك روايتين على ما بيناه. فصل ولم يختلف قول مالك في أنه لا وضوء على الرجل في مس دبره التذ أو لم يلتذ، وأوجب عليه الشافعي الوضوء لظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من مس فرجه فقد وجب عليه الوضوء». فصل في القول في الرعاف الرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة عند مالك وجميع أصحابه قل أو كثر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم إنه ينقض الوضوء إذا كان كثيرا، ولمجاهد في قوله إنه ينقضه وإن كان يسيرا. وهو -أعني الرعاف- ينقسم في حكم الصلاة على قسمين: أحدهما أن يكون دائما لا ينقطع. والثاني أن يكون غير دائم ينقطع. فأما القسم الأول وهو أن يكون دائما لا ينقطع فالحكم فيه أن يصلي صاحبه الصلاة به في وقتها على الحالة التي هو عليها. والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صلى حين طعن وجرحه يثعب دما. فإن لم يقدر على السجود والركوع إما لأنه يضر به ويزيد في رعافه وإما لأنه يخشى أن يتلطخ بالدم إن ركع أو سجد أومأ في صلاته كلها إيماء كما قال سعيد بن المسيب فكلا التأويلين

قد تؤولا عليه. فإن انقطع عنه الرعاف في بقية من الوقت وقدر على الصلاة راكعا أو ساجدا لم تجب عليه إعادة لأن إيماءه إن كان لإضرار الركوع أو السجود فهو كالمريض الذي لا يقدر على السجود فيصلي إيماء ثم يصح في بقية من الوقت أنه لا إعادة عليه، وإن كان مخافة أن تمتلئ ثيابه بالدم فهو عذر يصح له به الإيماء إجماعا فوجب أن لا تكون عليه إعادة كالمسافر الذي لا علم عنده بالماء يتيمم ثم يجد الماء في الوقت أنه لا إعادة عليه من أجل أنه من أهل التيمم إجماعا، بخلاف المريض والخائف إذ قيل إنهما ليسا من أهل التيمم، وبخلاف المصلي في الطين إيماء إذ قيل إنه ليس من أهل الإيماء ويلزمه أن يركع ويسجد في الطين وإن فسدت ثيابه فما ذلك على الله بعزيز، وقد «سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الماء والطين فانصرف من الصلاة وعلى جبينه وأنفه أثر الماء والطين». وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير دائم ينقطع، فإن أصابه قبل أن يدخل أخر الصلاة حتى ينقطع عنه ما لم يفت وقت الصلاة المفروضة: القامة للظهر، والقامتان للعصر. وقيل بل يؤخرهما ما لم يخف فوات الوقت جملة بأن يتمكن اصفرار الشمس للظهر والعصر فيخشى أن لا يدرك تمامهما قبل غروب الشمس، فإن خشي ذلك صلاهما قبل خروج الوقت كيفما أمكنه ولو إيماء. وإن أصابه ذلك بعد أن دخل في الصلاة فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون يسيرا يذهبه الفتل. والثاني أن يكون كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل. فأما إن كان يسيرا يذهبه الفتل فإنه يفتله ويتمادى على صلاته فذا كان أو إماما أو مأموما، ولا اختلاف في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف، منهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، أنهم كانوا يرعفون في الصلاة حتى تختضب أصابعهم أي الأنامل الأولى منها من الدم الذي يخرج من أنوفهم فيفتلونه ويمضون على صلاتهم. وأما إن تجاوز الدم الأنامل الأولى وحصل منه في الأنامل الوسطى قدر الدرهم على مذهب ابن حبيب أو أكثر من الدرهم على رواية علي بن زياد عن مالك، فيقطع ويبتدئ،

لأنه قد حصل بذلك حامل نجاسة، فلا يصح له التمادي على صلاته ولا البناء عليها بعد غسل الدم. وأما إن كان كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل فالذي يوجبه القياس والنظر أن يقطع وينصرف فيغسل الدم ثم يبتدئ بصلاته؛ لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها ولا يتخللها شغل كثير ولا انصراف عن القبلة، إلا أنه قد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين إجازة البناء في الصلاة بعد غسل الدم، ومعناه ما لم يتفاحش بعد الموضع الذي يغسله فيه، وقال بذلك مالك وجميع أصحابه في الإمام والمأموم، واختلفوا في الفذ، فذهب ابن حبيب إلى أنه لا يبني الفذ، قال لأن البناء إنما هو ليحوط فضل الجماعة. وقال محمد بن مسلمة يبني. ومثله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في بعض روايات العتبية، وهو قول أصبغ أيضا وظاهر ما في المدونة على ما قاله ابن لبابة. واختلفوا أيضا فيمن رعف قبل أن يركع بعد أن أحرم هل يصح له البناء على إحرامه أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه يبني على إحرامه جملة من غير تفصيل وهو قول سحنون. والثاني أنه لا يبني ويستأنف الإقامة والإحرام جملة أيضا من غير تفصيل وهو قول ابن عبد الحكم، ومثله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. والثالث أنها إن كانت جمعة ابتدأ الإحرام، وإن كانت غير جمعة بنى على إحرامه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه وظاهر ما في المدونة عندي، واستحب أشهب في الجمعة أن يقطع. والرابع أنه إن كان وحده أو إماما ابتدأ الإحرام، وإن كان مأموما بنى على إحرامه. واختلفوا أيضا فيمن رعف في أثناء الركعة قبل أن تتم بركوعها وسجودها على أربعة أقوال: أحدها أنه يصح له ما مضى منها ويبني عليها كانت الأولى أو الثانية بعد أن عقد الأولى، فإن رعف وهو راكع فرفع رأسه للرعاف رفع من الركعة، وإذا رجع رجع إلى القيام فيخر منه إلى السجود. وإن رعف وهو ساجد فرفع رأسه للرعاف

فصل

رفع من السجدة، فإذا رجع سجد السجدة الثانية أو جلس فتشهد إن كان رعافه في السجدة الثانية. وإن كان رعف وهو جالس في التشهد الأول فقيامه للرعاف قيام من الجلسة، فإذا رجع ابتدأ قراءة الركعة الثالثة، إلا أن يكون ذلك في مبتدأ الجلوس فليرجع إلى الجلوس حتى يتم تشهده، وهو قول ابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون. والثاني أنه يلغي ما مضى عن تلك الركعة ولا يبني على شيء منه، ويبتدئها بالقراءة من أولها إذا رجع، كانت الركعة الأولى أو الثانية بعد أن عقد الأولى. وهو ظاهر ما في المدونة عندي، وقد روي ذلك عن ابن القاسم. والثالث أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في الثانية بعد أن عقد الأولى ألغى ما مضى منها واستأنف الركعة من أولها بالقراءة إذا رجع. وقد تؤول ما في المدونة على هذا، وهو قول ابن القاسم وروايته أيضا عن مالك في رسم سلعة سماها، فمرة ساوى ابن القاسم بين الركعة الأولى والثانية، ومرة فرق بينهما على ما قد ذكرته عنه. والرابع أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في الثانية بعد أن عقد الأولى صح له ما مضى منها وبنى عليه إذا رجع. روي هذا القول عن ابن الماجشون. فيتحصل إذا رعف في أثناء الركعة الأولى خمسة أقوال، وإذا رعف في أثناء الركعة الثانية بعد أن عقد الأولى قولان. فصل ولصحة البناء في الرعاف أربعة شروط متفق عليها: أحدها أن لا يجد الماء في موضع فيجاوزه إلى غيره؛ لأنه إن وجد الماء في موضع. فتجاوزه إلى غيره بطلت صلاته باتفاق. والثاني أن لا يطأ على نجاسة رطبة؛ لأنه إن وطئ على نجاسة رطبة انتقضت صلاته باتفاق أيضا. والثالث أن لا يسقط من الدم على ثوبه أو جسد ما لا يغتفر لكثرته، وقد تقدم الخلاف في حده؛ لأنه إن سقط من الدم

فصل

على ثوبه أو جسده كثير بطلت صلاته باتفاق. والرابع أن لا يتكلم جاهلا أو متعمدا؛ لأنه إن تكلم جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته باتفاق. وشرطان مختلف فيهما: أحدهما أن لا يتكلم ناسيا لأنه قد اختلف إن تكلم ناسيا فقال ابن حبيب لا يبني لأن السنة إنما جاءت في بناء الراعف ما لم يتكلم ولم يخص في ذلك ناسيا من متعمد وحكى ابن سحنون عن أبيه أنه يبني على صلاته ويسجد لسهوه إلا أن يكون الإمام لم يفرغ بعد من صلاته فإنه يحمله عنه. والثاني أن لا يطأ على قشب يابس لأنه قد اختلف إن وطئ على قشب يابس، فقال ابن سحنون تنتقض صلاته، وقال ابن عبدوس لا تنتقض صلاته. وأما مشيه في الطريق لغسل الدم وبها أرواث الدواب وأبوالها فلا تنتقض بذلك صلاته لأنه مضطر إلى المشي في الطريق لغسل الدم كما يضطر إلى الصلاة فيها، وليس بمضطر إلى المشي على القشب اليابس قاله ابن حارث. فصل وليس البناء في الرعاف بواجب وإنما هو من قبيل الجائز. وقد اختلف في المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع بسلام أو كلام على القياس. قال فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة، واختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - البناء على الأتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله [أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله] إلا عن توقيف. وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب البناء وهو قوله إن الإمام إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه صلاته بالكلام بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف. والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما يستحب له؟.

فصل

فصل ولا يخرج الراعف من حكم الصلاة وحرمتها على مذهب من يجيز له البناء إلا بأن يقطع بسلام أو كلام أو فعل ما لا يصح فعله في الصلاة. وهذا وجه قول ابن حبيب إن من رعف وهو جالس في وسط صلاته أو راكع أو ساجد فإن قيامه من الجلوس أو رفعه من الركوع أو السجود لرعافه يعتد به من صلاته. فصل واختلف إذا كان مأموما فانصرف لغسل الدم وهو يريد البناء هل يخرج من حكم الإمام أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه يخرج من حكمه حتى يرجع إليه جملة من غير تفصيل. والثاني أنه لا يخرج من حكمه جملة من غير تفصيل. والثالث أنه إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة خرج عن حكمه حتى يرجع إليه، وإن رعف بعد أن قيد معه ركعة لم يخرج عن حكمه. والرابع أنه إن أدرك ركعة من صلاة الإمام بعد رجوعه كان في حكمه حال خروجه عنه، وإن لم يدرك من صلاته ركعة بعد رجوعه لم يكن في حكمه حال خروجه، فتكون على هذا القول أحكامه حال خروجه في ارتباط صلاته بصلاة إمامه معتبرة بما يكشفه الغيب من إدراك ركعة فأكثر من صلاته. فمن رأى أنه يخرج من حكمه حتى يرجع يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا قبل أن يرجع لم تفسد عليه هو، وإن تكلم سهوا سجد بعد السلام ولم يحمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب الذي يرى أن ذلك يبطل عليه البناء. وإن ظن أن الإمام قد أتم صلاته فأتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه لو مضى لأدركه في الصلاة أجزأته صلاته، وإن سها الإمام لم يلزمه من سهوه شيء. ومن رأى أنه لا يخرج عن حكمه يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا فسدت عليه هو صلاته، وإن أتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه لو مضى لأدرك الإمام في الصلاة لم تجزه صلاته، وإن سها الإمام لزمه سهوه، وإن تكلم هو ساهيا حمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب المذكور. وإن قرأ الإمام بعده سجدة

فصل

فسجدها فرجع هو بعد سلام الإمام كان عليه أن يقرأها ويسجدها، قاله ابن المواز على قياس هذا القول. فصل وحكم الإمام في الرعاف حكم المأموم في جميع الأشياء لأنه يستخلف عند رجوعه من يتم بالقوم صلاتهم، فيصير المستخلف له إماما يصلي معه ما أدرك من صلاته بعد غسل الدم ويقضي ما فاته ويكون في حكمه حتى يرجع إليه على الاختلاف المذكور فوق هذا. فإن ظن الإمام أنه قد رعف فانصرف ثم تبين أنه لم يرعف بطلت صلاته، واختلف في صلاة القوم فقال ابن عبدوس لا تبطل وحكى ذلك عن سحنون في المجموعة، وقال ابن سحنون تبطل. فصل فإذا رعف الرجل خلف الإمام فخرج فغسل الدم عنه فإن علم أنه يدرك الإمام في صلاته رجع إليه فأتم معه، وإن علم أنه لا يدركه أتم صلاته في موضعه. فإن كان قد فاته بعض صلاة الإمام وصلى معه بعضها ثم رعف في بقيتها بدأ بالبناء قبل القضاء عند ابن المواز وابن حبيب وهو مذهب ابن القاسم. وقال محمد بن سحنون يبدأ بالقضاء قبل البناء. مثال ذلك أن يفوت الرجل ركعة من صلاة الإمام فيدخل معه في الثانية فيصليها معه ثم يرعف في الثالثة فلا ينصرف حتى يتم الإمام صلاته، فإنه على القول بتقديم البناء على القضاء يأتي بالركعة الثالثة يقرأ فيها بالحمد لله وحدها كما قرأ فيها الإمام لأنها ثالثة صلاته ويجلس فيها لأنها ثانية بنائه، إذ ليس بيده إلا الركعة الثانية التي صلى مع الإمام. ثم يأتي بالركعة الرابعة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويقوم عند ابن حبيب لأنها ثالثة بنائه، ويجلس عند ابن المواز لأنها رابعة صلاته وآخر صلاة الإمام، فلا يقوم للقضاء إلا من جلوس، ثم يأتي بالركعة الأولى التي فاتته بالحمد وسورة كما فاتته، فتصير صلاته جلوسا كلها على مذهبه. وعلى الفول بتقديم القضاء على البناء يأتي أولا بالركعة الأولى فيقرأ فيها بالحمد وسورة كما قرأ الإمام ويجلس فيها لأنها ثانية للركعة التي صلى مع

فصل

الإمام، ثم يأتي بالركعة الثالثة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويقوم ولا يجلس فيها لأنها ثالثة لما قد صلى، ثم يأتي بالركعة الرابعة بالحمد لله وحدها أيضا ويجلس ويتشهد ويسلم. ولو فاتته مع الإمام الأولى وصلى معه الثانية ورعف في الثالثة وأدرك معه الرابعة لكان عليه قضاء الأولى والثالثة يبدأ بقضاء الأولى فيأتي بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويقوم لأنها ثالثة له ثم يأتي بالثالثة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويجلس ويتشهد ويسلم، قاله ابن حبيب. ولم يقل إنه يبدأ ببناء الثالثة التي رعف فيها على الثانية التي صلاها مع الإمام على أصله في تبدئة البناء على القضاء، إذ قد حالت بينه وبين بنائه عليها الركعة الرابعة التي أدرك مع الإمام. وأما على مذهب من يرى أن القضاء يبدأ على البناء فلا إشكال في صحة هذا الجواب في هذه المسألة لأن البناء لما بعد فيها ووجب قضاء الركعتين وجب أن يبدأ بقضاء الأولى قبل الثالثة. وقد وقع لسحنون في المجموعة أنه يقضي الثالثة بالحمد لله وحدها قبل الأولى، وذلك مخالف لأصله بعيد من قوله. فصل وحكم الراعف خلف الإمام في الجمعة وغيرها سواء إلا في موضعين: أحدهما أنه إذا رعف في الجمعة بعد أن صلى مع الإمام ركعة فلم يفرغ من غسل الدم حتى أتم الإمام صلاته أنه لا يصلي الركعة الثانية إلا في المسجد الذي ابتدأ الصلاة فيه لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد، فإن حال بينه وبين الرجوع إلى المسجد واد أو أمر غالب أضاف إليها ركعة وصلى ظهرا أربعا، قاله المغيرة. والثاني أنه إذا رعف قبل أن يتم مع الإمام ركعة بسجدتيها ثم لم يفرغ من غسل الدم حتى أتم الإمام صلاته لا يبني على صلاة الإمام تمام ركعتين ويصلي أربع ركعات في موضعه على قول من رأى أنه يبنى على الإحرام في الجمعة. وقد تقدم ذكر الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.

فصل في القول في التيمم

فصل وإذا رعف الإمام في صلاة الجنازة أو صلاة العيد استخلف من يتم بالقوم بقية الصلاة كصلاة الفريضة سواء. وأما إذا رعف المأموم فيهما فإنه ينصرف ويغسل الدم ثم يرجع فيتم مع الإمام ما بقي من تكبير الجنازة وصلاة العيد، فإن علم أنه لا يدرك شيئا من ذلك مع الإمام أتم في موضعه حيث يغسل الدم عنه إلا أن يعلم أنه يدرك الجنازة قبل أن ترفع، فإنه يرجع حتى يتم ما بقي من التكبير عليها. قال أشهب: فإن كان رعف قبل أن يعقد من صلاة العيد ركعة أو قبل أن يكبر من تكبير الجنازة شيئا وخشي إن انصرف لغسل الدم أن تفوته الصلاة لم ينصرف وصلى على الجنازة وتمادى على صلاته في العيد. وكذلك لو رأى في ثوبه نجاسة وخاف إن انصرف لغسلها أن تفوته صلاة الجنازة أو صلاة العيد لتمادى على صلاته ولم ينصرف؛ لأن صلاة الجنازة والعيد مع الرعاف وبالثوب النجس أولى من فواتهما وتركهما بخلاف صلاتهما بالتيمم لمن لم يجد الماء، إذ ليس الصحيح الحاضر من أهل التيمم. هذا كله -أعني ما ذكرته في هذا الفصل- هو معنى ما في كتاب ابن المواز الذي ينبغي أن يحمل عليه وإن كان ظاهر لفظه مخالفا لبعضه. وبالله تعالى التوفيق. فصل في القول في التيمم أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما لأن الأمر لهما بالتيمم مع عدم الماء نص في الآية لا يحتمل التأويل. واختلفوا في الصحيح الحاضر العادم للماء والمريض الواجد للماء العادم للقدرة على مسه هل هما من أهل التيمم أم لا، لما

احتملته الآية من التأويل. فمن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا رآهما من أهل التيمم؛ لأن شرط عدم الماء في الآية يعود على الحاضر، ويتأول إضماره في المريض والمسافر، وإضمار عدم القدرة على مسه في المريض أيضا. ومن قدر في الآية تقديما وتأخيرا لم يرهما من أهل التيمم؛ لأن شرط عدم الماء على التقديم والتأخير لا يعود إلا على المريض والمسافر. وكذلك إذا حملت الآية على التأويل الذي ذكرناه فيما تقدم فيها من أن "أو" في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو لا يكونان من أهل التيمم، وهو أظهر من التأويلين المتقدمين؛ لأن التلاوة تبقى على ظاهرها دون تقديم وتأخير، ولا يحتاج فيها إلى إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها ولا احتمال. لأن تقديرها على هذا التأويل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] الآية إلى {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. والتيمم القصد، قال الله عز وجل: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي قاصديه. والصعيد: ما صعد من الأرض، وقيل التراب. والطيب الطاهر. يقول الله تعالى: وإن كنتم على هذه الأحوال فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه أن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره؛ لأنهم يجيزون التيمم بالرمل والحصا والجبل. والدليل على صحة قول مالك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» فوجب بظاهر هذا الحديث أن يجوز التيمم بكل ما هو مشاكل للأرض لم تدخله صنعة كما تجوز الصلاة عليه، ويجوز على هذا التيمم بالحشيش النابت على وجه الأرض إذا عم الأرض وحال بينك وبينها. وقال يحيى بن سعيد ما حال

فصل

بينك وبين الأرض فهو منها. واختلف قول مالك في التيمم على الثلج إذا عم الأرض فأجازه في رواية علي بن زياد ومنع منه في رواية أشهب وغيره. وذهب الشافعي إلى أن التيمم لا يجوز إلا على التراب، واحتج بما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها لي طهورا»، فحصل الإجماع على إجازة التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض. فالاختيار أن لا يتيمم على الحصباء وما أشبهها إلا عند عدم التراب. فإن تيمم عليه وهو واجد للتراب فظاهر المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في الوقت. وأما الثلج فإن تيمم عليه وهو يصل إلى الأرض فيعيد أبدا، قاله ابن حبيب وهو معنى ما في المدونة، وإن تيمم عليه وهو لا يصل إلى الأرض فظاهر المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في الوقت. وهذا كله على رواية علي بن زياد عن مالك، وأما على رواية أشهب عنه فيعيد أبدا إن تيمم عليه كان يصل إلى الأرض أو لا يصل إليها. فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن التيمم بالتراب على غير وجه الأرض جائز مثل أن يرفع إلى المريض في طبق أو إلى الراكب في محمل أو يكون مريضا فيتيمم جدارا إلى جانبه إن كان من طوب نيء. وذهب ابن بكير إلى أن العبادة إنما هي القصد إلى وجه الأرض فلم يجز شيئا من ذلك. فصل وأطلق الله تبارك وتعالى الأيدي في التيمم ولم يقيدها بالحد إلى المرفقين كما فعل في الوضوء. واختلفت الآثار في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فروي عنه الأمر بالتيمم إلى المرفقين، وإلى الكوعين، بضربة واحدة، وبضربتين. «وروي عن عمار

فصل

بن ياسر أنه قال: لما نزلت آية التيمم عمد المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتيمموا إلى المناكب والآباط.» فيحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك اتباعا لظاهر القرآن بكل ما يقع عليه اسم يد عند العرب قبل أن يأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك بشيء، إذ لا يوجد ذلك للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في غير هذا الحديث. وعلى هذا اختلف أهل العلم في حد التيمم، فمنهم من ذهب إلى إيجاب التيمم إلى المنكبين، وهو قول ابن شهاب ومحمد بن مسلمة من أصحابنا. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى المرفقين على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا على الوضوء، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، وإليه ذهب من أصحابنا ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى الكوعين قياسا على القطع في السرقة. قيل في ذلك كله بضربة واحدة، أو بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين، فهذه ستة أقوال. وقال الحسن وابن أبي ليلى يضرب ضربتين فيمسح بكل واحدة منهما وجهه ويديه. وحكى ابن لبابة في المنتخب قولا ثامنا في المسألة، وهو أن الجنب يتيمم إلى الكوعين بالسنة لا بالقرآن، وغير الجنب إلى المنكبين على ظاهر ما في القرآن، واحتج لذلك بما يقف عليه من تأمله في موضعه من كتابه. فصل ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجنب يتيمم بظاهر القرآن؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر بالوضوء من الحدث والغسل من الجنابة للصلاة، ثم أمر بالتيمم عند عدم الماء بالنص على ذلك، وعند عدم القدرة على استعماله بالتأويل الظاهر، فوجب أن يحمل ذلك على الوضوء والغسل من الجنابة جميعا، وأن لا يخصص في أحدهما دون الآخر إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. بل قد دلت السنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تيمم الجنب على خلافه؛ وأن التيمم عنده، أعني عند مالك، من الجنابة والحدث الذي ينقض الوضوء سواء، وأن فرض التيمم فيهما ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكوعين، إلا أنه يستحب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين

فصل

إلى المرفقين، فإن تيمم إلى الكوعين أعاد في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين لم يعد. فصل ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الجنب لا رخصة له في التيمم، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وكان عبد الله بن مسعود يقوله ثم رجع عنه. وقد روي «أن رجلا سأل عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أجد الماء، فأمره أن لا يصلي، فقال له عمار أما تذكر أنا كنا في سرية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت بالتراب فصليت، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض فنفخ فيهما فمسح وجهه وكفيه» فلم يقنع عمر بقول عمار وخشي أن يكون قد دخل عليه فيما حدثه به وهم أو نسيان إذ لم يذكر هو شيئا من ذلك. فصل وقد ذهب بعض الناس ممن ينتحل الحديث إلى أن الجنب يتيمم إذا عدم الماء ويتوضأ إذا وجده ولم يقدر على مسه على ما روي «عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره على جيش ذات السلاسل، وفي الجيش نفر من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطاب، فاحتلم عمرو بن العاص في ليلة شديدة البرد، فأشفق أن يموت إن اغتسل فتوضأ ثم أم أصحابه، فلما قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم عمر بن الخطاب فشكا عمرو بن العاص حتى قال وأمنا جميعا، فأعرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمر بن الخطاب. فلما قدم عمرو دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يخبره بما صنع في غزاته، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصليت جنبا يا عمرو؟ فقال نعم يا رسول الله أصابني احتلام في ليلة باردة لم يمر على وجهي مثلها قط، فخيرت نفسي بين أن أغتسل فأموت أو أقبل رخصة الله عز وجل فقبلت رخصة الله تعالى وعلمت أن الله

فصل

أرحم بي فتوضأت ثم صليت. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنت ما أحب أنك تركت شيئا صنعته ولو كنت في القوم لصنعت كما صنعت.» وممن كان يذهب إلى هذا أحمد بن صالح وقال إن الوضوء فوق التيمم، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل التيمم بدل الغسل من الجنابة ولم يجعل الوضوء بدلا منه، فليس بأرفع منه في ذلك، وإنما هو أرفع منه في الحدث الأصغر حيث جعل بدلا منه. وأما الحديث فيحتمل أن يكون ما كان من عمرو بن العاص قبل نزول آية التيمم، والحكم حينئذ في الجنب إذا عدم الماء أن يصلي بلا غسل، فلما سقط عنه فرض الاغتسال بالخوف على نفسه صار في حكم من لا جنابة عليه، فتوضأ وصلى كما يفعل من استيقظ من نومه ولا جنابة عليه، وكما يصلي عريانا من لم يجد سترة. وقد صلى أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فرض التيمم وهم محدثون على غير وضوء، فلم ينكر ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم على ما روي. فصح ما تأولناه. والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل والتيمم لا يرفع الحدث الأكبر ولا الأصغر عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لسعيد بن المسيب وابن شهاب في قولهما إنه يرفع الحدث الأصغر دون الأكبر، وخلافا لقول أبي سلمة بن عبد الرحمن في أنه يرفع الحدثين جميعا حدث الجنابة والحدث الذي ينقض الوضوء. ومعنى هذا أنه إذا تيمم للوضوء أو من الجنابة كان على طهارة أبدا ولم يجب عليه الغسل ولا الوضوء وإن وجد ماء ما لم يحدث أو يجنب. وقد وقع في المدونة عن ابن مسعود ما ظاهره أنه كان يقول مثله. ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره، فإن المحفوظ عن ابن مسعود ما حكيناه عنه قبل من أن الجنب لا يتيمم بحال ثم رجع إلى [أنه يتيمم، فإذا وجد الماء اغتسل. فما وقع في المدونة

فصل

من قول سحنون: وقد كان يقول غير ذلك ثم رجع إلى] هذا أي أنه يغتسل. معناه: وقد كان يقول إنه لا يتيمم بحال ثم رجع إلى هذا الذي ذكره عنه وعن مالك وسعيد بن المسيب من أنه إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء أنه يغتسل. فصل وإن كان التيمم عند مالك وأصحابه لا يرفع الحدث جملة فإنه يستباح به عندهم ما يستباح بالوضوء والغسل من صلاة الفرائض والنوافل وقراءة القرآن نظرا وظاهرا وسجود التلاوة وما أشبه ذلك مما تمنعه الجنابة أو الحدث الذي ينقض الوضوء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يستباح به نافلة، منهم عبد العزيز بن أبي سلمة. فمن ذهب إلى أن التيمم يرفع الحدثين جميعا فهو عنده بدل من الوضوء والغسل حقيقة. ومن رأى أنه يرفع الحدث الأصغر ولا يرفع الحدث الأكبر فهو عنده بدل من الوضوء حقيقة. ومن رأى أنه لا يرفع الحدثين ولا أحدهما ولا يستباح به إلا الفرائض فليس هو عنده بدلا منهما ولا من أحدهما وإنما هو استباحة للصلاة خاصة خوف فوات الوقت. وأما على مذهب من يرى أنه يستباح به جميع ما يمنع منه الحدث دون أن يرفعه، فقيل إنه استباحة لفعل ما يمنع منه الحدث وليس ببدل من الطهارة بالماء إذ لا يرفع الحدث كما ترفعه الطهارة، وقيل إنه بدل منهما وإن كان لا يرفع الحدث، وهو الأظهر. ودليله أن تقول إن الأصل كان في الطهارة بالماء والتيمم عند عدمه وجوبهما لكل صلاة بظاهر قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية فخصصت السنة من ذلك الطهارة بالماء، وهي صلاة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على أصله إذ لا يقوى البدل قوة المبدل منه. فصل فإذا قلنا إنه يستباح به ما لا يجوز فعله إلا بطهارة الماء فإن الذي يستباح به

فصل

على ضربين: أحدهما عبادة مؤقتة بوقت، والثاني عبادة غير مؤقتة بوقت. فأما العبادة المؤقتة بوقت فإن التيمم لها لا يصح إلا بعد دخول وقتها، ولصحته بعد دخول وقتها شرائط متفق عليها ومختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي عدم الماء أو عدم القدرة على الوصول إليه في السفر والمرض مع طلبه عند عدمه أو طلب القدرة على الوصول إليه عند عدمها. وأما المختلف فيها فهي عدم الماء في الحضر أو عدم القدرة على استعماله لمرض مع طلبه أيضا عند عدمه أو طلب القدرة على استعماله. وطلب الماء عند عدمه إنما يجب مع اتساع الوقت لطلبه، والذي يلزم منه ما جرت العادة به من طلبه في رحله أو سؤال من يليه ممن يرجو وجوده عنده ولا يخشى أن يمنعه إياه، أو العدول إليه عن طريقه إن كان مسافرا على قدر ما يمكنه من غير مشقة تلحقه مع الأمن على نفسه. ولا حد في ذلك يقتصر عليه لاختلاف أحوال الناس، وقالوا في الميلين إنه كثير، وفي الميل ونصف الميل مع الأمن إنه يسير، وذلك للراكب والراجل القوي القادر. وعدم القدرة على استعماله هو مثل أن يخشى من استعماله الموت أو المرض أو زيادة فيه إن كان مريضا. قال أبو الحسن القابسى مثل أن يخشى أن تصيبه نزلة أو حمى، وقال الشافعي لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف تلف نفسه باستعماله. فصل فإذا قلنا إن ذلك شرط في صحة التيمم فهل ذلك شرط في صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها؟ أو في صحته لما اتصل به من الصلوات عند القيام لها؟ أو في صحة التيمم على الإطلاق؟ في ذلك بين أهل العلم اختلاف. أما من ذهب إلى ما حكيناه من أن الأصل كان إيجاب الوضوء لكل صلاة أو التيمم عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله بظاهر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية وأن السنة خصصت من ذلك الوضوء وبقي التيمم على الأصل، فلا يصح عنده صلاتان بتيمم واحد وإن اتصلتا ونواه لهما، ولا صلاة بتيمم نواه لغيرها، ولا صلاة بتيمم نواه لها إذا صلى به غيرها أو تراخى عن الصلاة به اشتغالا بما سواها. ويجيء على مذهبه أن طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة

التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد أو صلاة بتيمم نواه لغيرها أو لها فصلى به غيرها أو تراخى عن الصلاة به وجبت عليه الإعادة في الوقت وغيره، وهو ظاهر ما في المدونة ونص رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك. ومن لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت أو فرق بين المشتركتين من غير المشتركتين أو بين أن يتيمم لنافلة فيصلي [به فريضة وبين أن يتيمم لفريضة فيصلي قبلها نافلة] فلم يجر في ذلك على أصل، وإنما ذهب في ذلك إلى مراعاة الخلاف. وكان يلزم على قياس هذا القول أن لا يصلي نافلة بتيمم مكتوبة لا قبلها ولا بعدها وإن اتصلت بها، ولا نافلتين بتيمم واحد، إلا أنه أباح ذلك مراعاة لقول من يرى أن التيمم إذا صح على شروطه يرفع الحدث كالوضوء بالماء، ولقول من يرى أن الطلب لا يتعين على عادم الماء إلا مرة ثم لا يتكرر عليه وجوبه، وأن التيمم إذا صح على شروطه كان على طهارة ما لم يحدث أو يجد الماء من غير أن يطلبه، إذ لا يتكرر عليه وجوب طلبه إلى مذهبه، أو يعلم أنه يقدر على مس الماء إن كان تيممه لعدم القدرة على استعماله. فعلى قول هؤلاء جميعا يكون طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرطا في صحة التيمم على الإطلاق، وإن كان ينتقض في قول بعضهم بوجود الماء، ولا ينتقض في قول بعضهم إلا بالحدث على ما بيناه. ويجري على رواية أبي الفرج في ذاكر الصلوات أنه يصليها بتيمم واحد أن طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة التيمم لما اتصل من الصلوات التي نواها عند القيام لها. وإذا قلنا إن رواية أبي الفرج هذه مبنية على هذا الأصل فيلزم عليها إجازة الصلوات المكتوبات والنوافل بتيمم واحد إذا اتصلت وكان تيممه لها كلها، تقدمت النوافل أو تأخرت. ولا يجوز له أن يصلي بتيمم واحد من النوافل إلا ما نواه أيضا بتيممه أو اتصل عمله. ولا يجوز له أن يصلي بتيممه لمكتوبة نافلة لم ينوها وإن اتصلت بالمكتوبة.

فصل

فإن قائل قائل: لا اختلاف في المذهب في جواز صلاة النافلة بتيمم المكتوبة إذا اتصلت بها. قيل له: إن أجاز ذلك على هذه الرواية فليس على أصله فيها، وإنما هو مراعاة للاختلاف في الأصل وقد ذكرناه. فصل فيتحصل من هذا أن في وجوب تكرار الطلب قولين: أحدهما أنه لا يتكرر، والثاني أنه يتكرر. وإذا قلنا إنه لا يتكرر فهل يجب الوضوء بوجود الماء أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه يجب، والثاني أنه لا يجب. وإذا قلنا إنه يتكرر، فهل يتكرر لكل صلاة عند القيام إليها؟ أو لا يتكرر إلا عند التراخي عنها بالاشتغال بما سواها؟ في ذلك قولان أيضا. فصل وأما دخول الوقت فإنه مراعى في المشهور من المذهب. وقال ابن شعبان من أصحابنا ليس بشرط في صحة التيمم. والدليل على صحة مذهب مالك أن الله تعالى أوجبه عند القيام للصلاة، ولا يكون القيام لها إلا عند دخول وقتها. فصل والدليل على صحة اشتراط الطلب قول الله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ولا يصح أن يكون غير واجد للماء إلا بعد أن يطلبه. فصل وأما العبادات التي هي غير مؤقتة فيستباح في كل وقت ما اتصل منها بالتيمم على الشرائط التي ذكرناها فيما له وقت بعد دخول الوقت.

فصل

فصل والعادمون للماء على ثلاثة أضرب: أحدها أن يعلم أنه لا يقدر على الماء في الوقت أو يغلب ذلك على ظنه. والثاني أن يشك في الأمر. والثالث أن يعلم أنه يقدر على الماء في آخر الوقت أو يغلب ذلك على ظنه. فأما الضرب الأول فإنه يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت ليحوز فضيلة أول الوقت إذ قد فاتته فضيلة الماء، وهذا حكم الذي لا يقدر على مس الماء. وأما الوجه الثاني فيتيمم في وسط الوقت. ومعنى ذلك أن يتيمم من الوقت في آخر ما يقع عليه اسم أول الوقت؛ لأنه يؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم يخف فوات فضيلة أول الوقت، فإذا خاف فواتها تيمم وصلى لئلا تفوته فضيلة أول الوقت ثم لا يدرك الماء فتفوته الفضيلتان. وأما الوجه الثالث، فإنه يؤخر الصلاة إلى أن يدرك الماء في آخره لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت؛ لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها. ففضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة، ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ويريد في المدونة بقوله آخر الوقت ووسطه آخر الوقت المختار [ووسط الوقت المختار] خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب والله الموفق.

القول في الحيض والاستحاضة وأحكامهما

القول في الحيض والاستحاضة وأحكامهما قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وفي سبب سؤالهم الني - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن محيض النساء وكيفية اعتزالهن فيه بين أهل العلم اختلاف. فصل في ذكر الاختلاف في السبب الباعث لهم على ذلك فأما سبب سؤالهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن المحيض فقيل إنما كان ذلك لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم لا يساكنون حائضا ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها، كما كانت اليهود تفعل، فعرفهم الله تعالى بهذه الآية أن الذي بهن في الدم لا يبلغ أن تحرم به مجامعتهن في البيوت ولامؤاكلتهن ومشاربتهن بقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] لأن الأذى لا يعبر به إلا عن المكروه الذي ليس بشديد. قال الله عز وجل: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111]، وقال: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] وأعلمهم أن الذي عليهم في أيام حيض نسائهم تجنب جماعهن لا غير. والدليل على ذلك من الآية قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] أي فجامعوهن

فصل في ذكر الاختلاف في كيفية الاعتزال المأمور به في الآية

في موضع جماعهن. فدل ذلك على أنه إنما نهى في حال الحيض عما نص على إباحته بعد الطهر وهو الجماع في موضع الجماع لا غير. وقيل إنما سألوه عن ذلك لأنهم كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فلما سألوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك أنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] إلى قوله {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] أي في الفرج لا تعدوه، وهو أظهر من القول الأول وأبين في المعنى. فصل في ذكر الاختلاف في كيفية الاعتزال المأمور به في الآية وأما كيفية اعتزال النساء في الحيض المأمور به في الآية ففيه لأهل العلم ثلاثة أقوال: أحدها اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه على ظاهر قول الله عز وجل؛ لأنه أمر باعتزالهن عموما ولم يخص منهن شيئا دون شيء. وهذا إنما ذهب إليه من اتبع ظاهر القرآن وجهل ما ورد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من الآثار. والثاني إباحة مباشرة ما فوق الإزار على ما وردت به الآثار، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار. وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين من البغداديين. والثالث إباحة كل شيء منها ما عدا الفرج على ظاهر ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت لمن سألها عن ذلك: كل شيء لك منها حلال، ما عدا الفرج. وإلى هذا ذهب أصبغ فقال: إنما أمرت أن تشد عليها إزارها لئلا يصيبه شيء من دمها في مضاجعته إياها، وجعل النهي الوارد عن مباشرتها فيما دون الإزار من باب حماية الذرائع لئلا يجامعها في الفرج.

فصل في تقسيم ما تراه المرأة من الدم

فصل في تقسيم ما تراه المرأة من الدم والدم الذي تراه المرأة ينقسم على ثلاثة أقسام: دم حيض، ودم استحاضة، ويسمونه دم علة وفساد، ودم نفاس. فأما دم الحيض فهو الدم الخارج من الفرج على عادة الحيض من غير علة ولا نفاس، وهو شيء كتبه الله على بنات آدم وجعله حفظا للأنساب وعلما لبراءة الأرحام. وقد قيل إن أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل. والأول من جهة المعنى أظهر، والثاني من جهة النقل أصح. وأما دم النفاس فهو الدم الخارج من الفرج على العادة عند النفاس، ويوجب ما يوجبه الحيض ويمنع ما يمنع منه الحيض. وأما دم الاستحاضة فهو ما زاد على دم الحيض والنفاس، وهو دم علة وفساد، فلا حكم له على طريق الوجوب. والذي يستحب للمستحاضة على مذهب مالك وأصحابه أن تتوضأ لكل صلاة. وقد استحب بعض العلماء لزوجها أن لا يطأها، واستحب لها بعضهم أن تغتسل من ظهر إلى ظهر وفي البخاري عن أم حبيبة أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وليس في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بذلك، فلعلها تبرعت بذلك احتياطا. وقال الخطابي ليس كل مستحاضة يجب عليها الغسل لكل صلاة، وإنما يجب ذلك على التي تسمى المتحيرة وهي التي لا تميز الدم ولا كانت لها أيام معلومة أو كان فنسيتها ولا تعرف عددها، فهذه يجب عليها الغسل لكل صلاة لإمكان أن يكون ذلك الوقت قد صادف وقت انقطاع دم الحيض. ومن هذه حالها من النساء فلا يطؤها زوجها وتصوم رمضان مع الناس وتقضيه بعد ذلك لتحيط علما أن قد استوفت عدد الثلاثين يوما في وقت كان لها أن تصوم فيه، وإن كانت حاجة طافت طوافين بينهما خمسة عشر يوما لتكون على يقين

فصل في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس وأقلهما

من حصول أحد الطوافين في وقت يصح لها فيه، وهذا ليس على المذهب، وفيه نظر. فصل فلا يتبين دم الاستحاضة من دم الحيض والنفاس إلا بمعرفة أكثر دم الحيض والنفاس، وهو يزيد وينقص، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] فأخبر بنقصان ذلك وزيادته. فصل ودم الحيض إنما هو دم يتحادر من أعماق الجسم إلى الرحم فيجمعه الرحم طول مدة الطهر، ومن ذلك سمي الطهر قرءا من قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه. قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وقال الشاعر: ذراعي حرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا أي لم تجمع في بطنها جنينا، ثم تدفعه في أيام الحيض، فقد تدفعه دفعا متواليا متصلا، وقد تدفعه متقطعا شيئا بعد شيء. فإذا كان بين الدمين من الأيام أيام يسيرة لا تكون طهرا فاصلا بين حيضتين علم أن الدم الثاني [من الدم الأول وأنها حيضة واحدة تقطعت، وإن كان بينهما أيام كثيرة تكون طهرا فاصلا علم أن الدم الثاني] ليس من الدم الأول وأنه حيضة ثانية مما تحادر إلى الرحم وجمعته في هذا الطهر الذي قبله. فصل في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس وأقلهما والذي يحتاج إلى تفصيله في هذا الباب معرفة أقل الطهر ليعلم بذلك الفصل بين الحيضتين وأقل الحيض الذي [يكون حيضة] تعتد به المرأة في

الطلاق، وأكثر الحيض والنفاس ليعلم بذلك الفصل بينه وبين دم الاستحاضة. وأما أكثر الطهر فلا حد له لأن المرأة ما دامت طاهرة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها طال زمان ذلك أو قصر. فأما أقل الطهر فاختلف فيه على أربعة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون وروايته عن مالك أن أقله خمسة أيام، فكلما قل الطهر كثر الحيض، وكلما قل الحيض كثر الطهر. وهو قول ضعيف لأنه يقتضي أن المرأة قد تحيض أكثر من نصف دهرها وذلك يرده الأثر. والثاني قول سحنون وهو دليل المدونة على ما تأوله ابن أبي زيد إن أقله ثمانية أيام. والثالث رواية التونسي عن مالك ورواية أصبغ عن ابن القاسم أن أقله عشرة أيام. والرابع قول محمد بن مسلمة أن أقله خمسة عشر يوما. وهذا القول الرابع له حظ من القياس، وهو أن الله تبارك وتعالى جعل عدة الحرائر ذوات الأقراء في الطلاق ثلاثة قروء فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وجعل عدة اليائسة من المحيض ثلاثة أشهر فقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فجعل بإزاء كل شهر طهرا وحيضا، فلا يخلو ذلك من أربعة أقسام: أحدها أن يكون أكثر الحيض وأكثر الطهر. والثاني أن يكون أقل الطهر وأقل الحيض. والثالث أن يكون أكثر الطهر وأقل الحيض. والرابع أن يكون أقل الطهر وأكثر الحيض. فأكثر الطهر وأكثر الحيض أو أقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن الطهر لا حد لأكثره، وأقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن أقل الطهر أكثر ما قيل فيه خمسة عشر يوما، وأقل الحيض أكثر ما قيل فيه خمسة أيام، فيبقى من الشهر عشرة أيام. فإذا بطلت هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا القسم الرابع وهو أن يكون بإزاء الشهر أقل الطهر وأكثر

الحيض باتفاق خمسة عشر يوما، فإذا نقصتها من الشهر بقي منه أقل الطهر وذلك خمسة عشر يوما. وأما سائر الأقاويل فلا حظ لها في القياس وإنما أخذت من عادة النساء؛ لأن كل ما وجب تحديده في الشرع ولم يرد به نص لزم الرجوع فيه إلى العادة، كنفقة الزوجات وشبه ذلك. وقد حكى أحمد بن المعدل عن ابن الماجشون أنه وجد من النساء مت يكون طهرها خمسة أيام وعرف ذلك بالتجربة من جماعة النساء. وأما أكثر الحيض فخمسة عشر يوما. والأصل في ذلك ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب النساء فقال: إنكن ناقصات عقل ودين فقالت امرأة منهن ما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله فقال إن إحداكن تمكث نصف عمرها أو شطر عمرها لا تصلي فذلك نقصان دينكن». فساوى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ما تصلي فيه وبين ما لا تصلي فيه فجعلا شطرين، وذلك يقتضي أن لا يكون الحيض أكثر من خمسة عشر يوما كل شهر؛ لأن الحديث خرج مخرج الذم لهن، فدل على أنه إنما قصد إلى ذكر أقصى ما يتركن الصلاة فيه بسبب الحيض. هذا قول مالك وأصل مذهبه. وقد قال إن المرأة إذا تمادى بها الدم استظهرت بثلاثة أيام على أكثر أيامها ثم اغتسلت وصلت وصامت، ولم يبين إن كان يطؤها زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوما ويكون حكمها حكم المستحاضة أم لا. واختلفت تأويلات أصحابنا عليه في ذلك. فمنهم من قال إن اغتسالها بعد الاستظهار استحسان واحتياط للصلاة، ولا يطؤها زوجها حتى تتم خمسة عشر يوما فتطهر طهرا آخر واجبا، وهو دليل رواية ابن وهب عن مالك قوله فرأيت أن أحتاط لها فتصلي وليس ذلك عليها أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها. فإذا بنى قوله على الاحتياط فمن الاحتياط ترك وطئها قبل الخمسة عشر يوما وإيجاب الغسل عليها إذا أكملت الخمسة عشر يوما وقضاء الصيام. ومنهم من ذهب إلى أنها إذا اغتسلت وصلت وصامت أجزأها صومها ووطئها زوجها وكان حكمها حكم المستحاضة، فلا يجب عليها غسل عند تمام الخمسة عشر يوما إلا

استحسانا، وهو دليل ما في كتاب الحج الثالث من قوله في الحائض في الحج إن الكري يحبس عليها أقصى ما يمسكها الدم والاستظهار، فدل أنها تطوف بعد الاستظهار كالمستحاضة، وإن كان ابن أبي زيد قد تأول أن الكراء يفشى بينها وبين الكري إن تمادى بها الدم بعد الاستظهار وهو بعيد. فعلى هذا التأويل في أكثر الحيض لمالك قولان: أحدهما أكثره خمسة عشر يوما. والثاني أن أكثر حيض كل امرأة أيامها المعتادة مع الاستظهار ما بينها وبين خمسة عشر يوما. وأبو حنيفة يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام، وهو قول لا يعضده أثر ولا يوجبه نظر. وأما أقل الحيض فاختلف فيه على ستة أقوال: أحدها ألا حد له من الأيام، وأن الدفعة واللمعة حيض. فإن كان قبله طهر فاصل وبعده طهر فاصل كان حيضة تعتد به المطلقة في أقرائها، وإن لم يكن قبله طهر فاصل لم يكن حيضة وكان حيضا مضافا إلى الدم الذي قبله. وإن كان قبله طهر فاصل ولم يكن بعده طهر فاصل لم يكن حيضة أيضا وكان مضافا إلى ما بعده من الدم. هذا مذهب مالك. والثاني أن أقل الحيض ثلاثة أيام في العدة والاستبراء، وما دونه يكون حيضا يمنع الوطء ويمنع الصيام من غير أن يسقط وجوبه، ويمنع الصلاة ويسقط وجوبها، وهو قول ابن مسلمة. والثالث أن أقل الحيض خمسة أيام، يريد في العدة والاستبراء، فلا اختلاف في المذهب أن ما تراه المرأة من الدم في وقت يصح فيه الحيض منها يكون حيضا يمنع الوطء والصيام والصلاة ويسقط وجوب الصلاة. وإنما الاختلاف فيه إذا كان أقل من ثلاثة أيام وخمسة أيام هل يكون حيضة يعتد بها في الطلاق على ما بيناه. والرابع مذهب أهل العراق أن أقل الحيض ثلاثة أيام وما دون الثلاثة الأيام لا يحكم لها بحكم الحيض فتقضي المرأة صلاة تلك الأيام. والخامس مذهب الشافعي أن أقل الحيض يوم وليلة. وروي عن علي بن

فصل

أبي طالب أن أقل الحيض يومان، وهذا كله بعيد؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فلو كان لا يعلم كون الدم حيضا قبل تقضي وقته ثلاثة أيام أو يوم وليلة لكان الأمر باعتزالهن مشروطا بما لا طريق إلى العلم بحصوله إلا بعد تقضيه، وذلك باطل. فصل وأما النفاس فلا حد لأقله عندنا وعند أكثر الفقهاء، وذهب أبو يوسف إلى أن أقل النفاس خمسة عشر يوما فرقا بينه وبين أكثر الحيض، وأما أكثره فاختلف قول مالك فيه، فقال مرة ستون يوما، وقال مرة يسأل النساء عن ذلك [ولم يحد له حدا، وقال ابن الماجشون: لا يسأل النساء عن ذلك اليوم]؛ لتقاصر أعمالهن وقلة معرفتهن، وقد سئل النساء عن ذلك قديما فقلن أقصاه من الستين إلى السبعين، والاقتصار على الستين أحسن، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: أكثره أربعون يوما، وقد قيل إنه إجماع من الصحابة، وذكر عن الحسن أن أكثره خمسون يوما. فصل وأما الاستحاضة فلا حد لأكثرها ولا لأقلها عند الجميع، وبالله التوفيق. فصل فيما تراه المرأة من الدم على اختلاف أحوالها وما تراه المرأة من الدم محمول على أنه دم حيض ومحكوم له بحكمه حتى يعلم أنه ليس دم حيض؛ بأن تراه المرأة في مدة الاستحاضة أو في حال لا يشبه أن يكون حيضا من صغر أو كبر. وبيان هذه الجملة أن النساء الواجدات للدم خمس: طفلة صغيرة لا يشبه أن تحيض، ويفعة مراهقة يشبه أن تحيض، [وبالغة في سن من تحيض، ومسنة يشبه ألا تحيض، وعجوز لا يشبه أن تحيض].

فصل

فأما الطفلة الصغيرة فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الصغر، وليس لها حد من السن إلا ما يقطع النساء أن مثلها لا تحيض. وأما اليفعة التي تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض وكان ذلك دلالة على البلوغ. وأما البالغة فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض إلا أن تراه في مدة الاستحاضة، وذلك أن ترى الدم خمسة عشر يوما ثم ينقطع ثم يعود بعد يومين أو ثلاثة قبل مضي أقل مدة الطهر فهذا دم استحاضة، إذ لا يمكن أن يضاف إلى الحيضة المتقدمة ولا أن يجعل حيضة مستأنفة، إذ لا فاصل بينهما من الأيام. وأما المسنة التي يشبه أن لا تحيض فما رأت من الدم حكم له بحكم الحيض؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فأخبر أن المحيض هو الأذى الخارج من الفرج، فإذا احتمل سن من وجد بها ذلك الأذى أن تحيض حكم له بأنه دم حيض. وأما العجوز التي لا يشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الكبر كما ينتفي مع الصغر، وليس لذلك أيضا حد من السنين إلا ما يقطع النساء على أن مثلها لا تحيض. ألا ترى أن بنت سبعين وبنت ثمانين لا تحيض. فصل فإن تمادى بالمرأة الدم المحكوم له بأنه دم حيض ففي ذلك ستة أقوال: أحدها أنها تبقى أيامها المعتادة وتستظهر بثلاثة أيام ثم تكون مستحاضة تغتسل وتصلي وتصوم وتطوف إن كانت حاجة مباحة ويأتيها زوجها، ما لم تر دما تنكره بعد مضي أقل مدة الطهر من يوم حكم باستحاضتها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة؛ لأنه قال في الحج: إن الكري لا يحبس عليها إلا أيامها المعتادة

والاستظهار. فظاهر قوله أنها تطوف بعد الاستظهار وقبل تمام الخمسة عشر يوما كالمستحاضة، وعلى هذه الرواية تغتسل عند تمام الخمسة عشر يوما استحبابا لا إيجابا. والقول الثاني: أنها تقعد أيامها المعتادة والاستظهار، ثم تغتسل استحبابا، وتصلي احتياطا، وتصوم وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف الإفاضة إن كانت حاجة، إلى تمام الخمسة عشر يوما. فإذا بلغت الخمسة عشر يوما اغتسلت إيجابا، وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة. والقول الثالث: أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة. والقول الرابع: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة من غير استظهار، وهو قول محمد بن مسلمة. والقول الخامس: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوما علم أنها حيضة انتقلت ولم يضرها ما صامت ولا ما صلت، يريد وتغتسل عند انقطاعه، وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوما علم أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصيام والصلاة في موضعه، ولم يضره امتناعه من الوطء هذا في المعتادة. وأما المبتدأة أيضا ففيها خمسة أقوال كالمعتادة؛ لأن عادة لداتها في الحيض تجعل كعادة لها، إلا أن ابن القاسم يقول في المبتدأة كقول محمد بن مسلمة في المعتادة، فلا يرى أن تستظهر بثلاثة أيام، وروي عن نافع أنها تستظهر بثلاثة أيام وإن زاد على خمسة عشر يوما، وهو شذوذ من القول، وهو القول السادس.

فصل

واختلف إن اختلفت أيامها المعتادة فالمشهور أنها تستظهر على أثر أيامها، وقال ابن حبيب: إنها تستظهر على أقل أيامها، وذهب ابن لبابة إلى أنها تغتسل عند أقل أيامها من غير استظهار وتكون مستحاضة، وهو خطأ صراح يرده القرآن ويبطله الاعتبار. فصل والحيض قد تتصل أيامه وقد تتقطع على ما بيناه من أن الرحم يثج الدم المجتمع فيه في مدة القرء ثجا متصلا، وقد يثجه شيئا بعد شيء، وقد مضى القول في اتصاله، وأما انقطاعه فحكمه أن تلفق فيه أيام الدم وتلغي أيام الطهر، فإذا اجتمع في أيام الدم أيامها المعتادة والاستظهار أو خمسة عشر يوما على الاختلاف الذي قدمنا ذكره كانت مستحاضة، ولم تلتفت إلى الدم الذي تراه بعد ذلك ما بينها وبين مضي أقل مدة الطهر من اليوم الذي حكم فيه باستحاضتها، وتغتسل متى ما انقطع عنها وتصلي وتصوم، وتعد اليوم الذي ترى الدم في بعضه من أيام الدم لا من أيام الطهر، وإن لم تر الدم فيه إلا ساعة أو لمعة، ولا تلفق أيام الطهر في مذهب مالك وأصحابه، حاشى محمد بن مسلمة فإنه ذهب إلى أنها تلفق أيام الدم وأيام الطهر، فتكون في أيام الدم حائضا وفي أيام الطهر طاهرا أبدا إن ساوت أيام الدم أيام الطهر أو كانت أقل منها، مثل أن تحيض يوما وتطهر يوما، أو تحيض يومين وتطهر يومين، وأما إن كانت تحيض يومين وتطهر يوما، فتلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر وتكون مستحاضة إذا اجتمع من أيام الدم أيامها المعتادة؛ لأنه لا يقول بالاستظهار على ما قدمناه عنه، وكذلك الحكم في النفاس إذا تقطع دمه ولم يتصل، أعني أنها تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر حتى تبلغ أقصى مدة النفاس على الاختلاف في حد ذلك، ثم تكون مستحاضة إن زاد الدم على ذلك الأكثر، إذ لا استظهار فيه كالحيض الذي هو جار على عادة وله أيام معتادة ولا يساويه في المدة. وانظر هل يصح أن تلفق فيه أيام الطهر على مذهب ابن مسلمة، ولا يبعد ذلك عندي.

فصل

فصل ودم الحيض دم أسود غليظ، ودم الاستحاضة دم أحمر رقيق، يدل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي». فصل والصفرة والكدرة محكوم لهما بحكم الدم، فإن وجدتا في أيام الحيض كانتا حيضا، وإن وجدتا في أيام النفاس كانتا نفاسا، وإن وجدتا في أيام الاستحاضة كانتا استحاضة. هذا قولنا وقول الشافعي وأبي حنيفة، وحكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه لا يكون حيضا إلا أن يتقدمه الدم يوما وليلة، وهو دليل قول ابن شهاب في المدونة، ولا تصلي المرأة ما دامت ترى من الترية شيئا إذا كانت الترية عند الحيضة أو الحمل، وحكي عن بعض الفقهاء أنه لا يكون حيضا إلا أن يوجد في الأيام المعتادة، فإن وجدته المبتدأة أو المعتادة بعد انقضاء أيام عدتها أو في غير أيام العادة بعد مضي أقل أيام الطهر لم يكن حيضا، بخلاف الدم لو وجد في هذه المواضع، والدليل على صحة قولنا وفساد هذا القول: ما روي أن النساء كن يبعثن إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. فصل وللطهر علامتان: الجفوف والقصة البيضاء. وقد اختلف أيهما أبرأ. فعند

فصل

ابن القاسم أن القصة البيضاء أبرأ، فإن كانت ممن تراها فلا تغتسل بالجفوف حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها، وقال ابن عبد الحكم: إن الجفوف أبرأ فلا تغتسل إذا رأت القصة البيضاء حتى ترى الجفوف إلا أن يطول ذلك بها، وحكي ابن حبيب عن ابن القاسم ومطرف في المبتدأة أن لا تغتسل حتى ترى الجفوف، ثم تعمل بعد على ما يظهر من أمرها، ونقل عبد الوهاب في الشرح عنهما أنها إن رأت الجفوف تطهرت به، ثم تراعى بعد ما يظهر من أمرها من جفوف أو قصة، وقال: إن هذا هو القياس؛ لأنهما جميعا علامتان، فأيهما وجدت قامت مقام الأخرى، ولا فرق بين المبتدأة وغيرها في ذلك، ونقله أصح في المعنى وأبين في النظر مما حكى ابن حبيب عنهما؛ لأنه كلام متناقض في ظاهره. فصل والحامل تحيض عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ولنا على ذلك أدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. فإن تمادى بها الدم ففي ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أنها تبقى أيامها المعتادة من غير استظهار ثم تغتسل وتصلي. والثاني: أنها تستظهر على أيامها المعتادة. والثالث: أنها تبقى إلى خمسة عشر يوما. والرابع: التفرقة بين أول الحمل وآخره، فتمسك عن الصلاة في أول الحمل الخمسة عشر يوما ونحو ذلك، وفي آخره العشرين يوما ونحو ذلك. وقيل: [إنها تمسك عن الصلاة في أول الحمل ما بين الخمسة عشر يوما إلى العشرين]، وفي آخره ما بين العشرين إلى الثلاثين، هو القول الخامس.

فصل

والسادس: أن تمسك عن الصلاة ضعف أيامها المعتادة. والسابع: أنها إن أصابها ذلك في أول شهر من شهور الحمل أمسكت عن الصلاة قدر أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثاني تركت الصلاة ضعف أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثالث تركت الصلاة ثلاثة أمثال أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الرابع تركت الصلاة أربعة أمثال أيامها المعتادة، هكذا أبدا ما لم تجاوز أكثر مدة دم النفاس. والثامن: تفرقة أشهب في الاستظهار بين أن تستريب من أول ما حملت أو لا تستريب. وفي المسألة قول تاسع حكاه ابن لبابة، وهو أن تترك الصلاة عدد الأيام التي كانت تحيضهن من أول الحمل ما بلغت، من رواية أصبغ عن مالك من الثمانية. فصل ودم الحيض والنفاس يمنع من خمسة عشر شيئا، العشرة الأشياء منها متفق عليها، والخمسة مختلف فيها. فأما العشرة المتفق عليها، فأحدها: رفع حكم الحدث من جهتهما، لا خلاف أن التطهر منهما لا يرفع حكم الحدث ماداما متصلين وإنما يرفعه بعد انقطاعهما. والثاني: وجوب الصلاة، لا خلاف أن الصلاة ساقطة عن الحائض والنفساء. والثالث: صحة فعلهما، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا يصح معهما فعل الصلاة. والرابع: صحة فعل الصيام من غير إسقاط وجوبه، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا يصح معهما الصيام. والخامس: مس المصحف، وفي ذلك اختلاف شاذ في غير المذهب. والسادس: الوطء في الفرج، لا خلاف بين الأمة أن ذلك محظور في حال الحيض والنفاس. والسابع: دخول المسجد، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب». والثامن: الطواف

بالبيت. والتاسع: الاعتكاف. والعاشر: منع صلاة ما عدا الصلوات الخمس من السنن والفضائل والنوافل. والخمسة المختلف فيها: أحدها: الوطء فيما دون الفرج أباحه أصبغ من أصحابنا وجعل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها» من باب حماية الذرائع. والثاني: قراءة القرآن ظاهرا اختلف فيه قول مالك. والثالث: رفع الحدث من غيرهما، قيل إنهما يمنعانه فلا يكون للمرأة إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حكم الجنابة عنها بالاغتسال لتقرأ القرآن ظاهرا. وقيل إن حكم الجنابة مرتفع مع الحيض، فيكون لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة وهو الصواب. وقيل إنهما لا يمنعانه فيكون لها إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حدث الجنابة بالغسل فتقرأ القرآن ظاهرا لبقاء حدث الحيضة عليها خاصة. فيأتي في المرأة تجنب ثم تحيض ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة. والثاني: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن اغتسلت للجنابة. والثالث: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا إلا أن تغتسل للجنابة. والرابع: منع وطئها إذا رأت النقاء قبل أن تغتسل بالماء. والخامس: منع استعمال فضل مائها، اختلف في ذلك قول عبد الله بن عمر، فقال في أحد قوليه: لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه كتاب الصلاة فصل في معرفة اشتقاق اسم الصلاة أصل الصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله عز وجل: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] أي: دعاءه، وقال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أي: إن دعواتك سكن لهم، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الناس بصدقاتهم يدعو لهم. «قال عبد الله ابن أبي أوفى: فجئت مع أبي بصدقته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى». وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فسميت الصلاة بذلك لما فيها من الدعاء، إذ هي طاعة لله ووسيلة إليه، وموضع للرغبة في مغفرته ورحمته ودخول جنته. ألا ترى أن

فصل

الصلاة على الميت لما كانت دعاء له سميت صلاة وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود. قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. وقد قيل: إن الصلاة مأخوذة من الصلوين وهما عرقان في الردف ينحنيان في الركوع والسجود، ولذلك كتبت الصلاة في المصحف بالواو. وقيل: إنها مأخوذة من قولهم صليت العود إذا قومته؛ لأن الصلاة تحمل الإنسان على الاستقامة وتنهى عن المعصية. قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وقيل: إنها مأخوذة من الصلة؛ لأنها تصل بين العبد وبين خالقه، بمعنى أنها تدنيه من رحمته وتوصله إلى كرامته وجنته، والأول هو المشهور المعروف أن الصلاة مأخوذة من الدعاء. فصل فالصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء، وهي في الشرع واقعة على دعاء مخصوص في أوقات محدودة تقترن به أفعال مشروعة. فصل وقد اختلف في قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وما أشبه ذلك من ألفاظ الصلاة الواردة في القرآن. فقيل: إنها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها، فلا يصح الاستدلال بها على صفة ما أوجبته، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج، قوله: الحج كله في كتاب الله، والصلاة والزكاة ليس لها في كتاب الله بيان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك وسن ذلك في أخرى. وقد قيل: إنها عامة يصح الاستدلال بها على ذلك، ويجب حملها على عمومها في كل ما تناوله الاسم من أنواع

فصل

الدعاء إلا أن الشرع قد خصها في نوع من الدعاء على وجه مخصوص تقترن به أفعال مشروعة من قيام وجلوس وركوع وسجود وقراءة وما أشبه ذلك. فصل فالصلاة من معالم الإسلام، وهي تنقسم على خمسة أقسام: منها فرض واجب من فروض الأعيان، ومنها فرض على الكفاية، ومنها سنة، ومنها فضيلة، ومنها نافلة. فأما الفرض المتعين على الأعيان فهي الصلوات الخمس أوجبها الله تعالى على عباده وذكر فرضها في آيات متعددة من كتابه، وتوعد على إضاعتها، وأمر بالمحافظة عليها، فقال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10]، وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44]، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقال عز وجل: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

فصل

فصل وقد اختلف في الصلاة الوسطى: فقيل: إنها الصبح، وهذا مذهب مالك. ودليله على ذلك أن قبلها صلاتين من الليل وبعدها صلاتين من النهار وهي وسطهن منفردة بوقت لا يشاركها فيه غيرها من الصلوات. وأيضا فإنها صلاة يضيعها الناس كثيرا لنومهم عنها وعجزهم عن القيام لها فخصت بالتأكيد لهذه العلة. وقيل: إنها صلاة العصر، وهو قول أكثر الرواة، منهم الشافعي وأبو حنيفة. وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا» أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهي الصلاة التي فتن عنها نبي الله سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى توارت الشمس بالحجاب. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الآية إلى قوله {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] وقال من ذهب إلى هذا في قراءة عائشة وحفصة وصلاة العصر بالواو: إن المعنى في ذلك وهي صلاة العصر؛ لقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقد روى عنهما صلاة العصر بغير واو على البدل. وقد قيل: إنها الظهر، وهو قول لا دليل لقائله، إلا أن يوجد في ذلك أثر عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيرجع إليه. وما قيل من أنه إنما قيل لها وسطى؛ لأنها تصلى في وسط النهار بعيد؛ لأن لفظ وسطى إنما يحتمل أحد معنيين: إما متوسطة بين أخواتها من الصلوات، وإما فاضلة من قولهم فلان أوسط القوم يعني أفضلهم. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا. وقال: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم وأفضلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28]

فصل

وقيل: إنها المغرب. ودليل من ذهب إلى ذلك أنها ثلاث ركعات فلا نظير لها من الصلوات، وأن أول الصلوات الظهر؛ لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرضت الصلاة، وبذلك سميت الأولى. وقيل: إنها الجمعة. وهذا الاختلاف كله يدل والله أعلم على أن الله خصها بالذكر وأبهمها ليكون ذلك سببا للمحافظة عليها كلها كليلة القدر. وأحسب أني قد رأيت لبعض العلماء أنها العشاء الآخرة ولا أحقق ذلك في وقتي هذا. فصل والصلوات الخمس أحد دعائم الإسلام الخمس، قال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». فصل فمن جحد فرض الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله للمسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته بإجماع من أهل العلم لا اختلاف بينهم فيه. وأما من أقر بفرضها وتركها عمدا من غير عذر، فاختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كافر ينتظر به آخر وقت الصلاة، فإن صلى وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب: " ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة "، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر حلال الدم إن لم يتب، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته.

فصل

فصل واستتابته إذا أبى من الصلاة أن ينتظر به حتى يخرج وقتها. والوقت في ذلك للظهر والعصر إلى غروب الشمس، وللصبح إلى طلوع الشمس، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. وقال إسحاق بن راهويه: وقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، وهو أن من عرف بالكفر ثم رئي يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها ولم يعلم أنه أقر بالتوحيد بلسانه فإنه يحكم له بالإيمان، بخلاف الصوم والزكاة والحج يريد، والله أعلم، أنه كما يحكم له بفعل الصلاة بحكم الإيمان والإسلام، فكذلك يحكم له إذا تركها بحكم الكفر والارتداد. وهو قول أحمد بن حنبل: إنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة إلا بترك الصلاة عمدا. وحجة من ذهب إلى هذا: ظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بتكفير تارك الصلاة. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة فقد حبط عمله»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إلا ترك الصلاة»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة حشر مع هامان وفرعون»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله. ومن أبى فهو كافر وعليه الجزية». وقال ابن حبيب: من ترك الصلاة مفرطا فيها أو مكذبا بها أو مضيعا لها فهو كافر في تركه إياها، وكذلك أخوات الصلاة من الصيام والزكاة والحج. وحجته في ذلك: ظواهر الآثار المذكورة في الصلاة، وقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وانفرد ابن حبيب بهذا من بين سائر أهل العلم. والقول الثاني: هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، أن من ترك الصلاة وأبى من فعلها وهو مقر بفرضها، فليس بكافر، ولكنه يقتل على ذنب من

الذنوب لا على كفر، ويرثه ورثته من المسلمين. والحجة لهم: قول أبي بكر الصديق في جماعة من الصحابة في الذين منعوا زكاة أموالهم: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقاتلهم ولم يسبهم؛ لأنهم لم يكفروا بعد الإيمان ولا أشركوا بالله، وقالوا لأبي بكر: ما كفرنا بعد إيماننا ولكننا شححنا على أموالنا. وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نهيت عن قتل المصلين»، فدل ذلك على أنه قد أمر بقتل من لم يصل. وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم قال: " لا ما صلوا الخمس»، فدل ذلك على أن من لم يصل الخمس قوتل. وقوله «في مالك بن الدخشن: " أليس يصلي " قالوا: بلى ولا صلاة له، قال: " أولئك الذين نهانا الله عنهم» فدل على أنه لو لم يصل لم يكن من الذين نهاه الله عن قتلهم، بل كان يكون ممن أمر الله بقتلهم. فدلت هذه الآثار كلها على القتل ولم تدل على الكفر. وتأولوا الآثار الواردة بتكفير من ترك الصلاة في ظاهرها على ما تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»، وعلى ما تأولوا عليه «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وعلى ما تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». وقد روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: ليس [سباب المسلم] بالكفر الذي

فصل

يذهبون إليه أنه كفر ينقل عن الملة ولكنه كفر ليس ينقل عن الملة ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. والقول الثالث: أن من ترك الصلاة فسقا وتهاونا من غير أن يبتدع دينا غير الإسلام، فإنه يضرب ضربا مبرحا، ويسجن حتى يتوب ويرجع ولا يقتل، قاله ابن شهاب وجماعة من سلف الأمة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وبه قال داود ومن اتبعه. وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع» الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». قالوا: وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقها ما هو فقال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس». فصل وفرض الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلوات الخمس في السماء حين الإسراء بخلاف سائر الشرائع، وذلك يدل على حرمتها وتأكد وجوبها. واختلف كيف فرضت فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربع ركعات ثم قصر منها ركعتان في السفر، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة». ووضع لا يكون إلا من تمام.

فصل

وكان بدء الصلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتين غدوا وركعتين عشيا. وروي عن الحسن في قول الله سبحانه وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55]، أنها صلاته بمكة حين كانت الصلاة ركعتين غدوا وركعتين عشيا، فلم يزل فرض الصلاة على ذلك ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون بمكة تسع سنين، فلما كان قبل الهجرة بسنة أسرى الله بعبده ورسوله - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به جبريل من بيت المقدس إلى سماء الدنيا، ثم مضى به من سماء إلى سماء حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه عند ذلك وعلى أمته أن يصلوا كل يوم وليلة خمسين صلاة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلما انصرفت بهن لقيت موسى بن عمران في السماء السادسة، فقال: بماذا أمرت فقلت: أمرت بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقال لي: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد بلوت الناس قبلك وقاسيت بني إسرائيل أشد المقاساة لقد فرضت عليهم صلاتان في كل يوم وليلة فما أطاقوهما، فارجع إلى ربك وسله التخفيف عن أمتك، ففعلت، فجعلها ربي أربعين صلاة، فمررت بموسى، فقال لي: ما فعلت، فقلت: جعلها ربي أربعين صلاة، فقال: سله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فما زلت أنطلق بين ربي وموسى وينقصها حتى جعلها خمس صلوات، ثم قال لي: قد أمضيت فريضتي وخففت عن أمتك وجعلت لهم الحسنة بعشر أمثالها فخمس بخمسين، فعلمت أنها عزمة من ربي». فمعنى قوله خمس بخمسين أنها خمس في العدد وخمسون في تضعيف الحسنات، جعل الصلاة بعشرة وجعل سائر الحسنات، بسبب ما كان من فرض الصلوات كل حسنة بعشرة أمثالها، تفضلا منه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته ولم يعط ذلك نبي قبله. فصل وذكر الله تبارك وتعالى الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأوقاتها

وأسمائها فقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، ففي الطرف الأول صلاة الصبح، وفي الطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء، وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، فدلوك الشمس ميلها وذلك وقت صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل اجتماعه وظلمته، وذلك وقت صلاة المغرب والعشاء، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] يعني أن صلاة الصبح يشهدها مع الناس ملائكة الليل وملائكة النهار. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» وقال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]، فقوله حين تمسون يريد المغرب والعشاء، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشيا العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] فقبل طلوعها صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر، وقال تعالى في الركوع والسجود: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وقال تعالى في القيام: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال تعالى في القراءة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]؛ لأن معناه في الصلاة، وقال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يعني لا تجهر بقراءتك في الصلاة حتى يسمعك المشركون لئلا

فصل

يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعك أصحابك، وقيل: معناه في الدعاء والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل إلا أن هذا كله مجمل أجمله الله في كتابه فلم يحد فيها الأوقات، ولا بين فيه عدد السجدات والركعات، ولا شيئا من رتبة عملها في القيام والجلوس. فلو تركنا وظاهر ما في القرآن لم يصح لنا منه امتثال ما أمرنا به من إقامة الصلاة، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين ما أجمل الله تعالى في كتابه من ذلك قولا وعملا كما أمره الله سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات، وما لا تصح إلا به من الفرائض، وما يستحب فيها من السنن والفضائل، ونقلت ذلك عنه الكافة عن الكافة، ولم يمت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إلى بيانه، فكمل الدين. قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] نزلت هذه الآية على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع يوم الجمعة في يوم عرفة. فصل فالصلاة تجب بأربع شرائط متفق عليها، وشرط خامس مختلف فيه هل هو مشروط في وجوب الصلاة أو في صحة فعلها. فأما الأربعة المتفق عليها فهي: البلوغ، والعقل، ودخول الوقت، وارتفاع الحيض والنفاس. فأما البلوغ والعقل: فالدليل على صحة اشتراطهما في وجوب الصلاة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون

فصل في تحقيق حدود الأوقات

حتى يفيق»، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الصبي والمجنون الذي لا يعقل غير متعبدين بالصلاة ولا بشيء من الشرائع، وأما دخول الوقت: فالدليل على صحة اشتراطه في وجوب الصلاة إجماع أهل العلم أن من صلى صلاة قبل دخول وقتها فإنها لا تجزئه، فلا خلاف بين أحد من المسلمين أن الصلاة لا تجب على أحد قبل دخول وقتها، إلا أنه يجب عليه قبل دخول وقتها اعتقاد وجوبها عليه إذا دخل وقتها. فصل في تحقيق حدود الأوقات فأول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر وقتها المستحب أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس. وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وآخر وقتها المستحب أن يصير ظل كل شيء مثليه. وآخر وقت الظهر والعصر للضرورة إلى غروب الشمس، وتشارك العصر الظهر في وقتها المستحب من أول زوال الشمس للعذر. وقد قيل: إن الظهر يختص من أول الزوال بمقدار أربع ركعات لا يشاركها فيه العصر، وتشارك الظهر العصر في وقتها المستحب إلى تمام القامتين للعذر أيضا. واختلف هل تشارك العصر الظهر عند اعتدال القامة في الوقت المستحب أم لا على قولين، فذهب ابن حبيب إلى أنها لا تشاركها فيه وأن آخر وقت الظهر عند تمام القامة وأول وقت العصر عند ابتداء القامة الثانية بقدر ما يسلم من الظهر ويبدأ بالعصر دون فاصلة بين الوقتين، وهذا مذهب الشافعي، وقد قيل: إن مذهبه أن بين الوقتين فاصلة وإن قلت لا تصلح للظهر ولا للعصر في الاختيار، وليس ذلك بصحيح عنه.

والمشهور في المذهب أن العصر مشاركة للظهر في وقت الاختيار، وذلك بين في حديث إمامة جبريل للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا المذهب هل العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى أو الظهر هي المشاركة للعصر في أول ابتداء القامة الثانية، والأظهر أن العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى. وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وقت واحد لا يجوز أن تؤخر عنه إلا بقدر مثل الجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض وفي المطر. وقيل إنه لا يجوز تأخير المغرب عن غروب الشمس لشيء من هذه الأعذار ويجمع بين الصلاتين عند الغروب. وقيل: إن لها وقتين في الاختيار وإن آخر وقتها المختار مغيب الشفق فجائز أن تؤخر صلاة المغرب إلى مغيب الشفق من غير عذر، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، إلا أن أول الوقت أفضل، فحصل الإجماع في المغرب على أن المبادرة لها عند الغروب أفضل. وأول وقت العشاء المستحب مغيب الشفق، وهو الحمرة عند مالك، وآخر وقتها المستحب ثلث الليل الأول، وقيل: نصفه. وآخر وقت المغرب والعشاء للضرورة إلى طلوع الفجر. وتشارك العشاء المغرب في وقتها المستحب لها من أول الغروب للعذر. وقد قيل: إن المغرب تختص من أول الغروب بمقدار ثلاث ركعات لا تشاركها فيه العشاء. وأول وقت الصبح انصداع الفجر، وهو الفجر الثاني المعترض في الأفق الشرقي. وأما الفجر الأول الذي يسمونه الكاذب وهو المشبه بذنب السرحان فإنه لا يحل الصلاة ولا يحرم على الصائم الأكل بإجماع. وآخر وقتها طلوع الشمس،

فصل

وقيل: الإسفار البين الذي يكون قرب طلوع الشمس، ذهب إلى هذا من رأى أن للصبح وقت ضرورة. فصل فالأوقات تنقسم على خمسة أقسام: وقت اختيار وفضيلة وهو أن يصلي قبل انقضاء الوقت المستحب. ووقت رخصة [وتوسعة، وهو أن يصلي في آخر الوقت المستحب. ووقت رخصة] للعذر وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر المستحب أو يعجل العصر في أول وقت الظهر المستحب أو بعده مقدار ما يصلي فيه صلاة الظهر على ما ذكرناه في ذلك من الاختلاف. ووقت تضييق من ضرورة وهو أن يؤخر الظهر والعصر إلى غروب الشمس، والصبح إلى طلوع الشمس، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. ووقت سنة أخذ بحظ من الفضيلة للضرورة وهو الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة. فصل وأول الوقت في الصلوات كلها أفضل، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12]، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، ومعلوم أن من بادر إلى طاعة ربه أفضل ممن تأخر عنها وتأنى عنها، وقد سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل، فقال: «الصلاة لأول وقتها». وروي أن الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي وسطه رحمة الله وفي آخره عفو الله، فكان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول رضوان الله أحب إلي من

فصل

عفوه. هذا هو المنصوص عن مالك المعلوم من مذهبه في كتاب ابن المواز وغيره. وقد تأول بعض الشيوخ على مذهبه في المدونة أن أول الوقت وأوسطه وآخره في الفضل سواء من إنكاره لحديث يحيى بن سعيد «إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ولما فاته من وقتها أعظم وأفضل من ماله وأهله». وهذا بعيد؛ لأنه إنما أنكره لأن ظاهره يوجب أن من فاته بعض الوقت كمن فاته جميعه على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله». فصل وهذا التأويل إنما يصح فيما عدا صلاة الصبح وصلاة المغرب. أما صلاة المغرب فلما وضحنا فيها من الإجماع على أن أول الوقت أفضل. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أخر المغرب حتى طلع نجم أو نجمان، فأعتق رقبة أو رقبتين؛ خوفا من أن يكون منه بعد أن غربت الشمس غفلة أو فترة. وأما صلاة الصبح فإنه نص في سماع أشهب على أن التغليس بها أفضل من الإسفار؛ لأنه الذي كان يداوم عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس». فيبعد أن يتأول قوله على خلاف المنصوص عنه. وقد روى زياد عن مالك أن الصلاة في أول وقت الصبح منفردا أفضل من الصلاة في آخره جماعة. فصل واتفق أصحاب مالك على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن الوقت المختار المستحب إلى ما بعده من وقت الضرورة إلا من ضرورة، وهو القامة في الظهر، والقامتان في العصر [أو ما لم تصفر الشمس]. ومغيب الشفق في المغرب على

فصل

مذهب من رأى أن لها وقتين. وانقضاء نصف الليل في العشاء الآخرة. والإسفار في الصبح على مذهب من رأى أن له وقت ضرورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا». ولأنه لم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة من الصلوات حتى خرج وقتها المختار المستحب. فصل فمن فعل ذلك فهو مضيع لصلاته مفرط فيما أمره الله به من حفظها ورعايتها آثم لتضييعه وتفريطه وإن كان مؤديا لها غير قاض. وأما تركها حتى يخرج وقتها فهو من الكبائر، قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وإضاعتها على ما قال أكثر أهل التأويل تأخيرها عن مواقيتها. والغي بئر في قعر جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، وقيل: الغي الخسران وقيل: الشمر، والمعنى في ذلك متقارب. فصل فوقت الصلاة يتسع لتكرار فعلها مرارا، وجميعه وقت لجواز فعلها. واختلف في وقت الوجوب منه على أربعة أقوال: أحدها: قول أصحاب مالك: إن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا وأن جميع الوقت وقت للوجوب. والثاني: قول أصحاب الشافعي: إن الصلاة تجب بأول الوقت وإنما ضرب آخره تمييزا للأداء عن القضاء. وهذا فيه نظر؛ لأنك إذا أطلقت القول بوجوب الصلاة في أول الوقت لزمك أن لا تجيز له تأخيرها عن وقت الوجوب وهو أول الوقت، وهذا ما لا يقوله أحد.

فصل

والقول الثالث: قول أصحاب أبي حنيفة: إن الصلاة لا تجب إلا بآخر الوقت، وهو الحين الذي لم يأثم المكلف بتأخير الصلاة عنه. وهذا فيه نظر أيضا؛ لأن الصلاة إذا لم تجب عنده في أول الوقت فينبغي أن لا تجزئه إن صلاها فيه كما لا تجزئ من صلى قبل دخول الوقت، وهذا ما لا يقوله أحد. ولهذا قال الكرخي: إن الصلاة المفعولة في أول الوقت تطوع وهي تسد مسد الفرض. والرابع: أن وقت الوجوب منه غير معين، وللمكلف تعيينه بفعل الصلاة فيه. وهذا أظهر الأقاويل وأسدها وأجراها على أصول المالكيين؛ لأن معظمهم قالوا: إن الأفعال المخير فيها كالإطعام والعتق والكسوة في الكفارة الواجب منها واحد غير معين، وللمكلف تعيين وجوبه بفعله، ولم يخالف في ذلك إلا ابن خويز منداد فإنه قال: إن جميعها واجب فإذا فعل المكلف أحدها سقط وجوب سائرها. وما قدمناه هو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن الأفعال الواجب جميعها لا يسقط بعضها بفعل بعضها. فصل وأما ارتفاع دم الحيض والنفاس فالدليل على صحة اشتراط ذلك في وجوب الصلاة أن الصلاة لا تصح إلا بطهر؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور»، والطهور لا يصح للحائض والنفساء إلا بعد ارتفاع الدم لقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] إلى قوله {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] الآية، فوجب أن لا تجب عليها الصلاة إلا بعد

فصل في ذكر فرائض الصلاة

كمال الطهارة، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ لأن الحائض والنفساء غير مخاطبتين بالصلاة فثبت صحة اشتراط ذلك في وجوب الصلاة. فصل فأما الشرط المختلف فيه فهو الإسلام؛ لأنه إنما يشترط في وجوب الصلاة على مذهب من يرى أن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، [فدل ذلك على أنها ليست على غير المؤمنين كتابا موقوتا]، وقَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وما أشبه ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها المؤمنون. وأما على مذهب من يرى أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، وهو الظاهر من مذهب مالك؛ لقول الله عز وجل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]، فالإسلام ليس بشرط في وجوب الصلاة، وإنما هو شرط في صحتها كالنية وسائر فرائضها. فصل في ذكر فرائض الصلاة والصلوات الخمس تشتمل على فرائض وسنن ومستحبات وفضائل، فلا تصح إلا بجميع فرائضها، ولا تكمل إلا بسننها وفضائلها. وفرائضها ثمان عشرة فريضة، منها عشر فرائض متفق عليها عند الجميع، وهي النية، والطهارة، ومعرفة

فصل

دخول الوقت، والتوجه إلى القبلة، والركوع، والسجود، ورفع الرأس من السجود، والقيام، والجلوس الأخير، وترتيب أفعال الصلاة. فصل فأما النية فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله تبارك وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات». والصلاة عبادة من العبادات وعمل من الأعمال فوجب أن لا تجزئ إلا بالنية. فصل ومن صفة النية على الكمال أن يستشعر الناوي الإيمان بقلبه فيقرن بذلك اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من تلك الصلاة بعينها، وذلك يحتوي على أربع نيات: وهي اعتقاد القربة، واعتقاد الوجوب، واعتقاد القصد إلى الأداء، وتعيين الصلاة. واستشعار الإيمان شرط في صحة ذلك كله. فإذا أحرم ونيته على هذه الصفة فقد أتى بإحرامه على أكمل أحواله، فإن سها في وقت إحرامه عن استشعار الإيمان لم يفسد عليه إحرامه لتقدم علمه به واعتقاده له؛ لأنه موصوف به في حال الذكر له والغفلة عنه. وكذلك إذا سها عن أن ينوي مع الإحرام بها وجوب الصلاة عليه والقصد إلى أدائها والتقرب بها إلى الله تعالى لم يفسد عليه إحرامه إذا عين الصلاة؛ لأن التعيين لها يقتضي الوجوب والقربة والأداء لتقدم علمه بوجوب تلك الصلاة التي عينها عليه. وأما إن لم يعين الصلاة فليس بمحرم لها، ولهذا قلنا: إن من ذكر صلاة من يوم لا يدري أيتهن هي إنه يصلي خمس صلوات، بخلاف ما حكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه يصلي أربع ركعات يجهر في الأوليين ويجلس في الثانية والثالثة ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجزئه. وإنما

فصل

اختلف أصحاب مالك فيمن ذكر صلاة لا يدري من السبت أو من الأحد، فقيل: إنه يصليها مرة واحدة ينويها عن اليوم الذي تركها فيه، وقيل: إنه يصليها مرة للسبت ومرة للأحد. وقد اختلف أهل العلم هل من شرط صحتها أن تكون مقارنة للإحرام أم ليس ذلك من شرط صحتها ويجزئ تقدمها قبل الإحرام بيسير، فقال ابن أبي زيد في رسالته: والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب في شرح الرسالة. والأصح أن تقدم النية قبل الإحرام بيسير جائز، كالوضوء والغسل في مذهبنا، والصيام عند الجميع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل». ولا معنى لتفرقة من فرق في هذا بين الوضوء والغسل وبين الصلاة للاختلاف الحاصل في وجوب اشتراط النية في صحة الغسل والوضوء. فصل وتجزئ النية بالقلب دون النطق باللسان في مذهب مالك وجميع أصحابه. فصل وأما الطهارة فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، الآية، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول». وهذا معلوم من دين الأمة وإجماع المسلمين فلا معنى لإيراد النصوص فيه. فصل وأما معرفة الوقت فالدليل على وجوب اشتراطه في صحة الصلاة الإجماع

فصل

على أن الصلاة لا تجب عليه ولا تجزئ عنه قبل دخول الوقت؛ لقول الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]؛ ولأن جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أقام للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوقات الصلوات، ثم قال له: بهذا أمرت. فإذا صلى وهو غير عالم بدخول الوقت وجب أن لا تجزئه صلاته وإن انكشف له [أنه صلاها بعد دخول الوقت؛ لأنه صلاها وهو غير عالم بوجوبها عليه. وقيل: إنها تجزئه إن انكشف له] أنها وقعت بعد دخول الوقت. واستدل من ذهب إلى ذلك بما جاء من أن «علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري قدما على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهما محرمان، فسألهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بما أهللتما، فقال: كل واحد منهما قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصوب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعلهما وأمرهما بما يفعلان في بقية إحرامهما» ولا دليل في ذلك؛ لأنهما إنما أحرما في وقت يجوز لهما الإحرام بالحج فيه وإن لم يعلما هل كان أحرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أم لا، ولا بما أحرم إن كان أحرم. وقاس ذلك أيضا بالذي يصوم أول يوم من رمضان متحريا دون أن يرى الهلال. وليس ذلك بقياس صحيح؛ لأن هذا احتياط مخافة أن يأكل يوما من رمضان، وهذا ترك الاحتياط إذ لم يؤخر صلاته حتى يوقن بدخول الوقت. وأما إذا لم ينكشف له أنه صلاها بعد دخول الوقت فبين أنها لا تجزئه؛ لأنها ثابتة عليه ولازمة لذمته فلا تسقط عنه إلا بيقين. ولو صلاها وهو غير عالم بدخول الوقت مخافة أن يفوته الوقت إذ لا يدري لعله قد دخل ومضى حتى لم يبق منه إلا قدر ما يصلي فيه لجرى ذلك على الاختلاف في الذي يصوم أول يوم من رمضان مخافة أن يكون من رمضان، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وأما التوجه إلى القبلة فالدليل على وجوبه واشتراطه في صحة الصلاة قول

فصل

الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فعلى المعاين للقبلة استقبالها، وعلى من غابت عنه الاجتهاد في طلبها بالأدلة المنصوبة عليها، فإن صلى بغير اجتهاد لم تجزئه صلاته، وإن وقعت إلى القبلة. وإن اجتهد فتبين له أنه أخطأ فصلى مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا أعاد في الوقت على طريق الاستحباب. وقال الشافعي: إن استدبر القبلة فالإعادة عليه واجبة في الوقت وبعده، وهو قول المغيرة من أصحابنا. والدليل لنا ما روي عن «عامر بن ربيعة أنه قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجهه، وعلمنا علما، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مضت صلاتكم، ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]»، ولما كان المجتهد في طلب القبلة إذا أخطأ لا ينصرف إلى يقين وإنما يرجع إلى اجتهاد مثله لم تجب عليه الإعادة إلا في الوقت؛ بخلاف من صلى إلى غير القبلة وهو بموضع يعاينها ويرجع إذا أخطأ إلى يقين لا إلى اجتهاد. فصل وأما الركوع والسجود فالدليل على وجوبهما قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وقَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، وقوله عز وجل: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وقَوْله تَعَالَى: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112].

فصل

فصل وأما الرفع من السجود فالدليل على وجوبه أن السجود لا يتم إلا به وهو يفصل بين السجدتين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله. فصل وأما القيام فالدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، وأقل ما يتعين منه في كل ركعة على الإمام والفذ قدر ما يقرأ فيه أم القرآن، وعلى المأموم قدر ما يوقع فيه تكبيرة الإحرام. فصل وأما الجلوس الآخر فهو من فرائض الصلاة بإجماع. وأقل ما يجزئ فيه عند مالك قدر ما يوقع فيه السلام. فصل وأما ترتيب أفعالها والبداية فيها بالقيام قبل الركوع وبالركوع قبل السجود وبالسجود قبل الجلوس، فهو واجب بإجماع؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43]، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها قولا وعملا، فلو عكس أحد صلاته فبدأ بالجلوس قبل القيام أو بالسجود قبل الركوع وما أشبه ذلك لم تجزه صلاته بإجماع. فصل ومنها ثلاث متفق عليها في المذهب، وهي تكبيرة الإحرام، والسلام، وقراءة أم القرآن على الإمام والفذ. فأما تكبيرة الإحرام فإنها فرض عند مالك وجميع

فصل

أصحابه وأكثر أهل العلم. وقد روى ابن وهب وأشهب عن مالك أنه استحب للمأموم إذا لم يكبر للإحرام ولا للركوع إعادة الصلاة، ولم يوجب ذلك، وقال: أرجو أن يجزئ عنه إحرام الإمام، وهو شذوذ في المذهب. ولا يجزئ فيها إلا الله أكبر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير». وذهب ابن شهاب وسعيد بن المسيب إلى أنها سنة، وروي ذلك عن ابن مسعود، ولذلك قال مالك فيمن ترك تكبيرة الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنه يتمادى مع الإمام استحبابا مراعاة للاختلاف، ثم يعيد استحبابا على مذهبه. كذا حفظنا عن بعض شيوخنا في تأويل ما وقع في المدونة من مراعاة قول مالك لسعيد بن المسيب في التمادي مع الإمام. والصواب أن تكبيرة الإحرام عند سعيد بن المسيب فرض، وسنذكر ذلك فيما يأتي، إن شاء الله تعالى. فصل وكذلك السلام من الصلاة هو واجب عند مالك وأصحابه وأكثر أهل العلم؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» وذهب أبو حنيفة إلى أن السلام في الصلاة غير واجب، وأنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد خرج من الصلاة وإن لم يسلم؛ ولهذا قال ابن القاسم: إن الإمام إذا أحدث بعد التشهد وتمادى حتى سلم بالقوم عامدا إن صلاتهم تجزئهم. فصل وكذلك قراءة أم القرآن في الصلاة هي واجبة على الإمام والفذ على مذهب مالك وجميع أصحابه وجل أهل العلم، قيل: في جملة الصلاة، وقيل: في كل ركعة منها. واختلف قول مالك وأقوال أصحابه فيمن ترك أم القرآن من ركعة أو أكثر من صلاة ثلاثية أو رباعية، أو من ركعة واحدة من صلاة هي ركعتان اختلافا كثيرا، سنذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ومن أهل العلم من لم يوجب قراءة أم القرآن ولا

فصل

غيرها في الصلاة على ظاهر قول عمر بن الخطاب حين ترك القراءة في الصلاة، فقيل له: إنك لم تقرأ، فقال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا. فصل ومنها خمس مختلف فيها في المذهب، وهي: الرفع من الركوع، وطهارة الثوب والبقعة، وستر العورة، وترك الكلام، والاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة. فصل فأما الرفع من الركوع فالاختلاف فيه في المذهب، روى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة التي لم يرفع منها رأسه، واستحب أن يتمادى ثم يعيد، وروى علي بن زياد عن مالك أنه لا إعادة عليه. وعلى هذا يأتي اختلاف مالك في عقد الركعة هل هو الركوع أو الرفع منه، فمن لم يوجب رفع الرأس منه جعل عقد الركعة الركوع، ومن أوجب الرفع منه جعل عقد الركعة بالرفع من الركوع. فصل وكذلك طهارة الثوب والبقعة الاختلاف فيه في المذهب: ذهب ابن وهب إلى أنه فرض، وقال ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك: إنه سنة، ومن أهل العلم من يعبر عنه أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان. فصل وكذلك ستر العورة الاختلاف فيه أيضا في المذهب. قيل: إنه فرض من

فصل

فرائض الصلاة مع القدرة عليه، وقيل: إنه فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة في الصلاة. فمن ذهب إلى أنه فرض من فرائض الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها ناسيا كان أو جاهلا أو متعمدا. ومن ذهب إلى أنه ليس من فرائض الصلاة وإنما هو فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة من سنن الصلاة لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت إن كان ناسيا أو جاهلا، وأما إن كان متعمدا فيعيد أبدا، ولا يدخل في ذلك الاختلاف فيمن ترك سنة من سنن الصلاة عامدا إذ قد قيل: إن ذلك فرض وهو الأظهر لقول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. فصل وكذلك ترك الكلام الاختلاف فيه في المذهب. ذكر أبو بكر الأبهري في الشرح أنه سنة، وبناه على أصلين في المذهب، وإنما قال فيه: إنه سنة؛ لقولهم: إن من تكلم في صلاته ساهيا كمن سها عن سنة من سننها تجزئه صلاته ويسجد لسهوه، بخلاف من سها عن فريضة من فرائضها، فرأى على قياس هذا أنه إنما يعيد إذا تكلم عامدا لترك السنة عامدا. والأظهر أنه فرض، والدليل على وجوبه قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أي: صامتين. وقد كان الناس في أول الإسلام يتكلمون في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فنهوا عن الكلام. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة»، والفرق بين الكلام ساهيا وترك الفريضة ساهيا أن الكلام شيء قد فرط لا يمكنه استدراكه؛ لاستحالة ترك فعل الشيء بعينه بعد فعله، وقد تجاوز الله عنه بنص قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان»

فصل في ذكر سنن الصلاة

والفريضة يقدر أن يعود إلى فعلها بعد تركها، فإن لم يفعل بعمد أو نسيان حتى فاته ذلك، وجب عليه إعادة الصلاة. وبهذا المعنى يفترق الحكم فيمن سها فزاد في صلاته ركعة أو سجدة، أو أسقط ذلك منها، فيجزئه سجود السهو في الزيادة، ولا يجزئه ذلك في النقصان. فصل وكذلك الاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة الاختلاف فيه في المذهب. ففي مختصر ابن الجلاب أنه فرض، والأكثر أنه غير فرض. فمن لم يعتدل في رفعه من الركوع والسجود استغفر الله ولم يعد، روى ذلك عيسى عن ابن القاسم. وقيل: إن الإعادة عليه واجبة على ظاهر الحديث في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي صلى ولم يعتدل في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل». فصل في ذكر سنن الصلاة وأما سنن الصلاة فثمان عشرة سنة، وهي: إقامة الصلاة في المساجد، والإقامة، وقيل: الأذان والإقامة، والصواب أن الأذان ليس بسنة على الأعيان، وإنما هو سنة في مساجد الجماعات، وفرض في جملة المصر. وقد قال أهل الظاهر: إنه سنة، وهو قول ضعيف لا وجه له. ورفع اليدين عند الإحرام، وقد قيل في رفع اليدين: إنه استحباب. وأما رفعهما عند الركوع وعند الرفع منه فاختلف قول مالك فيه، فمرة قال: لا يرفع، واستحسن مرة الرفع، ومرة خير فيه. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه أنكر رفع اليدين عند الإحرام، وهي رواية شاذة ضعيفة خاملة، ونحوها في بعض روايات المدونة. والسورة التي مع أم القرآن، والجهر بالقراءة في موضع الجهر والإسرار بها في موضع الإسرار، والإنصات مع الإمام فيما يجهر فيه، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وقد قيل: إن كل تكبيرة منها سنة، وسمع الله لمن حمده للإمام والفذ، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر والصلاة

فصل في ذكر مستحبات الصلاة

على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الصلاة سنة، وفريضة مطلقة في غيرها، ورد السلام على الإمام، وتأمين المأموم إذا قال الإمام ولا الضالين، وقوله ربنا ولك الحمد إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، والقناع للمرأة، والتسبيح في الركوع والسجود. فصل فمن هذه السنن ثمان مؤكدات يجب سجود السهو للسهو عنها وإعادة الصلاة على اختلاف لتركها عمدا، وهي السورة التي مع أم القرآن، والجهر في موضع الجهر، والإسرار في موضع الإسرار، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وسمع الله لمن حمده، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر. وسائرها لا حكم لتركها، فلا فرق بينها وبين الاستحبابات إلا في تأكيد فضائلها، حاشا المرأة تصلي بغير قناع، فإن الإعادة في الوقت مستحبة لها. فصل في ذكر مستحبات الصلاة وأما استحباباتها فثمان عشرة أيضا وهي أخذ الرداء، والتيامن في السلام، وقراءة المأموم مع الإمام فيما يسر فيه، وإطالة القراءة في الصبح والظهر، وتقصير الجلسة الأولى، والتأمين بعد قراءة أم القرآن للفذ وللإمام فيما يسر فيه، [وقول الفذ ربنا ولك الحمد، وصفة الجلوس، والإشارة بالإصبع فيه]، والقنوت في الصبح، وقيام الإمام من موضعه ساعة يسلم، والسترة، واعتدال الصفوف، والاعتماد، وترك قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الفريضة، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، وقد كرهه مالك في المدونة، ومعنى كراهيته أن يعد من واجبات الصلاة، والصلاة على الأرض أو على ما أنبتت الأرض، والصلاة

فصل

في الجماعة مستحبة للرجل في خاصة نفسه. وأما إقامة الجماعة في الصلوات فإنها فرض في الجمعة وسنة في كل مسجد. فصل وأما الصلاة التي هي فرض على الكفاية فصلاة الجنائز، وقد قيل: إنها سنة، وهو قول أصبغ. والدليل على أنها فرض على الكفاية «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة على النجاشي إذ لم يكن له من يصلي عليه بموضعه الذي توفي فيه» وأجمع على العمل بذلك جميع المسلمين في جميع بلاد الإسلام، فصار ذلك سبيل المؤمنين الذي توعد الله على ترك اتباعه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فلو أن قوما تركوا الصلاة على جنائزهم للحقهم الوعيد المذكور في الآية، وهذا دليل بين على الوجوب، وقد استدل على ذلك ابن عبد الحكم بقول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]؛ لأنه سئل عن الصلاة على الجنازة فقال: هي فرض وتلا الآية، وليس ذلك بدليل بين؛ لأن النهي عن الصلاة على المنافقين ليس بأمر بالصلاة على المؤمنين، إذ ليست بضد لها، وإنما يفهم الأمر من ذلك بدليل الخطاب، وقد اختلف في القول به وفي حمل الأمر على الوجوب فضعف الاستدلال بذلك. فصل وأما السنة فهي خمس صلوات سنها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهي: الوتر، وصلاة الخسوف، والاستسقاء، والعيدين، وقد قيل في صلاة العيدين: إنهما واجبتان بالسنة على الكفاية، وإلى هذا كان يذهب شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأول هو المشهور المعروف أنهما سنة على الأعيان. فصل واختلف في ركعتي الفجر وركعتي الإحرام وركعتي الطواف، فقيل: إنهما سنة

فصل

وقيل: إنهما استحباب. فأما الاختلاف في ركعتي الفجر فمنصوص عليه، روى أبو زيد عن ابن القاسم أنهما سنة، وهو مذهبه في المدونة بدليل اشتراطه لهما النية فيهما. ومثله في سماع ابن القاسم من العتبية. وروى أشهب عن مالك أنه يستحب العمل بهما وليستا بسنة. ومثله في سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين لأصبغ. وأما ركعتا الإحرام فالصواب فيهما أنهما نافلة على مذهب مالك؛ لأنه لا يمنع من الزيادة عليهما وإنما يستحب أن لا يحرم إلا بأثر صلاة نافلة أقلها ركعتان. وما لم يكن من النوافل مقدرا حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يسمى سنة عند جماعة أصحابنا؛ لأن السنة إنما هي ما رسم ليحتذى فلا يزاد عليه ولا ينقص منه. وقد اختلف أصحابنا في الصفة التي لأجلها تسمى النوافل سنة، فمنهم من ذهب إلى أنه لا يسمى سنة إلا ما أظهره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمع عليه أمته وشرع له الجماعة كصلاة العيدين والخسوف والاستسقاء، فمن ذهب إلى هذا لم ير ركعتي الفجر من السنن. ومنهم من ذهب إلى أنه يسمى منها سنة ما كان مقدرا لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فمن ذهب إلى هذا قال في ركعتي الفجر: إنهما سنة. ألا ترى أنه لا يقال في صلاة الليل ولا في صلاة الضحى إنهما من السنن لما كانت غير مقدرة. وأما ركعتا الطواف فهما من الطواف، فإن كان واجبا فهما واجبتان، وإن كان نفلا فهما نافلتان. فصل وأما الفضيلة فهي خمس صلوات أيضا: تحية المسجد، وصلاة خسوف القمر، وقيام رمضان، وقيام الليل، وسجود القرآن. وسائر الصلوات نوافل كالركوع قبل الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب وقبل العشاء وبعدها وصلاة الضحى وما أشبه ذلك. فصل فالصلوات كلها ما عدا الخمس غير واجبة إلا أن منها سنة ومنها فضيلة ومنها

فصل

نافلة على ما بيناه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة». «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضمام بن ثعلبه إذ جاء يسأله عن الإسلام قال: " خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرهن قال: لا إلا أن تطوع». وذهب أبو حنيفة إلى أن الوتر واجب، ودليله قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر». ومعنى ذلك عندنا، زادكم ثوابا إلى ثواب صلاتكم، إذ لو كان المعنى ما ذهب إليه أبو حنيفة لقال زاد عليكم صلاة إلى صلاتكم، وقد استدل أصحابنا على أنه غير واجب بخلاف الصلوات الخمس؛ [بأنه لا يقضى بعد خروج وقته كما تقضى الصلوات الخمس] بعد خروج وقتها، وذلك لا يلزم المخالف؛ لأنه يوجب قضاءه بعد خروج وقته. وكذلك استدل أيضا بعض الناس على أنه غير واجب بإجازة صلاته على الراحلة، وذلك لا يلزم المخالف إذ لا يقول بذلك. فمن تركه عامدا أو من غير عذر فإنما يأثم لرغبته عن السنة وقصده إلى تضييعها. فصل والفضل في الصلوات على قدر مراتبها، فأعظم الصلوات أجرا صلاة الفريضة، ثم صلاة الجنائز؛ لأنه قد قيل فيها: إنها سنة وقد قيل: إنها فرض على الكفاية، ثم صلاة الوتر؛ لأنه لم يختلف فيها أنها سنة وقد قيل: إنها واجبة، ثم صلاة العيدين وصلاة الخسوف وصلاة الاستسقاء؛ لأنه لم يختلف فيها أنها سنة، ثم ركعتا الفجر؛ لأنه قد قيل فيهما: إنهما سنة، ثم ما أطلق عليه من النوافل اسم فضيلة، ثم ما

فصل

لم يطلق عليه اسم الفضيلة. والأجر في ذلك كله على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله». فصل فالصلاة من أفضل أعمال البر، فرائضها أفضل من سائر الفرائض، ونوافلها أفضل من سائر النوافل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الصلاة»، يريد بعد الإيمان بالله تعالى، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه». «وسئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل قال: " إيمان بالله "، قيل: ثم أي؟ قال: " الصلاة على مواقيتها " قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله». وفي حديث آخر: قال: «إيمان بالله "، قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله». وفي حديث آخر قال: «إيمان بالله " قيل: ثم أي، قال: " جهاد في سبيل الله» فإن لم يكن سقط عن الراوي من هذا الحديث ما زاد في الحديث الأول فليس ذلك بتعارض، ومعناه أن الصلاة أفضل من الجهاد إذا كان الجهاد فرضا على الكفاية فقيم بالفرض؛ لأن الفرض على الكفاية إذا قيم به كان لسائر الناس نفلا، وأن الجهاد أفضل من الصلاة لجميع الناس في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على

فصل في القول في الإحرام في الصلاة

الأعيان، ولمن قام بالفرض في الموضع الذي هو فيه فرض على الكفاية، فالمجاهد يحوز الأجرين جميعا، أجر الجهاد وأجر الصلاة؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بصلاة، فإذا جاهد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان، أو كان ممن قام بفرض الجهاد في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية، كان أجره في جهاده أعظم من أجر الصلاة في الجهاد، وفي غير الجهاد بما الله أعلم بقدره. وإذا جاهد وقد قيم بفرض الجهاد كان أجره في الصلاة أعظم من أجره في الجهاد بما الله أعلم بقدره. وهنا يكون أجر من قعد ولم يجاهد في صلاته أعظم من أجر المجاهد في جهاده إذا تجرد عن أجره في صلاته، فلا يبلغ القاعد درجة المجاهد في حال من الأحوال ولو صام لا يفطر وقام لا يفتر، وقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع». وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لو صمت النهار وقمت الليل ما بلغت نوم المجاهد». فصل في القول في الإحرام في الصلاة الدخول في الصلاة والتحريم بها يفتقر إلى نية ولفظ. فالنية اعتقاد أداء ما افترض عليه من الصلاة التي قام إليها وعمد لها، واللفظ التكبير، وصفته الله أكبر لا يجزئ عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه في ذلك ما سواه من تسبيح أو تهليل أو تحميد خلافا لأبي حنيفة، ولا التكبير بخلاف هذه الصفة خلافا للشافعي في قوله إنه يجوز فيه الله الأكبر. ودليلنا عليهما جميعا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم». وما روي عنه من رواية أبي هريرة وغيره أنه

فصل

قال للرجل الذي علمه الصلاة: «إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا» الحديث. ولفظ التكبير بإطلاقه لا يقع إلا على الله أكبر. ودليلنا على أبي حنيفة من جهة القياس أن هذا ذكر عري من لفظ التكبير فلم يجز في الإحرام أصله إذا قال: اللهم اغفر لي. ودليلنا من جهة القياس على الشافعي أن هذه زيادة في لفظ التكبير ... عن بنية الله أكبر فلم يجز في الإحرام أصله إذا قال: الله الكبير. فصل واختلف أهل العلم هل من شرط صحة الإحرام أن تكون النية مقارنة للفظ الذي هو التكبير عندنا أو ليس ذلك من شرطه ويجزئ أن تتقدمه بيسير بعد إجماعهم أنه لا يجوز أن تتقدمه بكثير ولا أن يتقدمها اللفظ بيسير ولا كثير، إلى أنه يجوز أن تتقدمه بيسير، وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن تتقدمه بيسير ولا كثير، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب من أصحابنا، وهو ظاهر قول ابن أبي زيد في رسالته. والدخول في الصلاة بنيه الفرض فريضة، وليس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في ذلك نص ولا عن أحد من أصحابه المتقدمين، ولو كان ذلك عندهم من فروض الصلاة لتكلموا عليه ولما أغفلوا ذكره ولا وسع أحدا عندهم جهله ولا أجازوا إمامة من يجهله، كما لا تجوز عندهم إمامه من يجهل أن القبلة والمباشرة تنقضان الوضوء وما أشبه ذلك مما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه وإن كان الخلاف فيه موجودا. والصحيح عندي على مذهبه ومذهبهم أنه ليس من شرط صحة الإحرام مقارنة النية للتكبير، وأنه يجزئ أن تتقدمه بيسير. فإذا قام الرجل إلى الصلاة ولم يجدد النية لها مع الإحرام معا نسيانا فصلاته تامة جائزة لتقدم نيته قبل تشبثه بالصلاة، إذ لا يتصور من القائم للصلاة عدم النية لها، قياسا على قولهم في الغسل والوضوء، وعلى ما أجمع عليه أهل العلم في الصيام للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وقد فرق بين الموضعين من خالف في ذلك

فصل

بتفاريق لا تسلم من الاعتراض ليس هذا موضع ذكرها والانفصال عنها. وأغرق بعضهم في القياس فقالوا: إن جدد النية للإحرام بعد أن أخذ في التكبير قبل تمامه لم يجزئه حتى ينويه من أوله. ومنهم من قال: إن تجديد النية عند الإحرام لا يجزئه حتى يسمي الصلاة التي يريد بلفظه فيقول صلاة كذا، وهذا لا يوجبه نفر، ولا يعضده أثر. فصل فتكبيرة الإحرام هي التكبيرة التي تقترن بها نية أداء فرض الصلاة أو تتقدمها بيسير على ما قدمناه، وهي فرض عند مالك وجميع أهل العلم إلا من شذ منهم على الفذ والإمام والمأموم. وقد روي عن ابن شهاب أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكبيرة الإحرام على الفذ والإمام والمأموم». وقول سعيد بن المسيب وابن شهاب فيمن نسي تكبيرة الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنها تجزئه من تكبيرة الإحرام وإن لم ينو بها تكبيرة الإحرام، لا يدل أن تكبيرة الإحرام عندهما ليست بفرض، خلاف ما ذهب إليه بعض المتأولين من المتأخرين، وإنما معنى ما ذهبا إليه والله أعلم وأحكم أنها تجزئه من تكبيرة الإحرام؛ لأن النية قد تقدمت منه عند القيام إلى الصلاة، إذ لا يتصور عدم النية من القائم للصلاة فانتظمت النية المتقدمة بالتكبير للركوع لقرب ما بينهما فصح الإحرام وأجزأت الركعة؛ لأن الإمام يحمل عنه القراءة، ولم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: وذلك إذا نوى بها تكبيرة الإحرام، وإن كان من مذهبه جواز تقدم النية على الإحرام على ما ذكرناه؛ لأنه لما نوى بها تكبيرة الركوع وهي سنة كان قد نقض بذلك نيته المتقدمة. وإنما كانت تجزئه من تكبيرة الإحرام وتنتظم عنده بالنية المتقدمة لو لم تكن له فيها نية. فأصل الاختلاف بينه وبينهما إنما هو هل ترتفض بذلك نيته المتقدمة بتحويلها إلى نية تكبيرة الركوع الذي هو سنة أم لا. فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنها ترتفض بذلك، ورأى سعيد بن المسيب وابن شهاب أنها لا ترتفض به، وذلك نحو قول

مالك فيمن طاف تطوعا إنه يجزئه من طواف الإفاضة إذا تباعد، ومثل قول أشهب فيمن قرأ سجدة في صلاته فركع بها ساهيا: إن الركعة تجزئه، ومثل قولهم فيمن حالت نيته وهو في الصلاة إلى نافلة: إن صلاته تامة. والفرق عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين من حالت نيته في الصلاة إلى نافلة وبين القائم إلى الصلاة تحول نيته فيكبر بنية الركوع الذي هو سنة مراعاة الاختلاف، وذلك أن كثيرا من العلماء يوجبون عليه تجديد النية عند الإحرام. ولا خلاف عند أحد من العلماء في أنه لا يلزمه تجديد النية عند كل ركن من أركان الصلاة، ومن مذهبه مراعاة الاختلاف. وأما سعيد بن المسيب وابن شهاب فطردا قولهما على أصل مذهبهما ولم يراعيا خلاف غيرهما. ولو كبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمدا لما أجزأته صلاته بإجماع، كما لو رجع في صلاته إلى نية النافلة متعمدا لبطلت صلاته. ومن تأول على ابن المسيب وابن شهاب أن تكبيرة الإحرام عندهما سنة وأن سجود السهو يجزئ فيها عن الفذ وأن الإمام يحملها عن المأموم فقد أخطأ عليهما خطأ ظاهرا، إذ لو كانت عندهما سنة لحملها الإمام عن المأموم كبر للركوع أو لم يكبر، كما يحمل عنه القراءة وجميع سنن الصلاة وإن كثرت، ولأجزأ الفذ والإمام من تركها سجود السهو وأن لم يكبر للركوع وإن كان القوم سهوا عنها بسهوه أجزأهم سجود سجدتي السهو بهم. وإن كانوا كبروا هم دونه قبل ابتدائه بالقراءة بطلت صلاتهم لدخولهم فيها قبله إن كان مذهبه أن صلاة القوم مرتبطة بصلاة إمامهم، وهذا لا يصح؛ لأنه خلاف ما نصا عليه في قولهما أجزأته تكبيرة الركوع من تكبيرة الإحرام؛ لأنهما لما قيدا الإجزاء بتكبيرة الركوع دل ذلك من مذهبهما على أن تكبيرة الإحرام عندهما فرض إلا أنه يجزئ منها عندهما للفذ والإمام والمأموم تكبيرة الركوع، فلا يكون واحد منهم داخلا في الصلاة على مذهبهما إذا لم يكبروا للإحرام إلا تكبيرة الركوع النائبة منابها عندهما على التأويل الذي وصفناه من أن النية المتقدمة انتظمت بها فصح الإحرام، فإن تركها المأموم وكبر للركوع صحت صلاته على مذهبهما وكان داخلا فيها بتكبيرة الركوع التي أجزأته من تكبيرة الإحرام؛ لانتظامها بالنية المتقدمة وحمل الإمام عنه القراءة. وهذا إن كبر للركوع في حالة القيام. وإن تركها الفذ وكبر للركوع أجزأته تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام فصح إحرامه

فصل

وسجد قبل السلام لتركه القراءة في تلك الركعة على الاختلاف في ذلك إن كان أوقع تكبيرة الركوع في حال القيام. وأما إن كان كبر للركوع وهو راكع بطلت الركعة لإسقاطه منها القيام وأتى بها بعد سلام الإمام. وكذلك إن تركها الإمام ومن معه وكبروا للركوع. وأما إن أحرموا هم ونسي الإمام تكبيرة الإحرام وكبر للركوع فلا تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم أحرموا قبله ويصلح هو صلاته بالسجود أو إلغاء الركعة على ما تقدم. وقد قيل: إن من أحرم قبل إمامه فهو بمنزلة من لم يحرم في جميع الأحوال. فيتخرج على هذا القول إن كبروا للركوع بعده أن يكونوا بمنزلته في إصلاح الصلاة بالسجود أو إلغاء الركعة. فصل فإذا نسي المأموم تكبيرة الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته صلاته وحمل عنه الإمام القراءة. وأما إن ترك الإمام والفذ تكبيرة الإحرام فلا بد لهما على مذهب مالك من استئناف الصلاة وإن نويا بتكبيرة الركوع تكبيرة الإحرام؛ لأنهما إن لم ينويا بها تكبيرة الإحرام فليسا في صلاة، وإن نويا بها تكبيرة الإحرام فقد بدآ من صلاتهما بالركوع قبل القراءة متعمدين لذلك فأفسدا. فصل وكذلك إن فاتته الأولى ودخل مع الإمام في الثانية فنسي الإحرام وكبر للركوع، الحكم في ذلك سواء، إن لم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد بعد قضاء الركعة التي فاتته، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته الصلاة وقضى الركعة بعد سلام الإمام. كذا روى علي بن زياد عن مالك. وذهب ابن حبيب إلى أنه إذا فاتته الأولى ونسي الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة الإحرام أنه يقطع على كل حال ولا وجه لقوله. وأما من دخل مع الإمام في الأولى ونسي الإحرام والتكبير للركوع وكبر في الركعة الثانية ولم ينو بها الإحرام فقال مالك في الموطأ: إنه يقطع، والفرق عنده بين هذه وبين الأولى تباعد ما بين النية والتكبير والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل

فصل واختلف إذا ذكر المأموم تكبيرة الإحرام وهو راكع قد كبر للركوع وهو يطمع أن يرفع ويحرم ويدرك الركعة، فقيل: إنه يتمادى ويعيد، وقيل: إنه يرفع ويحرم ويدرك الركعة، وقيل: يقطع بسلام ويدرك الركعة. فإن لم يكبر للركوع وكبر للسجود قطع ما لم يركع الركعة الثانية كبر لها أو لم يكبر، قاله في كتاب ابن المواز. فإن ركع تمادى وأعاد بعد قضاء ركعة، وإن نوى بتكبير السجود الإحرام أجزأه وقضى ركعة بعد سلام الإمام. فهذا حكم المأموم ينسى تكبيرة الإحرام. وأما إن شك فيها فذكر قبل أن يركع أو بعد أن ركع ولم يكبر للركوع، فقيل: إنه يقطع ويحرم، يريد بسلام. وفي الواضحة دليل على أنه يقطع بغير سلام، والله أعلم. وقيل: إنه يتمادى ويعيد. وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد. وأما من كبر قبل إمامه فقيل: إنه بمنزلة من لم يكبر في جميع شأنه، وقيل: إنه إن ذكر قبل أن يركع أو بعد أن ركع ولم يكبر إنه يقطع بسلام ويدخل مع الإمام، وقيل: إنه إن ذكر قبل أن يركع قطع بغير سلام، وإن ذكر بعد أن ركع ولم يكبر قطع بسلام، وهو قول ابن القاسم. وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد قولا واحدا. فصل وأما من نسي تكبيرة الإحرام وهو وحده أو إمام فإنه يقطع متى ما ذكر ويحرم، فإن كان قبل ركعة قطع بغير سلام، وإن كان بعد ركعة فقيل: إنه يقطع بسلام، وقيل: بغير سلام ويعيد الإقامة. فصل فإن شك فيها وهو وحده أو إمام فقيل: إنه يتمادى حتى يتم ويعيد، فإن كان إماما سأل القوم فإن أيقنوا بإحرامه صحت صلاتهم، وإن لم يوقنوا أعادوا الصلاة. وفي هذا القول دليل على ما ذهبنا إليه من إجازة تقدم النية الإحرام على مذهب مالك. وقيل: إنه بمنزلة من أيقن يقطع متى علم، وقيل: إنه إن كان قبل أن يركع قطع وإن كان قد ركع تمادى وأعاد إلا أن يكون إماما فيوقن القوم أنه قد أحرم. وفي

فصل في السلام من الصلاة

رجوعه إلى يقين القوم بإحرامه واجتزائه بذلك دليل على إجازة تقدم النية الإحرام وقد ذكرنا ذلك. فصل في السلام من الصلاة والسلام من الصلاة بمنزلة الإحرام لها في جميع حالاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما فقال: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم». فكما لا يدخل في الصلاة إلا بتكبيرة ينوي بها الدخول في الصلاة والتحرم بها، فكذلك لا يخرج منها إلا بتسليمة ينوي بها الخروج من الصلاة والتحلل منها، فإن سلم في آخر صلاته ولا نية له أجزأ ذلك عنه لما تقدم من نيته، إذ ليس عليه أن يجدد الإحرام لكل ركن من أركان الصلاة. وإن نسي السلام الأول وسلم السلام الثاني لم يجزئه ذلك على مذهب مالك، وأجزأه على ما تأولناه على مذهب ابن المسيب وابن شهاب. وإن سلم ساهيا قبل تمام صلاته لم يخرج بذلك عن صلاته بإجماع، فليتم صلاته ويسجد لسهوه إن كان وحده أو إماما، فإن سلم شاكا في تمام صلاته لم يصح له الرجوع إلى تمامها. واختلف إن أيقن بعد سلامه أنه قد كان أتم صلاته، فقال ابن حبيب: صلاته جائزة كمن تزوج امرأة وهو لا يدري إن كان زوجها حيا أو ميتا ثم انكشف أنه قد مات وانقضت العدة أن نكاحه جائز، وقد قيل: إن صلاته فاسدة وهو أظهر. وإن سلم قاصدا إلى التحلل من الصلاة وهو يرى أنه قد أتمها ثم شك في شيء منها أو أيقن به لم يمنعه ذلك من الرجوع إلى إصلاحها. واختلف هل يرجع إليها بإحرام أم لا على قولين: أحدهما أن السلام على طريق السهو لا يخرجه عن الصلاة فيرجع إليها بغير إحرام، وهو قول أشهب وابن الماجشون واختيار ابن المواز في كتابه، والثاني أنه يخرجه عن الصلاة فلا يرجع إليها إلا بإحرام، وهو قول ابن القاسم في المجموعة وروايته عن مالك. وإلى هذا ذهب أحمد بن خالد وقال: إنه

فصل

قد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قال أحمد بن خالد: فإن لم يرجع بإحرام أعاد الصلاة. ومثله في مختصر ابن عبيد الطليطلي، إلا أنه قال: يكبر ثم يجلس ويبني، وحكاه عن ابن القاسم. وإنما الصواب أن يجلس ثم يكبر فيبني؛ لأنه إذا كبر قائما فقد زاد في الصلاة الانحطاط من حال القيام إلى حال الجلوس. فصل فمن رأى السلام يخرجه من الصلاة وقال: إنه يرجع بإحرام، فلا بد له من الرجوع إلى الموضع الذي فارق فيه الصلاة، فإن كان سلم من ركعتين رجع إلى الجلوس، وإن كان سلم من ركعة أو ثلاث ركعات فذكر وهو قائم رجع إلى حال رفع رأسه من السجود ولم يجلس إذ لم يكن ذلك موضعا لجلوسه، وإنما كان الواجب عليه أن يقوم من السجدة الأخيرة دون أن يرجع إلى الجلوس، وهذا بين. ومن رأى أن السلام لا يخرجه من الصلاة فيأتي على مذهبه أنه إن ذكر وهو قائم كبر وابتدأ القراءة ولم يرجع إلى الجلوس؛ لأن قيامه للانصراف محسوب له من صلاته إذا لم يخرجه عنها السلام، وإن ذكر وهو جالس في موضعه قام وكبر وابتدأ القراءة. وهذا على مذهب ابن القاسم إن كان سلم من ركعتين. وأما إن كان سلم من ركعة أو ثلاث فيرجع إلى صلاته ويبتدئ القراءة دون تكبير قائما كان أو قاعدا. وليس في المدونة في هذا بيان إن كان يرجع إلى الجلوس أم لا إلا ما يظهر من مذهب سحنون في قوله إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع يوم ذي اليدين بتكبير. ويحتمل أن تكون تلك التكبيرة - إن ثبتت - تكبيرة إحرام، وأن تكون تكبيرة القيام من اثنتين. ولقد نازعني بعض أصحابنا في مسألة المدونة وهي قوله فيمن فاته بعض صلاة الإمام فظن أن الإمام قد سلم فقام لقضاء ما فاته فسلم الإمام وهو قائم أنه

يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا يرجع إلى الجلوس ويسجد قبل السلام يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا من قوله في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر بالقرب وهو قائم إنه [يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا يرجع إلى الجلوس ويسجد قبل السلام، يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا من قوله في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر بالقرب وهو قائم إنه لا يرجع إلى الجلوس خلاف قول ابن القاسم إنه يحرم]، ويرجع إلى الجلوس. فقلت له: مسألة المدونة هذه صحيحة لا يصح دخول ذلك الاختلاف فيها؛ لأنها مسألة أخرى، والفرق بينهما: أن الذي سلم من ركعتين ساهيا اختلف هل يخرج من الصلاة بالسلام على طريق السهو أم لا، على قولين. فمن ذهب إلى أنه يخرج به عن الصلاة يقول: يرجع بإحرام ويعود إلى الجلوس؛ لأن نهضته لم يفعلها للصلاة، وهو مذهب ابن القاسم. ومن يقول إن السلام على طريق السهو لا يخرج به المصلي عن الصلاة يقول إنه لا يحتاج في رجوعه إلى إحرام ولا يرجع إلى الجلوس؛ لأن قيامه يعتد به من صلاته وهو مذهب ابن الماجشون وابن نافع وأشهب واختيار محمد بن المواز. والذي قام قبل سلام الإمام فعلم بسلامه وهو قائم لم يخرج بفعله ذلك عن صلاته وصارت النهضة التي فعل في حكم الإمام وقبل سلامه ملغاة لا يعتد بها فكأنه أسقطها فوجب أن لا يرجع إليها ويسجد قبل السلام قياسا على من أسقط الجلسة الوسطى ساهيا فلم يذكر حتى اعتدل قائما إنه لا يرجع إليها ويسجد قبل السلام. فقال لي: لا فرق بين القراءة والنهضة التي فعل قبل سلام الإمام في أنه لا يعتد بشيء من ذلك، فكما يستأنف قراءته من أولها فكذلك يلزم أن يرجع إلى الجلوس ليأتي بالنهضة التي فعل في حكم الإمام، فلم يعتد بها على مذهب ابن القاسم فيمن سلم من ركعتين. فقلت له: لا يلزم ذلك. والفرق بين القراءة والنهضة أن النهضة قد فات

موضعها ولا يقدر أن يرجع إليها إلا بزيادة الانحطاط من حال القيام إلى الجلوس، وليس ذلك من الصلاة. والقراءة لم يفت موضعها فهو يستأنفها من غير أن يزيد في صلاته شيئا. فقال لي: قول ابن القاسم في الذي سلم من ركعتين ساهيا إنه يحرم ثم يجلس، فقد قال ابن القاسم: إنه يرجع إلى الجلوس فلا يصح لك الفرق بين القراءة والنهضة بذلك. قلت له: لا يصح عن ابن القاسم ولا عن غيره في مسألتك أن يحرم ثم يرجع إلى الجلوس، وقد أخطأ على ابن القاسم من حمل قوله على ذلك، وإنما معنى قوله أن يرجع إلى الجلوس قبل ثم يحرم، بدليل إجماعهم على أن مسقط الجلسة الوسطى لا يرجع إليها بعد اعتداله قائما من أجل زيادة الانحطاط، وبذلك تعلل السنة الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسكت وسلم. فإن قال قائل: فإن الذي يسقط سجدة فيذكرها وهو قائم في الثانية يؤمر أن يرجع إليها وهو في رجوعه إليها يزيد في صلاته ما ليس منها، وهو الانحطاط من حال القيام إلى الجلوس. فما الفرق بين ذلك وبين رجوعه إلى النهضة التي يجب إلغاؤها؟. قيل له: السجدة ركن من أركان الصلاة لا يجزئ عنها سجود السهو، فوجب الرجوع إليها ما لم تفت بعقد ركعة، والنهضة تجزئ عنها سجدتا السهو كالجلسة الوسطى، فلم يرجع إليها بزيادة ما ليس من الصلاة، وبالله التوفيق.

كتاب الصلاة الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كتاب الصلاة الثاني فصل في القراءة في الصلاة القراءة في الصلاة واجبة عند جمهور العلماء بدليل قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]؛ لأن المعنى في ذلك: إذا قرئ القرآن في الصلاة فاستمعوا له وأنصتوا، إذ لا يجب الإنصات للقارئ واستماع قراءته إلا على المأموم للإمام، بدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110]؛ لأن المعنى في ذلك عند بعض أهل التفسير: ولا تجهر بقراءة صلاتك حتى يسمعها المشركون لئلا يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعها أصحابك الذين معك في صلاتك، وبدليل قول الله عز وجل أيضا: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]؛ لأن معناه في الصلاة. بدليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين» الحديث. لأنه لما سمى القراءة في الصلاة صلاة دل على أن الصلاة

فصل

لا تجزئ إلا بها. ألا ترى أنه سمى الصلاة إيمانا لما كانت الصلاة لا تصح إلا بالإيمان، فقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، على ما قاله أهل التأويل. فصل والذي يتعين من القراءة في الصلاة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم، قراءة أم القرآن على الإمام والفذ. قيل: في جملة الصلاة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام»، وبدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرا بأم القرآن». وقيل: في كل ركعة، بدليل ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتم ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن»، وبدليل قول جابر بن عبد الله: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصل إلا وراء إمام. فعلى القول بأنها واجبة في جملة الصلاة إن ترك قراءتها جملة أعاد الصلاة، وإن تركها في ركعة واحدة من أي الصلوات كانت أجزأه سجود السهو. وعلى القول بأنها واجبة في كل ركعة، إن ترك قراءتها في ركعة أو ركعتين أو ثلاث ألغاها، وبنى صلاته على الركعة التي قرأها فيها، على حكم من ترك سجدة أو ركعة من ركعتين أو من ثلاث أنه يصلح صلاته بإلغاء ما بطل عليه من الركعات، والسجود للسهو بعد السلام أو قبله إن كان قد اجتمع له في سهوه زيادة ونقصان على ما يأتي لهم في مسائلهم. وفرق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين أن يترك أم القرآن من ركعة واحدة وبين أن يتركها من ركعتين أو أكثر، فقال: إنه إن تركها من ركعتين أو أكثر أعاد الصلاة ولم يختلف في ذلك قوله. واختلف قوله إن تركها من ركعة واحدة على ثلاثة أقوال: أحدها أن يسجد قبل السلام وتصح صلاته. والثاني أنه يلغي الركعة. والثالث أنه يسجد قبل السلام ويعيد الصلاة. قيل: كانت

فصل

الصلاة من أي الصلوات كانت، وهو ظاهر ما في المدونة على معنى ما قاله ابن الماجشون، من أنه إنما ينظر إلى قلة السهو من كثرته لا إلى مقدار ما يقع في الصلاة. وقيل: إنما ذلك إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، وهو قوله في رواية مطرف عنه، وحكاه ابن حبيب أيضا عنه من رواية ابن القاسم. واختلف اختيار ابن القاسم في ذلك، فمرة أخذ بالإلغاء، وهو قوله في الصلاة من المدونة، ومرة أخذ بالإعادة، وهو قوله في الوضوء منها وفي كتاب ابن المواز. وهذا كله استحسان على غير قياس مراعاة لقول من لا يرى القراءة واجبة في الصلاة جملة، وهو [مذهب ربيعة بن أبي]، عبد الرحمن وعبد العزيز بن أبي سلمة على ما جاء عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من أنه لا إعادة على من ترك القراءة في صلاته إذا كان الركوع والسجود حسنا، وعن عمر بن الخطاب من أنه صلى بالناس المغرب فلم يقرأ فيها، فلما انصرف قيل له: ما قرأت، قال فكيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا. وقد أنكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذلك عن عمر بن الخطاب، فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله، وإنما هو حديث سمعناه لا أدري ما حقيقته. وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين صليت بنا ولم تقرأ، فقال: أجل، إني جهزت عيرا إلى الشام فأنزلتها منازلها فخرج عمر إلى الناس فأعاد بهم الصلاة. فصل فعلى القول بالإعادة إن ذكر قبل أن يركع أنه لم يقرأ استأنف القراءة وسجد بعد السلام على الاختلاف في السجود بزيادة القرآن سهوا، وإن ذكر ذلك بعد أن ركع وقبل أن يرفع، فقيل: إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه ينصرف إلى القيام فيقرأ ويركع ويسجد بعد السلام، وهو قوله في سماع سحنون. وهذا على الاختلاف في عقد الركعة هل هو بالركوع أو بالرفع منه. وقال:

فصل

أصبغ يمضي على صلاته ويسجد لسهوه ويجتزئ بها إلا أن يشاء أن يعيدها. وإن ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد أو بعد أن سجد إحدى السجدتين قطع، وإن ذكر بعد أن سجد السجدتين ما لم يركع في الثانية، فمرة قال: يقطع، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، ومرة قال: يتم ركعتين، وهو قوله في كتاب ابن المواز. وكذلك إن ذكر بعد أن ركع في الثانية على القول بأن عقد الركعة [لا يكون إلا برفع الرأس من الركوع. وأما على القول بأن عقد الركعة] يكون بالركوع فيتم ركعتين كما لو ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع. وإن ذكر وهو واقف في الثالثة رجع إلى الجلوس وسلم، وإن ذكر بعد أن صلى الثالثة أتم الرابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة في الوقت وبعده. قال ابن القاسم في موضع: احتياطا، وقال في موضع: يعيد أحب إلي، وقال في موضع: يتم الرابعة وتكون نافلة ويعيد. فصل وأما على القول بالإلغاء، فإن ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يتم الركعة بسجدتيها ألغى ما مضى منها واستأنف القراءة من أولها وسجد بعد السلام، وإن ذكر ذلك وهو واقف في الركعة الثانية جعلها أولى وألغى الأولى التي لم يقرأ فيها، وسجد بعد السلام. وكذلك إن ذكر وهو قائم في الثالثة جعلها ثانية وقرأ فيها بالحمد لله وسورة وجلس وتشهد وسجد بعد السلام. وإن ذكر ذلك بعد أن ركع في الثالثة وإن لم يرفع رأسه من الركوع تمادى وجعلها ثانية وجلس وتشهد وسجد قبل السلام، وكذلك إن ذكر ذلك بعد أن قام من الثالثة وهو واقف في الرابعة جعلها ثالثة وسجد قبل السلام. وأخذ أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ بالإعادة في الركعة الواحدة، وبالإلغاء في الركعتين والثلاث. قال ابن عبد الحكم: ما لم يسلم فإن سلم أعاد، وقال أصبغ: وإن سلم جاهلا فإنه يرجع إلى صلاته ويلغي ما كان بالقرب، إذ لم يختلف قول مالك في أن من ترك القراءة في ركعتين فما زاد إنه يعيد، فراعى هؤلاء اختلاف قول مالك كما راعى مالك اختلاف قول غيره ممن تقدمه. فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن في تارك القراءة في ركعة واحدة من صلاة ثلاثية أو

فصل فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة

في رباعية ثلاثة أقوال لمالك، وفي تارك القراءة من ركعتين أو ثلاث من صلاة رباعية أو من ركعتين من صلاة ثلاثية قولان: أحدهما: الإعادة، وهو قول مالك، والثاني: الإلغاء، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ. واختلف في تارك القراءة من ركعة من صلاة هي ركعتان كالصبح والجمعة وصلاة السفر، فقيل: إن ذلك كتارك القراءة في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال لمالك، وقيل: إن ذلك كتارك القراءة في ركعتين من صلاة رباعية لا يكون في ذلك إلا قولان: الإعادة، والإلغاء، وبالله التوفيق. فصل فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. فلما أمرت المرأة الحرة بالستر من الأجنبيين، وأن لا تبدي عند غير ذي المحرم منها من زينتها إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان على ما قاله أهل العلم بالتأويل، وجب عليها مثل ذلك في الصلاة سنة واجبة لا ينبغي لها تركها. فأقل ما يجزئها من اللباس في الصلاة الخمار والدرع السابغ الذي يستر ظهور قدميها على ما قالته أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - للتي سألتها عما تصلي فيه المرأة من الثياب. ولا يجوز لها أن تصلي في ثوب خفيف يصف جسدها، ولا في ثوب صفيق رقيق يلتطئ بها فيصف خلقها؛ لأنها إذا

فعلت ذلك كانت كاسية في حكم العارية. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام»، فإن فعلت ذلك أو صلت بادية الشعر أو الصدر أو الذراعين أو القدمين، أعادت في الوقت. وأما الأمة فحكمها فيما يجوز لها أن تصلي فيه من الثياب حكم الرجل، إلا في وجوب ستر فخذها، إذ لا اختلاف في أن الفخذ من المرأة عورة. وإنما اختلف في الفخذ من الرجل، فروى ابن عباس وجرهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الفخذ عورة». وقال «أنس بن مالك: أجرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحسر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال البخاري: حديث أنس أسند وحديث جرهم أحوط حتى يخرج من اختلافهم. «وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض فخذه مكشوف، فدخل عليه أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو على حاله لم ينتقل عنها حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: " ألا أستحي ممن استحيت منه ملائكة الرحمن». فإن صلت الأمة مكشوفة الفخذ - أو السرة - لأنها منها أيضا عورة أعادت في الوقت. واختلف إن صلت مكشوفة البطن، فقال أصبغ: لا إعادة عليها، وقال أشهب: تعيد في الوقت، وكذلك الرجل عنده، وهو بعيد. وإن صلى الرجل مكشوف البطن والظهر فلا إعادة عليه في المشهور في المذهب، وإن صلى مكشوف الفخذ تخرج وجوب الإعادة عليه في الوقت على الاختلاف فيه هل هو عورة أم لا. والذي أقول به أن ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الفخذ ليس باختلاف تعارض، ومعناه أنه ليس عورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات، ولا عند ذوي الأقدار والهيئات. فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها كلها أولى من بعضها.

فصل في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت

فصل وقد اختلف في ستر العورة، فقيل: إنها من فرائض الصلاة، وقيل: إنها ليست من فروض الصلاة وإنما هي فرض في الجملة وسنة في الصلاة. فمن رآها من فروض الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها، ومن لم يرها من فروض الصلاة لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت. وحكم المرأة في النظر إلى فخذ المرأة وإلى سرتها كحكم الرجل في نظره إلى ذلك من الرجل. وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل الأجنبي كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من ذوات محارمه على القول بأن الرجل لا يغسل ذوات محارمه كما لا يغسل النساء الرجل الأجنبي، وهو الصحيح من الأقوال. وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من ذوي محارمها كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من الرجل. وقد قيل: إن حكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من المرأة، وبالله تعالى التوفيق. فصل في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في السفر والمرض والمطر رخصة وتوسعة. والأصل في جواز ذلك ما ثبت من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في سفره إلى تبوك» «وأنه أخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل وخرج وصلى المغرب والعشاء جميعا» «وأنه كان إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر، وإذا أراد أن يسير ليله جمع بين المغرب والعشاء». وما روي

فصل

عن ابن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير يجمع بين الظهر والعصر». وما روي عن ابن عباس من أنه قال: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.» قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. وروي في غير خوف ولا مطر. قال ابن عباس: فعل ذلك لئلا يحرج أمته، وما أشبه ذلك من الآثار. فصل فاتفق مالك وجميع أصحابه على إباحة الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت لعذر السفر والمرض والمطر في الجملة، على الاختلاف بينهم في ذلك على التفصيل. واختلفوا في إباحة الجمع بينهما لغير عذر، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، وقال أشهب: ذلك جائز على ظاهر حديث ابن عباس وغيره. واختلفوا أيضا في صفة الجمع وكثير من أحكامه بحسب اختلاف الأعذار المبيحة له. وتحصيل القول في ذلك يفتقر إلى معرفة حقيقة وقتهما وكيفية اشتراكهما فيه. فأول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر وقتها المختار المستحب أن يكون ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف والشتاء، وهو بعينه أول وقت العصر المختار المستحب، وآخر وقته المختار المستحب أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف والشتاء؛ لأن الظل الذي تزول الشمس عليه لا يعتبر في حال من الأحوال ولا في بلد من البلدان. وتدخل العصر على الظهر في وقتها المختار المستحب فتشاركها فيه للعذر، قيل: من أول الزوال، وقيل: بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة الظهر. وتدخل أيضا الظهر على العصر في وقتها المختار المستحب فتشاركها فيه للعذر إلى آخره وهو تمام القامتين. واختلفوا هل تشارك الظهر العصر في وقت الاختيار عند اعتدال القامة، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك

فصل

وإن تمام وقت الظهر المستحب بتمام القامة، وابتداء وقت العصر المستحب بابتداء القامة الثانية. وقيل: إنهما يشتركان. واختلفوا على القول بأنهما يشتركان في وقت اشتراكهما، فقيل: في آخر القامة الأولى، وقيل: في أول القامة الثانية، وقد قيل: إن بين الظهر والعصر فاصلة لا تصلح في الاختيار للظهر ولا للعصر. فصل وكذلك القول في المغرب والعشاء. فأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخر وقته المختار المستحب مغيب الشفق على مذهب من رأى أن له وقتين، وهو بعينه أول وقت العشاء المختار المستحب، وآخر وقته ثلث الليل أو نصفه. وتدخل العشاء على المغرب في وقته المختار المستحب فتشاركه فيه للعذر، قيل: من أول المغرب، وقيل: بل من بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة المغرب. ويدخل أيضا المغرب على العشاء في وقته المختار المستحب فيشاركه فيه للعذر إلى آخره وهو ثلث الليل أو نصفه. واختلف هل يشارك المغرب العشاء في وقت الاختيار عند مغيب الشفق، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك، وإن أول وقت المغرب المختار ينقضي بانقضاء مغيب الشفق ثم يدخل وقت العشاء دون فاصلة بين الوقتين، وقيل: إنهما يشتركان فيه. واختلف على القول بأنهما يشتركان فيه في وقت اشتراكهما، فقيل: في آخر مغيب الشفق، وقيل: عند انقضاء مغيبه. وقد قيل: إن بين المغرب والعشاء فاصلة لا تصلح في الاختيار للمغرب ولا للعشاء، وذلك مبني على القول بأنه ليس للمغرب إلا وقت واحد. فصل ويشترك الظهر والعصر إلى الغروب، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر لأهل الضرورات، وهم خمسة: الصبي يحتلم، والكافر يسلم، والمغمى عليه يفيق، والحائض تطهر أو الطاهر تحيض، والحاضر يسافر أو المسافر يقدم. فصل فيجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر المسافر يرتحل من المنهل

فصل

بالسنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا على الجمع بعرفة، هذا هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إنه لا يجمع إلا أن يجد به السير. وقد قيل: إنه لا يجمع وإن جد به السير. وهذان القولان في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. والمريض الذي يخشى أن يغلب على عقله على اختلاف في ذلك. ويجمع في آخر وقت العصر المختار وهو القامتان، المريض الذي يدخل عليه وقت الظهر وهو مريض لا يقدر على الصلاة إلا بمشقة قائما أو قاعدا وهو يرجو أن ينكشف عنه ذلك المرض ما بينه وبين آخر الوقت فتخف عليه الصلاة على اختلاف في ذلك، إذ قد قيل: إنه لا يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقت العصر، ويصلي كل صلاة لوقتها كيفما استطاع، أو يجمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، إن كان ذلك أرفق به. والذي يرتحل قبل زوال الشمس ويريد النزول آخر وقت العصر بالسنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك وقياسا على الجمع بالمزدلفة. ويجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر المريض الذي يكون الجمع أرفق به والمسافر الذي يرتحل من قبل الزوال إلى بعد انقضاء القامتين. قيل: إذا جد به السير، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك على ظاهر حديث عبد الله بن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عجل به السير يجمع بين الظهر والعصر». وقيل: وإن لم يجد به السير، وهو مذهب ابن حبيب على ظاهر قوله في الحديث «فخرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل فخرج فصلى المغرب والعشاء جميعا». وفي تحقيق وقت جمع هذين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يجمع بينهما في آخر القامة الأولى. والثاني: أن يجمع بينهما في أول القامة الثانية. والثالث: أن يجمع بينهما بأن يصلي الظهر في آخر القامة الأولى، والعصر في أول القامة الثانية. فالقول الأول والثاني على اختلافهم في الوقت الذي يشتركان فيه في الاختيار. والقول الثالث على القول بأنهما لا يشتركان في وقت الاختيار. فصل والقول في المغرب والعشاء كالقول في الظهر والعصر، يجمع في أول

فصل

الغروب الذي يرتحل من المنهل باتفاق، والذي يخشى أن يغلب على عقله باختلاف. وعند انقضاء نصف الليل الذي يرتحل من قبل الغروب إلى قبل انقضاء نصف الليل باتفاق، والمريض الذي يدخل عليه وقت المغرب وهو مريض يرجو أن ينكشف عنه المرض في آخر وقت العشاء وهو ثلث الليل أو نصفه على اختلاف. وعند مغيب الشفق المريض الذي يكون الجمع أرفق به والمسافر الذي يرتحل من قبل الغروب إلى بعد انقضاء وقت العشاء وهو ثلث الليل أو نصفه. قيل: إذا عجل به السير. وقيل: وإن لم يعجل به السير. ولا يجوز لشيء من هذه الأعذار تأخير الظهر والعصر إلى الغروب ولا إلى ما بعد القامتين لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن ذلك بقوله: «تلك صلاة المنافقين» الحديث، وكذلك لا يجوز لشيء منها تأخير المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر ولا إلى ما بعد نصف الليل؛ إلا أن يكون المريض لا يقدر على الصلاة إيماء لشدة مرضه إلا بمشقة لا يلزمه تكلفها فيكون ذلك له. ولو كان لا يقدر على تكلف ذلك بحال لأشبه المغمى عليه، إلا في سقوط الصلاة عنه بخروج الوقت على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك من أجل أن معه عقله. فصل واختلف في الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر والطين والظلمة. فقيل: إنه يكون قبل مغيب الشفق، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك والمشهور في المذهب. وقيل: إنه يجمع بينهما عند الغروب وهو قول ابن عبد الحكم وابن وهب وروايته عن مالك. فالقول الأول مبني على أن وقت المغرب المختار

فصل في سجود القرآن

المستحب يمتد إلى مغيب الشفق. [والقول الثاني مبني على أنه لا يمتد إلى مغيب الشفق] وإنما فارق الجمع في المطر جمع المسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق أو عند غروب الشمس من أجل أنه لا رفق للمسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق، وللناس رفق في تعجيل الجمع في المطر قبل مغيب الشفق لينصرفوا في بقية من الضياء. فصل ولما كان على القول بأن المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد، لا يجوز أن تؤخر المغرب عن وقت الغروب إلا لعذر، وكانت العشاء لا يجوز أن تعجل عن وقت مغيب الشفق إلا لعذر أيضا، واستوى الطرفان جميعا، وجب أن يفعل من ذلك الذي هو أرفق بالناس، وهو الجمع عند أول الغروب لرجوعهم والضياء متمكن. فهذا وجه تعجيل الجمع عند الغروب بناء على هذا القول، وبالله التوفيق. فصل في سجود القرآن الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقوله عز وجل: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]، وقوله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] الآية. ومداره على أربع مسائل: معرفة عزائم السجود [من غير العزائم، ومعرفة وجوب السجود فيها، ومعرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب، والرابع معرفة أحكام السجود وشرائطه.

فصل

فصل فأما عزائم السجود] فإنها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، ولا في الحج إلا سجدة واحدة، وهي التي في أول السورة. قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء. وقال في رواية ابن بكير وغيره: الأمر المجتمع عليه عندنا. ورواية يحيى أولى؛ لأن الاختلاف في عزائم السجود معلوم بين السلف في المدينة. وقد يتأول قوله: الأمر المجتمع عليه عندنا، على أنه إنما أراد أنه اجتمع على أن الأحد عشر من العزائم ولم يجتمع على أن ما سواها من العزائم. وهو تأويل جيد محتمل تصح به الرواية. فالتي ليست من العزائم عند مالك سجدة آخر الحج، وسجدة والنجم، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. وإنما لم يرها مالك من العزائم لما جاء فيها من الخلاف. فقد روي أنه ليس في الحج إلا سجدة واحدة، وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة». وذهب ابن وهب من أصحاب مالك إلى أنها كلها عزائم يسجد فيها، وهو اختيار ابن حبيب وجماعة من العلماء، وقد روى ذلك ابن وهب عن مالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عزائم السجود أربع عشرة سجدة، إلا أن الشافعي أسقط سجدة ص وأسقط أبو حنيفة سجدة آخر الحج، وأسقط الثوري سجدة والنجم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: عزائم السجود أربعة: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال بعض العلماء: إن الذي يوجبه النظر أن يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الخبر، ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الأمر؛ لأن ما جاء منها على سبيل الأمر يحمل على السجود الواجب في الصلاة المفروضة. وعلى هذا يأتي مذهب مالك إذا اعتبرته؛ لأن

فصل

جميع ما لم ير فيه السجود جاء على سبيل الأمر، وجميع ما رأى فيه السجود جاء على سبيل الخبر. فإن قال قائل: سجدة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] جاءت على سبيل الخبر ولا يسجد فيها عنده. قيل له: الوعيد المذكور فيها يقوم مقام الأمر. وإن قال قائل: سجدة حم السجدة جاءت على سبيل الأمر ويسجد فيها عنده. قيل له: المعنى فيها الإخبار عن فعل الكفار الذين لا يسجدون لله ويسجدون للشمس والقمر، والنهي عن التشبه بهم في ذلك، لا الأمر بمجرد السجود لله فيحمل على سجود الصلاة، ويدل على ذلك قوله في آخر الآية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]؛ لأن المعنى في ذلك: فإن استكبر الكفار عن السجود لله فالذين عنده لا يستكبرون عن ذلك. وقد اختار بعض العلماء السجود عند قولهم وهم لا يسأمون ليكون عند ذكر الإخبار على الأصل الذي ذكرناه. فصل وأما وجوب السجود فيها فإنه واجب، قيل: وجوب السنن التي من فعلها أجر ومن تركها لم يأثم، وقيل: وجوب الفرائض التي من تركها أثم. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه واجب وجوب السنن لا وجوب الفرائض. ودليله على ذلك أن الله تبارك وتعالى أثنى على الساجدين عند التلاوة ولم يأمر به، وفعله النبي عليه الصلاة

فصل

والسلام فوجب الاقتداء به في ذلك دون وجوب؛ لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقد بين ذلك عمر بن الخطاب بقوله إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فمن سجد على مذهب مالك أجر، ومن ترك السجود لم يأثم إلا من جهة الرغبة عن إتيان السنن. وذهب أبو حنيفة إلى أن السجود واجب من تركه أثم. وقول مالك هو الصحيح إذ ليس في وجوب ذلك نص في القرآن ولا في السنة ولا اجتمعت عليه الأمة، والفرائض الواجبات لا تؤخذ إلا من أحد هذه الوجوه الثلاثة. فصل وأما معرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب ففي ذلك تفصيل: أما التالي للقرآن في صلاة أو في غير صلاة فيجب عليه السجود في مواضع السجود بإجماع، إلا أنه يكره للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة لئلا يخلط على من خلفه. وقد قيل: إنه يجوز له أن يقرأها إذا كان من خلفه قليلا وأمن أن يخلط على أحد منهم. وأما فيما يسر فيه فلا يقرأ بسورة فيها سجدة بحال. وقد استحب ابن القاسم للمنفرد ترك القراءة بسورة فيها سجدة في الفريضة لئلا يدخل على نفسه سهوا بذلك في صلاته، وقال: إنه هو الذي رأى مالكا يذهب إليه. وأما المستمع للتلاوة فإن جلس لاستماع تلاوة التالي على سبيل التعليم والحفظ سجد بسجوده إن سجد، واختلف هل يجب عليه السجود إن لم يسجد. وإن جلس لاستماع تلاوته ابتغاء الثواب في ذلك لم يجب عليه السجود إن لم يسجد، واختلف إن سجد هل يجب عليه السجود بسجوده أم لا على قولين. وهذا كله إذا كان التالي ممن تصح إمامته. وأما إن جلس إليه ليقرأ السجدة فيسجد لسجوده فلا يسجد لسجوده؛ لأن ذلك مكروه من الفعل. واختلف في المعلم والمقرئ يجلس لقراءة القرآن عليه، فقيل: إنه يسجد في أول ما تمر به سجدة بسجود القارىء عليه إذا كان بالغا، وليس عليه سجود بعد ذلك كلما جاءت سجدة. وقيل: ليس ذلك عليه ولا في أول مرة.

فصل

وأما من سمع قراءة رجل دون أن يجلس لاستماع قراءته على وجه من الوجوه فليس عليه أن يسجد بسجوده، وقيل: إن ذلك عليه وهو شذوذ. فصل وأما معرفة أحكام السجود فإن أحكامه أحكام صلاة النافلة في أنه لا يكون بغير طهارة، ولا في موضع غير طاهر، ولا في وقت لا تحل فيه الصلاة، ولا لغير القبلة إلا للمسافر على دابته حيثما توجهت به. وقد اختلف في سجود سجدة التلاوة بعد الصبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفر الشمس على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يسجد في شيء من هذه الأوقات، وهو قوله في الموطأ قياسا على النوافل. والثاني: أنه يسجد فيها وهو قوله في المدونة قياسا على صلاة الجنائز. والثالث: إنما يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة.

القول في سهو الصلاة

القول في سهو الصلاة فرض الله تبارك وتعالى الصلاة في كتابه على المكلفين من عباده فرضا مجملا، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها، والحكم عن السهو فيها أو عن شيء منها قولا وعملا؛ لأن الله تبارك وتعالى كان ينسيه في صلاته ليسن لأمته على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إني لأنسى أو أنسي لأسن»، فحفظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سها في الصلاة في أربعة مواضع: «قام من اثنتين، وأسقط الجلسة فلم يرجع إليها وسجد سجدتي السهو قبل السلام» «وسلم من ركعتين فكلمه في ذلك ذو اليدين فرجع إلى بقية صلاته وسجد سجدتي السهو بعد السلام» وصلى خامسة فسجد بعد السلام لسهوه، وأسقط آية من سورة الفرقان فلم يسجد لسهوه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يذكر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان» فتبين بما سن لأمته بقوله وفعله، أن السهو في الصلاة على ثلاثة أقسام: منه ما لا يجزئ فيه

فصل في أقسام السهو في الصلاة

سجود السهو. ومنه ما لا يجب فيه سجود السهو. ومنه ما يصلحه سجود السهو. وأن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «في كل سهو سجدتان» ليس على عمومه، وأن المراد بذلك السنن دون الفرائض والفضائل؛ لأن الفرائض هي التي لا يجزئ فيها سجود السهو، والفضائل هي التي لا يجب فيها سجود السهو. فصل والصلاة أقوال وأفعال، فجميع أفعال الصلاة فرض حاشا ثلاثة: رفع اليدين في الإحرام، والتيامن في السلام، والجلسة الوسطى، وحاشا الرفع من الركوع فقيل: إنه فرض؛ لأن الركوع لا يتم إلا به، وقيل: إنه سنة. وجميع أقوال الصلاة سنة وفضيلة حاشا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن، والسلام. وقد اختلف في ذلك حسبما ذكرنا كلا في موضعه. وبالله التوفيق. فصل في أقسام السهو في الصلاة والسهو في الصلاة ينقسم على قسمين: سهو يوقن به، وسهو يشك فيه. فالسهو الذي يوقن به ينقسم على قسمين: زيادة ونقصان. وكذلك السهو الذي يشك فيه [ينقسم أيضا على قسمين: زيادة ونقصان]، فهذه أربعة أقسام. وقد يجتمع في السهو اليقين بالزيادة والنقصان في الصلاة الواحدة، والشك فيهما جميعا، والشك في الزيادة واليقين بالنقصان، واليقين بالزيادة والشك في النقصان، فهذه تتمة ثمانية أقسام. فصل فأما السهو في الزيادة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون في الأفعال،

فصل

والثاني: أن يكون في الأقوال. فإن كان في الأفعال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يكون من جنس أفعال الصلاة [أو من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أفعال الصلاة]. فيجزئ فيه سجود السهو بعد السلام فيما قل باتفاق، وفيما كثر على اختلاف. والكثير ما كان مثل نصف الصلاة أو أكثر. وأما إن كان من غير جنس أفعال الصلاة فإن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك كثيرا، والثاني: أن يكون ذلك يسيرا. فأما إن كان ذلك كثيرا، مثل أن يأكل أو يخيط ثوبه أو يصقل سيفه، فيطول ذلك فإن صلاته تبطل بذلك ولا يجزئه سجود السهو فيه. وأما إن كان ذلك يسيرا فهو على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مما يجوز له أن يفعله في صلاته. والثاني: أن يكون مما يكره له أن يفعله في صلاته. والثالث: أن يكون مما لا يجوز له أن يفعله في صلاته. فالأول لا سجود عليه فيه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلها. والثاني يتخرج على قولين: أحدهما أن عليه السجود. والثاني أنه لا سجود عليه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلهما دون أن يريداه. والثالث قيل فيه: إنه يسجد وتجزئه صلاته، وقيل: إنه تبطل صلاته ولا يجزئه في ذلك سجود السهو، وذلك مثل أن ينسى أنه في صلاة فيأكل أو يشرب ولا يطول ذلك. فصل وإن كان في الأقوال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون من جنس أقوال الصلاة أو من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أقوال الصلاة فاختلف فيه هل فيه سجود السهو أم لا على قولين، وذلك مثل أن يقرأ سورة مع أم القرآن في الركعتين الأخيرتين أو يذكر الله فيما بين السجدتين وما أشبه ذلك. وأما إن كان من غير جنس أقوال الصلاة فيسجد سجدتي السهو بعد السلام.

فصل

فصل فهذا حكم الزيادة في الصلاة على سبيل السهو. أما الزيادة فيها على طريق العمد فإن كانت في الأفعال التي هي من جنس أفعال الصلاة أو في الأقوال التي ليست من جنس أقوال الصلاة أبطلها باتفاق فيما قل أو كثر. وإن كان في الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة أبطلها في الكثير دون القليل. وأما إن كان في الأقوال التي من جنس أقوال الصلاة فقيل: إنه يبطل الصلاة، وقيل: إنه يستغفر الله ولا سجود عليه؛ لأنه لم يسه. فصل وأما السهو في النقصان فلا يخلو أيضا أن يكون في الأفعال أو في الأقوال. فإن كان في الأفعال فلا يخلو أن يكون فيما هو منها فرض أو فيما هو منها سنة أو فيما هو منها فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض مثل الركوع والسجود والقيام أو الجلسة الآخرة، لم يجزئ فيه سجود السهو دون أن يأتي بما سها عنه من ذلك. فإن أتى بما سها عنه من ذلك فأوجب عليه إتيانه به زيادة في صلاته سجد بعد السلام، وإن أوجب عليه إتيانه به زيادة ونقصانا سجد قبل السلام على اختلاف قول مالك في ذلك، إلا أن يكون مع الإمام وتكون الزيادة أو النقصان والزيادة في داخل صلاة الإمام فلا يجب عليه سجود؛ لأن الإمام يحمل عمن خلفه جميع السهو الذي يجزئ عنه سجود السهو في الزيادة أو في النقصان أو فيهما جميعا. والأصل في ذلك أنه يحمل عنه جميع سنن الصلاة دون فرائضها، فلا يحمل عنه القيام ولا الركوع ولا السجود ولا الجلسة الآخرة ولا السلام ولا النية ولا الطهارة من الحدث ولا طهارة الثوب والبقعة ولا استقبال القبلة ولا تكبيرة الإحرام على اختلاف في ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم. فصل وكل ما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهو لهم وإن فعلوه، وكل ما لا يحمله الإمام عمن خلفه فلا يكون سهوه عنه سهوا لهم إذا هم فعلوه إلا في النية

فصل

وتكبيرة الإحرام؛ لأنهم إذا فارقوه في النية أو في الإحرام لم يدخلوا معه في الصلاة. فصل وإن كان فيما هو منها سنة كالجلسة الوسطى وجب عليه سجود السهو. وإن كان فيما هو منها فضيلة كرفع اليدين في الإحرام [والتيامن في السلام لم يجب عليه في ذلك سجود السهو]. فإن قيل في رفع اليدين: إنه سنة، فليس من السنن المؤكدات وهو في الفضائل أدخل. فصل وإن كان النقصان من الأقوال فلا يخلو أيضا أن يكون فيما هو فرض فيها أو سنة أو فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض كتكبيرة الإحرام والسلام لم يجزئ فيه سجود السهو وبطلت الصلاة. وإن كان فيما هو منها سنة كقراءة السور التي مع أم القرآن أجزأه منها سجود السهو قبل السلام. وإن كان فيما هو منها فضيلة كالقنوت والتسبيح في الركوع والسجود لم يجب في ذلك سجود. فصل واختلافهم فيمن نسي تكبيرة واحدة من صلاته ليس بخارج عن هذا الأصل، وإنما هو جار على اختلافهم هل كل تكبيرة منها سنة على حدة أو هل جملة التكبير كله ما عدا تكبيرة الإحرام سنة واحدة في الصلاة. فمن جعل كل تكبيرة سنة أوجب السجود في التكبيرة الواحدة والتكبيرتين، وأوجب الإعادة فيما زاد على ذلك إذا ترك السجود حتى طال الأمر. ومن لم ير كل تكبيرة سنة وإنما جعل جملة التكبير سنة واحدة في الصلاة لم يوجب السجود في التكبيرة الواحدة، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة، ولا أوجب الإعادة فيما زاد على التكبيرة الواحدة إذا ترك السجود حتى طال، وذلك منصوص لابن القاسم في رواية أبي زيد عنه.

فصل

فصل وكذلك اختلافهم في ترك قراءة أم القرآن في الصلاة ليس بخارج على ما أصلناه، وإنما هو جار على اختلافهم في قراءتها هل هو فرض في جملة الصلاة أو في كل ركعة منها أو ليس بفرض جملة. فمن لم ير ذلك فرضا أجزأ عنده فيه سجود السهو، ومن رآه فرضا في كل ركعة قال بالإلغاء، ومن رآه فرضا في الجملة أوجب عليه الإعادة إن لم يقرأها رأسا، وإن قرأها في ركعة واحدة من أي الصلوات كانت سجد ولم يعد الصلاة. وما يوجد من أقوالهم خارجا عن هذا فليس بجار على قياس. وإنما هو استحسان مراعاة للخلاف. فصل فهذا حكم النقصان على طريق السهو. وأما النقصان على طريق العمد، فإن كان فريضة أبطل الصلاة كان من الأقوال أو من الأفعال، وإن كان سنة واحدة فقيل: يبطل الصلاة وقيل: يستغفر الله ولا شيء عليه. وإن كثرت السنن التي ترك متعمدا أبطلت الصلاة، وإن كانت فضيلة فلا شيء عليه. فصل فإن اجتمع عليه في صلاته زيادة ونقصان فيما يجب فيه سجود السهو فقيل: إنه يسجد قبل السلام، وقيل: إنه يسجد بعد السلام. والقولان قائمان من المدونة ومنصوص عليهما في رواية عيسى من العتبية. والأشهر أنه يسجد قبل السلام، وهو قائم من حديث النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قوله: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم» الحديث؛ لأن الركعة التي شك في إسقاطها إن كانت الركعة الأولى أو الثانية فقد صارت الثالثة ثانية وكان عليه أن يقرأ فيها بالحمد وسورة ويجلس، فقرأ

فصل

فيها بالحمد وحدها وقام فحصل معه الشك في نقصان السورة والجلسة الوسطى، واليقين في الزيادة. ولا فرق بين أن يشك في النقصان أو يوقن به. هذا توجيه الحديث على هذا المذهب، وقد نحا إلى ذلك ابن المواز في كتابه. فصل ولا يفترق اليقين بالسهو من الشك فيه إلا في موضعين: أحدهما: أن يشك في الزيادة الكثيرة في أفعال الصلاة فإنه يجزئه في ذلك سجود السهو باتفاق، بخلاف الذي يوقن بالزيادة. والثاني: هو أن الذي يكثر عليه السهو في الصلاة بخلاف الذي يكثر عليه الشك في السهو فيها. فالذي يكثر عليه السهو لا بد من إصلاحه. وإنما اختلف في وجوب سجود السهو عليه بعد إصلاح ما سها فيه. والذي يكثر عليه الشك في السهو يلهى عنه ولا يبنى على اليقين. واختلف قول مالك هل يسجد لسهوه أم لا على قولين، وذهب محمد بن المواز إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول وأنه إنما أوجب سجود السهو على الذي يكثر عليه [الشك في السهو فيلهى عنه ولا يبنى على اليقين وإنما أسقطه عن الذي يكثر عليه] السهو فيصلحه لتيقنه به. قال فضل: وقول ابن المواز بعيد، والأظهر أنه اختلاف من القول. يريد في الذي يكثر عليه الشك في السهو. وأما الذي يكثر عليه السهو ويوقن به فإنه يصلحه ويسجد لسهوه عنده خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه لا سجود عليه تأويلا على مالك. فهذه جملة في السهو تأتي عليها المسائل إن شاء الله، وبالله التوفيق. فصل فأما السهو عنها جملة. فروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلى بعد خروج الوقت وقال: " إذا رقد أحدكم عن

فصل

الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها فإن الله تبارك وتعالى يقول أقم الصلاة لذكري». فأجمع أهل العلم على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها فإنه يجب عليه أن يصليها بعد خروج وقتها. فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصلها إذا ذكرها» دليل على أنه لا يجوز تأخيرها عن وقت ذكرها. وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فقال: إنه إذا ذكر صلوات يسيرة في وقت صلاته إنه يبدأ بها وإن فاته وقت التي هو في وقتها، قياسا على من نسي الظهر والعصر إلى قرب الغروب أنه يبدأ بالظهر وإن فاته وقت العصر، وخالفه الشافعي فقال: إنه يبدأ بالتي هو في وقتها قبل الفائتة. وحجته ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يومئذ ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح، وهي حجة ظاهرة إلا أن ذلك لم يصح عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقد سئل في سماع أشهب هل صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الوادي ركعتي الفجر، فقال: ما سمعت. وأما تأخير الصلاة إلى أن خرج من الوادي فلا حجة للمخالف فيه؛ لأنه قد بين علة ذلك في الحديث فقال: إن هذا واد به شيطان. فصل فترتيب الصلوات اليسيرة مع ما هو في وقته واجب ابتداء عند مالك كوجوب ترتيب ما هو في وقته، يبدأ بالصلوات المنسيات وإن خرج وقت التي هو في وقتها، كما يبدأ إذا نسي الظهر والعصر إلى عند الغروب بالظهر وإن فاته وقت العصر. وكذلك أيضا يجب على مذهبه ترتيب الفوائت في القضاء الأولى فالأولى. فإن ترك الترتيب في شيء من ذلك كله ناسيا فلا إعادة عليه للتي قدم إلا الرتبة في الوقت على طريق الاستحباب. مثال ذلك مما هو في وقته من الصلوات أن ينسى الظهر والعصر إلى قرب الغروب بقدر ما يصلي فيه صلاة واحدة فيذكر العصر وحدها

فصل

فيصليها ثم يذكر بعد السلام منها الظهر فإنه يصلي الظهر التي ذكرها ولا إعادة عليه للعصر. ولو بقي من الوقت ما يصلي فيه العصر أو ركعة منها لأعاد العصر استحبابا. وقد قيل: إنه إذا ترك إعادتها في الوقت فلم يفعل حتى خرج الوقت إنه يعيدها بعد الوقت، وكان أيضا تأكيدا في الاستحباب. فإن قيل: قد روي عن مالك في الحائض تطهر لمقدار خمس ركعات فتظن أنها لم يبق عليها من الوقت إلا قدر أربع ركعات. فتصلي العصر ويبقى عليها من النهار قدر ركعة إنها تصلي الظهر ثم تعيد العصر بعد الغروب، وهي كالناسية إذا لم تعلم أن صلاة الظهر واجبة عليها. فعن ذلك جوابان: أحدهما: ما قال ابن المواز: إن معنى ذلك أنها علمت باتساع الوقت للصلاتين قبل سلامها من صلاة العصر ففسدت عليها العصر، كمن ذكر صلاة في صلاة. والجواب الثاني: أن الإعادة إنما وجبت عليها للعصر بعد الوقت على مذهب من يرى أن الظهر تختص بأربع ركعات من أول الزوال لا يشاركها فيها العصر، فصارت في صلاتها العصر في الوقت المختص بالظهر كمن صلى الظهر قبل الزوال؛ لأن طهر الحائض آخر الوقت أول الوقت لها كزوال الشمس لغير الحائض، بخلاف التارك للصلاة إلى آخر الوقت. ومثال ذلك في الصلوات المنسيات مع ما هو في وقته أن لا يذكرها حتى يصلي ما هو في وقته فلا يتم بالمنسيات حتى ينقضي الوقت فلا إعادة عليه لها. ومثال ذلك في الفوائت أن ينسى الظهر والعصر [أو الصبح والعصر] فيذكر العصر فيصليها، ثم يذكر بعد تمامها الصبح أو الظهر فيصليها أنه لا إعادة عليه للعصر ولا خلاف في ذلك. فصل وأما إن ترك الترتيب في ذلك متعمدا أو جاهلا بالصواب فيما هو في وقته من الصلوات فإنه يعيد الثانية وإن خرج الوقت، مثل أن يصلي العصر قبل الظهر وهو ذاكر للظهر فإنه يعيد العصر ولا خلاف في ذلك أعلمه. وأما إن ترك الترتيب في

فصل

الصلوات المنسيات مع ما هو في وقته متعمدا أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يصلي العصر وهو ذاكر لصبح يومه أو لصبح أمسه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد العصر أبدا، وهو الذي يأتي على ما في رسم أوصى ورسم بع من كتاب الصلاة إذا تدبرته. والثاني: أنه لا إعادة عليه للعصر إلا في الوقت، وهو الذي يأتي على ما في سماع سحنون. والثالث: الفرق بين أن يصلي العصر وهو ذاكر للصبح أو يذكرها وهو فيها بعد الإحرام بها، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة. وكذلك إن ترك الترتيب في الفوائت متعمدا أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يكون قد نسي الصبح والظهر أو الظهر والعصر فيذكر ذلك بعد أيام فيصلي الظهر وهو ذاكر للصبح أو العصر وهو ذاكر للظهر، في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس عليه إعادة الصلاة التي صلى؛ لأنه إذا صلاها فقد خرج وقتها وكأنه قد وضعها في موضعها فلا إعادة عليه لها بعد خروج وقتها، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم. والثاني: أن عليه إعادتها. والثالث: الفرق بين أن يتعمد الصلاة الثانية قبل الأولى، أو يدخل في الثانية ثم يذكر الأولى فيتمادى عليها. وهذا يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، فقد قال فيمن نسي الصبح والظهر فذكر الظهر ولم يذكر الصبح، فلما دخل فيها ذكر الصبح: إنه يصلي الصبح ثم يعيد الظهر وإن كان وقتها قد خرج بتمامها. وقال فيمن ذكر صلوات يسيرة فصلى قبلها ما هو في وقته جاهلا أو متعمدا: إنه لا إعادة عليه إلا في الوقت، وهذا بين إذ لا فرق بين المسألتين. فصل ويلزم على هذا القول الآخر وعلى القول الأول فيمن ذكر صلاتين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها، مثل أن يذكر الظهر والعصر أو الصبح والظهر من يومين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها أنه ليس عليه أن يصلي إلا صلاتين الصبح والظهر أو العصر والظهر، خلاف نص ما في سماع عيسى في رسم أوصى ورسم بع من كتاب الصلاة، وخلاف ما في الواضحة وكتاب ابن المواز، وخلاف قول سحنون وابن عبد الحكم. وعلى القول الثاني أن عليه إعادة الصلاة التي صلى وإن خرج

فصل

وقتها بتمامها يأتي على قولهم فيمن نسي صلاتين من يومين مختلفين لا يدري أيهما قبل صاحبه، مثل ظهر وعصر، إنه يصلي ثلاث صلوات ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين حتى يوقن أنه قد خلص من التنكيس وأتى بما نسي على الترتيب. ولو ذكر على هذا القول ثلاث صلوات صبحا وظهرا وعصرا لا يدري أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي سبع صلوات يبدأ بالصبح ويختم بها. ولو ذكر أربع صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا لا يدري أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي ثلاث عشرة صلاة يبدأ بالصبح أيضا ويختم بها. ولو ذكر خمس صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، لا يدري أيتهن قبل صاحبتها، لوجب عليه أن يصلي إحدى وعشرين صلاة يبدأ بالصبح أيضا ويختم بها، إذ لا يصح له اليقين والترتيب بما دون ذلك. وأصل ما تقيس عليه هذا أن تسقط أبدا من عدد الصلوات المنسيات واحدا ثم تضرب ما بقي في عددها فما اجتمع من ذلك حملت عليه الواحد الذي أسقطت [من عددها]، وإن شئت أسقطت من عددها واحدا ثم ضربت ما بقي في مثله وحملت على ما اجتمع عدد الصلوات، وذلك سواء. فصل ولو نسي الظهر والعصر أحدهما للسبت والآخر للأحد، لا يدري أيتهما للسبت ولا أيتهما للأحد، لتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر في ذلك بالتعيين ولا بالترتيب فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أنهما يعتبران جميعا باعتبار التعيين؛ لأن اعتبار الترتيب داخل تحته إذ لا يشك أن السبت قبل الأحد فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد على ما قال ابن حبيب، أو ظهرا للسبت ثم عصرا للأحد، ثم عصرا للسبت ثم ظهرا للأحد، على ما روى عيسى عن ابن القاسم، وذلك كله صحيح لإتيانه بذلك على شكه وحصول الترتيب به

فصل

يقينا إذ لا يشك أن السبت قبل الأحد. والثالث: أنه يعتبر في ذلك الترتيب دون تعيين الأيام، فيصلي ظهرا وعصرا ثم ظهرا، أو يبدأ بالعصر فيصلي عصرا وظهرا ثم عصرا لا أكثر. ولو نسي ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد، لا يدري أيتهما للسبت ولا أيتهما للأحد ولا إن كان السبت قبل الأحد أو الأحد قبل السبت من جمعة أخرى، لتخرج ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر التعيين ولا الترتيب، فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أن يعتبر التعيين والترتيب جميعا، فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد، ثم ظهرا وعصرا للسبت، وإن بدأ بالأحد ختم به. والثالث: أن يعتبر التعيين دون الترتيب فيصلي ظهرا وعصرا للسبت وظهرا وعصرا للأحد. والرابع: أن يعتبر الترتيب دون التعيين فيصلي ظهرا ثم عصرا ثم ظهرا، أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا، يختم بالذي بدأ به وهذا كله بين. فصل فأما ترك اعتبار تعيين الأيام فهو قول سحنون، وذهب إليه ابن لبابة وقال: يلزم من قال باعتبار تعيين الأيام أن يقول إذا ذكر صلاة لا يدري من أي يوم أن يصلي سبع صلوات صلاة لكل يوم من أيام الجمعة، وهذا يلزم، وكذلك يجب أن يقول في أيام الجمعة وما قل من الصلوات مما لا كبير مشقة فيه، إلا أن قول ابن لبابة عندي أظهر؛ لأنه إذا نوى بصلاته قضاء صلاة ذلك اليوم الذي تركها فيه وإن لم يعرفه بعينه وجب أن يجزئه قياسا على من نذر صوم يوم بعينه فأفطره ناسيا ثم نسي أي يوم كان من أيام الجمعة، أنه ليس عليه إلا صوم يوم واحد ينوي به ذلك اليوم. وانظر لو ظن أنه يوم بعينه فنواه لقضائه ثم انكشف له أنه غير ذلك اليوم هل يجزئه أم لا، والظاهر عندي أنه لا يجزئه، وكذلك الصلاة. وأما ترك اعتبار الترتيب في ذلك فقد ذكرنا أنه الذي يأتي على ما في المدونة في ذاكر صلوات يسيرة يصلي صلاة أنه لا يعيدها إلا في الوقت.

فصل

فصل وأما من صلى قبل أن يذكر الصلوات المنسية فلا يعيدها إلا في الوقت للرتبة استحسانا، فإن لم يتسع له الوقت لإعادة ذلك فلا إعادة عليه بعد الوقت إلا أن يتسع له الوقت للإعادة فلم يفعل، فقد قيل: إنه يعيد بعد الوقت، وذلك تأكيد في الاستحباب. فصل فيتحصل في ترتيب الفوائت اليسيرة مع ما حضر وقته من الصلوات قولان: أحدهما: أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة. والثاني: أنه إنما يجب بالسنة وجوب السنن. وأما ترتيب ما حضر وقته من الصلوات فلا خلاف أعرفه في وجوبه مع الذكر على ما بيناه إن شاء الله تعالى فصل وأما ذكر صلوات كثيرة فلم يختلف قول مالك أنه يبدأ بما حضر وقته قبلها، قيل: إن خشي أن يفوته فيما حضر وقت الاختيار، وهو ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: ما لم تصفر الشمس في الظهر والعصر، وهو قول ابن القاسم في مختصر يحيى بن عمر، وقيل: ما لم تغب الشمس، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من العتبية. فصل ووجه تفرقة مالك بين الصلوات الكثيرة والقليلة، هو أن ظاهر الحديث بحمله على ما يقتضيه من العموم يوجب أن يبدأ بالفوائت قلت أو كثرت قبل ما هو في وقته وإن فات الوقت؛ لقوله: فليصلها إذا ذكرها في الصلاة التي هي من ألفاظ العموم، فخصص الإجماع من ذلك الصلوات الكثيرة وبقي الحديث مستعملا في اليسيرة. وقد اختلف في حدها ما هو، فقيل: الأربع، وقيل: الخمس، وقيل: الست وهو الصواب، إذ لا يصح أن يخصص عموم الحديث إلا بما يتفق أنه كثير وهو الست صلوات، وبالله التوفيق.

فصل في القول في قصر الصلاة

فصل في القول في قصر الصلاة اختلف أهل العلم في قصر المسافر الصلاة في السفر مع الأمن على أربعة أقوال: أحدها: أن القصر لا يجوز. والثاني: أنه واجب فرض. والثالث: أنه سنة مسنونة. والرابع: أنه رخصة وتوسعة. واختلف الذين رأوه رخصة وتوسعة في الأفضل من ذلك، فمنهم من رأى القصر أفضل، ومنهم من رأى الإتمام أفضل، ومنهم من خير بين الأمرين من غير أن يفضل أحدهما على صاحبه. فصل والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في كيفية فرض الصلاة، وفي تأويل قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فبنى كل واحد مذهبه في ذلك على ما ثبت عنده من الروايات في كيفية فرض الصلاة، وصح عنده من التأويلات في معنى تفسيرها. وذلك أنه اختلف في كيفية فرض الصلاة على ثلاثة أقوال: قيل: إنها فرضت ركعتين في السفر وأربعا في الحضر. وقيل: إنها فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربعا أربعا في السفر والحضر، فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر. واختلف في القصر الذي رفع الله الجناح فيه بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] على ستة أقوال: أحدها: أنه أراد به القصر من طول القراءة والركوع والسجود، دون أن ينقص من عدد الركعات عند الخوف، قبل أن تنزل صلاة الخوف. والثاني: أنه القصر من حدود الصلاة بصلاتهم إيماء إلى القبلة وإلى غير القبلة، عند شدة الخوف والتحام الحرب، كقوله تعالى في آية البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

والثالث: أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين عند الخوف. والرابع: أنه القصر من ركعتين إلى ركعة عند الخوف. وعلى هذا يأتي ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا. والخامس: أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين في السفر من غير خوف، على ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: «سأل قوم من التجار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]، ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] إلى آخرها، فنزلت صلاة الخوف» قال الطبري: وهذا تأويل حسن في الآية لو لم يكن في الكلام إذا؛ لأن إذا تؤذن بانقطاع ما بعدها على معنى ما قبلها. ولو لم يكن في الكلام إذا لكان معنى الكلام إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وكنت فيهم يا محمد فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية. والقول السادس: أن المراد به ما بينه في الآية التي بعدها من صلاة الخوف بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] على الاختلاف المروي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من صلاته بكل طائفة ركعتين ركعتين فتصير له أربعا ولكل طائفة ركعتين. وبكل طائفة ركعة ركعة دون أن يقضوا شيئا فتصير له ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة. وبكل طائفة ركعة ركعة ثم يقضون جميعا ركعة ركعة بعد سلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبكل طائفة ركعة ركعة فتتم الطائفة الأولى قبل مجيء الثانية، ثم تقضي الثانية قبل سلام الإمام أو بعد سلامه. أو على

فصل

ما روي من «أن العدو كان في جهة القبلة، فلما رأوهم يصلون الظهر تآمروا على الهجوم عليهم في صلاة العصر، فأنزل الله على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الآية، فجعل النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لصلاة العصر أصحابه صفين خلفه، فكبر بهم جميعا، ثم ركع بهم جميعا، ثم سجد بالنصف الذي يليه سجدتين ووقف الصف الثاني يحرسونهم من العدو. فلما فرغ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من سجوده وقام سجد الصف الثاني ثم تقدموا مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول مكان الصف الثاني، فركع بهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جميعا ثم سجد بالصف الذي يليه سجدتين والصف الثاني يحرسونهم من العدو. فلما فرغ من سجوده سجد الصف المؤخر ثم قعدوا فتشهدوا مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثم سلم بهم جميعا. فلما نظر إليهم المشركون قالوا: لقد أخبروا بالذي أردنا». فصل فمن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا أربعا في الحضر والسفر، وإلى ما روي من أن القصر الذي رفع الله فيه الجناح على عباده في الآية المذكورة هو القصر في الخوف من أربع إلى ركعتين، أو من طول الصلاة أو من حدودها على ما ذكرناه ولم يصح عنده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في غير خوف، لم يجز للمسافر قصر الصلاة مع الأمن. وذهب إلى هذا جماعة من العلماء. وقد قيل: إنه مذهب عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - في إتمامها في السفر. روي عنها أنها قالت في سفرها: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حرب، وكان يخاف فهل تخافون أنتم شيئا؟، ومن ذهب إلى [ما روي من] أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، أو إلى أن الصلاة فرضت أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر، وصح عنده قصر

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في السفر من غير خوف، وتأول أن مراد الله عز وجل بالقصر الذي رفع فيه الحرج هو القصر مع الخوف من ركعتين إلى ركعة أو من طول الصلاة أو من حدودها، رأى القصر في السفر فرضا، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وجماعة من العلماء، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحق وأبو بكر بن الجهم. وذكر ابن الجهم أن أشهب روى ذلك [عن مالك]، ويلزم من قال بهذا القول أن يوجب الإعادة أبدا على من أتم صلاته في السفر متعمدا صلى وحده أو في جماعة كما يقول أبو حنيفة وأصحابه، ولا يوجد ذلك في المذهب لمالك ولا لأحد من أصحابه. والذي رأيت لمالك من رواية أشهب عنه أن فرض المسافر ركعتان، وذلك خلاف ما حكى عنه ابن الجهم إذا تدبرته. ومن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا أربعا في السفر والحضر فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر وتأول القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده على أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع الأمن على ما ذكرناه فيما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وصح عنده أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في سفره وهو آمن» قال: إن القصر في السفر سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن ليختار مما خيره الله فيه إلا الذي علم أنه الأفضل عنده. وقد نبه على ذلك بقوله: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». فحض على قبول الصدقة والاقتداء به في ذلك من غير وجوب، إذ لا يجب على المتصدق عليه قبول ما تصدق به عليه، وإنما المختار له ذلك، ما لم يقترن بصدقته معنى يوجب كراهيتها، وذلك المعنى معدوم في صدقة الله تعالى. وهي رواية أبي المصعب عن

فصل

مالك والمعلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في مسائله ومسائلهم؛ لأنهم لم يخيروا المسافر بين القصر والإتمام، ولا أوجبوا عليه الإعادة أبدا إذا أتم، وإنما رأوها عليه في الوقت استحبابا ليدرك فضيلة السنة، إلا أن يكون صلاها في جماعة فلا يعيد لإحرازه فضل الجماعة، وإن كانت فضيلة السنة عنده آكد من فضيلة الجماعة؛ لأنه لم ير له أن يصلي في جماعة ويترك القصر إلى أن تغشاه الصلاة في موضعه الذي هو فيه من مسجد أو غيره؛ لما في ذلك من الجفاء وتعريض نفسه إلى سوء الظن. وقد ذهب ابن حبيب إلى أنه يعيد في الوقت وإن صلى في جماعة ما لم تكن صلاته في الجماعة في المسجد الجامع، وذلك على حسب تأكيد فضيلة السنة عنده. ومن ذهب إلى هذا ولم يصح عنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في سفره مع الأمن رأى المسافر مخيرا بين القصر والإتمام بالقرآن. ويحتمل أن يكون هذا، أعني التخيير بين القصر والإتمام، مذهب من صح عنده قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلاة في السفر مع الأمن إذا تأول القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده أنه هو القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع الخوف، ويرى أن قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع الأمن إنما هو زيادة بيان لما في القرآن لا سنة مسنونة. ومن ذهب إلى هذا ورأى أن القصر أفضل، استدل على ذلك بما روي أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى شدائده، ولقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». ومن ذهب إلى هذا ورأى الإتمام أفضل رآه زيادة عمل وقاسه على الصيام في السفر. ومن استوت عنده في ذلك الأدلة لم يفضل أحد الأمرين على صاحبه. فصل وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافا كثيرا من مسافة ثلاثة أميال، وهو مذهب أهل الظاهر، إلى مسيرة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة لا تقصر في أقل من مسيرة اليوم التام. واختلف في حده فقيل: ثمانية وأربعون ميلا، وقيل: خمسة وأربعون

فصل

ميلا، وقيل: أربعون ميلا. فإن قصر فيما دون الثمانية والأربعين ميلا فلا إعادة عليه فيما بينه وبين الأربعين ميلا. فإن قصر فيما دون الأربعين فقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه فيما بينه وبين ستة وثلاثين ميلا. فإن قصر فيما دون ستة وثلاثين ميلا أعاد في الوقت وبعده. فصل ويتم المسافر إلى أن يبرز عن بيوت القرية، ويقصر إلى أن يدخل إلى مثل ذلك الحد. قال ابن حبيب: إلا في الموضع الذي تجمع فيه الجمعة فإنه يقصر ويتم إلى الحد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة. فصل ولا يزال المسافر يقصر ما لم يمر بموطن يكون له محل إقامة بإجماع، أو ينوي إقامة أربعة أيام على اختلاف. والاختلاف في هذا كثير خارج المذهب، من تسعة عشر يوما على ما روي عن ابن عباس إلى يوم وليلة، وهو مذهب ربيعة قياسا على حد ما تقصر فيه الصلاة، فيتحصل فيه اثنا عشر قولا. فصل والإتمام يجب بمجرد نية الإقامة أو بحلول موضعها، ولا يجب القصر إلا بالنية مع العمل. وحد العمل الذي يحسب به القصر لمن خرج من موطن البروز عن بيوت البلدة وبساتينها، ولمن نوى إقامة أربعة أيام في غير موطن ثم نوى السفر التحرك من موضعه. فصل ولو نوى المسافر أن يقيم بموضع قبل أن يصل إليه ثم رجعت نيته عن الإقامة قبل أن يصل إليه بطلت نيته الأولى، وقصر بذلك الموضع إن وصل إليه وإن لم يتحرك منه. وذلك بخلاف المسافر يكون بطريقه قرية يكون له بها أهل، فينوي دخولها ثم ترجع نيته عن ذلك. ولا تخلو هذه المسألة من أحد أربعة أوجه: أحدها:

أن يكون فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين منتهى سفره أربعة برد فصاعدا. والثاني: أن لا يكون فيما بينه وبينها ولا فيما بينها وبين منتهى سفره إلا أقل من أربعة برد. والثالث: أن يكون فيما بينه وبينها أربعة برد فصاعدا، ولا يكون فيما بينها وبين منتهى سفره إلا أقل من أربعة برد. والرابع: بعكس ذلك، وهو أن لا يكون فيما بينه وبينها إلا أقل من أربعة برد، ويكون فيما بينها وبين منتهى سفره أربعة برد فصاعدا. فأما الوجه الأول: فلا تأثير لنية دخوله فيها على حال، لكون المسافتين مما يجب في كل واحدة منهما القصر، فهو يقصر من حين خروجه، نوى دخول القرية أو لم ينو، فإن دخلها أتم فيها حتى يخرج منها ويجاوز بيوتها. وأما الوجه الثاني: فإن نوى دخولها أتم فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين منتهى سفره، إذ ليس في واحدة من المسافتين ما يجب فيه قصر الصلاة. وإن نوى أن لا يدخلها قصر من حين خروجه لكون المسافتين باجتماعهما ما يجب فيه قصر الصلاة. وإن نوى دخولها فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى أن لا يدخلها، نظر إلى ما بقي من سفره فإن كان ما تقصر فيه الصلاة قصر، وإلا لم يقصر. وإن نوى أن لا يدخلها فقصر فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى دخولها ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يتمادى على تقصيره حتى يدخلها، وهو مذهب سحنون. ووجهه أن التقصير قد وجب عليه فلا ينتقل عنه إلى الإتمام إلا بنية المقام أو بحلول موضعه. والثاني: أنه يرجع إلى الإتمام بمنزلة أن لو نوى دخولها من أول سفره، إذ ليس فيما بينه وبينها أربعة برد. وعلى هذا يختلف فيمن نوى الرجوع عن سفره إلى البلد الذي خرج منه قبل أن يبلغ أربعة برد، فقيل: إنه يتمادى على تقصيره حتى يرجع إلى بلده، وهو قول سحنون. وقيل: إنه يتم في رجوعه إذ ليس فيما بينه وبين بلده ما يجب فيه قصر الصلاة، وهو الذي في الواضحة وكتاب ابن المواز. وكذلك لو سار في سفره بريدين ثم نوى أن يرجع بعد أن يتمادى بريدا ثالثا. والوجه الثالث من المسألة: محمول على الوجه الأول منها، فهو يقصر فيما

فصل

بينه وبين القرية نوى دخولها أو لم ينو، ولا يقصر فيما بين القرية وبين منتهى سفره إلا أن لا يدخل القرية ولا ينوي دخولها. والوجه الرابع: محمول على الوجه الثاني فيما بينه وبين القرية، ويقصر فيما بين القرية وبين منتهى سفره على كل حال دخل القرية أو لم يدخلها نوى دخولها أو لم ينوه؛ لأنها مسافة يجب فيها قصر الصلاة. وبالله التوفيق. فصل والأسفار تنقسم على خمسة أقسام: سفر واجب، وسفر مندوب إليه، وسفر مباح، وسفر مكروه، وسفر محظور. فأما السفر الواجب والمندوب إليه فلا خلاف في قصر الصلاة فيهما. وأما ما سواهما فاختلف في قصر الصلاة فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصلاة لا تقصر في شيء منها، وهو مذهب بعض أهل الظاهر، وروي مثله عن ابن مسعود. والثاني: أنها تقصر فيها كلها، وهو قول أكثر أهل الظاهر؛ لعموم قوله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ولم يخص سفرا، وهي رواية ابن زياد عن مالك. والثالث: أنه يقصر في السفر المباح دون المكروه والمحظور، وهو قول جل أهل العلم والمشهور من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فصل وقصر الصلاة في السفر على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة، فإن أتم المسافر الصلاة على مذهبه أعاد في الوقت إن افتتح الصلاة بنية الإتمام متعمدا أو جاهلا أو ناسيا لسفره. وأما إن أحرم بنية القصر ثم أتم عامدا فقيل: إنه يعيد في الوقت [وقيل: في الوقت وبعده. وكذلك يختلف أيضا إذا أحرم على الإتمام ثم قصر متعمدا، فقيل: يعيد في الوقت] وبعده، وقيل: في الوقت. فالقول الأول مبني على أن المسافر مخير بين القصر والإتمام ما لم يتشبث بفعل الصلاة، فإن تشبث بها لزمه ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. والثاني مبني على أنه مخير وإن تشبث بها ولا يلزمه الإتمام

فصل

على ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. وأما إن أحرم بنية القصر ثم أتم ساهيا، فقيل: إنه يسجد بعد السلام لسهوه، وتجزئه صلاته، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، وقيل: إنه يعيد في الوقت. وهذا على القول بأن للمسافر أن يتم وإن أحرم بنية القصر، وعلى القول بأن ما صلى على السهو يجزئ عن الفرض، مثل أن يصلي الرجل في الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعة خامسة على سبيل السهو فيذكر سجدة من الأولى، وهذا الاختلاف كله لابن القاسم. فصل واختلف إذا دخل المسافر خلف المقيم، وهو يظنه مسافرا فألفاه مقيما، أو دخل خلف المسافر وهو يظنه مقيما فألفاه مسافرا، فقيل: إن صلاته جائزة في الوجهين جميعا، وقيل: إنها فاسدة في الوجهين جميعا وعليه الإعادة، وقيل: إنه إن ظنه مسافرا فألفاه مقيما جازت صلاته، وإن ظنه مقيما فألفاه مسافرا فسدت صلاته ووجبت عليه الإعادة، وقيل بعكس ذلك في الوجهين جميعا. فهي أربعة أقوال، والإعادة في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت خاصة. فصل واختلف إذا صلى المسافر بالمسافرين ركعتين، ثم قام لإتمام الصلاة فيما يصنع القوم خلفه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يسلمون لأنفسهم وينصرفون، وقيل: إنهم يقدمون من يسلم بهم. والثاني: أنهم ينتظرونه حتى يتم الصلاة فيسلمون بسلامه. والثالث: أنهم يتبعونه ويعيدون الصلاة. فصل فإن سلموا على قول من يرى ذلك تمت صلاتهم على كل حال كان الإمام ناسيا لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته عامدا أو جاهلا أو متأولا، أو كان قد أحرم على ركعتين فأتم عامدا أو ساهيا، إلا أن يكون الإمام إنما أتم لأنه نوى الإقامة فعليهم الإعادة ويعيد الإمام صلاته في الوقت إن كان أحرم بنية الإتمام. وإن كان أحرم بنية ركعتين ثم أتم عامدا أعاد في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت، وقيل: يجتزئ بسجدتي السهو ولا إعادة عليه.

فصل

فصل وأما إن قعدوا فسلموا بسلامه على قول من يرى ذلك وكان الإمام ناسيا لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته، فقيل: إنهم يعيدون في الوقت، وهذا قول سحنون، وقيل: إنه لا إعادة عليهم، وهو قوله في المدونة. وأما إن أحرم بنية ركعتين فأتم عامدا فإنهم يعيدون في الوقت وبعده؛ لأنه قد أفسد عليهم الصلاة بإفساده إياها على نفسه في المشهور من الأقوال. وأما إن كان أحرم بنية ركعتين فأتم ساهيا، فإنه يسجد لسهوه ويسجدون بسجوده على القول الذي يرى فيه أنه يصلح صلاته بسجود السهو، ولا شيء عليهم على قول من يوجب عليه إعادة الصلاة لكثرة سهوه؛ لأنهم لم يتبعوه على سهوه، وهذا على مذهب ابن القاسم في المدونة. وعلى قياس قول سحنون فيها يعيدون في الوقت وبعده كما يعيد الإمام. وأما على قول من يوجب عليه الإعادة في الوقت فيعيدون هم في الوقت على قياس قول سحنون المتقدم، وعلى قياس قول ابن القاسم لا إعادة عليهم وأما إن كان إنما أتم لأنه نوى الإقامة قبل الإحرام فعليهم الإعادة في الوقت وبعده. فصل وأما إن اتبعوه على قول من يرى ذلك فإنهم يعيدون صلاتهم في الوقت وبعده إن كانوا اتبعوه بنية الإعادة. وإن كانوا إنما اتبعوه بنية الإتمام في السفر وتأولوا اتباع إمامهم وقد كان الإمام أحرم بنية الإتمام في السفر أعادوا أيضا في الوقت وبعده، وقيل: إنهم يعيدون في الوقت، ولا يجب على الإمام أن يعيد إلا في الوقت. وإن كان الإمام إنما أحرم بنية ركعتين ثم تمادى عامدا كان بمنزلتهم وأعاد هو وهم في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت على ما تقدم من الاختلاف. وإن كان الإمام نوى الإقامة فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصلاة تامة ولا إعادة عليهم، والثاني: أنهم يعيدون في الوقت. [والثالث: أنهم يعيدون في الوقت] وبعده؛ لأن ذلك مبني على ما تقدم من الاختلاف في المسافر يدخل مع القوم وهو يظنهم مسافرين فيجدهم مقيمين.

فصل

فصل وأما إن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين، ثم قام لإتمام صلاته فإن اتبعوه وكان الإمام قد أحرم على الإتمام متأولا أعادوا في الوقت وبعده، وقيل: لا إعادة عليهم. وهذا على اختلافهم فيمن وجب عليه أن يصلي فذا فصلى بإمام. وقيل: يعيدون في الوقت كالإمام. وإن قعدوا ولم يتبعوه بطلت صلاتهم بجلوسهم عن اتباعه على القول بأنهم إن اتبعوه أعادوا في الوقت وأجزأتهم صلاتهم، وصحت على القول بأنهم إن اتبعوه أعادوا في الوقت وبعده، ويتخرج على قول سحنون أنهم يعيدون في الوقت كما يعيد الإمام. ولا أذكر في ذلك نص رواية. وأما إن كان الإمام إنما أحرم بنية ركعتين، ثم أتم عامدا فاتبعوه فإنهم يعيدون في الوقت وبعده على قول من يوجب على الإمام الإعاده في الوقت وبعده، وعلى قول من لا يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت، يجري الأمر في إيجاب الإعادة عليهم على الاختلاف المذكور إذا أحرم بنية الإتمام عامدا فاتبعوه. وأما إن قعدوا ولم يتبعوه فالحكم في ذلك على ما تقدم في المسألة التي قبلها. وأما إن كان الإمام إنما أحرم على نية ركعتين ثم أتم ساهيا فاتبعوه فقيل: إن ذلك لا يجزئهم، وقيل: إن صلاتهم تامة على الاختلاف في الإمام إذا صلى خامسة ساهيا فاتبعه فيها من فاتته ركعة من الصلاة. وهذا على القول بأن الإمام يجتزئ بسجود السهو. وأما على القول بأنه يعيد في الوقت أو في الوقت وبعده فعلى ما تقدم في المسألة التي قبلها. وإن قعدوا ولم يتبعوه فيتموا صلاتهم إذا سلم الإمام وتجزئهم، ويسجدون للسهو كما يسجد الإمام، على القول بأن الإمام يسجد لسهوه وتجزئه صلاته. وأما على القول بأن الإمام يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، فلا سجود عليهم للسهو ولا إعادة؛ لأنهم لم يسهوا. فصل وأما إن كان الإمام السفري إنما أتم بهم الصلاة؛ لأنه نوى الإقامة قبل دخوله فيها فإن اتبعوه صحت صلاتهم، وإن قعدوا ولم يتبعوه بطلت صلاتهم، وبالله تعالى التوفيق.

القول في صلاة الجمعة

القول في صلاة الجمعة قصد الجمعة وشهودها فرض على الأعيان. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك صلاة الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه بطابع النفاق». فلا يجوز التخلف عنها إلا لعذر أو علة كما ذكر في الحديث. والأعذار في ذلك منقسمة على ثلاثة أقسام: منها ما يباح التخلف عنها بسببه باتفاق، كالمرض والشغل بجنازة ميت لينظر في أمره على ما في سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا لم يجد من يكفنه وخشي عليه التغير إن أخر ذلك إلى أن يصلي الجمعة، أو يكون في الموت يجود بنفسه، قاله في السماع المذكور وحكاه ابن حبيب عن مالك. وقال في الأعمى الذي لا قائد له: إن الجمعة ساقطة عنه. ومنها ما يباح على اختلاف كالجذمى لما على الناس من الضرر في مخالطتهم في المسجد الجامع، والمطر، وعندي أن قولهم في المطر ليس باختلاف قول، وإنما ذلك على قدر حال المطر، والله تعالى أعلم. وفي تخلف العروس عنها اختلاف ضعيف. ومنها ما لا يباح باتفاق مثل المدين يخشى أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه، وما أشبه ذلك.

فصل

فصل وصلاة الجمعة على من تجب عليه الجمعة بدل من صلاة الظهر، وتجزئ من لا تجب عليه من صلاة الظهر. فوقتها وقت صلاة الظهر، قيل: إلى الاصفرار وقيل: إلى أن يبقى بعد إقامتها قدر أربع ركعات للعصر قبل الغروب، وقيل: إلى أن يبقى من الوقت ركعة لصلاة العصر. وقيل: وقتها إلى الغروب وإن لم تصل العصر إلا بعد غروب الشمس. فصل وقد اختلف متى يتعين الإقبال إليها، فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا أذن المؤذن. والاختلاف في هذا إنما هو على اختلافهم في وجوب شهود الخطبة، فمن أوجب شهود الخطبة على الأعيان أوجب على الرجل الإتيان من أول الزوال ليدركها، ومن لم يوجب شهود الخطبة على الأعيان لم يوجب على الرجل الإتيان إلا بالأذان؛ لأنه معلوم أنه إذا لم يأت حتى أذن المؤذن أنه ستفوته الخطبة أو بعضها. فصل وهذا لمن قرب موضعه من الجمعة وأما من بعد موضعه ولا يدرك الخطبة أو الصلاة إلا بالإتيان إليها قبل الزوال فيلزمه الإتيان في الوقت الذي يغلب على ظنه أنه يدرك الخطبة والصلاة على الاختلاف في ذلك. فصل وحد البعد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة أميال. قال في المدونة: وإن كانت زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه. وقال في رواية أشهب: ثلاثة أميال فدون. وقال في رواية علي بن زياد عن مالك: [ثلاثة أميال]؛ لأن ذلك

فصل

منتهى صوت المؤذن. وقال في رواية أشهب عنه: لأن ذلك منتهى أبعد العوالي إلى المدينة، ولم يعلم أن من كان أبعد من العوالي أتوا إلى الجمعة ولا لزمهم الإتيان. فصل وهذا الحد لمن كان خارج المصر وأما من كان في المصر فيتعين عليه الإتيان إلى الجمعة وإن كان بينه وبين المسجد الجامع ثلاثة أميال أو أكثر، كذا روى ابن أبي أويس عن مالك وابن وهب أيضا، وهو عندي تفسير للمذهب. فصل وللجمعة شرائط لا تجب إلا بها وتصح دونها، وشرائط لا تجب إلا بها ولا تصح دونها، وفرائض لا تصح إلا بها، وسنن وفضائل لا تكمل إلا بها. فأما الشرائط التي لا تجب إلا بها وتصح دونها فهي ثلاث: الذكورية، والحرية، والإقامة. لأن العبد والمسافر والمرأة لا تجب عليهم الجمعة ولهم أن يصلوها. وأما الشرائط التي لا تجب الجمعة إلا بها ولا تصح دونها فهي ثلاثة أيضا: الإمام، والجماعة، وموضع الاستيطان، قرية كانت أو مصرا على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقد قيل في الإمام والجماعة: إنهما من شرائط الصحة كالوضوء والنية والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، وقيل: إنهما من شرائط الوجوب. ولا يصح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط الوجوب دون الصحة ولا من شرائط الصحة دون الوجوب، وإنما الصحيح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط الوجوب والصحة جميعا، إذ قد يعدمان ولا يمكن وجودهما، فهما من شرائط الوجوب إذا عدما، ومن شرائط الصحة إذا وجدا. وبيان هذا أن القوم متى لم تكن لهم جماعة تصح بهم الجمعة أو لم يكن معهم إمام يحسن إقامة الجمعة بهم سقط عنهم فرض الجمعة، ومتى كانت لهم جماعة تصح بهم الجمعة وإمام يحسن إقامة الجمعة بهم وجبت عليهم إقامة الجمعة بالجماعة والإمام، فإن أخلوا بهما أو بأحدهما لم تجزئهم الجمعة

فصل

ووجبت عليهم إعادتها في الوقت وظهرا بعد الوقت. وكذلك موضع الاستيطان على تأويل ما، والأظهر فيه أنه شرط في الوجوب خاصة. فصل وأما المسجد فقيل فيه: إنه من شرائط الوجوب والصحة جميعا كالإمام والجماعة، وهذا على قول من يرى أنه لا يكون مسجدا إلا ما كان بيتا وله سقف، بدليل قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى مسجدا ولو مفحص قطاة» الحديث، إذ قد يعدم مسجد يكون على هذه الصفة وقد يوجد، فإذا عدم كان من شرائط الوجوب، وإذا وجد كان من شرائط الصحة. وعلى قياس هذا القول أفتى القاضي أبو الوليد الباجي في أهل قرية انهدم مسجدهم وبقي لا سقف له فحضرت الجمعة قبل أن يبنوه أنه لا يصح لهم أن يجمعوا الجمعة فيه، ويصلون ظهرا أربعا. وهو بعيد؛ لأن المسجد إذا حصل مسجدا لا يعود غير مسجد إذا انهدم، بل يبقى على ما كان عليه من التسمية والحكم، وإن كان لا يصح أن يسمى الموضع الذي يتخذ لبناء المسجد مسجدا قبل أن يبنى وهو فضاء. وقيل فيه، أعني المسجد،: إنه من شرائط الصحة دون الوجوب، وهذا على قول من يقول إن المكان من الفضاء يكون مسجدا ويسمى مسجدا بتعيينه وتحبيسه للصلاة فيه، واعتقاد اتخاذه للصلاة موضعا لها، إذ لا يعدم موضع يصح أن يتخذ مسجدا. فلما كان لا يعدم ويقدر عليه في كل حال صار من شرائط الصحة كالخطبة وكسائر فرائض الصلاة فهذا وجه هذا القول. ولا يصح أن يقول أحد في المسجد إنه ليس من شرائط الصحة، إذ لا اختلاف في أنه لا يصح أن تقام الجمعة في غير مسجد. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يصح أن تقام إلا في الجامع، وإلى هذا ذهب الباجي فقال: إنه لو منع عذر من إقامتها في

فصل

المسجد الجامع لم تصح إقامتها فيما سواه من المساجد، إلا أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد. وهو بعيد؛ لأنه مسجد، وصلاة الجمعة فيه جائزة إذا تعذرت إقامتها بالمسجد الجامع وإن لم تنقل الجمعة إليه على التأبيد. وقد أقيمت الجمعة بقرطبة في مسجد أبي عثمان بالربض الغربي، ولا أرى ذلك كان إلا لعذر منع من إقامتها في المسجد الجامع دون أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد، والعلماء متوافرون ولو نقل الإمام الجمعة في جمعة من الجمع من المسجد الجامع إلى مسجد من المساجد من غير عذر لكانت الصلاة مجزئة. فإن قال قائل: لو جاز أن تصلى الجمعة في غير المسجد الجامع من غير أن تنقل إليه الجمعة على التأبيد لجاز لمن رعف مع الإمام في صلاة الجمعة أن يتم صلاته في أقرب المساجد إليه حيث يغسل الدم عنه وقد قالوا: إنه لا يتم صلاته إلا في المسجد الجامع. فالجواب عن ذلك أن من أصحابنا من قال: يتم صلاته في أقرب المساجد إليه إلا أن يعلم أنه يدرك من صلاة الإمام شيئا فيرجع إلى المسجد الجامع ليتم صلاته مع الإمام، فعلى هذا القول لا يلزمنا هذا السؤال. ومن أوجب عليه الرجوع إلى المسجد الجامع وإن لم يدرك من الصلاة مع الإمام شيئا فالمعنى عنده إنما هو الرجوع إلى المسجد الذي ابتدأ فيه الصلاة مع الإمام لابتدائه معه الصلاة فيه لا لأنه المسجد الجامع، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وأما الخطبة فإنما هي شرط في صحة الجمعة، وذهب ابن الماجشون إلى أنها سنة. والدليل على وجوبها قول الله عز وجل: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، ومن شرطها أن تكون قبل الصلاة. واختلف هل من شرطها الجماعة أم لا، وظاهر المدونة من شرطها الجماعة. واختلف أيضا هل من شرط صحة الصلاة استدامة الجماعة من أول الصلاة إلى آخرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك من شروط

فصل

صحتها وأن الناس لو انفضوا عنه قبل السلام من الصلاة حتى لم يبق معه إلا النساء والعبيد ومن لا عدد له من الرجال لبطلت الصلاة. والثاني: أن الصلاة جائزة إن لم ينفضوا عنه حتى صلى ركعة، قياسا على من أدرك ركعة من صلاة الإمام أنه يقضي ركعة واحدة وتكون له جمعة. والثالث: أنه إذا أحرم بالجماعة فصلاته الجمعة جائزة وإن انفضوا عنه قبل ركعة. والقول الأول أظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم. وظاهر ما في المدونة أنه أجاز إتمام الصلاة إذا انفض الناس عنه بعد الإحرام بعدد لا تجوز إقامة الجمعة بهم، وأراه ذهب في ذلك إلى ما روي في تفسير قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] من أنه لم يبق مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ إلا اثنا عشر رجلا، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وكل ما يشترط في وجوب الصلوات الخمس من البلوغ والعقل وارتفاع دم الحيض والنفاس ودخول الوقت والإسلام على القول بأن الكفار ليسوا مخاطبين بشرائع الإسلام، فهو مشترط أيضا في وجوب صلاة الجمعة. وقد بينا ما يختص به وجوب صلاة الجمعة من الشرائط. وكل ما يشترط في صحة ما عدا الجمعة من الصلوات من النية والإحرام والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، فهو يشترط في صحة صلاة الجمعة أيضا، وهو فرائضها التي لا تصح إلا بها. وكل ما هو سنة وفضيلة فيما عدا الجمعة من الصلوات فهو سنة في صلاة الجمعة وفضيلة فيها. وتختص الجمعة بسنن وفضائل تنفرد بها دون سائر الصلوات، منها الغسل، والطيب، والإنصات، وتعجيل الرواح، وترك التخطي، وما أشبه ذلك مما هو مذكور في أمهات الكتب، وبالله التوفيق لا شريك له.

كتاب الجنائز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجنائز فصل في الإماتة والإحياء قال الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66]، وقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] يريد تعالى أنه أحياهم في الدنيا بعد أن كانوا نطفا في أصلاب آبائهم وأجنة في بطون أمهاتهم، ثم أماتهم فيها ثم يحييهم الحياة الدائمة. وأما قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فإنها آية اختلف أهل العلم في تأويلها، فقيل: إن معناها كمعنى الآيتين المتقدمتين، وإن قوله فيها أمتنا بمعنى: جعلتنا أمواتا فهما موتتان وحياتان، الموتة الأولى لم تتقدمها حياة، والحياة الآخرة لا يكن بعدها موت، وقيل: إن قوله في هذه الآية أمتنا اثنتين يدل

فصل

على أنهما موتتان تقدمت كل موتة منها حياة. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا في هاتين الإماتتين، فمنهم من ذهب إلى أن الإماتة الأولى إذ أحياهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق، والثانية إماتتهم في الدنيا بعد أن أحياهم فيها. ومنهم من ذهب، وهم الأكثر، إلى أن الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا بعد أن أحياهم فيها، والثانية إماتتهم في القبور بعد أن أحياهم فيها لمسألة منكر ونكير، وهذا أظهر الأقاويل وأولاها بالصواب، والله أعلم. فصل وهذان التأويلان يقتضيان أن الإحياء أربع مرات: أولها الإحياء من صلب آدم، ثم الإحياء في الدنيا، ثم الإحياء في القبور، ثم الإحياء في الآخرة الحياة الدائمة، وهذا لا يرده قول الله تعالى وأحييتنا اثنتين؛ لأن من أحيا أربع مرات فقد أحيا مرتين [والإخبار بالإحياء مرتين] ليس بناف للزيادة عليهما. وكذلك قوله في هذه الآية أمتنا اثنتين ليس بناف لقوله وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إنما هو زيادة بيان. فصل وقال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] فقال: رسلنا بلفظ الجماعة، وقد علم أن ملك الموت واحد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] فالمعنى في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف أن الله تبارك وتعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده فيسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند خروجه قبضه ملك الموت.

فصل

وجعل الله تعالى له الأرض كالطست بين يديه يتناول منها حيث يشاء. وقد قيل: إن ملك الموت له أعوان يتولون قبض الأرواح بأمره ثم يلي هو قبضها منهم، فيرفع روح المؤمن إلى ملائكة الرحمة وروح الكافر إلا ملائكة العذاب، فيكون فعل أعوان ملك الموت مضافا إلى ملك الموت، كما يقال قتل السلطان وجلد وكتب وإن لم يفعل ذلك بيده وإنما فعله أعوان بأمره، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله. فصل فملك الموت يقبض أرواح كل حي في البر والبحر وذهب أهل الاعتزال إلى أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وأن أعوانه يقبضون أرواح البهائم، وهذا تحكم بغير دليل ولا برهان، إذ لا يصح أن يقال هذا إلا بتوقيف ممن يصح له التسليم، فإذا عدمنا ذلك صح ما ذهب إليه أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد نص على أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وقام الدليل من قَوْله تَعَالَى ملك الموت على أنه يقبض روح كل حي من الجن والإنس وغيرهم؛ لأن الموت اسم عام مستغرق للجنس، فلا يصح أن يخصص في بعض أنواع الحيوان دون بعض إلا بدليل. فصل وليس ينافي شيء من هذا قول الله تبارك وتعالى. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]، وقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]؛ لأن ملك الموت وإن كان قابض الأرواح ومتوفي الأنفس بإذن ربه، فالقابض على الحقيقة والمتوفي هو الله رب العالمين المحيي المميت خالق الموت والحياة، وإنما لملك الموت في ذلك الكسب بفعل ما قدره الله عليه مما أجرى الله العادة أن يخلق الموت عنده لا غير.

فصل في تمييز الروح من النفس

فصل وكل ميت فبأجله يموت، مات حتف أنفه أو مات مقتولا. قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، هذا قول أهل السنة. وذهبت القدرية مجوس هذه الأمة إلى أنه من قتل فلم يستوف أجله الذي كتب الله له وأنه مات قبل بلوغه، وهو كفر صريح بنوه على أصلهم الفاسد أن العباد خالقون لأفعالهم، فجعلوا موت المقتول من فعل القاتل. وقد أعلم الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن قائل هذا ومعتقده كافر بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]. فصل في تمييز الروح من النفس واختلف في الروح والنفس، فذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أن النفس غير الروح، وأن الروح هو النفس المتردد في الإنسان، وأن النفس جسد مجسدة لها يدان ورجلان ورأس وعينان، وإنها هي التي تلذ وتفرح وتتألم وتحزن [وأنها هي التي تتوفى في المنام فتخرج وتسرح فترى الرؤيا فتسر بما تراه وتفرح به أو تتألم وتحزن]، ويبقى الجسم دونها بالروح لا يلذ ولا يفرح ولا يتألم ولا يحزن ولا يعقل حتى تعود إليه النفس، فإن أمسكها الله تعالى ولم يرجعها إلى جسدها، تبعها الروح فصار معها شيئا واحدا، ومات الجسم، وإن أرسلها إلى أجل مسمى وهو أجل الوفاة حيي الجسم. واحتج لذلك كله بقوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]

فصل

، وحكى ذلك كله عن عبد الرحيم بن خالد. والذي وقع في العتبية عن عبد الرحيم بن خالد أن الروح هي الجسد المجسدة خلاف حكايته عنه. فصل وقول ابن حبيب فيه نظر. والذي ذهب إليه أهل النظر وأكثر أهل العلم، أن الروح والنفس اسمان لشيء واحد، وكل واحد منهما قد يقع بانفراده على مسميات، فيقع الروح على الملك. قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، ويقع أيضا على القرآن. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، ويقع أيضا على الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من الحيوان. يقال: ما في فلان روح إذا مات وذهبت حياته، وفيه روح إذا كانت فيه حياة باقية. ويقع أيضا على النفس المتردد في الإنسان على ما ذهب إليه ابن حبيب. والنفس قد تقع على ذات الشيء وحقيقته. يقال: هذا نفس الأمر ونفس الطريق أي: حقيقته، ورأيت فلانا نفسه أي: ذاته حقيقة. ويقع أيضا على الدم يقال: سالت نفسه، وحيوان له نفس سائلة وليس له نفس سائلة. ويقع أيضا على الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من الحيوان. يقال: ذهبت نفسه إذا مات ولم يبق فيه حياة. فصل وما يسمى من هذه الأشياء روحا فلا يسمى نفسا، وما يسمى نفسا فلا يسمى روحا. فإذا عبر بالنفس والروح عن شيء واحد، فالمراد به ما يحيا به الجسم، وهو الذي يتوفاه ملك الموت ويقبضه فيدفعه إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وهي النسمة التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر

فصل

الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه». فالنفس والروح والنسمة شيء واحد. وقد يسمى الإنسان نسمة مجازا واتساعا. فصل والدليل على أن الروح والنفس شيء واحد أن الله تبارك وتعالى قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذ نام عن الصلاة [في الوادي حتى طلعت الشمس] «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا»، فسمى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روحا ما سماه الله تعالى في كتابه نفسا وما سماه هو أيضا في الحديث نفسا؛ لأنه قال فيه: «أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك»، وهذا بين. فصل وإنما قلنا إنه ما يحيا به الجسم ولم نقل إنه الحياة الموجودة بالجسم؛ لأن الحياة الموجودة به معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها ولا يصح عليها ما وصف الله تبارك وتعالى به الأنفس والأرواح في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا ما يحيا به الجسم أي: ما أجرى الله تعالى العادة بأن يحيي الجسم بكونه ويميته بإخراجه منه؛ لأن ما يحيا به الجسم وجوبا لا عادة هي الحياة، ولا يصح أن تكون إلا معنى؛ لأن الجواهر لا توجب الأحكام في الأجسام. فصل فإذا قلنا إن النفس والروح شيء واحد، وإنه هو الذي أخبر الله عز وجل في كتابه أنه يتوفاه عند الموت وعند النوم، فقد قال بعض المتقدمين: إن قبضه في حال

فصل فيما يستحب عند الاحتضار

النوم هو أن يقبض وله حبل ممدود إلى الجسم كشعاع الشمس، فإذا حرك الجسم رجع إليه الروح أسرع من طرف العين. وقد قال بعض العلماء: إن النوم آفة تعرض للروح وليس هذا بشيء. والأظهر في ذلك عندي أن قبضه في حال الوفاة هو بإخراجه من الجسم، وقبضه في النوم ليس بإخراج له من الجسم، وإنما معناه منعه من الميز والحس والإدراك وقبضه عن ذلك، كما يقال: قبض فلان عبده وقبض السلطان وزيره إذا منعه عما كان مطلقا عليه قبل وإن لم يزله عن مكانه في الحقيقة. والقبض على هذا والتوفي في الوفاة حقيقة، وفي حال النوم مجاز. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله، قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85]. فصل فيما يستحب عند الاحتضار ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، فقد جاء أن «من كان آخر قوله شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة» وأن يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن كما يجعل في لحده وكما يصلي المريض الذي لا يقدر على الجلوس، فإن لم يمكن ذلك فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه قال في التوجيه ما هو من الأمر القديم. وذلك نحو ما روي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به عند مرضه. وتأول ابن حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم به قبل أن تنزل به أسباب الموت. والأظهر أنه كرهه بكل حال. والذي يدل على أنه غير مشروع أن ذلك لم يرو أنه فعل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بأحد من الصحابة المتقدمين الكرام، ولو كان ذلك لنقل وذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم. ويستحب أن يكون ما تحته وما حوله طاهرا إن أمكن ذلك، وأن يحضره أفضل أهله وأحسنهم هديا وكلاما، فإن الملائكة تحضره. فإذا قضى غمض عينيه ونظر في غسله وتجهيزه إلى قبره. فقد قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونهم إليه أو شر تضعونه

فصل فيما يتوجه على الأحياء في الميت من العبادات

عن رقابكم»، إلا الغريق فإنه يستحب أن يؤخر دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. فصل فيما يتوجه على الأحياء في الميت من العبادات إذا مات الميت ارتفعت العبادات عنه ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن الميت إذا مات يحنط وإن كان محرما، وتوجهت على الأحياء فيه أمور. فالذي يتوجه فيه على الأحياء أربعة أشياء، وهو غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. فأما غسله فإنه سنة مسنونة لجميع المسلمين حاشا الشهداء من المجاهدين، وشرعه الله في الأولين والآخرين. روي أن آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما توفي أتي بحنوط وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلوه وكفنوه في وتر من الثياب وحنطوه، وتقدم ملك منهم فصلى عليه، وصفت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه، وابنه شيث معهم. فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وأخوتك فإنها سنتكم. فصل إلا أنها سنة تخص وتعم، فتخص مال الميت وتتعين فيه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال اختص غسله بمن يلزمه تكفينه، وتعين عليه أن يلي ذلك بنفسه أو يستأجر عليه من ماله، فإن لم يكن له من يلزمه ذلك من قرابته عم لزوم ذلك سائر الناس ولزمهم القيام به على الكفاية، وسيأتي الكلام على صفة فعله في موضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى. فصل وقد قيل: إن غسله واجب، قاله عبد الوهاب، واحتج من نص على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «اغسلنها ثلاثا»، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم: " اغسلوه "؛ لأن الأمر على الوجوب. وليس ذلك بحجة ظاهرة؛ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل في وجوب تكفين الميت

بغسل ابنته خرج مخرج التعليم بصفة الغسل الذي قد كان قبل معلوما معمولا به، وكذلك أمره بغسل المحرم خرج مخرج التعليم بما يجوز أن يعمل بالمحرم من غسله وترك تحنيطه وتخمير رأسه، فالقول بأن الغسل سنة أظهر، وهو قول ابن أبي زيد. فصل ومما يستحب فيه الوتر كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور». ويستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء القراح، والثانية [بالماء والسدر، والثالثة] بالماء والكافور. وقال ابن شعبان: ولو غسل بماء الورد لم يكره إلا من ناحية السرف، فقيل: إنه ليس بخلاف للمذهب بدليل قوله في الحديث بماء وسدر، وليس ذلك بظاهر؛ لاحتمال أن يريد أن يغسل بالماء والسدر دون أن يضاف السدر إلى الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل ويجزئ بغير نية، والأصل في ذلك أن كل ما يفعله الإنسان في غيره فلا يحتاج فيه إلى نية كغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ولو قيل: إن ذلك يفتقر إلى نية لما بعد، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل فإن ترك غسله استدرك ما لم يدفن، وقيل: ما لم يخش عليه التغير وإن دفن، وتعاد الصلاة عليه. فصل في وجوب تكفين الميت وكذلك تكفينه أيضا واجب، ويتعين في ماله من رأس المال إن كان له مال، ثم على من يلزمه ذلك من سيد إن كان عبدا باتفاق أو زوج أو أب أو ابن على اختلاف مذكور مسطور في الأمهات، ثم على جميع المسلمين على الكفاية.

فصل في وجوب الصلاة على الميت

والذي يتعين منه تعين الفرض ستر العورة، وما زاد على ذلك فهو سنة. فإن تشاح الأولياء فيما يكفنونه به قضي عليهم أن يكفنوه في نحو ما كان يلبسه في الجمع والأعياد، إلا أن يوصي بأقل من ذلك فتتبع وصيته. وإن أوصى أن يكفن بسرف فقيل: إنه يبطل الزائد، وقيل: إنه يكون في الثلث. وما يستحب في صفة الكفن ويتقى منه مذكور في الأمهات فلا معنى لذكره. فصل في وجوب الصلاة على الميت وأما الصلاة عليه فقيل: إنها فرض على الكفاية كالجهاد يحمله من قام به، وهو قول ابن عبد الحكم. ودليله قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]؛ لأن في النهي عن الصلاة على المنافقين دليلا على الأمر بالصلاة على المسلمين، وهو دليل ضعيف، إذ قد اختلف في صريح الأمر هل هو محمول على الندب أو على الوجوب، فكيف إذا لم يثبت إلا بدليل الخطاب الذي قد اختلف في وجوب القول به. وقد قيل: إنها سنة على الكفاية، وهو قول أصبغ. فصل ومن سنة الصلاة عليه أن تكون قبل أن يدفن، فإن دفن قبل أن يصلى عليه أخرج وصلي عليه ما لم يفت، فإن فات صلي عليه في قبره. وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب، وقيل: إنه إن فات لم يصل عليه لئلا يكون ذريعة للصلاة على القبور، وهو مذهب أشهب وسحنون. واختلف بم يكون الفوت، فقيل: يفوت بأن يهال عليه التراب بعد نصب اللبن وإن لم يفرغ من دفنه، وما لم يهل عليه التراب وإن نصبت اللبن فإنه يخرج ويصلى عليه، وهو قول أشهب. وقيل: إنه لا يفوت إلا بالفراغ من الدفن، وهذا قول ابن وهب في سماع عيسى. وقيل: إنه لا يفوت وإن فرغ من دفنه، ويخرج ويصلى عليه ما لم يخش عليه التغير، وهو قول سحنون وعيسى بن دينار وروايته عن ابن القاسم في سماعه. وإنما يصلى عليه في القبر ما لم [يطل حتى] يغلب على الظن أنه قد فني ببلى أو غيره. وقال أبو حنيفة: لا

فصل في ترتيب الجنائز للصلاة عليها

يصلى على قبر بعد ثلاث، قالوا: لأنه بعد ثلاث يخرج من حد من يصلى عليه. والمعلوم خلاف ذلك مع ما قد روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى على قبر بعد ثلاث». فصل في ترتيب الجنائز للصلاة عليها ومن سنة الصلاة على الجنائز إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء والأحرار والعبيد والصغار والكبار، أن يقدم الأحرار على العبيد صغارا كانوا أو كبارا، والذكور على الإناث صغارا كانوا أو كبارا، ولا يقدم الكبار على الصغار إلا إذا استوت مرتبتهم في الحرية والرق، وفي الذكورة والأنوثة. فصل فصفة ترتيبهم على مراتبهم وهي اثنتا عشرة مرتبة إذا اجتمعوا أن يقدم إلى الأمام أعلى المراتب وهم الرجال الأحرار البالغون، فإن تفاضلوا في العلم والفضل والسن قدم إلى الأمام أعلمهم ثم أفضلهم ثم أسنهم، وقيل: إنه يقدم الأفضل على الأعلم، وهو بعيد؛ لأن فضيلة العلم مزية يقطع عليها وزيادة الفضل مزية لا يقطع عليها، ثم الصبيان الأحرار. فإن تفاضلوا أيضا في حفظ القرآن ومعرفة شيء من أمور الدين والمحافظة على الصلوات وفعل الطاعات وفي السن، قدم ذو المعرفة منهم على الذي عرف بالمحافظة على الصلوات وفعل الطاعات ثم الأسن. فإن لم يكن لأحدهم على صاحبه مزية إلا السن قدم الأسن على المسن. ثم العبيد الكبار، فإن تفاضلوا أيضا في العلم والفضل والسن فعلى ما تقدم في الأحرار. ثم العبيد الصغار فإن تفاضلوا أيضا فيما بينهم فعلى ما تقدم في الأحرار الصغار. وهذا على ما أصلناه فوق هذا من تقديم الأحرار على العبيد صغارا كانوا أو كبارا، وهو قول ابن القاسم وابن أبي حازم، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عمن لقي من أصحاب مالك. وقد روي عن ابن القاسم أنه قدم العبيد الكبار على الأحرار الصغار؛ لأن العبد الكبير يؤم ولا يؤم الحر الصغير. ووجه القول الأول أن نقيصة العبودية أثبت من نقيصة الصغر؛ لأن الصغير يبلغ على كل حال مع حياته والعبد قد لا يعتق. ثم الخنائي المشكلون الأحرار الكبار ثم الخنائي المشكلون الأحرار

فصل في صفة الصلاة على الجنائز

الصغار ثم الخنائي العبيد [الكبار ثم الخنائي العبيد] الصغار، ثم النساء الأحرار الكبار، ثم النساء الأحرار الصغار، ثم الإماء الكبار، ثم الإماء الصغار. فصل في صفة الصلاة على الجنائز وصلاة الجنائز أربع تكبيرات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. تنزل التكبيرة فيها منزلة الركعة في الصلاة، والدعاء فيها بمنزلة القراءة في الصلاة. من شرط صحتها الإمامة كصلاة الجمعة، فإن صلي عليها بغير إمام أعيدت الصلاة ما لم يفت ذلك. فصل في وجوب دفن الميت وأما دفنه فإنه واجب، قال الله عز وجل في ابني آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ - فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 30 - 31] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة: 32]، وروي أنه حمله على عنقه سنة يدور به لا يدري ما يصنع إلى أن بعث الله الغراب منبها له على دفنه ففعل ذلك، وكانت سنة له ولمن بعده إلى يوم القيامة أنعم الله بها على عباده، وعدد النعمة بها عليهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، وهو أيضا من فروض الكفاية يحمله من قام به من الناس، ويجري مجرى الكفن في كون الاستئجار عليه من رأس المال، والحكم به إن لم يكن له مال على من يحكم عليه بالتكفين، وبالله التوفيق.

كتاب الصيام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب الصيام فصل في معرفة اشتقاق الصيام الصيام في اللغة هو الإمساك والكف والترك، فمن أمسك عن شيء وتركه وكف عنه فهو صائم عنه. قال الله عز وجل: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وهو الإمساك عن الكلام والكف عنه. قال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما ومنه قول امرئ القيس: فدع ذا وسل الهم عنك بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا معناه إذا انتصف النهار وقام قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا كانت في وسط السماء نصف النهار فكأنها واقفة غير متحركة لإبطاء مشيها. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه. فصل والصيام في الشرع هو أيضا إمساك على ما هو عليه في اللغة غير منقول عنها إلى اسم غير لغوي، إلا أنه في الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة في أزمان معلومة على وجوه مخصوصة، فهو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع اقتران النيات به على اقتران وجوهها من فرض واجب

فصل

أو تطوع غير لازم أو كفارة يمين أو غيره، فمتى انخرم وجه من هذه الوجوه لم يكن صائما شرعا، وإن صح أن يسمى صائما في اللغة على ما قدمناه. فصل والصيام الشرعي ينقسم على وجهين واجب وتطوع. فالواجب ينقسم أيضا على قسمين: واجب بالنص، وواجب بالشرع. فالواجب بالنص: هو الذي نص الله تعالى على وجوبه، وهو ينقسم على قسمين أيضا: واجب تعبد الله به عباده لغير علة، وواجب تعبدهم به لعلة. فالواجب الذي تعبدهم به لغير علة هو صيام شهر رمضان. والواجب الذي تعبدهم به لعلة هو صيام كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين وقضاء رمضان. فصل والواجب بالشرع هو ما أوجبه العبد على نفسه بالنذر أو باليمين فوجب عليه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه». وهو أيضا على قسمين: معين بوقت مثل قول: لله علي أن أصوم يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا وما أشبه ذلك، [وثابت في الذمة غير معين بوقت، مثل قوله لله علي أن أصوم شهرا أو يوما أو سنة وما أشبه ذلك]، فالمعين يوافق رمضان في وجوب صيامه ووجوب قضائه على من أفطره متعمدا في حضر أو سفر، ويفارقه في وجوب الكفارة على من أفطره متعمدا، وفي وجوب قضائه على من أفطره من عذر من مرض أو حيض إلا على رواية ابن وهب عن مالك الواقعة في بعض روايات المدونة بإيجاب القضاء، والإغلاظ في ذلك، وعلى من أفطره ناسيا على قول سحنون خلافا لابن القاسم. والثابت في الذمة الذي هو غير معين بوقت إن نواه متتابعا أشبه صيام كفارة القتل

فصل

وكفارة الظهار في جميع وجوهه، وإن نواه متفرقا أشبه قضاء رمضان في جميع وجوهه. فصل أما التطوع فهو ما عدا الواجب فيما عدا شهر رمضان وأيام التشريق ويوم النحر ويوم الفطر من سائر أيام السنة، وبعضها أفضل من بعض، على ما نذكره إن شاء الله. فصل وصيام شهر رمضان واجب على الأعيان، أوجبه الله تعالى في كتابه وافترضه على عباده، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». فصل وهو يتحتم بستة أوصاف، وهي: البلوغ، والإسلام، والعقل، والصحة، والإقامة، والطهارة من دم الحيض والنفاس. وهذه الستة الأوصاف تنقسم على أربعة أقسام: منها ما يشترط في وجوب الصيام وفي صحة فعله وفي وجوب قضائه، وهو

فصل

الإسلام؛ لأن الكافر لا يجب عليه الصيام ولا يصح منه إن فعله، ولا يجب عليه قضاؤه إذا أسلم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وإنما استحب له مالك قضاء اليوم الذي أسلم في بعضه والإمساك في بقيته عن الأكل مراعاة لقول من يرى أنه مخاطب بالصيام في حال كفره. ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام لا في جواز فعله ولا في وجوب قضائه، وهما الإقامة، والصحة. لأن المسافر والمريض مخاطبان بالصوم مخيران بينه وبين غيره. وقد قيل: إنهما غير مخاطبين بالصوم، وهو بعيد، إذ لو لم يكونا مخاطبين بالصوم لما أثيبا على صومهما ولما أجزأهما فعله. ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام وفي صحة فعله لا في وجوب قضائه، وهما العقل والطهارة من دم الحيض والنفاس؛ لأن الصيام لا يجب عليهما ولا يصح منهما، والقضاء واجب عليهما. وقد قيل في المجنون: إنه لا يجب عليه القضاء فيما كثر من السنين واختلف في حدها. وهما في حال الجنون والحيض غير مخاطبين بالصوم، وقد قيل في الحائض: إنها مخاطبة بالصوم ومن أجل ذلك وجب عليها القضاء، وهو بعيد، إذ لو كانت مخاطبة به لأثيبت عليه ولأجزأ عنها. وإنما وجب عليها القضاء بأمر آخر وهو قوله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. ومنها ما هو شرط في وجوبه ووجوب قضائه لا في صحة فعله، وهو البلوغ؛ لأن الصغير لا يجب عليه الصيام ولا يجب عليه القضاء، ويصح منه الصيام. وقد اختلف هل هو مأمور به قبل البلوغ على طريق الندب أم لا على قولين، وبالله التوفيق. فصل وما عدا شهر رمضان من الأيام فصيامه تطوع حاشا يوم النحر ويوم الفطر وأيام منى. فأما يوم الفطر ويوم النحر فلا يحل صيامهما لأحد، وأما اليومان الأولان من أيام منى فلا يصومهما إلا المتمتع الذي لا يجد هديا أو من كان في معناه في

فصل

المشهور من المذهب. وأما اليوم الرابع فيصومه من نذره، أو من كان في صيام متتابع. فصل فأيام السنة تنقسم في الصيام على ستة أقسام: منها ما يجب صومه ولا يحل فطره إلا بعدم وصف من الأوصاف الستة، وهو شهر رمضان. ومنها ما يجب فطره ولا يحل صومه، وهو يوم النحر ويوم الفطر. ومنها ما يجوز صومه على وجه ما، وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر. ومنها ما يكره صومه، وهو اليوم الرابع من أيام التشريق. ومنها ما يجوز صومه وفطره، وهو ما لم يرد في صومه ترغيب مما عدا شهر رمضان ويوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق. ومنها ما يستحب صومه، وهو ما ورد فيه ترغيب. من ذلك ما روي أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس مع أصحابه إذ أقبل رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، وهو حمام بن ثعلبة السعدي، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرائع الإسلام، فقال: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وصيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فقال: هل علي غيرها، فقال: لا إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إن صدق». وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا أن تطوع ندب منه إلى التطوع بالصيام في غير رمضان وحض عليه. فصل فالتطوع بالصيام من نوافل الخير المرغب فيها المندوب إليها. روي عن

فصل

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى، الصيام لي وأنا أجزي به، كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به». فصل وفضائل الصيام كثيرة، وأفضل الأيام للصيام بعد رمضان يوم عاشوراء. وقد كان هو الفرض قبل أن يكتب رمضان، وقد خص لفضله بما لم يخص به غيره من أن يصومه من لم يبيت صيامه ومن لم يعلم به حتى أكل أو شرب. وقد قيل: إن ذلك إنما كان حين كان صومه فرضا. وروي أن صيامه يكفر سنة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتحر بصيامه يوما بعينه إلا يوم عاشوراء. وقد اختلف فيه فقيل: هو العاشر، وقيل: هو التاسع. فمن أراد أن يتحراه صام التاسع والعاشر. وقد كان ابن شهاب يصومه في السفر ويأمر بفطر رمضان، فقيل له في ذلك فقال: رمضان فيه عدة من أيام أخر، وهذا يفوت. وصيام عشر ذي الحجة ومنى وعرفة مرغب فيه، قيل في قول الله عز وجل: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]: إنها عشر ذي الحجة، وفي الشفع والوتر: إن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة. وقيل في شاهد ومشهود: إن شاهدا يوم الجمعة ومشهودا يوم عرفة. وروي أن صوم يوم عرفة كصيام سنتين، وأن صيام يوم منى كصوم سنة، وأن صوم يوم من سائر أيام العشر كصيام شهر، وهذا في غير الحج. وأما في الحج ففطر يوم عرفة أفضل من صومه. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه مفطرا. وصيام الأشهر الحرم أفضل من غيرها، وهي أربعة: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وفي الأشهر الحرم أيام هي أفضل من سائرها. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا

يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صوما منه في شعبان». ففي هذا دليل على فضل صيام شعبان، وأنه أفضل من صيام سواه. «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم الاثنين والخميس، وقال: " إن الأعمال تعرض على الله فيهما، فأنا أحب أن يعرض عملي على الله وأنا صائم» فصيامهما مستحب. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله»، فكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. وأما للرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها. وكذلك كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يتعمد صيام الأيام الغر، وهي يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر على ما روي فيها، مخافة أن يجعل صيامها واجبا. وروي أن صيام الأيام البيض هو أول يوم ويوم عشر ويوم عشرين صيام الدهر، وأن ذلك كان صوم مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النهي الذي جاء في صيام يوم الجمعة منفردا لا يصوم قبله ولا بعده، وقال: لا بأس بصيامه منفردا وأن يتحرى ذلك. وذكر أن بعض أهل الفضل كان يتحرى صيامه، ولا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها. وقد كره بعض أهل العلم صيام الدهر؛ لحديث أبي قتادة عن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن صيام الدهر، فقال: من فعل ذلك فلا صام ولا أفطر، أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» وهذا والله أعلم لما خشي عليه من السآمة والملل. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» إذ قيل له في الحولاء بنت تويت: إنها لا تنام

فصل

ليلا وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه». فصل ومن شروط صحة الصيام وفرائضه النية، فلا يجزئ صوم بغير نية؛ للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بقوله: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له»، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات»، والصيام عمل من الأعمال؛ لأنه من أعمال القلوب فوجب أن لا يجزئ بغير نية؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، والصيام من الدين فوجب أن تخلص العبادة لله تعالى به. والذي يلزم من النية في صيام رمضان اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض الله عليه من استغراق طرفي النهار بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع. فصل وإنما افتقر الصيام إلى النية، وإن لم يكن فعلا مأمورا به من أفعال الأبدان، وإنما هو إمساك عن فعل وهو ترك، والتروك في الشرع لا تفتقر إلى نية؛ لأنه ترك مختص بزمن معلوم فإنه يفتقر إلى النية، بخلاف ما كان منها لا يختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك. وقد أطلق القول جماعة من أهل اللغة أن الصيام ليس بعمل، وإلى هذا ذهب الطحاوي وقال فيما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال حكاية عن ربه: «كل عمل ابن آدم فهو له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به»، إنه استثناء منفصل بمعنى لكن، والصواب ما ذكرناه.

فصل

فصل وإنما افتقر الترك المختص بزمن معلوم إلى النية، بخلاف الترك الذي لا يختص بزمن معلوم؛ لأن الترك على كل حال عمل من أعمال القلوب، بدليل تناول الأمر له. ألا ترى أنك تقول اترك كذا كما تقول اعمل كذا. فإذا اختص بزمن معلوم تعين أوله وآخره وجبت النية عند أوله كسائر العبادات؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له». لأن معنى النية إخلاص العمل لله، إذ قد يصح أن يفعل لغير الله. ألا ترى أنه قد يصح أن ينوي الصيام لمنفعة نفسه تطببا فلا يثاب عليه، إذ لم يصم لله وإنما صام لنفسه، فكان صائما لعلة لا شرعا. وإذا لم يختص الترك بزمن معلوم لم يتعين أوله من آخره فسقطت النية فيه، إذ لم يتعين لها وقت يختص به، وسقط الجزاء عليه أيضا فكان معاقبا على الفعل غير مأجور على الترك. فصل ويصح إيقاع نية الصيام قبل ابتدائه والتشبث به بإجماع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له»، من غير أن يخص أوله من آخره، قيل: بخلاف الصلاة، من جهة أن إيقاع نية الصوم مع طلوع الفجر معا في حالة واحدة عسير، فلو كلف ذلك الناس لكان من الحرج في الدين، والله تعالى قد رفعه عن عباده بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وليس ذلك بفرق بين الموضعين، إذ لو كانت النية في الصيام قبل الفجر كالعدم، لوجب إيقاعها مع الفجر معا، وإن في ذلك مشقة إذ لا ينفع عمل بغير نية، فلا يمتنع عندي قياس الصلاة على الصيام في جواز تقدم النية قبل ابتداء الصلاة على وجه القياس؛ لأن جواز ذلك في الصيام إجماع من أهل العلم، وفيه سنة قائمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فهذا أصل يجب أن ترد إليه الصلاة المختلف فيها كما رد إليه الغسل والوضوء، فيجوز فيها من تقدم النية قبل ابتدائها ما جوز في الغسل والوضوء قياسا على الصيام.

فصل

فصل ورمضان كله كيوم واحد إذ لا يتخلله وقت فطر يصح صومه، فتجزئ فيه نية واحدة في أوله، ويكون حكم النية باقيا مستصحبا لا يحتاج إلى تجديد النية عند كل يوم، كالصلاة التي يلزمه إحضار النية لها عند أولها، ولا يلزمه تجديدها عند كل ركن من أركانها. وكذلك من شأنه سرد الصيام ومن نذر صوما متتابعا لا يحتاج إلى تبييته كل ليلة. وكذلك من نذر صوم يوم معين من الجمعة يجزئه ما تقدم من نيته ولا يحتاج إلى تجديد النية ليلة ذلك اليوم. وقد قال ابن الماجشون في الواضحة: إن أهل البلد إذا عمهم علم رؤية الهلال بالرؤية أو بالشهادة عند حكم الموضع فذلك يجزئ من لم يعلم وإن لم يبيت الصيام. وكذلك الغافل والمجنون فكأنه رأى لما تعين صوم اليوم أجزأه ما تقدم من نيته لصيام رمضان كناذر يوم من أيام الجمعة معين. وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يفرق بين أن يعمهم علم الرؤية أو لا يعمهم. وقال سحنون: لا يجزئه إلا أن يعلم ويبيت. وقد اختلف من هذا المعنى في المرأة تحيض في رمضان ثم تطهر، هل عليها تجديد نية الصيام أم لا على قولين: أحدهما: أن النية الأولى تجزئها؛ لأن أيام الحيض لا يصلح لها صومها فأشبهت الليل، والثاني: أن تجديد النية يلزمها لتخلل صومها الفطر. فصل وقَوْله تَعَالَى في شهر رمضان: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] منسوخ، نسخه قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فصل وكان في أول الإسلام من شاء أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر أفطر وأطعم

فصل

عن كل يوم مسكينا على ما ورد في هذه الآية، فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه. وقد قيل: إن الآية محكمة وردت في الشيخ الكبير والعجوز والمرضع والحامل. وروي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في رواية، وروي عنه وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنهما قرءا وعلى الذين يطوقونه. ومعنى هذه القراءة يكلفونه فلا يطيقونه إلا بجهد ومشقة. وقد وردت الآية عامة في هؤلاء وفي الصحيح المقيم، فنسخ من ذلك الصحيح المقيم بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وبقيت الآية محكمة في المذكورين. فصل والمريض الذي يصح له الفطر هو الذي لا يقدر على الصيام أو يقدر عليه بجهد ومشقة من أجل مرضه، فاختلف إذا قدر على الصيام بغير جهد ولا مشقة تلحقه من أجل مرضه إلا أنه يخشى أن يزيده الصيام في مرضه، فقيل: إن الفطر له جائز، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: إن ذلك لا يجوز له؛ لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا يستيقنه، فلا يترك فريضة بشك. والأول أصح، وقد قيل: إن المريض له أن يفطر بكل حال إذا كان يسمى مريضا بظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184]، روي عن طريف بن تمام العطاردي أنه دخل على محمد بن سيرين وهو يأكل في رمضان فلم يسأله، فلما فرغ قال له: إنه وجعت إصبعي هذه. والأولى في هذا أن المرض الذي أذن الله بالإفطار معه، هو المرض الذي يجهد الصائم الصيام معه جهدا غير محتمل، أو يخشى زيادة المرض به. فصل وقد كان في أول الإسلام من نام من الليل قبل أن يطعم لم يأكل ولا جامع بقية ليلته ويومه حتى يمسي، على ما كان عليه أهل الكتاب لقول الله عز وجل:

فصل

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [البقرة: 183]، وهم أهل الكتاب، وقيل: الناس كلهم، وقيل: إن النصارى كتب عليهم صيام شهر رمضان على أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا النساء بعد النوم، فاشتد عليهم ذلك حين كان يغلب عليهم ذلك في الشتاء والصيف، [فلما رأوا ذلك اجتمعوا، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف]، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما، فلم يزل المسلمون على ذلك حتى نسخه الله بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، واختلف في سبب نزول هذه الآية الناسخة لما تقدم مما كان الأمر عليه، فقيل: كان سبب ذلك أن «قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الفطر أتى إلى امرأته، فقال لها: أعندك طعام، فقالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت له: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فنزلت هذه الآية ففرحوا بها فرحا شديدا». وقيل: كان سبب ذلك «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أراد امرأته، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل فلم يصدقها، وواقعها، ثم ندم فبات يتقلب بطنا وظهرا، فأنزل الله تعالى الآية فنسخت ما كانوا عليه». فصل ومعنى قول الله عز وجل: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، هو بياض النهار المعترض في الأفق الشرقي من سواد الليل. وروي «عن عدي بن حاتم أنه قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] عمدت إلى عقالين أبيض

فصل

وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما فلا يستبين لي، فغدوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال: " إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك سواد الليل من بياض النهار». وقد كان، على ما روي، رجال إذا أرادوا الصيام ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار. فصل والفجر فجران: فالأول: هو الذي يسمى الكاذب، وهو البياض المرتفع في الأفق ويشبه بذنب السرحان؛ لارتفاع ضوئه، لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام. والفجر الثاني: الصادق، هو المعترض في الأفق آخذا من القبلة إلى دبر القبلة من شعاع الشمس وضوئها، وهو الذي يعتبر به في تحريم الطعام وتحليل الصلاة. وقد اختلف إذا شك في الفجر هل يأكل أم لا، فقال مالك: إذا شك في الفجر فلا يأكل، فإن أكل فعليه القضاء. وقال ابن حبيب: استحبابا، وقال جماعة من أهل العلم وهو مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه يأكل ما شك في الفجر حتى يتبين له، على ظاهر قول الله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وأما من شك في غروب الشمس فلا يأكل باتفاق، وإن أكل فعليه القضاء والكفارة؛ لقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، ومن جهة المعنى أن الأكل بالليل مباح فلا يمتنع منه إلا بيقين وهو تبين الفجر، والأكل بالنهار في رمضان محظور، فلا يستباح إلا بيقين وهو تبين غروب الشمس. وهذه المسألة انفرد باتفاقها أبو عبيد الطليطلي في مختصره. وقوله في الظهار من المدونة فيمن ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم طلعت الشمس: إن عليه القضاء ولا كفارة عليه، معناه أيقن

فصل

بغروبها، والظن قد يكون بمعنى اليقين. قال الله عز وجل: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] يريد أيقنوا، {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] معناه أيقنوا، ومن الناس من حمل الظن في مسألة المدونة على بابه من الشك، فتأول أن مذهب مالك في المدونة المساواة بين الفجر والغروب [في أنه لا كفارة في الأكل مع الشك فيهما، وهو بعيد، وإلى المساواة بين الفجر والغروب] في إسقاط الكفارة عمن أكل شاكا فيهما ذهب ابن القصار وعبد الوهاب، وهو بعيد في الغروب مع ألا يغلب على ظنه أحد الطرفين. فلعلهما أرادا بالمساواة بينهما إذا أكل شاكا فيهما والأغلب على ظنه أن الفجر لم يطلع وأن الشمس قد غابت، فيكون لقولهما وجه؛ لأن الحكم بغلبة الظن أصل في الشرع. فصل ولا يجب صيام شهر رمضان إلا برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له»، وقال في حديث ابن عباس: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم أفطروا»، أدخله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه بعد حديث ابن عمر على طريق التفسير له؛ لأن أهل العلم اختلفوا في معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقدروا له، فروي عن ابن عمر أنه كان إذا كانت السماء صاحية أصبح مفطرا، وإن كان مغيمة أصبح صائما، فكان يتأول قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. وقد قيل: إن معنى قوله فاقدروا له من التقدير، أن يقدر لمنازل القمر وطريق الحساب. فروي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول يعتبر الهلال إذا غم بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب. وروي مثل ذلك عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رواية. والمعروف له المشهور عنه أنه لا يصام إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة كالذي عليه الجمهور. والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من تفسير حديث ابن عمر بحديث ابن عباس؛ لأن التقدير يكون بمعنى التمام. قال الله عز

فصل

وجل: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي: تماما. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب الجامع. فصل ورؤية الهلال تكون على وجهين: رؤية عامة، ورؤية خاصة. فالرؤية العامة أن يراه العدد الكثير والجم الغفير الذين لا يجوز عليهم التواطؤ ولا التشاعر من غير أن يشترط في صفتهم ما يشترط في صفة الشاهد من الحرية والبلوغ والعدالة. والرؤية الخاصة هو أن يراه النفر اليسير. فصل فإذا رآه النفر اليسير فلا يخلو أن يكون ذلك في الصحو أو في الغيم. فإن كان ذلك في الغيم فلا خلاف في إجازة شهادة شاهدين في ذلك، وأما إن كان ذلك في الصحو، فقيل: إن شهادة شاهدين جائزة في ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنها لا تجوز وهو قول أبي حنيفة ومعنى ما في سماع عيسى من كتاب الحبس وقول سحنون؛ لأنه روي عنه أنه قال: وأي رؤية أكثر من هذه؟!. فصل وهذه الرؤية الخاصة تختص بالحكام. فإذا ثبت عند الإمام رؤية الهلال بشهادة شاهدين عدلين أمر الناس بالصيام أو الفطر وحمل الناس عليه. فصل فإن شهد عنده شاهد على هلال شعبان وشاهد على هلال رمضان، فقد قال يحيى بن عمر: لا تجوز الشهادة، وقال غيره من أهل العلم: تجوز، ومعنى ذلك إذا شهد الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الشاهد على هلال شعبان إذ ليس في شهادة الشاهد الثاني تصديق الشاهد الأول. وأما لو رآه الشاهد

فصل

الثاني بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثاني يصدق الشاهد الأول، إذ لا يصح أن يصدق الشاهد الثاني إلا والأول صادق في شهادته، يريد فيصام للتمام من رؤيته. قال: وهو معنى خفي. قلت: وليس هو عندي بينا في المعنى؛ لأنه كما يصدق ها هنا الشاهد الثاني للشاهد الأول من أجل أنه لا يمكن أن يرى الهلال ليلة تسع وعشرين، فكذلك يصدق في المسألة الأولى الشاهد الأول للشاهد الثاني من أجل أنه لا بد أن يرى ليلة أحد وثلاثين. فالصحيح عندي أن لا فرق بين المسألتين، وأنهما جميعا يتخرجان على قولين؛ لأنهما جميعا متفقان على إيجاب الصيام للتمام من رؤية الأول وإن اختلفا فيما قد شهدا به، إذ قد اختلف الشاهدان في شهادتهما واتفقا فيما يوجبه الحكم فالمشهور أن لا تجوز. فصل فإذا رأى الهلال الجم الغفير أو ثبت عند الإمام بشهادة شاهدين فأمر بصيامه وجب الصيام على كل من بلغه ذلك بنقل الواحد العدل من باب قبول خبر الواحد لا من باب الشهادة، وذلك مروي عن أحمد بن ميسر قال: إذا أخبرك عدل أن الهلال ثبت عند الإمام وأمر بالصيام أو نقل ذلك إليك عن بلد آخر لزمك الصوم بإخباره من باب قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة. قال ابن أبي زيد: كما ينقل الرجل إلى أهله وولده فيلزمهم الصوم بقوله. وحكي عن أبي عمران أنه طعن في هذا وقال: لا يلزم الرجل الصيام في هذا بقول واحد؛ لأنه شاهد وليس ذلك كنقل الرجل إلى أهله وولده؛ لأنه القائم عليهم فيلزمهم الصيام بقوله. قال: وإنما الرواية عن ابن ميسر في الأصل قال: وإذا وجه القوم رجلا إلى بلد فأخبرهم أنهم رأوا الهلال لزمهم الصيام بقوله. قال: وهذا لا حجة فيه؛ لأنهم لما بعثوه لذلك صار كالمستكشف لهم ولزمهم الصيام بإخباره. وقول أبي عمران لا معنى له، ولا فرق أن يخبرهم دون أن يبعثوه أو بعد أن بعثوه أو يخبر بذلك أهله وولده. فصل وإنما يفترق ذلك عندي فيما يحكم به الإمام، فإن الإمام إذا بعث رجلا إلى

فصل

أهل بلد ليخبره إن كانوا رأوا الهلال، فأخبره أنهم صاموا برؤية مستفيضة أو بثبوت الهلال عند قاضيهم، وجب عليه أن يأمر الناس بالصيام لذلك اليوم بقوله، من باب قبول خبر الواحد، وإن أخبره بذلك من غير أن يرسله وجب عليه هو الصيام في خاصته، ولم يصح له أن يأمر الناس بالصيام حتى يشهد عنده بذلك شاهد آخر؛ لأنه حكم فلا يكون إلا بشهادة شاهدين. فصل فصيام رمضان يجب بأحد خمسة أشياء: إما أن يرى هلاله. وإما أن يخبره الإمام أن قد ثبتت عنده رؤيته. وإما أن يخبره العدل عنه بذلك أو عن الناس أنهم رأوه رؤية عامة، وكذلك إن أخبره أن أهل بلد كذا صاموا يوم كذا برؤية عامة أو بثبوت رؤيته عند قاضيهم وجب عليه بذلك قضاء ذلك اليوم. وإما أن يخبره شاهدان عدلان أنهما قد رأياه. وإما أن يخبره بذلك شاهد واحد عدل في موضع ليس فيه إمام يتفقد أمر الهلال بالاهتمام به. ووجه ذلك أن الشهادة فيه لما تعذرت بعدم الحكم أو بتضييعه رجع إلى إثباته من جهة الخبر كما رجع إلى إثباته بالشهادة عند الحكم عند تعذر الرؤية العامة. وكما جاز قبول المؤذن العدل العارف بالفجر في طلوعه لتعذر الشهادة في ذلك عند الحكم إذ لا يلزمه طلب الشهادة في ذلك. والفرق بين وجوب ذلك عليه في الهلال دون الفجر أن الصيام يصح إيقاع النية فيه قبل الفجر، ولا يصح اعتقاد الصوم في أول يوم من رمضان قبل العلم باستهلال الهلال. ولا يلزم على هذا زوال الشمس لصلاة الظهر ولا غروب الشمس للفطر؛ لأنه يمكنه التأخير حتى يوقن بزوال الشمس أو بغروبها. فصل فإن كان هذا الذي وصفاه في هلال شعبان، وأغمي هلال رمضان أتم شعبان ثلاثين يوما. وكذلك إن كان ذلك في هلال رجب وأغمي هلال شعبان ورمضان أكمل رجب وشعبان ثلاثين يوما ثلاثين يوما.

فصل

فصل وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الرفث والخنا والغيبة وقول الزور. روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم».

كتاب الاعتكاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الاعتكاف الاعتكاف في كلام العرب هو الإقامة واللزوم. يقال منه اعتكف فلان بمكان كذا إذا أقام فيه ولازمه ولم يخرج عنه. وعكف فلان على فلان إذا أقام عليه ولزمه، ومنه قول الله عز وجل: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]، أي: مقيما وملازما، وقال عز وجل: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، أي: ملازمون، وقال: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، أي: يلازمونها ويقيمون على عبادتها. وهو في الشريعة الإقامة على ما هو عليه في اللغة إلا أنه في الشريعة الإقامة على عمل مخصوص دون ما سواه، في موضع مخصوص لا يتعداه، على شرائط قد أحكمتها السنة في ذلك. فصل واختلف في العمل فقيل: إنه الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى دون ما سوى ذلك من أعمال البر، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه لا يجيز للمعتكف عيادة المرضى ولا مدارسة العلم ولا الصلاة على الجنائز وإن كان ذلك كله من أعمال البر، وقيل: إنه جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنه لا يرى بأسا للمعتكف بمدارسة العلم وعيادة المرضى، يريد في موضع معتكفه،

فصل

وكذلك الصلاة على الجنائز على مذهبه إذا انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون عليها. وإنما قلنا المختصة بالآخرة تحرزا من الحكم بين الناس والإصلاح بينهم. فصل وأما الموضع فإنه المسجد. وقد اختلف هل يكون في كل مسجد أم في بعض المساجد دون بعض، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المشهور عنه أن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وأنه لا بأس بالاعتكاف في مسجد لا تجمع فيه الجمعة، إذا كان ممن لا تلزمه الجمعة، أو بموضع لا يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة، أو كان لا تدركه الجمعة باعتكافه؛ لظاهر قول الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، إذ عمها ولم يخص منها شيئا دون شيء. وروى ابن عبد الحكم عنه أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد الجامع، وهو قول جماعة من السلف. وروي عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بني كمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد إيلياء والبيت الحرام. والمرأة والرجل في ذلك سواء عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، خلاف قول أبي حنيفة وأصحابه أن المرأة لا تعتكف إلا في مسجد بيتها - واحتج من نصر قولهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها»، وبحديث عائشة: «لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعه نساء بني إسرائيل» قالوا: لا حجة لمن أجاز ذلك في إذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أذن لهن من أزواجه أن يعتكفن معه؛ لأنه يحتمل أن يكون اتسع ذلك لهن بخلاف غيرهن، لكونه معهن بحق الزوجية أو لحرمتهن على جميع المسلمين سواه. وقد تسافر المرأة مع زوجها ومع ذوي محارمها الأسفار البعيدة وليس لهن أن يفعلن ذلك مع سواهم. والله الموفق للصواب. وذهب ابن لبابة إلى أن الاعتكاف يصح في غير مسجد، وأن ترك مباشرة

فصل

النساء لا يلزم المعتكف إلا إذا اعتكف في مسجد على ظاهر ما في القرآن، وهو شذوذ من القول فتدبر ذلك. فصل ومن شرائطه ترك مباشرة النساء. فمن جامع امرأته أو باشرها أو قبلها أو تلذذ بشيء من أمرها ناسيا أو متعمدا في ليل أو نهار بطل اعتكافه واستأنفه من أوله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وكذلك إن كانت امرأة فجومعت في اعتكافها نائمة أو مكرهة بطل اعتكافها. وكذلك إذا أفطر متعمدا بطل اعتكافه واستأنفه نذرا كان أو تطوعا على مذهب مالك في المدونة، وإن كان ناسيا قضى ما أفطر ووصله باعتكافه في الوجهين. وقال ابن حبيب: لا يلزمه قضاء في التطوع. فصل ومن شرائطه على مذهب مالك وأصحابه الصوم، فلا يكون اعتكاف إلا بصوم، لأن الله جل ذكره إنما ذكره مع الصيام فقال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وأجاز الشافعي والمزني - رحمهما الله تعالى - الاعتكاف بغير صوم. واحتج من نصر مذهبهما بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية علي وابن عباس أنه قال: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه» وإلى هذا ذهب ابن لبابة فقال: لو لزم المعتكف الصيام وإن لم يرده لما جاز أن يعتكف في رمضان، كما لا يجوز لمن نذر اعتكافا بصوم أن يجعله في رمضان. وهذا لا يلزم، لأنا لا نقول إن من شرط صحة الاعتكاف أن يكون الصيام له، وإنما نقول إن من شرط صحته الصيام وإن فعله لغيره كالطهارة التي هي من شرط صحة الصلاة وإن فعلها لغيرها. ودليلنا على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عائشة أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم». وهو قول علي وابن

فصل

عباس وابن عمر، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الاحتجاج على ذلك بالآية فإنه ضعيف، إذ لو وجب بها الصيام على كل معتكف لذكر الاعتكاف فيها مع الصيام لوجب فيها أيضا الاعتكاف على كل صائم لذكر الصيام فيها مع الاعتكاف. وقد استدل بعض من ذهب إلى الاحتجاج للشافعي على جواز الاعتكاف بغير صوم بأن الليل يدخل على المعتكف فيكون فيه معتكفا وهو غير صائم. وهذا لا يلزم، لأن دخول الليل الذي لا يصح فيه الصوم على المعتكف لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان غير صائم فيه، كما أن خروج المعتكف إلى ما لا بد له منه كحاجة الإنسان لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد فلو جاز أن يعتكف من غير صوم من أجل أن الليل هو فيه معتكف غير صائم لجاز أن يعتكف في الطرقات والكنف لأنه فيها عند خروجه معتكف في غير المسجد. فإذا لم يلزم هذا في الخروج الذي هو من فعله فأحرى أن لا يلزم في الليل الذي ليس من فعله. والحجة الصحيحة لنا من طريق النظر، إذ لم يوجد شيء يعول عليه في ذلك من جهة الأثر. ولا حجة في مجرد أقوال العلماء مع اختلافهم في أن الاعتكاف لبث في موضع يتقرب به إلى الله تعالى، فوجب أن يكون بتحرم وهو الصيام، كما أن اللبث بمنى وعرفة والمزدلفة لا يكون قربة إلا بالتحرم بحرمة الحج. فصل والاعتكاف في جميع أيام السنة جائز إلا في الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها، وهن يوم الفطر وأيام التشريق. فصل وهو من نوافل الخير، اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه والمسلمون، ولم يكن السلف الصالح على شيء من أعمال البر أقل تعاهدا منهم على الاعتكاف، وذلك لشدته، ولأن ليله ونهاره سواء، ولأن من دخل فيه لزمه الإتيان به على شرائطه وقد لا يفي بها. ولذلك كرهه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في المجموعة: وما زلت أفكر في ترك الصحابة الاعتكاف وقد اعتكف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حتى قبضه الله وهم

فصل

أتبع الناس لأموره وآثاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «فقيل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنك تواصل، فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني». فلا ينبغي أن يعتكف إلا من يقدر أنه يفي بشروط الاعتكاف. فصل وأفضل الشهور للاعتكاف شهر رمضان، وأفضل أيامه العشر الأواخر منه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأول من رمضان فأتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الوسط، فأتاه فقال له إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر». فصل وأدنى الاعتكاف يوم وليلة، وأعلاه في الاستحبابات عشرة أيام، قاله ابن حبيب. وقد اختلف قول مالك في أدناه فمرة قال أقله يوم وليلة، ومرة قال أقله عشرة أيام. فمن أوجب على نفسه اعتكافا ولم يسم عددا من الأيام أو دخل في الاعتكاف ولم ينو عددا من الأيام لزمه عشرة أيام على القول الواحد، وعلى القول الثاني لا يلزمه إلا يوم وليلة، يبدأ بالليلة قبل اليوم، فيدخل اعتكافه عند الغروب. فإن دخل اعتكافه بعد الغروب وقبل الفجر لم يجزئه اعتكاف ذلك اليوم، وهو مذهب سحنون. وقيل إنه يجزئه وبئس ما صنع لأن الليل كله وقت لتبيت الصيام، فأي وقت نوى فيه أجزأه قاله عبد الوهاب. وقد قيل إن ذلك ليس باختلاف قول، ويحمل قول سحنون على أنه نذر الاعتكاف وقول عبد الوهاب على أنه نواه. والأول أظهر أنه اختلاف يدخل في الوجهين جميعا. فصل والاعتكاف يجب بأحد وجهين: إما بالنذر، وإما بالنية مع الدخول فيه

فصل

لاتصال عمله. وكذلك الجوار إذا جعل على نفسه فيه الصيام، وإن لم يجعل على نفسه فيه الصيام وإنما أراد أن يجاور كجوار مكة بغير صيام فلا يلزمه بالنية مع الدخول فيه بما نوى من الأيام. واختلف هل يلزمه مجاورة اليوم الذي دخل فيه أم لا على قولين: أحدهما أنه يلزمه. والثاني أنه لا يلزمه وله أن يخرج متى شاء من يومه ذلك وهو الأظهر، إذ لم يتشبث بعمل يبطل عليه بقطعه. فصل والنذر في الاعتكاف على وجهين: أحدهما أن ينذر اعتكاف أيام بأعيانها، والثاني أن ينذر اعتكاف أيام بغير أعيانها. فأما إذا نذر أياما بأعيانها، فلا يخلو أن تكون من رمضان أو من غير رمضان، فإن كانت من رمضان فعليه قضاؤها إن مرضها كلها لوجوب قضاء الصيام عليه، وإن مرض بعضها قضى ما مرض منها ووصل، فإن لما يصل استأنف سواء كان مرضه من أولها قبل دخوله في الاعتكاف أو من آخرها بعد دخوله فيه، وكذلك إن أفطر فيها ساهيا. وأما إن أفطر فيها متعمدا من غير عذر فعليه استئناف الاعتكاف مع الكفارة لفطره في رمضان. فصل وأما إن كانت من غير رمضان فمرضها كلها أو مرض بعضها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه القضاء جملة من غير تفصيل، وهذا على رواية ابن وهب عن مالك في بعض روايات الصيام من المدونة. والثاني أنه لا قضاء عليه جملة من غير تفصيل، وهو مذهب سحنون. والثالث التفرقة بين أن يمرض قبل دخوله في الاعتكاف أو بعد أن دخل فيه، وهو أيضا مذهب ابن القاسم في المدونة على ما

فصل

تأول عليه ابن عبدوس، واختلف إذا أفطر فيه ساهيا على قولين: أحدهما أنه لا قضاء عليه وهو مذهب سحنون. والثاني أن عليه القضاء بشرط الاتصال وهو مذهب ابن القاسم. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن ينذر أياما بغير أعيانها. فإذا نذر اعتكاف أيام بغير أعيانها فليس له أن يعتكفها في رمضان ولا في صوم واجب عليه، لأن النذر يوجب عليه الصيام فليس له إسقاطه عن نفسه باعتكافه فيما قد وجب عليه صومه، خلاف قول محمد بن عبد الحكم إن له أن يجعل اعتكافه الذي نذره في أيام صومه التي نذرها، حكاه ابن حارث، فإذا دخل في اعتكافها لزمه إتمامها وتعين عليه قضاء ما مرض فيه أو أفطره ساهيا يصل ذلك باعتكافه، ولا خلاف في هذا. وإن أفطره متعمدا أفسده ووجب عليه قضاؤه لوجوبه عليه بالدخول فيه، وأن يعتكف اعتكافا آخر لنذره، وجرى ذلك على الاختلاف فيمن أفطر متعمدا في قضاء يوم من رمضان. فصل وأما إن نوى الاعتكاف ودخل فيه ولم ينذره فقد تعين عليه بالدخول فيه كتعين النذر لأيام بأعيانها، ووجب أن يكون حكمه كحكمه في المرض فيه أو الفطر ساهيا أو متعمدا على ما بيناه إلا في دخول القول الثالث في المرض إذ لا يتصور فيه. وبالله التوفيق.

ما جاء في ليلة القدر

ما جاء في ليلة القدر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على مولانا محمد وآله وسلم ما جاء في ليلة القدر قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، يريد الكتاب المبين لأن الهاء من أنزلناه عائدة عليه وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة فإنه قد تقدم في سورة الدخان في قوله: {حم} [الدخان: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2 - 3]. فصل وليلة القدر هي الليلة المباركة التي أنزل الله فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السماء الدنيا نجما بعد نجم على قدر الحاجة إليه، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة، روي ذلك عن ابن عباس في تفسير الآية. فصل فسماها الله تبارك وتعالى مباركة لنزول القرآن فيها ولثبات الخير فيها ودوامه، لأن البركة في اللغة الثبات والدوام. وسماها الله تعالى ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى ليلة القدر من السنة الأخرى. قال مجاهد إلا الشقاء والسعادة، يشهد لذلك قَوْله تَعَالَى:

فصل

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، وقد قيل إن الآجال تنسخ ليلة النصف من شعبان والأول أصح، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2]، معناه التعجب بها والتعظيم لها. وما كان في القرآن من قوله وما أدراك فقد أدراه، وما كان فيه من قوله وما يدريك فلم يدره، قاله الفراء وسفيان بن عيينة وغيرهما والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وأما قوله عز وجل: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ففي تأويله اختلاف، قيل معنى ذلك أن العمل بما يرضي الله في تلك الليلة من صلاة وغيرها خير من العمل في غيرها ألف شهر. [وقيل إنما معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر]، ليس فيها ليلة القدر. وهو نحو الأول لأن فضيلة الليلة على ما سواها ليس لمعنى يختص بها حاشا تضعيف الحسنات فيها. وقيل إن معنى ذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل ويجاهد النهار، ففعل ذلك ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فتمنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون ذلك في أمته وقال يا رب جعلت لأمتي أقصر الأعمار وأقل الأعمال فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، يريد خيرا من تلك الألف شهر التي قام الإسرائيلي ليلها وجاهد نهارها، فضيلة له ولأمته. وهو معنى حديث مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه

فصل

تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر». وقيل إن معنى ذلك هو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في منامه بني أمية يعلون منبره خليفة خليفة فشق ذلك عليه فأنزل الله عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]» يعني ملك بني أمية. قال فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر. فصل وهذا التأويل يدل على أن ليلة القدر خص بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان على عهده، وإليه ذهب والله أعلم من قال إن ليلة القدر رفعت، وليس ذلك بصحيح، والصحيح الذي عليه عامة أهل العلم والدين أنها لم ترفع جملة وإنما رفع علم تعيينها في ليلة بعينها وذلك بين من الحديث، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أريت هذه الليلة في رمضان حتى تلاحى رجلان فوقعت فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»، فلو رفعت جملة لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها. فصل فالصحيح أن ليلة القدر باقية لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يوم القيامة. وإنما اختلف أهل العلم فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها إلا أنها غير معروفة أعلم بفضلها وأخفى عينها ليجتهد في طلبها فيكون ذلك سببا للاستكثار من فعل الخير. وافترق الذين ذهبوا إلى هذا على أربعة أقوال: أحدها أنها في العام كله. والثاني أنها في شهر رمضان. والثالث أنها في العشر الوسط منه. والرابع أنها في العشر الأواخر منه. فصل والقول الثاني أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها معروفة. واختلف الذين ذهبوا

إلى هذا في تعيينها على أربعة أقوال: أحدها أنها ليلة إحدى وعشرين على حديث أبي سعيد الخدري. والثاني أنها ليلة ثلاث وعشرين على حديث عبد الله ابن أنيس الجهني. والثالث أنها ليلة سبع وعشرين على حديث أبي بن كعب وحديث معاوية، وهي كلها أحاديث صحاح. والرابع أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين. ذهب إلى هذا عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. روي أن عمر بن الخطاب دعا جماعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألهم عن ليلة القدر فقالوا: كنا نرى أنها في العشر الوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، وأكثروا عليه في ذلك فقال ابن عباس إني لأعلم أي ليلة هي، فقال عمر: وأي ليلة هي؟ فقال سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال عمر من أين علمت ذلك؟ قال رأيت الله عز وجل خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام يدور الدهر عليهن، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف سبع، ورمي الجمار وذكر مثل هذا. فقال له عمر: ما قولك خلق الله الإنسان من سبع ويأكل من سبع؟ فتلا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، قال ابن عباس وأما يأكل من سبع فقول الله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، فالأب للأنعام، والسبعة للإنسان. وفي هذا الخبر أن عمر سأل يومئذ من حضره من الصحابة وكانوا جماعة عن معنى نزول سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، فوقفوا ولم يزيدوا على أن قالوا أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فتح الله عليه أن يسبحه ويستغفره، فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال ومع ذلك يا أمير المؤمنين فإنه نعى إليه نفسه وأعلمه أنه قابضه إذا دخلت العرب في الدين أفواجا، فسر عمر بذلك وقال أتلومونني على تقريب هذا الغلام؟ فقال ابن مسعود لو أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا ونعم ترجمان القرآن ابن

فصل

عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها ليلة سبع وعشرين، وأنه عد السورة كلمة كلمة فكانت السابعة والعشرون هي وباقي السورة حتى مطلع الفجر. فصل والقول الثالث أنها ليست في ليلة بعينها وأنها تنتقل في الأعوام، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب والله أعلم، لأن الأحاديث كلها تستعمل على هذا، واستعمالها كلها أولى من استعمال بعضها واطراح سائرها، لا سيما وهي كلها أحاديث صحيحة ثابتة لا مطعن فيها لأحد فيحمل حديث أبي سعيد الخدري على ذلك العام بعينه، وحديث عبد الله بن أنيس على ذلك العام بعينه، وأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها في العشر الأواخر من رمضان على ذلك العام بعينه بدليل ما روي أنها قد تكون في العشر الوسط وأمره بالتماسها في السبع الأواخر في ذلك العام بعينه دون ما سواه من الأعوام، إذ قد تكون في بقية العشر الأواخر على ما صح عنه في الأمر بالتماسها في العشر الأواخر وفي العشر الوسط على ما جاء في ذلك أيضا. فصل فنقول على استعمال جميع الآثار في هذا أن ليلة القدر تختص في انتقالها في الأغلب من حالها بالعشر الوسط وبالعشر الأواخر، والأغلب أنها تكون من العشر الوسط ليلة سبع عشرة، وليلة تسع عشرة، ومن العشر الأواخر في الأوتار منها. فمن أراد أن يتحرى ليلة القدر فليتحرها في العشر الوسط، وفي العشر الأواخر، ومن ضعف عن ذلك فليتحرها في الأوتار من العشر الأواخر. فصل واختلف في قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فقيل إنها معدودة من أول العشر وأن المراد بذلك في الخامسة والسابعة والتاسعة، لأن الواو لا توجب رتبة. فالتاسعة ليلة تسع وعشرين، والسابعة ليلة سبع

فصل

وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل إنها معدودة من آخر العشر، وأن التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة، ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ودليله على ذلك أن الأظهر في الواو الترتيب وإن كانت قد ترد للمساواة دون الترتيب ولا يختلف ذلك في نقصان الشهر وكماله، لأن من حسب ذلك على نقصان الشهر عد التاسعة والسابعة والخامسة، ومن حسب ذلك على كماله لم يعد التاسعة والسابعة والخامسة، وقال معنى ذلك لتاسعة تبقى، ولسابعة تبقى، ولخامسة تبقى. وحسابه على نقصان الشهر أظهر، لأن الشهر تسعة وعشرون يوما، واليوم الثلاثون ليس من الشهر بيقين قد يكون وقد لا يكون. ولا يحتمل أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يحسب ذلك على كمال الشهر ولا على ما ينكشف من نقصانه أو كماله، لأنه لو أراد أن يحسب على كماله لكان ذلك حضا منه على التماسها في غير الأوتار، وهو إنما حض على تحريها في كل وتر على ما جاء في غير هذا الحديث. ولو أراد أن يحسب على ما ينكشف عليه الشهر من نقصانه أو إتمامه لكان قد أمر بما لا يصح امتثاله إلا بعد فواته، فلم يبق إلا أنه أراد أن يحسب ذلك على نقصانه، إلا أن نقول إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبهم مراده من ذلك لتلتمس الليلة في جميع ليالي العشر، وهو بعيد من التأويل، إذ لا بد أن يكون لقوله التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة زيادة فائدة على قوله: «التمسوها في العشر الأواخر،» والله سبحانه وتعالى أعلم. وذهب ابن حبيب إلى أن تتحرى الليلة في جميع ليالي العشر على نقصان الشهر وكماله، وذلك بعيد على ما أوردناه والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. وروي ذلك عن ابن عباس أنه كان يحيي ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين على هذا، وقال إنها لسبع بقين تماما يريد لسبع بقين على تمام الشهر بليلة أربع وعشرين التي كان يحييها أيضا. فصل وقوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، معناه [تنزل الملائكة وجبريل معهم، لأن جبريل هو الروح الأمين. وقوله من كل أمر

معناه، بكل أمر مما يقضي الله عز وجل في ليلة القدر من السنة إلى أن تأتي ليلة القدر من السنة المقبلة، وعلى هذا يتم الكلام في قوله من كل أمر، ويحسن الوقف عليه والابتداء من قوله: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، أي هي سلام من أن يحدث فيها ما لم يحدث في غيرها أو أن يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيئا معناه في الأغلب والله أعلم. وقيل خير هي إلى مطلع الفجر، وقيل رحمة إلى مطلع الفجر. وقد قيل إن التمام في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]، فيكون المعنى في الابتداء من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر من كل داء ومن كل شيطان ليلة القدر مسلمة إلى طلوع الفجر. وقيل إن التمام في قوله من كل أمر سلام، ثم ابتدأ جزءا آخر فقال هي حتى مطلع الفجر، أي ليلة القدر هي حتى مطلع الفجر، ويكون معنى قوله من كل أمر سلام هي أي هي مسلمة من كل داء وشيطان. وقد قيل إن معنى قوله من كل أمر سلام أن الملائكة يسلمون على عباد الله المؤمنين الليلة إلى طلوع الفجر. واحتج من ذهب إلى هذا بما روي من قراءة ابن عباس {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وبالله التوفيق.

كتاب الزكاة الأول

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله. عونك اللهم كتاب الزكاة الأول فصل في معرفة اشتقاق اسم الزكاة الزكاة مأخوذة من الزكاء وهو النماء، من ذلك قولهم زكا الزرع إذا نما وطاب وحسن وزكت النفقة إذا نمت وبورك فيها. ومن ذلك قول الله تعالى: (أقتلت نفسا زاكية بغير نفس)، ومنه تزكية القاضي الشهود لأنه ينمي حالهم ويرفعهم من حال السخطة إلى حال العدالة. ومنه يقال زكا فلان، وفلان أزكى من فلان. فصل فسميت الصدقة الواجب أخذها من المال زكاة لأن المال إذا زكي. نما وبورك فيه، وقيل إنما سميت بذلك لأنها تزكو عند الله أي تنمو لصاحبها عنده سبحانه وتعالى كما روي «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل». وقيل إنما سميت بذلك لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال التي يبتغى فيها النماء لا من العروض المقتناة. والذي أقول به إنما سميت بذلك لأن فاعلها يزكو بفعلها عند الله تعالى أي يرتفع حاله بذلك عنده يشهد لهذا قول الله تعالى:

فصل في وجوب الزكاة

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وذلك بين ظاهر ولم أره لمن تقدم، ممن على هذا المعنى تكلم، وبالله التوفيق. فصل في وجوب الزكاة والزكاة واجبة كوجوب الصلاة، أوجبها الله عز وجل على عباده وقرنها بها في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]، ومثل هذا في القرآن كثير. فصل وهي إحدى دعائم الإسلام الخمس. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قام في الناس فقال: "يا أيها الناس إنه أتاني آت من ربي في المنام فقال لي يا محمد إنه لا صلاة لمن لا

زكاة له، ولا زكاة لمن لا صلاة له». مانع الزكاة في النار والمتعدي فيها كمانعها. وقد توعد الله في غير ما آية من كتابه مانعها فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، والماعون الزكاة في قول أكثر أهل العلم. والويل واد في جهنم يسيل من عصارة أهل النار في النار على ما روي. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]، والكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن لم يكن مدفونا، وما أدي زكاته من المال فليس بكنز وإن كان مدفونا. ذكر مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الكنز ما هو فقال هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. فقوله تعالى ولا ينفقونها ليس على ظاهره من العموم، والمعنى فيه ولا ينفقون ما وجب عليهم إنفاقه منها. وقد قيل إن الضمير في قَوْله تَعَالَى ولا ينفقونها عائد على الزكاة وإن كان لم يتقدم لها ذكر، لأنها المراد بالإنفاق. وقيل إنه يعود على الفضة والذهب داخل فيها بالمعنى. وقيل إنه لما كان المعنى في الذهب والفضة سواء جاز أن يرجع الضمير إليهما جميعا بلفظ واحد مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، فقال يرضوه ولم يقل يرضوهما لما كان رضا الله فيه رضاء رسوله. وقيل إنه يعود على الكنوز وإذا قلنا إنه عائد على الفضة والذهب، أو على الفضة والذهب داخل فيها بالمعنى، أو على الكنوز، فالمراد بإنفاقها إنفاق الزكاة الواجبة فيها. وبيان هذا أنه قد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في تفسير الآية: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار تكوى بها جبهته وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس ثم يرى سبيله فإن كانت إبلا بطح لها بقاع

فصل

قرقر فجاءت أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت أخراها ردت أولاها حتى يقضي الله بين العباد ثم يرى سبيله، وإن كانت غنما فمثل ذلك إلا أنه قال تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها.» وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية هي خاصة فيمن لم يؤد زكاة ماله من المسلمين، وعامة في أهل الكتاب لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا - وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، معناه بخلوا بالزكاة الواجبة عليهم فيما آتاهم الله من فضله. وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في تفسير هذه الآية مال البخيل الذي منع حق الله منه يصير ثعبانا في رقبته». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك». وقيل إنه يجعل في عنقه طوق من نار. فصل فمن جحد فرض الزكاة فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد. وقال ابن حبيب إن تركها كفر وإن كان مقرا بفرضها كالصلاة على مذهبه، وليس بصحيح. وأما من أقر بفرضيتها ومنعها فإنه يضرب وتؤخذ منه كرها إلا أن يمنع في جماعة ويدفع بقوة فإنهم يقاتلون عليها حتى تؤخذ منهم كما فعل أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بأهل الردة حين شحوا بأداء الزكاة فقال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجاهدتهم عليه فقاتلهم وأمر بقتالهم. وقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فصل واختلف فيمن أخذت منه الزكاة كرها هل تجزئه أم لا على قولين: أحدهما أنها لا تجزئه لأنه لا نية له. والثاني أنها تجزئه وهو الأظهر، لأن الزكاة متعينة في

فصل

المال، فإذا أخذها من إليه أخذها أجزأت عنه كما تجزئ الصبي والمجنون إذا أخذت من أموالهما وإن لم تصح النية منهما في تلك الحال. فصل وإنما ورد في القرآن الأمر بالزكاة بألفاظ مجملة وعامة. فالمجمل منه ما لا يفهم المراد منه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فلا يفهم من هذا اللفظ جنس الحق ولا مقداره، ولا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيان. ومثل هذا اللفظ إذا ورد وجب اعتقاد وجوب المراد به إلى أن يرد البيان. والعام ما ظاهره استغراق الجنس فيجب امتثال الأمر به بحمله على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، مثل قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وما أشبه ذلك. فالظاهر في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، أن الزكاة تؤخذ من جميع أصناف الأموال ومن القليل والكثير منها، إذ لم يخص شيئا من ذلك دون شيء، وقَوْله تَعَالَى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، من المجمل الذي يفتقر إلى بيان، إذ لا يفهم من نفس هذا اللفظ قدر الصدقة التي يقع بها التطهير والتزكية بها فالآية مشتملة على نص لا يحتمل التأويل، وعلى عموم يحتمل التأويل، وعلى مجمل يفتقر إلى البيان والتفسير، لأنها نص في الأخذ وفي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأمور به، وعموم في الأموال، ومجمل في المقدار. فصل واختلف في قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]، وما أشبه هذه الألفاظ هل هي مجملة تفتقر إلى بيان أو عامة يجب حملها على عمومها حتى يرد ما يخصصها. والأصح أنها مجملة مفتقرة إلى البيان.

فصل

فصل واختلف في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، فقيل العفو في هذه الآية الزكاة. وقيل إنه ما سمح به المعطي. وقيل إنه ما فضل عن العيال. فأما من ذهب إلى أن العفو فيها الزكاة أو إلى أنه ما سمح به المعطي فالآية عنده محكمة غير منسوخة. وأما من ذهب إلى أن العفو ما فضل عن العيال فمنهم من قال إن ذلك كان واجبا في أول الإسلام وإن أحدهم كان إذا حصد زرعه أخذ منه قوته وقوت عياله وما يزرعه في العام المقبل وتصدق بالباقي ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. ومنهم من قال إن الآية محكمة غير منسوخة وهي على الندب لا على الوجوب مثل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]. ومنهم من قال إن الآية محكمة على الوجوب، ذهب إلى هذا جماعة من أهل الزهد والورع فحرموا ما فوق الكفاف، وإلى نحو هذا ذهب أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لأنه قد رويت عنه آثار كثيرة في بعضها شدة تدل أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز، وكان يقول الأكثرون هم الأخسرون يوم القيامة، ويل لأصحاب المئين. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في هذا آثار كثيرة إلا أن جمهور أهل العلم تأولها في الزكاة على خلاف ما حملها عليه أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وبالله التوفيق. فصل وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجمل القرآن في الزكاة وغيرها وخصص عمومه المراد به الخصوص قولا وعملا كما أمره الله تعالى به حيث يقول في كتابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مم تؤخذ الزكاة من الأموال وممن تؤخذ من الناس وكم يؤخذ منها ومتى تؤخذ فقال: «ليس على المسلم

فصل

في عبده ولا في فرسه صدقة» فدل أن الزكاة لا تجب في العروض المقتناة لغير التجارة، وأنها خارجة عن عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والحلي المتخذ للباس مخصص من العموم المذكور بالقياس على ذلك عند مالك وجميع أصحابه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فتبين أن ما دون هذه المقادير لا زكاة فيها وأنها مخصصة من العموم خارجة عنه. ولذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقدار الزكاة فقال: «هاتوا إلي ربع العشر من كل أربعين درهما درهما»، وقال: «في كل عشرين مثقالا ذهبا نصف مثقال». وقال: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر». وقال في زكاة الماشية: «في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم ..» الحديث. وقال «في كل ثلاثين من البقر تبيع وفي كل أربعين بقرة مسنة» [«وفي كل أربعين من الغنم شاة»]. فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» دليل على أن الزكاة لا تجب في الفواكه ولا في الخضر وإنما تجب فيما يوسق ويدخر قوتا من الأقوات الحبوب والطعام. وهو مذهب مالك وجميع أصحابه إلا ابن حبيب فإنه أوجب الزكاة في الفواكه، فخرجت الفواكه والخضر بذلك عند مالك من عموم قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ومن عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف

فصل في معرفة ما تجب فيه الزكاة من الأموال

العشر». وذكر الثمر في حديث أبي سعيد الخدري في بعض الروايات عنه محمول عند أهل العلم على أنه خرج على سؤال سائل فلا تعلق لأحد بظاهره في إسقاط الزكاة مما يوسق مما عدا التمر. فصل وكذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى يجب أخذ الزكاة من المال الذي تجب فيه الزكاة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» فعم بظاهر قوله هذا جميع الأموال المستفادة، فخرج من عموم قوله الحبوب والثمار بدليل قول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وخرج منه أيضا ما يخرج من المعدن من الذهب والورق بالقياس على الحبوب والثمار عند مالك لأنه يعتمل كما يعتمل الزرع وينبت في الأرض كما ينبت الزرع. ويخرج من ذلك أيضا نماء الماشية فتزكى على أصولها ولا يستقبل بها الحول بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها»، ولعلة افتراق الحول فيها مع خروج المصدق مرة في العام. واختلف قول مالك في أرباح الأموال فمرة رآها مزكاة على أصول الأموال قياسا على غذاء الماشية وللمشقة الداخلة عليه في حفظ أحواله، ومرة قال إنه يستقبل بها حولا كسائر الفوائد، وهو الأظهر، لأن الربح ليس بمتولد عن المال بنفسه كغذاء الماشية، وإنما يحصل لصاحب المال ممن بايعه بمبايعته إياه ولو شاء لم يبايعه، فأشبه ما يحصل له من عنده بهبة أو صدقة، إذ لو شاء لم يهبه ولا تصدق عليه وبالله عز وجل التوفيق. فصل في معرفة ما تجب فيه الزكاة من الأموال فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. فالعين

فصل في معرفة ما تجب به الزكاة

هو الذهب والورق. والماشية: الإبل والبقر والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم، لأن السنة قد خصصت ما عدا هذه الثلاثة الأشياء من عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وخصصت من هذه الثلاثة الأشياء أيضا بعضها على ما تقدم من ذلك في تبيين النصاب وما لا يوسق ويدخر من جميع الثمار. فصل في معرفة ما تجب به الزكاة والزكاة تجب بخمسة أوصاف، وهي الإسلام، والحرية، والنصاب، والحول فيما عدا ما يخرج من الأرض وعدا الدين في العين. فصل فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوب الزكاة قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والطهرة والتزكية لا تصح في الكفار. وهو أيضا دليل قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] والدليل على صحة اشتراط الحرية في ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فلما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، دل على أنه لم يرد العبد إذ لا يصح أن يقال في مال العبد إنه ماله على الإطلاق، إذ لا يجوز له فيه ما يجوز لذي المال في ماله من الهبة والصدقة وما أشبه ذلك بإجماع، وإنما هو ماله على صفة. والدليل على صحة ملكه قول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]، إذ لا يصح أن يوصف بالفقر والغنى من لا يملك، ولذلك يطأ بملك يمينه على مذهب مالك لأنه يملك عنده. والدليل على صحة اشتراط النصاب في ذلك الحديث الصحيح: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة».

فصل في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة

والدليل على صحة اشتراط الحول فيما عدا ما يخرج من الأرض قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» لأنه لفظ عام يخصص منه ما يخرج من الأرض بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، ويخصص منه أيضا نماء الماشية باتفاق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها»، وأرباح الأموال بالقياس على ذلك على اختلاف، ويبقى الحديث عاما فيما سوى ذلك. والدليل على صحة اشتراط عدم الدين في وجوب الزكاة في العين إجماع الصحابة على ذلك بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة، والصحابة متوافرون مسلمون بذلك، فدل ذلك على إجماعهم على القول بذلك. وبالله التوفيق. فصل في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يسقط الزكاة وهو دين الزكاة، كانت له عروض تفي به أو لم تكن، مرت به سنة من يوم استدانه مثل أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه مثل أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحل حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى. وقسم منها يسقط الزكاة مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر، إلا أن تكون له عروض تفي بالدين يجعل الدين فيها هو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة.

فصل

وقسم لا يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه، كانت له عروض أو لم تكن. ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه إلا أن تكون له عروض يجعله فيها، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة، كان الدين من سلف أو مبايعة فكونه من سلف هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم تجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها. وكونه من مبايعة هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم. ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين إلى تمام الحول لم تجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم. وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة. فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين. وقد قيل إن الدين يسقط الزكاة زكاة العين على كل حال وفي كل دين، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث عثمان بن عفان المذكور، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره ولا شرط عدمه للعروض وبالله التوفيق. فصل ولا يشترط في ذلك البلوغ والعقل بخلاف الصلاة. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] والطهرة والتزكية تصح دونهما، فكانت الآية عامة في الصغير والكبير والعاقل والمجنون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويردها على الفقراء» عام في كل غني من صغير وكبير وعاقل ومجنون، فوجب أن يحمل على عمومه، إذ لم يأت ما

فصل في معرفة قدر النصاب من الأموال التي تجب فيها الزكاة

يخص من ذلك الصغير والمجنون. ولا حجة للمخالف في ذلك في قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لأن الله إنما جمع بينهما في الوجوب جملة لا في أن الزكاة لا تجب إلا على من تجب عليه الصلاة. فكما تجب الصلاة على العبد ولا تجب عليه الزكاة عندهم، وتجب الزكاة على الحائض عند الجميع ولا تجب عليها الصلاة، فكذلك تجب الزكاة على الصبي والمجنون عندنا وإن لم تجب عليهما الصلاة، وهذا بين. فصل في معرفة قدر النصاب من الأموال التي تجب فيها الزكاة والنصاب من الذهب عشرون مثقالا، فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين لم تجب فيها الزكاة إلا أن تجوز بجواز الوازنة إذا كانت جارية عددا. والنصاب من الورق خمس أواق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأوقية أربعون درهما بالوزن القديم، وهو المعروف بالكيل. فالخمس الأواقي مائتا درهم كيلا، وذلك بوزن زماننا مائتا درهم وثمانون درهما، لأن ورقنا دخل أربعين ومائة في مائة كيلا وذلك خمسة وثلاثون دينارا دراهم. فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين لم تجب فيها الزكاة إلا أن تجري عددا وتجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة. وقيل إن الزكاة لا تجب إذا كان النقصان كثيرا. وأما إن لم تجز بجواز الوازنة فلا تجب فيها الزكاة قل النقصان أو كثر. وقيل إن الزكاة تجب فيها إذا كان النقصان يسيرا وإن لم تجز بجواز الوازنة. وذهب ابن لبابة إلى أن الزكاة لا تجب فيها إذا كان النقصان يسيرا وإن جازت بجواز الوازنة. ووجه قوله أنه إذا كان كل درهم منها ينقص نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين فهو في جملتها كثير تتفق عليه الموازين. فيتحصل في الدراهم الناقصة الجارية عددا إذا كانت تجوز بجواز الوازنة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا تجب فيها الزكاة. والثاني أنه تجب فيها الزكاة. والثالث الفرق بين أن يكون النقصان يسيرا لا تتفق عليه الموازين، أو كثيرا تتفق عليه

فصل

الموازين. وذهب ابن حبيب إلى أن الزكاة تجب في مائتي درهم عندنا بوزن زماننا وقال إنما يزكي أهل كل بلد بوزنهم الجاري عندهم وإن كان أقل من الكيل، وهو بعيد. فصل واختلف إذا كانت الدراهم أو الذهب مشوبين بنحاس فقيل إن الزكاة لا تجب إلا في النصاب من الذهب أو الورق الخالص. وقيل إذا كان الذهب أو الفضة الأكثر فالحكم لهما والنحاس ملغى والزكاة واجبة فيهما، والأول أصح إن شاء الله تعالى. والنصاب من الإبل خمس ذود، ومن الغنم أربعون شاة، ومن البقر ثلاثون بقرة. ومن الطعام المدخر الذي تجب فيه الزكاة خمسة أوسق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والصاع أربعة أمداد بمده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمد زنة رطل وثلث، قيل بالماء، وقيل بالوسط من القمح، وهو هذا المد الجاري عندنا. فمدنا مد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيلنا صاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقفيزنا اثنا عشر صاعا. فالوسق بكيلنا خمسة أقفزة، والنصاب خمسة وعشرون قفيزا. [وقال ابن حبيب إن النصاب بالكيل القرطبي ثلاثون قفيزا] على أن في كل قفيز عشرة آصع، وهي أربعون مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيأتي على هذا في كيلنا ثلاثة أمداد وثلث مد بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكون الصاع بمدنا خمسة أمداد إلا خمس مد. والوسق ستة أقفزة. هذا قوله في كتاب الزكاة. وقال في كتاب النكاح في باب نفقة الزوجات إن القفيز القرطبي أربعة وأربعون مدا، فيأتي النصاب على هذا سبعة وعشرين قفيزا وثلاثة أجزاء من أحد عشر من القفيز. ويأتي في الكيل بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أمداد وثلثا مد، وفي القفيز أحد عشر صاعا، ويكون الصاع بمدنا أربعة أمداد وأربعة أجزاء من أحد عشر جزءا من المد، والوسق بكيلنا خمسة أقفزة وخمسة أجزاء من أحد عشر من القفيز.

فصل في افتراق حكم الأموال في الزكاة

وقد قيل إن في القفيز القرطبي اثنين وأربعين مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالنصاب على هذا الحساب ثمانية وعشرون قفيزا وأربعة أسباع قفيز. وذلك أن يكون في كيلنا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أمداد ونصف، وفي قفيزنا من صاعه عشرة آصع ونصف، ويكون الصاع على هذا بمدنا أربعة أمداد وأربعة أسباع مد، والوسق خمسة أقفزة وخمسة أسباع قفيز، ووزن الخمسة الأوسق ثلاثة وخمسون ربعا وثلث ربع، كل ربع منها من ثلاثين رطلا. وما قدمته أولى من أن النصاب خمسة وعشرون قفيزا بالكيل القرطبي، وهو أولى الأقاويل عندي وأحوط في الزكاة. فصل في افتراق حكم الأموال في الزكاة والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء، وهو العين من الذهب والورق وأتبارهما، والمواشي، وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز اتخاذه منها. فهذا تجب فيه الزكاة، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه، نوى به التجارة أو القنية أو ما نوى. وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء، لا لطلب الفضل والنماء، وهي العروض كلها: الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي لا تجب في رقابه الزكاة، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة، فما أفاده من ذلك بهبة أو ميراث أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه نوى به التجارة أو القنية حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وما اشترى من ذلك فهو على ما نوى فيه، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وإن أراد به التجارة أكان للتجارة وزكاه على سنة التجارة،. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا، فقال ابن القاسم يرجع إلى القنية ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه ورواه عن مالك. وقال أشهب لا يرجع إلى القنية بالنية، وهو على ما اشتراه عليه

فصل في افتراق حكم التجارة في الزكاة

من نية التجارة. فإن باعه زكاه ساعة باعه وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن ورواه عن مالك. ولم يختلفا أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة أنه لا ينتقل إليها بالنية. واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا، فغلب ابن القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية لأنها الأصل، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع أحدهما إلى صاحبه بالنية، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا، كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى، وكقول مالك فيمن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق إنه متمتع. وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا للاقتناء وطلب النماء، وهو حلي الذهب والفضة، فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء، وهو في الوجهين معا على ما نوى، إن أراد به التجارة زكاه، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه أو هي إن كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه. واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا على قولين. فصل في افتراق حكم التجارة في الزكاة والتاجر ينقسم على قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا. فصل في بيان ما يضم بعضه إلى بعض في الزكاة ولا يضم في الزكاة صنف إلى صنف، ويضم الصنف كله بعضه إلى بعض وإن اختلفت أجناسه وأسماؤه وصفاته. فالإبل كلها صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها تجمع في الزكاة، وكذلك الضأن والمعز صنف واحد يجمعان في

الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما وصفاتهما. وكذلك البقر والجواميس صنف واحد يجمعان في الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما وصفاتهما. وكذلك القمح والشعير والسلت صنف واحد تجمع في الزكاة وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها وأجناسها، واختلف في العلس، فقيل هو صنف على حدة، وقيل يجمع مع القمح والشعير والسلت. والقطاني كلها صنف واحد تجمع في الزكاة وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها، كان رفعه لها وإصابته إياها في بلد واحد أو بلدان شتى متباينة، وحصاده لها في وقت واحد أو في أوقات شتى متباعدة إذا كان زريعته لآخر ما زرع منها قبل حصاده لأول ما زرع منها. وأما ما زرع من أنواع القطنية بعد حصاد غيرها ووجوب الزكاة فيها فلا يجمعها معها، كان زرعه لها في تلك الأرض التي حصد منها الأولى أو في غيرها، لأن ما زرع بعد حصاد الأولى في تلك الأرض أو في غيرها كأنه إنما زرعه في سنة أخرى، ولا يضم زرع عام إلى عام آخر. وبيان هذا الذي وصفناه أنه لو زرع ثلاثة أنواع من القطنية في ثلاثة أشهر في كل شهر صنفا، فزرع، في المحرم الصنف الواحد، ثم في ربيع الأول الصنف الثاني، ثم في جمادى الأولى الصنف الثالث، ثم حصدها كلها بعد جمادى الأولى فإنه يضم بعضها إلى بعض، فإن كمل له من جميعها النصاب وجبت فيها الصدقة وأخرج من كل صنف بحسابه. ولو زرع الثاني قبل حصاد الأول ثم زرع الثالث بعد حصاد الأول وقبل حصاد الثاني لجمع الثاني مع الأول ومع الثالث ولم يجمع الأول مع الثالث. فإن رفع من الأول ثلاثة أوسق ثم رفع من الثاني وسقين فأكثر زكى الجميع إن كانت الثلاثة الأوسق باقية عنده على مذهب ابن القاسم. وأما على مذهب أشهب في الفائدتين يحول حول الأولى منهما وهي عشرة دنانير فينفقها بعد الحول ثم يحول حول الفائدة الثانية وهي عشرة أنه يزكي العشرتين جميعا، فيزكي الوسقين عند حصادهما وإن كان قد أنفق الثلاثة الأوسق. ثم إن رفع من الثالث ثلاثة أوسق وقد كان رفع من الثاني وسقين فأخرج زكاتهما مع الأول فلا زكاة عليه في الثلاثة الأوسق على مذهب ابن القاسم، إذ لا يبلغ مع ما بقي من الوسقين بعد

فصل

إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة، ويزكي الثلاثة الأوسق على مذهب أشهب في الفائدتين. ولو زرع الصنف الثاني قبل حصاد الأول ثم زرع الصنف الثالث بعد حصاد الثاني وقبل حصاد الأول، إذ من القطاني ما يتعجل ومنها ما يتأخر، لجمع الأول مع الثاني ومع الثالث، ولم يجمع الثاني مع الثالث على هذا القياس. فإن رفع من الثاني ثلاثة أوسق انتظر حتى يحصد الأول، فإن حصد الأول فكان فيه وسقان فأكثر والثلاثة الأوسق باقية بيده لم ينفقها على مذهب ابن القاسم زكى الثلاثة الأوسق مع هذين الوسقين. ثم إن حصد الثالث فبلغ مع ما بقي بيده من الوسقين اللذين حصدهما من الأول بعد إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة زكى ما حصد من الثالث خاصة، ولم يزك ما كان بقي بيده من الوسقين لأنه قد زكاهما مع ما حصد من الثاني. وأما على مذهب أشهب فيزكي ما حصد من الثالث إن بلغ ثلاثة أوسق فأكثر، كان الوسقان بيده أو قد أنفقهما على ما تقدم. فصل وعلى قياس هذا يجري الأمر في زكاة المعادن، لا يضيف ما خرج من المعدن بعد انقطاع نيله إلى ما كان خرج منه قبل ذلك، كما لا يضيف ما أخرجت الأرض من الحب إلى ما كان خرج منها قبل ذلك. وكذلك لا يضيف ما خرج له من معدن إلى ما خرج له من معدن غيره إذا كان خروجه بعد انقطاع الأول، وإنما يضيفه إليه إذا خرج قبل انقطاع الأول، كما لا يضيف زرع أرض إلى زرع أرض أخرى إذا زرع إحداهما بعد حصاد زرع الأخرى، وإنما يضيفه إليه إذا زرعه قبل حصاد زرع الأرض الأخرى. فصل فإذا كانت للرجل معادن فعمل في أحدها فأنال له، ثم عمل في الثاني فأنال له قبل انقطاع الأول، ثم عمل في الثالث فأنال له قبل انقطاع الأول والثاني، أضاف بعضها إلى بعض وإن كثرت على هذا المثال والترتيب. ولو عمل في الأول فأنال له ثم عمل في الثاني فأنال له قبل انقطاع الأول فتمادى النيل فيهما جميعا،

فصل

ثم انقطع نيل الأول وبقي الثاني على حاله فعمل في المعدن الثالث فأنال له قبل انقطاع الثاني لأضاف ما خرج له من الثاني إلى ما خرج له من الأول وإلى ما خرج له من الثالث، ولم يضف ما خرج له من الأول إلى ما خرج له من الثالث. ولو عمل في الأول فأنال له فاتصل نيله ثم عمل في معدن ثان فأنال له مدة ثم انقطع نيله ثم عاد، أو لما انقطع نيله عمل في معدن ثالث فأنال له والأول على حاله متصل النيل، لأضاف ما خرج له من المعدن الأول الذي اتصل نيله إلى ما خرج له من المعدن الثاني قبل انقطاعه وبعدا انقطاعه، أو إلى ما خرج له من المعدن الثالث، ولا يضيف ما خرج له من المعدن الثاني قبل انقطاعه إلى ما خرج له منه بعد انقطاعه، ولا ما خرج له من الثاني إلى ما خرج له من المعدن الثالث بعد انقطاع الثاني. وهذا كله قول محمد بن مسلمة، وهو عندي تفسير لما في المدونة، لأن المعادن بمنزلة الأرض، فكما يضيف زرع أرض إلى أرض له أخرى إذا زرعها قبل حصاد الأخرى فكذلك يضيف نيل معدن إلى نيل معدن آخر إذا أنال له قبل انقطاع الأول، خلاف ما ذهب إليه سحنون من أن المعادن لا يضاف بعضها إلى بعض وإن اتصل نيلها ولم ينقطع وبالله التوفيق. فصل والذهب والفضة كلها صنف واحد تبرها ومسكوكها ومصوغها تجمع في الزكاة على ما كانت عليه الدراهم في الزمن الأول، كل دينار بعشرة دراهم، لا بالقيمة يوم إخراج الزكاة، إلا ما كان من الذهب والفضة حليا مصوغا يحبس للبس أو حلي به سيف أو مصحف أو خاتم فإنه لا زكاة فيه. فصل فالأموال التي تجمع في الزكاة إذا تقاربت منافعها فتجعل صنفا واحدا وإن اختلفت أسماؤها وأجناسها وأنواعها وجودتها ورداءتها تنقسم على ثلاثة أقسام: مكيل، وموزون، ومعدود. فأما المكيل فهو مثل القمح والشعير والسلت الذي هو صنف واحد، أو

فصل

القمح والشعير والسلت والعلس على القول بأن العلس مضاف إلى ذلك، ومثل القطاني التي هي في الزكاة صنف واحد على اختلافها، ومثل الحائط من النخل يكون فيه أنواع من التمر مختلف، فالحكم فيه أن يؤخذ من كل شيء منه قل أو كثر ما يجب فيه عشره أو نصف عشره، إلا أن تكثر أنواع الحائط من النخل فيؤخذ من وسطها ما يجب فيها كلها، إذ لا يلزمه أن يعطي من أرفعها ولا يجزئه أن يعطي من أوضعها، لقول الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. وقد قيل إنه يؤخذ من وسطها وإن كان الحائط جيدا كله أو رديئا كله قياسا على المواشي، ‍‍! وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، إلا أنه بعيد وشاذ. فصل فإن أراد أن يخرج من صنف عن صنف آخر ما وجب عليه منه بالكيل جاز من الأرفع ولم يجز من الأدنى. وإن أراد أن يخرجه بالقيمة لم يجز فيما لا يجوز فيه التفاضل وجاز فيما يجوز فيه التفاضل، وهو القطاني على القول بأنها في البيع أصناف مختلفة، وعلى القول أيضا بأن من وجب عليه حب فأخرج عينا أو عرضا فإنه يجزئه. وأما الموزون فهو العين من الذهب والورق الجيد والرديء، فالحكم فيه أيضا أن يخرج من الذهب ربع عشره ومن الورق ربع عشره، ومن الجيد ربع عشره ومن الرديء ربع عشره. ويجوز أن يخرج عن الذهب ورقا قيل بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو مذهبه في المدونة، وقيل ما لم ينقص عن صرف عشرة دراهم، وهو قول ابن حبيب. وقيل إنه يخرج من صرف عشرة دراهم بدينار. وكذلك يجوز له أن يخرج عن الورق ذهبا، وقيل إنه لا يجوز إلا أن يكون في ذلك وجه نظر، مثل المديان يكون عليه دينار وما أشبه ذلك. وأما المعدود وهو الغنم الضأن والمعز، والإبل البخت والعراب، والبقر والجواميس وغير الجواميس، فلا يصح إذا جمع شيء من ذلك في الزكاة أن يأخذ

من كل جنس ما يجب فيه، إذ لا تتبعض الأسنان الواجبة فيها، فقد يؤخذ من ذلك ما يجب في الجنسين جميعا من الصنف الواحد، وقد يؤخذ منهما جميعا باتفاق وعلى اختلاف. وبيان ما يتفق فيه من ذلك مما يختلف فيه يفتقر إلى بسط وتفسير وتقسيم. أما إذا وجب في الصنفين من الضأن والمعز شاة واحدة فإنها تؤخذ من أكثرهما، فإن استويا في العدد كان الساعي مخيرا يأخذ من أي الصنفين لثمار، ولا اختلاف في هذا الوجه. وأما إذا وجب في الصنفين شاتان أو شياه فإن ذلك ينقسم على وجهين كل وجه منهما ينقسم على وجهين فالوجه الأول أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في أحد الصنفين، والصنف الثاني وقص لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة، أو يبلغ ما تجب فيه الزكاة. والوجه الثاني أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين جميعا بأن لا يكون أحدهما وقصا للآخر ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه الزكاة أو يبلغ ذلك أحدهما ولا يبلغه الآخر. فأما الوجه الأول وهو إذا كانت الشاتان أو الشياه تجب في أحد الصنفين والصنف الثاني وقص لا تجب فيه الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وإحدى وعشرين والمعز ثلاثين فهذا لا يؤخذ فيه من المعز شيء باتفاق، وإنما يؤخذ الجميع من الضأن شاتان، وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة والمعز ثلاثين لأخذ الجميع من الضأن ثلاث شياه. فإن كان الصنف الثاني وقصا يجب في عدده الزكاة مثل أن يكون الضأن مائة وإحدى وعشرين والمعز أربعين فاختلف في ذلك، فقيل تؤخذ الشاتان من الضأن ولا يؤخذ من المعز شيء لأنها وقص، وهذا على قياس قول ابن القاسم في المدونة إن في ثلثمائة ضائنة وتسعين معزة ثلاث شياه من الضأن ولا شيء في المعز. وعلى هذا التعليل لا يعتبر ما بقي من الضأن بعد ما تجب فيه الشاة الواحدة هل هو أقل من المعز أو أكثر. وقيل يعتبر ذلك فتؤخذ الشاة الواحدة من الضأن والأخرى من المعز، لأن في مائة وعشرين من الضأن شاة فيبقى منها شاة، والمعز أربعون فتؤخذ الثانية من المعز لأنها أكثر. وفي المدونة ما ظاهره هذا القول، وهو قوله فيها فانظر فإذا كان للرجل ضأن ومعز فإن كان في كل واحدة إذا فرقت ما تجب فيه الزكاة أخذ من كل واحدة، لأنه عم ولم يذكر وقصا من غيره. ويحتمل أن يكون معناه إذا لم يكن الأقل وقصا للأكثر فلا يكون ذلك اضطرابا من

فصل

قوله. وهذا على مذهب من يعلل بأن الأوقاص مزكاة. وأما على مذهب من يقول إن الأوقاص غير مزكاة فيقول في هذه المسألة إن الشاتين تؤخذان من الضأن وإن لم تكن عليه في ذلك أن المعز وقص، لأن الشاة من الضأن إنما أخذت عن أربعين منها، والأحد والثمانون الباقية منها لم يؤخذ عنها شيء، وهي أكثر من المعز، فتؤخذ الثانية منها أيضا على هذا التعليل. وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة أو ثلثمائة شاة والمعز أربعين الاختلاف في ذلك واحد فاعلمه. وهذا أصل فقس عليه ما شاكل هذين الوجهين من المسائل. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين جميعا بأن لا يكون أحدهما وقصا مع صاحبه ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين، فاضطرب قول ابن القاسم فيه في المدونة، فقال في هذه المسألة إن في الضأن شاة وفي المعز أخرى، وقال فيمن له ثلثمائة وستون من الضأن وأربعون من المعز إن الأربع شياه تؤخذ من الضأن هو خلاف جوابه في المسألة الأولى. واختلاف قوله في ذلك جار على الاختلاف في الأوقاص هل هي مزكاة أم لا، فجعل الأوقاص على جوابه في المسألة الأولى مزكاة فقال إن الشاة من الضأن أخذت عن جملة المائة والعشرين فوجب أن تؤخذ الثانية من المعز. وجعلها في المسألة الثانية غير مزكاة فقال: إن الثلاث شياه إنما أخذت عن الثلاثمائة من الضأن فيبقى منها ستون وهي أكثر من المعز فأخذت الرابعة منها. وكان يلزمه على هذا الجواب أن يقول في المسألة الأولى إن الشاة إنما أخذت عن أربعين من الضأن وبقي منها ثمانون لم يؤخذ عنها شيء وهي أكثر من المعز فتؤخذ الثانية منها إذ هي أكثر، وهو مذهب سحنون في هذه المسألة أن الشاتين تؤخذان من الضأن على هذا التعليل. وهذا أصل فقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب. ويحتمل أن يكون ذهب إلى أن ما زاد على الأربعين إلى العشرين ومائة ليس بوقص غير مزكى بل هو مزكى بالشاة بدليل قول

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة»، وإلى أن الوقص الذي ليس بمزكى إنما هو ما زاد على الثلثمائة إلى أن يبلغ مائة بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة شاة».، لأنه نص على الشاة في المائة وسكت عما نقص عنها، فلا يكون على هذا قوله في هاتين المسألتين اضطرابا من قوله، ويكون أصله الذي بنى عليه مسائله ولم يضطرب فيه قوله أنه إذا كان أحد الصنفين أقل من نصاب أو وقصا فيما زاد على المئين في الثلثمائة فما فوقها فلا يؤخذ منه شيء، وإذا لم يكن أحدهما أقل من نصاب ولا وقصا مع صاحبه أخذ منهما جميعا في المائتين فما دونهما من كل أربعين من الضأن شاة ومن كل أربعين من المعز معزة، وفيما فوق المائتين من كل مائة من الضأن شاة ومن كل مائة من المعز معزة، وما فضل من الصنفين جميعا فلم تجب فيه إلا شاة واحدة أخذت من أكثرهما. وأما إن كان أحد الصنفين في هذا الوجه لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة مثل أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز ثلاثين، فاختلف فيه أيضا. قال ابن القاسم في المدونة: يأخذ الشاتين من الضأن، وهو الذي يأتي على قول سحنون في مائة وعشرين من الضأن وأربعين من المعز إن الشاتين تؤخذان من الضأن، وجعل سحنون تفرقة ابن القاسم بين أن تكون المعز ثلاثين أو أربعين اضطرابا من قوله، فقال مسألة الجواميس تدل على أحسن من هذا، يريد أن الواجب على أصل ابن القاسم في مسألة الجواميس أن يأخذ المعزة من الثلاثين من المعز وإن كانت الزكاة لا تجب فيها بانفرادها، كما يأخذ التبيع في مسألة الجواميس من العشرين من البقر وإن كانت الزكاة لا تجب فيها بانفرادها. وليس قوله بصحيح، لأن المعنى في هذه المسألة الذي من أجله وقع الخلاف فيها أن الشاة تؤخذ عن الأربعين وتؤخذ أيضا عن جميع المائة والعشرين، فوقع الخلاف فيها لذلك. وأما مسألة الجواميس فصحيحة لا يدخل الاختلاف فيها، لأن التبيع من الجواميس إنما أخذ عن ثلاثين منها وبقيت عشرة منها غير مزكاة باتفاق، فوجب أن يؤخذ التبيع الثاني من البقر الأخرى التي هي أكثر. وقد روي عن سحنون في

فصل

مسألة الجواميس المذكورة، وهي أربعون من الجواميس وعشرون من البقر، أنه يأخذ التبيعين من الجواميس، وهو بعيد وما له وجه حاشا أنه قسم الجواميس والبقر قسمين، فكان كل قسم عشرين جاموسا وعشرة من البقر فأخذ التبيع من الأكثر. ويلزم على هذا في اثنين وستين ضائنة وستين معزة أن تؤخذ الشاتان من الضأن. فما أبعد هذا في الاعتبار وعلى هذه الوجوه التي شرحت لك في الضأن والمعز فقس الجواميس مع البقر والبخت مع الإبل العراب فإنها منهاج لها ودليل عليها، وبالله التوفيق. فصل وإذا زادت الغنم على ثلثمائة فالوقص عند ابن القاسم ما زاد على الثلاثمائة إلى أن تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة فالوقص فيها ما زاد عليها إلى أن تبلغ خمسمائة، فإذا بلغت خمسمائة فالوقص فيها ما زاد عليها إلى أن تبلغ ستمائة، وكذلك ما زاد على هذا الحساب، لما جاء في الحديث من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة شاة». ألا ترى إنه يقول في ثلاثمائة ضائنة وخمسين ضائنة، وخمسين معزة إنه يأخذ منها ثلاث ضائنات ويكون مخيرا في الرابعة إن شاء أخذها من الضأن وإن شاء أخذها من المعز، فبنى جوابه على أن الوقص غير مزكى وجعله من الضأن ما زاد على الثلثمائة فاعتدلت الضأن والمعز فخير الساعي. ولو جعل الوقص في الغنم ما زاد على مائتي شاة وشاة على الأصل لأخذ الأربعة من الضأن. ولو بنى جوابه على أن الأوقاص مزكاة لقال إنه يأخذ الرابعة من المعز دون أن يخير في ذلك الساعي. وقد كان القياس في هذه المسائل كلها أن يعرف ما يجب في مجموع الصنفين من عدد الرؤوس وما يقع من ذلك لكل صنف على عددها قل أو كثر فيؤخذ الرأس المنكسر من الصنف الذي وقع له أكثره، فإن استويا فيه أخذه من أيهما شاء. مثال ذلك أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين فالواجب في ذلك شاتان يقع من ذلك للضأن شاة ونصف وللمعز نصف شاة فيأخذ الواحدة من الضأن ويكون مخيرا في الأخرى يأخذها من أي الصنفين شاء. ولو كانت المعز أكثر فوقع

فصل في زكاة الحلي

لها من الشاتين أكثر من نصف شاة أخذت الشاة الواحدة منها. ولو كانت المعز أقل فوقع لها من الشاتين أقل من نصف شاة أخذت الشاتان من الضأن ولم يؤخذ من المعز شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق. فصل في زكاة الحلي أجمع أهل العلم على أن العين من الذهب والورق في عينه الزكاة تبرا كان أو مسكوكا أو مصوغا صياغة لا يجوز اتخاذها، نوى به مالكه التجارة أو القنية. واختلف إذا صيغ صياغة يجوز اتخاذها. فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه في الاشتراء والفائدة على ما نوى به مالكه، فإن نوى به التجارة زكاه، وإن نوى به الاقتناء للانتفاع بعينه فيما ينتفع فيه بمثله سقطت عنه الزكاة. وتخصص من أصله بالقياس على العروض المقتناة التي نص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سقوط الزكاة فيها بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» واعتبر في صحة العلة الجامعة بينهما بقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فإن نوى به القنية عدة للزمان أولم تكن له نية في اقتنائه رجع على الأصل ووجبت فيه الزكاة. وإن اتخذه للكراء وهو ممن يصلح له الانتفاع به في وجه مباح ففي ذلك روايتان: إحداهما وجوب الزكاة. والثانية سقوطها، وقد روي عنه استحباب الزكاة، وذلك راجع إلى إسقاط الوجوب. فصل فإن كان الحلي مربوطا بالحجارة كاللؤلؤ والزبرجد ربط صياغة فاختلفت الرواية عن مالك في ذلك أيضا، فروى عنه أشهب أن حكمه حكم العروض في جميع أحواله، كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة أو غير تبع، يقومه التاجر المدير إذا حال حوله، ولا يزكيه التاجر غير المدير حتى يبيعه وإن مرت عليه

أحوال. وإن أفاده لم تجب عليه فيه زكاة حتى يبيعه ويحول على الثمن الحول من يوم باعه وقبض ثمنه إن كان ما تجب فيه الزكاة، أو كان له مال سواه إذا أضافه إليه وجبت فيه الزكاة. وروى ابن القاسم عنه أن ربطه بالحجارة لا تأثير له في حكم الزكاة إلا في وجه واحد اختلف فيه قوله، وهو إذا كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة، فإن ورثه وحال عليه الحول زكى ما فيه من الذهب والورق تحريا ولم يكن عليه زكاة فيما فيه من الحجارة حتى يبيعه ويحول الحول على ثمنه من يوم قبضه. ووجه العمل في ذلك إذا باعه جملة أن يفض الثمن على قيمة ما فيه من الذهب أو الورق مصوغا وعلى قيمة الحجارة فيزكى ما ناب الحجارة من ذلك إذا حال عليه الحول. وإن اشتراه للتجارة وهو مدير قوم ما فيه من الحجارة وزكى وزن ما فيه من الذهب والورق تحريا ولم يجب عليه تقويم الصياغة. هذا ظاهر المدونة. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه يجب عليه تقويم الصياغة. وإن اشتراه للتجارة وهو غير مدير زكى إذا حال عليه الحول وزن ما فيه من الذهب أو الورق تحريا، ولم يجب عليه زكاة ما فيه من الحجارة حتى يبيع، فإذا باع زكى ثمن ذلك زكاة واحدة وإن كان بعد أعوام. ووجه العمل في ذلك إذا باع جملة على ظاهر ما في المدونة أن يفض الثمن على قيمة الذهب أو الورق مصوغا وعلى قيمة الحجارة فيزكي ما ناب الحجارة من ذلك. وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يحتاج إلى الفض وإنما يسقط من الثمن عدد ما زكاه تحريا ويزكي الباقي. والذي ذكرناه هو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك. ووقع في المدونة بين رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب لفظ فيه إشكال والتباس واختلاف في الرواية، اختلف الشيوخ في تأويله وتخريجه اختلافا كثيرا. ونص الرواية: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع أيضا إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو للتجارة، وروى أشهب فيمن اشترى حليا للتجارة معهم وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبينه. وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام. زاد في بعض الروايات زكاه بعد قوله كلما احتاج إليه باع أو لتجارة وأسقط معهم. فأما على هذه الرواية بثبوت لفظة زكاه وإسقاط لفظة معهم فتستقيم

المسألة ويرتفع الالتباس، لأن رواية أشهب تكون حينئذ منفردة منقطعة عما قبلها جارية على مذهبه المعلوم وروايته عنه، ويكون معنى رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع أنه حلي ذهب وفضة لا حجارة معها. وأما على الرواية الأخرى إذا سقطت لفظة زكاه وثبتت لفظة معهم فمن الشيوخ من قال إنها رواية خطأ لا يستقيم الكلام بها، لأن اللفظ يدل إذا اعتبرته على خلاف الأصول من وجوب الزكاة في العروض المقتناة ساعة المبيع لقوله فلا زكاة عليه حتى يبيع، وهو قد جمع الشراء والميراث في حلى مربوط بالحجارة، والحجارة عروض، لا اختلاف أن الزكاة لا تجب فيها إذا كانت موروثة إلا بعد أن يحول الحول على ثمنها بعد قبضه. ومنهم من قال معنى ذلك أنه إذا باع وكان ذلك الحلي المربوط بالحجارة من ميراث إنه يزكي ما ينوب الذهب ويستقبل بما ينوب الحجارة سنة من يوم قبضه. وإن كان من شراء زكى الجميع إذا باع مديرا كان أو غير مدير. وهذا تأويل ابن لبابة، فيكون على هذا التأويل في الكتاب في الحلي المربوط بالحجارة ثلاثة أقوال. ومنهم من قال معنى الرواية أن المدير يقوم مثل رواية أشهب، فيكون على هذا لمالك في الكتاب قولان. ومنهم من قال معنى ذلك أن المدير يقوم وأن ما تكلم عليه ابن القاسم قبل في المدير وغير المدير معناه في الحلي الذي ليس بمربوط، وأن الذي تدل عليه رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحلي المربوط مثل ما ذهب إليه مالك في رواية أشهب عنه، فلم يجعل في الحلي المربوط اختلافا. وفي جميع التأويلات بعد، وهذا أبعدها. والصحيح في تأويل الرواية المذكورة إذا سقط منها زكاه وثبت فيها معهم أن جواب مالك في رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع عنه في قوله: وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام، وأن جوابه في رواية أشهب عنه في قوله فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه، وأنه انفرد دونهم في الرواية عنه في الحلي المربوط، وانفردوا دونه في الرواية عنه في الحلي الذي ليس بمربوط. وإنما وقع الإشكال في الرواية إذ جمعهم الراوي في

الرواية أولا ثم فصل ما انفرد به كل واحد منهم دون صاحبه، وقصر في العبارة بتقديم بعض الكلام على بعض. والصواب في سوق الكلام دون تقصير في العبارة إن شاء الله أن يقول: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باعه أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه فيما اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه. قال في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع: وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين زكاته في كل عام اشتراه أو ورثه. فعلى هذا التأويل إنما تكلم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع في الحلي الذي ليس بمربوط، وهي زيادة بيان فيما رواه عنه منفردا في الحلي المربوط، ولم يجتمع ابن القاسم وأشهب في الرواية عن مالك في الحلي المربوط في لفظ ولا معنى. وهذا التأويل هو الذي اخترناه وعولنا عليه لصحته وجريانه على المعلوم المتقرر من روايتهما جميعا المختلفة عن مالك في الحلي المربوط، وإليه ذهب سحنون فيما جلبه من الروايتين والله أعلم. ويحتمل أن يكون تأويل الرواية المذكورة بسقوط زكاه وثبوت معهم أن جواب مالك في رواية أشهب معهم في قوله وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام، وإن جوابه في رواية أشهب دونهم في الشراء خاصة في قوله فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه، وأن مجامعهم في الرواية في الحلي الذي ليس بمربوط، وانفرد دونهم في الرواية في الحلي المربوط في الشراء خاصة. ويكون الصواب في سوق الكلام على هذا التأويل دون تقصير في العبارة أن يقول: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه دونهم إذا اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه. وقال في روايتهم كلهم وأشهب معهم: وإن كان ليس بمربوط بالحجارة فهو

بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام اشتراه أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو للتجارة. وهذا التأويل أيضا صحيح بين، وفيه زيادة بيان على التأويل الذي اخترناه، وهو أن الحلي الذي ليس بمربوط لا اختلاف فيه بين الرواة عن مالك، وبالله التوفيق.

القول في المعادن

القول في المعادن القول في المعادن يرجع إلى ثلاثة فصول: أحدها معرفة حكم أصولها وهل هي تبع للأرض التي هي فيها أم لا، والثاني معرفة وجه حكم المعاملة في العمل فيها، والثالث معرفة ما يجب فيما يخرج منها من الذهب والفضة. فصل فأما أصولها فاختلف فيها على قولين: أحدهما: أنها ليست بتبع للأرض التي هي فيها، مملوكة كانت أو غير مملوكة، وأن الأمر فيها إلى الإمام يليها ويقطعها لمن يعمل فيها بوجه الاجتهاد حياة المقطع أو مدة ما من الزمان من غير أن يملكه أصلها، ويأخذ منها الزكاة على كل حال على «ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من أنه أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن من معادن القبلية» فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، إلا أن تكون في أرض قوم صالحوا عليها فيكونون أحق بها يعاملون فيها كيف شاءوا المسلمين على ما يجوز لهم إن شاءوا. فإن أسلموا رجع أمرها إلى الإمام. هذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة ورواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية. والثاني أنها تبع للأرض التي هي فيها، فإن كانت في أرض حرة أو في أرض العنوة أو في الفيافي التي هي غير ممتلكة كان أمرها إلى الإمام يقطعها لمن يعمل

فصل

فيها أو يعامل الناس على العمل فيها لجماعة المسلمين على ما يجوز له، ويأخذ منها الزكاة على كل حال. وإن كانت في أرض متملكة فهي ملك لصاحب الأرض يعمل فيها ما يعمل ذو الملك في ملكه. وإن كانت في أرض الصلح كان أهل الصلح أحق بها إلا أن يسلموا فتكون لهم. هذا مذهب سحنون ومثله لمالك في كتاب ابن المواز. وجه القول الأول أن الذهب والفضة اللذين في المعادن التي هي في جوف الأرض أقدم من ملك المالكين لها، فلم يجعل ذلك ملكا لهم بملك الأرض، إذ هو ظاهر قول الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] إذ لم يقل الأرض لله يورثها وما فيها من يشاء من عباده فوجب بنحو هذا الظاهر أن يكون ما في جوف الأرض من ذهب أو ورق في المعادن فيئا لجميع المسلمين بمنزلة ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. ووجه القول الثاني أنه لما كان الذهب والفضة نابتين في الأرض كانا لصاحب الأرض بمنزلة ما نبت فيها من الحشيش والشجر. والقول الأول أظهر، لأن الحشيش والشجر نابتان في الأرض بعد الملك بخلاف الذهب والورق في المعادن. وأما وجه حكم المعاملة في العمل فيها فهو أن يكون على سبيل الإجارة الصحيحة. وقد اختلف هل تجوز المعاملة فيها على الجزء منها أم لا على قولين: أحدهما أن ذلك لا يجوز لأنه غرر، وهو قول أصبغ في العتبية واختيار محمد بن المواز وقول أكثر أصحاب مالك. والثاني أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية، واختيار الفضل بن سلمة، قال لأن المعادن لما لم يجز بيعها جازت المعاملة فيها على الجزء منها قياسا على المساقاة والقراض. فصل وأما ما يجب فيما يخرج منها فاختلف فيه اختلافا كثيرا. والذي ذهب إليه

فصل

مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه أن فيها الزكاة قياسا على الزرع الذي يخرج من الأرض، لأن الذهب والفضة يخرجان منها كما يخرج الزرع منها، ويعتمل كما يعتمل الزرع، فيعتبر فيه النصاب، ولا يعتبر فيه الحول كما لا يعتبر في الزرع، لقول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] إلا أن توجد فيه ندرة خالصة فيكون فيها الخمس على مذهبه في المدونة، وفي ذلك اختلاف. فصل فإذا نض لصاحب المعدن من نيل المعدن وزن عشرين دينارا أو مائتي درهم كيلا وجبت عليه في ذلك الزكاة، ثم ما زاد بحسابه ما اتصل النيل ولم ينقطع العرق، وسواء بقي ما نض في يده إلى أن كمل النصاب أو أنفقه قبل ذلك على حكم الرجل يكون له الدين قد حل عليه الحول فقبضه شيئا بعد شيء. وإن تلف ذلك من يده بغير سببه فعلى الاختلاف فيما تلف مما قبض من الدين: قال ابن المواز لا يضمنه، وقال ابن القاسم يضمنه. وهذا الاختلاف إنما يصح عندي إذا تلف في الحد الذي لو تلف فيه المال بعد الحول لم يضمن وأما إن انقطع النيل بتمام العرق ثم وجد عرقا آخر في المعدن نفسه فإنه يستأنف فيه مراعاة النصاب. وفي هذا الوجه تفصيل، إذ لا يخلو ما نض إليه من النيل الأول أن يتلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني أو أن يتلف من يده بعد أن بدأ النيل الثاني، أو أن يبقى بيده إلى أن كمل عليه من النيل الثاني في تمام النصاب. فصل وأما إن تلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني فلا اختلاف في أنه لا زكاة عليه فيما يحصل إليه من الثاني حتى يكمل عنده النصاب منه كاملا، لأنه في التمثيل

فصل

كمن أفاد عشرة دنانير فحال عليها الحول ثم تلفت بعد الحول ثم أفاد بعد تلفها فائدة أخرى، فلا اختلاف في أنه لا يضيفها إلى الفائدة التي تلفت قبل أن يفيد هذه. وأما إن تلفت من يده بعد أن بدأ النيل الثاني وقبل أن يكمل عنده بما كان تلف من الأول النصاب فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما أن عليه الزكاة إذا كمل له النصاب بما نض له من الثاني إلى ما كان تلف من الأول. والثاني أنه لا زكاة عليه لأنه في التمثيل كمن أفاد عشرة دنانير ثم أفاد بعد ستة أشهر عشرة دنانير أخرى فحال الحول على العشرة الثانية وقد تلفت العشرة الأولى بعد حلول الحول عليها، فتجب عليه الزكاة عند أشهب، ولا تجب عليه عند ابن القاسم. فصل ومن كانت له معادن فانقطع نيل أحدها ثم بدأ النيل في الآخر فالحكم في ذلك حكم المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود بعد ذلك في أنه لا يضاف إليه. واختلف إذا بدأ الثاني قبل أن ينقطع الأول فقيل إنه لا يضيفه إليه بمنزلة المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود، وهو قول سحنون. وقيل إنه يضيفه إليه، وهو قول محمد بن سلمة والذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، لأن المعادن بمنزلة الأرضين، فكما يضيف زرع الأرض إلى زرع الأرض الأخرى إذا زرع الثاني قبل حصاد الأول، فكذلك يضيف نيل المعدن إلى نيل المعدن الآخر إذا بدأ الثاني قبل انقطاع الأول. وبيان هذا بالمثال أن يكون للرجل معادن يعمل فيها فينيل أحدها ويتمادى النيل فيه إلى أن ينيل الثاني فيتمادى النيل فيهما إلى أن ينيل الثالث فيتمادى النيل فيها كلها إلى أن ينيل الرابع هكذا وإن كثرت فإنه يضيفها كلها لاتصال النيل فيها. ولو أنال الأول فتمادى النيل فيه إلى أن أنال الثاني، ثم انقطع نيل الأول وتمادى نيل الثاني إلى أن أنال الثالث، فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني والثاني إلى الثالث، ولا يضيف الأول إلى الثالث. ولو أنال الأول فتمادى النيل فيه إلى أن أنال الثاني فتمادى نيل الثاني مع الأول مدة ثم انقطع نيل الثاني وتمادى نيل الأول إلى أن أنال الثالث فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني

فصل في زكاة الديون

والثالث لاتصال نيله بهما جميعا، ولا يضيف الثاني إلى الثالث لانقطاع الثاني قبل أن ينيل الثالث. وعودة نيل أحدهما بعينه بعد انقطاعه كابتداء نيل أحدهما بعد انقطاع نيل صاحبه في القياس سواء. فقس على هذا تصب إن شاء الله تعالى. فصل في زكاة الديون الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة. فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه. وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة. والثاني أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد، فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير. وقال ابن الماجشون والمغيرة إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين: أحدهما أنه يزكيه لما مضى من الأعوام، والثاني أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك. والثالث أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية، فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض. وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه. وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم.

والرابع أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني، وإن كان قبضه قبل استيفاء العمل مثل أن يؤاجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يزكي إذا حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا، لأنه قد بقيت في يده منذ قبضها حولا كاملا، ثم يزكي كلما مضى به من المدة شيء له بال ما يجب له من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام. وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه. والثاني أنه يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار، وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس القول الأول. والثالث أنه لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين، لأن ما ينوبها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء، فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها. وأما الدين من الغصب ففيه من المذهب قولان: أحدهما وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القرض. والثاني أنه يستقبل به حولا مستأنفا من يوم يقبضه كدين الفائدة. وقد قيل إنه يزكيه للأعوام الماضية، وبذلك كتب عمر ابن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما، ثم عقب بعد ذلك بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة لا أنه كان ضمارا. وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين. واختلف هل يقومه المدير أم لا، فقيل إنه يقومه، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل إنه لا يقومه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر، لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة.

فصل

وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، كما يقوم المدير عروض التجارة. ولا يزكيها غير المدير حتى يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام. وإذا قبض من الدين أقل من نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب فلا زكاة عليه حتى يقبض تمام النصاب أو يبيع بتمامه. فإذا كمل عنده تمام النصاب زكى جميعه، كان ما قبض أولا قائما بيده أو كان قد أنفقه. واختلف إن كان تلف من غير سببه، فقال محمد بن المواز لا ضمان عليه فيه لأنه بمنزلة مال تلف بعد حلول الحول عليه من غير تفريط. فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي نظرها بها تسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب. وعلى قول محمد بن الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه وإن كان أقل من نصاب، وهو الأظهر، لأن المساكين تنزلوا معه بمنزلة الشركاء، فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم، وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر. وقال ابن القاسم وأشهب يزكي الجميع. وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه الزكاة لضمنه. وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون النصاب، كما لا يضمن النصاب. وقول ابن المواز أظهر، لأن مادون النصاب لا زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب. ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة لقول من يوجب الزكاة في الدين وإن لم يقبض، فهو استحسان. فصل وإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه، وكلما حال الحول على فائدة أفادها أنفقها، فمذهب أشهب في ذلك أن يضيف كل ما اقتضى من الدين وكل ما حال عليه الحول من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين وأنفقه وإلى ما كان حال عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه. وأما ابن القاسم فمذهبه أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها، ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى ما أنفقه من الدين بعد

فصل في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات والهبات المبتولة

اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها. مثال ذلك أن يقتضي من دين له خمسة دنانير فينفقها وله فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير، فينفقها بعد حلول الحول عليها، ثم يقبض من دينه عشرة فإنه يزكيها مع العشرة الفائدة التي أنفقها، ولا يزكي الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي منه خمسة وبالله التوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات والهبات المبتولة الأحباس الموقوفة تنقسم في الزكاة على قسمين: أحدهما ما تجب فيه الزكاة في غلته ولا تجب في عينه، والثاني ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته [لأنها فائدة إلا بما تجب به الزكاة في الفوائد فأما ما تجب الزكاة في غلته] ولا تجب في عينه، وذلك حوائط النخيل والأعناب، فإن كانت محبسة موقوفة على غير معينين مثل المساكين وبني زهرة وبني تميم فلا خلاف أن ثمرتها مزكاة على ملك المحبس، وأن الزكاة تجب في ثمرتها إذا بلغت جملتها ما تجب فيه الزكاة، وكذلك إن أثمرت في حياة المحبس وله حوائط لم يحبسها فاجتمع في جميع ذلك ما تجب فيه الزكاة. واختلف إن كانت محبسه على معينين، فقال ابن القاسم في المدونة إنها أيضا مزكاة على ملك المحبس. وفي كتاب ابن المواز أنها مزكاة على ملك المحبس عليهم. فمن بلغت حصته منهم ما تجب فيه الزكاة زكى عليه، ومن لم تبلغ حصته منهم ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه زكاة. وقول ابن القاسم هذا على أصل قوله في كتاب الحبس إن من مات من المحبس عليه قبل طيب الثمرة لم يورث عنه نصيبه منها ورجع على أصحابه. وما في كتاب ابن المواز على أصل قول أشهب في كتاب الحبس المذكور أن من مات من المحبس عليهم بعد أن بلغت الثمرة حد إبارها فحقه واجب لورثته.

فصل

فصل واختلف إن كان الحبس على ولد فلان هل يحمل ذلك محمل التعيين أم لا على قولين قائمين من المدونة في الوصايا وفي غيرها. فصل وأما ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته إلا بما تجب به الزكاة في الفوائد، وذلك المواشي من الإبل والبقر والغنم والعين من الدنانير والدراهم وأتبارهما. فإذا كان ذلك محبسا موقوفا للانتفاع بغلته في وجه من وجوه البر فلا اختلاف أن الزكاة تجب في جميع ذلك كل سنة على ملك المحبس كانت موقوفة لمعينين أو في المساكين وابن السبيل. فصل والحكم في زكاة أولاد هذه الماشية المحبسة الموقوفة إن كانت وقفت للانتفاع بنسلها وغلتها كالحكم في زكاة ثمار الحوائط المحبسة الموقوفة تزكى مع الأمهات على حولها وملك المحبس لها إن كانت محبسة على قوم غير معينين قولا واحدا، وكذلك إن كانت محبسة على قوم معينين على ما في المدونة، وأما على ما في كتاب ابن المواز فتزكى على ملك المحبس عليهم إذا حال الحول على ما بيد كل واحد منهم من يوم الولادة وفيه ما تجب فيه الزكاة. فصل واختلف إن كانت الماشية من الإبل والبقر والعين من الدنانير والدراهم ووقفت لتفرق في المساكين وابن السبيل لا ينتفع بغلتها، فحال عليها الحول قبل أن تفرق، في المدونة إنه لا زكاة في شيء من ذلك لأنه يفرق ولا يمسك، ولم يعط فيها جوابا إن كانت تفرق على معينين. والذي يأتي على مذهب ابن القاسم فيها أن الدنانير لا زكاة فيها كانت تفرق على المساكين أو على معينين. ومثله في كتاب ابن

فصل

المواز. وأما الماشية فينبغي على مذهبه في المدونة إذا كانت تفرق على معينين أن يزكي كل من صار في حظه منهم ما تجب فيه الزكاة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز نصا أنه إن كانت تفرق على المساكين فلا زكاة فيها، وإن كانت تفرق على معينين فيزكي كل من صار في حظه منهم ما تجب فيه الزكاة. ويلزم مثله في الدنانير على مذهب من يرى على من ورث دنانير غائبة زكاتها إذا حال الحول عليها وإن لم يقبضها، لأن الفرق بين الماشية والعين في المعينين أن من أوصي له بنصاب من العين أو أفاده بوجه من الوجوه فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه، ومن أوصي له بنصاب من الماشية تجب عليه فيه الزكاة بحلول الحول قبضه أو لم يقبضه. وفي كتاب محمد أن الزكاة تجب في جملة الماشية إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ من وجب في حظه منهم الزكاة إن كانت تفرق على معينين. فرآها على هذا القول مزكاة على ملك واهبها أو الموصي بها إن كانت تفرق على غير معينين، وعلى أملاك الذين تفرق عليهم إن كانوا معينين. ويلزم بالقياس مثله في الدنانير. ووقع في كتاب محمد أيضا ما ظاهره أن الماشية لا زكاة فيها وإن كانت تفرق على معينين يصير في حظ كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة، وهذا لا وجه له في النظر، إذ لم يختلف في أن من أفاد ماشية تجب عليه الزكاة بحلول الحول وإن لم يقبضها. فصل فعلى هذا يأتي في الماشية الموقفة للتفرقة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا زكاة فيها إن كانت تفرق على غير معينين، وأن الزكاة في حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين، وهو نص قول أشهب في كتاب ابن المواز ومعنى ما في المدونة. والثاني أن الزكاة تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين، وهو قول ابن القاسم في كتاب المواز. والثالث ألا زكاة فيها كانت تفرق على معينين أو على غير معينين، وهذا أبعد الأقاويل على ما ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، وهي على التفصيل قولان في كل طرف إن كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها وقيل إن فيها الزكاة على ملك المحبس

فصل

لها، وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا زكاة فيها وقيل إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم. فصل وأولاد هذه الماشية إذا سكت عنها تبع لها في الزكاة تزكى معها في الموضع الذي تزكى فيه على ما تقدم من الاختلاف. وأما إن كانت تفرق على غير من تفرق عليه الأمهات فالحكم في زكاتها على ما تقدم في أولاد الماشية المحبسة الموقوفة قبل هذا. فصل وفي العين ثلاثة أقوال أيضا: أحدها أن الزكاة لا تجب فيه كان يفرق على معينين أو على غير معينين، وهو نص ما في كتاب ابن المواز ومعنى ما في المدونة. والثاني أن الزكاة لا تجب فيه إن كان يفرق على غير معينين وأنها تجب في حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وهذا القول خرجناه على مذهب من يرى في فائدة العين الزكاة بحلول الحول عليه قبل القبض. والثالث أن الزكاة تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وهذا القول خرجناه بالقياس على ما في كتاب محمد بن المواز على ما ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، ويأتي على التفصيل قولان في كل طرف إن كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل إنها تزكى جملتها على ملك المحبس لها. وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم إن بلغت حصة كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة. فصل وأما زكاة الثمرة المتصدق بها والموهوبة المبتولة لعام واحد أو لأعوام معلومة مسماة، فإن كانت على المساكين فلا اختلاف أنها مزكاة على ملك واهبها أو المتصدق بها إن كان في جملتها ما تجب فيه الزكاة، أو لم يكن فيها ما تجب فيه الزكاة إلا أنه إذا أضافه إلى ما بقي في ملكه وجبت فيه الزكاة. وأما إن كانت على

فصل في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول الحول عليه وما يتعلق بذلك

معينين فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها مزكاة على ملك الواهب لها أيضا، وهو مذهب سحنون، ولا تخرج الزكاة منها على قوله إلا بعد يمين الواهب أنه لم يرد تحمل الزكاة في ماله. والثاني أنها مزكاة على ملك الموهوب لهم والمتصدق عليهم أو المعرين، فمن كان منهم في حظه ما تجب فيه الزكاة وجبت عليه الزكاة، ومن لم يكن في حظه من ذلك ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه الزكاة. والثالث الفرق بين الهبة والصدقة والعرية في أن الهبة والصدقة تزكى على ملك الموهوب لهم أو المتصدق عليهم، وإن زكاة العرية على المعري في ماله لا من العرية. وقد قيل إن العرية تؤخذ الزكاة منها على ملك المعري لا على ملك المعرى. فإن كان أعرى جماعة خمسة أوسق أو أقل من خمسة أوسق وفيما أبقى لنفسه تمام خمسة أوسق أخذت منها الصدقة. فصل ففي زكاة العرية على هذا قولان: أحدهما أنها على المعري في ماله. والثاني أنها لا تجب إلا في ثمرة العرية. فإذا قلنا إنها لا تجب إلا في ثمرة العرية فهل تؤخذ منها على ملك المعري أو على ملك المعرين، في ذلك قولان، وبالله التوفيق. فصل في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول الحول عليه وما يتعلق بذلك من ضمان زكاة ما تلف منه قبل الحول أو بعده بقرب ذلك أو أبعد منه اختلف فيمن أخرج زكاة ماله قبل حلول الحول عليه على قولين: أحدهما أن ذلك لا يجزئه، وهي رواية أشهب عن مالك. والثاني أنها تجزئة إذا كان بقرب ذلك. واختلف في حد القرب على أربعة أقوال: أحدها أنه اليوم واليومان ونحو ذلك، وهو قول ابن المواز. والثاني أنه العشرة الأيام ونحوها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثالث أنه الشهر ونحوه وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. والرابع أنه الشهران فما دونهما وهي رواية ابن زياد عن مالك.

فصل

فصل فما أنفق الرجل من ماله قبل الحول بيسير أو كثير أو تلف منه فلا زكاة عليه فيه، ويزكي الباقي إذا حال عليه الحول وفيه ما تجب فيه الزكاة. وكذلك إن أخرج زكاة ماله قبل الحول بيسير أو كثير فتلفت أو أخرجها فنفذها في الوقت الذي لا يجوز له تنفيذها فيه يزكي الباقي إن كان بقي منه ما تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول. وأما إن أخرجها فنفذها في الوقت الذي يجوز له إخراجها فيه من القرب على الاختلاف الذي ذكرناه على مذهب من يجيز له إخراج الزكاة قبل الحول بيسير فإنها تجزئه. فصل وأما ما أنفق من ماله الذي تجب فيه الزكاة بعد الحول بيسير أو كثير أو تلف منه بعد الحول بكثير فالزكاة عليه فيه واجبة مع ما بقي له من ماله. واختلف فيما تلف منه بعد الحول بيسير، قال في كتاب ابن المواز: مثل اليوم وشبهه، فذهب مالك إلى أنه بمنزلة ما ذهب قبل الحول لا يحسبه لأنه لم يفرط، ويزكي الباقي إن كان ما تجب فيه الزكاة. وقال ابن الجهم: يزكي الباقي وإن لم يكن ما تجب فيه الزكاة، لأن المساكين نزلوا معه بعد الحول بمنزلة الشركاء، فما ضاع منه أو تلف بقرب الحول فمصيبته منه ومنهم. وأما إن أخرج زكاته بعد الحول ليفرقها فتلفت، فإن كان بعد محلها بالأيام اليسيرة فإنه يضمنها، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو مفسر لما في المدونة، ولو كان بقرب الحول قبل أن يفرط. قال محمد بمثل اليوم وشبهه، فسرقت أو بعث بها إلى من يفرقها فسقطت فلا ضمان عليه، قاله مالك في رواية ابن نافع عنه في المجموعة. ولو بعث بصدقة حرثه أو ماشيته مع رسول لضمن، إذ الشأن فيها مجيء المصدق. ولو عزل صدقة العين من صندوقه فوضعها في ناحية بيته فذهبت لضمن، إذ لم يخرجها ما كانت في بيته، بخلاف الماشية إذا أخرجها فانتظر الساعي بها. وقد وقع في مسائل هذا الباب في المدونة التباس. والذي يتحصل عندي

منها أن الطعام إن ضاع جميعه في الأندر في عمله فلا ضمان عليه إذ لم يفرط. واختلف قول مالك إذا أدخله في منزله ثم تلف ولم يفرط، إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله ولم يمكنه دفعه للمساكين قبل أن يدخله منزله، أو بأنه ليس إليه تفريقه فانتظر مجيء الساعي، وإن طال انتظاره، فمرة فرق بينه وبين الدنانير ورآه ضامنا، ومرة لم يوجب عليه الضمان بمنزلة الدنانير. وكذلك إذا عزل العشر ليفرقه إن كان إليه تفريقه أو لينتظر به الساعي إن لم يكن إليه تفريقه فضاع بعد أن أدخله منزله ولم يفرط، إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله إن كان إليه تفريقه، وإما بأنه لم يكن إليه دفعه فانتظر مجيء الساعي فضاع بالقرب أو بالبعد، اختلف قول مالك في ذلك أيضا كاختلافه في المسألة الأولى، فمرة حمله محمل العين، ومرة رآه بخلاف ذلك. وقال ابن القاسم إن كان أشهد ولم يكن إليه تفريقه فلا ضمان عليه وإن تأخر عنه الساعي. وسواء على مذهب ابن القاسم ضاع العشر الذي عزله وأدخله منزله أو ضاع جميع الطعام وقد أدخله منزله ولم يعزل منه شيئا لا ضمان عليه في الوجهين جميعا ما أقام منتظرا الساعي إذا أشهد. وقول ابن القاسم خلاف قول مالك جميعا في هذا الطرف. وانظر على مذهب ابن القاسم إذا كان ممن لا يسعى عليه الساعي وكانت تفرقة زكاته إليه إن أدخل جميع الطعام أو عشره معزولا منزله فضاع بالقرب من غير تفريط هل هو عنده بمنزلة العين ويسقط عند الضمان أو هو عنده بخلاف العين ويكون ضامنا إلا أن يشهد. والأظهر عندي من مذهبه أنه لا ضمان عليه دان لم يشهد. وقول المخزومي في الباب مثل أحد قولي مالك إنه لا ضمان عليه وإن لم يشهد لأنه غير مفرط في انتظار الساعي وليس عليه أكثر مما صنع. وكذلك على مذهبه إن كان ممن إليه تفرقة زكاته فضاع بعد أن أدخله منزله بالقرب من غير تفريط. وأما إذا ضيع أو فرط حتى تلف فهو ضامن باتفاق، سواء أدخله منزله أو لم يدخله، ضاع جميعه أو عشره، معزولا كان أو لا، كان إليه تفريقه أو كان ممن يسعى عليه الساعي. وأشهب يفرق إذا عزل عشره فضاع من غير تفريط بين أن يكون إليه تفرقة زكاته أو إلى الساعي، فرأى أنه إذا كان إليه تفريق زكاته فلا ضمان عليه بمنزلة المال العين، وإذا كان إلى الساعي فهو بينهما جميعا وله أخذ

عشر الباقي، كأنه يرى أنه لا يجوز مقاسمته على الساعي. قال أبو إسحاق التونسي من رأيه: أما إذا أدخله بيته على أنه ضامن للزكاة وأراد التصرف في ماله فهذا بين أنه ضامن إذا ضاع وعليه الزكاة، وأما لو خشي عليه في الأندر فأدخله في بيته على باب الحرز له فضاع لم يضمن شيئا. وهذا الذي قال أبو إسحاق كلام صحيح لا يصح أن يختلف فيه، وإنما الاختلاف إذا لم يعلم على أي الوجهين أدخله منزله، فمرة حمله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على الضمان فضمنه ولم يصدقه أنه فعل ذلك على النظر وأنه أراد حرزه بإدخاله منزله، ومرة صدقه بأن فعله إنما كان منه على النظر وأنه أراد الحرز فصار الطعام عنده على وجه الأمانة فأسقط عنه الضمان. هذا الذي أعتقده في هذه المسألة، وهي في الكتاب مشكلة، حضرت المناظرة فيها عند شيخنا الفقيه أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتنازعنا فيها عنده تنازعا شديدا واختلفنا في تأويل وجوهها اختلافا بعيدا، فطال الكلام وكثر المراء والجدال ولم أقف على اعتقاد الشيخ رحمة الله عليه ورضوانه في جميع فروع المسألة وهذا الذي كتبته هو اعتقادي في هذا الباب والله أسأله العون والتوفيق بعزته لا شريك له.

كتاب الزكاة الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كتاب الزكاة الثاني فصل في القول في زكاة القراض أجمع أهل العلم فيما علمت أن رأس مال القراض وحصة رب المال من الربح مزكى على ملك رب المال. وأما حصة العامل من الربح فتتخرج على ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها أنها تزكى على ملك رب المال دون الاعتبار بملك العامل. والثاني أنها تزكى على ملك العامل دون الاعتبار بملك رب المال. والثالث أنها تزكى على ملكهما جميعا. فصل فالقول في زكاة مال القراض يرجع إلى أربعة فصول: أحدها معرفة ما تجب به الزكاة على رب المال في رأس المال وحصته من الربح، أو في رأس المال وجميع الربح على مذهب من يرى حظ العامل من الربح مزكى على ملك رب المال، وهو مذهب سحنون وقول أشهب وروايته عن مالك واختيار محمد بن المواز. والثاني معرفة ما تجب به الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأن حظه مزكى على ملكه. والثالث معرفة ما تجب به الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكهما جميعا. والرابع معرفة وقت وجوب إخراجها.

فصل

فصل فأما ما تجب به الزكاة على رب المال في رأس المال وحصته من الربح أو في رأس المال وجميع الربح على مذهب من يرى حظ العامل من الربح مزكى على ملك رب المال وهو قول أشهب وروايته عن مالك ومذهب سحنون حسبما ذكرناه فخمس شرائط في حقه، وهي الإسلام، والحرية، وعدم الدين، والنصاب في رأس المال وحصة رب المال من الربح أو في رأس المال وجميع الربح على المذهب المذكور أو ذلك مع مال إن كان له مال سواه قد أفاده قبله أو معه معا مما لم يدفعه إلى العامل، وحلول الحول على رأس المال من يوم أفاده. فصل وتجب الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكه بخمس شرائط أيضا في حقه، وهي الإسلام، والحرية، وعدم الدين، والنصاب في حظه من الربح أو في حظه منه مع مال سواه وإن كان له مال قد أفاده قبل أخذه المال، وحلول الحول عليه من يوم أخذه وإن لم يعمل فيه إلا قبل الحول بيسير. فصل وتجب الزكاة عليه في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكهما جميعا بعشرة أوصاف، وهي: أن يكونا مسلمين، وأن يكونا حرين، وأن لا يكون على واحد منهما دين، والسابع أن يكون في رأس المال وحصة رب المال من الربح أو في رأس المال وحصته من الربح مع مال لرب المال سواه إن. كان له مال سواه قد أفاده قبله أو معه معا مما تجب فيه الزكاة. والثامن أن يكون في حظ العامل

فصل

من الربح أو في حظه منه مع مال سواه إن كان له مال قد أفاده قبله ما تجب فيه الزكاة. والتاسع أن يحيل الحول على رب المال من يوم ملك النصاب الموصوف. والعاشر أن يحول الحول على العامل من يوم أخذ المال وإن لم يعمل فيه إلا قبل الحول بيسير. فصل فهذه الثلاثة الأقوال مطردة راجعة إلى أصل وجارية على قياس. وأما ابن القاسم فلا يرجع مذهبه في زكاة حظ العامل من ربح القراض إلى أصل ولا يجري على قياس، لأنه اعتبر في بعض الشرائط المشترطة في وجوب الزكاة في ذلك ملكهما جميعا، واضطرب في بعضها قوله فلا هو راعى فيه ملكهما جميعا ولا ملك أحدهما بانفراده على صحة ما سنذكره ونبينه إن شاء الله تعالى. فصل فالذي اعتبر فيه ملكهما جميعا الإسلام، والحرية، وعدم الدين، لم يختلف قوله فيما علمت أن العامل لا يلزمه زكاة الربح إلا أن يكونا حرين مسلمين وأن لا يكون على واحد منهما دين. والذي اضطرب فيه قوله النصاب، والحول. فأما النصاب فله فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح دون ما بيده مما لم يدفعه إلى العامل المقارض، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه من الربح الزكاة قليلا كان أو كثيرا. هذا قول ابن القاسم في المدونة ومذهبه المشهور المعلوم، فلا هو اعتبر في هذا القول ملك العامل إذا وجبت عليه في حظه الزكاة وإن كان أقل من نصاب، ولا ملك رب المال إذا لم يضف رأس المال وحظه من الربح إلى ما بيده من غير مال القراض، فهو استحسان على غير قياس. فصل واختلف على هذا القول إذا أخذ من العامل قبل تمام الحول بعض رأس المال وأبقى بيده بعضه ففاصله فيه بعد الحول، فقيل إن رب المال إن صار له في

فصل

بقية رأس ماله وجميع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة وإن لم يبلغ النصاب، وإن لم يصر لرب المال في بقية رأس ماله وجميع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة لم يجب على العامل في حظه الزكاة، ويضيف رب المال ما قبض من العامل بعد الحول إلى ما قبض منه قبل الحول إن كان باقيا بيده فيزكيه إن كان فيه باجتماعه ما تجب فيه الزكاة. هذه رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وله في المجموعة مثله. فصل وكذلك لو قبض منه قبل الحول جميع رأس ماله وبقي الربح بيده إلى أن حال عليه الحول فصار لرب المال منه ما تجب فيه الزكاة يزكي العامل ما صار له منه وإن قل، وإن لم يصر لرب المال منه ما تجب فيه الزكاة سقطت الزكاة عن العامل في حظه من الربح، وأضاف رب المال ما صار له منه إلى رأس المال الذي قبضه قبل حلول الحول فزكاه إن كان بيده وكان فيه ما تجب فيه الزكاة. وذهب محمد بن المواز فيما تأول عن ابن القاسم أنه إن قبض جميع رأس المال قبل الحول فلا زكاة على العامل في حظه من الربح وإن صار لرب المال في حظه الذي قبض منه بعد الحول ما تجب فيه الزكاة، وأنه إن قبض منه بعض رأس المال قبل الحول وأبقى بيده بعضه حتى حال عليه الحول فصار له في بقية رأس ماله وحصته ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة. وإن لم يصر له في ذلك ما تجب فيه الزكاة ولا بقي له من المال الذي قبض قبل الحول ما يتم به النصاب لم تجب على العامل في حظه الزكاة لسقوط الزكاة عن رب المال. وإن كان قد بقي بيده مما قبض قبل الحول تتمة النصاب زكى ذلك وزكى العامل من ربحه ما ينوب منه ما بقي بيده من رأس المال إلى أن حال عليه الحول، وهذا تناقض. فصل والثاني أنه يعتبر، أعني النصاب، في رأس المال وجميع الربح، وهي رواية أصبغ عنه، فلا هو اعتبر أيضا في هذا القول ملك العامل إذ أوجب عليه في حظه

فصل

الزكاة إن لم يبلغ النصاب، ولا ملك رب المال إذ لم يضف رأس المال والربح إذا لم يكن فيه نصاب إلى ما بيده مما لم يدفعه إلى العامل في إيجاب الزكاة على العامل في حظه من الربح، وإنما أضافه إليه في إيجاب الزكاة عليه في رأس ماله وحصته من الربح، فهو أيضا استحسان جار على غير أصل ولا قياس. فصل والقول الثالث أن الزكاة لا تجب على العامل في حظه من الربح إلا بأن يكون فيه ما تجب فيه الزكاة، وبأن يكون أيضا في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة. وهذا القول تأوله محمد بن المواز عن ابن القاسم ولا يوجد له نصا ولو وجد لكان أيضا استحسانا على غير قياس ولا أصل، إذ لم يعتبر في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراده ولا ملكهما جميعا كما فعل في الحرية والإسلام وعدم الدين، إذ اقتصر في اعتبار النصاب على رأس المال وحصة رب المال من الربح دون أن يضيف إلى ذلك [ما لرب المال من غير مال القراض وعلى حصة العامل من الربح دون أن يضيف إلى ذلك]، ما له من مال قد حال عليه الحول فيتم به النصاب. فصل - وأما الحول فله فيه قولان: أحدهما أن العامل لا تجب عليه في حظه من الربح الزكاة حتى يقيم المال بيده حولا من يوم أخذه وإن لم يعمل به إلا قبل أن يحول عليه الحول بيسير. هذا نص قوله في الزكاة من المدونة، وله في القراض منها دليل على أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح وإن لم يقم المال بيده حولا إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وحال عليه الحول. وإلى هذا ذهب ابن المواز، وعليه حمل قول مالك. والقول الأول هو أجرى على أصله وأظهر من مذهبه.

فصل

فصل فتحصيل مذهب ابن القاسم على ما حكيناه من أقواله ووصفناه من مذاهبه وآرائه أن الزكاة تجب على العامل في حظه من الربح بخمسة أوصاف، الثلاثة منها لم يختلف قوله في وجوب اشتراطها ولا في وجه اعتبارها، وهي أن يكونا جميعا حرين، وأن يكونا جميعا مسلمين، وأن لا يكون على واحد منهما دين. والاثنان وهما النصاب، والحول لم يختلف قوله في وجوب اشتراطهما، واختلف قوله في وجه اعتبارهما. فصل فأما النصاب فله في وجه اعتباره ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعتبر في رأس المال وحصة رب المال من الربح خاصة، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت الزكاة على العامل في حظه من الربح وإلا فلا، وهو قول ابن القاسم في المدونة والمشهور المعروف من مذهبه. والثاني أنه يعتبر في رأس مال رب المال وجميع الربح، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة وإلا فلا، وهي رواية أصبغ عنه في العتبية. والثالث أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح وفي حظ العامل من الربح، فإن كان في كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة وجبت الزكاة على العامل في حظه من الربح وإلا فلا. وأما الحول فله في وجه اعتباره قولان: أحدهما أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح دون عمل العامل. والثاني أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح وفي عمل العامل، فلا تجب الزكاة على العامل في حظه من الربح حتى يحول الحول على المال الذي بيد العامل من يوم أخذه لأنه إذا حال الحول على المال بيد العامل فقد حال على رب المال. فصل ويلزم ابن القاسم كما اشترط في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح إسلامهما جميعا، وحريتهما جميعا، وأن لا يكون على واحد منهما دين، أن

فصل

يشترط في ذلك مرور الحول على رب المال وعلى العامل، وذلك قوله في كتاب الزكاة من المدونة، لأن الحول إذا حال على العامل من يوم أخذ المال فقد حال على رب المال. وأن يعتبر النصاب. في رأس مال رب المال وحصته من الربح مع مال إن كان له مال قد أفاده قبله أو معه معا، وهذا ما لا يوجد لابن القاسم ولا يعرف من مذهبه. [وأن يعتبر أيضا النصاب في حصة العامل من الربح مع مال سواه إن كان له مال قد حال عليه الحول وهذا أيضا ما لا يوجد له ولا يعرف من مذهبه]، فلو قال بهذين الوصفين في اعتبار النصاب في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح لاستقام مذهبه على أن زكاة ربح العامل في القراض مزكى على ملكهما جميعا. فصل وأما الفصل الرابع وهو معرفة وقت وجوب إخراجها فيفتقر بيان ذلك إلى تقسيم، وذلك أن العامل لا يخلو أن يكون غائبا عن صاحب المال لا يعلم حال ما في يديه، أو حاضرا معه يعلم حال ما في يديه من مال القراض. فأما إن كان غائبا عنه فلا اختلاف في أنه لا زكاة عليه في ماله الذي بيده حتى يرجع إليه ويعلم أمره، فإن رجع إليه بعد أعوام زكاه للسنين الماضية على ما سنبينه إن شاء الله من حكم المدير وغير المدير. وأما إن كان حاضرا معه يعلم حال ماله بيده فلا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن يكونا جميعا مديرين. والثاني أن يكون رب المال مديرا والعامل غير مدير. والثالث أن يكون رب المال غير مدير والعامل مديرا. والرابع أن يكونا جميعا غير مديرين. فأما إن كانا جميعا مديرين أو كان رب المال غير مدير والعامل مديرا، والذي بيده الأكثر أو الأقل على قول من يقول إن المالين إذا كان يدار أحدهما فإنه يزكى المدار على سنة الإدارة كان الأقل أو الأكثر، أو كان رب المال مديرا والعامل غير مدير والذي بيده من مال الإدارة أو من غير مال الإدارة وهو

فصل

الأقل فلا زكاة عليه حتى ينض المال ويتفاصلا وإن أقام المال بيده أحوالا. كذا روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب القراض، ومثله في كتاب القراض من المدونة وفي الواضحة، وهو ظاهر ما في سماع عيسى من كتاب القراض. فإذا رجع إليه ماله بعد أعوام زكى لكل سنة قيمة ما كان بيده من المتاع. فإن كان قيمة ما كان بيده في أول سنة مائة وفي السنة الثانية مائتين وفي الثالثة ثلاثمائة زكى لأول سنة مائة، وللسنة الثانية مائتين، وللسنة الثالثة ثلاثمائة، إلا ما تنقصه الزكاة. واختلف إن كانت قيمة ما بيده في أول سنة ثلاثمائة وفي السنة الثانية مائتين وفي السنة الثالثة مائة فقيل يزكي لكل سنة ما كان بيده، وهو ظاهر ما في كتاب القراض من المدونة، إذ قال يزكي لكل سنة ما كان بيده ولم يفرق. وقيل يزكي مائة لكل سنة، وهذا يأتي على ما في الواضحة لعبد الملك في المال الغائب عن صاحبه إذا تلف بعد أعوام أنه لا زكاة عليه فيه، وقيل إنه هو الذي تدل عليه الروايات كلها إذ لا معنى لتأخير الزكاة إلى حين المفاصلة مع حضور المال إلا مخافة النقصان. فصل وأما إن كانا غير مديرين أو كان العامل غير مدير والذي في يده الأكثر مديرا فلا زكاة على رب المال فيما بيد العامل من مال القراض حتى يرجع إليه، فإن رجع إليه بعد أعوام زكاه لعام واحد إن كان في سلع. وهذا على قياس قول ابن دينار في العتبية في المالين يدار أحدهما أنه إن كان الذي يدار هو الأكثر زكيا جميعا على الإدارة، وإن كان الذي يدار هو الأقل زكي كل مال منهما على سنته. وأما إن كان رب المال مديرا والعامل غير مدير والذي بيده الأقل فإن رب المال يقوم كل سنة ما بيد العامل فيزكيه من ماله لا من مال القراض، قيل جميع المال بربحه كله، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل رأس المال وحصته من الربح خاصة لا حصة العامل، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وكذلك إذا كان الذي بيد العامل الأكثر على ما ذهب إليه ابن لبابة تأويلا على ما في المدونة من أن المالين إن كان يدار أحدهما فإنهما يزكيان جميعا على الإدارة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.

فصل في زكاة الماشية

فصل في زكاة الماشية قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فأجمع أهل العلم على أن المواشي من الإبل والبقر والغنم من الأموال التي تجب في أعيانها الزكاة، إلا أنهم اختلفوا هل ذلك في جميعها أو في السائمة منها خاصة، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن الزكاة في جميعها سائمة كانت أو غير سائمة، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى في قولهما إن الزكاة لا تجب في غير السائمة. فصل ولا تجب الزكاة عند مالك وجميع أصحابه في شيء من الحيوان سوى الإبل والبقر والغنم، خلافا لأهل العراق في قولهم إن الزكاة تجب في الخيل السائمة إذا كانت ذكورا وإناثا متخذة للنسل. والدليل لما ذهب إليه مالك عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة»، وما روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق». ومن جهة المعنى والقياس أنه لما أجمع أهل العلم في البغال والحمير على أنه لا زكاة فيهما وإن كانت سائمة وأجمعوا في الإبل والبقر والغنم على الزكاة فيها إذا كانت سائمة، واختلفوا في الخيل السائمة وجب ردها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل والبقر والغنم لأنها بها أشبه، لأنها ذات حافر كما أنها ذوات حوافر، وذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخف والظلف، ولأن الله تبارك وتعالى قد جمع بينهما فجعل الخيل والبغال والحمير صنفا واحدا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فصل

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفا واحدا بقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، وكقوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79]. فصل والعمل في زكاة الإبل والغنم على كتاب عمر الذي ذكره مالك في موطئه أنه قرأه فوجد فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب الصدقات. في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة، وفيما فوق ذلك إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين بنت لبون. وفيما فوق ذلك إلى ستين حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين جذعة، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة حقتان طروقتا الفحل. فما زاد على ذلك ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وفيما فوق ذلك إلى ثلاثمائة ثلاث شياه، فما زاد على ذلك ففي كل مائة شاة ولا يخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا ما شاء المصدق، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. وما كان من خليطين فإنهما يترادان بينهما بالسوية. وفي الرقة إذا بلغت خمس أواق ربع العشر. والعمل في زكاة البقر على ما ثبت من «أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأنه أتي بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال: لم أسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئا حتى ألقاه فأسأله، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يقدم معاذ بن جبل» وهو حديث يدخل في المسند لأنه

توقيف. وفي قوله إنه لم يسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما دون الثلاثين دليل على أنه قد سمع منه في الثلاثين والأربعين. شرح ابن المخاض ما أوفى سنة ودخل في الثانية. وابن اللبون ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة لأن الناقة ترضع فصيلها في العام الأول ثم تحمل في العام الثاني أو تلحق بالحوامل وإن لم تحمل، لأن الناقة لا تحمل في كل عام وإنما تحمل في عام وترضع في آخر، ففصيلها في العام الثاني ابن مخاض لأن أمه أرضعته في العام الأول ثم حملت في العام الثاني فصار ابن مخاض، وفي العام الثالث ابن لبون، لأنها أرضعته في العام الأول وحملت في العام الثاني ووضعت في العام الثالث فصارت ذات لبن فكان ابنها من البطن الأول ابن لبون. والحقة: ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة فاستحقت أن يحمل عليها وأن يطرقها الفحل. والجذعة: ما أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة، وهو أعلى الأسنان المأخوذة في الزكاة. وقوله في سائمة الغنم لا دليل فيه على أن الزكاة لا تجب في غير السائمة لأنها سائمة في طبعها وإن حبست على الرعي فلا يخرجها ذلك عن أن يقع عليها اسم سائمة. وقد قيل في معنى ذلك: إن الحديث خرج على سؤال سائل والأول أولى. وقوله لا يخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا ما شاء المصدق، الرواية فيه المصدق بالكسر. قال أبو عبيد وأنا أراه المصدق بالفتح وهو كما قال، لأنه إن كان دون حقه فلا يجوز له أن يأخذه على حال، وإن كان فوق حقه فلا يجوز له أخذه إلا برضا رب الماشية. فالصواب فيه المصدق بالفتح. وأما التيس المنهي عن إخراجه في الصدقة فقيل هو الذكر من المعز غير المسن الفحيل فلا يجوز للساعي أن يرضى به لأنه أقل من حقه، إذ لا يؤخذ من المعز إلا أنثى على ما قاله ابن حبيب، وهو قوله في المدونة. والتيس هو دون الفحل إنما يعد مع ذوات العوار والهرمة والسخال. وقيل هو الفحل الذي يطرق الغنم كان من الضأن أو المعز،

فصل

فنهى عن أخذه في الصدقة لأنه فوق السن الواجبة له فلا يأخذه إلا برضا رب الماشية. وقوله ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ذهب الشافعي إلى أن النهي في ذلك إنما هو للسعاة، وذهب مالك إلى أن النهي في ذلك إنما هو لأرباب المواشي. والصواب أن النهي على عمومه لهما جميعا، لا يجوز للساعي أن يجمع غنم رجلين إذا لم يكونا خليطين فيزكيهما على الخلطة ليأخذ أكثر من الواجب له، ولا أن يفرق غنم الخليطين فيزكيهما على الانفراد ليأخذ أكثر من الواجب له. وكذلك أرباب الماشية لا يجوز لهم إذا لم يكونوا خلطاء أن يقولوا نحن خلطاء ليؤدوا على الخلطة أقل مما يجب عليهم في الانفراد، ولا يجوز لهم أيضا إذا كانوا خلطاء أن ينكروا الخلطة ليؤدوا على الانفراد أقل مما يجب عليهم على الخلطة، وأما أبو حنيفة الذي لا يقول بالخلطة فيقول المعنى في ذلك أنه لا يجوز للساعي أن يجمع ملك الرجلين فيزكيهما على ملك واحد، مثل أن يكون للرجلين أربعون شاة فيما بينهما، ولا أن يفرق ملك الرجل الواحد فيزكيه على أملاك متفرقة، مثل أن يكون له مائة وعشرون فلا يجوز له أن يجعلها ثلاثة أجزاء أربعين أربعين فيأخذ منها ثلاث شياه. والتراد عنده هو في مثل أن يكون للرجلين مائة شاة وعشرون شاة على الثلث والثلثين فيأخذ منهما الساعي شاتين قبل القسمة، فيكون قد أخذ من غنم صاحب الثلثين شاة وثلثا وإنما عليه شاة، ومن غنم صاحب الثلث ثلثي شاة وعليه شاة، فيرجع صاحبه عليه بثلث شاة. فصل وكتاب عمر هذا أصله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه ثابتة صحاح. من ذلك ما روي عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقات فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض، وساق الحديث بمعناه. وأجمع أهل العلم على ما نص فيه واختلفوا منه في مواضع محتملة للخلاف، منها في المذهب موضع واحد، وهو إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ولم تبلغ مائة وثلاثين، فقال مالك في المشهور عنه: الساعي مخير بين أن يأخذ

فصل

حقتين وبين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز بن أبي حازم، وابن دينار، وإن لم يكن في الإبل إلا السن الواحدة. وقيل إنه إنما يكون مخيرا إذا كانت السنان جميعا في الإبل أو لم يكن فيها واحد منها. وقال ابن شهاب: يأخذ ثلاث بنات لبون، واختاره ابن القاسم. وقال المغيرة وابن الماجشون: يأخذ حقتين، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه. وهذا الاختلاف جار على ما قاله أهل الأصول في المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة ولم يترجح عنده أحدها هل يأخذ بالحظر أو بالإباحة أو يكون مخيرا. وذهب أهل العراق إلى أنه يرجع فيما زاد من الإبل على مائة وعشرين إلى زكاة الغنم، فيكون في مائة وخمسة وعشرين حقتان وشاة، وفي مائة وثلاثين حقتان وشاتان، وفي مائة وخمسة وثلاثين حقتان وثلاث شياه، وفي مائة وأربعين حقتان وأربع شياه، وفي مائة وخمس وأربعين حقتان وبنت مخاض، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشاة، وفي مائة وستين ثلاث حقاق وشاتان، وكذلك ما زاد إلى مائتين فيكون فيها أربع حقاق. فصل وأما زكاة الغنم فلا اختلاف فيها في المذهب، إذ ليس في كتاب عمر منها موضع محتمل للخلاف. وقد اختلف في غير المذهب فيما زاد على المائتين، فقل فيها شاتان حتى تبلغ مائتين وثلاثين فيكون فيها ثلاث شياه، حكى الداروردي هذا القول ولا وجه له وأراه غلطا. وقيل شاتان حتى تبلغ مائتين وأربعين فيكون فيها ثلاث شياه، ثم كذلك فيما زاد على كل مائة. وقيل إنه كما يجب في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه فكذلك يجب في ثلاثمائة شاة وشاة أربع شياه، وفي أربعمائة شاة وشاة خمس شياه، وفي خمسمائة شاة وشاة ست شياه، ثم كذلك فيما زاد على كل مائة. وهذان القولان جاريان على أصل، وأما ما حكاه الداروردي فلا وجه له على ما ذكرناه. فصل وكذلك زكاة البقر لا اختلاف فيها في المذهب، إذ ليس في حديث معاذ ابن

فصل

جبل فيها موضع محتمل للخلاف. وقد قيل في غير المذهب إن فيما دون الثلاثين منها في كل خمس شاة قياسا على الإبل، وأن في كل خمس وثلاثين تبيعا وشاة، وأن فيما زاد على الأربعين بحساب المسنة في كل خمس وأربعين مسنة وثمن مسنة، وفي خمسين مسنة وربع مسنة، وكذلك ما زاد إلى ستين فيكون فيها تبيعان. فصل والإبل كلها بجميع أجناسها صنف واحد تجمع في الزكاة. وكذلك البقر كلها بجميع أجناسها الجواميس وغير الجواميس تجمع في الزكاة. وكذلك الغنم كلها بجميع أجناسها ضأنها ومعزها تجمع في الزكاة، ولا اختلاف في هذا أحفظه إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أن الضأن والمعز صنفان لا يجمعان في الزكاة، وأن الذهب والفضة صنفان لا يجمعان في الزكاة. واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] إلى قوله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] إلى قوله {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] قال فلو كان المعز من الضأن لكان البقر من الإبل، إذ لا فرق في ذلك بين التلاوة، وهذا معنى قوله دون نصه. فصل وجاء في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصدقات في بعض الروايات: «فمن سئلها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطها». وروي «عن جرير بن عبد الله البجلي قال جاء ناس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا إن ناسا من المصدقين يأتون فيظلموننا، قال: أرضوا مصدقيكم، قالوا وإن ظلموا قال أرضوا مصدقيكم وإن ظلموا. قال جرير ما صدر عني مصدق بعدها إلا راضيا». فقيل إن ما في كتاب الصدقات ناسخ لما جاء في حديث جرير بدليل أنه المتأخر إذ لم يخرجه إلى عماله حتى قبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل المعنى في ذلك أن يمنعوا إذا لم يخش في منعهم فتنة، ولا

فصل في تحويل الماشية بعضها في بعض

يمنعوا إذا خشي في منعهم فتنة. كقوله للأنصار: «ستصيبكم بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني»، وكقوله لأبي ذر: «وإن ولي عليك حبشي فاسمع له وأطع». وعلى هذا يتأول «حديث عباده بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة» الحديث. وقيل في تخريج الحديثين غير هذا وليس بصحيح. وبالله التوفيق. فصل في تحويل الماشية بعضها في بعض الأموال التي تجب الزكاة في أعيانها بمرور الحول عليها صنفان: عين، وماشية. فأما العين وهو الذهب والورق فالحكم فيه إذا حول بعضه في بعض أن يزكى الثاني على حول الأول باع ذهبا بذهب أو ورقا بورق أو ذهبا بورق أو ورقا بذهب، لأنه كله صنف واحد. وأما الماشية فإنها ثلاثة أصناف: إبل، وبقر، وغنم. فإن باع إبلا بإبل أو بقرا ببقر أو غنما بغنم زكى الثاني على حول الأول ولا خلاف في ذلك أعلمه. واختلف إن باع صنفا بصنف غيره: إبلا ببقر أو بغنم أو بقرا بإبل أو بغنم أو غنما بإبل أو ببقر على قولين: أحدهما أنه يستأنف بالثاني حولا من يوم اشتراه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك قياسا على الماشية تشترى بالدنانير والدراهم أنه يستأنف بها حولا لأنهما صنفان كما أنهما صنفان. والثاني أنه يزكى الثاني على حول الأول، وهو قول مالك في سماع أشهب من كتاب الزكاة وقول أصحاب مالك كلهم حاشا ابن القاسم على ما حكاه ابن حبيب قياسا على الماشية تباع بالعين، لأنه إذا كان العين يزكى على حول الماشية وهو صنف آخر، فأحرى أن تزكى الماشية على حول الماشية وإن كانت صنفا آخر، لأن الماشية بالماشية ما كانت أشبه من العين بالماشية. وقول ابن القاسم أظهر، لأن قياس المثمون على المثمون أولى من قياسه على الثمن. والفرق بين بيع الماشية بالعين

فصل

وبين شرائها بالعين أنه يتهم في بيع الماشية بالعين بالهروب بالزكاة عن الساعي، ولا تهمة عليه في اشتراء الماشية بالعين إذا كانت زكاة العين موكولة إلى أمانته ولم يكن مأخوذا بها. فصل فإذا كان للرجل دنانير فأشترى بها ماشيه إبلا أو بقرا أو غنما فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما أن يكون ما تجب فيه الزكاة. والثاني أن لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة. فأما إن كان ما تجب فيه الزكاة فلا زكاة عليه فيها حتى يحول عليها الحول من يوم اشتراها فيزكيها زكاة السائمة كان اشتراها لقنية أو لتجارة. فصل فإن باعها افترق الأمر فيها بين أن يكون اشتراها للقنية أو للتجارة. فإن كان اشتراها للقنية وباعها قبل أن يخرج من رقابها الزكاة فاختلف في ذلك قول مالك، مرة قال يستقبل بالثمن حولا من يوم باعها، ومرة قال يزكيها إذا حال عليها الحول من يوم ابتاعها. وكان القياس إذا لم يستقبل بالثمن حولا أن يزكيه على حول المال الذي ابتاعها به. وأما إن باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة، فقيل إنه يزكيها إذا حال عليها الحول من يوم زكى رقابها ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك. قال ذلك محمد بن المواز في موضع؛ وقال في موضع آخر: إن اختلاف قول مالك يدخل في ذلك فيستقبل بالثمن حولا على أحد قوليه، ويزكيها إذا حال عليها الحول من يوم أخرج زكاة رقابها على قوله الثاني. وكذلك ذكر ابن حبيب أن اختلاف قول مالك داخل فيها. فصل وإن كان اشتراها للتجارة فباعها قبل أن يخرج من رقابها الزكاة زكاها على حول المال الذي اشتراها به، وإن كان باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة زكاها إذا حال عليها الحول من يوم زكى رقابها، ولا اختلاف في هذا. وقال أبو إسحاق

فصل

التونسي: ينبغي أن يدخل فيها اختلاف قول مالك إذا باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة فيستقبل بثمنها حولا من يوم باعها على أحد قولي مالك. فصل وأما إن كانت الماشية التي باع بالدنانير لا تبلغ ما تجب فيه الزكاة فحكمها حكم العروض، إن كان إشتراها للتجارة وهو مدير قومها، وإن لم يكن مديرا فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها [ويحول الحول عليه من يوم زكى المال الذي اشتراها به وإن كان اشتراها للقنية فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها] ويستقبل بالثمن حولا من يوم باعها. فصل وإذا كانت للرجل ماشية ورثها أو وهبت له ولم يشترها فباعها بدنانير ثم أخذ بها ماشية قبل أن يقبضها أو اشترى بها بعد أن قبضها ماشية أخرى منه أو من غيره من صنفها على مذهب ابن القاسم الذي يفرق في تحويل الماشية بين أن يحولها في صنفها أو غير صنفها. أو من غير صنفها على القول بالمساواة بين الوجهين ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يستقبل بالغنم الثانية حولا في الوجوه كلها، وهو مذهب ابن القاسم. قال في كتاب ابن المواز: وكذلك لو استقاله فيها بعد أن باعها، لأن الإقالة بيع حادث. والثاني أنه يزكيها على حول الأولى، وهو قول ابن الماجشون في كتاب ابن المواز. والثالث أنه يستقبل بها حولا إن اشترى بالثمن من غيره ويزكيها على حول الأولى إن أخذها منه في الثمن أو اشتراها منه به. وهذا القول حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه حاشا ابن القاسم. فصل واختلف قول ابن القاسم إذا استهلك الرجل للرجل غنما فأخذ منه فيها غنما تجب فيها الزكاة، فمرة قال يزكيها على حول المستهلكة ومرة قال يستقبل بها

فصل في القول في زكاة الفطر

حولا. واختلاف قوله هذا إنما يصح عندي إذا كانت قد فاتت بالاستهلاك فوتا يوجب له تضمينه القيمة فيها وأما إذا فاتت أعيانها فلا اختلاف في أنه يستقبل بالغنم التي يأخذها منه في قيمتها الحول. ولو كانت قائمة بيد الغاصب لم تفت بوجه من وجوه الفوت لزكاها على حول الأولى بلا اختلاف، لأن ذلك كالمبادلة سواء، وبالله التوفيق. فصل الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة. والدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال. والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: يا أيها الناس هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. وبقي ما سوى ذلك على العموم. فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية، وكذلك زكاة الفطر عن العبيد على الصحيح من الأقوال، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز. وقد فرق أيضا بين العين وغيره في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض، وقد يحتمل أن يكون صدر عنها الإجماع وبالله التوفيق. فصل في القول في زكاة الفطر اتفق جمهور أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، واختلفوا هل هي واجبة

بالقرآن أو بالسنة، فقيل إنها فرض واجب بالقرآن داخلة في الزكاة التي قرنها الله بالصلاة في محكم التنزيل فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وروي ذلك عن مالك. ودليله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وأخذها منهم» فكان ذلك من قوله وفعله بيانا لمجمل قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أنها زكاة الفطر ثم الغدو إلى المصلى. وقيل إنها سنة واجبة فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي أوجبها. ولا يصح أن يكون معنى فرضها قدرها، لأن في الحديث الصحيح حديث ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير». وعلى تقتضي الوجوب واللزوم، ولا يجوز أن تكون على ههنا بمعنى عن لأن الموجب عليهم غير الموجب عنهم، وقد جمعهم في الحديث [فقال في الموجب عنهم على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين أي عن كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين] وهذا يقتضي أن ما أوجبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينطلق عليه اسم الفرض. وكان سبب فرضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها الدواف التي كانت تدف عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيام الهجرة بالمدينة، فكانوا ينزلون في المسجد ويأوون إليه، فإذا حضر الفطر رجع أهل القرار إلى ما أعد لهم أهلهم من الطعام، ويرجع أهل المسجد إلى غير شيء أعد لهم، ففرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر وأمر بجمعها في المسجد، وكان أكثر ما يؤدون التمر لأنه كان جل عيشهم، فكانوا إذا انصرفوا إلى المسجد جلسوا عليه وأكلوا منه، فما فضل عنهم قسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الفقراء والمساكين وقال: «أغنوهم عن طواف هذا اليوم». وروي هذا القول عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

فصل

ومن أصحابنا من أطلق القول بأنها سنة وقال ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها إنما معناه قدرها ووقتها، لأن الفرض يكون بمعنى التقدير والتوقيت. قال الله عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أي قدرها. وقد تقدم ما دل على ضعف هذا التأويل. وإنما يعزى إسقاط وجوب الفطر إلى ابن علية والأصم. فإن قال من ذهب إلى أنها سنة واجبة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها خطيئة فإنما يرجع ذلك إلى الاختلاف في العبارة على ما ذكرناه. فصل وهي زكاة الرقاب زائدة إلى زكاة الأموال فتجب على الغني والفقير إذا كان له مال يؤديها منه وإن لم يكن له إلا ما يتصدق به عليه منها إذا كان فيه فضل عن قوت يومه. ويستحب له إذا لم يقدر على شيء أن يتسلف ويؤدي، وقيل إنها لا تجب على من تحل له، والأول أظهر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن طواف هذا اليوم». فصل وهي تبع للنفقة عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، فيخرج الرجل زكاة الفطر عن نفسه وزوجه وخادم زوجه ومن في حجره من ولده إن لم يكن لهم مال، وعن أبويه إذا لزمته نفقتهما، وعن عبده وأم ولده ومدبره وعن مكاتبه لأنه عبد بعد، ونفقته على نفسه من ماله كنفقة العبد على نفسه من خراجه، فيؤدي عنه السيد زكاة الفطر من ماله لأنه هو المنفق عليه في الحقيقة، ولا يستطيع أن يأخذها من مال المكاتب لإحرازه ماله عنه بالكتابة. واختلف في المخدم فقيل إن صدقة الفطر على المخدم لأن النفقة عليه، وقيل إن صدقة الفطر على سيده لأن نفقة المخدم عليه كالإجارة على خدمته، فهو كمن أجر عبده بنفقته فالزكاة عليه لا على المستأجر.

فصل

فصل واختلف في نفقة المخدم فقيل إنها على المخدم وقيل إنها على المخدم، وقيل إنها إن كانت الخدمة قليلة فالنفقة على المخدم، وإن كانت الخدمة كثيرة أو حياة المخدم فالنفقة على المخدم الذي له الخدمة. وقيل إن الاختلاف إنما هو في الخدمة الكثيرة، ولا اختلاف في الخدمة اليسيرة أنها على رب العبد المخدم، ذهب إلى ذلك سحنون، والأول أصح أن في المسألة ثلاثة أقوال. فصل ويستحب لمن وجبت عليه زكاة الفطر أن يؤديها يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، فإن أخرجها قبل ذلك بيوم أو يومين أو ثلاثة أجزأ على الاختلاف فيمن أخرج زكاته قبل حلول الحول بيسير. فصل واختلف في حد وجوبها على من كان من أهلها على قولين: أحدهما أنها تجب عليه بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهي رواية أشهب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والثاني أنه لا تجب عليه إلا بعد طلوع الفجر من يوم الفطر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في معنى ما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين»، فتؤول في رواية أشهب عنه أن مراده بالفطر من رمضان هو الفطر بعد انقضاء شهر رمضان أول ليلة من شوال وتؤول في رواية ابن القاسم عنه أن المراد به الفطر المنافي للصوم، وذلك لا يكون إلا بعد الفجر، وهو الأظهر، لأن الفطر بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان كالفطر بعد غروبها في سائر الأيام، فلا يقال أفطر من رمضان إلا لمن أفطر بعد الفجر من شوال. وأما من أفطر بعد غروب الشمس من آخر يوم

فصل

رمضان فإنما يقال له أفطر من صوم ذلك اليوم بعينه، فلا اختلاف فيمن مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أن الزكاة ساقطة عنه، ولا اختلاف فيمن مات بعد طلوع الفجر من يوم الفطر أن الزكاة واجبة عليه. واختلف فيمن مات بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان وقبل طلوع الفجر من يوم الفطر هل تجب عليه الزكاة أم لا على قولين كما ذكرنا. فصل واختلف في حد انتقالها عمن وجبت عليه مثل العبد يباع أو يعتق والمرأة تتزوج أو تطلق أو الابن يحتلم أو يوسر أو الأبوان يعسران على أربعة أقوال: أحدها أن الزكاة تنتقل في ذلك كله إلى غروب الشمس من يوم الفطر، وهذا على أحد قولي مالك في المدونة في العبد يباع يوم الفطر إن الزكاة فيه على المبتاع. والثاني أنها تنتقل في ذلك كله إلى طلوع الشمس من يوم الفطر، حكى هذا القول عبد الوهاب. والثالث أنها تنتقل في ذلك كله إلى طلوع الفجر من يوم الفطر. والرابع أنها تنتقل في ذلك كله إلى غروب الشمس من آخر يوم من رمضان. واختار محمد ابن المواز وأشهب في أحد قوليه القول الثالث أنها تنتقل إلى طلوع الفجر من يوم الفطر، وأخذ به وراعى سائر الأقوال فقال في العبد إذا بيع بعد طلوع الفجر من يوم الفطر إلى غروب الشمس من يوم الفطر إن الزكاة واجبة على البائع ومستحبة على المبتاع، وإن بيع بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان إلى طلوع الفجر من يوم الفطر إن الزكاة واجبة على المبتاع ومستحبة على البائع. وكذلك سائر ما ذكرناه مما تنتقل الزكاة فيه. وأخذ أشهب بجميع الأقوال احتياطا إذ لم يترجح عنده أحدها على صاحبه فقال إن البيع إذا وقع في العبد من بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان إلى غروب الشمس من يوم الفطر إن الزكاة تجب عليهما جميعا. وكذلك على مذهبه سائر ما ذكرناه فيما تنتقل فيه الزكاة. وقول أشهب هذا على ما ذهب إليه أبو الفرج المالكي ومن ذهب مذهبه في أن المجتهد إذا تعارضت عنده أدلة الحظر والإباحة ولم يترجح عنده أحدهما أنه يأخذ بالإباحة،

فصل

وذهب أبو بكر الأبهري وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يأخذ بالحظر. فيجب على هذا أن لا يوجب الزكاة على واحد منهما. وفي المسألة قول ثالث، وهو أن الناظر مخير بين أن يأخذ بالحظر أو بالإباحة، فيجب على هذا أن يوجب الزكاة على أيهما شاء. فصل وأما إن باع العبد قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فلا اختلاف أن الزكاة فيه على المبتاع. وكذلك إن باعه بعد غروب الشمس من يوم الفطر لا اختلاف في أن الزكاة فيه على البائع. فصل وكذلك اختلف أيضا في حد وجوبها على من لم يكن من أهلها مثل النصراني يسلم والمولود يولد على هذه الأربعة الأقوال. وقد رأيت في المسألة قولا خامسا لابن الماجشون في الثمانية أن حد وجوبها إلى زوال الشمس من يوم الفطر لأنه الوقت الذي يجوز إليه تأخير صلاة العيد. وقوله في الكتاب في النصراني يسلم يوم الفطر إن الزكاة عليه مستحبة وليست بواجبة هو مثل ما حكيناه فوق هذا من قول ابن المواز في مراعاة الاختلاف. وأشهب يرى أن الزكاة لا تجب عليه إلا أن يسلم قبل طلوع الفجر من آخر يوم من رمضان، فهذه في النصراني ستة أقوال. فصل واختلف أهل العلم فيما يجوز إخراج زكاة الفطر منه بعد إجماعهم على أنه يجوز إخراجها من الشعير والتمر على ستة أقوال. أحدها قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنها تخرج من غالب عيش البلد من تسعة أشياء، وهي القمح، والشعير، والسلت، والأزر، والذرة، والدخن، والتمر، والأقط، والزبيب. فإن كان عيشه وعيش عياله من هذه الأصناف من غير الصنف الذي هو غالب عيش البلد أخرج من الذي هو غالب عيش البلد، كان

الصنف الذي خص به نفسه أدنى أو أرفع، إلا أن يعجز عن إخراج أفضل مما يتقوت به فلا يلزمه غيره. هذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. وذهب محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنه لا ينظر إلى حال عيش أهل البلد وإنما ينظر إلى ما يتقوت به فيخرج منه كان أرفع من قوت أهل البلد أو أدنى، إلا أن يكون ترك ما يتقوت به أهل البلد إلى ما هو أدنى شحا وبخلا فيلزمه أن يخرج مما يتقوت به أهل البلد. ولا يخرج مما عداها من القطاني أصلا، وقيل إلا أن يكون عيشهم يزيد في الخصب والجدب يعني الرخص والشدة اختلف في ذلك قول ابن القاسم. والثاني رواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية أنها تخرج من خمسة أصناف، وهي القمح، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، ولا تخرج من السلت والذرة والدخن والأرز إلا أن يكون ذلك عيشهم يزيد في الخصب والجدب. وعلى هذا القول لا تخرج من القطنية والجلجلان وإن كان ذلك عيشهم. والثالث قول ابن الماجشون حكاه الفضل عنه أنها تخرج من خمسة أشياء، وهي: القمح، والشعير، والسلت، والتمر، والأقط. والرابع قول أشهب أنها تخرج من ستة أشياء وهي القمح والشعير والسلت والتمر والأقط والزبيب. والخامس قول ابن حبيب إنها تخرج من عشرة أشياء، فزاد العلس، وذهب إلى أنه مخير في القمح والشعير والتمر يخرج من أيها شاء كان عيشه من الأدنى أو الأرفع. فإن لم يكن قوته من واحدة منهن أخرج من أي ذلك كان قوته وقوت أهل بلده الشامل فيهم من السبعة الأشياء الباقية، فإن كان قوته وقوت أهل بلده من بعضها وأخرج فطرته من غيرها من هذه السبعة لم يجزئه. ظاهر قوله وإن كان الذي أخرج منها هو أفضل مما كان قوته وقوت أهل بلده. وانظر على مذهبه إن كان قوته وقوت عياله من هذه السبعة غير الذي يتقوت منه أهل البلد، فالأظهر أنه يخرج من الصنف الذي يتقوت به أهل البلد كان أفضل أو أدنى، إلا أن يكون الذي يتقوت به أدنى ولا يقدر على إخراج الفطر من الصنف الذي هو قوت أهل البلد.

فصل

فصل ووجه قول ابن حبيب في تخيير المزكي في الثلاثة الأصناف ظاهر حديث ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الزكاة على المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير» ودخل القمح مدخل الشعير في التخيير لأنه أفضل منه ومن التمر ولم يخيره في سائر الأصناف، وجعل ما ورد في ذلك من قوله كذا أو كذا على التقسيم لا على التخيير، وهذا لا دليل عليه. والسادس قول أهل الظاهر إن زكاة الفطر لا توفى إلا من التمر والشعير إتباعا لظاهر حديث [ابن عمر وتعلقوا في حديث] أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - برواية من روى «كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب» بإسقاط لفظة أو فيما بين القمح. والشعير، وتأولوا أن الشعير تفسير للطعام لوقوع لفظ الطعام على كل مطعوم، وهذا بعيد، لأن لفظ الطعام إذا أطلق فالظاهر منه القمح دون ما سواه مع ما جاء في بعض الروايات «صاعا من طعام أو صاعا من شعير» بزيادة أو فارتفع الإشكال والاحتمال. فصل ومكيلة زكاة الفطر صاع من كل ما يؤدي منه حاشا القمح فإنه قد قيل فيه مدان ورويت في ذلك آثار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عمر وغيره من الصحابة، وأنكر ذلك كله مالك، وقال عقيل وتبسم: والذي ذهب إليه هو الحق، والحجة على ما ذهب إليه في هذا قد ذكرها ابن المواز وغيره فلا معنى لذكرها، وبالله التوفيق.

كتاب الجهاد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم. عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجهاد فصل في معرفة اشتقاق اسم الجهاد الجهاد مأخوذ من الجهد وهو التعب، فمعنى الجهاد في سبيل الله المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقا إلى الجنة وسبيلا إليها. قال الله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]. فصل والجهاد ينقسم على أربعة أقسام: جهاد القلب، وجهاد باللسان، وجهاد باليد، وجهاد بالسيف. فجهاد القلب جهاد الشيطان ومجاهدة النفس عن الشهوات المحرمات. قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. وجهاد اللسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ذلك ما أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهاد المنافقين، لأنه عز وجل قال:

فصل

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] فجاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين باللسان، لأن الله تعالى نهاه أن يعمل علمه فيهم فيقيم الحدود عليهم لئلا يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك جاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين قبل أن يؤمر بقتالهم بالقول خاصة. وجهاد اليد زجر ذوي الأمر أهل المناكر عن المناكر والأباطيل والمعاصي المحرمات، وعن تعطيل الفرائض الواجبات، بالأدب والضرب على ما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك. ومن ذلك إقامتهم الحدود على القذفة والزناة وشربة الخمر. وجهاد السيف قتال المشركين على الدين. فصل فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقيم بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فصل والجهاد من أفضل أعمال البر وأزكاها عند الله تعالى. روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله». وأنه قال لرجل: «لو قمت الليل وصمت النهار ما بلغت نوم المجاهد»، وقال لرجل له ستة آلاف دينار: "لو أنفقتها في طاعة الله ما بلغت غبار شراك نعل المجاهد ". وقال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».

فصل

فصل وإنما كان الجهاد من أفضل الأعمال لأن فيه بذل النفس في طاعة الله. ومن بذل نفسه في طاعة الله فقد بلغ الغاية التي لا يقدر على أكثر منها، ولذلك جازى الله الشهداء في سبيله لما أن بذلوا حياتهم في طاعته بأن أحياهم أفضل من حياتهم التي بذلوها في طاعته فقال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ} [آل عمران: 170 - 171]، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «الشهداء يغدون ويروحون إلى الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة تحت العرش»، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، وروي عن ابن عباس أنه قال: لقد أغلى لهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]،

فصل

ومن أحبه الله أمنه من عذابه، وأكرمه بجواره في الجنة التي أعدها الله لأوليائه. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22]، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع»، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة». يريد أجرا وغنيمة، لأن أو ها هنا بمعنى الواو، إذ لا تنفي الغنيمة الأجر. وقد تكون أو على بابها فيكون معنى الكلام مع ما نال من أجر دون غنيمة أو غنيمة مع أجر. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد لله.» ويروى أنه «ما من أحد يصير إلى خير فيود الرجوع إلى الدنيا إلا الشهيد في سبيل الله فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى وذلك لما يرى من كرامة الله تعالى». وفضائل الجهاد أكثر من أن تحصى كثرة. فصل وأول ما بعث الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه ولا جزية أحلها له، فأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين وهي التي أقامها بمكة، وحينئذ أنزل الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]،

وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتلهم وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]، وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة وذلك بعد ثمان من الهجرة فأمره الله تعالى فيها بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، إلا من كان له عهد عند النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن الله أتمه له إلى مدته فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

فصل

فصل وفرض الله عز وجل الجهاد حينئذ على جميع المسلمين كافة فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، وقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] الآية. وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] الآية، ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذلك فجعل الفرض يحمله من قام به من المسلمين عن سائرهم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، معنى الآية على ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى عدوهم ويتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي عصبة يعني السرايا ولا يخرجوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقالوا لهم إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا قد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله ليتفقهوا في الدين. وقال الحسن: المعنى فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، أي ليتفقه الذين خرجوا بما

فصل

يريهم الله من الظهور على المشركين والنصر وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. وقيل إن الآية نزلت في قوم كان يبعثهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البادية ليعلموا الناس الإسلام فلما أنزل الله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] انصرفوا من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية، فأنزل الله الآية وكره انصراف جميعهم من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هو المختار من التفسير. فصل فالجهاد الآن فرض على الكفاية يحمله من قام به بإجماع أهل العلم، فإذا جوهد العدو وحميت أطراف المسلمين وسدت ثغورهم سقط فرض الجهاد عن سائر المسلمين وكان لهم نافلة وقربة مرغبا فيها، إلا أن تكون ضرورة مثل أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين فيجب على الجميع إغاثتهم وطاعة الإمام في النفير إليهم. فصل وقد كان الله أوجب في أول الإسلام على المسلمين أن لا يفروا عن الكفار قل عددهم أو كثر، فقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] ثم نسخ ذلك عن عباده بقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]، وقد قيل إن هذه الآية ليست بناسخة للأولى ولكنها مبينة لها ومخصصة لعمومها، وأن الله لم

يوجب قط على المسلمين أن يثبتوا لأكثر من عشرة أمثالهم، ثم نسخ الله ذلك تخفيفا ورحمة فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، فأباح الله تعالى للمسلمين الفرار من عدوهم إذا زاد عددهم على الضعف وخشوا أن يغلبوهم. وقد اختلف في تأويل الضعف فقيل هو في العدد فيلزم المسلمين أن يثبتوا لمثلي عددهم من المشركين وإن كانوا أشد منهم سلاحا وأظهر جلدا وقوة، وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل في تأويل ذلك في الجلد والقوة، ويلزمهم أن يثبتوا لأكثر من الضعف إذا كانوا أشد منهم سلاحا وأكثر جلدا وقوة ولا يلزمهم أن يثبتوا لهم وإن كانوا أقل من الضعف إذا كان المشركون أشد منهم سلاحا، وأكثر جلدا وقوة وخافوا أن يغلبوهم، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك. والفرار من الزحف إذا كان العدو أقل من ضعف المسلمين في العدة أو في الجلد والقوة على ما ذكرناه من الاختلاف من الكبائر على مذهب مالك وأصحابه. وقد قال ابن القاسم لا تجوز شهادة من فر من الزحف. ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] الآية. وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا. وإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه، وقوله للعمري العابد إذ سأله هل له سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك فلا سعة لك في ذلك. وقد قيل إن قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] خاص في أهل بدر لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عدوه

وينهزموا عنه، وأما اليوم فلهم الانهزام. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، ثم كانت أحد بعدها فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]، ثم كانت حنين بعدها فأنزل الله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27]، فنزل العفو فيمن تولى من بعد يوم بدر. والصحيح أن تحريم الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر، وأنه عام في كل زحف إلى يوم القيامة. وكان تعبد الله به نبيه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - له، ثم لم ينسخه بعد ذلك حتى صار من شريعة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على ذلك «ما روي أن رجلا من اليهود قال لآخر: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل هذا النبي فإنه إن سمعها كانت له أربعة أعين. فانطلقا إليه فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تفروا من الزحف، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطانه ليقتله، وعليكم يهود أن لا تعدوا في السبت. فقالوا نشهد أنك لرسول الله. وفي بعض الآثار فقبلوا يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي». وهذا الحديث يخرج مخرج التفسير لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] [وما روي عن ابن عباس من رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى تسع آيات بينات]، فقال اليد،

فصل

والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، والسنون، ونقص من الثمرات، لا يصح لمعارضة هذا الحديث، وإنما يصح ذلك والله أعلم في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12]، ويدل على هذا التأويل أن هذا المعنى قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من غير رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، لا في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وقد تكون الآيات العبادات من قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41]، وتكون المعجزات من قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، فيحمل قَوْله تَعَالَى في سورة سبحان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] على العبادات التي تعبد بها على ما في الحديث الأول، ويحمل ما في سورة النمل من قَوْله تَعَالَى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] على المعجزات والعلامات والإنذارات التي توعدوا بها إن لم يعملوا بما تعبدوا به على ما روي عن ابن عباس من غير رواية عكرمة، فتتفق الآثار ولا تتعارض، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومما يدل على أن الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر عموم ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: إن الفرار من الزحف من الكبائر. فصل ويجاهد العدو مع كل بر وفاجر. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».

فصل

فصل ولا يجاهد الابن بغير إذن أبويه، ولا العبد بغير إذن سيده. وهذا في النافلة. وأما في الفرض الذي يتعين على الأعيان فيلزمه أن يغزو وإن لم يأذنا له، لأنه إنما يلزمه أن يطيع أبويه في ترك النافلة، وأما في ترك الفريضة فلا. وقد روي في أصحاب الأعراف الذين حبسوا دون الجنة أنهم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله بقتلهم وحبسهم عن الجنة بمعصيتهم آباءهم، فهم آخر من يدخل الجنة. فصل وكذلك من عليه دين لا يجوز له أن يغزو إلا بإذن صاحب الدين إلا أن يكون الدين لم يحل عليه ويكون له وفاء به فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله. وأما إن كان عديما لا شيء معه فله أن يغزو بغير إذن من له عليه الدين. فصل والشهادة تكفر كل شيء إلا الدين. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي فقال نعم. فلما أدبر الرجل دعاه أو أمر به فدعي له فقال له كيف قلت فأعاد عليه قوله فقال له نعم إلا الدين، كذلك قال لي جبريل.» وقد قيل إن ذلك كان في أول الإسلام لما روي أن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة. فصل وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». ولهذا تجب

فصل

الدعوة قبل القتال ليبين لهم علام يقاتلون لا من أجل أن دعوة الإسلام لم تبلغهم. والصحيح أن دعوة الإسلام قد بلغت جميع العالم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقوله عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، فالأصل في دعاء العدو قبل القتال إلى الإسلام «حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذ أعطاه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الراية قال له: "اذهب حتى تنزل بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس». فصل وتقدم الدعوة قبل القتال من القرآن في قصة سليمان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع بلقيس بنت شراحيل ملكة أهل سبأ وما كان من كتابه إليها مع الهدهد {الرَّحِيمِ} [النمل: 30] {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]. فصل وينبغي لأمير الجيش أن يكون في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره ويلحق المريض الضعيف وبالله التوفيق. فصل ولوجوب الجهاد ست شرائط لا يجب إلا بها، متى انخرم واحد منها سقط

وجوبه، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والاستطاعة بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال. فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوبه توجه الخطاب به إلى المؤمنين دون الكفار في غير ما آية من كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية، وقال تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية. والدليل على صحة اشتراط البلوغ والعقل في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث، وهم الصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ». والدليل على صحة اشتراط الحرية في ذلك هو أن الجهاد من الفرائض المتوجهة إلى الأبدان المتعينة في الأموال، فإذا سقط فرض الجهاد عمن لا مال له. بقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات إلى آخرها، فهو ساقط عن العبد إذ لا مال له يقدر على إنفاقه. قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75]، ومنافعه أيضا مستحقة لسيده، فالجهاد على العبد ساقط من كل وجه. والدليل على صحة اشتراط الذكورة في ذلك أن الجهاد لا يتأتى للمرأة إلا بضد ما أمرت به من الستر والقرار في بيتها. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، وقال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} [الأحزاب: 33]

فصل

الآية. والدليل على صحة اشتراط الاستطاعة في ذلك بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآية، وقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] فصل ولصحته وجوازه شرط واحد متى انخرم بطل ولم يصح، وهو النية. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله». وقال «في عبد الله بن ثابت: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته». والنية في الجهاد أن يجاهد الرجل ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ابتغاء ثواب الله تعالى. فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته على ذلك، فإنه إذا عقد نيته على ذلك لم تضره إن شاء الله الخطرات التي قد تقع في القلب ولا تملك. روي «عن معاذ بن جبل أنه قال يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة، فقال: "يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة». وروي «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لك أجر السر وأجر العلانية».

فصل في القول في الغنيمة

فصل وله فرائض يجب الوفاء بها، قيل إنها خمس وهي: الطاعة للإمام، وترك الغلول، والوفاء بالأمان، والثبات عند الزحف، وأن لا يفر واحد من اثنين، وهي إلى الخمسين أقرب لأن تجنب الفساد كله في الغزو واجب، ومن لم يجتنب الفساد في غزوه لم يرجع منه كفافا. قال معاذ بن جبل: الغزو غزوان، فغزو تنفق فيه الكريمة ويعاشر فيه الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر ويجتنب فيه الفساد فذلك الغزو خير كله، وغزو لا تنفق فيه الكريمة ولا يعاشر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا. فصل في القول في الغنيمة الغنيمة ما غنمه المسلمون من أموال الكفار بقتال. قال الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. والفيء ما صار إليهم من أموال الكفار بغير قتال. قال الله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية. وقد قيل بعكس ذلك إن الغنيمة ما صار إليهم من أموالهم بغير قتال، وإن الفيء ما صار إليهم بقتال. وهذا محتمل في اللسان، والأول هو الصحيح الذي يقصده القرآن. واسم الفيء يجمعهما جميعا، لأن الفيء هو الرجوع والغنيمة مما أرجعها الله إلى المسلمين من أموال الكفار. وكذلك الأنفال سمى الله بها الغنائم فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] يريد

فصل

غنائم بدر، لأن الآية فيها نزلت لما تشاجروا في قسمتها: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الآية وهي أيضا تستعمل على الفيء والغنيمة، لأنهما عطيتان من الله تعالى لهذه الأمة خصها بهما دون سائر الأمم. والنافلة هي العطية، قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، ولهذا يسمى ما يعطى الإمام من الغنيمة سوى قسم الجيش نفلا. والذي سأل ابن عباس عن الأنفال إنما سأله والله أعلم عن اشتقاق اللفظ ومعنى كونها لله والرسول، فلم يقنع بما أجابه به ما فيه شفاء لمن اعتبر وردد عليه السؤال حتى أخرجه. فصل وقد اختلف فيما ينفله الإمام فقيل إنه لا ينفل إلا من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب مالك. وقيل إنه لا ينفل إلا بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه الله تعالى إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء. وقيل إن له أن ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها. ولا يرى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع في ذلك والآثار المروية فيه. وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله إياه الإمام إما من الخمس، وإما من رأس الغنيمة، وإما بعد تخميسه على ما ذكرناه من الاختلاف فيما سوى السلب. وقيل إنه للقاتل حكم من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام. وقيل إن الإمام يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، وهذا يرده حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل

قبل نجد [فغنموا إبلا كثيرة] فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا. فصل والفيء والخمس سواء لأن الله تعالى ساوى بينهما في كتابه فقال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. وقد اختلف في كيفية قسمتهما على ستة أقوال: أحدها أنهما لجميع المسلمين يوضعان في منافعهم ويقسمان عليهم ولا يختص بذلك الأصناف المذكورون في الآيتين، لأنهم إنما ذكروا فيها تأكيدا لأمرهم، وهذا هو مذهب مالك. والثاني أنه يقسم ذلك بالاجتهاد بين الأصناف المذكورين في الآيتين. والثالث أنه يقسم على ستة أسهم بالسواء بينهم: سهم لله يجعل في سبيل الخير، وسهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم لقرابته، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. والرابع أنه تؤخذ منه قبضة فتجعل في الكعبة ويقسم الباقي بالسواء على الخمسة الأصناف المذكورين. والخامس أنه يقسم على خمسة أسهم بالسواء ويجعل سهم الله مفتاح السهام لأن الدنيا وما فيها لله. والسادس أنه يقسم على أربعة أسهم بالسواء لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويكون معنى قوله فلله وللرسول أن لهما الحكم في قسم ذلك بين من سمي في الآيتين. وقد اختلف الذين رأوا أن الخمس يقسم على خمسة أسهم في سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم قرابته بعد وفاته، فقالت طائفة منهم يجعل في الكراع والسلاح، وقالت طائفة يكون سهم رسول الله للخليفة بعده، وسهم قرابته لقرابة الخليفة. وقالت طائفة منهم يقسم سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سائر الأصناف، ويكون سهم قرابته باقيا عليهم إلى يوم القيامة. واختلف في قرابته الذين جعل الله لهم سهما من الفيء والغنيمة وحرم عليهم الصدقة اختلافا

فصل

كثيرا قد ذكرته في غير هذا الموضع. ومن ذهب إلى أن سهم قرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسقط بوفاته لم يحرم عليهم الصدقة، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء» وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام ليكون ذلك في أعطيات المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم، فقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، ومن شح بترك حقه منها أعطاه فيه الثمن، فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرض خيبر. وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال إن أقر أهلها فيها لعمارتها كانت ملكا لهم أسلموا أو لم يسلموا يجري عليها الخراج إلى يوم القيامة، على ما روي أن عمر وضع على مساحة جريب البر كذا، وعلى مساحة جريب الشعير كذا وعلى مساحة جريب التمر كذا. ومن جعل على مساحة جريب التمر خراجا معلوما في كل عام استدلوا على أنها ملك لهم، إذ لو كانت ملكا للمسلمين لكان ذلك بيع التمر قبل أن يخلق. وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطاه الموجفين عليها وأنه تأول في ذلك قَوْله تَعَالَى في آية سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير، فالإمام مخير بين أن يقسم أرض العنوة على ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر مبينا لعموم آية سورة الأنفال أنها على عمومها، وبين أن يبقيها كما أبقاها عمر على ما استدل به من آية الحشر، وإلى هذا ذهب أبو عبيد. وقيل إن آية

فصل

الحشر ناسخة لآية الأنفال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين بفعله في أرض خيبر أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، فنسخت آية الحشر من ذلك الأرض خاصة، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي. وقيل إن آية الحشر مخصصه لآية الأنفال ومفسرة لها ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر لأن الله تعالى وعد بها أهل بيعة الرضوان فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] فهي مخصصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة. فصل وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر أهلها فيها لعمارتها ضربت عليهم الجزية على ما فرض عمر، وسوقوا في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام. وهذا وجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة: لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد في ذلك الإمام ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه لأنه إنما توقف في مقدارها، وقيل إنما توقف هل عليها جزية أو لا جزية عليها وتترك لهما فيستعينون بها على أداء الجزية دون خراج، وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك بها مسلك الفيء أو مسلك الصدقة، قال ذلك الداروردي. وحكي عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أنه يسلك به مسلك الفيء. واختلف على المذهب فيهم، فقيل إنهم عبيد للمسلمين، وقيل إنهم أحرار لأن إقرارهم لعمارة الأرض من ناحية المن الذي قال الله عز وجل فيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وعلى هذا الاختلاف يجري الاختلاف فيما عدا الأرض من أموالهم، فمن رآهم عبيدا جعل أموالهم

للمسلمين إذا أسلموا إن شاؤوا انتزاع ذلك منهم ولا يكونون أحرارا بإسلامهم. وعلى هذا تأتي رواية سحنون عن ابن القاسم. ومن رآهم أحرارا قال تكون لهم أموالهم إذا أسلموا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» وعلى هذا يأتي ما في سماع عيسى عن ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب. وتفرقة ابن المواز بين ما كان بأيديهم يوم الفتح وبين ما استفادوه بعد الفتح ليست جارية على قياس. وأما الأرض التي أقروا فيها لعمارتها فلا حق لهم فيها إلا عند بعض أهل العراق على ما قد ذكرته وبالله التوفيق.

القول فيما حازه المشركون من أموال المسلمين

القول فيما حازه المشركون من أموال المسلمين اختلف أهل العلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه بحيازتهم إياه أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنهم لا يملكونه بحيازتهم إياه. والثاني أنهم يملكونه بحيازتهم إياه. والثالث الفرق بين ما غلبوا عليه أو أبق إليهم. فصل فعلى القول بأنهم لا يملكونها بحيازتهم إياها لا يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون لم تقسم في المغانم وردت على أربابها إن علموا، ووقفت لهم إن جهلوا. وإن لم يعلم أنها كانت للمسلمين حتى قسمت فجاء أربابها أخذوها بغير ثمن على حكم الاستحقاق، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأحد قولي الأوزاعي وجماعة من أهل العلم سواهم. والحجة لهم من طريق الآثار «حديث عمران بن حصين في ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضباء إذ أغار عليها المشركون في سرح المدينة فنجت عليها امرأة ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت بها المدينة عرفت الناقة وأتي بها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فأخذها على ما جاء في بعض الآثار وأخبرته المرأة بنذرها فقال بئسما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم.» وموضع الحجة من الحديث أن المشركين لو ملكوا الناقة

فصل

لكانت للمرأة التي نجت عليها ويلزمها النذر فيها. والحجة لهم من طريق النظر أنهم لما أجمعوا على أنهم لا يملكون رقابنا وجب أن لا يملكوا أموالنا، لأن النظر يوجب أن لا يفرق بين أموالنا ورقابنا في أنهم لا يملكونها، كما لا يفرق بين رقابهم وأموالهم في أنا نملكها. فصل وعلى القول بأنهم يملكونها بحيازتهم إياها يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون كانت غنيمة للجيش ولم يكن لأربابها أخذها قبل القسم ولا بعده. وقيل إن لهم أن يأخذوها إن أدركوها قبل القسم، فإن قسمت لم يكن لهم إليها سبيل. وقيل إن لهم أن يأخذوها بعد القسم بالثمن، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه على الآثار الواردة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس وتميم بن طرفة، الطائي، وهو على قياس القول بأن الغانمين لا يتقرر ملكهم على الغنيمة إلا بالقسم، فيحد منهم من وطئ جارية منها، ولا يجوز عتقه فيها. فصل ولا يخلو ما يحوزه أهلك الحرب عن المسلمين من ستة أشياء: أحدها أحرار المسلمين. والثاني أحرار أهل الذمة. والثالث أموال المسلمين وأهل الذمة لأن الحكم في ذلك سواء. والرابع أمهات أولاد المسلمين. والخامس مدبروهم ومعتقوهم إلى أجل. والسادس مكاتبوهم. ولا يخلو ما حازوه من ذلك كله من ستة أحوال: أحدها أن يبيعوه في بلادهم. والثاني أن يقدموا به بأمان. والثالث أن يغنمه المسلمون. والرابع أن يسلموا عليه. والخامس أن يصالحوا على هدنة وهو في أيديهم. والسادس أن يصالحوا على أداء جزية وذلك في أيديهم، فهذه ست وثلاثون مسألة، لأن لكل شيء من الستة الأشياء التي حازوها ستة أحوال كما ذكرنا، وكل مسألة تختص منها بأحكام نذكر منها ما يدل على باقيها إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل فأما إذا حاز أهل الحرب أحرار المسلمين وباعوهم فذلك فداء يكون للمشتري الفادي أن يتبع المفدي بما فداه به إلا أن يكونا زوجين فيفدي أحدهما صاحبه وهو عالم به بغير أمره فلا يتبعه بشيء. واختلف إن كان المفدي ممن يعتق على المفدي فقيل إنه لا يتبعه بما فداه به علم أو لم يعلم، وهو قول ابن حبيب. وقيل إنه لا يتبعه إذا علم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. واختلف إن كان ذا محرم منه إلا أنه لا يعتق عليه فقيل إنه كالزوجة لا يتبعه إذا علم إلا إذا فداه بأمره. وقيل إنه كالأجنبي يتبعه في كل حال. وأما إن كان من ذوي رحمه لا من ذوي محارمه فلا اختلاف في أنه كالأجنبي يتبعه في كل حال. وإن قدموا بهم بأمان لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم، وإن أبوا إلا الرجوع بهم إلى بلادهم كان ذلك لهم عند ابن القاسم خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه سواء. وإن غنمهم المسلمون كانوا أحرارا ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا في المقاسم فلا يدعوا شيئا وهم ممن يجهل أن ذلك لا يجب عليهم فإنهم يتبعون بالأثمان على أحد قولي ابن القاسم في العتبية،. وإن أسلموا عليهم أطلقوهم ولم يكن لهم عليهم سبيل. وإن صالحوا على هدنة لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم. وإن صالحوا على أداء جزية فروى يحيى عن ابن القاسم أنهم لا ينزعون منهم، وروى عنه سحنون أنهم يؤخذون منهم بالقيمة، وهو الصواب الذي لا يصح سواه، لأن الذمي إذا أسلم عبده يباع عليه ولا يقر بيده، فكيف بأحرار المسلمين. فصل وأما إذا حازوا أحرارا من أهل الذمة فإن باعوهم ردوا إلى ذمتهم وتبعهم المشتري بالثمن، وإن قدموا بهم بأمان لم يكن لأحد عليهم فيهم سبيل، إن شاءوا

فصل في الرباط

باعوا وإن شاءوا رجعوا بهم إلى بلادهم، ولا خلاف في هذا أعرفه. فإن غنمهم المسلمون ردوا إلى ذمتهم ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا وهم ساكتون غير جاهلين بأن ذلك لا يجب عليهم فعلى ما تقدم من خلاف ابن القاسم في المسألة التي قبلها. وإن أسلموا عليهم فقال في المدونة إنهم يكونون رقيقا لهم، وقال ابن حبيب يردون إلى ذمتهم، وهو اختيار إسماعيل. وإن صالحوا على هدنة لم يعرض لهم، وإن صالحوا على أداء جزية تخرج ذلك على قولين في المذهب لابن القاسم وبالله التوفيق. فصل في الرباط والرباط شعبة من شعب الجهاد، وهو ملازمة الثغور لحراسة من بها من المسلمين، وهو مأخوذ من الربط لأنه إذا لازم الثغر فكأنه قد ربط نفسه به. قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] والأجر فيه على قدر الخوف من ذلك الثغر وحاجة أهله إلى حراستهم من العدو. وقد روي أن عبد الله بن عمر قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين، فقيل إن ذلك إنما قاله حين دخل الجهاد ما دخل، فقد قال عمر بن الخطاب اغز ما دام الغزو حلوا خضرا قبل أن يكون مرا عسيرا ثم يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما. فإذا انتطت المغازي وكثرت العزائم واستحلت الغنائم فخير جهادكم الرباط. والثمام: الرطب من النبات،

فصل في الحكم في الأسرى

والرمام: اليابس. والحطام: الذي يتحطم ويتكسر. وقوله انتطت يعني تباعدت. وقوله العزائم يريد حمل السلطان شدة الأمر عليهم والعزم فيما يشق عليهم لبعد المغزى أو قلة عونه لهم وغير ذلك. فدل ذلك من قوله على أن الجهاد على السنة أفضل من الرباط. وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في جهاد المستخرجة. والأظهر في تأويل ذلك عندي أن معناه عند شدة الخوف على أهل ذلك الثغر وتوقع هجوم العدو عليهم وغلبته إياهم على أنفسهم ونسائهم وذراريهم، إذ لا شك أن إغاثتهم في ذلك الوقت وحراستهم مما يتوقع عليهم أفضل من الجهاد إلى أرض العدو، فلا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل. وذلك قائم من قول مالك في سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور: ويستحب الرباط أربعين ليلة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تمام الرباط أربعون ليلة». وفضائل الرباط المروية كثيرة. منها ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها لا يفطر» وأنه قال: «من رابط فواق ناقة حرمه الله على النار». قال ابن حبيب: هو قدر ما تحلب فيه. وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا، وإنما المرابط من خرج من منزله معتقدا الرباط في موضع الخوف وبالله التوفيق. فصل في الحكم في الأسرى قال الله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] فذهب مالك وجمهور أهل العلم إلى أن الإمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء: إما أن يقتل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يمن فيعتق، وإما أن يأخذ فيه الفداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية، لأنه استعمل الآيات كلها وفسر بعضها ببعض ولم ير فيها ناسخا ولا منسوخا، لأن الآية الأولى قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] الآية توجب قتل الأسير وألا يستحيى عموم يحتمل الخصوص، فخصصتها الآية الثانية قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وبينت أن المراد بذلك قبل الإثخان، وأن الحكم فيها بعد الإثخان شد الوثائق للمن والفداء. أو بينت الآية الثالثة قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] أن شد الوثائق بالمن والفداء،، المذكور في الآية الثانية آية سورة القتال إنما هو على التخيير لا على الإلزام وتحريم القتل، لأن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة لا الوجوب. وقد كان الأسر محظورا قبل الإثخان، فدل ذلك على أن قوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] معناه إن شئتم، مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بعد قوله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ومثل قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بعد قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

فصل

فصل وقولنا إن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة ليس بإجماع. قد قيل إن ذلك لا يدل على الإباحة. فإذا قلنا بهذا فالدليل على أن المراد بذلك التخيير بين القتل وإباحة الأسر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل صبرا من أساري بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث». فصل والتخيير في الأسرى ليس على الحكم فيهم بالهوى، وإنما هو على وجه الاجتهاد في النظر للمسلمين، كالتخيير في الحكم في حد المحارب. فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية في المسلمين قتله الإمام ولا يستحييه، وإن لم يكن على هذه الصفة وأمنت غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين وقبل فيه الفداء إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم تبذل فيه قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية أعتقه كالضعفاء والزمنى الذين لا قتال عندهم ولا رأى لهم ولا تدبير. فمن الضعفاء والزمنى الذين لا يقتلون المعتوه والمجنون واليابس الشق باتفاق، والأعمى والمقعد على اختلاف. والاختلاف في هذا على اختلافهم في وجوب السهم لهم من الغنيمة، وفي جواز إعطائهم من المال الذي يجعل في السبيل، وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لأداء الجزية عقد له الذمة وضربت عليه الجزية. واختلف قول مالك إذا لم يعرف حاله، فمرة قال إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفا بالنجدة والفروسية، ومرة قال إنه يقتل، وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في كتابه إلى عماله أن يقتلوا من جرت عليه المواسي ولا يسبوا من علوجهم أحدا. فصل وإن رأى الإمام باجتهاد مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد كان ذلك له، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير

فصل في الجزية

فيرى الإمام أخذه أولى من قتله بما ظهر إليه في ذلك من النظر للمسلمين والاستعانة بما يأخذ منه على المشركين وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد. هذا تحصيل القول في حكم الأسرى. وحكى الداروردي في كتاب الأموال أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال ويقولون إنما كان ذلك ببدر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه سيظهر عليهم وساق القصة في ذلك. قال وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين والذي ذكرته هو الصحيح. فصل ومن أهل العلم من جعل الآية الأولى ناسخة للآيتين الثانية والثالثة فقال: إن الأسير يقتل على كل حال ولا يجوز استحياؤه. وممن قال بذلك قتادة وجماعة من المفسرين. ومنهم من حمل قَوْله تَعَالَى في الآية الثانية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على الإلزام لا على التخيير، وجعلها ناسخة للآية الأولى في إيجاب القتل، وللآية الثانية فيما يقتضيه من التخيير فقال إن الأسير لا يقتل صبرا. وممن ذهب إلى هذا عبد الله بن عمر، والحسن، وعطاء. وهذا كله بعيد، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وأسر فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن، والله المستعان. فصل في الجزية والجزية ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على كفرهم، وهي على وجهين: عنوية وصلحية. وأما الصلحية فلا حد لها إذ لا يجبرون عليها ولأنهم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فإنما هي على ما يراضيهم عليه الإمام من قليل أو كثير على أن يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. كذا نص ابن حبيب في الواضحة. وعنده أن الجزية الصلحية لا حد لها إلا ما صولحوا عليه من قليل أو كثير، وهو كلام فيه نظر. والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل الحرب الرضا به لأنهم مالكون لأمرهم، وأن لأقلها حدا إذا بذلوه لزم الإمام

فصل

قبوله وحرم عليه قتالهم لقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ولم أر لأحد من أصحابنا في ذلك حدا. والذي يأتي على المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة، فإذا بذل ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم. وله أن يقبل منهم في الصلح أقل من ذلك وإن كانوا أغنياء وقال الشافعي: أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها لأنه إذا بذل الأغنياء دينارا حرم قتالهم وهذا نص منه على أن أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها معناه أنه ليس لكثرة ما يبذلونه في الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزه، بخلاف أهل العنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وهي على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الجزية مجملة عليهم، والثاني أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض، والثالث أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم أو على أرضهم دون رقابهم، مثل أن يقول على كل رأس كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا وعلى كل بيدر قفيز من الأرض كذا وكذا. ولكل وجه من هذه الوجوه أحكام تختص به. فصل فأما إذا كانت الجزية مجملة عليهم فذهب ابن حبيب إلى أن الأرض موقوفة للجزية لا تباع ولا تورث ولا تقسم ولا تكون لهم إن أسلموا عليها، وأن مال من مات منهم لوارثه من أهل دينه إلا أن لا يكون له ورثة من أهل دينه فيكون للمسلمين. وذهب ابن القاسم إلى أن أرضهم بمنزلة مالهم يبيعونها ويرثونها ويقتسمونها وتكون لهم إن أسلموا عليها، وإن مات منهم ميت ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله لأهل مواده ولا يمنعون من الوصايا وإن أحاطت بأموالهم إذ لا ينقصون من الجزية شيئا لموت من مات.

فصل

فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على رقابهم فلا اختلاف أن لهم أرضهم ومالهم يبيعون ويورثون وتكون لهم إن أسلموا عليها، ومن مات منهم ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله للمسلمين، ولا تجوز وصيته إلا في ثلث ماله. فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على الجماجم والأرض أو على الأرض دون الجماجم فاختلفوا في جواز بيع الأرض على ثلاثة أقوال: أحدها أن البيع لا يجوز، وهي رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. والثاني أن البيع جائز ويكون الخراج على البائع وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثالث أن البيع جائز ويكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع، وهو مذهب أشهب وقوله في المدونة ولا اختلاف أنها تكون لهم إن أسلموا عليها وأنهم يورثونها بمنزلة سائر أموالهم قرابتهم من أهل دينهم أو المسلمون إن لم يكن لهم قرابة من أهل دينهم. فصل فإن صالحوا على الجزية مبهمة من غير بيان ولا تحديد وجبت لهم الذمة وحملوا في الجزية محمل أهل العنوة في جميع وجوهها على ما سنفصله إن شاء الله تعالى. فصل وأما الجزية العنوية، وهي الجزية التي توضع على المغلوبين على بلادهم المقرين فيها لعمارتها، فإنها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على ما فرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى رأى أن توضع عنهم الضيافة إذ لم يوف لهم بالعهد على وجهه. ومعنى ذلك أنه لا يسوغ لأحد ممن مر بهم أن يطالبهم بالضيافة إذا علم أنه لم يوف لهم بالعهد. وكذلك من

فصل

استؤمنوا على أن يكونوا من أهل ذمة المسلمين حكمهم حكم أهل العنوة في الجزية. هذا حد الجزية عند مالك لا يزاد فيها على الغني لغناه ولا ينقص عن الفقير لفقره إذا كانت له قوة على احتمالها. واختلف إن ضعف عن حمل جملتها فقيل إنها توضع عنه، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم، وقيل إنه يحمل منها بقدر احتماله، قال القاضي أبو الحسن، ولا حد لذلك. وقيل إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم. فصل فيتحصل في حد الجزية في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها أن حدها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا يزاد عليه ولا ينقص منه. والثاني أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولا حد لأقلها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الحسن. والثالث أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وحد أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن الدينار عنده باثني عشر درهما، فقال إنه يؤخذ من الغني أربعة دنانير إن كان من أهل الذهب وثمانية وأربعون درهما إن كان من أهل الورق، ومن المتوسط الحال نصف ذلك، ومن الفقير ربع ذلك دينار أو اثنا عشر درهما. فصل ولا تؤخذ الجزية إلا من الرجال الأحرار البالغين لأنها ثمن لتأمينهم وحقن دمائهم، والصبي والمرأة لا يقاتلان، والعبد مال من الأموال. واختلف فيه إذا أعتق على ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه الجزية لأنه حر له ذمة المسلمين فوجبت عليه الجزية لهم. الثاني أنه لا جزية عليه لأنه كان مؤمنا محقون الدم، والجزية إنما هي ثمن لحقن الدم. والثالث الفرق بين أن يعتقه مسلم أو كافر، وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعتق في بلاد الإسلام، وأما إذا أعتق في دار الحرب فتكون عليه الجزية على كل حال. فصل وتؤخذ الجزية من أهل الذمة عند وجوبها. واختلف في حد وجوبها فقيل إنها

فصل

تجب بأول الحول حين تعقد لهم الذمة، ثم بعد ذلك عند أول كل حول، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل إنها لا تجب إلا بآخر الحول، وهو مذهب الشافعي، وليس عن مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى في ذلك نص. والظاهر من مذهبه وقوله في المدونة أنها تجب بآخر الحول، وهو القياس، لأنها إنما تؤخذ منهم سنة بسنة جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم يتصرفون في جوار المسلمين وذمتهم آمنين، يقاتل عنهم عدوهم ولا يلزمهم ما يلزم المسلمين، فهي عليهم بإزاء الزكاة على المسلمين، غير أنها تؤخذ منهم على وجه الذلة والصغار، وتؤخذ الزكاة من المسلمين تطهيرا لهم وتزكية. ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يأخذ من نصارى العرب في جزيتهم الزكاة مضاعفة إكراما لهم فوجب أن تجب بمرور الحول كالزكاة. وتحرير قياس ذلك أن الجزية حق في المال فيتعلق وجوبه بالحول، فوجب أن يؤخذ في آخره كالزكاة. فصل وكذلك الحكم في الجزية الصلحية إذا وقعت مبهمة من غير تحديد كما ذكرنا. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذا الاختلاف إنما هو في الجزية الصلحية، وأن الصحيح فيها من القولين أن تؤخذ معجلة عند أول الحول لأنها عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم وترك قتالهم، وقد وجب لهم ذلك بعقد الصلح وتقرر، فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات. واستدل على ذلك أيضا بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقال إن لفظ الإعطاء إذا أطلق فالظاهر منه قبض العطية دون إيجابها. ولو كان محتملا للوجهين احتمالا واحدا لكان قَوْله تَعَالَى عن يد دليلا على أن المراد به القبض، لأن من قال أعطيت فلانا عن يد يفهم منه تعجيل العطاء ودفعه إلى المعطى، قال وهو الذي يأتي على مذهب مالك لأنه قال في تجار الحربيين أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا، فوجب أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه بحصول التأمين لهم وإن لم يحصلوا على ما أملوه من الانتفاع بالبيع والشراء. وإن الجزية

فصل

العنوية تؤخذ في آخر الحول بلا خلاف لأنهم عبيد للمسلمين، وما يؤخذ منهم في الجزية كالخراج، فوجب أن يؤخذ منهم بعد استيفاء المنفعة وانقضاء المدة. وفي هذا كله نظر. أما قوله في الجزية الصلحية إنها عوض عن تأمينهم وترك قتالهم وحقن دمائهم وقد وجب لهم ذلك وتقرر بعقد الصلح فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات فليس ذلك بصحيح، لأنها إنما هي عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم على التأبيد، فإن كان قد وجب لهم الأمان وتقرر بعقد الصلح فلم يحصل لهم بعد ولا استوفوه، وإنما يحصل الاستيفاء بمرور المدة عاما بعد عام لجواز الخفر بهم فيما يأتي من المدة. وإنما ذلك في القياس بمنزلة من أسكن رجلا داره أعواما على أن يؤدي إليه في كل عام كذا وكذا فلا يجب على المسكن أن يؤدي واجب كل عام إلا في آخره، [لأن السكن إن كان قد وجب له وتقرر بالعقد فلم يقبضه بعد ولا استوفاه]. فصل وأما استدلاله على ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقوله إن لفظ الإعطاء عن يد إذا أطلق الأظهر منه التعجيل وإن كان يحتمل أن يراد به التأخير فلا يصح، بل الآية حجة لنا ودلالة على صحة قولنا، لأنه قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فعم بالجزية ولم يخص منها شيئا دون شيء، فوجب بحق الظاهر أن تكون كلها معجلة، فيكون معنى الإعطاء القبض والدفع، أو تكون كلها مؤجلة فيكون الإعطاء بمعنى الإيجاب دون الدفع والقبض، من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] فلما بطل أن تكون كلها معجلة للإجماع على أن جزية العام الثاني وما بعده من الأعوام لا تقبض في أول العام الأول صح أنها كلها مؤجلة لا يتنجز قبض شيء منها ولا يصح في عقل عاقل أن يقول إن

فصل

ظاهر لفظ الإعطاء قبض بعض المعطى وإيجاب بعضه. وإذا لم يصح ذلك فقول الله عز وجل لا دليل فيه على أن مراده بيعطوا الجزية تنجز القبض وإنما معناه على ما قيل عن غلبة وقهر، لأن الأيد القوة. قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة وقدرة. وليل يعطونها بإنعام عليهم لأن [قبولها منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم إذ]، اليد تكون عند العرب بمعنى النعمة. وقيل معناه أن يدفعوها عند وجوبها عليهم بأيديهم لا يرسلوا بها كما يفعل الجبارون المتكبرون. ويؤيد هذا التأويل قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فصل وأما استدلاله على أن مذهب مالك تنجز قبض الجزية عنا أول العام من قوله في تجار الحربيين إنه يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا فلا دليل له في ذلك على ما ذهب إليه، بل يدل ذلك من قوله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على أن الجزية لا تؤخذ إلا في آخر الحول على ما عزينا إليه وتأولناه عليه، لأنه لم يقل أن يؤخذ منهم ما صولحوا عليه عند عقد الصلح معهم قبل أن يدخلوا للتجارة، وإنما قال إنه يؤخذ ذلك منهم إذا دخلوا وأقاموا للتجارة القدر الذي صولحوا على إقامته، فهم لو شاءوا أن يبيعوا باعوا، فليس تركهم لبيع سلعهم باختيارهم بالذي يسقط الحق الواجب عليهم في دخولهم بلاد المسلمين ومقامهم فيها في جوارهم وتحت ذمتهم. فصل وكذلك قوله إن الخلاف غير داخل في الجزية العنوية لا يصح، لأن العلة التي اعتل بها من أن أخذ الجزية في أول الحول وهي الانتفاع بالعقد لإيجابه لهم الذمة والأمان موجودة في هؤلاء لإيجابها لهم البقاء في بلاد المسلمين أحرارا أو بمنزلة الأحرار وهم على كفرهم آمنون.

فصل

فصل واختلف فيمن أسلم بعد وجوب الجزية عليه إما بأول الحول وإما بآخره على الاختلاف المتقدم في ذلك هل تسقط عنه الجزية أم لا على قولين: فذهب الشافعي إلى أنها لا تسقط عنه ويؤخذ بها بعد إسلامه، وذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها تسقط عنه بإسلامه، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا جزية على مسلم». وكتب عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون، لأن الوضع لا يكون إلا فيها قد وجب. وأما سقوطها عنهم فيما يستقبل بعد إسلامهم فليس مما يشكل حتى يحتاج عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى كتابه بذلك إلى عماله فلا يصح أن يحمل كلامه على ذلك. فصل والكفار في أخذ الجزية منهم على أربعة أصناف: صنف تؤخذ منهم الجزية باتفاق. [وصنف لا تؤخذ الجزية منهم باتفاق]. وصنف تؤخذ الجزية منهم على اختلاف. وصنف اختلفوا فيما يؤخذ منهم في الجزية. فصل فأما الذين تؤخذ منهم الجزية باتفاق فأهل الكتاب والمجوس من العجم. تؤخذ من أهل الكتاب بنص القرآن قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومن المجوس العجم وهم ما عدا أهل الكتاب فتؤخذ منهم بالسنة والقياس، فأما السنة فقوله في حديث عبد الرحمن بن عوف «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» يريد في الجزية،

فصل

«وأخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من مجوس البحرين». وأما القياس فهو أن الجزية إذا كانت تؤخذ من أهل الكتاب إذلالا وإصغارا مع أنهم أقرب إلى الحق لإقرارهم بالنبوة والشريعة المتقدمة فالمجوس أحرى بذلك منهم، إذ لا يقرون بشيء من ذلك. وقد قيل في المجوس إنهم أهل كتاب، روي ذلك عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» معناه على قوله الذين يعلم كتابهم على ظهور واستفاضة. فصل وأما الذين لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق فكفار قريش والمرتدون. أما المرتدون فلأنهم ليسوا هم على دين يقرون عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاضربوا عنقه». وأما كفار قريش فقيل إنما لم تؤخذ منهم الجزية لأنه لا يجوز أن يجري عليهم ذلة ولا صغار لمكانهم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن كانوا من أهل الكتاب تخصصوا من عموم الآية بالإجماع ولم يجز في أمرهم إلا الإسلام أو السيف، وهذا الإجماع حكاه ابن الجهم. وقال القزويني إنما لم تؤخذ الجزية من كفار قريش لأن جميعهم أسلم يوم الفتح، فلا يكون قرشي كافرا إلا مرتدا والمرتد لا تؤخذ منه الجزية لأنه ليس على دين يقر عليه ولا يسترق. فصل وأما الذين تؤخذ منهم الجزية على اختلاف فمشركو العرب ومن دان بغير الإسلام [من العرب و] ليس من أهل الكتاب ولا المجوس. أما مشركو العرب

فصل

فذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا تؤخذ الجزية منهم، والى هذا ذهب ابن حبيب، وهو قول ابن وهب من أصحابنا. قال ابن حبيب إكراما لهم فعلى قوله تؤخذ الجزية من غير المجوس إذا لم يكن من العرب ودان بغير الإسلام. وقيل إن ذلك ليس من جهة الإكرام لهم، وإنما ذلك على جهة التغليظ عليهم لبعدهم من الحق إذ ليسوا بأهل كتاب، وهذا يأتي على مذهب الشافعي لأن المجوس عنده أهل كتاب ولا تؤخذ الجزية عنده إلا من أهل الكتاب. فعلى قوله لا تؤخذ الجزية من غير المجوس وأهل الكتاب وإن لم يكونوا من العرب. فصل وأما الذين يختلف فيما يؤخذ منهم في الجزية فنصارى العرب، ذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وحجته قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يأخذ منهم في جزيتهم الصدقة مضاعفة إكراما لهم. وقيل بل كان يأخذ ذلك باسم الجزية والله أعلم. فصل فالذي يتحصل في الجزية ثلاثة أقوال: أحدها أن الجزية تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه من جميع الأمم حاشا كفار قريش. والثاني أنها تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه حاشا كفار قريش ومشركي العرب. والثالث أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس، وهذا قول الشافعي. والقولان الأولان في المذهب، وقد تقدم ذكر ذلك وبالله التوفيق.

كتاب الحج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم عونك اللهم لا شريك له كتاب الحج فصل في معرفة اشتقاق اسم الحج الحج في اللغة القصد مرة بعد أخرى أو هو مأخوذ من قولهم حججت فلانا إذا عدته مرة بعد أخرى، فقيل حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة. قال الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] أي مرجعا يأتونه في كل سنة ثم يرجعون إليه فلا يقضون منه وطرا، أي لا يدعه الإنسان إذا أتى إليه قبل أن يعود إليه ثانية. وقيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت في - أول قدومه فيطوف به قبل يوم عرفة ثم يعود إليه بعد يوم عرفة لطواف الإفاضة ثم ينصرف عنه إلى منى ثم يعود إليه ثالثة لطواف الصدر، فلتكرار العودة إليه مرة بعد أخرى قيل له حاج. فصل والعمرة: الزيارة، يقال أتى فلان معتمرا أي زائرا، فقيل للمعتمر معتمرا لأنه إذا طاف بالبيت انصرف عنه معتمرا أولم يعد إليه بعد زيارته إياه. فمعنى اعتمر الرجل البيت أي زاره وقصده. وكل من قصد شيئا فهو له معتمرا.

فصل

فصل فحج البيت في الشرع قصده على ما هو في اللغة، إلا أنه قصد على صفة ما في وقت ما تقترن به أفعال ما. فصل وحج بيت الله الحرام فريضة كفريضة الصلاة والصيام والزكاة، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فصل ولوجوبه أربعة شرائط، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة. واختلف في الإسلام فقيل: إنه من شرائط الوجوب، وقيل إنه من شرائط الإجزاء، على اختلافهم في مخاطبة الكافر بشرائع الإسلام. فصل والاستطاعة القوة على الوصول إلى مكة إما راكبا وإما راجلا مع السبيل الآمنة المسلوكة. وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستطاعة أنه الزاد والراحلة معناه عندنا في البعيد الدار الذي لا يقدر على الوصول إلى مكة راجلا إلا بتعب ومشقة. فإذا كان لا يقدر على الوصول راجلا لبعد بلده إلا بالمشقة التي ذكر الله تعالى حيث يقول: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] فلا يجب عليه الحج حتى يقدر على الراحلة بشراء أو كراء. وقد قال بعض البغداديين: لم يثبت في الراحلة حديث. وظاهر القرآن يوجب الحج على مستطيعه ماشيا، يريد قول الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، وقد سئل مالك رحمه

فصل

الله عن قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أهو الزاد والراحلة، فقال لا والله ما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه. ولا صفة في هذا أبين مما قال الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا بغير كبير مشقة تلحقه أو راكبا بشراء أو كراء فقد وجب عليه الحج. وليس النساء في المشي على ذلك وإن قوين لأنهن في مشيهن عورة إلا للمكان القريب مثل مكة وما قرب منها. حكى ذلك ابن المواز عن أصبغ. فصل وإن لم يكن عند الرجل من الناض ما يشتري به أو يكتري به وله عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه في الحج ما يباع عليه منها في الدين. أوقد سئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القرية ليس له غيرها أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شيء لهم يعيشون به. قال نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة،. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك فقر ظاهر أو مرض حابس أو سلطان ظالم فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا». فصل واختلف في الحج هل هو على الفور أو على التراخي. فحكى ابن القصار عن مالك أنه عنده على الفور، ومسائله تدل على خلاف ذلك. روى أشهب عنه أنه سئل عمن حلف على زوجته أن لا تخرج فأرادت الحج وهي صرورة أنه يقضى عليه بذلك، ولكن لا أدري ما تعجيل الحنث ها هنا حلف أمس وتقول هي أنا أحج اليوم ولعله يؤخر ذلك سنة بسنة. وفي كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر سنة وكذلك يقضى عليه. وهذا يدل على أن الحج عنده على التراخي، إذ لو كان عنده على الفور لما شك في تعجيل تحنيث الزوج في أول عام. بل القياس يوجب أن يحنث

فصل

الزوج في أول عام وإن كان الحج على التراخي لأن لها أن تعجله وإن لم يجب عليها تعجيله. ولما أخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاما واحدا للعذر المذكور في الحديث رأى على ما في كتاب ابن عبد الحكم أنه يقضى عليهما بالتأخير عاما واحدا، لأن يمين الزوج عذر، ولعلها إنما قصدت إلى تحنيثه لا إلى القربة بتعجيل الحج، فهذا وجه الرواية والله أعلم. ولابن نافع عن مالك في المجموعة أنه يستأذن أبويه في حج الفريضة العام وعام قابل ولا يعجل عليهما، فإن أبيا فليخرج. وهذا بين في أن الحج عنده على التراخي خلاف ما في كتاب ابن المواز أنه يحج الفريضة [بغير إذنهما] وإن قدر أن يترضاهما فعل. وإلى أنه على التراخي ذهب سحنون في نوازله من كتاب الشهادات، أي لم ير أن تسقط شهادة من ترك الحج وهو قوي عليه حتى يتطاول ذلك السنين الكثيرة من العشرين إلى الستين ونحو ذلك. فصل فإذا قلنا إنه على التراخي فله حالة يتعين فيها، وهو الوقت الذي يغلب على الظن فواته بتأخيره عنه، وهو يتعين عندي على من بلغ الستين، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك أمتي من الستين إلى السبعين». وإلى هذا الحديث نحا سحنون في نوازله والله أعلم. ومما يدل على - أن الحج على التراخي أنه فرض في سنة تسع وأقامه أبو بكر للناس في ذلك العام، ولم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في سنة عشر. وإلى هذا ذهب الشافعي واحتج بهذه الحجة. وما اعتل به في ذلك من ذهب إلى أنه على الفور من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد علم بما أعلمه الله أنه يعيش حتى يحج لا يلزم، لأن أصل اختلافهم أفي هذا إنما هو على اختلافهم، في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا يقتضيه. فلو كان قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] يقتضي الفور في اللسان ومفهوم في

الخطاب لما صح أن يؤخر الحج إلى عام آخر وإن علم أنه يعيش إلا أن يخصه الله تعالى بذلك دون غيره، وفعله في امتثال أمر الله محمول على البيان لمجمل كتاب الله حتى يعلم أنه مخصوص بذلك. وإلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصا بتأخير الحج ذهب إسماعيل القاضي فقال إن الله لم يأمره بالحج حتى قطع ما أراد أن يقطعه من عهود المشركين ودار الحج إلى الشهر الذي جعل الله فيه الحج وحج فيه أبوه إبراهيم، وهو قول لا دليل عليه. والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخل تحت عموم قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]. وأما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أخر الحج إلى عام عشر ليوقعه في وقته الذي استدار إليه الزمان وحج فيه الأنبياء قبله إبراهيم وغيره صلوات الله وسلامه عليهم وهو ذو الحجة، فيكون هو الفرض ويثبت فيه الحج إلى يوم القيامة على ما قاله في خطبته، فليس ذلك عندي بصحيح. بل حج أبو بكر في ذي القعدة وهو وقته حينئد شرعا ودينا قبل أن ينسخ النسيء، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية فنسخ ذلك النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأنزل أيضا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] يريد لا ينقل عنها، فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. ولو كان الحج قد فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في ذلك العام إلا في ذي الحجة، ولأمكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحج في ذلك العام لو شاء فيه الحج. فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك على ما جاء في الحديث، لا ليوقعه في ذي الحجة إذ كان قادرا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة لو كان الحج قد فرض عليه فيه على الفور، فصح الدليل من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الحج على التراخي والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل

فصل وقد ذكر الله تعالى الحج كله في كتابه بمناسكه ومشاعره وأحكامه ووقت أدائه وما يحل فيه وما يحرم فقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [أي وقت الحج أشهر معلومات] لأن الحج عمل والأشهر وقت، فليس الأشهر هي الحج، وإنما هي وقت له. واختلف فيها فقيل إن المراد بها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر فقد حل من إحرامه أولم يفسد حجه إن وطئ بعد ذلك لأن ترك الوطء قبل طواف الإفاضة ورمي الجمرة من سنن الحج وليس من فرائضه. وإنما جاز أن يقال لها أشهر وهي شهران وبعض الثالث لأنه وقت، والعرب تسمي الوقت تاما ببعضه، فتقول جئتك يوم الخميس وإنما أتاه في ساعة منه، وجئتك شهر كذا وإنما أتاه في يوم منه. وقيل إن المراد بها شوال وذو القعدة وذو الحجة لأن رمي الجمار في أيام مني بعد العشر وهي من عمل الحج، ولأنه لا يجوز أن يطأ النساء إلا بعد طواف الإفاضة، وله أن يؤخره إلى آخر الشهر ولا يكون عليه دم وهو من عمل الحج. فالرفث في قَوْله تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] هو إصابة النساء. قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] والفسوق الذبح للأنصاب، قال الله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وقال بعضهم الفسوق المعاصي كلها، وهو أظهر، فمعناه ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله عز وجل عنه في حال إحرامه بحجه من قتل صيد أو أخذ شعر أو تقليم ظفر أو غير ذلك مما حرم الله عليه فعله في حال الإحرام. والجدال الذي نهى الله عنه في الحج هو أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح وكانت العرب وغيرها تقف بعرفة، فكانوا

فصل

يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب، فقال الله عز وجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67]. فصل وليس توقيت الحج للحج كتوقيت وقت الصلاة للصلاة في أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج كما لا يجوز الإحرام بالصلاة قبل دخول وقتها. والفرق بينهما من جهة المعنى أن الحج لا يتصل عمله بإحرامه، بل يتأخر إلى ميقاته، فلا يضره الإحرام به قبل وقته، إذ لا يمكن عمله، إلا في وقته، والصلاة يتصل عملها بالإحرام لها، فلو أحرم بها قبل وقتها لجاز أن يفرغ منها قبل دخول وقتها. وقد كان الأصل أن يجب على الناس الإحرام بالحج من أوطانهم وإذ كان بينهم وبين مكة مسيرة العام أو الأعوام بقول الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27]، فخفف الله عنهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى في كتابه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] كما خفف عنهم على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحرموا قبل ميقاتهم. فإن أحرم أحد بالحج قبل أشهر الحج أو قبل ميقاته كان قد أساء إذ شدد على نفسه ولم يقبل رخصة الله، فهذا وجه توقيت أشهر الحج للحج. ولهذا المعنى وجب على من لم يكن من أهل مكة إذا اعتمر في أشهر الحج ثم حج قبل أن يرجع إلى بلده أو قرن أن يهدي، وذلك أنه اعتمر في الأشهر التي خص الله بها الحج في حقه. ومن أهل العلم من يقول: إنه لا يجوز له أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج، فإن فعل حل بعمرة وكان متمتعا ولم يجزئه إحرامه بالحج. وقد قيل: إنه ليس عليه أن يتحلل بعمرة، كمن أحرم بصلاة ثم ذكر أنه قد كان صلاها، إن له أن يقطع ولا يلزمه أن يتم ركعتين، وفي ذلك اختلاف.

فصل

فصل وقال الله تعالى في الطواف: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وقال: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وجاء في بعض الآثار أن أصل الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فغضب عليهم غضبا شديدا فتفرقوا لغضبه ولاذوا بالعرش فطافوا حوله سبعا يستغفرون الله فغفر لهم وقال لهم: ابنوا لي في الأرض بيتا يطوف حوله ذرية من أستخلفه فيها ويستغفرونني فأغفر لهم كما غفرت لكم وأرضى عنهم كما رضيت عنكم، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وقال تعالى في الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فقوله تعالى فيهما إنهما من شعائر- الله دليل على وجوب السعي بينهما، لأن الله تعالى أخبر أن السعي بينهما من شعائر الحج التي أداها خليله إبراهيم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وإن كان خبرا فالمراد به الأمر، لأن الله تعالى أمر نبيه باتباع ملة إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ولا دليل على سقوط وجوب السعي بينهما لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] لأن معنى ذلك هو ما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اعتمر

فصل

عمرة القضية تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما فقالوا: كيف نطوف بهما وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وما يعبد من دون الله شرك بالله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]» أي: فإن كان أهل الشرك يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين بهما كفرا بالله فإنكم تطوفون بهما إيمانا بالله وتصديقا برسله وطاعة لربكم فلا جناح عليكم، أي لا إثم عليكم في الطواف بهما. وروي عن الشعبي أنه قال: كان في الجاهلية وثن على الصفا يسمى أساف وعلى المروة وثن يسمى نائلة، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين فليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله تعالى أنهما من الشعائر. وهذا نحو ما في الموطأ عن عروة بن الزبير أنه قال: «قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن، أرأيت قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فما على الرجل أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار الذين كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]». فصل وأصل السعي بين الصفا والمروة في الحج ما جاء في الحديث الصحيح من «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما ترك ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وهو رضيع فنفد ماؤهما وعطشت وعطش ولدها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قالت: يتلبط، فانطلقت كراهة أن تنظر إليه [فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف

فصل

درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود] حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات». فصل وذكر الله تعالى الوقوف بعرفة والمزدلفة فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] يقول الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات منصرفين [إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. وقوله]، بعد ذلك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قيل: المعنى في ذلك ثم آمركم بالإفاضة من عرفات من حيث أفاض الناس فهو خبر. وثم في الخبر يجوز أن يكون الثاني فيها قبل الأول، كما أن الإفاضة قبل المجيء إلى المشعر الحرام، وله نظائر كثيرة من القرآن. ويجوز أن تكون ثم هاهنا بمعنى الواو، وعنى بالناس في هذه الآية إبراهيم خليل الرحمن - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وهذا جائز في الكلام أن يقال للذي يقتدى به ويكون لسان قومه قال الناس وهم يعنونه. ومنه قوله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وإنما قاله لهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان بعث به أبو سفيان ليخوف المسلمين بجمعهم. وقيل: إن الذي عني بهذه الآية قريش ومن ولدته قريش الذين كانوا يسمون في الجاهلية الخمس، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي البقعة التي أفاض منها سائر الناس. فالمعنى بالناس على هذا التأويل من سوى قريش ممن وقف بعرفة. والمعنى به على التأويل الأول، وهو أظهر، خليل الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي إذا فرغتم من حجكم وذبحتم

فصل

نسائككم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثرهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالتعظيم له تعالى والشكر له دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره تعالى نظير ما كانوا ألزموه أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم. وقيل المعنى في ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الآباء. فصل وأنزل الله تعالى في رمي الجمار في الأيام الثلاثة بمنى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]. والأصل في رمي الجمار، على ما جاء في بعض الآثار، «أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أمر ببناء البيت سارت السكينة بين يديه كأنها قبة، فكانت إذا سارت سار وإذا نزلت نزل، فلما انتهت إلى موضع البيت استقرت عليه وانطلق إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فمر بالعقبة فعرض له الشيطان فأمره فرماه، ثم مر بالثانية فعرض له فرماه، ثم مر بالثالثة فعرض له فرماه، فكان ذلك سبب رمي الجمار. ثم مشى معه يريه المناسك حتى انتهى إلى عرفة فقال له عرفت؟ فقال عرفت، فسميت عرفة. ثم رجع فبنى البيت على موضع السكينة». وقد روي في سبب رمي الجمار ما قد ذكرته في كتب الضحايا من شأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع الكبش الذي فدى الله به ابنه من الذبح فالله أعلم بحقيقة ذلك. فصل وأمر الله تبارك وتعالى من أحرم بالحج والعمرة أن يتمهما على وجههما وذكر تعالى حكم من أحصر فيهما أو تمتع فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]

وقال: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] والقران في الحج مقيس على التمتع. فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن المحصر بمرض لا يحله شيء من إحرامه إلا البيت، فإن احتاج إلى حلق رأسه قبل أن يصل إلى البيت افتدى، وإن أقام على إحرامه حتى يحج به من عام قابل لم يكن عليه هدي، وإن تحلل بعمرة قبل أشهر الحج من عام قابل كان عليه هدي لفوات الحج، فينحره قبل أن يحلق رأسه في حجة القضاء، لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فالهدي الأول هو الثاني عنده. وإن تحلل بعمرة في أشهر الحج من عام قابل كان عليه هدي آخر لاعتماره في أشهر الحج كما يكون على القارن إلا أن يكونا من حاضري المسجد الحرام. وذهب عروة بن الزبير وابن شهاب وجماعة من العلماء إلى أن الهدي الأول في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] غير الهدي الثاني في قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [الهدي الأول يحل به من بعض إحرامه قبل أن يصل إلى البيت إن شاء أن يبعث بالهدي ويجعل له ميعادا ينحره فيه. فإذا بلغ ذلك الوقت حل له حلق الشعر ولبس الثياب وما أشبه ذلك حتى يصل إلى البيت فيحل بالطواف من جميع إحرامه. والهدي الثاني يجب عليه لفوات الحج إذا لم يبن على إحرامه حتى يحج به] في العام المقبل. وإن احتاج قبل أن يصل الهدي الذي يبعث به إلى البيت إلى حلق رأسه فعل ذلك وافتدى لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية. وهذا القول أسعد بالتأويل.

فصل فيما يجتنب في الإحرام

فصل فيما يجتنب في الإحرام وذكر الله تعالى ما يجتنب في الإحرام فقال تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فلا يحل قتل الصيد ولا شيء من الدواب في حال الإحرام إلا الخمس الفواسق التي أباح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتلها في الحل والحرم. وقال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكذلك ما كان في معناه من إماطة الأذى عن نفسه بتقليم ظفر أو إلقاء تفث أو لبس شيء من الثياب المخيطة أو الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين على ما وردت به السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ما أجمل الله عز وجل في كتابه من أمر الحج فوقت المواقيت لأهل الآفاق، وبين عدد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وما يبدأ به في ذلك كله، وكيف يصنع فيه. ووقت الوقوف بعرفة والمزدلفة، والجمع بين الصلاتين بهما، وصفة رمي الجمار والنحر، وما يجب في ذلك كله وما لا يجب قولا وعملا في حجه الذي حج بالناس. ومن أحسن حديث روي في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه حديث جابر بن عبد الله خرجه أصحاب الصحيح مسلم وغيره وقطعه مالك في موطئه، فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذلك فعل البخاري. وحديث جابر بن عبد الله من رواية جعفر بن محمد عن أبيه قال: «دخلنا على جابر بن عبد الله وهو [يومئذ قد ذهب بصره،

فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، وأنا] يومئذ غلام شاب فرحب بي وسهل ودعا لي، فقالوا جئنا نسألك، فقال لي سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت أخبرني عن حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال بيده وعقد تسعا ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول كيف أصنع، قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا ينزل عليه القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة. قال جعفر: فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ووحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك فقال مثل ذلك ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال:

إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. [فحل الناس كلهم إلا النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومن كان معه هدي]. فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله: ألعامنا هذا أم للأبد، فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصابعه ثم قال: هكذا دخلت العمرة مرتين، لا، بل لأبد أبد. وقدم علي من اليمن ببدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا فكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقتْ صدقت، ثم قال: ماذا قلت حين فرضت الحج، قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا أحل. قال: فكانت جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بنا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن بكم فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدا إن

اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، وقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويشير إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه ودفع وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره ووحده وهلله، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الوجه أبيض وسيما فلما دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت الظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى محسرا فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند المسجد فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة منها مثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المسجد

فصل

فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البيت فأفاض وصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه.» فصل وكانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه في سنة عشر من الهجرة، وهي حجة الوداع، لم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعد أن أنزل عليه فرض الحج غيرها، وحج بمكة قبل أن يفرض عليه الحج حجتين على ما روي. فصل ولما فرض الحج وانصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة تبوك عام تسع أراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر فأقام الحج للناس في ذلك العام، وذلك عام تسع، ثم أردفه عليا لما نزلت صدر سورة براءة ليقرأها على الناس بالموسم، ويعهد إلى الناس أن «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج، فخرج على ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضباء حتى لحق أبا بكر بالطريق، فقال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور. ثم نهضا فأقام أبو بكر للناس الحج في ذلك العام على منازلهم التي كانوا في الجاهلية عليها من النسيء الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] الآية فوقعت حجته في ذي القعدة على ما كانوا عليه من النسيء في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين، فوافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من،

فصل

قابل في ذي الحجة، فذلك قوله حيث يقول: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» فثبت في ذي الحجة إلى يوم القيامة. فصل واختلفت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في إهلاله بالحج من حيث كان، فروي عنه أنه أهل من جوف المسجد حين صلى فيه. وقال آخرون: لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته في فناء المسجد. وقال آخرون: إنما أهل حين أطل على البيداء وأشرف عليها. وقد أوضح ابن عباس المعنى في اختلافهم في ذلك، روي عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لأعلم الناس بذلك. «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا فلما صلى بمسجد ذي الحليفة ركعتين أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من الركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا ذلك عنه، ثم ركب فلما استقلت به راحلته أهل وأدرك ذلك أقوام فحفظوا ذلك عنه، فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته. وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا. ثم مضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما وقف على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين أشرف علي البيداء. [فنقل كل واحد ما سمع وإنما كان إهلاله من مصلاه وايم الله].» فمن أخذ بقول ابن عباس أهل بمصلاه إذا فرغ من الركعتين.

فصل

فصل وكذلك اختلفت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هل أفرد الحج أو قرن أو تمتع اختلافا كثيرا. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه أفرد الحج على ما روي عن «عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر ..» وفي حديث عائشة هذا دليل على إباحة التمتع والقران، ولم يختلف أهل العلم في ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن إفراد الحج أفضل على ما روي عن عائشة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال: من تمامهما أن تفرد كل واحدة منها عن الأخرى، وأن يعتمر في غير أشهر الحج، فإن الله عز وجل يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه قال: إذا جاء حديثان مختلفان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. وذهب آخرون إلى أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل، وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. ومنهم من ذهب إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان متمتعا، وهو قول سعد في الموطأ للضحاك بن قيس: بئس ما قلت يا ابن أخي، قد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصنعناها معه. «وقول حفصة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر». وقول عبد الله بن عمر في الموطأ أيضا، وقد أهل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة، ثم قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا». وذهب من صحح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن إلى أن

فصل

القران أفضل، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وفي قول عائشة: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا». دليل على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا، إذ لا اختلاف أن الهدي كان معه يومئذ ساقه مع نفسه. وخرج أبو داود عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي بن أبي طالب: كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فإني سقت الهدي وقرنت» وذكر تمام الخبر. وكذلك روي «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن وأنه سمعه يقول لبيك بحجة وعمرة معا». وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا يجوز أن يقال في واحدة من هذه الوجوه إنها أفضل من الأخرى، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أباحها كلها وأذن بها ورضيها ولم يقل في واحدة منها إنها أفضل من الأخرى. والأولى ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الإفراد في الحج أفضل من التمتع والقران، لأن التمتع والقران رخصة من الله، أوجب على من أخذ بها الهدي إذا لم يكن من أهل مكة. فمن لم يأخذ بالرخصة وأتى بالحج والعمرة في سفرين فهو أفضل والله أعلم. وقد قال بعض أصحابنا: إن الإفراد أفضل، ثم التمتع بعده لأن الله تعالى أباحه في القرآن. فصل وإذا صح حديث ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل بالحج حين فرغ من الركعتين، وحين استوت به راحلته، وحين ظهر على البيداء وصحح على ذلك وجه الاختلاف المروي في حين إحرامه، صح أن يصحح عليه أيضا وجه الاختلاف المروي فيما كان به محرما، إذ قد يحتمل أن يكون أهل حين فرغ من الركعتين بعمرة مفردة، فلما استوت به راحلته أو ظهر على البيداء أهل بحجة مفردة أضافها إلى عمرته المتقدمة فصار بذلك قارنا، فقال من سمع إحرامه حين صلى الركعتين

بعمرة مفردة ولم يسمع إهلاله بعد ذلك بالحج الذي أضافه إلى العمرة المتقدمة: إنه كان متمتعا. وقال: من سمع إهلاله بعد ذلك بالحج المفرد الذي أضافه إلى العمرة المتقدمة ولم يسمع إهلاله بالعمرة المتقدمة إنه أفرد الحج. وقال: من سمع إهلاله حين صلى الركعتين بالعمرة ثم سمع إهلاله بعد ذلك بالحج الذي أضافه إليها إنه كان قارنا. وكان قول من قال ذلك أولى؛ لأنه علم الأمرين جميعا وخفي على من قال: إنه كان مفردا أو متمتعا أو أحدهما. ويؤيد هذا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «فإني سقت الهدي وقرنت» لأنه أخبر عن نفسه بما كان عليه من أمره فكان أولى مما وصف عنه من يمكن أن يكون قد غاب عنه بعض أمره. وقد قيل في وجوب اختلافهم في إحرامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان أفرد الحج أولا ثم فسخه في عمرة وأمر أصحابه بذلك نقضا لما كانوا عليه في الجاهلية، لأنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يسمون المحرم صفر ويقولون إذا عفا الوبر، وبرئ الدبر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فلما قدم مكة قبل أن يطوف بالبيت أضاف الحج إلى العمرة التي كان فسخ الحج فيها فصار بذلك قارنا، فكان في أول أمره مفردا للحج، ثم صار متمتعا إذ فسخ الحج في العمرة، ثم صار قارنا إذ أضاف الحج إلى العمرة. فيصح على هذا قول من قال: إنه أفرد الحج، وقول من قال: إنه كان متمتعا، وقول من قال: إنه كان قارنا. إلا أن إردافه الحج على العمرة لا يوجد في الأحاديث نصا وإنما يقال ذلك بتأويل. والمنصوص فيها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر». فظاهر هذا أنه بقي على عمرته متمتعا إلا أنه لم يحلق بسبب الهدي، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأصحابه: إن من ساق هديا لتمتعه لا يحلق حتى ينحر الهدي، فظنه قارنا من قال: إنه كان قارنا بقوله «لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» ولم يكن قارنا وإنما كان متمتعا لفسخه الحج في العمرة. وإنما فسخ الحج في العمرة لينقض بذلك ما كان عليه أهل الجاهلية، لأن التمتع أفضل من إفراد الحج. فبان على هذا أن إفراد الحج أفضل من التمتع ومن القران، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وبالله التوفيق.

فصل

فصل والعمرة على مذهب مالك سنة وليست بفريضة. وذهب ابن الماجشون إلى أنها فريضة، وهو مذهب ابن الجهم. والذي ذهب إليه مالك هو الصحيح، لأن فرض الحج إنما وجب لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]، وأما قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فإنما هو أمر بالإتمام لمن دخل فيهما. وقد قرئ (والعمرةُ لله) على الابتداء والخبر، فلا متعلق لأحد بإيجاب العمرة في هذه الآية وإنما هي سنة. وقد احتج من ذهب إلى إيجابها بقول الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، فدل أن ثم حجا أصغر وهو العمرة. وهذا لا يصح فإن الحج الأكبر إنما عنى الله به الاجتماع الأكبر بالمشعر الحرام حين تجتمع قريش وسائر الناس ولم يعن به شعيرة من الشعائر. وقيل: إنما عنى به حج أبي بكر لأنه وقع [في ذي القعدة وهو أكبر من الذي كان قبله،] في ذي القعدة أيضا. وقيل: إن الأكبر نعت لليوم لا للحج وأنه يوم عرفة وهو بعيد. فصل واعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا: عام الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة إذ صده المشركون عن البيت. وعام القضية من العام المقبل عام سبع في ذي القعدة آمنا هو وأصحابه. ثم اعتمر الثالثة في ذي القعدة من سنة ثمان. وقد قيل: إن عمرته الواحدة كانت في شوال، ذكر ذلك مالك في موطئه عن عروة بن الزبير. وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر في رجب» وأنكرت ذلك «عائشة وقالت ما اعتمر في رجب قط». فكانت عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث عمر في ثلاثة أعوام عمرة في كل سنة. فلذلك لم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - العمرة في السنة إلا مرة واحدة. ومن قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حجة الوداع متمتعا أو قارنا قال اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عمر.

فصل

فصل والعمرة لا تختص بزمن معلوم، وهي جائزة في السنة كلها لا تكره إلا لمن أحرم بالحج من لدن إحرامه إلى أن تغيب الشمس من آخر أيام التشريق. وسيأتي حكم إرداف الحج على العمرة والعمرة على الحج في موضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى. فصل وقد روي في فضل الحج والعمرة آثار كثيرة: منها قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حج ولم يرفث ولم يجهل رجع كيوم ولدته أمه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». «وسئل: أي الأعمال أفضل قال: إيمان بالله. قيل: ثم أي قال: جهاد في سبيله، قيل: ثم أي، قال: حج مبرور». وفي الموطأ «أن رجلا مر على أبي ذر بالربذة سأله أين تريد؟ قال أردت الحج. قال هل نزعك غيره قال لا. قال فاستأنف العمل، قال الرجل: فخرجت حتى قدمت مكة فبقيت فيها ما شاء الله، ثم إذا أنا بالناس منعطفين على رجل، فضاغطت عليه الناس، فإذا الشيخ الذي وجدت بالربذة يعني أبا ذر، فلما رآني عرفني فقال: هو الذي حدثتك.» فصل والحج المبرور هو المتقبل الذي تخلص فيه النية لله عز وجل وينفق فيه المال الحلال. فينبغي لمن أراد الحج أن يخلص فيه النية لله عز وجل، وأن ينظر في ماله الذي يريد به الحج، فإن علم أنه من غير حله تنحى منه، فإن الله لا يقبل إلا

فصل في معرفة فرائض الحج

طيبا. قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. فصل في معرفة فرائض الحج وفرائض الحج أربعة: النية، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة. وذهب ابن الماجشون إلى أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة لقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، والدليل على أنه غير واجب تقديم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعفة النساء والصبيان من المزدلفة إلى منى، ولم يفعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة مع أن الحاجة إلى ذلك بعرفة أشق. وذهب أيضا إلى أن رمي جمرة العقبة واجب. فصل ويستحب الغسل في الحج في ثلاثة مواطن: للإهلال، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة. وآكدها الغسل للإهلال، ويكون بتدلك وإنقاء، وتغتسل له الحائض والنفساء. أما الغسل لدخول مكة وللوقوف بعرفة فلا يكون بتدلك وإنقاء. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه فيه، واستحب ذلك ابن حبيب. وتغتسل الحائض والنفساء للوقوف بعرفة لأنهما يقفان بها وهما غير طاهرتين. ويغتسلان لدخول مكة بذي طوى ولا يؤخران الغسل إلى حين الدخول لأنهما لا يدخلان البيت، وبالله التوفيق.

كتاب النذور والأيمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب النذور والأيمان فصل فيما يباح من النذر ويلزم الوفاء به من النذور أباح الله تبارك وتعالى لعباده النذر في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، وقال تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]. وأوجب تعالى الوفاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، يريد عقد النذر وعقد اليمين وسائر العقود اللازمة في الشرع. وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].

فصل

فصل فأمر الله تعالى بالوفاء بالنذر عموما وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك ليس على عمومه فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». ولا خلاف بين أحد من الأمة أن السنة تبين القرآن وتخصص عمومه. وإنما اختلف أهل العلم في جواز نسخ القرآن بالسنة، أعني بالسنة المتواترة التي توجب العلم وتقطع العذر. وأما السنة الواردة من طريق الآحاد فلا خلاف في أن نسخ القرآن بها لا يجوز بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل فالنذر ينقسم على أربعة أقسام: نذر في طاعة يلزم الوفاء به. ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به. فصل فالنذر اللازم هو أن يوجب الرجل على نفسه فعل ما في فعله قربة لله تعالى وليس بواجب، أو ترك ما في تركه قربة لله تعالى وليس بواجب، لأن الطاعة الواجبة لا تأثير للنذر فيها، وكذلك ترك المعصية المحرمة لا تأثير للنذر فيها لوجوب ترك ذلك عليه بالشرع دون النذر. وإنما يلزم من التروك بالنذر الترك المستحب، مثل أن ينذر الرجل أن لا يكلم أحدا بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وما أشبه ذلك. فصل والنذر اللازم فيما فيه لله طاعة ينقسم على قسمين: نذر مستحب، وهو المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرا لله على ما أنعم به عليه فيما مضى أو لغير سبب. ونذر مباح وهو المقيد بشرط يأتي. فالنذر المستحب المطلق أن يقول الرجل: لله علي نذر كذا وكذا أو نذر أن

فصل

أفعل كذا وكذا أو نذر أن لا أفعل كذا وكذا، أو لا يلفظ بذكر النذر فيقول: لله علي كذا وكذا أو ألا أفعل كذا وكذا أو أن أفعل كذا وكذا شكرا لله تعالى. الحكم في ذلك كله سواء على مذهب مالك. ومن أهل المذهب من ذهب إلى أنه إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا فذلك لا يلزمه لأنه إخبار بكذب. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هو الصحيح. وذلك أن الذي يقول لله علي كذا وكذا لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بذلك النذر. والثاني: أن يريد بذلك الإخبار. والثالث: أن لا تكون له نية. فإن أراد بذلك الإخبار فلا اختلاف في أن ذلك لا يلزمه. وإن أراد بذلك النذر فلا يصح أن يحمل على الإخبار، ولو جاز ذلك لجاز أن يحمل قوله علي نذر كذا وكذا على الإخبار. وإن لم تكن له نية كان حمله على النذر الذي له فائدة وفيه طاعة أولى من حمله على الكذب الذي لا فائدة فيه بل هو معصية. فصل والنذر المباح المقيد بشرط يأتي، مثل أن يقول الرجل لله علي كذا وكذا إن شفاني الله من مرضى أو قدم غائبي وما أشبه ذلك مما لا يكون الشرط من فعله، إلا أن يكون شيئا يوقته أبدا فإن مالكا كرهه. فصل وأما إن قيد ما أوجب على نفسه من ذلك بشرط من فعل يقدر على فعله وتركه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا فعلي كذا وكذا فليس بنذر وإنما هي يمين مكروهة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»، إلا أنها لازمة عند مالك فيما يلزم فيه النذر من الطاعات، وفي الطلاق وإن لم تكن لله فيه طاعة، لأن الحالف بالطلاق مطلق على صفة، ويقضي به عليه وبالعتق المعين، بخلاف ما سوى ذلك من المشي والصدقة لمعين أو لغير

فصل

معين والعتق الذي ليس بمعين إلا أن يخرج ذلك من تقييده مخرج النذر، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن أفعل فلله علي كذا وكذا فلا يلزمه في الطلاق إذ ليس لله فيه طاعة، ويلزمه فيما عدا ذلك من الطاعات دون أن يقضى عليه في شيء من ذلك وإن كان عتقا بعينه. فصل وإنما لم يقض عليه بالنذر وإن كان لمعين؛ لأنه لا وفاء فيه إلا مع النية، ومتى قضي عليه بغير اختياره لم تصح منه نية فلم يكن فيه وفاء. وهذا إذا سمى النذر. وأما إن لم يسمه وإنما قال علي نذر إن فعلت كذا وكذا فهو كالحالف بالله سواء في اللغو والاستثناء وفي جميع وجوهه، ولا كراهية فيه. وكذلك إن قال: لله علي نذر أو لله علي نذر إن فعل الله بي كذا وكذا فعليه كفارة يمين. فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة. فالمباحة الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته العلى. قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر: 42]. وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109]، «وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا ومقلب القلوب، لا والذي نفسي بيده» ائتساء بما أمر الله به من الحلف باسمه حيث يقول في سورة يونس:

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53]، وفي سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]، وفي سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]، وهي التي أمر الله تعالى بحفظها فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، وأوجب الكفارة فيها بقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] معناه: فحنثتم، ذلك مفهومه. والمكروهة الحلف بغير الله تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». وهي تنقسم إلى قسمين: قسم لا يلزم، وقسم يلزم. فاللازمة أن يوجب على نفسه طلاقا أو عتقا أو ما كان في معناهما أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى إن فعل شيئا أو إن لم يفعله. والتي لا تلزم أن يوجب على نفسه معصية أو ما ليس لله بطاعة ولا معصية إن فعل شيئا أو إن لم يفعله. مثل قوله علي شرب الخمر أو قتل فلان أو المشي إلى السوق وما أشبه ذلك إن فعلت كذا أو إن لم أفعله. أو أن يحلف بحق غير الله تعالى مثل قوله والمسجد والرسول ومكة والصلاة والزكاة وما أشبه ذلك.

فصل

والمحظورة أن يحلف باللات والعزى والطواغيت أو بشيء مما يعبد من دون الله تعالى؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والتعظيم لهذه الأشياء كفر بالله تعالى. فصل والأيمان التي تنعقد وتلزم فيها الكفارة إن حنث ما لم يستثن هو ما كان على المستقبل من الأمور، مثل قوله والله لا أفعل ووالله لأفعلن. وأما ما كان على الماضي فلا كفارة فيه حلف على حق يعلمه أو على شيء يستيقنه فانكشف على غير ما حلف عليه، أو على الكذب متعمدا، أو على الشك إلا أنه يأثم في بعض هذه الوجوه ولا يأثم في بعضها على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل وللحالف نيته التي أرادها وعقد عليها يمينه وإن كانت مخالفة لظاهر لفظه، لا اختلاف في ذلك من قول مالك ولا من أحد من أصحابه. ودليلهم قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات». وإنما اختلفوا إذا لم تكن له نية وكان ليمينه بساط أو عرف من مقاصد الناس في أيمانهم خلاف ظاهر لفظه هل تحمل يمينه على البساط أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم أو على ظاهر لفظه على ثلاثة أقوال معلومة في المذهب. أحدها: وهو الأشهر منها، مراعاة البساط ومقصد الناس بأيمانهم. فاليمين على هذا القول تحمل على نية الحالف، فإن لم تكن له نية فبساط يمينه، فإن لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط فما عرف من مقاصد الناس بأيمانهم. وإن لم يعلم في ذلك للناس مقصد حملت يمينه على ما يوجب ظاهر لفظه في حقيقة اللغة. فإن كان محتملا لوجهين فأكثر فعلى أظهر محتملاته، فإن لم يكن أحدهما أظهر من

فصل

صاحبه واستويا في الاحتمال دون مزية جرى ذلك على الاختلاف [المتعارف] في المجتهد تتعارض عنده الأدلة ولا يترجح أحدها على صاحبه. فقيل: إنه يأخذ بما شاء من ذلك، وقيل: إنه يأخذ بالأثقل، وقيل: إنه يأخذ بالأخف. فكذلك هذا يأخذ بالبر على قول. ووجه ذلك في الطلاق تيقن العصمة وفى اليمين بالله براءة الذمة. ويأخذ بالحنث على قول. ووجه ذلك الاحتياط وأن لا يستباح الفرج إلا بيقين. ويأخذ بما شاء من ذلك في قول. ووجهه أن المجتهد لما كان مأمورا بالحكم ممنوعا من التقليد على الصحيح من الأقوال كان استواء الأدلة عنده دليلا على التخيير، كما يخير المكفر في الكفارة بين العتق والإطعام والكسوة، وكما يخير واطئ الأختين في تحريم أيتهما شاء وما أشبه ذلك. والثاني: أنه لا يراعى في اليمين البساط ولا مقصد الناس في أيمانهم وتحمل اليمين على ظاهر اللفظ إن لم تكن للحالف نية. من ذلك ما وقع في سماع سحنون من قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن البساط مقدم على العرف، فإذا لم يراع البساط فأحرى أن لا يعتبر العرف. وهذا الاختلاف جار عندي على اختلافهم في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يحمل على عمومه أو يقصر على سببه. والثالث: أنه يعتبر البساط في اليمين ولا يعتبر فيها العرف. وهذا القول قائم من المدونة؛ لأنه لم يعتبر في بعض مسائلها العرف. من ذلك مسألة من حلف أن لا يأكل بيضا فأكل بيض الحوت، أو حلف أن لا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس السمك. واعتبره في بعضها. من ذلك مسألة من حلف أن لا يدخل بيتا فدخل المسجد. فصل وهذا فيما كان العرف والمقصد فيه مظنونا. وأما ما كان العرف والمقصد فيه متيقنا معلوما فلا اختلاف في الاعتبار به. وذلك مثل أن يقول الرجل والله لأقودن فلانا كما يقاد البعير ولأعرضن على فلان النجوم في القائلة، فهذا يعلم أن المقصد، خلاف اللفظ، فيحمل على ما علم من مقصده به بلا خلاف. والدليل على

فصل

صحة ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الله عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، وقال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]، وقال: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه». ومثل هذا كثير. فصل وهذا كله في الحلف على نفسه بما لا يقضى به عليه أو بما يقضى به عليه إذا أتى مستفتيا ولم تقم عليه بينة بيمينه. وأما الحلف لغيره في حق أو وثيقة باستحلافه إياه أو متطوعا له باليمين من غير أن يستحلفه بما يقضى به عليه أو بما لا يقضى به عليه فاختلف في ذلك اختلافا كثيرا. فقيل: إن اليمين على نية الحالف. وقيل: إنها على نية المحلوف له. وقيل: إن كان مستحلفا فاليمين على نية المحلوف له، وإن كان متطوعا باليمين له فاليمين على نية الحالف [وقيل بعكس هذه التفرقة إن كان مستحلفا فاليمين على نية الحالف وإن كان متطوعا فاليمين على نية المحلوف له]، وهذه رواية يحيى عن ابن القاسم في الأيمان بالطلاق. والأول قول ابن الماجشون وسحنون. وقيل: إنما يفترق أن يكون مستحلفا أو متطوعا باليمين فيما يقضى به عليه، وأما فيما لا يقضى به عليه فلا يفترق ذلك، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب النذور. فصل وهذا ما لم يقتطع بيمينه حقا لغيره، وأما إذا اقتطع بها حقا لغيره فلا ينفعه في ذلك نية إن نواها. وهو آثم حانث في يمينه، عاص لله عز وجل في فعله، داخل تحت الوعيد. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله

فصل

عليه الجنة وأوجب له النار، قيل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال: وإن كان قضيبا من أراك قالها ثلاثا». فلا اختلاف في هذا الوجه عند أحد من الأمة. فصل والحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه. والأصل في ذلك أن الله تعالى أباح المطلقة ثلاثا بعد زوج فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فلا تحل له بالعقد عليها دون الدخول على ما ثبت في السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قال لامرأة رفاعة بن سموأل: لا تحل له حتى تذوق العسيلة». فصل وحرم ما نكح الآباء والأبناء من النساء فقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، وقال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]. فحرمت على الأب زوجة الابن بأقل ما يقع عليه اسم نكاح وهو العقد دون الدخول، وعلى الابن زوجة الأب بمثل ذلك بإجماع الأئمة. فتبين بذلك أن ما يباح به الشيء أقوى مما يحظر به. فمن حلف أن لا يأكل هذا الرغيف يحنث بأكل بعضه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد استيعاب جميعه. ومن حلف ليأكلن هذا الرغيف لم يبر إلا بأكل جميعه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد أكل بعضه. وعلى هذا فقس ما شابه هذه المسائل. فصل والنية تكون بالقلب دون تحريك اللسان. ومن شرطها أن يعقد عليها يمينه،

فصل

فإن استدركها بعد أن فرطت منه اليمين لم ينتفع بها وان وصلها باليمين. وذلك مثل أن يقول: والله إن كنت رأيت اليوم قرشيا وهو يريد فلانا لرجل بعينه؛ لأنه قد رأى غيره من القرشيين. فإن قال: والله رأيت اليوم قرشيا ولا نية له ثم نوى في نفسه فلانا بعد تمام اليمين لم ينتفع بذلك وإن وصل النية باليمين، بخلاف الاستثناء. فصل والاستثناء على وجهين: استثناء لا يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء من غير الجنس، واستثناء يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء من الجنس. فأما الاستثناء الذي لا يخرج من الجملة بعضها فاختلف في جوازه، والأصح أنه جائز. قال الله عز وجل: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92]. وقال النابغة: وما أحد بالربع إلا الذي أرى وهذا الاستثناء يقدر بلكن. فصل وأما الاستثناء الذي يخرج من الجملة بعضها فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يستثنى أكثر الجملة. والثاني: أن يستثنى أقلها. فأما إذا استثنى أكثر الجملة فاختلف في جواز ذلك على قولين، أصحهما الجواز. والدليل على جوازه قَوْله تَعَالَى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83]، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، فلا بد أن يكون أحد الاستثناءين أكثر من الجملة وأما إذا استثنى أقل من الجملة فإن ذلك جائز باتفاق. وهو على وجهين: بحرف الاستثناء، وبغير حرف الاستثناء.

فصل

فأما الاستثناء بحرف الاستثناء فإنه أيضا على وجهين: أحدهما الاستثناء بإلا أو بما كان في معناها من حروف الاستثناء. والثاني الاستثناء بأن وبإلا أن. فأما الاستثناء بإلا فالمشهور في المذهب أنه لا بد فيه من تحريك اللسان. وقد روى أشهب عن مالك في كتاب النذور أن النية تجزئ في ذلك، وقاله ابن حبيب في الذي يحلف بالحلال علي حرام ويستثني في نفسه إلا امرأته. وأما الاستثناء بأن وبإلا أن فلا تجزئ فيه النية ولا بد من تحريك اللسان ولا خلاف في ذلك أعلمه. وأما الاستثناء بغير حرف الاستثناء فهو أن يقيد العموم بصفة؛ لأن ذلك يقتضي إخراج من ليس على تلك الصفة من ذلك العموم فهو استثناء بالمعنى وله حكم الاستثناء في أن لا ينفع إلا بتحريك اللسان واتصاله بالكلام. مثل ذلك أن يقول والله ما رأيت اليوم قرشيا عاقلا؛ لأنه بمنزلة أن يصل بها إلا أحمق، وذلك منصوص في رواية ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يسأل الرجل عن وديعة قد كان استودعه إياها فيحلف بالطلاق إن كانت في بيته فيلقنه رجل في علمك فيقول: في علمي إنه استثناء، ينفعه إن كان الكلام نسقا ولم يكن بينهما صمات. ومثله في سماع أشهب عن مالك في كتاب النذور في الرجل يحلف ويستثني فيقول: في علمي أن ذلك له؛ لأن قوله: امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي في علمي بمنزلة قوله: امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي، إلا أن أكون غير عالم بها، فهو استثناء بالمعنى. فإن قال الرجل امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي ولا نية له يصح الاستثناء بأن يقول في علمي أو بأن يقول إلا أن أكون غير عالم بها إذا وصل ذلك بيمينه ولم يكن بينهما صمات. ولا ينفعه أن ينوي ذلك بعقب اليمين، وإنما تنفعه النية إذا عقد عليها يمينه من أول ما حلف. فافهم هذا المعنى وقس عليه فإنه جيد خفي جدا. فصل والاستثناء لا يكون إلا من وجهين: أحدهما العدد المسمى. والثاني اللفظ الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص.

فصل

فأما العدد المسمى فلا يصح استدراك الاستثناء فيه إذا لم يعقد عليه يمينه، وإنما يصح إذا عقدها عليه. مثال ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم إلا درهما، فإن كان أراد أن يحلف ليعطينه درهمين فعبر عنهما بثلاثة دراهم إلا درهما صح استثناؤه، وإن كان إنما أراد أن يحلف ليعطينه ثلاثة دراهم فلما أكمل اليمين ولفظ بالثلاثة الدراهم بدا له فاستدرك الأمر واستثنى الدرهم الواحد لم ينفعه وإن كان الاستثناء متصلا باليمين. ومثل ذلك: قول الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ففي هذا المعنى اختلاف يقوم من المدونة. وأما اللفظ الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص فيصح استدراك الاستثناء فيه إذا وصله باليمين بغير صمات. وقال ابن المواز: لا بد أن ينوي الاستثناء قبل آخر حرف من تمام اليمين. مثال ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم إن شاء الله أو إن شاء زيد، فهذا الاستثناء ينفعه وإن لم يعقد عليه يمينه إذا استدركه فوصله باليمين من غير صمات. وعلى مذهب ابن المواز لا ينفعه إلا أن ينويه قبل أن يلفظ بالميم من ثلاثة دراهم. هذا معنى قوله: وإرادته عندي وإن كان قد قال: إن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة واستثنى لا ينفعه الاستثناء إلا أن ينويه قبل أن يلفظ بالهاء من الشهادة فإنما هو تمثيل، ومعناه: أن ينوي الاستثناء قبل أن يلفظ بآخر حرف من تمام كلامه. فصل وأما ما نص عليه بالتسمية فلا يصح فيه استثناء لاستحالة الكلام لو قال والله لأعطين فلانا وفلانا كذا وكذا درهما إلا فلانا منهم، لم يكن كلاما مستقيما. فصل ويصح الاستثناء بمشيئة مخلوق في اليمين بالله وفي اليمين بالطلاق وفي الطلاق المجرد؛ لأنه طلاق على صفة. وأما الاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنما يصح في اليمين بالله ولا يصح في الطلاق المجرد. واختلف هل يصح في اليمين

بالطلاق صرف الاستثناء إلى الفعل، على قولين، الأصح منهما في النظر أنه يصح فيه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل لا إلى نفس الطلاق؛ لأنه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل فقد بر ولم يكن طلاق؛ لأنه علق الطلاق بصفة لا يصح وجودها وهي أن يفعل الفعل والله لا يشاء أن يفعله، وذلك مستحيل إلا على مذهب القدرية مجوس هذه الأمة. فعلى قول ابن القاسم في قوله: إن الاستثناء لا ينفعه وإن صرفه إلى الفعل درك عظيم. وإن لم تكن له نية في صرفه إلى الفعل ولا إلى نفس الطلاق فلا أعرف في ذلك نص رواية. والذي يوجبه النظر عندي أن يكون مصروفا إلى الفعل إذا قصد به حل اليمين ولم يقل ذلك لهجا به دون القصد إلى الاستثناء؛ لأن صرفه إلى نفس الطلاق لغو لا معنى له، كما لو حلف بالله واستثنى فرد الاستثناء إلى اسم الله تعالى المحلوف به. وصرف الاستثناء إلى الفعل المحلوف عليه له معنى صحيح بين على ما ذكرناه. وحمل الكلام إذا عري عن النية على ما له وجه ومعنى أولى من حمله على ما لا وجه له ولا معنى. وقولنا: إن الاستثناء بمشيئة الله لا يصح في مجرد الطلاق إنما معناه أنه لا يسقط عنه الطلاق؛ لأنه إذا قال امرأتي طالق إن شاء الله فقد علمنا أن الله قد شاء ذلك، إذ لا يستطيع أن يطلق امرأته بقوله امرأتي طالق إلا بمشيئة الله، فوجب أن يلزمه الطلاق، كما لو قال امرأتي طالق إن علم الله طلاقي؛ لأنه إذا طلق امرأته بقوله امرأتي طالق فقد شاء الله طلاقها وعلم ذلك. وقول من قال: إن الطلاق إنما لزمه من أجل أن مشيئة الله لا تعلم قول منكر؛ لأن مشيئة الله تعلم بوقوع الفعل، إذ لا يصح أن يقع من مخلوق فعل مع عدم مشيئة الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق.

كتاب الصيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الصيد فصل في إباحة الصيد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، فالطيبات الحلال من الرزق، وكل ما لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة فهو من الطيبات، وهذا على مذهب من يرى أن المسكوت عنه مباح، وفي ذلك اختلاف. فصل وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، معناه وصيد ما علمتم من الجوارح، خرج مخرج قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيد فيما سألوا عنه، وذلك مذكور في الحديث. روي «أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: يا رسول الله إن لنا كلابا تصيد البقر والظباء فمنها ما ندركه ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة، فسكت عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل

فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]»، الآية. فصل والجوارح الكواسب التي يصاد بها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور وما أشبه ذلك. ومن أهل العلم من قال لا يؤكل إلا صيد الكلاب. ومنهم من رأى أنه لا يؤكل صيد الكلاب البهيم. ودليلنا عموم قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، معناه: معلمين أي أصحاب كلاب قد علمتموها. وأصل التكليب تعليم الكلاب الاصطياد، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل من علم جميع الجوارح الصيد مكلب فتكليبها تعليمها الاصطياد. وقوله: {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، فالذي علمنا الله هو ما في طبع الصغير والكبير منا من إنشاد الجوارح وتضريتها على الصيد. فتعليم الكلاب هو أن يشليه فينشلي، ويزجره فيزدجر، ويدعوه فيجيب. وكذلك الفهود وما أشبهها. وتعليم البزاة والصقور وما أشبهها هو أن يشليها فتنشلي- ويدعوها فتجيب. وأما أن يزجرها فتزدجر إذا زجرت فليس ذلك فيها ولا يمكن ذلك منها، قال ذلك ابن حبيب. وليس قوله بخلاف ما في المدونة؛ لأنه إنما أراد في المدونة إن كان يمكن من جوارح الطير أن يفقه الازدجار، وتكلم ابن حبيب على ما يعلم من حالها بالاختبار. وأما النموس فقال ابن حبيب: إنها لا تفقه التعليم ولا يؤكل ما صادت إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله. وروى ابن نافع عن مالك أنه قال: إن أكلت من صيدها فلا يؤكل. وقال ابن القاسم: لا أدري ما هذا، الكلاب تأكل فيؤكل صيدها، ولكن إن كانت تفقه وإلا فلا يؤكل صيدها إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله. فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ظاهره أدركت ذكاته أو لم تدرك، أكلت الجوارح منها أو لم تأكل، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه. وقال

فصل

ناس: إنه لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه؛ لأنه إنما أمسك على نفسه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه هو الصحيح، إذ لا فرق بين الكلب وسائر الجوارح، وقد جمع الله بينهما في كتابه. فقد أجمع أهل العلم أن قتل الكلب للصيد ذكاة له، فلا فرق في القياس بين أن يأكل من صيده بعد أن يقتله وبين أن يأكل شاة مذبوحة. فصل واعتلال من حرم أكله بأنه إذا أكل منه فإنما أمسك على نفسه لا علينا لا يصح؛ لأن نية الكلب لا يمكننا علمها. وقد يحتمل أن يمسك على نفسه ثم يبدو له فيترك الأكل، وأن يمسك علينا ثم يبدو له فيأكل. وإذا أرسلناه لا ندري هل يمسك على نفسه أو علينا، بل المعلوم منه أنه إنما يمسك على نفسه، ولو كان شابعا ما صاد، ولذلك يجوع ثم يرسل على الصيد. فإذا أمسك على نفسه فقد أمسك علينا، إذ لا يصح أن يظن أحد أن الكلب إذا أرسله صاحبه يمضي لمرسله بنية خالصة دون نفسه؛ لأن ذلك خلاف ما في طبعه من أن يفترس لنفسه. ولو كلفنا الله تعالى في تعليم الجوارح هذا لكلفنا نقل طباعها، وذلك ما لا يصح أن يقع التكليف به. وأيضا فقد أجمع أهل العلم أن الكلب المعلم إذا قتل الصيد كان أكله جائزا من غير أن ينتظر به حتى يرى إن كان يأكل منه أو لا يأكل ليستدل بذلك إن كان أمسك على نفسه أو علينا. وفي إجماعهم على ذلك دليل على ترك الاعتبار بأكله. وقد قال بعض من ذهب إلى هذا: إنه يختبر الكلب ثلاث مرات فإن لم يأكل أكل صيده، وذلك فاسد في القياس. وما روى شعبة عن عدي بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أكل الكلب فلا تأكل» قد خالفه فيه همام ولم يذكر هذه الزيادة. واللفظة إذا جاءت في الحديث زائدة لم تقبل إذا كانت مخالفة للأصول. وقد روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تشهد الأصول بصحته، وهو أنه قال: «إذا أكل فكل»، وقال الشافعي: البازي والصقر والعقاب والكلب واحد لا يؤكل صيد

فصل

واحد منهم إذا أكل منه. وروي ذلك عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة، وهو بعيد؛ لأن تعليم الجوارح من الطير إجابتها إذا دعيت لا أن تزدجر إذا زجرت، إذ لا يتأتى ذلك منها ولا يمكن، فكيف أن يترك الأكل إذا صادت. فصل وقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، فيه تقديم وتأخير، وتقديره فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، فالتسمية تجب عند الإرسال على الصيد كما تجب على الذبيحة. فإن ترك التسمية عند الإرسال عمدا لم يؤكل الصيد، وإن نسي أو جهل أكل الصيد بمنزلة الذبيحة سواء. فصل وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، وهذه الآية نزلت في المحرمين، فمعنى ليبلونكم ليختبرنكم فيعلم المطيع بترك الصيد في الإحرام من العاصي بالصيد فيه، أي ليعلم حصول الطاعة ووقوعها من عباده بعد تقدم علمه تعالى بما يكون منهم قبل أن يخلقهم. وقيل: معناه ليعلم ذلك عندكم، يقول: لتعلموا أن الله قد علم ذلك منكم فتجنبوه. وقوله: {مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، من هاهنا للتبعيض، يريد صيد البر؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح للمحرمين صيد البحر. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. فصل والذي تناله الأيدي من الصيد هو البيض والفراخ وصغار الصيد وما لا يفر ولا

فصل

يمتنع بنفسه، والذي تناله الرماح والأسل الظباء وبقر الوحش وما لا يوصل إليه باليد. فصل وأباح الله تعالى الصيد للحلال عموما باليد والرماح والأسل وبما ينبغي به الصيد من الجوارح. فقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وخصص من ذلك على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصيد في حرم مكة وحرم المدينة فقال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها». إلا أنه لا جزاء على من قتل الصيد في حرم المدينة عند مالك وجمهور أهل العلم، وإنما عليه الاستغفار. فصل فصيد البر مباح للحلال في الحل ومحرم على المحرم وعلى الحلال في الحرم. وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأكثر أهل العلم الصيد على وجه التلهي لما فيه من اللهو والعذاب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة، ولم ير أن تقصر الصلاة فيه. ولا بأس بالصيد لمن كان عيشه أو لمن قرم إلى اللحم. وأباحه محمد بن عبد الحكم لعموم قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، واستخف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصيد لأهل البادية؛ لأنهم من أهله وأن ذلك شأنهم، ورأى خروج أهل الحضر إليه من السفه والخفة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.

كتاب الذبائح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الذبائح قال الله عز وجل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، معناه: أحل لكم المذكى منها وما كان في معناها بدليل قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]؛ لأن مراده بقوله تعالى {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ما تلاه بعد ذلك من التحريم في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، فالميتة ما مات حتف أنفه، والدم بمعني الدم المسفوح، وأما اليسير فإنه حلال. قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، وقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، عرفنا الله تبارك وتعالى بهذا أن الذكاة غير عاملة فيه. وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] هو ما ذبح على النصب مما لا يأكلونه. وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] هي التي صارت بالخناق إلى حال اليأس الذي لا ترجى معه حياة. وكذلك الموقوذة وهي المضروبة بالعصا، والمتردية التي تتردى من جبل أو غيره. والنطيحة المنطوحة، هي التي صارت البهيمة في ذلك كله إلى حال اليأس، بدليل أن التي أنفذت مقاتلها بسبيل الميتة، والتي لم تنفذ مقاتلها وترجى حياتها بسبيل

فصل

الصحيحة. والميتة مذكورة في أول الآية، والصحيحة لا معنى لذكرها إذ لا إشكال في أمرها، فهذا دليل على صحة تأويلنا، وقولنا إن المراد بالموقوذة وأخواتها ما صار إلى هذا الحد وفي ذلك اختلاف سنذكره. فصل وقد اختلف في قول الله عز وجل في هذه الآية: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، هل هو استثناء متصل أو من فصل. والاستثناء المتصل هو ما يخرج عن الجملة بعض ما يتناوله اللفظ، مثل قول القائل رأيت بني فلان إلا عمرا منه. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]، وهو كثير. والاستثناء المنفصل هو ما لا يخرج من الجملة المتقدمة شيئا مما يتناوله اللفظ، مثل قول القائل أطعمت القوم إلا دوابهم. قال النابغة: وما بالربع من أحد إلا الأراوي والأراوي ليست من الآحاد. ومنه قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92]؛ لأن الخطأ لا يصح أن يقال فيه إن له أن يفعله. وقَوْله تَعَالَى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3]، ويقدر هذا الاستثناء بلكن كأنه قال: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى لكن تذكرة لمن يخشى. فصل فمن ذهب إلى أن الاستثناء في قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، هو من الاستثناء المتصل أجاز ذكاة المنخنقة وأخواتها وإن صارت البهيمة مما أصابها من ذلك إلى حال اليأس ما لم ينفذ ذلك مقتلا، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة والعتبية، وإحدى روايتي أشهب عنه في العتبية أيضا. ومن ذهب إلى أنه استثناء من فصل لم يجز ذكاتها إذا صارت في حال اليأس مما أصابها من ذلك وإن لم ينفذ منها مقتلا، وقال: معنى الكلام: لكن ما ذكيتم من غير هذه

فصل

الأصناف، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه، وقول ابن الماجشون وابن عبد الحكم وروايته عن مالك. وأما إذا أنفذ مقاتلها ما أصابها من ذلك فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق في المذهب؛ لأنها بسبيل الميتة، وإن تحركت بعد ذلك فإنما هي بسبيل الذبيحة التي تتحرك بعد الذبح. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب الديات في الذي ينفذ مقاتل رجل ثم يجهز عليه آخر أنه يقتل به ويعاقب الأول. فعلى هذه الرواية يلزم أن يجيز ذكاة هذه الأصناف بعد إنفاذ المقاتل من جعل الاستثناء متصلا، إلا أنها رواية ضعيفة. والصواب رواية يحيى وسحنون أن الأول هو الذي يقتل به ويعاقب الثاني. وقد روي عن علي بن أبي طالب أن الذكاة تصح فيها ما بقيت فيها حياة بتحريك يد أو رجل ظاهرة وإن كانت منفوذة المقاتل، وهو قول ابن عباس. روي عنه أنه سئل عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فقال: كل، وما انتثر من قصبها فلا تأكل. فصل والمقاتل المتفق عليها خمسة: انقطاع النخاع وهو المخ الذي في عظام الرقبة والصلب، وقطع الأوداج، وخرق المصير، وانتثار الحشوة، وانتثار الدماغ وهو المخ. ومعنى قولهم في خرق المصير: إنه مقتل إنما ذلك إذا خرق أعلاه في مجرى الطعام والشراب قبل أن يتغير ويصير إلى حال الرجيع. وأما إذا خرق أسفله حيث يكون الرجيع فليس بمقتل. وإنما قلنا ذلك؛ لأنا وجدنا كثيرا من الحيوان ومن بني آدم يجرح فيخرق مصيره في مجرى الرجيع فيخرج الرجيع على ذلك الجرح ويعيش مع ذلك زمانا وهو متصرف يقبل ويدبر. ولو خرق في مجرى الطعام والشراب لما عاش إلا ساعة من نهار. ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما طعن فسقي اللبن فخرج من الجرح علم أنه قد أنفذت مقاتله فقال له من حضره أوص يا أمير المؤمنين. وقد كان الشيوخ يختلفون عندنا في البهيمة تذبح وهي صحيحة في ظاهرها فيوجد كرشها مثقوبا. ولقد أخبرني بعض من أثق به أنها

فصل

نزلت برجل من الجزارين في ثور فرفع الأمر إلى صاحب الأحكام ابن مكي فشاور في ذلك الفقهاء فأفتى الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن أكلها جائز وأن للجزار أن يبيعها إذا بين ذلك. وأفتى ابن حمدين أن أكلها لا يجوز وأمر أن تطرح في الوادي. فرأى ابن مكي أن يأخذ بقول ابن حمدين وأمر أن تطرح في الوادي، فأخذها الأعوان ليذهبوا بها إلى الوادي، فسمعت العامة والضعفاء أن الفقيه ابن رزق أجاز أكلها فتألبوا على الأعوان وأخذوها من أيديهم وتوزعوها فيما بينهم ونهبوها وذهبوا بها لمكانة الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفوسهم من العلم والمعرفة. والذي أفتى به هو الصواب عندي لما قدمته من الموجود المعلوم بالاعتبار، والتوفيق بيد الله. واختلف في اندقاق العنق من غير أن ينقطع النخاع، فروى ابن القاسم عن مالك رحمهما الله تعالى أنه ليس بمقتل، وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أنه مقتل. وفي انشقاق الأوداج من غير قطع فقال ابن عبد الحكم: ليس مقتلا، وقال أشهب وغيره من أصحاب مالك: هو مقتل. وأما إذا لم ينفذ ما أصابها من ذلك لها مقتلا ورجيت حياتها فلا اختلاف أنها تذكى وتؤكل إذا علم أنها كانت حية حين الذكاة بوجود علامات الحياة بها، وهي خمسة: سيلان الدم، وطرفة العين، وركض الرجل، وتحريك الذنب، واستفاضة نفسها في حلقها. وهذه العلامات الخمس راجعة إلى اثنتين، وهي سيلان الدم، وتحرك الذبيحة، أو ما يقوم مقام التحرك من استفاضة نفسها في حلقها الذي يعلم أنه لا يكون إلا مع الحياة. فصل فإن وجدت العلامتان جميعا في المكسورة التي لم ينفذ مقاتلها الكسر وهي مرجوة الحياة عند ذكاتها فإنها تؤكل باتفاق. وإن وجد منها سيلان الدم دون التحرك أو ما يقوم مقامه لم تؤكل، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ، ولا اختلاف في ذلك أعلمه. وإن وجد منها التحرك أو ما يقوم مقامه من استفاضة نفسها بدون سيلان الدم جرى ذلك على الاختلاف في التي يئس من حياتها إذا لم ينفذ ذلك لها مقتلا؛ لأن دمها إذا لم يسل حين الذبح فقد علم أنها

فصل

كانت لا تعيش لو تركت؛ لأن انقطاع الدم إنما يكون بانقطاع بعضها من بعض، وذلك ما لا يصح معه حياة. فصل فالحكم في المنخنقة وأخواتها ينقسم على هذه الأقسام الثلاثة: إذا لم تنفذ مقاتلها ورجيت حياتها عملت فيها الذكاة باتفاق. وإذا أنفذت مقاتلها لم تعمل فيها الذكاة باتفاق في المذهب إلا على قياس رواية أبي زيد، وقد تقدم ذكر شذوذها. وإن لم تنفذ مقاتلها إلا أنه قد يئس من حياتها قبل، أو شك في أمرها، عملت فيها الذكاة على قول ابن القاسم ومن قال بقوله ممن يرى الاستثناء في الآية المذكورة متصلا. فيتحصل فيها إذا يئس من حياتها أو شك في ذلك ثلاثة أقوال. أحدها: أنها تذكى وتؤكل. والثاني: أنها لا تذكى ولا تؤكل. والثالث: أنها تذكى وتؤكل إذا شك في حياتها، ولا تذكى إذا يئس من حياتها. فصل وذهب ابن بكير إلى أن معنى ما ذكر الله في الآية في المنخنقة وأخواتها أنها هي التي ماتت من ذلك كله، وقال: إنما ذكر الله الميتة حتف أنفها والتي تموت من هذه الأسباب، فأخبر أن الجميع بمنزلة سواء في التحريم. هذا معنى قوله دون النص، وعلى هذا التأويل فالاستثناء منفصل على كل حال لا يصح غيره، وكذلك قال هو. وما ذهب إليه في ذلك بعيد؛ لأن الميتة اسم عام يدخل تحته الميتة حتف أنفها والتي تموت من هذه الأشياء، فلو كان المعنى ذلك لم يكن لذكر المنخنقة وأخواتها في الآية معنى. وله على بعده وجه، وهو أن الله تعالى أعلم أن التي تموت من هذه الأشياء كالتي تموت حتف أنفها سواء في التحريم. وإنما الصحيح في معنى الآية ما قدمته أولا من أن المنخنقة وأخواتها التي ذكر الله في الآية هي

فصل

التي صارت مما أصابها في حال اليأس منها دون أن ينفذ لها ذلك مقتلا، فيحتمل أن يرجع الاستثناء عليها وأن لا يرجع على ما قدمناه من الاختلاف في ذلك. فصل وأما المريضة فلا خلاف بين أصحابنا أن الذكاة عاملة فيها وإن يئس منها إذا وجدت علامات الحياة فيها حين الذكاة، وهي الحركة أو ما يقوم مقام الحركة من استفاضة نفسها في حلقها وسيلان الدم على ما قدمناه. فإن تحركت ولم يسل دمها فإنها تؤكل، وقد نص على ذلك ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقاله ابن كنانة. وإن سال دمها ولم تتحرك لم تؤكل؛ لأن الحركة في معرفة الحياة أقوى من سيلان الدم. فصل وأما الصحيحة التي لا مرض بها ولا كسر فتؤكل إذا سال دمها عند الذبح وإن لم تتحرك؛ لأن الحياة فيها معلومة لصحتها، فالحركة أو ما يقوم مقامها من استفاضة نفسها في حلقها دليل على الحياة في كل موضع، وسيلان الدم دون الحركة دليل على الحياة في الصحيحة خاصة. واختلف في وقت مراعاة هذه الحركة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تراعى إلا أن توجد بعد الذبح. والثاني: أنها تراعى وإن وجدت في حال الذبح. والثالث: أنها تراعى وإن وجدت قبل الذبح. فصل فإنما أباح الله لنا ما أباح لنا من حيوان البر بالذكاة. والذكاة تنقسم على ثلاثة أقسام: ذبح، ونحر، وقتل على صفة ما. فأما النحر والذبح ففي ما له دم سائل من المملوك المأسور. والقتل فيما كان ممتنعا بنفسه من الصيد وفيما ليس له دم سائل من الحيوان على ما أحكمته السنة في ذلك، وقد تقدم حكمه في كتاب الصيد.

فصل

فصل وما يذكى ينقسم على أربعة أقسام: قسم ينحر ولا يذبح وهي الإبل بجميع أصنافها. وقسم يذبح وينحر وهي البقر وما جرى مجراها. وقسم يذبح ولا ينحر وهو ما سوى الإبل والبقر مما له دم سائل. وقسم تصح ذكاته بغير الذبح والنحر وهو الصيد في حال الاصطياد، وما ليس له دم سائل. فصل وقد اختلف فيمن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح من غير ضرورة. قال مالك في كتاب ابن المواز: لا يؤكل كان ساهيا أو متعمدا، وهو ظاهر ما في المدونة. وقال أشهب: يؤكل كان ساهيا أو متعمدا، وهو ظاهر قول عبد العزيز بن أبي سلمة في العتبية. وقيل: يكره أكله. وقال ابن بكير: إن ذبح البعير أكل، وإن نحرت الشاة لم تؤكل، وتذبح النعامة ولا تنحر، قاله ابن القاسم. وقيل في الفيل: إنه ينحر. ووجه ذلك أنه لا عنق له يذبح فيه. ووجه قول ابن القاسم في النعامة وإن أشبهت البعير في طول العنق أنه لا لبة لها تنحر فيها. فصل وفرائض الذكاة بالذبح خمسة: النية وهي القصد إلى الذكاة، وقطع الودجين والحلقوم، والفور. فأما النية فهي فرض بإجماع. وأما قطع الودجين والحلقوم فإن ذلك فرض عند مالك وأصحابه. فإن قطع الحلقوم ولم يقطع الودجين أو قطع الودجين ولم يقطع الحلقوم أو قطع الودج والحلقوم ولم يقطع الودج الآخر لم تؤكل الذبيحة خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما رحمهما الله تعالى إن الذكاة في أربع: الحلقوم والمريء والودجين، فإن أنفذ منها ثلاثا وبقي واحد أكلت الذبيحة. واستيعاب قطع الحلقوم فرض على أصل مذهب مالك. وروي عن ابن القاسم وابن كنانة في المدونة، وهو قول ابن حبيب، أنه إن قطع نصفه أو أكثره أجزأه، وقال سحنون: لا يجزئه إلا أن يقطعه كله. ومن ذلك اختلافهم في الغلصمة إذا لم تكن في الرأس فالمشهور في المذهب أنها لا تؤكل، حكى ذلك يحيى بن عمر عن

فصل

مالك، وقاله ابن القاسم وأصبغ وعيسى بن دينار. واختلف فيه قول أشهب وابن عبد الحكم وابنه محمد وسحنون، وقال ابن وهب: لا بأس بها. وإن قطع بعض الغلصمة فقد قال محمد بن عبد الحكم على قياس الرواية بالمنع إن صار منها في الرأس حلقة مستديرة كالخاتم أكلت وإلا لم تؤكل. فصل وأما إن رفع يده قبل إكمال الذكاة ثم ردها، فقال ابن حبيب: تؤكل الذبيحة إن كان ذلك بالقرب، واختلف فيه قول سحنون، فمرة قال: لا تؤكل وإن رد يده بقرب ذلك، ومرة كرهها. وقد تأول على سحنون أنه إن رفع يده كالمختبر ثم ردها بالقرب أكلت، وإن رفع يده وهو يرى أن الذكاة قد أكملها لم تؤكل وإن رد يده بالقرب، وقد قال بعض القرويين في ذلك بالعكس قياسا على من سلم من ركعتين شاكا أو على يقين أنه قد أكمل الصلاة، واستحسن ذلك أبو الحسن القابسي. فصل ومن سنن الذبيحة التسمية، وأن لا تنخع الذبيحة حتى تزهق نفسها، وأن توجه للقبلة وتضجع على شقها الأيسر، وأن يرفق بها في ذلك كله. وسيأتي حكم من ترك شيئا من ذلك كله في موضعه إن شاء الله. والاختيار أن تذبح بالحديد. قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]، فإن لم يجد الحديد فما ذبح به أجزأه إذا قطع وأنهر الدم إلا السن والظفر. فقد اختلف في الذبح بهما، فقيل ذلك جائز، وقيل لا يجوز. وفرق ابن حبيب بين أن يكونا مركبين أو غير مركبين. وقيل: إنه يجوز بالظفر ولا يجوز بالسن. والقولان الأولان مرويان عن مالك، وبالله التوفيق والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الضحايا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الضحايا فصل في سبب شرع الضحايا أصل ما شرع الله الضحايا لعباده ما حكاه في محكم كتابه من قصة خليله إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وما ابتلاه به من ذبح ابنه ثم فداه بذبح عظيم. قال الله تبارك وتعالى في كتابه حاكيا عن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] أي ولدا صالحا قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. روي أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق نذر لله تعالى أن يجعله ذبيحا إذا ولدته سارة، فلما ولدته وبلغ معه السعي أي معونته على العمل قيل له في المنام: أوف لله بنذرك فرؤيا الأنبياء وحي. فقال لابنه إسحاق: يا بني اذهب بنا نقرب إلى الله قربانا، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلقا، فلما سارا بين الجبال التفت إسحاق وقال يا أبت أين قربانك؟ {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. فقال له يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه سارة فتحزن لذلك، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة أمي فاقرأ

- عَلَيْهَا السَّلَامُ - مني. فأقبل عليه أبوه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي حتى استنقعت الدموع تحت خد إسحاق ثم إنه جر السكين على حلقه فلم تجر، وطوقه الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق، فلما رأى ذلك خشي أن يكون من الشيطان وصوب به وجهه وجر السكين في قفاه فلم تجر، فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وناداه الله عز وجل، أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا التفت، فالتفت فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين، فأخذ الكبش وحل ابنه وأقبل عليه يقبله ويقول اليوم وهبت لي يا بني. وروي أنه أرسل ابنه ثم اتبع الكبش ليأخذه فأحرجه عند الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات فأفلت عندها، فجاء الجمرة الوسطى فأحرجه عندها فرماه بسبع حصيات، فأفلت فجاء الجمرة الكبرى جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات وأحرجه عندها وأخذه فجاء به المنحر فذبحه. روي ذلك عن ابن عباس وأنه قال: والذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة، فكان ذلك سبب ما شرعه الله تعالى من رمي الجمار بمنى، والنحر في أيام النحر؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يتبع ملة إبراهيم فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم. وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقد استدل برواية ابن عباس هذه من ذهب إلى أن الذبيح إسماعيل وبقول الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] يقول بشرناه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره

بذبحه وله من الله هذا الوعد. وقال أبو جعفر الطبري: والذي ذهب إليه أكثر أهل العلم بالتأويل أن الذبيح هو إسحاق، وهو الأظهر؛ لأن الذبيح إذا كان هو الغلام الحليم الذي بشره الله به لمسألته إياه أن يهب له من الصالحين بنص الكتاب فهو إسحاق، والله أعلم؛ لأنه لم يكن له ولد إلا من الصالحين، فيبعد أن يسأل الله أن يهبه ما قد وهبه إياه. وقد بين في كتابه أن الذي بشر به إسحاق فهو الذبيح والله أعلم. وقد روي أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام وبها أراد ذبحه. وغير مستحيل أن يكون حمل رأس الكبش من الشام إلى مكة. ولا حجة لمن ذهب إلى أن الذبيح إسماعيل في قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] عقب الفراغ من قصة الذبيح؛ لأنه إنما بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. وكذلك لا حجة في وعد الله له أن يكون له ولد من إسحاق؛ لأنه إنما أمر بذبحه بعد أن بلغ معه السعي وتلك حال لا ينكر أن يكون له فيها أولاد فكيف بولد والله أعلم. وقال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح وقال في آخر القصة: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ثم قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 110] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 111] {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 113] أي: على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] كنى عنه؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات: 113] فدل على أنهما ذرية إسماعيل وإسحاق. وليس يختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بثلاث عشرة سنة. وأيضا قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أعرابيا قال له يا ابن الذبيحين يعني إسماعيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأباه عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان نذر إن بلغ ولده عشرة أن ينحر منهم واحدا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح على أن يذبح من خرج قدحه، وقد كتب اسم كل واحد في قدح، وخرج قدح عبد الله، ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه، ففداه بعشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها، وسن الدية مائة. قال ابن إسحاق وأما من قال: إنه إسحاق فقال كانت في إسحاق بشارتان: الأولى قوله:

فصل

{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ولما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لذبحه بشر به نبيا من الصالحين. قلت: والذي ذهب إليه المفضل من أنه إسماعيل هو الأظهر. وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا والله أعلم. وما استدل به أبو جعفر الطبري لما ذهب إليه من أنه إسحاق - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه يبعد أن يسأل إبراهيم ربه هبة ما قد وهبه إياه إنما يستقيم على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، فإن كان إسماعيل أكبر من إسحاق على ما ذكره المفضل من أنه لم يختلف في ذلك الرواة فما استدل به حجة للمفضل في أن الذبيح إسماعيل والله أعلم. فصل وروي أن هذا الكبش الذي فدي به ابن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذبح هو القربان الذي أخبر الله أنه تقبله من أحد ابني آدم حيث يقول: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] فذلك أن ابني آدم لما أمرا بالقربان كان أحدهما صاحب غنم وكان نتج له حمل في غنمه فأحبه حتى كان يؤثره بالليل وكان يحمله على ظهره حتى لم يكن له مال أحب إليه منه. فلما أمر بالقربان قربه لله فقبله الله منه فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم - والله أعلم. فصل فالضحية سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بالنحر وهو لكم سنة» وأما قول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قيل: معناه فصل لربك وانحر لربك، فتكون الآية على هذا عامة في الهدايا والضحايا. وقيل: يعني به صلاة الصبح بالمشعر الحرام ثم النحر بعدها

فصل

بمنى. وقيل: يعني به صلاة العيد ثم النحر بعدها، وأن الآية نزلت بالمدينة. وأما الحج فلا صلاة عيد فيه. وقيل: يعني به وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة عند النحر وهو الصدر. وقيل: يعني به استقبال القبلة في الصلاة لوجهك ونحرك أي صدرك، والله أعلم. وقال ابن حبيب: إنها من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها خطيئة، وأنها أفضل من الصدقة وإن عظمت، وأفضل من العتق. ونحوه في المدونة فيمن اشترى أضحية ولم يضح بها حتى مضت أيام النحر أنه آثم، فعلى هذا هي واجبة. وتحصيل مذهب مالك أنها من السنن التي يؤمر الناس بها ويندبون إليها ولا يرخص لهم في تركها، فقد قال: وإن كان الرجل فقيرا لا شيء له إلا ثمن الشاة فليضح، وإن لم يجد فليستسلف. وقد روي عنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الضحية أفضل من الصدقة، وروي عنه أن الصدقة أفضل من الضحية. فعلى هذا لم يرها واجبة ولا يأثم بتركها وإن كان موسرا ما لم يتركها رغبة عن إتيان السنن. فصل وفي الضحايا فضل كثير. قال الله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يعني ذخر الثواب. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم أجرا عند الله من إراقة الدماء». وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما عمل آدمي يوم النحر من عمل أحب إلى الله من إراقة دم وإنه ليأتي يوم القيامة في قرنه بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن دمها ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسا» فقوله: في قرنه يريد في كتاب حسناته. وقوله: بقرونها وأظلافها وأشعارها يريد أن شيئا منها لا يضيع له وأنه يجده ويجازى عليه، فلذلك يستحب عظم الضحية وكمال شعرها وكمال خلقها. والآثار في هذا كثيرة.

فصل

فصل وأفضل الضحايا الكبش الفحل الأبيض الأقرن الأعين الذي يمشي في سواد وينظر بسواد ويأكل بسواد، وقد روي أن هذه كانت صفة الكبش الذي فدي به ابن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذبح. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لدم عفراء أفضل عند الله من دم سوداوين». فصل وفحول الضأن في الضحايا أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من فحول المعز، وفحول المعز أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من الإبل والبقر، وذكور الإبل أفضل من إناثها وإناثها أفضل من ذكور البقر، وذكورها أفضل من إناثها، قاله ابن شعبان. وقال عبد الوهاب: أفضلها الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، وهو الصواب؛ لأن المراعاة في [سنة] الضحايا طيب اللحم ورطوبته؛ لأنه يختص بها أهل البيت دون الفقراء، بخلاف الهدايا. والدليل على ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ضحى بالغنم، ولو كانت الإبل في الضحايا أفضل لضحى بها. ومما يدل أيضا على أنها أفضل من الإبل في الضحايا أن الله تبارك وتعالى إنما فدى ابن إبراهيم من الذبح بكبش، وقال في كتابه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وروى أن الله أنزله من الجنة وأنه كان رعى فيها خمسين خريفا. وأما الهدايا فالإبل أفضل ثم البقر ثم الضأن. وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الإبل في الضحايا أفضل من الغنم، واحتج على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اغتسل وراح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» الحديث. والضحايا قربان. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدايا. وقد روي ذلك في

فصل

غير حديث الموطأ «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة». فصل والضحية واجبة على المقيم والمسافر والذكر والأنثى والصغير والكبير. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضحي الوصي عن اليتيم من ماله، ويلزم الأب أن يضحي عن بنيه الذكور والإناث ما كانت نفقتهم له لازمة، الذكور حتى يحتلموا، والإناث حتى يتزوجن ويدخل بهن أزواجهن. ولا يلزمه أن يضحي عن امرأته ولا عن أم ولده، ولا يلزم أم الولد أن تضحي عن نفسها، وكذلك من فيه بقية رق لا تلزمه الضحية. والاختيار عند مالك أن يضحى عن كل نفس بشاة، فإن ضحى بشاة واحدة عن جميع أهل البيت أجزأهم. فصل وأيام النحر ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده، وهي الأيام المعلومات التي ذكر الله في كتابه فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] يضحي فيها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إلا في اليوم الأول فلا يضحي فيه إلا بعد صلاة العيد ونحر الإمام. ويستحب في اليوم الثاني والثالث ألا يضحي إلا ضحوة بعد طلوع الشمس، فإن ضحى قبل ذلك بعد طلوع الفجر أجزأه. ويستحب أيضا لمن لم يضح في اليوم الثاني من أيام الذبح حتى زالت الشمس أن يؤخر الذبح إلى ضحى اليوم الثالث فإنه أفضل. وأما من لم يضح في يوم النحر حتى زالت الشمس فقيل: إن الأفضل أن يضحي في بقية ذلك النهار، وقيل: الأفضل أن يؤخر إلى ضحى اليوم الثاني. وأما اليوم الثالث فيضحي بعد الزوال من فاته أن يضحي قبله؛ لأنه ليس ثم وقت ينتظره. فصل والضحية لا تجب إلا بالذبح خلاف الهدي الذي يجب بالتقليد والإشعار.

فقد روى ابن القاسم عن مالك رحمهما الله تعالى في سماعه من كتاب الضحايا من العتبية ما يدل على أنها تجب بالتسمية قبل الذبح، فقال: لا تجز الضحية بعد أن تسمى، فإن فعل انتفع بصوفها ولم يبعه، وقال سحنون وأشهب: لا بأس ببيعه إذا جزه قبل الذبح، وخفف ذلك أصبغ، وهو الذي يأتي على أنها إنما تجب بالذبح وهو المشهور في المذهب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الأشربة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الأشربة قال الله تعالى عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] أي تريحون وقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] واختلف في السكر فقيل: إنه اسم من أسماء الخمر وإنه يقع على كل مسكر من التمر والعنب وغيرهما، قال ذلك من ذهب إلى أن الخمر اسم لكل مسكر. وقيل: إن السكر ما أسكر من التمر، والخمر ما أسكر من العنب. وقيل: إن السكر هو الطعم يقال قد جعلت هذا لك سكرا أي طعما، وهذا له سكر أي طعم. وقيل: إن السكر ما سد الجوع. فمن ذهب إلى أن السكر الطعم أو ما سد الجوع فالآية على مذهبه بينة في المعنى مفتقرة إلى تأويل وتفسير. وأما الذين ذهبوا إلى أن السكر ما أسكر من كل شيء أو مما عدا العنب فإنهم اختلفوا في معناها، فمنهم من ذهب إلى أنها إخبار عما يصنعون ويتخذون من ذلك تقتضي الإباحة وأن الله قد نسخ ذلك بما أنزل من تحريم الخمر في المائدة وغيرها. ومنهم من ذهب إلى أن الآية لا تقتضي الإباحة؛ لأن الله لم يأمر فيها باتخاذ السكر ولا أباحه، وإنما أخبر فيها بما يتخذون من الخمر المحرمة عليهم في سورة المائدة وغيرها. والأول أظهر؛ لأن الله إنما ذكر ذلك تعديدا لنعمه على عباده وتنبيها على

فصل

الاعتبار بآياته، فيبعد أن يمتن الله على عباده بما حرم عليهم وأمرهم باجتنابه في غير ما آية من كتابه. وأيضا فإن سورة النحل مكية وتحريم الخمر إنما أنزل بالمدينة في سورة المائدة. فصل وأجمعت الأمة على أن الخمر محرمة في كتاب الله تعالى، إلا أنهم اختلفوا إن كانت محرمة في الكتاب بنص أو بدليل. والصحيح أنها محرمة فيه بالنص؛ لأن المحرم هو المنهي عنه الذي توعد الله عباده على استباحته. وقد نهى الله عن الخمر في كتابه وأمر باجتنابها وتوعد على استباحتها فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا بلاغ في الوعيد. وهاتان الآيتان ناسختان لآية البقرة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولآية النساء قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]؛ لأن آية البقرة إنما تقتضي الذم دون التحريم، فكانوا يشربونها لما فيها من المنافع. وأما آية النساء فقيل: إنها تقتضي الإباحة؛ لأنهم أمروا فيها بتأخير الصلاة حتى يذهب السكر قبل أن تحرم الخمر، فكان منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقيمت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران، ثم نسخ ذلك فحرمت الخمرة وأمروا بالصلاة على كل حال. وقيل: إنها تقتضي تحريم السكر في وقت الصلاة؛ لأن ذلك مفهوم النهي عن أن يقرب الصلاة في حال السكر؛ لأنهم كانوا يشربون الخمر بالليل حين نزلت هذه الآية حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة.

فصل

فصل وإن طالب متعسف جاهل بوجود لفظ التحريم لها في القرآن فإنه موجود في غير ما موضع، وذلك أن الله سماها رجسا فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ثم نص على تحريم الرجس فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وسماها أيضا في موضع آخر فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ثم نص على تحريم الإثم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] ولو لم يرد في القرآن في الخمر إلا مجرد النهي لكانت السنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم الخمر مبينة لمعنى نهي الله عنها وأن مراده به التحريم لا الكراهة؛ لأنه إنما بعثه ليبين للناس ما نزل إليهم. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله حرمها، وأجمعت الأمة على تحريمها، وتحريمها معلوم من دين النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضرورة. فمن قال: إن الخمر ليست بحرام فهو كافر بإجماع يستتاب كما يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل. «روي أن ناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلمهم الصلاة والسنن والفرائض ثم قالوا: يا رسول الله إن لنا شرابا نصنعه من القمح والشعير، فقال: أيتغير؟ فقالوا: نعم، فقال: لا تطعموه، ثم سألوه عنه بعد يومين فقال: لا تطعموه، ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنه فقال: لا تطعموه، قالوا: فإنهم لا يدعونه، قال: من لم يدعه فاضربوا عنقه» يريد مكذبا بتحريمه، والله أعلم. ومن شربها وهو مقر بتحريمها جلد الحد ثمانين. فصل وشرب الخمر من أكبر الكبائر، والآثار الواردة بالتشدد في شرب الخمر كثيرة قد أكثر الناس من ذكرها فلا معنى لجلبها.

فصل

فصل والخمر ما أسكر وخامر العقل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام فما أسكر من جميع الأشربة فقليله وكثيرة حرام»، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجمهور أهل العلم، وخالف في ذلك أهل العراق. فمنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش وألقى الزبد أو نش وإن لم يلق الزبد على اختلاف بين هؤلاء في ذلك، وما سوى ذلك عندهم من الأشربة والأنبذة المسكرة النيئة أو المطبوخة فالسكر منها حرام، وما دونه حلال على ما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب، وهذا لا حجة فيه؛ لأن بعض الرواة يقول فيه والمسكر من كل شراب. ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين خمر العنب والتمر خاصة على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخمر من الكرمة والنخلة». ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي الخمر التي من عصير العنب، وأن نقيع التمر والزبيب المخمر عن غير طبخ بمنزلة الخمر في تحريم العين بخلاف سائر الأشربة والأنبذة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من الكرمة والنخلة»، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. فصل فكل مسكر مطرب من أي نوع كان من الأنبذة والأشربة محرم العين نجس الذات؛ لأن الله تعالى سمى الخمر رجسا كما سمى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجسا فقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وليس معنى قولنا إن الخمر نجسة الذات أن ذاتها نجسة، إذ لو كانت ذاتها التي هي جسمها نجسة لما انتقلت بتبدل صفاتها إلى الطهارة، وإنما معنى قولنا إنها نجسة

الذات أن ذاتها نجست بحلول صفات الخمر فيها كما حرمت بذلك. ألا ترى أنها قد كانت طاهرة حلالا حين كونها عصيرا قبل حلول صفات الخمر فيها، فلما حلت فيها صفات الخمر نجست بذلك وحرمت به. فلما كان حلول صفات الخمر في العصير علة في تحريمه وتنجيسه وجب إذا ارتفعت منها تلك الصفات التي هي العلة في التحريم والتنجيس أن يزول الحكم بزوال العلة، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من القايسين أن الحكم الواجب لعلة شرعية يزول بزوال العلة ما لم تخلفه علة أخرى موجبة لمثل حكمها. فلا خلاف بين أحد من المسلمين أعلمه في أن الخمرة نجسة ولا في أنها إذا تخللت من ذاتها تطهر فتحل إلا ما ذهب إليه ابن لبابة في أن نجاستها مختلف فيه وأن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها أن أكلها حلال إذا تخللت أو عالجها رجل حتى تخللت يدل أنها عنده ليست بنجسة وإن حرم شربها، إذ ليس كل حرام نجسا. من ذلك الحرير والذهب للرجل وما لا يؤكل لحمه وغير ذلك، وأن كراهيته للخمر التي تعالج بالحيتان حتى تصير مريا خلاف ذلك، وأنه على القول بأنها نجسة تنجس ما حلت فيه من الماء والطعام كسائر النجاسات. وقوله خطأ صراح، بل لا اختلاف في أنها نجسة تنجس الثياب والماء والطعام، ولا اختلاف في أنها إذا تخللت من ذاتها تحل وتطهر. وإنما اختلفوا إذا خللت هل تؤكل أم لا على اختلافهم في وجه المنع من تخليلها، إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عبادة لا لعلة، وقيل بل منع من ذلك لعلة وهي التعدي والعصيان في اقتنائها. وقيل: بل العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها فيحكم عليه بإراقتها لذلك ولا يمكن من تخليلها. فعلى القول بأن المنع من تخليلها عبادة لا علة لا يجوز تخليلها في موضع من المواضع. ويتخرج جواز أكلها إذا خللت على قولين جاريين على اختلافهم في النهي، هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا يقتضيه. وعلى القول بأن المنع من تخليلها لعلة يجوز تخليلها إذا ارتفعت العلة. فمن رأى أن العلة في ذلك التعدي والعصيان في اقتنائها أجاز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يخلله، وقال: إنه إن خلل ما عصى في اقتنائه لم يأكله عقوبة. ومن رأى العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب

عليها أجاز للرجل في خاصة نفسه أن يخلل ما عنده من الخمر على أي وجه كان ويأكله، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل وأن يبادر إلى إراقتها كما فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في حديث أنس. فيتحصل في جواز تخليل الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز دون تفصيل. والثاني: أن ذلك جائز دون تفصيل على كراهية. والثالث: الفرق بين أن يقتني الخمر أو يتخمر عنده عصير لم يرد به الخمر. وفي جواز أكلها إن خللها على مذهب من لا يجيز له تخليلها في حال ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين أن يخلل من الخمر ما اقتنى أو ما تخمر عنده مما لم يرد به الخمر. وهذا قول سحنون، والقولان الأولان لمالك. وقد علل بعض البغداديين وهو عبد الوهاب المنع من أكلها إذا خللت على مذهب الشافعي ببقائها على النجاسة، وهو تعليل فاسد، إذ لو بقيت على النجاسة إذا خللت لكان أحرى أن تبقى عليها إذا تخللت، إلا أن يريد ببقائها على النجاسة بقاءها على حكم النجاسة في المنع من الأكل مع زوال النجاسة فيكون لذلك وجه، وهو أنه جعل ارتفاع صفات الخمر من الخمر بالتخليل كارتفاع النجاسة عن الثوب بالغسل بما سوى الماء من المائعات، فتكون الخمر إذا خللت طاهرة إن وقع شيء منها بعد التخليل في ماء أو ثوب لم تنجسه، كما يكون الثوب النجس إذا غسل بما سوى الماء من المائعات حتى زالت النجاسة عنه طاهرا إن حل في ماء طاهر لم ينجسه، ويكون حكم نجاسة الخمر إذا خللت باقيا على الخل في المنع من الأكل كما يكون حكم نجاسة الثوب إذا غسل بما سوى الماء من المائعات باقيا على الثوب في المنع من الصلاة فيه. وهذا كله بين والحمد لله. فإن قال قائل: إن كانت الخمر نجسة فكيف تطهر إذا تخللت عند مالك ومن قوله أن المنجوسات لا يطهرها من النجاسات إلا الماء الطاهر؟ قيل له: الفرق بينهما أن النجاسات أعيان قائمة بأنفسها لا يستحيل بقاؤها، فإذا خالطت الأجسام الطاهرة لم تنفصل عنها عند مالك إلا بالماء لقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وطهور

من أبنية التكثير، فوجب أن يختص بالماء التطهير دون ما سواه من المائعات. وأما صفات الخمر فليست بأعيان قائمة بأنفسها؛ لأن الله خلقها خلقا لا تبقى فلا تتصف بطهارة ولا نجاسة، ومحلها يتصف بالنجاسة بها من جهة الشرع، فإذا زالت عنه لم يتصف بالنجاسة ولا حكم له بحكمها، وحكم له بحكم ما انتقل إليه من المائعات الطاهرة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب العقيقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العقيقة العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه. وقد اختلف في وجه تسميتها عقيقة، فحكى أبو عبيد عن الأصمعي وغيره أن العقيقة الشعر الذي يكون على رأس المولود، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة؛ لأنه يحلق رأسه عند ذبحها، وهو الأذى الذي جاء الحديث بإماطته عنه. ويشهد لقوله بيت امرئ القيس: أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا فالعقيقة والعقة الشعر الذي يولد به الطفل. وقيل في معنى البيت أي أنه لم يعق عنه في صغره حتى كبر، عابه بذلك. وقال أحمد بن حنبل: إنما العقيقة الذبح نفسه، وهو قطع الأوداج والحلقوم، ومنه قيل للقاطع رحمه في أبيه وأمه عاق، وهو كلام غير محصل. والتحقيق فيه على ما ذهب إليه أن العقيقة الذبيحة نفسها؛ لأنها هي التي تقطع أوداجها وحلقومها فهي فعيلة من العق الذي هو القطع بمعنى مفعولة، مثل قتيلة ورهينة وما أشبه ذلك. فصل والعقيقة من الأشياء التي كانت في الجاهلية فأقرت في الإسلام. روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بدمها، ثم كنا في الإسلام إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بالزعفران. فهي سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه، إلا أنها ليست

فصل

بواجبة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه، وهي عندهم من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة. والدليل على ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق» وكأنه إنما كره الاسم، وقال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك على ولده فليفعل». وما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى» يدل على وجوبها. وتأويل ذلك عندنا على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بعد بقوله: «من أحب أن ينسك على ولده فليفعل» فسقط الوجوب. ومن أهل العلم من تعلق بما يدل عليه الحديث المذكور وغيره من الوجوب فأوجب العقيقة وقال: إن من لم يعق عنه وهو صغير يلزمه أن يعق عن نفسه وهو كبير على ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة» ولم يصح ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فأنكره وقال: أرأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين لم يعق عنهم في الجاهلية أعقوا عن أنفسهم في الإسلام؟ هذه الأباطيل. وأما ما تضمنه الحديث من تسمية المولود يوم سابعه فإليه ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأمر في ذلك واسع. «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له ابنه إبراهيم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» «وأنه أتي بعبد الله بن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد فيها فحنكه بتمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله» في حديث طويل. فصل فالمشهور عند مالك أنه لا يعق عن المولود إلا يوم سابعه. وقد روى أشهب عنه في الذي لا يتهيأ له ما يعق به عنه يوم سابعه أنه لا يعق عنه بعده إلا أن يكون قريبا. وروى ابن وهب عنه أنه إن لم يعق عنه يوم سابعه عق عنه يوم السابع الثاني، فإن لم يفعل عق عنه في الثالث، فإن جاوز ذلك فقد فات موضع العقيقة،

فصل

فقيل: يحسب السابع من غروب الشمس وقيل من طلوع الفجر وقيل من زوال الشمس. وقيل يحسب ذلك النهار إن بقيت منه بقية قبل الغروب على ما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فصل وحكم العقيقة حكم الضحايا؛ لأنها نسك فلا يباع جلدها ولا لحمها ولا يعطى الجزار على جزارتها شيئا من لحمها، ويتقى فيها من العيوب ما يتقى في الضحايا، ويؤكل منها ويتصدق وتكسر عظامها ولا يمس الصبي بشيء من دمها؛ لأن ترك كسر عظامها وأن يلطخ الصبي بشيء من دمها من أفعال الجاهلية. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى»، فقيل: إن إماطة الأذى عنه المأمور به في الحديث بترك ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من لطخ رأسه بدمها. وقيل بل ذلك حلق شعر رأسه، وهو الأظهر. قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فأوجب الفدية على المحرم لإماطة الأذى عن نفسه بحلق شعر رأسه، فكان العقيقة فيها أيضا مع [النسك معنى] الفدية عن المولود لإماطة الأذى عنه بحلق شعر رأسه. ولهذا المعنى والله أعلم قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح. فصل وسننها أن تذبح ضحوة إلى زوال الشمس، ويكره أن تذبح بالعشي بعد زوال الشمس أو بالسحر قبل طلوع الشمس. وأما إن ذبحها بالليل فلا يجتزأ بها. فصل وأفضل ما يعق به الضأن ثم المعز ثم البقر ثم الإبل. وقد روي عن مالك أنه لا يعق إلا بالغنم.

فصل

فصل والعقيقة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن الجارية والغلام سواء، شاة عن كل واحد منهما. وقد «روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة». والمكافئتان المتماثلتان المشتبهتان. وذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم، منهم ابن عمر وعائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن أخذ به فما أخطأ ولقد أصاب. فصل وقد اختلف في أي وقت يحسب سابع المولود إذا ولد على أربعة أقوال: أحدها: أن يحسب له سبعة أيام بلياليها من غروب الشمس، ويلغى ما قبل ذلك إن ولد في النهار أو في الليل بعد الغروب، ويعق عنه في ضحى اليوم السابع، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه. والثاني: أنه إن ولد في النهار بعد الفجر ألغي ذلك اليوم وحسب له سبعة أيام من اليوم الذي بعده. وإن ولد قبل الفجر وإن كان ذلك في الليل حسب له ذلك اليوم، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثالث: أنه إن ولد في شباب النهار قبل الزوال حسب له ذلك اليوم، وإن لم يولد إلا بعد الزوال ألغي ذلك اليوم. وهذا القول حكى ابن الماجشون أنه كان قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا ثم رجع عنه. والرابع: أنه يحسب ذلك اليوم وإن ولد في بقية منه قبل الغروب، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. واختار أصبغ أن يلغى ذلك اليوم. فإن حسب سبعة أيام من تلك الساعة التي ولد فيها اجتزى بذلك وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب النكاح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم عونك اللهم لا شريك لك كتاب النكاح فصل في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو واجب أو مندوب إليه أو مباح قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] الآية. فصل فالنكاح الذي هو الغشيان جبل الله الخلق عليه بما ركب فيهم من الشهوات

فصل

ليكون بهم النسل حتى يكمل ما قدره من الخلق. وأباحه في الشرع على وجهين: [أحدهما: عقد النكاح، والثاني: ملك اليمين، فلا يحل استباحة الفرج بما عدا هذين الوجهين]. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه ومندوب إليه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه واجب. والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل؛ لأنه خير فيه بين النكاح وملك اليمين فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. وملك اليمين ليس بواجب بإجماع، ولا يصح التخيير بين واجب وما ليس بواجب؛ لأن ذلك مخرج للواجب عن الوجوب وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، فدل ذلك من قوله على أن النكاح غير واجب؛ لأن من حفظ فرجه عن الزنا بملك يمينه أو باستغنائه عن النكاح توجهت المدحة إليه من الله عز وجل. فصل فإذا ثبت بهذه الأدلة أن النكاح غير واجب علم أن الأوامر الواردة في القرآن بالنكاح في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وليست على الوجوب. [وإذا لم تكن على الوجوب] فهي على الندب لا على الإباحة. والدليل على ذلك حض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النكاح ونهيه عن التبتل وهو ترك النكاح. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

فصل

«تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» وقال: «من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني» ومعنى ذلك والله أعلم أن النكاح يعف المرء عن الزنا، والعفاف إحدى الخطتين اللتين ضمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الجنة فقال: «من وقاه الله شر اثنتين له الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحل الله شيئا أحب إلي من نكاح». وقال: «عليكم بالباءة فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يكن له طول فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسكين مسكين رجل لا زوجة له، ومسكينة مسكينة امرأة لا زوج لها قيل وإن كان ذا مال يا رسول الله، قال وإن كان ذا مال». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رهبانية في الإسلام ولعن الله المتبتلين والمتبتلات» ومعناه التاركين للنكاح استسنانا وتشرعا. فصل فالنكاح من القادر عليه إذا لم تكن له حاجة إليه مستحب عند أهل العلم. روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها حاجة وأطأها وما أشتهيها، قيل له: وما يحملك على ذلك، قال: حبي في أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبيين يوم القيامة، فإني سمعته يقول: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» يعني بقوله أنتق أرحاما أقبل للولد، فإن كان حصورا أو عنينا أو عقيما يعلم من نفسه أنه لا يولد له فالنكاح له مباح وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل في بيان ما يحرم نكاحه من النساء

فصل وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر علي الصبر دون النساء ولا كان عنده مال يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب. ومن لم يحتج إليه وخشي أن لا يقوم بما أوجب الله عليه فيه فهو له مكروه. فمن الناس من يجب عليه النكاح، ومنهم من يستحب له، ومنهم من هو جائز له ومباح من غير استحباب، ومنهم من يكره له على ما بيناه. فالقول: إنه واجب على الإطلاق أو مندوب إليه على الإطلاق ليس بصحيح. وكذلك المرأة قد يكون عليها النكاح واجبا، وقد يكون لها مستحبا، وقد يكون لها مباحا جائزا، وقد يكون لها مكروها. وأما الوطء بملك اليمين فإنما هو من قبيل المباح، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في بيان ما يحرم نكاحه من النساء وقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ليس على عمومه، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وهن اللواتي لا أزواج لهن أبكارا كن أو ثيبا ليس على عمومه أيضا؛ لأن الله تعالى خص من ذلك من حرمه من النساء، وذلك سبع عشرة امرأة، وهي الأم، والابنة، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والأم والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة وهي الربيبة، وزوجة الابن، وزوجة الأب، والجمع بين الأختين، والمحصنات وهن ذوات الأزواج، والمجوسيات، والإماء الكتابيات. سبع بالنسب، واثنتان بالرضاع، وست بالصهر، واثنتان بالدين، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فهؤلاء المحرمات بالنسب، وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فهاتان المحرمتان بالرضاعة وقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]

فصل

وقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فهؤلاء المحرمات بالصهر وقال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فتمت السبع عشرة امرأة، وما سواهن فنكاحهن حلال. قال الله تعالى لما نص على هؤلاء المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] إلا ما خصص من ذلك أيضا بالسنة المبينة للقرآن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق. فصل ويدخل في قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات والجدات من قبل الآباء والأمهات كن يرثن أو لا يرثن. وتلخيص ذلك أن كل من لها عليك ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] البنات وبنات البنات وبنات البنين وإن سفلوا كل من لك عليها ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قول الله عز وجل: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]. ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] جميع الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب.

ويدخل في قوله: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] العمات والخالات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب وعمات الآباء وخالاتهم وعمات الأمهات وخالاتهن. وتلخيص ذلك أن كل من ولده جدك أو جدتك وإن علوا من قبل الآباء كانا أو من قبل الأم فهي عليك حرام. ولا يدخل في ذلك شيء من بناتهن أولئك حلال نكاحهن. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50]. ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء: 23] بنات بنات الأخ وبنات بنيه وإن سفلن، كل من لأخيك عليه ولادة فهي عليك حرام، كان الأخ للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب. ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] بنات بناتها وبنات بنيها وإن سفلن، كل من لأختك عليها ولادة فهي عليك حرام، كانت الأخت للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب. ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أمهاتهن وإن علون وبناتهن وبنات بناتهن وبنات بنيهن وإن سفلن، وأخواتهن وعماتهن وخالاتهن من قبل الأب والأم ومن قبل الأب دون الأم ومن قبل الأم دون الأب. ولا يدخل في ذلك شيء من بنات أخواتهن ولا من بنات عماتهن ولا من بنات خالاتهن. ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب؛ لأن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل زوجها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللبن للفحل. ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات ومن فوقهن من الجدات، وليس يدخل فيه بنات الأمهات ولا أخواتهن ولا عماتهن ولا خالاتهن،

أولئك حل نكاحهن بعد موتهن أو فراقهن؛ لأنهن ذوات محارم فإنما يحرم الجمع بينهن. ويدخل في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن. ولا تحرم الربيبة ولا شيء من بناتها أو بنات بنيها إلا بالدخول بالأم أو التلذذ بشيء منها بسبب الشرط الذي فيها. وأما الأم فإنها تحرم بالعقد على الابنة؛ لأنها مبهمة لا شرط فيها. ويدخل في قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] أبناء الأبناء وأبناء البنات وإن سفلوا كانوا من نسبة أو رضاع. وإنما قيد الله تعالى تحريم حلائل الأبناء بقوله تعالى {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] تحليلا لحلائل الأبناء الأدعياء لا تحليلا لحلائل الأبناء من الرضاعة؛ لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب بنص الكتاب والسنة. ولذلك تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش التي كانت زوجة زيد بن حارثة الذي كان تبناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وذلك أن اليهود والمنافقين قالوا لما تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج حليلة ابنه وقد كان ينهى عن ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك ما أنزل تكذيبا لهم وردا لقولهم وتجويزا لما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويدخل في قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] الجمع بين ذوات المحارم كلهن، من ذلك الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، التي ورد النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمع بينهما بيانا لما في القرآن من ذلك، إذ لا

فصل

جائز أن يقول قائل إن تحريم الجمع بينهما إنما هو بالسنة لا بالقرآن، فالله يقول في كتابه بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]. ويدخل في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] آباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب ومن الرضاع. فصل فإذا تزوج الرجل امرأة وابنتها في عقدة واحدة، فإن عثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فرق بينه وبينهما بغير طلاق ولم يكن لواحدة منهما شيء من الصداق وكان له أن يتزوج من شاء منهما. وقيل: إنه لا يتزوج الأم للشبهة التي في البنت، وإن مات الزوج لم يكن لواحدة منهما ميراث ولا لزمتها عدة. وأما إن لم يعثر على ذلك حتى دخل بهما فيفرق بينهم أيضا بغير طلاق، ويجب لكل واحدة منهما ما سمى من الصداق، وتستبرئ نفسها بثلاث حيض ولا تحل له واحدة منهما أبدا. وإن مات أيضا لم يكن لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة فيفرق بينه وبينها ويكون للتي دخل بها صداقها المسمى، ويجب عليها الاستبراء بثلاث حيض، وتحرم على الزوج التي لم يدخل بها منهما أبدا، وتحل له التي دخل بها منهما إن كانت الابنة بلا خلاف، وإن كانت الأم على الاختلاف. وإن مات لم يكن أيضا لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما غير معروفة فادعت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها، فالقول قول الزوج مع يمينه في تعيين التي يقر أنه دخل بها ويغرم لها صداقها، ويجب على كل واحدة منهما الاستبراء بثلاث حيض. وإن مات أخذ من ماله الأقل من الصداقين فكان بين الزوجتين بعد إيمانهما. وكذلك الحكم في الذي يتزوج الأختين في عقد واحد، إلا أنه يتزوج من شاء منهما بعد الاستبراء بثلاث حيض إن كان قد دخل بهما وبالله التوفيق. فصل وأما إن تزوج الأم والابنة واحدة بعد واحدة فلا يخلو ذلك من ستة أوجه:

أحدها: أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما، والثاني: أن لا يعثر على ذلك إلا بعد أن يدخل بهما، والثالث: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالأولى، والرابع: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالثانية، والخامس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة ولا يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية، والسادس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما مجهولة. فأما الوجه الأول وهو أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية، ويبقى مع الأولى إن كانت البنت بلا خلاف، وإن كانت الأم فعلى اختلاف. فإن لم تعلم الأولى منهما فرق بينه وبينهما، ويتزوج البنت إن شاء وتكون عنده على طلقتين، ويكون لكل واحدة منهما نصف صداقها، وقيل: ربع صداقها. والقياس أن يكون لكل واحدة منهما ربع الأقل من الصداقين، وذلك إذا لم تدع كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا ادعت عليه معرفة ذلك. وإن ادعت كل واحدة منهما عليه أنه علم أنها هي الأولى قيل له احلف أنك ما تعلم أنها هي الأولى، فإن حلف على ذلك وحلفت كل واحدة منهما أنها هي الأولى كان لهما نصف الأكثر من الصداقين فاقتسمتاه بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما، وإن نكلتا عن اليمين بعد حلفه كان لهما نصف الأقل من الصداقين واقتسمتاه أيضا على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن نكلت إحداهما وحلفت الأخرى بعد حلفه كان للتي حلفت نصف صداقها. وإن نكل هو عن اليمين وحلفتاهما جميعا كان لكل واحدة منهما نصف صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الثانية بعد نكوله كان للحالفة نصف صداقها ولم يكن للناكلة شيء. وإن نكلتا جميعا بعد نكوله لم يكن لهما إلا نصف الأقل من الصداقين بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن أقر لإحداهما أنها هي الأولى حلف على ذلك وأعطاها نصف صداقها ولم يكن للثانية شيء. ولو نكل هو عن اليمين وحلفتا جميعا غرم لكل واحدة منهما نصف صداقها، وإن حلفت الواحدة ونكلت الأخرى بعد نكوله كان للتي حلفت نصف صداقها ولم يكن للتي نكلت شيء؛ لأن الحالفة قد استحقت نصف الصداق بيمينها.

فصل

فصل وأما إن مات الزوج ولم يعلم أيتهما هي الأولى فالميراث بينهما بعد أيمانهما. قال ابن القاسم: ولكل واحدة منهما نصف صداقها اتفق أو اختلف. والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر للشك في أيتهما هي الأولى. وأما الوجه الثاني وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بهما جميعا فيفرق بينه وبينهما ويكون لكل واحدة منهما صداقها بالمسيس، ويكون عليهما الاستبراء بثلاث حيض، ولا تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إن مات. وأما الوجه الثالث وهو أن لا يعلم بذلك حتى يدخل بالأولى فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية ولا تحل له أبدا، ويقر مع الأولى إن كانت البنت باتفاق وإن كانت الأم على اختلاف. وأما الوجه الرابع وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بالثانية فالحكم فيه أن يفرق بينه وبينهما جميعا ويكون للتي دخل بها صداقها، ويكون له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد بثلاث حيض إن كانت البنت، وإن كانت الأم لم تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إذا مات. وأما الوجه الخامس وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما معروفة ولم يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية فالحكم فيه إن كانت الأم هي المدخول بها منهما أن يفرق بينه وبينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدا، وإن كانت الابنة هي المدخول بها منهما فرق بينهما ثم يتزوج الابنة إن شاء بعد الاستبراء بثلاث حيض، ويكون للتي دخل بها منهما صداقها بالمسيس، وإن مات الزوج فيكون على المدخول بها منهما من العدة أقصر الأجلين ويكون لها جميع صداقها. قال ابن حبيب ونصف الميراث، وقال ابن المواز لا شيء لها من الميراث وهو الصواب. وأما التي لم يدخل بها منهما فلا عدة عليهما ولا شيء لها من صداق ولا ميراث.

فصل

وأما الوجه السادس: وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما غير معروفة فالحكم فيه أن يفرق بينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدأ، ويكون القول قوله مع يمينه في التي يقر أنه دخل بها منهما ويعطيها صداقها ولا يكون للأخرى شيء. فإن نكل عن اليمين حلفت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها واستحقت عليه جميع صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى عن اليمين استحقت الحالفة صداقها ولم يكن للناكلة شيء. فصل [وإن مات الزوج فقال سحنون: لكل واحدة منهما نصف صداقها]، والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما أقصى الأجلين، ويكون نصف الميراث بينهما على مذهب ابن حبيب. وأما على ما ذهب إليه محمد بن المواز فلا شيء إنما من الميراث، وهو الصحيح؛ لأن المدخول بها إن كانت هي الآخرة لم يكن لواحدة منهما ميراث، ولا يجب ميراث إلا بيقين. وبالله التوفيق. فصل ومما يضارع هذه المسألة مسألة الرجل يتزوج خمس نسوة، أو المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة، أو الرجل يتزوج أربع نسوة مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة. فأما إن تزوج خمس نسوة واحدة بعد واحدة فمات عنهن ولا تعلم الآخرة منهن فالميراث بينهن أخماسا دخل بهن أو لم يدخل بهن. وأما الصداق فإن كان دخل بهن فلكل واحدة منهن جميع صداقها، وإن لم يدخل بواحدة منهن فلكل واحدة منهن نصف صداق إن اتفقت الأصدقة، أو نصف صداقها الذي سمي لها إن اختلفت الأصدقة، إلا أن تختلف الأصدقة، فيعلم مقاديرها ولا يعلم ما لكل واحدة منهن منها فيكون لكل واحدة منهن نصف خمس الجميع، وهذا على مذهب ابن حبيب. ووجه قوله أن كل واحدة منهن على انفرادها لا يدرى هي

فصل

الخامسة فلا شيء لها أو غير الخامسة فلها جميع الصداق، فلما وجب لها جميع الصداق في حال وسقط في حال أعطيت نصفه. وقيل: بل يكون لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداقها الذي سمي لها أو أربعة أخماس صداق إن اتفقت الصدقات أو أربعة أخماس خمس جميعها إن اختلفت ولم يعلم ما لكل واحدة منهن من ذلك، وهذا مذهب سحنون وابن المواز. ووجهه أنا قد تحققنا أن الواجب على الميت أربع- صدقات فيؤخذ ذلك من تركته وتقتسمه الزوجات الخمس بينهن أخماسا فيجب لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداق. وأما إن كان دخل ببعضهن فلكل واحدة ممن دخل بها منهن جميع صداقها، وفي التي لم يدخل بها منهن ثلاثة أحوال: أحدها: أنه يكون لكل من لم يدخل بها منهن نصف صداقها، وهو قول ابن حبيب، والثاني: أن يكون لكل من لم يدخل بها منهن أربعة أخماس صداقها، والثالث: أنه إن كانت التي لم يدخل بها واحدة فلها نصف صداقها، وإن كانت اثنتين فلهما صداق ونصف ثلاثة أرباع صداق لكل واحدة منهما. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن ثلاثا فلهن صداقان ونصف خمسة أسداس صداق لكل واحدة منهن. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن أربعا فلهن ثلاث صدقات ونصف سبعة أثمان صداق لكل واحدة منهن، وهو قول سحنون، وإليه ذهب ابن لبابة. ووجهه أنا لم نعلم إن كانت الخامسة ممن بقي لم يدخل بها فلا يجب لها شيء أو ممن قد دخل بها فيجب للبواقي صداق أسقطنا نصف الصداق لثبوته في حال وسقوطه في حال، وقسمنا الباقي على البواقي بينهن على السواء، ويكون على من دخل بها من العدة أقصى الأجلين، وعلى من لم يدخل بها أربعة أشهر وعشر. فصل وأما إن عثر على ذلك في حياته فيفرق بينه وبينهن، فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن جميع صداقها، وكان عليها أن تعتد بثلاث حيض، وإن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهم ربع صداقها، وعلى قول سحنون وابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها ولا عدة على واحدة منهن، وإن كان قد دخل ببعضهن جرى الاختلاف في ذلك على قياس

فصل

ما تقدم في الموت؛ لأن حكم نصف الصداق في الطلاق كحكم جميعه في الموت، فيكون للتي دخل بها منهن جميع صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض، وينظر في التي لم يدخل بها منهن، فإن كانت واحدة كان لها ربع صداقها على قول ابن حبيب وسحنون، وخمسا صداقها على قول ابن المواز، وإن كانت أكثر من واحدة فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهن ربع صداقها، وعلى قول ابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها، وعلى قول سحنون إن كانت اللتان لم يدخل بهما اثنتين كان لهما أرباع صداق بينهما، وإن كن ثلاثا كان لهن صداق وربع صداق بينهن، وإن كن أربعا كان لهن صداق وثلاثة أرباع صداق بينهن على السواء. فصل وأما إن كان تزوجهن في عقد واحد فيفرق بينه وبينهن ولا يكون لواحدة منهن ميراث ولا صداق ولا عليها عدة، إلا أن يدخل بواحدة منهن فيكون لمن دخل بها منهن صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض. وأما المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة فيسلمن كلهن فله أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن صداقها. وأما إن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى القول بأنه يفارق سائر الأربع بغير طلاق لا يكون لمن فارق منهن صداق. وهو معنى ما في المدونة، وعلى القول بأنه يفارقهن بطلاق يكون لكل واحدة منهن نصف صداقها؛ لأنه كان مخيرا فيها بين أن يمسكها أو يفارقها، وهو اختيار ابن حبيب. وقيل: إن لكل واحدة منهن خمس صداقها، [وهو اختيار ابن المواز، فإن فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن خمس صداقها] وكانت مفارقته إياهن بطلاق قولا واحدا. وكذلك إن دخل ببعضهن فلا صداق لمن فارق ممن لم يدخل بها على معنى ما في المدونة إذا حبس أربعا، ولها نصف صداقها على ما ذهب إليه ابن حبيب، وخمس صداقها على ما ذهب إليه ابن المواز.

فصل

وأما الرجل يتزوج أربع مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة فله أن يختار منهن واحدة ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فأما على القول بأنه يفارقهن بغير طلاق فلا شيء لهن من صداقهن، وأما على القول بأنه يفارقهن بطلاق، فقيل: إنه يكون عليه لكل من فارق منهن نصف صداقها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل بل يكون عليه لكل واحدة ثمن صداقها، وإلى هذا ذهب ابن المواز. ولو فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن ثمن صداقها قولا واحدا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في تفسير قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء: 24] هن ذوات الأزواج، وقوله: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] من السبايا ذوات الأزواج أحلهن الله لنا بملك اليمين إذا سبين دون أزواجهن أو معهم على مذهب من يرى أن السبي يهدم النكاح. وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها قول ابن القاسم وأشهب في المدونة أن السبي يهدم نكاح الزوجين سبيا معا أو متفرقين. وكذلك على مذهبهما إذا سبي أحدهما قبل صاحبه ثم أتى الآخر بأمان. وأما إذا أتى أحدهما أولا بأمان ثم سبي الثاني فلا ينهدم النكاح، وتخير إن كان هو الذي سبي بعد أن قدمت هي بأمان من أجل الرق الذي أصابه بالسباء، ويعرض عليها الإسلام إن كانت هي التي سبيت بعد أن قدم هو بأمان فأسلم إلا أن تعتق، إذ لا يجوز أن تكون زوجة لمسلم وهي امرأة كافرة. والثاني: أن السبي يبيح فسخ نكاحهما سبيا معا أو متفرقين، إلا أن يقدم أحدهما قبل صاحبه بأمان، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة،؛ لأنه قال ينفسخ النكاح بالسبي إلا أن يسلما أو يسلم أحدهما أو يقرا على نكاحهما، وعليه تأتي

فصل

رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا أنه ليس للمشتري أن يفرق بينهما والثالث قول ابن المواز أن السبي لا يهدم نكاحهما ولا يبيحه، سبيا معا أو متفرقين. وإن سبيت الأمة على مذهبه ثم سبي زوجها أو قدم بأمان قبل أن توطأ بالملك فهو أحق بها. والرابع الفرق بين أن تسبى هي قبله أو يسبى هو قبلها أو معها فيستحيى، وهو قول ابن بكير في الأحكام. وقد قال جماعة من المفسرين: إن المحصنات في هذه الآية جميع النساء، فهن حرام لا يحللن إلا بالتزويج أو بملك اليمين. وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب في قوله. ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا. وقد قيل: إن قوله في الآية: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] هن الإماء ذوات الأزواج من أهل الحرب وغيرهن فيحللن بملك اليمين بالسبي وبالشراء في غير السبي، قال بذلك من ذهب إلى أن بيع الأمة طلاقها وأنها تحل لمشتريها بملك يمينه. فصل ويحرم الوطء بملك اليمين والتلذذ به ما يحرم الوطء بالنكاح، ويحرم من وطء المملوكات بالقرابة ما يحرم نكاحه من الحرائر بالقرابة والرضاعة. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل ولا يحل وطء المجوسيات بنكاح ولا ملك يمين لقول الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، ولا نكاح الأمة من أهل الكتاب لقول الله عز وجل: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وإنما يحل نكاح الحرائر منهن لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، ويحل وطء

فصل في نكاح الحر الأمة المسلمة

الإماء من أهل الكتاب بملك اليمين لقوله عز وجل: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وبالله التوفيق. فصل في نكاح الحر الأمة المسلمة وأما الأمة المسلمة فالمشهور عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحر لا يجوز له نكاحها إلا مع عدم الطول وخوف العنت. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك جائر مع وجود الطول والأمن من العنت، وهو المشهور عن ابن القاسم. وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، فمن رأى القول بدليل الخطاب لم يبح نكاح الأمة للحر إلا بالشرطين، ومن لم ير القول به أباح ذلك دون الشرطين. والعلة في المنع من ذلك إلا بالشرطين عند من رأى القول بدليل الخطاب الكراهة للمرء أن ينكح نكاحا يرق فيه ولده. فعلى هذا إذا تزوج الحر أمة من يعتق عليه ولده منها أو كان ممن لا يولد له كالحصور وشبهه جاز نكاحه مع عدم الشرطين لعدم علة المنع من ذلك قولا واحدا كالعبد والله أعلم. فصل فعلى القول بأن الحر يتزوج الأمة وإن كان واجدا للطول آمنا من العنت لا كلام للحرة إن تزوج الأمة عليها أو تزوجها على الأمة؛ لأن الأمة على هذا القول من نسائه كالعبد، وهذا الذي تدل عليه ألفاظ المدونة. وقد تأول أبو إسحاق التونسي أن الحق للحرة في ذلك على كلا القولين جميعا سواء، وهذا إنما يصح على قول ابن الماجشون الذي يرى الخيار للمرأة إذا تزوج العبد عليها أمة أو تزوجها على الأمة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وقد اختلف على القول بالمنع إلا مع عدم الطول في الطول ما هو، فقيل هو

فصل

أن يجد صداق الحرة ويقدر على نفقتها، وقيل: بل هو أن يجد صداقا لها وإن عجز عن نفقتها، والأول أصح. واختلف أيضا في الحرة تكون تحته هل هي طول تمنعه من نكاح أمة أم لا على قولين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل واختلف أيضا على هذا القول إذا عدم الطول فتزوج أمة ثم وجد طولا، فقيل: إنه يفارق الأمة ويتزوج حرة، وقيل: يبقى معها إلا أن يتزوج حرة فيفارقها، وقيل: يبقى معها وإن تزوج حرة؛ لأنه قد تقدم تزويجه إياها بوجه جائز. وأما إن ذهب عنه خوف العنت بتزوج الأمة فليس عليه مفارقتها قولا واحدا. فصل فإذا تزوج الرجل الحر الأمة على الحرة أو الحرة على الأمة فأما على القول بإطلاق تزويج الأمة دون الشرطين فلا كلام للحرة في ذلك إلا على ما ذكرناه عن أبي إسحاق التونسي. وأما علي القول بأن ذلك لا يجوز إلا على الشرطين اللذين ذكرهما الله في كتابه ففي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحرة بالخيار في نفسها كانت هي المتزوجة على الأمة أو كانت الأمة هي المتزوجة عليها. والثاني: أنها إن كانت هي المتزوجة على الأمة كانت بالخيار في نفسها، وإن كانت الأمة هي المتزوجة عليها كانت بالخيار في الأمة. والثالث: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فلها الخيار في نفسها، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فلا خيار لها؛ لأنها تركت النظر لنفسها والتثبت في أمرها. والرابع: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فسخ نكاحها ولم يجز، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فسخ نكاح الأمة، وهو على القول! بأن الحرة طول يمنع من نكاح الأمة. والخامس: أنه إن كانت هي الداخلة على الحرة فسخ نكاح الأمة، وإن كانت الحرة هي الداخلة عليها لم يفسخ نكاح الأمة المتقدم؛ لأنه وقع بأمر جائز.

فصل في أن النكاح لا يكون إلا بصداق

فصل في أن النكاح لا يكون إلا بصداق ولا يكون النكاح إلا بصداق. قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50]، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وقال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل»، فالزوج لا يستبيح الفرج إلا بصداق. وقال الله تعالى فيه إنه نحلة والنحلة ما لم يعتض عليه، فهي نحلة من الله تعالى فرضها للزوجات على أزواجهن لا عن عوض الاستمتاع بها؛ لأنها تستمتع به كما يستمتع بها ويلحقها من ذلك مثل الذي يلحقه؛ لأن المباضعة فيما بينها وبين زوجها واحدة. ولهذا المعنى لم يفتقر عقد النكاح إلى تسمية صداق، ولو كان الصداق ثمنا للبضع حقيقة لما صح النكاح دون تسمية الصداق كالبيع الذي لا ينعقد إلا بتسمية الثمن وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في حد الصداق في النكاح ولما لم يبح الله تعالى النكاح إلا بصداق ولم يرد فيه حد في القرآن ولا في السنة، وقام الدليل على أنه لا بد فيه من حد يصار إليه إذ لم يجز النكاح بالشيء

فصل

اليسير الذي لا قدر له ولا بال لقيمته، لكونه في معنى الموهوبة التي خص الله بها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون المؤمنين فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وجب أن يعتبر الحد فيه برده إلى بعض الأصول التي ورد التوقيت بها وإن لم تكن في معناه، فجعل حد أقل الصداق ثلاثة دراهم اعتبارا بأقل ما تقطع فيه يد السارق، وهذا اعتبار صحيح؛ لأن الله تعالى أوجب قطع يد السارق مطلقا دون تقييد بمقدار كما أوجب الصداق في النكاح مطلقا دون تقييد بمقدار، وقام الدليل على أنه لا يستباح قطع يد السارق إذا سرق الشيء اليسير الذي لا بال له ولا قدر لقيمته كالخيط وشبهه، كما قام الدليل على أنه لا يستباح الفرج بمثل ذلك من النزر الحقير. فلما وجد ما يقطع فيه يد السارق مقيدا في السنة بمقدار وجب أن يحمل النكاح المطلق عليه. فصل وذهب أهل العراق إلى أنه لا يجوز النكاح بأقل من عشرة دراهم اعتبارا بما يجب فيه القطع في مذهبهم، والسنة ثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف ذلك. ثبت في الحديث «أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أنه تزوج، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كم سقت إليها، قال زنة نواة من ذهب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أولم ولو بشاة»، وزنة النواة خمسة دراهم ولم تكن من ذهب، وإنما كانوا يسمون الخمسة زنة نواة من ذهب، فهذا يرد مذهبهم ويبطله. فصل وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز النكاح بالدرهم والدرهمين وبالشيء اليسير، منهم ابن وهب من أصحابنا. والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه

فصل

الله وجمهور أصحابه ومن قال بقولهم. وقد استدل بعض المالكيين على أن النكاح لا يجوز بأقل من ثلاثة دراهم بأن قال: إن الله تعالى لما شرط عدم الطول في نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولا علم أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير لما عدمه أحد. ومعلوم أن الطول هو المال في هذه الآية، ولا يقع اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفرج بما لا يكون طولا، وليس هذا بينا، وما قدمته أولى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وأما أكثر الصداق فلا حد له، وإنما ذلك على ما يتراضى عليه الأزواج والزوجات، وعلى الأقدار والحالات. قال الله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، والقنطار ألف دينار ومائتا دينار، إلا أن المياسرة في الصداق عند أهل العلم أحب إليهم من المغالاة فيه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تياسروا في الصداق» وكانت صدقات أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عظم مرتبته وعلو قدره وأقدارهن اثنتي عشرة أوقية ونشا، والأوقية أربعون درهما، والنش عشرون درهما، فذلك خمسمائة درهم. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزوج بناته على مثل ذلك مع عظم مراتبهن وعلو أقدارهن لمياسرته في صدقاتهن. «وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سأل رجلا من الأنصار عن امرأة تزوجها فقال كم أصدقتها، قال مائتي درهم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كنتم تغرفون من البطحاء ما زدتم ..» وروي «أن عبد الله بن أبي حدرد تزوج امرأة بأربع أواق فأخبر بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو كنتم تنحتون من جبل ما زدتم». وقال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي صداق امرأته حتى يبقى لها عداوة في نفسه فيقول لها لقد كلفت لك حتى علق القربة.

فصل في أن النكاح لا يصح إلا بولي

وروي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أراد أن يرد صدقات النساء إلى قدر ما لا يزدن عليه، فقالت له امرأة؛ إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، فقال: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى امرأة. وروى الشعبي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا تغالوا في صدقات النساء فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بلى، كتاب الله، لم ذلك؟ قالت: إنك نهيت الناس أن يتغالوا في صداق النساء والله يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء، فليفعل رجل في ماله ما شاء. فرجع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عما كان رآه فيها اجتهادا نظرا للناس إلى ما قامت به عليه الحجة، فأباحه للناس واستعمله في نفسه، فأصدق أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين ألفا. ومما يدل على إباحة قليل الأصدقة وكثيرها «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق عنه النجاشي أم حبيبة لما زوجه إياها أربعة آلاف وجهزها من عنده وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حبيبة» فلم ينكر ذلك من فعله ولا أعطاها هو شيئا من عنده على ما روي والله أعلم. وزوج سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنته بدرهمين، وقيل بثلاثة دراهم، وقيل بأربعة دراهم، من عبد الله بن وداعة، وقصته في إنكاحه إياها مشهورة. ولو شاء أن يزوجها من أهل اليسار والشرف بأربعة آلاف وأضعافها مرات لفعل لتنافس الناس فيها وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في أن النكاح لا يصح إلا بولي ولا ينكح المرأة إلا وليها. قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، وهذا الخطاب

فصل

متوجه إلى الأولياء. فلما كان الخطاب متوجها في إنكاحهن إلى غيرهن ولم يكن إليهن بأن يقول: ولينكح الأيامى منكم، وأن يقول: ولا ينكحوا المشركين حتى يؤمنوا، دل على أنه ليس لأحد من المخاطب فيهن أن يزوج نفسه. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، والعضل إنما يصح ممن إليه عقد النكاح. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» فدل على أن له معها حقا. وقال: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشهيدي عدل» وقال عمر بن الخطاب: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذوي الرأي من أهلها أو السلطان. وبالله سبحانه تعالى التوفيق. فصل فعقد النكاح يفتقر إلى ولي ورضى المزوجة إلا أن تكون بكرا ذات أب، أو أمة لسيدها إكراهها على النكاح، لا يصح عقد النكاح إلا بهذين الوجهين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل والولاية في نكاح الحرائر تنقسم على قسمين: خاصة، وعامة. فأما العامة فهي ولاية الإسلام، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وأما الخاصة فإنها تنقسم على خمسة أقسام: أحدها ولاية نسب، وهي على مراتب، أعلاها الأب وأدناها الرجل من العشيرة على مذهب ابن القاسم، فيدخل فيه المولى الأسفل، وقيل الرجل من البطن، وقيل الرجل من العصبة، فلا يدخل فيه على هذين القولين المولى الأسفل ويكون من الولاية العامة. والثاني ولاية تقديم، وهي على وجهين: تقديم من قبل أب، وتقديم من قبل سلطان. والثالث ولاية عتاقة وهي على وجهين: مولى أعلى ومولى أسفل.

فصل

والرابع ولاية سلطان. والخامس ولاية حضانة. فإذا زوج على مذهب ابن القاسم الولي من الولاية الخاصة فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في يتيمته البكر أيضا وثم أولى منه حاضر نفذ النكاح ولم يرد. وقيل: إن للأبعد أن يزوج ابتداء مع حضور الأقرب على مذهبه في المدونة وإن زوج الولي من الولاية العامة مع عدم الولاية الخاصة أو وجودها جاز في الدنية ورد في العلية إن شاء الولي إلا أن يطول بعد الدخول فيمضي على مذهب ابن القاسم مراعاة للاختلاف، إذ لم يخرج العقد من أن يكون وليه ولي على اختلاف تأويل بعض هذه الوجوه في المدونة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وللولي ثمانية شروط، ستة منها متفق على اشتراطها في صحة الولاية، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والذكورية، وأن يكون مالكا أمر نفسه، واثنان مختلف فيهما، وهما الدالة والرشد. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل ولا يجوز للولي أن يزوج وليته إلا بعد أن تأذن له في ذلك، فإذا أذنت له أن يزوجها فزوجها ولم يسم لها الزوج كان لها أن ترد أو تجيز ما لم يطل الأمر، وقيل يلزمها النكاح. وعلى هذا القول تأتي مسألة المرأة تأذن لولييها أن يزوجاها فزوجها كل واحد من رجل ولا يعلم الأول منهما إذ لم يقل إن لها أن تجيز أي النكاحين شاءت وترد الآخر على قياس القول الأول. ويحتمل أن تتأول المسألة على أن كل واحد من الوليين قد سمى لها الرجل الذي وكلته على تزويجها منه، فصح الجواب على كلا القولين. ولا تخلو المسألة حينئذ من أن يعثر على الأمر قبل الدخول أو بعده، فإن عثر عليه قبل الدخول وعلم الأول فالنكاح له ويفسخ الثاني بغير طلاق، وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان جميعا بطلاق. فإن تزوجها أحدهما بعد زوج كانت عنده على طلقتين، وإن تزوجها أحدهما قبل زوج كانت عنده على ثلاث تطليقات؛ لأنه إن كان هو الأول فإنما تزويجه إياها تجديد لنكاحه الأول وذلك لا يوجب عليه طلاقا، وإن كان الآخر فلم يلزمه طلاق إذ لم ينعقد له نكاح. ويقع

فصل

على الذي لم يتزوجها بتزويج الذي تزوجها منهما طلقة، فمتى تزوجها كانت عنده على طلقتين. واختلف هل تصدق المرأة أو الوليان في أن أحدهما هو الأول على قولين: أحدهما قوله في المدونة إنه لا يصدق، والثاني قول أشهب في الواضحة إنه يصدق. وإذا كان أقر أحد الوليين أنه زوج وقد علم بتزويج الآخر قبله هل يصح له النكاح ولا يفرق بينهما أم لا؟ وكذلك إن لم يعثر على الأمر حتى دخلا جميعا يفسخ النكاحان جميعا، ويدخل الخلاف المذكور في تصديق الزوجة أو الوليين على الأول منهما، إلا أنه يكون على كل واحد منهما صداقها المسمى بالمسيس. وأما إن عثر على الأمر بعد أن دخل أحدهما، فإن لم يعلم الأول منهما ثبت نكاح الذي دخل. واختلف إن علم أن الثاني هو الذي دخل، ففي المدونة أنه يثبت نكاحه، وقال المغيرة وابن عبد الحكم: يفسخ نكاحه وترد إلى الأول بعد الاستبراء. والخلاف في هذا جار على اختلافهم في الوكالة هل تنفسخ بنفس الفسخ أو لا تنفسخ إلا بوصول العلم، فمن رأى أنها لا تنفسخ إلا بوصول العلم قال: إن النكاح لا يفسخ بشبهة العقد، وهو الذي في المدونة، ومن رأى أنها تنفسخ بنفس الفسخ وهو هاهنا تزويج الأول قال: إن النكاح يفسخ؛ لأن الغيب كشف أنه لا نكاح له؛ لأنه زوجها بعد فسخ الوكالة. ولو أقر الوكيل أنه زوجه وهو يعلم بتزويج الآخر قبله لم يصدق وثبت النكاح على مذهب ابن القاسم، إلا أن تقوم بينة أته علم بذلك قبل التزويج فيفسخ بغير طلاق. ولو أقر هو على نفسه بالعلم لفسخ نكاحه بغير طلاق وكان عليه جميع الصداق. وقال محمد: يفسخ بطلاق، وهو الصحيح؛ لأنه يتهم على فسخ نكاحه بغير طلاق. فصل فإن عثر على ذلك بعد دخول أحدهما وعلم أنه الثاني وقد كان الأول مات أو طلق فلا يخلو من أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه. أو يكون عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه، أو أن يكون عقد قبل موته أو طلاقه ودخل بعد موته أو طلاقه، فأما إن كان عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه فينفذ نكاحه

فصل

بمنزلة أن لو لم يمت ولا طفق على مذهب ابن القاسم. وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه فهو في الموت متزوج في عدة ينفسخ نكاحه وترث زوجها الأول، وفي الطلاق نكاحه صحيح؛ لأنه في غير عدة. وقال ابن الماجشون إن كان الذي زوجها منه آخرا بعد طلاق الأول هو الأب فلا يفسخ نكاحه وإن لم يدخل، وإن كان الوكيل هو الذي زوجها فسخ نكاحه إلا أن يدخل. ووجه قوله: أن الأب مطلق على النكاح، والوكيل تنفسخ وكالته بتزويج الأب قبله. وأما إن عقد قبل الموت والطلاق ودخل بعد ذلك فحكى محمد بن المواز أن ذلك بمنزلة ما إذا عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق يقر على نكاحه معها ولا ميراث لها من الأول ولا عدة عليها منه. والصواب أنه في الوفاة متزوج في عدة بمنزلة امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة، ويدخل بها زوجها فينكشف أنها تزوجت قبل وفاة المفقود ودخلت بعد وفاته في العدة أنه يكون متزوجا في عدة، ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق. فصل والحرائر من النساء في النكاح على ضربين: أبكار وثيب. فأما البكر فلا تخلو من أن تكون ذات أب أو ذات وصي أو مهملة ذات ولي. فأما ذات الأب فللأب أن يزوجها بغير أمرها صغيرة كانت أو كبيرة ما لم تعنس بأقل من صداق مثلها، وأن يراضي زوجها على أقل من صداق مثلها إذا أنكحها إنكاح تفويض فيجوز ذلك عليها ويلزمها ويكون ذلك صداقها. فإن فرض لها الزوج صداق مثلها فأكثر وأبى الوالد أن يرضى بذلك حكم له عليه السلطان بذلك وكان هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. واختلف إذا عنست فقيل لا يعتبر تعنيسها، وقيل: إنها تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها. فعلى هذا القول لا يزوجها إلا برضاها، ويكون الرضا بقليل الصداق وكثيره إليها دون أبيها، ويكون إذنها صماتها في النكاح خاصة بمنزلة إذا رشدها. وأما ذات الوصي فلا يجوز للوصي أن يزوجها قبل بلوغها بحال، ولا بعد بلوغها بأقل من صداق مثلها وإن رضيت، وله أن يزوجها إذا بلغت عنست أو لم تعنس برضاها، ويكون إذنها

فصل

صماتها بما رضي به من صداق مثلها فأكثر وإن لم ترض، إذ ليس لها مع الوصي من الرضا بالمهر شيء، وله أن يراضي الزوج في نكاح التفويض عن صداق مثلها فأكثر فيجوز ذلك عليها ويلزمها، ويكون هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول رضيت أو لم ترض. فإن لم يرض هو بذلك ورضيت هي به لم يكن ذلك صداقها إلا بحكم السلطان، وليس له أن يراضي الزوج على أقل من صداق مثلها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خلاف مذهب ابن القاسم في أن ذلك جائز له على وجه النظر إلا أنه شرط رضاها، وفي ذلك من قوله نظر، وبالله التوفيق. فصل فإن دخل الزوج بها قبل التراضي على صداق وجب لها صداق مثلها بالدخول، وكذلك البكر ذات الأب، ولم يكن للأب ولا للوصي على مذهب مالك وأصحابه الرضا بأقل من ذلك، وهو نص قول غير ابن القاسم، في باب نكاح التفويض. وقد وقع لمالك في الباب المذكور ما ظاهره أن للأب بعد الدخول الرضا بأقل من صداق المثل، وهو خلاف المعلوم من مذهبه. وأما المهملة ذات الولي فليس للولي أن يزوجها إذا بلغت بأقل من صداق مثلها أيضا. واختلف في صداق مثلها فأكثر فقيل الرضى بتزويجها بذلك إليه دونها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وقيل: بل ذلك إليها دونه، حكى هذا القول فضل عن عيسى بن دينار ونسبه إلى المستخرجة ولم يقع ذلك له عندنا فيها. والقياس إذا اختلفا في ذلك أن لا يثبت ما رضي به أحدهما صداقا إلا بعد نظر السلطان. وما ثبوت ما اجتمعا على الرضا به صداقا دون نظر السلطان إلا استحسانا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وأما الثيب فلا تخلو من أن تكون مالكة لأمر نفسها أو غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي. فأما المالكة لأمر نفسها فلا يملك الولي عليها إلا ولاية

فصل

العقد خاصة. وقد اختلف في المالكة لأمر نفسها مع الوصي الذي لا ولاية له عليها، فذهب ابن حبيب إلى أنه أحق من الولي بتزويجها، وقال أصبغ: الولي أحق بذلك منه، وقال سحنون: ليس بولي لها، وذلك إذا قال الموصي فلان وصي ولم يزد. وأما التي هي غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي فحكمها حكم البكر ذات الوصي، حاشا أن إذنها يكون بالنطق دون الصمت، إلا أن تكون تأيمت من زوج بنكاح فاسد أو صحيح قبل البلوغ وبعد الدخول فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب يجبرها على النكاح ما لم تبلغ. والثاني: أنه يجبرها عليه وإن بلغت. والثالث: أنه لا يجبرها وإن لم تبلغ. حكى هذا القول النخعي عن أبي تمام، فإن كانت يتيمة ذات وصي فلا يزوجها الوصي قبل البلوغ، ويزوجها بعد البلوغ، ويكون إذنها صماتها على قول من رأى أن الأب يجبرها على النكاح، وهو قول سحنون. فصل واختلف إذا زنت أو غصبت فقيل: حكمها حكم البكر في جميع أحوالها، وقيل حكمها حكم الثيب في جميع أحوالها، وقيل: حكمها حكم الثيب في أنها لا تزوج إلا برضاها، وحكم البكر في أن إذنها صماتها. فصل ومن إليه الرضا بالمهر من الزوجة أو الولي هو الذي يحلف إذا اختلفا مع الزوجة في النكاح المنعقد على صداق أو في الصداق المسمى بعد عقد النكاح في نوعه أو قلته وكثرته. وإنما وجب أن يحلف الولي دون الزوجة التي إلى نظره بكرا كانت أو ثيبا؛ لأنه فيما ولي من أمرها مضيع بترك الإشهاد، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين فاستحق الزوج ما حلف عليه بيمينه لزمه ضمان ما أتلف بنكوله إذا ضيع بترك الإشهاد. وأما ما لم يله لها وادعته هي على زوجها فهي التي تحلف إن كان لها شاهد على دعواها أو نكل هو عن اليمين، وإلى هذا ذهب محمد بن

فصل

المواز. وقد روي عن ابن القاسم في هذا روايات مجملة دون تفصيل، فحملها الفضل على أن ذلك اختلاف في قوله، وأنه رأى مرة أن يحلف الأب وإن لم تكن له في ذلك ولاية، ومرة أن تحلف البكر وإن كان الأب هو الذي ولي ذلك. ففي المسألة على هذا ثلاثة أقاويل، أصحها في النظر ما ذهب إليه ابن المواز، وليس في يمين البكر فيما وليه الأب من مالها نص جلي، وهو بعيد في النظر. فأما يمين الأب عنها فيما لم يله من مالها فقد روي ذلك عن ابن كنانة وابن نافع، وأنكره ابن القاسم ونفى أن يكون مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قاله قط، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وأما تسمية الصداق فليس من شروط صحة عقد النكاح؛ لأن الله أباح نكاح التفويض، وهو النكاح بغير تسمية صداق فقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، وإنما تجب تسمية الصداق عند الدخول. فلا اختلاف بين أهل العلم فيما علمت أن نكاح التفويض جائز، وإنما اختلفوا في نكاح التحكيم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز قياسا على نكاح التفويض. والثاني: أن ذلك لا يجوز ويفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل. والثالث: أن ذلك جائز إن كان الزوج هو المحكم، [ولا يجوز إن كان المحكم غير الزوج كانت الزوجة أو غيرها، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فإذا قلنا أن النكاح جائز فإن كان الزوج هو المحكم]، فلا اختلاف أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض، إن فرض الزوج فيه للزوجة صداق المثل لزمها النكاح، وإن أبى من ذلك فرق بينهما إلا أن يدخل بها فيجب عليه لها صداق المثل. وأما إن كانت الزوجة هي المحكمة وحدها أو مع سواها أو الزوج مع غيره

فصل

فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض إن فرض الزوج لها صداق مثلها لزمها النكاح ولم يكن للمحكم من كان في ذلك كلام، وإن رضي المحكم بصداق المثل أو أقل لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء. وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ. والثاني: أن النكاح لا يلزم إلا بتراضي الزوج والمحكم، كانت الزوجة أو غيرها، على الفريضة إن فرض الزوج صداق المثل فأكثر فلم ترض بذلك الزوجة إن كانت هي المحكمة أو المحكم إن كان غيرها لم يلزمها النكاح بذلك إلا أن تشاء. وإن فرضت هي إن كانت المحكمة أو المحكم إن كان غيرها صداق المثل فأقل برضاها لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. والثالث: أن الحكم في التحكيم عكس الحكم في التفويض ينزل المحكم في التحكيم منزلة الزوج في التفويض إن فرضت الزوجة صداق المثل فأقل إن كانت هي المحكمة أو فرض ذلك المحكم برضاها لزم ذلك الزوج ولم يكن له في ذلك كلام، فإن فرض الزوج صداق المثل فأكثر لم يلزم ذلك الزوجة إلا أن ترضى به، كانت هي المحكمة أو غيرها. وهذا القول ذهب إليه أبو الحسن القابسي، قاله تأويلا على ما في المدونة، وهو تأويل بعيد. وإنما ظاهر المدونة ما ذكرنا، وإليه ذهب أبو محمد بن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وكذلك الإشهاد إنما يجب عند الدخول وليس من شروط صحة العقد، فإن تزوج ولم يشهد فنكاحه صحيح، ويشهدان فيما يستقبلان إلا أن يكونا قصدا إلى الاستسرار بالعقد فلا يصح أن يثبتا عليه، «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نكاح السر» ويؤمر أن يطلقها طلقة، ثم يستأنف العقد معها. فإن دخل في الوجهين جميعا فرق بينهما وإن طال الزمان بطلقة لإقرارهما بالنكاح، وحدا إن أقرا بالوطء إلا أن يكون الدخول فاشيا أو يكون على العقد شاهد واحد فيدرأ الحد بالشبهة. واختلف إذا

فصل

أشهد على النكاح شاهدين وأمر بالكتمان، فقيل ذلك من نكاح السر، ويفسخ قبل الدخول وبعده إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ ويكون فيه الصداق المسمى، وهو المشهور في المذهب. وقيل: النكاح صحيح لا فساد فيه، ويثبت قبل الدخول وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح وينهوا عن كتمانه. وإلى هذا ذهب يحيى بن يحيى وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل والنكاح من العقود اللازمة التي تلزم بالعقد، ولا خيار لأحد المتناكحين في حله بعد العقد بمنزلة البيع وما أشبهه من العقود اللازمة، إلا أن النكاح طريقه المكارمة فيجوز فيه من المجهول ما لا يجوز في البيع. من ذلك النكاح على عبد غير موصوف وعلى شوار بيت وما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيع ويجوز في النكاح. ولهذا المعنى جاز التفويض فيه. ألا ترى أن هبة الثواب لما كانت على سبيل المكارمة وطريق المعروف ولم تكن على وجه المكايسة جازت من غير تسمية العوض. وقد تقدم لجواز التفويض في النكاح معنى صحيح غير هذا لم أره لأحد ممن تقدم قبلي. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أشبه شيء بالبيوع النكاح، فهو يشبهه في بعض الوجوه ويفارقه في أكثر الحالات، فهو في باب الصداق أوسع من البيوع، وفي باب العقد أضيق من البيع. ألا ترى أن هزله جد في المشهور من المذهب. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هزله هزل ولا يلزم إلا بالجد، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وأن من قال لرجل زوجتي وليتك بكذا وكذا فقال قد فعلت فقال الخاطب لا أرضى أن النكاح يلزمه قولا واحدا بلا خلاف، خلاف البيوع؛ وأن الخيار لا يجوز فيه كما يجوز في البيوع وما أشبه ذلك كثير. فصل والنكاح ينعقد بلفظ النكاح ولفظ التزويج، ولا ينعقد بما سوى ذلك من العقود حاشا الهبة فإنه قد اختلف: هل ينعقد النكاح بها أم لا على قولين: أحدهما

فصل

أنه لا ينعقد بها، وهو قول الشافعي. والثاني: أنه ينعقد بها وهو مذهب أبي حنيفة، ويلزم ويكون فيه صداق المثل كنكاح التفويض سواء. وقد روي عن ابن حبيب نحوه. وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاضطرب في ذلك قوله للاختلاف الحاصل فيه بين أهل العلم قبله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فيما يستحب في النكاح ويكره فيه. ويستحب إعلان النكاح وإشهاره وإطعام الطعام عليه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة». ويجب على من دعي إليه أن يجيب. قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» وذلك إذا كان الداعي يدعو على صواب. ومن فارق الصواب في وليمته فلا دعوة له ولا معصية في ترك إجابته، وقد قال أبو هريرة: شر الطعام طعام الوليمة يدعى ... الحديث. وإنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون، قال ذلك ربيعة وغيره. ولهذا المعنى أجيز فيه بعض اللهو مثل الدف والكبر وشبهه. ويستحب إخفاء خطبة النكاح، وأن يبدأ الخاطب قبل الخطبة بالحمد لله تعالى والصلاة والسلام على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك قبل الإجابة، وأن يهنأ الناكح عند نكاحه ويدعى له بالبركة فيه. ويكره أن يخطب الرجل المرأة على خطبة أخيه للنهي الوارد في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك إذا ركنا وتقاربا وإن لم يتفقا على صداق مسمى. وقيل: ذلك جائز ما لم يسميا الصداق. والأول أصح وأكثر؛ لأن النكاح ينعقد ويتم دون تسمية صداق، فإن فعل لم يفسخ نكاحه ووجب عليه أن يستغفر الله تعالى ويتحلل صاحبه فيما فعل، فإن لم يحله فليخل سبيلها إذ كان أفسدها عليه بعد أن كانت رضيت به فإن تزوجها الأول وإلا راجعها

فصل في حكم الشروط في النكاح

هو إن شاء وبدا له بنكاح جديد، وليس يقضى عليه بذلك وإنما هو على وجه التنزه والبر والخوف لله تعالى. وقيل: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده إذا علم ذلك وثبت، وهو قول ابن نافع وروايته عن مالك. وأما قبل أن يركنا ويتقارب الأمر بينهما فلا بأس بالخطبة، ولا بأس أن يجتمع الاثنان والثلاثة والأكثر على خطبة المرأة. وقد روي أن جرير بن عبد الله البجلي سأل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يخطب عليه امرأة من دوس، ثم سأله مروان بن الحكم بعد ذلك أن يخطبها عليه، ثم سأله بعد ذلك ابنه عبد الله أن يخطبها عليه، فدخل على أهلها والمرأة جالسة في قبتها عليها سترها، فسلم عمر فردوا السلام وهشوا له وأجلسوه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: إن جرير بن عبد الله البجلي يخطب فلانة، وهو سيد أهل المشرق، ومروان بن الحكم يخطبها، وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر يخطبها، وهو من قد علمتم، وعمر بن الخطاب يخطبها، فكشفت المرأة عن سترها وقالت أجاد أمير المؤمنين؟ قال نعم. قالت: قد زوجت يا أمير المؤمنين زوجوه، فزوجوه إياها فولدت له ولدين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل ومما يستحب في النكاح الهضيمة في الصداق ولا يكون فيه أجل، روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يستحب النكاح في رمضان رجاء البركة فيه» وفيه تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وكان جماعة من أهل العلم يستحسنون النكاح في يوم الجمعة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في حكم الشروط في النكاح وتكره الشروط في النكاح، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط وأن لا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتابا وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا.

فصل

وهي تنقسم على وجهين: شروط تفسد النكاح ولا حد لها، وشروط لا تفسده وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: شروط مقيدة بتمليك أو طلاق، وشروط مقيدة بوضع بعض الصداق، وشروط مطلقة غير مقيدة بشيء. فأما الشروط المقيدة بتمليك أو طلاق فإنها لازمة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم في ذلك. وأما الشروط المقيدة بوضع بعض الصداق فلا يخلو أن يكون الموضوع للشرط في العقد أو بعد العقد، فإن كان في العقد فلا يخلو من أن يكون من صداق المثل أو زائدا على صداق المثل. فأما إن كان الموضوع منه في العقد زائدا على صداق المثل فلا اختلاف في أن الوضيعة للزوجة لازمة لا رجوع لها فيها وأن الشروط عن الزوج ساقطة لا يلزمه الوفاء بها وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والثاني: أن ذلك لازم لهما جميعا، فإن وفى الزوج بالشرط صحت له الوضيعة، وإن لم يف بها لم تصح له، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن نافع وأشهب وعلي بن زياد عنه. والثالث: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما؛ لأنها معاوضة فاسدة، فإذا لم يلزم الزوج الشروط لم يلزم المرأة الوضيعة، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وبالله سبحانه التوفيق. فصل وأما إن كانت الوضيعة بعد العقد فسواء كانت من صداق المثل أو مما زاد على صداق المثل ففي ذلك قولان: أحدهما أن ذلك لازم لهما إن وفى الزوج بالشروط صحت له الوضيعة وإلا فلا. وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المدونة. والثاني: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك. فصل وأما الشروط المطلقة فمن أهل العلم من أوجبها ورأى القضاء بها، روي عن ابن شهاب أنه قال: كان من أدركت من العلماء يقضون بها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

فصل في حكم الأنكحة الفاسدة

«أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم بها الفروج» وهو ظاهر ما في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح من العتبية. والمعلوم المعروف في المذهب أنها لا تلزم لكنها يستحب الوفاء بها إلا أنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون مشترطة في العقد دون تسمية الصداق، مثل أن يقول الرجل أزوجك ابنتي على أن لا تتزوج عليها أو على أن لا تخرجها من البلد وما أشبه ذلك. والثاني: أن تكون مشترطة في الصداق الذي يسمى في العقد أو في التسمية بعد العقد. فأما إذا كانت مشترطة في العقد دون تسميته فلا يلزم، وذلك مثل أن تقول أتزوجك على أن لا تتزوج علي أو على أن لا تخرجني من البلد وما أشبه ذلك. وأما إن كانت مشترطة في التسمية التي مع العقد، وذلك أن تقول أتزوجك بكذا وكذا على أن لا تفعل كذا وكذا فلا يلزمه الشرط عند مالك على هذا الوجه. والقياس على مذهبه أن يفسخ النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الأكثر من صداق المثل أو المسمى؛ لأنها لم ترض أن تتزوجه بما سمت من الصداق إلا على الشروط، فإذا لم تلزمه الشروط لم يلزمها ما رضيت به من الصداق. وأما إن كانت مشترطة في التسمية فلا تلزم أيضا وينظر، فإن كانت التسمية أقل من صداق مثلها كان لها تمام صداق مثلها وصح النكاح ولم يفسخ لتقدم عقده دون شرطه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في حكم الأنكحة الفاسدة والنكاح ينقسم على قسمين: صحيح، وفاسد. فالصحيح ما جوزته السنة والقرآن، والفاسد ينقسم على ثلاثة أقسام: نكاح فسد لعقده، ونكاح فسد لصداقه، ونكاح فسد لشروط فاسدة اقترنت به. فأما ما فسد لعقده فينقسم على قسمين: قسم متفق على فساده، وقسم مختلف فيه. فالمتفق على فساده مثل نكاح من لا يحل له نكاحها من ذوات المحارم من نسب أو رضاع، ومثل نكاح المرأة في

فصل

عدتها أو على ابنتها أو على أمها أو على أختها وما أشبه ذلك ممن لا يجوز له الجمع بينهما، أو نكاح المجوسية أو الأمة النصرانية وما أشبه ذلك فهذا القسم يفسخ النكاح فيه قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى. والمختلف في فساده مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، والنكاح والإمام يخطب يوم الجمعة، ونكاح من نكح على خطبة أخيه وما أشبه ذلك. وأما ما فسد لصداقه مثل أن يتزوج الرجل المرأة بحرام مثل الخمرة والخنزير، أو بغرر مثل التمر الذي لم يبد صلاحه والعبد الآبق والبعير الشارد، أو الصداق إلى أجل مجهول أو ما أشبه ذلك، فهذا القسم يفسخ فيه النكاح قبل الدخول ويصح بعده بصداق المثل. وقد روي عن مالك أنه يفسخ قبل الدخول وبعده. ومن أهل العلم من لا يرى فسخه ويصححه بصداق المثل قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الليث بن سعد وأبي حنيفة وأصحابه. وأما ما فسد للشروط الفاسدة المقترنة به وهي كثيرة لا تحصر بعدد، فمنها ما يفسخ النكاح به قبل الدخول وبعده، ومنها ما يفسخ به النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ومن ذلك ما يمضي بالصداق المسمى، ومنه ما يرد إلى صداق المثل، ومنه ما يتفق على وجه الحكم فيه، ومنه ما يختلف فيه على ما يأتي كل في موضعه إن شاء الله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل واختلف في لزوم الطلاق وكون الميراث في الأنكحة الفاسدة على ثلاثة أقوال في المذهب، وهي ثابتة في المدونة: أحدها: أن كل نكاح كانا مغلوبين على فسخه فلا طلاق فيه ولا ميراث، مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، وما كان صداقه فاسدا فأدرك قبل الدخول. والثاني: أن كل نكاح يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده، [وما كان يفسخ قبل الدخول وبعده] وإن كان مختلفا فيه فلا طلاق فيه ولا ميراث. [قبل الدخول وبعده. والقول الثالث: أن كل نكاح اتفق على تحريمه فلا طلاق فيه ولا ميراث] وكل

فصل في اشتقاق لفظ الشغار

نكاح اختلف في تحريمه وإن غلبا على الفسخ فيه قبل الدخول وبعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده وهو الذي قاله ابن القاسم لرواية بلغته. وأما الخلع فإنه على مذهب ابن القاسم تابع للطلاق وجار على الاختلاف فيه حيثما لزم الطلاق لزم فيه الخلع، وحيث ما لم يلزم الطلاق سقط الخلع ووجب على المرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه: وعلى مذهب ابن الماجشون يثبت في كل نكاح صحيح لا خيار للمرأة فيه وإن كان الخيار فيه للزوج أو لغيرهما. وإن كان النكاح ما لا يقر على حال أو مما للمرأة فيه الخيار سقط الخلع ووجب للمرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه. وذهب محمد بن المواز إلى أن الخلع يثبت في كل نكاح يكون لأحد الزوجين فيه الخيار، يريد أو لغيرهما. فعلى قوله: لا يسقط الخلع إلا في كل نكاح لا يقر على حال ويغلب الزوجان فيه على الفرقة. فاحفظ إنها ثلاثة أقوال في المسألة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل والمشهور في المذهب أن الحرمة تقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه. وقد أجرى ابن حبيب الحرمة مجرى الطلاق والميراث، وروى مثل ذلك عن ابن القاسم، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في اشتقاق لفظ الشغار والشغار مأخوذ من شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول؛ لأن ذلك لا يكون - زعموا - إلا عند مفارقة حال الصغر إلى حال يمكنه فيها طلب الوثوب على الأنثى للنسل، وهو عندهم علامة على إرادته لذلك " فقيل منه للمرأة: شغرت المرأة تشغر شغرا إذا رفعت رجليها للنكاح، فلذلك قيل نكاح الشغار؛ لأن كل واحد من المتناكحين يشغر إذا نكح، وكان الرجل في الجاهلية يقول للرجل شاغرني أي زوجني ابنتك على أن أزوجك أختي بلا مهر لهذا المعنى. وقيل: إنما قيل له شغار؛ لأن كل واحد منهما رفع الصداق عن صاحبه. وأصل الشغر للكلب،

وهو أن يرفع إحدى رجليه ليبول فكني بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علما، كما قيل للزنا سفاح؛ لأن الزانيين يتسافحان يسفح هذا الماء أي يصبه، وتسفح هي النطفة. وأما الماء الذي يغتسلان به فكني بذلك عن الزنا وجعل له علما. وكان الرجل يلقى المرأة في الجاهلية فيقول لها سافحيني، ويرى ذلك أحسن من أن يقول زانيني. وقيل الشغار إخلاء النكاح من الصداق، أخذ ذلك من قولهم: بلد شاغر، أي: خال من الناس. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الرضاع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الرضاع قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»، فكان ذلك من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانا لما في كتاب الله عز وجل وزيادة في معناه ودليلا على أن جميع القرابات المحرمات بالنسب محرمات في كتاب الله تعالى بالرضاع، وإن كان الله عز وجل لم ينص فيه إلا على الأم والأخت خاصة، فإنه نبه بذكر الأخت على أن حرمة الرضاع لا تختص بالمرأة المباشرة للرضاع وأنها تسري إلى سائر القرابات المحرمات بالنسب، إذ لا فرق في المعنى والقياس بين الأخت وبينهن في سريان ما حرمه الرضاع إلى جميعهن؛ ودليلا أيضا على أن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل الفحل الذي ذر اللبن بمائه؛ إذ ذلك مفهوم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة»، وقائم أيضا من كتاب الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] ومعلوم أن الأب لم يلد ولده بالحمل والوضع كما صنعت الأم، وإنما ولدهم بما كان من مائه المتولد عنه الحمل واللبن، فصار بذلك والدا كما صارت الأم بالحمل والوضع أما فإذا أرضعت بلبنه طفلا كانت أمه وكان هو أباه. وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ما رفع الإشكال وأزال الاحتمال في الحديث الصحيح «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أم

فصل في بيان سريان حرمة الرضاع

المؤمنين أنها قالت: جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك فقال: إنه عمك فأذني له. قالت: فقلت يا رسول الله: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: إنه عمك فليلج عليك، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب». قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. فصل ولولا هذا الحديث «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» إذ ظنت أن اللبن إنما يحرم من قبل المرأة لا من قبل الرجل، وجواب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بما فهمت عنه أن اللبن للفحل وأن التحريم يقع من قبله كما يقع من قبل المرأة، لاحتمل أن يقول من لا يرى أن لبن الفحل يحرم: إن التحريم لم يقع في عم عائشة أفلح من قبل الفحل؛ لأنه ممكن أنه يكون أفلح أخو أبي القعيس قد أرضعته وأبا بكر الصديق امرأة واحدة في حولي رضاعهما، فصار أفلح بذلك أخا أبيها وعمها من الرضاعة من قبل المرضعة لا من قبل الفحل، فأزال هذا الاحتمال قوله في الحديث: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» وعلم أن المرأة التي أرضعتهما زوجة أبي القعيس، وصار أفلح أخو أبي القعيس من النسب عما لها من الرضاعة من قبل الفحل على ما ذكر في الحديث، والله أعلم. فصل في بيان سريان حرمة الرضاع فتسري حرمة الرضاع من قبل المرأة المرضعة إلى أمها وأبيها وإن علوا، وإلى ولدها وولد ولدها الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوتها وأخواتها وأعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم

فصل

إلى ولد إخوتها وأخواتها؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وتسري حرمة الرضاع أيضا من قبل الفحل الذي كان اللبن عنه إلى أبويه وإن علوا، وإلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم أيضا إلى ولد إخوته وأخواته؛ لأن إخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع من قبله، وليس أولادهم من ذوي محارمه. ولا تسري حرمة الرضاع من قبل المرضع إلا إلى الابن والبنت ما سفلا. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فإذا أرضعت المرأة صبيا حرمت عليه وعلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا هي وجميع ذوات محارمها ومحارم الفحل الذي كان لبنها منه، حاشا بنات إخوتها وأخواتها وبنات إخوة الفحل وأخواته؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات، وإخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وإن أرضعت صبية حرمت الصبية وبناتها وبنات بنيها ما سفلوا على زوجها الذي كان اللبن منه، وعلى جميع ذوي محارمه ومحارمها، حاشا بني إخوته وأخواته وإخوتها وأخواتها لما ذكرناه، فلا ينزل أحد من ذوي رحم المرضع منزلة المرضع في الحرمة حاشا ولده وولد ولده ما سفلوا. فهذا تحصيل هذا الباب وربطه. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فإذا قلنا إن حرمة الرضاع لا تسري من قبل المرضع إلا إلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث خاصة، فيجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من الرضاعة وأم ابنه وإن علت من الرضاعة، وأم أخيه من الرضاعة، إذ لا حرمة بينه وبين واحدة منهن، بخلاف النسب لا يحل للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب؛ لأنها ربيبته، ولا جدة ابنه من النسب؛ لأنها أم زوجته، ولا أم أخيه من النسب؛ لأنها زوجة أبيه أو أم ولده. وكذلك للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من الرضاعة، وأبا ابنها من الرضاعة،

فصل في تحريم لبن الفحل

وأبا أخيها من الرضاعة، إذ لا حرمة بينها وبين واحد منهم، بخلاف النسب لا يجوز للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من النسب؛ لأنه ربيبها ابن زوجها، ولا جد ابنها من النسب؛ لأنه والد زوجها، ولا أبا أخيها لأمها؛ لأنه زوج أمها. وأما نكاح الرجل أخت أخيه فذلك جائز في النسب والرضاع، إذ لا حرمة بينه وبينها. وكذلك نكاح الرجل أخت عمه جائز أيضا في الرضاع والنسب، إذ لا حرمة بينه وبينها. والعم من الرضاع على ثلاثة وجوه: أحدها: أن يكون لأبيك من النسب أخ من الرضاعة بأن تكون أرضعتهما امرأة واحدة في حولي رضاعهما أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون عمك من الرضاعة. والثاني: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته أو أمته بمائه أخ من النسب فيكون عمك من الرضاعة. الثالث: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته بمائه أخ من الرضاع بأن يكون أرضعتهما امرأة واحدة أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون ذلك الأخ عما لك. وهذا كله بين والحمد لله. فصل في تحريم لبن الفحل وقد اختلفت العلماء في لبن الفحل فطائفة أنزلته منزلة الأم فأوجبت به التحريم، وهو قول مالك وجميع أصحابه والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وطائفة كرهته، منهم القاسم بن محمد وعروة بن الزبير ومجاهد والشعبي، وطائفة رخصت فيه وهم سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والنخعي. وعلى تحريمه العمل. وإنما اختلفوا فيه، والله أعلم؛ لأنهم جعلوا مخالفة عائشة للحديث الذي روته في ذلك علة فيه. روي عنها أنها كانت لا ترى التحريم من قبل الفحل، فكان يدخل عليها من أرضعته بنات أخيها وبنات أختها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وهي التي روت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحريم بلبن الفحل وقالت به بعد أن أوقفت على ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل». والحجة في السنة لا فيما خالفها، وإن خالفها الراوي لها. وقد قيل: إن مخالفته لها تبطل

فصل في رضاعة الكبير

العمل بها، إذ لا يمكن أن يروي الراوي الحديث ثم يترك العمل به إلا وقد علم النسخ فيه، إذ لو تركه وهو لا يعلم أنه منسوخ لكان ذلك جرحا فيه، وليس ذلك عندنا بصحيح، لاحتمال أن يكون تركه لتأويل تأوله فيه فلا يلزم غيره من العلماء اتباعه على ما تأوله باجتهاده. فلعل عائشة تأولت أن ذلك رخصة لها في شأن أفلح خاصة كما تأول سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رضاعة سالم، فرجعت إلى ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ولهذا المعنى اختلف العلماء في التحريم بلبن الفحل على ما ذكرناه عنهم والله أعلم. فصل في رضاعة الكبير ولا تحرم رضاعة الكبير، وإنما يحرم منها ما كان في وقت الرضاعة كما قال سعيد بن المسيب: لا رضاعة إلا ما كان في المهد وإلا ما أنبت اللحم والدم، وذلك مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحد ذلك ما حده الله في كتابه حيث يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وما قرب من الحولين فله حكمهما عند أكثر أصحابنا لوجود معنى تحريم الرضاعة فيه، وهو انتفاع الصبي به وكونه له غذاء، ومن طريق اختلاف الشهور بالزيادة والنقصان، وقد قال الله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. واختلف في حد القرب ما هو، فقيل اليوم واليومان، وقيل الأيام اليسيرة، وقيل الشهر ونحوه، وقيل الشهر والشهران، وهو قوله في المدونة، وقيل الشهر والشهران والثلاثة، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. وهذا إذا لم يفصل قبل ذلك فصالا يستغني فيه عن الرضاع بالطعام والشراب، فإن فصل قبل ذلك واستغنى بالطعام والشراب عن الرضاع فما أرضع بعد ذلك فلا يكون رضاعا تقع به الحرمة على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فطام» وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وذهب مطرف

فصل فيما تقع الحرمة به من الرضاع

وابن الماجشون إلى أن الفصل لا يعتبر إلا بعد أمد الرضاع، وحملا حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. فصل وذهب الليث بن سعد وطائفة من العلماء إلى أن الحرمة تقع برضاع الكبير. وحجتهم في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة، ذكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير ... الحديث بطوله. وهذا الحديث حمله مالك وأكثر أهل العلم على أنه خاص بسالم مولى أبي حذيفة، كما حمله أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عدا عائشة. وممن قال " إن رضاعة الكبير ليست بشيء " عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير عائشة، وجمهور التابعين وفقهاء الأمصار. وحجتهم قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الرضاعة من المجاعة ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم» وقال ابن حبيب: إن الاختلاف الواقع بين أهل العلم في رضاع الكبير إنما هو في الستر والحجاب، وأما النكاح فلم يختلفوا فيه أنه لا يحرم به، والصحيح أن الاختلاف داخل فيه. وقد كان أبو موسى الأشعري يفتي بأن التحريم يقع به في النكاح، ثم رجع إلى قول ابن مسعود وقال: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم. ولا يزال الناس بخير ما رجعوا إلى الصواب عند تبينه لهم. فصل فيما تقع الحرمة به من الرضاع ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول أكثر أهل العلم، أن قليل الرضاع وكثيره يحرم؛ لأنه ظاهر القرآن، وحديث المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان، خرجه النسائي وغيره من رواية أبي الفضل بألفاظ متقاربة، في بعضها «لا تحرم المصة والمصتان» وفي بعضها «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان» وفي بعضها «المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان». ورواه ابن وهب «تحرم

فصل

المصة والمصتان» على ما وقع في المدونة، فوجب أن تسقط لهذا الاختلاف، فلذلك لم يخرجه البخاري والله أعلم. وكذلك اضطرب ابن الزبير في رواية هذا الحديث، فرواه مرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرة عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد أيضا من أجل هذا الاختلاف. وكذلك حديث عائشة: «كان مما أنزل فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مما يقرأ في القرآن» لا تصح به حجة؛ لأنها أحالت على القرآن في الخمس رضعات فلم توجد فيه. ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وليس العمل على هذا. وقال من ذهب إلى الأخذ بالخمس رضعات: إن هذا مما نسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم. وهذا لا يصح؛ لأن نسخ القرآن لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ولا يصح إلا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما بعد موته فلا يجوز أن يذهب من صدور الناس حفظ شيء من القرآن؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه حفظ كتابه العزيز فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقد أخبرت هي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي والخمس رضعات تقرأ في القرآن، ولو كان ذلك لما سقط من القرآن، فلعلها أرادت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو مما يقرأ في القرآن المنسوخ، أي يعلم أن ذلك كان قرآنا فنسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم وكسائر ما نسخ خطه وحكمه وذهب من الصدر حفظه. وهذا محتمل إذ لم تقل إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو قرآن، وإنما قالت: إنه توفي وهو مما يقرأ في القرآن، فاحتمل أن يكون أرادت أنه كان يذكر في القرآن المنسوخ خطه والله أعلم. فصل والرضاع يحرم بلبن المسلمات والمشركات الحرائر والإماء الأموات والأحياء من قبل الأم ومن قبل الفحل إن كان الوطء حلالا أو بوجه شبهة يلحق به الولد. واختلف إن كان الوطء حراما لا شبهة فيه كوطء الزنا، ومن تزوج من لا تحل له وهو عالم هل تقع الحرمة به من قبل الفحل أم لا على قولين. فكان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فصل

يرى أن كل وطء لا يلحق به الولد فلا يحرم بلبنه، يريد من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم. وإلى هذا ذهب سحنون وقال: ما علمت من قال من أصحابنا إنه لا يحرم إلا عبد الملك، وهو خطأ صراح. وقد «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة أن تحتجب من ولد ألحقه بأبيها لما رأى من شبهه بعتبة». قال ابن المواز: وإذا أرضعت بلبن الزنا صبيا فهو لها ابن ولا يكون ابنا للذي زنى بها. ولو كانت صبية فتزوجها الذي كان زنى بها لم أقض بفسخ نكاحه، وأحب إلي أن يتجنبه من غير تحريم. وأما ابنته من الزنا فلا يتزوجها وإن كان ابن الماجشون قد أجازه، ومكروهه بين «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسودة في الولد الذي ألحقه بأبيها: احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة» فكيف يتزوجها عتبة لو كانت جارية؟. فصل وتقع الحرمة بلبن البكر والعجوز التي لم تلد وإن كان من غير وطء إذا كان لبنا ولم يكن ماء أصفر لا يشبه اللبن. وأما الرجل فلا تقع الحرمة برضاعه وإن كان له لبن، وما أظنه يكون. فقد أنكر ذلك مالك فقال: وإنما يحدث بهذا قوم نفاق. فصل ويستحب للأم أن ترضع ولدها، فإنه روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه». ولذلك كانت المطلقة أحق برضاع ولدها بما ترضعه غيرها. ويكره الظؤرة من اليهوديات والنصرانيات لما يخشى من أن تطعمهم الحرام وتسقيهم الخمر. وقال ابن حبيب عن مالك: فإذا أمن ذلك فلا بأس به. ويتقى رضاع الحمقاء وذوات الطباع المكروهة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرضاع يجر الطباع». قال عبد الملك: ولذلك كانت العرب تسترضع أولادها في أهل بيت السخاء أو بيت الوفاء أو بيت الشجاعة أو ما أشبه ذلك من الأخلاق الكريمة. وبالله التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.

كتاب طلاق السنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم كتاب طلاق السنة فصل في اشتقاق لفظ الطلاق الطلاق مأخوذ من قولك أطلقت الناقة فطلقت إذا أرسلتها من عقال وقيد، فكأن ذات الزوج موثقة عند زوجها فإذا فارقها أطلقها من وثاق. ويدلك على ذلك قول الناس هي في حبالك إذا كانت تحتك، يراد أنها مرتبطة عندك كارتباط الناقة في حبالها. ثم فرقوا بين الحركات من فعل الناقة وفعل المرأة والأصل واحد وقالوا طلقت الناقة بفتح اللام وقالوا طلقت المرأة بضم اللام، وقالوا أطلقت الناقة وطلقت المرأة. فصل والطلاق حل العصمة المنعقدة بين الزوجين، وهو أمر جعله الله بأيدي الأزواج وملكهم إياه دون الزوجات فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل

فصل وهو يلزم باللفظ مع النية في الحكم الظاهر والباطن؛ لأن الطلاق يفتقر إلى لفظ ونية. وقد اختلف إذا انفرد أحدهما دون الآخر. فأما إذا انفردت النية دون اللفظ فالصحيح أن الطلاق يلزم بذلك؛ لأن اللفظ بالطلاق عبارة عما في النفس منه، فإذا أجمع الرجل في نفسه على أنه قد طلق امرأته لزمه الطلاق فيما بينه وبين الله، وهو نص قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق. وإن أظهر بلفظه ما أجمع عليه من الطلاق في نفسه حكم عليه به. وقد قيل: إن الطلاق لا يلزم بالنية حتى يلفظ به، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه في كتاب التخيير والتمليك ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح بقلبه. وأما إذا انفرد اللفظ دون النية فالصحيح أن الطلاق لا يلزم بذلك إلا في الحكم الظاهر، إذ لا يصدق إذا لفظ بالطلاق أنه لم يرده ولا نواه. وقد وقع في كتاب التخيير والتمليك من المدونة ما ظاهره أن الطلاق يلزم باللفظ دون النية، وهو خلاف المنصوص فيه وفي غيره وبعيد في المعنى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وهو على وجهين: مباح، ومحظور. فالمباح منه ما كان على الصفة التي أمر الله بها، والمحظور منه ما وقع بخلافها. والصفة التي أمر الله بها هي ما ذكر في كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقرأ ابن عمر " فطلقوهن لقبل عدتهن " معناه: في موضع يعتددن فيه، وهو أن يطلقها في طهر لم يمس فيه كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «حديث عبد الله بن عمر إذ طلق امرأته

فصل

وهي حائض فأخبر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس". فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل فطلاق السنة الذي أمر الله به وعلمه عباده هو أن يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم لا يتبعها طلاقا، فيكون أحق برجعتها شاءت أو أبت ما لم تنقض عدتها، لقول الله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وبلوغ الأجل في هذه الآية المقاربة لا البلوغ حقيقة، بخلاف الآية التي في سورة البقرة قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] البلوغ في هذه الآية على وجهه، وأما في الآية التي قدمنا ذكرها فالمراد بذكر البلوغ فيها المقاربة، بدليل إجماعهم على أنها تبين من زوجها بانقضاء عدتها ولا يكون له إليها سبيل. وذلك كثير موجود في القرآن ولسان العرب أن يسمى الشيء باسم ما قرب منه، قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] معناه: إذا أردت قراءة القرآن. وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل». وفي الحديث «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل» فسمي المطر بالسماء لما كان نزوله منها. ومنه قوله عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] فكني بالمجيء

فصل

من الغائط عن الحدث، ثم كثر استعمال ذلك حتى سمي الحدث بعينه غائطا لقرب ما بينهما. فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في الحيض؛ لأنه إذا طلق فيه طول عليها العدة وأضر بها؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا يعتد به في أقرائها فتكون في تلك المدة كالمعلقة لا معتدة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج. وقد نهى الله عن إضرار المرأة بتطويل العدة عليها بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق المرأة ثم يمهلها فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها ثم طلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها لتطول العدة عليها، فنهى الله عن ذلك بهذه الآية. فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في طهر قد مسها فيه؛ لأنه إذا فعل ذلك لبس عليها العدة فلم تدر بما تعتد إن كانت تعتد بالوضع أو بالأقراء، لاحتمال أن تكون قد حملت من ذلك الوطء، فكره له أن يدخل عليها اللبس في العدة، وأمر أن لا يطلقها إلا في موضع تعرف عدتها ما هي لتستقبلها. فقول الله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لقبل عدتهن. وقيل: إنما نهي عن ذلك لتكون مستبرأة فيكون على يقين من نفي الحمل إن أتت بولد وأراد أن ينفيه، كما كره له أن يبيع الأمة إذا وطئها قبل الاستبراء وإن كانت رفيعة تواضع لهذه العلة، وهذا أظهر والله أعلم. فصل وإنما منع من طلق امرأته حائضا فارتجعها أن يطلقها في الطهر الأول من

فصل

أجل أن ذلك يطول عليها العدة، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فلا يجوز له أن يراجع ليطلق، وإنما يجوز له أن يراجع ليطأ أو يمسك. فإذا وطئ في ذلك الطهر لم يصح له أن يطلق فيه. فالطهر الأول مقصوده الوطء فلا يصح فيه الطلاق، والطهر الثاني هو مخير فيه بين الوطء والطلاق. وقد قيل: إنه منع من الطلاق في الطهر الأول عقوبة لا لعلة موجودة، لما أوقع الطلاق في موضع لا يجوز له، منع منه في موضع يجوز له. والأول هو الصحيح؛ لأن العلة في ذلك موجودة، على ما بيناه وبالله التوفيق. فصل ولا يجوز عند مالك أن يطلق عند كل طهر طلقة؛ لأنه عنده طلاق بدعة على غير السنة؛ لأن الطلقة الثانية والثالثة لا عدة لهما، ولم يبح الله تعالى الطلاق إلا للعدة فقال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وأجاز ذلك أشهب على ما روي عن ابن مسعود ما لم يرتجعها في خلال ذلك وهو يريد أن يطلقها ثانية فلا يسعه ذلك؛ لأنه يطول عليها العدة ويضر بها. وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح عن ابن مسعود أن طلاق السنة أن يطلق طلقة في أول الطهر إلى انقضاء العدة. وقد أنكر أحمد بن خالد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على سحنون إدخال الحديث الذي أدخل عن ابن مسعود في المدونة، وقال: ما خلق الله أشنع من هذا يدخل خلاف مذهبه، وما قد أنكره مالك، وقال: إنه لم يدرك أحدا يقتدى به من أهل بلده يرى ذلك. والحسن بن عمارة رجل مطعون فيه. فصل وكذلك لا يجوز عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه ذلك بدليل قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهي

فصل

الرجعة فجعلها بائنة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة، إذ لو لم يقع ولم تلزمه لم تفته الزوجة ولا كان ظالما لنفسه. ولما ألزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر الطلقة التي طلقها في الحيض فقال: مره فليراجعها، دل ذلك أيضا على أن الطلاق لسنته ولغير سنته، وهو مذهب جميع الفقهاء وعامة العلماء لا يشذ في ذلك عنهم إلا من لا يعتد بخلافه منهم. فصل وقد أجاز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا في كلمة واحدة، واحتج لذلك بتطليق الملاعن زوجته بعد اللعان ثلاثا بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فلو كان ذلك منكرا لأنكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما طلق أجنبية قد حرمت عليه باللعان، ولعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر ذلك كما لزمه أن ينكر طلاق الأجنبية، وليس كل شيء كان نقل. واحتج أيضا بأشياء لا تقوم له بها حجة، منها طلاق عبد الرحمن بن عوف زوجته تماضر ثلاثا في مرضه، وطلاق أبي عمرو بن حفص زوجته فاطمة بنت قيس ثلاثا. ولا حجة له في شيء من ذلك؛ لأنهما لم يطلقا ثلاثا في كلمة واحدة، وإنما طلقا واحدة وكانت آخر ما بقي لهما من الثلاث. ومن حجته أيضا عموم «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها، من غير أن يخص واحدة من ثلاث». ولا يكون هو أعلم بمراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله هذا من المخاطبين به وهما عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر، فقد قالا جميعا: من طلق ثلاثا فقد عصى الله ورسوله. ومن حجته أن الزوج ترك إيقاع ما إليه إيقاعه في الطلاق الرجعي وأوقع طلاقا إليه إيقاعه، فيلزمه على هذا أن يجيز طلاق المرأة حائضا إذا أباحت له امرأته ذلك؛ لأنه إنما منع لئلا تطول عليها العدة، وهذا ما لا يقوله أحد. فمن طلق ثلاثا في كلمة واحدة فقد عصى ربه وتعدى حدوده وظلم نفسه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبانا، قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين

فصل

أظهركم». وكان علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يعاتبان الذي يطلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة، وهو قول مالك. فصل وكذلك طلاق المباراة الذي يجري عندنا ويطلق الناس به نساءهم طلاق بدعة، ولا ينبغي لأحد أن يفعله، وإنما يجوز منه ما كان على وجه الخلع بشيء تعطيه من مالها أو تتركه له من حقها أو تلتزمه من مؤنة حمل أو رضاع أو ما أشبه ذلك مما تجوز المخالعة به في الموضع الذي أجازه الله تبارك وتعالى فيه، وهو إذا كان النشوز من قبل المرأة ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها. قال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فلا يجوز للرجل إن نشزت عليه امرأته أو أحدثت حدثا من الزنا أو غيره أن يضارها حتى تفتدي منه، ولا تعلق له في جواز ذلك بقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]؛ لأن الاستثناء فيها منفصل غير متصل. ومعنى الآية: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن أتين بفاحشة حل لكم أن تقبلوا منهن في الفداء ما طابت به أنفسهن. والفاحشة البينة هاهنا أن تشتم عرضه أو تبذأ عليه بلسانها أو تخالف أمره؛ لأن كل فاحشة نعتت في القرآن ببينة فهي من باب النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة لم تنعت ببينة فالمراد بها الزنا. ومن أهل العلم من رأى الاستثناء متصلا فأباح للرجل إذا نشزت عليه امرأته أن يضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل الفاحشة البينة هاهنا على الزنا وجعل الاستثناء متصلا، فأباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].

فصل

فصل وكذلك الحلف بالطلاق مكروه. روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق فإنهما من أيمان الفساق»، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». وروى زياد عن مالك أنه يؤدب من حلف بالطلاق. وقال مطرف وابن الماجشون: من اعتاد الحلف بالطلاق فذلك جرحة فيه وإن لم يعلم له حنث فيه. ومكروهه لوجهين: أحدهما: نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحلف به وعن الحلف بغير الله. والثاني: أنه قد يقع حنثه في حال الحيض أو دم النفاس أو في طهر قد مس فيه، وهذه أحوال لا يجوز إيقاع الطلاق فيها. فإن كانت الزوجة ممن لا تحيض أو يائسة من المحيض كره لمخالفته السنة خاصة. فصل ومن حلف بالطلاق فحنث في يمينه وامرأته حائض أو نفساء في دم نفاسها فإنه يجبر على رجعتها كما يجبر المطلق في الحيض على الرجعة ما لم تنقض العدة في مذهب مالك وأصحابه، حاشا أشهب فإنه يرى أن يجبر على الرجعة ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر إلى الموضع الذي أبيح له فيه الطلاق. ومن أهل العلم من يرى أنه إنما يجبر على الرجعة ما لم تطهر من حيضتها التي طلقها فيها، وليس ذلك في المذهب. فإن أبى الارتجاع هدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب، ويكون ذلك كله قريبا في موضع واحد؛ لأنه على معصية. فإن تمادى ألزم الرجعة وكانت له زوجة. حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب. وقال أصبغ عن ابن القاسم في العتبية: إنه إذا أبى حكم عليه بالرجعة وألزم إياها ولم يذكر سجنا ولا ضربا. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه يؤمر بالرجعة ولا يضرب عليها. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن الأوامر محمولة على الوجوب حتى يقترن بها ما يدل على أنها على الندب، وهذا قول المحققين من أهل العلم.

فصل

فصل واختلف إذا أجبر على الرجعة وألزم إياها ولم ينو ذلك ولا كانت له نية في مراجعتها هل له الوطء أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك له وهو الصحيح؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم شاء أو أبى، فيجوز له الوطء كالذي يجبر على النكاح ممن له الجبر عليه من أب أو وصي أو سيد، فيجوز له الوطء وإن كان النكاح قد غلب عليه بغير رضاه. وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي واحتج لذلك بمن نكح هازلا فألزم النكاح بالحكم أن الوطء يجوز له. وقال بعض البغداديين: ليس له الاستمتاع بها إلا أن ينوي رجعتها إذا أجبر على ذلك. والصحيح ما تقدم. فصل وهذا في التي دخل بها، وأما التي لم يدخل بها طلاقها جائز وإن كانت حائضا أو نفساء. وكره ذلك أشهب، وليس لكراهته وجه؛ لأن العلة في منع إيقاع الطلاق في الحيض تطويل العدة على المرأة؛ لأن الحيضة التي طلقها فيها لا يعتد بها من أقرائها، والله تعالى يقول: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، والتي لم يدخل بها لا عدة عليها ويطلقها متى شاء. فصل واختلف في الحامل إذا حاضت على حملها هل يجوز للزوج أن يطلقها في ذلك الحيض أم لا. وذكر عن أبي عمران الفاسي أن طلاقها فيه جائز؛ لأن الطلاق في الحيض إنما كره من أجل أنها لا تعتد بتلك الحيضة فتطول عليها العدة، وعدة هذه وضع الحمل فارتفعت العلة. وجرى لابن القصار في كتاب عيون الأدلة لما عورض بقول المخالف: لو كانت الحامل تحيض لحرم الطلاق فيه فقال: فكذلك نقول: إن الطلاق فيه حرام. ووجه هذا القول أنه طلاق وقع في حال نهي عن إيقاعه فلم يجز وإن لم يوجد فيه علة الإضرار بالتطويل، أصله إذا أباحت له المرأة ذلك.

فصل

فقد توجه قول أشهب في كراهته لطلاق التي لم يدخل بها في الحيض بهذا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وإنما يجبر على الرجعة من طلق طلاقا رجعيا. وأما من طلق طلاقا بائنا بخلع أو بغير خلع فلا يجبر على الارتجاع. وكان أبو المطرف بن جريج يفتي بالإجبار على الرجعة في طلاق المباراة، وكان غيره من شيوخ وقته مخالفا له في ذلك ويخطئونه فيه. وقوله يخرج على قول مطرف ورواية ابن وهب عن مالك فيمن خالع وأعطي أنها طلقة رجعية. فصل وطلاق المدخول بها وإن كان بائنا بخلع أو غيره فإنه لا يصح إيقاعه في الحيض ولا في دم النفاس للعلة التي قدمناها وهي التطويل في العدة وبالله التوفيق. فصل ولا يطلق السلطان على من به جنون أو جذام أو برص أو عنة أو عجز عن النفقة أو ما أشبه ذلك مما يحكم فيه بالفراق في الحيض ولا في دم النفاس، وكذلك لا يلاعن بين الزوجين في الحيض ولا في دم النفاس، فإن فعل ذلك فقد أخطأ لا يجبر في شيء من ذلك على الرجعة؛ لأنه طلاق بائن إلا في الذي يطلق عليه بعدم الإنفاق فإنه يجبر على الرجعة إن أيسر في العدة. هذا الذي يلزم على أصولهم ولا أعرف فيها رواية. وأما المولي فاختلف فيه قول مالك: هل يطلق عليه في الحيض أم لا على قولين، فإذا طلق عليه في الحيض على أحد قوليه فإنه يجبر على الرجعة، تطلق

فصل

عليه بالقرآن ويجبر على الرجعة بالسنة. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن تطليق الإمام على المجنون والمجذوم والمبروص إنما هي طلقة رجعية، وأن الموارثة بينهما قائمة ما دامت العدة لم تنقض، ولو صحوا في العدة من أدوائهم لكانت لهم الرجعة، وهو خلاف المعلوم من المذهب أن كل طلاق يحكم به الإمام فهو بائن إلا المولي والمطلق عليه لعدم الإنفاق. فعلى قوله: لو أخطأ الإمام فطلق على واحد منهم في الحيض يجبر على الرجعة إن صح فيها من دائه. وأما العنين فلا اختلاف أن تطليق الإمام عليه تطليقة بائنة؛ لأنه طلاق قبل الدخول لتقاررهما على عدم المسيس. فصل وأما كل نكاح يفسخ بعد البناء لفساده وإن فسخ بطلاق فإنه يفسخ متى عثر عليه وإن كان ذلك في الحيض أو دم النفاس، بخلاف ما كان في فسخه وإجازته خيار لأحد. وكذلك الأمة تعتق تحت العبد لا تختار في الحيض، فإن فعلت لم يجبر على الرجعة؛ لأنها طلقة بائنة. وقد روى عيسى عن ابن القاسم في المستخرجة ما يدل على أنها طلقة رجعية، وهي رواية ابن نافع عن مالك. فعلى هذا يجبر على الرجعة إن أعتق في العدة ولا يملك أحد زوجته في الحيض، فإن فعل فلا تختار فيه، وذلك بيدها حتى تطهر من حيضتها وإن انقضى الأجل. ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك في مراعاة المجلس. وإن سبقت إلى الخيار في الحيض أجبر زوجها على الرجعة فيما دون الثلاث. فصل والعدة أوجبها الله وأمر بها حفظا للأنساب، وهي تنقسم على قسمين: عدة وفاة، وعدة طلاق. فإن كانت المرأة حاملا فعدتها وضع الحمل في الوفاة والطلاق جميعا لا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم، لقول الله عز وجل:

فصل

{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، عموما إلا ما يروى عن بعض السلف أن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أقصر الأجلين. فإن لم تكن حاملا فهاهنا تفترق عدة الوفاة من عدة الطلاق. فأما عدة الوفاة فأربعة أشهر وعشر، وهي لازمة في المدخول بها والتي لم يدخل بها لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فقيل: إنها في التي لم يدخل بها عبادة لا لعلة، وقيل: إنها لعلة، والعلة في ذلك الاحتياط للزوج إذ قد درج وانطوى بحجته، فلعله لو كان حيا لبين أنه قد دخل بها. ونظير ذلك أن من أثبت دينا على ميت لا يحكم له إلا بعد اليمين وإن لم يدع الورثة عليه أنه قد قبض أو وهب، بل لو أقر له الورثة بالدين ولم يريدوا أن يدفعوه إلا بحكم لم يحكم له القاضي به إلا بعد اليمين مخافة أن يطرأ وارث أو يطرأ عليه دين. هذه علة صحيحة في التي يوطؤ مثلها. ولما لم يكن في قدر ذلك حد يرجع إليه في الكتاب والسنة حمل الباب محملا واحدا وأوجب عليها العدة وإن كانت ممهورة. فصل ولم يختلف في التي قد دخل بها أنها لعلة وهي حفظ الأنساب، لكن تحديد الأربعة أشهر وعشر دون الاقتصار على ما يحصل به الاستبراء أو يعلم به براءة الرحم عبادة. والدليل على ذلك اختلاف قول مالك في الكتابية إذا مات عنها زوجها المسلم هل تعتد بأربعة أشهر وعشر أو ثلاث حيض؛ لأنه مبني على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا. فإذا قلنا إنها غير مخاطبة بشرائع الإسلام فإنما عليها الاستبراء بثلاث حيض، هذا أيضا على مذهب من رأى أن الثلاث حيض كلها استبراء. وأما من ذهب إلى أن الحيضة الواحدة استبراء والاثنتان عبادة فلا يوجب عليها في الوفاة ولا في الطلاق إلا الاستبراء بحيضة واحدة إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها فلا شيء عليها في الوفاة ولا في الطلاق. فأما إسقاط العدة عنها في الوفاة إذا لم يدخل بها فقد حكى

فصل

الرواية عن مالك ابن الجلاب. وأما استبراؤها بحيضة واحدة في الطلاق من المسلم فلا أعرف في ذلك نص رواية إلا أن مالكا قد قاله في الطلاق من الذمي، ولا فرق بين الموضعين. فصل وإن كان المتوفى عنها زوجها لم يدخل بها زوجها أو كانت في سن من لا تحيض من صغر أو كبر ويؤمن الحمل منها حلت بتمام الأربعة الأشهر والعشرة. وأما إن كانت قد دخل بها وهي من ذوات الأقراء فحاضت فيها حلت بتمامها. وأما إن لم تحض فيها فلا يخلو الأمر من وجهين: أحدهما: أن يكون مر بها فيها - أعني في العدة - وقت حيضتها فارتفعت عنها من غير عذر. والثاني: أن لا يمر بها فيها وقت حيضتها مثل أن تكون لا تحيض إلا من خمسة أشهر إلى مثلها أو من سنة إلى مثلها أو كان ارتفاعها من عذر. فأما إن لم تحض فيها ولم يكن لارتفاع حيضتها عذر فقول مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره: إنها ريبة فلا تحل حتى تحيض أو يمر بها تسعة أشهر أمد الحمل في الأغلب. فإذا مر بها تسعة أشهر حلت إلا أن تكون بها ريبة تحس في البطن فتقيم حتى تذهب الريبة وتبلغ أقصى أمد الحمل. وقال أشهب وابن الماجشون وسحنون: إنها تحل بانقضاء العدة وإن لم تحض إذا لم يكن بها من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض. وكذلك المستحاضة تجري في هذا المجرى. وقد روي عن مالك أن عدة المستحاضة في الوفاة أربعة أشهر وعشر للحرة، وثلاثة أشهر للأمة. وفي المسألة على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرتابة والمستحاضة في الوفاة تتربص إلى تمام تسعة أشهر، والثاني: أنهما تحلان بتمام أربعة أشهر وعشر، والثالث: التفرقة بين المرتابة والمستحاضة، فتحل المستحاضة بتمام أربعة أشهر وعشر، وتتربص المرتابة إلى تمام تسعة أشهر. وأما إن لم يمر بها فيها وقت حيضتها أو كان لارتفاعها عذر فذهب مالك وأصحابه إلى أنها تحل بانقضاء العدة إذا لم يظهر بها حمل. وروى ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب أنها لا تحل حتى تحيض أو تمر بها تسعة أشهر. وحكى ابن المواز أن مالكا رجع عن هذا القول.

فصل

فصل والعذر الذي لا يكون ارتفاع الحيض معه ريبة الرضاع باتفاق، والمرض باختلاف. قال أشهب: إن المرض كالرضاع لا يكون ارتفاع الحيض معه ريبة لا في الوفاة ولا في الطلاق، فتحل في الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت. وروى ابن القاسم عن مالك، وقال به ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ، أن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة كالصحيحة خلاف المرضع فتتربص في الوفاة إلى تسعة أشهر، وفي الطلاق سنة؛ تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. والفرق بين المرض والرضاع عندهم أن الرضاع تقدر على إزالته بدفع الولد عنها والمرض لا صنع لها فيه. وأيضا فإن الرضاع له أمد معلوم وحد محدود، والمرض لا حد له قد يطول الأعوام الكثيرة التي لا يلحق في مثلها الولد، فإذا جعلت عدتها الأقراء فإن تباعدت قد تكون عدتها أكثر مما يلحق به الولد، وذلك فاسد. فصل وأما عدة الطلاق فلا تجب قبل الدخول. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] الآية. وأما إن كان قد دخل بها اعتدت بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، أو بثلاثة أشهر إن كانت في سن من لا تحيض من صغر أو كبر. قال الله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [واختلف في معنى قول الله عز وجل: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]]، ما هذه الريبة، فروى أشهب عن مالك أنها ريبة ماضية في الحكم ليس في معاودة الحيض لهن. وذلك أن الله

تعالى لما بين عدة ذوات الأقراء وذوات الحمل وبقيت اليائسة عن المحيض والتي لم تحض ارتاب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حكمها فأنزل الله: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، وذهب ابن بكير وإسماعيل القاضي إلى أن المعنى في قَوْله تَعَالَى: إن ارتبتم في معاودة الحيض لهن وأنها ريبة مستقبلة، واحتجا لذلك بحجج يطول جلبها. من ذلك أن اليائس في كلام العرب إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجاء. ألا ترى أنك تقول يئست من المريض لشدة مرضه، ومن الغائب لبعد غيبته، ولا يصح أن تقول يئست من الميت الذي قد انقطع الرجاء منه، وأنه لو كان بمعنى اليائسة التي ذكر الله في كتابه وأوجب عليها في العدة ثلاثة أشهر هي التي لا ترتاب في معاودة الحيض لوجب إذا ارتفع عن المرأة الحيض وهي في سن من يشبه أن تحيض أن تعتد بالأقراء حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض وإن بقيت عشرين عاما. وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو خطأ لا يصح من وجهين: أحدهما: أنها إن جاءت بولد لما لا تحمل له النساء من المدة وإن كانت العدة لم تنقض لم يلحق به الولد، فمحال أن تعتد من الزوج في مدة لا يلحق فيها به الولد. والوجه الثاني: مخالفة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل وإلا اعتدت بعد التسعة أشهر بثلاثة أشهر ثم حلت، ولا مخالف له من الصحابة. ومن ذلك أن الريبة لو كانت في الحكم لكانت ماضية ولكان حقها أن تكون " أن ارتبتم " بفتح الألف من " أن ". فإذا قلت: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة ثلاثة أشهر هي التي ترتاب فلا تدري لم لم تحض، فدليل هذا أن لا تجب عدة على من يعلم أنها ممن لا تحيض من صغر أو كبر ولا ترتاب في أمرها إلا أنه لما لم يكن في ذلك حد يرجع إليه حمل الباب في ذلك محملا واحدا. وقد ذهب ابن لبابة في كتابه إلى أن الصغيرة التي يئست في سن من تحيض ويؤمن الحمل عليها أنها لا عدة عليها وإن كان يوطأ مثلها، وكذلك الكبيرة التي انقطع عنها الحيض ويؤمن الحمل منها، وقال: إنه مذهب داود وإنه القياس؛ لأن العدة إنما هي لحفظ الأنساب، فإذا أمن الحمل فلا معنى للعدة، وهو شذوذ من القول. وإذا قلنا: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة ثلاثة أشهر هي التي لا

فصل

ترتاب في الحيض إذ ليست في سن من تحيض، وهو الذي ذهب إليه مالك في رواية أشهب عنه. فالتي ترتفع حيضتها بعد أن حاضت وهي في سن من تحيض محمولة [عليها إذا قعدت سبعة أشهر فلم تر فيها حيضا ولا ظهر بها حمل ولا كان لها عذر يمنعها من الحيض من مرض أو رضاع] على ما بيناه من الاختلاف في المرض؛ لأنها بمعنى اليائسة، وللسنة الثابتة في ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فلا تحل المرأة المطلقة ولا حمل بها إذا كانت في سن من تحيض أو قد حاضت مرة أو مرتين إلا بثلاثة قروء أو سنة بيضاء لا دم فيها، تسعة أشهر لا دم فيها استبراء ينزل بلوغها إليها دون أن ترى فيها دما بمنزلة اليائسة، ثم ثلاثة أشهر عدة، كما قال الله عز وجل. فصل فإذا ارتفع عن المرأة الحيض واعتدت بالسنة ثم تزوجت فطلقها زوجها اعتدت بثلاثة أشهر كاليائسة عن المحيض وكان هذا شأنها ما لم تعتد بالأقراء. فإن اعتدت بالأقراء ثم طلقت ثانية فارتفع عنها الحيض اعتدت بتسعة أشهر استبراء وثلاثة أشهر عدة. فصل فإن كانت ممن لا تحيض إلا من سنة إلى سنة أو إلى أكثر من ذلك فإنها تتربص في عدتها سنة، فإن جاء فيها وقت حيضتها فلم تحض حلت بتمامها، وإن لم يأتها فيها وقت حيضتها انتظرت إلى أن يأتيها وقت حيضتها، فإن أتى وقتها ولم تحض فيها حلت مكانها، وإن حاضت على عادتها تربصت سنة أخرى، فإن جاء فيها وقت حيضتها ولم تحض حلت بتمامها. وإن لم يأتها فيها وقت حيضتها، انتظرت إلى أن يأتي وقتها، فإن أتى وقتها ولم تحض فيها حلت [مكانها. وإن

فصل فيما تفترق فيه العدد من الأحكام

حاضت تربصت سنة أخرى. فإن مر بها فيها ودت حيضتها ولم تحض حلت] بتمامها. وإن لم تمر فيها وقت حيضتها تربصت حتى يأتي وقت حيضتها، فإن أتاها وقت حيضتها ولم تحض حلت مكانها، وإن حاضت كانت عدتها قد انقضت بالأقراء الثلاث. هذا قول محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه ولا مخالف له من أصحابنا. فصل فيما تفترق فيه العدد من الأحكام فعدة الوفاة مفارقة لعدة الطلاق، وتفترق أيضا عدة الطلاق البائن من عدة الطلاق الرجعي في كثير من الأحكام. فتحصيل القول في هذا أن العدة تنقسم على ثلاثة أقسام: عدة وفاة، وعدة طلاق رجعي، وعدة طلاق بائن. فأما عدة الوفاة فأمدها أربعة أشهر وعشر إن لم تكن حاملا، ووضع حملها إن كانت حاملا. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فكان ظاهر هذا العموم في الحامل وغير الحامل، فخصص من ذلك الحامل بقوله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وبقيت الآية محكمة فيما سوى الحامل. ومن أهل العلم من قال: إن قوله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ناسخ لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وليس ذلك بصحيح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض ولا يمكن الجمع بينه، فالصحيح أنها ليست بناسخة لها، وإنما هي مبينة لها ومخصصة لعمومها. وذهب ابن عباس إلى حمل الآية على عمومها في الحامل وغير الحامل، ولم ير في ذلك نسخا ولا تخصيصا، فأوجب على الحامل في العدة أقصى الأجلين باعتبار الآيتين. وأما قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]

فصل

، فإنها آية منسوخة بإجماع، نسخها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وإن كانت قبلها في التلاوة، وهذا من الغريب؛ لأن حق الناسخ أن يكون بعد المنسوخ، فلا شك أنها نزلت بعدها، وإن كانت في التلاوة قبلها. ولا يجب للمرأة فيها نفقة ويجب لها فيها السكنى إن كانت الدار للميت أو كانت بكراء، وقد نقد الكراء فيجب عليها المكث فيها أو في غيرها إن لم تكن الدار للميت فأخرجت عنها حقا لله عز وجل لحفظ الأنساب، فليس يحل أن تبيت في غيرها ولا أن تنتقل عنها إلا من أمر لا تستطيع القرار عليه. وكذلك الإحداد ليس لها أن تفعل ما لا يجوز للحادة أن تفعله إلا من ضرورة. وقد اختلف فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر للاستبراء إذا أحست من نفسها باتفاق أو تأخر عنها المحيض أو لم يأتها فيها وقت حيضتها على الاختلاف؛ إذ قيل: إنها تبرأ بالأربعة الأشهر والعشر في الوجهين، وقيل: إنها تتربص إلى تسعة أشهر في الوجهين جميعا، وقيل: إنها تتربص بالأربعة الأشهر والعشر إذا لم يأتها فيها وقت حيضتها، بخلاف التي تتأخر عنها، هل يجب عليها فيها الإحداد أم لا على قولين. وهذا الاختلاف داخل في وجوب المقام عليها في بيتها. ومن أهل العلم من جعل المسكن حقا لها فأجاز لها الانتقال من غير ضرورة والمبيت في غيره. فصل وأما العدة من الطلاق الرجعي فأمدها ثلاثة أقراء إن كانت ممن تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت يائسة من المحيض، أو وضع حملها إن كانت حاملا. ولها النفقة فيها والسكنى حقا لله عز وجل لحفظ النسب، وليس لها أن تنتقل عن بيتها ولا أن تخرج عنه إلا من ضرورة. قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، واختلف في الفاحشة المبينة ما هي، فقيل هي الخروج من بيتها قبل انقضاء عدتها، وقيل: هي البذاء على زوجها

فصل

وأحمائها، وقيل: إنما هي أن تأتي بفاحشة من زنى وتخرج لإقامة الحد عليها ولا إحداد عليها فيها. فصل وأما العدة من الطلاق البائن فأمدها أمد العدة من الطلاق الرجعي. وقد اختلف في وجوب النفقة والسكنى لها فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك وجميع أصحابه. والثاني: أن لها النفقة والسكنى، والثالث: أنها لا نفقة لها ولا سكنى. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه من أن لها السكنى ولا نفقة لها. ودليلهم [من كتاب الله عز وجل] على سقوط النفقة لها قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، لأن في ذلك دليلا على أن غير الحامل لا نفقة لها. وهو نص «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث فاطمة بنت قيس: " ليس لك عليه نفقة "؛ إذ طلقها ثلاثا فأرسل إليها شعيرا فسخطته فشكت ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ودليلهم على وجوب السكنى لها قول الله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، لأن المراد بذلك في اللائي قد بن من أزواجهن بدليل قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن غير البائن لها النفقة حاملا كانت أو غير حامل؛ إذ لم تخرج بعد من العصمة باتفاق. فإن قيل: كيف يصح أن يكون المراد بذلك اللواتي قد بن عن أزواجهن وهن لم يتقدم لهن في السورة ذكر وإنما تقدم ذكر اللواتي لم يبن عن أزواجهن بدليل قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أنه وإن لم يتقدم لهن في السورة ذكر فقد تقدم لهن ذكر في سورة البقرة، وهو قوله عز وجل: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]،

فيعاد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليه؛ لأن القرآن كله كسورة واحدة في رد بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض. والثاني: أن نقول: إنه قد تقدم لهن في السورة ذكر؛ لأن قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] عام فيمن لم تطلق بعد، وفيمن طلقت طلقة، وفيمن طلقت طلقتين وبقيت فيها طلقة؛ لأنها تبين بالطلقة الواحدة للسنة. فيرجع قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليها دون من سواها ممن عمه عموم اللفظ. واستدل من ذهب إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى، بما روي «عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى». وهذا لا حجة فيه؛ لأنها إنما قالت ذلك تأويلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم. وفي أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها أن تعتد عند ابن أم مكتوم دليل على أنه نقلها عن العدة الواجبة عليها في بيت زوجها إلى حيث أمرها أن تعتد فيه بما ذكر من استطالتها بلسانها على أحمائها، فقد أوجب لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها السكنى وجعله حقا عليها لله تعالى من حيث لم تشعر؛ إذ لو لم يوجبه عليها لما أمرها به في موضع ما ولقال لها: اعتدي حيث شئت، فلا سكنى لك. واستدل من ذهب إلى أن لها السكنى والنفقة بما روي من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا ندع آية من كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: لها السكنى والنفقة. وتأول والله أعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال لها: لا نفقة لك من أجل أنها سخطت ما أرسل إليها به؛ إذ رأى أنه هو الواجب لها عليه لقول الله عز وجل: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وتأول أيضا أن النفقة التي أمر الله بها للحوامل بقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ليس من أجل الحمل إنما هو من أجل العدة؛ إذ لو كان من أجل الحمل لوجب له الرجوع بها عليه إذا ولد حيا وقد مات أخ لأمه فورثه، كما لو أنفق عليه في حياته ثم انكشف أن له مالا. واختلف الذين أوجبوا لها السكنى فيما يجب عليها فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليها المقام فيه، وإنما هو حق لها إن شاءت أخذته وإن

فصل في بيان الأقراء ما هي

شاءت تركته. والثاني: أنه حق لله تعالى فيلزمها أن لا تبيت إلا فيه، ولها أن تخرج في نهارها فتتصرف في حوائجها، وهو قول مالك وأصحابه. والثالث: أنها ليس لها أن تبيت عنه ولا أن تخرج بالنهار منه، قال ذلك من ذهب إلى أن النفقة لها فرأى أنه لا حاجة بها إلى الخروج، وأن المتوفى عنها زوجها إنما كان لها الخروج بالنهار لتبتغي من فضل الله؛ إذ لا نفقة لها. وهذا كله فيه نظر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه. وكذلك اختلفوا أيضا في المبتوتة هل عليها إحداد في عدتها أم لا على قولين: أحدهما قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه لا حداد عليها وهو الصحيح. والثاني: أن عليها الإحداد قياسا على عدة الوفاة في استبرائها، وفي وجوب المبيت عليهما في بيتهما طول عدتها، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في بيان الأقراء ما هي الأقراء هي الأطهار على مذهب أهل الحجاز، وهو مذهب مالك وأصحابه لا خلاف بينهم في ذلك. وذهب أهل العراق إلى أنها الحيض. والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في مكان يعتددن فيه، كما قرأ ابن عمر فطلقوهن لقبل عدتهن وهي قراءة تساق على طريق التفسير. وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه. فدل ذلك على أن الطهر الذي يطلقها فيه تعتد به، وأنه من أقرائها. ولو كانت الأقراء الحيض كما قال أهل العراق لكان المطلق في الطهر مطلقا لغير العدة، ومن جهة المعنى أن القرء مأخوذ مع قريت الماء في الحوض أي جمعته فيه. والرحم يجمع الدم في مدة الطهر ثم يمجه في مدة الحيض. وموضع الخلاف إنما هو هل تحل المرأة بدخولها في الدم الثالث أو بانقضاء آخره. فمن قال: إن الأقراء هي الأطهار يقول: إنما تحل بدخولها في الدم، ومن قال: إنها الحيض يقول: إنها لا تحل حتى تتم الحيض.

فصل

فصل أو الطلاق للرجال، والعدة للنساء، والعبيد في الحدود على النصف من الأحرار؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والطلاق والعدة من الحدود لا من الحقوق، فوجب بذلك أن يكون العبيد فيه على النصف من الأحرار، فكان طلاق العبيد طلقتين؛ إذ لم تنقسم الطلقة الثانية، كانت زوجته حرة أو أمة. وكانت عدة الأمة حيضتين إذ لم ينقسم الطهر الثاني، حرا كان زوجها أو عبدا. وأما إن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر كالحرة سواء؛ إذ لا يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر. وأما في الوفاة فعدتها شهران وخمس ليال، إلا أن تكون قد دخل بها وهي في سن من تحيض ويمكن أن تحمل، فتتربص حتى تمر بها ثلاثة أشهر مخافة أن يكون بها حمل، والحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. وقال مالك مرة في المرأة المتوفى عنها زوجها، وهي ممن قد يئسن من المحيض: إنها تعتد بشهرين وخمسة أيام، وقال مرة: إنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. ولا ينبغي أن يحمل ذلك على أنه اختلاف من قوله؛ لأنه إنما تكلم في الرواية الأولى عن من يؤمن الحمل منها، وفي الرواية الثانية على من الحمل لا يؤمن منها. ألا ترى أنه علل قوله بأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. فينبغي أن تعتد الأمة في الطلاق إذا كانت في سن من لا تحيض، وأمن منها الحمل بشهر ونصف، نصف عدة الحرة. ولا أعرف لأحد من أصحابنا في ذلك نصا، وإنما اختلف أصحاب مالك باختلاف من قبله في استبراء الأمة في البيع إذ كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر، فقيل: استبراؤها شهر، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهران، وقيل: ثلاثة أشهر، وهو أصح الأقاويل؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وهو مذهب مالك، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل في التزويج في العدة

فصل في التزويج في العدة أوجب الله تعالى العدة حفظا للأنساب وتحصينا للفروج، ونهى عن عقد النكاح فيها نهي تحريم؛ لأن العقد لا يراد إلا للوطء، فكان ذلك ذريعة إلى اختلاط الأنساب، فقال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، وهو انقضاء العدة، ونهى تبارك وتعالى عن المواعدة فيها فقال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235]، والقول المعروف هو التعريض بالمواعدة دون الإفصاح بها. وذلك مثل أن يقول: إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن يقدر أمر يكن وما أشبه ذلك. فالفرق من جهة المعنى بين المواعدة والقول المعروف أن العدة يستحب الوفاء بها، ويكره الخلف فيها، فإذا لم يصرح بالعدة، وإنما عرض بها فلم يأت بما يستحب له فعله، ولا يكره له تركه. فصل والكلام في هذا الباب في فصول ثلاثة: أحدها: ما يجوز في العدة من معنى الخطبة. والثاني: ما يكره له فيها والحكم فيمن أتاه. والثالث: ما يحرم عليه والحكم فيمن أتاه. فصل فأما الذي يجوز له فالتعريض بالعدة والمواعدة، وهو القول المعروف الذي ذكره الله تعالى في كتابه. وصفته أن يقول لها أو يقول كل واحد منهما لصاحبه: إن يقدر أمر يكن، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإني فيك لمحب، وما أشبه ذلك.

فصل

فصل وأما الذي يكره له فيها فوجهان: أحدهما: العدة، والثاني: المواعدة. فأما العدة فهي أن يعد أحدهما صاحبه بالتزويج دون أن يعده الآخر بذلك، وهي تكره ابتداء باتفاق مخافة أن يبدو للمواعد منهما فيكون قد أخلف العدة، فإن وقع وتزوجها بعد العدة مضى النكاح ولم يفسخ، ولا وقع به تحريم بإجماع. فصل وأما المواعدة فهي التي نهى الله عنها بقوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235]، فنهى أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة فلا تكون إلا من اثنين، وهي تكره ابتداء بإجماع. واختلف إذا وقعت ثم تزوجها بعد العدة هل يفسخ النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما رواية أشهب عن مالك في المدونة أنه يفسخ، والثاني رواية ابن وهب عنه فيها أنه لا يفسخ؛ لأنه استحب الفسخ فيها ولم يوجبه في العدة، فالعدة لا تؤثر في صحة العقد بعدها، والمواعدة تؤثر فيه؛ لأنها تشبه العقد على ما بيناه من كراهة الخلف في العدة. فصل واختلف أيضا على القول الذي يرى أن العقد يفسخ إن لم يعثر عليه حتى وطئ هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على قولين: فروى أشهب عن مالك أنها لا تحرم عليه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنها تحرم عليه إذا كان الوعد شبيها بالإيجاب. فإن واعد وليها بغير علمها وهي مالكة أمر نفسها فهو وعد وليست بمواعدة، فلا يفسخ النكاح ولا يقع تحريم بإجماع. فصل وأما الذي يحرم عليه فيها فالعقد والوطء، فإن عقد النكاح فيها يفسخ متى عثر عليه دخل أو لم يدخل، وكان لها إن دخل الصداق المسمى، وأجزأتها عدة

فصل

واحدة عن الزوجين جميعا، خلاف ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنها تعتد بقية عدتها من الأول، ثم تعتد من الآخر. فصل واختلف إذا فسخ النكاح هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنها لا تحرم عليه وطئ أو لم يطأ، وهو قول ابن نافع وروايته عن عبد العزيز بن أبي سلمة، خلاف ظاهر ما حكى عنه سحنون في المدونة من قوله: قال مالك وعبد العزيز: هو بمنزلة من عقد في العدة ووطئ في العدة، وقد تؤول قوله في المدونة خلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها مثل رواية ابن نافع عنه، وهذا تأويل محتمل والأول أظهر. والثاني: أنها تحرم عليه إن وطئ في العدة، وهو قول المغيرة وغيره في المدونة. والثالث: أنها تحرم عليه إن وطئ كان وطؤه في العدة أو بعد العدة، وهو قول مالك في المدونة، وظاهر قول عبد العزيز فيها على ما بيناه. والرابع: أنها تحرم عليه بالعقد وإن لم يطأ، حكى هذا القول عبد الوهاب ولم يسم قائله. واختلف في القبلة والمباشرة في العدة هل تكون كالوطء فيها أم لا؟ على قولين: ففي المدونة: أنها كالوطء يقع التحريم المؤبد بها، وروى عيسى عن ابن القاسم: أنها لا تحرم بذلك، قال: لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، فكيف بالقبلة والمباشرة. فصل والعدة من الطلاق والوفاة في ذلك سواء إن كان الطلاق بائنا بخلع أو بتات. واختلف إذا كان رجعيا، ففي المدونة لغير ابن القاسم أن المتزوج متزوج في عدة، وقيل: إن مذهب ابن القاسم أن المتزوج فيها كالمتزوج في العصمة، لكون أسباب العصمة قائمة بينهما من الموارثة والنفقة وما أشبه ذلك، وأراه في أصل الأسدية. ويحتمل أن يقال في المسألة قول ثالث: إنه إن راجعها لم يكن متزوجا في عدة، وإن لم يراجعها حتى تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، قياسا على قول أحمد بن ميسر في النصرانية تسلم تحت النصراني فتتزوج في العدة: إن النصراني إن لم يسلم حتى

فصل

تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، وإن أسلم لم يكن متزوجا في عدة. فصل ولا يكون هو إن راجعها في بقية من عدتها بعد أن فرق بينها وبين الذي تزوجها، وقيل الاستبراء ناكحا في عدة. فصل والاستبراء بمنزلة العدة سواء في أن الوطء لا يجوز فيها بالملك ولا بالنكاح لما يلزم من حفظ الأنساب، وإنما يفترق ذلك في وجوب التحريم المؤبد. وافتراقه على ثلاثة أوجه: أحدها: يقع به التحريم باتفاق، أعني بين من رآه في حال من الأحوال. والثاني: لا يقع به التحريم باتفاق. والثالث: يختلف فيه على قولين. فصل فأما الذي يقع به التحريم باتفاق فالوطء بنكاح أو بشبهة نكاح أو بملك أو بشبهة ملك في عدة من نكاح أو من شبهة نكاح. وأما الذي لا يقع به التحريم باتفاق فالوطء بملك اليمين أو شبهة ملك]، في استبراء الإماء خاصة، أو في عدة من غير نكاح كعدة أم الولد يموت عنها سيدها أو يعتقها كان استبراؤهن من اغتصاب أو زنا أو بيع في الإماء أو هبة أو عتق. [وأما المختلف فيه فالوطء بنكاح أو شبهة نكاح في الاستبراء والعدة من غير النكاح أيضا، كأم الولد يموت عنها سيدها أو يعتقها، كان الاستبراء من اغتصاب أو من زنا أو من بيع في الإماء أو هبة أو موت أو عتق]. أعني وقد وطئ البائع أو الواهب أو الميت أو المعتق. وأما إن لم يطأ أحد منهم فلا اختلاف أن متزوجها قبل الاستبراء ليس متزوجا في عدة إلا أن بعض هذه المواضع أخف من بعض والاختلاف فيها

فصل

أقل، فأخفها متزوج الأمة في استبرائها من الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب، ثم في استبرائها من البيع أو الهبة أو الموت، ثم في استبرائها من العتق بخروجها منه إلى الحرية، ثم في استبراء أم الولد من العتق، ثم في استبرائها من الموت؛ لأنه عدة على مذهب مالك، ثم في استبراء الحرة من الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب. فصل وينبغي أن يكون تزويج الأمة حاملا من الزنا أخف من تزويجها في الاستبراء منه؛ لأن في تزويجها في الاستبراء منه اختلاط الأنساب، وليس ذلك في تزويجها حاملا. ألا ترى أنه قد أجاز بعض أهل العلم لمن زنت زوجته وهي حامل منه ظاهرة الحمل أن يطأها قبل الوضع لأمنه من خلط الأنساب. وقد جعل ابن القاسم في رواية أصبغ عنه تزويجها حاملا أشد من تزويجها في الاستبراء لرواية يرويها ابن وهب عن مالك مجردة في الحمل: أنه لا يتزوجها أبدا. فصل وكذلك متزوج النصرانية في عدة وفاة أو طلاق من النصراني يختلف في إيجاب التحريم به؛ لأنه استبراء وليس بعدة. ألا ترى أنه لا عدة عليها في الوفاة قبل الدخول، وعليها فيه بعد الدخول ثلاث حيض كالطلاق سواء، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقول قديما: تجزئها حيضة واحدة. وأما متزوج النصرانية في عدة أو وفاة أو طلاق من زوجها المسلم فهو متزوج في عدة. ألا ترى أنها تجب عليها في الوفاة قبل الدخول. وقد روي عن مالك أنه لا عدة عليها في الوفاة قبل الدخول، وعليها بعده ثلاث حيض. فعلى هذه الرواية لم يرها عدة وجعلها استبراء، فيدخل الاختلاف في التحريم على قياس هذه الرواية، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل واختلف أيضا إذا كانت العدة منه كالذي يتزوج المرأة تزويجا حراما لا يقر عليه فيفسخ نكاحه بعد الدخول فيتزوجها قبل الاستبراء، وكالذي يطلق المرأة ثلاثا

فصل

فيتزوجها في عدتها منه قبل زوج. فمن علل التحريم بالتعجيل قبل بلوغ الأجل مع اختلاط الأنساب لم يوجب التحريم عليه، ومن علل بالتعجيل من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم. فصل ولا يكون من وطئ زانيا بغير شبهة نكاح ولا ملك في عدة واستبراء واطئا في عدة يحرم به عليه نكاحها فيما يستقبل باتفاق، والله أعلم. فصل ومن زوج أمته من رجل وهو يطؤها قبل أن يستبرئها، أو أم ولده قبل أن يستبرئها، فلا يكون متزوجا في عدة، وهو كمن تزوج زوجة رجل في عصمته. فصل فإن أتت الزوجة في العدة بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأول، وتحل بالوضع منهما جميعا. وكذلك إن أتت به لأكثر من ستة أشهر ما بينها وبين ما تلد لمثله النساء، وكان تزوجها قبل حيضة. وأما إن كانت أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان قد تزوجها بعد حيضة فالولد للآخر. واختلف هل تحل من الأول بوضع الحمل أم لا؟ إن كانت من أهل الأقراء وكانت العدة من طلاق. والصواب أنها لا تحل من الأول بوضع الحمل، ولا بد لها من استئناف ثلاث حيض بعد الوضع كما لو حبسها عن الحيض مرض أو رضاع، وهو اختيار محمد بن المواز. وفي المدونة دليل على القولين جميعا: قال في موضع إذا تزوجها في عدة الطلاق فأتت بولد: إن الوضع يجزئها من الزوجين، ولم يفرق بين أن يكون الولد من الأول أو الثاني، فإذا حملت الكلام على ظاهره من العموم استفدت منه أن الوضع يبرئها من الزوج الأول، وإن كان الولد من الثاني. وقال في موضع آخر: إذا تزوجها في عدة الوفاة بعد حيضة أو حيضتين فأتت بولد لستة أشهر فصاعدا: إن عدتها وضع الحمل، وهو آخر الأجلين. ففي قوله: وهو آخر الأجلين، دليل على أنه اعتبر انقضاء العدة من

فصل في المفقود

الزوج الأول لما كان الحمل من الزوج الثاني. فإذا اعتبر ذلك في عدة الوفاة وجب أن يعتبره في عدة الطلاق، وإذا اعتبره في عدة الطلاق لم تبرأ بوضع الحمل ووجب أن تستأنف ثلاث حيض بعد الوضع؛ إذ الوضع ليس بآخر الأجلين لكون الأقراء غير داخلة في مدة الحمل والله أعلم. قال في كتاب ابن المواز بعد ذكر الاختلاف المذكور: ولو كان الحمل من زنى لم يبرئها ذلك بحال من عدة لزمتها، معنى ذلك إذا تقارر الزوجان بالزنا وانتفى الولد بلا لعان أو أقرت المرأة بالزنا بعد اللعان، أو كان الزوج خصيا قائم الذكر تجب العدة على زوجته ولا يلحقه الولد على الاختلاف في ذلك، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الزوج إن نفى الولد والتعن انقضت العدة بوضع الحمل، وإن لم ينفه لحق به وانقضت العدة بوضعها أيضا؛ لأن فراشه قائم. فصل في المفقود فقد الشيء تلفه بعد حضوره، وعدمه بعد وجوده، قال الله عز وجل: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، فالمفقود هو الذي يغيب وينقطع أثره ولا يعلم خبره. وهو على أربعة أوجه: مفقود في بلاد المسلمين، ومفقود في بلاد العدو، ومفقود في صف المسلمين في قتال العدو، ومفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم. فصل فأما المفقود في بلاد المسلمين فالحكم فيه إذا رفعت المرأة أمرها إلى الإمام أن يكلفها إثبات الزوجية والمغيب، فإذا أثبتت ذلك عنده كتب إلى والي البلد الذي يظن أنه فيه أو إلى البلد الجامع إن لم يظن به في بلد بعينه مستبحثا عنه، ويعرفه في كتابه إليه باسمه ونسبه وصفته ومتجره، ويكتب هو بذلك إلى نواحي بلده. فإذا

ورد على الإمام جواب كتابه بأنه لم يعلم له خبر ولا وجد له أثر، ضرب لامرأته أجل أربعة أعوام إن كان حرا أو عامين إن كان عبدا، وينفق عليها فيها من ماله. وفي مختصر ابن عبد الحكم أن الأجل يضرب من يوم الرفع. وقال أبو بكر الأبهري: إنما ضرب لامرأة المفقود أجل أربعة أعوام؛ لأنه أقصى أمد الحمل. وهو تعليل ضعيف؛ لأن العلة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحر والعبد لاستوائهما في مدة لحوق النسب، ولوجب أن يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد زوجها وقام عنها أبوها في ذلك. وأيضا فقد قال: إنها لو أقامت عشرين سنة ثم رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام، وهذا يبطل تعليله إبطالا ظاهرا. وقيل: إنما ضرب لها أجل أربعة أعوام؛ لأنها المدة التي تبلغ المكاتبة في بلد الإسلام مسيرا ورجوعا. وهذا يبطل على القول بأن الأجل إنما يضرب بعد الكشف والبحث، وإنما يشبه أن يقال على مذهب من يرى ضرب الأجل من يوم الرفع، وفيه أيضا نظر، وإنما أخذت بالأربعة الأعوام بالاجتهاد؛ لأن الغالب أن من كان حيا لا تخفى حياته مع البحث عنه أكثر من هذه المدة، ووجب الاقتصار عليها؛ لأن الزيادة فيها والنقصان منها خرق الإجماع؛ لأن الأمة في المفقود على قولين: أحدهما: أن زوجته لا تتزوج حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. والثاني: أنه يباح لها التزويج إذا اعتدت بعد تربص أربعة أعوام، فلا يجوز إحداث قول ثالث. والذي ذكر أبو بكر الأبهري من أن أكثر مدة الحمل أربعة أعوام هو ظاهر ما في كتاب العتق الثاني من المدونة، ومذهب الشافعي. وذهب ابن القاسم إلى أن أكثره خمسة أعوام. وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روي أن امرأة ابن عجلان ولدت مرة لسبعة أعوام. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن أقصاه عامان، واختاره الطحاوي استدلالا بقول الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]؛ لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا، فلا يصح أن يخرجا منها ولا واحد منهما. فلما خرجت عنها سائر الأقوال لم يبق إلا القول الذي لم يخرج قائلوه بهما عنها، فكان هو أولاها بالصواب.

فإن قال قائل: إذا كان الحمل والفصال لا يخرجان عن ثلاثين شهرا وكان أكثر مدة الحمل عامين أفيكون الفصال ستة أشهر وأبدان الصبيان لا تقوم بها ويحتاجون في الرضاع إلى أكثر منها؟ فالجواب عن ذلك أنه قد يحتمل أن تكون الستة الأشهر أدنى مدة الفصال، وأن يكون المولود إذا ألطف له في الغذاء استغنى عن الرضاع بعد الستة الأشهر، وهو الظاهر فيما روي عن ابن عباس من قوله: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، فإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. فعلى قياس قوله: إذا وضعت في عامين فرضاعه ستة أشهر. ويحتمل أن يكون الله تعالى قد جعل مدة الفصال والحمل ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية التي تلوناها مما قد يحتمل أن تكون مدة الفصال قد ترجع إلى ستة أشهر، ثم زاد الله تعالى في مدة الرضاع تمام الحولين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، ولقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى فلم يخرجه عن الثلاثين شهرا، وأخرج منه مدة الفصال إذا كان الحمل أكثر من ستة أشهر. والجواب الأول عندي أظهر؛ لأنه يعضد ما روي عن ابن عباس، فنقول على قياسه: إن أقل مدة الفصال ستة أشهر وأكثرها عامان، كما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها عامان، وأن للمرأة أن تنقص من الحولين في رضاع ولدها ما بينها وبين ستة أشهر إذا لم تنقص من الثلاثين شهرا بين الحمل والرضاع شيئا. وقد قيل: إنه إنما ضرب له أربعة أعوام؛ لأنه جهل إلى أي جهة سار من الأربع جهات، وهذا لا معنى له، فإن لم يأت حتى انقضت اعتدت عدة الوفاة، قيل بإحداد وقيل بغير إحداد، ثم تزوجت إن شاءت على ما روي في ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف

فصل

لهم من الصحابة إلا رواية أخرى جاءت عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها لا تتزوج حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، تعلق بها أهل المشرق والشافعي في أحد قوليه. والصحيح عن علي بن أبي طالب مثل ما روي عن عمر بن الخطاب ومن ذكرنا معه، وهو الصواب الذي ذهب إليه مالك، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار»، ولقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»، فهذا هو الأصل في الحكم بقطع العصمة بين المرأة وزوجها إذا فقد، وإباحة النكاح لها مع جواز حياته من طريق الأثر. وأما من طريق النظر فإذا وجب أن يفرق بين الرجل وامرأته من أجل العنة والإيلاء، وهي لم تفقد إلا الوطء فهو في المفقود أوجب لفقدها للوطء والعشرة والتفقد، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فإذا ضرب الإمام لامرأة المفقود الأجل بعد البحث عن خبره وانقضى فاعتدت فقد بانت منه في الحكم الظاهر، وكان لها أن تتزوج إن شاءت ما لم ينكشف خطأ ذلك الحكم بمجيئه أو علم حماته، وليس لها أن تبقى على عصمة الزوج؛ لأنها أبيحت للأزواج ووجب الفراق بينها وبين زوجها بالحكم فهو ماض لا ينتقض إلا بانكشاف خطئه. ألا ترى أنها لو ماتت بعد العدة لم يوقف له ميراثه منها وإن كان لو أتى في هذه الحال كان أحق بها. فلو بلغ هو من الأجل ما لا يحيا إلى مثله من السنين وهي حية لم ترث منه، وإنما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقص الأجل المضروب، وأما إذا انقضى واعتدت فليس ذلك لها. وكذلك إن مضت بعد العدة. فإن رضيت بالمقام على العصمة قبل تمام

فصل

الأجل ثم بدا لها فرفعت أمرها استؤنف لها الأجل من أوله. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه إذا اعتدت بعد ضرب الأجل ثم لم تتزوج حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فموت أنها ترثه، وهو بعيد. فصل فإن انكشف أمر المفقود بإتيانه أو علم حياته أو موته قبل انقضاء الأجل والعدة انتقض ذلك الحكم باتفاق، وعملت على ما ينكشف من أمره، فاعتدت من يوم وفاته إن علم موته، وبقيت على عصمته إن علمت حياته. وكذلك إن انكشف بعد انقضاء الأجل والعدة أنه مات قبل ذلك ينتقض ذلك الحكم وتعتد من يوم وفاته. فإن كانت قد تزوجت فيها كان متزوجها متزوجا في عدة. وأما إن انكشف أنه مات بعد انقضاء الأجل والعدة أو أنه حي ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحكم ماضٍ لا ينتقض، فلا يكون له إليها سبيل، ولا يكون لها منه ميراث. حكى هذا القول ابن عيشون في مختصره عن ابن نافع، وهو بعيد؛ لأن الحاكم إذا حكم باجتهاد ثم بان له أو لغيره أنه أخطأ في حكمه خطأ متفقا عليه نقض ذلك الحكم بإجماع. فلو قيل على قياس هذا: إن المفقود أحق بزوجته أبدا وإن تزوجت ودخل بها الزوج كالمنعي لها لكان له وجه في القياس، ولكنهم لم يقولوا ذلك، فأين هذا من قول ابن نافع؟ إلا أنه يشبه ما روي عن مالك فيمن خرص الخارص عليه من نخله أربعة أوسق فجذ منها خمسة أوسق: أنه يعمل على ما خرص عليه لا على ما وجد. والصحيح أن عليه الزكاة؛ لأنه قد انكشف خطأ الخارص فوجب الرجوع إلى الحق. والقول الثاني: أن الحكم ينتقض ما لم تتزوج، فيكون أحق بها إن انكشف أنه حي، ويكون لها منه ميراثها إن انكشف أنه مات وتعتد من يوم وفاته. والقول الثالث: أن الحكم ينتقض وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج، فترد إلى الزوج الأول إن كان حيا وينفسخ النكاح، ويكون لها ميراثها إن كان ميتا. ثم ينظر في النكاح، فإن كان قد وقع بعد موته وانقضاء عدتها منه ثبت ولم يفسخ، وإن

فصل

كان وقع في العدة أو قبل الولاة فسخ. وهذان القولان لمالك ومرويان عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وقد روي عنه أيضا أن زوجها إن جاء وقد تزوجت خير في زوجته أو في صداقها، وذلك والله أعلم ما لم يدخل بها الزوج، كمن استحق سلعة وهي قائمة بيد المشتري، هو مخير إن شاء أن يأخذ سلعته وإن شاء أن يأخذ ثمنها، وهو في القياس بعيد؛ لأن السلعة له أن يبيعها فكان له أن يجيز بيعها ويأخذ الثمن، والزوجة ليس له أن يزوجها فلا يجوز له أن يجيزها ويأخذ الصداق. وقد ذكر مالك في موطئه أنه أدرك الناس ينكرون الذي روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، ولم يختلفوا أنه إن أتى وقد دخل بها الزوج فلا سبيل له إليها، وأنه إن انكشف أنه مات بعد دخول الزوج بها أنها لا ميراث لها منه ولا يفرق بينها وبين الزوج الذي دخل بها، وبالله التوفيق. فصل وإذا ردت إليه زوجته وإن كان ذلك بعد أن تزوجت على القول الذي يرى فيه أنها لا تفوته إلا بالدخول فهي ترجع إليه على العصمة الأولى وتكون عنده على جميع الطلاق أو على ما بقي منه إن كان طلقها قبل أن يفقد؛ لأن ذلك الحكم كله ينتقض بما انكشف من أمره وعلم من حياته. وأما إذا لم ترد إليه لفواتها وإمضاء الحكم الظاهر إما بالانقضاء وإما بالتزويج وإما بالدخول على الاختلاف المذكور في ذلك، فيحسب عليه ذلك الفراق طلقة الذي ألزم إياه بالحكم. فإن تزوجها بعد ذلك كانت عنده على طلقتين. واختلف متى تقع الطلقة عليه، فقيل: إنها تقع عليه بالدخول أو بالعقد على الاختلاف في ذلك، وقيل: بل إنها إنما تقع عليه يوم أبيحت للأزواج، ويكشف ذلك العقد أو الدخول. وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا كان الزوج قد طلقها قبل أن يعقد طلقتين ثم فقد فأجل واعتدت ثم تزوجت، وقدم زوجها الأول بعد أن دخل بها هل يحلها هذا الزوج لزوجها القادم؟ فمن قال: إن الطلقة الثالثة وقعت عليه بدخول الزوج الثاني بها، لم ير أن يحلها للأول إلا زوج ثان،

فصل

وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن قال: إن الطلقة الثالثة وقعت عليها يوم أبيحت للأزواج وكشف ذلك دخول هذا الزوج بها أو عقده عليها، رأى أنه يحلها، وإلى هذا ذهب أشهب ووقع قوله في السليمانية وهو الصواب؛ لأن الطلقة الثالثة لو وقعت عليها بدخول الزوج بها أو بعقده عليها لوجب عليها أن تعتد من حينئذ، وهذا ما لا يقوله أحد. وأما من ذهب إلى أنها لا ترد إلى الزوج الأول إذا لم يقدم حتى تنقضي العدة، وإن لم تتزوج فيرى أن هذا الزوج يحلها له؛ لأنها تزوجت عنده بعد وجوب الطلقة الثالثة عليه، وهذا بين. فصل فإن قدم الزوج بعد أن دخل بها الزوج الذي تزوجها وبنى بها على القول الذي يرى أنها تفوت بالدخول، فأقر الزوج أنه لم يطأ لم تحل لواحد منهما؛ لأنها قد حرمت على الأول بما ظهر من دخوله بها، وعلى الثاني بإقراره أن الأول أحق بها وأنها زوجته. فصل وأما ماله فموقوف لا يورث عنه حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. واختلف في حد ذلك فروي عن ابن القاسم سبعون سنة، وقاله مالك وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج له بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين»؛ إذ لا معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم، والله أعلم. وروي عن مالك ثمانون سنة وتسعون سنة، وقال أشهب: مائة سنة. وحكى الداودي عن محمد بن عبد الحكم مائة وعشرون سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، فإن فقد وهو ابن سبعين سنة على مذهب من يرى السبعين ضرب له عشرة أعوام، وكذلك إن فقد وهو ابن ثمانين أو تسعين على مذهب من يرى ذلك أو

فصل

ما دونه حد المفقود. وأما إن فقد وهو ابن مائة عام على مذهب من يرى ذلك أو ما دونه حد المفقود فقيل: إنه يضرب له عشرة أعوام، وقيل: إنه يتلوم له العام والعامين. وأما إن فقد وهو ابن مائة وعشرين سنة فيتلوم له العام ونحوه، ولا اختلاف في ذلك. واختلف إن فقد قبل أن يدخل بزوجته هل لها نفقة في الأربعة الأعوام أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا نفقة لها، وهو قول المغيرة في كتابه، قال: لأني لا أدري ما عنده وما حاله في غيبته إلا أن يكون قد فرض لها قبل ذلك نفقة فيكون سبيلها في النفقة سبيل المدخول بها. والصواب أن لها النفقة؛ لأنه كالغائب، ولم يختلف أن من غاب عن زوجته قبل دخوله بها غيبة بعيدة أن النفقة تفرض لها عليه في ماله إن سألت ذلك، وإنما اختلف في الغيبة القريبة. وظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن لها النفقة إذ لم يفرق فيه بين قرب الغيبة وبعدها. فصل واختلف إذا انقضى الأجل واعتدت هل يقضى لها بصداقها أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يقضى لها بشيء منه حتى يأتي وقت لو قدم لم يكن له إليها سبيل، يريد فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها إلا أن ينكشف أنه مات قبل ذلك أو يبلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فيقضى لها بجميعه، وإن كانت قد تزوجت، قاله ابن الماجشون. وقال ابن وهب: لا يقضى لها إن كانت تزوجت إلا بنصفه. ولكلا القولين وجه من النظر. والثاني: أنه يقضى لها بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها تزوجت أو لم تتزوج على أصل ابن الماجشون، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج على الاختلاف المعلوم قضي لها ببقيته. حكى هذا القول ابن الجلاب في كتاب التفريع، وحكاه ابن سحنون أيضا في كتابه، والثالث: أنه يقضى لها بجميعه، وهو

فصل

قول مالك في سماع عيسى. واختلف على هذا القول: إن قدم بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج هل ترد نصفه أم لا؟ وفي سماع عيسى أنها لا ترد شيئا، وفي سماع سحنون أنها ترد نصفه. وأما إن لم يقدم ولا علمت حياته ولا موته حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها، فلا ترد من الصداق شيئا، وإن كانت قد تزوجت ودخل بها الزوج، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه. وإجماعهم على هذا يقضي بصحة قول ابن الماجشون المتقدم، وهذا إذا كان الصداق حالا. وأما إن كان مؤجلا فاختلف في ذلك كالاختلاف في قضاء ما لم يحل من ديونه. فصل وأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يعلم موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله في قول أصحابنا كلهم، حاشا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في المال والزوجة جميعا. واختلف فيمن قلع في البحر إلى بلاد الحرب ثم فقد فقيل: إنه كالمفقود في بلاد المسلمين لإمكان أن تكون الريح قد ردته إلى بلاد المسلمين إلا أن يعلم أنه صار في بعض جزائر الروم ثم فقد بعد ذلك، وقيل: إنه كالمفقود في بلاد الحرب. فصل وأما المفقود في صف المسلمين في قتال العدو ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها رواية ابن القاسم عن مالك في سماع عيسى: أنه يحكم له بحكم الأسير، فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله.

فصل

والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يحكم له بحكم المقتول بعد أن يتلوم له سنة من يوم يرفع أمره إلى السلطان ثم تعتد امرأته وتتزوج ويقسم ماله، وإن كان لم يتكلم في الرواية على قسم ماله فهو المعنى والله أعلم. وسواء كانت المعركة في بلاد الحرب أو في بلاد المسلمين إذا أمكن أن يؤسر فيخفى أمره، فحمله ابن القاسم في رواية عيسى عنه على أنه أسير، وحمله مالك في رواية أشهب عنه على أنه قتيل. وأما إن كانوا بموضع لا يخفى أسره إن أسر فحكمه حكم المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم، فيحتمل أن يحمل قول ابن القاسم على أن المعركة كانت بموضع يخفى فيه أسره إن أسر، وقول مالك على أنها كانت بموضع لا يخفى فيه أسره إن أسر، فلا تكون على هذا التأويل رواية عيسى مخالفة لرواية أشهب. والقول الثالث: أنه يحكم له بحكم المفقود في جميع الأحوال، فيضرب له أجل أربعة أعوام ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، حكى هذا القول ابن المواز وعابه. والقول الرابع: أنه يحكم له بحكم المقتول في الزوجة فتعتد بعد التلوم وتتزوج، وبحكم المفقود في ماله فلا يقسم حتى يعلم بموته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. ذهب إلى هذا أحمد بن خالد وحكى أنه قول الأوزاعي، وتأول رواية أشهب عن مالك على ذلك، وهو بعيد. فصل وأما المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يحكم له بحكم المقتول في زوجته وماله، فتعتد امرأته ويقسم ماله، قيل من يوم المعركة قريبة كانت أو بعيدة، وهو قول سحنون، وقيل: بعد

التلوم له على قدر ما ينصرف من هرب أو انهزم. فإن كانت المعركة على بعد من بلاده مثل إفريقية من المدينة ضرب لامرأته أجل سنة ثم تعتد وتتزوج ويقسم ماله. وقيل: إن العدة داخلة في التلوم، اختلف في ذلك قول ابن القاسم. والصواب أن العدة داخلة في التلوم؛ لأنه إنما تلوم له مخافة أن يكون حيا، فإذا لم يوجد له خبر حمل أمره على أنه قتل في المعركة فاعتدت امرأته من ذلك اليوم وقسم ماله على ورثته يومئذ. وإن كانت بموضع لا يظن أن له بقاء لقربه واتضاح أمره اعتدت امرأته من ذلك اليوم. وقيل: إن الأندلس كلها كبلدة واحدة، فلا يتلوم له وتعتد امرأته من ذلك اليوم وتتزوج إن شاءت ويقسم ماله، وإنما يضرب له أجل سنة إذا كانت المعركة بعيدة مثل إفريقية من مصر، ومصر من المدينة، قاله عيسى بن دينار. والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يضرب له أجل سنة ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، وهو قول الأوزاعي وتأويل أحمد بن خالد على رواية أشهب. والتأويل الصحيح فيها أنه يقسم ماله بعد السنة، وهو قول ثالث في المسألة، وهذا كله إذا شهدت البينة العدلة أنه شهد المعترك. فأما إن كانوا إنما رأوه خارجا في جملة العسكر ولم يروه في المعترك فحكمه حكم المفقود في زوجته وماله باتفاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب إرخاء الستور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم كتاب إرخاء الستور فصل ما جاء في إرخاء الستور إرخاء الستور كناية عن تخلية الرجل مع امرأته وخلوته بها، وإن لم يكن ثم غلق باب ولا إرخاء ستر. وأصل هذا الباب قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. فصل فإذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها وقد سمى لها صداقا فليس لها إلا نصفه، نصف العاجل ونصف الآجل إن كان فيه آجل، لا تستوجب جميعه إلا بالموت أو الدخول، أو ما يقوم مقام الدخول بها عند مالك من طول المقام معها والالتذاذ بها. فصل فالصداق المسمى يجب للمرأة بعقد النكاح وجوبا غير مستقر، ويستقر لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. هذا الذي يصح أن يعبر به عن وجوب

فصل

الصداق. وأما من قال: إن الصداق يجب جميعه بالعقد ويسقط عنه نصفه بالطلاق قبل الدخول فلا يستقيم؛ لأن الحقوق إذا تقررت لأربابها لا تسقط إلا بما يصح به إسقاطها من بيع أو هبة أو صدقة أو ما أشبه ذلك. فلو وجب للمرأة الصداق بعقد النكاح لما سقط جميعه بالفسخ والارتداد ولا نصفه بالطلاق، أصله إذا وقع الطلاق أو الفسخ أو الارتداد بعد الدخول. وكذلك قول من قال: إن الصداق يجب نصفه بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول، والاستمتاع لا يصح؛ لأنه لو وجب نصفه بالعقد لما بطل بالفسخ أو الارتداد، ولو لم يجب النصف الثاني إلا بالدخول أو الاستمتاع لما وجب إذا مات أحدهما قبل الدخول؛ لأن الموت لا يوجب في الذمة حقا لم يكن واجبا. فصل وأما إن كان لم يسم لها صداقا وطلقها قبل البناء فليس لها إلا المتعة، وإن مات عنها لم يكن لها إلا الميراث ولا صداق لها في مذهب مالك وأصحابه إذا مات عنها قبل الدخول ولم يفرض لها. فصل وحد المسيس الذي يوجب الصداق جميعه التقاء الختانين، وهو يوجب سبعة أحكام: يوجب الصداق، ويوجب الغسل، ويوجب الحد، ويحصن الزوجين، ويحل المطلقة ثلاثا للذي طلقها، ويفسد الحج، ويفسد الصوم. فصل وإن طلقها قبل البناء فأقرا بالمسيس وجب للمرأة صداقها كاملا ولزمتها العدة، فإن عرفت لهما خلوة أو ظهر بها حمل كانت له الرجعة وتوارثا إن مات أحدهما في العدة، وإن لم تعرف لهما خلوة ولا ظهر بها حمل لم يكن له رجعتها؛ لأنها قد بانت منه في ظاهر الأمر فيتهمان على التزويج بغير ولي ولا صداق ولا يتوارثان. وإن أنكرا المسيس ولم يدعه أحدهما لم يكن لها إلا نصف الصداق، ولم

فصل

يجب عليها عدة إلا أن يعلم بينهما خلوة فتجب عليها العدة ولا يكون للزوج فيها الرجعة ولا لأحدهما من صاحبه ميراث. فصل فإن اختلفا فيه ولم يعلم بينهما خلوة فادعته المرأة على زوجها وأنكر لزمته اليمين إن أشبه ما ادعته، فإن حلف برئ من نصف الصداق، وإن نكل عن اليمين حلفت هي واستوجبت جميعه ولزمتها العدة ولم يكن للزوج رجعة. وإن ادعاه الزوج وأنكرته هي لم يصدق عليها في العدة ولا في الرجعة وكان قد أقر لها بجميع الصداق، فإن شاءت أخذت جميعه، وإن شاءت أخذت نصفه. وقال سحنون: ليس لها أن تأخذ جميعه إلا بعد أن تكذب نفسها وترجع إلى تصديق الزوج. فإن كذبت نفسها ورجعت إلى تصديق الزوج لزمتها العدة. وقول سحنون ليس بخلاف لما في المدونة لابن القاسم في كتاب الرهون مثله ولأشهب في هذا الكتاب. فصل وإنما لها أن ترجع إلى تصديقه ما دام باقيا على قوله. ولو أنه رجع إلى تصديقها قبل أن ترجع إلى تصديقه لم يكن لها شيء، وإن رجعت إلى قوله بعد رجوعه إلى قولها لم يجب عليه يمين. وكذلك لا يمين عليها إن رجع إلى قولها بعد رجوعها إلى قوله وتأخذ جميع الصداق منه دون يمين. وتحصيل هذا أن من سبق منهما إلى الرجوع إلى قول صاحبه صدق، إن كانت هي التي سبقت بالرجوع إلى قوله وجب لها الصداق دون يمين، أقام على قوله أو نزع عنه. وإن كان هو الذي سبق بالرجوع إلى قولها سقط عنه نصف الصداق، ولم يجب عليه يمين، أقامت على قولها أو نزعت عنه. وقد قيل: إن لها أن تأخذ ما أقر لها به، وإن كانت مقيمة على الإنكار، وهذا القول أحد قولي سحنون

فصل

في نوازله من كتاب الاستلحاق، وقيل: إنه لا يحكم لها بأخذ ما أقر لها به إن رجعت إلى قوله: وصدقته إلا أن يشاء أن يدفع ذلك إليها، قاله ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب النكاح، وقاله أيضا في سماع عيسى من كتاب الدعوى في الورثة ولا فرق. فصل وأما إذا اختلفا في المسيس ولم يبن بها إلا أنه قد دخل بها وأرخيت الستور عليها، فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال: القول قولها في المسيس حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيتها أو بيته على ظاهر قول عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وبذلك قال مطرف وابن الماجشون وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ. ومرة قال: إن كان دخوله عليها وخلوته بها في بيته صدقت عليه، وإن كان في بيتها صدق عليها في قول سعيد بن المسيب، وبذلك قال ابن القاسم. وفي المسألة قول ثالث لعيسى بن دينار أن القول قول الزوج إذا أنكر المسيس حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيته أو في بيتها، لا تصدق المرأة في دعواها عليه ما لم يكن دخوله عليها وخلوه بها دخول اهتداء وهو البناء، وقول رابع لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من رواية ابن وهب عنه، أنها إن كانت ثيبا فالقول قولها، وإن كانت بكرا نظر إليها النساء، فإن رأين بها أثر افتضاض صدقت عليه، وإن لم يرين بها شيئا من ذلك لم يكن لها إلا نصف الصداق. حكى هذه الرواية عن مالك عبد الوهاب. فصل وأما إن دخل بها دخول اهتداء وهو البناء فلم يختلف قول مالك ولا أحد من أصحابه أن القول قول المرأة في دعوى المسيس إذا أنكر الزوج. فصل ولا توجب الخلوة وإن كانت خلوة بناء على مذهب مالك وجميع أصحابه الصداق إلا مع دعوى المسيس، وإنما هي شبهة توجب أن يكون القول قولها،

فصل

كالرهن واليد ومعرفة العفاص والوكاء وشبه ذلك. وعلى ذلك حمل ابن حبيب قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وظاهره خلاف ذلك أن إرخاء الستور يوجب الصداق وإن لم يكن ثم مسيس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أن الخلوة الصحيحة توجب المهر كله، وطئ أو لم يطأ، ادعته المرأة أو لم تدعه، إذا لم يكن ثم مانع من الوطء من حيض أو إحرام أو صوم أو ما أشبه ذلك. فصل وإذا وجب أن يكون القول قول المرأة في دعوى المسيس فهل تحلف أو تصدق دون يمين، اختلف في ذلك. ففي كتاب ابن المواز أن القول قولها مع يمينها، وكذلك في كتاب ابن الجهم، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في الذي يغيب على المرأة غصبا، ويثبت ذلك عليه فتدعي المسيس. وذهب بعض المتأخرين إلى أنه لا يمين عليها قياسا على رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب في الأمة الفارهة تتعلق برجل وهي تدمي تدعي أنه غصبها نفسها أن القول قولها دون يمين، وذلك بعيد؛ لأنه إنما جعل القول قولها دون يمين لما بلغته من فضيحة نفسها مع كونها تدمي. ووجه ذلك أنه أقام الشبهتين مقام شاهدين فأسقط عنها اليمين؛ إذ لو انفردت واحدة منهما كانت كالشاهد يوجب لها اليمين. والصحيح ما حكى ابن حبيب في الواضحة أن عليها اليمين، فالزوجة أحرى أن يجب عليها اليمين؛ إذ لا عار عليها في دعوى المسيس على زوجها، سواء كانت المرأة بكرا أو ثيبا، يتيمة أو ذات أب، حرة أو مملوكة، مسلمة أو نصرانية، كبيرة أو صغيرة، إذا كانت قد بلغت مبلغا يوطأ مثلها، لا يجب لها الصداق إلا بدعواها المسيس. فإن أقرت أنه لم يمسها جاز عليها قولها ولم يكن لها إلا نصف الصداق إلا أن يقر الزوج بالمصاب وتنكره هي وهي أمة أو مولى عليها، فإن مطرفا وسحنونا قالا: لا يقبل قولها في طرح نصدق الصداق، وللولي أو السيد أن يأخذ ذلك منه بإقراره به.

فصل

فصل فإن كانت صغيرة لم تبلغ المحيض على الصحيح من الأقوال أنها لا تستحق الصداق دون يمين، فإن ادعت المسيس حلف الزوج وأدى نصف الصداق إلى أن تبلغ، فإذا بلغت حلفت وأخذت النصف الثاني، فإن نكلت عن اليمين لم يحلف الزوج ثانية. وإن نكل الزوج أولا عن اليمين أدى جميع الصداق ولم يكن له أن يحلفها إذا بلغت، كحكم الصغير يقوم له بحقه شاهد. وقد قيل: إنه لا يمين عليها إذا كانت صغيرة بخلاف الكبيرة، وهو بعيد؛ إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة إلا فيما ذكرناه من أن الصغيرة تؤخذ باليمين حين تبلغ، وبالله التوفيق. فصل وإيجاب اليمين عليها أظهر لما قدمناه من أن الخلوة دليل على صدقها كالشاهد واليد ومعرفة العفاص والوكاء، وليس كالبينة التامة. ومن صدقها في دعواها المسيس جعل الخلوة كالبينة التامة، وهو قول أحمد بن المعدل فيما حكى عنه عبد الحق في كتابه الكبير، وهو قول بعيد ما له عندي وجه إلا مراعاة قول من يوجب لها جميع الصداق بالخلوة وإن تقاررا على عدم المسيس. فصل والعدة تجب على الزوجة بأحد وجهين: إما بخلوة تعرف، وإما بإقرارهما على أنفسهما بالمسيس وإن لم تعرف له خلوة بها. وتجب للزوج الرجعة بأحد وجهين: إما بتقاررهما على الوطء مع خلوة تعرف أو بادعاء الوطء إذا أنكرت في كل موضع تصدق فيه المرأة عليه في دعوى الوطء إذا أنكر. وهذا أصل حيث ما كان القول قول المرأة في دعوى الوطء كان القول قول الزوج في الرجعة وفي دعواه دفع الصداق إليها. فهذا تلخيص هذا الباب، وبالله التوفيق.

فصل في الرجعة

فصل في الرجعة الأصل في الرجعة قول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، أي يحدث في النفوس الندم على الفرقة وإرادة الرجعة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، وبلوغ الأجل هاهنا المقاربة لا البلوغ على الحقيقة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، بخلاف قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، بخلاف قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، نهى الأولياء إذا انقضت العدة وأرادت الرجوع إلى زوجها أن يعضلوها عن الرجوع إليه؛ لأن بلوغ الأجل هو انقضاء العدة، وإذا انقضت العدة لم يكن للزوج رجعة بإجماع، فسمى المقاربة بلوغا على عادة العرب في تسمية الشيء باسم ما قرب منه. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم». وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح. وفي الحديث: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح على أثر سماء كانت من الليل؛» فسمى المطر سماء لما كان نزوله من السماء. وهذا كثير في لسان العرب.

فصل

فصل فالرجعة يملكها الزوج في كل طلاق نقص عدده عن الثلاث ما لم يكن معه فداء أو ما لم يكن على وجه المباراة أو الفدية وإن لم يكن معه فداء على مذهب ابن القاسم إذا كانت الزوجة مدخولا بها ما دامت في عدتها. والعدة ثلاثة أقراء، والأقراء الأطهار على مذهب مالك وأهل المدينة. فإذا رأت المرأة أول قطرة من دم الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وبانت من زوجها وحلت للأزواج. قال أشهب: إلا أنه استحب أن لا تعجل حتى تعلم أنها حيضة مستقيمة تتمادى بها فيها؛ لأنها ربما رأت المرأة الدم الساعة والساعتين واليوم ثم ينقطع، فيجب عليها الرجوع إلى بيتها ويكون لزوجها عليها الرجعة. ومثل ذلك في سماعه عن مالك من كتاب طلاق السنة. وكان يمضي لنا عند من اختلفنا إليه من الشيوخ أن قول أشهب تفسير لقول ابن القاسم، والصحيح أنه خلاف له؛ لأن أقل الحيض لا حد له عند ابن القاسم، وقد يكون يوما وساعة ولمعة إذا كان قبله طهر فاصل [وبعده طهر فاصل]. فإذا رأت المرأة أول قطرة من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج ولم يكن للزوج عليها رجعة. ولا معنى لاستحباب تربصها على مذهبه حتى يتمادى بها الدم أياما؛ إذ لو انقطع بعد ساعة أو ساعتين لما كان للزوج عليها الرجعة ولا وجب عليها الرجوع إلى بيتها؛ إذ لا يخلو إذا انقطع ثم عاد أن يعود على قرب أو بعد، فإن عاد على قرب قبل أن يمضي من الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان مضافا إلى الدم الأول وما بينهما من الأيام ملغى، وعلم أن الدم الأول هو أول الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت به. وإن عاد على بُعد بَعد أن يمضي من الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان هذا الدم حيضة رابعة وعلم أن ذلك الدم الأول هي الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت بها، وإنما يلزم التربص عن النكاح على مذهب من يوقت لأقل الحيض وقتا ولا يرى ما دون ذلك

فصل

حيضة تعتد به المرأة في أقرائها، كابن الماجشون الذي يقول: إن أقل الحيض خمسة أيام، ومحمد بن مسلمة الذي يقول: أقل الحيض ثلاثة أيام، فلا بد على مذهب ابن الماجشون إذا رأت قطرة من الحيض أن تتربص عن النكاح حتى تمكث في الدم خمسة أيام، وعلى مذهب محمد بن مسلمة ثلاثة أيام، لاحتمال أن ينقطع عنها الدم قبل بلوغ الحد فلا يعود إليها إلا بعد مدة يكون طهرا فاصلا فيكون هذا الدم الذي عاد هو أول الحيضة الثالثة والدم الأول دم علة وفساد. وعلى مذهبهما تقضي الصلاة التي تركت فيها. فصل وإنما كانت له الرجعة ما لم تنقض العدة؛ لأن العصمة بين الزوجين لا تنقطع بما دون الثلاث إذا لم يكن معه فداء ما لم تنقض العدة. ألا ترى أن أسباب الزوجية كلها قائمة بينهما من النفقة والسكنى والموارثة ما عدا الوطء. وارتفاع الوطء هو التأثير الذي حصل في النكاح بإيقاع الطلاق، فإذا هو راجعها صلح ذلك الثلم برجعته وعادت إلى ما كانت عليه من عصمته. فصل والرجعة تكون بالنية مع القول أو ما يقوم مقام القول فيما لا يصح فعله إلا بعد المراجعة، مثل الوطء والقبلة والمباشرة باللذة وما أشبه ذلك، قاله في كتاب ابن المواز وهو بيان لما في المدونة خلافا للشافعي في قوله: إن الرجعة لا تكون إلا بالقول. وأما الدخول عليها والنظر إليها والأكل معها فيجري على اختلاف قول مالك في جواز ذلك له قبل المراجعة، فيكون فعل ذلك رجعة إذا نوى بها الرجعة على القول الذي منع منه، ولا يكون رجعة على القول الذي أجازه وأجاز غسلها إن ماتت قبل المراجعة.

فصل

فصل فإذا انفردت النية في ذلك دون القول أو ما يقوم مقامه في الوطء وما ضارعه لم تكن رجعة، قاله في كتاب ابن المواز. والصحيح أن الرجعة تصح بمجرد النية؛ لأن اللفظ إنما هو عبارة عما في النفس. فإذا نوى في نفسه أنه قد راجعها واعتقد ذلك في ضميره فقد صحت رجعته فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أظهر لنا بلفظه ما قد أضمر من ذلك في قلبه حكمنا عليه به. ويجري على هذا الاختلاف في لزوم الطلاق بمجرد النية دون اللفظ. ولو انفرد اللفظ دون النية لما صحت له بذلك رجعة فيما بينه وبين الله تعالى، وإن حكمنا عليه بما ظهر من قوله ولم نصدقه فيما ادعاه من عدم النية إلا على مذهب من رأى أن الطلاق لا يلزم المستفتي بمجرد القول دون النية، وهو قائم من المدونة إلا أنه بعيد في المعنى. فصل وقد اختلف هل يجوز له الوطء إذا ألزم الرجعة على القول الذي يرى أنها لا تصح له فيما بينه وبين الله. وكذلك اختلف أيضا في جواز الوطء لمن طلق في الحيض فأبى من الارتجاع فحكم عليه بالرجعة وألزم إياها. وقد ذكرت ذلك في موضعه. فصل وأما الوطء دون النية فلا يكون رجعة في الباطن ولا في الحكم الظاهر. وقال الليث بن سعد: الوطء رجعة وإن لم ينو به الرجعة، يريد والله أعلم في الحكم الظاهر، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الرجعة، وهو الأظهر قياسا على مبتاع الأمة بالخيار أن وطأه في أيام الخيار اختيار، وإن زعم أنه لم يختر لم يصدق؛ لأنه مخير في ارتجاع زوجته في العدة كما هو مخير في اختيار الجارية التي ابتاعها بالخيار. وقد يفرق بينهما بأن المبتاع لو حبس الجارية حتى مضت أيام الخيار وتباعدت عد

فصل

بذلك مختارا والزوج لو تمادى على إمساكها حتى انقضت عدتها لبانت منه بخلاف انقضاء أيام الخيار، فدل أن وطأه أضعف من وطء المختار، وهو تفريق لا يسلم من الاعتراض. فصل فإن ادعى بعد العدة أنه راجعها في العدة بقول أو نية لم يصدق في ذلك إلا أن يعلم أنه كان يخلو في العدة أو يبيت معها فيصدق أن خلوته بها ومبيته معها إنما كان لمراجعته إياها. وكذلك إذا وطئها في العدة وقال: إنه أراد بوطئها الرجعة فيصدق في ذلك. وهذا هو معنى قولهم إن الوطء رجعة إذا أراد به الرجعة، أي أنه يصدق في إرادة الرجعة بما ظهر من الوطء. فصل فمن وطئ ولم يرد بوطئه الرجعة فقد وطئ وطئا حراما خلافا لأبي حنيفة؛ لأنها جارية إلى البينونة. أصلها الكتابية إذا أسلمت بعد الدخول فإن أراد مراجعتها فيما بقي من العدة راجعها بالقول والإشهاد دون الوطء؛ إذ لا يصح وطؤها إلا بعد الاستبراء من الماء الفاسد. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها بانت منه ولم يحل له ولا لغيره نكاحها حتى ينقضي استبراؤها من ذلك الماء الفاسد بثلاث حيض. فصل واختلف إن تزوجها هو ودخل بها قبل تمام الاستبراء هل يكون ناكحا في عدة وتحرم عليه أبدا أم لا؟ على قولين: فمن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجله خاصة من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم لوجود العلة، ومن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل أوانه في موضع تختلط فيه الأنساب لم يوجب التحريم؛ لأن الماء ماؤه فليس فيه اختلاط الأنساب. وعلى هذا المعنى اختلفوا فيمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها قبل زوج في عدتها.

فصل في المتعة

فصل واختلف في الإشهاد على الرجعة هل هو واجب أو مستحب، فذهب عبد الوهاب إلى أنه مستحب قياسا على الإشهاد في البيع. وذهب ابن بكير وغيره إلى أنه واجب لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والأمر على الوجوب حتى يقترن به ما يدل على أنه ليس على الوجوب، ولم يقترن به ما يدل على ذلك كما اقترن في الأمر بالإشهاد على البيع، وذلك قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. فصل وإنما يجب الإشهاد عند من أوجبه أو يستحب عند من لم يوجبه لتحصين الفروج وما يتعلق بالرجعة من أحكام النكاح كالموارثة ولحوق النسب وغير ذلك، وليس مشترطا في صحة الرجعة عند من أوجبه، وإنما هو فرض على حياله يأثم تاركه بتركه. والصحيح إن شاء الله أنه مندوب إليه وليس بواجب؛ إذ لو وجب لافتقرت الرجعة إليه ولما صحت دونه. فصل في المتعة المتعة إنما أمر المطلق بها تطييبا لنفس المرأة عما يرد عليها من ألم الطلاق وتسلية لها على الفراق. فصل والمطلقات في المتعة ينقسمن على ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل

التسمية، ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، ومطلقة بعد الدخول وقبل التسمية أو بعد التسمية. فأما المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فإن الله تبارك وتعالى قد نص في كتابه على إمتاعها فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] معناه ولم تفرضوا لهن فريضة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، فقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أمر بالمتاع، والأمر على الوجوب ما لم يقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب. وقد اقترن بهذا الأمر قرائن تدل على أن المراد به الندب، من ذلك تخصيصه بها المحسنين من غير المحسنين بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، ولا يعلم المحسنين من غير المحسنين غير الله تعالى؛ لأن الإحسان فيما بين العبد وخالقه. فلما علق تعالى المتعة بصفة لا يعلمها غيره دل على أن الله لم يوجب الحكم بها على الحكام؛ إذ لم يجعل لهم طريقا إلى تمييز المأمور بها من غيره، وقيل للمطلق: متع إن كنت من المحسنين فكان حقا عليه أن يمتع ولا يخرج نفسه من جملة المحسنين. وأيضا فإنها غير مقدرة ولا معلومة، والفرائض لا بد أن تكون مقدرة معلومة. وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما خص المطلق قبل الدخول وقبل التسمية برفع الحرج عنه دون غيره ممن طلق بعد الدخول أو قبل الدخول وبعد التسمية بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، دل ذلك على أنه إنما خصها بالذكر من أجل أنها تطلق ولا يجب لها بالطلاق شيء بسبب من تحرج عن الطلاق في هذه الحال لهذا الوجه والله أعلم. فلو وجب لها المتاع إذا طلقت في هذه الحال كما يجب للمطلقة قبل الدخول وبعد التسمية نصف الصداق وكما يجب للمطلقة بعد الدخول جميعه لما تحرج أحد عن طلاقها في هذه الحال كما لم يتحرج عن طلاقها في سائر الأحوال، ولما كان لتخصيصها برفع الحرج عن المطلق لها في هذه الحال دون غيرها من الأحوال معنى، والله أعلم.

فصل

فإن قيل: يحتمل أن يكون تحرج من طلاقها في هذه الحال من لا يعلم وجوب المتعة لها. قيل له: لو كان الأمر على ذلك لكانت التلاوة: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ولهن المتاع، كما قال في الآية التي بعدها: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، ومن أهل العلم من أوجب المتاع لها وقال الآية عامة في أولها وآخرها؛ لأن كل مؤمن محسن، فكأنه قال متاعا بالمعروف حقا على المحسنين المطلقين؛ لأن الإيمان إحسان. قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] وهذا بعيد؛ لأن الإحسان التفضل وفعل المعروف، فلا ينطلق اسم الإحسان على كل مؤمن؛ لأن منهم المسيء في أفعاله وإن كان محسنا في إيمانه. فصل وأما المطلقة قبل الدخول وبعد التسمية فإن الله تبارك وتعالى ذكرها عقب المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فأوجب لها نصف الفريضة ولم يأمر لها بالمتاع، فدل على أنه لم يجعل لها متاعا واجبا ولا مندوبا إليه، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه. ومن أهل العلم من أوجب لها المتاع بعموم قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49]؛ إذ لم يفرق بين أن يكون سمى لها صداقا أو لم يسم، ولعموم قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، وقال هي من المطلقات فلها المتاع مع نصف الصداق كما للمدخول بها المتاع مع جميع الصداق. ولو لم يكن لها المتاع من أجل أن لها نصف الصداق لوجب أن لا يكون للمدخول بها متاع من أجل أن لها

فصل

جميع الصداق؛ لأن نصف الصداق للتي لم يدخل بها كجميعه للتي دخل بها. وهذا غير صحيح؛ لأن المدخول بها قد وجب لها الصداق بالوطء وجوبا مستقرا لا يسقطه فسخ ولا ارتداد، والتي لم يدخل بها لم يجب لها بالعقد شيء من الصداق وجوبا مستقرا، ولو وجب لها نصفه وجوبا مستقرا لما سقط بالفسخ أو الارتداد. فلما أوجبه الله تعالى لها ولم يكن واجبا قبل ولم يأمر لها بالمتاع دل على أن لا شيء لها سواه، وهذا بين والحمد لله. ومن أهل العلم من استحسن للزوج المتاع في هذه، ولم يوجبه لها للاحتمال، فهذه ثلاثة أقوال. فصل وأما المطلقة بعد الدخول وقد سمي لها الصداق أو لم يسم لها فلأهل العلم فيها قولان: أحدهما: أن المتعة لها واجبة على الزوج يؤخذ بها ويجبر عليها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، وقال كل مؤمن متق ولا تخصيص في الآية. والثاني: أنه يؤمر بها ويندب إليها ولا يجبر عليها فيقال له: متع إن كنت من المتقين على ما بيناه من قبل في قوله: إن كنت من المحسنين. وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. فصل وقد اختلف في متعة هذه المطلقة وفي التي طلقت قبل الدخول ولم يسم لها صداق أيهما أوجب على أربعة أقوال: أحدها: أنهما سواء في إسقاط الوجوب، وهذا مذهب مالك وجميع أصحابه. والثاني: أنهما سواء في ثبوت الوجوب لهما ووجوب الحكم بهما. والثالث: أن المتعة للمدخول بها أوجب من التي لم يدخل بها؛ لأن الله أوجب لها المتاع بغير لفظ الأمر المحتمل للوجوب والندب فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، واستدل أيضا من ذهب إلى ذلك بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28]، فنص على إمتاعهن وهن

فصل

مدخول بهن. والرابع: أن المتعة للتي لم يدخل بها ولم يسم لها أوجب؛ لأن الله تعالى نص في كتابه على المتعة لها بالأمر، والأمر على الوجوب، ولم ينص على المتعة للمدخول بها إلا في تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه، وذلك حكم خص به النبي دون المؤمنين، بدليل إجماعهم على أنه لا يجب على أحد أن يخير زوجته، وإنما جعل الله لها المتعة بظاهر عموم اللفظ في قوله وللمطلقات، وليس ما وجب بالظاهر والعموم كما نص عليه بالأمر الذي يقتضي الوجوب. ولكل قول منها حظ من النظر، وأبينها وأصحها، ما ذهب إليه مالك وجميع أصحابه. فصل فإذا قلنا: إن المتعة تسلية للمرأة على فراق زوجها فلا متعة في كل فراق تختاره المرأة من غير سبب يكون للزوج في ذلك، كامرأة العنين والمجذوم والمجنون تختار فراق زوجها، وكالأمة تعتق تحت العبد فتختار نفسها، ولا في كل نكاح مفسوخ، قاله ابن القاسم. وقال ابن المواز: إذا فسخ [بغير طلاق] وظاهر قول ابن القاسم أنه لا متعة فيه فسخ قبل الطلاق بطلاق أو بغير طلاق أو طلق هو قبل الفسخ. وقد اختلف في المملكة والمخيرة. فقال ابن خويز منداد: لا متعة لها؛ لأنها مختارة للطلاق. ومعلوم أن من اختارت فراق زوجها فلم تشفق لذلك ولا حزنت له فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها. وروى ابن وهب عن مالك أن لها المتعة. ووجه ذلك أن الطلاق فيهما إنما هو من الزوج الذي جعل ذلك إليها، ولعلها تحتشم من اختياره وهو قد عرضها للفراق فتختار نفسها وهي كارهة لذلك مريدة للبقاء مع زوجها. وأما المختلعة والمبارئة والمصالحة فلا متعة لهن باتفاق؛ لأنهن رغبن في فراق أزواجهن واشترينه بما بذلن إليه فلا يحتاج إلى تسليتهن. وكذلك الملاعنة لا متعة لها.

فصل في الخلع

فصل والمتعة سواء في الطلاق البائن والرجعي إن لم يرتجع حتى تبين منه بانقضاء العدة فلا يجب عليه المتاع حتى تنقضي العدة. وقد اختلف إن لم يمتع حتى ماتت المرأة هل يجب عليه المتاع لورثتها على قولين: أحدهما: أنه يجب ذلك عليه لورثتها؛ لأنه حق لها يورث عنها، وهو مذهب ابن القاسم. والثاني: أنه لا يجب لها إلا ما دامت باقية، فإن ماتت لم يجب لورثتها؛ لأن المراد بذلك عينها تسلية لها عن الفراق. وأما إن مات الزوج قبل أن يمتع فالمتاع ساقط عنه ولا يؤخذ ذلك لها من ماله؛ لأنه ليس بدين ثابت عليه. وللعبد أن يمتع امرأته وليس للسيد أن يمنعه من ذلك؛ لأنه من حقوق النكاح الذي أذن له فيه، ولا حد للمتعة، وإنما هي على قدر حال الزوجين. وقد قال ابن عمر: أعلاها رقبة وأدناها كسوة أو نفقة. فصل في الخلع أباح الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين النكاح فقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وأمر عز وجل بحسن العشرة فيه فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، وملك الأزواج أمر الزوجات بما جعل إليهم من الطلاق، ونهاهم أن يعتدوا فيما جعل إليهم من ذلك فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فإن أحب الرجل المرأة

أمسكها وإن كرهها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء لقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا، وجعل الاستثناء متصلا، ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل الفاحشة على العموم فأباح ذلك للزوج كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذأ عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل. فمعنى الآية: لكن إن نشزن عليكم وخالفن أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، ومعناه إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض. وقد قيل في تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن.

فصل

وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها. وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فاشتركا في المخافة جميعا؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وليس قوله بخلاف لما حكيناه عن مالك وأصحابه من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا فارقها على بعض ذلك؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع. فإذا كره كل واحد منهما صاحبه فخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة به نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك باضطرار كان منه إليها. فصل وأما ابن بكير فإنه حمل الخوف المذكور في الآية على العلم، إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة، أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما. فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه، لا اختلاف [في المذهب] أن الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إلا إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها؛ إذ ليس له أن يعارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا

فصل

هجرها في المضجع، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34]، فإن بذلت له شيئا على الفداء حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها. فصل وأما إذا كان النشوز من قبله ولم ترض ذلك من فعله فالواجب عليه أن يفارقها إلا أن يصطلحا [بأن يعطيها] على الرضا بالإثرة والبقاء معه عليها أو تعطيه على أن لا يطلقها وتبقى معه على الإثرة أو على ترك الإثرة، وذلك الصلح الذي قال الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]. فصل وأما إذا كان النشوز من قبلهما جميعا وأضر كل واحد منهما بصاحبه فلا يجوز للزوج أن يأخذ منها شيئا على الطلاق على ما بيناه. فصل فإن تداعيا في ذلك وتفاقم الأمر بينهما وارتفعا إلى الحاكم حكم بينهما حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها. قال الله عز وجل في كتابه حيث يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآية معناه عند أهل العلم علمتم ذلك وخفتم تزايده. فإن تبين لهما أن الضرر من قبل الزوج فرقا بينهما بغير غرم تغرمه المرأة، ويكون لها نصف صداقها إن كان ذلك قبل الدخول وجميعه إن كان بعد الدخول؛ لأن حكم نصف الصداق قبل الدخول

فصل

كجميعه بعد الدخول. وإن تبين لهما أن الضرر من قبل المرأة أقراها تحته وائتمناه على غيبها وأذنا له في تأديبها كما أمره الله تعالى. وإن تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه فرقا بينهما بغرم بعض الصداق: نصفه إن كان إضرار كل واحد منهما بصاحبه متكافئا، وأكثر من النصف إن كان الإضرار منها أكثر، وأقل من النصف إن كان الإضرار منها أقل. هذا قول ربيعة في المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو مذهب مالك وأصحابه. وقال ابن أبي زيد: إنه إن تبين لهما أن الضرر والنشوز من قبل المرأة جاز للزوج ما أخذا له منها على الفراق، وإن كان ذلك أكثر مما أصدقها، قاله ابن الماجشون في المبسوط، ظاهره أحبت أو كرهت إذا أحب هو الفراق. ومعنى ذلك عندي على ما في المدونة إن طاعت به. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل فإن قال قائل: إذا كان الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على فراقه إياها إذا أضر كل واحد منهما بصاحبه فكيف يجوز له أن يأخذ ما حكم به الحكمان من صداقها إذا تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه على أن حكم الحاكم لا يحل مال أحد لأحد فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وسأل عن الفرق بين الموضعين. فالجواب عن ذلك أن الزوج في الخلع قد اختار الطلاق وأجبر الزوجة على أخذ مالها بما كان من ضرره إليها، وذلك ما لا يجوز له، لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، وفي حكم الحكمين لم يختر الطلاق بل أجبره عليه الحكمان كما أجبرا الزوجة على إعطاء المال، وساغ له أخذه عوضا عن إخراج الزوجة عن ملكه حكما من الله عز وجل.

فصل

فصل وحكم الحكمين بين الزوجين لا إعذار فيه إلى أحدهما؛ لأنهما لا يحكمان بالشهادة القاطعة، وإنما يحكمان بما خلص إليهما من علم أحوالهما بعد النظر والكشف. فصل والخلع معاوضة عن البضع تملك به المرأة نفسها ويملك الزوج به العوض عليها ملكا تاما لا يفتقر إلى حيازة؛ لأنه خرج على عوض، بخلاف الهبة والصدقة وما أشبه ذلك مما خرج على غير عوض. هذا هو المشهور في المذهب. وقد وقع في كتاب محمد بن المواز ما يدل على خلافه، وذلك أنه قال: إذا كان على الزوج دين فأحال به على الزوجة فيما خالعها به، فماتت قبل أن يقبض المحال دينه أن له أن يرجع على الزوج بدينه، فلم يحكم له بحكم الديون الثابتة في الذمة؛ إذ جعل له الرجوع على الزوج ولم يجعلها حوالة ثابتة كالحوالة على الديون إلا أن العوض الذي تأخذه المرأة به ليس بمال، وإنما هو راحة نفسها وتخليصها من ملك الزوج، فلا يحكم له به إلا مع سلامة الحال. فإن كان في ذلك حق لآخرين نظر في ذلك بحسب قوته وضعفه، فمنه ما يقدم على الخلع أو منه ما يختلف في تقديمه على الخلع أو تقديم الخلع عليه. فأما ما يقدم على الخلع، فحق السيد في مال أمته المأذون لها في التجارة، وفي مال المكاتبة، لا اختلاف في المذهب أن الأمة المأذون لها في التجارة أو المكاتبة إذا اختلعت من زوجها أن خلعها لا يجوز إلا بإذن السيد لقوة حقها. واختلف في المديانة إذا اختلعت هل يجوز خلعها دون إذن الغرماء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنها أعطته مالها فيما لا حظ لهم فيه بخلاف النكاح. والثاني: أن ذلك جائز كالنكاح. وجه القول الأول في الفرق بين الخلع والنكاح، أن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فقد دخل الغرماء معه على ذلك، والخلع ليس مما تمس الحاجة إليه، وإنما يقع نادرا

فصل

لعارض يعرض فتريد المرأة أن تخلص نفسها من الزوج بسببه فلم يدخل الغرماء معه على ذلك كما لو جنت جناية فيها قصاص فصالحت على نفسها بمال أعطته وعليها دين، فقد قال في كتاب الصلح من المدونة ليس لمن أحاط الدين بماله إذا جنى جناية فيها القصاص أن يصالح فيسقط القصاص عن نفسه بأموال غرمائه. وقد قيل: إن معنى قوله ليس له ذلك ابتداء، فإذا وقع نفذ ومضى. فعلى هذا التأويل إذا خالعت المديانة نفذ فعلها ومضى. إلا أنه تأويل بعيد، والصواب أنه لا يجوز إلا أن يجيزه الغرماء، وإنما وقع في هذا التأويل من تأوله؛ لأن ظاهره معارض لما وقع في كتاب الرهون من أن المرتهن أحق بما ارتهن في جناية العمد والخطأ من الغرماء. ومعنى ما وقع فيه من ذلك أنه العمد الذي لا قصاص فيه والخطأ الذي لا تحمله العاقلة. فإذا حمل على هذا صحت المسائل وسلمت من التعارض ولم يحتج إلى ذلك التأويل البعيد. فصل والفرق بين العمد الذي فيه القصاص وبين العمد الذي لا قصاص فيه هو أن العمد الذي لا قصاص فيه دين أوجبه الحق عليه لم يدخله هو على نفسه باختياره، فكان للمجروح مخاصمة الغرماء كسائر الديون. والعمد الذي فيه القصاص ليس بمال، وإنما للمجروح القصاص. فإن بذل له فيه مالا كان قد استهلك أموال غرمائه باستنقاذ نفسه من القصاص، وذلك ما لا يجوز له إلا بإذن غرمائه. فصل وكذلك اختلف في خلع المريضة والحامل المثقل، قيل: إن خلعها جائز على ورثتها إذا خالعت بخلع مثلها، روى ذلك ابن وهب عن مالك. فعلى هذه الرواية غلب الخلع على حق الورثة. وقيل: إن خلعها لا يجوز من غير تفصيل، وهو ظاهر قول مالك في المدونة وفي كتاب ابن المواز. وقيل: إن ذلك لا يجوز إن كانت خالعت بأكثر من ميراثه منها، ويجوز إن كانت خالعت بمثل ميراثه منها فأقل، وهو قول ابن القاسم. واختلف أيضا متى ينظر فيه إن كان يوم الخلع أو يوم

فصل

الموت، فقال ابن القاسم يوم الخلع، وقال ابن نافع وأصبغ يوم الموت، على ما يأتي في مسائلهم. فعلى هذين القولين غلب حق الورثة على الخلع. فصل والخلع مأخوذ من الاختلاع وهو نزع الشيء عن الشيء، من ذلك الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزد غرماء معاذ على أن خلع لهم ماله، يريد أخرجه عن جميعه. وله عبارات هي الخلع، والصلح، والمبارأة، والفدية، وكلها تئول إلى معنى واحد وهو بذل العوض عن الطلاق، إلا أن اختلافها يرجع إلى اختلاف صفات وقوعها. فالخلع بذل جميع المال على الطلاق. والصلح بذل بعضه، والافتداء بذل جميع الحق الذي أعطاها. والمبارأة ترك ما لها عليه من الحق على الطلاق، أو ترك كل واحد منهما ما له على صاحبه على الطلاق. وحكمها كلها سواء في أنها طلقة واحدة بائنة إذا لم يسميا شيئا من الطلاق. فصل ويجوز الخلع على جميع أعداد الطلاق إلا أنه يكره فيما زاد على الواحدة، فإن وقع نفذ ومضى. وإن خالعته على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة لم تكن لها حجة؛ لأنها قد نالت بالواحدة ما كانت تنال بالثلاث من ملكها أمر نفسها. فصل وإن وقع الخلع دون تسمية طلاق فهي واحدة بائنة خلافا للشافعي في قوله: إن الخلع فسخ بغير طلاق. وحجته أن الله ذكر الخلع بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فدل ذلك على أن الخلع ملغى غير محسوب. وهذا لا حجة فيه؛ لأن

فصل

ذكر الفدية حكم على حياله، فلا فرق بين أن يذكر بين ذكر الطلقتين والطلقة الثالثة أو في غير ذلك الموضع. وقد بين ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله لثابت بن قيس بن شماس: " هي واحدة ". وهذا نص في موضع الخلاف. وذهب أبو ثور إلى أنها طلقة رجعية، وذلك بعيد؛ لأنها إنما بذلت المال على إزالة الضرر، ولا يزول الضرر عنها إلا بملكها نفسها. وقد اختلف إذا بارأها على أن يعطيها أو على أن لا تعطيه ولا يعطيها، فقيل هي طلقة رجعية، وهو قول مطرف، وقيل هي طلقة بائنة، وهو قول ابن القاسم، وقيل هي ثلاث تطليقات وهو قول ابن الماجشون. فصل ويجوز الخلع على ما أعطاها وعلى أكثر من ذلك وأقل منه لقول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولو كان كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها لكان، فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه؛ لأن القائل لو قال لا تشتم فلانا إلا أن يشتمك فإن شتمك فلا جناح عليك فيما فعلت به، ولم يقل منه أو من ذلك لكان قد أباح له أن يشتمه وأن يفعل به ما شاء من ضرب وغيره. فصل ويجوز الخلع بالغرر والمجهول؛ لأنه ظاهر عموم قول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وإذ ليس طريقه طريق المبايعات التي تبتغى فيها الأثمان، وإنما المبتغى فيه تخليص الزوجة من ملك الزوج، فلا يضر الجهل بالعوض. ألا ترى أن النكاح لما لم يكن طريقه طريق المبايعات المحضة وكان المبتغى فيه المكارمة والاتصال جاز على عبد غير موصوف وعلى شوار بيت غير موصوف وما أشبه ذلك من الغرر اليسير الذي لا يذهب جملة فيبقى البضع بلا صداق؛ لأن الصداق حق لله تعالى، فلا يجوز إسقاطه. والخلع لا حق لله فيه فجاز

كتاب الحضانة

بالغرر الكثير من جميع جهاته وإن ذهب جملة فبقي الخلع بلا عوض. وقد قيل: إن الخلع بالغرر والمجهول لا يجوز. والمشهور ما قدمناه، وأجازه ابن القاسم في المدونة بالعبد الآبق والبعير الشارد وما أشبه ذلك، ومنع منه بالتزام نفقة الولد أكثر من حولي الرضاع وما أشبه ذلك، فقيل: إنه قد فرق بين المسألتين، وقيل: إنه خلاف من قوله. ولم يجز الصلح من دم العمد على غرر، فقيل: إن ذلك على القول الذي منع من الخلع بالغرر، وقيل: إنه فرق بين الخلع والصلح عن دم العمد، هو ظاهر ما في المدونة. والفرق بين الخلع ودم العمد أن دم العمد قد قيل: إن لولي الدم أن يعفو على أخذ الدية، فإذا كان له أن يأخذها فكأنه قد ملكها ووجبت له فلا يصالح عنها إلا بمعلوم. ويلزم على هذا أن لا يجوز الصلح إلا بما يصح به بيع الدية. وهذا أصل مختلف فيه هل يكون من ملك أن يملك كالمالك قبل أن يملك في الأحكام الجارية عليه أم لا؟ على قولين. كتاب الحضانة فصل في الحضانة الأصل في الحضانة كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فغير ما آية، منها قوله في الأبوين: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، وفي الأمهات قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فالأم أحق برضاعة ابنها وكفالته إلى أن يستغني عنها بنفسه. وقال تعالى حاكيا عن أخت موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت لآسية امرأة فرعون: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص: 13]، وقال في مريم بنت عمران: (وَكَفَلَهَا

فصل

زَكَرِيَّاءُ)، ويقرأ (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاء)، بتشديد الفاء. فمن قرأ وكفلها زكرياء قال معناه كفلها الله إياه، أي أوجب له كفالتها بالقرعة التي أخرجها له والآية التي أظهرها لخصومه فيها. وذلك أن زكرياء وخصومه فيها لما تنازعوا أيهم يكفلها تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن فقام قدح زكريا ثابتا في الماء، لم يجر كأنه في طين وجرى بقداح الآخرين، فجعل الله ذلك علما بأنه أحق المتنازعين فيها. وقيل: بل صعد قدح زكرياء في النهر وانحدرت قداح الآخرين، فكانت قداحهم التي استهموا بها أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فذلك قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وكان زكرياء قد قال لهم: أنا أحق بها منكم؛ لأن عندي أختها أو خالتها على اختلاف في ذلك؛ لأنه قيل: إن زوجته أم يحيى كانت خالة مريم، وقيل: بل كانت أختها، فحكم الله بها لزكرياء لموضع أختها أو خالتها. وعلى هذا أتى شرعنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بابنة حمزة بن عبد المطلب لجعفر بن أبي طالب؛ إذ تنازع فيها علي بن أبي طالب وجعفر وزيد بن حارثة، فقال علي: هي ابنة عمي وعندي بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنا أحق بها، وقال جعفر: هي ابنة عمي وعندي خالتها فأنا أحق بها، وقال زيد: هي ابنة أخي وتجشمت لها السفر وكان قد خرج عنها حين أصيب حمزة فأقدمها». وعلى هذا مذهبنا أن الحاضنة إذا كان زوجها وليا من أولياء المحضون فهي أحق به من سائر الأولياء وإن كان زوجها أبعد منهم. فصل وإنما كفلها زكرياء؛ لأنها كانت يتيمة توفيت أمها بعد موت أبيها وهي صغيرة. فصل وأما السنة فمنها «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة المطلقة من أبي الطفيل حين قالت له: إن

فصل

ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وأنا له الفداء، فزعم أبوه أنه ينتزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي» وقضاؤه بابنة حمزة لجعفر لموضع خالتها أسماء بنت عميس. فصل وأما الإجماع فلا خلاف بين أحد من الأمة في إيجاب كفالة الأطفال الصغار؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا مفتقرا إلى من يكفله ويربيه حتى ينفع نفسه ويستغني بذاته، فهو من فروض الكفاية لا يحل أن يترك الصغير دون كفالة ولا تربية حتى يهلك ويضيع. وإذا قام به قائم سقط عن الناس. ولا يتعين ذلك على أحد سوى الأب وحده، ويتعين على الأم في حولي رضاعه إذا لم يكن له أب ولا مال تستأجر له منه أو كان لا يقبل ثدي سواها فتجبر على رضاعه. فصل وإنما اختلف الناس في الأولى من الأولياء إذا اختلفوا في كفالته، وتشاحوا في ذلك. والأولياء الذين لهم الحضانة عصبته من الرجال، وقرابته من النساء من قبل الأم ومن قبل الأب، وأوصياؤه من الرجال والنساء. فصل فقراباته من النساء يستوجبن الحضانة بوصفين: أحدهما: أن يكن ذوات رحم منه. والثاني: أن يكن محرمات عليه. فإن كن ذوات رحم منه ولم يكن محرمات عليه كبنت الخالة وبنت العمة وما أشبههما لم يكن لهن حق في الحضانة. وكذلك إن كن محرمات عليه ولم يكن ذوات رحم منه كالمحرمات عليه بالصهر والرضاع وما أشبههن لم يكن لهن في الحضانة حق. وأما عصبته من الرجال فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد التعصيب كانوا من ذوي رحمه المحرم كالجد والعم والأخ وابن الأخ، أو من ذوي رحمه الذي ليس

فصل

بمحرم كابن العم وإن سفل، أو لم يكونوا من ذوي رحمه كالمولى المعتق. وأما أوصياؤه من الرجال والنساء فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد الولاية كانوا مقدمين من قبل الأب أو من قبل السلطان. فصل وهي، أعني الحاضنة، مرتبة فيهم بحسب الحنان والرفق لا يراعى في ذلك قوة الولاية، كالنكاح وولاء الموالي، والصلاة على الجنائز، وولاء الميراث، فقد يحضن من لا يرث كالوصي والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، وقد يرث من لا يحضن مثل الزوج والزوجة، أعني زوج المحضونة وزوجته، إن كان رجلا، والمولاة المعتقة. فالمقدم منهم في الحضانة من يعلم بمستقر العادة أنه أشفق على المحضون وأرأف به وأقوم بمنافعه، وهي الأم لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأم أحق بالحضانة من الأب ومن سائر الأولياء من الرجال والنساء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي»، إلا أنه قد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أسهم بينهما. وروي عنه أنه خير الابن بين أبويه فقضى به لمن اختار منهما. وفي بعض الآثار «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " استهما عليه "، فأبى الأب من ذلك، فخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الابن بينهما» وفي بعضها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " إن شئتما خيرتماه ". وذهب أبو جعفر الطحاوي إلى أن لا يحمل شيء من هذه الآثار على التعارض وأن يستعمل جميعها، فيدعو الإمام الأبوين إلى الاستهام عليه، فإن أجابا إلى ذلك أسهم بينهما، وإن أبيا أو أحدهما قال لهما: " إن شئتما خيرتماه "، فإن أبيا ذلك أو أحدهما حكم به للأم، وهو وجه حسن يصح به استعمال الآثار كلها، واستعمال جميعها أولى من طرح بعضها. فصل وكما تكون الأم أحق من الأب فإن قراباتها أحق من قرابات الأب لا اختلاف

فصل

بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا هل تكون قراباتها سوى الأم أو أم الأم أحق من الأب على قولين، فروى ابن وهب عن مالك أن الأب أحق من الخالة، والمشهور في المذهب أن قرابات الأم أحق من الأب. فعلى هذا إن لم تكن الأم أو كانت ولها زوج أجنبي فأمها وهي الجدة، فإن لم تكن فأم أمها أو أم أبيها، فإن اجتمعتا جميعا فأم الأم أحق من أم الأب. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمها، أو أم أم أبيها، أو أم أبي أمها، أو أم أبي أبيها، فإن اجتمع الأربع فأم أم الأم، ثم أم أب الأم وأم أم الأب بمنزلة سواء. ثم أم أب الأب. وعلى هذا الترتيب أمهاتهن ما علون. فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الأم وهي الخالة، فإن اجتمع أخت الأم لأبيها وأمها وأختها لأبيها وأختها لأمها فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما. فإن لم تكن منهن واحدة فأخت الجدة وهي خالة الأم وخالة الخالة، فإن اجتمع أيضا أخت الجدة لأبيها وأمها وأختها لأمها وأختها لأبيها، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه. فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الجد للأم وهي عمة الأم وعمة الخالة. فإن اجتمع أيضا أخت الجد للأم لأبيه وأمه وأخته لأمه وأخته لأبيه، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. وعلى هذا الترتيب ما بعد النسب من الأم وارتفع. فصل فإن انقطعت قرابات الأم فقيل: إن الأب أحق من جميع قراباته؛ لأنهن إنما يدلين به فهو أحق منهن، وقيل: إنهن أحق منه؛ لأنه وإن كن يدلين به فإنه لا يحضن ويستنيب في الحضانة غيره من النساء، فقراباته أحق. حكى هذين القولين عبد الوهاب، وجعل في المدونة بعض قراباته أحق منه وهو أحق من بعضهن، فجعل الجدات من قبله أحق منه، وجعله هو أحق من سائر قراباته.

فصل

فصل وترتيب قرابات الأب من النساء في الحضانة كترتيب قرابات الأم على ما بيناه، فأحق الناس بالحضانة من قراباته أمه، فإن لم تكن أم أو كان لها زوج فأم أمه أو أم أبيه، فإن اجتمعتا فأم أمه أحق من أم أبيه. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمه أو أم أم أبيه، أو أم أم أبي أبيه أو أم أبي أمه. فإن اجتمع جميعهن فأم أم أمه أولى، ثم أم أبي أمه وأم أم أبيه بمنزلة سواء، ثم أم أم أبي أبيه. وعلى هذا الترتيب تكون أمهاتهن ما علون. فإن لم تكن واحدة منهن فبنت الأبوين أو بنت أحدهما وهي الأخت، فإن اجتمع الأخوات فالشقيقة أحق ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن. فأخوات الأب وهن العمات للأب وللأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه في الخالات. فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجد وهن عمات الأب وعمات العم للأب والأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن أيضا فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجدة للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم، وهن خالات الأب، فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب، وهن على هذا الترتيب ما بعد النسب من الأب وارتفع. فإن لم تكن منهن واحدة فبنات الإخوة وبنات الأخوات للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب. وذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أنه لا حضانة لبنات الأخوات، وهو بعيد خارج عما أصلناه؛ لأنهن ذوات رحم محرمات عليه، فلا فرق بينهن وبين سائر قراباته في وجوب الحضانة لهن. فإن اجتمعتا جميعا بنت الأخ وبنت الأخت قدمت بنت الأخ عليها في الحضانة مراعاة للخلاف الذي حكيناه، وهما في القياس سواء في المنزلة، ينظر الإمام في ذلك فيقضي به لأحرزهما وأكفاهما. فإن لم تكن منهن واحدة أو كانت ولها زوج أجنبي رجعت الحضانة إلى العصبة، ولا شيء فيها لبنات العمات ولا لبنات الخالات؛ لأنهن غير محرمات.

فصل

فصل وأحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، هكذا في كتاب ابن المواز. فيحتمل أن يريد أن الجد وإن علا أحق من ابن الأخ ومن العم، ويحتمل أن يريد أن أحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ ثم الجد الأدنى ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم أبو الجد، ثم عم العم ثم ابن عم العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم جد الجد ثم ولده، ثم والد جد الجد ثم ولده على هذا الترتيب أبدا. فترتيب الحضانة في العصبة ليس يجري على ميراث المال ولا على ميراث الولاء والصلاة على الجنائز؛ لأن الجد وإن علا أرفع مرتبة في الميراث من الأخ إذ لا ينقص معهم من الثلث شيئا، ولأن بني الإخوة والأعمام وبنيهم لا شيء لهم مع الجد وإن علا في ميراث المال، وابن الأخ في ميراث الولاء أحق من الجد. فصل وأحق الناس بالحضانة على مذهب ابن القاسم في المدونة بعد الأم الجدة للأم وإن علت، فإن اجتمعت الجدات فعلى الترتيب الذي وصفناه [ثم الخالة فإن اجتمعت الخالات فعلى الترتيب الذي وصفناه]، ثم خالة الأم فإن اجتمعن فعلى الترتيب الذي وصفناه ثم عمة الأم، فإن اجتمعت عماتها فعلى الترتيب الذي وصفناه. ثم الجدة للأب وإن علت، فإن اجتمع الجدات للأب فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم الأخت فإن اجتمعت الأخوات فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم العمة، ثم عمة الأب، ثم خالة الأب، ثم بنات الإخوة، ثم بنات الأخوات. وقيل: لا حضانة لبنات الأخوات، وقيل: إنهن أحق من بنات الإخوة، وقيل: إنهن بمنزلة سواء، ينظر الإمام في أحرزهن وأكفاهن.

فصل

فصل وقد تقدم أن الحاضنة إذا كان لها زوج أجنبي سقطت حضانتها، فإن كان زوجها ذا رحم من المحضون فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون محرما عليه، والثاني: أن لا يكون محرما عليه. فإن كان محرما عليه فسواء كان ممن له الحضانة كالعم والجد للأب أو ممن لا حضانة له كالخال والجد للأم لا تأثير له في إسقاط الحضانة. وأما إن كان غير محرم عليه فلا يخلو أن يكون ممن له حضانة كابن العم أو ممن لا حضانة له كابن الخال. فإن كان ممن له الحضانة فهي أحق به ما لم يكن للمحضون حاضنة أقرب إليه منها فارغة من زوج. وإن كان زوجها أبعد من الولي الآخر. وإن كان ممن لا حضانة له فإنه تسقط حضانتها بكل حال كالأجنبي سواء. وذهب ابن وهب إلى أن الزوج يسقط حضانة الحاضنة وإن كان ذا رحم من المحضون. فصل واختلف بماذا يسقط الزوج الأجنبي حضانة زوجته، فقيل بالدخول وقيل بالحكم عليه بأخذ الولد منه. وعلى هذا يأتي اختلافهم فيمن طلق امرأته وله منها ولد فتزوجت ولم يعلم بتزويجها حتى طلقها الزوج أو مات عنها أو علم بذلك ولم تطل المدة، هل له أن يأخذ الولد منها بعد خلوها من الزوج أم لا؟ فأما إن علم بتزويجها ولم يعجل بأخذ الولد منها حتى طالت المدة ثم طلقها الزوج أو مات عنها؛ فليس له أن يأخذ الولد منها؛ لأنه يعد بذلك تاركا لحقه فيه على الاختلاف في السكوت هل هو بمنزلة الإقرار أم لا؟ فصل واختلف أيضا فيما يسقط من حضانتها بذلك، فقيل: إنه تسقط به حضانتها جملة، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنما تسقط حضانتها في جهة من حضن المحضون في حال تزويجها، وقيل: إنه إنما تسقط حضانتها في حال تزويجها، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجعت في ولدها. وعلى هذه الثلاثة الأقوال تأتي

فصل

مسائلهم فمن قال: إن حضانتها تسقط جملة. فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها أبدا وإن مات الحاضن للولد وهي فارغة من الزوج بموت أو طلاق. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في جهة من حضن الولد في حال تزويجها فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها وإن طلقها الزوج أو مات عنها ما دام الحاضن للولد على حضانته، فإن سقطت حضانته بموت أو ما أشبه ذلك مما تسقط به حضانتها وهي فارغة من زوج؛ رجعت الحضانة إليها. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في حال تزويجها يقول: إنها ترجع في ولدها فتأخذه متى ما مات الزوج أو طلقها. وجه القول الأول أن تزويجها رضا منها بإسقاط حقها فيه. ووجه القول الثاني: أن تزويجها رضا منها بإسلام الولد إلى الذي يحضنه في حال تزويجها وليس برضا منها بإسقاط حقها فيه جملة. ووجه القول الثالث: أن تزويجها ليس برضا منها بترك الولد؛ لأن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فأشبه ما إذا مرضت وضعفت عن الحضانة أن الولد يؤخذ منها لهذه العلة، فإذا ارتفعت العلة عادت الحضانة إليها وأخذت ولدها. فصل وهذه الثلاثة الأقوال إنما تتصور على مذهب من يرى أن الحضانة من حق الحاضن. وأما على مذهب من يرى أنها من حق المحضون، وهو مذهب ابن الماجشون، فلها أن تأخذ الولد متى ما خلت من الزوج. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في السكنى وأجر الحضانة، فمن رأى أن الحضانة من حق الحاضن لم ير له أجرة ولا كراء في سكناه معه؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له بذلك حق. ومن رأى أن الحضانة من حق المحضون أوجب للحاضن أجرة على حضانته إياه وكذلك سكناه معه، وهذا بين. ولا اختلاف في أن على الأب النفقة والكسوة وأجر الرضاع إن كان رضيعا. واختلف قول مالك إذا وجد الأب من يرضعه له باطلا أو بدون ما يساوي رضاعه، قال في المدونة: إن من حق الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فقيل: إن ذلك من أجل حقها في حضانته، وقيل: إن ذلك من أجل رفقها به في إرضاعه وأن لبنها أنفع له على ما روي أن ما

فصل

من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه. فمن علل ذلك بحقها في الحضانة يقول: إن الأب إن وجد من يرضعه له عند أمه باطلا لم يكن لها حجة. ومن علل بالعلة الأخرى فحجتها باقية. وروى ابن وهب عن مالك أن الأم إن لم ترد أن ترضعه باطلا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من يرضعه باطلا أو بما وجد. ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم تخرجه من حضانتها. وهذا القول أشبه بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]، وأما إن أبت الأم أن ترضعه فيستأجر له الأب من يرضعه وليس عليه أن يكون في ذلك عند أمه. فعلى هذا تحمل الروايات الواردة في هذا إن شاء الله تعالى. فصل وإذا قلنا: إن الحضانة من حق الحاضن فهل يملك الحاضن إسلامه إلى من شاء من الأولياء أم لا؟ في ذلك اختلاف. قيل: إن للحاضن أن يسلم الولد إلى من شاء من الأولياء وإن كان غيره أحق به منه، وهو ظاهر ما في المدونة؛ لأنه قال: إن المرأة إذا صالحت زوجها على أن يكون الولد عنده جاز ذلك وكان أحق بالولد، فظاهره وإن كان له جدة أو خالة؛ إذ لم يشترط ذلك. وقيل: إنه لا يملك ذلك، وإنما هو حقه، فإن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده، كشفعاء في الشفعة ليس لمن كان منهم أحق بها أن يسلمها لمن شاء، وإنما هو حقه إن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده. فصل واختلف في حد الحضانة فقيل إلى البلوغ، وقيل إلى الإثغار، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وبالله التوفيق.

كتاب الأيمان بالطلاق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الأيمان بالطلاق ما جاء في الأيمان بالطلاق الأصل في وجوب الأيمان بالطلاق قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، يريد عقد اليمين وعقد النذر وسائر العقود اللازمة في الشرع. فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة. فالمباحة اليمين بالله تعالى وبجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ لأن الله تعالى أذن في الحلف باسمه لعباده وشرعه لهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]، وقال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106]، وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 107]، وما روي أن عيسى ابن مريم كان يقول لبني إسرائيل: إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين وأنا أنهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين أو صادقين،

فصل

ظاهره أن شرعه خلاف شرع موسى وخلاف شرعنا في إباحة الحلف بالله دون كراهية. ويحتمل أن يكون إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن يكثر ذلك منهم؛ فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما لم يعلموه يقينا أو يواقعوا الحنث كثيرا، أو يقصروا في الكفارة فيقعوا في الحرج، لا أن ترك اليمين بالله على الصدق أفضل من الحلف بها؛ لأن الله أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين باسمه في ثلاثة مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]، «وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا والذي نفسي بيده، لا ومقلب القلوب». ولا وجه لكراهة اليمين بالله على الصدق؛ لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك أن في ذكر الله تعالى على وجه التعظيم له أجرا عظيما. فصل واليمين بالله هي التي أمر الله بحفظها، وجعل لغو اليمين فيها، وأوجب الكفارة على من حلف بها فحنث بقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، قيل معناه فحنثتم، [ويحتمل أن يكون معناه:

فصل

فحنثتم]، أو أردتم الحنث على القول بجواز الكفارة قبل الحنث على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، أو يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، ثم قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]»، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل ويسقط الكفارة عمن حلف بهذه اليمين فحنث فيها الاستثناء بمشية الله تعالى إذا وصل ذلك بآخر كلامه وقصد به حل يمينه بإجماع أهل العلم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فقال: إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث». فصل وأما اليمين المكروهة فهي اليمين بغير الله تعالى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». وهي على وجهين: أحدهما: أن يوجب على نفسه شيئا من الأشياء إن فعل فعلا أو إن لم يفعله، كقوله علي كذا وكذا إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعله. والوجه الثاني: أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل كذا وكذا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا وما أشبه ذلك. فأما ما يوجب الرجل على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله فإن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام: منها ما يلزمه باتفاق، ومنها ما لا يلزمه باتفاق، ومنها ما يختلف فيه.

فصل

فصل فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق، لا اختلاف بين أحد من العلماء أن الرجل إذا حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله أن اليمين لازمة له وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا وأن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليها، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده أنت حر إن فعلت كذا وكذا ففعله. فصل ولا يكون لغو في اليمين بالطلاق؛ لأن الله تعالى لم يذكره إلا في اليمين بالله عز وجل. وأما الاستثناء فيه بمشيئة الله فإن رده إلى الطلاق لم ينفعه، وإن رده إلى الفعل نفعه عند ابن الماجشون وأشهب، ولم ينفعه عند ابن القاسم. وقول ابن الماجشون وأشهب أظهر قياسا على الاستثناء في اليمين بالله أنه إن رده إلى اسم الله تعالى لم ينفعه وإن رده إلى الفعل الذي حلف عليه نفعه. فصل وأما إن كان استثناؤه بمشيئة مخلوق فله استثناؤه باتفاق؛ لأن ذلك من تمام الصفة التي علق بها الطلاق. فصل وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه، كان مباحا أو معصية، كقوله في المعصية: علي ضرب فلان إن لم أفعل كذا وكذا، وفي المباح علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا وما أشبه ذلك ما عدا الطلاق؛ فإن اليمين به تلزمه وإن

فصل

كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره وهو أن الحالف به مطلق على صفة ما. فصل وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو يمينه بكل ما فيه طاعة وقربة أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله من صلاة أو صيام أو مشي إلى بيت الله أو غزو أو حج أو ما أشبه ذلك، فذهب مالك وأصحابه إلى أن ذلك يلزمه باليمين إذا حنث فيها كما يلزمه بالنذر. وهذا أصل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وقد شذت له مسائل يسيرة عنه، وخالفه في هذا الأصل جماعة من العلماء على اختلاف كثير في ذلك عنهم. فصل فإن استثنى في ذلك بمشيئة مخلوق نفعه الاستثناء، وإن استثنى فيه بمشيئة الخالق جرى ذلك على الاختلاف المذكور، ولا لغو يمين في ذلك أيضا. فصل وأما الوجه الثاني من وجوه اليمين بغير الله فهو أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا، أو والنبي أو ومكة أو والصلاة والزكاة والطلاق لا أفعله وما أشبه ذلك، فهذا كله ليس بيمين ولا كفارة فيه على من حلف بشيء من الأشياء وحنث فيه، إلا أنه يكره ذلك له، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اليمين بغير الله، ولأن الحالف بالشيء قاصد إلى تعظيم المحلوف به، والله أحق من قصد إلى تعظيمه. وقد اختلف في قول الله عز وجل: والطور، والسماء، والطارق، والنجم، والتين، والزيتون، وما أشبه ذلك من الأيمان الواردة في القرآن، فقيل: إن ذلك من المجاز وأن المعنى فيه ورب الطور ورب السماء والطارق ورب النجم وما أشبه ذلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقيل: إن ذلك على الحقيقة لا

فصل فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه

مجاز فيه، وهو أصح إن شاء الله؛ لأن الله تعالى هو المقسم بهذه الأشياء، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ترفيعا لها على ما سواها وتنبيها على آثار الصنعة فيها، فلا حجة لمخلوق بهذا في إجازة الحلف بغير الله تعالى. فصل وأما المحظورة فهي أن يحلف بالطواغيت وباللات والعزى أو بوثن من الأوثان التي تعبد من دون الله، أو بكنيسة من الكنائس، أو ببيعة من البيع، وما أشبه ذلك؛ لأن الحالف بالشيء قصد إلى تعظيمه، وتعظيم هذه الأشياء كفر بالله تعالى. فصل فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه والطلاق ينقسم على قسمين: طلاق مطلق، وطلاق مقيد بصفة. فأما الطلاق المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت طالق وما أشبه ذلك من صريح الطلاق وكناياته. وقد اختلف في صريحه ما هو على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة، وأن كناياته ما عدا ذلك، مثل قوله خلية وبرية وحبلك على غاربك وما أشبه ذلك وهو مذهب عبد الوهاب. والثاني: أن هذه الألفاظ كلها صريح الطلاق، وبعضها أبين من بعض، وهو مذهب أبي الحسن بن القصار. والثالث: أن صريح الطلاق ما ذكره الله في كتابه وهو الطلاق والسراح والفراق، وهو مذهب الشافعي. واختلف بماذا يلزم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم بمجرد [النية دون القول، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الأيمان بالطلاق. والثاني: أنه يلزم بمجرد القول دون نية]. والثالث: أنه لا يلزم إلا باجتماع القول والنية، وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم الظاهر فلا اختلاف بين أهل العلم أن الرجل يحكم عليه بما أظهر من صريح القول بالطلاق أو كناياته، ولا يصدق أنه لم ينوه ولا

فصل فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه

أراده إن ادعى ذلك على مذهب من يرى أن الطلاق لا يلزم بمجرد القول حتى تقترن به النية. وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يقيد ذلك بلفظ الشرط، والثاني: أن يقيده بلفظ الوجوب. فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، أو إن لم أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة. ومن ذلك أيضا أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى ويكون في الماضي [إما واقع وإما ساقط كاليمين بالله التي تكون في الماضي]، إما لغو أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن تكون فيه كفارة. ويأثم إذا حلف على الغيب أو على الكذب أو على الشك كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما حقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل وحق الطلاق لا فعلت كذا وكذا. فصل فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه وهو - أعني اليمين بالطلاق على ما ذكرته من المجاز - ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحلف بالطلاق على نفسه، والثاني: أن يحلف به على غيره، والثالث: أن يحلف به على مغيب من الأمور. فأما الأول وهو حلفه بالطلاق على نفسه فهو ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا. والثاني: أن يحلف به على أن يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله

فصل

وتركه. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه تركه. والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله. فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا إن فعل ذلك الفعل. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي أو دخلت الدار أو ركبت الدابة أو ما أشبه ذلك إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا وفيها اختلاف مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يعجل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك. وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما، وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك. وأما الوجه الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه، والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال، والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال. فصل فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم أدخل الدار أو إن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء. فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء. فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك. ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت. وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء، كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا فلا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول

فصل

ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين: أحدهما: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. والثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها. فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف. ووجه ذلك أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوطء. والثالث: أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله، ولم يمكن من الوطء؛ لأنه لا يجوز له من أجل أنه على حنث. وإن اجترأ فوطئ سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان. وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول وإن لم يمكن من الفيء بالوطء رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء. وأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها. وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما. وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه، وهو الصواب. فصل وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج، وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة، ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من العتبية. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل. والثالث: أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.

فصل

فصل فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا. والثاني: أنه يطلق عليه. والثالث: أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى. وقد زدنا هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك، أو لمنع الشرع منه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه. فصل وأما القسم الثاني وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين: أحدهما: أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف عليه ليفعلنه. فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا فهو كالحالف على فعل نفسه سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك. وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل يطأ في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجلا؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء. والثالث الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق.

فصل

فصل وأما القسم الثالث وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعرف صدقه من كذبه، كالقائل: امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل. وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأن به. واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء على ما حلف عليه فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يطلق عليه. والثاني: أنه لا يطلق عليه. والثالث: أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن تكون الصفة آتية على كل حال. والثاني: أن تكون الصفة غير آتية على كل حال. والثالث: أن تكون مترددة بين أن تأتي وبين أن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي. والرابع: أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي والأغلب منهما أنها تأتي. فالأول يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق. والثاني يتخرج على قولين. والثالث لا يعجل عليه الطلاق باتفاق. والرابع يختلف فيه عنى قولين منصوصين.

كتاب التخيير والتمليك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد نبيه الكريم كتاب التخيير والتمليك ما جاء في التخيير والتمليك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]، وكان سبب نزول هذه الآية فيما روي «عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سألته شيئا من متاع الدنيا إما زيادة في النفقة وإما غير ذلك من عرض الدنيا، فاعتزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه شهرا، فأمره الله أن يخيرهن بهذه الآيات بين الصبر عليه والرضا بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن». وقيل: إن ذلك كان من أجل «غيرة كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غارتها، فبدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة وكانت أحبهن إليه، فقال لها: " إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، فخيرها وقرأ عليها القرآن فقالت له: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: " لا "، قالت: ففي أي هذا أستأمر أبويَّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبرهن بذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لم أبعث معنتا، وإنما بعثت معلما ومبشرا، وإني لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. ورئي الفرح في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باختيار

فصل

عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الله ورسوله والدار الآخرة، ثم تتبع سائر نسائه فجعل يقرأ عليهن من القرآن ويخيرهن ويخبرهن بما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فتتابعن على ذلك، فقصره الله عليهن جزاء على فعلهن، فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]»، وهن التسع نسوة أمهات المؤمنين التي توفي عنهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عائشة، وحفصة، وزينب، وميمونة، وصفية، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة، وجويرية؛ واختارت واحدة منهن نفسها وهي بنت الضحاك العامري، كذا وقع في المدونة. وقيل: إنه لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خير أزواجه إلا التسع نسوة التي توفي عنهن، وهو الصحيح والله أعلم. وسيأتي في الجامع بيان هذا، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وهذا التخيير الذي أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخير به أزواجه ليس فيه تمليكهن الطلاق ولا جعله الأمر إليهن في الفراق، وإنما خيرهن بين أن يخترنه والدار الآخرة ويمسكهن أو يخترن الحياة الدنيا فيمتعهن ويسرحهن، كمن قال لامرأته: إن كنت راضية بالمقام معي على ما أنت عليه فابقي، وإن كنت لا ترضين بذلك فأعلميني أطلقك، إلا أنه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه إخبار لا حلف فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى أمره به، فأشبه التخيير في وجوب الطلاق للمخيرة باختيارها نفسها. وأما من غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس ذلك بتمليك ولا تخيير ولا فيه شبه منه، وإنما هو عدة بالطلاق إن اختارته. فصل وقد اختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن بعدهم من التابعين وفقهاء المسلمين فيمن ملك امرأته أو خيرها اختلافا كثيرا؛ إذ لم يرد في ذلك نص في القرآن يرجع إليه، ولا روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك أثر يعول عليه. فمنهم من جعل

فصل

قضاء الزوجة [في ذلك بتاتا. ومنهم من جعله واحدة رجعية. ومنهم من جعله واحدة بائنة. ومنهم من جعله على ما قضت به]، من واحدة أو ثلاث، ومنهم من جعله على ما نواه الزوج مع يمينه، ومنهم من قال: ليس لها من الطلاق شيء وإن خيرها زوجها أو ملكها، ومنهم من فرق بين قولها: أنا منك طالق أو أنت مني طالق، ومنهم من رأى الخيار فراقا والتمليك طلاقا قبلت أو ردت، روي ذلك عن جماعة من السلف، وعن ربيعة أنه قاله في التمليك. وهذا القول أضعف الأقاويل؛ لأن السنة ترد ذلك والإجماع على أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخترنه إذ خيرهن فلم يكن ذلك فراقا. ومنهم من فرق بين التخيير والتمليك فلم ير التخيير شيئا ورأى التمليك واحدة بائنة، وهو مذهب أبي حنيفة. ولا حجة لأحد منهم على مذهبه من جهة الرأي إلا ويعارضها مثلها؛ إذ ليس في ذلك في الكتاب والسنة نص يجب التسليم له. فصل وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن التمليك يفترق من التخيير بما رواه عن عبد الله بن عمر في موطئه حدث عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: إذا ملك الرجل امرأته فالقضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيقول: لم أرد إلا واحدة فيحلف على ذلك ويكون أملك لها ما دامت في عدتها، وهذا أبين ما قيل في ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل أمر الزوجة إلى الزوج وملكه أن يطلقها ما شاء من الطلاق. فإذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك، فقد جعل بيدها ما كان بيده من طلاقها. هذا ظاهر اللفظ. ويحتمل أن يريد به واحدة واثنتين وثلاثا، فإن كانت له نية في ذلك قبلت منه مع يمينه، وإن لم تكن له نية فالقضاء ما قضت به من واحدة أو ثلاث؛ لأنه الظاهر من لفظه ذلك. وذهب في التخيير إلى أنه لا يكون إلا ثلاثا في المدخول بها، فإن اختارت ثلاثا فهي ثلاث، وإن اختارت واحدة أو اثنتين فلا يكون شيئا؛ لأنه إذا خيرها فإنما خيرها في أن تقيم معه في العصمة أو تخرج عنها، ولا تخرج

فصل

عن العصمة إلا بالثلاث. هذا مفهومه عنده من قصد التخيير. وإن كانت غير مدخول بها كان حكمها حكم المملكة في المناكرة إن زادت على واحدة؛ لأنها تبين منه وتخرج عن عصمته بما دون الثلاث. وتابع مالكا على ذلك جميع أصحابه إلا ابن الماجشون فقال: إن المخيرة إذا قضت بواحدة أو ثلاث فهي ثلاث. فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الرجل إذا ملك امرأته أمرها أو خيرها فليس له أن يرجع عن ذلك. واختلف قوله في الحد الذي يكون إليه أمر المملكة والمخيرة بيدها، فكان أول زمنه يقول ذلك بيدها ما لم ينقض المجلس الذي ملكها أو خيرها فيه، فإن تفرقا منه سقط ما كان بيدها من ذلك إلا أن تقيده بالقبول في المجلس، وهو قول جل أهل العلم. ووجه أن هذا التمليك أمر يقتضي الجواب فوجب أن يكون ذلك بيدها ما داما في المجلس، كالمبايعة إذا قال الرجل للرجل: إن شئت سلعتي فهي لك بكذا وكذا، فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك إنما يكون له ما داما في المجلس لم يتفرقا عنه. ثم قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر زمانه: إن أمر المملكة والمخيرة بيدها وإن تفرقا من المجلس ما لم يوقفها السلطان أو تتركه يطأها. ووجه هذا القول أمر خطير يحتاج فيه إلى الاستخارة والاستشارة فافتقر إلى المهلة. وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند تخييره إياها: ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وهذا يدل على أن الأمر بيدها بعد انقضاء المجلس لو أحبت الاستئمار. فصل واختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا إنما هو إذا واجهها الزوج بالتمليك أو بالخيار أو من فوض الزوج ذلك إليه لاقتضاء ذلك منها الجواب. وأما إذا كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل إليها رسولا أو جعل أمرها بيدها إن تزوج عليها أو غاب عنها مدة أو أضر بها أو ما أشبه ذلك فلم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك بيدها وإن لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك، قيل بيمين، وقيل بغير يمين، ما

فصل

لم يطل ذلك حتى يتبين أنها راضية بإسقاط حقها. والطول في ذلك أكثر من شهرين على ما في سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، إلا أن يكون الزوج حاضرا حين وجب لها التمليك فتمنعه نفسها فيكون ذلك بيدها وإن طال الأمر، كالأمة تعتق تحت العبد فلا ينقطع خيارها بطول المدة ما منعته نفسها؛ لأن امتناعها منه دليل على أنها باقية على حقها. وروى يحيى عن ابن وهب أن حقها يسقط إذا لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك حتى انقضى المجلس الذي وجب لها فيه قياسا على التمليك الذي تواجه به المملكة، وهو قول أشهب في سماع عبد الملك بن الحسن من الكتاب المذكور، وظاهر ما في سماع عيسى من كتاب النكاح في رسم شهد. فصل والتمليك ينقسم على ثلاثة أقسام: تمليك مطلق، وتمليك مفوض، وتمليك مقيد. فأما المطلق وهو أن يقول: أمرك بيدك فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يواجهها الزوج بذلك أو من يملكه ذلك. والثاني: أن لا يواجهها به هو ولا من فوض ذلك إليه، وإنما كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل به إليها رسولا. وقد تقدم الكلام على هذا. وأما التمليك المفوض فهو أن يقول لها أمرك بيدك إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت [أو متى ما شئت، أربعة ألفاظ بها يكون التفويض. وهي تختلف باختلاف معانيها. فأما متى شئت أو متى ما شئت]، فلا يختلف أن الأمر بيدها ما لم توقف، وإنما يختلف هل يقطع ذلك الوطء أم لا يقطعه على قولين، فيقطعه على مذهب ابن القاسم ولا يقطعه على مذهب أصبغ. وأما إن شئت أو إذا شئت فيختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول مالك أن ذلك كالتمليك المطلق سواء. والثاني قول ابن القاسم أن الأمر يكون بيدها ما لم توقف بخلاف مذهبه في التمليك المطلق. والثالث قول أصبغ أنه إن قال، إن شئت كان الأمر بيدها في المجلس، وإن قال: إذا شئت كان الأمر بيدها حتى توقف، ولا يقطع ذلك الوطء عنده في إذا بخلاف قوله إن. واختلف قول ابن القاسم إذا قال: أنت طالق إن

فصل

شئت، فله في المدونة أن ذلك تفويض والأمر إليها حتى توقف، وله في الواضحة أنه لا قضاء لها إلا في المجلس بخلاف قوله: أمرك بيدك إن شئت، وهو الصحيح. وقد تأول بعض الناس على ما لابن القاسم في المدونة أن أمرك بيدك إن شئت ليس بتفويض بخلاف قوله: أنت طالق إن شئت ووجه ذلك بتوجيه بعيد لا وجه له، حكى ذلك أبو النجاء في كتابه. فصل وأما التمليك المقيد بصفة، فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن لا يكون مشترطا عليه في أصل عقد النكاح. والثاني يكون مشترطا عليه في عقد النكاح. فأما إذا لم يكن مشترطا عليه في عقد النكاح فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام كلها، فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في التمليك يمين بالتمليك، أو ما لم يكن منها في الطلاق يمينا فلا يكون في التمليك يمينا، وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه وجب تعجيل التمليك فيه وكان للمرأة القضاء بما ملكت فيه من ساعتها، وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل التمليك، وما دخل فيها على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالتمليك الإيلاء أيضا، حاشا يمينه بالتمليك على زوجته أن تفعل فعلا أو ألا تفعله، فإن الحكم في ذلك أن توقف من ساعتها، فإما أن تفعل ذلك الفعل إن كان قال لها: أمرك بيدك إن فعلت كذا وكذا أو تقول: لا أفعله إن كان قال لها: أمرك بيدك إن لم تفعلي كذا وكذا فيجب لها التمليك، أو تخالف ذلك فيسقط ما جعل لها منه قياسا على قوله في الكتاب أمرك بيدك إن أعطيتني كذا وكذا. وللزوج أن يناكر الزوجة في جميع ما يجب لها التمليك من ذلك إن قضت بأكثر من طلقة بنية يدعيها.

فصل

فصل وأما إذا كان ذلك مشترطا عليه في عقد النكاح فينقسم ذلك أيضا على الأقسام المذكورة ويكون الحكم فيها سواء إلا في وجهين: أحدهما: أن الزوج لا يناكرها، والثاني: أن التمليك لا يلزم إذا قيد بشرط يعلم أنه لا يكون أصلا باتفاق، وذلك مثل أن تشترط إن تزوج عليها فأمرها بيدها إن مس السماء وما أشبه ذلك. لأنها اشترطت ما لا منفعة لها فيه. فصل والمناكرة تجب للزوج بثلاثة أوصاف: أحدها: أن لا يكون التمليك مشترطا عليه، والثاني: أن يدعي نية اعتقدها عند التمليك، والثالث: أن يناكرها في الحال، فإن لم يفعل حتى طال الأمر لم يكن له مناكرتها، ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المملكة، قاله أبو بكر بن عبد الرحمن. فصل وإذا خير الرجل امرأته أو ملكها فقد جعل إليها ما كان بيده من الطلاق، فإن أجابته في المجلس أو بعده ما لم توقف أو تتركه يطأها على أحد قولي مالك فلا تخلو إجابتها إياه من عشرة أوجه: أحدها: أن تفصح بالطلاق واحدة أو ثلاثا. الثاني: أن تجيب بشيء من كناياته. والثالث: أن تجيب بشيء يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق. والرابع: أن تجيب بما يحتمل أن تريد به الثلاث وأن تريد به الواحدة والاثنتين. والخامس: أن تجيب بما ليس من معنى الطلاق في شيء. والسادس: أن لا تجيب بشيء وتفعل فعلا يشبه الجواب. والسابع: أن تقيد الاختيار بشرط. والثامن: أن تقيد القبول. والتاسع: أن تفوض الأمر إلى غيرها. والعاشر: أن تفصح باختيار زوجها.

فصل

فصل فأما إذا أفصحت بالطلاق فهو على ما أفصحت به، فإن أفصحت بالثلاث مثل أن تقول: قد طلقت نفسي ثلاثا أو قبلت نفسي أو اخترت نفسي أو حرمت عليك أو برئت منك أو بنت منك؛ فهذا تكون به مطلقة ثلاثا في التخيير وفي التمليك قبل الدخول أو بعده، [إلا أن يناكرها في الخيار قبل الدخول وفي التمليك قبل الدخول وبعده]، فيكون ذلك له إذا ادعى نية، ولا تسأل في ذلك عن شيء، ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد به الطلاق أو أنها لم ترد بذلك الثلاث. وكذلك إذا قالت: طلقت نفسي واحدة أو اثنتين لا تسأل عن شيء ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد الطلاق، ويكون كما قال في التمليك، إلا أن ينكر عليها فيما زادت على الواحدة، ولا يكون في التخيير شيئا. وأما إذا أجابت بشيء من كنايات الطلاق مثل أن تقول: قد خليت سبيلك أو تركتك أو فارقتك أو رددتك إلى أهلك وما أشبه ذلك فيحمل قولها في ذلك على ما يحمل عليه قول الزوج ابتداء فيما يكون من الطلاق وما ينوى فيه مما لا ينوى. وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق مثل أن تقول: قد قبلت أمري أو قد اخترت أو قد شئت أو قد رضيت فهذه تسأل عما أرادت بذلك، فما قالت قبل منها وجرى الحكم في التخيير والتمليك على حسب ذلك. وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الثلاث أو تريد به الواحدة أو الاثنتين ففي ذلك ثلاثة ألفاظ: أحدها: أن تقول قد طلقت نفسي. والثاني: أن تقول أنا طالق. والثالث: أن تقول قد اخترت الطلاق. فأما إذا قالت قد طلقت نفسي فاختلف في ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنها تسأل في المجلس وبعده في التخيير والتمليك كم أرادت بذلك؟ فإن لم تكن لها نية فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك. وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنها تسأل أيضا في المجلس وبعده في التخيير والتمليك أيضا، فإن لم تكن لها نية فهي واحدة تلزم

في التمليك وتسقط في الخيار. والثالث: أنها لا تسأل لا في التخيير ولا في التمليك، وهي واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار. فإن قالت في المجلس أردت ثلاثا فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك، وهو قول ابن القاسم في الواضحة. والرابع: أنها لا تسأل في التخيير ولا في التمليك وهي ثلاث إلا أن تقول في المجلس: أردت واحدة فتسقط في الخيار، وهو قول أصبغ في الواضحة. والخامس: أنها لا تسأل في التمليك وهي واحدة إلا أن تريد أكثر من ذلك فيكون للزوج أن يناكرها، وتسأل في التخيير فإن قالت: أردت ثلاثا صدقت وكانت ثلاثا، وإن قالت أردت واحدة أو اثنتين أو لم تكن لي نية أو افترقا من المجلس قبل أن تسأل سقط خيارها. وأما إن قالت أنا طالق فلا تسأل في تمليك ولا تخيير، وتكون واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار، إلا أن تقول في المجلس نويت ثلاثا فيلزم في الخيار، ويكون في التمليك للزوج أن يناكرها، ولا أحفظ في هذا نص خلاف. وأما إن قالت قد اخترت الطلاق فالذي أرى فيه على أصولهم أنها تسأل في التمليك والتخيير؛ لأن هذه الألف واللام قد يراد بها الجنس فتكون ثلاثا، ويراد بها العهد وهو الطلاق السني المشروع فتكون واحدة. فإذا احتمل اللفظ الوجهين وجب أن تسأل أيهما أرادت، فإن قالت لم تكن لي نية كانت ثلاثا على قول أصبغ في الواضحة. ومذهب ابن القاسم في المدونة في التي تقول قد طلقت نفسي ولا نية لها أنها واحدة. ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد وهو الطلاق الذي ملكت إياه فيكون ثلاثا. وقد كان ابن زرب يتوقف عن الجواب في هذه المسألة إذ لم يجد فيها في المدونة والعتبية شيئا إلى أن وجد في زعمه في العتبية ما دله على

أنها تكون واحدة إلا أن تريد بذلك ثلاثا. وهذا الاختلاف الواقع بين ابن القاسم وابن وهب في الذي يحلف غريمه بالطلاق ليدفعن إليه حقه إلى أجل، فيقول صاحب الحق أردت ثلاثا، ويقول الغريم أردت واحدة. قال فلو كانت هذه اللفظة لا تقع إلا على ثلاث تطليقات عند ابن القاسم لما قال القول قول صاحب الحق ولقال هي ثلاث قال صاحب الحق: إنه نواها أو لم يقل. ولو كانت لا تقع أيضا عند ابن وهب إلا على ثلاث تطليقات لما قال القول قول الغريم. ولا دليل له فيما استدل به من ذلك على مذهبه؛ لأن اللفظ قد يراد بها الواحدة وقد يراد بها الثلاث على ما بيناه، فجعلها ابن القاسم ثلاثا على نية المحلوف له، وجعلها ابن وهب واحدة على نية الحالف، ولا إشكال في المسألة مع وجود النية بواحدة أو ثلاث، وإنما الإشكال عند عدمها. والصحيح على مذهب ابن القاسم في المدونة ما ذكرته. واستدل على مذهبه في ذلك بقول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وبحديث زبراء قالت: فقلت هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا. فأما الآية فلا متعلق له فيها، وأما الحديث فله فيه وجه من التعلق. قال اللخمي: فإن قائل قائل: لأي شيء لا يكون التخيير ثلاثا إذا قالت قد اخترت الطلاق ولم تنو شيئا إذ لا خيار لها إلا في الثلاث؟ قيل له: يلزمك أن تقول هذا في قولها في التخيير قد طلقت نفسي ولا نية لها [أنها ثلاث؛ إذ لا خيار لها إلا في الثلاث. وهذا محال أن يجعل قولها قد طلقت نفسي ولا نية لها] ثلاثا. قلت: ما هو بمحال، وأصبغ يرى أنها ثلاث في التمليك فكيف في الخيار، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.

وأما إذا أجابت بما ليس من معنى الطلاق، مثل أن تقول أنا أشرب الماء وأنا أضرب عبدي وما أشبه ذلك فهذا يسقط خيارها ولا تصدق إذا ادعت أنها أرادت بذلك الطلاق. وأما إذا لم تجب بشيء وفعلت فعلا يشبه الجواب مثل أن تنقل متاعها أو تخمر رأسها وما أشبه ذلك فإنها تسأل ما أرادت بذلك، فإن قالت لم أرد بذلك الفراق صدقت، وإن قالت أردت بذلك الطلاق صدقت فيما قالت منه، فإن قالت أردت الثلاث كان في الخيار ثلاثا، وكان له في التمليك أن يناكرها إن ادعى نية. وإن قالت أردت بذلك الفراق ولم تكن لي نية في عدد الطلاق، فعلى قول محمد بن المواز هي في التمليك واحدة رجعية. وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنها ثلاث. فإن سكت ولم ينكر عليها فعلها ولا سألها عما أرادت حتى افترقا من المجلس فقالت بعد افتراقهما منه أردت بذلك ثلاثا فذلك لها إلا أن يناكرها بنية يدعيها وقت القول ويحلف على ذلك، قال أصبغ بيمينين: يمين أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة ولا رضي بذلك، ويمين أنه نوى واحدة. وقال ابن المواز: يجمع ذلك في يمين واحدة. وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم أن انتقالها وسكوته على ذلك دون أن يسألها في المجلس عما تريد بانتقالها يوجب عليه طلاق البتات بكل حال، ولا يناكرها إن قالت أردت الثلاث، ولا تصدق إن قالت أردت واحدة. وأما إذا قيدت الإجابة بشرط فإن الشرط ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الشرط يحتمل أن يكون وأن لا يكون. والثاني: أن يكون محتملا أيضا والأغلب منه أن يكون. والثالث: أن يكون مما يعلم أنه لا بد أن يكون في المدة التي يمكن أن يبلغا إليها. والرابع: أن يكون مما يعلم أنه لا يكون. فأما الوجه الأول وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إن دخلت على ضرتي أو إن قدم فلان وما أشبه ذلك ففيه قولان: أحدهما قول ابن القاسم في المدونة أن الأمر يرجع إليها فتقضي أو ترد. والثاني قول سحنون أن ذلك رد لما جعل لها ولا قضاء لها. وأما الوجه الثاني وهو مثل أن تقول: قد اخترت نفسي إذا حاضت فلانة فتكون طالقا مكانها على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يرجع الأمر إليها فتقضي أو

فصل

ترد. وأما الوجه الثالث وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إذا جاء العيد أو أهل الهلال وما أشبه ذلك فإنها تكون طالقا مكانها. وأما الوجه الرابع وهو أن تقول: قد اخترت نفسي إن مسست السماء فإنه يكون ردا لما جعل إليها ولا يكون لها أن تقضي، لا يختلف أصحابنا في جملة هذه الأقسام، ولهم في تفاصيلها اختلاف كثير على ما هو مذكور في الأمهات، فليس هذا موضع ذكره. وأما إذا قيدت القول بذلك مثل أن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري فهذا يكون الأمر بيدها وإن انقضى المجلس حتى توقف بلا اختلاف. وأما إذا فوضت الأمر إلى غيرها فذلك أن تقول: قد شئت إن شاء فلان أو قد فوضت أمري إلى فلان ففي ذلك قولان: أحدهما: أن ذلك جائز إن كان فلان حاضرا أو قريب الغيبة. قال في سماع عيسى مثل اليومين والثلاثة، وقال في الواضحة أصبغ عن ابن القاسم مثل اليوم وما أشبهه، وإن كان بعيد الغيبة رجع الأمر إليها. والثاني قول أصبغ: إنه ليس لها أن تحول الأمر إلى غيرها وإن كان حاضرا، ويرجع الأمر إليها فتقضي أو ترد. وقول أصبغ هذا يأتي على رواية علي بن زياد عن مالك في كتاب الخيار من المدونة، فتأمل ذلك. وأما الوجه العاشر وهو أن تفصح باختيارها زوجها فلا كلام فيه. فصل هذا تفسير ألفاظ المرأة في الاختيار. وأما تقسيم ألفاظ الرجل في الطلاق فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومحتمل. فالنص ما نص على عدد الطلاق فيه، والظاهر ما لا ينوى فيه مع قيام البينة عليه لادعائه خلاف ظاهر لفظه، وذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق [فيقول لم أرد به الطلاق. والثاني: أن يأتي بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد الثلاث. فأما إذا أتي بلفظ ظاهره الطلاق، فيقول لم أرد به الطلاق]، وقد حضرته البينة فلا يصدق قبل الدخول ولا بعده. وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق ثم يقول لم أرد به الطلاق، وإنما أردت أنها طالق من وثاق وما أشبه ذلك، فإنه لا يصدق إلا أن يأتي بما يدل

على صدقه فيما ادعى من النية، وذلك مثل أن يكون الكلام خرج على سؤال إطلاقه إياها من وثاق كانت فيه. واختلف إن علم أنها كانت في وثاق هل يكون ذلك دليلا على صدقه أم لا؟ على قولين. وإن أتى مستفتيا صدق على كل حال إلا على مذهب من يرى أن مجرد اللفظ دون النية يوجب الطلاق. والقولان قائمان من المدونة. فإن أتى بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد به الثلاث فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما لا يصدق فيه قبل الدخول ولا بعده، وذلك مثل أن يقول أنت بائنة. والثاني يصدق قبل الدخول ولا يصدق بعده، وذلك مثل أن يقول أنت خلية أو برية أو حبلك على غاربك وما أشبه ذلك. وأما المحتمل فهو ما ينوى فيه بكل حال، وإن لم تكن له نية حكم على أظهر محتملاته. وذلك ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق، ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، [والأظهر أن لا يراد به الطلاق]، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثاني: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، والأظهر أن يراد به الطلاق، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثالث: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة، والأظهر منه أن يراد به [واحدة قبل الدخول وبعده فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والرابع: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر أنه يراد به] الثلاث قبل الدخول وبعده، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والخامس: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر منه قبل الدخول الواحدة وبعد الدخول الثلاث، فيحمل على ذلك إن لم تكن له نية. فالأول مثل أن يقول لامرأته: لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة. والثاني مثل أن يقول لامرأته: لا نكاح بيني وبينك أو لا ملك لي عليك. والثالث مثل أن يقول لامرأته: قد طلقتك أو أنت طالق أو ما أشبه ذلك. والرابع مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. والخامس مثل أن يقول لامرأته: قد خليت سبيلك أو قد خليتك أو قد فارقتك. وهذا تقسيم صحيح

ليس يشذ عنه شيء من ألفاظ الطلاق إلا رواية عيسى عن ابن القاسم فيمن قال لأهل امرأته: شأنكم بها أنها قبل الدخول واحدة إلا أن ينوي ثلاثا، وبعد الدخول ثلاثا ولا ينوى. وما يوجد من الاختلاف في المذهب في بعض ألفاظ الطلاق إنما هو لاختلافهم في ذلك اللفظ من أي قسم هو من الأقسام التي ذكرناها، فقد روي عن أشهب في سرحتك أنها واحدة في المدخول بها، فيأتي من القسم الثالث على مذهبه. فافهم هذا وتدبره تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.

كتاب الظهار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب الظهار الظهار تشبيه الرجل وطء من تحل له من النساء بوطء من تحرم عليه منهن تحريما مؤبدا بنسب أو صهر أو رضاع. وكانت العرب تكني عن ذلك بالظهر فتقول: امرأتي علي كظهر أمي، ولذلك سمي ظهارا؛ لأنه مأخوذ من الظهر، وإنما اختص الظهر بالتحريم في الظهار دون البطن والفرج وسائر الأعضاء وإن كانت أولى بالتحريم منه؛ لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة عند الغشيان. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فإنما أراد أن ركوبها للنكاح عليه حرام كركوب أمه للغشيان، فأقام الركوب مقام النكاح؛ لأن الناكح راكب، وأقام الظهر مقام الركوب؛ لأنه موضع الركوب. وهذا من لطيف الاستعارة للكناية. وهو على أربعة أوجه: تشبيه جملة بجملة، وبعض ببعض، وبعض بجملة، وجملة ببعض. وهي كلها سواء في الحكم، إلا أن يكون البعض الذي شبه من زوجته أو شبه به زوجته مما ينفصل عنها أو عن المشبه بها من ذوات المحارم كالكلام أو الشعر، فيجري ذلك على الاختلاف فيمن طلق ذلك من زوجته. وله صريح، وكناية. فصريحه عند ابن القاسم وأشهب وروايتهما عن مالك أن يذكر الظهر في ذات محرم. وكناياته عند ابن القاسم أن لا يذكر الظهر في ذات محرم أو يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن كناياته عند أشهب أن لا يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن صريحه عند ابن الماجشون أن لا يذكر الظهر في ذات محرم، وليس من كناياته عنده أن يذكر الظهر في غير ذات محرم، فلا كناية عنده للظهار. والفرق بين

فصل

الصريح من الظهار وكناياته فيما يوجبه الحكم أن كنايات الظهار إن ادعى أنه أراد به الطلاق صدق أتى مستفتيا أو حضرته البينة، وأن صريح الظهار لا يصدق إن ادعى أنه أراد به الطلاق إذا حضرته البينة، ويؤخذ من الطلاق بما أقر به ومن الظهار بما لفظ به، فلا يكون له إليها سبيل وإن تزوجها بعد زوج حتى يكفر كفارة الظهار. وقد قيل: إنه يكون ظهارا على كل حال ولا يكون طلاقا وإن نواه وأراده، وهي رواية أشهب عن مالك وأحد قولي ابن القاسم. فصل وكان الظهار في الجاهلية طلاقا وفي أول الإسلام إلى أن أنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2]. فأخبر تعالى أن لفظ الظهار الذي كانوا يطلقون به نساءهم منكر من القول وزور. والمنكر من القول هو الذي لا تعرف حقيقته، والزور الكذب، وإنما قال تعالى فيه: إنه كذب؛ لأنهم صيروا به نساءهم كأمهاتهم، وهن لا يصرن كأمهاتهم ولا كذوي محارمهم؛ لأن ذوي المحارم لا يحللن له أبدا، وليس كذلك الأجنبيات. فأخرجه الله عز وجل من باب الطلاق إلى باب الكفارة، ثم أعلمنا كيف يكون الحكم في ذلك فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4].

فصل

فصل ونزلت سورة قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى آخر باب الظهار في امرأة من الأنصار اختلف في اسمها، فقيل: خولة، وقيل: خويلة، وفي نسبها فقيل: إنها بنت ثعلبة، وقيل: بنت الصامت، وقيل: بنت الدليح، [وقيل: بنت خويلد]. فصل وكانت مجادلة هذه المرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها أوس بن الصامت مراجعتها إياه في أمره وما كان من قوله لها: أنت علي كظهر أمي ومحاورتها إياه في ذلك. وذلك أنها «أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعائشة تغسل شق رأسه فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، وأكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم قالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي ونفضت له بطني وظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حرمت عليه، فكلما قال لها ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هتفت وصاحت وقالت: إلى الله أشكو فاقتي، فنزل الوحي وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي. فلما قضى الوحي قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادعي لي زوجك، فتلا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ... إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتستطيع أن تعتق رقبة؟، فقال: لا. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات خشين أن يعشو بصري، قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟، قال: لا يا رسول الله، إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعم ستين مسكينا

فصل

وراجعها». والأحاديث في هذه القصة كثيرة، وفي بعضها «أن أوس بن الصامت لما ظاهر من امرأته قالت له: والله ما أراك إلا قد أثمت في شأني لبست جدتي وأفنيت شبابي وأكلت مالي، حتى إذا كبرت سني ورق عظمي واحتجت إليك فارقتني. قال: فما أكرهني بذلك اذهبي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانظري هل تجدين عنده شيئا في أمرك، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال لها: " ما أراك إلا قد بنت منه "، فقالت: إلى الله أشكو فاقتي إلى زوجي، فقالت عائشة: سبحان من وسع سمعه الأصوات، فإني لأرجل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ نزل الوحي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] الآيات إلى آخره، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة» إلى آخر الحديث. فصل فالظهار تحريم ترفعه الكفارة، وهو حرام. والدليل على تحريمه أن الله سماه منكرا من القول وزورا، والزور: الكذب، والكذب حرام بإجماع. ووصف نفسه في آخر الآية بالعفو والغفران، ولا يغفر ولا يعفو إلا عن المذنبين. والكفارة لا تجب بمجرد لفظ الظهار حتى تنضاف إليه العودة في قول جماعة العلماء، حاشا مجاهد؛ فإنه أوجب الكفارة عن المظاهر بمجرد الظهار، وليس ذلك بصحيح لقول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]. فصل وقد اختلفوا في العودة الموجبة على المظاهر الكفارة على ستة أقوال: أحدها: إرادة الوطء والإجماع عليه، وهو قول مالك في موطئه، أنه إذا أراد الوطء وأجمع عليه فقد وجبت عليه الكفارة وإن مات أو طلقها.

والثاني: أنه إرادة الوطء والإجماع عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة. فإن أجمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق فلم يستدمها أو انقطعت بموت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط عنه سائرها. وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء ولا أجمع عليه لم تجب عليه الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على الوطء ولا مجمع عليه. هذا قول مالك في المدونة، وعليه جماعة أصحابه، وهو أصح الأقاويل وأجراها على القياس وأتبعها لظاهر القرآن؛ لأنه إذا أراد الوطء وجب عليه تقديم الكفارة قبله؛ لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، ما لم تنقطع العصمة أو ترجع نيته عن إرادة الوطء إلا أن يطأها، فإن وطئ لزمته الكفارة وترتبت في ذمته ككفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها، إلا أن الحالف بالله مخير بين أن يقدم الكفارة قبل الحنث أو يحنث قبل الكفارة، والظهار لا يجوز أن يطأها قبل الكفارة لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]. والثالث: أن العودة الوطء نفسه. وقد روي هذا القول عن مالك، حكى الثلاثة الأقوال عنه عبد الوهاب. فعلى هذا القول: لا تجزئه الكفارة قبل الوطء، وإن أراد الوطء وأجمع عليه واستدام العصمة، وله أن يطأ قبل الكفارة مرة، فإذا وطئ وجبت عليه الكفارة إن أراد الوطء ثانية واستدام العصمة، فإن رجعت نيته عن الوطء وانقطعت العصمة بموت أو فراق سقطت عنه الكفارة ما لم يطأها ثانية. وقد حكى هذا القول أصبغ في العتبية عن أهل المشرق ومن يرتضى من أهل المدينة. والرابع: قول الشافعي ومن قال بقوله إن العودة استدامة العصمة وترك الفراق، وأنه متى ظاهر من زوجته ولم يطلقها طلاقا متصلا بالظهار فقد وجبت عليه الكفارة، وهو قول فاسد، يدل على فساده القرآن واللغة، على أن أصحابه يدعون له علم اللغة. لأن الله تبارك وتعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3]، وثم توجب التراخي عند جميع أهل اللغة، لا اختلاف بينهم أن الرجل إذا قال: لقيت زيدا ثم عمرا، أن المفهوم من قوله لقي عمرا بعد زيد بزمان. والعصمة لم تنفصل بالظهار، فكيف يصح أن يقال ثم يكون كذا لما لم يزل كائنا، هذا محال. وقوله: هذا خطأ أيضا

من وجه آخر؛ لأنه إنما أوجب عليه الكفارة بترك الطلاق، فيكون معنى قَوْله تَعَالَى على مذهبه: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3]، بمعنى ثم لم يطلقوا، وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] إيجاب، ولم يطلقوا نفي. ولو صح ذلك لكان الإيجاب نفيا والنفي إيجابا وهذا محال. وقوله خطأ أيضا من وجه ثالث، وهو أن قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] يوجب أن يحدث منهم شيء لم يكن قبل، والمظاهر لم يطلق في حال الظهار ولا قبله، فإذا ظاهر ثم لم يطلق بعد الظهار فهو كما كان قبل لم يحدث منه شيء بعد لا فعل ولا قول، فيستحيل معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] لأن العائد إنما يعود لشيء كان فارقه، والمظاهر لم يفارق زوجته بالظهار، وإنما فارق به المسيس، فهو المعنى المقصود بالعودة إليه والله أعلم. وقد احتج بعض أصحاب الشافعي له في أن العودة تركها زوجة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، فسمى تعالى بقاءهم في النار وإقرارهم فيها إعادة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يكونوا تحاملوا للخروج كاضطراب المجلود فتأخذه المقامع فترده إلى حالته الأولى. ولو صح بما احتج به أن يكون البقاء إعادة لما كان في ذلك حجة؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما أوجب الكفارة بالعودة لما كان ممنوعا منه بالظهار وهو الوطء. وأما العصمة فلم يكن ممنوعا منها بالظهار ولا منفصلا عنها. وروي عن ابن نافع أن الكفارة تصح مع استدامة العصمة وإن لم ينو المصاب ولا أراده، وهو شاذ خارج عن أقاويل العلماء لا وجه له إلا مراعاة قول من أوجب عليه الكفارة بمجرد استدامة العصمة، وهو وجه ضعيف. كيف تصح له الكفارة وينحل بها الظهار وهو لم يرد بها التحلل؛ إذ قد فعلها وهو لا يريد المصاب. والخامس: أن العودة أن يعود فيتكلم بالظهار مرة أخرى، وهو مذهب داود وأهل الظاهر، وروي مثله عن بكير بن الأشج، وهو قول فاسد بين الفساد لبعده من النظر وخلافه للآثار. وحديث المظاهر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رواه بكير بن

فصل

الأشج وغيره، وكلهم ذكر أنه ظاهر مرة واحدة فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة، فليس معنى قول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، أن يرجعوا إلى نفس القول بالظهار؛ لأن القول الأول لا يخلو من أن يكون أوجب الظهار أو لم يوجبه. فإن كان أوجبه فالثاني تأكيد له، وإن كان لم يوجبه فالثاني لا يوجبه أيضا لأنه مثله، وإنما معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يعودون في تحريم ما حرموه على أنفسهم من أزواجهم بتظاهرهم وهو الوطء فيتحللونه بإرادة الوطء والإجماع عليه. والسادس: ما ذهب إليه ابن قتيبة أن المعنى في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أنه العودة في الإسلام إلى نفس القول بالظهار الذي كانوا يظاهرون به في الجاهلية ويعدونه طلاقا. فصل وقد قيل: إن الآية فيها تقديم وتأخير، وتقديرها والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ثم يعودون لما قالوا. فصل واختلف في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فحمله أكثر أهل العلم على عمومه فقالوا: لا يقبل المظاهر ولا يباشر ولا يمس حتى يكفر، وهو مذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال الحسن وعطاء والزهري وقتادة: ليس على عمومه، والمراد به الوطء خاصة، فللمظاهر أن يقبل ويباشر ويطأ في غير الفرج، وإنما نهي عن الجماع. واختلف الذين حملوا الآية على عمومها في الوطء وما دونه إن قبل أو باشر في خلال الكفارة قبل أن يتمها، فقال أصبغ وسحنون: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال مطرف: يبتدئ الكفارة.

فصل

فصل والامتناع مما عدا الوطء على مذهب مطرف واجب، وعلى مذهب أصبغ وسحنون مستحب، وعلى مذهب الحسن ومن قال بقوله مباح. وأما الوطء فلا خلاف في وجوب الامتناع منه إلا على مذهب من يرى أن العودة الوطء فإنه أباح له الوطء مرة. وقد تقدم ذكر ذلك. فصل وأصل الظهار في ذوات المحارم، فإذا ظاهر بشيء من ذوات المحارم وهو مظاهر سمي [مظاهرا، سمى] الظهر أو لم يسمه، أراد بذلك الظهار أو لم تكن له نية. فإن أراد بذلك الطلاق ولم يرد به الظهار فقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه من كتاب الأيمان بالطلاق أنه يكون طلاقا بتاتا ولا ينوى في واحدة ولا اثنتين. وقال سحنون: ينوى فيما أراده من الطلاق، وهو الأظهر؛ لأنه لفظ بما ليس من ألفاظ الطلاق، فوجب أن يوقف الأمر على ما نوى بذلك. هذا نص قول ابن القاسم أنه إذا ظاهر بذات محرم وأراد بذلك الطلاق أنه طلاق سمى الظهر أو لم يسمه. ومساواته في هذا الوجه بين أن يسمي الظهار أو لا يسميه إنما يصح على مذهبه فيما بينه وبين الله تعالى إذا أتى مستفتيا. وأما إذا حضرته البينة وطولب بحكم الظهار فإن كان قد سمى الظهر حكم عليه بالظهار؛ لأن البينة قد حضرته بالإفصاح به، ولم يصدق في طرح الكفارة عن نفسه وقضي عليه بالطلاق لإقراره أنه نواه وأراده، وكان من حق المرأة إن تزوجها بعد زوج أن تمنعه نفسها حتى يكفر كفارة الظهار. وإن كان لم يسم الظهر لم يحكم عليه بالظهار وصدق أنه لم يرد الظهار إذا لم يصرح به. وهذا أصل من أصولهم أن من ادعى نية مخالفة لظاهر لفظه لا يصدق فيها. وقول ابن الماجشون: أنه يكون ظهارا، ولا يكون طلاقا وإن نواه وأراده. وحجته أن الذي ظاهر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل الله فيه

فصل

الكفارة قد أراد الطلاق على ما كانوا يعرفونه في الجاهلية فلم يكن ذلك طلاقا، فألزمه ابن الماجشون الظهار بمجرد اللفظ دون النية وإن أتى مستفتيا فيما بينه وبين الله. ويلزمه مثل ذلك في الطلاق، وهو قول مالك في المدونة فيمن قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق. والاختلاف في هذا قائم من المدونة. ولم يلزمه ابن الماجشون الطلاق وهو قد أراده بلفظ أنت علي كظهر أمي؛ إذ ليس هو من ألفاظ الطلاق؛ لأن الله قد أخرجه عن أن يكون من ألفاظه. فمن لفظ على مذهبه بحرف ليس من حروف الطلاق وأراد به الطلاق لم يلزمه طلاق، وهو قول مطرف في الثمانية وروايته عن مالك. وقال أشهب: إلا يلزمه الطلاق إلا أن يريد أنها طالق إذا فرغت من اللفظ، لا طالق بنفس اللفظ، وهو قول لا وجه له. وروى أشهب، عن مالك أنه يكون طلاقا إن لم يسم الظهر وظهارا إن سماه. وهذا الاختلاف كله إن نوى الطلاق. وأما إن لم تكن له نية أو نوى الظهار فهو ظهار سمى الظهر أو لم يسمه. وقد فسر بعض الشيوخ ما في المدونة برواية أشهب عن مالك، وحكى أبو إسحاق التونسي أنه مذهب ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والصواب أن تفسير ما في المدونة برواية عيسى عن ابن القاسم، وعلى رواية أشهب عول أبو بكر الأبهري فقال: إن صريح الظهار ظهار وإن نوى به الطلاق، كما أن صريح الطلاق طلاق وإن نوى به الظهار. وهذا لا يصح على مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه، بل يخالف في الطرفين فيقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت بذلك الظهار يلزمه الظهار بما أقر من نيته والطلاق بما أظهر من لفظه، وقد بينا مذهبه في الظهار. فصل وأما الظهار بالأجنبية فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهار أو لم يسمه، أراد بذلك الظهار أو لم يرده، وتكون امرأته بتظاهره منها بالأجنبية طالقا إلا أن يريد بقوله مثل فلانة في هوانها عليه ونحو هذا. فينوى في ذلك ولا يلزمه شيء. وقد رأيت لبعض

فصل

الشيوخ أنه قال: معنى قول ابن الماجشون إنه لا يكون مظاهرا بالأجنبية إذا لم تكن له نية وأراد الطلاق. وأما إن قال: أردت بذلك الظهار فإن الظهار يلزمه إن تزوجها بعد زوج يؤخذ بالطلاق بقوله وبالظهار بنيته. والصحيح من مذهبه أن الظهار لا يلزمه بالأجنبية وإن نواه وأراده، كما لا يلزمه الطلاق بذوات المحارم وإن نواه وأراده؛ إذ لا فرق بين الموضعين. والثاني رواية أبي زيد عن أشهب أنه يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهر أو لم يسمه. والثالث قول ابن القاسم في المدونة: أنه إن سمى الظهر فهو مظاهر إلا أن يريد بذلك الطلاق، وإن لم يسمه فهو طلاق، ولا يصدق أنه أراد الظهار بذلك إلا إن أتى مستفتيا. فإن لم يأت مستفتيا وحضرته البينة ألزم الطلاق بما شهد به عليه من لفظه، والظهار بما أقر به على نفسه من نيته، وإن تزوجها بعد زوج لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، وهو الذي يأتي على مذهبه ولا أعرف في ذلك نصا. فصل والظهار ينقسم على قسمين: ظهار مطلق غير مقيد، وظهار مقيد كالطلاق سواء. فأما الظهار المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وأما الظهار المقيد فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام كلها. فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في الظهار يمين بالظهار، [وما لم يكن في الطلاق يمينا بالطلاق فلا يكون في الظهار يمينا بالظهار]، وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه [وجب تعجيل الظهار فيه] ولم يكن له الوطء إلا بعد الكفارة. وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل الظهار. وما دخل فيه على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالظهار الإيلاء أيضا. فتدبر ذلك وقس عليه إن شاء الله.

فصل

فصل وقد قلنا: إن الظهار تحريم ترفعه الكفارة، فإذا وجب بإطلاقه أو بحصول الصفة التي قيده بها فلا يسقطه زوال العصمة ويعود عليه بعد الطلاق ثلاثا إن تزوجها، بخلاف ما إذا طلقها قبل حصول الصفة التي علق الظهار بها، فهذا إن كان الطلاق ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج سقط عنه الظهار، وإن كان الطلاق أقل من ثلاث - واحدة أو اثنتين - رجع عليه الظهار ووقع عليه بحصول الصفة. وما لم يتزوجها في الوجهين جميعا بعد الطلاق فلا شيء عليه إلا أن يكون قد وطئ بعد وجوب الظهار عليه فتكون الكفارة قد لزمته وترتبت في ذمته. فصل والظهار يكون من كل من يحل وطؤها بنكاح أو بملك يمين وإن كان الوطء ممتنعا في الحال لعارض لا يؤثر في صفحة الملك أو النكاح مثل الحيض والنفاس والصغر والصوم والاعتكاف؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] فعم جميع النساء التي يحللن له بالملك والنكاح؛ لأن أمة الرجل من نسائه التي أحل الله له وطأها. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30]، وأجمع أهل العلم أن من وطئ أمة حرمت عليه أمها وابنتها لقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]. فصل فإن كان الوطء ممتنعا على كل حال كالرتقاء والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الجماع أو العنين أو الخصي المقطوع الذكر ففي لزوم الظهار في ذلك اختلاف. فمن ذهب إلى أن الظهار يتعلق بالوطء وما دونه ألزمه الظهار، ومن ذهب

فصل

إلى أنه إنما يتعلق بالوطء خاصة دون ما دونه من دواعيه لم يلزمه الظهار. هذا على اختلافهم في تأويل قول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] هل هو محمول على عمومه في الوطء وما دونه أو مخصص في الوطء خاصة دون ما دونه. وقد تقدم ذكر ذلك. وقد أجرى اللخمي قول الرجل لامرأته قبلتك أو ملامستك علي كظهر أمي على هذا الاختلاف، فانظر في ذلك. وأما إن امتنع الوطء لعارض يؤثر في صحة الملك كالكتابة أو عقد العتق إلى أجل، أو في صحة النكاح كالشروط التي تفسد النكاح ويجب فسخه بها لم يلزمه الظهار فيها بقوله هي علي كظهر أمي إلا أن يريد في المملوكة نكاحا فاسدا أو المعتقة إلى أجل إن تزوجها، أو في المكاتبة إن عجزت أو تزوجها. فصل وقد اختلف من هذا المعنى في مسألة وهي إذا أسلم المجوسي وله زوجة مجوسية فظاهر منها ثم أسلمت بالقرب، فقال ابن القاسم: إن الظهار يلزمه؛ لأنها لما أسلمت بالقرب وبقيت معه على العصمة دل ذلك على أن ظهاره منها وقع في حال العصمة، إلا أنه كان ممنوعا منها لعارض لم يؤثر في صحة النكاح، فأشبه الحيض والاعتكاف. وقال أشهب: إن الظهار لا يلزمه، قال ابن يونس: لأنها كانت حينئذ غير زوجة. وذلك غير صحيح؛ لأنها لو كانت غير زوجة لم ترجع إليه إلا بنكاح جديد، بل هي في ذلك الوقت زوجة إلا أن لها أن تختار فراقه باختيار دينها وثبوتها عليه، فليس كون الفراق بيدها مما يمنع وقوع الظهار عليها. ألا ترى أن الرجل لو قال لامرأته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك ثلاثا فتزوج عليها ثم ظاهر منها أن الظهار يلزمه. فصل وانظر على مذهب ابن القاسم إن ظاهر منها بفور إسلامه في حين لو أسلمت لبقيت معه على النكاح فعرض عليها الإسلام فأبت فوقعت الفرقة بينهما ثم أسلمت فتزوجها هل يرجع عليها الظهار أم لا؟ فإن قلت إن إسلامه لا يقطع العصمة إلا أن

فصل

يطول الأمد أو توقف فتأبى الإسلام، وهو الظاهر من قول ابن القاسم، وقع عليها الظهار ولم يقربها إن تزوجها بعد الإسلام حتى يكفر، وإن قلت إن حالها في ذلك الوقت مترقب لا يقال: إنها زوجة ولا إنها غير زوجة لم يقع عليها الظهار. وأما أن يقال: إنها بإسلام الزوج غير زوجة على ما علل به ابن يونس قول أشهب فلا يصح لما قدمناه. فصل وقد رأيت لبعض القرويين أن الرجل إذا ظاهر من مكاتبته فعجزت أن الظهار يلزمه قياسا على هذه المسألة. وقاله أيضا فيمن ظاهر من معتقته إلى أجل أو من أمة له فيها شرك فتزوجها بعد عتقها، وهو غلط بين؛ لأن المكاتبة والمعتقة إلى أجل والتي له فيها شرك لسن من نسائه؛ إذ ليس هن من ملك يمينه ولا أزواجه، والله يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3]. فصل والظهار ليس بطلاق إلا أنه يضارع الطلاق في بعض الوجوه واليمين بالله على ترك الوطء في بعض الوجوه. فيضارع الطلاق في أنه يقع بيمين وبغير يمين، وفي أن الاستثناء فيه بمشيئة الله غير عامل إلا أن يكون بيمين ويرد الاستثناء إلى الفعل على أحد القولين. ويضارع اليمين بالله على ترك الوطء في سقوطه بالكفارة قبل الوطء، وفي لزوم الكفارة بالحنث بالوطء. وإن كان. ذلك ممنوعا في الظهار على الصحيح من الأقوال، بخلاف اليمين بالله على ترك الوطء؛ إذ لا اختلاف أن الحنث في اليمين بالله تعالى مباح قبل الكفارة، وإنما اختلفوا في جواز الكفارة قبل الحنث.

فصل

فصل فإذا وجب عليه الظهار بقول أو فعل لم يسقطه عنه زوال العصمة بانقطاع جميع الملك، ويرجع عليه إن تزوجها بعد زوج بلا خلاف. وأما إن طلقها ثلاثا بعد يمينه بالظهار وقبل الحنث ثم تزوجها بعد زوج فلا يعود عليه الظهار. فصل واختلف إذا ظاهر من زوجته وهي أمة بيمين ثم اشتراها قبل أن يحنث باليمين هل تعود عليه اليمين أم لا؟ فذهب بعض الشيوخ إلى أن اليمين لا تعود عليه؛ لأنه ملك يمين لا ملك عصمة، فهو غير الملك الأول كملك العصمة بعد الطلاق ثلاثا. قال: إلا أن يبيعها ثم يتزوجها فإنه تعود عليه اليمين؛ لأنه بقي له فيها طلقتان، واليمين تعود عليه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء. وذهب بعضهم إلى أن اليمين بالظهار تعود إليه إذا اشتراها كما لو طلقها واحدة وقد كان ظاهر منها بيمين أنها تعود عليه إن تزوجها. والذي أقول به أنه إن ورث جميعها أو اشترى جميعا في صفقة واحدة فاليمين باقية عليه لا تسقط عنه؛ إذ لم تحرم عليه بخروجها من عصمة النكاح إلى ملك اليمين، ولا أقول: إنها تعود عليه؛ إذ لا يكون العود إلا بعد المفارقة. وأما إذا ورث بعضها أو اشترى بعضها فحرمت عليه بذلك ثم اشترى بقيتها فحلت له بالملك فاليمين لا تعود عليه؛ لأن ملك اليمين غير ملك العصمة، وملك اليمين من ملك العصمة أبعد من ملك العصمة الثانية من ملك العصمة الأولى. فصل وأما من ظاهر من أمته بيمين ثم باعها ثم اشتراها فإن اليمين ترجع عليه على مذهب ابن القاسم؛ لأنه يتهم في إسقاط اليمين عن نفسه، وإن بيعت عليه في الدين أو اشتراها ممن بيعت عليه في الدين، وإنما لا تعود عليه اليمين إذا رجعت إليه بميراث بمنزلة. من حلف بجزية عبده ألا يفعل فعلا فباعه ثم اشتراه. والاختلاف الذي في تلك يدخل في هذه.

فصل

فصل فإن وطئ المظاهر بعد وجوب الظهار عليه بقول أو فعل أدب جاهلا كان أو عالما وترتبت الكفارة في ذمته ولم يسقطها عنه موت ولا فراق على مذهب من رأى العودة الإجماع على الوطء مع استدامة العصمة. وهو المشهور في المذهب وأما على مذهب من رأى أن العودة الوطء نفسه فلا تجب عليه الكفارة بأول وطء، وله أن يطأ مرة فإذا وطئ لم يكن له أن يطأ مرة ثانية حتى يكفر. وقد روي هذا القول عن مالك. وقد ذكر أصبغ في العتبية أنه قول أهل المشرق وبعض من يرتضى من أهل المدينة. وروي عن مجاهد أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في الكفارة لزمته كفارة أخرى؛ إذ من مذهبه أن المظاهر تلزمه الكفارة بمجرد لفظ الظهار، وإن ماتت المرأة أو طلقها. فانظر هل يقال مثل هذا على ما روي عن مالك أن الكفارة تلزم المظاهر بمجرد الإجماع على الوطء. وقد روي عن غير مجاهد أن المظاهر إذا وطئ قبل الكفارة سقطت عنه الكفارة؛ لأنه قد فات موضعها لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، فيأتي فيمن وطئ قبل الكفارة أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليه شيء وتسقط الكفارة، والثاني: أن الكفارة لا تجب عليه إلا مع إرادة العودة واستدامة العصمة، والثالث: أن الكفارة تجب عليه وتترتب في ذمته أراد العودة أو لم يردها وإن ماتت أو طلقها. والرابع: أنه تجب عليه كفارتان، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الإيلاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب الإيلاء فصل في معرفة اشتقاق اسم الإيلاء الإيلاء والتألي هو الامتناع من فعل الشيء أو تركه باليمين على ذلك، يقال من ذلك آلى يولي إيلاء وآلية وتألى تأليا وائتلاء وائتلى يأتلي ائتلاء. قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أنزل عذر عائشة وبراءتها مما كانت قذفت به حلف أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان ابن خالته، وعلى غيره من قرابته لما كانوا خاضوا فيه وتكلموا به في ابنته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فأنزل هذه الآية، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما نزلت: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إليهم النفقة وقال لا أقطعها عنهم أبدا. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التألي: «تألى أن لا يفعل خيرا» في الذي حلف أن لا يضع عن صاحبه ولا يقيله في تمر كان باعه منه فوضع فيه. قال الشاعر في الإيلاء: فآليت لا آتيك إن كنت مجرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا

فصل

فهذا هو الإيلاء في اللغة. وهو في الشرع على ما هو عليه في اللغة إلا أنه قد تعرف في الشرع في الحلف على اعتزال الزوجات وترك جماعهن حيث ذكره الله في كتابه ونص على الحكم فيه. وأصل ذلك أن الرجل كان في الجاهلية إذا كره المرأة وأراد تقييدها أن لا تنكح زوجا غيره حلف عليها أن لا يقربها فيتركها لا أيما ولا ذات بعل إضرارا بها، وفعل ذلك في أول الإسلام، فحد الله للمولي من امرأته حدا لا يتجاوزه، وخيره بين أن يفيء فيرجع إلى وطء امرأته أو يعزم على طلاقها فقال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]. فصل معنى الكلام للذين يحلفون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر. والتربص التوقف والتنظر. وترك ذكر أن يعتزلوا في التلاوة اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. ومثل هذا في القرآن كثير، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] معناه فأفطر فعدة من أيام أخر. وقوله: " فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فانفلق " معناه فضرب فانفلق. ومن ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ لأن المعنى في ذلك لكان هذا القرآن أو لما آمنوا به، فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وذلك أن «الكفار قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: باعد لنا بين جبال مكة حتى نجعل بينها بساتين أو قرب لنا الشام فإن متجرنا إليها، أو أحي لنا فلانا وفلانا حتى نسألهم إن كان ما تقول حقا، فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]» فحذف الجواب لدلالة

فصل

الكلام عليه. وقد قيل: إن الجواب مقدم، وهو قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرعد: 31]، الآية. والأول أولى أن الجواب محذوف على عادة العرب في حذف ما يستغنى عنه من الكلام إيجازا واختصارا. وقال الفراء: معنى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]: على نسائهم. وكذا في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30] أن معنى ذلك من أزواجهم، فأقام " على " مقام " من " في الموضع الواحد، و" من " مقام " على " في الموضع الآخر. وما قدمته، أولى من أن المعنى في الآية إضمار أن يعتزلوا لدلالة الكلام عليه مع ورود الآية على سبب يقتضيه وهو ما كانوا يفعلونه من الحلف على اعتزال نسائهم إضرارا بهن. فصل والفيء الرجوع. يقال: فاء فلان يفيء فيئا وفيئة مثل الجيئة، وفاء الظل يفيء فيأ وفيوءا. وقيل في الأول فيوءا. فمعنى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي: فإن رجعوا إلى ما كانوا حلفوا عليه ألا يفعلوه من وطء نسائهم ففعلوه. فصل واختلف في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] هل المراد بذلك في الأربعة الأشهر أو بعدها. وعلى هذين التأويلين يأتي الاختلاف الواقع بين أهل العلم في حكم المولي بعد انقضاء الأجل، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور عنه وجميع أصحابه إلى أنه يقع عليه طلاق وإن مرت له سنة حتى يوقف، فإما فاء وإما طلق. [ويروى هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة، وأبي الدرداء]. قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس

فصل

عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف؛ فإما فاء وإما طلق. وهو مذهب أهل المدينة وقول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ لأن المعنى عندهم في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي بعد الأربعة الأشهر، وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك والمشهور عنه ما قدمناه من أن الأربعة الأشهر توسعة وأن الإيقاف بعدها. وروي عنه أن الفيء في الأربعة الأشهر توسعة فإذا انقضت طلق عليه ولم يؤمر بالفيئة بعدها، وهو قول ابن شبرمة. وروي مثله عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول وابن شهاب، حكى الروايتين عن مالك ابن خويز منداد في كتاب أحكام القرآن له. وروى أشهب عن مالك في العتبية أنه إذا وقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر فقال أنا أفيء أمهل حتى تنقضي عدتها، فإن لم يفعل بانت منه بانقضاء عدتها، وهي قولة بين القولين على طريق الاستحسان غير جارية على قياس. فصل فإن وقف على المشهور عنه فلم يفئ ولا طلق؛ طلق عليه الإمام طلقة يملك فيها الرجعة. وقال غير هؤلاء يحبس حتى يفيء أو يطلق. وقال أهل العراق: يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء طلقة بائنة، وهو قول ابن مسعود من الصحابة وزيد بن ثابت. وروي مثله عن عثمان وعلي، فجعل هؤلاء قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] على أن المراد بذلك قبل تمام الأربعة الأشهر. فصل وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] معناه على قولهم غفور لهم فيما اجترموا من الحلف على ترك وطء نسائهم وتحنيث أنفسهم بالفيء إلى ذلك، رحيم بهم وبغيرهم من عباده المسلمين. وقيل: إنما معنى غفور فيما بعد الأربعة الأشهر؛ لأن الله تعالى قد أباح للمولي التربص أربعة أشهر، والغفران إنما يكون فيما هو محظور لم تتقدم فيه إباحة. وهذا التأويل يشد مشهور قول مالك ومن تابعه عليه في أن

فصل

المولي لا يقع عليه طلاق ما لم يوقف وإن مكث سنة أو أكثر. وقيل: إن الفيء يسقط عنه الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، وهو مذهب الحسن والنخعي وغيرهما ممن يرى أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حرج فلا كفارة عليه في حنثه، وأن كفارتها الحنث فيها. والذي عليه جمهور الفقهاء وعامة العلماء إيجاب الكفارة على من حنث في يمينه برا كان الحنث فيها أو غير بر. فصل وقوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] عزيمة الطلاق على مذهب مالك ومن قال بقوله إيقاعه، كما أن عزيمة النكاح في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] إيقاع عقده. والدليل على ذلك أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]، وسميع لا يكون إلا في النطق؛ لأن الكلام هو الذي يسمع. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، وأما انقضاء أجل الإيلاء فليس بمسموع إنما هو معلوم، فلو كان عزم الطلاق في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] هو وقوعه بانقضاء أجل الإيلاء كما قال أهل العراق لما كانت الآية مختومة بذكر إخبار الله عن نفسه أنه سميع عليم، كما لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعة الله في مراجعة وطء زوجته بذكر الخبر عن الله أنه شديد العقاب؛ إذ لم يكن موضع وعيد على معصية، وإنما كان موضع وعد منه بالرحمة والغفران لمنيب أناب إلى طاعته، فذلك ختم الآية التي فيها القول بصفة نفسه أنه سميع عليم؛ لأنه للكلام سميع وبالفعل عليم، فقال تعالى وإن عزم المولون على طلاق من آلوا منهن فإن الله سميع لطلاقهم إياهن عليم بما آتوا إليهن مما يحل لهم ويحرم عليهم.

فصل

فصل والإيلاء يكون بثلاثة أشياء: أحدها اليمين على ترك الوطء، والثاني ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، والثالث اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث. فصل فأما اليمين على ترك الوطء فإنه ينقسم على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحلف على ذلك بالله أو بما كان في معنى اليمين بالله مما يوجبه على نفسه إن وطئ كالصلاة والصدقة وما أشبه ذلك مما فيه قربة، أو طلاق غير المولى منها أو عتق بعينه أو بغير عينه. والثاني: أن يحلف على ذلك بطلاق المولى منها. والثالث: أن يحلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم ولا يلزمه بمجرده شيء. فأما إذا حلف على ذلك باليمين بالله أو بما كان في معناه مما ذكرناه فإنه على وجهين: أحدهما: أن يقول: والله لا أطأ امرأتي [أو علي صدقة أو مشي أو ما أشبه ذلك إن وطئتها أبدا أو إلى كذا وكذا مما هو أكثر من أربعة أشهر]. والثاني: أن يقول: والله لا أطأها حتى أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول فإنه مول من يوم حلف ويوقف إذا حل الأجل؛ فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه. وأما الوجه الثاني فإنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك الفعل الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله مما يمكنه فعله. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله ليمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه. فأما إذا كان مما يمكنه فعله فإن كان مما لا مؤنه فيه فليس بمول إلا أنه لا يترك، ويقال له طأ امرأتك إن كنت صادقا أنك لست بمول. وإن كان إنما يتكلف فيه مؤنة فإنه مول أيضا من يوم حلف ويوقف، فإذا حل الأجل ويخير بين أن يفيء بالوطء أو يبر بفعل الشيء الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله، فإن أبى من ذلك طلق عليه وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله لمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه فإنه

فصل

يوقف إذا حل الأجل، فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه، ولم يمكن من البر بما لا يبيحه له الشرع من قتل أو شرب خمر وما أشبه ذلك. فصل وأما إذا حلف على ذلك بطلاق المولى منها فلا يخلو من أن يكون الطلاق ثلاثا أو ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين. فإن كان ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين وقف إذا حل الأجل وقيل له: فئ على أن تنوي في مصابك الرجعة وإن لم تكن مدخولا بها؛ لأنها تصير مدخولا بها بالتقاء الختانين فيخرج من الاختلاف هذا الوجه، فإن أبى من ذلك طلق عليه بالإيلاء فإن ارتجع في المدخول بها وصدق رجعته بوطء ينوي بباقية الرجعة صحت رجعته وبقيت عنده على طلقتين، وإن لم يرتجع حتى انقضت العدة فتزوجها رجع عليه الإيلاء من يوم تزوجها ما لم تنقض الثلاث بثلاث تطليقات. وإن كان الطلاق ثلاثا ففي ذلك اختلاف كثير، تحصيله أن في ذلك قولين: أحدهما: أنه مول والثاني: أنه ليس بمول. فإذا قلت: إنه مول فلا يطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء. واختلف على هذا القول في حكمه إذا حل الأجل على أربعة أقوال: أنه يطلق عليه ولا يمكن من الفيء؛ لأنها تبين منه بالتقاء الختانين فيصير النزع حراما، وهو مذهب ابن الماجشون على أصله فيمن طلع عليه الفجر في رمضان وهو يطأ امرأته أنه يقضي ذلك اليوم؛ لأن إخراج الفرج من الفرج وطء. والثاني: أنها لا تطلق عليه إلا أن يأتي الفيء، فإن لم يأباه وأراد الفيء مكن من التقاء الختانين لا أكثر، روي هذا القول عن مالك، ويكون النزع على مذهبه هذا واجبا وليس بحرام، كما لو طلق امرأته ثلاثا في تلك الحال. والثالث: أنه يمكن من جميع لذته حتى يفترأ وينزل، ولا ينزل فيها مخافة أن يكون الولد ولد زنا، وهو قول أصبغ. والرابع: أنه يمكن من الفيء بوطء كامل ولا يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية وظاهر قوله في المدونة، وما يوجد له من خلاف ذلك فقد قيل: إنه من إصلاح سحنون. وإذا قلت: إنه غير مول ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق من يوم حلف وهو

فصل

قول مطرف. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه حتى ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه. فصل وأما إذا حلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم فاختلف هل يكون به موليا أم لا؟ على قولين قائمين في المدونة: أحدهما: أنه لا يكون موليا، والثاني: أنه يكون به موليا. وذلك مثل أن يقول: إن وطئت امرأتي فكل عبد اشتريته من الفسطاط فهو حر، ووالله لا أطأ امرأتي في هذه السنة إلا يوما واحدا أو مرة واحدة، والله لا أطأ إحدى امرأتي ولا نية له. ومن ذلك أيضا أن يقول: إن وطئت امرأتي فهي علي كظهر أمي أو إن وطئتها فوالله لا أطأها على مذهب من يقول في الحالف بالطلاق ثلاثا إن لا يطأ أنه يمكن من الوطء. وأما على مذهب من يرى أنه لا يمكن من الوطء أصلا فتطلق عليه إذا انقضى أجل الإيلاء وإذا قامت به امرأته على الاختلاف الذي ذكرناه فهو مول على كل حال. وأما على مذهب من يرى أنه يمكن من التقاء الختانين لا أكثر فيتخرج ذلك على الاختلاف فيمن حلف أن يعزل عن امرأته هل يكون موليا أم لا فهذا الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. فصل ولا يكون الحالف بترك الوطء موليا إلا بشرط أن يكون حلفه في حال الغضب إرادة الضرر، فإن لم يكن على وجه الضرر وكانت يمينه على وجه الإصلاح كالذي يحلف أن لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها أو حتى يبرأ من مرضه وما أشبه ذلك لم يكن موليا عند مالك وأصحابه. وقال ذلك علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومن تبعهما إلى أنه مول بكل حال، وحجتهم عموم قول الله عز وجل في الآية وأنه لم يخص فيها غاضبا من راض ولا محسنا من مسيء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يكون موليا إلا من حلف بالله تعالى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يرى أن الأيمان كلها بغير الله غير لازمة؛ لقول

فصل

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهو بعيد. والثاني قلنا فيه: إنه ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، وهو المظاهر يترك الكفارة ضررا؛ لأن الوطء يوجب عليه كفارة الظهار ولم تكن واجبة قبل، كما يوجب الوطء الكفارة، على من حلف أن لا يطأ ولم تكن واجبة قبل. والثالث قلنا فيه: إنه اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث، وهو أن يقول الرجل: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أدخل الدار وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال ويمكنه في وقت آخر، وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول السنة حيث لا يجد سبيلا إلى الحج. والثالث: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله، لعدم الإمكان، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء أو إن لم أشرب الخمر أو ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك. فصل فأما الوجه الأول فيمنع فيه من الوطء من وقت اليمين. فإن طالبته امرأته بذلك ضرب له أجل الإيلاء ووقف عند تمامه فإما فاء بفعل ذلك وإما طلق عليه وليس له أن يفيء بالوطء؛ لأنه ممنوع منه لكونه على حنث، فإن اجترأ ووطئ سقط ما مضى من أجل الإيلاء واستؤنف ضربه مرة أخرى إن قامت بذلك المرأة وطلبته. فإن فاء بفعل ذلك الفعل سقط عنه الإيلاء ولم يلزمه الطلاق، وإن طلق لم تلزمه طلقة أخرى بفوات ذلك الفعل المحلوف عليه إن كان مما يفوت في حياته على مذهب ابن القاسم، خلافا لابن المواز في قوله: إنه يقع عليه طلقة أخرى بفوات الفعل؛ لأن فواته كانقضاء الأجل. فإن أبى من ذلك طلق عليه الإمام بالإيلاء. وإن طلق عليه الإمام به فارتجع لم تصح رجعته إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل قبل

فصل

انقضاء العدة، بخلاف ما إذا طلق هو دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء [لأنه إذا طلق فقد حنث نفسه وانحلت عنه اليمين. وإذا طلق الإمام عليه بالإيلاء فاليمين باقية عليه] فإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه؛ لأنه ممنوع من الوطء لكونه على حنث، ويضرب له أجل الإيلاء ثانية ويوقف عند تمامه، فإما فاء بفعل ذلك الفعل وإما طلق، فإن طلق انحلت عنه اليمين، وإن لم يفعل طلق عليه الإمام ثانية بالإيلاء وبقيت عليه اليمين، فإن ارتجع لم تصح رجعته أيضا إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل، وإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه فإن وقفته ضرب له أجل الإيلاء فإذا انقضى وقف أيضا فإن أبى أن يفيء أو يطلق طلق عليه الإمام بالإيلاء ثالثة وانحلت يمينه فلم تعد عليه لانقضاء ذلك الملك. فهذا حكم هذا الوجه إلا في مسألتين: إحداهما أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. أو الثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطأها، وقد ذكرت الحكم فيها في كتاب الأيمان بالطلاق. فصل وأما الوجه الثاني ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء من يوم حلف، وإن كان الفعل غير ممكن له في الحال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة ورواية عيسى عنه في العتبية أنه يقال له أحرم واخرج وإن كان ذلك في المحرم قال غير ابن القاسم في المدونة إذا تبين ضرره بها، ولابن القاسم في مراعاة الضرر مثله في الظهار. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه الفعل بمجيء إبان الخروج إلى الحج. والثالث: أنه لا يمنع منه حتى يخشى فواته. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوته جملة. فإن طالبته امرأته بالوطء إذا يمنع منه على مذهب من يرى المنع منه في ذلك الموضع ضرب له أجل الإيلاء، فإن ضرب له على القول الأول حين حلف، أو على القول الثاني حينه أمكنه الخروج فخرج فأدرك الحج قبل انقضاء أجل الإيلاء فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء

فصل

عند انقضاء أجله. وإن انقضى أجل الإيلاء قبل وقت الحج لم تطلق عليه حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الثالث حين خشي الفوات فخرج فأدرك الحج بإسراع السير بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يدرك الحج طلق عليه بالإيلاء إن كان قد انقضى أجله أو عند انقضائه إن كان لم ينقض بعد. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الرابع بعد فوات الحج فخرج من العام المقبل لم يطلق عليه بانقضاء أجل الإيلاء حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج [فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن أتى وقت الحج فلم يحج طلق عليه بالإيلاء. وإن لم يخرج حتى انقضى أجل الإيلاء] طلق عليه به. وإن لم تطالبه المرأة باليمين وترك هو الحج في ذلك العام ثم قامت عليه في العام الثاني استؤنف لها الحكم فيه كالعام الأول، وجرى ذلك على الاختلاف المذكور فيه، يتمادى في القول الأول على الامتناع من الوطء ويضرب له أجل المولي. وإن قامت قبل أن يمكنه الخروج ويرجع في القول الثاني إلى الوطء حتى يمكنه الخروج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء، وهو قول أشهب، ويرجع في القول الثالث إلى الوطء حتى يخشى فوات الحج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء. وقد روي عن ابن القاسم أنه إذا لم يحج ذلك العام حنث ووقع عليه الطلاق. ووجه هذا القول أنه حمل يمينه على أن يحج في ذلك العام. فعلى هذا القول: لا يدخل عليه الإيلاء؛ لأنه أجل مؤقت يحنث بمضيه فله أن يطأ؛ لأنه على بر. وقد قيل ليس له أن يطأ ويدخل عليه الإيلاء على هذا القول ويطلق عليه به إن انقضى قبل أن يفوته الحج. فصل وأما الوجه الثالث فيعجل عليه فيه الطلاق ولا يضرب له فيه أجل الإيلاء؛ لأن الفيء لا يقدر عليه فيما لا يمكنه فعله ولا يمكن منه فيما لا يجوز له مما يمنعه الشرع منه، غير أنه إن بادر وفعل بر في يمينه وسقط عنه الطلاق وباء بالإثم.

فصل

فصل ويختلف ما يكون المولي به فائيا باختلاف أيمانه، فما كان منها لا يقدر على إسقاطه عن نفسه قبل الحنث لم يكن له أن يفيء فيه إلا بالجماع، وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه قبل الحنث ظاهرا وباطنا قبلت منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه [وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه في الظاهر ولا يعلم حقيقة ذلك في الباطن إلا من قبله فيختلف هل يقبل منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه] في الظاهر على قولين. فإن كان للمولي عذر يمنعه من الجماع من مرض أو سفر أو حيض أو دم نفاس أو ما أشبه ذلك لم تخل يمينه من الثلاثة الأوجه المذكورة: أحدها: أن يكون مما لا يقدر على إسقاطه قبل الحنث، مثل أن تكون يمينه بعتق غير معين أو صدقة شيء بغير عينه أو ما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون مما يقدر على إسقاطه قبل الحنث ظاهرا فيعلم بذلك أن اليمين قد انحلت عنه بفعل ما حلف به، وذلك مثل أن يحلف بعتق عبد بعينه أن لا يطأ امرأته أو بطلاق امرأة له أخرى ثلاثا وما أشبه ذلك. والثالث: أن يقدر على إسقاط اليمين عن نفسه في الباطن من غير أن يعلم ذلك في الظاهر إلا من قبله، وذلك مثل أن تكون يمينه بالله تعالى أو ما تكون كفارته كفارة يمين بالله تعالى. فإذا كانت يمينه لا يقدر على إسقاطها عن نفسه قبل الحنث كحلفه بعتق غير معين أو ما أشبه ذلك من صدقة أو مشي أو صيام أو ما أشبه ذلك، فالفيئة له بالقول إلى أن يزول العذر فيوقف، فإما أن يفيء وإما أن يطلق؛ إذ لا تسقط عنه اليمين ولا ينحل عنه الإيلاء يما يعتق ويتصدق به قبل الوطء إذا لم يكن ذلك بعينه. هذا هو المشهور الذي يوجبه النظر والقياس. وقد روي عن مالك فيمن آلى بعتق غير معين فأعتق لذلك رقبة قبل الحنث أنه يجزئه وقع ذلك في كتاب الظهار من المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو بعيد. وأما إن كانت يمينه بعتق عبد بعينه أو صدقة شيء بعينه أو ما أشبه ذلك من المعينات فلا يقبل منه فيئة بالقول دون أن يعتق العبد الذي حلف بعتقه أو يتصدق

فصل

بالشيء الذي حلف بالصدقة به؛ لأنه إذا أعتق ذلك العبد وتصدق بذلك الشيء سقطت عنه اليمين وانحل عنه الإيلاء، ولأن فيئته التي يسألنا أن ننظره إليها توجب عليه ذلك. هذا قول أصحابنا كلهم حاشا ابن الماجشون فإنه يرى الفيئة بالقول إذا كان له عذر يمنعه من الوطء وإن كانت اليمين مما يقدر على إسقاطها، وإنما نقول بقولهم: إن الفيئة لا تكون إلا بإسقاط اليمين إذا طلق عليه بالإيلاء فارتجع، ولا يرى السفر عذرا. وأما إن كانت يمينه بالله تعالى فاختلف هل تقبل منه فيئة بالقول دون أن يكفر أو لا تقبل منه حتى يكفر. فقيل: إنها لا تقبل منه دون أن يكفر لسقوط اليمين عنه بالكفارة قبل الحنث، وقيل: إنها تقبل منه دون أن يكفر؛ لأنا لا ندري إن كفر هل نوى بكفارته تلك اليمين أم لا؟ فصل وقال جماعة من أهل العلم: الفيء الجماع إلا أن يكون له عذر يمنعه منه فيكون له الفيء باللسان إذا أشهد على ذلك. وقال آخرون: الفيئة له بالقول على كل حال. وهذان القولان إنما يتصوران عندي على مذهب من يرى أن الطلاق يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء إن لم يفئ فيه. فصل وأما إن لم تكن يمينه على ترك الوطء ففيئته فعل الشيء الذي حلف أن يفعله على مذهب مالك وأصحابه إذا كان قادرا على ذلك الفعل. واختلف إذا لم يكن قادرا عليه في الحال على ما تقدم ذكره وتحصيل الاختلاف فيه. وأما إن لم يكن قادرا عليه بحال فيعجل عليه الطلاق ولا يضرب له أجل الإيلاء حسب ما مضى القول فيه. فصل واختلف أهل العلم في حد المدة التي يكون الحالف بترك الوطء فيها موليا

فصل

على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يكون موليا إلا من حلف أن لا يطأ زوجته على التأبيد أو أطلق اليمين ولم يقيدها بمدة مخصوصة مؤقتة وإلا فليس بمول، حكى هذا القول أهل الخلاف عن ابن عباس: أنه لا يكون موليا إلا أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر ولو بيوم، وهو مذهب مالك ومن تبعه. وقد تأول على هذا المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر أكثر مما يتلوم به عليه إذا قال أنا أفيء، وهو غلط؛ لأن التلوم إنما يكون إذا وقف فقال: أنا أفيء ولم يفعل. وأما إذا وقف فأبى أن يفيء فإن الطلاق يعجل عليه ولا معنى للتلوم عليه. فمن حق المرأة أن يوقف لها زوجها المولي وإن لم يزد على الأربعة الأشهر [إلا يوما واحدا؛ إذ لعله يأبى الفيء فتطلق عليه. والثالث: أن يكون موليا من حلف على أربعة أشهر] فصاعدا، ولا يكون موليا إن حلف على أقل منها، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. والرابع: أنه يكون موليا إذا حلف على كثير من الأوقات أو قليل أن لا يجامع فتركها أربعة أشهر من غير جماع، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة من أهل الكوفة. فصل والإيلاء ينقسم على ثلاثة أقسام: قسم يكون فيه موليا من يوم حلف، وقسم لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه، وقسم اختلف فيه فقيل: إنه مول من يوم حلف، وقيل: من يوم ترفعه إلى السلطان. فأما الذي يكون فيه موليا من يوم حلف فهو الذي يحلف على ترك الوطء. وأما الذي لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه فهو الذي يحلف بطلاق امرأته أن يفعل فعلا. وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو الإيلاء الذي يدخل على الظهار، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب اللعان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب اللعان الأصل في اللعان كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجماع الأمة. فأما كتاب الله تعالى فهو قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]، يقول الله عز وجل: والذين يقذفون من الرجال أزواجهم من النساء فيرمونهن بالزنا ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما رموهن به من الفاحشة إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أي يحلف أحدهم أربع شهادات أيمان بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته من الفاحشة. ويدرأ عنها العذاب أي حد الزنا الرجم إن كانت ثيبا والجلد إن كانت بكرا؛ لأن العذاب معرف بالألف واللام معرفة، فالمراد به الحد المعلوم الذي أوجبه الله على الزناة في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل فإذا نكلت المرأة عن اللعان حدت حد الزنا، وكذلك الزوج إذا نفى حمل امرأته أو قذفها برؤية أو بغير رؤية على الاختلاف في ذلك إن نكل عن اللعان حد

فصل

حد القذف. واختلف الفقهاء المتأخرون من القرويين إذا نكلت المرأة عن اللعان بعد لعان الزوج ثم أرادت أن ترجع إلى اللعان هل يكون ذلك لها أم لا؟ فمنهم من رأى ذلك لها وقال لا يكون نكولها عن اللعان أقوى من إقرارها بالزنا، وهي لو أقرت به ثم رجعت قبل رجوعها. ومنهم من لم ير ذلك لها لما تعلق به من حق الزوج. والأول أصح. وانظر هل يدخل هذا الاختلاف في الزوج إذا نكل عن اللعان ثم أراد أن يرجع إليه هل يكون له ذلك أم لا، فقد قيل: إنه يدخل في ذلك، والصحيح أنه لا يدخل فيه. والفرق بين الرجل والمرأة في ذلك أن نكول المرأة عن اللعان كالإقرار منها على نفسها بالزنا، ولها أن ترجع عن الإقرار به. ونكول الرجل عن اللعان كالإقرار منه على نفسه بالقذف فليس له أن يرجع عن الإقرار به. وزعم العراقيون أن المرأة إذا نكلت عن اللعان لم تحد وحبست، وكذلك عندهم إذا نكل الزوج عن اللعان حبس ولم يحد، وتركوا قول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، وقد تأول لهم متأول أن العذاب هو السجن، لقول الله عز وجل: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ولم يعرف ما احتج به؛ لأن العذاب الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية هو غير السجن وليس بمعين، وإنما قالت كذا وكذا، هم يحكمون بالنكول في الحقوق بغير يمين من الطالب، وجعلوه بمنزلة الإقرار والملاعن قد تقدمت أيمانه على ما ادعى، ثم لا يحكمون على المرأة بنكولها وقد أنزل الله فيها من القرآن ما أنزل فتركوا فيما ذهبوا إليه في هذا النص والقياس جملة، إلا أنهم زعموا أن الحدود لا تؤخذ قياسا. فصل وأما السنة فما ثبت في الآثار الصحاح من ملاعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وزوجه، وبين هلال بن أمية الواقعي وزوجه أيضا. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين أن اللعان بين الزوجين من شرعنا، وأن الأحكام تتعلق به على الاختلاف الحاصل بينهم في بعض وجوه تفاصيله.

فصل

فصل وكان سبب نزول آية اللعان فيما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، قال سعد بن عبادة: هكذا أنزلت يا رسول الله، لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم، قالوا: لا تسلمه يا رسول الله، فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة فاجترأ أحد منا أن يتزوجها، فقال سعد: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. والله لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء وإني لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له، وقد رأى بعينيه وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا معها رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتاه به وثقل ذلك عليه جدا حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك بما آتيتك به والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا. قال: فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين، فهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربه، فبينما هو كذلك يريد أن يأمر بجلده ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه إذ نزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي ينزل عليه حتى فرغ فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا، فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها. فجاءت، فلما اجتمعا عند

فصل

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل لها فكذبته، فقال رسول الله: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب، فقال هلال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما قلت إلا حقا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما وقال لهلال: يا هلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقيل له عند الخامسة يا هلال اتق الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن الولد لها وأن لا يدعى لأب وأن لا ترمى ولا يرمى ولدها» ويروى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين العجلاني وزوجته قال لهما: حسابكما على الله واحد منكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله مالي قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو لما استحللت من فرجها، ون كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منه. ثم قال: انظروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا. قال فجاءت به على النعت المكروه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لها ولي شأن». فصل فالحكم باللعان واجب على ما ورد به القرآن وحكم به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنزله الله في كتابه وجعله شرعة لعباده رحمة بهم؛ إذ كان الأزواج لا يجرون مجرى غيرهم من سائر الناس الذين أوجب الله عليهم الجلد برمي المحصنات إلا أن يأتوا على ذلك بأربعة شهداء؛ إذ كان لا ضرر عليهم في أنفسهم فيما عاينوه، والزوج

فصل

يلزمه إظهار ما رأى؛ لأنه يخاف أن يلحقه نسب ليس منه، فجعل له إذا أنكر حملا لم يعرف له سببا أن ينكره، وجعل له إذا عاين الزنا وشاهده من زوجته أن يخبر به، ثم جعل له المخرج من ذلك باللعان لضرورته إليه، ولم يجعل ذلك لغيره إذ لا ضرورة به إلى ذلك. فصل واللعان على مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم يكون بين كل زوجين إلا أن يكونا كافرين، كانا حرين أو عبدين أو محدودين أو ذمية تحت مسلم على ظاهر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، ولم يخص حرا من عبد ولا محدودا من غير محدود ولا كافرا من مسلم، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم: إنه لا يلاعن العبد ولا المحدود في القذف، قالوا: لأن المراد من الآية من تجوز شهادته من الأزواج؛ لأن الله استثناهم من الشهداء بقوله: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فسماهم شهداء بذلك؛ إذ المستثنى من جنس المستثنى منه، وقال: فشهادة أحدهم، فدل على أن اللعان شهادة، والعبد والمحدود لا تجوز شهادتهما. وليس ذلك بصحيح؛ لأن الاستثناء منقطع، والمعنى فيه ولو لم يكن لهم شهداء غير قولهم الذي ليس بشهادة، كما قالوا الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. فاللعان يمين وليس من الشهادة بسبيل، وإنما أخذ من باب المشاهدة بالعين والقلب فسمي شهادة لهذه العلة، ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في أحد أقواله: إن من قال لامرأته يا زانية ولم يقل رأيت ولا نفى حملا إنه يحد ولا يلاعن؛ لأن ذلك أحد من المشاهدة. فالرجل يقول في لعانه أشهد بالله لقد رأيتها تزني وأشهد بالله ما هذا الولد مني، فالأول مأخوذ من باب المشاهدة بالنظر، والثاني من باب المشاهدة بالقلب. فشهادة الرجل على ما يدعي مشاهدته ومعرفته، وشهادة المرأة أيضا على ما تدعي علمه ومعرفته وهي عالمة بصدقه أو كذبه، فكل واحد منهما موكل إلى علمه، وإن كان أحدهما كاذبا لا محالة وكيف يصح أن يشبه اللعان بالشهادة ويقاس عليها والعدل لا تقبل شهادته لنفسه ولو حلف مائة يمين؛ لأنه خصم، ولا تجوز شهادته أيضا لغيره عند بعض العلماء إذا حلف

فصل

عليها لاتهامه فيها. ومن الدليل أيضا على أن المحدود والعبد يلاعنان أن كل من حكم عليه بيمين أو حكم له بها فالبر والفاجر والعبد والمسلم والذمي فيها سواء، فكذلك يجب في اللعان. وهو الظاهر من قول الله عز وجل في القرآن أيضا، فإن المعنى الذي فرق الله به بين الزوج والأجنبي في القذف وهو ضرورته إلى نفي الولد الذي ينكره ولا يعرف له سببا يستوي فيه الحر والعبد والمحدود وغير المحدود. وقد نقض أبو حنيفة وأصحابه أصلهم في هذا بقولهم: إن الفاسق المعلم بالفسق يلاعن وشهادته لا تجوز، وكذلك الأعمى يلاعن وشهادته عندهم لا تجوز، فبطل مذهبهم وصح مذهب مالك ومن تابعه، وإنما اللعان حكم على حياله شرعه الله رحمة لعباده فلا يحمل على الشهادة ولا يقاس عليها. فصل واللعان على ستة أوجه، ثلاثة منها متفق عليها، وثلاثة مختلف فيها. فأما الثلاثة الأوجه التي يتفق على وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن ينفي حملا لم يكن مقرا به ويدعي الاستبراء. والثاني: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة الحمل. والثالث: أن ينكر الوطء جملة فيقول: لم أطأها قط أو منذ مدة كذا وكذا لما لا يلحق في مثله الأنساب. وأما الوجوه الثلاثة التي يختلف في وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن يقذف زوجته ولم يدع رؤية. والثاني: أن ينفي حملا ولا يدعي استبراء. والثالث: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في حامل بينة الحمل؛ لأن ابن الجلاب حكى عن مالك في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداها إيجاب الحد ولا لعان. والثانية إيجاب اللعان وثبوت النسب. والثالثة إيجاب اللعان وسقوط النسب. واختلف في التعريض قول ابن القاسم، فمرة رآه كالتصريح بالقذف وأوجب اللعان فيه، وهو قوله في كتاب القذف من المدونة وظاهر قوله في اللعان منها. ومرة قال يحد في التعريض ولا يلاعن، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز أنه يحد في التعريض ولا يلاعن إلا أن يكون تعريضا يشبه التصريح. وأما مثل قوله وجدتها مع رجل عريانين في لحاف أو وجدتها تحته فلا يلاعن في هذا ويؤدب، ولو قاله لأجنبية لتحد إلا في قوله رأيتها تقبل رجلا. فإن رجع لها أقيم عليه في التعريض

فصل

فقال رأيتها تزني لاعن، قاله عبد الملك، وهو عندي تفسير لقول من لم ير في التعريض اللعان. فصل وأصل اللعان إنما جعل لنفي الولد، فيلاعن الرجل بمجرد نفي الحمل دون قذف في مذهبنا. والمخالف في هذا بعض أصحاب الشافعي، وهو بعيد؛ إذ قد تكون مغلوبة على نفسها. وله أن يلاعنها وهي حامل، وقد قيل: ليس له أن يلاعنها حتى تضع، روي ذلك عن مالك، وهو قول ابن الماجشون ومذهب أبي حنيفة. ويرده الأثر فإن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وزوجته وقال: إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد صدق عليها وإن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد كذب عليها». ويلاعن من ادعى رؤية لما يخاف أن يلحق به من الولد بإجماع إذا لم تك ظاهرة الحمل. وأما من قذف زوجته ولم يدع رؤية ولا نفى حملا فالأصح من الأقاويل أنه يحد ولا يلاعن. ومن أوجب اللعان فيه جعل العلة في ذلك دفع الحد عن نفسه مع أنه ظاهر القرآن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] لم يذكر نفي حمل ولا رؤية زنا، وهذا ليس ببين؛ لأن الحكم إنما هو لمعاني الألفاظ لا لظواهرها. فصل فإذا لاعن على الرؤية وادعى الاستبراء انتفى الولد بإجماع. وأما إن لم يدع الاستبراء فاختلف هل ينتفي الولد بذلك اللعان أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الولد ينفيه اللعان على كل حال وإن ولد لأقل من ستة أشهر وهو أحد قولي مالك في المدونة. والثاني: أنه لا ينفيه بحال وإن ولد لأكثر من ستة أشهر ويلحق به وهو قول عبد الملك وأشهب. والثالث التفرقة بين أن يولد لأقل من خمسة أشهر أو لأكثر منها، وهو القول الثاني لمالك في المدونة. فيأتي على هذا في جملة المسألة ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها قولان، إذا ولدته لأقل من ستة أشهر قولان وإذا ولدته لأكثر من ستة أشهر قولان. وهذا على مذهب من يتأول أن قوله في المدونة ألزمه

فصل

مرة ومرة لم يلزمه ومرة ينافيه وإن كانت حاملا راجع إلى قولين ويجعل قوله ومرة لم يلزمه ومرة ينفيه وإن كانت حاملا، شيئا واحدا. ومن الناس من يحملها على ثلاثة أقوال على ظاهرها، فيقول معنى قوله ينفيه وإن كانت حاملا أنه ينفيه بلعان ثان وإن لم يدع استبراء، فيقول في لعانه أشهد بالله ما حملها هذا مني. فيأتي على هذا في الطرف الواحد ثلاثة أقوال وفي الطرف الثاني قولان. وسواء كان الزوج عالما مقرا به أو لم يكن. وهذا بين في كتاب ابن المواز، وظاهر قول المخزومي في المدونة. وقد تأول بعض الناس قوله وهو مقر بالحمل أي بالوطء. وقد تأول بعض الشيوخ أن الاختلاف الواقع في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة إنما هو إذا لم يعلم الزوج بحملها ولا كان مقرا به، وإنما علم أنها كانت حاملا بما انكشف من وضعها قبل ستة أشهر، وهو تأويل بعيد لما حكيناه من وجوه الاختلاف في ذلك لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب ابن المواز، فاعلمه. فإن ادعى الاستبراء بعد أن ولدته وقال ليس الولد مني قد كنت استبرئت كان ذلك له في الوجوه كلها باتفاق وسقط نسب الولد، قيل بذلك اللعان وهو قول أشهب، وقيل بلعان ثان وهو قول أصبغ وعبد الملك، وفي المدونة ما يدل على القولين جميعا. فصل وقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الولد المولود على فراش الرجل إذا نفاه لا ينتفي منه بلعان ولا بما سواه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وروي عن الشعبي أنه قال: خالفني إبراهيم وابن معقل وموسى في ولد الملاعنة فقالوا تلحقه به فقلت ألحقه به بعد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم ختم بالخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فكتبوا فيها إلى المدينة فكتبوا أن يلحق به، وهو شذوذ من القول، ولا حجة لقائله فيما احتج به من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر؛» لأنه إنما ورد في المدعي بالزنا

فصل

ما ولد على فراش غيره على ما جاء في حديث عتبة. وأما نفي أولاد الزوجات فليس من ذلك في شيء؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قضى في ذلك بالملاعنة، ورد الولد الملاعن به إلى أمه دون المولود على فراشه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وقد اختلف في الاستبراء فعن مالك فيه روايتان: إحداهما أنه حيضة وهو أكثر المذهب، والثاني: أنه ثلاث حيض وهو مذهب ابن الماجشون وحكاه عبد الوهاب. فصل ويجب بتمام لعان الزوج ثلاثة أحكام: أحدها سقوط نسب الولد، والثاني ترك الحد عن الزوج، والثالث رجوعه على المرأة إلا أن تلاعن. واختلف في الفرقة بماذا تجب، فالمشهور عن مالك وأصحابه أنها تجب بتمام لعان المرأة بعد الزوج. فعلى هذا إذا مات الزوج بعد أن التعن وقبل أن تلتعن المرأة أنها ترثه التعنت أو لم تلتعن، وهو قول ربيعة ومطرف واختيار ابن حبيب. وقد قيل: إنها تجب بتمام لعان الزوج وإن لم تلتعن المرأة، وهو مذهب الشافعي وظاهر قول مالك في موطئه وقول عبد الله بن عمرو بن العاص في المدونة وهو قول أصبغ في العتبية في الذي يتزوج المرأة في عدتها فتأتي بولد فيلاعن أحد الزوجين أنها تحرم للأبد على الذي لاعنها ولم تلاعنه. فعلى هذا إذا مات أحد الزوجين بعد تمام لعان الزوج أنهما لا يتوارثان، وهو قوله في المدونة إن ماتت المرأة ورثها الزوج وإن مات الزوج ورثته الزوجة إن لم تلاعن. فيأتي على هذا أن الفرقة تجب بتمام لعان الزوج إن التعنت المرأة. فاحفظ أنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال. فصل والفرقة في اللعان فسخ بغير طلاق، وهي مؤبدة لا يتراجع الزوجان بعده أبدا. هذا مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم. والدليل على ذلك قول

فصل

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزوج بعد تمام اللعان: «لا سبيل لك إليها؛» لأن ظاهره التأبيد إذ لم يقيد ذلك بشرط يحلها له به "؛ لأن التحريم إذا أطلق من غير تقييد محمول على التأبيد. ألا ترى أن المطلقة ثلاثا لولا قول الله عز وجل فيها {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، لم تحل له أبدا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230]. فصل فإذا قلنا: إنه فسخ وليس بطلاق فيلزم على هذا إذا لاعنها قبل الدخول لا يكون لها شيء من الصداق لا نصف ولا غيره، وكذلك في كتاب ابن الجلاب، وهو خلال قول مالك في موطئه وخلاف ما في المدونة. ووجه هذا أنا لا نعلم صدق الزوج فلعل الولد منه، وإنما أراد طلاقها وتحريمها باللعان للأبد لئلا يكون عليه صداق. فلما اتهم في ذلك ألزم نصف الصداق. وقد وقع في كتاب ابن الجلاب في الذي يشتري زوجته قبل البناء أنه يجب لها عليه نصف الصداق، وهو خلاف المعروف في المذهب، وقوله في المدونة: إن الملاعنة لا متعة لها صحيح على هذا التعليل، فتعليل سقوط المتعة في اللعان بأنه فسخ وإن الله لم يوجبها إلا على المطلقين أصح من العلة التي عللها في المدونة. فصل وبتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين وإن لم يفرق الإمام بينهما. وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم اختلافا كثيرا. فمذهب مالك ما ذكرناه، وقال الشافعي: إن الفرقة تقع بتمام لعان الزوج ولا تحل له أبدا. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: إن الفرقة لا تقع بين الزوجين حتى يفرق الإمام بينهما، فإذا فرق الإمام بينهما لم تحل له حتى يكذب نفسه، فإن كذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب. وقيل: إنه إن أكذب نفسه جلد الحد وردت إليه امرأته. وقيل: اللعان

فصل

تطليقة بائنة، وهو قول عبيد الله بن الحسن. وقيل: إن اللعان لا ينقص شيئا من العصمة، وهو قول عثمان البتي، وطائفة من أهل البصرة أخذوا ذلك عنه. ولابن نافع في تفسير ابن مزين أنه استحب للملاعن أن يطلق ثلاثا عند الفراق من اللعان من غير أن يأمره الإمام بذلك كما فعل عويمر، فإن لم يفعل أغنى عن ذلك ما مضى من سنة المتلاعنين أنهما لا يتناكحان أبدا. وذهب ابن لبابة إلى أنه إن لم يطلق طلق عليه الإمام ثلاثا ولم يمنعه من مراجعتها من بعد زوج. وقيل: إنه ظاهر الحديث فلا يعدل عنه إلا بكتاب أو سنة أو إجماع. هذا معنى كلامه مختصرا. وقيل: إن فراق اللعان ثلاث تطليقات، وتحل له بعد زوج. ولم أر هذا القول إلا أنه أخبرني بعض أصحابنا أنه في كتاب ابن شعبان. فصل واللعان يجب في كل نكاح يلحق فيه الولد وإن كان فاسدا أو حراما لا يقران عليه، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه. فصل ولا يكون اللعان إلا عند الإمام في المسجد وبمحضر من الناس؛ لأن اللعان الذي كان في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان عنده في المسجد وبمحضر من الناس، وذلك مروي في الأحاديث الصحاح. من ذلك حديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه في ملاعنة العجلاني زوجته. «قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». فصل ويستحب أن يكون اللعان في دبر الصلاة وبعد صلاة العصر؛ لأنه أشد الأوقات في اليمين، لما جاء أن الأيمان بعد صلاة العصر ليس له توبة، وليس ذلك بلازم أعني في دبر الصلاة.

فصل

فصل وفي صفة اللعان اختلاف كثير بين أصحاب مالك غيرهم، إلا أنه اختلاف متقارب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله في موضعه، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب. فصل واختلف فيمن قذف أربع نسوة له في كلمة واحدة، فقال أبو بكر الأبهري: لست أعرفها منصوصة، والذي يجب على مذهبنا أن يلاعن لكل واحدة؛ لأن اللعان بمنزلة الشهادة، ولو أتى بالشهود للزم أن يقيم الشهادة على كل واحدة منهن منفردة. ويحتمل أن يكون يجزئه لعان واحد، قياسا على القذف إذا قذف جماعة في كلمة واحدة، وعلى الظهار إذا ظاهر منهن في كلمة واحدة أنه تجزئه كفارة واحدة. ثم قال وقد حكى الإصطخري عن إسماعيل القاضي أن جماعة ادعت على رجل دينا فحلف لهم يمينا واحدة. فعلى هذا يجب أن يكتفي بلعان واحد لهن كلهن.

كتاب الصرف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصرف ما جاء في تحريم الربا في الصرف الربا في الصرف وفي جميع البيوع وفيما تقرر في الذمة من الدين، حرام محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]؛ لأن قوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231] وعيد، والنهي إذا قرن به الوعيد علم أن المراد به التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]، يريد نهي تحريم لأنه عطف على ما نص على تحريمه، إلا أن الاحتجاج بهذه الآية على تحريم الربا إنما يصح على مذهب من يرى أن ما أخبر الله تعالى به من شرائع من قبلنا من الأنبياء لازم لنا، إلا أن يأتي في شرعنا ما ينسخه عنا، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه قد احتج في

موطئه بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، يريد في التوراة، وهو الصحيح، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزغ إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]» والخطاب بهذا إنما هو لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهذا بين، وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أنها لازمة لنا جملة من غير تفصيل، بدليل قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. (والثاني) أنها غير لازمة لنا جملة من غير تفصيل أيضا، بدليل قول الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. (والثالث) أنها غير لازمة لنا إلا شريعة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، أي الزموها (والرابع) أنها غير لازمة لنا إلا شريعة عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأنها آخر الشرائع المتقدمة، وكل شريعة ناسخة للتي قبلها، وهذا القول أضعف الأقوال، لأن شريعة عيسى إذا كانت ناسخة لما قبلها من الشرائع فشريعتنا ناسخة لشريعة عيسى، وهذا بين، والله

أعلم، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، يقول الله عز وجل: الذين يربون في تجارتهم في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي يصرعه من الجنون. ويروى: إن لأكلة الربا علما يعرفون به يوم القيامة أنهم أكلة الربا، يأخذهم خبل يشبه الخبل الذي يأخذهم في الآخرة بالجنون الذي يكون في الدنيا، ويروى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث عن ليلة الإسراء فكان في حديثه أنه أتى على سابلة فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، فإذا رأوها قالوا: ربنا لا تقومن الساعة؛ لما يرون من عذاب الله، قال: وإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت، يقومون فيقعون ببطونهم وظهورهم، فيأتي عليهم آل فرعون فيثردونهم ثردا، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء أكلة الربا، ثم تلا هذه الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]»، وفي البخاري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيت في النهر آكل الربا». وأما السنة فمنها ما رواه ابن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا وموكله

فصل

وشاهده وكاتبه»، وقال: هم سواء، ومن ذلك تحريمه التفاضل بين الذهبين والورقين. وأن لا يباع من ذلك شيء غائب بناجز، وما أشبه ذلك كثير. وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن الربا محرم في الجملة وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتعيين شرائطه، على ما يأتي في مواضعه إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق. فصل في معنى الربا، وأصل الربا الزيادة والإضافة، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد وعظم، وأربى فلان على فلان: إذا زاد عليه، يربي إرباء، وكان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الدين، فإذا حل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده في الحق وزاده في الأجل، فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فقيل للمربي: مرب، للزيادة التي يستزيدها في دينه لتأخيره به إلى أجل. فصل فمن استحل الربا فهو كافر حلال الدم، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال الله عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، يريد: عاد إلى الربا باستحلاله، لأن الخلود في النار من صفات الكافرين. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، أي إن لم تفعلوا وتقبلوا ذلك وتقروا به، فأذنوا بحرب؛ أي فاعلموا أنكم محاربون من الله ورسوله لأنكم مشركون.

فصل

فصل وأما من باع بيعا أربى فيه غير مستحل للربا، فعليه العقوبة الموجعة إن لم يعذر بجهل، ويفسخ البيع ما كان قائما، في قول مالك وجميع أصحابه، والحجة في ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، أو كل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أربيتما فردا». فصل فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عليه لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] الآية. وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له، لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له»، وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعض،

فصل

فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة، كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما من الربا لم يقتضياه. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب». فصل وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، إما من قبل بدر - على ما ذكره ابن إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسر يوم بدر، وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالك إلا كرها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك» أو من قبل فتح خيبر - إن لم يصح ما ذكره ابن إسحاق، على ما دل عليه حديت الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز، فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن». فلما لم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان من رباه بعد إسلامه: إما من قبل بدر، وإما من قبل فتح خيبر، إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما كان قائما لم يقبض، دل ذلك على إجازته، إذ حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا

أسلموا. وحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وما روى أنس بن مالك عنه أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا ومالا، وقد أردت أن آتيهم، فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فأبتاع من غنائمهم، ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به؟ فما وعد الله به ورسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي معه بيتا، فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك، قام إليه فقبل ما بين عينيه! ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين، واصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها صفية لنفسه، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه، فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من كآبة على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث على المعنى واختصرت منه كثيرا لطوله، وبالله التوفيق. واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، الحديث»، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه: فقال أشهب والمخزومي: هو له حلال سائغ بمنزلة ما لو كان قبضه، وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا، وأكثر مذاهب أصحابنا على قول أشهب والمخزومي.

فصل

فصل وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في القرآن: هل هو من الألفاظ العامة التي يفهم المراد بها وتحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصها، أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها؟ على قولين، والذي يدل عليه قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها لنا، أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير، ولم يرد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي قبل أن يفسرها، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر آية الربا ولا بين المراد بها، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم جميع وجوه الربا بالنص عليها، للعلم الحاصل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نص على كثير منها، من ذلك: تحريمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التفاضل بين الذهبين والورقين، وأن يباع من ذلك شيء غائب بناجز، ونهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع وسلف، وعن بيع ما ليس عندك، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وعن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وما أشبه ذلك، لأن هذه الأحاديث تحمل على البيان والتفسير لما أجمل الله في كتابه من ذكر الربا وما لم ينص عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا، فإنه أحال فيه على طرق ذلك، أدلة الشرع وبين وجوهها، وما توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بعد أن كمل الدين وبعد أن بين كل ما بالمسلمين الحاجة إلى بيانه، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فصل

فصل ومما يدل على ما تأولنا عليه حديثه، قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمها أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها، ولكن من ذلك أبواب لا تخفى على أحد: أن تباع الثمرة وهي معصفة لم تطب، وأن يباع الذهب بالورق والورق بالذهب نسيئا، فأخبر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن من وجوه الربا ما هو بين جلي، لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ وباطن خفي لعدم النص فيه، وتمنى أن تكون جميع وجوه الربا ظاهرة جلية يعلمها بنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، ولا يفتقر إلى طلب الأدلة في شيء منها، والله عز وجل لما أراد أن يمتحن عباده ويبتليهم فرق بين طرق العلم، فجعل منه ظاهرا جليا، وباطنا خفيا؛ ليعلم الباطن الخفي بالاجتهاد والنظر من الظاهر الجلي، فيرفع بذلك الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. فصل والربا على وجهين: ربا في النقد، وربا في النسيئة، فأما الربا في النقد فلا يكون إلا في الصنف الواحد من نوعين، (أحدهما): الذهب والورق، (والثاني) ما كان من الطعام مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت أصلا للمعاش غالبا، في قول بعضهم، وأما الربا في النسيئة فيكون في الصنف الواحد وفي الصنفين، فأما في الصنف الواحد فهو في كل شيء من جميع الأشياء، لا يجوز واحد باثنين من صنفه

فصل

إلى أجل، من جميع الأشياء، طعاما كان أو غيره، وأما في الصنفين فهو في نوعين: أحدهما الذهب والفضة، (والثاني) الطعام كله، كان مما لا يدخر، أو مما يدخر فصل وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه، وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إن استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي، قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا، وقيل لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أتكره أن يعمل الرجل بالصرف؟ قال: نعم، إلا أن يكون يتقي الله في ذلك. فصل ومما بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا أن الذهب بالذهب والورق بالورق لا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأن الذهب بالورق لا يباع إلا يدا بيد، ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر بن الخطاب: لا، والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء». فصل فلا يجوز في الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مواعدة ولا

فصل

خيار ولا كفالة ولا حوالة، ولا يصح، إلا بالمناجرة الصحيحة، لا يفارق صاحبه وبينه وبينه عمل، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز» وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره، إني أخاف عليكم الرماء. والرماء هو الربا. فصل والنظرة في الصرف تنقسم على ثلاثة أقسام، أحدها: أن ينعقد الصرف بينهما على أن ينظر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، وإن قل، فهذا إذا وقع فسخ جميع الصرف باتفاق لانعقاده على فساد. (والثاني) أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة، ثم يؤخر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، فهذا ينتقض الصرف فيما وقع فيه التأخير باتفاق، وإن كان درهما انتقض صرف دينار واحد ما بينه وبين أن يكون الذي وقع فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين، كذا أبدا على هذا الترتيب، واختلف هل يجوز من الصرف ما حصلت فيه المناجزة ولم يقع فيه تأخير أم لا؟ على قولين (أحدهما): إن ذلك لا يجوز، لأنهما متهمان على القصد لذلك والعقد عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقول محمد بن المواز. (والثاني) أن ذلك يجوز ولا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والقسم الثالث أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأخر شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان أو غلط أو سرقة من

فصل

الصراف، أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه أو أحدهما؛ فهذا يمضي الصرف فيما وقع فيه التناجز ولا ينتقض باتفاق؛ واختلف هل ينتقض فيما حصل فيه التأخير إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه دينارا بدراهم، فيجد من الدراهم درهما ناقصا فيقول: أنا أتجاوزه، فلا ينتقض من الصرف شيء؟ على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن ذلك لا يجوز وينتقض من الصرف صرف دينار واحد، إلا أن يكون العدد الذي نقص أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين، كذا أبدا على هذا المثال والترتيب، (والثاني) قول أشهب: إن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان، كالدانق إذا رضي به، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب في النقصان اليسير كالدانق والدانقين، وقاله أصبغ في الدرهم من الألف درهم، وذلك لأن الموازين قد تختلف في مثل هذا المقدار، وما تختلف عليه الموازين لا اختلاف عندي في جواز تجاوزه، وليس ما روي عن ابن القاسم في هذا اختلافا من قوله وإنما المعنى في ذلك أن الدانق والدانقين مرة رأى أن الموازين تختلف عليه، فأجاز التجاوز عنه، ومرة رأى أن الموازين لا تختلف عليه فلم يجز التجاوز عنه. فصل وأما إن أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه، فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز البدل في الصرف، ورأى أن الغلبة على التأخير فيه بالنسيان والغلط والسرقة والتدليس وما أشبه ذلك، لا يبطل الصرف ولا يفسده، فإن وجد فيما صارفه فيه بعد الافتراق زائفا أبدله، وإن وجد ناقصا أخذه، وإن استحق منه شيء، أخذ

فصل

عوضه، وهذا كله على مذهبهم في المجلس ما لم يفترقا على معرفة ذلك. فصل فإن قال قائل: وإذا كان التأخير على وجه الغلبة يبطل الصرف عند مالك ولا يجوز أن يتجاوز النقصان، فكيف جاز أن يتجاوز الزائف وهو كالناقص إذ لم يصارفه إلا على جياد، فقبضه الزائف كلا قبض؛ فالجواب عن ذلك أن الدنانير والدراهم في الصرف على مذهب مالك وجمهور أصحابه، إن عينت تعينت، وإن لم تعين فإنها تتعين إما بالقبض وإما بالمفارقة، فلذلك جاز الرضا بالزيوف، لوقوع الصرف عليها بتعيينها بأحد الوجهين، وعلى هذا يأتي اختلافهم إذا استحقت الدراهم ساعة صارفه، هل يلزمه أن يعطيه ما كان عنده صرفه مما بقي في يده لم يستحق، أم لا يلزمه ذلك، فمن رأى أنها تتعين بالقبض لم يلزمه ذلك، إلا أن يشاء، فيكون صرفا مستقبلا، ومن رأى أنها لا تتعين إلا بالمفارقة ألزمه ذلك، بخلاف البيوع التي لا يتعين العين فيها إلا أن يعين، فيتعين على اختلاف، ومن أجاز البدل، فمذهبه أن الدنانير والدراهم في الصرف لا تتعين إلا أن تعين وأن الغلبة فيه على التأخير لا تفسد الصرف، وقد تقدم ذكر ذلك. فصل وقد تقدم أنه لا يجوز في الصرف خيار ولا مواعدة ولا حوالة ولا رهن ولا كفالة، فأما الخيار فلا اختلاف أن الصرف به فاسد، كانا جميعا بالخيار أو أحدهما، لعدم المناجزة بينهما بسبب الخيار، وأما المواعدة فتكره، فإن وقع ذلك وتم الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ عند ابن القاسم، وقال

أصبغ: يفسخ، فلعل قول ابن القاسم إذا لم يتراوضا على السوم، وإنما قال له: اذهب معي أصرف منك، وقول أصبغ إذا راوضه على السوم فقال له: اذهب معي أصرف منك ذهبك بكذا وكذا، وأما الحوالة إذا صرف وأحال على الصراف من يقبض منه، فلا يجوز على مذهب ابن القاسم إلا أن يقبض هو صرفه ويدفعه إلى من أحاله، وأما إن قبضه المحال، فلا يجوز وإن كان بحضرته قبل أن يفارقه، بخلاف الوكالة إذا صار، ثم وكل على قبض الدراهم فقبضها الوكيل بحضرتهما قبل أن يفارقه الذي وكله، جاز، وبخلاف الحوالة برأس المال في الإقالة من الطعام، وذهب سحنون وأشهب إلى أنه إن قبض المحال قبل أن يفارقه الذي أحاله بحضرة ذلك، جاز، كالإحالة برأس المال في الإقالة من الطعام، وكالوكالة إذا قبض الوكيل قبل أن يفترقا، وأما إذا ذهب الموكل أو المحيل قبل أن يقبض الوكيل أو المحال، فالصرف منتقض لا يجوز في الحوالة باتفاق، وفي الوكالة على اختلاف؛ لأن أبا زيد روى عن ابن القاسم في الرجلين يصرفان الدراهم تكون بينهما بدينار من رجل، فيذهب أحدهما ويتخلف الآخر على قبض الدينار - أن ذلك جائز، ونحوه في سماع أصبغ، إلا أن يفرق بين المسئلتين بسبب الاشتراك في الدراهم أو الدنانير، وذلك بعيد، لأنه قد ساوى في المدونة بينهما، وأما الوكالة على قبض رأس المال في الإقالة من الطعام، فإنها تجوز وإن افترقا إذا قبض الوكيل قبل أن يفارق المسلم إليه، وأما الحمالة فإن كانت بالدنانير إن استحقت الدراهم أو بالدراهم إن استحقت الدنانير، جاز ذلك، وإلا لم يجز، وكذلك الرهن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب السلم

كتاب السلم القول في السلم وأصل جوازه وتقسيم وجوهه وتبيين الصحيح منه من الفاسد السلم- وإن سمي سلما فهو بيع من البيوع، لأن البيع نقل الملك عن عوض، كما أن المصارفة والمراطلة والمعاوضة والمبادلة وما أشبه ذلك من الأسماء التي اختصت ببعض البيوع وتعرفت بها دون سائرها - بيوع كلها في الحقيقة. والأموال التي تنتقل الأملاك فيها بالمعاوضة عليها على ثلاثة أوجه: عين حاضرة مرئية، وعين غائبة غير مرئية، وسلم ثابت في الذمة. فصل فأما العين الحاضرة المرئية فلا اختلاف بين أهل العلم في جواز بيعها، وأما العين الغائبة فبيعها عندنا على الصفة جائز لازم، خلافا للشافعي في قوله: إن بيعها على الصفة غير جائز، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله بأن ذلك جائز وليس بلازم، وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب بيع الغرر، إن شاء الله. وأما السلم الثابت في الذمة، فيجوز عندنا في كل ما يضبط بالصفة،

فصل

ويجوز قرضه على شروط يأتي وصفها، إن شاء الله تعالى، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن السلم والقرض في الحيوان لا يجوز، ولداود وطائفة من أهل الظاهر في قولهم: إن السلم فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. فصل فمن الدليل على صحة قولنا في إجازة السلم في الحيوان والعروض وجميع ما يضبط بالصفة: أن الله تبارك وتعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه إذنا مطلقا وإباحة عامة في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يريد التجارة هذا معنى الآية: لأنه قد قرئ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج، فتحمل هذه القراءة على التفسير، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] على أنه قد اختلف في قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، و {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، هل هي من الألفاظ العامة أو من الألفاظ المجملة؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها، وتفتقر في البيان إلى غيرها، ومنهم من ذهب إلى أنها كلها عامة يجب حملها على عمومها بحق الظاهر حتى يأتي ما يخصصها، وذهب أبو محمد بن نصر، وهو عبد الوهاب صاحب الشرح من البغداديين، إلى أنها كلها مجملة إلا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]،

فصل

فإنها عامة، وهو أظهر الأقوال، فإنما يصح الاحتجاج بهذه الآية. أعني قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، لجواز السلم في الحيوان والعروض على مذهب من ذهب من العلماء إلى أنها عامة يجب حملها على عمومها في كل بيع إلا ما خصه الدليل. فصل وقد خص الله تبارك وتعالى من ذلك بمحكم كتابه البيع في وقت صلاة الجمعة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وخص من ذلك أيضا على لسان نبيه بيوعا كثيرة، من ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع حبل حبلة، وعن بيعتين في بيعة، وبيع الحصاة، وبيع العربان، وبيع حاضر لباد وأن يبيع الرجل على بيع أخيه، وما أشبه ذلك من نواهيه، ولم ينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السلم، فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن لعموم الألفاظ، لأنه بيع من البيوع على ما قدمناه، إلا ما خص منه أيضا بالقياس والسنة والإجماع على ما سنبينه، إن شاء الله.

فصل

فصل فالسلم في الحيوان والعروض من جملة ما بقي على أصل الإباحة إذ لم يخصه بجملته سنة ولا قياس ولا إجماع. فصل ومن الدليل أيضا على جواز السلم في الحيوان وما سواه مما يضبط بالصفة ويجوز فيه القرض، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فلم يخص دينا من دين بل عم جميع الديون، والحيوان من ذلك لجواز تعلقه بالذمة، يشهد لذلك استسلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البكر، وقد قال ابن عباس: أشهد أن التسليف المضمون إلى أجل معلوم قد أحله الله وأذن فيه، أما تقرؤون قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فسواء باع طعاما واكتتب ذهبا أو أعطى ذهبا واكتتب طعاما، قلت: أو ثيابا أو حيوانا، والله أعلم. ومن طريق القياس أن هذا شيء يصح تعلقه بالذمة مهرا أو قرضا، فجاز تعلقه بها سلما، أصل ذلك الطعام، ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقرض الطعام وأنه قدم المدينة وهم يسلمون في الثمار إلى السنتين والثلاث، فقال: أسلموا في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم».

فصل

فصل والسلم في مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه جائز فيما ينقطع من أيدي الناس وفيما لا ينقطع من أيديهم، إذا اشترط الأخذ فيما ينقطع من أيديهم في حين وجوده، فإن اشترط الأخذ في حين عدمه لم يجز، ومن أهل العلم من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا بأيدي الناس من حين عقد السلم إلى حين حلوله، ومنهم من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا بأيدي الناس ولا ينقطع في وقت من الأوقات. فصل فمن حجة من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا من حين عقد السلم إلى حين حلول أجله، أن المسلم إليه قد يموت فيحل عليه السلم بموته، وربما كان ذلك في حين انقطاعه فيئول ذلك إلى الغرر، ومن حجة من لا يجيز السلم إلا فيما لا ينقطع قبل حلول السلم ولا بعده، أن القضاء قد يتأخر لعذر أو لغير عذر بعد حلول الأجل حتى ينقضي الإبان فيرد إليه رأس ماله، أو يتأخر إلى العام المقبل - وذلك غرر، وهذا كله لا يلزم، لأن العقود إذا صحت وسلمت من الغرر، فلا يراعى ما يطرأ عليها بعد ذلك مما لم يقصد إليه، إذ لو روعي ذلك، لما صح عقد ولا سلم بيع بوجه من الوجوه، بل السلم فيما له إبان على أن يقتضى في إبانه، أجوز من السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس وإن كانا جائزين جميعا؛ لأن السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس يحل بموت المسلم إليه، وحياته إلى أن يحل الأجل غير مأمونة؛ وفي ماله إبان لا يحل بموت المسلم إليه، وتوقف تركته إلى أن يأتي الإبان فيقضي حقه، وحينئذ يقسم ماله بين ورثته، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فهو أقل غررا.

فصل

فصل وإنما توقف تركته كلها - إذا خشي أن يستغرقها ما عليه من السلم، وأما إذا كان السلم يسيرا وماله كثيرا، فإنما يوقف منه ما يرى أنه يفي بما عليه من السلم، ويقسم بقية ذلك بين ورثته، إلا على رواية أشهب عن مالك الذي يرى أن القسمة لا تجوز في شيء من المال - وعلى الميت دين وإن كان يسيرا واستقام الأمر وجاء على العافية. فصل فإن كان عليه ديون ضرب لصاحب السلم مع الغرماء بما يساوي سلمه بالنقد يوم الإبان على ما عرف من قيمته بالعادة لا بما يساوي الآن، على أن يقبض في وقته، إلا على مذهب سحنون القائل: إن صاحب السلم المؤجل يحاص بقيمة سلمه إلى الأجل لا بقيمته الآن حالا، وهو بعيد. فصل فإن جاء الإبان، وهو أغلى مما قوم به، لم يكن له على الغرماء رجوع؛ وإن كان أرخص، لم يكن لهم عليه رجوع في الزيادة ما بينه وبين جميع حقه، فإذا وجد حقه، فلا يزاد عليه ويرد الفاضل إليهم. فصل فإذا قلنا: إن السلم فيما له إبان على أن يقبض في إبانه جائز، فإن انقضى الإبان قبل أن يقبض صاحب السلم جميع سلمه، فلمالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في ذلك ثلاثة أقوال، القولان منها تتفرع على أربعة أقوال، ففي جملة المسألة خمسة

أقوال؛ (أحدها): قول مالك الأول في المدونة، أن الذي يوجبه الحكم أن يتأخر الذي له السلم إلى عام مقبل، فإن تراضيا واتفقا على المحاسبة، فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز لهما، لأنه يدخله البيع والسلف، وهو قول مالك الأول في المدونة، والثاني أن ذلك جائز، وهو قول مالك الآخر الذي رجع إليه، وهو قول سحنون: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة. (والقول الثاني) قول أشهب: إن الذي يوجبه الحكم المحاسبة وأخذ بقية رأس المال، فإن اتفقا على أن يتأخر الذي له السلم إلى سنة أخرى فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز - وهو قول أشهب، لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، والآخر أن ذلك جائز - وهو قول أصبغ، وهو قول ضعيف لا يحمله القياس؛ فهذه أربعة أقوال يتفرع كل واحد من القولين المذكورين إلى قولين كما حكيناه، والقول الخامس قول ابن القاسم في المدونة وكتاب ابن المواز: إن الذي له السلم مخير، إن شاء أن يتأخر إلى سنة مقبلة، وإن شاء أن يأخذ بقية رأس ماله، وهو قول ضعيف معترض أيضا من الوجه الذي اعترض به قول أصبغ، وحكى فضل في كتابه أن الذي وقع في المدونة من قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، هو قول ابن القاسم، والصحيح أنه من قول سحنون كما ذكرنا؛ لأن قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، لا يتسق مع قول ابن القاسم قبل ذلك، أنه إن شاء أن يؤخر الذي له السلم إلى إبانه من السنة المقبلة، فذلك له، بل يتنافى ويتدافع مع ما لابن القاسم مكشوفا في كتاب ابن المواز: أن الذي له السلم مخير، وكذلك هو في بعض الأمهات من قول سحنون مكشوفا؛ وحكى ابن حبيب عن مالك أن الذي له السلم مخير مثل قول ابن القاسم، فخلط قولي مالك وجعلهما قولا واحدا فأفسدهما؛ وحكى فضل أيضا عن سحنون أنهما مجبوران على

فصل

التأخير مثل قول مالك الأول خلاف ما وقع في المدونة من قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له إلا أن يجتمعا على المحاسبة. وقوله هذا مفسر لقول مالك الذي رجع إليه، وكان من حقه أن يكون متصلا به، فلو اتصل به لم يكن في المسألة إشكال - والله أعلم وبه التوفيق. فصل في ذكر شرائط السلم التي لا يصح دونها، وللسلم خمسة شروط لا يصح إلا بها، أحدها أن يكون مضمونا فيما يجوز ملكه وبيعه (والثاني) أن يكون موصوفا صفة تحصر المسلم فيه لا يتعذر وجودها (والثالث) أن يكون معلوم القدر بكيل فيما يكال، أو ذرع فيما يذرع، أو عدد فيما يعد، أو وزن فيما يوزن، أو ما يقوم مقام الوزن من التحري المعروف (والرابع) أن يكون مؤجلا إلى أجل معلوم، وفي حده اختلاف سأذكره إن شاء الله (والخامس) أن يعجل دفع رأس المال ولا يؤخره بشرط فوق ثلاث، فإن وقع السلم على غير هذا لم يجز وفسخ. فصل فسلم الدنانير والدراهم على هذا جائز في كل شيء من العروض والطعام والرقيق والحيوان وجميع الأشياء، حاشا أربعة أشياء، أحدها: ما لا يصح الانتقال به من الدور والأرضين، والثاني ما لا يحاط بصفته مثل تراب المعادن والجزاف فيما يصح بيعه جزافا. والثالث: ما يتعذر وجوده من الصفة. والرابع: ما لا يجوز بيعه بحال، نحو تراب الصواغين والخمر والخنزير وجلود الميتات، وجميع النجاسات، وما أشبه ذلك من الغرر والحرام. فصل فإن وقع السلم فاسدا، فالذي يتحصل في مسألة الكتاب فيمن أسلم في حنطة سلما فاسدا، أن فساده إن كان متفقا عليه أو مختلفا فيه ففسخ بحكم جاز

فصل

للمسلم أن يأخذ في رأس ماله خلاف الجنس الذي أسلم فيه، مثل تمر من قمح، وأن يؤخره برأس ماله، وأن يأخذ بعضه ويضع عنه بعضه باتفاق، ولم يجز له أن يأخذ برأس ماله دنانير إن كان دراهم ولا ما أشبه ذلك مما لا يجوز له أن يسلم رأس ماله فيه باتفاق أيضا، واختلف هل يجوز له أن يأخذ منه من جنس سلمه شيئا أم لا؟ على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه لا يجوز له أن يأخذ منه شيئا من ذلك، لا سمراء من سمراء ولا محمولة من سمراء ولا قمحا من شعير، وهذا هو ظاهر الكتاب (والثاني) أنه يجوز له أن يأخذ منه ما شاء من ذلك، وهو قول ابن لبابة (والثالث) أنه يجوز له أن يأخذ منه محمولة من سمراء وقمحا من شعير، ولا يجوز له أن يأخذ منه محمولة من محمولة ولا سمراء من سمراء، وهو قول الفضل. وأما إن كان الفساد مختلفا فيه فلا يجوز له أن يأخذ منه قبل الحكم بالفسخ خلاف الجنس الذي أسلم إليه فيه، ولا أن يؤخره برأس ماله، ولا أن يأخذ منه بعضه ويضع عنه بعضه، باتفاق، لأن ذلك كله بيع الطعام قبل أن يستوفى، على قول من يجيزه، فإن أراد أن يأخذ منه شيئا من جنس سلمه، فعلى الثلاثة الأقوال المذكورة بعد الحكم في الفساد المتفق على تحريمه، وذهب عبد الحق إلى أن السلم إذا فسخ بالحكم جاز له أن يأخذ برأس ماله دنانير وهو دراهم، وذلك بعيد غير صحيح، فلا يعد في الخلاف، وتراضيهما بالفسخ كالحكم بالفسخ عند أشهب، وضعف ذلك ابن المواز. فصل وإنما لم يجز السلم في الدور والأرضين، لأن السلم لا يجوز إلا بصفة، ولا بد في صفة الدور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعينت، فصار السلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلصها له منه، وذلك من الغرر الذي لا يحل ولا يجوز، لأنه لا يدري بكم يتخلصها منه، وربما لم يقدر على أن يتخلصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله فصار مرة بيعا ومرة سلفا وذلك سلف جر نفعا.

فصل

فصل وإنما لم يجز السلم فيما يتعذر وجوده من الصفة، لأنه إن وجدت السلعة على الصفة المشترطة تم البيع؛ وإن لم توجد، رجع إليه رأس ماله فصار مرة بيعا ومرة سلفا، وذلك أيضا سلف جر منفعة، وإنما لم يجز السلم فيما لا تحصره الصفة، لأنه غرر وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر». فصل وإنما كان من شروط صحة السلم: أن يكون مضمونا موصوفا معلوم القدر إلى أجل معلوم، لأنه متى أخل بشيء من ذلك كان من الغرر المنهي عنه في البيوع. فصل وإنما كان من شروط صحته أن لا يتأخر رأس المال فوق ثلاث «لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الكالئ بالكالئ وتأخيره ثلاثة أيام فما دونها بشرط جائز» وقد وقع في المدونة ما ظاهره أنه لا يجوز أن يتأخر بشرط قليلا ولا كثيرا، والمشهور ما قدمناه أولا، وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق - كان رأس المال عينا أو عرضا؛ فإن تأخر فوت الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا، واختلف فيه إن كان عينا؛ فعلى ما في المدونة أن السلم يفسد بذلك ويفسخ، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط. فصل وقد اختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حد أقل ما يجوز إليه السلم من الآجال، فكان يقول أولا: أقل ما يجوز إليه السلم ما ترتفع فيه الأسواق

فصل

وتنخفض، وذلك نحو الخمسة عشر يوما - وهو قوله في المدونة، ثم أجازه إلى اليومين والثلاثة؛ ووقع اختلاف قوله هذا في سماع ابن القاسم من جامع البيوع، وذكر الاختلاف عنه في ذلك ابن حبيب أيضا، وكذلك اختلف في ذلك قول سعيد بن المسيب، فله في المدونة مثل قول مالك الأول، وفي الواضحة مثل قوله الآخر، وأجاز السلم الحال إذا وقع على ما كان يقيم منه من أدركناه من الشيوخ - وفيه نظر؛ وما في المدونة أصح، لأن إجازة السلم الحال أو إلى اليومين ونحوهما من باب بيع ما ليس عندك، وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحكيم بن حزام: يا حكيم لا تبيعن إلا ما عندك» وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني أبيع بالدين؟ قال له: لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك. فصل وبيع ما ليس عندك ينقسم على ثلاثة أوجه، وجه متفق على جوازه، وهو أن يبيع بنقد ما ليس عنده إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، وهو السلم الذي جوزه القرآن والسنة، ووجه متفق على كراهيته: وهو أن يبيع بثمن إلى أجل ما ليس عنده نقدا أو إلى أجل، وشرح هذا الوجه وتفصيله يطول، وسأذكره في كتاب بيوع الآجال، إن شاء الله. ووجه اختلف فيه فأجيز وكره - وهو أن يبيع ما ليس عنده نقدا بنقد، ووجه كراهيته: أنه كأنه اشترى منه سلعة فلان على أن يتخلصها منه، وإن كان هذا أكره، لأن فلانا قد لا يبيع سلعته، ومن أسلم إليه في سلعة غير معينة حالة عليه، لا يتعذر عليه شراؤها في الأغلب من الحالات؛ وقال أشهب: وجه الكراهية في ذلك أيضا أنه إذا أعطي دنانير في سلعة إلى يومين ونحوهما، فكأنه قيل له: خذ هذه الدنانير فاشتر بها سلعة كذا، فما زاد فلك، وما نقص فعليك، فدخلته المخاطرة والغرر - وإن كان ذلك في السلعة المعينة أكره منه في غير المعينة، فاختلف فيه أيضا، في السلم الأول من الدونة أن ذلك لا يجوز، وفي سماع يحيى من جامع

فصل

البيوع تخفيف ذلك إذا كان قد قاربه في بيعها ورجا تمام ذلك، ونحوه في سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال إذا كانت البيعتان بالنقد. فصل وأما حد أبعد آجال السلم، فحد ما يجوز إليه البيع على الاختلاف في ذلك. فصل وأما تسليم العروض بعضها في بعض، كانت مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، والحيوان بعضه في بعض، فذلك كله جائز في مذهب مالك وجميع أصحابه إذا اختلفت الأصناف واختلفت المنافع والأغراض في الصنف الواحد، فبان ألا اختلاف في المذهب في هذه الجملة، وإنما اختلفوا في تفصيلها على ما يأتي في مسائلهم من الاختلاف في بعض الأشياء: هل هي صنف واحد أو صنفان؟ فرآه بعضهم صنفا واحدا لتقارب المنافع بينهما عنده، ويراه بعضهم صنفين لتباعد الأمد بينهما عنده على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم. فصل وإنما لم يجز سلم الصنف في مثله لورود السنة «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم ما جر من السلف نفعا» وذلك على عمومه في العين والعرض والطعام فيمن أسلم سلفا لمنفعة يبتغيها من زيادة في الكيل أو فضل في الصفة، أو اغتفار الزيادة لابتغاء الضمان، فذلك كله حرام، ذكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل ما أسلفت، فقال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذلك الربا - الحديث بطوله. وقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه، وقال عبد الله بن مسعود

فصل

: من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كان قبضة من علف، فهو ربا. فصل وتفسير ذلك مقيس على الربا المحرم بالقرآن، ربا الجاهلية؛ إما أن تقضي وإما أن تربي؛ لأن تأخيره بالدين بعد حلوله على أن يربي له فيه سلف جر منفعة، وإنما يجوز في السلف أن يأخذ أفضل مما أسلفه إذا كان ذلك من غير شرط، كما «فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسلف من رجل بكرا فقضاه جملا خيارا رباعيا وقال: "إن خيار الناس أحسنهم قضاء»، وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يأخذ أكثر عددا في القرض في مجلس القضاء، ولا بأس به بعد المجلس إذا لم يكن وأي ولا عادة، فإذا أسلم الصنف من العروض والحيوان في مثله أكثر عددا أو أفضل في الصفة، فذلك حرام وربا؛ لأنه قد قرض بزيادة يشترطها في العدد والصفة، وإن كان أسلمه في أقل من عدده أو أدنى من صفته، فإنما اغتفر كثرة العدد أو أفضل الصفة لابتغاء الضمان، وذلك كله لا يجوز لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر منفعة، حتى إذا اختلفت الصفة اختلافا بينا فتباعدت، أشبهت الصنفين وخرجت عن معنى القرض إلى البيع الجائز، فجاز أن يسلم بعضها في بعض، لجواز نفاق كل واحد من الصنفين، وكساده دون الآخر، ولا يجوز ذلك في الصنف الواحد، فإذا لم يجز ذلك فيه كان المسلم له في مثله على يقين من النفع الذي اشترطه فلم يجز، بخلاف الصنفين اللذين لا يكون في سلم أحدهما في صاحبه المسلم ولا المسلم إليه على يقين من النفع الذي يبتغيه، لجواز نفاق كل واحد من الصنفين دون صاحبه. فصل وأما تسليم العين بعضه في بعض: الذهب في الفضة أو الفضة في الذهب

فصل

أو الذهب في الذهب أو الفضة في الفضة، فذلك لا يجوز بإجماع أهل العلم، وكذلك الطعام كله بجميع أصنافه. كان مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، لا يجوز سلم بعضه في بعض. فصل وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام، (أحدها) أن لا يشترط المسلم المستعمل - عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه. (والثاني) أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه. (والثالث) أن لا يشترط عمله ويعين ما يعمل منه. (والرابع) أن يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه؛ فأما الوجه الأول وهو أن لا يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال؛ وأما الوجه الثاني وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع؛ فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل، فيجوز على أن يشرع في العمل وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك؛ فإن كان على أن يشرع في العمل، جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها، لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل؛ وأما الوجه الثالث وهو أن لا يشرط عمله بعينه ويعين ما يعمل منه، فهو أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره؟ وأما الوجه الرابع وهو أن يشرط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه.

فصل

فصل في القول في الربا في العين والطعام وتقسيم وجوهه وتبيين علله، الربا في بيع الطعام بعضه ببعض والعين بعضه ببعض، على وجهين: ربا في النقد، وربا في النسيئة؛ فما كان من الطعام صنفا واحدا مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت أصلا للمعاش غالبا، فالربا فيه من وجهين، لا يجوز التفاضل فيه يدا بيد، ولا بيعه بالنسيئة مثلا بمثل ولا متفاضلا؛ كالذهب بالذهب، والورق بالورق، فإذا اختلف الصنفان من ذلك، جاز التفاضل فيهما يدا بيد، وحرمت فيهما النسيئة، كالذهب بالورق والورق بالذهب، وكذلك إذا بيع ما يدخر ويقتات، بما لا يدخر ولا يقتات، أو ما لا يدخر ولا يقتات، بما لا يدخر ولا يقتات، لم يكن الربا فيه إلا في النسيئة خاصة؛ لأن العلة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه في منع جواز التفاضل في الصنف الواحد، هي أن يكون مطعوما مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت؛ وبعضهم يزيد في صفة العلة أصلا للمعاش غالبا على اختلاف بينهم في مراعاة ذلك؛ والعلة في ذلك عند الشافعي الطعم بانفراده، فحرم التفاضل في الصنف الواحد من كل ما يؤكل ويشرب. كان مما يدخر أو مما لا يدخر؛ كان مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، حتى حرم التفاضل في السقمونيا والطين الأرمني، والعلة في ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكيل والوزن، فلم يجز التفاضل في الصنف الواحد مما يوزن أو يكال، كان مما يؤكل أو يشرب، أو مما لا يؤكل ولا يشرب ومنع من رطل حديد برطلين حديد - يدا بيد أو إلى أجل، لأنه مما يوزن، وأجاز تمرة بتمرتين، وجوزة بجوزتين، لأن ذلك مما لا يكال، إذ لا يتأتى فيه الكيل، وذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو مما يوزن ويكال مما يؤكل ويشرب؛ فالعلة عنده في الربا: الطعم مع الكيل والوزن، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي ثور، فلا بأس عند سعيد بن المسيب

فصل

ومن ذهب مذهبه في بيع ما عدا الذهب والفضة، وما يوزن أو يكال مما يؤكل أو يشرب متفاضلا يدا بيد ونسيئة، اتفق النوعان أو اختلفا. فصل وهذه العلة أخذت من طريق النظر والاجتهاد، إذ لم ينص النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على العلة في ذلك، ولا نبه عليها، ولذلك اختلف فيها، فهي مظنونة غير معلومة ولا مقطوع بها؛ والحكم بها عند من رآها علة بنظره واجتهاده معلوم مقطوع عليه. فصل والأصل الذي منه استثار العلماء هذه العلل، هو ما صح الخبر به عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن التفاضل في الصنف الواحد من ستة أشياء، وهي: الذهب والفضة، والقمح والشعير، والتمر والملح». والآثار في ذلك كثيرة موجودة، منها حديث عبادة ابن الصامت وغيره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد» وزاد بعض رواة الحديث: «والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وبعض الرواة يقول فيه: «فإذا اختلف الصنفان، فبيعوا كيف شئتم - يدا بيد». وهو مذهب عبادة بن الصامت راوي الحديث أن القمح والشعير صنفان، وإلى هذا ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم، واحتج بعض من ذهب إلى ذلك أيضا بحديث مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحرثان النصري عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء،

فصل

والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء». ففصل بين البر والشعير بواو فاصلة كما فصل بين البر والتمر. فصل والذي ذهب إليه مالك وجميع أصحابه أن البر والشعير صنف واحد على ما روى في موطئه عن سعد بن أبي وقاص، ومعيقب الدوسي، لأن قوله في حديث عبادة بن الصامت: «وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم» - زيادة لم يتفق عليها جميع رواته، فيحتمل أن يكون ذلك من قول الراوي قياسا على قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا اختلف الصنفان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد». فصل فقاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القمح والشعير المذكورين في الحديث ما كان في معناهما من جميع الحبوب والطعام المقتات المدخر، وقاس على التمر ما كان في معناه من الطعام المدخر الذي يتفكه به في بعض الأحوال ويتقوت به في بعض الأحوال كالزبيب والجوز واللوز وما أشبه ذلك، وقاس على الملح المذكور في الحديث ما كان في معناه من الطعام المدخر لإصلاح القوت، كالتوابل والبصل والثوم وما أشبه ذلك. فصل وأما الذهب والفضة فلم يقس عليهما شيئا من العروض التي تكال أو توزن، لأن العلة عنده في منع التفاضل في كل واحد منهما، هي أنهما أثمان للأشياء وقيم للمتلفات، فهي علة واقفة لا تتعدى إلى ما سواهما. وكذلك الشافعي لم يقس على الذهب والورق شيئا من العروض المكيلة والموزونة، وقاس على البر والشعير والتمر والملح - جميع الطعام - كان مدخرا مقتاتا أو لم يكن، لأنه رأى العلة في

فصل

المنع من التفاضل في ذلك، هو الطعم بانفراده؛ وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقاسوا على البر والشعير والتمر والملح - جميع ما يكال من الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الكيل، وهي العلة عنده في منع التفاضل في ذلك؛ وقاسوا على الذهب والفضة جميع ما يوزن من الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الوزن، وهي العلة عنده في منع التفاضل في ذلك. فصل والقياس على الذهب والفضة لا يصح، لأنهم قد أجمعوا أنه لا بأس أن يشترى بالذهب والفضة جميع الأشياء التي تكال أو توزن يدا بيد ونسيئة، فيلزم من قياس الحديد والرصاص وما أشبه ذلك مما يوزن على الذهب والفضة، كما قاس ما يكال من الطعام على البر والشعير والتمر والملح، أن لا يجيز شراء الحديد والرصاص بالذهب والفضة نسيئة، كما لا يجيز شراء الحمص والعدس بالقمح والشعير نسيئة، وقد أجمع الناس على إجازة ذلك، وقاس سعيد بن المسيب على القمح والشعير والتمر والملح المذكور في الحديث المكيل والموزون من الطعام خاصة، وشذ داود وأهل الظاهر فلم يروا الربا إلا في أربعة أشياء التي نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، واحتجوا لإجازة التفاضل فيما سوى ذلك بعموم قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. فصل فالطعام على مذهب مالك وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ينقسم على أربعة أقسام: طعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت. وهو أصل للمعاش غالبا، وطعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت وليس بأصل للمعاش غالبا، وطعام يدخر نادرا، وطعام لا يدخر أصلا، فأما ما يدخر ويقتات، أو يصلح القوت وهو أصل للمعاش غالبا، فإن التفاضل في الصنف الواحد منه لا يجوز باتفاق في المذهب، وأما ما يدخر ويقتات به وليس بأصل للمعاش غالبا مثل الجوز واللوز والجلوز

فصل

وما أشبه ذلك، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه في إجازة التفاضل في الصنف الواحد منه. فصل وعلى هذا الاختلاف اختلف المعللون في تحرير العلة، فزاد في صفة علة الربا أصلا للمعاش غالبا من أجاز التفاضل في ذلك، وكان شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك المذهب في المدونة، وليس ذلك عندي ببين منها، واقتصر في صفة العلة على قوله: مطعوما مدخرا مقتاتا، ولم يزد فيه: أصلا للمعاش غالبا، من منع التفاضل في ذلك، وهو نص قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، وقول ابن حبيب في الواضحة، وهو الظاهر عندي من المدونة، وعلى هذا المعنى يأتي اختلاف قول مالك في إجازة التفاضل في البيض، والاختلاف في إجازة التفاضل في التين، لأنهما يدخران وليسا بأصل للمعاش غالبا، وأما ما كان من الأطعمة يدخر نادرا، فالتفاضل في الصنف الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه، كالخوخ والكمثرى وما أشبه ذلك؛ وأما ما كان منهما لا يدخر أصلا، فالتفاضل في الصنف الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه. فصل وأما بيع الطعام بالطعام نسيئة، أو بيعه قبل استيفائه، فلا يجوز بحال، اتفقت أصنافه أو اختلفت، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، والله ولي التوفيق برحمته.

كتاب بيوع الآجال

كتاب بيوع الآجال أصل ما بني عليه هذا الكتاب الحكم بالذرائع، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحة ويتوصل بها إلى استباحة الربا، وذلك مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة دينار إلى أجل ثم يبتاعها بخمسين نقدا، فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى سلف خمسين دينارا في مائة إلى أجل، وذلك حرام لا يحل ولا يجوز؛ وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومن قال بقوله؛ لأن ما جر إلى الحرام وتطرق به إليه حرام مثله؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فنهى تبارك وتعالى عن سب آلهة الكفار؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقا إلى سب الله تعالى، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]، فنهى عز وجل عباده المؤمنين أن يقولوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: راعنا، وهي كلمة صحيحة معروفة في لغة العرب،

معناها أرعني سمعك وفرغه لي لتعي قولي وتفهم عني؛ لأنها كلمة سب عند اليهود، فكانت تسب بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنفسها، فلما سمعوها من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرحوا بها، واغتنموا أن يعلنوا بها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويظهروا سبه، فلا يلحقهم في إظهاره شيء. فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، ونهى عن الكلمة، لئلا يكون ذلك ذريعة لليهود إلى سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تؤولت الآية على غير هذا، وهذا أظهر ما قيل فيها. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وجه الدليل من هذه الآيات على وجوب المنع من الذرائع: أن الله حرم على اليهود الاصطياد يوم السبت ابتلاء لهم، وذلك أن اليهود قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمر بالجمعة وتفضلها على سائر الأيام والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض والأوقات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال الله عز وجل لموسى: دعهم وما اختاروه، ولا يصيدون فيه سمكا ولا غيره ولا يعملون فيه شيئا، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شارعة ظاهرة كما قال الله تعالى، وتغيب عنهم سائر الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء، فكانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر الأيام، ويقولون: لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه في يوم السبت، وإنما نفعله في غيره، فعاقبهم الله على فعلهم ذلك، لأنه ذريعة للاصطياد الذي نهوا عنه وإن لم يكن اصطيادا على الحقيقة - بأن مسخهم قردة وخنازير - كما أخبر تعالى في كتابه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

فصل

«لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها». وجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شراء الصدقة بالثمن كالعودة فيها بغير ثمن، «فقال لعمر بن الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فأراد شراءه لما أضاعه صاحبه وأراد بيعه: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه». «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن وليدة زمعة لعبد بن زمعة: هو لك يا عبد بن زمعة فألحقه بأبيه زمعة، وقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لأخته سودة بنت زمعة زوجته: احتجبي منه؛» لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص، فأعمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشبهة وحكم لها بحكم اليقين، فمنع بها من صلة الرحم وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث بصلة الأرحام، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تقطعوها. فصل وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها، من ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وقوله: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات، كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وقال: ألا لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع

فصل

منها، لئلا يستباح الربا بالذرائع؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الريبة والريبة. وأيضا فإن مراعاة التهمة أصل يبني الشرع عليه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه»، ولم يجز أهل العلم شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه، من طريق التهمة، ومنه منعوا القاتل عمدا الميراث، وورثوا المبتوتة في المرض، ومثل هذا كثير. فصل فإذا باع الرجل من الرجل سلعة بنقد ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بنقد، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بنقد ثم اشتراها منه بنقد، وقد غاب على النقد، فإنك تنظر في هذا إلى الذي أخرج دراهمه أولا، فإن كان رجع إليه مثلها أو أقل، فذلك جائز، وإن رجع إليه أكثر منها، نظرت فإن كانا من أهل العينة أو أحدهما، لم يجز ذلك بحال - كانت البيعة الأولى بالنقد أو بالنسيئة - وإن لم يكونا من أهل العينة، جاز إن كانت البيعة الأولى بالنقد، ولم يجز إن كانت بالنسيئة؛ وذلك أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة؛ لعملهم بالمكروه؛ من ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بخمسة نقدا وخمسة إلى أجل، إذا كان ذلك إنما يبتاعه لبيع، وذلك جائز لغير أهل العينة، ومن ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بثمن إلى أجل ثم يستوضعه المبتاع من الثمن فيضع عنه، فإن مالكا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك، لأنه إنما يبيعه

فصل

على المراوضة، فإنما يضع عنه ويرده إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلا للربا الذي قصداه، وتفسير هذا أن يأتي الرجل إلى الرجل من أهل العينة فيقول له: أسلفني ذهبا في أكثر منها إلى أجل، فيقول له: أسلفك درهما في اثنين إلى أجل، فيقول له: لا أعطيك في الدرهم إلا درهما وربعا، فيتراوضان ويتفقان على أن يربح معه في الدرهم نصف درهم، ثم يقول له: هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها مائة درهم أبيعها منك بمائة وخمسين إلى شهر، فتبيعها أنت بمائة فيتم لك مرادك، فيرضى بذلك ويأخذ السلعة منه ويبيعها بثمانين ثم يرجع إليه فيقول له: إني قد وضعت في السلعة وضيعة كثيرة فحط عني من المائة والخمسين ما يجب للعشرين التي وضعتها في السلعة، فيضع عنه ثلاثين تتميما للمراوضة التي عقدا بيعهما عليها، فيئول أمرهما إلى أن أسلم إليه ثمانين في مائة وعشرين، فهذا وجه كراهية مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوضيعة في هذه المسألة. فصل وفي شراء الرجل السلعة التي باعها بثمن إلى أجل من مبتاعها منه بثمن من جنس الثمن الذي باعها منه به - سبع وعشرون مسألة، وذلك أنه قد يشتريها نقدا أو إلى أجل دون الأجل الذي باع إليه بمثل ذلك الثمن، أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل، وقد يشتريها إلى مثل ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ست مسائل؛ وقد يشتريها إلى أبعد من ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن، فهذه تسع مسائل؛ وقد يشتريها وزيادة معها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر، وقد يشتري بعضها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر تتمة سبع وعشرين مسألة كما ذكرنا؛ فأما إلى ذلك الأجل فيجوز بكل حال، اشتراها كلها أو بعضها، أو اشتراها وزيادة معها، بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، لأن الحكم يوجب المقاصة إذا اتفقت الآجال وإن لم يشترطاها، فترتفع التهمة بذلك في جميع

فصل

الوجوه، وأما بالنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، فإن كان اشتراها أو بعضها، فيجوز بمثل الثمن أو أكثر، ولا يجوز بأقل، وإن كان اشتراها وزيادة عليها، فلا يجوز بمثل الثمن ولا بأقل منه ولا بأكثر، وأما إلى أبعد من ذلك الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو اشتراها وزيادة عليها، فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر منه، وإن كان اشترى بعضها، فلا يجوز على حال، لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر. فصل وسواء غاب على السلعة أو لم يغب عليها، لأنها تعرف بعينها بعد الغيبة عليها، وإنما يفترق ذلك في الطعام والمكيل والموزون من العروض، لأن ذلك لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فيتفرع ذلك فيما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه إلى أربع وخمسين مسألة، وذلك أنها تنحصر في التقسيم إلى تسعة أقسام لا زيادة فيها، إذ لا يخلو أن يبتاع منه طعاما بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر أو طعامه وزيادة عليه بمثل الثمن أيضا أو بأقل أو بأكثر، أو بعض طعامه بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر؛ فهذه تسعة أقسام، وكل قسم منها ينقسم إلى قسمين، أحدهما أن يكون قد غاب على الطعام، والثاني أن يكون لم يغب عليه؛ فهذه ثمانية عشر قسما لا زيادة فيها، كل قسم منها ينقسم على ثلاثة أقسام، أحدها أن يبتاع ذلك بنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، والثاني أن يبتاعه إلى ذلك الأجل بشرط المقاصة أو بسكوتهما عن الشرط، إذ يوجب ذلك الحكم. والثالث أن يبتاعه إلى أبعد من ذلك الأجل، فهذه أربع وخمسون مسألة - كما ذكرنا، ثماني عشرة مسألة في الشراء بالنقد أو إلى أجل دون الأجل، وثماني عشرة مسألة في الشراء إلى ذلك الأجل على المقاصة، فهذه ستة وثلاثون مسألة، وثماني عشرة مسألة في الشراء، إلى أبعد من ذلك الأجل. فأما الست والثلاثون مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد أو إلى ذلك الأجل بعينه، فمنها خمس عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرهن يجوز باتفاق.

فصل

فصل ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين، أحدهما أن يشتري منه أكثر مما باع من الطعام، والثاني أن يشتري منه بأقل من الثمن الذي باع به الطعام؛ فهذان الوجهان لا يجوزان نقدا، ويجوزان مقاصة - إن كان لم يغب على الطعام، ولا يجوزان نقدا ولا مقاصة إن كان غاب عليه، لا يجوز له أن يشتري طعامه وزيادة شيء من الأشياء عليه بمثل الثمن ولا بأكثر منه ولا بأقل منه نقدا - وإن كان لم يغب على الطعام، ولا نقدا ومقاصة إن كان غاب عليه، ولا يجوز له أن يشتري منه الطعام الذي باعه منه بعينه ولا بعضه، ولا أن يشتريه وزيادة عليه، وإن كان لم يغب عليه بأقل من الثمن نقدا ولا نقدا ومقاصة، إن كان غاب عليه، ويجوز سائر الوجوه نقدا ومقاصة، حاشا المسألة التي ذكرنا أنها تجوز على اختلاف - وهي أن يبتاع منه بمثل الثمن أقل من الطعام مقاصة؛ فإن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اختلف في ذلك فصل وأما الثماني عشرة مسألة المتحصلة من شراء ذلك إلى أبعد من الأجل، فمنها ثلاث عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرها - وهي أربع - تجوز باتفاق، ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين أيضا، (أحدهما) أن يشتري منه أقل من الكيل، (والثاني) أن يشتري منه بأكثر من الثمن، فهذان الوجهان لا يجوزان، غاب على الطعام أو لم يغب، وسائر الوجوه تجوز - إن لم يغب على الطعام، ولا تجوز إن غاب عليه، حاشا المسألة المختلف فيها - وهي أن يشتريه منه وقد غاب عليه بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل، فيجوز ذلك على مذهب ابن القاسم، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون؛ والعلة في ذلك أسلفني وأسلفك، لأن أمرهما آل إلى ذلك، فكرهه ابن الماجشون ولم يجزه، وخففه ابن القاسم ولم يتهمهما في ذلك.

فصل

فصل في تنزيل الخمس عشرة مسألة التي لا تجوز من الستة والثلاثين مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد وإلى ذلك الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يبتاع منه مثل طعامه وقد غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرة أرادب بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز، لأن البائع الأول وهو المبتاع الثاني يدفع إلى المبتاع الأول خمسة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل - وقد دفع إليه عشرة أرادب، فغاب عليها وانتفع بها ثم رد إليه مثلها، فكأنه أسلم إليه خمسة دراهم في عشرة أرادب إلى أجل وأسلفه عشرة أرادب قرضا بسبب ذلك، فيدخله سلف دراهم في أكثر منها إلى أجل، ودراهم وطعام في دراهم أكثر منها إلى أجل وطعام، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، فيتهمان على أنهما قصدا إلى ذلك وتحيلا إلى إجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثانية) أن تكون المسألة بحالها، إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فلا يجوز أيضا، لأن أمرهما آل إلى أن أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه مثلها على أن يعطيه المسلف خمسة دراهم إذا حل الأجل ثمنا لانتفاعه بالسلف، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر نفعا» وذلك أيضا مضارع لربا الجاهلية المحرم بالقرآن: إما تقضي وإما أن تربي، فيتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثالثة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيستوفيه منه بعينه بخمسة دراهم نقدا، فلا يجوز أيضا لأن أمرهما آل إلى أن دفع المبتاع الثاني إلى المبتاع الأول خمسة دراهم في عشرة دراهم إلى أجل، والطعام رجع إليه بعينه، فكان لغوا، (والرابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه وقد غاب عليه بمثل الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، فيغيب على الطعام، ثم يبتاع منه عشرين إردبا بعشرة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف

ودراهم وطعام في دراهم وطعام إلى أجل، لأن أمرهما آل إلى أن دفع البائع الأول إلى المبتاع الأول عشرة أرادب وعشرة دراهم نقدا في عشرين إردبا وعشرة دراهم إلى أجل، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والخامسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالعشرة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأنه دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه عشرين إردبا والثمن بالثمن ملغى، لأنه مقاصة فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب أخرى بعشرة دراهم نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله الزيادة في السلف لأنه دفع إليه عشرة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل، فكأنه أسلفه إياها على أن يزيده عشرة أرادب من طعام، لأن العشرة التي باع منه رجعت إليه بأعيانها فكانت ملغاة. (والسابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا. مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بالخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز أيضا ويدخله الزيادة في السلف، ودراهم وطعام بدراهم وطعام إلى أجل لأن البائع الأول دفع إلى المبتاع الأول ضرة أرادب فانتفع بها ورد إليه عشرين إردبا، ودفع إليه أيضا خمسة دراهم نقدا، على أن يأخذ منه - إذا حل الأجل - عشرة دراهم، فيتهمان على القصد إلى ذلك (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة الدراهم ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم أخذ منه عشرين إردبا، ويأخذ منه أيضا خمسة دراهم إذا حل الأجل، وتسقط خمسة بالمقاصة، فكأنه أقرضه عشرة أرادب على أن يرد إليه فيها عشرين إردبا وخمسة دراهم (والتاسعة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاعه منه بعينه وعشرة أرادب معه بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه خمسة دراهم نقدا في عشرة دراهم إلى أجل وعشرة أرادب نقدا لأن

العشرة الأرادب التي باع منه رجعت إليها بأعيانها فكانت ملغاه. (والعاشرة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأكثر من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بعشرين درهما نقدا، فيدخله البيع والسلف؛ لأنه كان أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها وعشرة دراهم من العشرين درهما التي نقده إياها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والحادية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه من العشرين درهما بعشرة دراهم في العشرة التي له عليه من ثمن الطعام ولم ينقده إلا عشرة دراهم، فهذا لا يجوز ويدخله البيع والسلف أيضا لأنه كأنه أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والثانية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب معه بعشرين درهما نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله البيع والسلم أيضا، لأنه كأنه أقرضه عشرة دراهم من العشرين درهما يأخذها منه إذا حل الأجل، على أن باع منه العشرة الأرادب الزائدة على الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة على الثمن والعشرة الأرادب التي رجعت إليه بأعيانها ملغاة كأن لم تكن. (والثالثة عشرة) أن يبتاع منه أقل من الطعام بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل وطعام، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بخمسة دراهم نقدا، يدخلها بيع طعام بطعام وذهب بذهب إلى أجل وطعام، ويدخلها أيضا البيع والسلف لأن الخمسة الأرادب التي رجعت إلى البائع كأنه سلف أسلفه إياه، فالخمسة الدراهم التي دفع الآن نقدا كأنها سلف أيضا يقتضيه إذا حل الأجل، والخمسة أرادب التي بقيت عند المبتاع الأول للبائع، أخذ منه فيها الخمسة الدراهم الزائدة على نقده، فكأن البائع الأول أسلف المبتاع الأول خمسة أرادب وخمسة دراهم

فصل

على أن باع منه خمسة أرادب بخمسة دراهم، وذلك ما لا يحل ولا يجوز. (والرابعة عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بخمسة دراهم في خمسة من العشرة التي له عليه ولم ينقده إياها، يدخلها البيع والسلف، لأنه كان أسلفه الخمسة الأرادب التي غاب عليها ثم ردها إليه وباعه الخمسة الأرادب الأخرى بالخمسة الدراهم التي يأخذها منه عند حلول الأجل، وسقطت خمسة بخمسة مقاصة. (والخامسة عشرة) أن تكون المسألة بحالها أيضا إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاع منه بعينه خمسة أرادب بخمسة دراهم، يدخلها دراهم وطعام بدراهم إلى أجل، لأنه كأنه باعه الخمسة دراهم التي دفع إليه نقدا والخمسة الأرادب بالعشرة الدراهم التي يأخذها منه عند الأجل، والخمسة الأرادب الأخرى رجعت إليه بأعيانها، فكانت ملغاة. وأما المسألة المختلف فيها، وهي أن يشتري منه أقل من الطعام وقد غاب عليه بمثل الثمن مقاصة، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بعشرة دراهم مقاصة بالعشرة دراهم التي وجبت له عليه من ثمن الطعام، فيدخلها اقتضاء الطعام من ثمن الطعام، لأنه باع منه عشرة أرادب ثم أخذ منه في ثمنها خمسة أرادب، فمرة كرهها مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورأى أن الخمسة الأرادب ثمن العشرة الأرادب، كأنه أعطاه خمسة أرادب على أن يضمن له الخمسة الأخرى إلى أجل، ومرة استخف ذلك ورأى أن التهمة بعيدة، لأن القصد إلى مثل هذا قليل من الناس. فصل في بيان الثلاث عشرة مسألة التي لا تجوز من الثمان عشرة مسألة المتحصلة في الشراء إلى أبعد من الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يشتري منه أقل من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام إلى أبعد من الأجل، ومثالها أن يبيع

منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، فيدفع الطعام إليه ويغيب عليه، ثم يبتاع منه ثمانية أرادب من صنف طعامه بعشرة دراهم إلى شهرين، فذلك لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأن الأمر آل بينهما إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عند انقضاء شهر عشرة دراهم، ويأخذها منه عند انقضاء شهرين - وقد دفع إليه البائع الأول عشرة أرادب فرد إليه منها ثمانية بعد أن غاب عليها وبقي عنده إردبان، فيعد ذلك سلفا من كل واحد منهما لصاحبه - على أن زاد البائع الأول للمبتاع الثاني إردبين، ويتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهراه من البيعتين الصحيحتين في الظاهر (والثانية) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف - كأن المبتاع الأول أسلف البائع الأول عشرة دراهم شهرا على أن يعطيه إردبين من طعام، وهي التي بقيت عنده من الطعام الذي ابتاع منه وسائره رجع إليه بعينه فكان لغوا. (والثالثة) أن يشتري منه أقل من الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف كل واحد منهما صاحبه، لغيبة المبتاع على الطعام. (والرابعة) أن تكون المسألة على حالها إلا أن المبتاع لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول ثمانية دراهم عند شهر يأخذها منه عند انقضاء شهرين على ما نزلناه. (والخامسة) هي أن يشتري منه أقل من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن

الأمر آل بينهما، إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عشرة دراهم عند شهر، يأخذ منه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين على أن أسلفه البائع الأول ثمانية أرادب وأعطاه إردبين، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة على حالها، إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل بزيادة إردبين يأخذهما المبتاع الأول من الطعام الذي باع منه البائع الأول والثمانية الأرادب التي رجعت إليه بعينها لغو، ويدخل ذلك أيضا بيع الطعام نقدا ودراهم إلى أجل بدراهم أكثر منها إلى أجل. (والسابعة) أن يشتري منه مثل الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند انقضاء الشهر ويدفع إليه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين، على أن أسلف البائع الأول عشرة أرادب، إذ لا يعرف الطعام بعينه بعد الغيبة عليه. (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند شهر، ويدفع إليه اثني عشر درهما عند شهرين، ورجع إليه طعامه بعينه فكان لغوا. (والتاسعة) هي أن يشتري منه أكثر من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف. لأن المبتاع الأول باع من البائع الأول على المثال الذي وصفناه: الإردبين اللذين زادهما على الطعام بالدرهمين اللذين يأخذهما منه زيادة على الثمن، على أن أسلف هذا هذا عشرة دراهم، وهذا هذا عشرة أرادب. (والعاشرة) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأنهما تبايعا الزيادة على الطعام بالزيادة على الثمن، على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول عشرة دراهم شهرا والعشرة الأرادب التي دفع البائع رجعت إليه

بعينها فكانت لغوا. (والحادية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الطعام بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن دفع المبتاع إلى البائع إردبين من طعام، ويدفع إليه أيضا عشرة دراهم عند شهر ويأخذ منه ثمانية دراهم عند انقضاء شهرين، فلا يتهم في مثل هذا أحد. (والثانية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع عشرة دراهم شهرا وأعطاه إردبين، فيكون قد صنع معه معروفا من وجهين. (والثالثة عشرة) أن يشتري منه مثل الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأن البائع أسلف المبتاع عشرة أرادب فانتفع بها ورد إليه مثلها على أن يدفع إليه المبتاع إذا حل الأجل دينارين ثمنا لما أسلفه، وثمانية دراهم تكون سلفا عنده إلى حلول الأجل الثاني، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن طعامه بعينه رجع إليه فكان لغوا، ويدفع المبتاع إلى البائع عند الأجل عشرة دراهم، ويأخذ منه ثمانية دراهم عند الأجل الثاني فلا يتهم في هذا أحد، وأما المسألة المختلف فيها وهي أن يشتري منه مثل الطعام بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، فيدخلها أسلفني وأسلفك، فخفف ذلك ابن القاسم وكرهه ابن الماجشون؛ ولو لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن

فصل

الطعام بعينه رجع إليه فصار لغوا، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع دراهم في مثلها إلى أجل، وذلك جائز وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وهذه المسائل التي قسمناها هذا التقسيم، وقع طرف منها في كتاب بيوع الآجال من المدونة، وجملة كثيرة في رسم حبل حبلة من كتاب السلم والآجال من العتبية غير مشروحة بعللها، ولا موعبة بجميع وجوهها، وهي أصل في مسائل بيوع الآجال، من فهمها ووقف عليها، سهل عليه ما سواها، فلذلك عنيت بتحصيلها وتلخيصها وتقسيم وجوهها وتبيين عللها، وشرح معانيها، وما توفيقي إلا بالله. فصل فإذا باع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، فسخت البيعتان جميعا عند ابن الماجشون، وهو الصحيح في النظر، ودليله من جهة الأثر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الحديث: بئسما شريت وبئسما اشتريت؛ لأنها عابت البيعتين جميعا، ولم يفسخ عند ابن القاسم إلا البيعة الأخيرة - إن كانت السلعة قائمة؛ واختلف إن فاتت، قيل: بحوالة الأسواق وهو مذهب سحنون، وقيل: بالعيوب المفسدة، وإليه ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من المتأخرين على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه يفسخ البيعتان جميعا، فلا يكون للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي تأويلا على ابن القاسم. (والثاني) أنه لا يفسخ إلا البيعة الأولى وتصحح الثانية بالقيمة، فإن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه بالقيمة، فإذا حل الأجل أخذ الثمن، إذ لا تهمة في ذلك، وإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه

بالقيمة، فإذا حل الأجل، لم يكن له على المشتري الأول- أكثر من ذلك لئلا يكون قد دفع دنانير في أكثر منها، فيتم الربا بينهما، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون من كتاب السلم والآجال. (والثالث) أنه إن كانت القيمة أقل من الثمن فسخت البيعتان ولم يكن للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإن كانت أكثر من الثمن فسخت البيعة الثانية خاصة، وقضي عليه بالقيمة؛ فإذا حل الأجل أخذ الثمن؛ وإلى هذا ذهب عبد الحق تأويلا على ابن القاسم، وهو قول سحنون نصا، وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في بعض الروايات: بئسما شريت أو بئسما اشتريت، على الشك من المحدث، فعلى هذه الرواية لا يكون على ابن القاسم حجة من الحديث، وإن كانت المبايعة المذكورة في الحديث وقعت بين أم ولد زيد ابن أرقم ومولاها، وهي أم ولد قبل أن يبتل عتقها، فيأتي قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه على تحظير الربا بين العبد وسيده مع القول بتحريم الذرائع، وفعل زيد بن أرقم على إجازة ذلك أو استجازة الذرائع، وإن كانت المبايعة وقعت بينهما وقد بتل عتقها ففعل زيد بن أرقم على استجازة الذرائع؛ وكان شيخنا الفقيه ابن رزق يضعف حديث عائشة هذا، لقولها فيه: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب، لأنه خلاف ما جاء في القرآن من أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن الأعمال لا تبطل إلا بالردة، لقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]؛ وهذا لو جاز أن يحمل عن زيد بن أرقم أنه عمل مع أم ولده في الباطن بما أظهراه من البيعتين على أن يأخذ منها ستمائة دينار في ثمانمائة إلى أجل، وهذا ما لا يحل لمسلم أن يتأوله عليه، فالذي فعل لا إثم عليه فيه ولا حرج فيما بينه وبين خالقه عند أحد من الأئمة،

فصل

إلا أنه يكره ذلك له لئلا يكون ذريعة لغيره يتطرق بها إلى الربا؛ وأكثر أهل العلم يمضون البيعتين على ظاهرهما من الصحة ولا يتهمون المتبايعين ولا يرون الحكم بالذرائع، وكذلك إذا باع الرجل السلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، تفسخ البيعتان جميعا عند ابن الماجشون؛ والثانية وحدها عند ابن القاسم في القيام، إلا أن يشترط أن يقاصه بالثمن الأول عند الأجل الأول! ويأخذ بقية الثمن الثاني عند الأجل الثاني، وأما إذا اشتراها منه إلى الأجل الذي باعها إليه منه، فذلك جائز، والحكم يوجب المقاصة عند الأجل؛ وما لم يتقاصا فالثمن لكل واحد منهما في ذمة صاحبه ثابت، ولا يكون أحدهما أحق بما عليه من غرماء صاحبه إن فلس، على مذهب ابن القاسم، وهو أحق بما عليه عند أشهب؛ فإن فلس على مذهب ابن القاسم المشتري الأول وهو البائع الثاني، تحاص غرماؤه مع المشتري الثاني وهو البائع الأول فيما عليه، فما وجب لهم في الحصاص أخذوه منه، وإن فلس المشتري الثاني وهو البائع الأول كان المشتري الأول وهو البائع الثاني أحق بالسلعة، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وقد تقدم فيما مضى أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة لعملهم بالمكروه واستباحتهم له. فصل والعينة على ثلاثة أوجه: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعها منك؟ فيقول له: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة؛

والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح. والمحظورة أن يراوضه على الربح فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا، وأبتاعها منك بكذا؛ وفي هذا الوجه ست مسائل مفترقة الأحكام: ثلاث في قوله: اشتر لي؛ إحداها: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا، والثانية: أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا. وثلاث في قوله: اشتر لنفسك، أو بقوله: اشتر - ولا يقول: لي ولا لنفسك؛ إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا - بعشرة نقدا - وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا. والثانية: أو يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وكذا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة أو يقول له: اشترها لنفسك - أو اشتر، ولا يزيد على ذلك - باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا. فأما الرابعة - وهي أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا. والخامسة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والسادسة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لنفسك، أو اشتر، ولا يزيد على ذلك، باثني عشر - إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فأما الأولى وهي أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فالمأمور أجبر على شراء السلعة للآمر بدينارين، لأنه إنما اشتراها له. وقوله: وأنا أشتريها منك، لغو لا معنى له، لأن العقدة له وبأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط، فذلك جائز؛ وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة، لأنه إنما أعطاه الدينارين على أن يبتاع له السلعة وينقد من عنده الثمن عنه، فهي إجارة وسلف، ويكون للمأمور إجارة مثله؛ إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين فلا يزاد عليهما، على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف

من غير البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وعلى ما ذهب إليه ابن القاسم في البيع والسلف - إذا قبض السلف - وفاتت السلعة أن فيها القيمة - بالغة ما بلغت، يلزم أن يكون للمأمور ههنا إجارة مثله بالغة ما بلغت، وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا يكون له أجرة، لأنا إن جعلنا له الأجرة كانت ثمنا للسلف، فكان تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب؛ فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة إذا نقد المأمور الثمن بشرط، وهذا إذا عثر على الآمر بحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر، وأما إن لم يعثر على الأمر حتى انتفع الآمر بالسلف، قدر ما يرى أنهما كانا قصداه، فلا يكون في المسألة إلا قولان، (أحدهما) أن للمأمور إجارته بالغة ما بلغت. (والثاني) أنه لا شيء له، ولو عثر على الأمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن، لكان النقد من عند الآمر، ولكان فيما يكون للأجير قولان: (أحدهما) أن له إجارة مثله بالغة ما بلغت. (والثاني) أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تم الحرام بينهما وإن لم يمض من المدة ما ينتفع به الآمر بالنقد، ويكون له إجارة مثله - بالعقد - بالغة ما بلغت، وإلى هذا ذهب سحنون في إصلاحه مسألة كتاب بيوع الآجل في المدونة، بأن جعل فيها مكان يرد: يترك. فتدبر ذلك. (وأما الثانية) وهو أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه أجل ازداد في سلعة، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر، لأن الشراء كان له وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل: فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغا ما بلغ في قول، والأقل من جعل مثله أو الدينارين اللذين أربى له بهما في قول. وفي قول سعيد بن المسيب لا أجرة له بحال لأن ذلك تتميم للربا كالمسألة المتقدمة،

قال في سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما. وأما الثالثة وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا؛ فذلك أيضا حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى الأجل، ثم يردها إليه. فتلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل، ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل - وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق؛ وأما الرابعة وهي أن يقول: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فاختلف في ذلك قول مالك، فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور. وأما الخامسة وهي أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهو أيضا لا يجوز إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم وحكاه عن مالك أن الآمر يلزمه الشراء باثني عشر إلى أجل، لأن المشتري كان ضامنا لها لو تلفت في يديه قبل أن يشتريها منه الآمر؛ ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور، كان ذلك له؛ واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها. وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة وترد إلى المأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام؛ لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور، فدخله بيع ما ليس عندك. وأما السادسة وهي أن يقول له: اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فروى سحنون عن ابن القاسم أيضا أن البيع لا يرد إذا فات، ولا يكون على الآمر إلا العشرة. وأحب إليه أن لو أردف الخمسة الباقية،

لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر؛ وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، كما يصنع بالبيع الحرام، للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وظاهر رواية سحنون أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب البيوع الفاسدة

كتاب البيوع الفاسدة فصل في تقسيم البيوع في الصحة والفساد، البيوع تنقسم على ثلاثة أقسام: بيوع جائزة، وبيوع محظورة، وبيوع مكروهة؛ فأما البيوع الجائزة فهي التي لم يحظرها الشرع، ولا ورد فيها نهي - وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه إذنا مطلقا، وإباحة عامة - في غير ما آية من كتابه، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ثم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، يريد التجارة للبيع والشراء، ولفظ البيع لفظ عام لأن الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام صار من ألفاظ العموم، قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]، فاستثنى من الإنسان - جماعة المؤمنين، لاقتضائه العموم، واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه إلا أن يأتي ما يخصصه، فإن خص منه شيء بقي ما بعد المخصوص على عمومه أيضا، فيندرج تحت قوله

فصل

تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كل بيع، إلا ما خص منه بالدليل، وقد خص منه بأدلة الشرع بيوع كثيرة؛ فبقي ما عداها على أصل الإباحة، ولذلك قلنا في البيوع الجائزة: إنها جائزة ما لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها النهي. فصل والأشياء الموجودة بأيدي الناس تنقسم على قسمين (أحدهما) ما لا يصح ملكه. (والثاني) ما يصح ملكه؛ فأما ما لا يصح ملكه، فلا يجوز بيعه بإجماع، كالحر والخمر والخنزير والقرد والدم والميتة وما أشبه ذلك، وأما ما يصح ملكه، فإنه ينقسم على قسمين: (أحدهما) ما لا يصح بيعه - إما لأنه على صفة لا يجوز بيعه عليها كالعبد الآبق والجمل الشارد، وتراب الصواغين، وما أشبه ذلك؛ وإما لأن الشرع حرم بيعه كالأوقاف، ولحوم الضحايا - عند جماعة العلماء، والمصحف عند بعضهم، والكلب المأذون في اتخاذه عند بعض أصحابنا. (والثاني) يصح بيعه ما لم يقع على وجه يمنع الشرع منه. فصل والوجوه التي يمنع الشرع من عقد البيع عليها كثيرة، منها ما يعود إلى الثمن والمثمون، ومنها ما يعود إلى حال المتبايعين، ومنها ما يعود إلى الحال التي وقع فيها البيع؛ فأما ما يعود منها إلى الثمن والمثمون، فعدمها شرط في صحة البيع وجودا وعدما باتفاق، كعدم الربا ومعرفة الثمن والمثمون وعدم الجهل بهما والغرر فيهما إلى ما سوى ذلك مما يشترط في صحة البيع؛ وأما ما يعود منها إلى حال المتبايعين أو إلى الحال التي وقع فيها البيع؛ ففيه تفصيل واختلاف سأبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل وأما البيوع المحظورة فإنها تنقسم إلى قسمين، أحدهما ما كان محظورا لحق آدمي، والثاني ما كان محظورا لحق الله تعالى؛ فأما ما كان منها محظورا لحق آدمي، فإنها موقوفة على إجازة من حظرت لحقه. وأما ما كان منها محظورا لحق الله تعالى، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام، (أحدها) ما كان محظورا لتعلقه بالمحظور في الشرع دون أن يطابقه نهي أو يخل فيه بشرط من الشرائط المشترطة في صحته. (والثاني) ما طابقه النهي ولم يخل فيه بشرط من الشرائط المشترطة في صحته. (والثالث) ما أخل فيه بشرط من شرائط صحته. (والرابع) بيوع الشروط وهي التي يسميها الفقهاء بيوع الثنيا. فصل فأما القسم الأول وهو ما كان محظورا لتعلقه بالمحظور دون أن يطابقه نهي أو يخل فيه بشرط من شرائط صحته، مثل أن يبيع قبل الصلاة في آخر وقتها بقدر ما لا يدرك قبل تمامه إلا ركعة من الصلاة، ويعلم أنه يفوته جميع الوقت باشتغاله بالبيع، ومثل البيع والشراء في موضع مغصوب وما أشبه ذلك، فإن البيع على هذا الوجه حرام محظور غير جائز، إلا أنه إذا وقع لم يفسخ، فات أو لم يفت، باتفاق، إلا ما كان من هذا النوع علة الحظر فيه باقية ببقاء المبيع، مثل شراء النصراني المصحف والمسلم، أو شراء الدين على الرجل إرادة الإضرار به، فقيل: إنه يفسخ لبقاء علة الحظر فيه بعد البيع، وقيل: إنه لا يفسخ وترفع العلة ببيع المشترى على المشتري. فصل وأما القسم الثاني وهو ما طابقه النهي ولم يخل فيه بشرط من الشرائط

فصل

المشترطة في صحته، مثل البيع في وقت الجمعة، وبيع حاضر لباد وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع التلقي وبيع التفرقة، وما أشبه هذا من البيوع، فيختلف أهل العلم فيها إذا وقعت على قولين، فمن رأى أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه، لم يفسخها وإن كانت السلعة قائمة لم تفت، ومن رأى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فسخها إن كانت قائمة أو فائتة. وإن كانت قائمة ردت بعينها. وإن كانت فائتة ردت قيمتها وكان رد قيمتها كرد عينها؛ وفي هذا النوع من البيوع قول ثالث، أنها تفسخ ما كانت السلعة قائمة، فإن فاتت مضت بالثمن ولم ترد إلى القيمة، وهو قول بين القولين لا يجري على قياس. فصل وأما القسم الثالث من البيوع وهو ما أخل فيه بشرط من شرائط صحته، فإنها تنفسخ على كل حال، ولا خيار في ذلك لأحد المتبايعين، وترد السلعة إلى البائع إن كانت قائمة، أو قيمتها يوم القبض إن كانت فائتة، ويرد البائع الثمن على المشتري، وقد تقدم ذكر بعض الشروط المشترطة في صحة البيع، وأن من ذلك أن يكون مبلغ الثمن والمثمون معلوما، ولا يلزم أن يزيد في هذا الشرط حال العقد إلا على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة الذي لا يجيز شراء الصبرة على الكيل، كل قفيز بدرهم؛ إذ لا يعلم مبلغ الثمن والمثمون حال العقد، وإنما يعلم بعد الكيل؛ فإذا باع الرجل السلعة بثمن مجهول أو إلى أجل مجهول، أو ما أشبه ذلك؛ فسخ على كل حال في القيام والفوات، شاء المتبايعان أو أبيا. فصل وأما القسم الرابع - وهي بيوع الشروط التي يسميها أهل العلم بيوع الثنيا - فذلك مثل أن يبيع الرجل السلعة على أن لا يبيع ولا يهب، أو على أن يتخذها أم ولد، أو على أن لا يخرج بها من البلد، أو على أن لا يعزل عنها، أو على أن لا يجيزها البحر، أو على إن باعها فهو أحق بها بالثمن الذي يبيعها به، أو على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه، أو ما أشبه ذلك من الشروط التي

فصل

تقتضي التحجير على المشتري في السلعة التي اشترى؛ فهذا النوع من البيوع اختلف فيه إذا وقع شيء منها على قولين، (أحدهما) أنه يفسخ ما دام البائع متمسكا بشرطه، وإن ترك الشرط صح البيع، وإن فاتت السلعة كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن. وقيل: إنه يرجع البائع على المشتري إذا فاتت بمقدار ما نقص من الثمن بسبب الشرط على كل حال، ولا ينظر في ذلك إلى القيمة، كانت أقل من الثمن أو أكثر؛ ووجه العمل في ذلك على هذا القول أن تقوم السلعة بشرط وبغير شرط، فما كان بين القيمتين من الأجزاء رجع البائع على المبتاع بذلك الجزء من الثمن؛ فهذا حكم هذا الباب على هذا القول. وهو المشهور في المذهب - إلا في مسألة واحدة، وهي شراء الرجل السلعة على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه، فإنه يفسخ فيها البيع على كل حال، ولا يمضي - إن رضي مشترط الخيار بترك الشرط، لأن رضاه بذلك ليس تركا منه للشرط، وإنما هو مختار للبيع على الخيار الفاسد الذي اشترط. والقول الثاني أن حكم هذه البيوع كلها حكم ما فسد من البيوع للإخلال بشرط من شروط صحتها، فيفسخ على كل حال، كانت قائمة أو فائتة، شاء المتبايعان أو أبيا، ولا خيار في ذلك لواحد منهما؛ فإن كانت السلعة قائمة ردت بعينها، وإن كانت فائتة ردت قيمتها على البائع بالغة ما بلغت ورد الثمن على المشتري. فصل واختلف أيضا في البيع والسلف إذا وقع، فقيل: يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكا بشرطه، فإن رضي بتركه على مذهب سحنون أو رده على مذهب ابن القاسم - يريد - والله أعلم - قبل أن يغيب عليه غيبة ينتفع فيها به، صح البيع - ولم يفسخ، فإن فاتت السلعة، قال ابن حبيب: ولم يقبض السلف، كان فيها الأقل من الثمن أو القيمة - إن كان المشتري هو مشترط السلف، أو الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، كالحكم في بيوع الثنيا سواء، هذا قول ابن القاسم في المدونة وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم: أن فيها القيمة بالغة ما بلغت،

فصل

كانت أقل من الثمن أو أكثر، وهي ظاهر روايته عنه في السلم والآجال، من العتبية، وعلى هذا يفسخ البيع إن شاء المتبايعان أو أبيا إذا كانت السلعة قائمة. فصل فيحتمل أن تكون رواية يحيى عن ابن القاسم هذه على مذهب من يرى في بيوع الثنيا أنها فاسدة، فتفسخ على كل حال ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائها؛ ويحتمل أن يكون رأي اشتراط السلف في البيع أشد من تلك الشروط، لأن شرط السلف في البيع إنما أراد الانتفاع به إلى الأجل الذي سمياه، والانتفاع به مجهول، فآل الأمر إلى الجهل بالثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، أو إلى الجهل بالمثمون إن كان المشتري هو مشترط السلف، والعلم بالثمن والمثمون مشترط في صحة البيع، وقد جعل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه من كتاب العيوب من العتبية البيع والسلف أخف من بيوع الثنيا، فقال في الذي يبيع الجارية بشرط أن تتخذ أم ولد: إن البيع يفسخ وإن رضي البائع بترك الشرط، وفي الذي باع بشرط السلف، أن البيع لا يفسخ إذا رضي البائع بترك السلف، فلم ير على هذه الرواية أن اشتراط السلف من أحد المتبايعين على صاحبه - يوجب مجهلة في الثمن لا في المثمون، إذ لم يتحقق عنده أن مشترط السلف قصد إلى بيع سلعته بالثمن الذي سماه وبما يربح في السلف، إذ قد لا يريده للتجارة فيه وإنما غرضه فيه أن يبتاع به عرضا يقتنيه أو ثوبا يلبسه أو طعاما يأكله أو ينفع به رجلا فيسلفه إياه أو يهبه أو يتصدق به عليه أو ما أشبه ذلك من وجوه المنافع الموجودة فيه، لأن الشرط إذا آل به البيع إلى الغرر، أو المجهلة في الثمن أو المثمون، فالبيع فاسد مفسوخ على كل حال، ولا خيار في إمضائه لأحد المتبايعين في قيام السلعة، وفيه القيمة بالغة ما بلغت في فواتها. فصل وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشروط المشترطة في البيوع على مذهب مالك رحمه

الله تنقسم على أربعة أقسام، (أحدهما) يفسخ به البيع على كل حال، ولا خيار في إمضائه لأحد المتبايعين، فإن كانت السلعة قائمه ردت بعينها؛ وإن كانت فائتة، صح البيع فيها بالقيمة - بالغة ما بلغت، كانت أكثر من الثمن أو أقل؛ وهو ما آل البيع به إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة العقد، كعدم الربا والغرر في الثمن أو المثمون وما أشبه ذلك. (والثاني) يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط متمسكا بشرطه، فإن رضي بترك الشرط صح البيع إن كان لم يفت، وإن كان قد فات كان فيها الأقل من الثمن أو القيمة، أو الأكثر من القيمة أو الثمن على التفسير الذي قدمناه في بيوع الثنيا. (والثالث) يجوز فيه البيع والشرط، وذلك إذا كان الشرط صحيحا ولم يؤل البيع به إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمون، ولا إلى ما أشبه ذلك من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثل أن يبيع الرجل الدار ويشترط سكناها أشهرا معلومة، أو يبيع الدابة ويشترط ركوبها أياما يسيرة أو إلى مكان قريب، أو يشترط شرطا يوجبه الحكم، وما أشبه ذلك. (والرابع) يجوز فيه البيع ويفسخ الشرط، وذلك ما كان الشرط فيه غير صحيح، إلا أنه خفيف فلم يقع عليه حصة من الثمن، وذلك مثل أن يبيع السلعة ويشترط إن لم يأت بالثمن إلى ثلاثة أيام أو نحوها فلا بيع بينهما، مثل الذي يبتاع الحائط بشرط البراءة من الجائحة، لأن الجائحة لو أسقطها بعد وجوب البيع، لم يلزمه ذلك، لأنه أسقط حقا قبل وجوبه؛ فلما اشترط إسقاطها في عقد البيع، لم يؤثر ذلك عنده في حصته؛ لأن الجائحة أمر نادر فلم يقع لشرطه ذلك حصة من الثمن، ولم يلزم الشرط، إذ حكمه أن يكون غير لازم إلا بعد وجوب الرجوع بالجائحة وما أشبه ذلك؛ فهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الشروط المقترنة بالبيع، وعلى هذا الترتيب لا يتعارض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب، خلاف ما ذهب إليه أهل العراق، روي أن عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فسألت أبا حنيفة فقلت: ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا، فقال: البيع باطل والشرط

باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز؛ فقلت: سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط». ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أشتري بريرة وأعتقها - وإن اشترط أهلها الولاء، فإن الولاء لمن أعتق» البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار، عن «جابر قال: بعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة وشرط لي حلابها وظهرها إلى المدينة،» فالبيع جائز، والشرط جائز؛ فعرف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الأحاديث كلها واستعملها في مواضعها، وتأولها على وجوهها؛ فأما أبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فلم يمعنوا النظر، ولا أحسنوا تأويل الآثار، والله يوفق من يشاء. وأما البيوع المكروهة، فهي التي اختلف أهل العلم في إجازتها، والحكم فيها أن تفسخ ما كانت قائمة، فإن فاتت لم ترد، مراعاة للاختلاف فيها، كذا روى ابن وهب عن مالك أن البيع المكروه لا يرد إذا فات، وبعضها أشد كراهية من بعض، فمنها ما العقد فيه فوت، ومنها ما القبض فيه فوت، ومنها ما فوات العين فيه فوت، ومنها ما يختلف فيما يفوت به، كشراء الزرع إذا أفرك قبل أن ييبس، وما أشبه ذلك.

فصل

فصل فلا يخرج شيء من البيوع عن هذه الأقسام، وإن وجد بين أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اختلاف في بيع من البيوع، فإنما ذلك لاختلافهم من أي قسم هو من الأقسام المذكورة. فصل ومن بيوع الشروط ما يختلف فيه: هل هو بيع أو غير بيع، مثل أن يبيع الرجل السلعة على أن لا نقصان على المشتري، فاختلف هل هو بيع فاسد، أو إجارة فاسدة؛ ومنه أن يبيع الرجل السلعة على أنه متى جاءه بالثمن فهو أحق بها، فاختلف فيه هل هو بيع فاسد أو سلف جر منفعة، والقولان في كتاب بيوع الآجال من المدونة.

كتاب الغرر

كتاب الغرر ما جاء في بيع الغرر وتبيين وجوهه وأحكامه: ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الغرر» وبيع الغرر هو البيع الذي يكثر فيه الغرر ويغلب عليه حتى يوصف به، لأن الشيء إذا كان مترددا بين معنيين لا يوصف بأحدهما دون الآخر، إلا أن يكون أخص به وأغلب عليه. فصل ووجوه الغرر في البيوع كثيرة لا تحصى، من ذلك بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والجنين في بطن أمه، ومن ذلك ما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الملامسة والمنابذة، والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه ولا يتأمل ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا ينظر ما فيه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا، فهذا الذي نهي عنه من الملامسة والمنابذة، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المضامين والملاقيح،

والمضامين: ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الجمال؛ وقيل بعكس ذلك: إن الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في ظهور الجمال، والتفسير الأول في الموطأ لمالك أو لابن شهاب أو لسعيد بن المسيب، وإليه ذهب أبو عبيد، والتفسير الثاني لابن حبيب وغيره، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع حبل الحبلة، وهو بيع نتاج النتاج، وقيل: هو البيع إلى نتاج النتاج، وأي الأمرين كان فهو غرر، إما في المثمون، وإما في أجل الثمن، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحصاة، وهو أن يساوم الرجل الرجل في سلعة وبيد أحدهما حصاة، فيقول لصاحبه: إذا سقطت الحصاة من يدي فقد وجب بيع بيني وبينك، وقيل: هو أن تكون السلعة منشورة فيرمي المبتاع حصاة، فأيها وقعت عليه وجبت له بما سميا من الثمن، وأي ذلك كان فهو أيضا من الغرر المنهي عنه، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة، على الاختلاف في معنى ذلك، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان، وتفسيره أن يشتري الرجل السلعة ويعطيه دينارا أو درهما فيقول له: إن أخذتها فذلك من الثمن، وإن تركتها كان ذلك باطلا بغير شيء، وذلك أيضا غرر بين، وكانت هذه كلها بيوعا كان أهل الجاهلية يتبايعون بها، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، لأنها من أكل المال بالباطل، قال الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] معناه: تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار، لأن التراضي بما فيه غرر أو خطر أو قمار لا يحل ولا يجوز، لأنه من الميسر الذي حرمه الله في كتابه حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

فصل

فصل فلا يصح البيع إلا أن يكون سالما من الغرر الكثير، لأن الغرر اليسير الذي لا تنفك البيوع منه مستخف مستجاز فيها. فصل وإنما يقع الاختلاف بين العلماء في فساد بعض أعيان العقود لاختلافهم فيما فيه من الغرر، هل هو من جنس الكثير الداخل تحت نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر المانع من صحة العقد، أو من جنس اليسير المستخف المستجاز في البيوع الذي لا يمنع من صحة العقد. فصل والغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء (أحدهما) العقد (والثاني) أحد العوضين: الثمن أو المثمون، أو كليهما. (والثالث) الأجل فيهما أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد فهو مثل نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة وعن بيع العربان، وعن بيع الحصاة، على أحد التأويلين، وما أشبه ذلك مما لا جهل فيه في ثمن ولا مثمون، وإنما حصل الغرر فيه بانعقاده بين المتبايعين على هذه الصفات؛ ومن هذا المعنى بيع المكيل والجزاف في صفقة واحدة، والقول فيما يجوز من بيع الجزاف والمكيل في صفقة واحدة، يتحصل بأن يعلم أن من الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلا ويجوز بيعه جزافا، كالحبوب، وأن منها ما الأصل فيه أن يباع جزافا ويجوز بيعه كيلا، كالأرضين والثياب، وأن منها عروضا لا يجوز بيعها كيلا ولا وزنا كالعبيد والحيوان، فالجزاف مما أصله أن يباع كيلا كالحبوب لا يجوز بيعه مع المكيل منه، ولا مع المكيل مما أصله أن يباع جزافا، كالأرضين والثياب باتفاق، والجزاف مما أصله أن يباع جزافا لا يجوز أن يباع مع الميكل منه باتفاق أيضا،

واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلا على قولين، (أحدهما) أن ذلك جائز، وإليه ذهب ابن زرب وأقامه من إجازته في السلم الأول من المدونة، أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة (والثاني) أن ذلك لا يجوز، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه، ولا اختلاف في جواز بيع الكيلين في صفقة واحدة وجزافين في صفقة واحدة أيضا على كل حال، ولا يجوز بيع الجزاف مع العروض في صفقة واحدة إلا عند ابن حبيب، فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلا، لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة، وهو بعيد، وأما بيع الجزاف على الكيل، فلا ينضاف إليه في البيع شيء بحال على الصحيح من الأقوال، وهو مذهب ابن القاسم. وأما بيع الجزافين على الكيل، فإن كانا على صفة واحدة وبكيل واحد، جاز باتفاق، وإن اختلف الكيل والصفة جميعا لم يجز باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر، جاز على اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، فعلى مذهب ابن القاسم لا يجوز أن يبيع الرجل قريته تكسيرا، كل قفيز بكذا، إلا أن يستوي أرضها في الطيب والكرم ولا يكون فيها ثمرة ولا دار تدخل في البيع، فإن باع منها زرعا مسمى من موضع بعينه، أو على أن يأخذ المشتري من أي موضع أحب، فعلى ما تقدم لا يجوز أن يضاف إلى ذلك في الصفقة جزاف مما أصله أن يباع جزافا ولا مما أصله أن يباع كيلا؛ وكذلك إن باعها كلها على أن تكسيرها كذا وكذا على مذهب من حكم لذلك بحكم شراء الذرع المسمى إن كان فيها أكثر مما سمى، كان الزائد للبائع، وإن كان فيها أقل، كان بالخيار بين أن يأخذ ما وجد بحسابه من الثمن أو يرد، إلا أن يكون النقصان يسيرا فيلزمه ما وجد بحسابه من الثمن، وأما على مذهب من جعل ذلك كالصفة للأرض إن وجد فيها أكثر من الذرع المسمى، كان للمبتاع، وإن وجد أقل، كان المبتاع بالخيار بين أن يأخذ بجميع الثمن أو يرد، فلا يجوز أن ينضاف إلى ذلك في الصفقة كيل مما أصله أن يباع جزافا باتفاق، ولا كيل مما أصله أن يباع كيلا على ما تقدم من الاختلاف،

فصل

وكذلك القول في الثوب والخشبة وما أشبههما إذا اشترى ذلك كله، كل ذراع بكذا، أو على أن فيه كذا وكذا ذراعا، أو اشترى منه ذرعا كذا، وحكم الموزون والمعدود في جميع ما ذكرناه حكم المكيل. فصل وأما الغرر في الثمن والمثمون أو في أحدهما، فإنه يكون بثلاثة أوجه، (أحدها) الجهل بصفة ذلك أو بمقداره، فأما الجهل بصفة ذلك، فهو مثل أن يبيع جنينا في بطن أمه، أو غائبا على غير صفة، أو يبيع سلعة بدنانير مسماة من غير صفة ونقد البلد مختلف، وما أشبه ذلك، وأما الجهل بمقداره، فهو مثل أن يبيع الطعام بكيل مجهول، أو يبيع سلعة بجزاف من الدنانير والدراهم، (والثاني) عدم القدرة على تسليمه، وذلك مثل أن يبيع العبد الآبق، والجمل الشارد والسلعة بيد غاصب منكر للغصب ولا بينة عليه، أو مقر به ممتنع من دفعها وهو ممن لا تأخذه الأحكام؛ وقد اختلف إن كان الغاصب منكرا للغصب ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة؛ ومثل شراء الدين على الحاضر المنكر إذا كانت عليه بينة، وشراء ما فيه خصومة، وأخف ذلك شراء الدين على الغائب القريب الغيبة على مسيرة اليومين والثلاثة إذا لم يعلم إقراره من إنكاره وعليه بينة، وأما إذا لم تكن عليه بينة فلا يجوز ذلك، (والثالث) الجهل بمآل حاله - وهو أمر مختلف فيه، وذلك مثل أن يبيع الرجل العبد المجروح موضحة قبل أن يبرأ ويحكم له بأرشها من غير أن يبرأ الجاني من الجناية، أو يبيع العبد المريض إذا كان المرض قد بلغ به إلى الحد الذي لا يجوز للمريض فيه القضاء في جميع ماله، أو يشتري الأنقاض قائمة على القلع من قاعة ليست للبائع ولا للمبتاع، وما أشبه ذلك، ومما يشبهه أن يكون للرجل على الرجل دنانير أو دراهم أو عروض، فيصالح رجل أجنبي صاحب الدين على أن يدفع إليه خلاف الدين مما يصير الذي عليه الدين مخيرا في صنفين.

فصل

فصل وأما الغرر بالأجل في الثمن والمثمون، فذلك مثل أن يبيع منه السلعة بثمن إلى قدوم زيد أو إلى موته، أو يسلم إليه في سلعة إلى مثل ذلك الأجل، وما أشبه ذلك. فصل وإذا وقع بيع الغرر فسخ ما كان قائما، فإن فات بيد المبتاع صحح بالقيمة، وضمانه على مذهب ابن القاسم من البائع ما لم يقبضه المبتاع، وإن دفع الثمن أو دعي إلى قبضها، وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أن ضمانها من البائع - وإن قبضها المبتاع - وهو بعيد، وقال أشهب: إن ضمانها من المبتاع وإن كانت بيد البائع - إذا نقد الثمن، أو دعي إلى قبضها - وإن لم ينقد الثمن. فصل وقد اختلف الذين رأوا أنها لا تدخل في ضمان المبتاع إلا بالقبض إذا عقد فيها عقدا من عتق أو بيع أو صدقة أو هبة وما أشبه ذلك من العقود، هل يكون ذلك قبضا وفوتا أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أنه لا يكون شيء من ذلك كله قبضا ولا فوتا، وهو قول سحنون، (والثاني) أن ذلك كله يكون قبضا وفوتا، وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، لأنه رآه فوتا في الصدقة، فهو فيما سواه أحرى أن يكون فوتا (والثالث) أنه لا يكون فوتا شيء من ذلك إلا العتق لحرمته، وهو قول ابن القاسم في الكتاب المذكور، قوله في البيع إذا كان الأول قد قبضها (والرابع) أنه لا يكون فوتا وقبضا إلا العتق والبيع خاصة. فصل وبيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله:

إن الغائب لا يجوز بيعه على الصفة، لأنه لا عين مرئية ولا صفة مضمونة ثابتة في الذمة، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن شراء الغائب على الصفة وعلى غير الصفة جائز، وللمبتاع خيار الرؤية إذا نظر إليها، وقد روي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل هذا القول، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه من أن شراء الغائب على الصفة جائز، وذلك للمبتاع لازم - إن وجد الغائب على الصفة التي وصف بها، لأن الصفة تقوم مقام رؤية الموصوف، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنعت المرأة المرأة للزوج حتى كأنه ينظر إليها» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبالغة في الصفة بالنظر، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وجه الدليل من هذه الآية أن اليهود كانوا يجدون في التوراة نعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته، فكانوا يحدثون بذلك ويستفتحون به على الذين كفروا؛ أي يستنصرون به على كفار العرب، يقولون: اللهم آت بهذا النبي الذي يقتل العرب ويذلهم؛ لأنهم كانوا يرجون أن يكون منهم؛ فلما بعثه الله تعالى من العرب ولم يكن منهم، حسدوه وكفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته؛ فقالوا: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو هذا الذي كنا نخبركم به، فأنزل الله عز وجل تكذيب قولهم في كتابه، وذلك قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] فلما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] وهم لم يعرفوه قبل إلا بصفته التي وجدوها في التوراة، دل ذلك على أن المعرفة بالصفة معرفة بعين الشيء الموصوف، وذلك ما أردنا أن نحتج له، وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

فصل

حديث أبي هريرة الواقع في الكتاب: «لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها»، دليل بين على أن الخبر عنها بمنزلة النظر إليها، وإذا جاز أن يسلم الرجل إلى الرجل في ثوب أو عبد على صفة، ولم يكن ذلك غررا، جاز أن يبتاعه على الصفة ولا يكون ذلك غررا، إذ لا فرق بين الموضعين، ومن الدليل أيضا على جواز البيع على الصفة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» فإذا جاز بيع الحب في أكمامه وهو غير مرئي على صفة ما فرك منه إن كان حاضرا، جاز أن يشتري منه إذا كان غائبا على صفة، إذ لا فرق إذا غاب المبيع بين أن يبيعه على الصفة أو على مثال يريه إياه، وهذا الحديث أيضا حجة في بيع الجزر والفجل وما أشبه مما هو مغيب تحت الأرض، لأنه يقلع منه شيء فيستدل به على بقيته، ويستدل عليه أيضا بفروعه. فصل ومن هذا بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره الأعلى، فأجازه مالك وأصحابه؛ خلافا للشافعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولأنه مأكول في أكمام من أصل الخلقة، فجاز بيعه كالرمان والموز، ولأن الضرورة تدفع إلى ذلك، لما بالناس من الحاجة إلى بيع ذلك رطبا، إذ ليس كل أحد يمكنه تجفيفه، وفي نزع قشره إفساد له، فلم يبق إلا جواز البيع، بيد أنه لا يجوز الاجتزاء بالصفة عن النظر إلا مع الضرورة إلى ذلك، لأن النظر أبلغ في المعرفة من الصفة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس المعاينة كالخبر».

فصل

فصل فمن الضرورة إلى ذلك أن تكون السلعة المبيعة على الصفة غائبة في بلد آخر، أو يكون المبيع متاعا كثيرا مشدودا في أعداله وأحماله، فيجوز بيعه على صفة البرنامج، لأن فتحه كله ونشره مما يضر بصاحبه ويشق عليه، وأما الثوب الواحد والثياب اليسيرة فلا يجوز بيعها على الصفة إذا كانت حاضرة حال العقد، وقد أجاز أشهب بيع الساج المدرج في جرابه على الصفة، وذلك في الثوب الرفيع الذي يغيره ترداد نشره على السوام وتقليبهم إياه، وأما الثوب الذي ليس على هذه الصفة، فلا ينبغي أن يختلف فيه. فصل وقد اختلف في السلعة الحاضرة في البلد الغائبة عن موضع العقد فقيل: إن بيعها على الصفة لا يجوز، لأنها كالحاضرة، إذ لا تتعذر رؤيتها، وقيل: إن بيعها على الصفة جائز - وإن كانت في البلد، لأنها إذا لم تكن حاضرة في موضع العقد فلم يقصد إلى الغرر بشرائها على الصفة وأشبهت الغائبة عن البلد. فصل وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش بعده والعقد عليه صحيح، وإن لم يعلم إن كان حين العقد قائما أو تالفا، فإن وجد قد تلف قبل العقد وقبل البيع باتفاق، وإن تلف بعد العقد وقبل القبض، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فمرة قال: إن مصيبته من البائع وينتقض البيع كتلفه قبل العقد، وهو آخر قوله، ومرة قال: إن مصيبته من المبتاع ويصح البيع. فصل ويجوز لمشتري السلعة الغائبة أن يبيعها قبل القبض من غير الذي اشتراها منه بما شاء ولا ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة، وأما من الذي باعها

فصل

منه فلا يجوز له أن يبيعها منه بمثل الثمن ولا بأكثر ولا بأقل، لأنه فسخ الدين في الدين، إلا أن يكون نقد الثمن بغير شرط على كلا القولين في مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: يجوز أن يبيعها منه على القول الذي يرى فيه الضمان من البائع؛ قياسا على ما أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الإقالة في الجارية التي في المواضعة، وقوله أظهر في القياس. فصل وأما إن باعها منه بخلاف الثمن الذي اشتراها به مما يجوز بيعها به، فذلك جائز إذا لم ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة مما يجوز النقد فيه، قال في الكتاب: لا أرى بذلك بأسا إذا علم أن الثوب قائم حين وقعت الصفقة الثانية في مسألة من آجر داره من رجل شهرين بثوب موصوف في بيته، ثم باع ذلك الثوب منه قبل أن يقبضه منه بدراهم أو بدنانير أو بثوبين مثله من صنفه، أو بسكنى دار له أخرى، وهو كلام فيه نظر إذ ليس من شرط صحة العقد على الغائب أن يعلم قيامه حين العقد، كما يظهر من ظاهر اللفظ؛ إذ لو كان ذلك من شروط صحته لما جاز بيع غائب بحال، إذ لا طريق إلى معرفة قيام الشيء للغائب في حال غيبته، فمعنى الكلام والمراد به أن الصفقة إذا وقعت فعلم بعد وقوعها أن الثوب كان قائما في حين وقوعها، صحت وعلم انتقال الملك بها من المشتري إلى البائع، والضمان أيضا من البائع إلى المشتري، على قول مالك رحمه اللة تعالى الآخر واختيار ابن القاسم، أو من المشتري إلى البائع، على قول مالك الأول، وإن وجدت السلعة بعد الصفقة قد تلفت قبل الصفقة، أو لم يعلم إن كان تلفها قبل الصفقة أو بعدها، فالصفقة باطلة لا ينتقل بها ملك الثوب ولا ضمانه عما كان عليه، وقد تكلم عبد الحق على توجيه هذا اللفظ فحكى عن بعض شيوخه القرويين أنه قال:

إنما شرط ابن القاسم إن علم أنه عنده وقت الصفقة الثانية، لأنه إن كان موجودا عنده وانهدمت الدار في بعض المدة، ينتقض من الثوب مقدار ذلك، وإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها، فوجب لهذا لما كان لا يدري فيما ذا يرجع من الدراهم ومن الثوب، أن لا يجوز حتى يعلم ذلك فيدخلان على أمر معروف، وقال غيره: إنما شرط إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، ثم ينظر: فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، وقوله: ينتقض من الثوب مقدار ذلك، يريد أنه إن انهدمت الدار وقد سكن نصف المدة، رجع عليه بنصف قيمة الثوب، وإن كان أقل فأقل، وإن كان أكثر فأكثر على هذا الحساب، لأن الثوب الذي هو عوض السكنى قد فات بالبيع منه، فهو بمنزلة فواته بالبيع من غيره أو بغير ذلك من وجوه الفوت، وهو صحيح، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه إنما يرجع في الثمن الذي دفع بقدر ما بقي له من السكنى، وعلته في ذلك أنه قد استحق من الثوب الذي باع بقدر ما انهدم من الدار، فوجب أن ينتقض البيع في مقدار ذلك من الثوب، وهو تعليل غير صحيح، لأن الثوب ثمن السكنى، فإنما يجب الرجوع فيه ويكون كالمستحق إذا كان قائما لم يفت والبيع فيه فوت؛ وإن كان إنما باعه منه إذ لا فرق في فواته بالبيع منه أو من غيره، ألا ترى أن من اشترى عبدا بيعا فاسدا فباعه من بائعه منه بيعا صحيحا أنه فوت فيمضي، ويصحح البيع الفاسد بالقيمة، ويلزم في هذا على تعليل أبي إسحاق التونسي أن ينتقض البيع الصحيح ولا يكون فوتا لرجوع السلعة إلى يد البائع وينفسخ البيع الفاسد، وهو بعيد، وأما قوله، أعني قول بعض شيوخ القرويين: فإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما

فصل

وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها فلا يصح، وإنما الواجب إن كان تلف الثوب قبل الصفقة الأولى أو بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى الضمان من البائع في السلعة الغائبة ما لم يقبضها المبتاع، أن يرجع صاحب الدار على صاحب الثوب بقيمة ما سكن الدار إلى وقت انهدامها، لأن صاحب الدار لم يقبض شيئا لكون مصيبة السلعة من صاحبها بمنزلة من اكترى دارا بثوب فسكنها بعض المدة واستحق الثوب، فإن رب الدار يرجع على صاحب الثوب بقيمة ما سكن، وإن كان إنما تلف بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى ضمان الغائبة من المبتاع إذا كان سليما يوم الصفقة، أن يرجع المكتري على صاحب الدار في قيمة الثوب بقدر ما بقي من السكنى، لأنه قد تلف ومصيبته منه، ويرجع عليه أيضا بالثمن الذي دفع إليه فيه لانتقاض البيع بتلفه قبل وقوع الصفقة؛ وأما قول غيره: إنما شرطه إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، فإنه كلام صحيح جيد، وأما قوله: ثم ينظر، فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، فإنما معناه على قول مالك الثاني واختيار ابن القاسم أن ضمان الغائب من البائع ما لم يقبض، فيكون عقد البيع عليه قبضا له وتصح الصفقة الأولى، فإن قبضه البائع الأول بابتياعه، صحت الصفقة الثانية أيضا، وإن فات قبل أن يقبضه كانت مصيبته من المشتري الأول وهو البائع الثاني، وأما على قول مالك الأول، فإن علم أنه قائم يوم وقعت الصفقة الثانية فقد صحت الصفقة الأولى والثانية. فصل وبيع السلع المغيبات لا يجوز إلا على ثلاثة أوجه، (أحدهما) على الرؤية، (والثاني) على الصفة في الموضع الذي يجوز بيعها فيه على الصفة على ما قدمناه (والثالث) أن يشترط أنه بالخيار إذا رآها ولا ينقد بشرط كانت قريبة أو بعيدة، هذا

قول مالك في المدونة في السلم الثالث منها وقد قيل: إن البيع في العروض المغيبات لا يجوز إلا برؤية أو بصفة، وفي كتاب الغرر دليل على هذا القول وهو الصحيح الذي يحمله القياس، وأما النقد فيها بشرط إذا اشتريت بصفة، فلا يجوز في البعيد الغيبة، واختلف قول مالك في ذلك إذا كانت قريبة الغيبة، فله في المدونة أن ذلك جائز، وله في الموطأ أن ذلك لا يجوز، وهي رواية ابن وهب عن مالك في موطئه، ورواية ابن القاسم عنه في أصل سماعه؛ وهذا إذا اشتراها بصفة المخبر والرسول، وأما إذا اشتراها بصفة صاحبها فلا يجوز النقد فيها بشرط على حال، قربت الغيبة أو بعدت؛ وأما الرباع فاشتراط النقد فيها جائز - قربت غيبتها أو بعدت، وذلك أيضا إذا لم يشترها بصفة صاحبها، كذلك روى أشهب عن مالك وهو تفسير لما في المدونة وغيرها، وبقية أحكام شراء الغائب يأتي التكلم عليها في مواضعها من الكتاب، إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب بيع الخيار

كتاب بيع الخيار فصل في بيان جواز البيع على الخيار، البيع على الخيار جائز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار، كل واحد منهما على صاحبه ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» وفي بعض الآثار: «إلا أن تكون صفقة خيار» فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من البيع ما يكون فيه خيار، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ أو لأبيه منقذ بن عمرو الأنصاري، على اختلاف في ذلك: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا» وذلك أنه قد أتى عليه من السنين ثلاثون ومائة سنة، فكان إذا باع غبن فشكا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا». فقيل: إن ذلك خصوص من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الرجل: أن جعل الخيار له ثلاثا فيما باع أو اشترى- وإن لم يشترط ذلك، وقيل: بل إنما جعل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثا، مع قوله: لا خلابة، فيكون الحديث على هذا مستعملا، وأيا ما كان، فيه إجازة الخيار في البيع.

فصل

فصل والخيار في بيع في أصله غرر، وإنما جوزته السنة لحاجة الناس إلى ذلك، لأن المبتاع قد لا يخبر ما ابتاع فيحتاج إلى أن يختبره ويعلم إن كان يصلح له أم لا، وإن كان يساوي الثمن الذي ابتاعه به أم لا، وقد يحتاج في ذلك كله إلى رأي غيره، فيريد أن يستشير فيه، فجعل له الخيار رفقا به، ولا يلزم مثل هذا في النكاح وإن كان الرجل قد يحتاج إلى اختبار الزوجة التي يتزوج والتثبت في إن كانت ممن تصلح له أم لا، والاستشارة في أمرها، أكثر مما يحتاج إليه في السلعة التي يبتاع، لأن البيع طريقه المكايسة والمتاجرة، والنكاح طريقه المكارمة والمواصلة، فافترق لذلك موضوعهما. فصل والخيار يكون لوجهين: المشورة واختبار المبيع، أو لأحد الوجهين، فالعبد يختبر عقله وخلقه وخدمته وبلادته ونشاطه، وكذلك الجارية يختبر عقلها وخلقها وقوتها على الخدمة وإحكامها لما تتناوله من الطبخ والخبز وما أشبه ذلك من الصنعة، والدار يختبر بناؤها وجيرانها ومكانها وينظر إلى أسسها وحيطانها ومنافعها، والدواب يختبر خلقها وسيرها وقوتها من ضعفها ونشاطها من عجزها وأكلها وحالها في وقوفها ووضع آلتها عليها وما أشبه ذلك، وأما الثياب والعروض فلا وجه للاختبار فيها، وإنما الخيار فيها للمشورة خاصة، أو ليقيس على نفسه ما اشترى من ذلك للباسه. فصل فإن اشترط المشتري الخيار فيما يصح فيه الاختبار ولم يبين أنه إنما اشترط الخيار للاختبار، وأراد قبض السلعة ليختبرها، وأبى البائع من دفعها إليه وقال: إنما لك المشورة - إذ لم تشترط قبض السلعة في أمد الخيار للاختبار؛ فالقول قول

فصل

البائع، ولا يلزمه دفعها إليه، إلا أن يشترط ذلك عليه، ولا يكون اشتراط الخيار في العبد والجارية الجمعة ونحوها، وفي الدار الشهر والشهرين بدليل على أنه إنما أراد الاختبار، لأن المشورة في ذلك لا تتساوى أيضا، بل تفترق بافتراق المبيع، إذ ليس البحث والسؤال عن دار يريد اقتناءها وسكناها ويتعذر عليه الاستبدال بها إذا لم توافقه، كالعبد والخادم، ولا العبد والخادم كالسلع التي لا مئونة عليه في بيعها والاستبدال بها. فصل وللبائع من اشتراط الخيار مثل ما للمبتاع سواء، فإن اشترطه أحدهما كان له الأخذ والرد دون صاحبه، وإن اشترطاه جميعا جاز أيضا، فإن اجتمعا على رد أو إجازة، جاز ما اجتمعا عليه من ذلك، وإن اختلفا فأراد أحدهما إمضاء البيع وأراد الآخر رده؛ فالقول قول من أراد رده، ولا يتم البيع إلا باجتماعهما جميعا على الإجازة، لأن الذي أراد إمضاء البيع مسقط لحقه في الرد بائعا كان أو مبتاعا، والذي أراد البيع منهما أخذ بحقه غير مسقط له، فلا يسقط بإسقاط الذي أراد إمضاء البيع حق نفسه وهذا بين. فصل وإذا كانت العلة في إجازة البيع على الخيار حاجة الناس إلى المشورة فيه وإلى الاختبار، فحده قدر ما يختبر فيه البيع ويرتأى فيه ويستشار، على اختلاف أجناسه وإسراع التغير إليه وإبطائه عنه، فيجوز الخيار في الدواب اليوم واليومين والثلاثة، ولا يجوز فيها أكثر من ذلك، لإسراع التغير إليها، ولأن اختبارها والعلم بما هي عليها من أحوالها، يحصل في هذه المدة؛ إذ ليست من ذوي الميز الذي يخشى منها أن تستر ما فيها من الأخلاق الذميمة والعيوب التي تزهد فيها، وتستعمل ما يرغب فيها من أجله، وكذلك العروض والثياب يجوز الخيار فيها اليوم

فصل

واليومين والثلاثة، كالدواب سواء؛ لأنها وإن كانت مما لا يختبر كما تختبر الدواب، فإنها لا يسرع إليها التغير، كما يسرع إلى الدواب، فلم يضيق في أجل الخيار فيها لهذه العلة؛ وأما الرقيق فيجوز الخيار فيها أكثر من ذلك، قال في المدونة: الخمسة الأيام والستة إلى الجمعة. وقال ابن المواز: الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في عشرة، وأفسخه في الشهر، وروى ابن وهب أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجاز الخيار في العبد شهرا وأباه ابن القاسم وأشهب في الشهر، فوجه رواية ابن وهب عن مالك أن الرقيق ذو ميز، فربما ستر العبد والجارية ما فيهما من الأخلاق الذميمة، واستعملا ما يرغب فيهما من أجله، فاحتيج في اختبارهما إلى مدة لا يستتر فيها ما طبعا عليه من الأخلاق غالبا، وإن رأى ما ستره وهو الشهر عنده، ووجه قول ابن القاسم أنه وإن كان يحتاج في الرقيق إلى الاختبار الكثير بما وصفناه من علة الميز، فإن الشهر بعيد يتغير إليه الرقيق، فمنع من ذلك لعلة التغير، وأجاز من الخيار فيهما ما قد يحصل فيه الاختبار ومعرفة الحال ولا يخشى معه التغير والانتقال - وهو الجمعة ونحوها، وحمل الصغير الذي لا يميز في ذلك محمل الكبير المميز، جعل الباب في ذلك واحدا لما لم يكن لوقت ميزه حد يرجع إليه لا يختلف، وأما الدور التي يحتاج فيها إلى الاختبار ويؤمن عليها التغير، فيجوز الخيار فيها إلى الشهر؛ قال ابن حبيب: والشهرين في الدور والأرضين، ولم يذكر في المدونة الأرضين وما في الواضحة مفسر لما في المدونة. فصل فأمد الخيار في البيع إنما هو بقدر ما يحتاج إليه في الاختبار والارتياء مع مراعاة إسراع التغير إلى المبيع وإبطائه عنه، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز الخيار في شيء من الأشياء فوق ثلاث.

فصل

فصل فإن زاد في أجل الخيار إلى فوق ما يحتاج إليه، فسد البيع ولم يجز، لخروجه بذلك إلى الغرر الذي لا يجوز في البيوع، وأما إن لم يضربا للخيار أجلا واشترطاه، فلا يفسد البيع ويضرب لهما من الأجل بقدر ما تختبر إليه تلك السلع، لأن الحد في ذلك معروف، فإذا أخلا بذكره، فإنما دخلا على العرف والعادة. فصل ولكل واحد من المتبايعين أن يشترط الخيار لغيره، فإن اشترطه أحدهما دون صاحبه لغيره، فاختلف في ذلك على أربعة أقوال، (أحدهما) أن ذلك حق لمشترطه من المتبايعين دون صاحبه، فإن كان البائع منهما هو مشترط الخيار لغيره، كان له أن يمضي البيع للمبتاع إن شاء ويرد إن شاء، ولا يلزمه إجازة من اشترط له الخيار - إن أراد هو الرد، ولا رده - إن أراد هو الإجازة - إن أراد المشتري أن يلزمه ذلك. إذ لا حق له في ذلك معه؛ وإن كان المبتاع منهما هو مشترط الخيار لغيره، فكذلك أيضا يكون بالخيار بين أن يأخذ أو يرد، ولا يلزمه إجازة من اشترط الخيار إن أراد هو الرد، ولا رده إن أراد هو الإجازة وأراد البائع أن يلزمه ذلك، إذ لا حق له في ذلك معه على هذا القول، كالمشورة التي لمشترطها تركها والقضاء بما أحب من رد أو إجازة سواء؛ هذا قول ابن حبيب في الواضحة واختيار ابن لبابة في كتابه المنتخب، (والقول الثاني) أن الرد والإجازة بيد من جعل إليه الخيار، وذلك حق للباقي من المتبايعين دون من اشترط ذلك منهما لغيره، فإن أراد الذي اشترط الخيار منهما لغيره أن يرد أو يجيز وأبى الباقي منهما إلا أن يلزمه ما

يقضي به من جعل إليه الخيار من رد أو إجازة، كان ذلك له، هذا قوله في المدونة في المبتاع إذا اشترط الخيار لغيره وله في البائع إذا اشترط الخيار لغيره مثله في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي فلان البيع فالبيع جائز، ودليل هذا الكلام أنه إن لم يرض ورد فهو مردود، ولا كلام في ذلك للبائع الذي اشترط رضاه أو خياره. (والقول الثالث) أن ذلك حق لهما جميعا، حق للبائع إن أراد إمضاء البيع للمبتاع، وأراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد؛ وحق للمبتاع إن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار إمضاء البيع، وأراد البائع أن يرد، فبيان هذا الوجه أنه إن أراد البائع إمضاء البيع لزم ذلك المبتاع، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار - إمضاء البيع، كان للمبتاع أن يأخذ ولزم ذلك البائع، وإن كره وأراد الرد، فيلزم المبتاع البيع، وإن كره برضى البائع ويلزم البائع البيع - وإن كره برضا من جعل إليه الخيار، إلا أن يوافق المبتاع البائع على ما أراد من الردة، وكذلك إن كان المبتاع منهما هو الذي اشترط الخيار لغيره وأراد الأخذ، كان ذلك له؛ وإن أراد الذي جعل إليه أن يرد، فإن أراد الذي يشترط له الخيار الإجازة، كان للبائع أن يلزم المبتاع البيع. وبيان هذا الوجه أن البيع يلزم البائع وإن كره برضى المبتاع، ويلزم المبتاع وإن كره برضى الذي جعل إليه الخيار. هذا قوله في المدونة في البائع إذا اشترط رضى غيره في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي البائع أو رضي فلان البيع، فالبيع جائز، ومثله يلزم في المبتاع على مذهب من لم ير بين اشتراط البائع والمبتاع في ذلك فرقا، وجعل اختلاف جوابه في السؤالين اختلاف قول، لا من أجل افتراق المسألتين؛ وتأول أبو إسحاق التونسي ما في المدونة في البائع بجعل الخيار لغيره أن ذلك بمنزلة الوكالة، ومن سبق منهما فرده أو أجازه مضى ما فعل؛ قال: وهو القياس، ومثله يلزم في المبتاع خلاف ما في المدونة. (والقول الرابع) الفرق بين أن يشترط ذلك البائع أو المبتاع، وعلى ذلك تأول ما في المدونة ابن أبي زيد وأبو إسحاق التونسي وابن لبابة، إلا أنهم اختلفوا في التأويل إذا اشترط ذلك البائع: فذهب ابن لبابة إلى أن البيع يلزم المبتاع برضى البائع، ويلزم البائع برضى الذي جعل إليه الخيارة، ومثله تأويل ابن

فصل

أبي زيد، على هذا حمل ابن لبابة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ، وقول ابن نافع في تفسير ابن مزين، والأظهر من قولهما - عندي - أن للذي جعل إليه البائع الخيار الرد والإجازة، وأن ذلك حق للمبتاع؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى ما حكيناه عنه، أن ذلك بمنزلة الوكالة؛ ولم يختلفوا في تأويل ما وقع في المدونة إذا اشترط ذلك المبتاع، والظاهر- عندي فيما وقع في المدونة - أن ذلك اختلاف من قوله في البائع لا يدخل في المبتاع، فمرة جعل اشتراط البائع ذلك كاشتراط المبتاع، ومرة فرق بينهما، وقد قيل: إن ما وقع في المدونة ليس باختلاف قول، وإنما يرجع ذلك إلى الفرق بين البائع والمباع، وقد قيل: إن ذلك اختلاف قول يدخل في البائع والمبتاع، وأما المشورة فلا اختلاف بينهم أن لمشترطها تركها، وأن الحق في ذلك لمشترطها من المتبايعين دون صاحبه، إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي أن ظاهر ما في كتاب محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المشورة كالخيار في أنه إذا سبق فأشار بشيء لزم، وهو بعيد؛ فتأمل قوله في الأصل. وأما ما حكاه أبو إسحاق التونسي عن ابن نافع أن المشورة كالخيار سواء في أن للمشترط مشورته الأخذ أو الرد، فهو نقل غير صحيح، لأنه إنما تكلم على مشورة مقيدة بالخيار، وذلك كمجرد الخيار، فتأمل ذلك في تفسير ابن مزين. فصل ولا يجوز للبائع أن يشترط النقد في أيام الخيار، فإن فعل فسخ البيع بذلك، لأن النقد المدفوع يصير مرة ثمنا - إن تم البيع، ومرة سلفا - إن لم يتم؛ فإن فعل، فسخ البيع - على كل حال وليس كالبيع والسلف الذي إذا أراد مشترط السلف إسقاطه صح البيع على أحد القولين، هذا هو ظاهر المدونة؛ لأنه ذكر القيمة فيمن اشترى بالخيار بيعا فاسدا، لاشتراطه النقد ثم وجد عيبا ولم يقل الأقل من القيمة أو الثمن. وفي كتاب ابن سحنون أنه كالبيع والسلف، ولا فرق

فصل

عندي بين المسألتين؛ وأما النقد من غير شرط فجائز إلا فيما لا يمكن التناجز فيه بعد أمد الخيار، كالسلم والعبد الغائب والجارية التي فيها المواضعة، لأنه إن تم البيع دخله فسخ الدين. فصل وكما لا يجوز للبائع اشتراط النقد لينتفع به أمد الخيار، فكذلك لا يجوز للمبتاع اشتراط الانتفاع بالمبيع أمد الخيار، لأنه غرر أيضا، إن لم يتم البيع كان قد انتفع بالسلعة باطلا من غير شيء، وإنما جوز له من ذلك قدر ما يقع به الاختبار - خاصة فيما يختبر بالاستعمال كركوب الدابة، واستخدام العبد في الشيء اليسير الذي لا ثمن له. فصل والمبيع بالخيار في أمد الخيار على ملك البائع، كان الخيار له أو للمبتاع أو لهما، فإن تلف فمصيبته منه، كان بيده أو بيد المبتاع، إلا أن يكون بيد المبتاع، ويغيب عليه وهو مما يغاب عليه ويدعي تلفه، ولا يعرف ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك ويكون عليه قيمة الثمن؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه، فذلك رضا منه بالثمن؛ وقد روي عن مالك أن الضمان من المشتري فيما بيع على الخيار - إن كان الخيار له، ومن البائع - إن كان الخيار له - وهو قول ابن كنانة. فصل والخيار في هذا بخلاف الاختيار على مذهب ابن القاسم، لأنه إذا اشترى ثوبا من ثوبين أو عبدا من عبدين، على أن يأخذ أيهما شاء بثمن قد سمياه فتلفا، فالضمان في أحدهما من البائع، وفي الثاني من المبتاع - قامت على تلفهما بينة أو لم تقم - فيكون عليه نصف الثمن، إذ لم يعرف الذي قبضه على الاشتراء من الذي قبضه على الائتمان، وكذلك لو اجتمع الخيار والاختيار على مذهب ابن

فصل

القاسم، فادعى تلفهما - ولم يعرف ذلك إلا بقوله؛ وأما لو قامت بينة على تلفهما، لكانت مصيبتهما من البائع لأن الواحد قبضه على الائتمان فضمانه من البائع، (والثاني) على الخيار فضمانه من البائع أيضا - لقيام البينة على تلفه؛ هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وفيها اختلاف كثير، ولها تفصيل وتفسير ليس هذا موضع ذكره. فصل وإنما يجوز اشتراء الثوب من الثياب على الاختيار والإلزام في الصنف الواحد، وهو في الصنفين من بيعتين في بيعة، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة» ومعنى ذلك أن يتناول عقد البيع مبيعين لا يتم البيع مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما إلا في أحد المبيعين؛ وإنما قلنا: في أحد المبيعين، ولم نقل: أحد الثمنين، ولا أحد المثمونين، لأعم بذلك الوجهين؛ إذ لا فرق بين أن يتناول ثمنين أو مثمونين على الوجه المذكور، لأن الثمن مبيع بالمثمون، كما أن المثمون مبيع بالثمن. فصل فإذا انعقد البيع في مثمون واحد على ثمنين أو في مثمونين على ثمن واحد، أو في مثمونين على ثمنين، فلا يخلو ذلك من وجهين (أحدهما) أن يجوز تحويل أحدهما في الآخر، (والثاني) أن لا يجوز ذلك؛ فأما إذا لم يجز تحويل أحدهما في الآخر، فإن ذلك لا يجوز باتفاق مع ظهور التهمة، فإن سلما من التهمة، جاز ذلك، مثل أن يختلف المبيعان فيما عدا الطعام في القلة والكثرة مع النقد أو التساوي في الأجل، أو الاختلاف فيه، مثل أن يكون المؤجل أو الذي هو أبعد أجلا أقل عددا؛ إذ لا غرض في ذلك يتوخى ويقصد إليه، مثل أن يبيع منه سلعة بدينار نقدا، أو بدينارين نقدا، أو يبيعها منه بدينارين نقدا أو دينارين إلى أجل؛ فهذا وإن كان لا

فصل

يجوز تحويل أحد الثمنين في الآخر فإن البيع على أحدهما من غير تعيين مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما جائز، لأنه يعلم أن البيع إنما وجب بالأكثر إن كان الخيار للبائع، أو بالأقل إن كان الخيار للمبتاع؛ إذ لا يشك في أنه هو الذي يختار، إذ لا غرض في اختيار الثمن الآخر عليه. وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز تحويل أحد الثمنين أو المثمونين في صاحبه، فإن ذلك ينقسم على أربعة أقسام (أحدها) أن يكون الثمنان والمثمونان صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، (والثاني) أن يكونا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة، (والثالث) أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة، إلا أنهما متفاضلان في الجودة، والرابع أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة متساويين في الجودة. فصل فأما إن كانا صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، فلا يجوز إلا على قول عبد العزيز بن أبي سلمة؛ وكذلك إن كانا صنفا واحدا إلا أن الصفة اختلفت وتباينت حتى جاز سلم أحدهما في الآخر، وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة تباينا لا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيجوز عند ابن المواز وعلى قول عبد العزيز بن أبي سلمة أيضا؛ وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أنهما متفاضلان في الجودة، فيجوز على ما في المدونة ومذهب ابن المواز وقول عبد العزيز بن أبي سلمه، ولا يجوز عند ابن حبيب؛ وأما إن كانا صنفا واحدا وصفة واحدة، فيجوز عند جميع أصحابنا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز لهما أن يفترقا إلا على ثمن معلوم؛ والدليل على صحة قولنا أن الثمن معلوم ودخول الاختيار في أحد الثوبين لا تأثير له في الثمن، وإنما يعود ذلك إلى تعيين المبيع، وذلك لا يمنع صحة العقدة، كما لو اشترى منه قفيز قمح من جملة صبرة فيها أقفزة. فصل والبيع لازم للمتبايعين إذا تم البيع بينهما بالكلام وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا

أن يشترطا الخيار، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر وغيره أنه قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» لم يأخذ به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا رأى العمل عليه لوجهين، (حدهما) استمرار العمل بالمدينة على خلافه، وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل، فهو عنده مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبها توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه متوافرون، فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا وقد علموا النسخ فيه. (والثاني) احتماله للتأويل، لأن الافتراق في اللغة يكون بالكلام والإنجاز إلى المعاني والتباين فيها؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة» فيكون معنى الحديث أن المتساومين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يكملا البيع بالقول ويستبد كل واحد منهما بما صار إليه عوضا عما صار لصاحبه؛ لأن المتساومين يقع عليهما اسم متبايعين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» فسمى التساوم بيعا لأن المتبايعين لا يوصفان حقيقة بأنهما متبايعان، إلا في حين مباشرة البيع والتلبس به. وأما بعد كماله وانفصال كل واحد منهما عن صاحبه واستبداده بما صار إليه، فلا يوصفان بأنهما متبايعان إلا مجازا لا حقيقة.

فصل

فصل فإذا احتمل الحديث أن يحمل على هذا لم يصح أن يفرق بين عقد البيع وسائر العقود اللازمة باللفظ، إلا بنص جلي لا يحتمل التأويل، وليس ذلك بموجود في مسألتنا هذه، بل ظاهر القرآن وما في السنن الثابتة والآثار، يدل على أن الأملاك المبيعة تنتقل بتمام اللفظ بالبيع على ما يتراضى عليه المتبايعان وإن لم يفترقا بأبدانهما، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فوصف تعالى التجارة التي تنتقل بها الأملاك بالتراضي خاصة دون التفرق بالأبدان، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه». فظاهره قبل الافتراق وبعد، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق بيعه بعد الاستيفاء من غير أن يقيد ذلك بالافتراق؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع أو يترادان» فسواء كان اختلافهما قبل التفرق أو بعده على ظاهر الحديث، والتراد إنما يكون بعد تمام البيع، وإنما أدخل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث في موطئه عقيب حديث البيعان بالخيار، على طريق التفسير له والبيان لمعناه. فصل وأما قول من قال: إن حديث البيعان بالخيار، منسوخ بحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان» وما أشبهه من ظواهر الآثار، فلا يصح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض من الأخبار، ولا يمكن الجمع بينهما، والجمع بين هذين الحديثين ممكن بحمل التفرق المذكور في الحديث على التفرق بالأبدان أو التفرق بالكلام، وإنما يستدل على أنه منسوخ

فصل

باستمرار العمل بالمدينة على خلاف ما قدمناه؛ وقد روي عن ابن عمر راوي الحديث ما يدل على أنه حديث ترك العمل بظاهره في زمن الصحابة بالمدينة، إما لنسخ علموه فيه، وإما لتأويل تأولوه عليه، وذلك أنه قال: "بعت من عثمان أمير المؤمنين ما بالوادي بمال لي بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من عنده خشية أن يراد في البيع، وكانت السنة أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا " ولا يقال: كان كذا وكذا، إلا لما قد كان وذهب، لا لما هو قائم ثابت بعد؛ وفي قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كانت السنة، يريد حين مبايعته عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشكال، لأن النسخ لا يكون بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا وجه لقوله عندي - والله أعلم: كانت السنة، إلا أنه أراد: أي كانت السنة عندي وفي مذهبي - على ما كنت أحمل عليه الحديث، أن المراد بالتفرق فيه التفرق بالأبدان؛ وهذا يدل على أنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع عن مذهبه في أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا بأبدانهما - إلى أن البيع يلزم المتبايعين بتمام البيع بالكلام - وإن لم يفترقا عن مجلسهما. فصل فإن قيل: إذا قلت في حديث البيعين بالخيار: إن المتبايعين هما المتساومان، بطلت فائدة الحديث؛ إذ لا يشك أحد أن المتساومين كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتم البيع بالكلام، هذا معلوم بالفطرة لا يحتاج إلى بيان؛ فالجواب عن ذلك أن فائدة الحديث لا تبطل، لأن المستفاد منه على ما تأولناه: أن البيع يلزم بمجرد العقد، إلا أن يكون البيع شرط فيه الخيار فيثبت فيه الخيار على حسبما شرط فيه، وبكون الاستثناء في قوله: إلا بيع الخيار، مما يقتضيه لفظ الحديث ويدل عليه، كأنه قال: المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، فإن تفرقا، معناه باللفظ، فلا خيار لهما إلا في بيع الخيار وهذا بين. فصل وقد يحتمل أن تكون فائدة الحديث والمراد به عند من ذهب إلى أن الفرقة

فصل

بالأقوال أن من أوجب البيع من المتساومين لصاحبه، لا يلزمه وله الرجوع عنه في المجلس ما لم يجبه صاحبه بالقبول فيه، وهذا ظاهر إلا أنه ليس على مذهب مالك، وإنما هو قول محمد بن الحسن؛ والذي يأتي على المذهب أن من أوجب البيع من المتبايعين لصاحبه، لزمه إن أجابه صاحبه في المجلس بالقبول ولم يكن له أن يرجع عنه، قبل ذلك، ويحتمل أن يكون معنى الحديث وفائدته التي سيق إليها أن المتساومين ما لم يوجب أحدهما لصاحبه البيع فلا يلزم البائع البيع بما طلب من الثمن ولا المبتاع الأخذ بما بذل منه في حال المساومة، وأن لكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك ما لم يتم البيع بالكلام، وهذا يأتي على قول مالك في المدونة. فصل وإذا حمل الحديث على هذا جاز أن يحمل الاستثناء في قوله في الحديث: إلا بيع الخيار، على ما تقدم، وأن يحمل على معنى أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر أو رد، فيختار، فيلزم بذلك البيع وينقطع به الخيار على ما روي في بعض الآثار: أن «المتبايعين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر»؛ وهذا اللفظ تعلق به الشافعي وكل من حمل الحديث على ظاهره فرأى الخيار للمتبايعين وإن تم البيع بينهما بالكلام ما لم يفترقا بالأبدان، والتأويل الأول أظهر، لأن لفظ الخيار إذا أطلق في الشرع إنما يفهم منه إثبات الخيار لا قطعه، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، إلا أنها فرقة تحل العقد وتبطل ما أوجبه أحد المتبايعين على نفسه لصاحبه، وهو معنى حسن يخرج على المذهب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب العيوب

كتاب العيوب تحريم التدليس بالعيوب أصل ما بنيت عليه أحكام هذا الكتاب: كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الله تبارك وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته المشهورة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»، والتدليس بالعيوب من أكل المال بالباطل الذي حرمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله عيه، ومن الغش والخلابة اللذين نهى عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لحيان بن منقذ: «إذا بايعت فقل: لا خلابة» وقال: «من غشنا فليس منا» أي ليس

فصل

على مثل هدينا وطريقتنا لأن الغش لا يخرج الغاش من الإيمان، فهو معدود في جملة المؤمنين إلا أنه ليس على هديهم وسبيلهم، لمخالفته إياهم في التزام ما يلزمه في شريعة الإسلام من النصح لأخيه المسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن أخ المؤمن، يشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض وينصح له إن غاب أو شهد» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»، فلا يحل لامرئ مسلم أن يبيع عبدا أو أمة أو سلعة من السلع أو دارا أو عقارا أو ذهبا أو فضة أو شيئا من الأشياء - وهو يعلم فيه عيبا، قل أو كثر، حتى يبين ذلك لمبتاعه ويقفه عليه وقفا يكون علمه به كعلمه، فإن لم يفعل ذلك وكتمه العيب وغشه بذلك، لم يزل في مقت الله ولعنة ملائكة الله، روي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله، أو: لم تزل الملائكة تلعنه»، وقد يحتمل أن يحمل قوله: «من غشنا فليس منا» على ظاهره فيمن غش المسلمين مستحلا لذلك، لأنه من استحل التدليس بالعيوب والغش في البيوع وغيرها، فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن تاب من ذلك وإلا قتل. فصل والعيوب تنقسم على قسمين: عيب يمكن التدليس به، وعيب لا يمكن التدليس به، أما ما لا يمكن التدليس به، فلا يجب الرد به في القيام ولا الرجوع بقيمته في الفوات. وهو على وجهين، (أحدهما) ما استوى البائع والمبتاع في الجهل بمعرفته، وكان في أصل الخلقة باتفاق، أو لم يكن في أصلها على اختلاف لم

فصل

يختلف أصحاب مالك في جملة هذا، واختلفوا في تفصيله على ما سيأتي في موضعه من الكتاب إن شاء الله، (والثاني) ما استوى البائع والمبتاع في المعرفة به، وذلك ما كان من العيوب ظاهرا لا يخفى، وأما ما يمكن التدليس به فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يحط من الثمن شيئا ليسارته، أو لأن المبيع لا ينفك منه، (والثاني) أن التدليس يحط من الثمن يسيرا، (والثالث) أن يحط منه كثيرا؛ فأما ما لا يحط من الثمن شيئا ليسارته، أو لأن المبيع لا ينفك منه، فإنه لا حكم له، وأما ما يحط من الثمن يسيرا فإنه لا يخلو من أن يكون في الأصول أو في العروض، فإن كان في الأصول فإنه لا يجب به الرد وإن كان المبيع قائما، وإنما الواجب فيه الرجوع بقيمة العيب، وذلك كالصدع في الحائط وما أشبه ذلك؛ وأما إن كان في العروض، فظاهر الروايات في المدونة وغيرها أن الرد يجب به كالكثير سواء، وقيل: إنه كالأصول، لا يجب الرد به وإنما فيه الرجوع بقيمته، وعلى هذا كان الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحمل ظاهر الروايات حيثما وقعت ويقول: لا فرق بين الأصول في ذلك والعروض، ويؤيد تأويله في ذلك أن زيادا روى عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن ابتاع ثوبا فإذا فيه خرق يسير يخرج في القطع أو نحوه من العيوب، لم يرد به، ووضع عنه قدر العيب، وكذلك هو في جميع الأشياء. وقعت هذه الرواية في الكتاب الجامع لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - المؤلف للحكم، وفي المختصر الكبير نحوه. قال: ولا يرد من العيوب إلا من عيب كثير ينقص ثمنه وتخاف عاقبته ولا ينظر في ذلك إلى ما يرده التجار، فانظر في ذلك. فصل ولا أعرف للمتقدمين من أصحابنا حدا في اليسير الذي لا يجب الرد به في العقار أو في الدور والعروض على أحد القولين، وقد رأيت لابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه سئل عن العيب الذي يحط من الدار ربع الثمن، فقال: ذلك كثير يجب الرد به، وقال ابن القطان: إن كان قيمة العيب مثقالين فهو يسير يرجع المبتاع

فصل

بهما على البائع ولا يرد البيع، وإن كان قيمته عشرة مثاقيل فهو كثير يجب الرد به، فقال: إن عشرة مثاقيل كثير ولا يبين من أي الثمن، والذي عندي أن عشرة مثاقيل من مائة مثقال كثير يجب الرد به. فصل وأما ما يحط من الثمن كثيرا فلا يخلو المبيع فيه من خمسة أحوال (أحدها) أن يكون بحسبه لم يدخله زيادة ولا نقصان، (والثاني) أن يدخله زيادة، (والثالث) أن يدخله نقصان ولا تفوت عينه، (والرابع) أن تفوت عينه أو أكثر العين بخروجه عن ملكه، (والخامس) أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده. فصل فأما الحال الأولى، وهو أن يكون المبيع قائما بحسبه لم يدخله زيادة ولا نقصان، فإن المبتاع فيه بالخيار بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن، أو يمسك ولا شيء له من الثمن، والأصل في ذلك حديث المصراة، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر». فصل وأما الحال الثانية، وهو أن يدخل المبيع زيادة، فإن الزيادة لا تخلو من خمسة أوجه (أحدها) زيادة بحوالة الأسواق، (والثاني) زيادة في حال المبيع، (والثالث) زيادة في عين المبيع بنماء حادث فيه أو بشيء من جنسه مضاف إليه، (والرابع) زيادة من غير جنس المبيع مضافة إليه، (والخامس) ما أحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه، كالصبغ والخياطة وما أشبه ذلك مما لا ينفصل عنه إلا بفساد.

فصل

فصل فأما الزيادة بحوالة الأسواق فإنه لا يعتبر بها ولا توجب للمبتاع خيارا، وكذلك الزيادة في حال المبيع، مثل أن يكون عبدا فيتعلم الصناعات ويتخرج، فتزيد قيمته لذلك، وأما الزيادة في عين المبيع لنماء حادث فيه، كالدابة تسمن أو الصغير يكبر، أو بشيء من جنسه مضاف إليه كالولد يحدث للمبيع، فاختلف أصحابنا في ذلك: فلهم في الدابة تسمن والولد يحدث قولان، (أحدهما) أن ذلك ليس بفوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها، أو يردها بولدها إن حدث لها ولد، أو يمسك ولا شيء له، (والثاني) أن ذلك فوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها أو يردها بولدها إن حدث لها ولد، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، ولهم في الصغير يكبر هذان القولان، وقول ثالث في المدونة أن ذلك فوت وله قيمة العيب ولا خيار له في الرد، ولا فرق بين المسائل الثلاث ما لم يكن الكبر نقصا كالهرم وما أشبه ذلك. وأما الزيادة المضافة إلى المبيع من غير جنسه، فذلك مثل أن يشتري العبد ولا مال له فيفيد عنده مالا بهبة أو صدقة أو كسب من تجارة ما لم يكن ذلك من خراجه، أو يشتري النخلة ولا ثمرة فيها، فتثمر عنده ثم يجد عيبا، فإن هذا لا اختلاف فيه أن ذلك لا يوجب له خيارا ويكون مخيرا بين أن يرد العبد وماله والنخل بثمرتها ما لم تطب ويرجع بالسقي والعلاج، على مذهب ابن القاسم، أو يمسك ولا شيء له في الوجهين جميعا. وأما الزيادة بما أحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ والخياطة والكمد، وما أشبه ذلك مما لا ينفصل عنه إلا بفساد، فلا اختلاف أن ذلك يوجب له الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويكون شريكا بما زاد مما أحدثه من الصبغ وشبهه، لأنه أخرج ماله فيه، فلا يذهب هدرا. فصل ووجه العمل في ذلك: أن يقوم الثوب يوم البيع سليما من عيب التدليس، فإن كان قيمته مائة قوم أيضا يوم البيع بقيمة التدليس، فإن كانت قيمته ثمانين، قوم أيضا

فصل

يوم الحكم غير مصبوغ، فإن كانت قيمته خمسة وثمانين، قوم أيضا يوم الحكم مصبوغا؛ فإن كانت قيمته خمسة وتسعين، كان مخيرا بين أن يمسك ويرجع بخمس الثمن، أو يرد ويأخذ جميع الثمن ويكون شريكا في الثوب بما يقع للعشرة التي بين القيمتين من الخمسة والتسعين - وذلك جزآن من تسعة عشر، وإن كانت الأسواق حالت بنقصان، لم يقوم يوم الحكم غير مصبوغ وقوم مصبوغا، فإن كانت قيمته يوم الحكم مصبوغا خمسة وثمانين، كان شريكا في الثوب إن رده بجزء من سبعة عشر - وهو ما تقع الخمسة التي بين قيمته يوم الحكم مصبوغا، وبين قيمته يوم الشراء غير مصبوغ من قيمته يوم الحكم مصبوغا؛ وتحصيل هذا الذي قلناه: أن الأسواق إن كانت حالت بزيادة لم يكن بد أن يقوم في الرد يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ؛ إذ لا يصح أن يكون شريكا بما زادت الأسواق؛ وإن كانت الأسواق حالت بنقصان لم يقوم يوم الحكم إلا مصبوغا خاصة، وكان شريكا بما زادت قيمته يوم الحكم مصبوغا على قيمته يوم الشراء غير مصبوغ، على ما ذكرناه؛ وهذا قول بعض أهل النظر - وفيه عندي نظر، والقياس أن يقوم يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ، وإن حالت الأسواق بنقصان، فيكون شريكا بما زاد الصبغ على كل حال، لأن حوالة الأسواق ليس بفوت في الزيادة ولا في النقصان، ويلزم البائع أن يأخذ ثوبه بزيادته ونقصانه، فكما تكون له الزيادة، ولا يشاركه بها المبتاع، وإنما يشاركه بما زاد الصبغ خاصة، فكذلك يكون عليه النقصان ويشاركه المبتاع بما زاد الصبغ ولا ينقص من ذلك بسبب نقصان حوالة الأسواق. فصل وأما الحال الثالثة وهو أن يدخل المبيع نقصان، فإن النقصان أيضا لا يخلو من خمسة أوجه (أحدها) نقصان بحوالة الأسواق، (والثاني) نقصان بتغير حال المبيع، (والثالث) نقصان بتغير عين المبيع، (والرابع) نقصان من غير جنس المبيع، (والخامس) بما أحدثه المبتاع في المبيع؛ فأما النقصان بحوالة الأسواق فلا يعتبر به، وهو مخير بين أن يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له، وأما النقصان بتغير حال المبيع مثل أن يشتري الأمة فيزوجها أو العبد فيتزوج، أو يزني أو يسرق

فصل

أو يشرب خمرا أو ما أشبه ذلك مما تنتقص به قيمته، فاختلف في ذلك، قال في المدونة في الذي يشتري الأمة فيزوجها ثم يجد عيبا، أن التزويج نقصان، ولا يردها إلا وما نقص النكاح منها، معناه: أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، قال ابن حبيب: إن ما أحدثه العبد من زنا وشرب خمر أو سرقة، فإن ذلك ليس بنقص يرد معه المشتري ما نقصه إذا وجد به عيبا، وقد يحتمل أن يفرق بين الوجهين بأن التزويج عيب يعلم حدوثه بعد الشراء، فلا يرده إلا أن يرد معه ما نقصه، وما ظهر بالعبد من السرقة وشرب الخمر والزنا بعد الشراء لا يدري لعله كان كامنا فيه من قبل الشراء فلم يلزمه رد ما نقصه؛ وبهذا المعنى فرقوا بين الشاهد يشهد للمرأة ثم يتزوجها قبل الحكم لها بشهادته، أو يشهد للرجل ثم تقع بينه وبينه خصومة وعداوة قبل الحكم بشهادته، وبين الشاهد يشهد للرجل ثم يحدث شرب خمر أو زنا أو سرقة قبل الحكم بشهادته، أن شهادته مردودة في هذا وجائزة في المسألتين الأوليين فصل فإذا قلنا بهذا، فالنقصان في حال المبيع ينقسم على وجهين، (أحدهما) نقصان يعلم حدوثه بعد الشراء، ونقصان يظهر سببه بعد الشراء، ولا يدرى هل حدث بعده أو قبله، وأما النقصان بتغير عين المبيع، فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن يكون كثيرا ولا يذهب بجل المبيع ويتلف أكثر منافعه، (والثالث) أن يذهب جله ويتلف أكثر منافعه؛ فأما النقصان اليسير كذهاب الظفر والأنملة من الوخش والحمى والرمد وصرع الجسم وما أشبه ذلك، فليس بفوت، ويخير المبتاع بين أن يمسك ولا شيء له أو يرده ولا شيء عليه، وأما النقصان الكثير إذا لم يذهب بجل المبيع، ولا أتلف أكثر منافعه؛ فإنه يوجب للمبتاع الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، وبين أن يرد ويرد ما نقص منه

فصل

العيب الحادث عنده، خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما: إنه ليس له أن يرد، ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، إنما له أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، والدليل على صحة قولنا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر»، وجه الدليل من هذا الحديث أن المبتاع لما أتلف بعض المبيع - وهو اللبن المصرى في الضرع خيره النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين أن يرد ويغرم قيمة ما أتلف من اللبن وهو الصاع، وبين أن يمسك، وهذا نص في موضع الخلاف؛ ومن جهة المعنى والقياس أن هذين عيبان حدث أحدهما عند البائع، والثاني عند المبتاع، وكل واحد منهما غير راض بالتزام ما حدث عند صاحبه بقيمته، فلما تعارض الحقان كان أولاهما بالتغليب حق المبتاع، لأنه لم يدلس ولا أخطأ على صاحبه، والبائع لا يخلو من أن يكون دلس على المبتاع أو أخطأ عليه بأن باع منه معيبا على أنه صحيح ولم يتثبت في ذلك. فصل ووجه العمل في هذا إن أراد أن يمسك أو يرجع بقيمة العيب أن يقال: ما قيمتها يوم البيع سليمة من عيب التدليس ومن العيب الحادث عند المشتري؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمتها يومئذ بعيب التدليس سليمة من العيب الحادث عند المشتري؟ فإن قيل: ثمانون، رجع المبتاع على البائع بخمس الثمن، كان أقل من ماله أو أكثر؛ لأن البائع لم يدفع إليه إلا أربعة أخماس ما باع منه وأخذ منه ثمن الجميع، فوجب أن يرد خمس الثمن؛ لأنه قبضه باطلا بغير عوض، وإن أراد أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، قيل: ما قيمتها أيضا يومئذ بعيب التدليس وبالعيب الحادث عنده؟ فإن قيل: ستون وقيمتها يومئذ سليمة مائة، وبعيب التدليس ثمانون - كما ذكرنا - كان على المبتاع خمس الثمن، وإن شئت قلت: ربع الثمن بعد أن يسقط منه خمسه؛ لأنه دلس بخمس المبيع فأخذ خمس الثمن باطلا وذلك سواء، لأن هذا الجزء هو الذي ذهب عند المبتاع فيمضي ما ينوبه من

فصل

الثمن، وذلك أنه قبض على هذا التنزيل أربعة أخماس المبيع، وبقي عند البائع خمسه، فذهب عنده ربع ما قبض وهو خمس الجميع، فذلك الذي يلزمه ثمنه ويسقط عنه سائر الثمن، إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفع الثمن، رجع بأربعة أخماسه وبقي للبائع خمسه، لأن الخمس الذي تلف عند المبتاع مصيبته منه فيمضي بالثمن، كما لو اشترى سلعة فاستهلك خمسها بانتفاع بأكل أو جناية، ووجد بالباقي عيبا، رده ولزمه خمس الثمن بما استهلك؛ وهذا كله بين لا خفاء به ولا ارتياب في صحته، فلا بد على هذا في الرد من ثلاث قيم، وفي الإمساك من قيمتين، وقال أحمد بن المعدل: إن أراد أن يمسك ويرجع بقيمة العبد، فليرجع بقيمته من الثمن الذي اشتراها به، كقول ابن القاسم سواء، وإن أراد أن يرده فليرده ويرد قيمة العيب يوم الرد، فينظر كم قيمته يومئذ وبه العيب القديم، وكم قيمته بالعيب الثاني، فيرد معه قيمة العيب الثاني، وهو ما بين القيمتين دون أن يرجع في ذلك إلى أصل الثمن؛ لأنه فسخ بيع؛ ألا ترى لو نما العبد أو نقص لرد بنمائه ونقصانه ولا شيء عليه؛ فكذلك يرد قيمة العيب يوم الرد بخلاف العيب القديم، لأن العيب القديم البائع ألزمه المشتري يوم الشراء، فيومئذ ينظر إلى قيمته ويرجع عليه المبتاع في الثمن الذي أخذه منه ولم ينفسخ بينهما بيع. قال أحمد: وما علمت أحدا من أصحابنا تكلم عليها، قلت: تكلم عليها أحمد بن المعدل وحده وكل مجر بالخلاء يسري، ولو رأى كلام ابن القاسم وتدبره، لبان له صوابه ولم يسعه خلافه؛ لأن ما نقصه العيب الحادث قد فات بيد المبتاع، فتم فيه البيع، فوجب عليه ما ينوبه من الثمن، وهذا بين. فصل وأما إن ذهب النقصان بجل المبيع وأتلف أكثر منافعه مثل أن يفقأ عيني العبد جميعا، فيبطله، أو يقطع يديه أو رجليه أو يشتري صغيرا فيهرم، أو ثوبا فيقطعه تبابين، ومثله لا يقطع تبابين، فيفسده بذلك وما أشبهه، فإن هذا كله كذهاب عينه، فلا يجب للمبتاع إلا الرجوع بقيمة العيب.

فصل

فصل وأما النقصان من غير المبيع مثل أن يشتري النخل بثمرتها قبل الطياب، قبل الإبار أو بعده، أو العبد بماله فيذهب مال العبد بتلف، أو ثمر النخل بجائحة أتت عليه، ثم يجد به عيبا، فإن هذا ليس فيه اختلاف أن ذلك ليس بفوت، وهو بالخيار بين أن يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له؛ وأما النقصان بما أحدثه المبتاع في المبيع مما جرت العادة أن يحدث فيه مثل أن يشتري الثوب فيصبغه أو يقطعه فينقص لذلك من ثمنه، فإن هذا فوت باتفاق، والمشتري مخير بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويرد ما نقصه ذلك عنده، إلا أن يكون مدلسا فلا يكون عليه بالنقصان شيء يرده من أجله، واختلف إن أراد أن يمسك، هل له أن يرجع بقيمة العيب أم لا؟ على قولين، أحدهما قول ابن القاسم: إن ذلك له، (والثاني) قول ابن المواز وأصبغ: إن ذلك ليس له فيما كان نقصه بغير صناعة كالقطع؛ وإنما يكون له ذلك فيما كان نقصه بصناعة كالصبغ وشبهه، ولكلا القولين وجه من النظر، وهو محمول على غير التدليس حتى يثبت ذلك عليه أو يقر به على نفسه؛ فإن أنكر أن يكون علم أو ادعى أنه نسي، أحلف على ذلك، فإن حلف، خير المبتاع عند ابن القاسم؛ وحكى ابن المواز عن مالك أنه لا يحلف إلا بعد أن يخير المبتاع فيختار الرد، إذ لا معنى ليمينه إذا اختار الإمساك والرجوع بقيمة العيب. فصل وهذه إحدى خمس المسائل التي يفترق فيها حكم المدلس من الذي لم يدلس، (والثانية) أن يصيب المبيع عند المشتري عيب أو عطب من العيب الذي باعه به، مثل أن يبيعه آبقا فيأبق عند المشتري، أو سارقا فيسرق عند المشتري فتقطع يده وما أشبه ذلك؛ فإنه إن كان البائع مدلسا بذلك البيع، كان ضمان ما أصابه عند المشتري منه، وإن لم يكن مدلسا، فلا ضمان في ذلك من المشتري، (والثالثة)

فصل

أن يبيع الرجل سلعة وبها عيب ثم يشتريها من المبتاع بأكثر من الثمن الذي باعها به منه؛ فإن كان مدلسا لم يكن له الرجوع على المبتاع، وإن كان غير مدلس رجع عليه بما زاده على الثمن، (والرابعة) أن من دلس في سلعة بعيب فردت عليه به لم يلزم السمسار أن يرد الجعل، بخلاف إذا لم يدلس، (والخامسة) من باع بالبراءة مما يجوز بيعه بالبراءة، فإنه يبرأ مما لم يعلم به ولا يبرأ مما علم به فدلس به. فصل وأما الحال الرابعة وهو أن يذهب عين المبيع، فلا يخلو من وجهين (أحدهما) أن يكون ذهابه بخروجه عن ملكه بعوض، (والثاني) أن يكون خرج عن ملكه بغير عوض، فأما الوجه الأول وهو أن يخرج عن ملكه بعوض، وذلك أن يبيعه أو يهبه للثواب، فإنه لا يخلو أيضا من وجهين (أحدهما) أن يبيعه من بائعه، (والثاني) أن يبيعه من غير بائعه، فأما إن باعه من بائعه بمثل الثمن فلا شيء عليه، لأنه كان قد رده عليه، وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بتمام الثمن، فيكون كأنه قد رده عليه؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع الأول وأمكن أن يكون حدث عند المشتري الأول وهو البائع الثاني، حلف البائع الأول بالله ما كان عنده يوم باعه على البت إن كان ظاهرا، أو على العلم إن كان خفيا باطنا - ولم يكن للمشتري الأول - وهو البائع الثاني - أن يرجع عليه بشيء، وكان له هو أن يرده عليه- وإن أمكن أيضا أن يكون حدث عند البائع الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف البائع الثاني وهو المشتري الأول أن العيب لم يحدث عنده في علمه، إن كان خفيا، ولم يكن للبائع الأول وهو المشتري الثاني أن يرد عليه ولزمه البيع فيه بالثمن الثاني، إذ قد برئ من غرم ما بين الثمنين بيمينه، أو لأن العيب لم يحدث عنده وإن باعه منه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به منه وكان البائع الأول قد علم بالعيب فدلس به لزمه البيع ولم يكن له أن يرده على المشتري الأول وهو البائع الثاني، فإن كان البائع لم يعلم بالعيب، كان له أن يرده على المشتري الأول - وهو البائع الثاني، ثم كان للبائع الثاني وهو المشتري الأول أن يرده على البائع الأولى وهو المشتري الثاني، فإن رده كل واحد منهما على صاحبه، تقاصا بالثمن ورجع

المشتري الثاني على المشتري الأول بالزيادة؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع الأول وأمكن أن يكون حدث عند المشتري الأول - وهو البائع الثاني، كان للبائع الأول أن يرده على البائع الثاني - وهو المشتري الأول؛ فإن رده عليه - وأراد هو أن يرده على البائع الأول - لم يكن ذلك له إذا لم يثبت أن العيب كان به عنده ولزمته اليمين ما علم أن العيب كان به عنده، إن كان من العيوب التي تخفى، وإن كان من العيوب الظاهرة حلف على البت على مذهب ابن القاسم، وإن أمكن أن يكون العيب حدث أيضا عند البائع الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف المشتري الأول وهو البائع الثاني أنه ما علم أن العيب حدث عنده، ولزم البائع الأول العبد ولم يكن له رده، وأما إن باعه من غيره، فقال ابن القاسم في المدونة: هو فوت ولا يرجع على البائع للعيب بشيء لأنه لا يخلو من أن يكون علم بالعيب فباعه على معرفة فهو رضا منه، أو لم يكن علم فلم ينقص بسبب العيب شيء، قال: سماع عيسى: إلا أن يرجع عليه بشيء فيرجع بقيمة العيب من ثمنه الذي اشتراه به، ظاهر الرواية، وإن كان ذلك أكثر مما رجع به عليه؛ وكذلك لو نقص بسبب العيب شيئا وإن كان قد باع بمثل الثمن أو أكثر منه مثل أن يبيعه وكيل له ويبين العيب أو يبيعه هو ويبين العيب - وهو يظنه حدث عنده، لوجب أن يرجع بقيمة العيب بالغة ما بلغت - على قياس هذه الرواية، ومعنى ما في المدونة، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه إن باعه بأقل من الثمن ونقص بسبب العيب، رجع على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ما شاء من ذلك، البائع مخير، فلو باع على قول ابن القاسم هذا بمثل الثمن أو أكثر لم يكن له على البائع رجوع، وإن كان قد نقص بسبب العيب، ومن قوله أيضا في كتاب ابن المواز أنه إن باعه ففات عند المبتاع الثاني فرجع عليه بقيمة العيب رجع هو على بائعه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه هو، أو بما رجع به عليه، ظاهره: وإن كان ذلك أكثر من بقية رأس ماله، خلاف ما تقدم له من أنه إذا نقص بسبب العيب يرجع على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ولم يحمله محمد بن المواز على الخلاف فقال فيه: يريد ما لم يكن

فصل

ذلك أكثر من بقية رأس ماله، فإنما له الرجوع بالأقل من ثلاثة أشياء، والصواب أن ذلك اختلاف من قوله، فيتحصل له في المسألة ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه إن رجع عليه في العيب شيء أو نقص بسببه من الثمن شيء رجع على البائع منه بقيمة العيب من ثمنه بالغا ما بلغ- وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، (والثاني) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو ممن رجع به عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، (والثالث) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو مما رجع به عليه أو من بقية رأس ماله، الأقل من الثلاثة الأشياء، وهو اختيار ابن المواز وأحد قولي ابن القاسم في كتابه، وقال أشهب إذا باعه وإن لم يسقط بسبب العيب شيء فيرجع بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو من بقية رأس ماله، وقال ابن عبد الحكم: يرجع بقيمة العيب كله على البائع، باعه من الأجنبي بمثل الثمن أو أقل أو أكثر. فصل وأما الوجه الثاني- وهو أن يكون خرج من يده بغير عوض، فلا يخلو من أن يكون ذلك باختياره وفعله أو مغلوبا عليه بغير اختياره؛ فأما إن كان ذلك مغلوبا عليه بغير اختياره مثل أن يكون عبدا فيموت أو يقتله خطأ أو يغصب منه وما أشبه ذلك، فلا اختلاف أن له الرجوع بقيمة العيب، وأما إن كان ذلك بفعله واختياره مثل أن يكون عبدا فيقتله عمدا أو يهبه أو يتصدق به أو يعتقه أو يكاتبه أو ما أشبه ذلك، فروى زياد عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك فوت ولا رجوع له بقيمة العيب، والمشهور من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الذي عليه أصحابه أن ذلك فوت وله الرجوع بقيمة العيب. فصل وأما الحال الخامسة وهو أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده، فإن هذا العقد لا يخلو من أن يتعقبه رجوع إلى ملكه أو لا يتعقبه رجوع إلى ملكه؛ فأما إن كان لا يتعقبه رجوع إلى ملكه وذلك كالكتابة والاستيلاد والعتق إلى أجل والتدبير، فهو

فصل

فوت وليس فيه إلا الرجوع بقيمة العيب، وأما إن كان العقد يتعقبه الرجوع إلى ملكه كالرهن والإجارة والإخدام، ففيه بين أصحابنا اختلاف؛ قال ابن القاسم: إذا رجع إلى ملكه رده وليس ما عقده فيه فوت؛ وقال أشهب: إن كان أمد ذلك قريبا، رده وإن كان بعيدا فهو فوت، وقال أصبغ في الإجارة: إنها ليست بفوت وله الرد ولا تنتقض الإجارة؛ لأنه عقدها بموضع يجوز له، كما لو زوج العبد ثم وجد به عيبا لرده بعيبه ولم ينفسخ النكاح؛ فانظر هل يرد ما نقصه ذلك وقابله بمن اشترى ثوبا فقطعه ثم وجد به عيبا. فصل فالرد بالعيوب القديمة قبل العقد واجب على التفصيل الذي ذكرناه، علم البائع بها أو لم يعلم، إذا كان مما يمكن معرفته، إلا أن يبيع بالبراءة، فإن باع بالبراءة فيما يجوز فيه البيع بالبراءة برئ مما لم يعلم من العيوب، على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ولا يبرأ مما علم فدلس به؛ وأما ما حدث بالمبيع من العيوب بعد عقد البيع، فلا يجب به الرجوع، إلا أن يكون الحادث من العيوب في الرقيق في عهدة الثلاث أو جنونا أو جذاما أو برصا في عهدة السنة. فصل فالعيوب على هذا تنقسم على ثلاثة أقسام: عيب قديم يعلم قدمه عند البائع ببينة تقوم على ذلك، أو بإقرار البائع به أو بدليل العيان، وعيب يعلم حدوثه عند المشتري ببينة تعلم ذلك، أو بإقرار المشتري بحدوثه عنده، أو بدليل العيان على ذلك، وعيب مشكوك فيه، يحتمل أن يكون قديما عند البائع، ويحتمل أن يكون حدث عند المشتري. فصل فأما العيب القديم فيجب الرد به في القيام والرجوع بقيمته في الفوات على

فصل

التقسيم الذي ذكرناه، وأما الحادث فلا حجة للمبتاع فيه على البائع، وأما المشكوك فيه فليس على البائع فيه إلا اليمين، قيل: على البت، وهو قول ابن نافع في المدنية، ورواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية، والحجة في ذلك أنه لو ثبت أنه كان قديما عند البائع لوجب أن يرد عليه وإن لم يعلم به، فإذا رد عليه وإن لم يعلم به وجب أن لا يبرأ منه بيمينه على العلم، وهذا لا يلزم، لأنه إنما يرد عليه وإن لم يعلم به إذا ثبت كونه عنده، وفي مسألتنا لم يثبت كونه عنده، وقال أشهب: يحلف على العلم في الظاهر والخفي، وفرق ابن القاسم بين ذلك فقال: يحلف في الظاهر على البت، وفي الخفي على العلم؛ فإن نكل عن اليمين رجعت على المبتاع في الوجهين جميعا، على العلم أنه ما حدث عنده، هذا قول ابن القاسم في سماع عيسى من العتبية، وروي عنه في المدنية أنها ترجع على المبتاع على نحو ما كانت على البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وقال ابن نافع: يحلف على البت على أصله في يمين البائع، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية وعلى قول أشهب يحلف على العلم في الوجهين جميعا. فصل فإن نكل عن اليمين ففي المدنية من رواية عيسى عن ابن القاسم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى أن البيع يلزمه، وهذا يقتضي أنه ليس له بعد النكول أن يرجع إلى اليمين، وفيها من قول ابن نافع: فإن نكل عن اليمين لم ترد أبدا حتى يحلف، وهذا يقتضي أن له بعد النكول أن يحلف. فصل وهذا في العيوب التي تكون ظاهرة في البدن، وأما ما لا يظهر مثل الإباق والزنى والسرقة وما أشبه ذلك، فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديما، فقال ابن القاسم: يحلف البائع، واحتج بروايته عن مالك، وقال أشهب: لا يمين عليه، واحتج

فصل

في ذلك بروايته عن مالك أيضا وفرق محمد بن المواز من رأيه بين أن يظهر العيب عند المبتاع أو لا يظهر، فألزمه اليمين إذا ظهر ولم ير ذلك عليه إذا لم يظهر عنده، وإنما أراد أن يحلفه بمجرد دعواه. فصل واختلف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؟ فجعله ابن القاسم في كتاب الاستبراء من المدونة ابتداء بيع، إذ أوجب المواضعة على المشتري، وروي ذلك عن مالك، وله في كتاب العيوب خلاف ذلك في الذي أعتق عبده فرد الغرماء عتقه فباعه السلطان في دينه، ثم ثبت أنه كان به عند البائع عيب وأنه علم به، أن البيع يرد ويعتق على البائع بالعتق الأول إن كان له مال تؤدى منه ديون الغرماء؛ وقال أشهب في كتاب الاستبراء: هو نقض بيع، وروي ذلك عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العتبية، وله خلاف ذلك في مسألة كتاب العيوب المذكورة أن العبد لا يعتق، فجعله راجعا إليه بملك مستأنف لا على الملك الأول. فصل واختلف بماذا تدخل السلعة المردودة بالعيب في ضمان البائع، فقيل: إذا أشهد المبتاع على العيب وأنه غير راض به، فقد برئ من ضمان السلعة المردودة بالعيب ما لم يطل الأمر حتى يرى أنه راض به، وهو قول أصبغ؛ وقيل: هي في ضمان المبتاع حتى يثبت العيب عند السلطان، وقيل: هي في ضمان المبتاع وإن ثبت العيب عند السلطان حتى يقضى برده على البائع، أو يرضى صاحب العبد بقبض عبده. فصل فإن كان المبيع المردود بالعيب مما له غلة ويلزم فيه نفقة، فالغلة للمبتاع والنفقة عليه، لا رجوع له بها على البائع، ولا يلزمه أن يرد الغلة لأن الضمان منه،

روي «أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرده عليه، فقال البائع: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الغلة بالضمان». لا اختلاف بين أهل العلم في هذا على الجملة، وإنما اختلفوا فيه على التفصيل؛ لاختلافهم فيما هو غلة للمبتاع مما ليس بغلة له، وفي وجوب الرجوع له بما أنفق على ما لا يصح اغتلاله؛ وبيان هذا أن الغلات تنقسم على قسمين (أحدهما) ما لا يتولد عن المبيع وإنما غلته بالانتفاع بعينه، كالعبيد الذين يستخدمون أو يؤاجرون، والمساكن التي تسكن، أو تكرى، وما أشبه ذلك، و (الثاني): ما يتولد عنه كثمر النخل وصوف الغنم ولبنها، وما أشبه ذلك؛ فأما ما لا يتولد عن المبيع، فللمبتاع ما اغتل منه إلى يوم يرده بالعيب، وعليه النفقة، ولا إشكال في هذا الوجه يفتقر إلى بيان؛ وأما ما يتولد عنه فإنه ينقسم على قسمين (أحدهما) أن يكون ما يتولد عنه وجهه أن يقبض شيئا شيئا كلما تولد، كلبن الغنم وما أشبهها. و (الثاني) أن يكون ما يتولد عنه لا يقبض إلا في أوقاته المعهودة، كثمر النخل وصوف الغنم وما أشبه ذلك؛ فأما الوجه الأول فحكمه حكم ما لا يتولد عن المبيع: للمبتاع منه ما اغتل إلى يوم الرد؛ وأما الوجه الثاني فإن الثمار مفارقة النخل وما أشبهها من الثمار، فلا تخلو من أربعة أحوال، (إحداها) أن تكون يوم البيع لا ثمرة فيها، (والثانية) أن تكون يوم البيع فيها ثمرة لم تؤبر، (والثالثة) أن تكون فيها ثمرة قد أبرت، (والرابعة) أن تكون فيها ثمرة قد طابت، فأما الحال الأولى وهو أن تكون النخل لا ثمرة فيها يوم الابتياع فلا يخلو من أربعة أوجه، (أحدها) أن يجد بها العيب فيردها به قبل أن تصير لها ثمرة، (والثاني) أن يجد بها العيب فيردها به وقد صار لها ثمرة لم تؤبر، (والثالث) أن يجد بها العيب فيردها به وقد أبرت الثمرة، (والرابع) أن يجد بها العيب فيردها به وقد طابت الثمرة، يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت بعد الجد أو فائتة. وأما الحال الثانية، وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة لم تؤبر، فلا تخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يجد العيب فيرد به والثمرة بحالها لم تؤبر، (والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد أبرت،

فصل

(والثالث) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد طابت، وأما الحال الثالثة وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة فيستثنيها المبتاع، فلا تخلو من وجهين (أحدهما) أن يجد العيب فيرد به والثمرة على حالها لم تطب، (والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد طابت؛ وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل بثمرتها بعد الطياب، فليس فيها إلا وجه واحد - وهو أن يجد بها العيب قبل الجداد أو بعده وهما سواء، فهذه عشرة أوجه، أربعة في الحال الأولى، وثلاثة في الحال الثانية، واثنتان في الحال الثالثة، ووجه واحد في الحال الرابعة، يتصور في كل وجه منها أربعة معان، سواء الرد بالعيب يطرأ على الملك فيخرجه من يد مالكه بوجه الحكم، وهي الرد بالعيب الفاسد والاستحقاق والشفعة والتفليس، فأنا أذكر حكم الرد والعيب فيها ثم أعود إلى ذكر سائر المعاني الأربعة وتبيين وجه الحكم فيها، إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله؛ فأما الوجه الأول من الحال الأولى وهو أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيجد بها عيبا قبل أن يصير لها ثمرة فإنه يردها به إن شاء ولا يرجع بالسقي والعلاج إن كان قد سقى وعالج، وقيل: إنه يرجع به على مذهب ابن القاسم - وينبغي أن يجري هذا على اختلاف قوله في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؛ وأما الوجه الثاني من الحال الأولى - وهو أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيسقيها ويعالجها حتى تكون لها ثمرة فيجد بها عيبا قبل أن تؤبر، فإنه يردها بالعيب ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، ولا يرجع به عند ابن الماجشون وسحنون. فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال، فلا أذكر لأصحابنا في ذلك نصا والذي يوجبه النظر عندي على أصولهم أن ذلك فوت، لأن جد الثمرة في هذه الحال يعيب الأصل وينقص قيمته، فيكون مخيرا بين أن يرد ما نقص أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، وأما الوجه الثالث من الحال الأولى وهو أن يشتري النخل ولا ثمرة فيها فيجد بها العيب بعد الإبار، فإنه يردها بثمرتها ويرجع بقيمة السقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، خلافا لابن الماجشون وسحنون، هذا قول مالك وأصحابه، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، لا أعرف في ذلك بينهم نص خلاف في أنه يردها بثمرتها، إلا أن القياس

فصل

على مذهب من يرى الرد بالعيب ابتداء بيع، أن يرد النخل وتبقى له الثمرة، وقد قاله أصبغ في الواضحة في البيع الفاسد؛ فيلزم مثله في الرد بالعيب، فإنه نقض بيع أيضا لأن فسخ البيع الفاسد نقض له باتفاق، فهما قولان ظاهران. فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال أيضا، كان الحكم فيها على ما تقدم في جداده إياها قبل الإبار، وأما الوجه الرابع من الحال الأولى وهي أن يشتري النخلة ولا ثمرة فيها فيسقي ويعالج حتى تصير لها ثمرة فتطيب ثم يجد بها العيب بعد طيابها، يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت أو فائتة؛ فإن الثمرة للمبتاع، لأنها غلة قد وجبت له بالضمان؛ هذا قول ابن القاسم في المدونة ولا أعرف له في ذلك نص خلاف، إلا أنه يلزم على ما له في كتاب ابن المواز في الاستحقاق أن يردها بثمرتها ويرجع للسقي والعلاج ما لم تيبس، وعلى ما روى أبو زيد عنه في الاستحقاق أيضا أن يردها بثمرتها ويرجع بالسقي والعلاج ما لم تجد، وهو قول أشهب في المدونة إذا اشترى الثمرة وقد أبرت، ولا فرق على مذهبه في هذا بين شرائه النخل ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة، لم تؤبر أو قد أبرت؛ لأنه رآها، ما لم تطب؛ تبعا للأصول، لم تقع عليها حصة من الثمن، وإن كانت لا تجب له إلا بعد الإبار إلا باشتراطه إياها؛ إذ لا يصح بيعها مفردة دون الأصول، وهذا قول ابن الماجشون في البيع الفاسد أنه يرد بثمرته ما لم تجد، ولا فرق في هذا بين الرد بالعيب وبفساد البيع والاستحقاق. فصل فيتحصل على هذا في الحد الذي تصير به الغلة للمبتاع في الرد بالعيب والاستحقاق والبيع الفاسد أربعة أقوال، (أحدها) أنه تصير له غلة بالإبار، (والثاني) أنه لا تصير له غلة إلا بالطياب، (والثالث) أنه لا تصير له غلة إلا باليبس، (والرابع) أنه لا تصير له غلة إلا بالجداد؛ فوجه القول الأول أن الثمرة قد صارت بعلاجه وعمله إلى الحد الذي يكون في البيع للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، فوجب أن تكون غلة له، أصل ذلك إذا طابت أو يبست - ووجه القول الثاني أنها لا تصير له

فصل

غلة - وإن أبرت ما لم تطب، لأنها قبل الطياب لا يجوز بيعها مفردة دون الأصول، أصل ذلك إذا لم تؤبر، ووجه القول الثالث أنها ما لم تيبس متشبثة بالأصول، إن باعها دونها لم تدخل في عقد البيع في ضمان المشتري لما يجب له فيها من الرجوع بالجائحة، فوجب أن ترد معها ولا تكون غلة له؛ ووجه القول الرابع أنها وإن يبست ما لم تجد متشبثة بالأصول ليست كالطعام الموضوع في جواز بيعه بالطعام، لتعلقه بملك البائع، فوجب أن ترد مع الأصول ولا تكون غلة؛ أصل ذلك إذا لم تؤبر، وأما الوجه الأول من الحال الثانية، وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد بها عيبا - وهي لم تؤبر بعد - فاختلف قول ابن القاسم إذا ردها هل يرجع بالسقي والعلاج إن كان قد سقى وعالج، حكى عنه الفضل، وعن أشهب أنه يرجع به وله في المدونة دليل على أنه لا يرجع به. فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال قبل أن يجد العيب كان ذلك نقصانا يوجب له التخير بين أن يرد ويرد ما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما وصفنا فيما تقدم؛ وأما الوجه الثاني من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد العيب والثمرة قد أبرت، فالحكم فيه على ما تقدم إذا اشترى النخل ولا ثمرة فيها فوجد بها العيب وقد أبرت الثمرة، وقد وصفنا ذلك، وأما الوجه الثالث من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد بها العيب وقد طابت الثمرة، فالحكم فيه أيضا على ما تقدم إذا اشترى النخل ولا ثمرة فيها ثم وجد بها العيب وفيها ثمرة قد طابت، وقد وصفنا ذلك وما يدخله من الاختلاف، وأما الوجه الأول من الحال الثالثة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة مأبورة فيجد بها العيب قبل الطياب، فإنه يردها بثمرتها عند الجميع ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب.

فصل

فصل فإن جد الثمرة قبل أن يجد العيب كان مخيرا بين أن يرد وما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما تقدم في جده إياها قبل الإبار، وأما الوجه الثاني من الحال الثالثة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة قد أبرت فيجد العيب وقد طابت فإنه يردها بثمرتها على مذهب ابن القاسم، وإن يبست أو جدت وكانت قائمة، فإن فاتت رد المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، أو الثمن إن بيعت، ويرجع بالسقي والعلاج في ذلك كله على مذهبه، ولم يمضها إذا طابت بما ينوبها من الثمن كما أمضاها في الشفعة إذا يبست، وقد عد ذلك سحنون اختلافا من قوله، وفرق ابن عبدوس بين المسألتين؛ وقال أشهب: إذا جدت فهي غلة للمبتاع؛ فتلخيص القول في هذا الوجه أن الذي يتحصل فيه ثلاثة أقوال، أحدها، أن يرد الثمرة مع الأصل على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، والثاني أنها تكون غلة للمبتاع، والثالث أنها تمضي بما ينوبها من الثمن. فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن، أو: إنها تكون غلة للمبتاع، ففي حد ذلك ثلاثة أقوال، أحدها الطياب، والثاني اليبس، والثالث الجداد، ولا اختلاف في أن الثمرة إن ذهبت بجائحة في هذا الوجه، ترد ويرجع بجميع الثمن؛ وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة قد طابت ثم يجد بها عيبا، فإنه يردها بثمرتها على كل حال وإن جدت، ما كانت قائمة، فإن فاتت رد المكيلة إن عرفت، كمشتري سلعتين يجد بأرفعهما عيبا، فإن جهلت المكيلة مضت بما ينوبها من الثمن ورد النخل بما ينوبها، وقيل: يرد قيمة الثمرة ويرجع بجميع الثمن.

فصل

فصل فهذا حكم الرد بالعيب في جميع الوجوه التي قسمناها قد بيناه كما شرطنا، والرد بفساد البيع مثله سواء في جميع الوجوه، حاشا أن الرد بفساد البيع لا خيار فيه لأحد المتبايعين، فهو نقض بيع على كل حال، فلا يدخل فيه من الاختلاف إلا ما يدخل في الرد بالعيب على القول بأنه نقض بيع ويكون جداد الثمرة فيه إذا جدها قبل الإبار أو بعده - وقبل الفيات - فوتا يوجب تصحيحه بالقيمة. فصل وأما الاستحقاق والشفعة والتفليس فتتفق أحكامها في بعض الوجوه المذكورة بأحكام الرد بالعيب وبفساد البيع، وتختلف في بعضها، فأنا أذكر جملة أحكامها باقتصار بعضها - للتقسيم الذي ذكرته في الرد بالعيب، إرادة التقريب، وذلك أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يكون فيها ثمرة أصلا، وأن يكون فيها ثمرة، إلا أنها لم تؤبر، (والثاني) أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مأبورة، (والثالث) أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة قد طابت، فأما الوجه الأول وهو أن لا يكون فيها يوم الابتياع ثمرة، أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر، فيطرأ على المبتاع فيها - والثمرة لم تؤبر مستحق، أو شفيع أو يفلس فيريد البائع أن يأخذ نخله، فإن هذا لا اختلاف فيه أنهم يأخذون النخل بثمرته، وإنما الاختلاف في وجوب رجوع المبتاع عليهم بما سقى وعالج إن كان له فيه سقي وعلاج، وذلك على ما ذكرته في حكم الرد بالعيب، وقد رأيت في بعض الكتب القديمة رواية عن ابن القاسم أن المفلس لا يرجع بما سقى، فإن صحت هذه الرواية عنه فهذا خلاف من قوله يدخل في الرد بالعيب والأخذ بالشفعة، وجه القول الأول تشبيهه بالاستحقاق والرد بفساد البيع لما فيه من الخيار للمبتاع، ووجه

فصل

القول الثاني تشبيهه بالبيع لما فيه من الخيار للمبتاع والشفيع، وقد روي عن أشهب في الشفعة والاستحقاق أنه يأخذ الثمرة بقيمتها على الرجاء والخوف، وعلته في ذلك أن السقي والعلاج قد يكون أكثر من قيمة الثمرة - وهو لو جدها لم يكن له رجوع بما سقى وعالج. فصل فإن جد الثمرة كانت غلة له إن كان ابتاع النخل قبل أن يكون فيا ثمرة، وإن كان ابتياعه لها وفيها ثمرة لم تكن له غلة وحاسبه بها الشفيع فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاسبه بها البائع في الاستحقاق فلم يرجع عليه إلا بما ينوب الأصول الطياب، وحاسبه بها الغريب في التفليس فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاص الغرماء بما ينوب الثمرة. فصل فأما إن طرأ عليه بعد إبان الثمرة، ففي ذلك أربعة أقوال، (أحدها) أنهم لا حق لهم في الثمرة بعد الإبار وهي غلة للمبتاع لا يحاسب بها، (والثاني) أنهم أحق بها ما لم تطب الثمرة، (والثالث) أنهم أحق بها ما لم تيبس، (والرابع) أنهم أحق بها ما لم تجد، المنصوص عليها من هذه الأقوال في الاستحقاق قولان، (أحدهما) في كتاب ابن المواز أن المستحق أحق بها ما لم تيبس، (والثاني) رواية أبي زيد عن ابن القاسم أنه أحق بها ما لم تجد، (والقول الثالث) أنه لا حق له فيها بعد الإبار - وهي غلة للمبتاع، قاله أصبغ في الرد بفساد البيع ولا فرق. (والقول الرابع) أنه أحق بها ما لم تطب، قاله ابن القاسم في الرد بالعيب- ولا فرق؛ والمنصوص منها في الأخذ بالشفعة قولان، أحدهما: أنه قول بعض المدنيين في المدونة وقول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت، وهذا يأتي على أن الأخذ بالشفعة محمل البيع، أو على أن الثمرة تصير غلة بالإبار، (والثاني) قوله في المدونة: إنه أحق بها ما لم تيبس، والثمرة ههنا يأخذها الشفيع

بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة، إذ لم تقع عليها حصة ميت الثمن، فيدخل فيها بالمعنى القولان الآخران كما دخلا في الاستحقاق، والمنصوص منها في التفليس قولان، (أحدهما) قوله في المدونة: إن البائع أحق بها من الغرماء ما لم تجد، (والثاني) قوله في سماع عيسى من كتاب المديان: إنه أحق بها ما لم تطب، والقولان الآخران يتخرجان بالمعنى والقياس، لأنه جعل أخذ البائع نخله بمنزلة الاستحقاق؛ إذ جعله أحق بالثمرة ما لم تجد أو ما لم تطب. فوجب أن يدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في الاستحقاق، ولو جعله بمنزلة البيع لوجب أن لا يكون أحق بالثمرة بعد الإبار قولا واحدا، فإذا أخذ والنخل بثمرته كان للمبتاع الرجوع عليهم بسقيه وعلاجه، على الاختلاف المتقدم؛ فإن جد الثمرة بعد الإبار قبل الطياب، فهي غلة لا يحاسب شيء منها، وقد قال أشهب قولا أنكره سحنون، أن الشفيع والمستحق إذا قدما قبل طيب الثمرة، كانت له بقيمتها على الرجاء والخوف، وقد تقدم ذلك بعلته، وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة فيطرأ عليه قبل طيب الثمرة، فإنهم يكونون أحق بها على حالها بعد أن يردوا السقي والعلاج، على الخلاف المتقدم؛ وأما إن لم يطرأ عليه إلا بعد طيب الثمرة ولم تيبس، أو بعد يبسها ولم تجد، أو بعد جدادها - وهي قائمة أو فائتة، ففي ذلك في الاستحقاق والشفعة ثلاثة أقوال، (أحدها) أن الشفيع والمستحق يأخذ الثمرة مع الأصل - وإن جدت، ويرجع بالسقي والعلاج، قاله ابن القاسم على قياس قوله في الرد بالعيب، وقاله أشهب ورواه عن مالك في الشفعة في كتاب ابن المواز، ووجهه أنه حمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، (والثاني) أنها تكون غلة للمبتاع وهو مذهب أشهب في كتاب العيوب، (والثالث) أنها تمضي بما ينوبها من الثمن - وهو قول ابن القاسم في كتاب الشفعة.

فصل

فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن؛ إذ إنها غلة للمبتاع، ففي ذلك ثلاثة أقوال، (أحدها) الطياب، وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، (والثاني) اليبس وهو قول ابن القاسم في المدونة، (والثالث) الجداد وهو قول أشهب في كتاب العيوب. فصل وأما التفليس، فالمنصوص لهم فيه قول واحد، أنه أحق بها ما لم تجد، فإن جد كان أحق بالأصول بما ينوبها من الثمن ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى. فصل وأما الوجه الثالث وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت وطابت، فإنه في الاستحقاق أحق بها وإن جدت، فإن كانت قائمة أخذها وإن أكلها غرم المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، وإن باعها وكانت قائمة بيد المبتاع كان له أن يأخذها أو يجيز البيع ويأخذ الثمن؛ فإن تلفت بيد المبتاع فليس له إلا الثمن، قاله في كتاب ابن المواز، وهذا على القول بأنها لا تصير غلة للمبتاع إلا باليبس أو الجداد؛ وأما على القول الذي يرى أنها تصير له غلة بالطياب، فلا حق له فيها إذا أزهت عند البائع، لأنها قد صارت له غلة بالطياب، ويأخذ المستحق النخل وحدها ويرجع المستحق منه على البائع بما ينوبها من الثمن ويسقط عنه ما ناب الثمرة لبقائها بيده، إلا أن يكون اشتراؤه إياها من غاصب أو مشتر اشتراها بعد الإبار، على مذهب ابن القاسم، وأما في الشفعة فإن الشفيع أحق بها ما لم تجد ويغرم السقي والعلاج، قاله ابن القاسم في المدونة؛ وله فيها إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب أو اشتراها دون الأصول بعد الطياب، أنه أحق بها بالشفعة ما لم تيبس، فقيل: إنه فرق بين المسألتين، والصواب أن ذلك اختلاف من القول؛ وأما في التفليس فالبائع أحق بالنخل والثمرة وإن جدت ما كانت قائمة كمشتري سلعتين يفلس.

فصل

فصل وأما صوف الغنم فإن تولد عند المشتري فجزه، فهو غلة له في الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع لها في التفليس، وأما بالبيع الفاسد، فإنه لا يتولد ويحمل إلا وقد فات رد الغنم، ووجب أن يصحح البيع بالقيمة ولم يجزه، فإنه تبع الغنم في جميع ذلك، ولا يرجع المبتاع بشيء من نفقته عليها، بخلاف النخل، والفرق بينهما أن للغنم غلة تبتغى منها سوى الصوف، ولو جزه المبتاع بعد أن اطلع على العيب، لكان جزه له رضا بالعيب، وكذلك لو اشتراها وعليها صوف قد كمل وتم، على مذهب أشهب - لأنه عنده تبع للغنم في دخوله في الصفقة دون اشتراط أصله، إذا اشترى النخل بثمرتها قبل الإبار، بخلاف ما إذا كانت الثمرة قد طابت؛ ولا يلزمه على هذا ألا تكون الثمرة غلة له إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب وقد أبرت، لأنها ما لم تطب فهي عنده تبع للأصول، إذ لا يجوز بيعها منفردة دونه إلا على الجد، خلاف ما إذا طابت؛ وأما ابن القاسم فذهب إلى أن الغنم إذا كان عليها يوم الشراء صوف قد تم وكمل، فليس بغلة له وإن جزه، ويرده في العيب إن كان قائما، أو مثله إن كان فائتا؛ وكذلك في الاستحقاق يأخذه المستحق إن كان قائما، أو مثله إن كان قد استهلكه المبتاع، أو الثمن إن كان باعه، وكذلك في التفليس يكون البائع أحق به وإن جزه المفلس ما كان قائما، فإن فات أخذ الغنم بما ينوبها من الثمن وحاص الغرماء بما ينوب الصوف، وإن شاء ترك الغنم وحاص الغرماء بجميع دينه، وقول ابن القاسم: إن الغنم إذا كان عليها صوف قد تم وكمل يوم الشراء، أنه ليس بتبع للغنم وقد وقع عليه قسطه من الثمن، وإن كان داخلا في الصفقة دون اشتراط، أظهر من قول أشهب، أصله إذا اشترى الأرض وفيها نخل أنها تدخل في الصفقة دون اشتراط، ولا يحكم لها بحكم البيع إن قطعها البائع أو ذهبت بجائحة في حكم الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع لها في التفليس، وبالله سبحانه التوفيق.

كتاب المرابحة

كتاب المرابحة فصل في تقسيم أجناس البيوع، البيوع تنقسم على أربعة أقسام: بيع مرابحة، وبيع مكايسة، وبيع مزايدة، وبيع استئمانة واسترسال؛ وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في الشراء دون البيع، وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق في ذلك بين البيع والشراء. فصل فأما بيع المرابحة، فإنه على وجهين، أحدهما أن يبايعه على ربح مسمى على جملة الثمن، (والثاني) أن يبايعه على أن يربحه بالدرهم درهما وللدرهم نصف درهم، وللعشرة أحد عشر أو أقل من ذلك أو أكثر مما يتفقان عليه من الأجزاء. فصل فأما إذا بايعه على أن يربحه للدرهم درهما أو للدرهم نصف درهم، أو

فصل

للعشرة أحد عشر، وما أشبه ذلك، فإن ما كان في السلعة المبيعة مما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل وما أشبه ذلك، فإنه بمنزلة الثمن يحسب ويحسب له الربح؛ وأما ما ليس له عين قائمة فإنه على وجهين، أحدهما ما يختص بالمبتاع، والثاني ما لا يختص به؛ فأما ما لا يختص بالمبتاع فإنه لا يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح؛ وذلك كنفقته وكراء ركوبه وكراء بيته إن خزن المتاع فيه، لأن العادة جارية أن يخزن الرجل متاعه في بيت سكناه، وأما ما يختص بالمتاع، فإنه ينقسم أيضا على وجهين، أحدهما ما يتولاه التاجر بنفسه ولا يستأجر عليه غالبا كشراء المتاع وشده وطيه وما أشبه ذلك. والثاني ما يستنيب عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه كحمل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فأما ما جرت العادة أن يتولاه التاجر بنفسه غالبا كطي المتاع وشرائه وشده فاستأجر عليه، فإنه لا يحسب في رأس المال، لأن المبتاع يقول له: لا يلزمني ذلك، لأنك إنما استأجرت من ينوب عنك فيما جرت العادة أن تتولاه بنفسك، فلا يجب علي في ذلك شيء؛ وأما ما يستأجر عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه، كحمل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له ربح، لأنه ليس له عين قائمة. فصل فيجب على هذا إذا اشترى من المبتاع ما يعلم أنه لا يشتريه إلا بواسطة وسمسار تجري العادة بذلك، أو اكترى منه مخزنا ليخزن فيه المتاع، ولولا ذلك لم يحتج إليه أن يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له الربح؛ وقد رأيت ذلك لبعض أهل العلم. فصل وهذا إذا بين هذه الأشياء كلها فقال: اشتريت هذه السلعة بكذا وصبغتها بكذا واكتريت عليها بكذا، وأعطيت عليها السمسار كذا، فأبيعها بربح

فصل

للعشرة أحد عشر، فحينئذ يكون العمل على هذا، وينظر إلى ما سم مما له عين قائمة، فيحسب ويحسب له الربح، وما لم تكن له عين قائمة إلا أنه يختص بالمتاع ولا يتولاه التاجر بنفسه، فإنه يحسب ولا يحسب له ربح؛ وإن كان يتولاه التاجر بنفسه أو لا يختص بالمتاع، فإنه لا يحسب رأسا ولا يحسب له ربح إلا أن يشترط البائع أن يربحه على ذلك كله بعد أن يسميه ويبينه، فيجوز ذلك. فصل وأما إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا وكذا وأبيعها بربح للعشرة أحد عشر، وما أشبه ذلك، ولم يبين هذه الأشياء، فالعقد على هذا فاسد، لأن المشتري لا يدري كم رأس المال الذي يجب له الربح؛ وكم أضيف إليه مما يحسب ولا يحسب له ربح ومما لا يحسب رأسا ولا يحسب له ربح، وهذا جهل بين في الثمن، وقد قال في كتاب ابن المواز: إنه يعمل في هذا على ما ذكرناه مما يحسب أو لا يحسب، وما يكون له ربح مما لا يكون له ربح، وهو ظاهر قول سحنون في نوازله منها وهو بعيد والصواب ما قدمناه. فصل وأما الوجه الثاني من وجوه المرابحة وهو أن يبيع ربح مسمى على جملة الثمن، فإن سمى أيضا ما اشتراها به وما أنفق عليها فيما له عين قائمة وفيما ليس له عين قائمة مما يحسب أو لا يحسب، جاز البيع وطرح عن المبتاع ما لا يحسب رأسا، كنفقته وكراء بيته، وما أشبه ذلك، إلا أن يشترطا أن يحسب ذلك فيجوز، وكذلك إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا، على قياس ما في كتاب محمد وظاهر قول سحنون في نوازله، والقياس أن العقد على هذا فاسد على ما بيناه. فصل ويلزمه أيضا فيما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل- أن يبين فيقول: اشتريت بكذا وكذا وصبغت بكذا وكذا، في الوجهين جميعا، باع بربح مسمى على

فصل

جملة الثمن أو للعشرة أحد عشرة، فإن لم يفعل وقال: شراء هذه السلعة بعشرة، وقد كان اشتراها بخمسة وصبغها بخمسة؛ فالمشتري بالخيار إن كانت السلعة قائمة بين أن يأخذها بالثمن أو يردها، وإن فاتت مضت بجميع الثمن ولم ترد إلى القيمة؛ هذا قول سحنون في العتبية، وقد كان القياس إذا خيره في القيام أن يرده في الفوات إلى القيمة، إن كانت أقل من الثمن - على مذهب ابن القاسم في مسائل الغش والخديعة، أو القيمة على مذهب سحنون يوم قبضها ما لم تكن أكثر من الثمن الذي اشتراها به، أو أقل من قيمتها يوم ابتاعها على أصل مذهبه في مسائل المرابحة؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه ليس عليه أن يبين ذلك، كسلعتين باعهما مرابحة صفقة واحدة وقد كان اشتراهما في صفقتين. فصل ولا يجوز في بيع المرابحة أن يكتم البائع من أمر سلعته ما إذا ذكره كان أوكس للثمن أو أكره للمبتاع، لأن ذلك من أكل المال بالباطل الذي نهى الله عنه وحرمه، ومن الغش والخديعة والخلابة المنهي عنه بالسنة. فصل فيلزم من باع مرابحة أن يبين ما عقد عليه وما نقد، وإن كان اشترى بنقد أو إلى أجل أو في أي زمن اشتراها؛ لأن التجار على الطرى أحرص، وهم فيه أرغب، وإن كان تجوز عنه في الثمن أو أخر به أو بشيء منه، وإن كان حدث بها عيب عنده أن يبين به، وأن عنده حدث، وما أشبه ذلك من الأشياء حتى يعلم المبتاع من أمر السلعة ما علم منها البائع؛ فإن لم يفعل وكتم شيئا من ذلك، فلا يخلو ما كتمه من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون ذلك من باب الكذب في الثمن

فصل

والزيادة فيه، (والثاني) أن يكون من باب الغش والخديعة، (والثالث) أن يكون من باب التدليس بالعيب ولكل وجه من هذه الوجوه حكم يختص به. فصل فأما من باع مرابحة وزاد في الثمن، فحكمه أن المبتاع في قيام السلعة مخير بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد إلا أن يشاء البائع أن يحط عنه الزيادة وما ينوبها من الربح، فيلزمه البيع؛ فإن فاتت وأبى البائع أن يحط عنه الزيادة ونوبها من الربح، كان للبائع القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي باع به، فلا يزاد عليه أو أقل من الثمن الصحيح وما ينوبه من الربح، فلا ينقص المبتاع منه شيئا. فصل وأما من باع مرابحة وخدع المبتاع وغشه، فإن كتمه من أمر سلعته ما يكرهه ولم يزد عليه في الثمن ولا دلس له بعيب، فحكمه أن يكون المبتاع في قيام السلعة بالخيار بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد، وليس للبائع أن يلزمه إياها وإن حط عنه بعض الثمن، وإن كانت فاتت، كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن. فصل وأما من دلس بعيب في بيع المرابحة، فحكمه حكم من باع غير مرابحة في قيام السلعة وفواتها - إن كانت قائمة، خير بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن، أو يمسك - ولا شيء له، وإن كانت قد فاتت بعيب مفسد، كان مخيرا بين أن يرد ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبها من الربح. فصل فعلى هذه الثلاثة الأوجه يجري حكم المرابحة كلها على مذهب ابن القاسم إلا في مسألتين شذتا عن هذا الأصل فلم يحكم فيهما بحكم الكذب في بيع

فصل

المرابحة، ولا بحكم الغش والخديعة، ولا بحكم العيب؛ (إحداهما) من باع مرابحة وحسب ما لا يحسب أو ربح ما يحسب ولا يحسب له ربح، (والثانية) من باع مرابحة على ما عقد عليه ولم يبين ما نقد؛ وأما سحنون فوافق ابن القاسم في الوجهين، وخالفه في الثالث؛ وافقه في حكم التدليس بالعيب وفي حكم الكذب، وخالفه في حكم الغش والخديعة؛ لأن الغش والخديعة عنده في المرابحة ينقسم على قسمين (أحدهما) أن لا يكون للغش والخديعة تأثير في زيادة الثمن، (والثاني) أن يكون له تأثير في زيادة الثمن، فأما ما لا تأثير له في زيادة الثمن فيوافق فيه ابن القاسم، وذلك مثل: أن يرث السلعة أو توهب له فيبيعها مرابحة، أو مثل: أن يشتري السلعة فتطول إقامتها عنده ولا تحول أسواقها وما أشبه ذلك. وأما ما له تأثير في زيادة الثمن فخالف فيه ابن القاسم ورده إلى حكم الكذب في القيام والفوات، وذلك مثل: أن يشتري السلعة بثمن إلى أجل فيبيعها مرابحة بذلك الثمن؛ لأن من المعلوم أن من اشترى إلى أجل يزيد في الثمن وأجل التأخير، مثل أن: يشتري الثوبين صفقة واحدة، فيبيع أحدهما مرابحة بما ينوبه من الثمن؛ لأن الجملة يزاد فيها على ما ذهب إليه ابن عبدوس - وإن لم يزد فيها فيتهم البائع في أنه قد وضع على أحد الثوبين من الثمن أكثر مما ينوبه. فصل فإن اجتمع على مذهبه الغشان جميعا؛ غش له تأثير في زيادة الثمن وغش لا تأثير له في زيادة الثمن - مثل أن: يشتري السلعة فتطول إقامتها عنده وتحول أسواقها بنقصان، فإنه يوافق ابن القاسم في قيام السلعة؛ لأن البائع إن أراد أن يلزم المبتاع السلعة بأن يحط عنه من ثمنها ما قابل الكذب ونوبه من الربح، احتج عليه بطول الإقامة، ويخالفه إذا فاتت السلعة فيحكم لها بحكم الكذب؛ ووجه العمل في ذلك أن تقوم السلعة يوم باعها مرابحة، فتكون تلك القيمة هو الثمن

فصل

الصحيح، ثم تقوم يوم قبضها إن تأخر قبضها فتكون له القيمة - ما لم تكن أكثر من الثمن الذي باع به، أو أقل من القيمة الأولى وما ينوبها من الربح؛ هذا نص قول سحنون، وهو كلام فيه اعتراض، والصحيح أن تقوم السلعة يوم ابتاعها، ثم تقوم يوم باعها مرابحة، فينظر ما بين القيمتين من أجل حوالة الأسواق ويحط ذلك الجزء من الثمن وربحه، فما بقي كان هو الثمن الصحيح الذي لا ينقص منه إن كانت القيمة أقل. فصل وقد يجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، والتدليس بالعيب والغش والخديعة والكذب، فينظر في ذلك كله على مذهب ابن القاسم، ويكون للمبتاع المطالبة بأي ذلك شاء مما هو أنفع له، وقد تجتمع أيضا الثلاثة الأشياء في مسألة واحدة: التدليس بالعيب، والكذب في الثمن، والغش والخديعة. فصل فأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، فإن ذلك لا يخلو من خمسة أحوال: (إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن تكون السلعة قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير، (والثالثة) أن تكون قد فاتت ببيع، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين من العتق والكتابة والتدبير والصدقة والهبة لغير الثواب، وما أشبه ذلك. مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة فيحدث بها عنده عيب، أو تكون جارية فيزوجها ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به ولا يبين العيب الذي حدث عنده، ولا أن لها زوجا إن كان زوجها؛ لأنه قد زاد في ثمنها ما نقص العيب من قيمتها، فإن كانت على الحال الأولى لم تفت بوجه من وجوه الفوت لم يكن للمشتري المطالبة إلا بحكم العيب، فكان مخيرا بين أن يمسك ولا شيء له أو يرد ولا شيء عليه، ولا يكون للبائع أن يلزمه إياها وإن حط عنه الكذب وهو قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ لأن

من حجته أن لا يرضى بالعيب؛ وأما إن كانت على الحال الثانية قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، فالمبتاع مخير بين أن يطالب بحكم العيب فيمسكها ولا شيء له، أو يردها ولا شيء عليه؛ إذ لا يفيت ردها بالعيب حوالة الأسواق ولا النقص اليسير، وليس للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب وهو قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ إذ ليس له أن يلزمه العيب شاء أو أبى، وبين أن يطالب بحكم الكذب ويرضى بالعيب؛ إذ قد فاتت في حكم الكذب؛ فإن اختار ذلك كان وجه العمل فيه أن يعرف ما نقص التزويج من الثمن الذي اشتراها به البائع يوم اشتراها. وذلك أن تقوم يومئذ معيبة وغير معيبة، فما كان بين القيمتين حط ذلك المقدار من الثمن، فما بقي منه كان ذلك هو الثمن الصحيح؛ ثم تقوم يوم ابتاعها أو يوم قبضها على الاختلاف في ذلك، فيكون على المبتاع تلك القيمة؛ إلا أن تكون أقل من الثمن الصحيح فلا ينقص البائع منه شيئا أو يكون أكثر من الثمن الذي اشتراها به، فلا يزاد البائع عليه شيئا، وأما إن كانت على الحال الثالثة من فواتها بالبيع فليس للمشتري المطالبة إلا بحكم الكذب، إذ لا رجوع للمشتري في العيب بشيء بعد البيع على مذهب ابن القاسم ويعمل في ذلك على ما بيناه من وجه العمل فيه. وأما إن كانت على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، فله المطالبة بأي الوجهين شاء ويكون مخيرا في ثلاثة أوجه: (أحدهما) أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، (والثاني) أن يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الكذب فتكون عليه القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي ابتاعها به فلا يكون عليه أكثر منه، لأنه هو يطلب الفضل قبل البائع أو تكون القيمة أقل من الثمن الذي اشتراها به البائع بعد طرح قيمة العيب من ذلك، وما ينوبه من الربح يوم ابتاعها البائع على ما تقدم من العمل والتفسير. وأما إن كانت على الحال الخامسة من ذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين، فله المطالبة بأي الوجهين شاء إما بالعيب فيرجع بقيمته وما ينوبه من الربح؛ وإما بالكذب فتكون عليه القيمة ما لم تكن أقل أو أكثر على ما فسرناه وقد وقع في

فصل

المدونة في هذا الوجه كلام طويل واختلاف في الرواية يرجع الكلام على الرواية الواحدة إذا حملته على ظاهره أن المبتاع يرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح على حكم التدليس بالعيب بانفراده؛ وعلى هذه الرواية اختصر المسألة ابن أبي زمنين وهي جل الروايات؛ وعلى الرواية الثانية جعل الحكم في المسألة حكم الكذب في الثمن بانفراده وهو الأظهر من مراد ابن القاسم - في الكتاب وقصده؛ لأنه لو قصد إلى حكم العيب بانفراده، لقال: يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، فاستُغنِي عن التطويل في ذكر القيمة واعتبارها بما إذا حصل لم يرجع إلى معنى فيه فائدة، وهذا كله فيه نظر؛ والصحيح ما نذكره بعد ونعتمد عليه من التأويل إن شاء الله تعالى؛ لأن الرجوع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أفضل للمشتري في هذه المسألة؛ فإذا كان ذلك أفضل له، فمن حقه أن يطالب به على مذهب ابن القاسم؛ لأن العتق والتدبير والصدقة على مذهبه فوت يوجب للمبتاع الرجوع بقيمته. فهذه الرواية على هذا التأويل تضاهي رواية زياد عن مالك: أن من اشترى عبدا فوهبه أو تصدق به فهو فوت ولا رجوع له بقيمة العيب إلا أن يتأول أن المعنى فيها أنه رضي بالعيب، فطالب بحكم الكذب، وأما الرواية الأولى فتحمل على ما تأول ابن أبي زمنين أن تكون إنما أرجع المبتاع فيها بقيمة العيب وما ينوبه من الربح على حكم التدليس بالعيب؛ لأن ذلك هو أفضل للمشتري وهو بعيد في الظاهر. فصل ولو اشترى السلعة معيبة وهو عالم بعيبها، ثم باعها مرابحة بأكثر مما اشتراها به وكتم العيب، لكان أبين في اجتماع الكذب والتدليس بالعيب، ولوجب إذا فاتت السلعة بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين، أن يكون للمشتري المطالبة بالوجهين جميعا، فيرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، ثم يقال للبائع: حط عنه الكذب أيضا وما ينوبه من الربح؛ فإن أبى من ذلك، كانت على المبتاع القيمة، إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي باع به بعد إلغاء قيمة العيوب وما ينوبه من الربح؛ فلا يزاد البائع على ذلك، أو تكون القيمة أقل من الثمن الصحيح بعد إلغاء قيمة العيب. وما ينوبه من الربح فلا ينقص المبتاع من ذلك؛ وعلى هذا

فصل

الوجه ينبغي - عندي - أن يحمل كلام ابن القاسم في المدونة الثابت في جل الروايات فيصح معناه، فالأولى أن يتأول على ابن القاسم في الكتاب أنه رجع في آخر المسألة إلى التكلم على هذا الوجه - وإن كان لم يُبتدَأ الكلام عليه، من أن يجعل - كلامه عليه لغوا وتكريرا لغير فائدة كما فعل ابن أبي زمنين والله أعلم. فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو من خمسة أحوال: (إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن تكون قد فاتت ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بعيوب مفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات العين أو ما يقوم مقام فوات العين، مثال ذلك: أن يشتري السلعة المعيبة وهو عالم بعيبها فتطول إقامتها عنده ثم يبيعها مرابحة ولا يبين بالعيب ولا بطول الإقامة، فإن كانت السلعة على الحالة الأولى، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب والغش والخديعة، أو يمسك بجميع الثمن ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه بعض الثمن؛ وإن كانت على الحال الثانية من فواتها بالبيع، فليس له المطالبة إلا بحكم الغش والخديعة، فيكون عليه القيمة إن كانت أقل من الثمن، وإن كانت على الحال الثالثة، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي ابتاعها به، وإن كانت على الحال الرابعة، كان مخيرا في ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يردها وما نقصها؛ (والثاني) أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد عليه السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي باعها بها، وإن كانت

فصل

على الحالة الخامسة، كان مخيرا في وجهين، أحدهما: أن يطالب بحكم العيب، فيحط عنه من الثمن قيمته وما ينوبه من الربح، والثاني: أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى قيمتها - إن كانت قيمتها أقل من الثمن. فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة الكذب في الثمن والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو من حالين، (أحدهما) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثاني) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نماء أو نقصان، فما زاد على الاختلاف في ذلك؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة بعشرة دنانير فتطول إقامتها عنده فيبيعها باثني عشر دينارا ولا يبين بطول إقامتها عنده، فإن كانت السلعة على الحال الأولى كان مخيرا بين أن يمسك أو يرد، ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب ونوبه من الربح؛ لأنه يحتج عليه بطول الإقامة وهو غش وخديعة، وإن كانت على الحال الثانية، فالمطالبة بحكم الغش والخديعة أفضل له فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن. فصل وأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والكذب في الثمن والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو أيضا من خمسة أحوال: (إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت، (والثانية) أن تكون السلعة قد فاتت ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات العين أو ما يقوم مقام فواته؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل الجارية ولا ولد لها فيزوجها وتلد عنده أولادا، ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به دون أولادها ولا يبين أن لها ولدا؛ لأن أولادها عيب، وطول إقامتها عنده إلى أن ولدت الأولاد غش وخديعة، وما نقص التزويج والأولاد من قيمتها كذب في الثمن، فإن كانت الجارية على الحال الأول

فصل

من القيام دون فوات، لم يكن للمشتري إلا أن يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له، ولا يكون للبائع عليه أن يلزمه إياها بحطيطة شيء من الثمن، لأنه يحتج عليه بالعيب والغش والخديعة؛ وإن كانت على الحال الثانية من فواتها بالبيع فلا شيء للمشتري في العيب والمطالبة بحكم الغش والخديعة أنفع له من المطالب بحكم الكذب، فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن. وإن كانت على الحال الثالثة من فواتها بحوالة الأسواق والنقص اليسير؛ فيكون المشتري مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى به، فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك أفضل له من المطالبة بالكذب. وإن كان على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، كان مخيرا في ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يردها ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، أو يرضى بالعيب فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن على كلمة الغش والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك أنفع من المطالبة بحكم الكذب وإن لم يرد وكان الولد صغارا لم يبلغوا حد التفرقة، جبر على أن يجمع بينهما في ملك واحد أو يرد البيع. وإن كانت على الحال الخامسة بفواتها بفوات عينها أو ما يقوم مقام ذلك كان مخيرا بين أن يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أو يرضى بالعيب فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن؛ لأن المطالبة بالغش والخديعة أفضل له من المطالبة بحكم الكذب. فصل فحكم اجتماع التدليس بالعيب والكذب في الثمن والغش والخديعة في مسألة واحدة حكم اجتماع التدليس بالعيب والغش والخديعة لا غير من أجل ما بيناه من أن المطالبة للمشتري بحكم الغش والخديعة أنفع له من المطالبة بحكم الكذب؛ وكذلك حكم اجتماع الكذب والغش والخديعة في مسألة واحدة، كحكم انفراد الغش والخديعة دون الكذب في القيام والفوات من أجل أن المطالبة بحكم الغش والخديعة أنفع للمشتري.

فصل

فصل فأحكام المرابحة جارية على هذه الوجوه وهي سبعة، (أحدها) الكذب في الثمن بانفراده، (والثاني) التدليس بالعيب بانفراده، (والثالث) الغش والخديعة بانفراده، (والرابع) اجتماع الكذب والتدليس بالعيب، (والخامس) اجتماع الكذب والغش والخديعة، (والسادس) اجتماع الغش والخديعة والتدليس بالعيب، (والسابع) اجتماع الثلاثة الأشياء: الكذب في الثمن، والغش والخديعة، والتدليس بالعيب، فقف عليها واعرف افتراق أحكامها على ما بيناه وقسمناه، فإنها مستقصاة صحيحة على أصل ابن القاسم ومذهبه، ولم أرها ملخصة لأحد ممن تقدم كهذا التلخيص. فصل وسحنون يرد بعض مسائل الغش والخديعة إلى حكم الكذب ويجعل القيمة فيها كالثمن الصحيح، يريد يوم باعها، في مثل الذي اشترى السلعة فحالت سوقها بنقصان، ثم باعها مرابحة ولم يبين - ويريد - والله أعلم - يوم ابتاعها - في مثل الذي اشترى السلعة فطالت إقامتها عنده وحالت أسواقها بزيادة، ثم باع ولم يبين؛ ويأتي على مذهبه في الذي ابتاع السلعة بثمن إلى أجل، ثم باعها مرابحة ولم يبين أن تكون القيمة الصحيحة يوم باعها بأن كانت أسواقها قد حالت بنقصان من يوم ابتاعها إلى يوم باعها، وأن تكون القيمة الصحيحة منها يوم ابتاعها إن كانت حالت أسواقها بزيادة من يوم ابتاعها إلى يوم باعها. فصل وإن ادعى البائع الغلط في بيع المرابحة وأتى في ذلك بما يشبه من رقم أكثر مما باع به أو إشهاده قوما قاسموه، أو ما أشبه ذلك؛ صدق وكان له الرجوع؛ فهذا حكم بيع المرابحة ملخصا، وسيأتي مفصلا مفسرا في مواضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل وأما بيع المكايسة فهو أن يساوم الرجل الرجل في سلعته، فيبتاعها منه بما يتفقان عليه من الثمن، ثم لا قيام للمبتاع فيها بغبن ولا بغلط على المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنه يرجع بالغلط، وهو ظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة وما في سماع ابن القاسم من جامع البيوع، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي يشتري ياقوتة وهو لا يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري أن البيع يرد خلاف ما في سماع أشهب؛ وأما بالغبن - وهو الجهل بقيمة المبيع - فلا رجوع له في بيع المساومة، وهذا ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع أشهب من الكتاب المذكور على الخلاف في ذلك وليس بصحيح؛ لأنها مسألة لها معنى من أجله أوجب الرد بالغبن، فليست بخلاف المشهور في المذهب ولظاهر رواية ابن القاسم عن مالك المذكور، وقد حكى بعض البغداديين على المذهب ورواه ابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث .. فتأمله وقف عليه إن شاء الله. وأما بيع المزايدة فهو أن يطلق الرجل سلعة في النداء ويطلب الزيادة فيها، فمن أعطى فيها شيئا لزمه إلا أن يزاد عليه فيبيع البائع من الذي زاد عليه أولا يمضيها له حتى يطول الأمد وتمضي أيام الصياح، فإن أعطى رجلان فيها ثمنا واحدا تشاركا فيها على مذهب ابن القاسم، وقيل: إنها للأول ولا يأخذها غيره إلا بالزيادة وهو قول عيسى بن دينار في سماعه من كتاب الجعل والإجارة، قال: وإنما يشتركان فيها إذا أعطيا الثمن معا في حال واحدة.

فصل

فصل وأما بيع الاستئمانة والاسترسال، فهو أن يقول الرجل: اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس، فإني لا أعلم القيمة، فيشتري منه بما يعطيه من الثمن، وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في البيع أن يقول الرجل للرجل: بع مني كما تبيع من الناس وأما في الشراء فلا، ولا فرق بين الشراء والبيع في هذا، والله أعلم. فصل فالبيع والشراء على هذا الوجه جائز، إلا أن البيع على المكايسة أحب إلى أهل العلم وأحسن عندهم والقيام بالغبن في البيع والشراء إذا كان على الاسترسال والاستئمانة واجب بإجماع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غبن المسترسل ظلم» وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الاستبراء

كتاب الاستبراء القول في حقيقة لفظ الاستبراء. الاستبراء هو: البحث عن الأمر والكشف عنه والوقوف على حقيقته؛ هذا موضوع هذه اللفظة في اللغة. إلا أنها قد تصرفت عند الفقهاء بالكشف عن حال الأرحام ليعلم أَن كانت بريئة من الحمل أو مشغولة به؛ وذلك يكون بالحيض الذي كتبه الله على بنات آدم، وجعله حفظا للأنساب، وعلما لبراءة الأرحام، أو ما يقوم مقام الحيض عند عدمه من الشهور والأيام. فصل واستبراء الإماء في البيع واجب لحفظ النسب كوجوب العدة التي فرضها الله في كتابه وجعلها حدا من حدود عباده، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم سبى أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض»، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغشى رجلان امرأة في طهر واحد». فوجب على كل من

فصل

انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو ميراث أو وصية أو بأي وجه كان من وجوه الملك - ولم يعلم براءة رحمها - أن لا يطأها حتى يستبرئها، وسواء كانت الأمة رفيعة أو وضيعة كبيرة أو صغيرة إذا كانت ممن يوطأ مثلها، ولا يؤمن الحمل عليها، فإن أمن الحمل عليها لصغرها أو كبرها، وكانت الصغيرة ممن يوطأ مثلها، فمذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأكثر أصحابه إيجاب الاستبراء فيها، وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنه لا يجب الاستبراء فيها، وجاء ذلك عن جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة، وابن هرمز وغيرهم. فصل والاستبراء يجب بأربعة أوصاف وهي الملك، وأن لا يعلم براءة الرحم وأن يكون الفرج حلاله وأن لا يكون حلاله قبل ذلك فمتى انخرم وصف من هذه الأوصاف لم يجب الاستبراء. فصل فإذا قلنا هذا فإن الاستبراء يحصل بما يغلب على الظن ببراءة الرحم به من الحمل، وذلك حيضة واحدة في ذوات الحيض، إذ لا يتعلق بها معنى من العبادة ولا حرمة الحرية، فيشترط فيه تكرير الحيض كالعدة. فصل فأما من لا تحيض من صغر أو كبر، فاستبراؤها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأصحابه ثلاثة أشهر، وقيل: شهران، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهر واحد، وحجة من قال: شهر - أن الله جعل العدة في الطلاق ثلاثة قروء في ذوات الحيض، وفي اليائسة من المحيض، والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فكان بإزاء كل قرء

فصل

شهر، فكما وجب على الأمة في الاستبراء حيضة واحدة إذا كانت ممن تحيض وجب عليها - إذا كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر شهر واحد، وهذه حجة من قال استبراؤها شهران في الشهر الواحد. وقال في الثاني: إنه زيد عليها استقصاء للريب؛ وحجة من قال: شهر ونصف، أن عدة الحرة اليائسة من المحيض أو التي لم تحض ثلاثة أشهر، والأمة على النصف من الحرة في عدة الطلاق؛ فشددوا عليها في البيع فبلغوها في الاستبراء فيه مبلغ الاستبراء في الطلاق، وهذا كله لا حجة فيه؛ والقول ما قال مالك وأصحابه؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، والاستبراء إنما هو ليعلم براءة الرحم من الحمل، فإذا لم يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر، وجب أن لا يحصل الاستبراء بدونها، وهذا بين لمن تأمله. فصل فإن كانت الأمة ممن تحيض فاستحيضت أو ارتفعت حيضتها، فقيل: تستبرئ تسعة أشهر رواه ابن وهب وأشهب عن مالك، وروى ابن غانم وابن القاسم عنه أن ثلاثة أشهر تجزئ في استبرائها إذا نظر إليها النساء فلم يجدن بها حملا. فصل وأما إن كانت لا تحيض من مرض أو رضاع، أو لا تأتيها حيضتها إلا من فوق التسعة الأشهر إلى مثل ذلك، فثلاثة أشهر تبرئها من الاستبراء، ولا أعلم في هذا نص خلاف وقد يدخل الخلاف في بعض هذه الوجوه بالمعنى، واختلف قول ابن القاسم إذا كانت تحيض من فوق الثلاثة الأشهر إلى فوق الثلاثة فيما دون التسعة الأشهر، هل تنتظر الحيض أو تبرأ بالثلاثة الأشهر. فصل فإن اشترى الرجل أمة فوطئها قبل أن يستبرئها فعليه العقوبة الموجعة مع

فصل

طرح الشهادة، فإن حملت فماتت قبل أن تضع وقد كان البائع وطئها في ذلك الطهر، فمصيبتها منه كان موتها بأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري، أو لأكثر منها ما بينها وبين ما تلحق به الأنساب من الأول، وإن لم يكن البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها من المبتاع. فصل فإن لم تمت ووضعت فلا يخلو وضعها من أن يكون لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، فإن كان لأقل من ستة أشهر والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر، فالولد ولده والأمة أم ولد له سقطا كان الولد أو تماما، حيا كان أو ميتا، وأما إن كان البائع منكرا للوطء في ذلك الطهر، فالولد ولد الأمة لا والد له والمشتري بالخيار إن شاء أن يأخذها وإن شاء أن يتركها؛ لأن ذلك عيب فيها؛ وهذا إذا ولدته حيا أو ميتا تام الخلقة، لا يشبه أن يكون من المشتري، وأما إن وضعته سقطا يشبه أن يكون من المشتري فهو منه وهي أم ولد له، وأما إن أتت به لستة أشهر فصاعدا، قال في رواية أصبغ عن ابن القاسم أو مقدار نقصانها بالأهلة والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تكون وضعته حيا، والثاني: أن تكون وضعته ميتا أو سقطا، فأما إن كان حيا فإنه تدعى له القافة، فمن ألحقوه به منهما لحق به، وكانت الأمة أم ولد له، وهذا إذا لم يدعيا الولد؛ فأما إن ادعياه جميعا فإن الأمة تكون معتقة منهما جميعا ويرجع المشتري بنصف الثمن على البائع؛ وأما إن كان ميتا أو سقطا ففي ذلك اختلاف، روى أصبغ عن ابن القاسم أنه من المبتاع وأن الأمة أم ولد له، وقال يحيى بن سعيد في المدونة: تعتق عليهما جميعا، والأظهر أن يلحق بالبائع وتكون الأمة أم ولد له؛ وأما إن كان البائع منكرا للوطء فالأمة أم ولد للمبتاع وولدها لاحق به، وقد قيل: إن الولد للأول والأمة أم ولد منه، فإن ولدته حيا لأكثر من ستة أشهر فلا تدعى له القافة؛ لأن فراش الأول صحيح وفراش الثاني فاسد، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

فصل

وأجمعوا - لهذا الحديث - أن الزوجين إذا وطئا المرأة في طهر واحد أن الولد للأول وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر لصحة فراشه، ولا فرق بين الموضعين. فصل وإن بقيت الأمة المبيعة بيد البائع فوطئها بعد البيع قبل الاستبراء، وقد كان المبتاع ائتمنه على استبرائها وهي ممن تجب مواضعتها لرفعتها، أو لأن البائع كان يطؤها فإنها تكون أم ولد له ويبطل البيع، وإن كان وطؤه إياها بعد استبرائها بائتمان المبتاع له على استبرائها وكانت من وخش الرقيق التي لا مواضعة فيها، وقد انتقد فإنه يحد ولا يلحق به الولد وتكون الأمة وولدها للمبتاع، واختلف إن كان لم ينقد ووطئها وهي عنده محبوسة بالثمن؛ فقال ابن القاسم: يدرأ عنه الحد بالشبهة ويأخذ المشتري جاريته وتكون على البائع قيمة الولد، وقال سحنون: تكون له أم ولد ويبطل البيع، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل في معنى المواضعة ووجوبها قد مضى الكلام في الاستبراء، وأنه واجب عند الجميع لحفظ النسب كوجوب العدة التي أوجبها الله في كتابه وجعلها حدا من حدود عباده. وأما المواضعة، وهي: أن توضع الأمة المستبرأة على يدي امرأة عدلة حتى تحيض، فإن حاضت تم البيع فيها للمشتري، وإن لم تحض وألفيت حاملا ردت إلى البائع، إلا أن يشاء المشتري إذ يقبلها إن لم يكن الحمل من البائع؛ فهي واجبة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وعامة أصحابه لرفع الغرر والخطر والسلف الذي يجر المنافع - إن نقد في الأمة الرفيعة التي تراد للوطء وليست بظاهرة الحمل ولا معرضة لحمل يتبعها في البيع، كذات الزوج والزانية وفي التي وطئها البائع وإن كانت وضيعة؛ وأخصر من هذه العبارة أن نقول: إن المواضعة تجب في الأمة التي

فصل

ينقص الحمل من ثمنها كثيرا وفي التي وطئها البائع فيصح ذلك؛ لأن الوخش وذات الزوج والزانية لا ينقص الحمل من قيمتها كثيرا، والصغيرة لا يخشى منها الحمل، إذا كان مثلها لا يوطأ. فصل واختلف في التي توطأ ولا يحمل مثلها لصغرها، فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها المواضعة، وقال مطرف وابن الماجشون: لا مواضعة فيها وهو مبني على استبراء من كانت في هذا الحد. وقد تقدم ذكر ذلك. فصل وإنما وجبت المواضعة فيمن كانت هذه صفتها من الإماء ولم يكن الحمل إن ظهر بها كسائر ما يظهر من العيوب بالمبيع فيكون المشتري مخيرا بين الرد والإمساك، أو كالجنون والجذام والبرص الذي إن ظهر بالعبد أو الأمة في السنة رد به وجاز البيع من غير مواضعة؛ لأن الجنون والجذام والبرص أمر نادر في توقيف العبد والأمة حولا كاملا لاستبراء الجنون، والجذام والبرص ضرر بين بالمتبايعين؛ وأما الحمل في الأمة فليس بنادر بل هو أمر عام، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: جل النساء على الحمل ومدة إيقافها للمواضعة يسيرة لا ضرر في ذلك على المتبايعين، وفيه رفع الغرر والخطر وغير ذلك مما لا يجوز من السلف الذي يجر نفعا إن نقد المشتري الثمن. فصل والحكم بالمواضعة واجب في كل بلد كانت جارية فيه أو لم تكن، لم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك كما اختلف في العهدة؛ وكذلك تجب أيضا عنده على كل أحد كان حاضرا أو مسافرا، وقد سئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ذلك في أهل منى وأهل مصر عند الخروج إلى الحج في الغرباء الذين يقدمون، فرأى أن يحملوا على ذلك على ما أحبوا أو كرهوا، وسواء باع الأمة ربها أو وكيل له، أو

فصل

باعها عليه السلطان في الدين - وإن كان بيعه بيع براءة، المواضعة في ذلك كله واجبة؛ لأن بيع البراءة لا يسقط المواضعة عند مالك، وسواء باع بنقد أو إلى أجل، كان ممن يطأ أو لا يطأ؛ إلا أنه إن باع بنقد لم يجز النقد في المواضعة بشرط - لما قدمناه من أنه يدخل ذلك البيع والسلف الذي يجر منفعة. فصل وقد اختلف في توقيف الثمن في أيام المواضعة؛ هل يحكم به أم لا؟ على قولين، وظاهر ما في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة أنه يوضع على يدي عدل، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الواضحة وكتاب ابن عبدوس وقول ابن المواز، وفي العتبية لمالك خلاف ذلك، أنه لا يحكم بوضعه على يدي عدل ولا يجب على المشتري إخراج الثمن حتى تجب له الأمة بخروجها من الاستبراء وهو ظاهر ما في كتاب الاستبراء من المدونة. فصل فإن وضع الثمن على يدي عدل فتلف قبل خروجها من الاستبراء كانت مصيبته ممن كان يصير إليه، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الاستبراء من المدونة، وقيل: إن الثمن من المبتاع، وروي ذلك عن مالك، وعلى قوله هذا: إن خرجت الجارية صحيحة من المواضعة لزمه ثمن آخر للبائع وتم البيع بينهما، وقيل: إنه يفسخ البيع؛ ومعناه - عندي - إن لم يرد أن يؤدي ثمنا آخر من عنده، واختلف أيضا: إن خرجت معيبة في المواضعة والثمن قد تلف، فقيل: إنه يأخذها بالثمن التالف، وقيل: ليس ذلك له إلا بثمن آخر، وفرق ابن الماجشون في ديوانه على ما فسر ابن عبدوس عنه بين أن يحدث العيب قبل تلف الثمن أو بعده، فقال: إن حدث العيب قبل تلف الثمن، كان له أن يأخذها معيبة بذلك الثمن التالف؛ لأن الخيار قد كان وجب له قبل تلف الثمن، فليس يسقط ذلك عند تلف الثمن، وإن تلف الثمن بعد حدوث العيب لم يكن له أن يأخذها بذلك الثمن التالف إلا بثمن يدفعه.

فصل

فصل وضمان الأمة في عهدة المواضعة ومن البائع والنفقة عليه فما لحقها من موت أو نقص جسم فهو من البائع، وللمبتاع في الموت إمساك جميع الثمن إن كان لم يخرجه، وارتجاعه إن كان أخرجه؛ وله فيما كان من نقص في جسدها خيار الرد بالعيب والإمساك، وأما ما كان في غير جسدها كالزنا والسرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فجمهور أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على أن له الرد بذلك، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أنه لا يردها به، وجه قول الجمهور: أن هذا عيب لو كان أقدم من أمد التبايع لردت به، فإذا حدث في مدة المواضعة كان له الرد به كنقص الجسم؛ ووجه قول أصبغ: أن مثل هذا يمنع البائع بيعها أبدا؛ لأنها متى أرادت البقاء عنده أحدثت مثل هذا في مدة المواضعة فترد عليه، وما كان بهذه الصفة وجب أن يمنع منه. فصل وما حدث لها من مال بهبة أو صدقة أو ما أشبه ذلك فهو للبائع، إلا أن يكون المشتري اشترط مالها في البيع، فيكون ما حدث لها من مال في المواضعة تبعا للمال. فصل وأما ما حدث لها من ولد، فقال ابن القاسم: هو للمبتاع؛ لأنه كعضو منها أصله نماء الجسم، وقال أشهب: هو للبائع، ووجه قوله: إنه نماء منفصل عنها في مدة المواضعة، أصله نماء المال. فصل فإن اشترط البراءة من الحمل في الرفيعة فالبيع فاسد والمصيبة فيها من المشتري إن تلفت بعد قبضه لها كحكم البيوع الفاسدة، وذلك بعد خروجها من

فصل

عهدة الثلاث - والله أعلم، هذا هو المشهور من قول مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقيل: الشرط باطل والبيع جائز، وقع هذا القول في كتاب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال ابن عبد الحكم: الشرط جائز والبيع جائز قياسا على ما رجع إليه مالك من إجازة البراءة من الجنون والجذام والبرص، بعد أن كان يقول: لا تجوز البراءة فيما يعظم من الأشياء. فصل وأما إن باعها بشرط ترك المواضعة، فالبيع جائز والشرط باطل، ويحكم بينهما بالمواضعة وتخرج من يد المشتري إلى المواضعة، فإن تلفت بيد المشتري قبل أن يعثر على ذلك فيما يكون فيه استبراء لها من المدة - وذلك شهر على ما قاله ابن المواز وابن حبيب، إن لم تكن أيام حيضتها معروفة؛ إذ الشهر أغلب أحوال النساء في الحيض، وإن كانت أيام حيضها معروفة، بقدرها، كانت مصيبتها من المشتري. وإن لم يمض لها من المدة ما تستبرَأ فيه فماتت، كان ضمانها من البائع، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة وفي المبسوط لإسماعيل القاضي عن مالك رحمهما الله: أن المصيبة من المشتري إن كان تلفها عنده بعد انقضاء عهدة الثلاث في البيع على هذا الوجه؛ وجه هذا القول أن هذا الشرط لا يفسد البيع فيعمل ما لم يحكم بنقضه؛ ووجه القول الأول أن الشرط فاسد يجب الحكم بفسخه فلا يجب إعماله قبل الفسخ؛ وقد قال أبو بكر الأبهري: إن البيع على شرط ترك المواضعة فاسد، ومثله في كتاب ابن المواز في قول، وهو على مذهب ابن عبد الحكم بيع جائز وشرط لازم، وأما إن دفعها إلى المشتري جهلا بصفة المواضعة ولم يشترط إسقاطها، فالبيع جائز باتفاق وتخرج إلى المواضعة، وأما إن باعها وتبرأ من حملها - وهو مقر بوطئها - فجعله في المدونة بيعا فاسدا، وذهب ابن حبيب إلى أنه ليس بفاسد وتخرج إلى المواضعة. فصل فإن أراد المبتاع بعد أن اشترى على المواضعة وصح عقد البيع أن يسقط المواضعة ويرضى بالأمة وإن كانت حاملا كان ذلك له عند ابن القاسم وإن كره

فصل

البائع، وقال سحنون: لا يجوز، ووجه قوله أنه أسقط الضمان عن البائع على أن يتعجل خدمة الجارية، ويدخله على مذهب سحنون سلف جر منفعة؛ لأنه عجل له النقد بما تعجل من منفعة الجارية. فصل والمواضعة تكون بما يحصل به الاستبراء، قد تقدم الكلام على ذلك، فإن اشتراها في أول دمها أجزأته تلك الحيضة في المواضعة، وإن كانت في آخر الحيض لم يجزه ذلك واستقبلت المواضعة في الحيضة الثانية؛ ووجه ذلك: أن الرحم في أول الحيض لا يقبل المني لما ترخيه من الدم، وفي آخره قد يقبله لقلة الدم؛ فافترق لذلك أول الحيض من آخره، وقد قيل: إنه لا بد من حيضة مستقلة كالمعتدة لا تعتد إلا بالطهر، حكى هذا القول ابن شعبان في الزاهي، واختاره وأخذ به وحكاه الفضل عن مالك من رواية أشهب عنه. فصل والمواضعة في الاستقالة واجبة إذا استقاله بعد أن خرجت من الحيضة؛ لأن الإقالة بيع حادث، واختلف في الرد بالعيب، هل تجب فيه المواضعة أم لا؟ على اختلافهم فيه: هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع. وانظر من تزوج امرأة بجارية رائعة، هل تجب فيها المواضعة أم لا؟ فإني لا أعرف في هذه المسألة لأصحابنا نصا وهي محتملة؛ لأن النكاح طريقه المكارمة ويجوز فيه من الغرر ما لا يجوز في البيوع، وإيجاب المواضعة فيها أظهر، والله أعلم وبه التوفيق.

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

كتاب التجارة إلى أرض الحرب ما جاء في التجارة إلى أرض الحرب، ووجه الكراهية في ذلك عند أهل العلم. كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخروج إلى بلاد الحرب للتجارة في البر والبحر كراهية شديدة، قال في سماع ابن القاسم وقد سئل عن ذلك، فقال: قد جعل الله لكل نف5554س أجلا تبلغه ورزقا ينفذه، وهو تجرَى عليه أحكامهم فلا أرى ذلك. وأصل الكراهية لذلك، أن الله تعالى أوجب الهجرة على من أسلم ببلاد الكفر، إلى بلاد المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، نزلت هذه الآية - فيما قال ابن عباس وغيره من أهل التأويل والتفسير - في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله ورسوله فتخلفوا عن الهجرة معه حين هاجر فعرضوا على الفتنة فافتتنوا وشهدوا مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول

فصل

معذرتهم التي اعتذروا بها؛ حيث يقول مخبرا عنهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، أي: فتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم، {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، ثم أنزل الله تعالى عذر أهل الصدق، فقال: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98]، أي: لا يهتدون سبيلا يتوجهون إليه لو خرجوا لهلكوا، {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]- يعني: في إقامتهم بين ظهراني المشركين. فصل فكانت الهجرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح مكة على من أسلم من أهلها واجبة مؤبدة، افترض الله عليهم فيها البقاء مع رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث استقر، والتحول معه حيث تحول، لنصرته ومؤازرته وصحبته، وليحفظوا عنه ما يشرعه لأمته، ويبلغوا ذلك عنه إليهم ولم يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه، وترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث». خص الله بهذا من آمن من أهل مكة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهاجر إليه؛ ليتم له بالهجرة إليه والمقام معه وترك العودة إلى الوطن - الغاية من الفضل الذي سبق لهم في سابق علمه، وهم الذين سماهم الله بالمهاجرين، ومدحهم بذلك فلا ينطلق هذا الاسم على أحد سواهم. فصل فلما فتح الله مكة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مضت الهجرة لأهلها»، أي فازوا بها وحصلوا عليها وانفردوا بفضلها دون من بعدهم، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا» أي: لا يبتدئ أحد من أهل مكة

فصل

ولا غيرهم هجرة بعد الفتح، فينال بذلك درجة من هاجر قبل الفتح، ويستحق أن يسمى باسمهم ويلحق بجملتهم؛ لأن فرض الهجرة منسقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر: أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين»، إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه، إن عاد دار إيمان وإسلام، كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجوع إلى مكة للذي ذخره الله لهم من الفضل في ذلك. فصل فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجرى عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم؛ حيث تجرى عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان. فصل ولا يجوز لأحد من المسلمين دخول أرض الشرك لتجارة ولا لغيرها إلا لمفاداة مسلم، فإن دخلها لغير ذلك طائعا غير مكره كان ذلك جرحة فيه تسقط إمامته

فصل

وشهادته؛ قال ذلك سحنون، وينبغي أن يحمل قوله على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة شهادتهم، لاحتمال أن يكونوا لم يدخلوا بلاد الشرك طائعين، وإنما ردتهم الريح إليها وهم يريدون غيرها، وإن كان تكلم على أنهم دخلوا طائعين، فلعله إنما أجاز شهادتهم بعد أن تابوا وظهر صلاحهم، وهذا محتمل يتناول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه يبعد أن تجاز شهادة من سافر إلى أرض الحرب للتجارة وطلب الدنيا - وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له، وأن أحكام الشرك تجري عليه، وبما هو أدنى من هذا يجرح الشاهد وتسقط شهادته. فصل فواجب على والي المسلمين أن يمنع من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة ويضع المراصد في الطرق والمسالح لذلك، حتى لا يجد أحد السبيل إلى ذلك، لا سيما إن خشي أن يحمل إليهم ما لا يحل بيعه منهم مما هو قوة على أهل الإسلام لاستعانتهم به في حروبهم. فصل وأما مبايعة أهل الحرب ومتاجرتهم إذا قدموا بأمان، فذلك جائز، روي «عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء رجل مشرك مشعار طويل بغنم يسوقها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبيعا أم عطية أم هبة؟ فقال: بل بيع، فاشترى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شاة» بوب البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الحديث: باب البيع والشراء مع المشركين وأهل الحرب. فصل إلا أنه لا يجوز أن يبايعوا شيئا مما يستعينون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد، ولا شيئا مما يرهبون به على المسلمين في قتالهم مثل الرايات وما يلبسون في حروبهم من الثياب فيباهون بها على المسلمين، وكذلك النحاس؛ لأنهم يعملون منه الطبول فيرهبون بها على المسلمين، ولا يجوز أن يباع منهم العبد النصراني؛ لأنه يكون دليلا على المسلمين وعورة عليهم.

فصل

فصل وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوى به في الحرب ولا يرهب به في القتال، ومن الكسوة ما يقي الحر والبرد لا أكثر، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك، وقد اختلف فيما يتزينون به في كنائسهم وأعيادهم مثل الثياب، هل يجوز أن يباع منهم ذلك أم لا؟ على قولين؛ ففي سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد تخفيف ذلك، وحكى ابن المزين عن أصبغ، أن ذلك لا يجوز؛ وجائز أن يعطوا ذلك في فداء المسلمين باتفاق. وكذلك الخيل والسلاح إذا لم يقبلوا في الفداء غير ذلك فلا بأس أن يفادى بها. قال ابن حبيب: مثل الرجل والرجلين والشيء بعد الشيء في الفرط، وأما الشيء الكثير الذي تكون فيه القوة الظاهرة في العدد الكثير فلا يجوز، وأجاز ذلك سحنون إذا لم يرج فداؤه بالمال وذلك ما كان الأسير في بلادهم؛ وأما إن قدموا به بأمان للفداء، فلا يفادى منهم بالسلاح، فإن أبوا إلا ذلك أخذ منهم بالقيمة صاغرا قمئا، ولم يترك والرجوع به إلى بلده، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وانظر هل يأتي هذا على مذهب ابن القاسم أم لا؟ فإن مذهبه أن من أسلم من عبيدهم لا يباعون عليهم ويتركون وللرجوع بهم إلى بلادهم، وقد اختلفت الروايات عن ابن القاسم في هذا في العتبية، وجائز أن يفادى منهم المسلمون بالعبد النصراني، وبأم ولد المسلم النصرانية؛ قال ابن أبي زيد: على أن لا يسترقوها؛ وبالذمي على شرط أيضا أن لا يسترق - قاله سحنون؛ فأما مفاداتهم بالخمر والخنازير، فقال أشهب في العتبية: لا يجوز؛ لأنه لا يحل الدخول في نافلة من الخير بمعصية، وأجاز ذلك سحنون قال: لأنها ضرورة، وقد روي عن ابن القاسم أن ذلك أخف من الخيل والسلاح يريد لما على المسلمين من الضرر في فادئهم بالخيل والسلاح.

فصل

فصل وجائز لنا أن نشتري منهم أولادهم وأمهات أولادهم إذا لم تكن بيننا وبينهم هدنة تمنعنا من ذلك؛ وأما ما قدموا به من أموال المسلمين التي حازوا في أوان حربهم، فقال في المدونة: لا أحب شراء ذلك منهم، وقال محمد بن المواز: لا بأس بشراء ذلك منهم، فإن جاء صاحبه كان له أخذه بالثمن، قال: واشتراء العبد المسلم منهم إذا باعوه أفضل من تركه، وكذلك الأمتعة عندي. فصل وكذلك معاملة أهل الذمة جائزة أيضا وإن كانوا يستبيحون بيع الخمر والخنازير ويعملون بالربا، كما قال الله تعالى عنهم: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]، لأن الله تبارك وتعالى قد أباح أخذ الجزية منهم وقد علم ما يفعلون وما يأتون وما يذرون، ولأنهم لو أسلموا لأحرزوا بإسلامهم ما بأيديهم من الربا، ومن الخمر والخنازير؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له»، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كره أن يباع منهم بالدنانير والدراهم المنقوشة، لما فيها من اسم الله تعالى، وكره أيضا أن يبيع الرجل من الذمي سلعة بدينار أو درهم يعلم أنه أخذه في خمر أو خنزير، ولم ير بأسا أن يأخذ ذلك منه في دين له عليه؛ وهذا على طريق التنزه والتورع؛ وأما في القياس وما يوجبه النظر، فهو جائز لأنه ماله وملكه لا

فصل

يصح لنا نزعه من يده، ولو أسلم عليه، لساغ له ملكه ولم يكن عليه أن يتنحى عن شيء منه، وذلك إذا باع بذلك الدينار الخمر من ذمي؛ وأما إن باعها به من مسلم، فهو أشد؛ لأن سحنون يرى أن يتصدق به على المساكين وإن قبضه، خلافا لابن القاسم، فعلى قول سحنون لا يجوز أن يبيعه بذلك الدينار شيئا إذا علم أنه ثمن الخمر التي باعها من المسلم، إلا على تأويل ضعيف؛ وهو أن الدينار لا يتعين للمساكين على مذهب من يرى أن العين لا تتعين. فصل وقد اختلف أصحابنا إذا لم يقبض ثمن الخمر والخنازير، وكان قد باع ذلك من نصراني حتى أسلم، هل يصح له قبضه بعد إسلامه أم لا على قولين، (أحدهما) أنه لا يصح له قبضه قياسا على ما كان له من الربا لم يقبضه، وهو قول ابن دينار وابن أبي حازم، (والثاني) أنه يجوز له قبضه بعد إسلامه وهو قول أشهب والمغيرة والمخزومي، وهو مذهب أكثر أصحابنا. فصل وفي هذا خمس مسائل: (إحداها) أن يسلم إليه دينارا في دينارين، (والثانية) أن يسلم إليه دينارا في دراهم أو دراهم في دينار، (والثالثة) أن يبيع منه خمرا بدنانير أو دراهم، (والرابعة) أن يسلم إليه دنانير في خمر أو خنزير، (والخامسة) أن يقرضه خمرا أو خنازير فيسلمان جميعا أو أحدهما؛ فأما المسألة الأولى وهي أن يسلم إليه دينارا في دينارين، فإن أسلما جميعا أو أسلم الذي أسلم الدينار، فليس للمسلم إلا ديناره الذي دفع؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، وأما إن أسلم المسلم إليه فقال مالك في المدونة: لا أدري أخاف إن قضيت عليه برد الدينار أن أظلم الذمي، وله في كتاب ابن المواز

أنه يغرم الدينارين إلى النصراني، ومثله لابن القاسم في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، خلاف قوله في المدونة: إنه يقضى عليه برد الدينار - كما لو أسلما جميعا، وأما الثانية وهي أن يسلم إليه دينارا في دراهم أو دراهم في دينار، فإن أسلما جميعا رد المسلم إليه ديناره الذي قبض منه أو دراهمه، وكذلك إن أسلم أحدهما على مذهب ابن القاسم في المدونة؛ وأما على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فإن أسلم المسلم فتؤخذ الدراهم من النصراني المسلم إليه فيبتاع فيها للمسلم دينارا، فإن فضل فضل رد على النصراني، وإن لم يكن فيها دينار يبتاع له بها منه ما بلغ ولم يكن على النصراني أكثر من ذلك، وأما إن أسلم المسلم إليه فيؤدي الدراهم التي عليه للنصراني - على رواية عيسى عن ابن القاسم، وما في كتاب ابن المواز؛ لأنها نظير المسألة التي توقف فيها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وأما الثالثة وهي أن يسلم إليه دينارا في خمر أو خنازير، فإن أسلما جميعا أو أسلم المسلم إليه فإنه يرد إليه ديناره، وكذلك إن أسلم المسلم على مذهب ابن القاسم في المدونة، وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتوقف فيها، وقال: لا أدري أخاف أن أظلم الذمي إن قضيت عليه برد الدينار وعليه خمر أو خنازير، وله في كتاب ابن المواز أن الخمر تؤخذ من النصراني فتهراق على المسلم، ومثله في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب. وأما الرابعة وهي أن يبيع منه خمرا - بدنانير أو دراهم، فالثمن ثابت على المبتاع في كل حال أسلما جميعا أو أحدهما في قول أشهب والمخزومي، وعلى ذلك يأتي قول غير ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة، وقيل: إنه يبطل الثمن عنه إذا أسلما جميعا، أو أسلم البائع، وهو قول ابن أبي حازم وابن دينار؛ وعليه يأتي قول ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة. وأما إن أسلم المبتاع، فعليه أن يؤدي الثمن إلى النصراني ولا أعلم في هذا الوجه نص خلاف؛ إلا أنه يتخرج فيه على المذهب قولان سوى هذا القول، (أحدهما) أن الثمن يبطل عنه، (والثاني) أن عليه قيمة الخمر يوم قبضها وانتفع بها. وأما الخامسة وهي أن يقرض النصراني النصراني الخمر أو الخنازير؛ فإن أسلما جميعا سقط القرض،

فصل

وإن أسلم المقترض، فقيل: إن القرض يسقط عنه وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الواضحة، وقيل: إن القيمة تلزمه للمقرض وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما إن أسلم المقرض، فقال ابن القاسم في سماع عيسى: أحب إلي أن تؤخذ الخمر من النصراني فتهراق، والخنازير فتطرح. فصل فمعاملة الذمي على كل حال أخف من معاملة المربي؛ لأن المربي، إذا تاب لم يحل له ما أربى فيه ووجب عليه رده إلى صاحبه إن عرفه، والصدقة به عنه إن لم يعرفه، وقد قال أصبغ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مال المربي وعاصر الخمر والغاصب والظالم وتارك الزكاة: إنه فاسد كله لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء ولا يشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، فلا يجوز أن يباع ولا يشترى. فلا يبايع به ولا يعامل، وإن عامله فيه أحد رأيت أن يخرجه كله ويتصدق به، وقد قيل: إن مبايعة من استغرق الحرام ماله جائزة إذا بايعه بالقيمة ولم يحابه، وأما هبته وصدقته ومعروفه فلا يجوز؛ لأنه كمن استغرق الدين ماله فلا يجوز له فيه معروف إلا بإذن أهل الدين، وأما الميراث فلا يطيب المال الحرام للوارث، هذا هو الصحيح الذي يوجبه النظر، وقد روي عن بعض من تقدم أن الميراث يطيبه للوارث وليس ذلك بصحيح. فصل ولا يجوز بين المسلم والذمي في التعامل إلا ما يجوز بين المسلمين، فإن تعاملا بما لا يجوز بين المسلمين لم يخل ذلك من ثلاثة أوجه: (أحدها) أن يبيع منه ما لا يجوز بيعه ويجوز ملكه كتراب الصواغين، والعبد الآبق والحمل الشارد، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يبيع منه ما يجوز ملكه وبيعه بيعا فاسدا، (والثالث) أن يبيع منه ما لا يجوز ملكه كالخمر والخنزير والحر والدم والميتة، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول والثاني فالحكم فيهما إذا وقعا كالحكم فيما بين

المسلمين؛ وأما الوجه الثالث فالحكم فيه إذا وقع بين المسلم والذمي بخلاف الحكم فيه إذا وقع بين المسلمين في بعض المواضع، وبيان ذلك أن المسلم إذا باع الخمر من المسلم أو النصراني فعثر على ذلك والخمر بيد البائع قد أبرزها ولم يدفعها إلى المشتري بعد - كسرت عليه وانتقض البيع وسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه رد إليه في قول وتصدق به على المساكين أدبا له في قول؛ وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع أيضا وينتقض البيع ويكون الحكم في الثمن على ما تقدم من الاختلاف؛ وقيل: إنها تكسر على المبتاع ويمضي البيع أو يتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، إذ لا يحل للبائع ولا يصح تركه للمشتري، وأما إن لم يعثر على ذلك حتى استهلك المبتاع الخمر، فههنا يفترق الحكم بين أن يكون المبتاع مسلما أو نصرانيا، فإن كان مسلما تصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض قولا واحدا؛ إذ لا سبيل إلى نقض البيع بإغرام المسلم ثمن الخمر التي استهلكها وكسرها على البائع. وإن كان نصرانيا، فقيل: إنه يغرم مثل الخمر وتكسر على البائع فينتقض البيع ويسقط الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه رد إليه أو تصدق به على المساكين أدبا له على الاختلاف المذكور، وقيل: إنه يمضي البيع ويتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، وأما إذا باع النصراني خمرا من مسلم فعثر على ذلك والخمر قائمة بيد البائع النصراني قد أبرزها للمسلم، فإنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع المسلم إن كان لم يدفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه إليه، فقيل: إنه يرد إلى المبتاع وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: إنه لا يرد إليه ويتصدق به عليه أدبا له، وهذا يأتي على ما في المدونة، وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع ويرد الثمن إلى المبتاع. إن كان قد دفعه ويسقط عنه إن كان لم يدفعه، روي ذلك عن مالك بن أبي أويس وغيره، وقيل: إنها تكسر على

المبتاع ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع أدبا له وإن قبضه ترك له عند ابن القاسم، وعند سحنون يتصدق به قبضه البائع أو لم يقبضه أدبا له، وقيل: إنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم ينقده، فإن كان نقده كسرت على المبتاع ومضى الثمن للبائع ولم يؤخذ منه، وهذا قول ابن أبي حبيب في الواضحة؛ وإن لم يعثر على ذلك حتى قبض المسلم الخمر وفاتت في يده أخذ منه الثمن وتصدق به على المساكين إن كان لم يدفعه إلى النصراني أدبا له، وإن كان قد دفعه إليه ترك له ولم يؤخذ منه عند ابن القاسم وابن حبيب، وعند سحنون يتصدق به على كل حال أدبا له .. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الجعل والإجارة

كتاب الجعل والإجارة فصل في حقيقة لفظ الإجارة، لفظ الإجارة مأخوذ من الأجر وهو الثواب، فمعنى استأجر الرجل الرجل، أي: استعمله عملا بأجرة، أي: بثواب يثيبه على عمله، من قولهم: أجرك الله يأجرك، أي: أثابك يثيبك؛ قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود: 51]، أي: لا أسألكم عليه ثوابا إن أرجو الثواب في ذلك إلا من الله الذي فطرني. وقال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57]، وقال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [النساء: 96]، وهذا في القرآن كثير. فصل في أصل جواز الإجارة من الكتاب، وأصل جواز الإجارة قول الله عز وجل:

فصل

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، يقول تبارك وتعالى: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، ويعود هذا على هذا بما في يديه من فضل الله رحمة منه لعباده ونعمة عددها عليهم بأن جعل افتقار بعضهم إلى بعض سببا لمعاشهم في الدنيا وحياتهم فيها، حكمة منه لا إله إلا هو. فصل والاستئجار الذي أذن الله فيه لعباده وجعله قواما لأحوالهم وسببا لمعاشهم وحياتهم ليس على الإطلاق، بل هو مقيد على ما أحكمته السنة والشريعة، فمنه الجائز ومنه المحظور، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من «عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد». فصل فالجائز منه يكون على وجهين، (أحدهما) بعوض، (والثاني) بغير عوض؛ فأما ما كان منه على غير عوض، فهو هبة من الهبات لا يحل إلا عن طيب نفس من واهبه، وأما ما كان على عوض، فإنه ينقسم على وجوه شتى، منها الجعل والإجارة وهما قائمان من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله تبارك وتعالى في الإجارة: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]، وقال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]، أي: ثوابا تأكله. وقال تبارك وتعالى حاكيا عن إحدى ابنتي شعيب في قصة موسى وشعيب - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]

وقوته: أنه استوهب الرعاء دلوا فوهبوه إياه فنزعه وحده وكان لا ينزعه إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا فدعا فيه بالبركة فكفى ماشيتهما، فذلك قَوْله تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وقيل: إنه رفع عن فم البئر صخرة كانت عليه وحده وكان لا يرفعها إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا. وأمانته التي وصفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها هي أنه لما مشت أمامه خشي أن تكشف الريح عنها ثوبها فيرى بعض عورتها وكان يوم ريح، فأمرها أن تمشي خلفه، وقال لها: دليني على الطريق وصفيه لي، قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، أي: على أن ترعى لي ماشيتي ثمانية أعوام، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وروي «عن ابن مسعود أنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمرنا بالصدقة، انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل، أي: يحمل على ظهره فيصيب المد، وإن لأحدهم اليوم لمائة ألف». قال الراوي عنه: ما أراه أراد إلا نفسه. «واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا بأجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت

فصل

لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: ما عملنا لك باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» فصل والإجارة تنقسم على ثلاثة أقسام: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة ما يسلم من الجهل والغرر إلا اليسير منهما المغتفر، وكان في المباح من الأعمال. فصل فلا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة معلومة وأجل معروف، أو ما يقوم مقام الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توفية العمل بتمامه فيما يستعمل، وعمل موصوف أو عرف في العمل والخدمة يدخل عليه المتاجرون فيقوم ذلك مقام الصفة، يدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فسمى الأجرة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل؛ لأن العرف والعادة أغنياهما عن ذلك، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره». وقال: «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم». فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسمية الأجرة وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه. فصل وهي من العقود اللازمة تلزم المستأجرين بالعقد كالبيع سواء، وتنقسم على قسمين، أحدهما: إجارة ثابتة في ذمة الأجير، والثاني: إجارة للذمة في عينه، فأما

الإجارة الثابتة في ذمته، فحكمها حكم السلم الثابت في الذمة في تقديم الإجارة وضرب الأجل ووصف العمل، وقال عبد الوهاب: يجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجرة أو الشروع في الاستيفاء، يريد: إذا كان العمل يسيرا ليخرج عن الدين بالدين، فأما الإجارة اللازمة في عينه، فإنها تنقسم على قسمين، أحدهما: أن يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين، (والثاني) أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فأما القسم الأول وهو أن يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين، فلا تنفسخ الإجارة فيه إلا بموت الأجير، وهو على نوعين، (أحدهما) أن لا يكون له غاية كخدمة البيت ورعاية الغنم بغير أعيانها، وحمل حمل بغير عينه، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يكون له غاية معلومة كخياطة ثوب بغير عينه أو طحن قفيز قمح بغير عينه، وما أشبه ذلك، فالأول لا بد فيه من ضرب الأجل بالأيام والشهور فيما كان من الخدمة والعمل وتسمية المواضع والبلدان فيما كان من النقل والحملان؛ فإذا ضرب في النقل والحملان مع تسمية المواضع والبلدان أجلا من الشهور والأيام، فسد ولم يجز لأنه غرر؛ ومما نهي عنه من شرطين في البيع على المشهور من المذهب، وقد قيل: إن ذلك جائز. وذلك بتأويل ما في الرواحل والدواب من المدونة، وعلى ما وقع في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة من العتبية، (والثاني) لا يجوز فيه ضرب أجل على ما ذكرناه من المشهور في المذهب؛ وأما القسم الثاني وهو أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فإنه ينقسم على خمسة أنواع: (أحدها) أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه، وذلك مثل أن: يستأجره على أن يرعى له غنما بأعيانها، أو يتجر له في مال بعينه شهرا أو سنة وما أشبه ذلك؛ فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل: إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها؛ وقيل: إنها تجوز بغير شرط الخلف والحكم يوجب الخلف، وهو قول سحنون وابن حبيب وقول أشهب في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، فهذا حكم هذا الوجه إلا في أربع

مسائل، فإن الإجارة تنفسخ فيها بموت المستأجر له، (إحداها) موت الصبي المستأجر على رضاعه، (والثانية) موت الصبي المستأجر على تعليمه، (والثالثة) موت الدابة المستأجر على رياضتها، (والرابعة) من استأجر رجلا على أن ينزي له أكداما معروفة على رمكة، فتعف الرمكة قبل تمام الأكدام، فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي منها، ولا يقال للمستأجر: جِئ بمثل الرمكة لما بقي من الأكدام. والنوع الثاني: أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بتسمية المواضع. وهو الاستئجار على حمل شيء بعينه، فهذا لا اختلاف في جواز الإجارة فيه - وإن لم يشترط الخلف؛ واختلف إن تلف على أربعة أقوال، (أحدها) - وهو المشهور أن الإجارة لا تنتقض وإليه ذهب محمد بن المواز، فقال: تعيين الحمل إنما هو صفة لما يحمل، ومثله في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، وفي رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وفي أول رسم من سماع أصبغ منه، (والثاني) أن الإجارة تنتقض بتلفه - وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه من كتاب الرواحل والدواب، ويكون له من كرائه بقدر ما سار من الطريق، (والثالث) الفرق بين أن يأتي تلفه من قبل ما عليه استحمل، أو من أمر من السماء؛ فإن أتى تلفه من قبل ما عليه استحمل، انفسخ الكراء فيما بقي له من كرائه بقدر ما مضى من الطريق، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم ينتقض الكراء، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، (والرابع) أنه إن كان تلفه من قبل ما عليه استحمل، انفسخ الكراء ولم يكن له فيما مضى كراء، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم ينفسخ الكراء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك. (والنوع الثالث) أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية مجهولة، وذلك مثل أن يستأجره

على أن يبيع له هذا العبد أو هذا الثوب أو هذه الأثواب في هذا البلد أو في بلد آخر بثمن سماه أو بما يراه، فهذا لا بد فيه من ضرب الأجل ولا يحتاج فيه إلى اشتراط الخلف على ظاهر ما في المدونة، والحكم يوجبه إن تلف؛ وقيل: إنه لا يجوز على مذهبه إلا بشرط الخلف إن تلف، فإن باع العبد أو الثوب قبل تمام الأجل انفسخت الإجارة فيما بقي من الأجل، وكان له من إجارته بحساب ما مضى منه، ولا يجوز النقد في ذلك بشرط، هذا قوله في المدونة في هذه المسألة، والذي يأتي على مذهب سحنون فيها أن الإجارة لا تنفسخ فيما بقي من المدة ويستعمله فيما يشبه ذلك؛ فإن اشترط أن يفسخ الكراء فيما بقي من الشهر لم يجز عنده وإن لم ينقد ولو استأجره على أن يبيع له الدابة أو الثوب بذلك البلد أو ببلد آخر وللقيام ببيعه غاية معلومة على أن له أجرته باع أو لم يبع للحق بالنوع الرابع وجاز، ولا يسمي للسوق والبيع أجلا لأن قدر ذلك معروف - قاله أشهب في آخر أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة. والنوع الرابع: أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية معلومة، مثل أن: يستأجره على خياطة ثوب بعينه، أو على طحن قمح بعينه، أو على حصاد زرع بعينه، فلا يجوز ضرب الأجل فيه؛ لأنه مدتان في مدة ويضارع ما نهي عنه من بيعتين في بيعة إلا على ما ذكرنا من الاختلاف في ذلك القائم من كتاب الرواحل والدواب من المدونة، ومن أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وتجوز الإجارة فيه دون شرط الخلف باتفاق - وإن تلف قبل العمل أو بعد. إن مضى بعضه، فالمشهور في المذهب أن الإجارة تنفسخ فيه أو فيما بقي منه. وهو قول مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، ويكون له فيما عمل ما يجب له من الأجر؛ لأنه كلما عمل شيئا فالمستأجر له قابض ولا ضمان على الآجر فيه، بخلاف الصانع الذي هو ضامن إن تلف الثوب عنده قبل فراغه من عمله وقامت البينة على تلفه، فلا شيء له فيما عمل؛ واختلف قول ابن القاسم إن تلف ببينة بعد تمامه من العمل قبل أن يسلمه إلى ربه، هل يجب له أجرة أم لا؟ على قولين، وقد قيل: إن الإجارة لا تنفسخ ويستعمله في مثله. وهو قول

فصل

ابن القاسم في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة، والنقد في هذه الإجارة جائز؛ لأن التلف نادر فلا يعتبر به. والنوع الخامس: أن يستأجره على دار يبنيها في هذه البقعة أو بئر يحفرها فيها إجارة لازمة في عينه غير ثابتة في ذمته وماله، فهذا إن استحقت البقعة أو عرقت انفسخت الإجارة وإن أكمل البنيان وجبت له أجرته إن انهدم بعد تمامه؛ لأن المستأجر قابض له بتمامه، واختلف إن انهدم قبل تمامه: فقال سحنون: لا شيء له إلا بتمام العمل، وقال ابن القاسم: له من الأجر بحساب ما عمل إلا أن تكون الإجارة فيما لا يملك من الأرضين، فاختلف في ذلك قوله في المدونة فمرة قال: له بحساب ما عمل، ومرة قال: لا شيء له إلا بتمام العمل كالجعل وهذا حكم الإجارة الجائزة. فصل وأما الإجارة المكروهة فهي ما تتعارض الأدلة في صحة عقده مع السلامة من الجهل والغرر كالإجارة على الصلاة والحج وكإجارة المسلم نفسه من الذمي أو فيما فيه من الجهل والغرر. هل هو من قبيل اليسير المستخف أو من قبيل الكثير الذي لا يستخف؛ وحكمها أن يرد ما لم يفت، فإن فاتت مضت بالإجارة الأجرة المسماة. ومنها ما يفوت بالعقد ومنها ما لا يفوت إلا باستيفاء العمل على قدر قوة الكراهية فيها. ومن الإجارات ما يختلف فيها في المذهب هل هي مكروهة أو فاسدة محظورة كالمسألة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، ونصها: قال: وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن رجل شارط رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع وما وجد في الأرض من صفا، فعلى صاحب العين أن يشقه فعمل فيها فوجد في الأرض نحو مائة ذراع فشقها

الرجل، فلما فرغ قال له الرجل: اعمل لي بدلها وموضعها الذي يعمل هو أكثر عملا من الموضع الذي وجد فيها الصفا؛ فقال: لقد دخلت في أمر لا خير فيه، فأرى عليك قدر ذلك الموضع الذي شقه ذلك الرجل تغرمه، وليس عليك أن تعمل له بدله - يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ؛ قال ابن القاسم: لست آخذ فيه بقول مالك، وأرى أن يعطى أجرة مثله، قال سحنون: وهو رأيي، وقوله فيها أفضل وأجود، هذا نص هذه المسألة وفيها التباس قد أشكل على كثير من الناس معناها فتأولها على غير معناها، منهم ابن لبابة؛ فإنه وهم في تأويلها فجعلها جعلا، وقال: إن مالكا تكلم على أن العامل هو الذي شق الصفا، وقد كان شقها واجبا على رب الأرض بالشرط، وأن ابن القاسم وسحنون تأولا على مالك أنه إنما أجاب في المسألة على أن رب الأرض هو الذي شق الصفا وقد كان شقها على العامل، وقد بين في المسألة أن المعاملة إنما وقعت بينهما على أن يشق رب الأرض ما وجد فيها من الصفا، وأن العامل هو الذي شق الصفا، بدليل قوله: فلما فرغ قال له: اعمل لي بدلها، وقد سألني بعض أصحابنا عن معنى قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها وتبيين ما فسره ابن القاسم من إرادته، ووجه مخالفته إياه ومتابعته سحنون له على خلافه؛ فقلت: الذي أقول به في ذلك - والله الموفق للصواب برحمته أن هذه المسألة محتملة لوجوه من التأويل؛ إذ لم يبين كيف انعقد الاستئجار بينهما على حفر الخمسة الآلاف الذراع إن كان على شرط أن يشق صاحب العين ما وجد فيها من صفا ويسقط عنه من الإجارة التي سمياها بقدر ما ينوب ذلك منها، أو على أن يشق ما وجد فيها من صفا دون أن يحط عنه لذلك من الإجارة شيئا، فالغرر في الإجارة على هذا بين والأظهر فيها الفساد، وقول ابن القاسم وسحنون: إن للعامل أجرة مثله في جميع عمله، هو القياس، ووجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا التأويل وعلى ما ذيله ابن القاسم من التفسير له بقوله: يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك؛ مما أخذه هو أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رأى العقد على هذا الشرط من

العقود التي يكرهها ابتداءً فإذا وقعت صح العقد وبطل الشرط؛ وذلك أن العقود المقترنة بها الشروط، تنقسم على ثلاثة أقسام؛ منها ما يبطل العقد والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط فاسدا له تأثير في الثمن، كالذي يبيع الدابة على أن يسافر عليها سفرا بعيدا وما أشبه ذلك، ومنها ما يصح البيع والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط حلال لا يئول به البيع إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمون، كالذي يبيع الدابة على أن يركبها اليوم واليومين وما أشبه ذلك. ومنها ما يصح البيع ويبطل الشرط وهو ما كان الشرط فاسدا إلا أنه خفيف لا يرى أنه نقص من الثمن ولا زاد فيه من أجله شيئا، وذلك مثل أن: يبيع السلعة على أنه إن لم يأته بالثمن إلى يومين أو ثلاثة فلا بيع بينهما، ومثل أن: يبيع الثمرة على أن لا قيام له عليه بجائحة إن أجيحت وما أشبه ذلك، فرأى عقد الإجارة في مسألتنا على هذا الشرط من هذا القبيل من الشروط إذ غلب على ظنه أن العامل إنما شرط على رب العين شق ما وجده من صفا فيها، والأغلب عندهما أنه لا صفا فيها لندور الصفا في ذلك الموضع على ما قد علم بالاختيار، فلم يحط من الإجارة لذلك الشرط شيئا ولا كان له تأثير فيها فأمضاها إذا وقعت وأسقط الشرط مع كراهيته لها ابتداء، كما أمضى البيع بشرط إسقاط الجائحة إذا وقع وأبطل الشرط إذ لم ير له تأثيرا في الثمن؛ لأن الأغلب السلامة من الجوائح وأراد العامل لما شق ما وجد في الأرض من صفا، وقد كان اشترط ذلك على رب العين أن يحفر له رب العين بدلها ويستحق هو إجارته كلها على ما اشترطا؛ فلم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذهب إلى أن الشرط ينفسخ والعقد على ذلك مكروه ابتداء على ما بيناه، فقال لهما: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، فأرى عليك - يريد على صاحب العين قدر ذلك الموضع يريد قيمة حفر ذلك الموضع الذي شقه الرجل يريد العامل ولم يكن ذلك عليه، لاشتراطه إياه على صاحب العين؛ ومعنى ذلك على أصولهم - إن كان رب العين ممن يستأجر على شق ذلك ولا يتولاه بنفسه وعبيده، وسكت مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تمام الحكم في

فصل

المسألة، وفسره ابن القاسم على ما فهم من مذهبه في إجازة العقد إذا وقع وإبطال الشرط على ما بينا، فقال: يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ، ومعنى ذلك أن ينظر ما تقع الصفا التي شقها العامل من جملة الخمسة الآلاف الذراع فيرد من الأجرة التي قبض ذلك الجزء لإبطال الشرط مع إمضاء العقد، إذ لا فرق بين أن يشق صاحب العين الصفا أو يشقها العامل فيأخذ حقه في شقها، وإن كان ما وجب للعامل في شقه الصفا من جنس الأجرة التي قبض قاصه بذلك فيما يجب عليه رده منها، فمن كان له منهما في ذلك فضل، رجع به على صاحبه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل ولولا تأويل ابن القاسم على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكان الأظهر من قوله: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، أن العقد فاسد ويكون للعامل أجرة مثله في شقه الصفا وفي سائر عمله، ويرد جميع الأجرة إن كان قبضها أو تسقط إن كان لم يقبضها؛ لأنه إنما تكلم على ما يجب للعامل في شق الصفا وسكت عن تمام الحكم في المسألة؛ إلا أن ابن القاسم أحق بتبيين إرادة مالك في المسألة، لمشافهته إياه فيها. فصل وإن كانت الإجارة انعقدت بينهما على أن يشق رب العين ما وجد فيها من صفا، ويسقط عنه من الأجرة التي سمياها ما ينوبها منها، فيتخرج جوازها بغير اشتراط النقد على قولين، الأشهر منهما في المذهب الإجازة؛ لأن السوم معلوم وجملة الثمن مجهول. لا يعلم حال العقد كبيع الصبرة جزافا على الكيل الذي أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه، ومنع منه عبد العزيز بن أبي سلمة، وكاستئجار الأجير على أن يأتيه بمتاع من بلد على أنه إن وجده في الطريق رجع وكان له بحسابه الذي أجازه مالك وابن القاسم رحمهما الله تعالى، ومنع منه سحنون، ومن

فصل

ذلك أيضا اختلافهم في استئجار الأجير شهرا على أن يبيع له ثوبا بعينه أو يرعى له غنما بأعيانها دون أن يشترط الخلف وما أشبه ذلك؛ فمعنى ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها على هذا التأويل، أنه كرهها ابتداء مراعاة للخلاف؛ ويحتمل أن يكون كرهها من أجل النقد - وإن لم يكن مشترطا؛ إذ لا يصح النقد فيها بشرط إجماعا، وأجازها إذا وقعت على أصل مذهبه وحكم للعامل بأجر مثله في شق الصفا وأوجب عليه أن يرد من الأجرة ما يقع للصفا من جملة الخمسة الآلاف الذراع، ورأى ابن القاسم وسحنون أنها إجارة فاسدة للعلة التي ذكرها وهي الجهل بجملة الثمن حال العقد، فأوجبا للعامل أجرة مثله في جميع عمله، فأما سحنون فجرى في ذلك على أصله في الذي يستأجر الكرى على أن يأتيه بمتاعه من بلد كذا، فإن وجده في الطريق رجع وكان له بحسابه، وأما ابن القاسم فخالف أصله وذلك اختلاف من قوله؛ وكلا التأويلين سائغان، والتأويل الأول أظهر والله أعلم. وقد تأول بعض الناس أن مالكا تكلم على أن رب العين هو الذي شق الصفا، وأن ابن القاسم وسحنون تكلما على أن العامل هو الذي شقها وهو بعيد من التأويل لا معنى له؛ إذ لا تأثير لشق العامل إياها في فساد العقد، وتأول أيضا بعض من سألني عن معنى هذه المسألة فنهجت له القول فيها بما ذكرته أن مالكا تكلم على الوجه الآخر من الوجهين اللذين ذكرنا، وأن ابن القاسم وسحنون تكلما على الوجه الأول وذلك محتمل أيضا، ومنهم من ذهب إلى أنهم تكلموا جميعا على الوجه الأول. وأن إرادة مالك أن الإجارة فاسدة بدليل قوله: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، وأن تفسير ابن القاسم ليس بصحيح، والصواب أن تفسيره لمذهبه صحيح، فهو أقعد بمعنى ما ذهب إليه، والله أعلم. فصل وأما الإجارة المحظورة فتنقسم على ثلاثة أقسام، (أحدها) الاستئجار على

فصل

ما يجب على الأجير فعله، (والثاني) الاستئجار على ما لا يحل له فعله، (والثالث) الاستئجار على المباح من الأعمال بما لا يجوز من الغرر أو الحرام أو على وجه لا يجوز مما يدخله غرر أو جهل؛ فأما الاستئجار على ما لا يجوز الاستئجار عليه لوجوب فعله على الأجير، فينفسخ إن عثر عليه قبل العمل فإن فات بالعمل لم يكن للأجير شيء من الأجرة، وردت كلها إلى المستأجر - إن كان قد دفعها؛ وأما الاستئجار على ما لا يجوز الاستئجار عليه لتحريم فعله عليه، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ أيضا متى ما عثر عليه، فإن فات بالعمل لم يكن للأجير من الأجرة شيء وتصدق بها عليه على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في بيع المسلم الخمر من النصراني أو المسلم، وأما الاستئجار على المباح من الأعمال بما لا يجوز أو على وجه لا يجوز، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ ما لم يفت؛ فإن فات بالعمل كانت فيه القيمة والله ولي التوفيق برحمته. فصل في ماهية الجعل وأصل جوازه وأما الجعل فهو أن يجعل الرجل للرجل جعلا على عمل يعمله له إن أكمل العمل، وإن لم يكمله لم يكن له شيء، وذهب عناؤه باطلا؛ فهذا أجازه مالك وأصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمام العمل، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى في أحد قوليه، وهو في القياس غرر إلا أن الشرع قد جوزه؛ والأصل في جوازه قول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: " من قتل قتيلا فله سلبه "، وقوله يوم بدر: " من فعل كذا فله كذا، ومن فعل كذا وكذا فله كذا وكذا "، وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد كره ذلك، فإنما كرهه لئلا

فصل

تفسد نيات الناس في الجهاد، لا أنه عنده حرام؛ ومن الحجة في ذلك أيضا ما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أنه قال: «انطلق نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا عندنا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم، فقالوا لهم: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وقد سعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا به، فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له، فقال: " وما يدريك أنها رقية "؟ ثم قال: " قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم "، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وأيضا فإن الجعل مما كان موجودا في معاملات الناس جاهلية وإسلاما، فأقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله - ولم يتعرض لإبطاله مع علمه بذلك، ولا فرق بين ما يبتدئ إجازته شرعا وبين ما يقر على إجازته؛ وأيضا فإن الضرورة تدعو إلى ذلك أشد مما تدعو إلى القراض والمساقاة، والضرورة مستثناة من الأصول وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأمصار على قديم الأوقات والأعصار. فصل والجعل أصل في نفسه كالقراض والمساقاة، لا يقاس على الإجارة، ولا تقاس الإجارة عليه وإن أخذ شبها منها.

فصل

فصل ومن شروط صحة المجاعلة أن يكون الجعل معلوما وأن لا ينقد، وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلا، فإن ضرب له أجلا ولم يشترط أن يتركه متى شاء لم يجز، واختلف إن اشترط ذلك، هذا قوله في المدونة فيمن قال: بع لي هذا الثوب اليوم - ولك درهم - أن ذلك لا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يتركه تركه، وقد اختلف في تأويل قول سحنون في آخر المسألة، وقد قال في مثل هذا: إنه جائز، وهو جل قوله الذي يعتمد عليه فاختصره ابن أبي زيد على أنه أجاز أن يوقت في الجعل يوما أو يومين دون شرط، وقال أبو عمر بن القطان: يريد سحنون أنه قال مثل قوله في الباب في مثل مسألة الباب، وهو أن يجيز الجعل ويضرب له يوما أو يومين ويشترط عليه أنه متى شاء أن يرد رد، قال سحنون: له مثل هذا القول وهذا القول جل قوله الذي يعتمد عليه. يريد قول الكتاب وما يشبهها وقوله: جل قوله، يقتضي الخلاف، والخلاف موجود له في رواية عيسى عنه؛ قلت: أرأيت إن قال جد نخلي اليوم فما جددت فبيني وبينك ومتى ما شئت أن تخرج خرجت ولك نصف ما عملت؛ قال: لا خير فيه وتأول ابن لبابة على سحنون أنه أراد أن ابن القاسم إنما اختلف قوله على أنها إجارة، فمرة رآها إجارة جائزة، ومرة رآها إجارة فاسدة، وذلك كله مدخول؛ وأما قول ابن أبي زيد، فهو خطأ صراح؛ لأن الجعل إذا سمى فيه أجلا ولم يشترط أن يترك العمل متى شاء لم يجز باتفاق، فكيف يصح أن يقال: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه؛ وأما تأويل ابن القطان، فهو بعيد على ظاهر لفظ الكتاب، إلا أن معناه صحيح تصح به المسألة؛ وأما تأويل ابن لبابة فهو بعيد على ظاهر اللفظ غير صحيح المعنى؛ لأنها إذا كانت إجارة، فهي جائزة - ولا وجه لفسادها، وإنما معنى المسألة عندي أن قول ابن القاسم اختلف إذا قال الرجل للرجل: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم - فقال في الباب: إنه جعل، ولا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يترك ترك، وله قول آخر أن ذلك جائز وهي إجارة لازمة لا جعل؛ فإن باع في بعض اليوم، كان له من الأجرة

فصل

بحساب ذلك، فقال سحنون: إن هذا القول هو الذي يعتمد عليه من قول ابن القاسم، وهذا القول لابن القاسم قائم من أول الكتاب؛ قال في الذي يبيع من الرجل نصف الثوب على أن يبيع له النصف الآخر، إن ذلك جائز إذا ضرب لذلك أجلا؛ لأنه إذا ضرب لذلك أجلا كانت إجارة واختار سحنون هذا القول؛ لأنه إذا قال: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم، احتمل أن يريد على وجه الجعل فيكون جعلا فاسدا، واحتمل أن يريد على وجه الإجارة فيكون جائزا. وإذا كان اللفظ محتملا للجواز والفساد مترددا بينهما، فهو على مذهبه في مسائل كثيرة محمول على الجواز حتى يتبين الفساد، من ذلك من اكترى راعيا على رعاية غنم بأعيانها، فالإجارة عنده جائزة - وإن لم يشرط الخلف خلاف مذهب ابن القاسم في هذه المسألة مثل قوله في المسألة التي حكيناها في أول الكتاب؛ ومثل قوله فيمن قال: بع لي هذا الثوب ولك درهم - أن ذلك جائز فحمله على الجعل فأجازه مع احتمال أن يريد بذلك الإجارة، فتكون فاسدة إذا لم يضرب لها أجلا؛ فلما كان هذا القول جاريا على مذهب سحنون، اختاره واستحسنه، فقال فيه: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه، ولو بين فقال: أستأجرك على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم جاز باتفاق، ولو بين أيضا فقال: أجاعلك على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم. ولك درهم. لم يجز باتفاق، إلا أن يشترط متى ما شاء أن يترك ترك، وإذا لم يقع بيان فهي مسألة الكتاب التي اختلف فيها قول ابن القاسم؛ فالمسألة تنقسم على هذه الثلاثة الأقسام، فهذا أولى ما تحمل عليه هذه المسألة، ولم أره لغيري - وهو صحيح بين لا ينبغي أن يلتفت إلى ما سواه، ومسألة نفض الزيتون من هذا الأصل فتدبر ذلك، وكذلك الخلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب فيمن باع من رجل دارا على أن ينفق عليه حياته، جاز على هذا الأصل ومثل هذا كثير. فصل وقد اختلف؛ هل من شروط صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ على قولين.

فصل

فصل وليس من شروطه أن يكون العمل المجعول فيه معلوما بل يجوز في المعلوم والمجهول. فصل ولا يلزم المجعول له العمل وله أن يترك شرع فيه أو لم يشرع، ولا شيء له إلا بتمام العمل؛ واختلف في الجاعل فقيل: إن الجعل يلزمه بالعقد وإلى هذا ذهب ابن حبيب في أحد قوليه وهو ظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم في الجعل والإجارة، وقيل: لا يلزمه حتى يشرع المجعول له في العمل وهي رواية علي بن زياد عن مالك ورواية أشهب عنه أيضا في تضمين الصناع من العتبية ومذهب سحنون وهو أظهر القولين؛ لأنه لما كان المجعول له لا يلزمه وجب أن لا يلزم الجاعل إلا أن يشرع المجعول له في العمل، لئلا يبطل عليه عمله، ووجه القول الأول هو أن الجاعل لما كان ما أخرج معلوما ولم يجز أن يكن مجهولا لزمه، ولما كان العمل الذي يخرجه العامل في الجعل يجوز أن يكون مجهولا جاز له أن يرجع عنه متى شاء ولم يلزمه، ألا ترى أن الإجارة لما كانت معلومة في معلوم لزمتهما جميعا، ولم يكن لواحد منهما الرجوع. فصل فعلى هذا إذا مات الجاعل قبل أن يشرع المجعول له في العمل على قول ابن حبيب، وظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم أو بعد شروعه في العمل على رواية علي بن زياد وأشهب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يلزم ذلك ورثته، ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل؛ فإن مات المجعول له بعد أن شرع في العمل أو قبل أن يشرع فيه على أحد القولين، نزل ورثته منزلته؛ ولم يكن للجاعل أن يمنعهم من العمل؛ وقد روى أصبغ عن ابن القاسم خلاف هذا في المجاعلة في

فصل

اقتضاء الديون، فجعل موت المجعول له كموت المقارض - إن كان قد شرع في العمل نزل ورثته منزلته إن كانوا أمناء، وإن كان لم يشرع في العمل ولا اقتضى منه شيئا، فلا حق لورثته، وقال: إن الجعل ينتقض بموت الجاعل - مات قبل شروع المجعول له في العمل أو بعده، فلم يحمله في هذا الطرف محمل القراض، ولا محمل الجعل في حق الجاعل له للزوم المجاعل له بالعقد أو شروع المجعول له في العمل - على ما قدمناه من الاختلاف في ذلك؛ وأما اشتراطه في موت المجعول له للأمانة في الورثة فصحيح لا ينبغي أن يختلف في ذلك؛ لأن هذا مما ينبغي فيه الأمانة. فصل وليس من شروط صحة الجعل أن يكون في القليل، وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره، فليس بصحيح، وإنما الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه كما قدمناه كان قليلا أو كثيرا؛ وغير جائز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمامه كان قليلا أو كثيرا؛ ولذلك قال ابن المواز: إن الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا فيما لا يملك من الأرضين؛ لأن ما يملك من الأرضين إن ترك المجعول له العمل بعد أن حفر بعض البئر، انتفع الجاعل بما حفر منها بوجوه كثيرة من وجوه المنافع، وما لا يملك من الأرضين منفعة للجاعل فيما حفر المجعول له منها إن لم يتم حفرها. فإذا لم يكن للجاعل في العمل المجعول فيه منفعة إلا بتمامه، جاز الجعل قياسا على قول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، لأنه إذا لم يأت المجعول له في الطلب بالمطلوب لم ينتفع الجاعل بغايته في الطلب، وهذا بين. فصل وقوله: إنما جوز مالك الجعل في الشيء اليسير مثل الثوب والثوبين، وقوله: إن الكثير من السلع تصلح فيه الإجارة ولا يصلح فيه الجعل، والقليل يصلح

فصل

فيه الجعل والإجارة؛ إنما يريد بذلك كله في البيع خاصة؛ لأن الكثير من السلع إذا جاعله على بيعها ودفعها إليه إن بدا له في بيعها وصرفها إليه كان الجاعل قد انتفع بحفظه لها مدة كونها بيده، ولو لم يدفعها إليه، لجاز الجعل إذا جعل له في كل ثوب يبيعه منها جعلا مسمى، ولزم الجاعل الجعل في بيع جميعها؛ ألا ترى أن الجعل في الشراء على الثياب الكثيرة جائز؛ إذ لا يتولى حفظها، وكلما ابتاع ثوبا أسلمه إلى الجاعل ووجب له فيه جعله؛ ولو شرط الجاعل في الشراء على المجعول له أن يمسك الثياب وتكون في أمانته وقبضه حتى يتم شراء العدد الذي جاعله عليه، لم يجز للعلة التي قدمنا وهذا كله بين. فصل والأعمال تنقسم على ثلاثة، منها: ما يصح فيه الجعل والإجارة، ومنها: ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة، ومنها: ما لا يصح فيه الجعل وتصح فيه الإجارة. فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين وشراء الثياب القليلة والكثيرة، وحفر الآبار واقتضاء الديون، والمخاصمة في الحقوق على أحد قولي مالك، وقد روي عنه أن الجعل في الخصومة لا يجوز. وأما ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان، أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله، (والثاني) ما يلزمه، وأما ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل فكثير أيضا، من ذلك خياطة الثوب وخدمة الشهر وبيع السلع الكثيرة، والسلعة الواحدة التي تباع من جاعل ويعلم أن الثمن فيها موجود أو على أن تباع ببلد آخر، وما أشبه ذلك مما يبقى للجاعل فيها منفعة إن لم يتم المجعول له العمل. فصل واختلف في الجعل الفاسد إذا وقع، فقيل: إنه يرد إلى حكم نفسه فيكون

فصل

للمجعول له جعل مثله إن كان أتم العمل، وإن لم يتمه فلا شيء له، وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة؛ فيكون له إجارة مثله - أتم العمل أو لم يتمه؛ وقيل: إنه يرد إلى تجارة مثله في بعض المسائل وإلى جعل مثله في بعضها كالقراض الفاسدة، قيل: إنه يرد إلى حكم نفسه وهو قراض المثل؛ وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة، فيكون له إجارة مثله، وقيل: إنه يرد القراض الفاسد إلى قراض مثله في بعض المسائل، وإلى إجارة المثل في بعضها وهو مذهب ابن القاسم؛ وقد يأتي في الجعل الفاسد أقوال خارجة عما أصلناه وهذا هو الصحيح فيها. فصل ولا يجتمع الجعل والإجارة؛ لأن الإجارة لا تنعقد إلا معلوما في معلوم؛ والجعل يجوز فيه المجهول، فهما أصلان مفترقان لافتراق أحكامهما، متى جمع بينهما فسدا جميعا، وقد روي عن سحنون أنه أجاز المغارسة والبيع وهو من هذا المعنى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب الرواحل والدواب

كتاب الرواحل والدواب قال الله عز وجل: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7]، وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وقال: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14]، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80]، وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، وقال:

فصل

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70]. فصل فملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى بنا وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم لا اختلاف بينهم في ذلك. فصل والكراء من العقود اللازمة يلزم المتكاريين الكراء بالعقد ولا يكون لأحدهما خيار في حله، إلا أن يشترط أحدهما الخيار لنفسه كالبيع سواء؛ لأنه ثمن ومثمون، فلا يجوز فيه الغرر والمجهول، ولا يصح إلا معلوما في معلوم، ولا بد فيه من تسمية الكراء وضرب الأجل إن اكترى الدابة مدة ما أو تسمية المسافة، إن أكراها إلى موضع ما، ولا بد من تسمية ما يحمل على الدابة أو ما يسخرها فيه، إلا أن يدخلا على عرف قد علماه فيقوم العرف في ذلك مقام التسمية. فصل فإن أكرى الدابة وضرب لكرائها أجلا وسمى موضعا أو عين عملا، كان ذلك من باب مدتين في مدة فضارع ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيعتين في بيعة، ومن شرطين في بيع، وجرى على قولين، أحدهما: أن الكراء فاسد يفسخ، فإن مات كان للمكري كراء مثله على سرعة السير وإبطائه. والثاني: أن الكراء جائز لا يفسخ ويكون للمكري الكراء المسمى إن بلغ الموضع الذي سمياه في الأجل الذي وقتاه، وكراء مثله إن لم يبلغ إليه في الأجل، وهذا إذا كان الأجل واسعا يعلم أنه يدرك الوصول إلى الموضع الذي سمياه فيه، إلا أن يقصر أو يفرط، وأما إن كان

فصل

الأجل ضيقا يمكن أن يصل فيه إلى ذلك الموضع، وألا يصل، فلا يجوز الكراء باتفاق، وكذلك إذا قال له: إن بلغت إليه إلى أجل كذا وكذا، فلك كذا وكذا، وإن لم تصل إليه إلا إلى أجل كذا وكذا فلك كذا وكذا، لا يجوز باتفاق، ويفسخ؛ فإن فات بالمسير، كان له كراء مثله بالغا ما بلغ على سرعة السير وإبطائه عند ابن القاسم، وعلى قول غيره في كتاب الجعل والإجارة لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، وللشيوخ في قول غيره المذكور ثلاثة وجوه من التأويل، (أحدها) أنه لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، سواء بلغ في الأجل أو لم يبلغ. (والثاني) أنه إن بلغ في الأجل وكان كراء مثله أقل من أقل الكراءين، لم ينقص من أقل الكراءين، وإن كان له كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، كان له ذلك. وإن لم يبلغ في الأجل وكان كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، لم يزد على أكثر الكراءين؛ وإن كان كراء مثله أقل من أقل الكراءين لم يكن له إلا ذلك، وهذا تأويل ابن أبي زمنين. (والثالث) أنه إن بلغ في الأجل لم ينقص من أكثر الكراءين، إن كانت القيمة أقل منه ولا يزيد عليه إن كانت أكثر منه، وإن لم يبلغ في الأجل، لم ينقص من أقل الكراءين إن كانت القيمة أقل منه، ولا زيد عليه إن كانت القيمة أكثر منه. فصل وكراء الرواحل والدواب على وجهين، أحدهما: أن يكون مضمونا، والثاني: أن يكون معينا؛ فأما المعين فهو أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو راحلتك هذه، قال بعينها أو لم يقل، أو دابتك الفلانية أو راحلتك الفلانية، وذلك جائز بالنقد وإلى أجل، إذا شرع في الركوب أو كان إنما يركب إلى الأيام القلائل العشرة ونحوها، قاله مالك، وقال ابن القاسم: لا يعجبني إلى عشرة أيام يريد إذا نقد، وهذا إذا كانت الدابة أو الراحلة حاضرة، وأما إن كانت غائبة فلا يجوز تعجيل النقد؛ لأن النقد لا يصلح في شراء الغائب، وأما إن اكترى الراحلة بعينها على أن

فصل

لا يركبها إلى فوق العشرة الأيام، قال في المدونة: إلى ثلاثين يوما أو نحوها، فلا يجوز الكراء بالنقد، ويجوز بغير النقد، وقال غيره: لا يجوز الكراء وإن لم ينقد لأنه من التحجير. فصل وهذا الكراء المعين ينفسخ الكراء فيه بموت الراحلة أو الدابة، فإن ماتت في بعض المسافة فأراد أن يعطيه دابة أخرى بعينها يبلغ عليها إلى منتهى غايته، فإن كان لم ينقد فذلك جائز؛ لأنه كراء مبتدأ، كان قد نقده لم يجز؛ لأنه فسخ الدين في الدين: فسخ ما يجب له الرجوع به من بقية رأس ماله قي راحلة يركبها، إلا أن يكون ذلك في مفازة حيث لا يجد الكراء، فيجوز ذلك للضرورة؛ قال ابن حبيب: كما يجوز للمضطر أكل الميتة، وهذا على مذهب ابن القاسم، وأما على مذهب أشهب فذلك جائز؛ لأنه يجوز له أن يتحول من دين له إلى خدمة عبد بعينه أو كراء دابة بعينها، ولا يرى ذلك من فسخ الدين في الدين؛ لأنه إنما تحول إلى الانتفاع بشيء معين فجعل قبضه إياه لاستيفاء المنافع منه قبض لجميع المنافع، ولا يجوز له أن يكري منه بما يجب له به الرجوع عليه من الكراء كراء مضمونا باتفاق من ابن القاسم وأشهب وغيرهما. فصل فإن فلس رب الراحلة في الكراء المعين، فالمكتري أحق بها إلى منتهى غايته قبضها أو لم يقبضها نقد الكراء أو لم ينقد. فصل وأما كراء الدابة المضمونة أو الراحلة المضمونة وهو أن يقول: أكرني دابة أو

فصل

راحلة فإنه يجوز أيضا بالنقد وإلى أجل إذا شرع في الركوب، وأما إن لم يشرع في الركوب، وإنما تكارى كراء مضمونا إلى أجل كالمتكاري إلى الحج في غير إبانه، فالقياس أنه لا يجوز إلا بتعجيل الكراء؛ لأنه كالسلم الثابت في الذمة فلا يجوز إلا بتعجيل رأس المال، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد خفف، أن يعربن الدينار إلى أن يأتي الكري بظهره؛ لأن الأكراء قد قطعوا بالناس وقال: كم من كري قد هرب وترك أصحابه، فأجاز تأخير الكراء لهذه الضرورة، واستحب أن ينقد أكثر الكراء أو نحو ثلثيه. فصل ولا ينفسخ الكراء بموت الدابة في الكراء المضمون، إلا أن الكري إذا قدم إلى المكتري دابة فركبها فليس له أن يبدلها تحته إلا برضاه؛ وإن فلس الكري كان المكتري أحق بها إلى منتهى غايته إذا كان قبضها وإن كان يبدل دوابه تحته فهو أحق بما كان تحته يوم التفليس، وإن كانت يوم التفليس قد نزل عنها وأخرجت إلى المرعى، فليس ذلك بمانع له من أن يكون أحق بها من الغرماء قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب المديان، وغمز محمد بن المواز قول ابن القاسم هذا وقال: إنما يجب أن يكون أحق بها إذا كانت معينة، وهو معنى قول غير ابن القاسم في الكتاب ليس الراحلة بعينها كالمضمون، وقد تؤول أن معنى ذلك في اختلافهما في الكراء لتقدم المسألتين جميعا واحتمال إعادة قوله المذكور على كل واحد منهما. فصل وأما إن فلس الكري قبل أن يقبض المكتري الدابة في الكراء المضمون، فهو أسوة الغرماء يحاصهم بقيمة الكراء يوم الحصاص لا يوم الكراء، فما صار له

فصل

أكرى له به وما بقي اتبعه به دينا في ذمته، قال محمد: وسواء نقد الكراء أو لم ينقد، إلا أنه إن لم ينقد غرم الكراء ثم حاص فيه الغرماء وفي سائر ماله، فإن صار له نصف الكراء اتبعه بنصف الحمولة وليس بالثمن. فصل فإذا قلنا: إن الكراء على وجهين: مضمون ومعين، فلا يخلو عقد الكراء من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يقع على معين ببيان ونص، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو دابتك الفلانية، قال: بعينها أو لم يقل، الحكم في ذلك سواء؛ والثاني: أن يقع على مضمون ببيان، وذلك أن يقول: أكر مني دابة بغلا أو حمارا أو راحلة صفة كذا وكذا من غير أن يسميها أو يشير إليها. والثالث: أن يعرى العقد في ذلك من البيان، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك بغلك أو حمارك أو راحلتك ولا يزيد على ذلك؛ فأما الوجهان الأولان، فلا كلام فيهما لهما في المضمون حكم المضمون، وفي المعين حكم المعين، على ما تقدم، وأما الوجه الثالث: إذا قال: أكتري منك بغلك أو راحلتك، ولم يزد على ذلك، فهي على أنها مضمونة غير معينة حتى يعينها بالتسمية لها أو بالإشارة إليها، روى ذلك ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الرواحل والدواب، وإليه ذهب ابن حبيب، قال في الصانع: إذا استعمله الرجل عملا فهو عليه مضمون في ماله إن مات قبل أن يتم ما استعمل إلا أن يشترط عمل يده أو يكون إنما قصده لرفقه وإحكامه، وحكي ذلك عن أصبغ وأنه مذهب قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وروى أيضا ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نحوه في أول سماعه من كتاب الجعل والإجارة، وهو الذي يأتي على ما في كتاب النذور من المدونة، قال في الذي يحلف أن لا

فصل

يدخل دار فلان: إنه يجوز له أن يدخلها إذا خرجت عن ملكه ما لم يقل دار فلان هذه، فيعينها بالإشارة إليها، ومثله أيضا في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق فرق بين أن يحلف الرجل، فيقول: لا دخلت جنانك أو لا دخلت هذه الجنان. وفي سماع عيسى عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي يحلف أن لا يستخدم عبد فلان فيعتق فلان عبده ذلك، أنه لا يجوز له أن يستخدمه بعد العتق وإن لم يقل هذا العبد، فيدخل الاختلاف في هذه الرواية بالمعنى في مسألة الكراء، والأول هو المشهور المنصوص عليه. فصل وهذا إذا اتفقا على الإبهام وتصادقا عليه ولم يدعيا البيان، وأما لو ادعيا البيان واختلفا، فقال أحدهما: مضمونا، وقال الآخر: معينا، لوجب أن يتحالفا ويتفاسخا إن كان المكتري لم يقبض؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، وأما إن قبض المكتري الدابة ثم اختلفا، فقال المكتري: هذه الدابة التي قبضت هي التي اكتريت بعينها، وقال رب الدابة: لم أكرها بعينها وإنما أكريت منك كراء مضمونا أو ادعى المكتري أنه اكترى إكراء مضمونا، وقال رب الدابة: ما أكريت منك إلا تلك التي دفعت إليك بعينها، فالقول قول الذي ادعى تعيين الدابة المدفوعة مع يمينه منها إن فاتت الدابة، وأما إن كانت الدابة قائمة لم تفت ولا دخلها عيب، فلا معنى ليمين من ادعى التعيين؛ إذ لا تفيد يمينه في هذه الحالة شيئا؛ لأنه إن كان الذي ادعى التعيين هو المكتري، فإنه يقول للمكري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة قد دفعت إلي هذه الدابة فليس لك أن تنزعها مني، وإن كان الذي ادعى التعيين هو رب الدابة فإنه يقول للمكتري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة ليس لك أن تلزمني بدلها ما لم تمت أو يدخلها عيب أو مرض. وبالله التوفيق.

فصل

فصل في التداعي الأصل في التداعي من كتاب الله عز وجل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وقَوْله تَعَالَى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]؛ فوجب بهذا على كل من ابتدأ قولا وابتدع مذهبا أن يأتي بالدليل على صدق قوله، والبرهان على صحة مذهبه، وعلى من ادعى على أحد دعوى في مال أو دم أو عرض أو غير ذلك، أن يأتي بالبينة على دعواه، وقد بين ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعموم قوله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر». وبقوله للرجل الذي خاصم إليه في الأرض التي زعم أنه انتزى عليها في الجاهلية فأنكر ذلك من دعواه: «شاهداك أو يمينه». فصل فوجه معرفة الفصل في الحكم بين المتداعيين تمييز المدعي الذي يكلف إقامة البينة على دعواه ولا يمكن من اليمين من المدعى عليه الذي يمكن من اليمين ولا يكلف إقامة البينة بالوقوف على العلة المفرقة بينهما الموجبة لتبدئة المدعى عليه باليمين دون المدعي، إذ قد يكون القول قول المدعي إذا كان في معنى المدعى عليه وتكون على المدعى عليه إقامة البينة إذا كان في معنى

فصل

المدعي؛ لأن المدعى عليه لم يكن القول قوله من أجل أنه مدعى عليه، ولأن المدعي لم يكلف إقامة البينة على دعواه من أجل أنه مدع، إذ ليست الأحكام للأسماء، إنما هي للمعاني، فالمعنى الذي من أجله كان القول قول المدعى عليه هو أن له سببا يدل على صدقه دون المدعي في مجرد دعواه وهو كون السلعة بيده إن كانت الدعوى في شيء بعينه، أو كون ذمته بريئة على الأصل في براءة الذمم إن كانت الدعوى فيما في ذمته، والمعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة على دعواه هو مجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه، فإن كان له سبب يدل على تصديق قوله أقوى من سبب المدعى عليه، كالشاهد الواحد، أو الرهن، أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر، وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه، فإن لم يكن لواحد منهما سبب يدل على صدقه كالسلعة يتداعيانها وليست بيد واحد منهما، أو كان لكل واحد منهما سبب مكافئ لسبب صاحبه لا مزية له عليه، كتكافؤ البينة وليست السلعة في يد واحد منهما، لم يبدأ أحدهما باليمين دون صاحبه، ووجب أن يحلفا جميعا ويقسما السلعة بينهما. فصل والأصل في هذا أن المبدأ باليمين من المتداعيين هو من كان منهما أشبه بالدعوى بسبب يدل على تصديقه، كان المدعي أو المدعى عليه؛ لأن المدعي والمدعى عليه متداعيان في الحقيقة، مثال ذلك: أن من ادعى دارا في يد رجل هما متداعيان فيها؛ لأن كل واحد منهما يدعيها لنفسه دون صاحبه فيستويان في الدعوى، وفضله الذي في يده الدار باليد، فكان أشبه بالدعوى، فجعل القول قوله لهذا المعنى، لا من أجل كونه مدعى عليه.

فصل

فصل وقول سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم به بينهما، فالمدعي أن يقول: الرجل قد كان، والمدعى عليه أن يقول: الرجل لم يكن ليس على عمومه في كل موضع، وإنما يصح إذا تجردت دعوى المدعي في قوله قد كان من سبب يدل على تصديق دعواه، فإن كان له سبب يدل على تصديق دعواه أقوى من سبب المدعى عليه القائل لم يكن برئ عليه باليمين، مثال ذلك: أن من حاز شيئا مدة تكون فيه الحيازة عاملة في وجه المدعى فادعى الشراء، كان القول قوله مع يمينه في ذلك، وهو مدع يقول: قد كان، والمدعى عليه يقول: لم يكن، وكذلك المودع يدعي رد الوديعة، القول قوله وهو مدع، يقول: قد كان، والودع: يقول لم يكن، ومثل هذا كثير. فصل يتبين بهذا الذي قلناه أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» عام في جميع الدعاوى من الأموال والدماء وغير ذلك، وخاص فيما تجردت دعواه من المتداعيين عن سبب يدل على صدق قوله، والله أعلم. فصل وهذه جملة لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيها وما يوجد من الاختلاف بينهم في التداعي ليس بخارج عن هذا الأصل، إنما هو اختلافهم في قوة السبب الدال على تصديق أحد المتداعيين وضعفه على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم. فصل والاختلاف بين المتكاريين كالاختلاف بين المتبايعين؛ لأن الكراء بيع من

فصل

البيوع، والأصل في ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادان». فصل واختلافهما لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في المسافة، (والثاني) أن يختلفا في الكراء، (والثالث) أن يختلفا في الأمرين جميعا. فأما اختلافهما في المسافة فإنه على وجهين، (أحدهما) أن يختلف في غايتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى قرمونة، ويقول المتكاري: بل اكتريت منك إلى إشبيلة، (والثاني) أن يختلفا في جملتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى إشبيلة، ويقول المتكاري: إنما تكاريت منك إلى غرناطة، وما أشبه ذلك. وأما اختلافهما في الكراء، فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في نوعه مثل أن يقول أحدهما: دنانير، والآخر: دراهم أو طعام أو عروض وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يختلفا في الصفة، مثل أن يقول أحدهما: دنانير هاشمية، ويقول الآخر: عتق سليمانية، أو يقول أحدهما: وازنة، ويقول الآخر: ناقصة، أو يقول أحدهما: دراهم سود، ويقول الآخر: بيض، وما أشبه ذلك، أو يقول أحدهما: قمح على صفة كذا وكذا، ويقول الآخر: بل على صفة كذا وكذا، وما أشبه ذلك؛ (والثالث) أن يختلفا في قلته وكثرته، مثل أن يقول المكري: أكريت منك بعشرة دراهم أو عشرة أرادب، ويقول المكتري: اكتريت منك بثمانية دراهم، أو ثمانية أرادب وما أشبه ذلك. فصل فأما إذا كان اختلافهما في جملة المسافة أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل.

فصل

فصل وصفة أيمانهما أن يحلف المكري في اختلافهما في جملة المسافة ما أكرى منه إلى بلد كذا وكذا وليس عليه أن يزيد في يمينه، ولقد اكترى منه إلى بلد كذا وكذا إلا أن يشاء رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وإن شاء أن يقول: ما أكريت منه إلا إلى بلد كذا وكذا فيجمع المعنيين في لفظ واحد، ثم يحلف المكتري بالله ما اكتريت منه إلى موضع كذا ولا يزيد في يمينه ولقد اكتريت منه إلى بلد كذا، إذ لا فائدة له في ذلك؛ لأن المكري قد نفاه بيمينه إلا أن يكون هو المبدأ باليمين على غير الاختيار في تبدئة البائع باليمين، وعلى ما كان الشيوخ يتأولون على رواية يحيى من جامع البيوع من العتبية وليس بتأويل صحيح، فيزيد ذلك في يمينه إن شاء، أو يقول ما اكتريت منه إلا إلى موضع كذا وكذا رجاء أن ينكل المكري عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وعلى هذا فقس أيمان المتبايعين والمتكاريين حيثما وجب التحالف والتفاسخ بينهما. فصل فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، ولا بد أن يحلف ههنا على المعنيين جميعا أو يجمعهما، إن شاء في لفظ واحد على ما تقدم. فصل واختلف إن حلفا جميعا هل يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أن الفسخ يقع بينهما بتمام التحالف وهو قول سحنون وظاهر

فصل

ما في كتاب الشفعة من المدونة؛ (والثاني) أنه لا يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف وهو مذهب ابن القاسم في السلم الثاني من المدونة، (والثالث) أن ذلك إن كان بحكم وقع الفسخ بتمام التحالف، وإن لم يكن بحكم لم يقع الفسخ إلا بتراضيهما عليه بعد الأيمان، (والرابع) أن ذلك إن كان بحكم من الحاكم لم يقع الفسخ حتى يحكم به الحاكم بينهما، وإن كانت أيمانهما دون حكم وقع الفسخ بتمام التحالف، بعكس القول الثالث، ووجه هذا القول أن رضاهما بالتحالف دون الحكم رضا منهما بالفسخ، وهذان القولان للمتأخرين من أصحابنا. فصل فإذا قلنا: إن البيع والكراء لا ينفسخ بينهما بتمام التحالف حتى يفسخه الحاكم بينهما، ففي ذلك اختلاف، قال في المدونة: إن للمبتاع أن يأخذ بما قال البائع، وظاهره: أن ليس للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وقال محمد بن عبد الحكم: إن للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، فظاهره أيضا أنه ليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما تكلم في المدونة على المبتاع وسكت عن البائع؛ وتكلم محمد بن عبد الحكم على البائع، وسكت عن المبتاع، فيجمع بين القولين بأن القول إن أراد المبتاع أن يأخذ بما قال البائع، لزم ذلك البائع، وإن أراد البائع أن يلزمها المبتاع بما قال، لزم ذلك المبتاع، وهذا هو الذي حملناه عن الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما يصح ذلك إذا كان اختلافهما في القلة والكثرة أو في غاية المسافة، وأما إن كان اختلافهما في الأنواع أو في جملة المسافة فلا يصح أن يحمل عليه إلا على أنه اختلاف من القول؛ إذ لا يصح أن يجمع بينهما في ذلك، فيكون على مذهب ابن القاسم للمكتري أن يركب إلى البلد الذي قال المكري إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يركب النوع الذي قال المكري إن كان اختلافهما في

فصل

الأنواع ويكون على مذهب محمد بن عبد الحكم للمكري أن يلزم المكتري الركوب إلى البلد الذي ادعى إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يلزمه الركوب بالنوع الذي ادعى إن كان اختلافهما في الأنواع. فصل واختلف أيضا إذا نكلا جميعا، فذهب ابن القاسم إلى أن ينزل نكولهما جميعا بمنزلة حلفهما جميعا، وهو قول شريح في كتاب الخيار من المدونة: إن حلفا ترادا، وإن نكلا ترادا، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا كان القول قول البائع، وحكى نحو ذلك عن مالك في مسألة الوكيل، هكذا أتت الرواية عنه مجملة دون تبيين، وذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى ذلك بعد أن يحلف، ووجه ما ذهب إليه أن اليمين التي نكل عنها إنما هي قوله: إني ما أكريت إلى مكان كذا وكذا، وما أكريت بكذا وكذا، وأما زيادته في يمينه ولقد أكريت إلى موضع كذا وكذا ولقد أكريت بكذا وكذا، فلم ينكل عنه إذ لم يجب عليه اليمين بذلك ولا كلف إياه، وإنما هو أمر طاع بالحلف عليه رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين على ما قدمناه. فوجب أن لا يعتبر بنكوله عن يمين لم تجب عليه، ولا يستحق بها ما حلف، ولا يصح أن يكون القول قول من نكل عن اليمين إذا ردها على صاحبه فنكل عنها، إلا إذا كانت يمينا واجبة عليه لو حلف بها لاستحق بيمينه ما حلف عليه، كمن أقام شاهدا على حقه فنكل عن اليمين، فردها على المدعى عليه فنكل عن اليمين، فإن المدعي يأخذ ما ادعى بلا يمين؛ لأنه لو حلف لأخذ ما ادعى بيمينه، أو كمن وجب له على المدعى عليه اليمين فنكل عنها فردها على المدعي فنكل عن اليمين، فإن المدعى عليه تسقط عنه الدعوى دون يمين؛ لأنه لو حلف لسقطت عنه يمينه، وأما من نكل عن يمين غير واجبة عليه، فلا يستحق بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه، أصل ذلك من ادعى على رجل دعوى فقال المدعى عليه للمدعي: أنا أبرئك باليمين احلف وخذ ما ادعيت، فقال المدعي: لا أحلف

فصل

قد رددت عليك اليمين، احلف أنت وابرأ، فقال: لا أحلف ونكل عن اليمين، لم يستحق المدعي ما نكل عنه، وهو لو حلف عليه لاستحق، إذ لم تجب عليه اليمين التي نكل عنها، فأحرى أن لا يستحق في مسألتنا بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه إذ ما نكل عنه لم يجب عليه، وإذ لو حلف عليه لما استحقه وهذا بين. فصل فإذا قلنا: معنى ما ذهب إليه ابن حبيب أن القول قول البائع مع يمينه، فهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن البائع إذا نكل أولا عن اليمين، فمن حجته أن يقول إذا نكل المبتاع، أنا أحلف لقد بعت سلعتي بكذا وكذا؛ لأنني في ذلك مدع على المبتاع، فلما نكل عن اليمين وجب لي أن أحلف وآخذ على حكم المدعي والمدعى عليه، ولو كان من حقي أن أحلف وآخذ ما حلفت عليه لم أنكل عن اليمين، فإن نكل البائع على هذا عن اليمين بعد نكول المبتاع حلف المبتاع وأخذ السلعة لما حلف عليه، وهذا كله بين؛ لأن البائع في التمثيل مدع على المبتاع أنه ابتاع بعشرة، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق العشرة، والمبتاع مدع على البائع أنه باع بثمانية، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق السلعة بثمانية، وكذلك على هذا إذا اختلف المتكاريان في عدد الكراء أو في نوعه وجملة المسافة، أو في غايتها فنكلا عن اليمين يكون القول قول المكري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكتري مع يمينه إلا في اختلافهما في جملة المسافة، فيأتي على هذا أنه إن نكل كل واحد منهما عن الحلف على تكذيب قول صاحبه، حلف كل واحد منهما على ما ادعى واستحقه على صاحبه، فلزم المكتري أن يمضي مع المكري إلى البلد الذي حلف عليه، ولزم المكري أن يمضي مع المكتري إلى البلد الذي حلف عليه أيضا، فلو قال قائل: إن معنى قول ابن القاسم إن نكلا ترادا، أما وإن كل واحد منهما نكل عن اليمين قبل نكول صاحبه، وبعد نكوله وأبى من اليمين جملة، لقلت له: ما أبعدت في التأويل، ولقد قلت قولا

فصل

وسطا نفيت به الاعتراض عن ابن القاسم والاختلاف بينه وبين ابن حبيب، وحمل الروايات على الاتفاق ما أمكن، أولى من حملها على الخلاف. لا سيما إذا كان في حملها على ظاهرها من الخلاف اعتراض على أحد القولين، كمسألتنا هذه. وأما من حمل قول ابن حبيب على ظاهره في أن القول قول البائع بلا يمين إذا نكلا عن اليمين يعد قوله مثل قول أهل العراق في القضاء بالنكول دون رد اليمين ولم يمكنه الجمع بين مذهبه ومذهب ابن القاسم، فالتأويل الأول أظهر، والله أعلم. فصل واختلف إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة وأتى أحدهما بأشبه مما أتى به صاحبه، هل يتحالفان ويتفاسخان، أو يكون القول قول من أتى منهما بالأشبه، فالمشهور من المذهب الصحيح من الأقوال أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولا ينظر في ذلك إلى الأشبه من غيره، وذهب ابن وهب إلى أن القول قول من أتى منهما بما يشبه، وقاله ابن حبيب في بعض مسائله، منها إذا ادعى أحدهما حلالا والآخر حراما، ومنها إذا اختلفا في صفة النقد، وقاله ابن القاسم في سماع عيسى في الكرى، يقول: أكريت منك إلى المدينة، ويقول المكتري: اكتريت منك إلى مكة، وذلك في أيام الحج، وقاله أيضا في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات في الذي يبيع الأرض وفيها الماء، فيقول: أنا بعت الأرض دون الماء بشرط وبيان، ويقول المبتاع: بل اشتريت الأرض بمائها، وأقام ذلك القاضي أبو الوليد الباجي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من كتاب الرواحل والدواب من المدونة، ولا يصح ما ذهب إليه من ذلك؛ لأن الذي في المدونة إنما هو مع الفوات. فصل فأما مسألة الكراء والأرض والماء والاختلاف في صفة النقد فيجري ذلك على الاختلاف، وأما مسألة الاختلاف في الحلال والحرام، ففيه تفصيل، وذلك

فصل

أن السلعة لا تخلو من أن تكون قائمة أو فائتة، فإن كانت قائمة وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، فإن القول قول من يدعي الصحة والحلال منهما، وإن كان اختلافهما يؤدي إلى اختلاف في الثمن والمثمون جرى ذلك على اختلافهم في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، فيكون القول قول مدعي الصحة على مذهب من يراعي دعوى الأشباه مع القيام، إلا أن يكون العرف الحرام، فيكون القول قول مدعي الحرام، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن القول قول من ادعى العرف منهما، فإن كان الناس يتعاملون بالحلال والحرام أحلفا وفسخ الأمر بينهما، فلم ير في هذه الرواية لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام، وبناها على مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، ويتحالفان ويتفاسخان على مذهب من لا يراعي دعوى الأشباه، كذا أتت الرواية أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والذي ينبغي أن يكون القول قول مدعي الفساد بائعا كان أو مبتاعا، فإن حلفا انفسخ البيع ولا معنى ليمين صاحبه؛ لأن البيع يفسخ حلف أو نكل إذا حلف مدعي الفساد فإن نكل، حلف مدعي الصحة وثبت البيع، وأما إن كانت السلعة قد فاتت وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، أو يؤدي إلى اختلاف في قلة الثمن وكثرته، أو في صفته دون نوعه، فإن القول قول مدعي الحلال منهما وإن كان اختلافهما في الأنواع، جرى ذلك على الاختلاف في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، هذا الذي يتحصل عندي في هذه المسألة على أصولهم. فصل وقد كنا ذكرنا في أول المسألة أن المتكاريين إذا اختلفا في جملة المسافة، أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل، ومضى القول في حكم التحالف والتفاسخ في ذلك، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في عدد الكراء قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه في

فصل

الرجوع عليهما تعد أو لم نقد إلا على مذهب أشهب الذي يرى التحالف والتفاسخ في القيام والفوات، فيتحالفان ويتفاسخان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد، وكذلك الحكم إذا اختلفا في صفة الكراء إلا ما حكيناه، عن ابن حبيب من مراعاة العرف في اختلافهما في صفة النقد، وقلنا: إن ذلك من قوله يأتي على مراعاة الأشباه مع القيام في موضع التحالف والتفاسخ، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في غاية المسافة قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه عليهما في الرجوع منه نقد أو لم ينقد على مذهب ابن القاسم، وقال غيره: إذا نقد فالقول قول المكري، وعلى قول أشهب يتحالفان ويتفاسحان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد. فصل وأما إن اختلفا في عدد الكراء أو في صفته بعد أن سارا من الطريق ما عليهما في الرجوع منه ضرر .. فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد أشبه ما قال المكري أو لم يشبه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكري - أشبه ما قال أو لم يشبه. وإن لم يشبه ما قال المكتري وأشبه ما قال المكري، كان القول قوله، وإن لم يشبه ما قال أيضا تحالفا وكان عليه كراء المثل ولم يفسخ الكراء لما عليهما من الضرر في الرجوع، وكذلك إن نكلا جميعا، وأما إن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالقول قول الحالف منهما مع يمينه، وإن لم يشبه كانت الراحلة بعينها أو لم تكن على مذهب ابن القاسم، وقال غيره في المدونة ليس الراحلة بعينها كالضمون يريد أن المضمون ينفسخ الكراء فيه بينهما إذا تحالفا ولا يلزمه أن يبلغه إلى المسافة بخلاف المعين. فصل وأما إن كان اختلافهما في غاية المسافة بعد الركوب الكثير بلغا إلى الغاية التي اتفقا عليها أو لم يبلغا وقبل النقد فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها)

فصل

أن يشبه قولهما جميعا أو يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكري دون المكتري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما جميعا، أو قول المكتري دون المكري، فإنهما يحلفان جميعا وينفسخ الكراء في الغاية التي اختلفا فيها ونقض الكراء على الجميع، فيكون للمكري منه ما ناب الغاية التي اتفقا عليها ويركب المكتري إليها إن كان اختلافهما قبل الوصول إليها، بخلاف المتكاريين في وجيبة كراء الدار، وكذلك الحكم إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، فإن كان المكتري هو الذي نكل عن اليمين، كان الكراء كله للمكري فيما أقر به من المسافة، وإن كان المكري هو الذي نكل، كان للمكتري الركوب إلى حيث ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في المسافة التي اختلفا فيها، ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، وكذلك الحكم أيضا إن نكلا جميعا؛ فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من دعواه بنكوله عن اليمين، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكري دون المكتري فالقول قوله مع يمينه على دعوى المكتري، فإن نكل المكري عن اليمين كان القول قول المكتري ويركب إلى حيث ادعى وإن لم يشبه؛ لأن المكري قد مكنه من ذلك بنكوله. فصل وأما إن كان اختلافهما في ذلك بعد النقد فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يشبه قولهما جميعا أو قول المكري الذي انتقد، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما أو قول المكري الذي انتقد، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل حلف المكتري وكان القول قوله في الركوب بما نقد إلى الغاية التي ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في

فصل

المسافة التي اختلفا فيها ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، فإن كان ذلك أكثر مما قبض وفاه المكتري الزيادة، وإن كان أقل مما قبض رد الزيادة، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الأخر، كان القول قول الحالف منهما، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فإنهما يتحالفان على مذهب ابن القاسم ويفض الكراء المنقود على المسافتين، فما ناب المسافة التي اتفقا عليها، كان للمكري، وما ناب المسافة التي اختلفا فيها صرفه المكري على المكتري، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما. فصل وعلى هذا فقس اختلافهما في الوجهين جميعا الكراء وغاية المسافة القول قول المكري أبدا في غاية المسافة أشبه أو لم يشبه على مذهب ابن القاسم. وفيما قبض من الكراء أنه إنما قبضه إلى الغاية التي يقر بها، والقول قول المكتري أنه لم يكتر إلا بكذا وكذا لما يقر به وفي أنه إنما اكتري به إلى الغاية التي يدعيها إن كان لم ينقدها ويفض الكراء على الغايتين جميعا عليه من ذلك ما ناب الغاية الأولى، ومن أتى منهما بما لا يشبه لم يصدق وكان القول قول صاحبه إن أتى بما يشبه إلا المكري في غاية المسافة على ما قدمناه، وإن أتيا جميعا بما لا يشبه حلفا وكان على المكتري كراء المثل في المسافة الأولى، وكذلك إن نكلا جميعا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما أشبه أو لم يشبه، ولا بد من ركوب المكتري إلى الغاية الأولى للضرر الداخل عليه في فسخ الكراء دونها في الطريق، ولو كان اختلافهما قبل الركوب أو بعد ركوب شيء يسير لا ضرر عليهما في الرجوع منه، تحالفا وانفسخ الكراء في الجميع، والله أعلم وبه التوفيق. فصل في الإقالة في الكراء وما يجوز منها مما لا يجوز. الإقالة في الكراء

فصل

المضمون كالإقالة في العروض المسلم فيها يعتبر الفساد فيها في وجهين: أحدهما: أن تنعقد الإقالة بمجردها على ما لا يجوز، والثاني: أن تكون الإقالة بمجردها لا مكروه فيها إلا أنك إذا أضفتها إلى الصفة الأولى، ظهر المكروه فيها، فاتهما على القصد إلى ذلك والعمل عليه، فمنعا من ذلك حماية للذرائع، وأما الكراء المعين، فاختلف في الإقالة فيه على قولين، أحدهما: أن ذلك كالسلم الثابت في الذمة يعتبر فيها الوجهان جميعا، والثاني: أن ذلك كالإقالة من العروض المعينات لا يعتبر فيها إلا انعقادها بمجردها على ما لا يجوز. فصل وبيان هذه الجملة: أن الرجل إذا اكترى كراء مضمونا ثم تقايل مع صاحبه على زيادة فلا يخلو ذلك من وجهين، أحدهما: أن تكون الزيادة من قبل المكتري، والثاني: أن تكون الزيادة من قبل المكري، فأما الوجه الأول، وهو أن تكون الزيادة من قبل المكتري، فإن ذلك ينقسم على قسمين، أحدهما: أن يكون ذلك قبل النقد، والثاني: أن يكون بعد النقد قبل الافتراق والغيبة على النقد أو بعده، إذ لا فرق في زيادة المكتري إذا نقد قبل أن يغيب المكري على النقد أو لا يغيب، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل، إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عرضا نقدا، فهذه ثلاث مسائل، أو تكون مؤجلة فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيأتي اثنا عشر سؤالا في زيادة المكتري، وكذلك تنقسم الزيادة من المكري إلى قسمين، إلا أن أحدهما أن يكون ذلك قبل النقد أو بعده وقبل الغيبة عليه، إذ لا فرق في زيادة المكري بين أن يكون لم ينقد أو قد انتقد ولم يغب على النقد، والثاني: أن يكون ذلك بعد النقد والغيبة عليه، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل أيضا على التقسيم المذكور في زيادة المكتري. فصل فإذا استقال المكتري المكري في الكراء المضمون قبل النقد بزيادة، فإن كانت الزيادة مؤجلة، فلا يجوز باتفاق؛ لأن الكراء تحول من الكراء الذي وجب له

فصل

على المكتري إلى الركوب الذي عليه وإلى الزيادة المؤجلة، فيدخله فسخ الدين في الدين إن كانت الزيادة عرضا، وإن كانت دنانير دخله عرض وذهب بذهب إلى أجل، وإن كانت دراهم، دخله الصرف المتأخر، وإن كانت الزيادة دنانير معجلة أو عروضا معجلة، جاز ذلك، وإن كانت الزيادة دراهم معجلة والكراء بدنانير، لم يجز ذلك على مذهب ابن القاسم، إلا أن يكون أقل من صرف دينار، وقيل: إن ذلك جائز وإن كان أكثر من صرف دينار، وذلك يأتي على مذهب من يجيز البيع والصرف ويرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وقيل: إن ذلك لا يجوز وإن كان أقل من صرف دينار وذلك يأتي على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، وهو قول أشهب وابن نافع، فيدخله الصرف المتأخر على مذهبهما، وذهب الفضل إلى أن الصرف المتأخر لا يدخله على مذهبهما، إلا أن يكون الكراء مؤجلا لم يحل، ولا فرق عندي في الكراء المضمون بين أن يحل أو لا يحل؛ لأنه وإن حل فلا يمكن المكتري قبضه إلا شيئا فشيئا، وذهب ابن لبابة إلى أن الإقالة في الكراء المضمون قبل النقد لا يجوز أصلا، وشبه ذلك بالإقالة من السلعة الغائبة قبل النقد. وقوله على قياس القول بأن انحلال الذمم بمنزلة انعقادها. فصل وإن كان استقاله بزيادة بعد النقد قبل أن يغيب عليه أو بعد أن غاب عليه وكانت الزيادة ذهبا، فلا تجوز إلا أن تكون مقاصة من الكراء الذي نقد على ما نص عليه في المدونة، وإن كانت دراهم فعلى الثلاثة الأقوال المتقدمة: الجواز، والمنع، والفرق بين أن تكون الدراهم أقل من صرف دينار أو أكثر. وإن كانت عروضا جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له والعرض الذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه، وذلك جائز، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة في استقالة المكتري بزيادة.

فصل

فصل وأما إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة ولم ينتقد أو انتقد ولم يغب على النقد، فذلك جائز، إن كانت الزيادة معجلة دنانير كانت أو دراهم أو عروضا؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له على المكري بالزيادة التي أخذها معجلة وبالكراء الذي استرجعه من المكري إن كان قد نقده إياه أو بسقوطه عن ذمته إن كان لم ينقده إياه، فلا وجه من المكروه في ذلك، وإن كانت الزيادة مؤجلة لم تجز على حال ودخله فسخ الدين في الدين. فصل وأما إن كان المكري هو المستقيل بزيادة بعد أن انتقد وغاب على النقد، فلا يجوز على حال كانت الزيادة معجلة أو مؤخرة ما كانت وتدخله الزيادة في السلف؛ لأنهما يتهمان على إظهار الكراء والإقالة ليجيزا بينهما السلف على الزيادة إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز إن كانت الزيادة نقدا، ولا يجوز إن كانت إلى أجل؛ لأنه يكون من الدين بالدين، ألا ترى أن المكتري تحول من الركوب الذي كان له على المكري في ذمته إلى زيادة مؤجلة، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة التي في استقالة المكري بزيادة. فصل قال في المدونة: وهذا خلاف البيوع، يريد أن الكراء المضمون بخلاف السلم الثابت في الذمة في جواز الإقالة في الكراء بعد الركوب والمنع منها في

فصل

السلم بعد قبض السلم بزيادة معجلة يزيدها المسلم إليه والمكري بعد أن انتقد وغاب على النقد خلاف مذهب أشهب في مساواته بين الوجهين، ويحتمل أن يريد أن الكراء المعين بخلاف بيع السلع المعينات في أن الإقالة بزيادة المكري بعد الغيبة على النقد لا تجوز كانت الزيادة معجلة أو مؤجلة، بخلاف الإقالة في السلع المعينات بعد الغيبة على الثمن بزيادة معجلة أو مؤجلة، وهذا على القول الذي حكم فيه للكراء المعين بحكم الكراء المضمون، ويحتمل أن يريد أن حكم الكراء المضمون الثابت في الذمة بخلاف البيع في السلع المعينات في أنه لا يجوز لمن أكرى كراء مضمونا أن يستقيل بعد النقد بزيادة معجلة ولا مؤجلة، إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز بزيادة معجلة، ويجوز لمن باع سلعة أن يستقيل بعد أن غاب على النقد بزيادة مؤخرة ومعجلة. فصل وأما إن كان الكراء في دابة معينة؛ فإن ذلك ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون الكراء مؤخرا بشرط أو عرف أو حكم. (والثاني) أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فأما الوجه الأول وهو أن يكون الكراء مؤخرا فإن ذلك ينقسم على وجهين، (أحدهما) أن يكون المكتري هو المستقيل بزيادة. (والثاني) أن يكون المكري هو المستقيل بزيادة، ففي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل على ما ذكرناه في الكراء المضمون. فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا، جاز ذلك نقدا ولم يجز إلى أجل، فإن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب لم يجز إلا إلى محل أجل الكراء على المقايضة ولا يجوز نقدا لأنه يدخله "ضع وتعجل"، ولا إلى أجل سوى

فصل

محل أجل الكراء، وإن كانت الزيادة دراهم لم يجز نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه يدخله الصرف المتأخر وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن من كان له دين على رجل، لا يجوز له أن يحوله في ركوب دابة بعينها؛ فلا تجوز الإقالة على حال؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري هي ركوب لا يتنجز قبضه، فيدخله فسخ الدين في الدين. فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا جاز إن كان معجلا ولم يجز إن كان مؤجلا؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب، يجوز إن كانت معجلة ولا يجوز إن كان مؤجلة؛ لأنه إن كانت معجلة فالمكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي عليه وإلى الذهب الذي يزيده إياها المكري معجلة، فلم يكن بذلك بأس، وإن كانت مؤجلة دخله فسخ الدين في الدين؛ لأن المكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي له عليه، وإلى الزيادة المؤجلة التي يزيده إياها، وهذا على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقاد، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم كانعقادها ولا يجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، فلا تجوز الإقالة بحال، وإن لم يزد أحدهما صاحبه شيئا؛ لأن كل واحد منهما يتحول بماله على صاحبه في شيء لا يتنجز قبضه.

فصل

فصل وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فإنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد، (والثاني) أن يكون قد نقد غاب على النقد أو لم يغب إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة، وإن كان البائع هو المستقيل بزيادة قلت فيه: إنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد. (والثاني) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وتتفرع هذه الأربعة الأقسام على أربعة وعشرين سؤالا على التفسير الذي قسمناه في الكراء المضمون وشرحنا وجوهه، فما كان منها لا يجوز بفسخ الكراء في زيادة مؤجلة يزيدها المكتري للمكري فلا يجوز أيضا في الكراء المعين، كذلك ما كان منها لا يجوز بفسخ الركوب المضمون في زيادة مؤجلة يزيدها المكري للمكتري قبل النقد، وما كان منها لا يجوز لزيادة يزيدها المكري للمكتري معجلة أو مؤجلة بعد الغيبة على النقد، فيتخرج ذلك على قولين على ما أصلناه في أول الباب وأحكمنا القول فيه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل وحكم الإقالة في كراء الدار كحكم الإقالة في كراء الراحلة المعينة في جميع الوجوه حاشا وجه واحد سأذكره إن شاء الله، فإذا اكترى الرجل الدار ثم استقال منها أو أقال بزيادة ما كانت وممن كانت، فعلى القول بأن كراء الدار كالسلم الثابت في الذمة المضمون، لاقتضاء المنافع شيئا شيئا يعتبر الفساد في ذلك باجتماع الصفقتين من طريق التهمة حماية للذرائع كبيوع الآجال، وفي الإقالة بمجردها، وعلى القول: إن ذلك كالسلع المعينات لا يعتبر الفساد في ذلك إلا في الإقالة بمجردها أن تنعقد على ما لا يجوز من فسخ الدين في الدين، أو الصرف المتأخر أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيوع، وبيان هذه الجملة، أن الرجل إذا اكترى الدار

ثم تقابل مع صاحبه على زيادة، فلا تخلو الزيادة أن تكون من المكتري أو من المكري، فإن كانت من المكتري فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون الكراء بنقد ولم ينقد. (والثالث) أن يكون بنقد وقد نقد غاب على النقد أو لم يغب ذلك سواء، وفي كل وجه من هذه الأوجه الثلاثة ست مسائل؛ إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عروضا معجلة، فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيتحصل في زيادة المكتري على هذا التفريع ثماني عشرة مسألة، وفي زيادة الكري مثلها أيضا؛ لأن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون بنقد فلم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد، (والثالث) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وفي كل وجه منها ست مسائل أيضا على حسبما ذكرناه في زيادة المكتري فأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجلا بدنانير فلا يجوز أن يزيده دنانير نقدا، ولا إلى دون الأجل؛ لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه بيع وسلف، ويجوز إلى أجل على المقاصة، ولا يجوز أن يزيده دراهم نقدا ولا إلى أجل، ويجوز أن يزيده عروضا نقدا لا إلى أجل، وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وأما على مذهب من يرى انحلالها كانعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن كان له دين على رجل، لا يجوز أن يحوله في كراء دار، فلا تجوز له الإقالة على حال عنده؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري إلى كراء دار، فيدخله فسخ الدين في الدين ويجوز أن يزيده دنانير، وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا والكراء بنقد ولم ينقد، فلا يجوز أن يزيده شيئا إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، ويجوز أن يزيده دنانير معجلة أو عروضا معجلة على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن زاده دراهم نقدا تخرج ذلك على ثلاثة أقوال، قد ذكرناها في استقالة المكتري في الكراء المضمون؛ وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا وقد نقد الكراء فإن زاده ذهبا لم يجز إلا أن تكون مقاصة من الكراء، وإن زاده دراهم تخرج ذلك أيضا على

فصل

ثلاثة أقوال، وإن زاده عروضا، جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له بالذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه وذلك جائز، وأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجل، فإن كانت الزيادة معجلة جاز ذلك كانت دنانير أو دراهم أو عروضا على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن كانت مؤجلة لم يجز على حال ويدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كان الكراء نقدا ولم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد يجوز أن تكون الزيادة معجلة ما كانت على حال، ولا يجوز أن تكون مؤجلة وأما إن كانت الزيادة من المكتري بعد أن انتقد وغاب على النقد، فعلى القول بأن الكراء في الإقالة كالسلم الثابت في الذمة لا يجوز ذلك ما كانت الزيادة على حال، وإن كان قد مضى بعض المدة بخلاف كراء الدابة، إذا كان قد سار من المسافة ما تسقط التهمة به، وعلى القول بأنه كالسلع المعينات يجوز إن كانت الزيادة معجلة، ولا يجوز إن كانت مؤجلة. فصل وحكم الإقالة في كراء الأرض كحكم الإقالة في كراء الدار، إلا أن تكون غير مأمونة، فإن تقايلا فيها والزيادة من المكري في الموضع الذي تصح فيه الإقالة على أن الزيادة منه لم يجز أن ينقد الزيادة وتكون موقوفة عينا كانت أو عرضا إلا أن تكون الأرض مأمونة؛ لأن المكري يحصل في الإقالة مكتريا، فإن لم ترو الأرض انفسخ الكراء الأول ولم تصح الزيادة. فصل فتنحصر مسائل الإقالة في الكراء إلى ستين مسألة تنتهي إليها لا تزيد عليها: أربعة وعشرون في الكراء المضمون، وست وثلاثون في الكراء المعين على ما بان بما قسمناه ولخصنا القول فيه وأحكمناه، وبالله التوفيق.

كتاب كراء الدور

كتاب كراء الدور الكراء: اشتراء المنافع، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما يحرم البيوع، ولا يجوز فيه الغرر والمجهول. والكراء في الدور والرباع جائز عند جميع العلماء بجميع الأثمان المعلومة، وهو يكون على وجهين، أحدهما: أن يعقده المتكاريان لمدة معينة معلومة، والثاني: أن يسميا الكراء ويتفقا عليه ولا يتواجبان على مدة معينة معلومة. فصل فأما الوجه الأول، وهو أن يعقد الكراء لمدة معينة معلومة، فإن ذلك جائز بالنقد وإلى أجل قبض الدار أو لم يقبضها إلى سنة، قال ابن حبيب: أو سنتين كالبيع؛ لأن الدور مأمونة، فإن بعد الأجل فوق ذلك، لم يكن بالكراء بأس دون نقد. فصل فإذا عقد الكراء لمدة معينة معلومة لزمهما جميعا ولم يكن للمكتري أن

فصل

يخرج، ولا لصاحب الدار أن يخرجه قبل تمام المدة، إلا أن يشترط المكتري أن يخرج متى شاء فيجوز ذلك ما لم ينقد بشرط ولا طواعية؛ لأنه كراء الخيار فلا يجوز فيه النقد بشرط ولا طواعية. فصل وهذه المدة تتعين بأربعة ألفاظ، (أحدها) أن يقول: أكري منك هذه الدار أو هذا الحانوت شهر كذا أو سنة كذا، (والثاني) أن يقول: أكري منك ذلك هذا الشهر أو هذه السنة، فإن قال: هذا الشهر وكان ذلك أول الهلال، لزمهما الكراء في ذلك الشهر على الهلال كل تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما، وإن كان ذلك في بعض الشهر لزمهما الكراء في ثلاثين يوما من يوم عقداه بقران بقية أيام هذا الشهر ثم يكملان عليهما تمام ثلاثين يوما من الشهر الذي يليه، وكذلك إن قال: هذه السنة وهما في أول الشهر لزمهما الكراء في اثني عشر شهرا متصلة على الأهلة كان ذلك في أول شهر المحرم أو غيره من الشهور، ولا يقع الكراء على ما بقي من السنة، إذا قال: أكري منك هذه السنة كل شهر بكذا وكذا وقد مضى بعضها إلا ببيان، يبين ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الصيام فيمن قال: لله علي صيام هذه السنة لسنة ست وثمانين، وقد مضى بعضها، أن عليه صيام اثني عشر شهرا، وروايته عنه في كتاب الأيمان بالطلاق فيمن قال: امرأته طالق ثلاثا، إن فعلت كذا وكذا هذه السنة، أنه إن كان قد نوى ما بقي من السنة فله نيته، وإن لم ينو شيئا فليستقبل اثني عشر شهرا من يوم حلف. وإن كان ذلك في بعض شهر، عد بقية أيام هذا الشهر ثم إحدى عشر شهرا على الأهلة، ثم أكمل على ما كان بقي من الشهر تمام ثلاثين يوما، هذا قولهم في الكراء والأيمان والعدد التي تكون

فصل

بالشهور والأيام، واستحب ابن القاسم في العدد والأيمان، إن كان قد مضى بعض يوم أن يلغي ذلك اليوم، واختلف فيه قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكان قوله أولا أن تعتد المرأة من الساعة التي توفي فيها زوجها، إلى مثلها فتنقضي عدتها، ثم قال بعد ذلك بإلغاء بقية ذلك اليوم، واختلاف قوله داخل في الكراء أيضا، فعلى قوله الأول يلزم المتكاريين الكراء من الساعة التي عقدا فيها الكراء إلى مثلها من الشهر أو من السنة، وعلى قوله الذي رجع إليه لا يلزم المتكاريين الكراء إذا عقداه وقد مضى من النهار بعضه إلا بغروب الشمس؛ لأن الليلة أول اليوم وهي مقدمة على النهار، (والثالث) أن يقول: أكري منك هذه الدار شهرا أو سنة، فإن السنة أو الشهر متعينان من يوم عقد الكراء بمنزلة قوله هذا الشهر أو هذه السنة، سواء على التفسير الذي قدمناه في ذلك مما يعد بالأيام أو يكون على الأهلة، إلا في وجه واحد، فإنه فرق في كتاب ابن المواز فيه بينهما، فقال: إنه إذا قال أكريك شهرا بكذا فسكن شهرا ودخل في ثان فخرج قبل تمامه، فعليه بحساب ما أكرى ولو كان بعينه، لكان عليه في الثاني كراء المثل، وقيل: إن كان أقل لم ينقض، وإن كان كراء المثل أكثر، حلف وأخذه على اختلاف في اليمين؛ لأنها يمين تهمة. (والرابع) أن يقول أكتري منك إلى وقت كذا وكذا. فصل فإذا انعقد الكراء لمدة معينة بأحد هذه الألفاظ، لزمهما جميعا ولم يكن لأحدهما الخروج إلا أن يشترطه على صاحبه ولا ينقد فيجوز على ما قدمناه. فصل فأما الوجه الثاني وهو أن يتفقا على الكراء ويسمياه دون أن يتواجبا على مدة

فصل

يعينانها، فذلك مثل أن يقول: أكري منك الشهر بكذا أو السنة بكذا أو في كل شهر بكذا أو في كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، أو في الشهر بكذا أو في السنة بكذا، فإنه إذا وقع الكراء على هذا كان للمكتري أن يخرج متى شاء وللمكري أن يخرجه متى شاء، كان ذلك في أول الشهر أو آخره أو وسطه، ويؤدي من الكراء بحسبما سكن ولا يلزم واحدا منهما الكراء في الشهر الأول ولا فيما بعده إلا أن يقع فيها بينهما شرط أن لا يخرج أو لا يخرجه أو يعجل الكراء، فهو كالاشتراط قاله ابن حبيب، وهو مذهب ابن القاسم، وذهب ابن الماجشون إلى أنه يلزمه الكراء في الشهر الأول إذا قال: الشهر بكذا أو في كل شهر بكذا، وكذلك على مذهبه للسنة الأولى إذا قال: السنة بكذا أو في كل سنة بكذا، وروى ابن أبي أويس عن مالك في البيوت التي تكرى شهرا بشهر فيخرج قبل ذلك أن كراء ذلك الشهر عليه وإنما يكون عليه بحساب ما سكن إذا تكارى كل يوم بدرهم. فصل ففي كراء الدور مشاهرة على هذا ثلاثة أقوال، أحدها: قول ابن القاسم: إنه لا يلزمه الشهر الأول ولا ما بعده وله أن يخرج متى شاء ويلزمه من الكراء بحساب ما سكن، والثاني: قول ابن الماجشون: إنه يلزمه الشهر الأول ولا يلزمه ما بعده، والثالث: رواية ابن أبي أويس عن مالك أنه يلزم كراء الشهر بسكنى بعضه كان أول الشهر أو لم يكن، وكذلك الثلاثة الأقوال داخلة في كراء الدور مساناة مثل أن يقول: السنة بكذا، أو في كل سنة بكذا أو ما أشبه ذلك لا يلزمهما الكراء في أول سنة ولا فيما بعدها على مذهب ابن القاسم ويلزمهما الكراء في أول سنة على مذهب ابن الماجشون لا فيما بعدها ويلزمهما الكراء في كل سنة بسكنى بعضها على رواية ابن أبي أويس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فتدبر ذلك.

فصل

فصل ويجوز الكراء في الدور السنين ذوات العدد، والحد في ذلك ما لا تتغير الدار إلى مثله، وذلك يختلف باختلاف إتقان بنيانها، فإن اكتراها من المدة إلى ما لا يؤمن تغير الدار فيها، جاز العقد ولم يجز النقد ولا ينفسخ الكراء المنعقد لمدة معينة بفوت أحد المتكاريين، وقد اختلف؛ هل يحل الكراء المؤجل على المكتري بموته إذا مات قبل استيفاء السكنى أو لا؟ على قولين للمتأخرين جاريين على أصل مختلف فيه بين المتقدمين من أصحاب مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، وإنما ينتقض الكراء بين المتكاريين باستحقاق الدار أو استحقاق منافعها المكتراة، أو انهدام جميع بنيانها، فإن انهدم بعض بنيانها، ففي ذلك تفصيل وتقسيم، وهو أن الهدم في الدار المكتراة ينقسم على قسمين: (أحدهما) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن يكون كثيرا، فأما إن كان يسيرا فإنه على ثلاثة أوجه: (أحدها) أن يكون لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من قيمة كراء الدار شيئا كالشرفات ونحوها، فهذا لا خلاف فيه أن الكراء للمكتري لازم ولا يحط عنه منه شيء (والثاني) أن يكون لا مضرة فيه على الساكن إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار، فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما حط ذلك من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار ولا يلزمه إصلاحه، فإن سكت وسكن لم يكن له شيء. (والثالث) أن يكون فيه مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئا يلزمه الإصلاح كالعطل وشبهه، فهذا اختلف فيه على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن رب الدار لا يلزمه الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى كان المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء. (والثاني) قول غيره: إن رب الدار يلزمه الإصلاح، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء، وأما إن كان الهدم

فصل

كثيرا فلا يلزم رب الدار الإصلاح بإجماع وهو أيضا على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء ولا يبطل شيئا من المنافع، مثل: أن تكون الدار مبلطة مجصصة فيذهب بتبليطها وتجصيصها، فهذا يكون المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج إلا أن يصلح ذلك رب الدار، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف مذهبه في رواية عيسى عنه، وقد قيل: إن الحكم في هذا الوجه كالبيت ينهدم من الدار ذات البيوت وهو بعيد. (والثاني) أن يبطل اليسير من منافع الدار كالبيت ينهدم منها شيء وهي ذات بيوت، فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما ناب البيت المنهدم من الكراء. (الثالث) أن يبطل أكثر منافع الدار أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو يكشفها بانهدام حائطها وما أشبه ذلك، فهذا يكون المكتري فيه مخيرا بين أن يسكن بجميع الكراء، أو يخرج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء، لم يكن ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب الدار، فإن رضي بذلك جرى جوازه على الاختلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، فإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء ولم يكن له أن يخرج وإن بناها بعد أن خرج، لم يكن عليه الرجوع إليها إلا أن يشاء وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف رواية عيسى عنه في العتبية. فصل ويجوز أن يكري الرجل داره من مسلم ونصراني إلا أنه إذا أكراها من نصراني فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكريها منه على أن يسكنها أو يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال. (والثاني) أن يكريها منه على أن يبيع فيها خمرا أو

ما لا يجوز من الحرام. (والثالث) أن يكريها منه كراء مبهما، فأما إذا أكراها منه على أن يسكنها أو يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال، فالكراء جائز، فإن صرفها المكتري إلى بيع الخمر وما أشبه ذلك من الحرام، فلم يمنعه من ذلك، تصدق بجميع الكراء قاله ابن حبيب، قال بعض المتأخرين: وهذا إن كان أكراه ليسكن؛ لأن السكنى في الدار خلاف بيع الخمر فيها، فإذا لم يمنعه، فكأنه فسخ الأول في الثاني ولو كان أكراه ليبيع فيها الأشربة الحلال، فباع فيها الخمر والحرام فلم يمنعه من ذلك لما وجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يباع فيها الخمر على الكراء الذي كان أكراها به؛ وهذه تفرقة لا وجه لها، كأنه أيضا قد فسخ الأول في الثاني، وإن كان يشبهه في أنه بيع شراب، فالصواب أنه إذا علم فلم يمنعه تصدق بجميع الكراء، وإذا لم يعلم تصدق بما بين الكراءين من غير تفصيل بين أن يكون أكرى منه للسكنى أو لبيع الأشربة الحلال، ولا اختلاف إذا لم يعلم ببيعه فيها الخمر، في أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يباع فيها الخمر على الكراء الذي أكراها به، كان أكراها لبيع الأشربة الحلال أو للسكنى، وأما إن كان أكراها منه على أن يبيع فيها خمرا، وما أشبه ذلك، فالكراء فاسد يفسخ إن عثر عليه قبل السكنى، فإن لم يعثر عليه حتى فات بانقضاء أمد الكراء تصدق بجميع الكراء على المساكين كان أقل من القيمة أو أكثر، قيل: لأنه لا يحل للمكري كثمن الخمر، وقيل: أدبا له لا من أجل أنه حرام كعين الخمر، وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب السلطان أن الثمن يترك له ولا يتصدق به؛ لأنه قال فيه: فإن فات مضى، إلا أن يريد بقوله: يمضي إذا فات أنه لا يرد إلى القيمة بعد الفوات، وذلك محتمل، وإن لم يبع المكتري فيه خمرا وصرفه للسكنى أو لسائر الأشياء المباحة في الكراء، فقال ابن حبيب: يسوغ الكراء للمكري إلا أن يكون يزيد في كرائها لبيع الخمر على كرائها لغير الخمر، فيتصدق بالزيادة،

فصل

والقياس أن يكون فيه القيمة على ما صرفها إليه بالغة ما بلغت سائغة للمكري؛ لأن العقد كان فاسدا، فيصحح بالقيمة إذا فات بصرفها إلى وجه مباح، وأما إذا كان أكراها منه كراء مبهما، فقال ابن حبيب: ذلك جائز، وإن علم أنه يبيع فيها خمرا، وله أن يمنعه من ذلك، وقال ابن القاسم في المدونة: الكراء فاسد إن علم أنه يبيع فيها خمرا، وقد تقدم الحكم فيه واتفقا في العنب أنه لا يجوز أن يبيعها ممن يعلم أنه يعصرها خمرا، والفرق بينهما عند ابن حبيب أن العنب يغيب المبتاع عليه فلا يقدر البائع على منعه من عصره بخلاف بيع الخمر في داره، واختلف إذا وقع فقيل يفسخ فيه البيع وقيل يباع على المبتاع والله أعلم. فصل واختلف في كراء بيوت مكة؛ فكان سفيان الثوري لا يرى أن تكرى ولا يرى على من سكنها بأسا أن يمسك الكراء، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه؛ لأنهم ذهبوا إلى أن مكة فتحت عنوة، وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها مؤمنة والأمان كالصلح، فرأى أهلها مالكين لرباعهم، وأجاز بيعها وكراءها، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنه افتتحت عنوة، فقيل: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من على أهلها بها. فلم تقسم ولا سبى أهلها لما عظم الله من حرمتها، وقيل: إنها أقرت للمسلمين، وعلى هذا يأتي اختلافهم في جواز كرائها، فالظاهر من مذهب ابن القاسم في المدونة إجازة ذلك، والظاهر من قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج المنع في ذلك، وحكى الداودي عنه أنه كره كراءها في أيام الموسم، وقال اللخمي: اختلف قوله في كراء دور مكة وبيعها؛ فمنع من ذلك مرة، وحكى أبو جعفر الأبهري عنه أنه كره بيعها وكراءها، فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ

ذلك؛ فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات: الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة، وقد روي عن عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها» وروى ابن عباس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مكة كلها مباح لا تباع رباعها ولا تؤجر بيوتها» ". وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

كتاب كراء الأرضين

كتاب كراء الأرضين قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، وقال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، وقال تبارك وتعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، ومثل هذا في القرآن كثير. فصل فلما كان النبات الذي يخرج من الأرض وينبت فيها ليس بمقدرة آدمي، ولا

فصل

لزارعه فيه عمل ولا كسب، وإنما الله تبارك وتعالى هو الذي يخرجه من الأرض وينبته فيها، وينقله بقدرته من حال إلى حال حتى يصير إلى حد الانتفاع به رحمة منه تعالى بعباده؛ لم يجز لذلك كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يؤكل، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها؛ لأنه إن كان الذي أكري به طعاما، فإنما أعطى المكتري صاحب الأرض طعاما على أن يأخذ ما ينبته الله تعالى في أرضه من الطعام بعلاجه وعمله، فيدخله الطعام بالطعام إلى أجل مع التفاضل فيما لا يصح فيه التفاضل؛ وبيع الغرر والمزابنة، وهي المحاقلة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وإن لم يكن طعاما وكان مثل الكتان والقطن وما أشبه ذلك، دخلته المزابنة، وكان ذلك من المخابرة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنها مأخوذة من الخبر وهو حرث الأرض، فالمخابرة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها. وجاز بما سوى ذلك من الدنانير والدراهم والعروض والحيوان المعينة والموصوفة. هذا هو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه. فصل وقد اختلف أهل العلم في كراء الأرض اختلافا كثيرا لتعارض ظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك. من ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، روي ذلك عنه من رواية رافع بن خديج بألفاظ مختلفة، وروي عنه من رواية «جابر بن عبد الله أنه قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من كانت له

أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها». ولم يختلف عن جابر في هذا، واختلف فيه عن رافع بن خديج اختلافا كثيرا: فروي عنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه أو ليدعها»، كنحو حديث جابر؛ وروي عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام». فدليل هذا إجازة كرائها بما عدا الطعام من الأثمان المعلومة؛ وروي عنه، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، أو رجل استكرى بذهب أو فضة». فظاهر هذا أن كراءها لا يجوز إلا بالذهب والفضة. ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمخابرة وهي كراء الأرض بالطعام وبما يخرج منها ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزارعة، وهي كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، وإعطاؤه يهود خيبر الأرض والنخل على أن يعملوها ويزرعوها على شطر ما يخرج منها، معارض في الظاهر لنهيه عن المزارعة، فقالت طائفة منهم: لا يجوز كراء الأرض أصلا بذهب ولا فضة ولا بشيء من الأشياء؛ لأنهم حملوا ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من النهي عن كراء المزارع على العموم واطرحوا ما خالف ظاهره من الآثار، وهو مذهب طاوس، وإليه ذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بآخرة روي عنه أنه كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان يحدث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كراء المزارع فترك كراءها» وهذا يبعد في النظر لأن الخاص يقضي

على العام. فما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كراء الأرض بالدنانير والدراهم يخصص عموم نهيه عن كراء المزارع؛ وقال آخرون: لا يجوز كراء الأرض إلا بالدنانير والدراهم خاصة، واحتجوا بما «روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية رافع بن خديج أنه قال: " إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل استكرى بذهب أو فضة»، وقالوا: لا يجوز أن يتعدى هذا الحديث لما فيه من البيان، وليس كما قالوا؛ لأن البيان في الحديث إنما هو في إجازة كراء الأرض بالذهب والفضة، وأما في المنع من كرائها بكل ما عدا ذلك فلا؛ لأن لفظة "إنما" لا ترد إلا على سبب، فهي تنفي الحكم عن السبب الذي وردت من أجله وتحققه في المنصوص عليه، ولا تدل على نفيه عما سواه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن اعتق»، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله هذا أن يكون الولاء لمن باع، واشترط الولاء على المشتري المعتق؛ لأن ذلك كان سببه وحقق به أن الولاء للمعتق، ولم يكن في قوله بيان أن غير المعتق لا ولاء له؛ ألا ترى أن الولاء يكون لولد المعتق وعصبته وإن كانوا غير معتقين. ومثل ذلك أيضا قولهم: إنما النبي محمد، وإنما الكريم يوسف، وإنما الشجاع عمرو، فلا ينفي ذلك النبوة عن غير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا الكرم عن غير يوسف، ولا الشجاعة عن غير عمرو؛ وإنما تحقق ذلك لهم وتنفيه عمن كان سببا لوروده، فكذلك مسألتنا. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل شيء إذا كان معلوما عدا الطعام، وحجتهم ما روى رافع بن خديج عن

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام». وهذا أيضا لا يصح في النظر؛ لأنهم أجازوا كراء الأرض بما يخرج منها من غير الطعام، وقد ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن المخابرة» وهي كراء الأرض بما يخرج منها؛ لأنه يدخله ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المزابنة والغرر؛ لأنه إذا أكرى الأرض بكتان أو قطن فقد أعطى الكتان أو القطن فيما تخرج له الأرض من ذلك، وذلك الغرر والمزابنة التي لا تجوز. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام وكل شيء إذا كان معلوما، وإنما لا يجوز الجزء مما يخرج منها؛ لأنه غرر، فهي المزارعة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهذا هو مذهب الشافعي، وهو ظاهر قول مالك في كتاب المساقاة من الموطأ؛ لأنه قال فيه: ولا ينبغي أن يساقي الأرض البيضاء وذلك أنه يحل لصاحبها كراؤها بالدنانير والدراهم وما أشبه ذلك من الأثمان المعلومة، إلا أن ذلك ليس بمعلوم من مذهبه، وحجة من ذهب إلى هذا ما روي «عن رافع بن خديج أنه سئل عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس بذلك، إنما كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرون الأرض بما على الماذيانات وأقبال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلذلك زجر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " فأما شيء مضمون معلوم فلا». وقد روي مثل هذا القول عن الليث بن سعد، وهو غير صحيح أيضا «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المحاقلة والمخابرة»: وهو استكراء الأرض بالحنطة وبما يخرج منها كان طعاما أو لم يكن. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام والجزء مما يخرج منها، وحجتهم في إجازة كراء الأرض بالجزء

مما يخرج منها، إعطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود خيبر الأرض والنخل على شطر ما يخرج من ذلك، وتأولوا في المحاقلة أنها اشتراء الزرع بالحنطة وذلك لا يصح؛ لأن النص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ورد من رواية رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع والطعام، وحديث المساقاة يمكن تأويله على ما تأوله عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن الأرض كانت يسيرة بين أضعاف السواد. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، ولا يجوز بشيء مضمون مما يخرج منها، وهو مذهب الليث بن سعد. وحجة هؤلاء «حديث ابن عمر في إعطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود خيبر النخل والأرض على أن يعملوها ويزرعوها بشطر ما يخرج منها» وقالوا: إنه حديث صحيح أصح من أحاديث رافع بن خديج؛ لأنها مضطربة المتون؛ وقال ابن نافع من أصحاب مالك: لا تكرى الأرض بقمح ولا شعير ولا سلت، وتكرى بما سوى ذلك على أن يزرع فيها خلاف ما تستكرى به. وقال ابن كنانة: يجوز أن تكرى الأرض بكل شيء إذا زرع فيها لم ينبت، واختاره عيسى بن دينار، وذلك كله معترض؛ فالقول في هذه المسألة ما قدمناه عن مالك وجمهور أصحابه أن كراء الأرض لا يجوز بشيء مما يخرج منها وينبت فيها - كان طعاما أو لم يكن، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، وهي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها مما يزرع فيها، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة، وهي استكراء الأرض بالحنطة، وكذلك جميع الطعام لأنه في معنى الحنطة، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نصا من رواية رافع بن خديج أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام». ويجوز مما عدا هذين الوجهين من الدنانير والدراهم والعروض المعينة المعلومة والثابتة في الذمة الموصوفة؛ لأن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن كراء المزارع ليس على عمومه؛ لأنه خرج على سبب النهي، فهو مقصور على سببه، وذلك أن الناس كانوا على عهد

فصل

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرون المزارع بالثلث والربع وبما على الماذيانات وأقبال الجداول، فخرج نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع على ذلك فقصر عليه، وقيل في سبب النهي غير ذلك: «روي عن زيد بن ثابت أنه قال: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان هذا شانكم فلا تكروا المزارع». فسمع رافع قوله: لا تكروا المزارع، فحدث به. فصل وقد اختلف أهل العلم في اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب، هل يقصر على سببه أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر أن يحمل على عمومه ولا يقصر على سببه؛ لأن الحجة إنما هي في قول صاحب الشرع ليس في السبب؛ لأن السبب لو انفرد لم تكن فيه حجة؛ ولو انفرد لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجبت به الحجة؛ وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، فالأصح فيه أن يقصر على سببه ولا يحمل على عمومه، إذ قد خص بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل أكرى بذهب أو ورق». وقد قال جماعة من أهل العلم: إن اللفظ العام إذا خص منه شيء عاد مجملا. وسقط الاحتجاج بعمومه وإن كان ليس هذا بمذهب مالك ولا أصحابه، فإنه يؤيد قصر النهي على سببه، وقد حكى أبو بكر الأبهري في كتابه أن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقصر اللفظ العام الوارد على سببه ولا يحمل على عمومه. فصل فإذا قصر نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، على كرائها بالثلث والربع والماذيانات وأقبال الجداول لم يمنع مانع من كرائها بالدنانير والدراهم والعروض التي لا تنبتها الأرض مع النص الوارد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كرائها

فصل

بالدنانير والدراهم، ولو لم يقصر النهي على سببه وحمل على عمومه فيما بعد الدنانير والدراهم المخصوصة منه بالنص عليها، لخصصت العروض التي لا تنبت الأرض منه أيضا بالقياس على الدنانير والدراهم لأن القياس على الخصوص جائز يخصص به العموم، ومثل هذا قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]؛ فكان هذا عاما في كل زان وزانية، كانا حرين أو عبدين، ثم خص من ذلك الإماء بقوله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. ثم خص من ذلك العبيد بالقياس على الإماء بعلة الرق الجامعة بينهما؛ فكذلك ما عاد إلى مسألتنا؛ فإن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع عام خص من ذلك الكراء بالدنانير والدراهم بالنص، ثم خص من ذلك الكراء بالعروض التي لا تنبتها الأرض بالقياس على الدنانير والدراهم، بالعلة الجامعة بينهما، وهي أن الكراء بالعروض المعلومة التي لا تنبتها الأرض كراء بثمن معلوم لا غرر فيه ولا مزابنة ولا محاقلة ولا مخابرة، فجاز أصله الكراء بالدنانير والدراهم. فصل فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كراء الأرض أصح أقاويل أهل العلم في ذلك؛ لأنه استعمل الأحاديث المروية عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الباب، ولم يحمل شيئا منها على التعارض، بل جعل بعضها مركبة على بعض ومبينة لها، ولم يطرح شيئا منها، واستعمال الآثار عند أهل العلم أولى من طرحها ما أمكن ذلك ووجد السبيل إليه.

فصل في حد جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه

فصل في حد جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه اعلم أن الأرضين تنقسم على ثلاثة أصناف: أرض نيل، وأرض مطر، وأرض تسقى بالأنهار والعيون والآبار. فصل والكلام في حكم هذه الأرضين على ثلاثة أوجه: أحدها: جواز عقد الكراء فيها. والثاني: جواز النقد فيها. والثالث: وجوب النقد فيها. فأما جواز عقد الكراء فيها، فإنه جائز على مذهب ابن القاسم في المدونة فيها كلها من غير تفصيل، كانت مأمونة أو غير مأمونة للسنين الكثيرة. وتنقسم في جواز النقد فيها - عنده - على قسمين: مأمونة، وغير مأمونة، فما كان منها مأمونا كأرض النيل وأرض المطر المأمونة وأرض السقي بالأنهار والعيون الثابتة والآبار المعينة، فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى وتمكن من الحرث، كانت في أرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون والآبار، وتنقسم في وجوب النقد فيها على قسمين: أحدهما: أرض النيل، والثاني؛ أرض السقي والمطر؛ فأما أرض النيل فيجب النقد فيها عنده إذا رويت؛ لأنها لا تحتاج إلى السقي فيما يستقبل، فبالري يكون المكتري قابضا لما اكترى، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري فيها دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وكذلك إن كانت أرضا تزرع

بطونا فلا يلزمه نقد الكراء في البطن حتى تسلم وتستغني عن الماء، ووافق ابن الماجشون ابن القاسم على مذهبه في أرض النيل أن النقد يجب فيها إذا رويت، وفي أرض المطر وأرض السقي غير المأمون أن النقد لا يجب فيها حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وخالفه في أرض السقي إذا كان مأمونا فجعله مثل أرض النيل يجب الكراء فيه نقدا، إذا رويت؛ فأرض النيل لا اختلاف في وجوب الكراء فيها بالري وأرض المطر، والسقي غير المأمون لا اختلاف أن الكراء لا يجب فيها حتى يسلم الزرع ويستغني عن الماء، واختلف في أرض السقي المأمون فجعله ابن الماجشون كأرض النيل، وجعله ابن القاسم كأرض المطر والسقي غير المأمون؛ وتنقسم الأرضون على مذهب ابن الماجشون في جواز عقد الكراء فيها والنقد على أربعة أقسام: أحدها: أرض النيل المأمونة. والثاني: أرض السقي بالأنهار والآبار. والثالث: أرض السقي بالعيون. والرابع: أرض المطر. فأما أرض النيل المأمونة فيجوز الكراء فيها للأعوام الكثيرة بالنقد وبغير النقد - قرب إبان شربها وريها - هذا قوله في المدونة. فأما أرض السقي بالأنهار والآبار، فيجوز الكراء فيها للعشرة الأعوام لا أكثر، والنقد فيها على مذهبه جائز، قاله الفضل. وأما أرض السقي بالعيون، فلا يجوز كراؤها، إلا للثلاثة الأعوام والأربعة، ولا ينقد إلا سنة بسنة، يريد أنه ينقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيسير وإن لم ترو الأرض، هذا قوله ومذهبه في الواضحة.

فصل في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك

وأما أرض المطر فلا يجيز الكراء فيها إلا لعام واحد، قرب إبان ريها، ولا يجوز النقد فيها حتى تروى ريا مبلغا له أو لأكثره مع رجاء وقوع غيره، قاله في المدونة، هذا الذي حصلت من مذهبه، وبالله التوفيق. فصل في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك هذه مسألة تنقسم على قسمين: أحدهما: أن يقوم رب الأرض على الذي حرثها في إبان الزرع. والثاني: أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان. فأما القسم الأول وهو أن يقوم عليه في ذلك وهو في الإبان، فلا يخلو الذي حرث الأرض من أربعة أوجه: أحدها: أن يصدق رب الأرض في أنه حرثها بغير إذنه. والثاني: أن يصدقه في أنه لم يكرها منه إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه وهو حاضر لا يغير ولا ينكر. والثالث: أن يدعي عليه أنه أكراها منه. والرابع: أن يدعي عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه وهو حاضر. فأما الوجه الأول وهو أن يصدقه في أنه حرثها بغير علمه، فإن لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه فيقلعه إن كانت له فيه منفعة، ولا يجوز لرب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا كالبنيان؛ لأنه يدخله بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقد قيل: إن ذلك جائز؛ لأنه في أرض مبتاعة وبالعقد يدخل في ضمانه فيرتفع الغرر في ذلك، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ فإن لم

تكن له فيه منفعة لم يكن للزارع أن يقلعه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار». ويبقى لصاحب - الأرض لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق». وأما الوجه الثاني وهو أن يصدقه في أنه لم يكر منه إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه فلم يغير عليه ذلك ولا أنكر، فإن اليمين يلزم رب الأرض: ما علم بحرثه إياها إن لم يكن للذي حرث الأرض على ذلك بينة؛ فإن حلف رب الأرض على ذلك، كان له أن يأخذ أرضه ويكون الحكم في الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرث الأرض على ذلك ولم يقلع زرعه وكان عليه في الأرض كراء مثلها، وكذلك إذا كانت للذي حرث الأرض بينة على حرثه إياها بعلمه ومعرفته. وأما الوجه الثالث: وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه، فالقول قول صاحب الأرض مع يمينه ما أكراها منه، فإن حلف على ذلك، استحق أرضه وكان الحكم في الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرث الأرض لقد أكراها منه بكذا وكذا، كان الذي ادعى من الكراء قليلا لا يشبه، أو كثيرا أكثر من كراء المثل؛ وإنما كان القول قوله، وإن كان الذي ادعى من الكراء لا يشبه؛ لأن رب الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله، هذا هو المشهور في المذهب خلاف ما وقع في كتاب القراض من المدونة إذا ادعى صاحب المال أنه دفع إليه المال على سبيل البضاعة، وادعى العامل أنه دفع إليه على سبيل القراض، فنكل صاحب المال عن اليمين، فقال: إن العامل يحلف إذا كان مثله يستعمل في القراض وإنما وجب

فصل

أن يحلف وإن كان الذي أقر به من الكراء أكثر من كراء المثل؛ لأنه إن نكل عن اليمين وجب أن يقلع زرعه. وأما الوجه الرابع، وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه وحرثها بعلمه ومعرفته، فالقول قول صاحب الأرض يحلف على الوجهين جميعا إن لم يكن للذي حرث الأرض بينة على ذلك، فإن حلف، كان مخيرا بين أن يأخذ منه الكراء الذي أقر به، وبين أن يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه؛ وهذا إذا كان للزارع في قلعه منفعة، وأما إذا لم يكن له في قلعه منفعة وكان الحكم يوجب بقاءه لصاحب الأرض، فلا يجوز أن يتركه للمكتري بما أقر به من الكراء، أو بكراء المثل؛ لأنه بيع له بما يأخذ من الكراء، وقد تقدم القول إذا كان للزارع في قلعه منفعة فأراد رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وإن نكل عن اليمين حلف الذي حرث الأرض لقد أكراها بكذا وكذا، قل أو كثر كان يشبه أو لا يشبه، وقد تقدم وجه ذلك؛ فإن نكل عن اليمين أخذ رب الأرض أرضه وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعا، وقال: أحلف ما علمت بحرثه إياها ولا أحلف ما أكريت منه، لم يكن ليمينه على هذا معنى، إلا أن ينكل الذي حرث الأرض عن اليمين؛ لأنه إن حلف لقد أكريتها بكذا وكذا أدى ما حلف عليه وإن لم يشبه ذلك كراءها؛ لأن رب الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله على أن يحلف ما أكريتها منه، حلف ما علم بحرثه إياها أو لم يحلف، فإن نكل الذي حرث الأرض عن اليمين، قيل لرب الأرض ههنا: احلف أنك ما علمت بحرثه إياها وخذ أرضك واقلع الزرع إن شئت. فصل وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعا وقال: أحلف ما أكريت منه، ولا أحلف ما علمت بحرثه إياها، لم يمكن من اليمين على ذلك عند ابن القاسم؛ لأنه إذا نكل عن أن يحلف ما علمت بحرثه إياها، وجب أن يحلف الذي حرث الأرض بالله لقد علم بحرثي إياها، وإذا حلف على ذلك كان بمنزلة إذا أقام

فصل

على ذلك بينة أو أقر له به رب الأرض، وإذا أقر بذلك رب الأرض أو قامت للذي في حرث الأرض بذلك بينة كانت شبهة توجب أن يكون القول قول الذي حرث الأرض أنه اكتراها منه بكذا وكذا إذا كان يشبه أن يكون ذلك كراء مثلها، فيحلف الذي حرث الأرض إذا نكل رب الأرض عن اليمين أنه ما علم بحرثه إياها على الوجهين جميعا: يقول: بالله لقد علم بحرثي إياها، ولقد اكتريتها منه بكذا وكذا إذا أشبه أن يكون ما ادعى كراءها، فإن لم يشبه أن يكون ذلك كراءها لم يصدق في ذلك، وحلف رب الأرض ما أكراها منه واستحق كراء مثلها، ولم يكن له أن يقلع زرعه إذا حلف الذي حرث الأرض أنه حرثها بعلمه ومعرفته، فإن لم يحلف على ذلك ونكل عنه، كان لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه ويقلع الزرع. فصل فإن كانت للذي حرث الأرض بينة على أنه حرث الأرض بعلمه ومعرفته ولم تكن له بينة على الكراء، كان القول قوله مع يمينه في الكراء إذا أتى بما يشبه، فإن لم يأت بما يشبه، لم يصدق وحلف رب الأرض أنه ما أكرى منه، وكان عليه كراء المثل، فإن نكل رب الأرض عن اليمين، كان القول قول الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه؛ لأن رب الأرض قد مكنه من دعواه بنكوله، وإن كان الذي أقر به الذي حرث الأرض من الكراء، كراء المثل فأكثر، لم يكن عليه في هذا الوجه يمين، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة ومساواته فيها بين أن تكون للذي حرث الأرض بينة على علمه ومعرفته، أو يأبى اليمين في أن القول قول الذي حرث الأرض مع يمينه في الكراء، إذا أشبه، إنما يريد إذا نكل عن اليمين - على أنه ما حرثها بعلمه ومعرفته بخاص؛ وأما إذا نكل عن اليمين على أنه لم يكرها منه، فالقول قول الذي حرث الأرض وإن لم يشبه. ولا اختلاف في هذا بينهم، إلا ما يقوم من مسألة كتاب القراض، وقد ذكرناها؛ وأما غير ابن القاسم في المدونة، فلم ير حرثه الأرض بعلم ربها شبهة توجب أن يكون القول قوله في مبلغ الكراء، وجعل قول رب الأرض مع يمينه أنه ما أكرى منه أرضه؛ فإذا حلف على ذلك، استحق كراء

فصل

المثل، وإن كان الذي أقر به المكتري من الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يكون على واحد منهما يمين، وسواء على قول غيره هذا - علم أو لم يعلم - فلا يحلف على مذهبه إن لم يعلم بحرثه الأرض، وإنما يحلف أنه ما أكراها منه ويستحق كراء المثل، ولو نكل عن اليمين على ذلك، لحلف الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه. فصل وأما القسم الثاني، وهو أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان، فإن صدقه أنه لم يكن منه فله كراء المثل دون يمين ادعى عليه أنه حرثها بعلمه ومعرفته، أو لم يدع ذلك عليه؛ وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه ولم يدع عليه أنه حرثها بعلمه ومعرفته، فإن رب الأرض يحلف أنه ما أكراها منه ويأخذ منه كراء المثل؛ وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرثها على ما ادعاه من الكراء؛ وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه ومعرفته، فيحلف على الوجهين جميعا؛ فإن حلف أخذ كراء المثل؛ وإن نكل عن اليمين على الوجهين جميعا، أو على أنه لم يكر منه، حلف الذي حرث الأرض على ما ادعى من الكراء، وإن كان الذي أقر به من الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يمين على واحد منهما، وإن نكل رب الأرض أن يحلف ما حرثها بعلمه ومعرفته، حلف الذي حرث على مذهب ابن القاسم: لقد حرثها بعلمه ومعرفته، ولقد أكريتها منه بكذا وكذا، إذا أشبه ذلك، فإن لم يشبه، حلف رب الأرض أنه ما أكرى منه وأخذ كراء المثل، وعلى قول غيره يحلف رب الأرض ما أكراها منه ويأخذ كراء المثل.

فصل في المغارسة

فصل في المغارسة المغارسة تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون على وجه الإجارة، مثل أن يقول له: اغرس لي هذه الأرض كرما أو تينا أو فرسكا أو ما أشبه ذلك، ولك كذا وكذا، فهذا إن كانت الغروس من عند رب الأرض، فلا إشكال في جوازه، سمى له عدد ما يغرس في الأرض أو لم يسمه؛ لأن ذلك معروف عند الناس، ولا بد أن يصف قدر الغروس في الصغر والكبر؛ لأن المشقة في ذلك مختلفة، إلا أن يدخلا في ذلك على عرف فيستغنى به عن الصفة؛ وأما إن كانت الغروس من عند الغارس فيدخل في ذلك ما دخل مسألة الذي استأجر الأجير على أن يبني له دارا على أن الآجر والجص من عند البناء؛ لأنه يجتمع في ذلك إجارة وسلم، والإجارة والسلم أحكامها مختلفة، إذا كان الأجير بعينه؛ لأن السلم لا بد فيه من ضرب الأجل وتعجيل رأس ماله، والأجير بعينه لا يجوز أن ينقد إجارته إلا بعد شروعه في العمل الذي قد ضرب له الأجل؛ فلا يجوز استئجار الأجير بعينه على الغرس بشرط أن تكون الغروس من عنده إذا كانت لها قيمة إلا بثلاثة شروط، وهي: تعجيل الإجارة، والشروع في العمل، وأن يكون الغرس لا يتم إلا في مدة طويلة يستحق فيها ما تعجل من الغروس في جنب ما تأخر منها؛ وأما إذا أستأجره على الغرس إجارة ثابتة في ذمته على أن الغروس من عنده، ولها قيمة، فذلك جائز؛ لأن حكم الإجارة الثابتة في الذمة حكم السلم، فإن قدم إليه إجارته وضرب للغرس أجلا، مثل أن يقول: أستأجرك على غرس هذه الأرض في شهر كذا بكذا وكذا، والغروس من عندك جاز، وهو معنى قول غير ابن القاسم في المدونة إذا كان ذلك على وجه القبالة ولم يشترط عمل رجل بعينه، فلا بأس بذلك إذا قدم نقده. والوجه الثاني: أن تكون المغارسة على وجه الجعل مثل أن يقول له: اغرس لي هذه الأرض أصولا تينا أو كرما أو ما أشبه ذلك، ولك في كل ثمرة تنبت كذا وكذا، فهذا جائز على حكم الجعل المحض.

فصل

والوجه الثالث: أن يغارسه في الأرض على جزء منها فهذا أجازه أهل العلم قياسا على ما جوزته السنة من المساقاة، فليست بإجارة منفردة ولا جعل منفرد، وإنما هي سنة على حيالها، وأصل في نفسها أخذت بشبه من الإجارة والجعل، فهي تشبه الإجارة في لزومها بالعقد، وتشبه الجعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بعد ثبوت الغرس وبلوغه الحد المشترط؛ فإن بطل قبل ذلك، لم يكن له شيء، ولا كان من حقه أن يعيده مرة أخرى، وقد قيل: لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب المغارسة: إن المغارسة في الأرض على جزء من الأرض لا تجوز إلا على وجه الجعل بأن لا يلزم المغارس الجعل ويكون له أن يذهب ويترك العمل إن شاء، فعلى هذا لا تكون المغارسة إلا على قسمين، وهي: الجعل والإجارة - كان له نصيب من الأرض أو لم يكن -. فصل واختلف إن ثبت منها يسير وبلغ الحد وبطل سائر ذلك أو بطل منه يسير وثبت سائر ذلك، فقيل: إن القليل تبع للكثير، إلا أن يكون الذي ثبت أو بطل له قدر وبال، وإن كان الأقل فلا يكون تبعا ويثبت حقه فيما يثبت ويبطل مما بطل، وهي رواية حسين بن عاصم، وهو الذي يأتي على المشهور من المذهب، فإن المغارسة على جزء من الأرض جائزة على أنها لهما جميعا لازمة، وقد قيل: إن حقه يثبت فيما بلغ، ويبطل فيما لم يبلغ، يسيرا كان أو كثيرا، تبعا كان أو غير تبع؛ وهو الذي يأتي على القول بأن المغارسة في الأرض على جزء منها لا تجوز إلا على وجه الجعل. فصل ولا تجوز المغارسة على جزء من الأرض إلا على شروط قد حدها أهل

فصل

العلم، من ذلك: أن يكون الحد إلى ما دون الإطعام، واختلف إن كان حدها الإطعام أو إلى أجل من السنين دون الإطعام، أو يسكتا عن الحد في ذلك أو الأجل على قولين، وأما إن كان الحد إلى فوق الإطعام فلا يجوز، وكذلك لا يجوز إن اشترطا أن يكون الشجر أو الغلة بينهما دون الأصل. فصل فإن وقعت المغارسة على شيء مما وصفنا أنه لا يجوز باتفاق أو على قول من لا يجيزها فيما ذكرنا فيه الخلاف، فإن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن لا يجعل له جزءا من الأصل. والثاني: أن يجعل له جزءا منه. فأما إذا لم يجعل له جزءا من الأصل وإنما غارسه على أن تكون الثمرة بينهما، أو الشجر دون موضعها من الأرض فاختلف في ذلك على قولين: أحدهما: أنه يحكم لذلك بحكم الكراء الفاسد. والثاني: أنه يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، وهذا الاختلاف مبني على ما غرسه الغارس من الغرس هل هو على ملكه - أو ملك رب الأرض، فمن علل بأن الغرس على ملك الغارس جعله كراء فاسدا؛ لأنه كان الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد غير معلوم بنصف الثمرة التي يغرسها لنفسه في الأرض، أو بنصف الشجرة التي يغرسها فيها لنفسه على أن يدفعها إليه عند بلوغها إلى الحد الذي اشترطاه، وكان الحكم فيه أن يكون على الغارس كراء المثل في الأرض قبل يوم أخذها، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه، ومعنى ذلك: إن كان أخذها منه في وقت

فصل

يمكنه وضع الغرس فيه فيها، وقيل: من يوم وضع الغرس فيها وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى عنه، ومعناه عندي من يوم يمكنه وضع الغرس فيه فيها، فلا تكون على هذا رواية يحيى مخالفة لرواية عيسى، خلاف ما كان الشيوخ يحملونها عليه من الخلاف لها، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب المغارسة، وقيل من يوم أثمرت الشجرة وهو قوله في سماع أبي زيد، وسماع حسين بن عاصم، وتكون له الغلة كلها يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة، إن عرفت أو خرصها إن جهلت ويقلع غرسه إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وقيل: إن له قيمة غرسه قائما، قاله يحيى في سماعه من كتاب السداد والأنهار في المعاملة الفاسدة في بناء الأرحى ولا فرق. فصل ومن علل بأن الغرس على ملك رب الأرض، جعله إجارة فاسدة؛ لأنه كأن رب الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بنصف ثمرتها أو بنصف الشجر إذا بلغت الحد المشترط، وكان الحكم فيه أن يكون للغارس على رب الأرض قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض مقلوعا، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه، وتكون الغلة كلها لرب الأرض يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت. فصل وأما إذا جعل له جزءا من الأرض على وجه لا يجوز في المغارسة، مثل أن يقول له: اغرس هذه الأرض وقم على الغرس، كذا وكذا سنة، أو حتى تبلغ كذا وكذا، لأجل واحد يكون الإطعام دونه، أو يقول له: اغرسها وقم على الغرس حتى

يثمر أو إلى أجل كذا وكذا مما لا يثمر النخل دونه، أو اغرسها وهي بيني وبينك مبهما من غير حد ولا أجل على مذهب من لا يجيز ذلك؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أنها إجارة فاسدة يكون على رب الأرض للغارس قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه إياه وقيامه عليه، وتكون جميع الغلة له يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت، أو خرصها، إن جهلت! وهذا قول سحنون وهو يأتي على مذهب من علل بأن الغرس على ملك رب الأرض، فكأنه استأجره على غرس جميع الأرض بنصف الأرض والغرس عند بلوغه الحد الذي شرطاه، وبنصف ما أثمر الغرس. والثاني: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس فيكون على الغارس فيه قيمته يوم غرسه، وكراء فاسد في النصف الثاني، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض كراء مثله يوم أخذها، أو يوم وضع الغرس فيها، أو يوم أثمرت على الاختلاف المذكور في ذلك؛ ويقلع الغارس غرسه، إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا؛ وعلى قول يحيى بن يحيى المتقدم لا يأخذه إلا بقيمته قائما، ويكون جميع الغلة للغارس يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة إن عرفت، أو خرصها إن جهلت، وهذا هو قول ابن القاسم في رواية حسين عنه، وهو يأتي على أن الغرس على ملك الغارس. والثالث: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس، فيكون على الغارس فيه قيمته يوم غرسه؛ وإجارة فاسدة في النصف الثاني، فيكون فيه على رب الأرض للغارس قيمته مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه إلى وقت الحكم! وقيل: إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائما يوم

يحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وقيل: إنه يكون عليه للغارس قيمة نصف غرسه يوم بلغ وتم، وأجرته من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم يحكم فيه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطاه؛ والصحيح من ذلك ما بدأنا به من أن تكون عليه نصف قيمة غرسه مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم؛ وهذا يأتي على أن الغرس نصفه على ملك الغارس، ونصفه على ملك رب الأرض - ومن الله التوفيق والحمد لله وحده -.

كتاب تضمين الصناع

كتاب تضمين الصناع فصل في وجه تضمين الصناع الأصل في الصناع ألا ضمان عليهم وأنهم مؤتمنون؛ لأنهم أجراء وقد أسقط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضمان عن الأجراء في الائتمان، وضمنوهم نظرا واجتهادا، لضرورة الناس إلى استعمالهم؛ فلو علموا أنهم يؤتمنون ولا يضمنون، ويصدقون فيما يدعون من التلف؛ لتسارعوا إلى أخذ أموال الناس، واجترءوا على أكلها؛ فكان ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال وإهلاكها، وللحق أرباب السلع في ذلك ضرر شديد؛ لأنهم بين أن يدفعوها إليهم فيعرضونها للهلاك أو يمسكوها مع حاجتهم إلى استعمالها فيضر ذلك بهم إذ لا يحسن كل أحد أن يخيط ثوبه ويعمل جميع ما يحتاج إلى استعماله، فكان هذا من الأمور العامة الغالبة التي يجب مراعتها والنظر فيها للفريقين جميعا، فكان الحض في دفعها إليهم على التضمين حتى إذا علم إهلاكها بالبينة من غير تضييع، لم يضمنوا، لإزالة الضرر عنهم، كما إذا لم يعلم الهلاك والتلف ضمنوا لإزالة الضرر عن أهل الأموال. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ أنهم ضامنون لما غابوا عليه وادعوا تلفه ولم يعلم ذلك إلا بقولهم، ولا ضمان عليهم فيما ثبت ضياعه بالبينة من غير تضييع وتابعه على ذلك جميع أصحابه

فصل

إلا أشهب، فإنه ضمنهم وإن قامت البينة على التلف؛ وكذلك الرهن عنده قياسا على العارية، إنها مؤداة - للحديث -، والعلة الجامعة بينهما أنه قبض الرهن لمنفعة نفسه خالصا كما قبض العارية لمنفعة نفسه خالصا؛ وأما الصناع فلا يصح له قياسهم على العارية؛ لأنهم قبضوا السلع لمنفعتهم ومنفعة أرباب السلع، إلا أن لقوله حظا من النظر، فوجه قوله أنه لما وجب أن يضمنوا للمصلحة العامة، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال، لم يسقط الضمان عنهم بالبينة، حسما لباب الذريعة؛ لأن ما طريقه المصالح وقطع الذرائع لا يخصص في موضع من المواضع، أصل ذلك شهادة الابن لأبيه لما لم تجز للذريعة، لم تجز. وإن ارتفعت التهمة في البابين، الفضل: ولأن من ضمن بلا بينة، ضمن وإن قامت البينة؛ أصله الغاصب، ولأن من قبض لمنفعة نفسه فضمن بلا بينة، ضمن وإن قامت البينة، أصله القرض. فصل وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن القاسم أصح؛ لأن الصانع أجير، فإذا ثبت هلاك ما دفع إليه بغير تفريط، أشبه الصانع الخاص والراعي، ولأن الذريعة قد لا تراعى مع العذر الظاهر، مثل من فاتته الجمعة، فإنا نمنعه أن يصلي الظهر في جماعة، لئلا يكون ذلك ذريعة لأهل البدع؛ ثم يجوز ذلك لأهل العذر الظاهر كالمرضى والمحبوسين، وكذلك في مسألتنا إذا كان عذر الصانع ظاهرا بإقامته البينة على التلف من غير تضييع، لم نراع معه الذريعة، وفي هذا اختلاف قد ذكرناه وحصلناه وبينا وجهه ومعناه في كتاب البيان في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الصلاة الثالث.

فصل

فصل وهذا في الصانع المشترك الذي قد نصب نفسه للناس، وأما الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للعمل للناس، فلا ضمان عليه فيما استعمل إياه أسلم إليه أو عمله في منزل رب المتاع، وسواء على مذهب مالك استعمل الصانع بأجر أو بغير أجر، وخالفه أبو حنيفة فأسقط عنه الضمان إذا عمل بغير أجر؛ لأنه أشبه عنده المودع، وخالفهما الشافعي وأسقط الضمان عمل بأجر أو بغير أجر، والحجة عليه أن تضمينهم إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب حكما بتضمينهم، وقال علي: لا يصلح للناس إلا ذلك، وقال يحيى بن سعيد: ما زال الخلفاء يضمنون الصناع، ولم يكن الخلفاء، ليضمنوهم والصحابة متوافرون إلا بعد مشورتهم واجتماع ملائهم على ذلك، وقد ادعوا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى مثل قولهم، ولم تثبت، ولو ثبتت لحمل ذلك على أنه قد رجع عنها إلى قول الجماعة، وإجماع الصحابة حجة على من بعدهم. فصل ومما يحتج به عليهم من طريق النظر: أنهم لما قبضوا السلع لمنفعتهم، لم يقيدوا قولهم في تلفها كالقراض على مذهبهم، والعارية؛ فإن قالوا: إنما ضمن المستعير؛ لأنه إنما قبض لمنفعة نفسه وحده، وليس كذلك الصناع، قبضوا لمنفعة أنفسهم ومنفعة أرباب السلع، قلنا: إنا لا نسلم أنهم قبضوا لمنفعة أنفسهم ومنفعة أرباب السلع، بل إنما قبضوا لمنفعة أنفسهم خاصة بدليل نصبهم أنفسهم لذلك، إلا أن انتفاع المالك شرط في حصول المنفعة للقابض ولو سلمنا اشتراكهم في المنفعة، لانتقض ذلك بالقراض؛ لأنهما مشتركان في منفعته. فإن قالوا: المعنى في تضمين المقارض: أنه تمليك بلا بدل. والجواب عن ذلك: أنه لا يمتنع أن تختلف أسباب الضمان، فيكون في بعضها لذلك، وفي بعضها لعلة أخرى، وهي ما ذكرناه من المصلحة والذريعة.

فصل

فصل وتلخيص هذا الباب وتحصيله على مذهب مالك: أن قابض مال غيره بإذن المالك له على غير وجه الملك لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقبض ذلك لمنفعة نفسه خاصة. والثاني: أن يقبضه لمنفعة صاحبه خاصة. والثالث: أن يقبضه لمنفعتهما جميعا. فصل فأما الوجه الأول وهو أن يقبضه لمنفعة نفسه خاصة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقبض ذلك على أن ينتفع به ويرد عينه. والثاني: أن ينتفع به بتحويل عينه فيرد مثله. فأما إذا قبضه لينتفع به ويرد عينه، مثل الرهن والعارية، فهو ضامن له إلا أن تقوم له بينة على التلف من غير تعد ولا تضييع، أو يكون مما لا يغاب عليه، وأما إن قبضه لينتفع به ويرد مثله، فهو ضامن له على كل حال كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه وذلك كالقرض. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يقبضه لمنفعة صاحبه خاصة، فلا ضمان عليه فيه، كان مما يغاب عليه كالعين والعروض أو مما لا يغاب عليه كالحيوان والدور، قبض ذلك على أن يحول عينه كالبضائع، أو على ألا يحول عينه كالودائع، الحكم في ذلك كله سواء. فصل وأما الوجه الثالث: وهو ما قبضه لمنفعتهما جميعا فإنه يغلب فيه منفعة

فصل

صاحب المال، ويصدق القابض في دعوى التلف كان مما يغيب عليه كالعين والعروض أو مما لا يغيب عليه كالحيوان والدور، قبض ذلك على أن يحول عينه بتصرفه فيه كالقراض أو على ألا يحول عينه كالمستأجر على حمله أو على رعايته أو على استعماله أو ما أشبه ذلك، حاشا الصانع المشترك الذي قد نصب نفسه للعمل للناس والأجير على حمل الطعام، فإنهما لا يصدقان في دعوى التلف فيما يغاب عليه للعلة التي قدمنا ذكرها، وهي الذريعة ومصلحة العامة. فصل وإنما قلنا في أول التقسيم: قبض مال غيره بإذن المالك له؛ لأن قابض مال غيره بغير إذن مالكه ضامن له على كل حال؛ لأنه غاصب أو متعد، وإنما قلنا: على غير وجه الملك؛ لأنه إذا قبضه على وجه الملك: إما بشراء أو صدقة أو هبة أو وصية أو ما أشبه ذلك من الوجوه التي تنتقل بها الأملاك، فلا اختلاف أيضا أن الضمان منه كان البيع صحيحا أو فاسدا. فصل وكل موضع يصدق فيه القابض في دعوى الضياع مثل الوديعة والقراض ورهن ما لا يغاب عليه، أو عارية ما لا يغاب عليه، فإنه يصدق في دعوى الرد إذا قبضه بغير بينة فإن قبضه ببينة لم يصدق في دعوى الرد، هذا هو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، وقد روى أصبغ عن ابن القاسم أنه يصدق في دعوى الرد. وإن قبضه ببينة، قاله في دعوى المستأجر ضياع العروض التي استأجر، وخالفه أصبغ واعترض عليه بالقراض والوديعة؛ ولا يلزمه اعتراض أصبغ؛ لأنه لا يفرق على هذه الرواية بين القراض والوديعة والشيء المستأجر، بل يرى أن يصدق في ذلك كله، إذا ادعى رده وإن كان دفع إليه ببينة؛ لأنه إذا صدقه في رد الشيء المستأجر، وإن قبضه ببينة، فأحرى أن يصدقه في

فصل

الوديعة؛ إذ لا منفعة له فيها؛ وإذا صدقه في الشيء المستأجر فالقراض مثله سواء؛ لأن المنفعة فيهما جميعا لهما جميعا؛ ويشبه أن يفرق بين القراض والشيء المستأجر وبين الوديعة؛ لأن الإشهاد على الوديعة لا وجه له إلا التوثق من عينها، والإشهاد على القراض والشيء المستأجر، يحتمل أن يكون القصد فيه إلى التوثق من الإجارة أو من جزء القراض؛ فيتحصل على هذا في دعوى الرد مع الإشهاد أربعة أقوال: أحدها: أنه يصدق فيها كلها على رواية أصبغ. والثاني: أنه لا يصدق فيها كلها على قول أصبغ. والثالث: الفرق بين الشيء المستأجر وبين القراض والوديعة على ما تأول أصبغ على ابن القاسم. والرابع: الفرق بين الشيء المستأجر والقراض وبين الوديعة على ما ذكرناه من وجه الفرق في ذلك. فصل فإذا صدق في دعوى الرد، فإنه يحلف على كل حال من غير تفصيل؛ وأما في دعوى الضياع فلا يحلف إلا أن يكون متهما على مذهب ابن القاسم، وروى ابن نافع ومحمد بن يحيى السبائي عن مالك: أنه يحلف المتهم وغير المتهم في دعوى الضياع؛ وكان ابن زرب - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن المتهم يحلف لقد ضاعت من غير تفريط ولا تضييع، وأن غير المتهم يحلف ما ضيع ولا فرط؛ ولا يحلف على الضياع، وهو قول له وجه من النظر، ولا يفرق في دعوى الضياع بين أن يقبض ذلك ببينة أو بغير بينة. فصل وكل موضع لا يصدق فيه في دعوى الضياع فلا يصدق فيه في دعوى الرد إلا في الصناع، فإن ابن الماجشون يرى أن يصدقوا في دعوى الرد إلا أن

فصل

يشهد عليهم بالدفع، وإن كان لا يصدقون في دعوى الضياع، ونفى أن يكون مالكا قال: إنهم لا يصدقون في دعوى الرد، والمشهور المعلوم من قول مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره، أنهم لا يصدقون في دعوى الرد كما لا يصدقون في دعوى الضياع، وقد قاله ابن الماجشون أيضا في موضع آخر، وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب الوديعة ما يدل على أنه يصدق في رد الرهن إذا قبضه بغير بينة مثل الوديعة وهو بعيد. فصل وإذا ادعى الصانع ضياع المتاع الذي استعمل إياه، فإنه يضمن قيمته يوم دفع إليه على ما يعرف من صفته حينئذ، إلا أن يقر أن قيمته يوم ضاع كان أكثر من قيمته يوم دفعه إليه، فيكون عليه قيمته يوم أقر أنه تلف أو يظهر عند الصانع بعد دفعه إليه بمدة، فتكون عليه قيمته يوم ظهر عنده على ما شهد به من قيمته يومئذ؛ وإن كانت قيمته يومئذ أقل من قيمته يوم دفعه إليه، وكذلك الرهن والعارية، وقد وقع في موضع من سماع عيسى من كتاب الرهون أنه يضمن قيمة الرهن، إذا تلف عنده يوم ضاع، وتأويل ذلك عندي على أنه ظهر عنده في الوقت الذي ادعى أنه تلف فيه؛ لأن قيمته يوم ضاع قد تكون أقل من قيمته يوم رهنه إياه فإذا لم يظهر عنده من حين رهنه إياه فلا يصدق في وقت تلفه كما لا يصدق في تلفه ويلزمه قيمته يوم رهنه إياه على ما يعرف من صفته حينئذ، وعلى ما يقر به منها مع يمينه على ذلك، وقد تأول الشيوخ قوله في الرواية: يغرم قيمة الرهن يوم ضاع، أن معنى ذلك إذا لم تعرف له قيمة يوم الرهن فيغرم قيمته يوم ضاع على ما يقر به من الصفة مع يمينه، وهذا بعيد، وتأويلنا الأول هو الصحيح، ويؤيده ما وقع في سماع أصبغ من كتاب الوديعة لابن القاسم وأصبغ. فصل فإذا أراد صاحب الثوب إذا ادعى الصانع تلفه، أن يؤدي إليه أجرة عمله

فصل

ويضمنه قيمته معمولا، لم يكن ذلك له إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل، فيكون لرب الثوب أو يؤدي إليه أجرة عمله ويضمنه قيمة ثوبه معمولا إن شاء؛ على القول الذي يرى أنه إذا قامت البينة على تلفه معمولا، لزمه أداء أجرة العمل، وتكون مصيبته منه، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، ألا ترى أنه على هذا القول لو أقام الصانع البينة على أنه قد عمل الثوب وادعى تلفه منه بعد العمل، لوجب على رب الثوب أن يؤدي أجرة العمل ويضمنه قيمة الثوب معمولا، فإذا ادعى ذلك ولم يبينه كان لرب الثوب أن يصدقه في دعواه إن شاء، وعلى ما في سماع يحيى من كتاب الرواحل والدواب في مسألة المستأجر على حمل الطعام يتعدى عليه فيبيعه في الطريق، وما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب تضمين الصناع في القمح ينقص عند الطحان يلزم رب الثوب أن يؤدي أجرة العمل ويضمنه قيمة الثوب معمولا إذا ادعى الصناع ضياعه قبل العمل أو بعده خلاف ما في المدونة. فصل وكذلك يضمن الصناع كل ما أتى على أيديهم من خرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا ما كان فيه تغرير من الأعمال مثل ثقب اللؤلؤ ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران أو الثوب في قدر الصباغ، وما أشبه ذلك؛ فإنه لا ضمان عليهم فيما أتى على أيديهم فيه، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها أو أخذها على غير وجه ما أخذها فيضمن حينئذ؛ ومثل ذلك البيطار يطرح الدابة فتموت من ذلك، أو الخاتن يختن الصبي

فصل

فيموت من ختانه، أو الطبيب يسقي المريض فيموت من سقيه، أو يكويه فيموت من كيه، أو يقطع منه شيئا فيموت من قطعه، أو الحجام يقلع ضرس الرجل فيموت المقلوع ضرسه، فلا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا على عاقلته في جميع هذا؛ لأنه مما فيه التغرير على ذلك الشيء، فكأن صاحبه هو الذي عرضه لما أصابه، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، وأما إذا أخطأ في فعله، مثل أن: يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه، أو تزل يد الخاتن، أو القاطع فيتجاوز في القطع، أو يد الكاوي فيتجاوز في الكي، أو يد الحجام فيقلع غير الضرس التي أمر بها، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: ألا يكون من أهل المعرفة فيغر من نفسه. والثاني: أن يكون من أهل المعرفة فلا يغر من نفسه. فأما إذا كان من أهل المعرفة، ولم يغر من نفسه، فذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون ذلك في ماله. وأما إن كان ممن لا يحسن وغر من نفسه، فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن، واختلف في الدية فقيل: إنها تكون عليه في ماله ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم وأشهب من كتاب السلطان، وقال عيسى بن دينار - من رأيه ذلك خطأ - وهو على العاقلة إن كان الثلث فصاعدا، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات؛ قال في الطبيب يسقي النصراني أو المسلم الدواء فيموت منه: إنه لا شيء عليه إلا أن يعلم أنه أراد قتله؛ لأن تأويل ذلك أن الدية على عاقلته مثل قول ابن دينار. فصل فإن اشترط الصانع أنه لا ضمان عليه لم ينفعه شرط وكان عليه الضمان، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة، وفي سماع أشهب من كتاب تضمين الصناع من العتبية، وينبغي على هذا القول أن يكون له أجر مثله لأنه إنما رضي بالأجر

فصل

المسمى، لإسقاط الضمان عنه، وقال أشهب: ينفعه الشرط ويسقط عنه الضمان، فعلى قوله يكون له الأجر المسمى، وكذلك المستعير، والمرتهن، إذا اشترطا ألا ضمان عليهما فيما يغاب عليه، لم ينفعهما الشرط على مذهب مالك وابن القاسم، خلاف قول أشهب؛ لأنه إذا أعمل الشرط في الصناع وأسقط عنهم الضمان، فأحرى أن يعمله في المستعير ويسقط عنه الضمان، وله في بعض روايات العتبية من كتاب العاريات أن الشرط باطل، مثل قول ابن القاسم، والذي يوجبه النظر أن يكون الشرط عاملا في المستعير؛ لأنه إذا أعاره ما يغاب عليه وأسقط عنه فيه الضمان، فقد فعل معه معروفين؛ وكذلك الرهن إذا لم يكن مشترطا في أصل البيع، وإن طاع له بعد عقد البيع، فيتحصل في هذا ثلاثة أقوال، إعمال الشرط، وإبطاله، والفرق بين المستعير والمرتهن بعد عقد البيع، وبين الصانع والمرتهن في عقد البيع. فصل وأما إذا اشترط على المستعير والمرتهن الضمان فيما لا يغاب عليه، فقول مالك: إن الشرط باطل، ينبغي إذا اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأسقط عنه بالحكم - أن يلزم الإجارة في استعماله -؛ لأن ذلك قد خرج من حد العارية وسننها إلى باب الإجارة الفاسدة؛ لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بأن يحرزها في ضمانه، وقد رأيت بذلك رواية عن أشهب حكاها أبو إسحاق التونسي وقال: إن ظاهر ما في المدونة خلاف ذلك، أن الشرط باطل ولا أجرة عليه، وقول أشهب ظاهر، وما ينبغي أن يحمل إلا على التفسير، وقع قول أبي إسحاق في كتاب الرهون من كتابه، وحكى ابن حبيب عن مطرف في ذلك تفصيلا، وهو أنه إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة أو لصوص أو ما أشبه ذلك، فيلزمه الشرط إن تلف في ذلك المعنى الذي خافه، وإن تلف في سواه، لم يلزمه الشرط؛ وقال أصبغ: لا شيء عليه في الوجهين جميعا، وهو مذهب مالك، وبالله التوفيق.

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية ما جاء في الأقضية انفرد الله تبارك وتعالى بالحكم والقضاء بين عباده في الآخرة، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20]. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78]. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93]. وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54]. وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وصرف - تبارك وتعالى - الحكم والقضاء بينهم في الدنيا إلى من استخلفه في الأرض عليهم من الأنبياء، ومن بعدهم من الخلفاء وأولي الأمر من القضاة والحكام والعلماء، وفرض عليهم العدل بينهم في الحكم، وألا يتبعوا الهوى، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].

فصل

وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. وقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. فصل وفرض لهم على الناس التسليم والطاعة والانقياد، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية. وقال تعالى:

فصل

{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فقارن - تعالى - طاعته بطاعة رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبطاعة أولي الأمر من عباده. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني». فصل فمن عصى إماما أو قاضيا أو حكما من الحكام فيما أمر به من الحق أو حكم فيه بوجه العدل، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدوده، وأما إن قضى بغير العدل، أو أمر بغير الحق، فطاعته غير لازمة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، إلا أن يخشى أن تؤدي مخالفته إلى هرج أو فساد، فتجب عليه الطاعة على كل حال. فصل فالحكم بين الناس بالعدل من أفضل أعمال البر وأعلى درجات الأجر. قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». فبدأ بالإمام العادل، وظل الله في هذا الحديث رحمته وجنته.

فصل

قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41]، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]؛ ومن كان في ظل الله ورحمته يوم القيامة فهو آمن من هول الموقف وشدته، سالم مما يلحق الناس فيه من الشدة والضيق، وهذه نهاية في الأجر والثواب. فصل والجور في الأحكام واتباع الهوى فيها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]. وقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله يوم القيامة: رجل ولاه من أمة محمد شيئا ثم لم يعدل فيهم»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أحد أقرب من الله يوم القيامة بعد ملك مصطفى أو نبي مرسل من إمام عادل، ولا أبعد من الله من إمام جائر يأخذ بحبه» أي يحكم بهواه. فصل فالقضاء محنة، ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك، إذ التخلص منه على ما ابتلي به عسير؛ روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي. وروي عن أبي

فصل

هريرة أنه قال: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين. وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق. وكتب سلمان إلى أبي الدرداء بلغني أنك جعلت طبيبا تداوي، فإن كنت تبرئ، فنعما لك وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما فقال: ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما- متطبب والله. فصل فالهروب عن القضاء واجب، وطلب السلامة منه لا سيما في هذا الوقت لازم؛ وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعا رجلا ليوليه فأبى، فجعل يديره على الرضى فيأبى حتى قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أي ذلك تعلم خيرا لي؟ قال: ألا تلي، قال: فاعفني. قال: قد فعلت. وقال مالك: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضى بالمدينة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهيته في وجهه، إلا قاضيين سماهما. فصل وطلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة، روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ستحرصون على الإمارة وتكون حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة. فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه، وكل إليه وخيف فيه الهلاك عليه، ومن لم يسأله وامتحن به، وهو كاره له خائف على نفسه فيه، أعانه الله عليه». روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من طلب القضاء أو استعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولا استعان عليه،

فصل

أنزل الله ملكا يسدده». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسل الإمارة فإنك إن تؤتها من غير مسألة، تعن عليها، وإن تؤتها عن مسألة توكل إليها». فصل فيجب ألا يولى القضاء من أراده وطلبه، وإن تجمعت فيه شروط القضاء مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به ولا يقوى عليه. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعمل على عملنا من أراده»، ونظر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شاب في وفد وَفَد عليه فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر: كدت أن تغرنا من نفسك إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه. فصل وللقضاء خصال مشترطة في صحة الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية، إلا أن عدمها توجب عزل القاضي عن الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية ولا يوجب عدمها عزل القاضي عن الولاية إلا أنها مستحبة فيها، ويستحب بعدمها عزله عنها، فأما الخصال المشترطة في صحة الولاية، فهي أن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا واحدا، فهذه الستة خصال لا يصح أن يولى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولي من لم تجتمع فيه، لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية، سقطت الولاية، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تلي القضاء المرأة في الأموال دون القصاص، وقال محمد بن الحسن، ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال؛ وأما الخصال التي ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أن عدمها يوجب فسخ الولاية،

فهي أن يكون سميعا بصيرا متكلما عدلا؛ فهذه الأربع خصال لا يجوز أن يولى القضاء إلا من اجتمعت فيه؛ فإن ولي من لم تجتمع فيه، وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزة إلا الفاسق الذي ليس بعدل، فاختلف فيما مضى من أحكامه، فقيل: إنها جائزة وهو قول أصبغ، وقيل: إنها مردودة، وهو المشهور في المذهب؛ فعلى هذا القول العدالة مشترطة في صحة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة، على مذهبنا والتوحد. وأما الخصال المستحبة فكثيرة، منها أن يكون من أهل البلد، ورعا، عالما، يسوغ له الاجتهاد غنيا ليس بمحتاج ولا مديان، معروف النسب ليس بابن لعان ولا ولد زنا، جزلا نافذا، فطنا غير مخدوع لغفلة، ولا محدود في زنا ولا قذف، ولا مقطوع في سرقة، وروي عن عمر بن عبد العزيز منها خمس خصال، وهي: أن يكون عالما بالفقه والسنة، ذا نزاهة عن الطمع، مستخفا بالأئمة. يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على ذلك، وقيل: باللائمة يريد أنه يقضي بالحق ولا يهابهم فيه، والأول آمن، حليما عن الخصم، مستشيرا لأولي العلم. وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصلح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل، شديدا في غير عنف، لينا في غير ضعف، قليل الغرة، بعيد الهيبة، لا يطلع الناس منه على عورة؛ ومن الخصال المستحبة على ما يوجبه مذهبنا: ألا يكون أميا، وليس لأصحابنا في ذلك نص، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان، أحدهما: المنع، والآخر: الجواز، والأظهر عنده الجواز؛ لأن إمام المسلمين وسيد المرسلين وأفضل الحاكمين كان أميا، ومن طريق المعنى أنه لا يلزمه قراءة العقود ويجوز أن ينوب عنه في ذلك وفي تقييد المقالات غيره، وأن للمنع من ذلك وجها، لما فيه من تضييق وجوه الحكم، والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليس كغيره؛ لأنه معصوم؛ فهذه الخصال المستحبة ينبغي توخيها وبعضها آكد من بعض، فيقدم الذي يجتمع فيه منها آكرها، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أرى

فصل

خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع فيه منها خصلتان، رأيت أن يولى العلم والورع. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع، فبالعقل يسأل وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده وإن طلب العقل لم يجده. يريد بالعقل العقل الحصيف. وأما العقل الذي يوجب التكليف، فإنما هو مشترط في صحة الولاية على ما قدمناه. قال ابن حبيب: ويكون عالما بالسنة والآثار ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام. حكي ذلك عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، قالوا: ولا يصلح أن يكون صاحب رأي لا علم له بالسنة ولا بالآثار، ولا صاحب حديث ولا علم بالفقه والرأي؛ لأنه يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور. قال أصبغ: ويعزل الجاهل إلا ألا يوجد غيره، فيقر ويؤمر أن يستكثر من المشورة، ويتفقد أمره في كل حين. قال: وإذا لم يجد الإمام إلا رجلين، أحدهما عدل مأمون لا علم له بالقضاء والسنة، والآخر عالم وليس مثل الآخر في العدالة، فإن كان العالم لا بأس بحاله وعفافه، وإن كان دون الآخر، فليول هذا، وإن كان غير مرضي ولا موثوق به في عفافه وصلاحه، ولعله يقارب ما لا ينبغي، فلا يولى هذا ولا هذا إلا ألا يوجد غيرهما فإن لم يجد غيرهما ولي العدل القصير العلم، وليجتهد وليستشر، وإن وجد من يجمع العلم والعدل، فلا يولى غيره وإن لم يكن من أهل البلد؛ وقال سحنون: وإن كان الرجل العالم فقيرا وهو أعلم من بالبلد وأرضاهم، استحق القضاء، ولكن لا ينبغي أن يجلس حتى يغنى ويقضي عنه دينه، قال: ولا بأس أن يستقضى ولد الزنا ولا يحكم في الزنا، كما أن القاضي لا يحكم لابنه. فصل فالقضاة ثلاثة كما روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما الذي في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى بين الناس

على جهل فهو في النار»، وروي عنه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الحكام ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، حكم جهل فخسر فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فهزل - يعني جار- فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فعدل وأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ففي الجنة». وروي عن ابن عمر أنه قال: بلغني «أن القضاة ثلاثة، رجل جار فهو في النار، ورجل تكلف فقضى بما لا يعلم فهو في النار، ورجل علم فاجتهد فذلك ينجو كفافا لا له ولا عليه». وهذا يرده الحديث، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال إياس بن معاوية للحسن: بلغني أن القضاة ثلاثة، فذكر فيهم: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، فقال الحسن: إن فيما قضى الله علينا من نبأ داود وسليمان ما يرد قول هؤلاء الناس. يقول الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، فأثنى على سليمان ولم يذم داود. وقد روي في حديث معاذ بن جبل أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذن له أن يجتهد رأيه فيما لم يكن في الكتاب والسنة، قال له لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي؟ " قال له: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: ففي سنة رسوله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله».

فصل

فإذا اجتهد الحاكم فله أجر الاجتهاد وإن أخطأ باجتهاده. روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». فصل وهذا إذا كان من أهل الاجتهاد، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد، فهو آثم وإن أصاب باجتهاده لتقحمه وجرأته على الله في الحكم بغير علم. فصل فيحكم الحاكم بما في كتاب الله، فإن لم يكن، ففيما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صحبته الأعمال؛ فإذا كان خبرا صحبت غيره الأعمال، قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل مقدم على أخبار الآحاد، وكذلك القياس عنده مقدم على أخبار الآحاد، على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا، نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم، تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا. وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. ولقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة»، وأنه قال: «يد الله على الجماعة».

فإذا تضمن الله حفظ الجماعة، لم يجز عليها الغلط والسهو، فإن لم يجد في النازلة إجماعا، قضى فيها بما يؤديه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء، أخذ به، وإن اختلفوا نظر إلى أحسن أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى، إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم، فليس له ذلك، قاله ابن حبيب، وهو قول فيه اعتراض. والصحيح أنه إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما رأى، وإن كانوا أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد على مذهب من يرى التقليد ويقول به ما لم يتبين له في النازلة حكم، فإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد، ويقلد من قد نظر واجتهد أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك له. والثاني: أن ذلك ليس له. والثالث: أن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء، قضى بقول أعلمهم، وقيل بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم، إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، وله أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله، فذلك جائز إذا كان المشاور أهل النظر والاجتهاد.

فصل

فصل والاجتهاد بذل الوسع في طلب صواب الحكم، وهذا على مذهب من قال: إن الحق في طرف واحد، وإن المكلف إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ وقد استدل جماعة من أصحابنا على أن هذا هو مذهب مالك بقوله: - لما سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مخطئ ومصيب، وهذا لا دليل فيه، لاحتمال أن يريد اختلافهم فيما طريقه العلم، مثل ما وقعت بينهم فيه الحروب، أو يكون معنى قوله: إن منهم من أصاب النص، ومنهم من أخطأه باجتهاده فيما طريقه الاجتهاد، والأول أظهر - والله أعلم. وأما عن مذهب من قال: إن كل مجتهد مصيب، فالاجتهاد عنده بذل الوسع في إدراك صواب الحكم، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أن هذا هو مذهب مالك واستدل على ذلك من مذهبه بأن المهدي أمره أن يجمع مذهبه في كتاب يحمل عليه الناس، فقال له مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرقوا في البلاد، وأخذ أهل كل ناحية عمن وصل إليهم، فدع الناس وما هم عليه؛ فلولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأى أن كل مجتهد مصيب، لما رأى أن يقرهم على ما هو الخطأ عنده، وعلى هذا أصحاب الشافعي. وقد روي عن أبي حنيفة القولان جميعا، وكذلك فقد روي عن أبي الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - القولان جميعا، والصحيح عنه أن كل مجتهد مصيب- وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع، فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم، يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه، من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمره الله تعالى بشيء ويتعبده به وهو خطأ عنده، وقد استدل بعض من ذهب إلى أن الحق في واحد باختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة وهذا غلط بين، إذ ليس اختلاف المجتهدين في الأحكام كاختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة؛ لأن الكعبة في موضع واحد، فمن وافق جهتها باجتهاده فهو مصيب، ومن لم يوافق جهتها فهو مخطئ، لاستحالة كون الكعبة في موضعين، وليس كذلك ما عاد إلى

فصل

مسألتنا؛ لأن المجتهدين إذا اختلفا في اجتهادهما فأدى أحدهما اجتهاده إلى تحليل، والثاني إلى تحريم، فكل واحد منهما متعبد في نفسه بما أداه إليه اجتهاده، وليس في ذلك وجه من وجوه الاستحالة؛ لجواز ورود النص من عند الله تعالى به. فإذا جاز ورود النص به من عند الله لامتناع الاستحالة، وقام الدليل على أنه لا يجوز أن يأمر الله أحدا بشيء ويتعبده به- وهو خطأ عنده، وجب القول بتصويب المجتهدين وإن كان من أخطأ سمت القبلة باجتهاده فصلى إلى تلك الناحية مخطئ الكعبة فهو مصيب عند الله- وإن وقعت صلاته إلى غير القبلة؛ لأن غرضه إنما هو الاجتهاد في طلب السمت لا إدراكه؛ فالمختلفون باجتهادهم في طلب سمت القبلة مصيبون عند الله على هذا المعنى، وهذه جملة كافية لمن بصره الله وأفهمه في بيان صحة القول بتصويب المجتهدين، وهي من المسائل القطعيات. فصل فإذا صح القول بتصويب المجتهدين واستحال أن الحق في واحد بقيام الأدلة على ذلك، وجب أن يتأول قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» على ما لا ينافي الدليل، فيقول ليس معنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: أخطأ أي أخطأ الحق عند الله؛ لأن الحق عنده في جهة ما تعبده به أو إنما معناه أخطأ النص إن كان قد ورد في ذلك نص لم يعلم به، أو أخطأ في الحكم بالمال لمن لم يجب له في باطن الأمر، وذلك ممكن مع الحكم بالنص لا بالاجتهاد، وذلك مثل أن يكون لرجل على رجل حق بشهادة شاهدين عدلين فيهبه له أو يقبضه منه- ولم يعلم الشهود بذلك، ثم يقوم عليه بحقه أو على ورثته بشهادة شهيديه، فإن الحاكم يحكم له بشهادتهما ويعديه بحقه، فيكون مصيبا في الحكم عند الله بحكمه بنص الكتاب مخطئا في دفع المال إلى من لم يجب له فيه حق في باطن الأمر، وإذا احتمل الحديث هذه الوجوه، بطل الاحتجاج به في أن الحق واحد، وكذلك سائر ما يحتجون به ينفصل عنه بوجوه كثيرة من الانفصالات، وليس هذا موضع ذكرها.

فصل

فصل وحكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا على من علمه في باطن الأمر؛ لأن الحاكم إنما يحكم بما ظهر- وهو الذي تعبد به ولا ينقل الباطن عند من علمه عما هو عليه من تحليل أو تحريم، قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار». وهذا إجماع من أهل العلم في الأموال، واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقدها بظاهر ما يقضي به الحكم وهو خلاف الباطن، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وجمهور أهل العلم إلى أن الأموال والفروج في ذلك سواء، لأنها حقوق كلها تدخل تحت عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار». فلا يحل منها القضاء الظاهر ما هو حرام في الباطن. وقال أبو يوسف وأبو حنيفة وكثير من أصحابه: إنما ذلك في الأموال خاصة؛ فلو أن رجلين تعمدا لشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده- وهما قد تعمدا الكذب أو غلطا ففرق بشهادتهما بين الرجل والمرأة، ثم اعتدت المرأة، أنه جائز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم بأنه كاذب في شهادته؛ لأنها لما حلت للأزواج بالحكم في الظاهر، كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضي وحكمه فرق بينها وبين زوجها وقطع العصمة بينهما؛ ولولا ذلك ما حلت لزوج غيره؛ واحتجوا بحكم اللعان وقالوا: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه، ما فرق بينها وبين زوجها، ولحكم فيه بغير ذلك من وجوب

فصل

الحد عليها أو الرجم. قالوا: فلم يدخل هذا في معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا». قالوا: ألا ترى أن من شهد عليه بالنكاح أو بالطلاق وقضى القاضي عليه بذلك، لم يكن له الامتناع منه وجاز الحكم بشهادة الشهود عليه. ولزمه التسليم له كانت فرقته في الظاهر فرقة عامة، فلما كان ذلك دخل فيه الشاهد وغيره، ولهم في ذلك احتجاجات كثيرة لا تصح، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي رحمهما الله ومن قال بقولهما. فصل ويستحب للقاضي الجلوس للحكم في رحاب المسجد الخارجة عنه من غير تضييق عليه في جلوسه في غيرها، ليصل إليه اليهودي والنصراني والضعيف وهو أقرب للتواضع، ولا ينبغي له أن يجلس الفقهاء معه في مجلس قضائه، ولكن يتخذهم مستشارين إذا ارتفع عن مجلس قضائه؛ وهكذا كان عمر بن الخطاب يفعل بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا قول ابن حبيب في الواضحة. واستحب أشهب ألا يقضي إلا بحضرة أهل العلم؛ لكي إن أخطأ في حكمه رد مكانه قبل أن يفوت القضاء به، فلا يقدر على رده إلا أن يخاف الحصر من جلوسهم عنده، أو يشتغل قلبه بهم وبالحذر منهم، وهو اختيار ابن المواز؛ ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بين الخصمين- وبه من الضجر أو الغضب أو الجوع أو الهم ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير، وما كان من ذلك كله خفيفا لا يضر به في فهمه، فلا بأس أن يقضي وذلك به. فصل ويلزم القاضي تحري العدل بين الخصمين عنده فيكون مجلسهما منه واحدا ونظره إليهما سواء، وقد تكلم الناس في آداب القضاة وما يلزمهم أن يلتزموه في أنفسهم وأعوانهم، وبسطوا ذلك في كتبهم، فأغنانا ذلك عن ذكره، وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أصل في الأحكام فيجب تحفظه والوقوف عليه، وهو: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى

عبد الله بن قيس؛ سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وانفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا؛ لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة- أمرا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى؛ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته- والسلام ".

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]- أي خيارا عدولا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فصل وهذه الشهادة تكون في الدنيا ويوم القيامة في الأخرى- على ما أتت به الآثار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما كونها في الدنيا، فبيانه: ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر عليه بجنازة فقيل لها: خير وتتابعت الألسن بالخير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت؛ ومر عليه بجنازة فقيل لها: شر وتتابعت الألسن بالشر؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض»، زاد في حديث آخر: «فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار»، وما روي عنه أيضا أنه قال: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا ماذا يتبعه

من حسن الثناء». وأما كونها يوم القيامة، فبيانه: ما روي في الحديث أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «يدعى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال له: من يعلم ذلك؟ فيقول: محمد وأمته، فيأتون فيشهدون له بالتبليغ». ويروى أن الله تعالى إذا جمع عباده يوم القيامة، كان أول من يدعى إسرافيل، فيقول له ربه: ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم يا رب قد بلغته جبريل؛ فيدعى جبريل فيقال له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغت الرسل، فيدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم ربنا؛ فيخلى عن جبريل، ثم يقال للرسل ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا؛ فتدعى الأمم فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق؛ فيقول الرسل: إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك؛ فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتدعى أمة محمد، فيقال لها: أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون: نعم- ربنا- شهدنا أن قد بلغوا، فتقول تلك الأمم: - ربنا- كيف يشهد علينا من لم يدركنا؛ فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك فقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا،

فصل

فيقول الرب: نعم صدقوا " فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فصل وهذه شهادة صحيحة، لأنهم شهدوا بما علموا بأخبار من علموا صدقه بالأدلة الظاهرة والبراهين القاطعة، ومن هذا المعنى شهادة خزيمة بن ثابت للنبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الأعرابي أنه اشترى منه الفرس ولم يحضر ولا شهد. فصل وكذلك كل من علم شيئا بوجه من الوجوه التي يقع بها العلم، وجب عليه الشهادة به إذا دعي إليها؛ والعلم يدرك بأربعة أشياء فلا يصح لشاهد شهادة بشيء حتى يقع له العلم ويحصل عنده بأحدها، إذ لا تصح الشهادة إلا بما يعلم ويقطع على معرفته، لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته. قال الله عز وجل: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81]. فصل فأحد الوجوه التي يدرك بها العلم العقل بانفراده، فإنه يدرك به بعض العلوم الضرورية، مثل أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن السماء فوقه والأرض تحته؛ ويعلم به حال نفسه من صحته وسقمه، وإيمانه وكفره؛ وتصح بذلك شهادته على نفسه، وما أشبه ذلك. والثاني العقل مع الحواس الخمس: حاسة السمع، وحاسة البصر، وحاسة

فصل

الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس؛ فيدرك بالعقل مع حاسة السمع الكلام وجميع الأصوات المسموعات؛ ويدرك بالعقل- مع حاسة البصر جميع الأجسام والأعراض والأشخاص المبصرات، ويدرك بالعقل مع حاسة الشم جميع الروائح المشمومات، ويدرك بالعقل مع حاسة الذوق جميع الطعوم المذوقات، ويدرك بالعقل مع حاسة اللمس جميع الملموسات- على اختلافها في اللين والخشونة، وما أشبه ذلك. والثالث: الأخبار المتواترة، فإنه يعلم بها أخبار البلدان النائية، والقرون الماضية، وظهور النبي، ودعائه إلى الإسلام، وما أشبه ذلك. فصل فالعلوم المدركة من هذه الوجوه الثلاثة: علم ضرورة يلزم النفس لزوما لا يمكنها الانفصال منه ولا الشك فيه. والوجه الرابع: الذي يدرك به العلم هو النظر والاستدلال، والنظر والاستدلال مبني على علم الضرورة، أو على ما بني على علم الضرورة، أو على ما بني على ما بني على علم الضرورة- هكذا أبدا إلى ما أمكن ضبطه، وصح وجوده؛ مثال ذلك أن الإنسان عالم بوجود نفسه- ضرورة فهذا أصل تبنى عليه العلوم الضروريات، فإذا علمت نفسي ضرورة، نظرت هل أنا محدث أو قديم؛ فلا يصح أن أنظر هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فإذا نظرت، علمت أني محدث بالنظر الصحيح، فالعلم بحدثي علم نظري، مبني على العلم بوجود نفسي الذي هو ضرورة؛ ثم لما علمت أني محدث، نظرت هل لي محدث أو ليس لي محدث؛ فعلمت بالنظر الصحيح أنه لا بد لي من محدث، فهذا أيضا علم نظري مبني على علم نظري، مبني على علم ضروري؛ ثم أنظرُ بعد ذلك أيضا في محدثي: هل

فصل

هو قديم أو محدث؟ فأعلم بالنظر الصحيح أنه قديم؛ فالعلم بأن محدثي قديم علم نظري مبني على العلم بأن لي محدثا الذي هو علم نظري، وهو مبني على العلم بحدثي، الذي هو أيضا علم نظري، وهو مبني على العلم بوجودي وهو ضرورة. فصل فالعلم النظري يقع العلم به عقيب النظر، ويستوي مع الضروري في أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فالشهادة بما علم من جهة النظر والاستدلال جائزة، كما تجوز بما علم من جهة الضرورة، وذلك مثل ما روي أن خزيمة بن ثابت شهد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه اشترى الفرس من الأعرابي ولم يحضر ولا شهد؛ ومثل ما روي أن أبا هريرة شهد أن رجلا قاء خمرا، فقال له عمر: أتشهد أنه شربها؟ فقال: أشهد أنه قاءها، فقال له عمر بن الخطاب: ما هذا التعمق؟ فلا وربك ما قاءها حتى شربها؛ ومن ذلك: شهادة الحكماء في قدم العيوب وحدوثها، وشهادة أهل المعرفة في قدم الضرر وحدوثه؛ ومن هذا المعنى شهادة أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة للنبيين على أممهم بالبلاغ، وهذا بين من أن يحتاج إلى تبيانه؛ لأن كل مؤمن فإنما يشهد أن الله وحده لا شريك له وأنه حي، عالم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم- إلى غير ذلك من الصفات التي هو عليها- لعلمه بذلك، ولا طريق له إلى العلم بشيء من ذلك إلا من جهة النظر والاستدلال. فصل وكذلك الشهادة أيضا بما علم من جهة الأخبار المتواترة جائزة كالولاء والنسب والموت، وولاية القاضي وعزله، وضرر الزوجين، وما أشبه ذلك؛ يصح

فصل

للرجل إذا وقع له العلم بهذه الأمور وما أشبهها من جهة الخبر أن يشهد بذلك ويقطع عليه وتبت الشهادة عليه. فصل فالله تبارك وتعالى شاهد على خلقه، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98]. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد على أمته، وأمته شاهدة على جميع الأمم - يوم القيامة، وشاهدة لله بما شهد به لنفسه، وبما شهدت له به ملائكته وأولو العلم؛ وبعضها شاهد لبعض فيما يدور بينهم في الدنيا من المعاملات والهبات، والجنايات وسائر ما يقع بينهم من الأمور الدائرات. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106]- الآية وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].

فصل

وقال: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل». وقال: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه». وقال: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها، أو بخبر شهادته قبل أن يسألها». وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر». وقال للذي خاصم إليه: «شاهداك أو يمينه». فصل فاقتضت هذه الآيات الواردة في القرآن وما أوردناه من السنن والآثار خمسة فصول: أحدها: الإشهاد على الحقوق على اختلافها من البيع والنكاح والرجعة وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لسوى الشهداء، مما يتعلق فيه حق لسواهم على ما سنبينه إن شاء الله. والثاني: القيام بالشهادة. والثالث: صفة الشهود الذين يجب قبول شهادتهم. والرابع: مراتب الشهود في الشهادات. والخامس: مراتب الشهادات.

فصل

فصل فأما الفصل الأول- وهو الإشهاد على الحقوق على تفاصيلها- فإن منها البيع وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد عليه فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] واختلف أهل العلم في وجوبه، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم أن الإشهاد على البيع مندوب إليه وليس بواجب؛ وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب، وأصل اختلافهم في هذا، اختلافهم في الأمر الوارد إذا ورد عاريا من القرائن: هل يحمل على الوجوب أو على الندب أو على الإباحة إذ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأمر قد يرد والمراد به الوجوب، مثل قَوْله تَعَالَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وما أشبه ذلك. وقد يرد والمراد به الندب، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. ومثل قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. وقد يرد والمراد به الإباحة مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، و {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. فإذا ورد الأمر عاريا من القرائن التي تدل على الوجوب أو الندب أو الإباحة، فمن أهل العلم من قال إنها تحمل على الإباحة، ومنهم من قال إنها تحمل على الندب، ومنهم من قال تحمل على الوجوب، ومنهم من قال: يتوقف فيه ولا يحمل على ندب ولا وجوب؛ حتى يدل الدليل على المراد به، ولكل واحد منهم على مذهبه حجاج يطول ذكرها، وليس هذا موضع إيرادها، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه

فصل

محمول على الوجوب- إذا دل النظر على تعريته من القرائن التي تخرجه عن الوجوب، والذي يدل على ذلك من مذهبه أنه احتج لوجوب إتمام ما دخل الرجل فيه من القرب بظواهر الأوامر من قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فصل فإذا كان مذهبه أن الأمر محمول على الوجوب إذا تعرى من القرائن، فإنما قال: إن أمر الله تعالى بالإشهاد على البيع ندب وليس بواجب، للأدلة الظاهرة على ذلك، منها قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فلما جاز أن يترك الرهن الذي هو بدل الشهادة ويؤتمن صاحبه، جاز ترك الإشهاد، إذ يفرق المخالف بين ترك الإشهاد والرهن الذي هو بدله، بل يقول بوجوب كل واحد منهما، ومنها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والبيع عقد من العقود، فأمر الله تعالى بالوفاء به، دليل على جوازه بغير إشهاد؛ لأن الأمر بالوفاء مع الإشهاد لا معنى له؛ لأنه إن جحد لزمه الحق بالشهود، ومن طريق السنة «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابتاع من أعرابي فرسه ولم يشهد، فلما نازعه الأعرابي وأنكر البيع قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من يشهد لي؛ فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد لك، قال وبم تشهد؟ قال: أصدقك في أخبار الآخرة ولا أصدقك في أخبار الدنيا؛ فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه بشهادته فسمي ذا الشهادتين» ومن الدليل أيضا على ذلك: الإجماع على

فصل

إجازة ترك الإشهاد في القليل التافه، كابتياع البقل وما أشبه ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة وفيما ذكرناه كفاية. فصل فإن قال قائل: فإذا سقط الوجوب فلم لم يكن محمولا على الإباحة وحمل على الندب؟ فالدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قد أمر بحفظ المال في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ونهى النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن إضاعته، وفي الإشهاد حفظ المال، فهذا دليل على الندب. فصل وكذلك الدين أمر الله تعالى فيه بالكتاب والإشهاد فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]؛ الآية. وذلك مرغب فيه ومندوب إليه وليس بواجب، ومن أهل العلم من قال: إنه واجب. فصل فإذا قلنا: إنه غير واجب فيهما، فإنه حق لكل من دعا إليه من المتبايعين أو المتداينين على صاحبه يقضى له به عليه إن أباه؛ لأن من حقه ألا يأتمنه،

فصل

ولذلك وجب على من باع سلعة لغيره الإشهاد على البيع، فإن لم يفعل ضمن؛ لأن رب السلعة لم يرض بائتمانه؛ وكذلك كل ما فيه حق لغائب، الإشهاد فيه واجب. قال الله- عز وجل- في الزانيين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. فأمر بالإشهاد لما يتعلق بذلك من حق غيره، ومن ذلك اللعان لا يكون إلا بمحضر جماعة من الناس، لانقطاع نسب الولد وغير ذلك من الأحكام. فصل وكذلك الإشهاد على عقد النكاح ليس بواجب على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما يجب الإشهاد عند الدخول لنفي التهمة والظنة عن نفسه، ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل». أي لا يكون وطء النكاح إلا باجتماع هذه الأشياء؛ لأن النكاح حقيقة إنما يقع على الوطء، وإنما سمي العقد نكاحا؛ لأن النكاح الذي هو الوطء يكون به؛ فسمي باسم ما قرب منه؛ ولا يصح أن يحمل الحديث على العقد؛ لأنه قد ذكر فيه الصداق وذلك ما لا يفتقر إليه العقد بإجماع؛ لأن القرآن قد جوز نكاح التفويض. فصل وأما الإشهاد في الرجعة فاختلف فيه في المذهب، حكى ابن القصار في كتابه أن الإشهاد على الرجعة مستحب وليس بواجب، وحكى إسماعيل القاضي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإشهاد على الرجعة واجب؛ لرفع الدعاوى وتحصين الفروج والأنساب، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين أن الإشهاد على الرجعة واجب بخلاف الطلاق والبيع، وذكر الفرق في ذلك بين الرجعة والبيع أن الله قد قال في البيع: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فدل

فصل

ذلك على أن الإشهاد في البيع غير واجب، وسكت عن الفرق بين الرجعة والطلاق - ولا فرق بينهما؛ لأن الله- تعالى- قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] في أول سورة الطلاق عقيب ذكره الطلاق والإمساك بالرجعة والمفارقة بانقضاء العدة، فوجب أن يرجع ذلك إلى الجميع رجوعا واحدا؛ إما وجوبا وإما ندبا، وقد قال ابن بكير: معنى ذلك أن يشهد ذوي عدل على مراجعتها إن راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها- أنه قد طلقها، وأن عدتها قد انقضت- خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو تموت هي فيدعي الزوج مثل ذلك، قال: وينبغي إن طلق طلاقا بائنا أن يشهد حين الطلاق أنها قد بانت منه خشية ما ذكرنا؛ لأن معنى البائن هي التي قد انقضت عدتها، فيلزم على قياس قوله أن يلزم الإشهاد في الطلاق الرجعي حين الطلاق مخافة الموت، فتدعي الميراث وتزعم أن عدتها لم تنقض. فصل فإذا قلنا إنه واجب فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج وما يتعلق بذلك من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الطلاق والرجعة. فصل وأما الفصل الثاني- وهو القيام بالشهادة - فإن الله تبارك وتعالى أمر به فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وذلك ينقسم على وجهين:

فصل

أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها. والثاني: أن يدعى ليشهد بما علمه- استحفظه إياه أو لم يستحفظه. فصل فأما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على الجملة، يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك، فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته، والدليل على ذلك؛ أن الله تبارك وتعالى أمر بالقيام بالشهادة فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فإذا قيم بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك. وأما الوجه الثاني- وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب عليه؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]. وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. فصل فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها». وهذا ينقسم

على وجهين: أحدهما: أن يكون حقا لله تعالى. والثاني: أن يكون حقا لآدمي، فأما إن كان حقا لله عز وجل، فإنه ينقسم على قسمين: قسم لا يستدام فيه التحريم، وقسم يستدام فيه التحريم؛ فأما ما لا يستدام فيه التحريم- كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فلا يضر الشاهد ترك إخباره بالشهادة؛ لأن ذلك ستر ستره عليه؛ والأصل في ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لهزال: «يا هزال هلا سترته بردائك». وإن علم الإمام بذلك، فقد قال ابن القاسم في المجموعة: يكتمونه الشهادة ولا يشهدوا في ذلك إلا في تجريح إن شهد على أحدث وأما ما يستدام فيه التحريم كالعتق والطلاق والأحباس والمساجد والقناطير، وما أشبه ذلك، فيلزمه أن يخبر بشهادته ويقوم بها غيره، فإن لم يخبر بشهادته سقطت شهادته؛ لأن سكوته على ذلك جرحة فيه؛ فإن هو قام بالشهادة، فاختلف هل تقبل شهادته؟ ذهب ابن القاسم إلى أنه لا تجوز شهادته إذا كان هو القائم بها. وذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ إلى أن شهادتهم جائزة- وإن كانوا هم القائمين بها؛ فإن قام غيره بالشهادة، سقط عنه الفرض وكان قيامه بذلك استحبابا؛ لأن فيه عونا على إقامة الحق؛ وإن لم يقم بالشهادة سواه، تعين عليه القيام بها؛ وأما الضرب الآخر: وهو أن يكون حقا لآدمي، فيلزمه أن يخبر بشهادته صاحب الحق، فإن لم يفعل فروى عيسى عن ابن القاسم أن شهادته تبطل. وذهب سحنون إلى أنها لا تبطل، وقد وقع في المبسوطة لأشهب ما ظاهره أن شهادته لا تبطل بالسكوت وترك الإخبار في حقوق العباد ولا في حق الله تعالى- وهو بعيد، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب

فصل في صفة الشاهد الذي تقبل شهادته

سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمي هذا إلا بعد أن يكون عند علم بالشهادة؛ وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]- وهذا بين- والحمد لله. فصل في صفة الشاهد الذي تقبل شهادته اعلم أن للشاهد في شهادته حالين: حال تحمل الشهادة، وحال أدائها. فأما حال تحملها فليس من شرط الشاهد فيها إلا أن يكون على صفة واحدة وهي الضبط والميز- صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا عدلا كان أو فاسقا. وأما حال أدائها، فمن شرط جواز شهادة الشاهد فيها أن تجتمع فيه خمسة أوصاف: متى عري عن واحد منها لم تجز شهادته، وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعدالة. فصل وإنما شرطنا في ذلك البلوغ؛ لأن الشاهد مأمور بأداء الشهادة والقيام بها، منهي عن كتمانها؛ والأمر والنهي لا يتوجه إلا على المكلفين، ومن لم يبلغ فليس بمكلف ومن جهة المعنى أن الشاهد يجب أن يكون ممن يخاف ويتحرج من الإثم فيشهد بالحق ويتوقى الباطل؛ والصغير لا يلحقه إثم ولا يتوقى عقوبة؛ لأن القلم مرتفع عنه، فوجب ألا تجاز شهادته، وهذا ما لا اختلاف فيه إلا ما أجيز من

فصل

شهادة الصبيان في الجراح والقتل - على اختلاف بينهم في ذلك ما لم يتفرقوا، أو لم يغيبوا على ما نذكر في موضعه- إن شاء الله. فصل وإنما شرطنا في ذلك العقل؛ لأن عدمه معنى ينافي التكليف كالصغير، وإنما شرطنا في ذلك الحرية، خلافا لمن أجاز شهادة العبد لغير سيده؛ لأن ظاهر قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. يدل ألا مدخل في ذلك للعبيد لأن مثل هذا اللفظ إنما يختص بالأحرار، ولا يدخل تحته العبيد إلا بدليل؛ ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فلم يدخل في ذلك العبيد؛ إذ لو دخلوا فهب ذلك لكان قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، لا فائدة فيه. ومن الدليل أيضا على أن العبيد لا مدخل لهم في الشهادة: أن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، والعبد لا يجوز إقراره على نفسه، فلما لم تجز شهادته على نفسه لم تجز على غيره، وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، والعبد ملكه بيد سيده لا يجوز له أن يشهد إلا بإذن سيده؛ فخرج ممن خوطب بالشهادة؛ ألا ترى أن العبد لما لم يجز أن يغزو إلا بإذن سيده، لم يكن مخاطبا بالجهاد، ولم يكن له في الفيء نصيب؛ ولأن الرق نقص يمنع الميراث، فنافى الشهادة كالكفر. فصل وإنما شرطنا في ذلك الإسلام؛ خلافا لمن أجاز شهادة الكافر في الوصية

فصل

في السفر- تعلقا بقول الله عز وجل: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]؛ لأن الله قال: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والإسلام شرط في صحة العدالة والرضا، وإنما شرطنا في ذلك العدالة لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقد اختلف في حد العدالة والرضا الذي تجوز به شهادة الشاهد اختلافا كثيرا، وأحسن ما قيل في ذلك- عندي أنه الشاهد الذي يجتنب الكبائر ويتوقى الصغائر- على أنه لا صغيرة على الإطلاق؛ لأن كل ما عصى الله به فهو كبيرة، وإنما يقال لها صغائر بإضافتها إلى الكبائر. فصل ومن شرط جواز شهادة الشاهد، أيضا: أن يكون من أهل اليقظة والتحرز؛ لأنه إن كان من أهل الغفلة والبله لم يؤمن عليه التميل من أهل التحيل، فيشهد بالباطل، واختلف هل من شرطه أن يكون مالكا لأمر نفسه، فروى أشهب عن مالك أن شهادة المولى عليه جائزة- إن كان عدلا، وهي رواية ابن عبد الحكم أيضا عنه. وقال أشهب: لا تجوز شهادته- وإن كان مثله لو طلب ماله أعطيه، واختار ذلك محمد بن المواز قال؛ "ولا تجوز شهادة البكر في المال حتى تعنس وإن كانت من أهل العدل ". فصل والشاهد ينقسم على ثلاثة أقسام شاهد معروف بالعدالة. وشاهد معروف بالجرحة. وشاهد مجهول الحال لا يعرف بعدالة ولا جرحة. فأما الشاهد المعروف بالعدالة، فتجوز شهادته ويحكم للطالب بها بعد

فصل في مراتب الشهود في الشهادات على مذهب مالك

الإعذار إلى المطلوب فيها؛ وأما الشاهد المعروف بالجرحة فلا تجوز شهادته إلا أن تثبت توبته من الجرحة التي علم بها، وسواء علم القاضي بجرحته أو ثبت عليه عنده. وأما الشاهد المجهول الحال، فيتوقف في شهادته حتى يسأل عنها، ولا يحمل على جرحة ولا عدالة، ومن أهل العلم من رأى أنه محمول على العدالة حتى يعلم جرحته على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد أو مجرب عليه شهادة زور - وهو قول الحسن، ومذهب الليث بن سعد، فعلى قول هؤلاء لا يحتاج إلى التزكية، وإنما يقول القاضي للمشهود عليه: دونك فجرح إن كان عندك ما تدفع به شهادة من شهد عليك، وأجاز ابن حبيب شهادة المجهول الحال على التوسم فيما يقع بين المسافرين في السفر للضرورة إلى ذلك، قياسا على إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح. من أصحابنا المتأخرين من أجاز شهادة المجهول الحال في اليسير جدا من المال، وهذا كله استحسان؛ والقياس ألا تجوز شهادة أحد حتى تعرف عدالته، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقد اتفقوا في الحدود، والقصاص على أن الشهادة لا تجوز في ذلك إلا بعد المعرفة بعدالة الشاهد، وهذا يقضي على ما اختلفوا فيه- إن شاء الله. فصل في مراتب الشهود في الشهادات على مذهب مالك وأما مراتب الشهود في الشهادات، فإنها إحدى عشرة مرتبة: فأولها الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، ثم الشاهد الذي يتوسم فيه العدالة، ثم الشاهد الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة، ثم الشاهد

فصل

الذي يتوسم فيه الجرحة، ثم الشاهد الذي ثبتت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه، ثم الشاهد المقيم على الجرحة المشهور بها، ثم شاهد الزور. فصل فأما الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء وتزكيته وتجريحه، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة، وقد قيل: إن التجريح لا يقبل فيه أصلا لا بعداوة ولا بغيرها، وكذلك الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك، وأما الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي: التزكية، وشهادته لأخيه ولمولاه، ولصديقه الملاطف، ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص منها؛ ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد فيه إذا أبهم ذلك. وكذلك الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك؛ وأما الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، فاختلف في إجازة شهادته: لم يجزها ابن الماجشون وأصبغ - وهو مذهب الشافعي، وأجازها ابن القاسم - وهو المشهور في المذهب. وأما الشاهد الذي تتوسم فيه العدالة، فتجوز شهادته دون تزكية- فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات على مذهب ابن حبيب، ولا تجوز فيما سوى ذلك دون تزكية. وأما الشاهد الذي لا تتوسم فيه العدالة ولا الجرحة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية؛ إلا أن شهادته تكون شبهة في بعض المواضع، وعند بعض العلماء فتوجب اليمين وتوجب القسامة، وتوجب الحميل وتوقيف الشيء المدعى فيه؛ وأما الشاهد الذي تتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شبهة توجب حكما، وأما الشاهد الذي تثبت عليه جرحة قديمة أو

فصل

يعلمها الحاكم به فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق، وإنما تقبل ممن علم جرحته إذا شهد على توبته منها ونزوعه عنها؛ والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك؛ لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخير؛ وأما الشاهد القيم على الجرحة المشهور بها، فلا تجوز شهادته، ولا تقبل فيه التزكية- وإن زكى؛ وإنما تصح تزكيته فيما يستقبل إذا تاب؛ وأما شاهد الزور، فلا تجوز شهادته أبدا، وإن تاب وحسنت حاله؛ وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح؛ قال: ولا أعلمه إلا قول مالك؛ فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: معنى رواية أبي زيد إذا أتى تائبا مبتهلا مقرا على نفسه بشهادة الزور- قبل أن يظهر عليه وهو الأظهر - والله أعلم. فصل فإن حدثت الجرحة بالشاهد بعد أداء الشهادة لم تجز شهادته فيما يستقبل، وبطلت في هذه، وقد قيل- وهو قول ابن الماجشون: إنها لا تبطل في هذه إذا كانت الجرحة شيئا ظاهرا كالجراح، والقتل، وما أشبه ذلك؛ وأما التهمة الحادثة بعد أداء الشهادة، فلا تبطل الشهادة كالرجل يتزوج المرأة بعد أن يشهد لها، أو يقع بينه وبين الرجل خصومة بعد أن يشهد عليه. فصل وأما التهمة الحاصلة في بعض الشهادة، فإنها تبطل جملة الشهادة على المشهور المعلوم في المذهب، مثل أن يشهد رجل أن له ولابنه أو لرجل أجنبي على فلان ألف درهم من معاملة أو سلف أو ما أشبه ذلك؛ وقد وقع في المدونة وغيرها في شهادة الشاهد يشهده أن رجلا أوصى له ولغيره بوصية مال اختلاف

كثير، يفتقر تحصيله إلى تفصيل وتقسيم، وذلك أنها مسألة تنقسم على قسمين كل قسم منها لا يخلو من وجهين: أحد القسمين أن يكون الموصي أشهد على وصية مكتوبة قد أوصى فيها للشاهد بوصية، والقسم الثاني: أن يكون أشهد على وصيته لفظا بغير كتاب، فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا، لأحد الشهود؛ فأما القسم الأول: - وهو أن يشهد الموصي على وصية مكتوبة وقد أوصى فيها للشاهد بوصية فلا يخلو أن يكون ما سمى للشاهد فيها يسيرا أو كثيرا، فإن كان يسيرا، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أن شهادة الموصى له لا تجوز لنفسه ولا لغيره؛ لأنه يتهم في اليسير كما يتهم فيه في غير الوصية، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة. والثاني: أن شهادته تجوز لنفسه ولغيره، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به من الوصية حق، وأخذ هو ماله فيها بشهادته مع أيمانهم؛ لأنه في حين التبع لجملة الوصية، وإن كان معه غيره ممن أوصي له أيضا فيها بيسير، ثبتت الوصية بشهادتهما، وأخذ كل واحد منهما ماله فيها بغير يمين؛ وإن كان الشاهد الذي معه ممن لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية أيضا بشهادتهما، وأخذ هو ماله فيها بغير يمين؛ وهذا هو قول ابن القاسم في المدونة، ورواية مطرف عن مالك في الواضحة. والثالث: أن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان معه غيره ممن أوصى له فيها بشيء يسير أيضا، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواهما

فأخذوا وصاياهم بغير يمين وحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته؛ وإن كان معه لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواه وحلف هو مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة. والرابع: أن شهادته تجوز له ولغيره - إن كان معه شاهد غيره فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ماله فيها بغير يمين؛ وكذلك صاحبه أيضا إن كان له فيها شيء يأخذ ماله فيها بغير يمين. وتجوز لغيره ولا تجوز لنفسه إن لم يكن معه شاهد غيره فيحلف غيره مع شهادته ويستحق وصيته ولا يكون له هو شيء؛ وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ وإن كان الذي أوصى به للشاهد كثيرا، فلا تجوز شهادته له ولا لغيره في المشهور من الأقوال، وتجوز شهادته لغيره ولا تجوز لنفسه على قياس قول أصبغ في نوازله من كتاب الشهادات في العبدين يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار، أن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما؛ ولا يجوز لحر أن يرق نفسه؛ إذ يقوم من قوله في هذه المسألة أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، جاز منها ما لا تهمة فيه- وهو خلاف المشهور المعلوم. وأما القسم الثاني: وهو أن يشهد الموصي على وصيته لفظا بغير كتاب فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا - لأحد الشهود، فلا يخلو أيضا من أن يكون الذي أوصى به لأحد الشهود كثيرا أو يسيرا، فإن كان يسيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره؛ فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم؛ وإن كان معه غيره ممن شهد لنفسه بيسير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه واستحق وصيته وأخذ من سواهما وصاياهم بشهادتهما دون يمين، وإن كان معه غيره ممن لم يشهد لنفسه بشيء حلف هو

فصل

معه واستحق وصيته وأخذ من سواه وصيته بشهادتهما دون يمين، وقد يقال: إنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره - بتأويل ضعيف، وإن كان الذي شهد به لنفسه كثيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات؛ فإن لم يكن معه غيره على مذهب ابن الماجشون ومطرف، حلف الموصى لهم واستحقوا وصاياهم بأيمانهم مع شهادته وإن كان معه غيره ممن يشهد لنفسه بكثير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته إن لم تكن شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد على مذهبهما في الشهود يشهد بعضهم لبعض أن شهادتهم لا تجوز إن كانت على رجل واحد في مجلس واحد، وأخذ من سواهما وصيته بشهادتهما دون يمين. فصل فالمشهور في المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، ردت كلها؛ وقد قيل: إنه يجوز منها ما لا تهمة فيه على قياس قول أصبغ الذي حكيناه، والمشهور في المذهب أيضا: أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة، جاز فيها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها وذلك قائم من المدونة من قوله في شهادة النساء للوصي أن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز- إن كان فيها عتق وإيضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها لانفراد الشاهد بها دون غيره، أنها تجوز فيما يصح فيه شهادة الشاهد الواحد، وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثل أن يشهدا لرجل على وصية رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة العتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى ذلك المزني عن أشهب

فصل في مراتب الشهادات

وجميع جلسائه؛ وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها وسقط عن حفظه بعضها، فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق. فصل في مراتب الشهادات والشهادات على مراتب أربع، إحداها: شهادة توجب الشيء المشهود به دون يمين، والثاني: شهادة توجب الشيء المشهود به مع اليمين. والثالثة: شهادة لا توجب الشيء المشهود به إلا أنها توجب حكما من الأحكام. والرابعة: شهادة لا توجب شيئا. فصل فأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به دون يقين فإنها على سبعة أقسام: أحدها: أربعة شهود في الزنا. والثاني: شاهدان فيما سوى ذلك. والثالث: شاهد وامرأتان في الأموال. والرابع: شهادة امرأتين فيما لا يطلع عليه الرجال من العيوب والاستهلال، وما أشبه ذلك. والخامس: شهادة السماع فيما جوز أهل العلم فيه شهادة السماع على الإطلاق. والسادس: شاهد واحد فيما يبتدأ الحكم فيه بالسؤال وفيما كان علما يؤديه. والسابع: شهادة الصبيان فيما أجيزت شهادتهم فيه. فصل وأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به مع اليمين، فإنها على خمسة أقسام: أحدها: شاهد عدل وامرأتان عدلتان في الأموال.

فصل

والثاني: شاهد غير عدل تجب القسامة به على رواية أشهب عن مالك. والثالث: ما يقوم مقام الشاهد من الرهن وإرخاء الستر ونكول المدعى عليه ومعرفة العفاص والوكاء واليد مع مجرد الدعوى، أو مع تكافؤ البينتين وما أشبه ذلك. والرابع: الشهادة بغالب الظن فيما لا سبيل فيه إلى القطع. والخامس: الشهادة على السماع في الولاء على مذهب ابن القاسم. فصل وأما الشهادة التي توجب حكما ولا توجب الحق، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: شهادة الشهود غير العدول في استحقاق الشيء المعين فإنها توجب توقيفه عند أصبغ. والثاني: شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتان أنه سرق له مثل ما يدعي أو شاهدين إذا جرحا- على اختلاف بينهم في ذلك. والثالث: شاهد عدل وامرأتان على الطلاق والعتق، فإنها توجب اليمين عند جميعهم، أو على الخلطة، فإنها توجب اليمين عند بعضهم، أو على النكاح، فإنها تسقط الحد أو على دعوى المعروف، فإنها توجب اليمين على المدعى عليه عند من لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد، وإذا نكل المدعي عن اليمين مع شاهده.

كتاب حريم الآبار

كتاب حريم الآبار قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11]. وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]. وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تفسير هذه الآية فقيل له: أهو الخريف فيما بلغك؟ فقال: لا والله، بل هذا في الخريف والشتاء وفي كل شيء ينزل الله من السماء ماء إذا شاء، ثم هو على ذهاب به لقادر، فجميع مياه الأرض من ماء السماء أنزله الله إلى الأرض وجعله فيها ثابتا لا يزول، وهو على إزالته قادر؛ وقال عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] يريد المطر، ويروى أن في الدنيا أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل، والفرات، وشيحان، وجيحان. فصل فمياه الأرض تختلف باختلاف مواضعها، ويختلف الحكم فيها لاختلافها؛ ويختلف أهل العلم في بعض وجوهها على ما سنبينه ونفصله- إن شاء الله، ولا قوة

فصل

إلا بالله؛ والأصل في ذلك كله «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب: "يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل»، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر، ولا يمنع رهو ماء»، وقوله: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». فصل فأما مهزور ومذينب: فواديان معروفان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس فيهما أهل المدينة، فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل على الأسفل؛ وهذا الحكم في كل ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين، ثم اختلف إذا بلغ الماء إلى الكعبين: هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل، أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على الكعبين؟ فقال مطرف وابن الماجشون، وابن وهب: يرسل على الأسفل ما زاد على الكعبين، وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع الماء ولا يحبس منه شيئا- والأول أظهر، وروى زياد عن مالك أن معنى الحديث أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه حتى يروى حائطه، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء. قال: وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما

فصل

لا حق فيه لأحد بعينه - أن الأول أحق بالتبدئة، ثم الذي يليه، إلى آخرهم رجلا؛ فيحتمل أن يكون معنى رواية زياد هذه عن مالك إذا كان ماء الوادي كثيرا فوق ما يتأتى به السقي لواحد، فلا يكون على هذا التأويل رواية زياد مخالفة لما تقدم، والأظهر أن ذلك اختلاف من القول، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم القسمة من سماع عيسى من كتاب السداد والأنهار. فصل وأما نقع البئر وهو الماء المجتمع فيها قبل السقي، وقيل: هو فضل مائها، وقيل: الموضع الذي يلقى فيه ما يكنس منها، وقيل: مخرج مسيل مائها وهو الماء المجتمع أيضا؛ قال الله عز وجل: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24]. واختلف أهل العلم في تأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء». فحمله جماعة من أهل العلم على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء ولا منعه بحال- كان من بئر، أو غدير، أو عين، في أرض متملكة، أو غير متملكة، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه، وهو قول يحيى بن يحيى في العتبية: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وقال بعضهم: تأويل ذلك في مثل البئر تكون بين الشريكين يسقي هذا يوما، وهذا يوما أو أقل، أو أكثر، فيسقي أحدهما يومه فيروى زرعه أو نخله في بعض يومه، فيستغني عن الماء- بقية يومه، فليس له أن يمنع شريكه من السقي في بقية ذلك اليوم؛ إذ لا

فصل

منفعة له في منعه ولا يضره تركه؛ وقال بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره- ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره؛ والتأويلان قريبا المعنى، والله أعلم. وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، فإنما هو في بئر الماشية التي تحتفر في البراري والمهامه؛ لأن المواشي لا ترعى إلا حيث تجد المياه، فإذا منعت من الماء، كان منعا لها عن الكلأ. فصل فالمياه تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون في أرض ممتلكة. والثاني: أن تكون في أرض غير ممتلكة. فأما ما كان منها في أرض ممتلكة، فسواء كانت مستنبطة مثل بئر يحفرها أو عين يستخرجها، أو مواجل يتخذها، أو غير مستنبطة، مثل عين في أرضه لم يستخرجها أو غدير وما أشبه ذلك؛ فهو أحق به ويحل له بيعه ومنع الناس منه إلا بثمن، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم، ويخاف عليهم الهلاك- إن منعهم فحق عليه أن لا يمنعهم، فإن منعهم، كان لهم مجاهدته، هذا قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه لم يحمل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع نقع البئر على عمومه، بل تأوله على ما تقدم، إلا أنه يستحب له ألا يمنع الشرب من العين أو الغدير تكون في أرضه من أحد من الناس من غير حكم يحكم به عليه، وله في واجب الحكم أن يمنع ماءه إذا شاء ويبيحه إذا شاء، واختلف في الرجل يكون له زرع قد زرعه على بئره

فصل

فانهارت بئره- ولجاره فضل ماء، فقيل: إنه يقضى له بفضل ماء بئر جاره قيل: بثمن وقيل بغير ثمن؛ فمن حمل الحديث على عمومه، أو تأوله في هذا المعنى، قال: بغير ثمن، ومن تأول في الشريكين في الماء قال: لا يقضى عليه إلا بالثمن؛ والقولان لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وأما ما كان منها في أرض غير متملكة، فلا يخلو من أن تكون مستنبطة أو غير مستنبطة؛ فأما ما كان منها مستنبطا مثل البئر يحفرها في الصحاري والبراري لماشيته أو المواجل، فهو أولى به حتى يروي ماشيته؛ ثم يشترك الناس في الفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ». وهذه البئر لا تباع ولا تورث على وجه الملك، إلا أن الورثة ينزلون منزلة موروثهم في التبدئة بالشرب؛ وإن أوصى بثلث ماله لرجل، فلا يبدؤون بالشرب ولا ينزلون منزلة الموصي في ذلك، هذه رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. فصل فإن تشاح أهل البئر في التبدئة، فقد قال ابن الماجشون إن كانت لهم سنة من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم وكبير على صغير، حملوا عليها، وإلا استهموا، وهذا- عندي إذا استوى تعددهم من حافرها، وأما إن كان بعضهم أقرب إليه، فهو أحق بالتبدئة- قلت ماشيته أو كثرت، ولا حظ فيها لزوجة ولا زوج بالزوجية وهما كالأجنبي إذا لم يكونا من ذلك البطن؛ والبئر والماجل والجب في ذلك سواء عند مالك، خلاف قول المغيرة في أن له أن يمنع فضله ماء جب الماشية، ووجه قوله أن الجب يتكلف فيه نفقة كثيرة وليس بمعين كالبئر التي إذا نزف منها شيء عاد فيه مثله، فلا يحمل أمره على أنه أراد به الصدقة إلا ببيان، وهو في بئر الماشية يحفرها في المهامه، - محمول على أنه إنما أراد به الصدقة؛ فإن ادعى أنه لم يرد الصدقة، وأنه أراد أن يبيع ماءها لم يصدق، ومنع من ذلك

فصل

بالحكم؛ ولو أشهد عند حفره إياها أنه إنما يحفرها لنفسه، لوجب ألا يمنع من بيع مائها، وأن يستحقها ملكا بالإحياء على حكم إحياء الموات؛ قال في المدونة: أكره بيع ماء بئر الماشية، وقال في المجموعة لا يجوز ذلك؛ فقيل إنه لا اختلاف من القول، والصحيح أن ذلك إنما يعود إلى الفرق بين أن يحفرها على وجه الصدقة، أو على غير وجه الصدقة- والله أعلم. فصل ووجه التبدئة في الشرب في بئر الماشية إذا اجتمع أهل البئر والمارة وسائر الناس بمواشيهم والماء يقوم بهم: أن يبدأ أولا أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا، ثم دواب المارة حتى يرووا، ثم مواشي أهل الماء حتى يرووا، ثم الفضل لسائر مواشي الناس. وبدأ أشهب دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء. فصل فأما إن لم يكن في الماء فضل وتبدئة أحدهم يجهد الآخر فإنه يبدأ بأنفسهم ودوابهم من كان الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد تساووا، هذا مذهب أشهب، وعلى ما ذهب إليه ابن لبابة أنهم إذا استووا في الجهد، فأهل الماء أحق بالتبدئة لأنفسهم ودوابهم؛ وأما إن قل الماء جرا أو خيف على بعضهم بتبدئة بعض- الهلاك فإنه يبدأ أهل الماء فيأخذون لأنفسهم ما يذهب عنهم الخوف فإن فضل فضل أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم؛ فإن فضل فضل، أخذ أهل الماء لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم؛ فإن

فصل

فضل فضل أخذ المسافرون لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف - عندي في هذا الوجه؛ هذا الذي يتحصل عندي من قول أشهب وابن لبابة. فصل وأما ما كان منها غير مستنبطة مثل الأنهار والعيون والغدر، فهي لجماعة المسلمين يشتركون في المنفعة بها فيما يحتاجون إليه من الصيد والمرور بقواربهم لحوائجهم ومنافعهم؛ ومن كان يلي النهر من جهتيه بأرضه فله أن ينشئ عليها رحى ويكون أحق بها؛ وأما إن كانت الضفتان لرجلين فليس لأحدهما أن يعمل رحى في جهته وينفذ سده إلى برية صاحبه إلا بإذنه، فإن اجتمعا على عمل الرحى فاشتركا فيها، وإلا اقتسما الماء- فأخذ كل واحد منهما نصفه فعمل فيه رحى- إن قدر على ذلك. فصل وذلك بخلاف الصيد ليس لمن على النهر من جانبيه أن يختص بالصيد فيما يوازي أرضه دون جماعة الناس - لو عمل في ذلك الموضع مصائد للحوت بالقصب والخشب وما أشبه ذلك مما يعرفه أهل الاصطياد بدءوا بالاصطياد فيها؛ فإذا نالوا حاجتهم، خلوا بين الناس وبينها يصطادون فيها، وبهذا قال مطرف وابن الماجشون في الواضحة؛ وذلك عندي بعد أن يصير إليهم فيما صادوا بها قدر ما أنفقوا فيها؛ واختلف في الصيد في الغدر التي تكون في ملك الرجل؛ فقال ابن القاسم: ليس لصاحب الأرض أن يمنع أحدا من الصيد فيها،

وقال مطرف وابن الماجشون وسحنون: له أن يمنع الناس من الصيد فيها؛ وروي عن أشهب التفرقة في ذلك بين أن تكون الحيتان تولدت فيها من الماء أو يكون طرح هو فيها حيتانا تولدت منها؛ واختلف أيضا في الخشب التي يمر بها في الأنهار فلا يقدرون على الجواز بها إلا بخرق السداد هل لهم أن يخرقوا السداد ويجوزوا بخشبهم، أم ليس لهم ذلك على قولين؛ ففي سماع حسين بن عاصم من كتاب السداد والأنهار من العتبية؛ أن ذلك لهم؛ وروى مثله سحنون عن ابن القاسم في غير العتبية، وقال محمد بن إبراهيم بن دينار المدني؛ وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب - عندنا- فتطرح بالوادي، فربما مرت بأصحاب السداد فيمنعونهم من خرق السداد وهم يصلحونه- كما كان؛ قال إن كان خرقهم إياه يضر بأصحاب السد لم أر أن يخرقوا شيئا- وإن كان لا يضر بهم- وهو يصلحونه. لا يخاف عليه حالة من أجل ما خرق صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه، فأرى ألا يمنعوا من خرق ما مروا به- على ما ذكرت لك، وبالله التوفيق.

كتاب المديان

كتاب المديان قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فدل ذلك من قوله على جواز التداين، وذلك إذا تداين في غير سرف ولا فساد- وهو يرى أن ذمته تفي بما تداين به. فصل وقد رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثار كثيرة في التشديد في الدين، منها: ما روى ابن أبي قتادة عن أبيه أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. فلما أدبر الرجل، ناداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أمر به فنودي له، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف قلت؛ فأعاد عليه قوله، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نعم، إلا الدين، فإنه كذلك قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛» ومنها: ما روي عنه أنه «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسا مع أصحابه في موضع الجنائز، إذ رفع رأسه ثم نكسه

فصل

ثم وضع راحته على جبهته ثم قال سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين» أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نفس المؤمن معلقة بدينه» أو قال: «ما كان عليه دين حتى يقضى عنه» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان هاهنا من بني فلان؟ " فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد ثم قالها فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد؛ فقام رجل، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما منعك أن تجيب؛ " فقال خشيت أن يكون نزل فينا من الله قرآن، فقال: "لم أكن لأدعو أحدا منكم إلا إلى خير، ولكن صاحبكم حبس بدين عليه دون الجنة». «وقال لسعد بن الأطول: " إن أخاك محبوس في دينه فاقض عنه». فيحتمل أن تكون هذه الأشياء إنما وردت فيمن تداين في سرف أو فساد غير مباح، أو فيمن تداين وهو يعلم أن ذمته لا تفي بما تداين به؛ لأنه متى فعل ذلك فقد قصد إلى استهلاك أموال الناس؛ وقد قيل: إن هذا كله كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات، وقبل أن يفرض على الناس الزكوات؛ فما أنزل الله تعالى براءة، ففرض فيها الزكوات وجعل منها للفارسي سهما، وأنزل آية الفيء والخمس، فجعل فيها حقا للمساكين وابن السبيل، قال حينئذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي». فصل فكل من ادَّان في مباح وهو يرى أن ذمته تفي بما ادَّان به فغلبه الدين فلم

فصل

يقدر على أدائه حتى توفي، فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الصدقات، أو من الصدقات كلها- إن رأى ذلك على مذهب مالك، ومن يرى أنه إن جعل الزكاة كلها في صنف واحد، أجزأه، وقد قيل: لا يجوز أن يؤدى دين الميت من الزكاة، فعلى هذا القول إنما يؤدي الإمام دين من مات وعليه دين من بيت المال من الفيء الحلال للفقير والغني. فصل وواجب على كل ذي دين أن يوصي بأدائه، فإذا فعل وترك من المال ما يفي بدينه، فليس بمحبوس عن الجنة من أجل دينه؛ وكذلك إن لم يترك وفاء دينه، فعلى الإمام أن يؤديه عنه من بيت المسلمين، أو مما فرض الله في الزكاة للغارمين، فإن لم يفعل، فهو المسئول عن ذلك وليس صاحب الدين بمحبوس عن الجنة من أجل دينه إذا لم يقدر على أدائه في حياته وأوصى بأدائه بعد مماته. وقد استعاذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدين فقال: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياكم والدين فإن أوله هم، وآخره حرب. فصل ومن كان عليه دين ولم يكن له مال يؤديه منه، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس ولا يؤاجر ولا يستخدم ولا يستعمل؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يصح أن يؤاجر فيه. قال ابن المواز حرا كان أو عبدا: مأذونا له في التجارة وهذا قول مالك وجمهور أهل العلم، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المعسر يؤاجر في الدَّين، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، معناه إن حضر ذو

فصل

عسرة، أو وقع ذو عسرة، فالآية عامة في كل من أعسر بدين، كائنا ذلك الدين ما كان؛ وقد روي عن ابن عباس وقوم من المفسرين أن الآية نزلت في الربا، وإلى هذا ذهب شريح فقال: إن المعسر يحبس في الدين؛ لأن الله قد أمر بأداء الأمانة، والآية في إنظار المعسر إلى أن يوسر، إنما أنزلت في الربا، وإنما قال ذلك شريح ومن قال بقوله؛ لكونها بعقب ذكر الربا، فظنوا أنها فيه وليس ذلك بصحيح لوجهين؛ (أحدهما): أن الربا قد أحبطه الله وأبطله، فكيف يكون فيه نظرة. والثاني: أن القراءة إنما هي: وإن كان ذو عسرة- بالرفع، فلما كان كذلك، علم أنه لم يعن بها صاحب الربا، ولو عنى بها صاحب الربا- كما قال شريح، لقيل: وإن كان ذا عسرة، أي إن كان الذي عليه الربا ذا عسرة، وكذلك في قراءة أبي بن كعب. فصل ولو قال الذي قال: إن الآية معطوفة على الربا-: إنها معطوفة على رأس مال الربا، لكان سائغا على هذه القراءة، ولوجب أن يقاس سائر الديون على رأس مال الربا؛ إذ لا فرق بين رأس مال الربا وغيره من الديون، فبان بما أردناه صحة ما ذهب إليه مالك: أن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار، فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين؛ لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر. فصل وهذا في المعسر المعدم، إذ ليس كل معسر معدما، وكل معدم معسر؛ فالإعسار أعم من الإعدام؛ فالغرماء على هذا ينقسمون على ثلاثة أقسام:

فصل

غريم غني، وغريم معسر غير معدم، وغريم معسر معدم؛ فأما الغريم الغني، فتعجيل الأداء عليه واجب، ومطله به عليه حرام غير جائز؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وأما المعسر الذي ليس بمعدم - وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به، فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه، مرغب فيه ومندوب إليه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير مقصر ولا متوان، غير محظور عليه إن شاء الله؛ وكان الشيوخ بقرطبة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه ببيع ماله وتعجيل إنصافه؛ وأمما المعسر المعدم فتأخيره إلى أن يوسر واجب، والحكم بذلك لازم؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. فصل والغريم محمول على الملأ حتى يتبين عدمه - كان قد أخذ في الدين الذي يطلب به عوضا أو لم يؤخذ له عوضا؛ لأنه إن كان أخذ عوضا فهو مال قد حصل إليه، فلا يقبل منه دعوى العدم حتى يبينه؛ وإن كان لم يأخذ له عوضا، فالمعلوم من حال الناس التكسب وطلب المال، فهو محمول على ما يعلم من حال الناس وما جبلهم الله عليه؛ هذا قول أبي إسحاق وغيره، ويدخل- عندي- في هذا الوجه الآخر الاختلاف بالمعنى من مسألة الذي يغيب عن امرأته ثم تطلبه بالنفقة. فصل وحبس الغريم إنما يكون ما لم يظهر عدمه ويثبت فقره، والدليل على

فصل

إجازة حبسه في هذه الحال، قول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. فإذا جازت ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه ولا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار. فصل وحبس المديان على ثلاثة أوجه: أحدها: حبس تلوم واختبار فيمن جهل حاله. والثاني: حبس من ألد واتهم بأنه خبأ ماله وغيبه. والثالث: حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم، فتبين كذبه؛ إذ لم يعلم أنه جرى عليه سبب أذهب ما حصل عنده من أموال الناس. فأما حبس التلوم والاختبار في المجهول الحال، فبقدر ما يستبرأ أمره ويكشف عن حاله، وذلك يختلف باختلاف الدين فيما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون، فيحبس في الدريهمات اليسيرة- قدر نصف شهر، وفي الكثير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهرين؛ ووجه ذلك أنه يسجن على وجه اختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن من أجله. وأما حبس من ألد واتهم بأنه خبأ مالا وغيبه، فإنه يحبس حتى يؤدي، أو يثبت عدمه فيحلف ويسرح. وأما حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم فتبين كذبه، فإنه يحبس أبدا حتى يؤدي أموال الناس، أو يموت في السجن؛ وروي عن سحنون أنه يضرب بالدرة- المرة بعد المرة حتى يؤدي أموال الناس، وليس قوله هذا بخلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقد قال مالك يضرب الإمام الخصم على اللدد، وأي لدد أبين من هذا؛ فالقضاء بما روي عن سحنون في مثل هؤلاء الذين

فصل

يقعدون على أموال الناس، ويرضون بالسجن ويستخفونه ليأكلوا أموال الناس ويستهضمونها؛ هو الواجب الذي لا تصح مخالفته- إن شاء الله؛ وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وما حكى ابن الهندي عن سحنون أنه قال في أمر ابن أبي الجواد إذ ضربه حتى مات- إن صح، فلا يدل على رجوعه عن مذهبه، وإنما يدل على ثبوته عليه واستبصاره فيه مع ورعه وفضله؛ لأنه قال: لم أقتله أنا وإنما قتله الحق، وأشفق مع ذلك إشفاق المؤمن الحذر الخائف لربه مخافة أن يكون جاوز في اجتهاده ائتساء بعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: لو مات حمل بشاطئ الفرات ضياعا، لخشيت أن يسألني الله عنه. فصل فإن سأل المحبوس للتلوم والاختبار أن يعطي حميلا حتى يتبين حاله ويكشف عن أمره ولا يحبس، فقال في المدونة في هذا الوجه: يحبس أو يؤخذ عليه حميل، ولم يبين إن كان بالوجه أو بالمال؛ قال أبو إسحاق التونسي بالوجه دون المال في مذهب ابن القاسم - يريد حميلا بإحضاره عند انقضاء المدة التي يجب سجنه فيها لاختبار حاله، فإذا أحضره عندها برئ من الضمان وحبس إن تبين أن له مالا حتى يؤدي؛ وإن كان لم يتبين أن له مالا أطلق بعد اليمين، وإن لم يحضره غرم وإن تبين أنه عديم من أجل اليمين اللازمة له وإن سأل المحبوس للدد والتهمة- أن يعطي حميلا بوجه إلى أن يثبت عدمه، لم يمكن من ذلك؛ لأن التضييق بالسجن واجب عليه للتهمة اللاحقة به رجاء أن يؤدي، فإن أراد ألا يسجن أعطى حميلا غارما لا يسقط عنه الغرم إثباته للغريم المطلوب العدم؛ وكذلك إن أقام بينة بالعدم ولم تزك- قاله سحنون. وأما إن أثبت العدم وسأل الطالب أن يعذر إليه في الشهود الذين شهدوا له بالعدم، فإن قدر على حميل بوجهه ليحضره فيعاد إلى السجن- إن دفع في البينة، أو يستحلف إن عجز عن الدفع؛ لم يسجن، وليس قول ابن القاسم بمخالف لقول سحنون في هذا الوجه، ولا قول سحنون بمخالف

فصل

لقول ابن القاسم في الوجه الأول. وأما المحبوس لتقعده على أموال الناس، فلا ينجيه من السجن والضرب على ما روي عن سحنون إلا حميل غارم، وهذا كله بين. فصل ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين - إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب في دين الولد- إذا كان له بيده مال؛ رواه ابن سحنون عن ابن عبد الحكم، ومعنى ذلك أنه قبض مالا ولم يعلم إنفاذه فلا يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر من حاله، ويحبس الأب إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصغير، ولا يحبس له في دينه إذا كان له عليه دين والفرق بينهما أن تركه للإنفاق على ولده الصغير من الإضرار به، فالسلطان يأخذه بذلك ويلزمه إياه ويحبس المسلم الكافر والسيد لمكاتبه؛ ووجه ذلك أن الحقوق لا يعتبر فيها الحرمة والمنزلة إلا الوالد في حق الولد؛ لأن حقه عليه ليس لأجل حرمته ومرتبته؛ لأن حرمتهما واحدة، وإنما ذلك لما له عليه من حق الأبوة الموجبة للنفقة، ويحبس سائر القرابات من الأجداد وغيرهم- والله أعلم. فصل وهذا لمن لم يتفالس ويقول: لا شيء لي، وأما إذا حل الدين فسأل أن يؤخر ووعد بالقضاء، فليؤخره الإمام حسبما يرجو له، ولا يعجل عليه بالتفليس وبيع عروضه عليه في الحين؛ والروايات بذلك مسطورة في المدونة والعتبية والواضحة وغيرها من الدواوين، وتأخير الأخذ بالشفعة بالنقد من هذا المعنى.

فصل

فصل وإذا أخر الغريم بما حل عليه، أخذ منه حميل - قاله سحنون في كتاب ابنه، فإن لم يكن له حميل سجن، ووجه هذا إن تعذر القضاة قد يتجه على أكثر الناس، إلا أن يكون رجلا يعرف بالوفر، وأن عنده الناض فلا يؤجل ولا يؤخر. فصل فإن لم يعلم أنه من أهل الناض وادعى الغريم أن عنده مالا ناضا، وأنه إنما يريد اللدد به والإضرار بتأخير حقه عنه، ودعا إلى تحليفه على ذلك؛ فيجري الأمر على الاختلاف في يمين التهمة؛ وكان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضعف اليمين في ذلك، ويحتج لتضعفها بقول مالك في سماع أشهب من كتاب الزكاة: وجل الناس ليس لهم نقد؛ وأما إن حقق عليه الدعوى فاليمين له عليه واجبة باتفاق، فإن نكل عليها حلف الطالب وجبر المطلوب على الأداء، ولم يؤخر قليلا ولا كثيرا. فصل فإن سأل الطالب أن يفتش عليه داره وقال: إنه قد غيب فيها ماله، فإن الشيوخ المتأخرين كانوا يختلفون في ذلك، حكى الفقيه أبو الأصبغ، وابن سهل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه- شاهد الفتيا والحكم بطليطلة إذا دعا الطالب إلى أن يفتش مسكن المطلوب عند ادعائه العدم بالحق، أن يفتش مسكنه فما ألفي فيه من متاع الرجال بيع عليه وأنصف الطالب منه، لا يختلف فقهاؤهم في ذلك، وأنه أنكر ذلك على أكثرهم فاستصروا فيه ولم يرجعوا عنه، وأنه سأل عن ذلك الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأنكره، وأنكره أيضا ابن مالك وقال: أرأيت إن كان الذي يلفى في بيته ودائع؛ قال: فقلت له ذلك محمول على أنه ملكه حتى يتبين خلافه؛ فقال: يلزم إذا توقيفه والاستيناء به حتى يعلم هل له طالب أو يأتي بمدع فيه؛ قال: وأعلمت ابن

فصل

القطان بعمل طليطلة في ذلك، فقال لي ما يبعد ولم ينكره، وأنا أراه حسنا فيمن ظاهره الإلحاد والمطل واستسهال الكذب، والله أعلم بالصواب. فصل وإذا ثبت عدم الغريم وانقضاء أمد سجنه، فلا يطلق حتى يستحلف ما له مال ظاهر ولا باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه؛ وإنما وجب أن يحلف مع ثبوت عدمه؛ لأن الشهود إنما يشهدون له على العلم كالذي يستحق العرض بشهادة الشهود، فلا بد أن يحلف أنه ما باع ولا وهب، إذ شهادة الشهود في ذلك، إنما هي على العلم لا على القطع. فصل فإذا حلف، خلي سبيله ولم يكن للطالب عليه سبيل حتى يتبين أنه قد أفاد مالا، فإن قام عليه بعد ذلك وادعى أنه قد أفاد مالا- ولم يأت على ذلك ببينة وسأل أن يحلفه: ما أفاد بعد ذلك مالا، لم يكن ذلك له؛ لأنه قد استحلف على ذلك؛ لئلا يتعنته باليمين في كل يوم؛ فهذا هو فائدة زيادة قوله في اليمين، ولئن وجد ليؤدين إليه حقه، والله أعلم. فصل فإن شهد له قوم بالعدم وشهد عليه آخرون بالملأ ولم يعينوا له مالا، ففي أحكام ابن زياد أن شهادة من شهد بالملأ أعمل، وإن كانوا أقل عدالة، ويحبس بشهادتهم حتى تقوم له بينة أنه أعدم بعد ذلك بحاجة أتت عليه؛ وهذا- عندي بعيد، ولا يصح عندي في المسألة إلا رواية أبي زيد أن ذلك تكاذب وتهاتر، وأن بينة العدم أعمل؛ لأنها أثبتت حكما، وهو تحليفه وتسريحه، والثانية: نفت

فصل

الحكم وإنما يشبه أن يقال: إن بينة الملأ أعمل إن كان هذا الاختلاف بين البينتين بعد أن حلف وسرح؛ لأن البينة التي شهدت عليه بالملأ تكون هاهنا هي التي أوجبت الحكم- وهو رده إلى السجن، والله أعلم. ورواية أبي زيد قد وقعت في كتاب المديان والتفليس في بعض الروايات، قال فيها: إنه لا ينظر إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، ويدس في ذلك أهل الصلاح والفضل؛ فإن كان له مال ضيق عليه حتى يؤخذ منه الحق، وإن لم يكن له شيء خلي حتى يرزقه الله تعالى، فعلى هذه الرواية جعل البينتين متعارضتين تسقطان جميعا إذا استوت في العدالة، ويرجع إلى أصل حاله؛ فإن كان متهما بأنه خبأ مالا، حبس حتى يأتي ببينة على العدم أعدل من البينة التي شهدت عليه بالملأ، وإن كان إنما سجن تلوما واختبارا، أطلق إذا انقضت مدة اختباره على ما حكيناه عن ابن الماجشون من التفصيل في ذلك. فصل ومن أحاط الدين بماله فلا تجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق ولا إقرار بدين لمن يتهم عليه، ويجوز بيعه وابتياعه- ما لم يحجر عليه؛ وكذلك له أن ينفق على زوجه وعلى كل من يلزمه الإنفاق عليه، وأن يتزوج من المال الذي بيده ما لم يضرب على يديه ويحجر عليه فيه، وليس له إن جنى جناية عمدا فيها القصاص أن يصالح بما بيده من أموال غرمائه- على رفع القصاص عن نفسه، ولو كانت الجناية خطأ أو عمدا لا قصاص فيها، كان ذلك له؛ وإن وهب أو تصدق- وعليه ديون كثيرة، وبيده ما لا يدري أن كان يفي بما عليه من الديون أم لا، فالهبة والصدقة جائزة حتى يعلم أن ما عليه من الدين يستغرق ماله، قاله ابن زرب، واحتج على ذلك برواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الرضاع في الذي يدفع إلى المطلقة نفقة سنة، ثم يفلس بعد ستة أشهر، أنه إن كان يوم دفع النفقة قائم الوجه جائز الأمر ولم يظهر من فعله سرف ولا محاباة؛ فذلك جائز وبالله التوفيق.

كتاب التفليس

كتاب التفليس الفلس: عدم المال، والتفليس: خلع الرجل من ماله لغرمائه؛ والمفلس: المحكوم عليه بحكم الفلس، والمفلس: الذي لا مال له، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتدرون من المفلس من أمتي؟ قالوا: المفلس الذي لا دراهم له. قال: المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة، ويجيء وقد ظلم هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وشتم هذا؛ فيقعد فيقتص لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، ولم تف بما قبله من الذنوب والخطايا؛ أخذ من خطايا القوم فطرحت عليه ثم طرح في النار». وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»، وهو معاذ بن جبل، فلم يزد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه على أن خلع لهم ماله، ولم يأمر ببيعه ولا حبسه، وعلى هذا فقهاء الأمصار: أن المفلس لا يؤاجر في الدين ولا يحبس فيه؛ لقول الله عز وجل:

فصل

{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المفلس يؤاجر فيما عليه من الدين وهو مذهب ابن شهاب حكاه عنه الطحاوي، وقال: ما علمت أحدا قاله غيره، وخلافا لشريح في قوله: إنه يحبس في الدين؛ لأن الآية عنده إنما وردت في الربا. ولو كان ذلك، لكانت القراءة: وإن كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة. وإنما القراءة وإن كان ذو عسرة، معناه إن وقع ذو عسرة، أو حضر ذو عسرة، فهو عام في الربا وغيره من الديون، وقد تقدم الكلام على هذا. وروي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه أن رجلا من جهينة كان يشتري في الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس، فقام عمر فقال: أما بعد فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه أدان مقرضا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين، فليأتنا حتى نقسم ماله بين غرمائه بالغداة، وإياكم والدين، فإن أوله هم وآخره حرب. وروي أن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل غرق في دين، فقضى أن يقسم ماله بين غرمائه ويتركه حتى يرزقه الله. فصل وقد كان الحكم من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أول الإسلام بيع المديان فيما عليه من الدين إذا لم يكن له به وفاء على ما كان عليه من الاقتداء بشرائع من قبله من الأنبياء- فيما لم ينزل عليه فيه شيء؛ إذ كان من شرائعهم إجازة استرقاق الأحرار، قال الله عز وجل في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]- أي استعباده قيل: سنة، وقيل: أبدا- قضاء منهم على أنفسهم بقضاء أبيهم يعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولذلك حكمهم؛ ليصل بذلك إلى أخذ أخيه، إذ لم يكن في حكم الملك إلا أن تؤخذ السرقة من السارق أو يغرم ثمنها أو مثلي ثمنها، ومن ذلك ما روي أن الخضر سأله مسكين أن يتصدق

عليه بوجه الله، فقال: لقد سألت بعظيم- وما عندي ما أعطيك إلا أن تأخذني فتبيعني؛ قال: ويستقيم ذلك لي؟ قال: نعم الحق أقول لك، لا أخيبك- وقد سألت بعظيم؛ فأخذه فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري ما شاء الله لا يستعمله، فقال له: إنما اشتريتني التماس خير بي، ومتى نعمل؟ قال: أكره أن أشق عليك، إنك شيخ كبير؛ فقال: ما يشق علي، قال: فقم فانقل هذه الحجارة؛ فقام- وخرج الرجل إلى بعض حاجاته، ثم انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة، وكان لا ينقلها أقل من ستة نفر في يوم؛ ثم عرض له سفر فقال: إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة؛ قال: أوصني بعمل، فقال: اضرب من اللبن حتى أقدم عليك، فقدم وقد شيد بناءه؛ فقال له: أسألك بوجه الله العظيم ما جنسك؟ وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله- ووجه الله ألقاني في العبودية، فقص عليه قصته، وقال: أخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر. وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم ولا عظم يتقعقع؛ قال آمنت بذلك، فأشفق عليه وأعتقه وخلى سبيله- يعبد الله؛ فقال: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية واستنقذني منها- اختصرت كثيرا من متن الحديث لطوله. والحديث في بيع المديان فيما عليه من الدين: ما روى زيد بن أسلم «عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: كنت بمصر فقال لي رجل: ألا أدلك على رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقلت: بلى، فأشار لي إلى رجل فجئته فقلت: من أنت - يرحمك الله؟ فقال: أنا سرق، فقلت: سبحان الله ما ينبغي أن تسمى بهذا

فصل

الاسم - وأنت رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فقال: إن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماني سرقا، فلن أدع ذلك أبدا، فقلت: ولم سماك سرقا؟ قال: لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه، وقلت له: انطلق معي حتى أعطيك، فدخلت بيتي، ثم خرجت من خلف لي، وقضيت بثمن البعيرين حاجتي. وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج، فخرجت- والأعرابي مقيم- فأخذني فقدمني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته الخبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله، قال: فاقضه، قلت: ليس عندي شيء قال: أنت سرق، اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك؛ فجعل الناس يسومونه بي، ويلتفت إليهم فيقول: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن نبتاعه منك ونعتقه؛ قال: فوالله ما منكم أحوج إليه مني، اذهب فقد أعتقتك، ثم سبح الله». هذا من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وبالله التوفيق. فصل فالحكم في الرجل إذا غرق في الدين وقام به غرماؤه أن يضرب على يده، ويحجر عليه فيما يوجد له من المال، ويحبس استبراء؛ فإذا اجتمع أهل دينه قسم ما وجد له من مال بينهم بالحصص بعد أيمانهم، واستحلف فيما بقي قبله من الدين- إذا انقضى أمد استبرائه بالحبس؛ وذلك يختلف في قلة المال وكثرته على ما روي عن ابن الماجشون: بالله الذي لا إله إلا هو ما له مال ظاهر ولا باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه.

فصل

فصل وإنما يتحاص في مال المفلس من ثبت دينه ببينة، أو بإقرار من المفلس قبل التفليس لمن لا يتهم عليه، وأما بعد أن يفلس ويحال بينه وبين ماله ويمنع من البيع والشراء والأخذ والإعطاء، فإن إقراره حينئذ بدين في ذمته لا يجوز لقريب ولا بعيد. فصل ومدار هذا الكتاب على ستة فصول: أحدها: معرفة ما يجوز من إقرار المفلس وأفعاله قبل التفليس وبعده مما لا يجوز من ذلك. والثاني: معرفة ما يحجر عليه فيه من ماله ويتحاص فيه الغرماء، مما يترك له ولا يتحاص فيه الغرماء. والثالث: معرفة حكم ضمان ما يحجر عليه فيه من المال. والرابع: معرفة وجه الحكم في المحاصة. والخامس: معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها. والسادس: معرفة ما يكون الغريم أحق به في التفليس من الغرماء مما يحاصهم فيه ولا يكون أحق به منهم. فأما الفصل الأول وهو ما يجوز من أفعاله وإقراره قبل التفليس وبعده مما لا يجوز، فأما قبل التفليس فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله بغير عوض فيما لا

فصل

يلزمه مما لم تجر العادة بفعله من هبة أو صدقة أو عتق أو ما أشبه ذلك، وإنما قلنا فيما لا يلزمه تحرزا من نفقته على آبائه وأبنائه في الحد الذي يلزمه ذلك لهم؛ لأنه إتلاف مال بغير عوض- وهو يجوز له؛ لأنه يلزمه، فقد دخل معه الغرماء على ذلك؛ وتحرزا أيضا من نفقته على نفسه؛ لأن الإنفاق على نفسه بالقصد والسداد واجب عليه لإبقاء رمقه، ولا يجوز له في شيء من ذلك السرف؛ لأنه إتلاف مال على غير عوض فيما لا يلزمه ولا يجب عليه. فصل وإنما قلنا مما لم تجر العادة بفعله؛ لأن إتلافه المال فيما جرت العادة بفعله جائز له، كالكسوة يعطيها السائل والتضحية والنفقة في العيد من غير سرف وما أشبه ذلك. فصل وكذلك إنفاقه في المال على عوض يجوز فيما جرت العادة بفعله كالتزوج والنفقة على الزوجة، وما أشبه ذلك؛ ولا يجوز فيما لم تجر العادة بفعله من الكراء في الحج التطوع، وما أشبه ذلك؛ وانظر هل له أن يحج حجة الفريضة من أموال غرمائه أم لا - وإن كان يأتي ذلك على الاختلاف في الحج هل هو على الفور؟ أو على التراخي؟ وهل له أن يتزوج أربع زوجات؟ وتدبر ذلك. ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة؛ وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه من صديق ملاطف أو قريب باتفاق. ولمن يتهم عليه على اختلاف؛ واختلف قول مالك في قضائه بعض غرمائه دون بعض ورهنه، فقال مرة: ذاك جائز له، وقال مرة: لا يجوز ويدخل عليه في ذلك جميع الغرماء؛ وقد قيل: إنه يجوز قضاؤه ولا يجوز رهنه - وهو قائم من المدونة بدليل؛ وهذا إذا قضى أو رهن من لا يتهم عليه،

وأما إذا قضى أو رهن من يتهم عليه فلا يجوز، وذلك ما لم يتشاور الغرماء في تفليسه على مذهب ابن القاسم؛ وقال أصبغ: قضاؤه ورهنه جائز للأجنبيين- وإن كانوا قد تشاوروا في تفليسه ما لم يفلسوه، وسواء في إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه وبيعه وابتياعه- كان صحيحا أو مريضا- في مذهب مالك وابن القاسم، بخلاف رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض، وإقراره لمن يتهم عليه، فإن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم في المرض- إذا كان مرضا مخوفا يمنع فيه القضاء في ماله؛ وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم - وهو مفسر لقوله في المدونة: وقال غيره إن قضاءه جائز؛ لأن بيعه وشراءه جائز، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة. وأما إقرار المريض بالدين إذا لم يكن عليه دين، فيجوز إذا لم يتهم، مثل أن يقر لأجنبي وله ولد؛ ولا يجوز إذا اتهم، مثل أن يقر لصديق ملاطف- وورثته كلالة؛ وفي إقرار الزوج لزوجته بدين في المرض تفصيل، والذي يتحصل عندي فيه على منهاج قول مالك وأصحابه؛ إن أمره لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها. والثاني: أن يعلم منه الشنآن لها والبغض فيها. والثالث: أن يجهل مذهبه فيها وحاله معها. فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها، فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيز ذلك الورثة؛ وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن لها، فإقراره جائز لها على الورثة؛ وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها والبغض لها فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما: أن يورث بكلالة. والثاني: أن يورث بولد. فأما إذا ورث بكلالة، فلا يجوز إقراره لها؛ وأما إذا ورث بولد، فإن الولد لا يخلون من أن يكونوا إناثا أو ذكورا صغارا أو كبارا، واحدا أو عددا، منها أو من

فصل

غيرها؛ فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع العصبة، فسواء كن واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا منها، يتخرج ذلك عندي على قولين: أحدهما: أن إقراره جائز. والثاني: أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا واحدا. وأما إن كان الولد ذكرا - وكان واحدا فإقراره لها جائز صغيرا كان الولد أو كبيرا، منها أو من غيرها؛ وأما إن كان الولد ذكورا عددا، فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا- من غيرها فلا يجوز إقراره لها، فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي يرفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجه عاقا له، لم ترفع عنه التهمة وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ من العتبية، وإحدى الروايتين في المدونة؛ وإن كان بعضهم عاقا له، وبعضهم برا به يخرج على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة؛ وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين، أو يقر أنه قبض منه ما له عليه من دين، وبالله التوفيق. فصل وأما بعد التفليس، فلا يجوز له في ماله بيع ولا شراء ولا أخذ ولا إعطاء؛ ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيدة، واختلف في إقراره بمال معين مثل أن يقول: هذا المال بيدي لفلان وديعة أو قراض، وما أشبه ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن إقراره بذلك جائز وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب المديان. والثاني: أن إقراره بذلك لا يجوز- وهو قول ابن القاسم في كتاب الوصايا الثاني من المدونة وقول مالك في سماع ابن القاسم، وفي سماع أشهب عنه من

فصل

الكتاب المذكور، وقال يقال له: أفسدت أمانتك ولعلك أن تخص هذا أو تدانيه ليرد عليك .. والثالث: أنه إن كان على أصل القراض والوديعة بينة صدق- أن هذا هو ذلك المال، وإن لم يكن على أصل ذلك المال بينة لم يصدق وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور. فصل وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره، هو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه، أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدوه؛ قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف في ماله بالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء إلا أن لا يكون لواحد منهم بينة، فإقراره جائز لمن أقر له إذا كان ذلك في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض؛ قال ابن حبيب: وإن كان المقر لهم ممن يتهم عليه، أو يكون من له بينة لا يستغرق ماله، أو يكون إقراره عند القيام عليه قبل أن يستسلم ويسكت فيجوز إذ لا يقدر على أكثر من هذا؛ وقد روي عن مالك أن إقرار المفلس يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض ومداينة وخلطة مع يمينه، ويحاص من له بينة ولذلك وجه. فصل وأما الفصل الثاني: وهو معرفة ما يحجر عليه فيه ويتحاص فيه الغرماء مما يترك له، فقال في المدونة: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، قال في الواضحة: المشهور نحوه، قال في العتبية: هو وولده الصغير، ويترك له كسوته إلا أن يكون

فيها فضل عن كسوة مثله، وشك مالك في كسوة زوجته، هل تترك لها؛ لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها، فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة؛ وقال سحنون: لا تترك له كسوة امرأته، ويباع ما سوى ذلك من ثيابه وعروضه، ويباع خاتمه وسلاحه وثوبا جمعته، إلا أن لا يكون لهما تلك القيمة، وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ثوب يواريه، وهو قول ابن كنانة: إنه لا يترك له شيء؛ واختلف في كتب العلم هل تباع عليه في الدين أم لا على قولين، قال مالك في كتاب ابن المواز: لا تباع عليه كتب العلم، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأنه كره بيع كتب الفقه، وفي سماع ابن القاسم من كتاب الرهون إجازة رهنها، فكذلك بيعها يجوز على هذه الرواية وهو قول أكثر أصحاب مالك أن بيعها جائز في الدين وغيره، إذ لا فرق بين بيعها في الدين وغيره، وهذه المسألة مبنية على اختلافهم في جواز بيعها وكراهيته، وقد قال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار وأصحابه متوافرون، فما أنكروا ذلك. وأما المصحف فإنه يباع في الدين لم يختلف في جواز بيعه في المذهب، ولا تؤاجر أم الولد في الدين، وتؤاجر المدبرة. وتباع كتابة المكاتب في دين سيده، ولا يجبر المفلس على اعتصار ما وهب لولده، ولا على الأخذ بشفعة له فيها فضل، ولا على انتزاع مال أم ولده ومدبره؛ هذا قول مالك في كتاب المأذون له في التجارة؛ وفي سماع ابن القاسم من كتاب الحبس ما يعارض ذلك- وهي مسألة من حبس حبسا، وشرط في حبسه إن شاء المحبس عليه أن يبيع باع، ولا على قبول ما وهب له أو تصدق به عليه أو أوصي له به أو أسلف إياه، أو أعير له؛ وإن وهب له أبوه من يعتق عليه عتق عليه، ولم يبع في الدين؛ لأن الذي وهبه له إنما وهبه ليعتق لا ليأخذه أهل الدين هذه علته في الرواية، فانظر على ذلك: لو وهبه إياه وهو لا يعلم أنه ممن يعتق عليه؛ وأما إذا ورثه فاختلف في ذلك: روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يباع في الدين ولا يعتق عليه، وقال أشهب: يعتق عليه.

فصل

فصل فإن كان. المفلس امرأة فليس للغرماء أن يأخذوا معجل مهرها قبل الدخول ولا بعده بأيام يسيرة، ولا يجوز لها أن تقضي منه في دينها إلا الشيء اليسير؛ قال في المدونة: الدينار ونحوه في كتاب الديات، وقال مالك في كتاب ابن المواز: الدينار والدينارين والثلاثة؛ وأما ما تداينت به بعد الدخول، فإن مهرها يؤخذ فيه، هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم وفيها نظر، ولم يعط جوابا بينا في كالئها هل للغرماء أن يتبعوه في دينهم أم لا؟ والأظهر أن ذلك لهم، وأنه لا يلزمها أن تتجهز به إليه. فصل فإن ادعى في أمة أنها أسقطت منه لم يصدق، إلا أن تقوم بينة بذلك من النساء، أو يكون قد فشا ذلك قبل ادعائه؛ وإذا كان لها ولد قائم فقوله مقبول أنه منه؛ لأن الولد يرفع التهمة في ذلك، هذا قوله في كتاب أمهات الأولاد ولا اختلاف في ذلك. فصل وأما الفصل الثالث: وهو معرفة حكم ضمان المال المحجر عليه فيه، فقال أشهب: مصيبته من الغريم المفلس عينا كان أو عرضا حتى يقضي إياه الغرماء ورواه عن مالك؛ وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا احتجبه السلطان عينا كان أو عرضا، ورواه عن مالك وقال ابن القاسم - ورواه عن مالك إن كان عينا فمصيبته من الغرماء معناه: إن كانت ديونهم عينا، وإن كانت عروضا فمصيبته في الغريم المفلس،

فصل

- معناه: إذا كانت ديونهم عينا أو عرضا مخالفة لها، وأما إن كانت ديونهم عروضا مماثلة لها فمصيبتها منهم؛ لأنهم يتحاصون فيها ولا يحتاجون إلى بيعها، فتحصيل مذهبه أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم؛ لأنه إنما يباع على ملكه وما لا يحتاج إلى بيعه، فضمانه من الغرماء، وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء وفي التفليس من الغريم المفلس. فصل وأما الفصل الرابع: - وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء دنانير إن كانت ديونهم دنانيرا، أو دراهم إن كانت ديونهم دراهم، أو طعاما إن كانت ديونهم طعاما- على صفة واحدة؛ أو عروضا إن كانت ديونهم عروضا على صفة واحدة، فإن كانت ديونهم مختلفة دنانير ودراهم، أو دنانير وعروضا، أو دراهم وطعاما، وما أشبه ذلك، صرف مال الغريم عينا: إما دنانير، وإما دراهم - على الاختيار في ذلك إذا كان الصنفان جاريين في البلد، ويباع ماله من الديون إلا أن يتفق الغرماء على تركها حتى تقبض عند حلولها، ثم تحصل جميع ديونهم إن كانت صفة واحدة، أو قيمتها إن كانت مختلفة حلت أو لم تحل؛ لأن التفليس معنى يفسد الذمة، فاقتضاء حلول الدين كالموت، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] هذا مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: إن العرض المؤجل يقوم يوم التفليس على أن يقبض إلى أجله - وهو بعيد؛ لأن المال لو كان فيه وفاء لعجل له حقه أجمع، وإذا قاله في

فصل

العرض، فيلزمه مثله في العين المؤجل- وهذا ما لم يقله هو ولا غيره، وينظر ما يقع من ذلك جميع مال المفلس: فإن كان النصف كان لكل واحد منهم نصف دينه وأتبع الغريم بالنصف الباقي، وإن كان الثلث كان له الثلث وأتبع الغريم بالثلثين، وإن كان الربع كان له الربع وأتبع الغريم بثلاثة أرباع دينه؛ فمن كان دينه منهم من صنف مال الغريم- دنانير أو دراهم، دفع إليه ما وجب له منه، ومن لم يكن دينه من صنف مال الغريم، أتبع له ما وجب له نصف عرضه إن كان دينه عرضا، أو نصف طعامه إن كان دينه طعاما، ولم تسلم إليه دنانير؛ فإن أراد أن يأخذها ولا يشترى له بها شيء لم يجز ذلك إن كان الذي له طعام من سلم؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إن كان الذي صار له في المحاصة أقل مما ينوب ذلك الجزء من الطعام أو أكثر، وإن كان مثله سواء، دخله البيع والسلف؛ وإن كان الذي له طعام من قرض، فذلك جائز بكل حال لا يدخله شيء؛ وإن كان الذي له عرض من سلم لم يجز، وقد قيل: إنه جائز؛ لأن الحكم بالتفليس يرفع التهمة- وذلك يأتي على الاختلاف في مسألة سماع أشهب من كتاب السلم والآجال. فصل ولو أراد أن يأخذ الذي صار له في المحاصة بجميع حقه ولا يتبع الغريم بشيء، جاز إن كان الذي صار له في المحاصة بجميع حقه، ولا يتبع الغريم بشيء جاز - إن كان الذي صار في المحاصة، مثل رأس ماله أو أقل، إلا أن يكون الدين طعاما من سلم فلا يجوز إلا أن يكون الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله سواء - لا زيادة فيه ولا نقصان، ولو كان الدين طعاما من قرض لجاز، ذلك كان الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله أو أقل أو أكثر.

فصل

فصل فإذا قلنا: إن ما صار له في المحاصة بالعروض يشترى له به مثل الذي له، فإن غلا السعر أو رخص فاشتري له بذلك أقل مما صار له في المحاصة لغلاء السعر، أو أكثر لرخص السعر؛ فلا تراجع في ذلك بينه وبين الغرماء، إلا أن يكون فيما صار له أكثر من جميع حقه، فيبرأ بالفضل إلى الغرماء، وإنما التحاسب في زيادة ذلك ونقصانه بينه وبين الغريم فيتبعه بما بقي من حقه قل لرخص السعر أو كثر لغلائه. فصل وأما الفصل الخامس وهو معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها، فإن المحاص لا تجب إلا بما تقرر من الديون في الذمة، لا بالسلع المعينات؛ لأنه اشترى سلعة بعينها ففلس البائع، فالمبتاع أحق بها من الغرماء بإجماع العلماء. فصل والديون الثابتة المتقررة في الذمة تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون واجبة عن عوض. والثاني: أن تكون واجبة على غير عوض. فأما ما وجب منها عن عوض- يتمول أو لا يتمول، فلا يخلو من أن يكون العوض مقبوضا أو لا يكون مقبوضا؛ فأما إذا كان مقبوضا كأثمان السلع المقبوضة وأروش الجنايات، ونفقة الزوجات؛ لما سلف من المدة، ومهور الزوجات

المدخول بهن، وما حق لهن عليه من شيء غير موصوف في الذمة، فإن المحاصة بذلك واجبة؛ وأما ما كان منها غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: ألا يمكنه دفع العوض بحال. والثاني: ألا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفى فيه. والثالث: أن يمكنه دفع العوض ويلزمه. والرابع: أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه. والخامس: ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض. فأما ما لا يمكنه دفع العوض كنفقة الزوجات؛ لما يأتي من المدة، فلا محاصة في ذلك بوجه؛ وأما ما لا يمكنه دفع العوض فيه ويمكنه دفع ما يستوفى فيه مثل أن يكتري الرجل دارا بالنقد أو يكون العرف فيه النقد، فيفلس المكتري قبل أن يقبض الدار، أو بعد أن قبض وسكن بعض السكنى، فأوجب ابن القاسم في المدونة للمكري المحاصة بكراء ما بقي من السكنى إذا شاء أن يسلمه، وله مثل ذلك في العتبية؛ وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار، فللمكري أن يسلمها ويحاص بجميع كرائه؛ وهذا إنما يصح على قياس قول أشهب الذي يرى أن قبض أوائل الكراء قبض لجميع الكراء؛ فيجيز أخذ الدار للكراء من الدين، وأما ابن القاسم فالقياس على أصله أن يحاص الغرماء بكراء ما مضى ويأخذ داره ولا يكون له أن يسلمها ويحاص الغرماء بجميع الكراء؛ ولو لم يشترط في الكراء النقد، ولا كان للعرف فيها النقد، لوجب على المذهب المتقدم- إذا حاص- أن يوقف ما وجب له في المحاصة؛ فكلما سكن شيئا أخذ بقدره من ذلك؛ وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه كرأس مال السلم إذا فلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال، ففي كتاب ابن المواز يلزمه أن يدفعه ويحاص به الغرماء ولا يكون أحق به، إذ ليس برهن، وهذا على قول أشهب في المدونة: إنه لا سبيل له على العيش،

فصل

وهو فيه أسوة الغرماء وفي قوله إذ ليس برهن نظر؛ لأن بالتفليس يحل ما على المفلس،. فإذا حل بالتفليس كان للمسلم أن يمسك رأس المال- إن كان لم يدفعه على ما قالوا في الكالئ إذا حل قبل البناء: إن للزوجة أن تمنعه من الدخول حتى تقبضه، وفي ذلك اختلاف؛ وأما على قول ابن القاسم الذي يرى أنه أحق بالعين في التفليس، فيكون له أن يمسكه ولا يلزمه أن يدفعه ويحاص الغرماء، ولو كان رأس مال السلم عرضا، لكان له أن يمسكه على قوليهما جميعا. فصل وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه- كالسلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع، فهو بالخيار بين أن يمسك سلعته أو يسلمها ويحاص الغرماء بثمنها، ولا خلاف في هذا الوجه. فصل وأما الوجه الخامس وهو ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض فذلك مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل المسلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاص الغرماء برأس مال المسلم، فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء؛ وإن أبى ذلك أحدهم حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد الغريم من مال، وفي العروض التي عليه إذا حلت، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها الآن، كان ذلك لهم؛ وأما إن فلس المسلم بعد حلول السلم على المسلم إليه، فهو برأس المال أسوة الغرماء فيما حل عليه من السلم، وله أن يمسكه ويكون أحق به على مذهب ابن القاسم - وإن لم يكن بيده رهنا ويكون ذلك على مذهب أشهب الذي جعله كالرهن - وإن كان لم يرتهنه منه. وأما إن فلس بعد دفع السلم

فصل

- وهو قائم- فيجري ذلك أيضا على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في العين: هل يكون أحق به من الغرماء أم لا. فصل ولا يخرج على هذا التقسيم الذي قسمناه إلا الحكم في مهور الزوجات، فإن المحاصة بها واجبة وإن لم يقتض العوض- أعني إذا فلس الزوج قبل الدخول، ولا خيار للمرأة في نفسها كما يخير بائع السلعة في سلعته إذا فلس المبتاع قبل أن يدفعها- لوجهين: أحدهما: أن النكاح قد انعقد ولا خيار للمرأة في حله، إذ ليس بيدها طلاق. والثاني: أن الصداق ليس بعوض للبضع على الحقيقة، وإنما هو نحلة من الله تعالى للزوجات، أوجبه لهن على أزواجهن بالعقد هذا الصحيح من الأقاويل، بدليل وجوب جميعه بالموت قبل الدخول، وقد كان يجب ألا تحاص إلا بالنصف على قياس قول من يقول: إنه لا يجب للمرأة بالعقد إلا نصف الصداق، لكنه قول ضعيف لا يعضده نظر، والصحيح أن الصداق يجب جميعه بالعقد، إلا أنه يجب وجوبا غير مستقر، ولا يستقر جميعه إلا بالموت أو الدخول. فصل فإن حاصت المرأة زوجها بجميع الصداق قبل الدخول ثم طلقها الزوج، فقيل: إنها ترد ما زاد على النصف- إن صار لها في المحاصة-، أكثر من

فصل

النصف، وقيل إنها تحاص الآن بالنصف، فيكون لها نصف ما صار لها بالمحاصة وترد نصفه وهو قول ابن القاسم، والأول قول ابن دينار. فصل وأما إن طلقها قبل التفليس- ولم تقبض من صداقها شيئا، فإنما تحاص- بالنصف الواجب لها، فإن كانت قد قبضت جميعه، كان لها منه النصف وردت الباقي، وكان للزوج محاصة الغرماء به إن كان عليها دين، وإن كانت قد قبضت النصف ثم فلس زوجها فطلقها بعد التفليس: فقيل: إنها لا ترد منه شيئا، وهو قول ابن كنانة، وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنما يكون لها منه النصف، وترد النصف وتحاص به الغرماء وهو مذهب ابن القاسم، قال ابن المواز: وأما إن طلقها قبل التفليس- وهو قائم الوجه ثم فلس فلا ترد شيئا؛ لأنه قد وجب لها ما أخذت واستحقته قبل فلسه، وهذا الذي قاله ابن المواز صحيح، إلا أن يكون النصف الذي دفع معجلا والنصف الباقي مؤجلا، فيجب عليها أن ترد نصف ما قبضت، وإن طلقها قبل التفليس وهو قائم الوجه ما. لم يتناجزا في ذلك ويرضى الزوج بترك الرجوع عليها؛ لأن من حقه أن يرجع عليها بنصف المعجل الذي دفع إليها ويبقى عليه نصف المؤجل إلى أجله. فصل وأما إن دفع إليها نصف الصداق بعد الطلاق فلا ترد منه شيئا؛ لأنه لم يدفعه إليها إلا على أنه الواجب عليه.

فصل

فصل وأما ما كان من الحقوق الواجبة في الذمة على غير عوض فإنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون واجبة بالشرع من غير أن تلتزم. والثاني: ألا تجب بالشرع إلا أن تلتزم. فأما ما كان منها غير واجبة بالشرع إلا أن تلتزم كالهبات والصدقات والنحل التي لم تنعقد عليها الأنكحة، فلا اختلاف أن المحاصة لا تجب بها؛ لأن الفلس يبطلها كما يبطلها الموت. فصل وأما النحل التي تنعقد عليها الأنكحة وحمل أثمان السلع في عقود البيع، وحمل الصدقات في عقود الأنكحة والحمالات بالأثمان في عقود البيع، فالمحاصة بها واجبة؛ لأنها لزمت على عوض وفي النحل التي تنعقد عليها الأنكحة اختلاف، وكذلك اختلف أيضا في حمل الثمن بعد العقد وفي حمل الصداق بعد العقد: فقيل: إن المحاصة بها واجبة؛ لأن المحمول له ترك اتباع ذمة غريمه من أجل ذلك فأشبه العوض، وقيل: إن المحاصة بها غير واجبة، لأنها خرجت على غير عوض وهذا الاختلاف يجب أن يدخل في الحمالة بعد عقد البيع وإن كان الموجود لهم لزوم ذلك في الحياة وبعد الممات، ووجوب المحاصة به. فصل وأما ما كان منها واجبا بالشرع دون أن يلتزم كنفقة الآباء والأبناء وما تحمله العاقلة من الدية، فاختلف فيه على قولين:

فصل

أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، والثاني أن المحاصة تجب بها- إذا ألزمت بحكم من السلطان وهو قول أشهب، والأول قول ابن القاسم. فصل وأما الفصل السادس: وهو معرفة ما يكون الغريم أحق به من الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت - مما لا يكون أحق به في شيء من ذلك ويحاص الغرماء؛ فتحصيله أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس على ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف هل يتعين أو لا يتعين، وعمل لا يتعين، فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى فلس المشتري، فهو أحق به في الموت- والفلس جميعا؛ لأنه كالرهن بيده، وهذا ما لا خلاف فيه؛ وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم فلس وهو قائم بيده، فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت- عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه- على ما وردت به السنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء» خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وخلافا للشافعي في قوله: إنه أحق بسلعته في الفلس والموت جميعا؛ وله عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يترك سلعته ويحاص الغرماء؛ وإن أراد أخذ سلعته، فللغرماء أن يفتكوها منه بالثمن. قال ابن الماجشون: من مال الغريم أو من أموالهم، وقال ابن كنانة ليس لهم أن يدفعوا إليه الثمن من أموالهم، وإنما لهم أن يبدوه به من مال الغريم المفلس وقال أشهب: ليس لهم أن يأخذوها إلا أن يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها عن المفلس من دينهم، خلافا للشافعي في قوله: إنه لا خيار للغرماء في شيء من ذلك.

فصل

فصل فإن كان قد قبض بعض الثمن ووجد سلعته قائمة، فهو بالخيار بين أن يرد ما قبض ويأخذ سلعته، أو يتركها ويحاص الغرماء بما بقي له من حقه، خلافا للشافعي في قوله: إنه ليس له أن يرد إنما يكون له من السلع بقدر ما بقي له من ثمنها - إن أراد أن يأخذها، وخلافا لأهل الظاهر في قولهم: إنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء تعلقا، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث: «ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فهو أحق به» قالوا: ففي هذا دليل أنه إذا قبض من الثمن شيئا فلا حق له فيها، وهو أسوة الغرماء، وليس كما قالوا لاحتمال الكلام من الدليل غير ما قالوا. فصل وكذلك ما أشبه البيع من جميع وجوه المعاوضات كالهبة للثواب، أو الرد بالعيب على مذهب من يرى أنه ابتداء بيع- أعني إذا رد السلعة بعيب ففلس البائع قبل أن يرد إليه الثمن فوجد المبتاع السلعة قائمة بيد البائع المفلس؛ فإنه يكون أحق بها من الغرماء إن شاء على القول بأن الرد بالعيب ابتداء ببيع، وأما على القول بأنه نقض بيع، فلا يكون له إليها سبيل، وإنما يكون أحق بالثمن الذي دفع إن وجده بعينه في الموت والفلس جميعا، لانتقاض البيع ووجوب رد عين ماله؛ وأما إن لم يجده بعينه، فهو به أسوة الغرماء على القولين جميعا؛ وقد اختلف على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع؛ هل يكون المبتاع أحق بالسلعة حتى يستوفي الثمن إذا فلس البائع قبل أن يردها عليه على قولين؛ وأما على القول بأنه ابتداء بيع، فيكون أحق به قولا واحدا، وكذلك اختلف أيضا فيمن اشترى سلعة بيعا فاسدا ففلس البائع قبل أن يردها عليه المبتاع: هل يكون أحق بها حتى يستوفي

فصل

ثمنها أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون أحق بها وهو قول سحنون. والثاني أنه لا يكون أحق بها وهو قول ابن المواز. والثالث: أنه إن كان ابتاعها بنقد، فهو أحق بها؛ وإن كان ابتاعها بدين فلا يكون أحق بها- وهو أسوة الغرماء، وهو قول ابن الماجشون ولا اختلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعا وكذلك من اشترى سلعة بسلعة فاستحقت السلعة التي قبض كان أحق بالسلعة التي دفع- إن وجدها بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا؛ - وكذلك من تزوج امرأة بسلعة بعينها فدفعها إليها ففلست ثم طلقها قبل الدخول أو ألفي النكاح مفسوخا، فهو أحق بجميع السلعة- إن وجد النكاح مفسوخا، أو بنصفها إن كان طلقها وأدركها قائمة بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا. فصل وإن كان دفعه إلى المشتري ثم فلس بعد أن فات بيده أو لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء، والقول بما يفوت به مما لا يفوت مسطور في كتاب العلماء منهم ابن حبيب وغيره- وهو يتعين بأحد وجهين: إما ببينة تقوم عليه، وإما بإقرار المفلس به قبل التفليس؛ واختلف إذا لم يقر به إلا بعد التفليس على ثلاثة أقوال: أحدها: أن قوله مقبول قيل: مع يمين صاحب السلعة، وقيل: دون يمين، وقيل: إن قوله غير مقبول ويحلف الغرماء أنهم لا يعلمون أنها سلعته، وقيل: إن كانت

فصل

على الأصل بينة قبل قوله- في تعيينها، وإلا لم يقبل؛ وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم. وأما العين فهو أحق به أيضا في الموت والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى من بايعه فيه ففلس أو مات- وهو قائم بيده يعرف بعينه: فقيل: إنه أحق به كالعرض في الفلس دون الموت- وهو قول ابن القاسم وقيل: إنه لا سبيل له عليه وهو أسوة الغرماء- وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه، فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا. فصل وأما العمل الذي لا يتعين، فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير، كان الأجير أحق بما عليه من العمل في الموت والفلس جميعا وانتقضت الإجارة كالسلعة إذا كانت بيد البائع؛ وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الموت والفلس جميعا، إلا أن لا تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها كالصانع يستأجر على خياطة الثوب أو صياغة الحلي فيفلس صاحب الثوب بعد أن عمل الصانع العمل والثوب والحلي بيده لم يسلمه بعد، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا؛ لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعلمه، إلا أن يكون له فيها شيء أخرجه، فهو أحق به في الفلس دون الموت- على ما ثبت في الأمهات من وجه العمل في ذلك، وكذلك المكتري يفلس وقد حمل المكري ما استحمل إياه من المتاع على إبله ودوابه، فهو أحق بالمتاع حتى يستوفي كراءه في الموت والفلس جميعا لكنه

فصل

قابض للمتاع، لكونه على ظهور دوابه؛ وإن لم يكن معها وكان قد أسلمها إلى المكتري فهو كالرهن بيده ما لم يقبض الكراء فيحوز رب المتاع متاعه ويقبض هو دوابه، وكذلك السفينة وهذا بين في العتبية أنه إنما يكون أحق بالمتاع ما كان في سفينته، أو على ظهور دوابه، وقد تأول أحمد بن خالد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما في المدونة أنه أحق بالمتاع أبدا، وإن قبضه ربه وفارق ظهور الدواب لتعليله فيها من أجل أنه إنما بلغ الموضع على دوابه وهو بعيد في المعنى غير جار على قياس. فصل فلا خلاف في مذهبنا أن البائع أحق بها كان بيده في الموت والفلس جميعا، وأنه أحق بما أسلمه فألفاه قائما في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في الموت والفلس فيما لم يكن بيده، ولا ألفاه عند المبتاع قائما يعرف بعينه؛ وما يوجد من الخلاف في بعض المسائل، فليس بخلاف لما قسمناه وأحكمناه، وإنما وقع الخلاف بينهم فيها، لاختلافهم من أي قسم هو منها، فمن تأول أن ذلك بيده، رآه أحق به في الموت والفلس ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده- وهو قائم- رآه أحق به في الفلس دون الموت، ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده وليس بقائم عند المبتاع، رآه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وذلك كمسألة من استؤجر على سقي حائط، فسقاه حتى أثمر ثم فلس؛ قال في المدونة: إنه أحق بالثمرة في الفلس دون الموت؛ وروى أصبغ أنه أحق في الموت والفلس؛ والأظهر أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس وكذلك اختلف أيضا فيمن اكترى أرضا فزرعها ثم فلس، ولتوجيه كل قول منها وتخريجه على المعنى الذي ذكرته، مكان غير هذا والله ولي التوفيق.

كتاب المأذون له في التجارة

كتاب المأذون له في التجارة قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]- فوصف الله تعالى العبد بالعجز وعدم القدرة، وجعله بخلاف الحر في بسط يده بالإنفاق فيما رزق من المال؛ فدل ذلك على أن أمر العبيد في الأموال مخالف لأمر الأحرار، وإن ملكهم لأموالهم ناقص عن ملك الأحرار، وأن لساداتهم التحجير عليهم في أموالهم بحق ملك رقابهم، فلا يجوز للعبد في ماله صنع إلا بأمر سيده، وهو له ملك حتى ينتزعه منه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع». فأضاف المال إلى العبد إضافة الملك بقوله: وله من مال؛ لأن هذه اللام لام الملك؛ فإذا أضيف بها المال إلى من يصح منه الملك، دل ذلك على وجوب الملك له، ولم يصح أن يحمل على المجاز؛ لأن الكلام لا يخرج على الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل؛ ومن الدليل على أن العبد يملك، قول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ومحال أن يصف الله بالفقر والغنى من لا يملك- وهذا بين.

فصل

فصل فالعبد يملك على مذهب مالك ما ملكه سيده أو ملكه غيره، ما لم ينتزعه منه سيده، فملكه لماله ليس كملك الحر الذي لا يحل لأحد أن يأخذ شيئا من ماله إلا عن طيب نفسه؛ إلا أنه مال له على مذهبه يجوز له أن يتسرى فيه إذا أذن له سيده، ويطأ بملك يمينه- ولو لم يكن عنده ماله لم يجز له أن يطأ بملك يمينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يبح الفرج إلا بالنكاح، أو ملك اليمين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وعلى هذا أسقط الزكاة عن السيد في مال عبده وقال: إنه إذا حلف بعتق عبيده فحنث لا يعتق عليه عبيد عبيده؛ فهذا أصل مذهبه. وأما قوله: إن العبد إذا ملك من يعتق على سيده يعتق عليه. وقوله: إن الرجل إذا حلف ألا يركب دابة رجل فركب دابة عبده أنه حانث؛ فقد حمل بعض الناس ذلك على أنه اضطراب من قوله في أن العبد يملك، وجريان منه على غير أصله في ذلك، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما حنثه في ركوب دابة عبده، من أجل أنه لا يجوز له ركوبها- وإن أذن له العبد إلا بإذن سيده؛ والحنث يقع بأقل الوجوه؛ وإنما قال: إنه يعتق عليه من ملك العبد ممن يعتق عليه من أجل أنه يملك انتزاعهم منه، فلما كان يملك انتزاعهم عتقوا عليه، إذ لو انتزعهم لعتقوا عليه بإجماع، فيجري ذلك على الاختلاف في الرجل يشتري من يعتق عليه على أنه فيه بالخيار ولا يدخل الاختلاف على هذا في الزكاة في مال العبد، ولا في عتق عبيد عبيده بالحنث؛ لأن الحنث والزكاة قد وجبا قبل الانتزاع، فلا يلزم بالانتزاع شيء وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن العبد لا يملك شيئا بحال من الأحوال، فكل ما بيده من مال على مذهبهم، فإنما هو للسيد فلم يجيزوا له

فصل

التسري بوجه من الوجوه ولا يحل له عندهم وطء فرج إلا بنكاح يأذن له سيده فيه، واستدلوا على ذلك بالإجماع على أن لسيده أن ينتزع منه كل ما له من المال من كسبه وغير كسبه، وبالإجماع على أنه لا يرث قرابته، قالوا فلما أجمعوا أن للسيد أن ينتزع مال عبده، دل ذلك على أنه كان لا يملكه، إذ لو كان يملكه لما صح له انتزاعه منه كما لا ينتزع الرجل مال مكاتبه؛ قالوا أيضا: ولما أجمعوا أن العبد لا يرث، دل على أن ما يحصل بيده من مال، إنما هو لسيده، وأنه لا يملكه؛ وحملوا إضافة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال إلى العبد في قوله: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» - على المجاز، كما يقال: غنم الراعي، وسرج الدابة، وباب الدار، وهذا كله لا يصح. فأما احتجاجهم بالإجماع على أن للسيد أن ينتزع مال عبده، فلا حجة لهم فيه؛ لأن الإجماع لا يتناول موضع الخلاف، إذ الخلاف بيننا وبينهم إنما هو قبل الانتزاع، وكذلك احتجاجهم بالإجماع على أن العبد لا يرث لا حجة لهم فيه؛ إذ لا يسلم لهم أن العلة في منع ميراث العبد أنه لا يملك، فلا يصح لهم ما استدلوا به إلا بعد إقامة الدليل على صحة العلة، ولا دليل لهم على صحتها إلا غالب ظنهم، إذ ليس في الكتاب ولا في السنة نص ولا تنبيه على أنها هي العلة، ولا أجمعت الأمة على ذلك، فليسوا بأسعد ممن يقول: إن العلة في ذلك عدم استقرار ملك العبيد على أموالهم. فصل فالعبد محجور عليه في ماله لا يجوز له فيه فعل بغير إذن سيده، ولا يجوز له أن يتجر إلا أن يأذن له سيده في التجارة؛ فإن أذن له فيها جاز له أن يتجر بالدين

فصل

والنقد- وإن لم يأذن له في التجارة بالدين ولزمه ما داين به في جميع أنواع التجارات؛ وإن لم يأذن له إلا في نوع واحد منها على مذهب ابن القاسم في المدونة، إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة بالدين، أو يحجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع؛ وهو قول أصبغ في التحجير في الدين؛ وذهب سحنون إلى أنه ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، وكذلك يلزم على قوله إذا حجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع، إلا أن يشهر ذلك ويعلنه في الوجهين جميعا، فلا يلزمه. قاله بعض شيوخ صقلية، وهو صحيح في المعنى، قائم من المدونة والعتبية بدليل؛ ولا يجوز له في ماله معروف إلا ما جر إلى التجارة؛ فأما هبته وصدقته وعتقه، فموقوف على إجازة السيد، أو رده، فإن لم يعلم بذلك حتى يعتق مضى ولزم ذلك العبد ولم يكن للسيد أن يرده. فصل ومما يشبه هذا عتق المرأة ذات الزوج وهبتها وصدقتها فيما زاد على الثلث بغير إذن زوجها، وعتق المديان بغير إذن غرمائه، وعتق السفيه بغير إذن وليه أو بإذنه؛ فأما الغريم فينفذ عليه العتق والصدقة إن بقي ذلك بيده إلى أن ارتفعت علة المنع بزوال الدين، وإن كان قد أخرج ذلك من يده قبل زوال الدين ببيع أو ما أشبه ذلك، نفذ ولم يلزمه شيء، وسواء في هذا- كان السلطان قد رد العتق أو لم يرده؛ لأن رد السلطان ليس برد للعتق وإنما هو توقيف إلى أن يكشف حال الغريم؛ وأما الزوجة فالمعلوم من قول مالك وأصحابه أنه إذا لم يعلم الزوج أو علم ولم يقض برد ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، أن ذلك لازم لها، وانظر وإن كانت قد فوتت ذلك من يدها قبل زوال العصمة ببيع أو هبة، هل ينقض البيع والهبة وينفذ عليها العتق والصدقة أم لا؛ ففي كتاب الاعتكاف من المدونة أن الأمة لا تلزمها الصدقة بعد العتق إلا أن يكون المال بيدها، وقد يمكن أن يفرق بين المسألتين فيقال: إن العتق والصدقة يلزمها كان المال بيدها أو لم يكن- إذا لم يرد الزوج حتى زالت العصمة؛ لأن تحجير السيد على عبده، أقوى من تحجير الزوج على امرأته؛ ومسألة كتاب الاعتكاف ليس فيها بيان أن ذلك كان قبل الرد- وهذا هو المعنى

فصل

فيها؛ ومن تأول أن معنى ذلك بعد الرد فلا يصح، لأن المعلوم من قولهم في الزوجة أن الصدقة والهبة لا تلزمها بعد زوال العصمة- وإن بقي المال بيدها، إذا كان الزوج قد رده وإنما اختلفوا في العتق على ما سنذكره، وهذا أحرى أن لا يختلف فيه، لقوة تحجير السيد على عبده، وقد كان يجب في الزوجة ألا يلزمها العتق والصدقة على مذهب من يرى أفعالها فيما زاد على الثلث على الرد- حتى يجيزه الزوج، وإن بقي المال بيدها لم تفوته حتى مات عنها أو طلقها قبل أن يعلم بذلك، أو قبل أن يرده إن كان قد علم- وقد رأيت ذلك لبعض أصحاب مالك؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي المال بيدها لم تفوته- إلى أن زالت العصمة، لم يلزمها شيء في الهبة والصدقة؛ وأما العتق، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزمها إنفاذه بفتيا ولا قضاء- وهو قول أشهب. والثاني: أنه يلزمها ذلك بالقضاء - وهو قول ابن الماجشون ومطرف. والثالث: أنها تؤمر بذلك- ولا يقضى عليها به وهو مذهب ابن القاسم. واختلف إذا لم يعلم الزوج حتى ماتت هل له أن يرد ذلك بعد الموت أم لا؟ على قولين منصوص عليهما في المذهب جاريين على الاختلاف في فعلها هل هو على الجواز- حتى يرد؛ أو على الرد حتى يجاز؟ وأما العبد فيما وهب أو أعتق، فإذا لم يعلم السيد بذلك، أو علم فلم يقض فيه برد ولا إجازة حتى عتق العبد- والمال بيده، فإن ذلك لازم له، ولا أعلم في هذا نص خلاف، وهو دليل على أن فعله على الإجازة- حتى يرد وهو القياس على ما أوضحناه من صحة ملكه على مذهب مالك، إلا أن الاختلاف الذي حكيناه عن بعض أصحاب مالك في الزوجة على ضعفه- داخل في العبد بالمعنى. فصل فإن فوت العبد المال في يده قبل أن يعتق ببيع أو هبة، بطلت الصدقة والعتق - قاله في الصدقة في كتاب الاعتكاف؛ والعتق مقيس عليه إلا أن يفرق بينهما

فصل

مفرق، بحرمة العتق- وهو بعيد، فإن رد السيد ذلك وبقي المال بيده لم يفوته إلى أن أعتق، لم يلزمه شيء قاله في المدونة في الهبة والصدقة، والعتق مقيس على ذلك لا يدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في الزوجة- والله أعلم؛ وأما السفيه فلا يلزمه بعد أن ولي نفسه إنفاذ ذلك، كان الولي قد رده أو لم يرده، واختلف إن كان ذلك بيمين فحنث فيها بعد ولاية نفسه، واختلف أيضا إن لم يعلم بذلك حتى مات هل للورثة رد ذلك على قولين- حكاهما ابن حبيب في الواضحة. فصل فلا يصح للإنسان التصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف، وهي: البلوغ، والحرية، وكمال العقل، وبلوغ الرشد؛ فأما اشتراط الحرية في ذلك، فإن العبد لا يملك ماله ملكا مستقرا، إذ لسيده انتزاعه منه، فهو محجور عليه فيه بحق الملك- وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى. وأما الرشد فلأن الله تبارك وتعالى جعل الأموال قوام العيش وسببا للحياة وصلاحا للدين والدنيا، ونهى عن إضاعتها وتبذيرها في غير وجوهها، نظرا منه لعباده ورأفة بهم، فقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]- وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وأمرنا ألا نمكن منها السفهاء حراسة لها من أن تبذر وتنفق في غير وجوهها- فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وأما اشتراط البلوغ وكمال العقل في ذلك،

فصل

فلأنهما جميعا مشترطان في صحة الرشد وكماله؛ إذ لا يصح رشد من صبي لضعف ميزه بوجوه منافعه، ولا من مجنون لسقوط ميزه وذهاب رأيه؛ فوجب الاحتياط للأموال وقطع مادة الضرر عنها بأن يمنع من التصرف فيها من ليس بأهل التصرف فيها، ويحجر عليه فيها ويحال بينه وبينها- خشية الإضاعة لها امتثالا لأمر الله فيها. فصل فأما البلوغ فحده الاحتلام في الرجل، والحيض في النساء أو أن يبلغ أحدهما من السن أقصى سن من لا يحتلم، واختلف فيه من خمسة عشر عاما إلى ثمانية عشر عاما، واختلف قول مالك فيمن وجب عليه حد وقد أنبت ولم يبلغ أقصى سن من لا يحتلم، فادعى أنه لم يحتلم، هل يصدق فيما ادعاه أو يقام عليه الحد بما ظهر من إنباته على قولين، الأصح منهما تصديقه وألا يقام عليه الحد بشك في احتلامه؛ ولا اختلاف- عندي أنه لا يعتبر بالإنبات فيما بينه وبين الله تعالى من الأحكام؛ وأما العقل، فمحله القلب، وحده: علوم يتميز من وصف بها من البهيمة والمجنون، وهي كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الجزءين لا بد أن يكونا مجتمعين أو مفترقين، وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وما أشبه ذلك. فصل فحد البلوغ وكمال العقل بينان تدرك معرفتهما بأدنى حظ من النظر والاستدلال، وأما الرشد فحده حسن النظر في المال ووضع الأمور في مواضعها، واختلف هل من شرط كماله الصلاح في الدين أم لا؟ - على قولين، وهو مما يخفى ولا يدرك معرفته إلا بطول الاختبار في المال والتجربة له فيه، ولهذا المعنى وقع

فصل

الاختلاف بين أهل العلم في الحد الذي يحكم للإنسان فيه بحكم الرشد ويدفع إليه ماله ويمكن من التصرف فيه. فصل والاختلاف في هذا إنما هو على حسب الأحوال وهي تنقسم على أربعة أقسام، حال الأغلب من صاحبها السفه، فيحكم له فيها بحكمه وإن ظهر رشده. وحال الأغلب من صاحبها الرشد، فيحكم له فيها بحكمه- وإن علم سفهه. وحال محتملة للرشد والسفه، والأظهر فيها السفه؛ فيحكم له بحكم ما لم يظهر رشده؛ وحال محتملة أيضا للرشد والسفه، والأظهر من صاحبها الرشد فيحكم له فيها بحكمه ما لم يظهر سفهه على اختلاف كثير بين أصحابنا في بعض هذه الأقسام. فصل فأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- وإن ظهر رشده - فمنها حال الصغر، لا اختلاف بين مالك وأصحابه أن الصغير الذي لم يبلغ الحلم من الرجال والمحيض من النساء، لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق- وإن أذن له في ذلك الأب أو الوصي- إن كان ذا أب أو وصي، وإن باع أو اشترى أو فعل ما يشبه البيع والشراء مما يخرج على عوض ولا يقصد فيه إلى فعل معروف، كان موقوفا على نظر وليه- إن كان له ولي، فإن رآه سدادا وغبطة أجازه وأنفذه، وإن رآه بخلاف ذلك رده وأبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر له في ذلك بوجه النظر والاجتهاد، وإن غفل عن ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في إجازة إنفاذ ذلك أو رده. واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا مما كان يلزم الولي أن يفعله: هل له أن يرده وينقضه إن آل الأمر إلى خلاف ذلك بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، أو ما يشبه ذلك، فالمشهور المعلوم في المذهب أن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الذي يأتي على ما وقع لأصبغ في

فصل

الخمسة، وعلى رواية يحيى في كتاب التخيير والتمليك- خلاف ما يقوم مما وقع لأصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، ويلزمه ما أفسد وكسر في ماله مما لم يؤتمن عليه؛ واختلف فيما أفسد وكسر مما أؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته وحنث به في حال صغره، واختلف فيما حلف به في حال صغره، وحنث به في حال رشده، فالمشهور أنه لا يلزمه؛ وقال ابن كنانة: ذاك يلزمه ولا يلزمه يمين فيما ادعي عليه فيه واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف مع شاهده لم لا؟ فالمشهور أنه لا يحلف ويحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم- ولم يكن على الصغير يمين- إذا بلغ، وإن حلف برئ- إلى بلوغ الصغير فإذا بلغ حلف وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، ولا يحلف المدعى عليه ثانية، وقد روي عن مالك والليث أنه يحلف مع شاهده ولا شيء عليه فيما بينه وبين الله من الحقوق والأحكام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث» - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم. فصل ومنها حال البكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، وقد اختلف في حده على ما سنذكره بعد- إن شاء الله- أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها- على مذهب من لا يعتبر تعنيسها؛ ومنها حال من تثبت عليه ولاية من قبل الأب أو من قبل السلطان حتى تطلق منها على قول مالك وكبراء أصحابه- خلافا لابن القاسم. فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- ما لم يظهر رشده، فمنها ..

فصل

حال الابن بعد بلوغه في حياة الأب على المذهب. وحال البكر ذات الأب أو اليتيمة التي لا وصي لها- إذا تزوجت ودخل بها زوجها من غير حد، ولا تفرقة بين ذات الأب واليتيمة على رواية ابن القاسم عن مالك، خلافا لمن حد في ذلك حدا، أو فرق بين ذات الأب واليتيمة- على ما سنذكره- إن شاء الله. فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم الرشد ما لم يظهر سفهه، فمنها حال البكر المعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، واختلف في حده أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله بها العام أو العامان أو السبعة الأعوام على الاختلاف في الحد المؤقت في ذلك بين من وقته، أو حال الابن ذي الأب بعد بلوغه، والابنة ذات الأب بعد بلوغها على رواية زياد عن مالك. فصل ولا يخرج عن هذا التفصيل الذي فصلناه وقسمناه إلى أربعة أقسام - شيء من الاختلاف الحاصل ببين أصحابنا في هذا الباب، وأنا أذكر من ذلك ما حضر لي حفظه بالاختصار- ما أقدر عليه- إن شاء الله تعالى؛ وأما الابن فهو في ولاية أبيه ما دام صغيرا لا يجوز له فعل إلا بإذنه، ولا هبة ولا صدقة؛ وإن كان ذلك بإذنه، فإذا بلغ فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون معلوم الرشد. والثاني: أن يكون معلوم السفه. والثالث: أن يكون مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه. فأما إذا كان معلوما بالرشد فأفعاله جائزة ليس للأب أن يرد شيئا منها وإن لم يشهد على إطلاقه من الولاية فقد خرج منها ببلوغه مع ما ظهر من رشده؛ وأما إن

فصل

كان معلوما بالسفه، فلا يخرجه الاحتلام من ولاية أبيه- وأفعاله كلها مردودة غير جائزة، وأما إن كان مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه، فاختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه محمول على السفه حتى يثبت رشده- وهو نص رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الصدقات والهبات، قال فيها ليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى تعرف حاله ويشهد العدول على صلاح أمره- وهو ظاهر سائر الروايات عنه، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها من ذلك ما وقع في المدونة في الكتاب الأول من النكاح، وفي كتاب الهبة والصدقة، وفي كتاب الجعل والإجارة. والثاني: أنه محمول على الرشد حتى يثبت سفهه ويخرج بالاحتلام من ولاية أبيه إذا لم يعرف سفهه- وإن لم يعرف رشده، روى ذلك زياد عن مالك وهو ظاهر ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة قوله: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، إلا أن يتأول إن أراد بنفسه لا بماله- كما تأول ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ واستحسن بعض الشيوخ ألا يخرج من ولاية أبيه حتى يمر به بعد الاحتلام العام ونحوه، وإلى هذا ذهب ابن العطار في وثائقه، على أنه قد اضطرب في ذلك قوله - فذكر أنه لا يجوز للرجل تسفيه ابنه إلا أن يكون معلوما بالسفه ولم يفرق بين قرب ولا بعد، وحكى غيره من الموثقين أن تسفيهه جائز وإن لم يعلم سفهه إذا كان بحرارة بلوغه قبل انقضاء عامين. فصل فإن مات الأب- وهو صغير وأوصى به إلى أحد، أو قدم عليه السلطان، فلا يخرج من ولاية وصي أبيه أو مقدم السلطان- حتى يخرجه منها الوصي أو السلطان، إن كان الوصي مقدما من قبله، وأفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من الحجر، إن هذا قول ابن زرب أن الوصي من قبل القاضي لا يطلق من الولاية إلا بإذن القاضي، وقد قيل: إن إطلاقه من إلى نظره بغير إذن القاضي

فصل

جائز وإن لم يعرف رشده إلا بقوله، وقيل: لا يجوز إطلاقه إياه بغير إذن القاضي إلا أن يكون معروفا بالرشد، فإذا عقد له بذلك عقدا ضمنه معرفة شهدائه لرشده؛ وأما وصي الأب فإطلاقه جائز- وهو مصدق فيما يذكر من حاله وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله؛ وقيل: إن إطلاقه لا يجوز إلا أن يتبين حاله ويعلم رشده، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا من العتبية. فصل وقولنا: إن أفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمه هو المشهور في المذهب المعمول به، وقد قيل: إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولايته إذا علم رشده أو جهل حاله على الاختلاف المتقدم، وهو ظاهر ما وقع في كتاب الهبة والصدقة من المدونة؛ قوله فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ ونحوه لابن الماجشون في الواضحة قال: إن البكر إذا عنست أو نكحت جازت أفعالها - كانت ذات أب أو وصي؛ وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية لا يعتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه- أعني في اليتيم لا في البكر؛ وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول ابن القاسم، وروى زونان عن ابن القاسم أن من ثبت عليه ولاية، فلا تجوز أفعاله حتى يطلق منها- وإن ظهر رشده مثل قول مالك وكبار أصحابه. فصل فإن مات الأب ولم يوص به إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وصيا ولا ناظرا، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: قول مالك وكبراء أصحابه: إن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة - رشيدا كان أو سفيها، معلنا بالسفه أو غير معلن به؛ اتصل سفهه من حين بلوغه، أو سفه بعد أن آنس منه الرشد من غير تفصيل في شيء من ذلك.

فصل

والثاني: قول مطرف وابن الماجشون أنه إن كان متصل السفه من حين بلوغه، فلا يجوز شيء من أفعاله؛ وأما إن سفه بعد أن آنس منه الرشد فأفعاله جائزة عليه ولازمة له ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة بينة، مثل أن يبيع ثمن ألف دينار بمائة دينار، وما أشبه ذلك؛ فلا يجوز ذلك عليه ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين أن يكون معلنا بالسفه أو غير معلن به. والثالث: قول أصبغ إنه إن كان معلنا بالسفه، فأفعاله غير جائزة، وإن لم يكن معلنا به، فأفعاله جائزة من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينظر إلى حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيدا جازت أفعاله، وإن كان سفيها، لم يجز منها شيء من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ واتفق جميعهم أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إن جهلت حاله ولم يعلم بسفه ولا رشد. فصل وأما الابنة البكر فلا اختلاف أيضا بين أصحابنا أن أفعالها مردودة غير جائزة ما لم تبلغ المحيض، فإذا بلغت المحيض لا يخلو أمرها من ثلاثة أحوال: أحدها: إن تكون ذات أب. والثاني: أن تكون يتيمة ذات وصي قد أوصى عليها الأب أو السلطان. والثالث: أن تكون يتيمة لا وصي لها من قبل أبيها ولا مقدما من قبل السلطان. فأما ذات الأب فاختلف فيها على ثمانية أقوال:

أحدها: رواية زياد عن مالك أنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، ومعنى ذلك- عندي- إذا علم رشدها أو جهل حالها؛ وأما إن علم سفهها، فهي باقية في ولايته. والثاني: قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي الواضحة من رواية مطرف عنه أنها في ولاية أبيها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويعرف من حالها أي يشهد العدول على صلاح أمرها، فهي على قول مالك هذا ما لم تنكح ويدخل بها زوجها في ولايته مردودة أفعالها وإن علم رشدها فإذا دخل بها زوجها حملت على السفه وأقرت في ولايته وردت أفعالها- ما لم يظهر رشدها؛ فإن علم رشدها وظهر حسن حالها، جازت أفعالها وخرجت من ولاية أبيها- وإن كان ذلك بقرب بناء زوجها عليها إلا أن مالكا استحب في رواية مطرف عنه أن يؤخر أمرها العام ونحوه استحبابا من غير إيجاب. والثالث: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها ويعرف من حالها، فهي على هذه الرواية بعد التعنيس محمولة على الرشد مجوزة أفعالها- ما لم يعلم سفهها- وقبله مردودة أفعالها وإن علم رشدها؛ ولا يخلو إن تزوجت أن يكون دخول زوجها بها قبل حد التعنيس أو بعده، فإن دخل بها قبل حد التعنيس فهي من حين يدخل بها إلى أن تبلغ حد التعنيس محمولة على السفه حتى يتبين رشدها وبعد بلوغها حد التعنيس محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها- وإن دخل بها بعد التعنيس، فلا يؤثر دخوله بها في حكمها الذي قد ثبت لها بالتعنيس من كونها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها؛ وقد اختلف في حد تعنيس هذه فقيل أربعون عاما، وقيل من الخمسين إلى الستين وروي عن مالك أن هباتها وصدقاتها وأعطياتها وعتقها جائزة بعد التعنيس- إن أجازها الوالد، معناه إن قال الوالد في المجهولة الحال: إنها رشيدة في أحوالها، إذ التي علم سفهها لا يجوز للوالد إجازة أعطياتها، والتي علم رشدها، لا يجوز للوالد رد أعطياتها، فعلى هذه

الرواية لم يحمل المعنسة المجهولة الحال على السفه ولا على الرشد، وأعمل قول الوالد في ذلك، فهذا القول الثالث يتفرع إلى ثلاثة أقوال- على ما بيناه- تتمة خمسة أقوال. والقول السادس أنها في ولاية أبيها حتى تمر بها سنة بعد دخول زوجها بها- وهو قول مطرف في الواضحة، وظاهر قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ فعلى هذا القول تكون أفعالها قبل دخول زوجها بها مردودة- وإن علم رشدها وبعد دخول زوجها بها ما بينها وبين انقضاء العام- مردودة. ما لم يعلم رشدها، وبعد انقضاء العام جائزة ما لم يعلم سفهها، ووافقه ابن الماجشون في تحديد السنة وخالفه في تركه الاعتبار بالتعنيس، فرأى أنها إذا عنست وعلم حسن مالها خرجت من ولاية أبيها ووصيها. والقول السابع: أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها عامان- وهو قول ابن نافع في كتاب الصدقات والهبات في العتبية. والقول الثامن أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سبعة أعوام، وهذا القول يعزى إلى ابن القاسم، وبه جرى العمل عندنا؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك عليه الشيوخ أن تجوز أفعالها وتخرج من ولاية أبيها - إذا مضى لها في بيت زوجها من الستة الأعوام إلى السبعة- ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك؛ وهذا قريب من القول الثامن، فيكون حالها بعد هذا الأمر محمولا على الرشد حتى يعلم خلافه على ما بيناه. وقول ابن أبي زمنين ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك به كان يفتي القاضي ابن زرب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه وهو أمر مختلف فيه، كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك لا يجوز عليها ولا يلزمها، إلا أن يكون قد تضمن عقد التجديد للسفه معرفة شهدائه لسفهها، وبه كان يفتي أبو عمر بن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وهو القياس على مذهب من حد لجواز أفعالها حدا؛ لأنه حملها ببلوغها إليه على الرشد، وأجاز أفعالها فلا يصدق الأب في إبطال هذا الحكم لها بما يدعيه من سفهها، إلا أن يعلم صحة قوله؛ ويتخرج قول ابن أبي زمنين ومن ذهب مذهبه على الرواية التي رويت عن مالك أن عتقها وهباتها وصدقاتها جائزة بعد التعنيس - إن أجازها الوالد وقد تكلمنا على معنى الرواية بما يؤيد تأويلنا هذا فيها.

فصل

فصل واختلف أيضا المتأخرون من شيوخنا الذين حكموا بأعمال التسفيه عليها في الأب يولي على ابنته بعد دخول زوجها بها وقبل أن تبلغ الحد الذي وقت لجواز أفعالها، ثم تتراخى مدته إلى أن تبلغ ذلك الحد، ثم تموت بعد ذلك، هل يلزمه حكم تلك الولاية الثابتة أم لا على قولين: فمنهم من رأى أن إيصاءه عليها لازم لها، كتجديد السفه عليها الذي لا تنفك ولا تخرج منه إلا بثبات رشدها بالبينة العادلة. ومنهم من لم ير ذلك لازما لها بخلاف تجديد السفه عليها، وقالوا مثل ذلك الأب يولي على ابنته وهي بكر ثم يزوجها فتقيم مع زوجها سبع سنين أو أكثر فيموت، أن الإيصاء ساقط عنها؛ واحتجوا أيضا برواية أشهب عن مالك الواقعة في كتاب الوصايا من العتبية، ولم أعلمهم اختلفوا في لزوم الولاية لها إذا أوصى عليها بعد دخول زوجها بها، ثم مات قبل بلوغها الحد الذي وقت لخروجها من ولايته، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى، وأما من أوصى على ابنته وهي صغيرة أو بكر ثم مات وهي بكر قبل دخول زوجها بها أو بعد دخول زوجها بها قبل مضي المدة المؤقتة لخروجها من ولايته، فالولاية لها لازمة. فصل وأما إن كانت يتيمة ذات وصي من قبل أبيها أو مقدم من قبل القاضي، فلا تخرج من الولاية- وإن عنست أو تزوجت ودخل بها زوجها وطال زمانها وحسنت حالها- ما لم تطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمها بما يصح إطلاقها منه به، وقد بينا ذلك قبل هذا، هذا هو المشهور في المذهب المعمول به؛ وقد تقدم من قول ابن الماجشون أن حالها مع الوصي، كحالها مع الأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح- يريد مع طول المدة وتبين الرشد، وهي رواية مطرف، وابن عبد الحكم، وعبد الرحيم - عن مالك.

فصل

فصل وأما إن كانت يتيمة لم يول عليها بأب ولا وصي، فاختلف فيها على قولين: أحدهما: أن أفعالها جائزة- إذا بلغت المحيض، وهو قول سحنون في العتبية، وقول غير ابن القاسم في المدونة، ورواية زياد عن مالك. والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس، واختلفت في حد تعنيس هذه على خمسة أقوال: أحدها: ثلاثون سنة- وهو قول ابن الماجشون، وقيل أقل من الثلاثين وهو قول ابن نافع. وقيل أربعون- وهي رواية مطرف عن مالك، وأصبغ عن ابن القاسم. وقيل من الخمسين إلى الستين، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم؛ وفي المدونة لمالك من رواية ابن القاسم عنه- أن أفعالها لا تجوز حتى تعنس وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد، قيل: أقصاها العام. وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه. وقيل ثلاثة أعوام ونحوها؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك الشيوخ عليه ألا تجاز أفعالها حتى يمر بها في بيت زوجها مثل السنتين والثلاث. فصل قد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من بيان الحدود المميزة بين من يجوز

فعله ممن لا يجوز في الأبكار وغيرهن، فنرجع الآن إلى ذكر القول في أحكام أفعال من لا تجوز أفعاله من السفهاء البالغين، إذ قد تقدم القول في أحكام أفعال الصبيان؛ فنذكر من ذلك ما أمكن ذكره وحضر حفظه على شرط الإيجاز والاختصار، وترك التطويل والإكثار- إن شاء الله، وهو المستعان. اعلم- وفقنا الله وإياك أن السفيه البالغ يلزمه جميع حقوق الله التي أوجبها الله على عباده في بدنه وماله، ويلزمه ما وجب في بدنه من حد أو قصاص، ويلزمه الطلاق- كان بيمين حنث فيها أو بغير يمين، وكذلك الظهار وينظر له وليه فيه بوجه النظر، فإن رأى أن يعتق عنه ويمسك عليه زوجته فعل، وإن رأى ألا يعتق عنه - وإن آل ذلك إلى الفراق بينهما، كان ذلك له ولا يجزيه الصيام ولا الإطعام إذا كان له من المال ما يحمل عتق رقبة، وقال محمد بن المواز إذا لم ير له وليه أن يكفر عنه بالعتق فله هو أن يكفر بالصيام. ولا يطلق عليه في مذهبه إلا بعد أن يضرب له أجل الإيلاء- إذا طلبت امرأته ذلك؛ لأن له أن يكفر بالصيام، وعلى القول الأول تطلق عليه من غير أن يضرب له أجل الإيلاء إذا رفعت المرأة ذلك، وهو قول أصبغ ولا حد في ذلك عند ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة لا يعتق عنه وليه إلا في أول مرة، فإن عاد إلى الظهار لم يعتق عنه؛ لأن المرة الواحدة تأتي على الحليم والسفيه، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز؛ وأما الإيلاء فإن دخل عليه بسبب يمين بالطلاق وهو فيها على حنث، أو بسبب امتناع وليه عن أن يكفر عنه في الظهار لزمه، وأما إن كان حلف على ترك الوطء، فينظر إلى يمينه: فإن كانت بعتق أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز له فعله ويحجر عليه في ذلك وليه، لم يلزمه به إيلاء، وإن كانت بالله تعالى، لزمه الإيلاء- إن لم يكن له مال، ولم يلزمه إن كان له مال، وإن

كانت يمينه بصيام أوجبه على نفسه أو صلاة أو ما أشبه ذلك مما يلزمه، لزمه به الإيلاء؛ وعلى قول محمد بن المواز يلزمه الإيلاء باليمين بالله- وإن كان له مال، ولا يلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شيء من المعروف في ماله، إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه عتقها، لأنها تشبه الزوجة التي ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء، واختلف هل يتبعها مالها أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتبعها وهو قول مالك في رواية أشهب عنه. والثانية: أنه لا يتبعها. وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. والثالث: التفرقة بين أن يكون مالها قليلا أو كثيرا- وأراه قول أصبغ، وقال المغيرة وابن نافع لا يلزمه عتقها، ولا يجوز عليه، بخلاف الطلاق، ولا يجوز إقراره بالدين إلا أن يقر في مرضه فيكون في ثلث ماله- قاله ابن كنانة، واستحسن ذلك أصبغ - ما لم يكثر. وإن حمله الثلث؛ وأما بيعه وشراؤه ونكاحه وما أشبه ذلك مما يخرج على عوض ولا يقصد به قصد المعروف، فإنه موقوف على نظر وليه- إن كان له ولي: إن رأى أن يجيزه أجازه، وإن رأى أن يرده رده بوجه النظر له والاجتهاد، وإن لم يكن له ولي، قدم له القاضي ناظرا ينظر له في ذلك نظر الوصي؛ فإن لم يفعل حتى ملك أمره، كان هو مخيرا في رد ذلك أو إجازته؛ فإن رد بيعه وابتياعه وكان قد أتلف الثمن الذي باع به، أو السلعة التي ابتاعها لم يتبع ماله بشيء من ذلك. واختلف إن كانت أمة فأولدها: فقيل: إن ذلك فوت ولا ترد، وقيل: إن ذلك ليس بفوت كالعتق وترد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء؛ واختلف إن كان قد أنفق الثمن فيما لا بد له منه مما يلزمه إقامته: هل يبيع ماله بذلك أم لا على قولين: وإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة فأولدها أو أعتقها، أو غنما فتناسلت، أو بقعة فبناها، أو شيئا له غلة فاغتله، كان حكمه في جميع ذلك حكم من اشترى من ملك فيما يرى فاستحق من يده ما اشترى بعد أن أحدث فيه ما ذكرت، يرد إلى المولى عليه الأمة التي أعتقت، وينتقض العتق فيها، ويأخذ

الأمة التي ولدت منه وقيمة ولدها على الاختلاف المعلوم في ذلك؛ وإن كان الولد من غيره بتزويج، أخذهم مع الأم، وكذلك يأخذ الغنم ونسلها- وكان عليه فيما بناه قيمة بنيانه قائما، وكانت الغلة التي اغتل له بالضمان؛ هذا كله إن كان لم يعلم بأنه مولى عليه لا يجوز بيعه؛ وأما إن علم أنه مولى عليه متعد في البيع بغير إذن وليه لسفه يقصده، فحكمه حكم الغاصب يرد الغلة ويكون له فيما بناه قيمته منقوضا؛ واختلف فيما فوت السفيه من ماله بالبيع والهبة والصدقة والعتق، وما أشبه ذلك، فلم يعلم به حتى مات؛ هل يرد بعد الموت أم لا على قولين، واختلف إذا تزوج فلم يعلم وليه بنكاحه حتى مات، هل ترثه المرأة ويلزمه الصداق أم لا على ثلاثة: أحدها: أنه لا ميراث لها ولا صداق، إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها منه قدر ما استحل به. والثاني: أن لها الميراث وجميع الصداق. والثالث: أن لها الميراث وينظر الولي في النكاح: فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي في حياته لم يفسخه وأجازه، فلها الصداق مع الميراث- دخل بها أو لم يدخل، وإن كان نكاحه نكاح فساد وعلى غير وجه غبطة، وجب لها الميراث وردت الصداق- دخل بها أو لم يدخل، ويترك لها في الدخول ربع دينار؛ وهذا قول أصبغ في الخمسة، والقولان المتقدمان لابن القاسم - وهما جاريان على الاختلاف في فعله: هل هو على الجواز حتى يرد، أو على الرد حتى يجاز؛ واختلف هل يزوجه الولي بغير أمره كالصغير، أم لا يزوجه إلا بأمره على قولين قائمين من المدونة، ومنصوصين في الواضحة؛ وكذلك اختلف أيضا هل يخالع عنه بغير إذنه أم لا على قولين، فله في المدونة أنه لا يخالع عنه إلا بإذنه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه يخالع عنه بغير إذنه كالصبي، ويلزمه في ماله ما أفسد

وكسر مما لم يؤتمن عليه باتفاق، ومما اؤتمن عليه باختلاف، ولا يلحقه يمين فيما ادعي عليه به في ماله. وأما ما ادعي عليه مما يجوز عليه فيه إقراره، فتلحقه فيه اليمين؛ ويحلف مع شاهده في حق يكون له، فإن حلف، استحق حقه، فإن نكل عن اليمين حلف المدعى عليه وبرئ في مذهب ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة إن نكل عن اليمين، حلف المدعى عليه وبرئ إلى أن يحسن حاله فيكون له أن يحلف مع شاهده ويستحق حقه كالصغير - إذا بلغ، ويعقل مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجرائر؛ ويجوز عفوه عن دمه خطأ كان أو عمدا؛ واختلف في عفوه عما دون النفس مما في بدنه من الجراح أو الشتم، هل يجوز ذلك أم لا على قولين؟ أحدهما: قول مطرف وابن الماجشون: أن عفوهم لا يجوز في شيء من ذلك. والثاني: قول ابن القاسم: أن عفوهم عن كل ما ليس بمال جائز، واختلف في شهادته إذا كان مثله لو طلب ماله أخذه- وهو عدل، فروى أشهب عن مالك أن شهادته جائزة، وقال أشهب لا تجوز- وهو الذي يأتي على المشهور من مذهب مالك: أن المولى عليه لا تجوز أفعاله- وإن كان رشيدا في أحواله حتى يخرج من الولاية، وبالله التوفيق.

كتاب الرهون

كتاب الرهون فصل في جواز الرهن في السفر والحضر مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم- إجازة الرهن في السفر والحضر؛ لأن الله- تبارك وتعالى- نص على جوازه في السفر؛ لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وأجازته السنة في الحضر على ما ثبت في الآثار الصحاح، من ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح من رواية عائشة وغيرها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه»: وروي أن «رجلا جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فقال له رجل من القوم: ألا أراك تقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تقول؛ فقال: "دعه فإنه طالب حق "، ثم قال للرجل: "انطلق إلى فلان فليبعنا طعاما إلى أن يأتينا شيء"، فأبى اليهودي فقال لا أبيعه إلا بالرهن؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب إليه بدرعي أما والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض». - وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي. - وهو حاضر غير مسافر.

فصل

فصل ولا أعلم أحدا من أهل العلم منع من الرهن في الحضر، وأجازه في السفر بظاهر الآية غير مجاهد، ولا تعلق له بظاهرها، إذ ليس في ذكره تعالى الرهن في السفر دليل على المنع منه في الحضر، وإنما أرشدنا الله تعالى إلى التوثق بالرهن عند عدم التوثق بالكتاب والإشهاد، فذكر تعالى السفر؛ لأنه الحال الذي يتعذر فيها الكتاب في الأغلب من الأحوال. فصل روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن»، وأنه قال: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته»، وأنه قال: «الرهن بما فيه»، وأنه قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه»، فدلت هذه الآثار كلها على جواز الرهن؛ لأن تعلق الأحكام به يفيد جوازه، واقتضت بعمومها السفر والحضر وهذا بين. فصل فأما قوله: «لا يغلق الرهن»، فمعناه ما فسره به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه وذلك أنه قال تفسيره فيما نرى- والله أعلم- أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء - وفي الرهن فضل عما رهن فيه، فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك بحقك إلى أجل كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما فيه؛ قال: فهذا لا يصلح ولا يحل، وهذا الذي نهى عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل، فهو له، وأرى

فصل

هذا الشرط مفسوخا، وتفسيره صحيح؛ لأن غلق الرهن معناه ألا يفك، قال: زهير. وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته»، فالذي تأوله عليه أصحابنا على المذهب أن الراهن الذي له الرقبة هو يركبه ويحلبه أي له أجر الركوب وما يحلب منه من اللبن، إذ عليه النفقة؛ وأما قوله الرهن بما فيه، فمعناه إذا هلك وعميت قيمته، وكذلك قال أشهب وابن القاسم وأصبغ "؛ وأما قوله «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه»، فغنمه نماؤه وزيادته، وغرمه تلفه ونقصانه؛ فأما النماء والزيادة، فلا خلاف أنها للراهن على ما ورد في الحديث؛ وإنما الاختلاف هل يدخل في الرهن على ما سنبينه- إن شاء الله. وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عليه غرمه فيتناول فيما لا يغاب عليه أو فيما يغاب عليه، إذا قامت البينة على تلفه من غير تعدي المرتهن. فصل فالرهن يجوز ويلزم بالعقد ولا يتم وينبرم ويصح التوثق به إلا بالحيازة لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. ومن أهل العلم من قال إنه لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا - وهذا مذهب الشافعي وأهل العراق، وفائدة الخلاف بيننا وبينهم في ذلك أنه إذا قال رهنتك هذا الثوب فقبل المرتهن، ثم بدا للراهن في إرهانه، فإنه يجبر عندنا على أن يقبضه؛ لأن الرهن قد تم عقده؛ وعندهم أنه يكون مخيرا بين أن يقبض فيلزم، وبين ألا يقبضه فلا يلزم؛ فإذا قبضه لزم؛ واستدلوا على ذلك، بقوله- عزو جل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وقالوا لما وصفها الله- عز وجل- بالقبض، وجب أن يكون ذلك من شروط كونها رهنا، وأن يكون القبض مصاحبا لها كما أنه لما وصف الرقبة بالإيمان، كان الإيمان شرطا فيها، مصاحبا

فصل

لها. وقالوا فلأن قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، لا يخلو أن يكون خبرا، أو أمرا، فإن كان خبرا، كان شرطا فيه لامتناع أن يقع الخبر بخلاف مخبره؛ وإن كان أمرا، فهو على وجوبه؛ والدليل على صحة قولنا، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. والعقد قد حصل؛ لأنه الإيجاب والقبول- وذلك موجود، وأيضا فإنه قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فجعل القبض من صفاتها فدل ذلك على أنها تكون رهنا قبل القبض؛ لأن وصف الشيء بصفة، يجب أن يكون معنى زائدا على وجوده ولا ناقد، اتفقنا على أنه إذا أقبضه الرهن، فإنه يصح ويلزم وليس يخلو أن يكون القول الأول الذي تلاه القبض قد انعقد به الرهن أو لم ينعقد، فإن كان قد انعقد به، فذلك ما قلناه؛ لأنه إنما أقبضه ما ثبت رهنا، - فيجب أن يكون كونه رهنا سابقا للإقباض؛ وإن كان لم ينعقد به لم يجز أن يصير رهنا بهذا القبض؛ لأن مجرد القبض لا يجعل المقبوض رهنا، ففي اتفاقنا على لزومه بالقبض دليل بين على انعقاده بالقول. فصل واختلف إذا جعل الرهن على يدي عدل، فقالت طائفة ليس بمقبوض، والذي ذهب إليه مالك أنه مقبوض، فيكون بذلك شاهدا له، ويكون أحق به من الغرماء. حكى هذا عن مالك إسماعيل القاضي في الأحكام، وقاله ابن المواز - وهو ظاهر الروايات في المدونة وغيرها؛ وقال أصبغ في سماع يحيى من كتاب الرهون أنه لا يكون له شاهدا إذا كان على يدي عدل، وهو ظاهر قول مالك في موطئه. فصل ولما جعل الله- عز وجل- الرهن بدلا من الكتاب والإشهاد في التوثقة عند عدم الكاتب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]،

فصل

دل أن الرهن يقوم مقام الكتاب في بعض أحواله، إذ لا يجوز أن يعوض شيء من شيء وهو لا ينوب منابه في حال، ألا ترى أن التيمم لما جعله الله بدلا من الوضوء فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، ناب منابه في استباحة الصلاة به، فنوبه مناب التوثق بالإشهاد، هو ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته؛ لأنه إنما صار رهنا من أجل قيمته، فكان الرهن شاهدا بقيمته، كما أن الشهود قيام بما أشهدوا به، خلافا لأهل العراق - في قولهم إن القول قول الراهن؛ لأنه مقر مدعى عليه؛ وهذا غلط منهم، بل الراهن مدع؛ لأنه يدعي أنه مستحق لقبض الرهن بما يذكره، فمن أجل هذه النكتة دخل في حيز المدعين فلم يجز أن يعطى بدعواه. وكذلك أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يقول في الزوجين إذا اختلفا في الصداق قبل الدخول أنه لا جائز أن يحكم للزوج بدعواه؛ لأنه يقول إنه مستحق لقبض المرأة وبضعها بما يذكره فهو مدع. وكذلك المتبايعان إذا اختلفا في الثمن قبل القبض، أن المشتري يقول إنه مستحق لقبض السلعة بما يذكره من الثمن فهو في هذه الحال مدع؛ فكذلك الراهن مدع لقبض الرهن بما يذكره، والمرتهن يقول غير ذلك؛ فأعدل الأمور ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يرد الأمر إلى مبلغ قيمة الوثيقة. وهي الرهن، ويستحلف مع ذلك لإمكان أن يرهن بأقل من قيمته وأكثر. فصل وما يدعي المرتهن من الفضل على قيمة الرهن لا وثيقة له به، فهو فيه مدع؛ فإذا ضاع الرهن، أو دخل الزوج بالمرأة، أو قبض المشتري السلعة؛ كان القول في هذه الحال قول الراهن، وقول الزوج، وقول المشتري- مع أيمانهم؛ لأنهم في هذه الحال مقرون مدعى عليهم، لا يدعون أنهم مستحقون لشيء بإقرارهم هذا.

فصل

فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل متداعيين إذا كان مع أحدهما من البرهان على دعواه ما ليس مع صاحبه - وإن لم يكن قاطعا، كان هو المبدأ باليمين والمحكوم له بها؛ فمن ذلك البدء عند تكافؤ البينتين- والشاهد العدل واختلاف الزوجين في متاع البيت وإرخاء الستر، وما أشبه ذلك. فصل وقال مالك إن المرتهن يحلف على جميع دعواه. وإن كان أكثر من قيمة الرهن، إذ لا جائز أن يحلف الإنسان على بعض دعواه- دون بعض، فما كان من الفضل على قيمة الرهن لم يلزم الراهن بيمين المرتهن، فيحلف الراهن حينئذ من أجل هذا الفضل، فإن حلف برئ منه، وإن نكل لزمه ذلك بنكوله مع ما تقدم من يمين المرتهن. فصل ولو لم يكن الرهن شاهدا- وكان القول قول الراهن كما يقول أهل العراق، لم يكن لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]- معنى؛ لأنه إذا ائتمنه ولم يستوثق منه بالرهن فيما داينه به، فالقول قوله أيضا فيما يقر به من الدين، ولا يجوز أن تكون الحال الثانية كالتي قبلها، فالقرآن دال على خلاف قول أهل العراق في هذه المسألة ومن أهل العلم من يقول إن القول قول المرتهن وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن. وهو شاذ، ففي المسألة ثلاثة أقوال. فصل ولا تنفع الشهادة في حيازة الرهن إلا بمعاينة الرهن؛ لأن في تقارر

فصل

المتراهنين بالحيازة، إسقاط حق غيرهما؛ إذ قد يفلس الراهن فلا يقبل منه إقراره بعد التفليس بالحيازة. فصل ولو وجد الرهن بيد المرتهن بعد التفليس، فادعى أنه قبضه قبل التفليس - وجحد ذلك الغرماء؛ لجرى الأمر على الاختلاف في الصدقة توجد بيد المتصدق عليه بعد موت المتصدق، فيدعي قبضها في صحته؛ وفي المدونة دليل على القولين جميعا. ولو لم يتعلق بذلك للغرماء حق، لوجب أن يصدق الراهن ويقبل إقراره له أنه قد حاز الرهن، فيكون بإقراره له شاهدا على حقه إلى مبلغ قيمته. فصل واختلف في ضمان الرهن إذا هلك بيد المرتهن من غير أن يكون هو مستهلكه، فقالت طائفة من أهل العلم: إن كان الرهن مثل الدين أو أكثر منه، فهو بما فيه؛ وإن كان أقل من الدين، ذهب من الدين بقدره ورجع المرتهن على الراهن بما نقص من حقه؛ وقالت طائفة يذهب الرهن بما فيه من الدين كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء. وقالت طائفة يترادان الفضل بينهما- إن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين؛ ويروى هذا القول عن ابن عمر، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان الرهن مما يغاب عليه ويخفى هلاكه نحو الذهب والفضة والعروض والطعام والمتاع، ترادا الفضل فيما بينهما؛ إلا أن تقوم بينة على هلاكه من غير سببه، فيكون ضمانه من الراهن ويكون الدين ثابتا بحاله، وقد روي عن مالك - رحمه

فصل

الله- أن المرتهن ضامن، ويترادان الفضل- وإن قامت بينة على الهلاك- وهو قول أشهب، وذكر القولين عن مالك محمد بن المواز في كتابه، فوجه سقوط الضمان هو أن المعنى الذي لأجله ضمناه عدم العلم بصدقه فيما يدعيه، فإذا علم صدقه، لم يبق سبب لإيجاب الضمان، ألا ترى أن ما يظهر هلاكه لا يضمنه؛ لأن العلم بصدقه يعلم من غير جهته، وكذلك إذا قامت البينة بهلاك ما يخفى هلاكه؛ ووجه وجوبه هو أن العلة إذا وضعت حسما للباب، لم تخصص في موضع من المواضع؛ ألا ترى أن منع قبول شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه - لأجل التهمة الغالبة في الطباع، فحمل الباب محملا واحدا- ولم ينقض بنادر؛ وكذلك في مسألتنا أصل العروض والذهب والفضة مما يخفى هلاكه- وإن جاز أن يخرج من هذا الأصل- نادر بأن يعلم هلاكه بغير صنع المرتهن؛ لأن الحكم أجري مجرى واحدا على غالبه- حسما للباب. وإن كان الرهن مما يظهر هلاكه نحو الدور والأرضين والحيوان وهلك، فهو من الراهن، ودين المرتهن ثابت على حاله؛ وقالت طائفة من أهل المدينة وأهل مكة وغيرهم، منهم الزهري وغيره إذا تلف الرهن، فهو في مال الراهن ودين المرتهن ثابت على حاله- كان مما يغاب عليه، أو مما لا يغاب عليه؛ وهذا على قول الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ واحتجوا بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه». قالوا: فغنمه: زيادته ونماؤه، وغرمه نقصانه وذهابه. فصل والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تفرقته بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، هي أن الرهن لم يجر مجرى الأمانات المحضة، ولا مجرى المضمون المحض؛ لأنه أخذ شبها من الأمرين، فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد؛ وذلك لأن الأمانة

فصل

المحضة هي التي لا نفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك- كالوديعة، أو جل النفع كالقراض، والمضمون المحض هو ما كان النفع كله لقابضه كالقرض، أو تعدي جناية كالغصب؛ وفي مسألتنا لما لم يكن تعد ولا جناية فيضمن، ولا ينفرد المالك بالمنفعة فيسقط الضمان على المرتهن- وكانت المنفعة لهما؛ أما للمالك بأن حصل له ما ابتاعه أو سلفه وبقي الدين في ذمته لأجل الرهن، ولولاه لم يملكه؛ والمرتهن بحصول التوثق له، فلم يقبضه لمالكه؛ - لم يجز أن ينفرد بحكم أحدهما على التحديد، لأخذه شبها منهما جميعا. وإذا وجب بهذه الجملة ألا يحكم فيه بحكم أحدهما ووجب الفصل بينهما، حصل من ذلك ما قلناه؛ لأن أحدا لم يفصل بينهما إلا بما ذكرناه؛ فهذه نكتة المسألة وفقهها؛ والدليل على فساد قول من أوجب على المرتهن ضمان الرهن- كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. جملة من غير تفصيل- وهو مذهب أبي حنيفة -: استصحاب الحال في براءة ذمة المرتهن في الأصل، وثبوت الدين في ذمة الراهن، فعلى مدعي نقل ذلك عما هو عليه- في الأصل الدليل؛ ويدل عليه أيضا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه». وقوله: "ممن رهنه "، يفيد أن تلفه منه، وذلك ينفي أن يضمنه المرتهن؛ وما احتجوا له مما روي أن «رجلا ارتهن فرسا من رجل فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: ذهب حقك» لا حجة له فيه؛ لاحتمال أن يكون ذهب حقك من الوثيقة لا دينك، وفائدته أنه لا يلزم الراهن رهن آخر بدله. فصل والدليل على فساد قول الشافعي ومن أسقط الضمان عن المرتهن جملة من غير تفصيل فيما يغاب عليه وفيما لا يغاب عليه، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»، وعلى من حروف الإيجاب. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن بما فيه»، وهذه

فصل

عبارة عن وجوب ضمانه على المرتهن وأما ما احتجوا به من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن»، وقالوا معناه أن الحق لا يسقط بتلفه؛ فلا يصح لأن هذه دعوى في التأويل، وإنما معناه أنه لا يستحق بتعذر أداء الحق على ما كانت الجاهلية تفعله. واحتجوا أيضا بقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي منه تلفه وعطبه؛ وهذا مخصوص فيما يظهر هلاكه، بدليل ما قدمناه فلا حجة لهم فيه. فصل وأجمع أهل العلم على أن المرتهن ليس له الانتفاع بشيء من الرهن فيما سوى الحيوان، واختلفوا في الحيوان: فقالت طائفة من أهل العلم إذا كان الرهن حيوانا- شاة أو بقرة أو غير ذلك، فله أن يحتلب الشاة والبقرة، ويركب الحمار بقدر ما يعلفه؛ واحتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الرهن يحلب ويركب بقدر نفقته ". وعلى الذي يحلب ويركب نفقته» وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ وقال جمهور أهل العلم ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن- حيوانا كان، أو غيره- وهو قول مالك والشافعي، وقال الشافعي معنى قول أبي هريرة الرهن محلوب ومركوب بنفقته. أن الراهن هو الذي يركبه ويعلفه؛ لأنه ملكه لا المرتهن؛ واحتج هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه». فصل فإذا قلنا إن المرتهن ليس له من نماء الرهن ولا من غلته شيء، فهل يدخل ذلك في الرهن أم لا- في ذلك تفصيل، وذلك أن النماء على ضربين؛ نماء متميز عن الرهن، ونماء غير متميز عنه، فأما ما كان غير متميز عن الرهن، فلا خلاف أنه يدخل في الرهن وذلك كسمن الدابة والجارية، وكبر الصغير وما أشبه

ذلك؛ وأما ما كان متميزا عن الرهن، فإنه أيضا على وجهين، أحدهما أن يكون على خلقته وصورته، والثاني أن لا يكون على خلقته وصورته؛ فأما ما كان على خلقته وصورته- كالولد فإنه داخل مع الأم في الرهن من بني آدم، ومن سائر الحيوان؛ وكذلك ما كان في معناه من فسلان النخيل؛ فإنه داخل مع الأصول في الرهن؛ وأما ما لم يكن على خلقته وصورته؛ فإنه لا يدخل في الرهن- كان متولدا عنه كثمرة النخيل، ولبن الغنم وصوفها؛ أو غير متولد عنه ككراء الدار، وخراج الغلام؛ هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك. وقد روي عنه أن ذلك كله داخل في الرهن- كان متولدا عنه، أو غير متولد عنه. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخل في الرهن كل نماء متميز منه متولد عنه على غير خلقته، قياسا على نسل الحيوان وعلى النماء المتصل بالرهن الذي لا يتميز منه؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن من النماء إلا ما كان غير متميز منه كسمن الجارية والدابة، واستدل من نصر قوله على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه» فالولد من غنمه، قالوا ولأنه حق متعلق بعين قد يستوفي من ثمنها، فوجب ألا يسري إلى ولدها أصله أرش الجناية، وهو أن الأمة إذا جنت ثم حملت أن الولد لا يدخل في الجناية، ولأن كل ما لا يتبع الجانية في الجناية فلا يتبع المرهونة في الرهن، أصله الكسب، فهذه مقدمات في الرهون تبنى عليها مسائل الكتاب- إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.

كتاب الكفالة

كتاب الكفالة فصل في تفسير الكفالة ومعناها الكفالة هي الضمان ومعناها: التزام القيام بالشيء والاستطلاع به؛ وللضامن في اللغة سبعة أسماء، وهي: زعيم، وكفيل، وقبيل، وأذين، وحميل، وصبير، وضامن. يقال من ذلك زعم يزعم زعامة فهو زعيم، وكفل يكفل كفالة فهو كفيل، وقبل يقبل قبالة فهو قبيل، وأذن يأذن إذانة فهو أذين. وحمل يحمل حمالة فهو حميل، وصبر يصبر صبرا فهو صبير، وضمن يضمن ضمانا فهو ضامن- بمعنى واحد وهي موجودة في القرآن، وفي السنن والآثار، وفيما يحتج به من الأشعار، وقائمة من ذلك؛ قال الله- عز وجل في الزعيم-: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وقال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]. وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم»، وقال: «لا تقوم الساعة حتى يكون زعيم القوم أرذلهم»،

أي من يتحمل الكلام- عنهم، ويتقدم فيه دونهم، وينوب فيه منابهم؛ وقال تعالى في الكفيل: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91]، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته: أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة». وذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا؛ قال: ائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا؛ قال صدقت؛ فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا؛ فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك؛ وسألني شهودا فقلت: كفى بالله شهيدا فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له؛ فلم أقدر عليه؛ وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه- وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده؛ فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا؛ فلما نشرها وجد المال والصحيفة؛ ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك

بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلى شيئا؛ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا غير الذي أتيت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة؛ قال: فانصرف بالألف الدينار راشدا» وقال تعالى في القبيل: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92]. والأذين مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]، ومن قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال الشاعر: فقلت قدي وغضي الطرف إني ... أذين بالترحل والأفود وقال امرؤ القيس: وإني أذين إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفواتق أزورا وإنما كان الأذين بمعنى الحميل؛ لأن الأذين والأذان، والإذن، وما تصرف من ذلك، إنما هو بمعنى الإعلام؛ فلما كان بمعنى الإعلام الذي لا يكون إلا بمعلوم متيقن حاصل لا يصح أن يوجد بخلافه، إذ هو مأخوذ من العلم الذي هو معرفة المعلوم على ما هو به، بخلاف الإخبار الذي يصح أن يوجد بخلاف مخبره بما يدخله من الصدق والكذب، كان قول الرجل: أنا أذين بما لفلان على فلان إيجابا منه على نفسه أداء المال إليه، إذ لا يستعمل ذلك اللفظ إلا في الواجب المتيقن الذي لا يصح أن يكون الأمر بخلافه- والله أعلم. والحميل مأخوذ من قوله

فصل

تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، وأما الضامن فإنه بين المعنى. فصل فالكفالة بالمال جائزة في الشرع، لازمة في صريح الحكم؛ وهي من المعروف، وتجوز عند مالك وأصحابه في المعلوم والمجهول- خلافا للشافعي في قوله: إنها لا تجوز في المجهول؛ والأصل في جوازها الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فهو ما تلوناه من قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وقوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]، وأما السنة فكثير، منها: ما روي «أن قبيصة بن المخارق أتى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله وقال له إني تحملت بحمالة، فقال: " نحن نخرجها عنك من الصدقة يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك»، ففي إحلاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة لمن تحمل بحمالة- دليل على جواز الحمالة ولزومها ووجوبها عليه؛ وقد استدل أيضا بظاهر هذا الحديث- من قال إن للمكفول له مطالبة الكفيل وإن كان المكفول عنه مليا، إذ أباح رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة المحرمة بنفس الحمالة، ولم يعتبر حال المتحمل عنه، وفيه أيضا دليل على إجازة الحمالة بالمال المجهول؛ لأن فيه تحملت بحمالة- ولم يذكر لها قدرا ولا مبلغا- وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، خلافا للشافعي في قوله: إن الحمالة بالمال المجهول لا تصح، لأنها مخاطرة على ما قد ذكرناه عنه. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة في جوازها- وإن اختلفوا في كثير من شروطها وأحكامها. فصل فالحمل والحمالة في اللغة سواء في المعنى، لأنهما جميعا مصدران من

فصل

حمل يحمل حملا وحمالة، ويفترق معناهما عند الفقهاء بعرف التخاطب، فالحمالة عندهم أن يتحمل بالحق أن يؤديه عن المطلوب ويرجع به عليه؛ وكذلك الكفالة، والإذانة، والزعامة، والقبالة؛ والحمل- عندهم هو أن يتحمل بالحق عن المطلوب- على أن يؤديه عنه ولا يرجع به عليه؛ ولفظ الضمان عندهم محتمل للوجهين جميعا؛ فإذا ضمن الرجل عن الرجل المال في عقد البيع أو بعد عقد البيع، أو ضمن عنه الصداق بعد عقد النكاح، فهو على الحمالة حتى ينص أنه أراد بذلك الحمل- بلا خلاف، وأما إذا ضمن عن الزوج الصداق في عقد النكاح- ابنه كان أو أجنبيا، فاختلف فيه هل هو محمول على الحمل حتى يبين أنه أراد بذلك الحمالة، أو على الحمالة حتى يريد به الحمل؛ فمذهبه في المدونة أنه على الحمل حتى يريد به الحمالة- وهو قول ابن حبيب في النكاح من الواضحة، وقول ابن القاسم في رواية سحنون عنه من العتبية، وروى عيسى عنه في غير العتبية أنه على الحمالة حتى يريد به الحمل. فصل فإذا حمل الرجل عن الرجل المال في عقد البيع، أو حمل عنه الصداق في عقد النكاح، فذلك لازم له ثابت في ذمته وماله في الحياة وبعد الممات واختلف إذا حمل ذلك عنه بعد عقد البيع، أو بعد عقد النكاح: فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه يلزمه في الحياة ويسقط عنه بعد الوفاة- كالهبة إذا لم تقبض حتى مات الواهب- وقاله ابن حبيب في النكاح من الواضحة؛ وقال ابن الماجشون في الحمالات منها: إن ذلك لازم له في الحياة وبعد الوفاة. كالحمالة؛ قال: لأنها ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريمه ومن حقه عليه، فكأنه قال له ابتداء: أعطه كذا وكذا من مالك- وهي لك علي: أو أعطه ثوبك- وثمنه علي واختاره ابن حبيب هاهنا خلاف ما وقع له في النكاح.

فصل

فصل والحمالة على مذهب مالك تجوز عن الحي والميت. غير أنه إن تحمل عن الحي فأدى عنه، كان له الرجوع عليه بما أدى عنه، واتباعه به إن كان معدما- كان تحمل عنه بإذنه أو بغير إذنه؛ وإن كان تحمل عن ميت لا وفاء له بما تحمل به عنه، لم يكن له أن يرجع بما أدى عنه في مال- إن طرأ له، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن من تحمل عن رجل بغير أمره، لم يكن له أن يرجع عليه بما أدى عنه، وأن الحمالة عن الميت- إذا لم يترك وفاء لا تجوز؛ لأن الدين قد توى بذهاب الذمة، والكفالة بالتاوي كفالة بما قد بطل، فلا معنى لها، والحجة لمالك في أن الحمالة عن الميت وإن لم يترك وفاء جائزة، وأن الكفيل لا رجوع له في مال- إن طرأ للميت: ما «روى جابر بن عبد الله أن رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى قال أبو اليسر أو غيره: هو إلي فصل عليه، فجاءه من الغد فتقاضاه فقال: إنما كان أمس، ثم أتاه من بعد الغد، فأعطاه فقال: الآن بردت عليه جلده». فلو لم تكن الحمالة بما عليه جائزة، لما صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان الدين قد تحول إلى الذي أداه عنه- ولم يسقط عن الذي كان عليه، لما برد جلده بالأداء عنه؛ لبقاء الدين عليه، وهذا بين وقد احتج الطحاوي لأبي حنيفة بهذا الحديث فيمن قضى دينا عن رجل بغير أمره، أنه لا رجوع له به عليه، ومالك أسعده الحديث؛ لأنه استعمله في موضعه ولم يعده إلى الحي. وفيه أيضا حجة له على أبي حنيفة في أن الكفالة لازمة للكفيل بغير قبول المكفول له، ودليل على جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه، ووجوب أخذ المكفول له بها- الكفيل، وأن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب الكفالة على الكفيل حتى يودي عنه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده. قال الطحاوي فإذا كانت الحمالة لازمة للحميل،

فصل

وكان للمكفول له مطالبته بها على ما في الحديث، كان المكفول عنه إذا كان مليا أحرى بالمطالبة، إذ لم يسقط الدين عن ذمته بالكفالة؛ فوجب أن يكون مخيرا في مطالبة من شاء منهما على ما قاله الشافعي وأبو حنيفة، خلاف ما روي عن مالك؛ قلت: وهذا لا يلزمه؛ لأن الحديث إنما هو فيمن لم يترك وفاء، ولذلك لم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس هذا موضع الخلاف. وقول مالك الذي اختاره ابن القاسم أظهر أن الكفالة لا تلزم الكفيل مع ملأ المكفول عنه وحضوره واستوائهما في اللدد؛ لأنه إن قضى للمكفول له على الكفيل، قضى في الحين للكفيل على المكفول عنه، فالقضاء له على المكفول عنه أولى وأقل عناء، وبالله التوفيق. فصل والحمالة لا تجوز إلا فيما تصح فيه النيابة، وذلك إنما يكون في المال المتعلق بالذمة، أو ما يؤول إلى المال المتعلق بها؛ وأما ما يكون في الأبدان ولا يتعلق بالأموال- كالقتل والسرقة والحدود والتعزير، فلا تجوز فيه الحمالة، إذ لا تصح فيه النيابة. فصل وهي تنقسم على قسمين: حمالة بالمال وحمالة بالوجه. فأما الحمالة بالمال فإنها لازمة في الحياة وبعد الممات، كانت في أصل البيع أو بعد عقد البيع؛ لأنها وإن كانت من المعروف، فكأنها إنما خرجت عن عوض، وهو ما رضي به المتحمل له من دفع سلعته أو تأخير غريمه؛ وأيضا فإنه إذا غرم، يرجع بما غرم. واختلف قول مالك في الحميل بالمال: فمرة قال: إن المتحمل له بالخيار يأخذ أيهما شاء بحقه إن شاء الحميل، وإن شاء المتحمل عنه، وإن كان الغريم مليا؛ ومرة قال: لا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم- وهو اختيار ابن القاسم.

فصل

فصل واختلف على هذا القول إذا قام المتحمل له على الحميل، فقال: إن الغريم عديم، وقال الحميل: بل هو مليء - فمن يكون القول قوله منهما؟ وعلى من تكون إقامة البينة؟ فعلى ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الكفالة: إن القول قول المتحمل له، وعلى الكفيل إقامة البينة أن الغريم مليء، فإن عجز عن ذلك وجب عليه الغرم؛ لأنه إذا قال: إذا لم يعلم للغريم مال ظاهر، فالحميل غارم. وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب النكاح أن الغريم محمول على اليسار، فلا سبيل إلى إغرام الحميل حتى لا يوجد للغريم مال، فعلى المتحمل له إقامة البينة على عدم الغريم. فصل وكذلك اختلف على هذا القول إذا شرط أن يأخذ أيهما شاء بحقه: فقال ابن الماجشون، وابن كنانة، وأشهب: شرطه باطل ولا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم، واختلف في ذلك قول ابن القاسم: فمرة قال: إن الشرط جائز عامل وهو المشهور عنه المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، وبه قال أصبغ؛ ومرة قال ابن القاسم: إن الشرط لا يجوز إلا في القبيح المطالبة، أو ذي السلطان؛ وقد تؤول عليه أنه إنما أعمل الشرط من غير استثناء إذا كانت الحمالة في أصل البيع، وبالاستثناء إذا كانت الحمالة بعد عقد البيع؛ والصحيح ما بدأنا به أن ذلك اختلاف من قوله، وألا فرق بين أن تكون الحمالة في عقد البيع أو بعده. فصل وكذلك اختلف - إن اشترط المتحمل له على الحميل أن حقه عليه، وأبرأ الغريم: فظاهر قول ابن القاسم في كتاب الحوالة أن الشرط جائز ولا رجوع له

فصل

على الغريم، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا رجوع له عليه إلا أن يموت الحميل، أو يفلس، وروى مطرف عن مالك في الواضحة أن له الرجوع على الغريم إن شاء ولم يشترط موتا ولا فلسا؛ وقال ابن الماجشون: شرطه باطل ولا يعدى عليه حتى يملأ الغريم؛ لأنها حمالة حتى يسميها حوالة- يقول له: أحتال عليك من حقي، فعند ذلك يكون حقه عليه ولا يكون له الرجوع على غريمه الأول. فصل وهذا الاختلاف- عندي- إنما هو إذا وقع الشرط على ألا تباعة للمحتمل له قبله ولا رجوع له عليه، وأن الحميل يرجع عليه بما يؤدي عنه إلى المتحمل له، وأما إذا وقع الشرط على ألا تباعة قبله للمتحمل له، ولا للحامل فقد سقط الدين عنه باتفاق، ولا رجوع لأحدهما عليه في مال- لا للحامل- إن أداه إلى الطالب المتحمل له، ولا للطالب- إذا أعدم الحميل أو مات، ومن الناس من يحمل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة على التفسير لقول ابن القاسم فيها، ويقول: معنى ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا رجوع للمتحمل له للطالب- على غريمه الأول- إلا أن يموت أو يفلس؛ ويحتمل- عندي- أن يتأول قول ابن القاسم على أنهما قد أبرءا الغريم جميعا من الدين جملة؛ فيكون ابن القاسم إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه في رواية ابن وهب عن مالك. فهو ممكن سائغ محتمل. فصل فإن تحمل بالمال حملا في صفقة واحدة، فيلزم كل واحد منهم ما ينوبه منه على عددهم إلا أن يشترط أن كل واحد منهم حميل عن صاحبه، أو عن أصحابه قال بجميع المال، أو لم يقل فيؤخذ المليء منهم بالمعدم، كما يؤخذون بعدم الغريم، ويأخذ أيهم شاء على أحد قولي مالك، وعلى كليهما إذ اشترط أن

فصل في تفسيرها وشرحها وبيانها

يأخذ أيهم شاء: فإن أخذ أحدهم بما ينوبه من المال، فاختلف هل للمأخوذ منه ذلك أن يرجع على من وجد من أصحابه حتى يساويه في ذلك، فقيل: إن ذلك له وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الصواب؛ لأن ما ينوبه من المال، فإنما أداه عن نفسه لا رجوع له به كما لو ثبت عليه من أصل دين، ومثله في كتاب ابن المواز، وفي سماع أبي زيد وهو الذي يأتي على ما في المدونة لغير ابن القاسم في مسألة الستة كفلاء- وهي مسألة ناقصة، وفي بعض وجوهها انغلاق، فأنا أشرح ما انغلق منها وأبين ما أشكل فيها وأكمل ما نقص منها- إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله. فصل في تفسيرها وشرحها وبيانها إن سأل سائل عن تفسير الستة الكفلاء الواقعة في كتاب الكفالة من المدونة لغير ابن القاسم، ومعرفة الحكم في رجوع من غرم منهم جميع المال، وأكثر ما يجب عليه منه بسبب الحمالة على أصحابه إذا لقيهم مجتمعين، أو مفترقين، ووجه العمل في ذلك؛ فالجواب عنه أن الحكم في ذلك هو أن يرجع من غرم من المال شيئا بسبب الحمالة على أصحابه بما غرم عنهم على السواء إن لقيهم مجتمعين، وإن لقيهم مفترقين واحدا بعد واحد، رجع على من لقي منهم بما ينوبه مما أدى عنه بسبب الحمالة، وبنصف ما ينوب ما أدى عن أصحابه. وإن لقي منهم اثنين معا، رجع على كل واحد منهما بما ينوبه مما أدى عنه بالحمالة، وبتلقي ما ينوب ما أدى عن الباقين، وإن لقي منهم ثلاثة معا، رجع على كل واحد منهم- بما ينوبه من ذلك؛ وبثلاثة أرباع ما ينوب ما أدى بالحمالة عمن غاب، وإن لقي اثنان منهم واحدا، رجعا عليه بما أديا عنه من أصل الحق، وبثلث ما أديا عن أصحابه بالحمالة، وإن كانوا ثلاثة فلقوا واحدا، رجعوا عليه بما أدوه عنه في

خاصته، وبربع ما أدوه عن أصحابه بالحمالة، فاقتسموا ذلك بينهم بالسواء؛ وإن لقي واحد منهم من أصحابه من قد غرم بسبب الحمالة شيئا، حاسبه بذلك ورجع عليه بنصف الباقي؛ وإن كان الذي لقي قد غرم بسبب الحمالة شيئا أو أغرم هو سواه، حاسبه بالباقي على ما وصفناه؛ وإن لقي واحد منهم أحد أصحابه فرجع عليه، ثم لقيه ثانية بعد أن رجع هو على غيره، رجع عليه فساواه فيما رجع به؛ ثم إن لقي المرجوع عليه الغير الذي كان رجع عليه رجع عليه ثانية بما انتقصه الأول إذا لقيه ثانية، ثم إن لقيه الأول ثالثة رجع عليه، فلا يزال التراجع يتردد بينهم حتى يستووا ثلاثتهم، ولا يزال يرجع بعضهم على بعض أبدا كلما التقى واحد منهم. مع صاحبه- وقد أدى أكثر منه حتى يرجع إلى كل واحد منهم ما غرم بسبب الحمالة، فيكون قد أدى ما عليه من أصل الحق دون زيادة ولا نقصان، ولا تنحصر وجوه التراجع بينهم إلى عدد، إذ قد يلتقون على رتب مختلفة، وصور شتى غير متفقة؛ ولا ينقضي التراجع بينهم بأقل من خمس عشرة لقية- على أي رتبة التقوا عليها؛ ما لم تلق منهم الجماعة للجماعة أو الواحد للجماعة، أو الجماعة للواحد؛ وتنقضي بخمس عشرة لقية إذا التقوا على رتبة ما سأذكرها فيما بعد مفسرة- إن شاء الله. ووجه العمل في المسألة لا يتبين إلا بتنزيلها وتصويرها، فأنا أنزلها وأذكر من وجوه التراجع فيها ما ذكره في الكتاب بتفسير ما أشكل منها، ثم أتبع ذلك بما سكت عنه من بقية التراجع على الرتبة التي بدأنا بها حتى يصل إلى كل واحد منهم ما أدى بالحمالة، ويعتدلوا فيما أدوه من أصل الحق، ثم أذكر- إن شاء الله- حكم التراجع بينهم- مفسرا إذا التقوا على الرتبة التي ذكرنا أن التراجع ينقضي بينهم بخمس عشرة لقية. مع ألا يلتقي منهم أكثر من اثنين معا- إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

فصل في المسألة

فصل في المسألة وهي رجل باع سلعة من ستة رجال بستمائة درهم- على أن كل واحد منهم حميل عن أصحابه بجميعها، وشرط أن يأخذ منهم من شاء بجميع حقه، فإن وجد البائع أحدهم، كان له أن يأخذ منه الستمائة كلها؛ لأن المائة الواحدة منها واجبة عليه من أصل الحق، والخمسمائة يأخذها منه بالحمالة عن أصحابه الخمسة الباقين، فإن أخذها منه ثم لقي الذي أخذت منه أحد الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بثلاثمائة؛ لأنه يقول له: أديت أنا ستمائة، فمائة منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والخمسمائة الباقية أديتها عنك وعن أصحابك الأربعة الباقين مائة، مائة عن كل واحد منكم، فادفع إلي المائة التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما أديت عن أصحابك بالحمالة، وذلك مائتان؛ لأنك حميل معي بهم، فيأخذ منه ثلاثمائة، فيستويان فيما غرما عن أنفسهما وبالحمالة عن أصحابهما. فصل فإن لقي الثاني المأخوذ منه الثلاثمائة الثالث من الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بمائة وخمسة وعشرين؛ لأنه يقول له: أديت أنا ثلاثمائة، المائة الواحدة منها عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائتان الباقيتان عنك وعن أصحابك الثلاثة الغيبة الباقين خمسون، خمسون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وسبعين نصف المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة؛ لأنك حميل معي بهم هذا كله بين لا إشكال فيه في الكتاب. ثم قال فيه: وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال- الثالث من الباقين، فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عن أصحابه؛ وهو كلام فيه احتمال يفتقر إلى بيان، ومراده به أن الثالث من الغارمين المأخوذ منه مائة وخمسة وعشرين، لقي أحد الثلاثة الباقين وسماه رابعا؛ لأنه رابع الباقين فيرجع.

فصل

عليهم بخمسين، لأنه يقول له أديت أنا مائة وخمسة وعشرين، خمسون منها عن نفسي من المائة الواجبة علي من أصل الحق لا أرجع بها على أحد، وخمسة وسبعون بالحمالة عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وعشرين نصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فيأخذ منه الخمسين. فصل ثم قال في الكتاب: فإن لقي الرابع الآخر من الأولين الذي لم يرجع على الرابع بشيء - يريد أن الأول الذي غرم الستمائة ورجع منها على الثاني بثلثمائة، لقي الثالث الذي رجع عليه الثاني بمائة وخمسة وعشرين ولم يرجع هو بعد عليه بشيء، ويريد أنه لقيه قبل أن يرجع هو على الرابع بالخمسين وسماه في الكتاب رابعا لأن الباقين ثلاثة فهو رابعهم - وهو ثالث الغارمين فيرجع عليه بما أدى عنه من أصل الدين وذلك خمسون درهما، وينظر فيما بقي مما أداه بالحمالة عنه، فإذا هو مائة وخمسون درهما وقد أدى الرابع بالحمالة خمسة وسبعين درهما، فيرجع عليه الذي أدى خمسين ومائة - بسبعة وثلاثين ونصف حتى يعتدلا فيما أدياه بالحمالة عن الثلاثة، فيصير كل واحد منهما قد أدى مائة واثني عشر ونصفا، يريد أن الأول والثالث اللذين التقيا هما اللذان اعتدلا فيما غرما بالحمالة؛ وأما الثاني فإنما أدى بالحمالة خمسة وسبعين، لأن الأول كان رجع عليه بثلاثمائة فرجع هو منها على الثالث بمائة وخمسة وعشرين على ما بيناه، فبقي له مما أدى عن الثلاثة بالحمالة خمسة وسبعون، لأن المائة منها واجبة عليه في خاصته لم يؤدها بالحمالة، فيرجع الأول والثالث على هذا الثاني بخمسة وعشرين: اثني عشر ونصف لكل واحد منهما. إن لقياه معا، فيصير الأول والثاني والثالث قد أدى كل واحد منهم بالحمالة عن الثلاثة الباقين مائة مائة، وعن أنفسهم مائة مائة، فاعتدلوا في ذلك بمنزلة أن لو لقياه معا، ألا ترى أن الأول والثاني اللذين غرما الثلاثمائة لو لقيا الثالث معا،

فصل

لرجعا عليه بمائة، مائة؛ لأنهما كانا يقولان له قد أدينا ستمائة منها عن أنفسنا مائتان في خاصتنا والأربعمائة عنك وعن أصحابك الثلاثة - مائة، مائة عن كل واحد منكم فادفع إلينا المائة التي أدينا عنك وثلث الثلاثمائة التي أديناها عن أصحابك الثلاثة لأنك حميل معنا بهم؛ فعليك ثلثها فيأخذان منه المائتين ويقتسمانها بينهما بنصفين وهذه الزيادة في هذا الوجه سكت عنها في المدونة ولم يذكرها فيها وبها تتم. فصل فهذا ما ذكره في المدونة من وجوه هذه المسألة مشروحا مبينا، ولو كان إنما لقي الأول الثالث بعد أن رجع على الرابع بالخمسين على ما نزلناه، لوجب أن يرجع عليه بمائة واثني عشر ونصف، وتفسير ذلك أنه كان يقول له غرمت أنا ثلثمائة، لأني رجعت من الستمائة التي غرمتها بثلاثمائة، مائة منها علي من أصل الدين لا أرجع بها على أحد، والمائتان غرمتهما بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون بالحمالة عن أصحابك، فادفع إلي الخمسين التي غرمت عنك من أصل الدين، ونصف ما غرمت بالحمالة - زائدا على ما غرمت أنت وذلك اثنان وستون ونصف؛ لأني غرمت أنا مائة وخمسين بالحمالة وغرمت أنت بها خمسة وعشرين؛ لأن الخمسة والسبعين التي غرمت بالحمالة للثاني قد رجعت منها على الرابع بالخمسين، فأسقط الخمسة وعشرين التي غرمت أنت من المائة والخمسين التي غرمت أنا، تبقى مائة وخمسة وعشرون، فادفع إلي نصفها - وذلك اثنان وستون ونصف، فإذا دفع ذلك إليه، اعتدلا بما غرما بالحمالة ومن أصل الدين. فصل فإن لقيا جميعا الثاني الذي أخذ منه الأول ثلاثمائة ورجع هو على الثالث

فصل

بمائة وخمسة وعشرين رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس فيعتدلون ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة، وذلك أن الأول والثالث غرما بالحمالة على هذا مائة وخمسة وسبعين - سبعة وثمانين ونصفا، كل واحد منهما، وغرم الثاني بالحمالة خمسة وسبعين؛ فإذا رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس، اعتدلوا ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة وكان كل واحد منهم قد أدى بها ثلاثة وثمانين وثلثا. فصل فإن لقي الرابع المأخوذ منه خمسون أحد الاثنين الباقيين رجع عليه على هذا الترتيب بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له غرمت أنا خمسين خمسة وعشرون منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، وخمسة وعشرون بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب، الباقي اثنا عشر ونصف - على كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصفا التي أديت عنك في خاصتك وستة وربعا نصف الاثني عشر ونصف عن صاحبك الغائب بالحمالة، لأنك حميل معي به، فيأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع على ما قلناه. فصل وإن لقي هذا الخامس المأخوذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع الباقي من الستة، رجع عليه بستة وربع التي أدى عنه لا غير؛ لأن الاثني عشر ونصفا إنما أداها عن نفسه فلا يرجع بها على أحد، وهذه الثلاثة الأوجه لم يذكرها في الكتاب، وعلى هذا القياس والعمل، يرجع الأول والثاني والثالث على الرابع وعلى الخامس وعلى السادس بما أدوا عنه مما يجب عليهم في خاصتهم، وبما يجب عليهم مما أدوه عن أصحابهم بالحمالة، لقوهم مفترقين أو مجتمعين حتى يستووا فيما أدوا، فيكون كل واحد منهم قد أدى بمائة كما وجب عليه من أصل الدين.

فصل

فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث معا بعد أن استووا في الغرم على ما رتبناه - الرابع الذي غرم خمسين ورجع منها على الخامس بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وأربعة عشر ونصف ثمن، لأنهم يقولون له أدينا نحن خمسمائة وخمسين كل واحد منا مائة وثلاثة وثمانين وثلثا، وأديت أنت إحدى وثلاثين وربعا والواجب عليك ربع الجميع، لأنك رابعنا وذلك مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن، أديت من ذلك إحدى وثلاثين وربعا، فبقي لنا عليك مائة وأربعة عشر ونصف ثمن، يأخذونها منه فيقتسمونها بينهم ثلاثتهم، فيجب لكل واحد منهم منها ثمانية وثلاثون وسدس ثمن، فيكون كل واحد منهم قد أدى مائة وخمسة وأربعين وثمنين ونصف ثمن، كما أدى هو؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته، وبنصف ما أدى عن صاحبيه الغائبين بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا ثلاثتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه ثلاثتهم معا على ما فسرناه. فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع معا بعد أن استووا في الغرم فصار على كل واحد منهم مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن الخامس الذي رجع عليه الرابع بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فرجع هو منها على السادس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وستة وخمس وربع خمس يقتسمون ذلك فيما بينهم أربعتهم فيجب لكل واحد منهم ستة وعشرون وخمسان وثلاثة أرباع

فصل

الخمس وربع ربع الخمس، فيسقط ذلك من المائة والخمسة والأربعين والثمنين والنصف الثمن الذي أدى، فيكون الباقي الذي أدى كل واحد منهم مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس - كما أدى هو؛ لأنه أدى إليهم مائة وستة وخمسا وربع خمس؛ وكان قد أدى اثني عشر ونصفا - للرابع كما وصفناه، فالجميع مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس؛ كما أدى كل واحد منهم؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته وبنصف ما أدى عن صاحبه الغائب؛ لأنه حميل معه به بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا أربعتهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم معا على ما فسرناه. فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع والخامس معا بعد أن استووا، في الغرم، فصار على كل واحد منهم مائة وثمانية عشرة وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس على ما وصفناه - السادس الذي رجع عليه الخامس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بثلاثة وتسعين وثلاثة أرباع، فيقتسمونها بينهم خمستهم بالسواء، فيصير لكل واحد منهم ثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس وقد كان أدى مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس. فيصير الذي أدى كل واحد منهم مائة، مائة - كما وجب عليهم من أصل الدين، وقد كان السادس أدى أيضا إلى الخامس ستة وربعا، فصار ذلك بالثلاثة والتسعين والثلاثة الأرباع التي أدى الآن إلى جميعهم - مائة كما وجب عليه من أصل الدين فاعتدل جميعهم في الغرم، ولو لقوه مفترقين - واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عنه بالحمالة؛ فإذا التقوا

فصل في تفسير المسألة على الرتبة التي ذكرنا

هم خمستهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، فيكون كل واحد منهم أيضا قد أدى مائة كما وجب عليه من أصل الدين بمنزلة أن لو لقوه معا على ما صورناه. فصل في تفسير المسألة على الرتبة التي ذكرنا وهي أن يلقى الأول الذي غرم جميع المال أو أكثر مما يجب عليه منه - الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا - جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثاني الذي رجع عليه الأول - الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس فيستوفي بذلك أيضا جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثالث الذي رجع عليه الأول والثاني - الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الخامس الذي رجع عليه الأول والثاني والثالث والرابع - السادس فيستوفي أيضا ما أداه بالحمالة؛ ووجه العمل في ذلك إذا لقي المأخوذ منه الستمائة الثاني من أصحابه أن يرجع عليه بثلاثمائة، لأنه يقول له أديت أنا ستمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والخمسمائة أديتها بالحمالة عنك وعن أصحابك الأربعة الغائبين مائة، مائة، عن كل واحد منكم فادفع إلي المائة التي أديت عنك ونصف الأربعمائة التي أديتها عن أصحابك، لأنك حميل معي بهم؛ فإذا رجع عليه بذلك استويا فيما غرما عن أنفسهما، وبالحمالة عن أصحابهما، وهذا الوجه في المدونة مشروحا مبينا. فصل ثم إن لقي أيضا الثالث رجع عليه بمائة وخمسة وعشرين، لأنه يقول له بقي لي مما أديت ثلاثمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والمائتان أديتهما بالحمالة عنك وعن أصحابك الثلاثة الغائبين - خمسين، خمسين عن كل واحد

فصل

منكم، فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك، ونصف المائة وخمسين التي أديت عن أصحابك، - لأنك حميل معي بهم، فإذا رجع بذلك عليه، بقي له مما أدى مائة وخمسة وسبعون. فصل ثم إن لقي أيضا الرابع رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرين؛ خمسة وعشرين - عن كل واحد منكم، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك، ونصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة وعشرون. فصل ثم إن لقي الخامس رجع عليه بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون أديتها عنك وعن صاحبك الغائب اثني عشر ونصف، اثني عشر ونصف - عن كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصف التي أديت عنك في خاصتك، ونصف الاثني عشر ونصف التي أديت عن صاحبك الغائب لأنك حميل معي به فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة ستة وربع يرجع بها على السادس إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة. فصل فإن لقي الثاني الذي رجع عليه الأول بثلاثمائة - الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين، رجع عليه بسبعة وثمانين ونصف، لأنه يقول له أديت للأول ثلاثمائة منها مائة واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والمائتان أديتهما إليه

فصل

بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون عن أصحابك الثلاثة الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وسبعين فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك ونصف ما بقي من المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة بعد طرح الخمسة والسبعين التي أديتها أنت بالحمالة من ذلك وذلك سبعة وثلاثون ونصف؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف. فصل ثم إن لقي أيضا الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، رجع عليه باثنين وستين ونصف؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف، أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديت بالحمالة عن صاحبيك بعد طرح الخمسة والعشرين التي أديتها أنت إلى الأول بالحمالة، وذلك خمسة وعشرون فجميع ذلك اثنان وستون ونصف - كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة خمسون. فصل ثم إن لقي أيضا الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، رجع عليه بأربع وثلاثين وثلاثة أثمان، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسون أديت نصفها عنك ونصفها عن صاحبك الغائب بالحمالة، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول ستة وربعا، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والعشرين التي أديت عن صاحبك بعد طرح الستة وربع

فصل

التي أديتها أنت بالحمالة إلى الأول من ذلك وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ذلك أربع وثلاثون وثلاثة أثمان - كما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة عشر وخمسة أثمان يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع إذا لقيه، فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم. فصل فإذا لقي الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين ورجع عليه الثاني بسبعة وثمانين ونصف - الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، والثاني باثنين وستين ونصف، رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائة والاثنا عشر ونصف أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين، سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك، وقد أديت أنت بالحمالة للأول خمسة وعشرين، وللثاني خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديتها عن صاحبيك بالحمالة؛ إذا طرحت منها الخمسين التي أديتها أنت بالحمالة أيضا - وذلك اثنا عشر ونصف فيصير ذلك خمسين على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة اثنان وستون ونصف. فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع،

فصل

ورجع عليه الثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، رجع عليه بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف، أديتها عنك وعن صاحبك الغائب. أحد وثلاثون وربع عنك وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك الغائب بالحمالة - وقد أديت أنت بالحمالة للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، فادفع إلي الأحد والثلاثين وربعا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الأحد والثلاثين وربع التي أديت عن صاحبك بالحمالة إذا طرحت منها الخمسة عشر والخمسة الأثمان التي تحملت فيما أديت أنت بالحمالة للأول والثاني وذلك سبعة وستة أثمان ونصف ثمن فيصير ذلك تسعة وثلاثين ونصف ثمن على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين. فصل فإن لقي الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، ورجع عليه الثاني باثنين وستين ونصف، والثالث بخمسين - الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، رجع عليه بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن؛ لأنه يقول تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والاثنان وستون ونصف أديتها بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب أحد وثلاثون وربع عنك، وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك بالحمالة وقد أديت أنت بها للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، وللثالث سبعة وستة أثمان ونصف ثمن، تحمل في ذلك ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن، فادفع إلي الأحد

فصل

والثلاثين والربع التي أديت عنك في خاصتك، ونصف مما بقي مما أديت بالحمالة - إذا طرحت منها الثلاثة والعشرين والثلاثة الأثمان ونصف الثمن التي أديت أنت بها وذلك ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن فيصير ذلك خمسة وثلاثين وثمنا وربع ثمن كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة سبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع الثمن، يرجع بها على السادس إذا لقيه، فيستوفي جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين. فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن والرابع بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن - السادس الذي رجع عليه الأول بستة وثمن، والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، والثالث بثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن والرابع بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، رجع عليه بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع ثمن، مائة منها واجبة علي لا أرتجع بها على أحد، والسبعة والعشرون والثمنان وثلاثة أرباع الثمن، أديتها بالحمالة عنك، فادفعها إلي، فإذا رجع عليه بذلك استوفى جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين؛ وكان هذا السادس إذا رجع عليه بهذا العدد قد غرم مائة كاملة كما وجب عليه من أصل الدين وكما غرم كل واحد منهم؛ لأنه غرم للأول ستة وربعا، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع الثمن وللخامس سبعة وعشرين وثمنين، وثلاثة أرباع الثمن. فصار جميع ذلك مائة - كما قلناه؛ فقد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من شرح المسألة على الوجهين المذكورين، فمن فهم ذلك ووقف على معناه، لم يلتبس عليه وجه العمل فيها على أي رتبة التقوا عليها - وهي كثيرة يعسر إحصاؤها، ويطول استقصاؤها، وقد كان أكثر الشيوخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يقرونها

فصل

ويقولون - اعتذارا في ترك قراءتها -: إنها مسألة حساب فلا معنى للاشتغال بها، وليس ذلك كما كانوا يقولون، إنما انغلاقها من جهة الفقه لا من جهة الحساب، فمن فهمها من جهة الفقه لم يلتبس عليه شيء منها من طريق الحساب ولا من المسألتين الواقعتين بعدها في الباب - وهما إذا اشترط صاحب الدين أن كل اثنين منهم حميل بجميع المال أو كل ثلاثة حميل بجميع المال، فلذلك عنيت بشرحها وتفسيرها، والتوفيق بيد الله لا شريك له ولا معبود سواه. فصل وقد وقع في الكتاب في آخر مسألة الثلاثة نفر الذين اشتروا السلعة على أن كل واحد منهم حميل بما على صاحبه كلام فيه إشكال يفتقر إلى بيان ونص ما لا إشكال فيه منها: قال: وسألت ابن القاسم عن ثلاثة نفر اشتروا سلعة من رجل وكتب عليهم أيهم شئت أخذت بحقي وكل واحد منهم حميل بما على صاحبه، فمات أحد الثلاثة فادعى ورثة الهالك أنه قد دفع المال كله إلى بائع السلعة وأقاموا شاهدا، قال: يحلفون مع شاهدهم ويبرأون ويرجعون على الشريكين الباقيين بما أدى صاحبهم عنهما؛ وأما قوله: قلت فإن أبى الورثة أن يحلفوا إلى آخر قوله، ففيه إشكال، وبيانه أن الورثة إذا نكلوا عن اليمين مع شاهدهم، فإن الأمر لا يخلو من أن يكون الميت مليا أو معدما؛ فأما إن كان الميت مليا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عنهما بما ينوبهما منه. والثاني: أن يقولا إنما جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك. والثالث: أن يقولا إنما دفع ذلك من ماله إلى البائع - وأموالنا إذ كنا قد دفعنا إليه ما ينوبه منه وكلناه على دفعه عنا.

فأما الوجه الأول وهو أن يصدق الشركان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله، إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فيرجع اليمين على البائع فيحلف على تكذيب ما شهد به الشاهد، ويرجع بجميع حقه فيأخذ ثلثيه من الشريكين وثلثه من مال المتوفى، وليس للورثة أن يرجعوا على الشريكين بما ينوبهما من المال الذي أقرا أن موروثهم أداه على ما شهد به الشاهد - وإن كانا قد صدقاه في شهادته بذلك، لأن الميت ضيع في تركه الإشهاد، فالمصيبة منه؛ قال ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يكون الدفع بحضرتهما، فيكون لهم الرجوع بذلك عليهما، وذلك على ما روى أبو زيد عن ابن القاسم، خلاف ما روى عنه عيسى من أنه لا رجوع لهم عليهما وإن كان الدفع بحضرتهما، قال في هذا الوجه في الكتاب ولا يحلف الشريكان لأنهما يغرمان، فأما قوله إنهما لا يحلفان فصواب، لأن الشاهد ليس هو لهما وإنما هو للورثة عليهما، وأما قوله لأنهما يغرمان فتعليل فيه نظر يوهم أنه أراد أنهما لا يحلفان، لأنهما إن حلفا غرما للورثة؛ وإن لم يحلفا غرما للبائع: ولذلك لم يحلفا. ولو كان مراده ذلك، لكان من حقهما أن يحلفا إن شاءا ليسقطا طلب البائع عنهما لما قد يرجوان من مسامحة الورثة لهما في الاقتضاء ولا يصح أن يكون مراده ذلك، لما بيناه من أنه لا رجوع للورثة عليهما بما ينوبهما مما أدى الميت عنهما من ماله وإن صدقاه على الدفع إلا أن يقرا أنه كان بحضرتهما على إحدى الروايتين المذكورتين عن ابن القاسم، وإنما كان يجب أن يقول ولا يحلف الشريكان ويغرمان للبائع، فإن نكل البائع في هذا الوجه عن اليمين بعد نكول الورثة، سقط حقه ورجع الورثة على الشريكين بما ينوبهما من الحق. وأما الوجه الثاني - وهو أن يقولا إنما دفع جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك، ففي ذلك بين المتأخرين اختلاف: قال ابن أبي زيد يحلف الشريكان لقد دفع الميت ذلك ويبرآن ويرجع البائع على الورثة بما ينوبهم بنكولهم بعد يمينه أنه ما قبض من وليهم شيئا، وللشريكين أن يحلفا الورثة إن كانوا كبارا: ما يعلمون أنهما دفعا إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين حلفا لقد دفعا جميع الحق إليه، ورجعا عليهم بالثلث الذي ينوبهم منه؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن البائع يحلف فيأخذ من جميعهم ماله ويحلف الورثة للشريكين أنهم ما يعلمون أنهما دفعا

إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ورجعا عليهم في التركة بما ينوب الميت من ذلك؛ قال: ولا يكون للشريكين أن يحلفا لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن، لأن ما في يد الميت على ملكه حتى يثبت الدفع إليه، وذهب بعض الأندلسيين إلى أن الشريكين يحلفان لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن ويرجعان على الورثة بما ينوبهما منه إذا لم يحلفوا فهذه ثلاثة أقوال في هذا الوجه: أحدها: أن الشريكين يحلفان، ويبرآن من نصيبهما، ولا يرجعان على الورثة بما ينوبهما. والثاني: أنهما يحلفان ويبرآن من نصيبهما ويرجعان على الورثة بما ينوبهما. والثالث: أنهما لا يمكنان من اليمين. والذي يوجبه النظر - عندي - إذا لم يكن للشريكين بينة على ما ادعيا من دفع المال إلى الميت ولا شهد بذلك الشاهدان، يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفوا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع لنكول الورثة ورجع عليهما وعلى الورثة بحقه؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ولقد دفع هو ذلك إلى البائع وبرئا من نصيبهما ورجعا على الورثة بما ينوبهما. وأما الوجه الثالث - وهو أن يقولا إنما دفع ذلك إلى البائع من ماله وأموالنا، ففي قول ابن أبي زيد يحلف الشريكان ويبرآن ويحلف البائع ويرجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يمكن الشريكان من اليمين، ويحلف البائع ويرجع على جميعهم بماله؛ والذي يوجبه النظر - عندي على ما تقدم - أن يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع ورجع على جميعهم

فصل

بماله؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إلى الميت، وحلفا مع الشاهد لقد دفع ذلك الميت إلى البائع وبرئا من نصيبهما، وحلف البائع ما دفع إليه شيئا، ورجع على الورثة بما ينوبه. فصل وكذلك إذا كان الميت معدما لا يخلو الأمر أيضا من الثلاثة الوجوه المذكورة: فأما الوجه الأول منها، وهو أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فذهب ابن أبي زيد إلى أن للشريكين أن يحلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم، قال: فإذا حلفا غرما للورثة الثلثين ورجع البائع عليهم في ذلك بالثلث إذا حلف أنه لم يقبض من وليهم شيئا، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن الشريكين إذا حلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم لا يغرمان الثلثين للورثة وإنما يغرمان ذلك للبائع بعد يمينه وهو الصحيح على ما بيناه من أنهما لا يلزمهما للورثة ما دفع الميت عنهما من ماله، لأنه أتلف ذلك على نفسه بتضييعه الإشهاد، وقد مضى القول على الوجه الثاني والثالث إذا كان الميت مليا ولا فرق فيهما بين أن يكون مليا أو معدما إلا في اتباع ذمته بما يلزمه إن طرأ له مال وبالله التوفيق. فصل وأما الحمالة بالوجه فإنها جائزة إذا كان المتحمل به مطلوبا بمال ولم يكن مطلوبا بشيء يجب عليه في بدنه من قتل أو حد أو قصاص أو تعزير، هذا

فصل

مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ومن أهل العلم من يرى الكفالة في الحدود والقصاص والجراح، ذكر البخاري في كتابه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه أن عمر بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفيلا حتى قدم على عمر. وكان عمر قد جلده مائة جلدة فصدقهم وعذره بالجهالة؛ وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين استتبهم وكفلهم، فتابوا فكفلهم عشائرهم. فصل وأصل جواز الحمالة بالعين قائم من كتاب الله - عز وجل قال الله تعالى في قصة يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، فهذه حمالة بالنفس ووثيقة بالعين. فصل فمن رأى الكفالة فيما يتعلق بالأبدان من حد أو قصاص أو جراح، فيلزم الكفيل إن لم يأت بالمكفول به من طلبه ما يلزم الحميل بالوجه إذا اشترط أنه لا شيء عليه من المال؛ وقال عثمان البتي إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح، فإنه إن لم يجيء به لزمته الدية وأرش الجراحة وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل. فصل والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لا كفالة في الحدود ولا في القصاص ولا في الجراح ولا في التعزير، وإنما الواجب في ذلك السجن لا الكفالة، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجن قوما بالمدينة في تهمة دم، وقد قيل إن

فصل

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر الصديق لم يسجنا ولا كان لهما سجن، والصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم بالضرب والسجن - ذكر ذلك ابن شعبان؛ وأما عمر بن الخطاب فلم يختلف عنه في أنه كان له سجن وقد سجن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبيعا على سؤاله عن المشكلات، وكذلك من بعده من الأمراء والحكام، حكموا بالسجن فيما يجب فيه السجن. فصل وقد ضعف الشافعي الحمالة في المال في الوجه، فيأتي في المسألة على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: إجازة الحمالة بالوجه في المال والحدود والقصاص. والثاني: أن الحمالة بالوجه لا تجوز في شيء من ذلك. والثالث. تفرقة مالك وأصحابه. فصل والحميل بالوجه يلزمه غرم المال إذا لم يحضر العين؛ فإن أحضره بريء من المال - وإن كان عديما، إلا أن يشترط ألا شيء عليه من المال فينفعه الشرط ولا يجب عليه غرم المال وإن لم يحضره إلا أن يكون قادرا على الإتيان به فيفرط في ذلك ويتركه أو يغيبه حتى يذهب، فيكون ضامنا للمال بإهلاكه إياه؛ وما لم يفعل شيئا من ذلك، فلا ضمان عليه في المال، وإنما يلزمه الطلب خاصة على ما اشترط وفيما يلزمه من الطلب اختلاف بين أصحاب مالك، وهو موجود في الأمهات؛ من ذلك ما وقع في سماع حسين من كتاب الكفالة، وما حكى ابن حبيب في الواضحة، فمن أراد الوقوف على الاختلاف في ذلك، تأمله في مواضعه - إن شاء الله؛ قال في كتاب ابن المواز وكذلك لو قال لا أضمن إلا وجهه لم يلزمه ضمان المال إن لم يأت بالعين، وهذا فيه نظر عندي - إذ لا فرق بين أن يقول أنا

فصل

ضامن لوجهه - ولا يزيد على ذلك، أو يقول لا أضمن إلا وجهه في وجوب ضمان الوجه عليه؛ ومن ضمن الوجه، فهو ضامن للمال إن لم يأت بالوجه؛ كما لا فرق بين أن يقول الرجل أسلفني فلان ألف مثقال، أو يقول ما أسلفني إلا ألف مثقال - في وجوب الألف مثقال عليه، وإنما يصح ما قال ابن المواز إذا كان لكلامه بساط يدل على أنه إنما أراد ضمان الوجه بلا مال وذلك مثل أن يقال له تحمل لنا بوجه فلان، فإن جئت بوجهه فأنت بريء من المال، فيقول: لا أضمن لكم إلا وجهه، وما أشبه ذلك. فصل واختلف إذا قال أنا حميل أو كفيل - وعري الكلام عن دليل - فقيل هو محمول على حمالة الوجه حتى ينص على المال، وقيل هو محمول على حمالة المال حتى ينص على الوجه، والأصح أنه محمول على حمالة المال حتى ينص أنه حميل بالوجه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحميل غارم، والزعيم غارم»؛ وأما إن تداعيا البيان لا الإبهام، فالقول قول الحميل مع يمينه أنه إنما تحمل بالوجه ويبرأ من المال إذا أتى بالعين، لأنه المدعى عليه، ولا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، وبالله التوفيق.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة فصل في القول في الحوالة «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل، يدا بيد» ونهى عن الدين بالدين ورخص في الحوالة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، ومن أتبع على مليء فليتبع»، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فليتبع، أمر والمراد به الندب والإرشاد، لا الوجوب والإلزام، فليس بواجب عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم ليحيل على مليء أو معدم أو يستحيل عليه إلا أن يشاء، لأنه: إنما رضي بذمة غريمه، فليس عليه أن ينتقل عنها إلا برضاه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم على المحال فرضا واجبا إذا أحيل على مليء أن يستحيل عليه. فصل والحوالة بيع من البيوع إلا أنها خصصت من الأصول لما كانت على سبيل المعروف، كما خصص شراء العرية بخرصها من المزابنة لما كان على سبيل المعروف، وكما خصصت الشركة والتولية والإقالة في الطعام المكيل

فصل

والموزون، وأخرج من البيع لما كان ذلك على سبيل المعروف، ولم يكن على وجه المكايسة، فكذلك الحوالة إنما تجوز إذا كانت على وجه المعروف، فإن دخلها وجه من وجوه المكايسة رجعت إلى الأصل فلم تجز. فصل فلجواز الحوالة ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان بيع ذمة بذمة، فدخله ما نهي عنه من الدين بالدين، وما نهي عنه من بيع الذهب بالذهب، أو الورق بالورق، إلا يدا بيد، إذا كان الدينان ذهبا أو ورقا؛ إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا - مثل الصرف، فيجوز ذلك. والثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الدين الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لا أقل ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل، لأنه إن كان أقل أو أكثر أو مخالفا له في الجنس والصفة، لم تكن حوالة، وكان بيعا على وجه المكايسة، فدخلها ما نهي عنه من الدين بالدين أيضا. والثالث: أن لا يكون الدينان طعاما من سلم أو أحدهما، ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وللزومهما شرط واحد، وهو أن لا يغره من فلس عليه من غريمه. فصل والحوالة جائزة في جميع الديون إذا تساوت في الوزن والصفة، وحل الدين المحال به - كانت من بيع أو قرض أو تعد، إلا أن يكونا جميعا طعاما من سلم، فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل

فصل

أحدهما ولم يحل الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، استوت رؤوس أموالهما أو لم تستو على مذهب ابن القاسم، خلافا لأشهب في قوله إنه إذا استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة، وكانت تولية؛ فإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم، فلا تجوز حوالة أحدهما على الآخر حتى يحلا جميعا، هذا مذهب ابن القاسم. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن جماعة أصحاب مالك حاشا ابن القاسم - أنهما بمنزلة إذا كانا جميعا من سلف يجوز أن يحيل أحدهما على الآخر إذا حل المحال به. فصل وينزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله ومنزلته في الدين الذي أحيل به فيما يريد أن يأخذ به منه أو يبيعه به من غيره؛ فإن كان احتال بطعام، كان له من قرض في طعام من سلم، أو بطعام كان له من سلم في طعام من قرض، لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل استيفائه؛ لأنه إن كان احتال من القرض في السلم، لم يجز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه، لنزوله فيه منزلة من أحاله، وإن كان احتال من السلم في القرض لم يجز له أن يبيعه حتى يستوفيه لنزوله فيه منزلته في الطعام الذي احتاله به ولا يجوز له أن يأخذ منه إلا الطعام الذي أحيل به أو مثل رأس مال السلم سواء، فيصير بمنزلة الإقالة؛ فإن كانا جميعا من قرض جاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه منه ومن غيره بكل ما يجوز أن يباع به طعام القرض، لأنه كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي احتال به؛ وكان للذي أحاله أن يبيع الطعام الذي أحاله عليه، لكونهما جميعا من قرض؛ وكذلك لو احتال بعرض كان له

من قرض في عرض من قرض؛ فإن كانا جميعا من سلم وكان أحدهما سلم دنانير، والآخر دراهم، لم يجز له أن يبيعه - أعني العرض منه قبل أن يستوفيه بدنانير ولا بدراهم لما قدمناه؛ وجاز له أن يبيعه منه بعرض مخالف له إن كان الأجل لم يحل، وبما شاء من العروض - إن كان الأجل قد حل. وأما من غيره فيجوز له أن يبيعه بما شاء من الدنانير والدراهم والعروض المخالفة لها إذا تعجلها وألا يجوز له أن يبيعها بعروض من صنفها - أقل منها أو أكثر؛ وإن تعجلها إلا أن يعجلها هو أيضا، فيكون يدا بيد مثل الصرف؛ وإن كان سلم كل واحد منهما في عرضه دنانير أو دراهم، مثل ما سلم صاحبه جاز له أن يبيعه منه بمثل ذلك أو أقل - ولم يجز بأكثر منه، لأنه يدخله سلم دنانير أو دراهم في أكثر منها إلى أجل، وإن كان سلم أحدهما في عرضه أكثر مما سلم صاحبه في عرضه، لم يجز له أن يبيع العرض الذي أحيل عليه إلا بمثل أقل الثمنين فأقل، ولا يجوز بأكثر من أحدهما وإن كان مثل الآخر أو أقل منه؛ وإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم فاحتال بأحدهما في الآخر لم يجز له أن يبيعه إلا بمثل رأس مال السلم فأقل كان الذي احتال عليه هو القرض أو السلم لما قدمناه من مراعاة الوجهين؛ ومن له دنانير من قرض فاحتال بها على ثمن طعام، فلا يجوز له أن يأخذ من الذي عليه بها طعاما، لأنه ينزل فيها منزلة من أحاله فيدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ وكذلك إن كان له دنانير من ثمن طعام باعه، فأحيل بها على دنانير من قرض، لم يجز له أن يأخذ منه فيها طعاما لأنه ينزل منزلته فيما كان له على الذي أحاله، فكما لا يجوز له أن يأخذ من الذي أحاله طعاما، فكذلك لا يجوز له أن يأخذ من هذا الذي أحيل عليه طعاما، لأنه غريم غريمه، وبالله التوفيق.

كتاب الحبس والصدقة والهبة

كتاب الحبس والصدقة والهبة أجمع أهل العلم على جواز الهبة والصدقة وثبوت حكمها في الشرع، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]. وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]، وقوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17]. ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله في الجنة ألف ألف حديقة. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - كان إنما

فصل

يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقبل الهدية ويثيب عليها»، وقوله: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت»، وقوله: «ولا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده»، وقوله: «الراجع في صدقته، كالكلب يعود في قيئه»، «وقوله للنعمان بن بشير: " أكل ولدك نحلته مثل هذا»، وقوله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول»، والآثار الواردة في هذا أكثر من أن تحصى كثيرة. فصل وإنما اختلف أهل العلم هل تلزم الهبة والصدقة بالقول أم لا؟ وإذا لزمت بالقول، فهل تفتقر إلى حيازة أم لا؟ وهل تجوز إن كانت مجهولة أو مشاعة غير مقسومة أم لا - على أقاويل شتى؟ فصل فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أنها تلزم بالقول وتجب به وتفتقر إلى الحيازة فيحكم على الواهب أو المتصدق بدفعها ما لم يمرض أو

فصل

يفلس - خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما إن الهبة والصدقة لا يلزمان بالقول ولا يجبان إلا بالقبض، وأن للواهب أو المتصدق الرجوع فيها ما لم تقبض منه وتحز عنه، والحجة لمالك ومن قال بقوله في وجوبه الصدقة والهبة بالقول، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والعقد هو الإيجاب والقبول، وذلك موجود في مسألتنا وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده»، ومن طريق المعنى: فإن الصدقة والهبة لو لم ينعقدا بالقول، لما لزما بالقبض؛ لأن مجرد القبض إذا ألغي القول ولم يجعل له حكم لا يوجب الصدقة ولا الهبة، ففي اتفاقنا على لزوم الصدقة والهبة بالقبض، دليل على انعقادهما بالقول، إذ القبض لا بد أن يكون تاليا لعقد متقدم، ومتى لم يكن تاليا لعقد متقدم، لم يوجب حكما بانفراده. فصل والعقود التي تنتقل بها الأملاك تنقسم على قسمين: بعوض وعلى غير عوض. فأما ما كان منها على عوض فلا يفتقر إلى حيازة، لارتفاع التهمة في ذلك، وما كان بغير عوض كالهبة والصدقة، فمن شرط تمامه وكماله القبض عند مالك وجميع أصحابه. فصل وقد اختلف في الزيادة في ثمن السلعة أو صداق المرأة، فحكم لها بحكم الهبة في افتقارها إلى الحيازة والقبض في بعض المواضع دون بعض، أما مالك وأصحابه فلم يجروا في ذلك على قياس، وخالفهم جماعة من فقهاء الأمصار، فحكموا لها بحكم الثمن في كل موضع كان البيع وقع عليها؛ واحتجوا «بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ابتاع منه بعيره وزاده عند القضاء

فصل

قيراطا»، فقالوا محال أن يكون جابر بن عبد الله يملك ما ملكه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير الوجه الذي ملكه به، واحتجوا أيضا بحديث ابتياع عبد الله بن عوف بن عثمان بن عفان الفرس الغائبة وزيادته بعد كمال البيع أربعة آلاف على أن يكون الضمان منه، فدل ذلك على إلحاق الزيادات بعقود البياعات، وقد كان ذلك بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الذين تمنوا أن يعرفوا أيهما أجد في البيع، وهذا ما كان المبيع يمكن رده واستئناف البيع فيه، لم يفت بعتق ولا موت ولا خروج عن يد مبتاعه؛ فإن كانت الزيادة بعد فواته بشيء من ذلك، حكم لها بحكم الهبة - قولا واحدا. فوجه ما ذهبوا إليه من ذلك أنه إذا زاده في الثمن بعد كمال البيع وقبل منه الزيادة، فكأنهما تناقضا البيع الأول واستأنفا بيعا جديدا بالثمن الأول والزيادة؛ وأما إن كانت الزيادة بعد عقد ما لا يصح نقضه - كالصلح على دم العمد أو على شيء من المجهول، فقيل إن الزيادة ترد إلى صاحبها - وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقيل إنه يحكم لها بحكم الهبة في جميع الوجوه - وهو الأشهر والأكثر؛ وعلى هذا المعنى اختلفوا في افتقار النحلة عند عقد النكاح إلى الحيازة، وفي جواز بيع مال العبد بعد كمال البيع، ومسائل من هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق. فصل والهبة والصدقة وما أشبههما على مذهبنا تفتقر إلى حيازة ولا تتم إلا بها، ومتى لم تحز عن الواهب أو المتصدق حتى مات أو فلس، فقد بطلت. فصل وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة والصدقة، لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته ثم يخرجه عن

ورثته بعد وفاته - وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، وبذلك ورد الخبر أيضا عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فأما خبر أبي بكر الصديق، فهو حديثه في قصة عائشة أنه كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله؛ قالت عائشة: فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا، لتركته وإنما هي أسماء، فمن الأخرى، فقال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية. وأما خبر عمر بن الخطاب؛ فقوله ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال مالي بيدي لم أعطه أحدا؛ وإن مات هو قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطل. وأما خبر عثمان بن عفان، فقوله: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحله فأعلن ذلك وأشهد عليه، فهي جائزة وإن وليها أبوه فأوجب الحيازة فيما وهب الأب لابنه الكبير، ورخص في حيازته ما هب لابنه الصغير.

فصل

فصل واتفاق الخلفاء على وجوب الحيازة حجة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ». وقد ادعى أصحابنا أن ذلك إجماع من الصحابة، لأن ذلك مروي أيضا عن أنس بن مالك وغيره، ولا مخالف لهم من الصحابة، وذلك صحيح بين من حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأنه قال بمحضر الصحابة ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا - الحديث، فلم ينكر عليه أحد منهم قوله ولا خالفه فيه، بل سكت الكل منهم وسلم، فدل على موافقتهم له على مذهبه. فصل وتجوز الهبة والصدقة على مذهب مالك - وإن كانت مجهولة أو مشاعة غير مقسومة، كانت مما ينقسم أو مما لا ينقسم؛ خلاف أهل العراق في قولهم إن الهبة والصدقة لا تلزمان بالقول ولا تجبان إلا بالقبض، وأن تكون مقسومة مفروزة معلومة غير مجهولة، وأن للواهب أو المتصدق أن يرجع في هبته وصدقته ما لم يحوزها؛ ومنهم من فرق في ذلك بين الهبة والصدقة، فألزم الصدقة - وإن لم تقبض، قالوا لأنه يراد بها وجه الله، وهو أحد قولي الشافعي؛ والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هبة الغرر والمجهول جائزة كميراث لا يعلم كميته، والعبد الآبق، والبعير الشارد، والثمرة التي لم يبد صلاحها، لأنا إنما نهينا عن بيع الغرر، والهبة إنما هي على وجه المعروف والتبرر، لا يقصد بها تقامرا ولا تغابنا؛ وقد أجمع أهل العلم أن من أوصى بجزء من ماله الثلث فدونه - وهو لا يعرف مبلغه من الوزن والقدر، أنه جائز ماض، وهذا يرد قول من رد صدقة الحر في ثلثه مع قول النبي -

فصل

- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لزهير أبي صرد خطيب أهل هوازن: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فأعطاهم ما لم يقف على مبلغه من الجزء والقدر جميعا، ولا خلاف بين الناس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة» وهو شيء لا تعلم حقيقته، لأن نفقة النساء تزيد وتنقص، وكذلك مؤونة العامل - قد تكثر في عام، وتقل في آخر؛ وهذا في فدك وخيبر وبني النضير؛ وقالت طائفة من أهل العلم - منهم أحمد بن حنبل وأبو ثور - الهبة والصدقة جائزة لازمة بالقول، لا تفتقر إلى حيازة كالبيع سواء؛ وتأولوا حديث أبي بكر في قصة عائشة على أن تلك الهبة لم تكن معلومة، ولذلك ردها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا لأنها لم تقبض لقوله إني نحلتك جداد عشرين وسقا؛ ولو باع رجل جداد عشرين وسقا من نخل له لم يجز فيه البيع، لأن ذلك مجهول. فصل ففي المسألة أربعة أقوال: أحدها: هذا أنها تلزم بالقول وتتم به ولا تفتقر إلى حيازة - كالبيع سواء؛ والثاني قول مالك ومن تابعه أنها تنعقد بالقول وتلزم به ولا تتم إلا بالحيازة. والثالث: أنها تنعقد بالقول ولا تجب به، وإنما تجب بالقبض والحيازة وهو مذهب أهل العراق، وقد تقدم الكلام على تضعيف هذا المذهب وتصويب مذهب مالك بما أغنى عن رده ههنا. والرابع: التفرقة بين الهبة والصدقة على ما حكيناه. فصل ولا تفترق الهبة من الصدقة على مذهب مالك إلا في وجهين:

فصل في القول في الحبس

أحدهما: أن الهبة تعتصر وأن الصدقة لا تعتصر. والثاني: أن الهبة يصح الرجوع فيها بالبيع والهبة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها ببيع ولا هبة إلا أن تكون الصدقة على الابن، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداها: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة، مثل أن تكون أمة فتتبعها نفسه، أو يحتاج فيأخذ لحاجته وهو ظاهر ما في المدونة. والثانية: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وإن لم تكن ضرورة، ولا يكون له الاعتصار - وهو قول مالك في كتاب ابن المواز واختيار محمد. والثالثة: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له - وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب الصدقات؛ لأنه أجاز أن يأكل مما تصدق به على ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا على معنى الاعتصار؛ لأن الصغير لا يصح منه إذن، وهو ظاهر ما في سماع ابن القاسم أيضا، إذ لم يفرق في الرواية بين صغير ولا كبير. فصل في القول في الحبس وأما الحبس فاختلف أهل العلم في جوازه: فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم إلى إجازة الحبس ومنع منه أبو حنيفة وأصحابه، واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، وبقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]- إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]

فصل

وبقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]، إلى قوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139]، وبقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138]، إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138]، وقال: في آخر القصة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. فصل وهذه الآيات كلها لا دليل لهم في شيء منها على إبطال الحبس والمنع منه، لأنها إنما تقتضي التوبيخ على ما كانت الجاهلية تحرمه على أنفسها من أنعامها تشرعا وتدينا وافتراء على الله، واتباع خطوات الشيطان، فليس ذلك مما يحبسه الرجل على ولده أو في وجه من وجوه البر التي يتقرب بها إلى الله بسبيل. فصل وكذلك استدلوا لمذهبهم بما رواه ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس بعد سورة النساء»، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس عن فرائض الله - تعالى»، وبما روي عن شريح أنه قال: لما نزلت سورة - المائدة، جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإطلاق الحبس، وروي بمنع الحبس، وبما روي «عن عبد الله بن يزيد أنه قال:

فصل

قلت يا رسول الله تصدقت على أمي بصدقة - وقد ماتت - فقال: قبل الله صدقتك وعادت إليك بالميراث». قالوا: ومن يذهب إلى جواز الحبس يمنع عوده إلى المحبس، قالوا ولأنه إخراج ملك لا إلى ملك فوجب ألا يلزم؛ أصله السائبة أو إذا قال: أخرجت هذه الدار عن ملكي، فإنها لا تخرج، فكذلك مسألتنا؛ قالوا ولأنه إزالة ملك عن المنفعة، فوجب ألا يزول الملك عن الرقبة، أصله العارية. فصل وهذا كله لا دليل فيه، ولا حجة، لأن الحبس الذي جاء محمد بإطلاقه، هو البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي الذي ذكره الله في كتابه، والدليل على ذلك: أنه المذكور في سورة المائدة، وهذا التأويل مروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وأما حديث ابن عباس فعنه جوابان: أحدهما: أن المراد به حبس الزاني البكر، وذلك أن الله عز وجل قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15]، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام» - الحديث. والجواب الثاني وهو المعتمد عليه - أن المراد بذلك منع البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحامي الذي كانت الجاهلية تفعله، إذ لا يعرف جاهلي حبس داره على ولده، أو في وجه من الوجوه المتقرب بها إلى الله تعالى. أما

فصل

حديث عبد الله بن يزيد، فإنه في صدقة تمليك غير وقف، بدليل قوله عادت إليك ميراثا؛ وعند المخالف أن الوقف يورث عن الواقف، لا عن الموقوف عليه؛ على أن في قوله عادت إليك دليلا على خروجها عن ملكه بالوقف - وهم لا يقولون بذلك؛ وأما قولهم: لأنه إخراج ملك لا إلى ملك كقوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، فغير صحيح، لأن الوصف غير موجود في الأصل، لأن قوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، ليس بإخراج، وينتقض ذلك بالعتق، فإنه إخراج عن الملك إلى غير ملك - وهو لازم وكذلك قياسهم على العارية ينتقض بالعتق وبناء المسجد ووقفه. فصل فالصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم من إجازة الحبس، وقد حبس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي، وطلحة والزبير، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص - دورا، وحوائط، «واستشار عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدقته، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالا لم أصب أعجب إلي منه، وأريد أن أتصدق به؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس الأصل وسبل الثمرة، فكتب: هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث - على الفقراء، وذوي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف». وروي عن مالك أنه قال: جعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صدقة للسائل والمحروم، وكتب عبد الله بن عمر بعده في صدقته للسائل والفقير، فبينها عبد الله بن عمر. فصل فالأحباس سنة قائمة عمل بها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمون من بعده، وقد

قيل لمالك: إن شريحا كان لا يرى الحبس ويقول لا حبس عن فرائض الله، فقال مالك: تكلم شريح ببلاده - ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأصحابه، والتابعين بعدهم - هلم جرا إلى اليوم؛ وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن؛ وهذه صدقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سبعة حوائط؛ وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا؛ وبهذا احتج أيضا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد فقال: هذه أحباس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدقاته ينقلها الخلف عن السلف - قرنا بعد قرن، فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول إنها غير جائزة، وأنا أقول إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز، وروي أن رجلا من أهل العراق سأل مالك عن صدقة الحبس فقال: إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحا قال لا حبس عن كتاب الله، قال: فضحك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان قليل الضحك - وقال: يرحم الله شريحا لو درى ما صنع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ههنا - ما قاله. وقد امتنع أصحاب أبي حنيفة المتأخرون من إطلاق القول بإبطال الحبس، وقالوا هو جائز ولكن لا يلزم إلا بأحد أمرين: إما أن يحكم به حاكم، أو يوصي به في مرضه أن يوقف بعد موته، فيصح ويكون من ثلث ماله - كالوصية، إلا أن يكون مسجدا، أو سقاية؛ فإن وقف ذلك، يصح ولا يحتاج إلى حكم حاكم؛ وهذا بعيد، لأن ما لا يجوز للرجل أن يفعله في حياته، فلا يجوز أن يوصي به بعد وفاته، وما لا يحل، لا يحله حكم الحاكم. قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وحكى محمد بن عبد الحكم عن أبي حنيفة فيما زاده في مختصر أبيه، أنه قال: كل

فصل

حبس اشترط فيه المنافع للولد وغيرهم من القرابات المياسر، فهو باطل؛ وكل حبس خرج في سبيل الله والصدقات، فهو جائز. فصل فإذا ثبت بما قلناه جواز الحبس ولزومه، فمن شرط تمامه القبض والحيازة - كالهبة والصدقة، فإن لم يقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات فهو باطل يكون موروثا عنه، والعقد يصح ويلزم، وإن لم يقارنه القبض وليس للمحبس الرجوع فيه، ويلزمه إقباضه للمحبس عليه، فإن امتنع من ذلك، جبر عليه، ولا يبطل العقد بتأخير القبض ما لم يمت المحبس عليه في القبض حتى يفوته المحبس، وهذه جملة لها تفصيل وفي بعض وجوهها اختلاف سيأتي ذكر ذلك كله في موضعه - إن شاء الله تعالى -. فصل وللتحبيس ثلاثة ألفاظ: حبس، ووقف، وصدقة. فأما الحبس والوقف فمعناهما واحد لا يفترقان في وجه من الوجوه، فإذا حبس الرجل داره، أو عقاره، فلا يخلو تحبيسه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون على معينين. والثاني: أن يكون على مجهولين غير محصورين ولا معينين. والثالث: أن يكون على محصورين غير معينين، وقد ذكر عبد الوهاب في شرح الرسالة أن الوقف لا يكون أبدا إلا محرما - وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق بين قول الرجل قد أوقفت هذه الدار على فلان، أو قد حبستها عليه. فأما الوجه الأول - وهو أن يحبس على معين فيقول هذه الدار حبس على

فلان، فاختلف قول مالك: هل تكون صدقة محرمة لا ترجع إلى المحبس وتكون بعد موت المحبس عليه لأقرب الناس بالمحبس حبسا عليه، أو لا تكون صدقة محرمة وترجع بعد موت المحبس عليه إلى المحبس - ملكا مطلقا يبيعه ويصنع به ما شاء على قولين منصوصين عليه في المدونة، وسواء قال حياته أو لم يقل حياته. هذا ظاهر المدونة، وهو قول سحنون؛ وقد قيل إنه إن قال حياته، رجع بعد موته إلى المحبس ملكا، وإن لم يقل حياته رجع بمرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس. قاله ابن المواز، وهو غير بين في المعنى، إلا أن يقول حبسا صدقة أو حبسا لا يباع ولا يوهب، فحكى ابن القاسم في المدونة أن قول مالك لم يختلف في هذا: أنها تكون صدقة محرمة ترجع بمرجع الأحباس إلى أقرب الناس بالمحبس؛ ولا ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، وليس ذلك بصحيح، وقد روى ابن عبد الحكم عن مالك في كتابه: أنها ترجع إليه ملكا بعد موت المحبس عليه. وإن قال حبسا صدقة إذا كان على معين - وهو قول ابن وهب في العتبية أنه يرجع إليه ملكا مطلقا - إذا حبس على معين - وإن قال في حبسه لا يباع ولا يوهب، لاحتمال قوله لا يباع ولا يوهب حياة المحبس عليه. وأما الوجه الثاني: وهو أن يحبس داره أو عقاره على مجهولين غير معينين ولا محصورين مثل أن يقول على المساكين، أو في السبيل، أو على بني زهرة، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة موقوفة على الوجه الذي سبلها فيه لا ترجع إلى المحبس أبدا. وأما الوجه الثالث وهو أن يحبس على محصورين غير معينين مثل أن يقول هذه الدار حبس على ولد فلان، أو على عقبه، أو على بنيه، أو على نسله، أو على ذريته، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة لا ترجع إلى المحبس وتكون بعد انقراض المحبس عليهم - حبسا على أقرب الناس

فصل في المسألة الأولى

بالمحبس، «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طلحة: " وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، إلا أن يقول حياتهم؛ فذهب ابن الماجشون إلى أنها ترجع إليه ملكا - بعد انقراض العقب، بيد أن هذه الألفاظ تفترق عند بعض العلماء بافتراق معانيها على ما سنذكره - إن شاء الله - وهي خمسة ألفاظ: الولد، والعقب، والبنون، والذرية، والنسل؛ وفي كل لفظ منها خمس مسائل: إحداها في لفظ الولد: قوله حبست على ولدي أو على أولادي - ولم يزد على ذلك. والثانية قوله: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادهم. والثالثة قوله حبست على ولدي وأولادهم، أو على أولادي وأولادهم. والرابعة قوله حبست على ولدي ذكورهم وإناثهم من غير أن يسميهم بأسمائهم وعلى أولادهم. والخامسة قوله حبست على أولادي فلان وفلان وفلانة يسميهم بأسمائهم ذكورهم وإناثهم وعلى أولادهم. فصل في المسألة الأولى فأما إذا قال المحبس حبست على ولدي، أو على أولادي - ولم يزد على ذلك، فيكون الحبس على أولاده - دنية - الذكران والإناث، وعلى أولاد بنيه الذكران دون الإناث، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات - وعلى مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه المتقدمين؛ لأن الولد في الشرع لا يقع حقيقة إلا على من يرجع

نسبه إليه من ولد الأبناء دون ولد البنات؛ ومن حجتهم على ذلك: الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم، مع قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب، وأنهم يدخلون في الأحباس بقول المحبس حبست على ولدي أو على عقبي؛ وقال بذلك من الشيوخ المتأخرين من خالف مذهب مالك، منهم: أبو عمر بن عبد البر، وغيره، واحتجوا بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، قالوا فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع، علم أنها بنت، ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه؛ واحتجوا أيضا «بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا سيد» فسماه ابنا؛ وهو احتجاج غير صحيح، لأن ولد البنت - وإن وقع عليه اسم ولد في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، كما وقع على ولد الابن لوجود معنى الولادة، فليس بولد في الشرع، كما ليس ولد الزنى بولد في الشرع - وإن وقع عليه اسم ولد في اللغة - لوجود معنى الولادة فيه، لأنه قد تعرف باسم الولد في الشرع من يستحق الميراث والنسب منهم دون من لا يستحقه؛ كما يعرف الوضوء والصلاة والصيام والحج في الشرع بنوع مما يقع عليه في اللغة، ألا ترى أن الوضوء في اللغة اسم لكل غسل، وقد تعرف في الشرع ببعض ذلك النوع - وهو الغسل الذي أوجبه الله عند القيام للصلاة - بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]

فصل

الآية، وأن الصلاة في اللغة هي اسم لكل دعاء، قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]- أي ادع لهم، وقد تعرفت في الشرع بنوع من الدعاء مخصوص، وأن الصيام في اللغة اسم لكل إمساك، وقد تعرف في الشرع بنوع من الإمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس - مع مقارنة النية، وأن الحج هو في اللغة اسم لكل قصد، وقد تعرف في الشرع بنوع من القصد مخصوص دون غيره؛ فمن غسل جميع أعضائه أو بعضها على غير الوجه الذي شرعه الله للصلاة، فلا يسمى فعله ذلك وضوءا في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم وضوء - وإن كان في اللغة وضوءا؛ وكذلك من دعا في شيء من الأشياء لا يسمى دعاؤه صلاة في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صلاة - وإن كان في اللغة صلاة، وكذلك من أمسك عن شيء من الأشياء، أو عن الطعام والشراب على غير الوجه الذي شرعه الله، لا يسمى إمساكه عن ذلك صياما في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صيام - وإن كان ذلك في اللغة صياما، وكذلك من قصد موضعا من المواضع، أو قصد مكة على غير الوجه الذي شرعه الله، لا يسمى قصده ذلك حجا في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم حج - وإن كان ذلك في اللغة حجا. فصل فلا يفهم من إطلاق الوضوء والصلاة والصيام والحج إلا الوضوء الشرعي والصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي؛ ولا يحمل على ما سوى ذلك مما يقع عليه في اللغة إلا بنص وبيان، ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بالوضوء مما مست النار، فحملوه على الوضوء الشرعي دون غسل اليد؛ وروى الراوي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا رعف، انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم

فصل

يتكلم؛ فحمل ذلك من قوله على الوضوء الشرعي دون غسل الدم، وكذلك سائر الشرائع المذكورة؛ فإذا كان من أخبر عن نفسه أنه توضأ أو صلى أو صام أو حج لا يفهم منه أنه أراد إلا الوضوء الشرعي، والصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي، دون غيره مما ينطلق عليه الاسم في اللغة، ولا يحمل إلا على ذلك، فكذلك من قال: حبست على ولدي لا يفهم من قوله أنه أراد إلا الولد الشرعي الذي تثبت له أحكام الشرع الشرعية من الموارثة والنسب، دون الولد اللغوي الذي لا يستحق الميراث ولا النسب، كولد الزنى، وولد البنت، ولا يحمل أمره إلى على ذلك. فصل وعرف الاستعمال يكون في الكلام من ثلاث جهات: إحداها: جهة الشرع وقد تقدم ذكر ذلك والأدلة عليه. والثانية: جهة اللغة كتسميتنا دابة للخيل والبغال والحمير من ذوات الأربع - خاصة - وإن كان الاسم في اللغة واقعا على ما يدب من جميع الحيوان؛ قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45]- الآية. والثالثة: من جهة الصناعة كتسميتنا العالم بالحديث والرأي فقيها دون العالم بما سواه من العلوم - وإن كان في اللغة فقيها في ذلك الشيء الذي علمه وفقه فيه، وكتسميتنا العالم بأصول الديانات متكلما - وإن كان كل ناطق معرب عما في نفسه بلسانه يسمى متكلما في اللغة، وكنحو تسمية أهل الديوان الكتاب زماما، وأهل الإبل الخطام زماما، وما أشبه ذلك؛ فيحمل لفظ كل طائفة على عرفها وعادتها.

فصل

فصل فالولد على هذا ينقسم على ثلاثة أقسام: ولد يسمى ولدا من جهة اللغة والشرع - وهو الولد الذي ثبتت له أحكام الشريعة من الموارثة والنسب. وولد يسمى ولدا من جهة اللغة خاصة - وهو الولد الذي يوجد فيه معنى الولادة، ولا تثبت له أحكام الشريعة. وولد يسمى ولد مجازا لا حقيقة، كأولاد الأدعياء، والرجل يقول للصبي الأجنبي يا ولدي - يريد تقريبه بذلك، وما أشبه ذلك. فصل فحمل قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]- على عمومه في كل من يقع عليه اسم أم أو بنت في اللغة بوجود معنى الولادة فيه، فحرمت بنت البنت وإن سفلت، وأم الأم وإن علت؛ وثبت بالسنة والإجماع أن مراد الله عز وجل بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]- من ينتسب إليه من أولاده دون من لا ينتسب إليه منهم، وتخصص بذلك الولد الشرعي من غيره، والفرق أيضا من جهة النظر بين التحريم والميراث في ابنة البنت ظاهر، لأن الأشياء قد قيل إنها في الأصل على الحظر، فلا تستباح بنت البنت إلا بيقين، ولا تورث إلا بيقين - وهذا أيضا بين؛ ومن أهل العلم من قال إن ولد البنت لا يسمى ولدا إلا مجازا، وحمل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا سيد» - على المجاز دون الحقيقة؛ وليس ذلك بصحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة، لوجود معنى الولادة فيه؛ ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنص البنت من قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، إذ لا جائز أن يقول أحد إنها محرمة بغير القرآن، لأن الله - تعالى - قد قال بعد أن نص على المحرمات:

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، واستدل أيضا بعض من ذهب إلى هذا المذهب يقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد وهذا لا دليل فيه، لأن معنى قوله: إنما هو أن ولد بنيه الذكران، هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب؛ وأن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك، إذ لا ينتسبون إليه، وإنما ينتسبون إلى غيره، فأخبر بافتراقهم في الحكم، مع اجتماعهم في التسمية، ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد، لأنه إنما قال وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد، فاستدل من قوله من احتج به على أنه أراد: وليسوا بأبنائنا، وليس في هذا نفي اسم الولد عنهم، وإنما هو من لطيف الاستعارة، كما يقول الرجل في ولده: ليس هو بابني، إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا. فلا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد به أن ينفي عنه حكمه، ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا، فقد أفسد معناه، وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا، من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها، اسم الولد فيه أبين وأقوى، لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بماله فيه مما كان سببا للولادة؛ ولم يخرج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاد البنات من حبس من حبس على ولده، من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان؛ وإنما أخرجهم منه قياسا على الميراث، ليعرف اسم الولد في الشرع فيمن يستحق الميراث والنسب، دون من لا يستحق ذلك - على ما بيناه فيما سلف، وبالله التوفيق.

فصل في المسألة الثانية

فصل في المسألة الثانية وأما إذا قال المحبس: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادي؛ فذهب جماعة من الشيوخ إلى أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وهو ظاهر اللفظ، لأن الولد يقع على الذكر والأنثى؛ فإذا قال على ولدي وولد ولدي، فهو بمنزلة قوله على أولادي - ذكرانهم وإناثهم، وعلى أعقابهم، وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب ابن عبدوس، ومن رواية ابن وهب عنه في بعض روايات المدونة - أنه لا شيء لولد البنات في ذلك؛ ووجه الروايات عنه في ذلك: أن لفظ ولد الولد لا يتناول عنده - بإطلاقه - ولد البنات، ولا يقع - إذا أطلق دون بيان إلا على من يرجع نسبه إلى المحبس من ولد ولده؛ لأن ولد بنته - وإن سميناه ولد ولده - لوقوع اسم الولد على الذكر والأنثى، والواحد والجمع - وقوعا واحدا قي اللسان العربي - كما ذكرت، فلا يرثه في الشرع، ولا ينتسب إليه، وإنما يرث رجلا آخر وإليه ينتسب؛ فهو بذلك الرجل أخص منه به، لأن ولد ابن الرجل هو ولد ولده من جهة ابنه، يختص به ويرثه وينتسب إليه، وولد ولد رجل آخر من جهة زوجة ابنه بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب؛ وولد ابنته هو ولد ولده من جهة ابنته بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب، وولد رجل آخر من جهة زوج ابنته يختص به ويرثه وينتسب إليه؛ فإذا صح ذلك وثبت أن لفظ ولد الولد يقع على من ينتسب إليه ويرثه من ولد ولده، وعلى من لا ينتسب إليه منهم ولا يرثه، وجب أن يخصص فيمن يرثه منهم وينتسب إليه، دون من لا يرثه ولا ينتسب إليه؛ لأنه المعنى الذي يراد له الولد ويرغب فيه من أجله؛ قال الله عز وجل - فيما قص علينا من نبإ زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]

وذلك أن زكريا كان من آل يعقوب وتحرر من هذا قياسا فنقول: إن هذا لفظ عام يقع على من يرث المحبس وينتسب إليه، وعلى من لا يرثه ولا ينتسب إليه - مع الاستواء في الحرية والإسلام؛ فوجب أن يقصر على من يرث منهم دون من لا يرث، أصل ذلك قول المحبس حبست على ولدي - ولم يزد أن ذلك مقصور على من يرثه من ولده الذكور والإناث، وولد ولده الذكور وينتسب إليه منهم دون من لا يرثه منهم ولا ينتسب إليه، كأبناء الزنى وأبناء البنات؛ وإن كان لفظ الولد يعمهم ويجمعهم في اللسان العربي - وهذا بين إن شاء الله. ووجه ثان صحيح المعنى ظاهر في القياس يأتي على الصحيح - عندي من أصل مختلف فيه في المذهب - وهو مراعاة عرف ألفاظ الناس ومقاصدهم في أيمانهم، يمهد لذكره أصلا يثبته عليه ونرده إليه - وهو أنه لا اختلاف في أن الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفوس، فإذا عبر المحبس عما في نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال ولد بناته في حبسه، أو إخراجهم منه؛ وقفنا عنده ولم يصح لنا مخالفة نصه، وإذا عبر عما في نفسه بعبارة محتملة للوجهين جميعا، وجب أن نحملها على ما يغلب على ظننا أن المحبس أراده من محتملات لفظه بما يعلم من قصده، لأن عموم ألفاظ الناس لا تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم واعتقادهم، إذ لا طريق لنا إلى العلم بما أراده المحبس إلا من قبله، فإذا صح هذا الأصل الذي أصلناه وقدرناه، وقد علمنا أنه لا يعلم من الناس أن الولد بإطلاقه يقع على الذكر والأنثى إلا الخاص منهم العالم باللسان، وأكثرهم يعتقد أن الولد لا يقع إلا على الذكر دون الأنثى، وإن سألت منهم من له ابنة ولا ابن له: هل لك ولد؟ يقول لك ليس لي ولد، وإنما لي ابنة، وجب أن يخصص بهذا عموم لفظ المحبس، ويحمل على أنه إنما أراد ولد ولده الذكور دون ولده

فصل

الإناث، إذ الأغلب في الظن أنه لم يرد إناث ولده، إذ لا يعلم أن إناث ولده يسمون ولدا؛ كما يخصص عموم لفظ الحالف بما يعلم من مقاصد الناس في أيمانهم وعرف كلامهم. وتحرير القياس من هذا أن يقال إن هذا لفظ عام يقع في اللسان العربي على الذكر والأنثى من ولد المحبس وولد ولده، فوجب أن يحمل على ما يقع عليه عند الناس في عرف كلامهم ووجه مقصدهم - وهو الذكر دون الأنثى من ولده وولد ولده، أصل ذلك قول من قال فيمن حلف ألا يأكل لحما أو بيضا، فأكل لحم الحيتان أو بيضها - أنه لا يحنث، لأن الحيتان ليست بلحم في عرف كلام الناس ووجه مقاصدهم - وإن كان لحما في اللسان العربي؛ قال الله عز وجل: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، وهو قياس صحيح لا اختلاف في صحته عند جميع العلماء من أهل السنة القائلين بالقياس، لأن القياس - عندهم هو حمل الفرع على الأصل في نفي الحكم وإثباته بالعلة الجامعة بينهما؛ فالفرع في مسألتنا هذه قول المحبس حبست على ولدي وولد ولدي، والحكم المطلوب هو نفي دخول ولد الأنثى من ولد المحبس وولد ولده تحت اللفظ الذي لفظ به المحبس، والأصل قول الحالف: والله لا أكلت لحما أو بيضا - ولا نية له، فأكل لحم الحيتان أو بيضها؛ والعلة الجامعة بينهما: أن الناس لا يوقعون اسم اللحم في عرف كلامهم ووجه مقصدهم إلا على لحم ذوات الأربع دون ما سواه من اللحوم؛ ولا اسم البيض إلا على بيض ذوات الريش، دون ما سواه من البيض؛ كما لا يوقعون الولد في عرف كلامهم ووجه مقصدهم، إلا على الذكر دون الأنثى. فصل ويؤيد هذا الجواب ما حكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك من كتاب ابن المواز فيمن حبس على أولاده وأعقابهم، بهذا اللفظ أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس؛ فلو حمل لفظ أولاده على عمومه في الذكران والإناث، لرد ضمير الجمع

فصل

في أعقابهم إلى جميعهم؛ إذ لا يصح رده إلى الذكران منهم دون الإناث بغير دليل؛ فليس وجه الرواية إلا ما ذكرناه من أنه حمل لفظ أولاده على الذكران دون الإناث بما علم من قصد الناس في أن لفظ الأولاد لا يوقعونه إلا على الذكران دون الإناث، فرد الضمير إليهم لا وجه للرواية عندي غير هذا - والله أعلم. فصل فإن قال قائل قول العالم ليس بحجة ومن أهل العلم من يوجب على الحالف ألا يأكل اللحم أو البيض - الحنث بأكل لحم الحيتان أو بيضها، لوقوع اسم اللحم والبيض على ذلك، فلا يصح أن يجعل قول من قال في مسألة اليمين أنه لا يحنث أصلا، يقيس الفرع عليه إلا بعد ثبوت صحته؛ دليلنا على صحته بالإجماع على أن الألفاظ إنما تحمل على ما يعلم من قصد المتكلم بها، لا على ظواهرها، قال الله - عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، فهذا لفظ ظاهره الإباحة والتخيير، وهو محمول على النهي والوعيد المفهوم من معناه دون الإباحة الظاهرة من مجرد لفظه؛ وقال في قصة شعيب: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، فظاهر مجرد اللفظ المدح والثناء، ومعناه المفهوم منه عند الجميع ما قصدوا به من الذم والإزدراء، لكراهية ما أمرهم به؛ ومن مثل هذا كثير في القرآن والسنن والآثار يفوت إحصاؤه، ولا يمكن حصره واستقصاؤه. فصل فإذا وجب أن يحمل اللفظ بما يعلم من قصد المتكلم به على خلافه في اللفظ والمعنى، فأحرى أن يجب حمل اللفظ العام المحتمل للتخصيص بما يعلم من قصد المتكلم به على بعض محتملاته بغلبة الظن فيما طريقه غلبة الظن دون العلم والقطع.

فصل

فصل فإن قال قائل كيف حكمت بصحة هذا القياس الذي دللت به على صحة قول مالك وهو لا يقول بموجبه، لأنه يدخل بنات المحبس في الحبس بهذا اللفظ، وما قلت من حملك إياه على ما يغلب على الظن من أن المحبس لا يعلم أن البنت تسمى ولدا، يوجب ألا يدخلن فيه. فالجواب عن ذلك أن البنات قد كره إخراجهن من الحبس، لأنه من أفعال الجاهلية؛ قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]، ولما فيه أيضا مما نهي عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية، ومن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهن يدخلن فيه - وإن نص المحبس على إخراجهن منه - ما لم يفت الأمر، فكيف إذا أتى بهذا اللفظ الذي يوجب دخولهن فيه بظاهره في اللسان العربي، وولد البنات، لم يكره إخراجهن من الحبس، فوجب ألا يدخلوا فيه بهذا اللفظ الذي يقتضي دخولهم فيه، لوقوعه على الذكر والأنثى في اللسان العربي - إذا غلب على الظن أن المحبس لم يرد إيقاعه إلا على الذكران خاصة بما يعلم من مقاصد الناس بألفاظهم وعرف كلامهم، فلا يخرج البنات من الحبس إلا بالنص على إخراجهن منه، ولا يدخل ولد البنات فيه إلا بالنص على دخولهم فيه، أو اللفظ العام إذا لم يقترن به ما يدل على تخصيص ولد البنات منه. فصل ولو حبس على ولد رجل أجنبي، لوجب على قياس هذا ألا يدخل فيه بناته، وعلى هذا المعنى والقياس، تأتي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا فيمن أوصى لولد فلان، أن الوصية تكون لذكور ولده ولا يدخل فيها إناثهم،

فصل

بخلاف إذا أوصى لبني فلان، فإنه يدخل في ذلك ذكورهم وإناثهم؛ فإن قيل فهل تقولون إن هذا هو مذهب مالك، قلنا الأمر محتمل، إذ لا ندري لعل رأيه فيمن حبس على ولده وولد ولده - أن أولاد البنات لا يدخلون في الحبس على جوابنا الأول فإن كان على جوابنا الأول، فليس هذا مذهبه، وبناته يدخلن عنده بلفظ الولد - وإن كان رأيه على جوابنا الثاني، فهذا مذهبه بناء على طرد قياسه والله أعلم. فصل فإن قال قائل: فما فائدة قول المحبس وولد ولدي إذا كان لا يدخل في الحبس بقوله وولدي وولد ولدي إلا من يدخل بقوله: ولدي؛ فالجواب عن ذلك أن لقوله وولد ولدي فائدة وهي البيان أنه لم يرد أن يخصص بحبسه ولده دنية دون من تحتهم منه ولد الولد الذكور والخروج من الخلاف؛ إذ من أهل العلم من يرى أن الحبس مقصور على الولد دون ولد الولد حتى يقول: وولد ولدي، وعلى هذا القول تأتي رواية سحنون عن غير ابن القاسم في سماعه من كتاب الحبس، والأجوبة في هذا وإن كثرت وكانت معانيها مختلفة فهي كلها في الإرشاد إلى الطلوب متفقة، لأنها أدلة على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه، والأدلة الصحاح لا تتعارض. فصل فمن أدخل من شيوخنا المتقدمين ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ، أو ولد بنات البنات - إذا كرر اللفظ ثالثة، وعزاه إلى مذهب مالك؛ فقد أخطأ ولم يجر على أصله في حمل الألفاظ على معانيها دون مجرد أسمائها؛ وجهل الرواية عنه

فصل في المسألة الثالثة

في ذلك والله أعلم؛ ويحتمل أن يكون علمها وتأولها على مذهبه بأن حمل قوله لا يدخل في ذلك ولد البنات - على أنه إنما أراد بذلك ولد بنات أبناء المحبس وعلى أصل قوله، ومذهبه في أن ولد البنات ليسوا بولد ولا عقب - يريد في الشرع على ما بيناه، إلا أنه تأويل بعيد، لمخالفته ظاهر قوله ومعناه على ما بيناه؛ ويحتمل أن يكونوا عدلوا عن قوله وخالفوه إلى ما يوجبه القياس عندهم باتباع ظاهر اللفظ - والله أعلم. فصل في المسألة الثالثة وأما إذا قال حبست على ولدي وأولادهم أو أولادي وأولادهم، فحكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس بهذا اللفظ، ووجه ذلك على ما قدمناه من أن الأولاد في عرف كلام الناس لا يقع إلا على الذكران دون الإناث، فرجع ضمير الجمع من قوله وأولادهم عليهم خاصة، فلم يكن في ذلك لولد البنات دخول، وأدخل ولد البنات خاصة دون من تحتهم من ولد بنات البنات بهذا اللفظ من الشيوخ، من أدخلهم بقوله حبست على ولدي وولد ولدي إلا أن يزيد درجة فيقول: وأولاد أولادي، فيدخلون في الدرجة الثانية؛ وكذلك كلما زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى المحبس بقوله وبإدخالهم بهذا اللفظ، قضى القاضي محمد بن السليم بفتوى أكثر أهل زمانه، ودخولهم به أبين من دخولهم باللفظ الأول لأن اللفظ الأول - وهو قوله ولدي وولد ولدي يتخصص في ولد الذكور من ولده دون إناثهم بوجهين: أحدهما: عرف الشرع. والثاني: عرف كلام الناس؛ والتخصيص بعرف الشرع لا اختلاف فيه، واللفظ الثاني - وهو قوله أولاد أولادي وأولادهم، لا يتخصص إلا بعرف كلام الناس خاصة، وهو معنى رواية أصبغ في كتاب الوصايا من العتبية فيمن أوصى لولد

فصل في المسألة الرابعة

عبد الله أن الوصية تكون لذكور ولده دون إناثهم، والتخصيص بعرف كلام الناس أصل مختلف فيه من قول مالك وغيره، فيتخرج دخول ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ على قول مالك الذي لا يرى التخصيص به؛ وأما قول الشيوخ إنه إن كرر اللفظ فقال: وأولاد أولاد أولادي أن ولد بنات بنات المحبس يدخلون في الحبس، وكذلك إن زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى من الدرجات؛ فلا يتخرج على مذهب مالك بحال، وإنما يأتي ذلك على اتباع ظاهر اللفظ في اللغة دون الاتباع بشيء من المعاني. فصل في المسألة الرابعة وأما إذا قال حبست على أولادي ذكورهم وإناثهم - ولم يسمهم بأسمائهم، ثم قال وعلى أعقابهم، فالظاهر من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أولاد البنات يدخلون في ذلك كما لو سمي؛ بخلاف إذا قال أولادي ولم يقل ذكرانهم وإناثهم للعلة التي قدمناها من أن لفظ الأولاد لا يوقعه الناس إلا على الذكران دون الإناث؛ وقد وقع في كتاب محمد بن المواز مسألة استدل بها بعض الناس على أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس على مذهب مالك. وإن قال: حبست على أولادي ذكرانهم وإناثهم وعلى أعقابهم وهي قوله فيمن حبس على ولده الذكر والأنثى، وقال: فمن مات منهم فولده بمنزلته؛ قال مالك: لا أرى لولد البنات شيئا وهو استدلال ضعيف؛ ووجه هذا القول إن سلمنا استدلال قائله على ضعفه: أن يحمل قوله وأعقابهم على أنه إنما أراد به أن يبين أنه لم يرد أن يخصص بحبسه بنيه الذكران والإناث - دنية دون من تحتهم من بني البنين، لإدخال من لم يتناوله لفظ الولد الذكران والإناث؛ وإذا لم يسلم الاستدلال، فالفرق بين المسألتين أن تحمل هذه المسألة على ظاهرها، ويحمل قوله في مسألة كتاب ابن المواز: ومن مات منهم فولده بمنزلته على البيان والتفسير لمن تناوله اللفظ الأول وبالله تعالى التوفيق.

فصل في المسألة الخامسة

فصل في المسألة الخامسة وأما إذا قال حبست على أولادي - ويسميهم بأسمائهم - ذكورهم وإناثهم، ثم يقول: وعلى أولادهم؛ فإن ولد البنات يدخلون في ذلك على مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين: ابن أبي زمنين، وأبي عمر الإشبيلي، ومن تلاهم من شيوخنا الذين أدركناهم؛ إلا ما روي في ذلك عن ابن زرب وهو خطأ صراح لا وجه له، فلا يعد خلافا؛ لأنه لم يقله برأيه، وإنما بناه بالقياس الفاسد على ما ذهب إليه من تقليد غيره، وذلك أنه كان يفتي بما عليه الجماعة من دخول ولد البنات إلى أن نزلت، فقال رأيت لموسى بن طارق قاضي زبيد - أنه سأل مالكا عمن حبس على ولده وولد ولده، فقال ولد البنات في هذه المسألة ليسوا بعقب؛ فقال له موسى هل تعلم في ذلك اختلافا بين فقهاء المدينة؛ فقال: لا أعلم في ذلك اختلافا بينهم، فرجع عن مذهبه وأشهد على رجوعه؛ فكان من قوله في الذي يقول داري حبس على ولدي فلان وفلان وفلان، وفلانة، وعلى أعقابهم وأعقاب أعقابهم؛ أنه ليس لولد فلانة شيء كقول الرجل على أولادي وأعقابهم - وفيهم أنثى، قال وكذلك إذا قال حبس على ولدي فلان وفلان وفلانة، وعلى أعقابهم؛ لاحتمال رجوع ضمير الجمع إلى الاثنين، ليس يرجع إلى الذكر خاصة ولا يدخل في ذلك ولد البنات إلا بحق لا شك فيه، وذلك تحكم لا دليل عليه؛ والذي ذهبت إليه الجماعة من أن الضمير عائد على جميعهم الذكران والإناث هو الصواب الذي لا يصح القول بخلافه، لأن الظاهر من لفظ المحبس رجوع الضمير على جميع المذكورين، فلا

فصل

يخصص الإناث من ذلك ويخرجن من الحبس - والمحبس قد أدخلهن فيه بما ظهر من لفظه إلا بدليل يدل على ذلك؛ ورجوع ابن زرب على القول بهذا إلى ما حكيت عنه من أجل الرواية التي حكاها غلط بين، لأن الرواية إنما هي فيمن حبس على ولده وولد ولده - وهي مسألة أخرى غير المسألة التي رجع عن جوابه فيها لأن الرواية وجهها ما بيناه من أجل الناس يعتقدون أن الولد لا يقع إلا على الذكران دون الإناث بل لا يعرف أن اللفظ يتناول الذكران والإناث إلا الخاص من العلماء، ولا يمكن أن يقال إن أحدا من الناس يجهل أن لفظ ضمير الجمع يرجع إلى جميع المذكورين، بل يعتقد كثير من الناس أنه لا يصح أن يرجع إلى بعضهم، وقد ذهب إليه كثير من العلماء فقالوا في عموم آي القرآن المخصصة بغيرها - إنها منسوخة بها، ولم يقولوا إنها مبينة لها؛ ومعنى آخر وهو أنه يحتمل أن يكون رأي مالك أن لفظ ولد الولد بإطلاقه لا يقع من ولده إلا على من يرجع نسبه إليه منهم، لأنهم المختصون به، ومن لا يرجع نسبه منهم إليه فليس بمختص به وإنما يختص بمن يرجع نسبه إليه، ولا يمكن أن يقول أحد أن لفظ ضمير الجمع - بإطلاقه راجع إلى بعض المذكورين، وإنما يرد إلى بعضهم إذا قام الدليل على أنه لا يجوز رده إلى جميعهم، مثل قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130]، لأنا علمنا أن مراده بقوله رسل منكم الإنس دون الجن، إذ لم يبعث - تعالى - من الجن رسولا وهذا بين. فصل ولو كرر التعقيب، لدخل ولد البنات إلى الدرجة التي انتهى إليها المحبس على ما ذهب إليه الشيوخ، خلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكرناه.

فصل

فصل وحكم هذه المسائل الخمس في لفظ العقب على ما ذكرناه في لفظ الولد سواء، إذ لا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى، وإنما اختلف الشيوخ في الذرية والنسل: فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك، وقيل إنهم يدخلون فيهما؛ وفرق ابن العطار - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الذرية والنسل: فقال إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات - إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي على ما ذهب إليه في لفظ التعقيب؛ وقد بينا أن ذلك لا يصح على مذهب مالك، وأن الذرية يدخل فيها ولد البنات؛ واحتج لذلك بقول الله عز وجل - وقوله الحق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]- إلى قَوْله تَعَالَى: وَعِيسَى، فجعله من ذرية إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو من أولاد البنات، إذ لا أب له، وهو احتجاج صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذلك يقول أيضا إنه من نسله، وأنه من عقبه، كما أنه من ولده؛ خلاف ما ذهب إليه ابن العطار في ذلك، وقد بينا وجه إخراج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولد البنات من الحبس المعقب مع كونهم من الأبناء والأعقاب، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ولد بنت الرجل ليس من ذريته، وضعف الاحتجاج بهذه الآية على أن ولد الابنة من الذرية - بأن قال إن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لم يكن له أب، قامت له الأم مقام الأب والأم، فكان من ذرية جده للأم إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بخلاف غيره ممن له أب وهذا غير صحيح، لأن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان من ذرية جده للأم من جهة أمه خاصة إذ لم يكن له أب، فغيره من الناس هو من ذرية جده للأم من جهة أمه، ومن ذرية أبيه وجده لأبيه من جهة أبيه؛ إذ له أب، لأن كون عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مخلوقا في بطن أمه من غير مباشرة ذكر، لا يزيدها مزية في الاختصاص به على من خلق الله ولدها في بطنها بمباشرة ذكر - على ما أجرى به العادة، ولا ينتفي أن يكون من ذرية جده لأم من جهة حمل أمه إياه ووضعه بكونه من ذرية أبيه وجده لأبيه إذا كان له أب.

فصل

فصل وأما لفظ البنين في قوله: حبست على بني أو على بني وبني بني، أو على بني وبنيهم؛ فالحكم في ذلك كالحكم في لفظ الولد والعقب على القول بأن لفظ جمع المذكر يدخل فيه المؤنث، وعلى القول بأنهن لا يدخلن فيه ينفرد الذكران من بنيه وبني بنيه بالحبس دون الإناث. وأما إذا قال حبست على بني ذكورهم وإناثهم - سماهم أو لم يسمهم، وعلى أعقابهم؛ فالحكم في ذلك على ما ذكرته في الولد والعقب، وبالله التوفيق. فصل وأما الصدقة فلا تخلو أيضا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتصدق بداره أو عقاره على معينين. والثاني: أن يتصدق بها على مجهولين غير معينين ولا محصورين. والثالث: أن يتصدق بها على محصورين غير معينين. فأما الوجه الأول وهو أن يتصدق بذلك على معينين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على فلان، فهذا لا اختلاف فيه أنها لفلان ملكا يبيعها ويهبها وتورث عنه. وأما الوجه الثاني وهو أن يتصدق على غير معينين ولا محصورين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على المساكين أو في السبيل أو على بني زهرة أو على بني تميم، فإنها تباع ويتصدق بها على المساكين على قدر الاجتهاد، إلا أن يقول - صدقة على المساكين يسكنونها أو يستغلونها، فتكون حبسا على المساكين للسكنى والاستغلال، ولا تباع.

وأما الوجه الثالث وهو أن يتصدق بذلك على غير المعينين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول داري صدقة على فلان وعقبه، واختلف هل ترجع بعد انقراض العقب بمرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس، أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا على قولين: روى أشهب عن مالك أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس أنها ترجع بمرجع الأحباس - وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة، وقد قيل في المسألة قول ثالث إن ذلك إعمار وترجع بعد انقراض العقب إلى المتصدق ملكا؛ وأما إن جمع الأمرين فقال: حبسا صدقة، فلا اختلاف أنها تكون صدقة محرمة، ولا ترجع لآخر العقب ملكا مطلقا، وقد أخبرتك باختلاف قول مالك إذا جمع اللفظين جميعا في معنيين، وبالله التوفيق.

كتاب الهبات

كتاب الهبات فصل في تقسيم الهبات روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: المواهب ثلاثة؛ موهبة يراد بها وجه الله. وموهبة يراد بها وجوه الناس. وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها. فصل وهذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن للواهب بهبته ما نوى بها وقصد فيها، وأنه لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله ويبتغي عليها الثواب منه. والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها، ويثنوا عليه من أجلها. والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله

ورسوله» - الحديث. فأما إذا أراد بهبته وجه الله وابتغى عليها الثواب من عنده، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله في الجنة ألفي ألف حديقة. وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها، فلا منفعة له في هبته: لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الأخرى؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]. وأما من أراد بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد من هبته، وله أن يرجع فيها ما لم يثب منها بقيمتها على مذهب ابن القاسم، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها - على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ومن وهب هبة يرى أنه أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها؛ وهو قول مطرف في الواضحة أن الهبة ما كانت قائمة العين وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب له فيها أكثر من قيمتها.

فصل

فصل وأصل جواز الهبة للثواب قول الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، ويقرأ: (وَمَا أوتيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ). والقراءتان متقاربتان في المعنى، وهو أن يعطي الرجل الرجل الشيء ليعطيه أكثر منه، فلما أخبر الله عز وجل أن من أعطى عطية يبتغي بها النماء والزيادة - في ماله من مال المعطى، أن ذلك لا يربو عنده ولا يزكو لربه، دل ذلك على أنه ليس له بعطية إلا ما قصد بها من الزيادة في ماله والثواب من المعطى لا من الله عز وجل، وأن ذلك جائز فليس لمن أعطى عطاء للثواب في عطيته أجر، ولا عليه فيها وزر؛ لأنها بيع من البيوع، فهي من قبيل الجائز المباح، لا من قبيل المندوب إليه والمرغوب فيه. فصل وهذا مما أباحه الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وحرمه على نبيه سيد المرسلين - إكراما له، وتنزيها وترفيعا به وتنويها، فقال تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، أي لا تعط لتعطى أكثر منه، لأن ذلك تعريض بالمسألة والمسألة مكروهة مذمومة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد

فصل

منه بدا»، وقال: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم»، ولأن الزائد أيضا على قيمة هبته من ناحية الصدقة التي لا تحل له. وقد قيل في معنى قوله عز وجل: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، أن معنى ذلك: ولا تمنن بعطيتك وعملك ولا تستكثره، هذا قول الحسن فعلى هذا يكون الخطاب للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والمراد به أمته؛ وقال مجاهد بل معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، فوجه معنى لا تمنن: أي لا تضعف، من قول العرب حبل منين - إذا كان ضعيفا. وقال زيد: إن لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس تأخذ عليه منهم أجرا وعرضا من الدنيا، وما قدمناه أكثر وأولى. فصل والهبة للثواب لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه. والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه ولا يسميه. والثالث: أن يهب على ثواب يسميه ولا يشترطه. فأما الوجه الأول - وهو أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه - فهو على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض يكون الموهوب له مخيرا ما كانت الهبة قائمة لم تفت بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة، أو يردها عليه؛ ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت؛ وعلى قول مطرف وروايته عن مالك وظاهر قول عمر بن الخطاب: لا يلزم الواهب الرضى بقيمة الهبة إلا بعد فواتها بذهاب عينها، كقول ابن الماجشون في الذي يتزوج المرأة - على حكمها - أنه لا يلزمها الرضى بصداق المثل إلا بعد الدخول، خلاف مذهب ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ في قولهم إنه يلزمها الرضى بصداق المثل إذا فرضه لها كالتفويض سواء.

فصل

فصل وقد اختلف في الفوت الذي يلزم به الموهوب له القيمة على أربعة أقوال: أحدها: أن القبض فوت يوجب القيمة على الموهوب له وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه أن القبض فوت يوجب القيمة فيها وليس له أن يردها إلا عن تراض منهما جميعا. والثاني: قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز أن حوالة الأسواق فوت. والثالث: أنه لا يكون فيها فوت إلا بالزيادة أو النقصان وهو قول ابن القاسم في المدونة وإحدى روايتي عيسى عنه في العتبية. والرابع: أنه لا يكون فيها فوت، إلا بالنقصان، وأما الزيادة فليست بفوت وهو قول ابن القاسم في إحدى روايتي عيسى عنه في العتبية. فصل واختلف أيضا فيما يلزم الواهب به أخذ القيمة من الموهوب له إذا بذلها ولا يكون له أن يسترد هبته إذا لم يرض منها على أربعة أقوال: أحدها: أن الهبة توجب على الواهب قبض القيمة فيها من الموهوب له إذا بذلها له وإن لم يقبض الهبة، وهذا على قياس القول بأن الواهب يلزمه دفع الهبة ولا يكون من حقه أن يمسكها حتى يقبض الثواب فيها، خلاف ما في المدونة: أن من حقه أن يمسك هبته حتى يقبض الثواب. والثاني: أنه القبض وهو المشهور من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها. والثالث: أنه التغير بزيادة أو نقصان. وهو قوله في كتاب الشفعة من المدونة.

فصل

والرابع: أنه فوات العين جملة بموت أو استهلاك أو تفويت بعتق أو غيره! وأما إن تلف بعضها أو جلها فله أن يأخذ الباقي منها إلا أن يرضى من هبته. ولا اختلاف إذا تلفت عينها عند الموهوب له أو أفاتها باستهلاك أو عتق - أن القيمة لازمة له: قيل يوم الهبة، وقيل يوم القبض. فصل واختلف هل يلزم الواهب للثواب دفع الهبة قبل أن يقبض الثواب أم لا يلزمه أن يسلمها حتى يقبض ثوابه على قولين: أحدهما: أن ذلك كالبيع وللواهب أن يمسك هبته حتى يقبض ثوابه - وهو نص ما في كتاب الهبة من المدونة. والثاني: أن ذلك ليس له، لأنه مكارمة مخالفة للبيع في ذلك. فصل فإذا قلنا إن الواهب يلزمه تسليم الهبة قبل أن يقبض الثواب فضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال ولا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن وتلزمه القيمة إن فاتت يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق؛ وأما إذا قلنا إنه لا يلزمه تسليم الهبة، وأن له أن يمسكها بالثواب؛ فالاختلاف في مصيبتها ممن تكون قبل القبض. كالاختلاف في المحبوسة بالثمن؛ فقيل إنها من البائع على كل حال وأن عليه فيها حق توفية. وقيل إن ضمانها من المشتري إن عرف هلاكها بالبينة، وإن لم يعرف ذلك وادعاه البائع لم يصدق في ذلك كالرهن - وهو مذهب ابن القاسم، وقيل إن ضمانها على كل حال من المشتري بالعقد؛ وإن لم يعرف هلاكها فالبائع مصدق في دعواه إياه - وهو أحد قولي مالك في كتاب العيوب

فصل

من المدونة؛ وعلى هذا يأتي غير قول ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب في دعوى البائع هلاك ما اشترط الانتفاع به في البيع - إنه مصدق وقد تأول فيه غير هذا التأويل أن البائع إنما صدق في دعواه التلف على مذهب من يرى أن المستثنى ليس بمبقى على ملك البائع، وأنه بمنزلة المشترى؛ فكأنهما انفصلا وبان المشتري بالسلعة ثم اكتراها منه البائع بعد ذلك، فوجب أن يصدق في دعواه تلف ما اكتراه، وليس هذا بصحيح؛ لأنهما لو كانا قد انفصلا لجاز أن يشترط منفعة شهر وأكثر، وهو لم يجز ذلك إلا فيما قل كاليوم واليومين. فصل ويختلف أيضا على هذا المعنى متى تكون القيمة فيها إذا فاتت فقيل يوم الهبة وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وقول ابن القاسم في سماع عيسى وأصبغ من الكتاب المذكور، ومثله في آثار كتاب الحبس من المدونة؛ وقيل يوم القبض وهو قول مالك في موطئه، ومثله في كتاب الشفعة من المدونة؛ والاختلاف في هذا جار على اختلافهم؛ في الضمان، وقد تقدم ذكر ذلك، واختار محمد بن المواز أن تكون القيمة يوم القبض، إلا أنه اعتل في ذلك بعلة غير صحيحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فقال: إنه بالخيار في ردها قبل أن يقبضها، لأنه بالخيار أيضا على مذهب ابن القاسم في ردها بعد قبضها، ما لم تفت فيلزم على تعليله أن تكون القيمة عليه فيها يوم الفوت، وهذا ما لم يقولوه ولا يوجد لهم، ولو قيل، لكان له وجه، وهو القياس على الذي يشتري السلعة على أنه فيها بالخيار، وإنما يستقيم قول ابن المواز على قياس رواية ابن الماجشون عن مالك في أن القيمة تلزم الموهوب له بقبض

فصل

الهبة، ويلزم الواهب أخذها، ولا ترجع إلى الواهب إلا برضاهما جميعا، ووجه هذه الرواية أن الواهب لما دفع الهبة وقد كان من حقه ألا يدفعها حتى يثاب منها؛ فقد رضي بأخذ القيمة فيها؛ وأن الموهوب لما قبضها وقد كان له، ألا يقبل ولا يقبض فقد رضي بدفع القيمة فيها؛ ولو قيل إن الموهوب له تلزمه القيمة بالقبول، لكان قولا له وجه، وهو القياس على البيع؛ لأن الهبة على الثواب بيع من البيوع؛ والصحيح على مذهب ابن القاسم ما روي عن عيسى، وأصبغ - أن القيمة تكون عليه يوم الهبة؛ لأن مذهبه أن السلعة المبيعة تدخل بالعقد في ضمان المشتري، وتكون مصيبتها منه إذا عرف هلاكها بالبينة. فصل وللموهوب له أن يثيب على الهبة للثواب بما شاء من العروض ما لم تكن من العروض التي لا يتعاطاها الناس فيما بينهم في الثواب، كالحطب والتبن، وما أشبه ذلك؛ وسواء على مذهب ابن القاسم كان ذلك قبل الفوات أو بعده - إذ لم يفرق بين ذلك في المدونة، ولو كان ذلك عنده يفترق لبينه - والله أعلم، وقال سحنون: له أن يثيبه بما شاء من العروض - إذا كان فيه وفاء بالقيمة؛ وقال أشهب: ليس له أن يعطي في الثواب إلا الدنانير والدراهم، إلا أن يتراضيا على غير ذلك؛ فإن تراضيا عليه، فينبغي ألا يجوز على مذهبه إلا بعد معرفتهما بالقيمة. فصل فإن تمت الهبة فأراد الموهوب له ردها وأبى الواهب، جرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في النماء: هل هو فوت أم لا؟ فلا يجب ذلك له على القول الذي يرى النماء فيه فوتا وإن كان مذهبه أن له أن يثيب العروض بعد الفوات، فالفرق بين السؤالين أن الواهب إنما دفع ليعطي غيره متى رضي به أو فات لا ليعطى هو، ويجب ذلك له على القول الذي لا يرى النماء فوتا، وهو قول أشهب وإحدى روايتي عيسى عن ابن القاسم.

فصل

فصل وقد اختلف قول محمد بن المواز في أخذها بعد الفوت هل يحتاج إلى معرفة القيمة في ذلك أم لا، والصواب ألا بد من معرفة القيمة في أخذها بعد الفوت على مذهب ابن القاسم، إذ ليس له أن يردها بعينها على مذهبه إلا بتراضيهما على ذلك؛ وأما في أخذ غيرها بعد الفوت، فلا يحتاج فيه إلى معرفة القيمة - إذا قلنا إن له أن يثيب العروض بعد الفوات على ما تأولناه على مذهبه، وإن قلنا إنه ليس له أن يثيب العروض بعد الفوات، إلا بتراضيهما على ذلك، فلا بد من معرفة القيمة، فهذا الذي ينبغي أن يقال في المسألة، ولا معنى لاختلاف قول محمد بن المواز في إيجاب معرفة القيمة في ردها بعينها بعد الفوات والله أعلم، وهذا إذا صدق الموهوب له الواهب في أنه أراد بهبته الثواب، وأما إن أكذبه في ذلك فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يرى أنه إنما أراد بهبته الثواب. والثاني: أن يرى أنه لم يرد بها الثواب. والثالث: ألا يتبين مراده بها أن كانت للثواب أو لغير الثواب. فأما إن رأى في أنه أراد بها الثوب، فحكمها حكم الهبة للثواب، وقد تقدم الكلام عليه. وأما إن رأى أنه لم يرد بها الثواب، فلا ثواب له فيها. وأما إن لم يتبين مراده بها، فالقول قوله أنه أراد بها الثواب قيل بيمين، وقيل بغير يمين - على ما سنبينه - إن شاء الله.

فصل

فصل ومما يتبين به مراده من ذلك مما لا يتبين يحتاج إلى بيان وتقسيم، وتفصيل وذلك أن الهبة لا تخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يقصد بها وجه الله تعالى. والثاني: أن يقصد بها وجوه الناس. والثالث: أن يقصد بها وجه الموهوب له. والرابع: أن يريد بها وجه الله ووجه الموهوب له. فأما إذا قصد بهبته وجه الله تعالى وعلم ذلك بإقراره على نفسمه، أو تبين ذلك من قصده، مثل أن يهب الغني للفقير، أو يهب لصلة رحم محتاجة، وما أشبه ذلك؛ فحكمها حكم الصدقة لا ثواب فيها ولا اعتصار ولا رجوع؛ وكذلك إذا قصد بهبته وجوه الناس إلا أنه لا أجر له في هبته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله». الحديث. وأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى ووجه الموهوب له. وذلك مثل أن يهب هبة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فيقول فيها لله أو لوجه الله، فلا ثواب له فيها ولا اعتصار إلا أن يشترط ذلك؛ وقيل إن له الاعتصار دون شرط إذا كانت الهبة لمن يصح منه الاعتصار. وأما إذا قصد بها وجه الموهوب له - وذلك مثل أن يهب هبة مرسلة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فإنها تنقسم على خمسة أقسام: أحدها: أن يريد بها وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له. والثاني: أن يريد بها وجهه ليستجر مودته ومحبته. والثالث: أن يريد بها وجهه ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة.

فصل

والرابع: أن يريد بها التودد والمكافأة. والخامس: أن لا يتبين أن كان قصد بها مجرد التودد إلى الموهوب له دون المكافآت أو قصد بها الوجهين جميعا. فأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له وعلم ذلك بإقراره به على نفسه، أو تبين ذلك من قصده - مثل أن يهب الوالد لولده، أو يهب الرجل الهبة للعالم، أو للرجل الصالح، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري أنه إنما وهبه لمحبته فيه، أو لمكانه من العلم والخير والصلاح، أو أراد بها وجه الموهوب له ليستجر بذلك مودته ومحبته وعلم ذلك بإقراره به على نفسه أو تبين ذلك من قصده مثل أن يقدم الرجل من سفره فيهدي له جاره الشيء يتحفه به مثل الفاكهة وما أشبه ذلك، أو يقدم الرجل من سفره فيهدي لجيرانه وإخوانه مما جلبه من تحف البلاد التي قدم منها، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري فيه أن أحدا لا يريد بذلك ثوابا، وإنما يفعله للتودد والتحبب - كالسلطان يهب لبعض رعيته؛ فهذان الوجهان لا ثواب فيهما إلا أن يشترط الثواب، فإن لم يشترطه وادعى أنه أراده لم يصدق، وإن ادعى أنه اشترطه على الموهوب له، كان له أن يحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف هو واستحق العوض. فصل وأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة وأقر بذلك على نفسه أيضا أو علم ذلك من قصده مثل أن يهب أحد الزوجين

فصل

لصاحبه، أو الولد لوالده، فيعلم بالعرف الجاري أن القصد بذلك تأكيد التودد لما بينهما مما يقتضي حاجتهما إلى التودد، فهذا الوجه اختلف فيه إن ادعى الواهب أنه أراد بذلك الثواب والمكافأة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يصدق إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وهذا نص قوله في المدونة. والثاني: أنه لا يصدق ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه وهو ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه لقول سحنون، وقال مالك والليث مثله. والثالث: أنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة. فصل فإذا صدق في هذا الوجه على مذهب من يصدقه فيه، فإنما يصدق باليمين، فإن نكل عن اليمين، لم يكن له ثواب ولم يحلف الموهوب له؛ ولو ادعى أنه اشترط الثواب على هذا القول - ونكل عن اليمين، لرجعت اليمين على الموهوب له فإن حلف بريء وإن نكل لزمه الثواب وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه، فإن ادعى الشرط ولم تكن له بينة، حلف الموهوب له وسقط عنه الثواب؛ فإن نكل حلف الواهب واستحق الثواب؛ وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، فيتخرج إيجاب اليمين عليه إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه على قولين. فصل وأما القسم الرابع وهو أن يريد بهبته التودد والمكافأة - ويظهر ذلك من قصده

فصل

وفعله، مثل أن يهب الفقير للغني هبة مبتدأة على غير سبب، فيدل ذلك من فعله على أنه أراد به الثواب من عنده، فهذا له الثواب إن ادعاه دون يمين. فصل وأما القسم الخامس - وهو الأبين إن كان أراد بهبته مجرد التودد دون المكافأة، أو قصد الوجهين جميعا، وذلك مثل هبة النظراء والأكفاء من أهل الوفر والغناء - بعضهم لبعض - كانوا أجنبيين أو أقرباء، فهذا الوجه قال فيه في المدونة: إن القول قول الواهب - ولم يبين إن كان بيمين أو بغير يمين، واختلف الشيوخ في تأويل ذلك، فمنهم من قال معناه بيمين، ومنهم من قال بغير يمين، والذي أقول به إن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقول أردت ذلك ولم أشترطه. والثاني: أن يقول اشترطت ذلك على الموهوب له فيقول الموهوب له لم تشترط علي شيئا. والثالث: أن يقول الواهب اشترطت عليك الثواب ويقول الموهوب له بل بينت وذكرت أنه لا ثواب لك علي. فأما إذا قال أردت ذلك، ولم أشترطه فيجري ذلك على الاختلاف في يمين التهمة: هل تتعلق دون تحقيق الدعوى أم لا. وأما إذا قال: اشترطت ذلك على الموهوب له، وقال الموهوب له لم تشترط علي شيئا فلا يلزمه اليمين على القول الذي يوجب عليه اليمين في التهمة إلا بعد أن يحلف الموهوب له أنه ما اشترط عليه الثواب، فإن نكل عن اليمين لم يلزم الواهب يمين، وكان له الثواب دون أن يحلف، وأما على القول الذي لا يوجب عليه يمينا في التهمة، فلا يحلف بوجه. وأما إن قال: اشترطت عليك الثواب، وقال الموهوب له بل بينت ألا ثواب

فصل

لك علي فيها فالقول قول الواهب مع يمينه أنه اشترط عليه الثواب، فإن نكل كان القول قول الموهوب له أنه بين له أن لا ثواب عليه، فإن نكل عن اليمين كان للواهب الثواب دون يمين - على حكم المدعي، والمدعى عليه، وبالله التوفيق لا شريك له. فصل وأما الوجه الثاني من تقاسيم الهبة للثواب وهو أن يشترط الثواب ولا يسميه، فقيل إنه كالهبة التي يرى أنه أراد بها الثواب، وقيل إن ذلك غرر لا يجوز لأنه قد باع منه السلعة بقيمتها - قاله ابن الماجشون، والأول قول أصبغ - وهو مذهب ابن القاسم. وأما الوجه الثالث - وهو أن يشترط الثواب ويسميه، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما يحرم البيوع، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة الوديعة أمانة، والمودع مؤتمن؛ والأمانة أمانتان: أمانة بين العبد وخالقه، وأمانة بين المخلوقين. فأما الأمانة التي بين العبد وخالقه، فهي الأمانة في الدين عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان - أي آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحملها ولده بعده - وهي الفرائض التي افترضها الله على عباده، عرضها - تعالى - على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت، وإن ضيعت عوقبت؛ فأبت حملها شفقا منها وخوفا ألا تقوم بالواجب لله فيها، وحملها آدم إنه كان ظلوما لنفسه، جهولا بالذي فيه الحظ له، وجهولا بأمر ربه؛ وذلك أنه لما قبلها بما فيها، ما كان إلا ما بين صلاة العصر - إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة؛ وهي السرائر التي قال الله تعالى فيها: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 10] وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل له: أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ فقال: نعم، الوضوء من السرائر؛ وقد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدثه

فصل

فلا، والصلاة من السرائر - إن شاء قال: صليت ولم يصل؛ ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله بها العباد؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]. فصل وأما الأمانة التي بين المخلوقين، فهي الودائع وما أشبهها من الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضا فيها؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»، وأداء الأمانات من علامات الإيمان وعمل المؤمنين. والخيانة من علامة النفاق وعمل الفساق؛ وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،

فصل

وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اكفلوا لي ست خصال أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا أؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم». فصل ولا تحل خيانة من خان، وقد اختلف فيمن استودع رجلا وديعة تجحده إياها ثم إنه استودعه وديعة أو ائتمنه على شيء هل يحل له أن فجحده فيها ويقتطعها لنفسه فيما جحده من وديعته: فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة لا يجحده، قال ابن القاسم حسبت أنه قاله للحديث الذي جاء: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». وروى أشهب عنه أنه قال: لا آمره بذلك، ولا آمره إلا بطاعة الله؛ وإن أردت أن تفعله، فأنت أعلم. وروى ابن وهب عن مالك أنه يأخذ إن لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين أخذ قدر ما يجب له في المحاصة؛ وزاد ابن نافع عنه إن أمن أن يحلف كاذبا. - يريد إن قبل منه أن يحلف ماله عندي حق - على ما في سماع أصبغ من كتاب النذور. وقال ابن شعبان تقبل منه يمينه أنه ماله عندي وديعة ولا غيرها بخلاف الحقوق الثابتة في الذمة من المبايعة والقرض، لأن الوديعة لا تلزم ذمته إلا بالتفريط، فما كان لا يلزم ذمته، فإنما يحلف على أقل ما يبرئه من فروعه؛ وذكر عن إياس بن معاوية أنه استحلف جاحد الوديعة ماله عندي وديعة ولا غيرها، قال ابن شعبان: وينبغي أن يزيد في يمين المستودع - مع هذا الذي حكم به إياس بن معاوية: ماله عندي وديعة، ولا وجب له في ذمته حق - بسبب الوديعة التي يذكرها - مخافة أن يكون فرط فيها فوجبت في ذمته، فإن حلف ماله عندي وديعة، حلف على صدق؛ لأنها

قد ذهبت بتفريط أو بغير تفريط، فما هي عنده، وقال ابن عبد الحكم له أن يأخذ - وإن كان عليه دين، وهو قول الشافعي، وهذا الاختلاف جار على اختلاف قول مالك في المدونة في إجازة رهن المديان وقضائه بعض غرمائه، وقال ابن الماجشون أرى له استعمال الحيلة بكل ما يقدر عليه حتى يأخذ حقه؛ ففي المسألة أربعة أقوال: أحدها: المنع من الأخذ. والثاني: الكراهية لذلك. والثالث: الإباحة له. والرابع: استحباب الأخذ - وهو قول ابن الماجشون كان عليه دين أو لم يكن؛ وقيل إنما هذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة؛ وأظهر الأقاويل إباحة الأخذ، «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح ذلك لهند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما شكت إليه أن زوجها أبا سفيان بن حرب لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛» فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعروف معناه: أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها؛ وكذلك يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تخن من خانك». أي لا تتعدى فتأخذ أكثر من الواجب لك فتكون قد خنته - أخرى، كما خانك هو أولا؛ لأن من أخذ حقه الواجب له، فليس بخائن بل فعل المعروف الذي أباحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند بنت عتبة، فعلى هذا يخرج الحديثان جميعا ولا يحملان على التعارض، وقد كان الفقيه ابن رزق شيخنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحدثنا أن هذا الحديث خرج على سؤال سئل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن وطء امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتمن ذلك الرجل على امرأته فخانه فيها ووطئها، وكان يضعف الاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث، لهذا المعنى الذي كان يذكره؛ وهذا الحديث وإن كان واردا على سبب على ما كان يذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه عام مستقل بنفسه، وقد اختلف قول مالك

فصل

- رَحِمَهُ اللَّهُ - في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أكثر أصحابه العراقيين كإسماعيل القاضي، والقاضي أبي بكر وغيرهما أنه يحمل على عمومه، ولا يقصر على سببه - لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها؛ فالاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث - وإن كان واردا على السبب المذكور - صحيح على الأصح من قولي مالك - والله أعلم. قال ابن شعبان: ومن أصحابنا من يقول إن المستودع إذا جحد ما كان بيده وهو من غير الذهب فوجد له المجحود ما بقي به من الدراهم أو العروض؛ لم يكن له أخذه ولا بيعه بمثل ما كان له، لأنه لم يوكل في ذلك وبه أقول. فصل فالأمانة التي تكون بين المخلوقين أمرهم الله فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه - إن أكذبه المودع، كما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه مما خلق في رحمهما من الحيض والحمل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228]. إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه ولم يأتمنه عليه، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه: ابن القاسم وغيره، حاشا رواية أصبغ عن ابن القاسم في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض، أنه يصدق - قبض ذلك منه، ببينة أو بغير بينة، ولا فرق في هذا بين ما استؤجر أو استودع، وقد تأول

عليه أصبغ، أنه فرق بين القراض والوديعة، وبين ما استأجر من العروض في دعوى الرد إذا قبض ذلك ببينة؛ ووقع في النوادر لابن القاسم ما ظاهره مثل ما تأول عليه أصبغ، والصحيح ألا فرق بين ذلك، لأنه إذا صدق في رد ما استأجر وإن قبضه ببينة، فهو أحرى أن يصدق في الوديعة، لأنه قبضها لمنفعة صاحبها خالصا، والشيء المستأجر قبضه لمنفعتهما جميعا؛ وكذلك القراض قبضه لمنفعتهما جميعا، فلا فرق بينه وبين العرض المستأجر، بل هو أحرى ألا يصدق؛ لأن من أهل العلم من يراه ضامنا له إذا ادعى تلفه إلا أن يقيم البينة على التلف - كالرهن والعارية، وإلى هذا ذهب الشافعي أن المودع مصدق في رد الوديعة دفعت إليه ببينة أو بغير بينة، وقد كان يشبه أن يفرق بين الوديعة والشيء المستأجر، فإن الشيء المستأجر إذا شهد على دفعه إليه احتمل أن يكون القصد بالإشهاد التوثق من الإجارة لا التوثق من عين الشيء المستأجر لولا أن هذا ينكسر علينا بالقراض، إذ لا فرق في دعوى الرد بين القراض والشيء المستأجر فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال: أحدها: وهو المشهور أنه لا يصدق في دعوى الرد إذا دفع إليه ببينة لا في الوديعة ولا في القراض ولا في الشيء المستأجر. والثاني: أنه يصدق في جميع ذلك وإن دفع إليه ببينة وهو الذي يأتي على رواية أصبغ في دعوى رد الشيء المستأجر، لأنه إذا صدق على الرد مع البينة على الدفع في الشيء المستأجر الذي قبضه لمنفعتهما جميعا. فأحرى أن يصدق في الوديعة التي قبضها لمنفعة صاحبها - خاصة، وهو مثل القراض الذي قبضه لمنفعتهما جميعا. والثالث: تفرقة أصبغ بين الشيء المستأجر وبين القراض والوديعة فيصدق

فصل

في الشيء المستأجر ولا يصدق في الوديعة، ولا في القراض على ما تؤول على ابن القاسم. والرابع: الفرق بين الوديعة وبين القراض والشيء المستأجر فلا يصدق في الوديعة إذا دفعت إليه ببينة ويصدق في رد الشيء المستأجر والقراض وإن دفع إليه ببينة؛ لاحتمال أن يكون القصد بالإشهاد إلى التوثق من الإجارة ومن الجزء في القراض، لا إلى التوثق من عين الشيء المستأجر ولا من مال القراض، وبالله التوفيق. فصل وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]، فإن لم يشهد، فلا يصدق في الدفع - إذا أنكر القابض، لا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف، إلا على قول ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق - وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة؛ ويمكن أن يقول ابن القاسم مثله بالمعنى في مسألة اللؤلؤة الواقعة في كتاب الوكالات، - لأنها تقتضي تعمير الذمة، أعني ذمة الآمر بقول المأمور: قد فعلت ما أمرتني به من الدفع وإذا وجب أن يعمرها بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الشراء، وجب

فصل

أن يخلي ذمة نفسه بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الدفع؛ وإذا وجب أن يخلي ذمته بقوله، فإخلاء أمانته بقوله أوجب؛ ومن رواية عيسى عنه في كتاب الخيار في الذي يشتري الثوب من الثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه بخياره، فيضيع أحدهما فيدعي أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه، أنه يصدق في ذلك. فصل فإن أقر بالقبض وادعى التلف، فلا يخلو من أن يكون قبض إلى ذمة أو إلى أمانة، فإن كان قبض إلى أمانة، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم. قال مرة يبرأ الدافع بتصديق القابض - وتكون المصيبة من الآمر، وهو قوله في الكتاب؛ وقال مرة لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع، أو يأتي القابض بالمال، وهو قوله في كتاب ابن المواز؛ وفي مختصر الأسدية لأبي زيد القولان جميعا؛ وأما إن كان قبض إلى ذمة مثل أن يقول: ادفع الوديعة التي لي عندك إلى فلان سلفا أو تسليفا في سلعة، أو إلى صانع يعمل بها عملا، أو ما أشبه ذلك، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الذمة قائمة. والثاني: أن تكون خربة. فأما إن كانت الذمة قائمة، فإن الدافع يبرأ بتصديق القابض بلا خلاف؛ وأما إن كانت الذمة خربة، فاختلف في ذلك: قيل إن الدافع يبرأ بتصديق القابض، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب البضائع والوكالات في مسألة الصناع، وقيل إنه لا يبرأ بتصديقه إياه لخراب ذمته، والقولان مكشوفان في اختصار الأسدية لأبي زيد بن أبي الغمر؛ فقيل إن هذين القولين في هذا الوجه جاريان على الاختلاف المتقدم إذا دفع إلى أمانة، لاستواء الأمانة والذمة الخربة في كون

فصل

المصيبة من الآمر، وقد فرق بعض المتأولين - أراه الفضل بن سلمة - بين المسألتين، فعلى ما ذهب إليه يأتي في حملة المسألة ثلاثة أقوال. أحدها: أن الدافع يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة. والثاني: أنه لا يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة إذا كانت خربة. والثالث: أنه يبرأ بتصديق القابض إذا قبض إلى ذمة وإن كانت خربة ولا يبرأ بتصديقه إذا قبض إلى أمانة. فصل وهذا التقسيم كله في دفع الأمانة، وأما دفع ما ثبت في الذمة فلا يخلو من أن يدفع ذلك إلى ذمة أو إلى أمانة. فأما إن دفع ذلك إلى أمانة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف ولا يبرأ إلا بإقامة البينة على معاينة الدفع، أو يأتي قابض المال بالمال، هذا نص ما في المدونة، ولا أعرف في هذا الوجه خلافا؛ إلا أن يدخل فيه الخلاف بالقياس على الأمانة، وكذلك لا يصدق إذ أنكر، وقد يدخل فيه الاختلاف بالمعنى من مسألة اللؤلؤة المذكورة وإنما اختلف إذا غرم الدافع المال: هل له أن يرجع به على القابض الذي قبضه منه وادعى تلفه: فقال مطرف يرجع به، لأنه فرط في دفع ذلك إلى الذي وكله حتى ضاع ذلك عنده، وقال ابن الماجشون لا يرجع عليه بشيء حتى يتبين منه تفريط وتعريض لتلف ما قبض، وهذا إذا علمت الوكالة ببينة قامت عليها، أو بإقرار الموكل بها؛ وأما إن كان ادعى القابض الوكالة وأنكرها الموكل، فقيل القول قول الموكل ويحلف ما وكله على شيء ويضمن؛ وقيل القول قول

فصل

الوكيل، لأن الدافع قد صدقه فيما ادعى من الوكالة، فإذا قلت إن القول قول الموكل، يضمن الوكيل؛ وهو الذي يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة، وعلى قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون من كتاب العارية، فإن رجع الموكل عليه لم يكن له رجوع على أحد وبريء الغريم، فإن رجع على الغريم كان للغريم الرجوع عليه؛ وإذا قلت إن القول قول الوكيل لأن الغريم قد صدقه إذا دفع إليه وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه من كتاب العارية، ففي رجوع الغريم عليه إذا غرم من الاختلاف ما قد ذكرته عن مطرف، وابن الماجشون. فصل وأما إن دفع إلى ذمة، فلا يخلو أن تكون الذمة قائمة أو خربة، فإن كانت قائمة، فإنه يبرأ بتصديق القابض إياه باتفاق، وإن كانت خربة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف إلا أن يقيم بينة على الدفع، هذا الذي يصح - عندي على مذاهبهم، ولا أعرف فيها نص خلاف، إلا أن يدخل فيها الخلاف بالقياس على الأمانة، فهي أربعة وجوه: دافع من ذمة إلى ذمة، ومن أمانة إلى أمانة، ومن أمانة إلى ذمة، ومن ذمة إلى أمانة؛ وقد تقدم الكلام على جميع ذلك فصلا، فصلا، ووجها، وجها. فصل واختلف إن ادعى الوكيل المفوض إليه أو غير المفوض إليه، أنه دفع إلى موكله ما قبض له من غرمائه فأنكره، فروى ابن القاسم عن مالك في كتاب البضائع والوكالات: أنه يصدق مع يمينه جملة من غير تفصيل، ومثله في الوكالات من المدونة، وروى مطرف عن مالك أنه إن كان الأمر بحضرة قبض المال أو

فصل

بقرب ذلك بالأيام اليسيرة، فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئا مع يمينه؛ وعلى الوكيل إقامة البينة وإن تباعد الأمر مثل الشهر ونحوه، فالقول قول الوكيل مع يمينه يحلف ويبرأ، وإن طال الأمر جدا، لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمين - وكان برئا. وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه - وإن طال الأمر جدا، صدق دون يمين، وقال أصبغ مثله في الوكيل المفوض إليه؛ وأما الوكيل على الشيء بعينه، فهو غارم حتى يقيم البينة على الدفع؛ قال مطرف وابن الماجشون فإن مات الوكيل، والزوج بحدثان ما جرى على أيديهما ذلك، كان ذلك في أموالهما - إذا عرف القبض وجهل الدفع؛ وإن كان موتهما بعد حدثانه وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع، فلا شيء في أموالهما وإن لم يعرف الدفع ولم يذكر. فصل ولا يلزم من استودع قبض الوديعة وجد المودع من يودعه أو لم يجد قال ذلك ابن شعبان؛ فأما إذا وجد من يودع غيره، فبين أنه لا يلزمه قبولها، لأن الله تعالى إنما أمره بالأداء، ولم يأمره بالقبول؛ وأما إذا لم يجد من يستودع سواه، فينبغي أن يلزمه القبول قياسا على من دعي إلى أن يشهد على شهادة، أنه يلزمه ذلك إن لم يكن في البلد من يشهد غيره؛ ومن أهل العلم من يرى أن ذلك لازم له - وجد في البلد من يشهد أو لم يوجد؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وهذا عند مالك إذا دعي لأداء الشهادة؛ وأما إذا دعي ليستحفظه إياها ويشهد عليها فلا؛ وقوله في ذلك بين، لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ولا يسمى الرجل شاهدا حتى يكون عالما بالشهادة، فيجب عليه أداؤها.

فصل

فصل فإذا قبلها، وجب عليه حفظها وصيانتها؛ فإن ضيعها أو تعدى أمر صاحبها فيها، فهو ضامن لها وله أن يستدفع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم على ماله وهو تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو والدة ومن أشبههم، ويحتاط فيها مع هذا؛ ولا إشهاد عليه في دفعها إلى أحد من هؤلاء، لأن العادة والعرف ألا يشهد عليهم فيما يستدفعون إياه، والعرف كالشرط فكان ذلك كالذي يؤمر بدفع الوديعة إلى رجل فيشترط أنه يدفعها إليه بلا إشهاد. فصل وتدفع الوديعة فيما يدفع فيه مثلها وعلى ما جرت به عادة الناس في حرز أموالهم وحياطتها وحفظها، وقد سئل ابن وهب في سماع أصبغ عنه فيمن استودع وديعة في المسجد فجعلها على نعليه فذهبت، فقال: إنه لا ضمان عليه؛ قال ابن الماجشون ومطرف ولو نسيها في الموضع الذي دفعت إليه فيه وقام فتركها لضمن؛ وكذلك لو كانت في داره فأخذها وأدخلها في كمه يظنها دراهمه فسقطت لضمن، لأنها جناية؛ وقال أبو إسحاق التونسي: إن التضمين بالنسيان ينبغي أن يختلف فيه، لأنهم اختلفوا في الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يأتي هو وآخر فيدعيانها جميعا، وينسى هو من دفعها إليه منهما؛ فقيل إنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما - ولا ضمان عليه، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما لنسيانه؛ وفي كتاب ابن شعبان ومن أودع وديعة فجعلها في جيب قميصه فضاعت ضمن، وقيل لا يضمن، والأول أحوط للحديث: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، أي خرجت عن المدينة كما خرج الجيب عن الثوب، وما خرج عن الحرز، فليس بحرز، فأما اختياره فصحيح، لأن الجيب ليس العادة أن تدفع فيه الودائع وجاعلها فيه معرض لتلفها، وأما احتجاجه بالحديث فليس بشيء.

فصل

فصل ولا أجر للمودع على حفظ الوديعة وإن كانت مما يشغل منزله، فطلب أجر الموضع الذي كانت فيه، فذلك له وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فذلك على ربها، وبالله التوفيق.

كتاب العارية

كتاب العارية ما جاء في العارية إعارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فينبغي للناس أن يتوارثوا ذلك فيما بينهم ويتعاملوا به ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج؛ إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها، واختار لئيمها ومذمومها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»، والماعون الذي توعد الله على منعه في قوله - عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، إنما هو الزكاة المفروضة، هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم، وقد روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود - أنهما قالا هو عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم من الفأس، والدلو، والحبل، والقدر، وأشباه ذلك؛ والويل واد في جهنم من عصارة أهل النار في النار على ما روي؛ فأخبر الله تعالى أنه للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون - وهذه صفة المنافقين، لأنه لا يرائي بأعماله، ويريد بها غير وجه الله إلا منافق، فالآية نزلت في المنافقين والوعيد تعلق بهم على

فصل

مذهب مالك، ومن رأى الماعون الزكاة على النفاق ومنع الزكاة، ويتعلق في مذهب من جعل الماعون عارية متاع البيت على النفاق ومنع العارية من المسلمين بغضا لهم - وهو الأظهر، لأن المنافقين كفار، في الدرك الأسفل من النار، ومن كان بهذه الصفة، لا تلتمس منه الزكاة، لأن الله إنما جعلها تطهيرا لمن تؤخذ منه بقوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والمنافقون لو أخذت منهم لم تطهرهم ولم تزكهم؛ ثم قال عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه المؤمنون بزكواتهم يصلي عليهم، فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» - إذ جاء ابنه بصدقة أبيه أبي أوفى، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يصلي على المنافقين - والله أعلم. فصل «واستعار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند غزوه إلى هوازن بحنين من صفوان بن أمية أداة وسلاحا ذكر له أنها كانت عنده، فأرسل إليه فسأله إياها عارية، فقال صفوان: أمن الأمان أتأخذها غصبا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن شئت أن تمسك أداتك فأمسكها، وإن أعرتناها فهي ضامنة علي حتى تؤس إليك. فقال صفوان: ليس بهذا بأس وقد أعرتك - يا محمد، فبعث إليه بمائة درع وأداتها، وكان صفوان كثير السلاح؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكفنا حملها، فحملها له صفوان؛ وروي أنه قال له أعارية مضمونة، أم عارية مؤداة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل عارية مضمونة مؤداة» وفي بعض الآثار أنه قال: «بل عارية مؤداة»، وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المستعير ضمان». وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على

فصل

اليد ما أخذت حتى تؤديه». فاختلف أهل العلم في ضمان العارية لتعارض ظواهر هذه الآثار، فمنهم من قال: إنه ضامن للعارية قامت البينة على التلف أو لم تقم، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه - على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة». وهذا قول أشهب وأحد قولي مالك ومذهب الشافعي. ومنهم من قال إنه لا ضمان عليه بحال على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المستعير ضمان»، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من قال لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان، حكى هذا القول ابن شعبان وعابه؛ ومنهم من قال يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يقم على التلف بينة. ولا يضمن فيما لا يغاب عليه ولا فيما قامت البينة على تلفه من غير ضيعة، وهذا هو المشهور من قول مالك وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك، وأصح الأقوال وأولاها بالصواب لاستعمال جميع الآثار وصحته في النظر والاعتبار. فصل فأما وجه استعمال جميع الآثار، فهو أن يتأول ما روي عنه من وجوب الضمان في العارية فيما يغاب عليه، إذا لم يعلم هلاكه، وما روي عنه من سقوط الضمان فيما لا يغاب عليه وفيما يغاب عليه إذا علم هلاكه، على أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة»، من الألفاظ التي لا تستقل بأنفسها، فلا يصح بها الاحتجاج على وجوب الضمان؛ لأن ما لا يستقل بنفسه، فوجهه أن يقصر على سببه، ولا يحمل على عمومه، لا اختلاف بين أهل العلم بالأصول في ذلك، وإنما اختلفوا في اللفظ العام المستقل بنفسه إذا ورد على سبب، هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر حمله على عمومه؛

فصل

فإنما كان يصح الاحتجاج بظاهر هذا الحديث في وجوب الضمان لو قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجاوبا لصفوان إذ قال له أعارية مضمونة أو مؤداة -: «العارية مضمونة مؤداة»، وأيضا فإن في مقابلة هذا الحديث ما روي عنه أنه قال: «بل عارية مؤداة»، فنفى الضمان وأوجب الأداء؛ إلا أن للقائل أن يقول إن هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة؛ وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»، إنما تفيد مع بقاء العين، فأما مع تلفها فلا يصح ولا يجوز حمله على القيمة، لأنه لم يجر لها ذكر، ولأنه إنما أوجب أداء ما أخذت اليد - واليد لم تأخذ القيمة. فصل فأما ما يدل على صحته من جهة النظر والاعتبار، فإن الأسباب التي تقبض بها الأعيان لاستيفاء المنافع على وجهين: أحدهما: عقد فيه بدل وهو الإجارة. والآخر عقد لا بدل فيه - وهو العارية. والإخدام والبدل مؤثر في الضمان، وسبب لتعلق ضمان البدل؛ فإذا كان المقبوض لاستيفاء المنفعة بإذن مالكه ببدل مضمون، وسبب مؤثر في وجوب الضمان، لا يوجب ضمان العين، فما لم يقبض ببدل أولى ألا يكون مضمونا. فصل ووجه قول من أوجب الضمان وإن قامت البينة على التلف: أن أصله مأخوذ على الضمان، فلا ينتقل على أصله حسما للباب؛ والرواية الأولى أصح على ما قدمناه، لأن قيام البينة ينفي التهمة والتفريط، وذلك معنى يسقط الضمان. فصل فإن اشترط المستعير ألا ضمان عليه فيما يغاب عليه فشرطه باطل وعليه

فصل

الضمان - قاله ابن القاسم في بعض روايات المدونة، وهو أيضا في العتبية لأشهب وابن القاسم من رواية أصبغ عنهما في بعض الروايات من كتاب العارية، وعلى ما حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط ألا ضمان عليه أن شرطه جائز ولا ضمان عليه، ينفعه الشرط في العارية؛ لأنه إذا ألزم في الصناع فأحرى أن يلزم في المستعير لأن المعير إذا أعاره على ألا ضمان عليه فقد فعل المعروف معه من جهتين، فالأظهر إعمال الشرط وما لإسقاطه وجه، إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يلزم على أحد القولين. فصل وأما إن اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه، أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه، فقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرف فإنه قال إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو نهر أو لصوص، أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطب في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله؛ وقال أصبغ لا شيء عليه في الوجهين مثل قول مالك وأصحابه، وينبغي إن شرط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأبطل الشرط بالحكم عن المستعير - أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية، لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية وسنتها إلى باب الإجارة الفاسدة، لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحوزها في ضمانه فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم. فصل وإذا وجب على المستعير ضمان العارية، فإنما يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء

فصل

أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعا لا يقدر على ردها، لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضى صاحبها؛ فإن استعملها في غير ما أذن له فيه، فنقصها الاستعمال الذي استعملها أكثر من الاستعمال الذي أذن له فيه ضمن ما أنقصها الاستعمال بعد القدر الذي نقصها الاستعمال المأذون له فيه، فإن أنهكها ذلك وأعطبها، ضمن قيمتها يوم انقضاء أجل العارية - على ما ينقصها الاستعمال الذي أعاره إياها عليه؛ فإن أراد رب العارية أن يأخذ منه قيمة إجارة ما استعملها فيه بعد أن يطرح من ذلك قيمة إجارة ما كان أذن له فيه، لم يكن له في قول - إن كانت أكثر من قيمتها، وفي قول يكون له ذلك، وأما إذا كان ذلك أقل من قيمتها، لم يمنع من ذلك. فصل وأجرة حمل العارية على المستعير، دليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفوان في السلاح التي أعاره إياها اكفنا حملها. واختلف في أجرة ردها فقيل على المستعير - وهو الأظهر، وقيل على المعير لأن العارية معروف، فلا يكلفه أجرا بعد معروف صنعه - وهو عرضه لحمله حيث أحب، وكذلك المكتري. فصل ومن حق المستعير أن يشهد على المعير في رد العارية عليه وإن كان دفعها إليه بلا إشهاد، بخلاف الوديعة؛ لأن العارية تضمن والوديعة لا تضمن. فصل والعارية تكون في الدور والأرضين والحيوان وجميع ما يعرف بعينه - وإن غيب عليه، إلا في الفروج خاصة؛ وأما ما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه من المكيل والموزون كله فعاريته قرض على حكم القرض، وبالله التوفيق.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة فصل في بيان معنى اللقطة لقط الشيء: أخذ واجده له، قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] فمعنى شروه باعوه، وذلك أن إخوته كانوا يرعون على مقربة من الجب، فلما أخرجته السيارة جاءوا فقالوا عبد لنا آبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية إن لم تقر لنا بالعبودية أخذناك منهم فقتلناك، فأقر لهم بالعبودية فباعوه منهم بثمن بخس. أي ظلم، لأنهم علموا أن بيعه لا يحل لهم وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم أحبوا بعده على أبيه، وقيل إن الضمير راجع على الثمن، وأنهم زهدوا في الثمن. ولكن باعوه لمن يمضي به إلى مصر؛ وقيل إن معنى شروه أي اشتراه التجار بثمن بخس أي محطوط، وكانوا فيه من الزاهدين إذ لم يعلموا منزلته عند الله عز وجل. فصل وقد اختلف في اللقيط: فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه

فصل

للمسلمين، وقيل ولاؤه لمن التقطه؛ ولا وجه لقول من قال إنه مملوك لمن التقطه، لأنه لا يخلو من أن يكون ابن أمة، فهو لسيدها لا ينتقل ملكه عنه إلا بما تنتقل به الأملاك؛ أو يكون ابن حرة، فهو حرة والصواب الذي عليه أهل العلم: أنه حر، لأن الناس كلهم من آدم وحواء - عليهم أفضل السلام؛ فالأصل الحرية؛ وذلك مروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: المنبوذ حر. وقال علي بن أبي طالب: " اللقيط حر ". وتلا قول الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]. وموضع الحجة من الآية أن اللقيط لو كان مملوكا لمن التقطه، لما احتاجوا إلى شرائه - وهذا بين. فصل فإذا لم ينتقل اللقيط عن أصله بالالتقاط ولا صار مملوكا لمن التقطه؛ فكذلك اللقطة لا ينتقل ملك صاحبها عنها ولا يحل لملتقطها أكلها بعد التعريف إلا على وجه السلف لا على وجه الملك في قول بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعي أن له أن يستنفق اللقطة بعد التعريف - وإن كان غنيا عنها؛ وحجته ما روي «عن علي بن أبي طالب أنه وجد دينارا فجاء به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال يا رسول الله وجدت هذا، فقال عرفه، فذهب ما شاء الله ثم قال قد عرفته فلم أجد أحدا يعرفه؛ قال: " فشأنك به ". فذهب فرهنه في ثلاثة دراهم وطعام وودك، فبينما هو كذلك؛ إذ جاء صاحبه ينشده فجاء علي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال هذا صاحب الدينار، فقال: " أده إليه "، فأداه علي إليه بعدما أكلوا منه»

فصل

فقال فهذا الحديث يدل على أن اللقطة حلال للملتقط بعد الحول - وإن كان غنيا عنها؛ لأنها لو كانت ترجع إلى الصدقة، لما حلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه من صليبة بني هاشم، ولأن الصدقة عليه حرام؛ وأما مالك فلا يجيز له أكلها. ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده. «فشأنك بها» - أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها - إن جاء، إلا إن شاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجرة، وقيل إنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون محتاجا إليها، وهو قول أبي حنيفة وسائر أصحابه؛ وقيل إن ذلك لا يجوز له إلا أن يكون له وفاء بها - وهو الصحيح؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» فيتحصل في هذا أربعة أقوال: أحدها: أن استنفاقها لا يجوز له بحال. والثاني: أن استنفاقها جائز له بكل حال. والثالث: أن استنفاقها لا يجوز له إلا أن يكون محتاجا إليها. والرابع: أن استنفاقها لا يجوز له، إلا أن يكون له بها وفاء - والله أعلم. فصل وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا لقطة مكة، فأما مكة فقد ورد النص فيها أنه لا تحل لقطتها إلا لمنشد، فلا يحل له استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرفها أبدا وإن طال زمانها. ويروى لا يرفع لقطتها إلا منشد، ولا ترفع لقطتها إلا لمنشد؛ فقيل:

فصل

إن معنى الأول أن سبيل من رأى لقطتها أن يرفعها بيده فيقول لمن هذه منكم أيها الناس. ومعنى الثاني أنه لا يأخذها إلا أن يسمع من ينشدها فيرفعها بيده فيقول أهي هذه؟ فيرجع تأويل الحديثين إلى اجتناب أخذها كلقطة الحاج - والله أعلم. فصل ويلزم أن يؤخذ اللقيط ولا يترك، لأنه إن ترك ضاع وهلك؛ وإنما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسنين أبي جميلة ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ لأنه اتهمه أن يكون غير منبوذ، وأنه إنما أخذه لأمر، فلما قال له عريفه إنه رجل صالح أمره بما يصنع في أمره، فقال له اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته؛ ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا، وإنما اختلفوا في لقطة المال على ثلاثة أقوال: فقيل إن الأفضل تركها من غير تفصيل، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها. وقيل إن الأفضل أخذها وتعريفها، لأنها مال يجمع على ربه ويمسك عليه، وهو أحد قولي مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وممن ذهب إلى هذا سعيد بن المسيب، وخالفه فيه أهل المدينة وأهل مكة، وأحسبه قال: إن حرمة المال كحرمة النفس. وتقلد قوله - الحسن بن صالح بن حي. والقول الثالث: أنه إن كان الشيء الذي له بال، فأخذه أفضل، وإن كان الشيء اليسير فتركه أولى وأحسن، وهذا القول أحد روايتي ابن القاسم عن مالك، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين - والإمام عادل لا يخشى أن يأخذها إذا علم بها بتعريفه إياها؛ وأما إن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عدل فأخذها عليه واجب قولا واحدا والله أعلم؛ ولو كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام غير عادل، لكان الاختيار ألا يأخذها قولا واحد - والله أعلم؛ ولو كانت بين

فصل

قوم غير مأمونين والإمام غير عادل لكان مخيرا بين أخذها وتركها، وذلك بحسبما يغلب على ظنه من أكثر الخوفين، وهو أيضا - أعني هذا الاختلاف فيما عدا لقطة الحاج، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها ومعنى نهيه عنها مخافة ألا يجدر بها بتفرق الحاج إلى بلدانهم المختلفة، فتبقى في ضمانه؛ فلا ينبغي لأحد أن يلتقط لقطة الحاج للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن التقطها وجب عليه من تعريفها ما يجب في سواها. فصل قال ابن عبدوس: وما وجد على المنبوذ من ثياب أو وجد عليه من فراش، أو دابة أو ثياب، أو مال قد قوم عليه أو شد معه فهو كله له؛ وأما ما وجد قريبا منه، فهو لقطة لا شيء له فيه؛ والحكم في اللقطة على ما وردت به السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ذكر مالك في موطئه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن اللقطة فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. قال فضالة الغنم يا رسول الله؛ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال مالك: ولها؛ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» فصل فاللقطة تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالدنانير والدراهم والعروض.

فصل

وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالشاة في الفيفاء والطعام الذي يسرع إليه الفساد. وقسم يبقى في يد ملتقطه ولا يخشى عليه الضياع والتلف إن ترك كالإبل. فصل فأما القسم الأول - وهو ما يخشى عليه التلف إن ترك - ويبقى في يد ملتقطه إن التقطه - فإنه ينقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون يسيرا جدا لا بال له ولا قدر لقيمته، ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فإن هذا لا يعرف وهو لمن وجده - إن شاء أكله وإن شاء تصدق به؛ والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة، لأكلتها» - ولم يذكر فيها تعريفا، وقد قال أشهب في الذي يجد العصا والسوط أنه يعرفه، فإن لم يفعل، فأرجو أن يكون خفيفا. والثاني: أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة وقد يشح به صاحبه ويطلبه، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه؛ إلا أنه يختلف في حده: فقيل سنة كالذي له بال - وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية أنه يعرفه إياها - وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة. والثالث: أن يكون كثيرا له بال، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا كاملا. فصل وأما القسم الثاني - وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن تركه - كالشاة في الفيفاء، والطعام الذي لا يبقى؛ فإن هذا يأكله غنيا كان أو فقيرا - لقول

فصل

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الشاة هي لك أو لأخيك أو للذئب. فأوجبها له ملكا، واختلف إن وجد هذا الطعام الذي يسرع إليه الفساد ولا يبقى في الحاضرة وحيث الناس: فقال ابن حبيب في الواضحة: إن تصدق به فلا غرم عليه لصاحبه، وإن أكله غرمه له - لانتفاعه به، وقيل إنه يغرمه لصاحبه - تصدق به أو أكله - وهو ظاهر قول أشهب. وقيل إنه لا ضمان عليه فيه أكله أو تصدق به - وهو ظاهر ما في المدونة. فصل وأما القسم الثالث - وهو ما يبقى بيد ملتقطه ولا يخشى عليه التلف إن تركه كالإبل - فالاختيار فيها ألا تؤخذ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها». فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت - على ما جاء عن عمر بن الخطاب؛ فقيل إن ذلك في جميع الأزمان - وهو ظاهر قول مالك في المدونة، وفي سماع أشهب من العتبية وقيل بل هو خاص في زمان العدل وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي قد فسد فيه الناس، فالحكم فيها أن تؤخذ فتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها؛ فإن لم يأت وأيس منه، لصدق به عنه على ما فعله عثمان بن عفان - لما دخل الناس في زمانه من الفساد، وقد روي ذلك عن مالك؛ واختلف إن كانت الإبل بعيدة من العمران حيث يخاف عليها السباع: فقيل إنها في حكم الغنم لواجدها أكلها، وقيل إنها تؤخذ فتعرف، إذ لا مشقة في جلبها، وأما البقر فالمنصوص عليه في المدونة: أنها في ذلك بمنزلة الغنم، وذلك لما في جلبها من المشقة، فلا يدخل فيها الاختلاف الذي دخل في الإبل، وبالله التوفيق. فصل وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: «اعرف عفاصها ووكاءها "، فإن جاء

صاحبها وإلا فشأنك بها». دليل على أنها تدفع لواصفها وإن لم تكن له بينة عليها، وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابنا - في هذا لا اختلاف بينهم فيه، خلافا للشافعي، وأبي حنيفة في قولهما: إنها لا تدفع للواصف حتى يقيم البينة عليها - وهو بعيد، وقد روى هذا الحديث حماد بن سلمة والثوري ومالك أيضا، فزادوا فيها: فإن جاء صاحبها فعرف العفاص والوكاء، فادفعها إليه، وإلا فشأنك بها. وهذا نص في موضع الخلاف، وإنما اختلف أصحاب مالك هل تدفع إليه بيمين أو بغير يمين، فظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة أنها تدفع إليه بغير يمين، وأن الصفة في اللقطة التي لا دافع فيها كالبينة القاطعة فيما له من يدفع عنه، وقال أشهب لا تدفع إليه إلا بيمين، واضطرب في ذلك قول ابن حبيب: فقال إنه لا تدفع إليه إلا بيمين، وقال إن وصفها رجلان أحلفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فهي لمن حلف منهما، وإن نكلا جميعا أو حلفا جميعا، قسمت بينهما، فقوله إنها تقسم بينهما مع نكولهما رد لقوله أولا، لأن نكولهما عن الأيمان كرضاهما، إلا أن يحلف أحدهما صاحبه؛ وإذا رضيا بذلك، فالقياس على قوله ألا تقسم بينهما حتى يحلف كل واحد منهما أنها له ليوجب يمينه أنها له دون غيره ممن لم يحضر ولا ادعاها من الناس، ولو لم يتفقا على أن يسقط كل واحد منهما اليمين عن صاحبه، لوجب أن يحلف كل واحد منهما أنها له، ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه هذا، ودون غيره من الناس؛ فافهم هذا واعلم أن يمين كل واحد منهما على أنها له توجب معنيين، فإن سقطت اليمين عنهما في المعنى الواحد لنكولهما جميعا، واتفاقهما على إسقاطها، لم تسقط من أجل المعنى الآخر؛ وعلى مذهب من لا يوجب اليمين على الواصف الواحد إذا انفرد يحلف كل واحد منهما إذا اجتمعا على الصفة أنها له ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه،

فصل

وإن شاء زاد ذلك في يمينه، فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنها له، وما لصاحبه فيها حق، ولا يحتاج أن يقول ولا لغيره. فصل ومما يعتبر به في دفع اللقطة إلى صاحبها بالصفة قول الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]. فصل ويصف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليها وأحاطا به من صفة الدنانير وعددها، وذلك موجود في الحديث، رواه يحيى بن سعيد بإسناده وزاد فيه فإن جاء باغيها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه والزيادة من الحافظ مقبولة. فصل فإن وصف مدعي اللقطة بعضا وجهل بعضا، أو غلط فيه، ففي ذلك اختلاف وتفصيل؛ فأما جهله بالعدد، فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء وكذلك غلطه فيه بالزيادة لا يضره، لجواز أن يكون قد اغتيل في شيء منها واختلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء على قولين وكذلك اختلف أيضا إذا جهل صفة الدنانير، وعرف العفاص والوكاء. وأما إذا غلط في صفة الدنانير، فلا أعلم خلافا أنه لا شيء له؛ وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر، أو غلط فيه، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا. والثاني: أنه يستبرأ أمره، فإن لم يأت أحد فأثبت مما أتى به دفعت إليه.

فصل

والثالث؛ أنه إن ادعى الجهالة استبرئ أمره - وإن غلط لم يكن له شيء، وهذا أعدل الأقاويل - عندي. فصل وواجد اللقطة على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأخذها ولا يريد التقاطها ولا اغتيالها. والثاني: أن يأخذها ملتقطا لها. والثالث: أن يأخذها مغتالا لها. فأما الأول فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه، كان له أن يرده حيث وجده - ولا ضمان عليه فيه - قاله ابن القاسم في المدونة، ورواه ابن وهب عن مالك، لأنه لم يصر في يده ولا تعدى عليه، وإنما أعلم به من ظن أنه له - ولم يلزم فيه حكم اللقطة، وهذا إذا ردها بالقرب؛ وأما إن ردها بعد طول، فهو ضامن. والوجه الثاني أن يأخذها ملتقطا لها، فهذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن أخذها ضمنها؛ وقال أشهب لا ضمان عليه إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده، ولا إشهاد عليه في ردها، وعليه اليمين: لقد ردها في موضعها؛ فإن ردها في غير موضعها، ضمن كالوديعة - إذا تسلف منها ثم رد ما تسلف منها فإنه لا يبرأ من الضمان، وقول ابن القاسم أبين وأظهر. وأما الوجه الثالث إذ قبضها مغتالا لها، فهو ضامن لها ولا يعرف الوجه الذي التقطها عليه إلا من قبله، فإن تلفت عنده أو ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ملتقطا لها ليحرزها على صاحبها، فهو مصدق في ذلك دون يمين يلزمه إلا أن يتهم، وسواء أشهد حين التقطها أو لم يشهد على مذهب مالك، لأن الإشهاد على ما روي

عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله «من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغير، فإن جاء ربها، فهو أحق بها، وإلا فمال الله يؤتيه من يشاء» إنما أمر به تحصينا لربها، فهو مستحب له غير واجب عليه وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه ضامن لها إن لم يشهد، وهذا لا معنى له إذ قد يشهد بخلاف ما أضمر إعذارا لنفسه - ولو فرقت هذه التفرقة في المتهم دون الذي لا يتهم، لكان قولا حسنا - والله أعلم، وبالله التوفيق.

كتاب الغصب

كتاب الغصب فصل في وجود لفظ الغصب في القرآن قال الله عز وجل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] إلى قوله غصبا أي كل سفينة صحيحة غصبا، وقد قريء وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. ولذلك خرقها الخضر - صلى الله على نبينا وعليه. وفي حرف بن مسعود وأبي بن كعب: كل سفينة صالحة غصبا. فصل فالتعدي على رقاب الأموال بالأخذ لها ينقسم على سبعة أقسام، لكل قسم منها حكم يختص به، وهي كلها محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. وقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]

إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وقال في أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]. وقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] فإذا كان هذا الوعيد الشديد لمن طفف في المكيال والميزان، فكيف بمن اقتطع الجميع وأخذه. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين». وقال في خطبته المعروفة الغد من يوم النحر بمكة في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» الحديث. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله». وأما الإجماع، فمعلوم من دين الأمة ضرورة - أن أخذ أموال الناس واقتطاعها بغير حق حرام، لا يحل ولا يجوز؛ فمن قال إن ذلك حلال جائز، فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

فصل

فصل فأحد الأقسام السبعة: أخذ الأموال على وجه الحرابة. والثاني: أخذها على وجه الغصب من غير حرابة. والثالث: أخذها على وجه الاختلاس. والرابع: أخذها على وجه السرقة. والخامس: أخذها على وجه الخيانة. والسادس: أخذها على وجه الإدلال. والسابع: أخذها على وجه الجهد والاقتطاع. فصل فنتكلم ههنا على الغصب وحكمه، إذ هو الذي بنيت عليه مسائل هذا الكتاب؛ وأما سائر الأقسام فلنتكلم عليها في مواضع، هي أخص بها من هذا. فصل فأما غصب الأموال فهو أخذها بغير الحق على سبيل القهر والغلبة والملك للأصل والرقبة، ويستوي في حكمه الأحرار البالغون من أهل الذمة والمسلمين: القرابة والأجنبيين، إلا الوالد من ولده، والجد للأب من حفيده؛ فقيل إنه لا يحكم له بحكم الغاصب الأجنبي، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك».

فصل

فصل فسواء غصب مسلم من مسلم، أو ذمي من ذمي، أو مسلم من ذمي، أو ذمي من مسلم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم ذميا أو معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن رائحة الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة سنة». فصل ويجتمع في الغصب حق لله تعالى، وحق للمغصوب منه، فيجب على الغاصب لحق الله تعالى الأدب والسجن على قدر اجتهاد الحاكم ليتناهى الناس عن حرمات الله، ولا يسقط ذلك عنه عفو المغصوب منه. فصل فإن كان الغاصب صغيرا لم يبلغ الحلم، سقط عنه الأدب الواجب لحق الله تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم»، ومعناه في رفع الإثم والحرج عنه فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا ارتفع عنه الإثم والحرج، سقط عنه التعزير والأدب، وقد قيل، إن الإمام يؤدبه كما يؤدب الصغير في المكتب، وأخذ بحق المغصوب منه، واختلف إن كان صغيرا لا يعقل فقيل إن ما أصابه من الأموال والديات هدر كالبهيمة العجماء التي

فصل

جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جرحها جبارا. وقيل إن ما أصابه من الأموال في ماله وما أصابه من الدماء حملته العاقلة - إن كان الثلث فصاعدا كالخطأ - سواء. وقيل إن ما أصابه من الأموال هدر، وما أصابه من الدماء حملته العاقلة - إن بلغ الثلث وحكم هذا حكم المجنون المغلوب على عقله. فصل والذي يجب على الغاصب بحق المغصوب منه: أن يرد إليه ماله بعينه إن كان قائما، أو قيمته يوم الغصب إن كان فائتا، إلا في المكيل والموزون والمعدود الذي لا يختلف أعيان عدده كالبيض والجوز وما أشبه ذلك، فإنه يرد مثله. فصل ولا يفيت الشيء المغصوب حوالة الأسواق ويفيته النقصان والعيوب وإن لم تكن مفسدة كانت بأمر من السماء أو بجناية الغاصب أو جناية غيره، غير أنها إن كانت بأمر من السماء، لم يكن للمغصوب منه إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب عند ابن القاسم؛ ويتخرج على مذهب سحنون أنه يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب يوم الغصب؛ وإن كانت بجناية الغاصب فالمغصوب منه مخير بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يسقط عنه حكم الغصب فيأخذه وما نقصته جنايته يوم الغصب عند ابن القاسم، وقال سحنون: إنه مخير بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه. وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة

فصل

يوم الغصب أو يأخذه ناقصا ولا شيء له في الجناية؛ ولابن القاسم مثله في المدونة في السارق يهزل ركوبه الدابة، وفي كتاب القذف في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما وفي غير ما موضع من العتبية والمدونة أيضا؛ وإن كانت بجناية غير الغاصب، فالمغصوب منه مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يسقط عن الغاصب طلبه ويتبع الجاني بحكم الجناية؛ وقد قيل إن للمغصوب منه أن يضمن الغاصب في الوجوه كلها التي تفيت المغصوب القيمة أي يوم شاء، فيكون له عليه أرفع القيم، حكى هذا القول ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب، وغيرهما. فصل واختلف في نقله من بلد إلى بلد إن كان عرضا أو حيوانا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك فوت، فالمغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ متاعه أو يضمنه قيمته يوم الغصب، وهو قول أصبغ وظاهر روايته عن أشهب في سماعه من كتاب الغصب. والثاني: أن ذلك ليس بفوت، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ متاعه - وهو قول سحنون لأنه رأى نقل ذلك كله من بلد إلى بلد بمنزلة حوالة الأسواق. والثالث: الفرق بين الحيوان والعروض فتفوت العروض ويكون المغصوب فيها بالخيار بين أن يأخذها وبين أن يضمن الغاصب قيمتها يوم غصبها في البلد الذي غصبها فيه. ولا يفوت الحيوان، فيأخذها المغصوب منه حيث وجدها، ولا يكون له أن يضمن الغاصب قيمتها، وهذا في الحيوان الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم كالدواب والوخش من الرقيق؛ وأما الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم من

فصل

بلد إلى بلد، فحكمهم حكم العروض، فهي ثلاثة أقوال: قولان متضادان وتفرقة. وأما الطعام إذا حمله الغاصب من بلد إلى بلد ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه في البلد الذي اغتصبه فيه. والثاني: أن المغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ طعامه بعينه وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه. والثالث: تفرقة أصبغ بين أن يكون البلد الذي حمله إليه قريبا أو بعيدا. فإن كان قريبا كان بالخيار بين أن يأخذ طعامه وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه. وإن كان بعيدا، لم يكن له إلا مثله في البلد الذي اغتصبه فيه. فصل وأما النماء فينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون من فعل الله تعالى كالصغير يكبر، والمهزول يسمن، أو العيب يذهب. والثاني: أن يكون مما أحدثه الغاصب. فأما الوجه الأول فليس بفوت على حال. وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب، فإنه ينقسم في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على وجهين: أحدهما: أن يكون قد أخرج فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ والنقض في البنيان، وما أشبه ذلك.

والثاني: ألا يكون أخرج فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها ثوابت وأبوابها، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول وهو أن يخرج فيه من ماله ما له عين قائمة فينقسم على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك الشيء يمكنه إعادته، على حاله كالبقعة بينهما وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يقدر على إعادته على حاله كالثوب يصبغه أو الجلد يدبغه أو السويق يلته، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول: فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ما له فيها من نقض إن كان له فيها نقض، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ما له فيها من النقض مقلوعا مطروحا بالأرض بعد أجر القلع - قال ابن شعبان، وإليه ذهب ابن المواز. وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بعبيده، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل له لا يحط من ذلك أجر القلع على مذهب ابن القاسم في المدونة، وإلى هذا ذهب ابن دحون، واعتل في ذلك أن الغاصب لو هدمه لم يكن للمغصوب منه أن يأخذه بالقيمة بعد الهدم، وإن لم يكن في البنيان الذي بنى الغاصب ما له قيمة إذا قلعه لم يكن للغاصب على المغصوب منه شيء لأن من حقه أن يلزم الغاصب هدم البناء وإعادة البقعة إلى حالها؛ فإذا أسقط حقه قبله في ذلك، فلا حجة له؛ ويؤيد ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق». وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ ثوبه، وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته بالسمن،

وما أشبه ذلك من الطعام؛ فلا يخير فيه عنده لما يدخله من الربا، ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل أو القيمة فيما لا مثل له. وأما الوجه الثاني وهو ألا يكون أخرج الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه مثل الخياطة في الثوب أو الرفوله، وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن ذلك الاسم كالخشبة يعمل منها تابوتا أو أبوابا، أو القمح يطحنه أو الغزل ينسجه أو الفضة يصوغها حليا، أو يضربها دراهم، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا. وأما الوجه الثاني: فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه، أو مثله فيما له مثل؛ هذا تحصيل مذهب ابن القاسم في هذا الوجه. وأشهب يجعل في ذلك كله أصله مسألة البنيان فيقول إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحن وعمل التابوت والأبواب من الخشبة، وما أشبه ذلك. وقد روي عن ابن القاسم أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب به القيمة يوم الغصب، ولا يكون للمغصوب منه أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ الثوب؛ وكذلك ما أشبه الصبغ؛ وقد قيل إنهما يكونان شريكين بقيمة الصبغ وقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وأبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب؛ وهذا القول أنكره في كتاب اللقطة من المدونة، وقال إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة.

فصل

فصل والغاصب ضامن لما اغتصب بوضع يده عليه وإن تلف بأمر من السماء كان مما يزال به أو مما لا يزال به إذا قصد إلى غصب الرقبة خلافا لأبي حنيفة في قوله إن الغاصب لا يضمن الدار إذا اغتصبها فانهدمت. فصل واختلف في غلات المغصوب على قولين: أحدهما: أن حكمها حكم الشيء المغصوب. والثاني: أن حكمها بخلاف حكم الشيء المغصوب. فمن ذهب إلى أن حكمها حكم الشيء المغصوب، وهو قول أشهب - فيقول إنه يلزمه قيمة الغلة يوم قبضها، أو أكثر ما انتهت إليه قيمتها على الاختلاف في الشيء المغصوب، وإن تلفت بأمر من السماء وتلف الشيء المغصوب، يضمن قيمته يوم الغصب أو أي يوم شاء المغصوب منه على ما حكاه ابن شعبان من الاختلاف في ذلك. فصل وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة خلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد إجماعهم على أنها إن تلفت ببينة فلا ضمان على الغاصب فيها وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه. فصل وتحصيل هذا الاختلاف أن الغلل تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: غلة متولدة عن الشيء المغصوب على هيئته وخلقته وهو الولد.

فصل

وغلة متولدة عنه على غير خلقته وهيئته - وهي ثمر النخل ولبن الماشية وجبنها وصوفها وما أشبه ذلك. وغلل غير متولدة عن الشيء المغصوب وهي الأكرية والخراجات، وما أشبه ذلك. فأما ما كان متولدا عنه على هيئته وصورته - وهو الولد فالاختلاف بينهم أن على الغاصب رده مع الأم إن كانت الأم قائمة وإن ماتت الأم كان مخيرا بين المولد وقيمة الأم. وأما ما كان متولدا عنه على غير خلقته وهيئته، فاختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أن ذلك للغاصب بالضمان لا يلزمه رده على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الغلة بالضمان». والثاني: أنه يلزمه ردها إن كانت قائمة أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا بقوله مع عين الشيء المغصوب. وإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه قيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذ الغلة ولا شيء له من القيمة. وأما ما كان غير متولد عنه، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها: أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. الثاني: أنه يلزمه رده جملة من غير تفصيل بين أن يكري أو ينتفع أو يعقل، والثالث: أنه يلزمه الرد إن أكرى ولا يلزمه إن انتفع أو عطل. والرابع: أنه يلزمه إن أكرى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل. والخامس: الفرق بين الحيوان والأصول. فصل وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع بقائها وقيامها. وأما ما اغتل منها بتصريفها وتفويتها وتحويل عينها كالدنانير يغتصبها

فصل

فيغتلها بالتجارة فيها، أو الطعام يغتصبه فيغتله بزرعه في أرضه، فالغلة له قولا واحدا في المذهب. فصل وأما إذا لم يقصد إلى غصب الرقبة، فهو ضامن للغلة التي قصد إلى غصبها سواء أكرى أو انتفع أو عطل، وسواء كان ذلك مما يزال به أو مما لا يزال به خلافا لأبي حنيفة في قوله إن من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها، فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله عليها قريبا كان تعديه ذلك عليها أو بعيدا، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه وهو بعيد. فصل وكذلك من استكره أمة أو حرة فوطئها، فعليه في الحرة صداق مثلها؛ وفي الأمة ما نقصها بكرا كانت أو ثيبا مع الأدب الوجيع خلاف قول أبي حنيفة إنه لا صداق عليه مع الحد، وهذا إذا ثبت عليه الوطء بأربعة شهداء على معاينة الفعل، أو أقر بذلك على نفسه، أو ادعت ذلك عليه مع قيام البينة على غيبته عليها. وأما إن ادعت عليه أنه استكرهها فغاب عليها ووطئها ولا بينة لها على دعواها، فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك، والثاني: أن تدعي ذلك على رجل متهم يليق به مثل ذلك؛ وكل واحد من هذين الوجهين ينقسم على وجهين: أحدهما: أن تأتي مستغيثة متعلقة به متشبثة فاضحة لنفسها تدمى إن كانت بكرا. والثاني أن تدعي ذلك عليه من غير أن تكون متشبثة به ولا تدمى وهي بكر فيأتي في جملة المسألة أربعة أقسام.

فأما الوجه الأول من القسم الأول وهو أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك وهي غير متعلقة به فهذا لا اختلاف أنه لا شيء على الرجل وأنها تحد له حد القذف وحد الزنا إن ظهر بها حمل. وأما إن لم يظهر بها حمل، فيتخرج وجوب حد الزنا عليها على الاختلاف فيمن أقر بوطء أمة رجل وادعى أنه اشتراها منه أو بوطء امرأة وادعى أنه تزوجها فتحد على مذهب ابن القاسم، إلا أن ترجع عن قولها ولا تحد على مذهب أشهب وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة، وكذلك المجهول الحال في هذا الوجه إذا كانت هي مجهولة الحال أو لم تكن من أهل الصون. وأما إن كانت من أهل الصون - وكان هو مجهول الحال، فيتخرج وجوب حد القذف عليها له على قولين، ويحلف بدعواها على القول بأنها لا تحد له؛ فإن نكل عن اليمين حلفت هي وكان لها صداقها عليه. وأما الوجه الثاني من القسم الأول وهو أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك وتأتي متعلقة به متشبثة قد بلغت فضيحة نفسها، فهذا الوجه يسقط عنها فيه حد الزنا - وإن ظهر بها حمل لما بلغت من فضيحة نفسها؛ واختلف هل تحد له حد القذف أم لا: فذهب ابن القاسم إلى أنها تحد له حد القذف وحكى ابن حبيب في الواضحة أنها لا تحد له حد القذف ولا يمين لها عليه على القول بأنها تحد له. وأما على القول بأنها لا تحد له فيحلف على تكذيب دعواها، فإن نكل عن اليمين حلفت واستحق عليه صداقها؛ وهذا إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها.

وأما إن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها، فتحد له قولا واحدا. وإن كان مجهول الحال لم تحد له قولا واحدا - إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها. وإن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها - وهو مجهول الحال فيتخرج إيجاب حد القذف عليها له على قولين. وأما الوجه الأول من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق ولا تأتي متعلقة به، فهذا الوجه لا يجب عليها فيه حد القذف للرجل ولا حد الزنى لنفسها إلا أن يظهر بها حمل، ولا صداق لها وينظر الإمام في أمره فيسجنه ويستخبر عن أمره ويفعل فيه بما ينكشف له منه، فإن لم ينكشف في أمره شيء استحلف، فإن نكل عن اليمين، حلفت المرأة واستحقت عليه صداق مثلها. وأما الوجه الثاني من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق، وتأتي متعلقة به متشبثة تدمى إن كانت بكرا، فهذا الوجه يسقط عنها فيه حد القذف للرجل وحد الزنى - وإن ظهر بها حمل، واختلف في وجوب الصداق بها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجب لها وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب، لأنه إذا أوجب للأمة ما نقصها فأحرى أن يوجب للحرة صداق مثلها. والثاني: أنه لا يجب لها وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في القذف، قال ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه. والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة أنه يجب لها الصداق إن كانت حرة ولا يجب لها شيء إن كانت أمة.

واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع ما بلغت إليه من فضيحة نفسها هل يجب بيمين أو بغير يمين، فروى أشهب عن مالك أنها تأخذه بغير يمين وذهب ابن القاسم إلى أنها لا تأخذه إلا بعد اليمين - وهو أصح - والله أعلم. وإن كان مجهول الحال لم يكن لها صداق واستحلف هو، فإن نكل عن اليمين حلفت وأخذت صداقها، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الاستحقاق

كتاب الاستحقاق فصل في معنى الاستحقاق قال الله عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]- أي باطلا يوجب إثما فالاستحقاق هو أن يحق الرجل الشيء لنفسه بما تثبت به الحقوق وتمضي لأهلها، وذلك شاهد عدل، أو شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين على مذهب من يرى القضاء باليمين مع الشاهد فإذا أقام ذلك، وجب الحق ولزم القضاء به في الظاهر بعد الإعذار، وإن كان الأمر في الباطن على خلاف ذلك، فليس حكم الحاكم بالذي يحله له؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]- الآية. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار». وروي «أن رجلا من حضر موت ورجلا من كندة اختصما إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أرض باليمن، فقال الحضرمي أرضي اغتصبها أبو هذا، فقال الكندي يا رسول الله أرضي ورثتها عن أبي؛ فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحضرمي:

فصل

هل لك بينة؟ فقال لا، ولكن يحلف بالله ما يعلم أنها أرضي غصبها لي أبوه؛ فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يقتطع رجل مالا بيمين إلا لقي الله - عز وجل - وهو عليه غضبان - فتركها الكندي» فصل فإن كان الشيء المستحق له غلة قد اغتلها المستحق منه، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان»، وقوله: الخراج بالضمان لفظ عام مستقل بنفسه إلا أنه ورد في البيع على ما روي، وذلك «أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرده عليه، فقال له الرجل يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الخراج بالضمان»، أخرجه أبو داود، وقد اختلف أهل العلم في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه - على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر: حمله على عمومه، لأن الحجة إنما هي في كلام صاحب الشرع، لا في - السبب؛ إذ لو انفرد السبب، لم يوجب حكما، ولو انفرد لفظ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون السبب - لكان له الحكم فلا يعتبر السبب. فصل وكذلك اختلف أهل العلم في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الخراج بالضمان،» هل يحمل على عمومه في الغاصب والمشتري، ومن ضمن بشبهة وبغير شبهة أو يقصر على المعنى الذي خرج عليه، فيحمل على ما ضمن بوجه شبهة - على قولين؛ واختلف في ذلك أيضا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فروى أشهب عنه أن الغاصب لا يرجع عليه بالغلة وتكون له بالضمان في الأصول والحيوان - أكرى ذلك كله وقبض الخراج، أو سكن الدار واستخدم العبد، وما أشبه ذلك؛ فعلى هذه الرواية حمل

فصل

الحديث على عمومه، وروى عنه أنه أوجب على الغاصب رد الغلة في الحيوان والأصول، وهذا أحد قوليه في المدونة، فقصر الحديث - على هذه الرواية على ما خرج عليه - وهو ما ضمن بوجه شبهة، وهذان القولان جاريان على قياس. وأما تفرقته بين الحيوان والأصول، فاستحسان وليس بقياس؛ ووجهه أنه حمل الحديث على عمومه فيما كان بوجه شبهة وبغير وجه شبهة في الحيوان الذي ليس بمأمون، وخصص الأصول من ذلك لكونها مأمونة، لا يخشى عليها التلف، فلا تضمن إلا في النادر، والنادر لا يحكم له؛ وكذلك تفرقة من فرق في الأصول بين أن يكري أو يسكن، وفي رواية أبي الفرج عن مالك وتفرقة من فرق بين ذلك في الحيوان أيضا استحسان وليس بقياس، إلا أنها كلها أقاويل مشهورة معلومة. فصل وهذا في الخراج والاستخدام، وأما ما كان من الغلل المتولدة عن الشيء المستحق كاللبن والصوف في الحيوان والثمرة في الأصول فنصوص الروايات أن الغاصب يرد ذلك كله مع الأصول إن كان قائما، أو مكيلة خرصه - إن كان فائتا، ولا فرق في القياس بين ذلك؛ وقد عده محمد بن المواز اختلافا من القول وهو الصحيح - إن شاء الله؛ ومما يدل على أنه اختلاف من القول: رواية ابن المعذل عن مالك فيما كان من الغلل متولدا عن الشيء المغصوب أنه للغاصب بالضمان، ولا يلزمه رده؛ ولم أر هذه الرواية في أصل كتاب، وإنما أخبرني بها بعض أصحابنا. فصل وتحصيل هذا الباب أن الضمان ينقسم على وجهين: أحدهما: ضمان بشبهة.

والثاني: ضمان بغير شبهة. فأما الضمان بالشبهة، فلا اختلاف أن الغلة تكون فيه بالضمان، لورود النص في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأما الضمان بغير شبهة - كالغاصب والسارق وشبههما، فاختلف فيه على ستة أقوال: أحدها: أن الغاصب لا شيء له من الغلات كلها كانت متولدة عن الأصول أو غير متولدة عنها، استغل ذلك بقبض الغلات المتولدات وقبض الأكرية والخراجات أو انتفع بذلك ولم يغتله أو عطله فلم يكره ولا انتفع به يلزمه في ذلك كله الكراء كراء المثل إن انتفع به أو عطله ولم ينتفع به. وإن أكرى وقبض الخراج، فالأكثر من كراء المثل، أو ما أكراه به، هذا قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة. والقول الثاني: أنه يلزمه رد الغلة والكراء إن أكرى أو انتفع بالاستخدام والسكنى، فإن لم يكر ولا انتفع بشيء من ذلك، فلا شيء عليه. والقول الثالث: أنه إن أكرى كان عليه الكراء؛ وإن لم يكر، فلا شيء عليه؛ وإن سكن واستخدم، وهي رواية أبي الفرج عن مالك. والقول الرابع: التفرقة بين الحيوان والأصول. والقول الخامس: التفرقة بين ما كان من الغلل متولدا عن الشيء المستغل كاللبن والصوف والثمرة، أو غير متولد عنها كخراج العبيد وكراء المساكن. والقول السادس: أن له الغلات كلها وإن كانت متولدة عن الشيء المغصوب.

فصل

فصل وأما ما استحق مما لا ضمان فيه على المستحق منه، فإنه ينقسم أيضا على قسمين: أحدهما: أن يكون قد أدى فيما استحق من يده ثمنا. والثاني: أن يكون لم يؤد في ذلك ثمنا. فأما ما أدى فيه ثمنا، فلا ضمان عليه فيه، لوجوب الرجوع له بالثمن إن تلف عنده، كالرجل يشتري العبد ثم يستحق من يده بحرية أو يشتري الأصل ثم يستحق من يده بحبس؛ فقيل إن الغلة تطيب له بالثمن الذي أدى لأنه ضامن للثمن الذي دفع في عدم البائع إن تلف ذلك الشيء وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الاستحقاق من العتبية، وبه جرى العمل عندنا فيما يستحق من الأصول بالحبس؛ وقيل إنه يرد الغلة، لأنه إن تلف رجع بالثمن، فلم يكن ضامنا لشيء وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة لأنه علق الغلة بالضمان فيها - أعني في المدونة؛ وأما ما لم يؤد فيه ثمنا ولا كان عليه فيه ضمان كالوارث يرث ثم يأتي من هو أحق منه بالوراثة، فلا اختلاف أنه يرد ما اغتل أو سكن لانتفاء وجوه الضمان عنه. واختلف قول مالك إذا سكن ولم يكر فأتى من يشاركه في الميراث، لا من هو أحق به منه على قولين، الأصح منهما رواية علي بن زياد عن مالك بوجوب الكراء عليه في حصة الوارث الطارئ عليه، لانتفاء جميع وجوه الضمان عنه. وأما الحبس إذا استغله بعض المحبس عليهم وهم يرون أنهم ينفردون به، أو سكنوه، فقيل إنه لا يرجع عليهم بالغلة ولا بالسكنى وهي رواية ابن القاسم عن مالك في الصدقات والهبات. وقيل يرجع عليهم بالغلة والسكنى جميعا، وهذا يأتي على رواية علي بن زياد عن مالك في المدونة وهو القياس. وقيل إنه يرجع

فصل

عليهم بالغلة ولا يرجع عليهم بالسكنى وهو نص قول ابن القاسم في المبسوطة، ولا فرق في القياس بين الحبس وغيره، ولا بين الاستغلال والسكنى. فصل فإن اعترض على هذا بالموهوب له يستغل ما وهب له ثم يستحق ذلك من يده أو الوارث يرث فيستغل ثم يستحق ذلك من يده أن الغلة تكون له وهو لم يؤد ثمنا ولا هو ضامن؛ فالجواب عنه أن الوارث والموهوب له يحلان محل من صار إليهما ذلك عنه في وجوب الغلة لهما؛ ألا ترى أن الواهب أو الموروث إذا كان غاصبا حل الوارث والموهوب له محلهما فرد الوارث الغلة، وكذلك الموهوب له؛ إلا أنه يختلف فيمن يبدأ على ثلاثة أقوال: أحدها: المشهور عن ابن القاسم أن الغاصب هو المبدأ ولا يرجع على الموهوب له إلا في عدم الغاصب، واختلف على هذا القول إن وجد الغاصب عديما فرجع على الموهوب له، هل للموهوب له أن يرجع على الغاصب أم لا على قولين. قيل يرجع عليه وهو القياس، وقيل إنه لا يرجع عليه وهو قول ابن القاسم في كتاب كراء الدور من المدونة. والثاني: قول غير ابن القاسم في كتاب الاستحقاق من المدونة وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة منها، وهو قول أشهب في رواية أصبغ عنه من كتاب البضائع والوكالات: أن الموهوب له هو المبدأ - ولا يرجع على الغاصب - إلا في عدم الموهوب له؛ واختلف على هذا القول إن وجد الموهوب له عديما فيرجع على الغاصب، هل للغاصب أن يرجع على الموهوب له أم لا على قولين. والثالث: أنه مخير بين أن يرجع على أيهما شاء - يريد ولا رجوع لمن رجع عليه منهما على الآخر، حكى هذا القول ابن عبدوس عن أشهب واختاره سحنون؛ ومثله بالطعام يبتاعه الرجل من الغاصب فيأكله، أنه مخير في اتباع من شاء منهما؛

فصل

وهو تمثيل غير صحيح، لأن المشتري إذا رجع عليه، رجع هو على الغاصب بالثمن؛ والموهوب له إذا رجع عليه، لم يرجع هو على أحد. وقد روي عن أصبغ أن الغاصب إذا وهب فاغتل الموهوب له أنه لا يرد الغلة وذلك بعيد، إلا أن يتأول قوله على أنه إنما أراد ألا يرجع عليه إذا كان الغاصب مليا، أو يكون قوله على مذهب من يرى أن الغلة للغاصب بالضمان فينزل الموهوب له منزلته. فصل واختلف في الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق وتكون الغلة له ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي في يديه حتى يقضى بها للطالب وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفا يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلته، وهو قول ابن القاسم في المدونة أن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف، مثل ما يحول ويزول، وإنما توقف وقفا يمنع من الإحداث فيها. والثاني: أنه يدخل في ضمانه وتكون له الغلة ويجب توقيفه وقفا يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتان - وهو ظاهر قول مالك في موطئه إذ قال فيه إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وقول غير ابن القاسم في المدونة إذ قال إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه، وكلف المدعى عليه المدفع.

فصل

والقول الثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحد - وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح - أنه يحلف مع شهادة شاهده وتكون المصيبة منه، وروايته عنه في الكتاب المذكور في مسألة الزيتون إذا ادعاها وأقام شاهدا واحدا أن الثمرة له إذا تؤولت أن معنى المسألة أنه استحق الأصل دون الثمرة؛ وأما على تأويل من تأول أنه إنما ادعى الأصل والثمرة وشهد له بهما جميعا الشاهد الذي أقامه، فتخرج الرواية عن هذا الباب إلى وجه متفق عليه، وما وقع في أحكام ابن زياد أن التوقيف يجب في الدار بالقفل وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد يأتي على هذا القول؛ وكذلك النفقة أيضا تجري على هذا الاختلاف، وقد فرق في رواية عيسى عن ابن القاسم من كتاب الدعوى والصلح بين النفقة والضمان، وساوى بينهما عيسى من رأيه وهو القياس؛ وكذلك ظاهر المدونة أنه فرق بينهما والصواب أنه اختلاف من القول. فصل واختلف أيضا في الحد الذي تكون به الثمرة في استحقاق الأصل غلة فيستوجبها المستحق منه ببلوغها إليه: إما بالحكم والقضاء، وإما بثبوت الحق بشهادة شاهدين، وإما بأن يشهد للمستحق شاهد واحد على الاختلاف المذكور في ذلك؛ فروى أبو زيد عن ابن القاسم أن الثمرة تكون للمستحق ما لم تجد، وفي كتاب ابن المواز ما لم تيبس، ويرجع عليه بالسقي والعلاج، وعلى ما قال في المدونة في الرد بالعيب ما لم تطب. إذ لم يفرق بين المسألتين؛ وهذا إذا كان المستحق منه اشترى الأصول قبل إبار الثمرة، وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق على مذهب ابن القاسم، - وإن جدت، ويرجع عليه بالسقي والعلاج كالرد بالعيب، وعلى مذهب أشهب تكون الثمرة للمستحق - ما لم تجد، فإن جدت، كانت غلة للمشتري، وأما إن كان اشترى الأصل - والثمرة من هبة، فاشترطها، ففي كتاب ابن المواز أن الثمرة تكون للمستحق كيف كانت يبست أو

فصل

جدها أو باعها أو أكللها، ويغرم المكيلة - إن عرفها، وإلا فالقيمة، وفي البيع يغرم الثمن الذي باعها به إن فاتت؛ وإن كانت بيد مبتاعها، فهو مخير في أخذها أو إنفاذ بيعها وأخذ الثمن؛ وإن تلفت عند المبتاع، فليس له إلا الثمن؛ وهذا على القول بأنها لا تصير غلة للمبتاع إلا باليبس أو الجداد. وأما على القول الذي يرى أنها تصير له غلة بالطياب، فلا حق له فيها إذا أزهت عند البائع، لأنها قد صارت له غلة بالطياب، ويأخذ المستحق النخل وحدها، ويرجع المستحق منه على البائع بما ينوبها من الثمن، ويسقط عنه ما ناب الثمرة - لبقائها بيده، إلا أن يكون اشتراؤه إياها من غاصب، أو من مشتر اشتراها بعد الإبار على مذهب ابن القاسم؛ فهي ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المستحق منه اشتراها قبل الإبار. والثاني: أن يكون اشتراها بثمرتها بعد الإبار. والثالث: أن يكون اشتراها بثمرتها بعد الإزهار والطياب وقد تقدم الكلام عليها. فصل ولو وجد المشتري الثمرة بعد الإبار وقبل الطياب، ثم استحق الأصل مستحق نظرت: فإن كان اشتراها قبل الإبار فهي غلة له ويرجع بجميع الثمن على البائع؛ وإن كان اشتراها بعد الإبار جرى الحكم فيها على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في العيوب، فتكون للمستحق على مذهب ابن القاسم - إن كانت قائمة بيده لم تفت، ويغرم له مكيلة خرصها - إن كانت فائتة، وعلى مذهب أشهب هي غلة للمشتري؛ وأما إن كان جدها المشتري قبل الإبار، فلا شيء للمستحق فيها باتفاق، وينظر: فإن كان ابتاعها وفيها ثمر، حاسبه البائع بما ينوبها من الثمن؛

فصل

وإن كان ابتياعه إياها قبل أن تكون لها ثمرة، فهي غلة لا يحاسبه البائع بشيء من ثمنها. فصل وحيثما وجبت الثمرة للمستحق، يجب للمشتري المستحق منه الرجوع عليه بالسقي والعلاج - إن كان عالج وسقى - حتى انتلفت الثمرة بسقيه وعلاجه من حال إلى حال على مذهب ابن القاسم وأشهب، وذلك مثل أن يشتري النخل ولا ثمرة فيها فيسقي ويعالج حتى تصير فيها ثمرة، ثم يستحقها مستحق؛ أو يشتريها وفيها طلع لم يؤبر فيسقى ويعالج حتى يؤبر ثم يستحقها منه مستحق بعد الإبار. ولو لم تنتقل بسقيه وعلاجه من حال إلى حال، لرجع أيضا به على مذهب ابن القاسم في الاستحقاق والبيع الفاسد والرد بالعيب على القول بأنه نقض بيع، والشفعة على القول بأن محملها محمل الاستحقاق لا محمل ابتداء بيع، والتفليس أيضا يتخرج الأمر فيه على قولين، وعلى مذهب ابن الماجشون وسحنون لا يجب للمشتري المستحق منه رجوع على المستحق بشيء مما عالج وسقى؛ فهذا تلخيص هذه المسألة، وهي إحدى المسائل الخمس التي تتشابه أحكامها وتفترق في بعض وجوهها. والثانية: الرد بالعيب. والثالثة: الأخذ بالشفعة. والرابعة: التفليس. والخامسة: الرد بالبيع الفاسد، وقد كتبتها في كتاب العيوب ملخصة فأغنى ذلك عن إعادتها هاهنا - وبالله التوفيق. فصل وإن كان الشيء المستحق من يد المشتري عبدا أو دابة فزعم المستحق منه

أن بائعه الذي باع ذلك منه غائب ببلد آخر، وأراد الذهاب به إلى ذلك البلد ليسترجع الثمن من بائعه، فذلك له بعد أن يضع للمستحق قيمته؛ فإن وضع له قيمته وذهب به إلى ذلك البلد بكتاب القاضي فوجد به بائعه فرجع عليه بحقه، وزعم البائع المرجوع عليه أن بائعه الذي باعه منه غائب ببلد آخر، وأراد الذهاب به إلى ذلك البلد، ليسترجع الثمن من بائعه؛ فذلك له أيضا بعد أن يضع للمستحق منه الذي رجع عليه قيمته بذلك البلد، إلا أن تكون قيمته بذلك البلد أقل من القيمة التي وضعها هو للمستحق، فليس له أن يأخذه ويذهب به حتى يضع له مثل القيمة التي وضع - وإن كانت قيمته بذلك البلد أكثر من القيمة التي وضعها هو، مثل أن تكون القيمة التي وضعها ثلاثين، - وقيمته بذلك البلد أربعون، لم يكن له أن يذهب به حتى يضع قيمته أربعين، لأن ذلك من حق المستحق صاحب الدابة أو العبد، فإن وضع الأربعين قيمة ذلك فذهب به وتلف قبل أن يرده، كانت الأربعون للمستحق صاحب الدابة أو العبد وأخذ المستحق منه الثلثين التي وضعها، وإن لم يتلف ورده، أخذ الأربعين التي وضع ورد المستحق منه الدابة أو العبد إلى صاحبه الذي استحقه، وأخذ الثلاثين التي وضعها له؛ وإن تلف في رجوعه به كان لصاحبه المستحق له الثلاثون التي وضع له، وكذلك إن أراد البائع الأول الذي رجع عليه واضع الأربعين أن يذهب به إلى بلد بائعه، لم يكن ذلك له حتى يضع للذي باع منه الأربعين التي وضع، أو قيمته - إن كانت أكثر من الأربعين، مثل أن تكون قيمتها خمسين، لأن ذلك من حق المستحق صاحب الدابة أو العبد وكذلك الحكم في البائع من البائع الأول إن أراد أن يذهب به إلى موضع بائعه لاستخراج حقه منه، وفي المرجوع إليه - أبدا من البائعين - ما تكرر وتناهى، وهذه مسألة لي فيها جواب وقد كتب عني ملخص مبين محتو على جميع فصولها يقف عليه من أراد أن يشفي نفسه بمعرفتها وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلح

كتاب الصلح ما جاء في الصلح قال الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين؛ وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وقال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسن: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذهب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف

فصل

ليصلح بينهم. «وروي أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: " اذهبوا بنا نصلح بينهم» «وعرض جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على غرماء أبيه أن يأخذوا الثمر بما لهم عليه فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال له: " إذا جذذته ووضعته في المربد فآذني "، فلما كان ذلك، آذنه فأتى هو وأبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فجلس عليه ودعا بالبركة فيه، ثم قال: " ادع غرماءك فأوفهم "، فكال منه لأهل دينه وبقي منه مثل الذي كان فيه بعد قضاء الدين». فصل فالإصلاح بين الناس فيما يقع بينهم من الخلاف والتداعي في الأموال وغيرها من نوافل الخير المرغب فيها المندوب إليها. ولا بأس على الإمام أن يشير على الخصوم بذلك، روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء - وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أين المتألي على الله؟ ألا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله. فله أي ذلك أحب». وروي «أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته فخرج حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك فقال: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، فقال كعب قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قم فاقضه» وهذا الحديث أصل لما تلهج العامة به من قولها خير الصلح الشطر، ولا صلح إلا بوزن.

فصل

فصل وإذا أشار الإمام على المتخاصمين بالصلح وندبهما إليه وحضهما عليه فأبيا أو أبى أحدهما، فلا يجبرهما عليه، ولا يلح عليهما فيه إلحاحا يشبه الإلزام؛ ولكنه يفصل بينهما بواجب الحق وصريح الحكم، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. روي في الصحيح «أن الزبير بن العوام خاصم رجلا من الأنصار في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: اسق واحبس حتى يبلغ الجذر». فاستوفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير حقه - وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استوفى للزبير حقه في صريح الحكم. قال عروة قال الزبير والله ما أحسب هذه الآية نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] إلا في ذلك. فصل وإنما ينبغي للإمام أن يندب المتخاصمين - إلى الصلح ويديرهما - عليه ما لم يتبين له أن الحق لأحدهما، فإذا تبين له ذلك، لم يتأن في الحكم له - رجاء أن يصالحا، فقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رسالته إلى أبي موسى الأشعري، فاحرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء. فصل ولا يجوز الصلح بالحرام قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصلح جائز بين المسلمين،

فصل

إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا». فكل ما يتراضى عليه المتصالحان فهو جائز ما لم يجر ذلك إلى تحليل حرام أو تحريم حلال، واختلف فيه إذا وقع: فقيل إنه يفسخ ويرد ولا يمضي وهو قول جمهور أهل العلم، وذهب أصبغ إلى أنه يجوز في وجه الحكم ولا يحل له فيما بينه وبين الله أن يأخذ إلا ما يجوز في التبايع؛ واحتج لذلك بما روي أن علي بن أبي طالب أتي بصلح فقرأه فقال: هذا حرام، ولولا أنه صلح لفسخته - والأول أصح، لثبوته عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قولا وعملا؛ فأما قوله فهو ما روي عنه في الصحيح أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وأما عمله وقضاؤه فهو ما حكاه مالك في موطئه من رواية أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر الحديث بطوله إلى قوله: " أما غنمك وجاريتك فرد عليك» ". وأبطل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. فصل والصلح إنما هو قبض شيء عن عوض، فهو يشبه المبايعة ويجري مجراها في أكثر الوجوه؛ فلا ينبغي أن يمضي فيه؛ الحرام كما لا يمضي في البيوع، ولا اختلاف إذا انعقد الصلح بين المتصالحين على حرام لا يحل لواحد منهما في أنه يفسخ، مثل أن يدعي رجل على رجل أن له عليه عشرة دنانير فيقر له منها بخمسة وينكر الخمسة، فيصالحه عن جميع دعواه بدراهم إلى أجل، وما أشبه ذلك؛ وإنما يختلف إذا انعقد الصلح على حرام في حق أحد المتصالحين دون صاحبه، مثل أن يدعي عليه عشرة دنانير فينكره فيها فيصالحه عنها بدراهم إلى أجل، لأن المدعي لا يحل له أن يأخذ في عشرة دنانير له دراهم إلى أجل، والمدعى عليه جائز له أن

فصل

يصالحه عن يمينه الواجب له عليه بدعواه على دراهم إلى أجل؛ فهذا أمضاه أصبغ، ولم يفسخه بحكم على ما جاء عن علي بن أبي طالب، والمشهور أنه يفسخ، وأما الصلح المكروه فقيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا عثر عليه بحدثانه ما لم يطل، وهو أن يقع بين المتصالحين على وجه ظاهره الفساد ولا يتحقق في جهة واحدة منهما مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم وينكره فيها ولا يقر له بشيء منها، فيصالحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه بما يدعيه قبله إلى أجل، لأن كل واحد منهما يقول: لا حرام فيما فعلت، لأني واهب لما أعطيت؛ والظاهر أن كل واحد منهما أخر صاحبه بما له عليه على أن يؤخره بما له عليه، فيدخله أسلفني وأسلفك، ويخشى أن يكون لكل واحد منهما على صاحبه بعض ما يدعيه عليه، فيكون كل واحد منهما قد أخر صاحبه بما له عليه على أن يزيده فيه، وذلك الربا المحرم بالقرآن؛ فقف على أنها ثلاثة وجوه: وجه يفسخ فيه الصلح باتفاق. ووجه يفسخ فيه على اختلاف. ووجه لا يفسخ فيه باتفاق إلا أن يعثر عليه بحدثانه فيفسخ على اختلاف. فصل ومن مسائل الصلح التي تجري مجرى البيوع فيما يحل فيها ويحرم منها - مسألة الصلح في العيب يوجد بالعبد وهي مسألة وقعت في المدونة ناقصة الوجوه غير كاملة المعاني، فرأيت أن أوردها هنا باستيعاب وجوهها وكمال معانيها - إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله؛ فإذا باع الرجل عبدا فادعى المبتاع أن به عيبا وأراد مصالحة البائع، فإن الأمر لا يخلو في ذلك من وجهين:

فصل

أحدهما: أن يكون العبد فائتا. والثاني: أن يكون قائما. فصل فأما إن كان فائتا فلا يخلو الأمر من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون باعه بنقد فانتقد. والثاني: أن يكون باعه بنقد فلم ينتقد. والثالث: أن يكون باعه إلى أجل. فأما إذا باعه بنقد وانتقد ثم وجد المبتاع به عيبا بعد فواته، فجائز للبائع أن يصالحه على دنانير أو دراهم أو عروض نقدا بعد معرفتهما بقيمة العيب؛ لأن قيمة العيب من الثمن الذي نقد، قد وجبت للمبتاع قبل البائع فجائز له أن يبيعها بما شاء إذا تعجل، ولا يجوز له أن يصالحه على دراهم إلى أجل - إن كان البيع بدنانير، ولا على عروض إلى أجل لأنه يدخله في العروض فسخ الدين في الدين، وفي الدراهم الصرف المتأخر؛ وإن صالحه على دنانير إلى أجل لم يجز إلا أن يكون مثل قيمة العيب فأقل، فإن كانت أكثر من قيمته فلا يجوز. فصل وأما إن لم ينقد الثمن حتى اطلع على العيب فجائز للبائع أن يصالحه على عرض معين يدفعه، أو موصوف إلى أجل يجوز إليه السلم، ولا يجوز بدراهم نقدا ولا إلى أجل، إلا أن يكون يدا بيد مثل الصرف وأما بالذهب فلا أعرف في ذلك نص رواية والنظر يوجب - عندي ألا يجوز على مذهب مالك إلا مراطلة كفة بكفة بعد معرفتهما بقيمة العيب وتقاربهما عليه.

فصل

وأما إن ادعاه المبتاع وأنكره البائع فلا يجوز وإن أحضر المبتاع قيمة العيب، من الذهب وراطله بها، لأنه لم يرض بهذه المراطلة إلا بما طرح عنه البائع من مئونة إثبات العيب والعناء في ذلك أو اليمين؛ لأن البائع لو نكل عن اليمين وجبت على المبتاع فصار إنما رضي بالمراطلة بما أسقط عنه من اليمين، فيدخله التفاضل بين الذهبين؛ وأما على مذهب ابن القاسم، فينبغي أن يكون الصلح بالذهب جائزا إذا أحضر قيمة العيب وراطله بها. وإن كان البائع منكرا للعيب، لأن المبتاع إن نكل يدعي باطلا فلا يجوز له أن يأخذ منه قليلا وكثيرا. وإن كان يدعي حقا، فجائز له أن يراطله بما يعلم أنه قد سقط من قيمة العيب، وإنما الذي يجوز بلا كلام أن يحط عنه من الثمن الذي عليه ما يتفقان عليه من قليل أو كثير. فصل وأما إن كان الثمن مؤجلا، فجائز له أن يصالحه على عروض أو طعام نقدا، ولا يجوز على عروض مؤجلة؛ لأنه يدخله الدين بالدين؛ ولا على دراهم نقدا ولا إلى أجل، وأما الدنانير فقال في المدونة: إنه لا يجوز، فقيل إن معنى ذلك إن كانت الدنانير التي صالحه عليها أقل من قيمة العيب. وأما إن كانت مثلها أو أكثر منها، فذلك جائز؛ لأنه لا يتهم أن يعطي ذهبا ويأخذ مثلها أو أقل منها - إذا حل الأجل؛ هذا تأويل ابن أبي زيد وأحمد بن خالد؛ وقيل إن ذلك لا يجوز بحال وإن كانت الدنانير مثل قيمة العيب أو أكثر منها إذا كان البائع منكرا للعيب، لأن البائع إنما رضي بدفع دنانيره في مثلها أو في أقل منها إلى أجل، لما طرح عنه المبتاع من الخصومة في قيمة العيب، فصار ذلك سلفا جر نفعا، ودنانير في دنانير إلى أجل.

فصل

فصل وأما الوجه الثاني - وهو أن يكون العبد قائما لم يفت، فلا يخلو أيضا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون باعه بنقد فانتقد. والثاني: أن يكون باعه بنقد فلم ينتقد. والثالث: أن يكون باعه بثمن إلى أجل. فصل فأما الوجه الأول وهو أن يبيعه بنقد فينتقد ثم يجد المبتاع به عيبا فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يصالحه البائع بشيء يعطيه على ألا يرده عليه. والثاني: أن يصالحه المبتاع بشيء يعطيه على أن يرده عليه. فصل فأما إذا صالحه المبتاع بشيء يزيده على أن يرده عليه، فإن كانت الزيادة عرضا فلا بأس به نقدا أو إلى أجل؛ وإن كانت الزيادة ورقا وقد باع بذهب، فلا بأس به نقدا إذا كان أقل من صرف دينار، ولا يجوز إلى أجل؛ وإن كانت الزيادة ذهبا، فلا تجوز نقدا ولا إلى أجل، لأنه ذهب وعرض بذهب؛ فلا يجوز إلا على المقاصة. وأما إن صالحه البائع بشيء يزيده على ألا يرده عليه، فإن كانت الزيادة دنانير نقدا وقد باع بدنانير فذلك جائز؛ لأنه كان استرجع ذلك من الثمن وأمضى العبد بما بقي. فإن كانت الزيادة دنانير إلى أجل، فلا يجوز لأنه بيع وسلف؛ وإن

فصل

تأخرت الدنانير من غير شرط، فذلك جائز، وإن صالحه على دراهم إلى أجل، فلا يجوز؛ لأنه يدخله الصرف المتأخر كأنه باع منه عبدا ودراهم إلى أجل بدنانير نقدا؛ وإن كانت الدراهم نقدا، فذلك جائز إن كانت أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ ويجوز على مذهب أشهب - وإن كانت أكثر من صرف دينار. وإن كانت الزيادة عروضا نقدا. فذلك جائز - وإن كانت العروض إلى أجل فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فأجازه مرة ومنع منه أخرى. فصل وأما الوجه الثاني - وهو أن يبيعه بنقد، فلا ينتقد حتى يجد المبتاع عيبا فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يصالحه البائع بزيادة على ألا يرده عليه. والثاني: أن يصالحه المبتاع بزيادة على أن يرده عليه. فأما إذا صالحه البائع على أن لا يرده عليه ويزيده، فإن كانت الزيادة دنانير، لم يجز إلا أن تكون مقاصة؛ لأنه إذا انتقده يصير قد باع عبدا ودنانير بدنانير، وإن زاده دراهم لم يجز إلا أن يكون نقدا، ويكون أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ وإن زاده عروضا نقدا أو مؤجلة موصوفة، فذلك جائز، وأما إذا صالحه المبتاع على أن يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة دنانير نقدا، فذلك جائز؛ وإن كانت الزيادة إلى أجل، لم يجز؛ لأنه بيع وسلف أعطاه العبد ببعض الثمن الواجب له عليه على أن يؤخره ببقيته، وإن كانت الزيادة دراهم يسيرة أقل من صرف دينار جاز؛ لأنه كأنه قد باع منه العبد ببعض الثمن على أن صرف منه بقيته، وإن كانت الزيادة عرضا نقدا، فذلك جائز؛ وإن كانت الزيادة شيئا إلى أجل، لم يجز لأنه فسخ دين في دين.

فصل

فصل وأما الوجه الثالث وهو أن يشتري منه العبد بدنانير إلى أجل ثم يجد المبتاع به عيبا، فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يصالحه البائع على ألا يرده عليه. والثاني: أن يصالحه المبتاع على أن يرده عليه. فأما إذا صالحه البائع على ألا يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة دنانير - وقد كان باعه إياها بدنانير، فإن كانت الدنانير نقدا أو إلى غير أجل الثمن، فلا يجوز، لأنه كأنه قد باعه عبدا ودنانير بدنانير إلى أجل؛ وإن كانت الدنانير إلى أجل الثمن فذلك جائز، لأنه مقاصة إذا حل الأجل قاصه بها من الثمن وأخذ بقيمته فكأنه حط عنه بعض الثمن من أجل العيب الذي طعن فيه. وإن كانت الزيادة دراهم فلا يجوز نقدا كانت أو مؤجلة؛ وإن كانت الزيادة عروضا فذلك جائز نقدا ولا يجوز إلى أجل، وأما إذا صالحه المبتاع على أن يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة عرضا معجلا، فذلك جائز - ولا يجوز إلى أجل، وإن كانت الزيادة دنانير معجلة أو مؤجلة، لم يجز إلا إلى ذلك الأجل بعينه؛ لأنه يكون مقاصة، وإن كانت الزيادة دراهم، لم يجز نقدا ولا إلى أجل، لأنه إن كانت الزيادة عرضا مؤجلا دخله فسخ الدين في الدين: فسخ ما وجب عليه من الثمن المؤجل في عرض معجل وهو العبد، وعرض مؤجل وهي الزيادة؛ وإن كانت الزيادة دنانير نقدا وقد باعه بدنانير، دخله ما يدخل إحدى مسألتي ربيعة: ضع وتعجل، وعرض وذهب بذهب - إلى أجل، وكذلك إن كانت الدنانير التي زاده مؤجلة، وإن كانت الزيادة دراهم نقدا أو مؤجلة دخله الصرف المتأخر؛ هذا تحصيل هذه المسألة فانحصرت وجوهها إلى تسع مسائل: ثلاث في فوات العبد، وست في قيامه، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب العرايا

كتاب العرايا فصل في اشتقاق لفظ العرية العرية مأخوذة من قولهم عروت الرجل أعروه إذا جئته تلتمس بره ومعروفه، من قوله عز وجل: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. وقيل إنها مأخوذة من تخلي الإنسان عن ملكه على الثمرة، من قوله عز وجل: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145]. وقيل: إنما سميت عرية، لأنها تعرى من المساومة عند البيع إذا جعلها عامة للمحتاج، والفعل الإعراء من أعرى يعري إعراء؛ قال صاحب العين فعلى هذه الوجوه: العرية اسم للثمرة الموهوبة، وقد قيل إن أصل هذه الكلمة مأخوذة من النخل تعرى من ثمرتها بالهبة لثمرتها، فسميت عرية لذلك؛ فعلى هذا تكون العرية اسما للنخلة التي وهبت ثمرتها لا للثمرة الموهوبة، والأول أظهر وأولى لتأييد الآثار له. فصل في معنى الإعراء والإعراء: هبة الثمرة في أصول الشجر والثمرة الموهوبة هي العرية، والعرية تختص بالرخصة الواردة فيها عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويكون سقيها

فصل

وزكاتها على المعري إذا سماها عرية على مذهب ابن القاسم؛ فإن لم يسمها عرية - وإنما قال وهبتك الثمرة، لم تختص بالرخصة، وكان السقي والزكاة على الموهوب له، وذهب ابن حبيب إلى أن هبة الثمر في رؤوس الشجر عرية - سماها عرية أو هبة، تختص بالرخصة وتكون الزكاة والسقي على المعري والواهب؛ وحكى سحنون في المدونة عن كبار أصحاب مالك أنهم لم يفرقوا في السقي والزكاة بين العرية والهبة يريد وإن افترق ذلك عندهم في الرخصة الواردة، فإنه لا يفترق في السقي والزكاة، ويكون ذلك على المعرى والموهوب له، وحكى ابن المواز أنهم لم يختلفوا في سقي العرية أنها على المعرى، وإنما اختلفوا في زكاتها فقال أشهب: إنها على المعرى كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو؛ قال: وما روي عن مالك أنها على رب الحائط رمية رمى بها، والصحيح أن الاختلاف داخل في السقي أيضا على ما ذكرناه، وكثيرا ما يفعل هذا محمد بن المواز ينفي الاختلاف الموجود، وسحنون يقول إن كانت العرية بيد المعري يسقيها ويقوم عليها، فالزكاة عليه، وإن كانت بيد المعرى يسقيها ويقوم عليها فالزكاة عليه. فصل والمعنى في الفرق بين الهبة والعرية عند من فرق بينهما: أن العرية هي ما يقصد به المواساة في الثمرة لا - عين المعرى - على ما كان عليه الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من المواساة بثمر حوائطهم لمن لا حائط له؛ فكأنها على ملك المعري - ما لم تطب، يجب عليه سقيها وزكاتها، ولا تجب للمعرى إلا بالطياب - وإن قبضها قبل ذلك، إذ لم يقصد بها عينه؛ والهبة ما قصد بها عين الموهوب له، فخرجت عن ملك الواهب، ووجبت للموهوب له بالقبض. فصل والعرية هبة من الهبات، فإذا سماها عرية علم أنه قصد بها المواساة لا عين

المعرى، وإذا لم يسمها عرية وإنما قال وهبتك الثمرة احتمل أن يريد بها عين الموهوب له على سبيل الهبة المحضة له، وأن يكون إنما قصد بها المواساة على معنى العرية، لا عين الموهوب له، فحملها ابن القاسم على الهبة المحضة حتى يبين أنه أراد بها العرية؛ وحملها ابن حبيب على العرية حتى يبين أنه أراد الهبة المحضة؛ وأوجب كبار أصحاب مالك في المدونة السقي والزكاة في العرية على المعرى؛ ووجه ذلك أن العرية قد وجبت للمعرى بالقبض وجوبا لو أراد المعري صرفها إلى غيره، لم يكن ذلك له، فأشبه الهبة المحضة المقصود بها عينه؛ ويلزم على هذا أن تجب له وتورث عنه - إذا قبضها أبرت أو لم تؤبر - كالهبة؛ فيأتي على هذا التعليل فيما تجب به العرية للمعرى أربعة أقوال: أحدها هذا، والثاني: أنها تجب له بالإبار قياسا على قول أشهب في الحبس. والثالث أنها لا تجب لها إلا بالطياب، وهي رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم. والرابع: أنها تجب له وتورث عنه إذا قبض الأصول، وإن لم تطلع الثمرة بعد على ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة، القولان منها على القول بالعرية لا يقصد بها عين المعرى، وإنما يقصد بها المواسة، والقولان الآخران على القول بأن العرية يقصد بها عين المعرى، فلا تفترق من الهبة إلا في الرخصة. وأما قول من فرق بين الزكاة والسقي في العرية، فلا وجه له عندي من جهة النظر، لأن الثمرة إن كانت قد وجبت للمعرى بقبض الأصول أو بقبضها مع الطلوع على القول بأنها تجب له بذلك، وإن مات المعري، فيجب أن يكون عليه سقيها كما تكون عليه زكاتها؛ لأن من حق المعري أن يقول للمعرى: لا أسقي

فصل

الثمرة، إذ لا حق لي فيها - وأنت بالخيار إن شئت فاسق ثمرتك وإن شئت فدع؛ وإن كانت الثمرة لم تجب للمعرى إلا بالطياب على القول بأنها باقية على ملك المعري ما لم تطب؛ وإن قبضها المعرى فيجب أن تكون على المعرى زكاتها كما يكون عليه سقيها؛ ووجه الفرق بينهما من جهة الاستحسان: أن سقي الثمرة لما كان فيه منفعة الحائط سلمت الثمرة أو ذهبت كان السقي على ربه - وهو المعري؛ وإن كانت الثمرة قد وجبت للمعرى وكانت زكاتها عليه ولا يحمل ذلك القياس؛ لأن من حق صاحب الحائط ألا يسقي حائطه وإن تلف. فصل وأرخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيع العرية بخرصها، ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن نافع عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها». وعن داود بن الحصين، عن سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» شك داود: قال خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها، وأرخص في بيع العرايا بخرصها دليل على أن العرية اسم للثمرة الموهوبة لا للأصول التي أعريت ثمرتها. ومن قال إن العرية اسم للأصول التي أعريت ثمرتها، ذهب إلى أن معنى قوله أرخص في بيع العرايا، أرخص في بيع ثمرة العرايا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهل القرية، وهذا كثير في كلامهم، إلا أنه من المجاز، وحمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز.

فصل

فصل فبيع العرايا بخرصها إلى الجداد مستثناة من المزابنة وسائر وجوه الربى بالرخصة، لوجهين: أحدهما نفي الضرر الداخل على المعري ببقاء يد المعرى على عريته، وذلك أن الناس كانوا يتواسون فيما بينهم فيطعم من له نخل لمن لا نخل له - النخلة والنخلات من نخله، فكان يشق على المعري دخول المعرى عليه لجمع عريته والقيام عليها؛ لامتناعه بذلك من الانفراد في حائطه بأهله وولده - على ما جرت به عادتهم؛ فيؤدي ذلك من المشقة عليه إلى ما يمنع من الإعراء في عام آخر. والوجه الثاني القصد إلى المعروف والرفق دون المكايسة وذلك أن المعرى إذا احتاج إلى حفظ عريته وجمع سواقطها والقيام عليها، لزمه من المشقة في ذلك أكثر من قدر قيمتها، فيؤدي ذلك إلى أن لا ينتفع بعريته فاحتاج المعرى إلى من يكفيه مؤونته عريته، كما احتاج المعري إلى الانفراد في حائطه، فرخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا المعنى أن يخرص على المعري عريته التي أعراها ويكون عليه خرصها ثمرا عند الجداد إذا تراضيا بذلك واتفقا عليه. فصل فبيع العرية بخرصها من معريها، ليس ببيع على الحقيقة؛ وإنما هو معروف اتبعه معروفه الأول ونفى به الضرر على نفسه بأن التزم له عريته بخرصها إلى الجداد، كما تخرص عليه الزكاة التي تجب لأهل الزكاة، لما يلحقه من الضرر بمشاركتهم له في الحائط ويجري قياس جواز أخذ العرية بخرصها على خرص الزكاة بأن نقول إن هذا معنى حد الشرع بخمسة أوسق، فجاز أن تخرص ثمرته على أن يعطي مكيلة خرصه تمرا عند الجداد، أصل ذلك الزكاة؛ وإنما سماه

فصل

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيعا، لما فيه من معنى البيع - وإن لم يكن بيعا على الحقيقة؛ وهو أن مبتاع العرية بخرصها يملكها ويجوز له التصرف فيها، كما لو اشتراها بالدنانير والدراهم؛ ولا يجوز ذلك له أيضا إلا باجتماع منهما جميعا واتفاق ورضى واختيار كالبيع، بخلاف خرص الزكاة التي النظر فيها إلى الأمام، ولا خيار فيه إلى رب الحائط، فلذلك لم يرد فيه الشرع بلفظ البيع. فصل فمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجيز بيع العرية بخرصها إلى الجداد للعلتين جميعا، وابن الماجشون لا يراعي إلا الضرر ولا يرى العلة في جوازها سواه، والعلة التي هي أملك بجوازها نفي الضرر، ألا ترى أن شراء العرية في مذهب مالك وجميع أصحابه لا يجوز بخرصها إلا لمعريها، أو لمن صار إليه ثمر الحائط بشراء أو هبة أو غير ذلك من وجوه الملك. فصل ومن الحجة لمالك في ألا يجوز للمعرى بيع عريته ممن شاء بخرصها إلى الجداد مع ما تقدم من علة نفي الضرر - ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا» فقوله أهلها - يريد أهل الحائط المعرين للثمرة - والله أعلم؛ ودخل من صارت إليه الثمرة بوجه من وجوه الملك مدخلهم بالقياس، وفي بعض الآثار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها من معريها بخرصها ثمرا عند الجداد» وهذا نص في موضع الخلاف. فصل وقد ذهب جماعة من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل إلى أنه يجوز لصاحب العرية بيع عريته بخرصها ممن شاء على ظاهر ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها مطلقا من غير تقييد، وهو ظاهر قول

فصل

يحيى بن سعيد في المدونة؛ لأنه قال: العرية الرجل يعري الرجل النخلة والنخلتين يسميهما من ماله ليأكلها فيبيعها بثمر - لم يقل من المعري ولا من غيره، والقول ما قاله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذهب إليه؛ لأن المطلق يجب حمله على المقيد في هذه المسألة وفاقا بما دل عليه من الدليل. فصل وبيع العرايا لا يجوز بخرصها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا على ستة شروط: أحدها: أن تزهي الثمرة. والثاني: أن تكون خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. فإن زادت على ذلك لم يجز وقد قيل لا يجوز إلا في أقل من خمسة أوسق وهي رواية أبي الفرج عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الأظهر؛ لأن الأصل المنع لأنه مزابنة، فلا يستباح منه شيء إلا بيقين، لأن الشك لا يقدح في اليقين. والثالث: أن يعطيه الخرص عند الجداد، فإن أعطاه ذلك نقدا لم يجز. والرابع: أن يكون من صنفها، ونوعها، فإن كان من خلافها لم يجز. والخامس: أن تكون العرية مما ييبس ويدخر. والسادس: أن يبيعها من معريها أو ممن صار له ثمر الحائط، وعلى مذهب ابن القاسم في المدونة يحتاج في ذلك إلى شرط سابع - وهو أن يسميها عرية لا هبة مطلقة، لافتراق أحكام الهبة المطلقة عنده من العرية. فصل واتفق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وأبو حنيفة على جواز أخذ المعرى في عريته بخرصها ثمرا، إلا أنهم اختلفوا في تعليل ذلك؛ فأما مالك فقد

تقدم مذهبه؛ وأما الشافعي، فلم يقصد ذلك على العرية وأجاز بيع ما دون خمسة أوسق ممن الرطب في رؤوس النخل بالثمر يدا بيد، كان ذلك من عرية أو شراء أو لمن يريد أن يبيع ذلك المقدار من حائطه لعلة أو لغير علة، والرخصة عنده إنما وردت في المقدار المذكور فخرج ذلك المقدار من المزابنة، وما زاد عليه فهو منها؛ وإنما خصت عنده العرايا بالذكر في ذلك، لأن السؤال وقع عنها، أو لأنها إنما تقع في هذا المقدار في الأغلب من الحال؛ وقالوا أيضا إن العرية ليست اسما لما أعري ووهب وأعطي وإنما هو اسم لما أفرد عن جملة - سواء كان للهبة أو للبيع أو للأكل، كأنه عري عن الأصل وأفرد عنه؛ والصحيح ما قدمنا ذكره عن أهل اللغة أنه اسم للعطية مخالف الشافعي وما جاء في بعض الآثار من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها من معريها بخرصها تمرا عند الجداد» في ثلاثة مواضع. أحدها: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرط في جواز بيعها أن يكون من معريها دون غيره - وهو يجيز بيعها من المعري وغيره. والثاني: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيعها بخرصها تمرا عند الجداد، والشافعي يمنع ذلك عند الجداد، ويجيزه نقدا ويقول إن تفرقا قبل القبض فسد. والثالث: أن العرية اسم الفعل المعروف مستثنى من الأصول بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخراص خففوا، فإن في المال العرية والوصية. فأجراهما مجرى واحدا وهو يقول إنه المقدار وإن لم يكن عرية. وأما أبو حنيفة فعلته في جواز أخذ المعري عريته بخرصها أنها هبة مبتدأة على أصله أن للواهب الرجوع فيما وهب ما لم تحز عنه، فكأنه ارتجع عريته من

فصل

المعرى ثم وهبه تمرا عند الجداد؛ وإنما سمي بيعا على المجاز والاتساع، وأما على الحقيقة فلا يجوز ذلك، لأنه بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض وهذا أبعد الأقاويل؛ لأنه رد لأحاديث الرخصة في بيع العرية بخرصها جملة، وإبطال لفائدتها ومعناها، إذ الهبة المبتدأة لا يصح أن يشترط في جوازها أن يكون أصلها عرية، ولا أن يكون خمسة أوسق فدون هذا مما لا يصح لأحد أن يقوله ولا يعتقده؛ لانعقاد الإجماع على جواز ابتداء هبة القليل والكثير من غير حد ولا تقدير؛ ويلزم على قياس قوله ألا يجوز للمعرى بيع العرية بخرصها من المعري إذا قبض عريته - إما بقبض الأصول، وإما بقبضها مع الطلوع، إلا أن يكون من مذهبه أن القبض لا يكون إلا بالجد. فصل والعرية تجوز في الثمار كلها كان مما يدخر أو مما لا يدخر لعام واحد وأعوام كثيرة، لأنها هبة من الهبات؛ وأما أخذها بخرصها عند الجداد، فلا يجوز إلا فيما ييبس ويدخر من الثمر كالتمر، والعنب والتين، والجوز، واللوز، والزيتون، وما أشبه ذلك؛ هذا هو المشهور في المذهب الموجود لمالك في المدونة وكتاب ابن المواز والمبسوط، وقد روي عنه أيضا في كتاب ابن المواز أن ذلك لا يجوز إلا في النخل والعنب خاصة، وهو قول الشافعي. فصل وقد اختلف في الحيازة التي تصح بها العرية للمعرى إن مات المعري فقال ابن حبيب لا تصح العرية للمعرى إن مات المعري إلا أن يكون قد قبض الأصول وطلع فيها الثمر قبل موته، واختلف الشيوخ في تأويل ما في المدونة في ذلك،

وهل الهبة والصدقة بمنزلة العرية أم لا على ما أذكره إن شاء الله، أما أبو عمر بن القطان، فكان يقول قول ابن حبيب مفسرا لما في المدونة في العرية والهبة والصدقة، ولا فرق بين العرية والهبة والصدقة في أن المعري أو الواهب أو المتصدق، إذا مات فلا شيء للمعرى أو الموهوب له أو المتصدق عليه إلا أن يكون كل واحد منهم قد قبض الأصول قبل موته وطلعت فيها الثمرة، وكان يحتج لمساواته بين الهبة والعرية والصدقة برواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الهبات والصدقات من العتبية الواقعة في رسم الصلاة منه؛ ورأيت لأبي مروان بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يقول ما قال ابن حبيب خلاف لما في المدونة - يريد والله أعلم أن العرية تصح للمعرى بقبض الأصول في حياة المعري وإن لم تطلع فيها الثمرة على ظاهر ما وقع في كتاب الهبة والصدقة في الهبة والصدقة، فتستوي عنده الهبة والعرية في أنها تصح للمعرى والموهوب له بقبض الأصول وإن لم تطلع فيها الثمرة؛ وكان الفقيه أبو جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول قول ابن حبيب مفسر لما في المدونة في العرية، وخلاف لما فيها في الهبة والصدقة؛ ومذهبه في المدونة: الفرق بين العرية والهبة، هذا قوله وتأويله وهو أظهر التأويلات على ما في المدونة؛ وأشهب يقول إذا أبرت النخل قبل موت المعري صحت للمعرى، لأنه لا يمنع من الدخول إلى عريته؛ وأما إن قبض الأصول وحازها؛ فهي له وإن لم تؤبر. وأما إن مات المعرى فلا تجب لورثته العرية، وإن كان قد قبضها، إلا أن يكون مات بعد طيب الثمرة، هذه رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم في العتبية حملها محمل الحبس لا محمل الهبة، وذلك صحيح على قياس القول بأن السقي والزكاة على المعرى، ويلزم على قول أشهب في الحبس أن الثمرة تجب لورثة المحبس عليه بالإبار: أن تجب أيضا لورثة المعرى بالإبار، وبالله التوفيق.

كتاب الجوائح

كتاب الجوائح فصل في بيان معنى الجائحة من القرآن قال الله عز وجل: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117]، وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، وقال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39] {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42]. وقال تعالى:

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، يقول تبارك وتعالى: إنا اختبرنا وامتحنا مشركي قريش، كما امتحنا أصحاب الجنة وأصحاب الجنة هؤلاء على ما ذكر بعض أهل التفسير قوم كانت لهم جنة وهي البستان ويقال إنها أرض باليمن يقال لها ضوران فكان فيها رجل من بني إسرائيل كانت له هذه الجنة فكان يؤدي حق الله فيها إلى المساكين؛ وجاء في التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي، وجاء أيضا أنه كان يترك ما أخطأ المنجل، وما كان في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما خرج عن البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير؛ فلما مات ورثه بنوه فقالوا والله إن كان أبونا لأحمق حين كان يطعم المساكين - ونحن جماعة؛ فإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضعنا، فحلفوا ليصرمنها بسدفة من الليل، قال الله عز وجل: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18]، أي لم يقولوا: إن شاء الله فلما كان في أول الوقت الذي اتعدوا فيه في أول الصبح بسدفة، غدوا إلى جنتهم ليصرموها؛ {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] أي على جد من أمرهم؛ وقيل على قصد أي قادرين في أنفسهم على قصد جنتهم، لا يحول بينهم وبينها آفة؛ وقيل على منع قادرين، من قولهم حاردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الناقة إذا ارتفع لبنها. وقيل على غضب، فلما رآوها أي رأوا جنتهم أنكروها من سوادها: فقال بعضهم لبعض: إنا لضالون أي طريق الجنة وما هذه جنتنا؛ فلما تبينوا، قالوا بل نحن محرومون أي حرمنا ما كنا نأمل فيها من القوت والسعة على أهالينا وأيتامنا، قال أوسطهم أي أعدلهم ألم أقل لكم لولا تسبحون أي تستثنون في قسمكم؛ وقال بعضهم أي تصلون؛ فقال وظنوا أنهم أوتوا من قبل ترك الصلاة؛ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29]

فصل

أي ننزه ربنا عز وجل عن بخلنا ولومنا، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19]، أي أتاها ليلا، والطائف لا يكون إلا بالليل، فإذا كان بالنهار قالوا طفت به نهارا: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]، أي كالليل الأسود. والصريم أيضا النهار - وهو من الأضداد، وقيل كالصريم أي كالمقطوع من أصله، وقيل كالصريم أي كالمصروم الذي قد أخذ حمله، أي ليس فيها ثمر. وقيل فأصبحت كأرض تدعى الصريم - وهي أرض باليمن معروفة على ستة أميال من صنعاء. فصل فالجوائح من الله تعالى ابتلاء منه يبتلي به عباده بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. فصل فمن أصيب بجائحة فصبر واحتسب ورضي بقدر الله وسلم لأمره، كان من المهتدين المبشرين من الله بالصلاة والرحمة - حيث يقول تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] فصل فإذا نزلت بالرجل جائحة في شيء مما اشتراه من الثمار أو ما تخرجه الأرض من غير الثمار، فإن أهل العلم اختلفوا في وضع الجائحة عنه اختلافا كثيرا إذا كان قد اشترى ذلك دون الأصل، أو اشتراه مع الأصل بعد حلول بيعه؛ وأما إن اشتراه مع الأصل قبل حلول بيعه، فلا جائحة فيه بإجماع.

فصل

فصل وهذا الاختلاف مبني على خمس مسائل هي أصله وعليها مداره: إحداها: معرفة وجوب وضع الجائحة. والثانية: معرفة الحال التي توضع فيها. والثالثة: معرفة مقدار ما يوضع منها مما لا يوضع. والرابعة: معرفة ما يوضع فيه مما لا يوضع. والخامسة: معرفة ما هو جائحة يجب وضعها مما ليس بجائحة يجب فيه الوضع. فصل فأما وجوب وضع الجائحة في الجملة فالأصل فيه ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح، وما روي أنه قال «من باع ثمرة فأصابتها جائحة فلا يأخذ من مال المشتري شيئا على ما يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق» وما روي أنه «نهى عن بيع الثمار حتى تزهى وقال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه». فصل فأخذ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه بهذه الآثار وتقلدوا الحكم بوضع الجائحة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه وأصحابهما. فقالوا إذا قبض المشتري لم يوضع عنه للجائحة شيء أصلا، وعللوا هذه الآثار بعلل يطول جلبها، واحتجوا لمذهبهم بظواهر آثار لا حجة لهم فيها، من ذلك ما روى أبو سعيد الخدري «أن رجلا ابتاع ثمارا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأصيب فيها، فكثر دينه فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالصدقة عليه، فتصدق عليه فلم يكن فيما

فصل

تصدق به عليه وفاء دينه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك». قالوا ولو كان له حق أن يرجع على البائع، لقال ذلك له، وهذا لا حجة لهم فيه كما قلنا لأنه حكاية عن فعل وقضية في عين، فيحتمل أن يكون أصيبت بعدما استجدت أو أصيب منها ما دون الثلث أو سرقة أو غير ذلك مما لا يوجب له الرجوع على البائع، أو يكون البائع لم يوجد أو لم يكن له ماله، وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات، بطل الاحتجاج به؛ واحتجوا أيضا بما روي «أن رجلا ابتاع ثمر حائط فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه أو يقيله، فحلف ألا يفعل؛ فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تألى ألا يفعل خيرا، فسمع ذلك رب الحائط فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هو له» ... ولم ينقل أنه أجبره على ذلك، بل ظاهر قوله: «تألى أن لا يفعل خيرا»، أنه على وجه الطوع وهذا لا حجة لهم فيه أيضا، لأنه لم يذكر في الخبر أن جائحة أصابته، فلعله إنما كان خسرانا في الثمن، وحوالة في الأسواق: وهو الظاهر من قوله: فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان؛ وهذا لا يوجب على البائع شيئا، واحتجوا لذلك أيضا بالقياس على العروض والحيوان. وهذا لا يلزم، لأن العروض والحيوان لم يبق على البائع فيها بعد القبض حق توفية، وليس كذلك الثمار؛ لأنه قد بقي عليه فيها حق توفية، بدليل أن الجائحة لو أصابتها من قبل العطش لكانت من البائع - وفاقا، فليست التخلية بمجردها قبضا تاما، ولو كانت مقبوضة للمشتري بمجرد التخلية، لكان ضمانها منه كالعبد والثوب. فصل وأما معرفة حال وضعها، فإنه يجب وضع الجائحة في الثمرة إذا أجيحت في حال يفتقر فيه إلى بقائها في الأصول، وذلك أن الجائحة في الثمرة إنما وجب

فصل

وضعها عن المبتاع من أجل ما بقي له على البائع من حق التوفية، إذ لم يقبضها بقبض الأصول قبضا تاما ناجزا لبقاء السقي على البائع فيما يحتاج منها إلى السقي، والإجماع على الرجوع عليه بما يكون من جائحة بسببه، ولافتقار الثمرة إلى بقائها في الأصول، تفصيل في بعض وجوهها اختلاف سيأتي بيانه في التكلم على المسألة الرابعة - إن شاء الله. فصل وأما معرفة قدر ما يوضع منها مما لا يوضع، فإنما يجب وضعها في مذهب مالك وأصحابه إذا بلغت الثلث فأكثر، ولا توضع فيما دون ذلك، والفرق بين الموضعين من وجهين: أحدهما الظاهر. والثاني المعنى. فأما الظاهر، فهو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» والجائحة لا تنطلق إلا على ما أتلف جميع المال أو جله؛ وأما من ذهب اليسير من ماله فلا، ويبين ذلك أن من يملك ألف دينار إذا ذهب من ماله الدينار والعشرة والعشرون، لا يقال إن ماله اجتيح؛ وكذلك من سرق له من جملة متاعه الكثير - شيء يسير، لا يقال إن اللصوص اجتاحوا ماله؛ وإذا صح ذلك، ثبت الفرق في هذا بين القليل والكثير، وثبوت ذلك يقتضي فصلا بينهما ولا فصل إلا ما قلناه؛ لأن الثلث آخر من اليسير، وأول حد الكثير، يقوم ذلك بالاعتبار من نص التنزيل قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3]- يريد من النصف {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4]، يريد أيضا على النصف ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]،

فصل

فأخبر عز وجل عنه في هذه الآية بامتثال ما أمره به في أول السورة من القيام، فقوله تعالى: {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20]، هو قوله في أول السورة {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4]، يريد على النصف وقوله ونصفه هو قوله في أول السورة: نصفه وقوله: وثلثه، هو قوله في أول السورة أو انقص منه قليلا - يريد من النصف فدل ذلك على أن الثلث من النصف قليل، وذلك على قراءة من قرأ ونصفه وثلثه بالفتح فيهما جميعا - وهي أبين في المعنى من قراءة من قرأهما بالخفض. فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل ما يجب فيه اعتبار القليل من الكثير فإن الثلث عنده في حيز اليسير، إلا في ثلاثة مواضع، أحدها الجائحة، فإن الثلث فيها عنده في حيز الكثير يجب وضعه ومعاقلة المرأة الرجل، فإنها تعاقله فيما دون الثلث؛ فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى عقل نفسها، وما تحمل العاقلة من الدية فإنها تحمل الثلث فما فوقه ولا تحمل ما دونه؛ وما عدا هذه المواضع الثلاثة؛ فإنه يحكم فيها للثلث بحكم اليسير؛ والفرق عنده بين هذه المواضع الثلاثة وغيرها: أن هذه الثلاثة المواضع ليس فيها موضع قصد يراعى وما عداها يراعى فيها القصد، فلا يظن بأحد أنه يدخل في المحظور الكثير من أجل القليل. فصل وأما المعنى، فلان المشتري دخل لا محالة على ذهاب اليسير من الثمرة، وأنها لا تسلم كلها، هذا معلوم بالعادة لا يكلم من يدفعه، لأن من يقول إن المشتري دخل على أن تسلم الثمرة من ذهاب رطبه وبسره ورطل أو رطلين، أو اجتياز المعتفين أو أكل الطير اليسير، فقد خرج عن العادة؛ وإذا ثبتت ذلك اقتضى أنه لا يرجع في اليسير، وأنه يرجع بالكثير؛ لأنه لم يدخل عليه، وإنما دخل على سلامة الجل، فبان بذلك مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

فصل

فصل وهذا في الثمار، وأما البقول فاختلفت الرواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: فمرة قال يوضع فيها القليل والكثير، ومرة قال: حكمها حكم الثمار لا توضع الجائحة فيها إلا في الثلث فما زاد؛ فوجه قوله إنه توضع الجائحة فيها في القليل والكثير. «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بوضع الجوائح» عموما، فتناول ذلك الثمار والبقول، فخرجت الثمار من ذلك بما دل عليه من الدلائل، وبقيت البقول على الأصل في العموم، ولأن العادة في الثمار ذهاب بعضها للحاجة إلى تبقيتها على رؤوس النخل، فالمشتري على ذلك دخل، وليس كذلك البقول، لأنه لا عادة في تلفها ولا في تلف شيء منها، بل العادة سلامة جميعها؛ وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يوضع قليلها وكثيرها، ووجه قوله إنه إنما يوضع منها الثلث فصاعدا، الاعتبار فيها بسائر الثمار بعلة أنه وضع جائحة في نبات، وقد قيل عن مالك إنه لا توضع فيها جائحة أصلا، وقيل إنه ما جاز فيه المساقاة مع العجز كالفجل والاسفنارية واللفت فلا توضع فيه الجائحة إلا أن يبلغ الثلث، وما لا تجوز فيه المساقاة من البقول وضعت الجائحة في قليله وكثيره؛ وهذه رواية سحنون عن ابن القاسم في العتبية، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وهو خلاف لما في المدونة. فصل وأما معرفة ما توضع فيه الجوائح مما لا توضع فالأصل في ذلك أن كل ما لم يمكن المشتري أن يبين به إلا بفساد، كالثمرة التي يبتاعها عند بدء صلاحها، فلا يقدر على قطعها قبل أن يصل طيبها ويتناهى إلا بفساد لها، فإن الجائحة فيها ما لم يكمل طيبها ويتناهى باتفاق عند من أوجب الجائحة، لأن له حقا على البائع في إبقاء الثمرة في أصولها لصلاحها وكمال طيبها، فقد بقي له فيها عليه حق توفية، ألا

ترى أن السقي عليه إن كانت مما تسقى ولو أراد البائع أن يجبره على الجداد قبل انتهاء طيبها أو يبسها إن كانت مما لا يجد حتى ييبس، لم يكن ذلك له، وما كان مما يمكن المبتاع أن يأخذه ويبين به بغير فساد له، إلا أن على المشتري في تعجيل أخذ ذلك والبينونة به ضررا، إذ لم يشتر إلا على أن يجده ويأخذه على وجه ما يعرف من التراخي في ذلك، كالثمرة التي تقطع خضراء إذا اشتراها بعد انتهاء طيبها، أو اشتراها قبل انتهاء طيبها فاجتيحت بعد انتهاء طيبها وإمكان جدادها، بمضي مدة يمكنه ذلك فيها قبل بلوغ الحد الذي يعرف من التراخي في جدها، فيجري الأمر في هذا - عندي على اختلاف قول مالك في جائحة البقول مرة، قال فيها الجائحة، ومرة قال لا جائحة فيها؛ لأن العلة في وجوب الجائحة فيها هي أنها تلفت قبل بلوغ الحد الذي اشتراها عليه من التراخي في قطعها وفي سقوطها، هي أنه قد قبضها بتخلي البائع له عنها، فلو شاء أن يقطعها قطعا، ولم يكن في قطعه إياها فساد لها؛ فإنما قد تركها على ملك نفسه لمنفعة يرجوها، وهاتان العلتان موجودتان في الثمرة بعد انتهاء طيبها؛ وعلى هذا يأتي الاختلاف في جائحة القصب، ويدخل في الفول الأخضر؛ وأما إن اجتيحت الثمرة أو البقل بعد بلوغ الحد الذي يعلم من التراخي في جدها، فلا خلاف أنه لا جائحة في ذلك، لأن البائع لم يدخل معه على ذلك ولو اجتيحت الثمرة بعد انتهاء طيبها قبل أن يمضي من المدة ما يمكنه فيه جدها، أو أجيح البقل بعد انعقاد البيع وتخلي البائع له عنه قبل أن يمضي من المدة ما يمكنه فيها جده، لدخل الاختلاف في ذلك أيضا - عندي، وجرى على الاختلاف في ضمان المكيال إذا تلف بعد أن يمتلئ في يد المشتري قبل أن يفرغه في وعائه، فيأتي في المسألة على هذا التعليل ثلاثة أقوال: أحدها: أن الثمرة تدخل في ضمان المشتري ويسقط عن البائع فيها حكم الجائحة بتناهي طيبها - وإن لم يمض من المدة بعد تناهي طيبها ما يمكنه فيه قطعها.

فصل

والثاني: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن البائع حكم الجائحة إلا بعد تناهي طيبها، وإن لم يمض من المدة بعد تناهي ما لو شاء المبتاع أن يجدها فيه جدها. والثالث: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن البائع حكم الجائحة حتى يمضي من المدة بعد انتهاء طيبها ما جرى عليه العرف من التراخي في ذلك واشترى عليه المشتري ودخل عليه البائع، لأن العرف البين عندهم كالشرط، وهذه مسألة جيدة مستقصاة محصلة غاية التحصيل لم أرها مجموعة ولا محصلة ملخصة لمتقدم، ولا سمعتها من متأخر - والله الموفق للصواب الهادي بعزته. فصل وأما معرفة ما هو جائحة مما ليس بجائحة، فتحصيله أن الجوائح تنقسم على قسمين: أحدهما: ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن دفعه والاحتراس منه. والثاني: ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه والاحتراس منه. فأما ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن الاحتراس منه وقدر على دفعه فليس بجائحة أصلا. وأما ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه ولا قدر على الاحتراس منه، فإن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق فيه. والثاني: أن يكون من اكتساب المخلوقين المكلفين. فأما ما كان من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق مكلف فيه، فلا اختلاف أنه جائحة يجب القضاء بها، كالريح تسقط الثمرة أو تفسدها. قال الله عز وجل {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]

فصل

وقال تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117]، أو المطر قال الله عز وجل: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، أو البرد: قال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ} [النور: 43]، وكذلك ما أشبهه من الجراد والجليد والطير الغالب. وأما انقطاع الماء، فإنه جائحة في القليل والكثير بإجماع واتفاق، قال الله عز وجل: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41]. فصل وأما ما كان من اكتساب المخلوقين المكلفين ولا يمكن الاحتراس منه كالجيش والسارق، فاختلف فيه هل هو جائحة أم لا فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك جائحة، لأنه عنده مما لا يمكن الاحتراس منه، ولا يقدر على دفعه، وذهب ابن الماجشون ومطرف إلى أن ذلك ليس بحائحه، لأن ذلك مما يمكن عنده دفعه؛ لأن السلطان يكف الجيش ويمنعه؛ وكذلك السارق يتحصن منه؛ وقال ابن نافع الجيش جائحة وليس السارق بجائحة، فكأنه رأى أن الجيش مما لا يمكن دفعه، وأن السارق يقدر على التحفظ منه والتحصن عنه. ومن أهل العلم من يرى أن الجائحة توضع في القليل والكثير - وهو قول أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث، وأحد قولي الشافعي؛ ففي المسألة ثلاثة أقوال القولان: طرفان في الإغراق، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه عدل بينهما، وكذلك تجد مذهبه أبدا أعدل المذاهب وأوسطها، فإنه كان موقفا مؤيدا، فهذه جملة تبنى عليها مسائل الكتاب - إن شاء الله، وبه التوفيق.

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة المساقاة عمل الحائط على جزء من ثمرته، وهي مأخوذة من السقي لأن السقي جل عمل الحوائط، وهو يصلح ثمرتها وينميها؛ قال الله عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. فصل «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وعن بيع الغرر، وعن الاستئجار بأجر مجهول» فقال «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم»، والمساقاة من بيع الغرر، ومن الاستئجار بأجر مجهول، ومن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، إلا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى يهود خيبر يوم افتتحها في النخل على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، والنصف يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فقال لهم: " أقركم ما أقركم لله على أن الثمرة بيننا وبينكم "، فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول لهم: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه.» فكان هذا من

فصل

فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصصا لما نهى عنه من بيع الغرر ومن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ومن الاستئجار بأجر مجهول، لأن ذلك عموم ومساقاته ليهود خيبر في النخل خصوص، والخاص يحمل على التفسير العام، والتخصيص له والبيان للمراد به. فصل فالمساقاة جائزة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وعند الشافعي؛ وخالف في جوازها أبو حنيفة؛ والدليل على صحة قول من قال بجوازها، «أن رسول الله ساقى يهود خيبر على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، وكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرصها عليهم» ثم أقرهم أبو بكر على ذلك ثم عمر بن الخطاب إلى أن بعث ابنه عبد الله ليخرص عليهم، فسحروه فتكوعت يده؛ ثم إنه أجلاهم عنها إلى الشام. ثم عمل عثمان بعده على المساقاة والخلفاء بعده؛ وفي إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يهود خيبر على مساقاتهم التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعمل الخلفاء بعدهما بها، بيان واضح على أن المساقاة حكم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، محكم غير مفسوخ؛ هذا من طريق الأثر، ومن طريق النظر أيضا: أن الأصول مال لا ينمو بنفسه ولا تجوز إجارته وإنما ينمى بالعمل عليه، فجاز العمل عليه ببعض ما يخرج منه كالقراض، بل المساقاة أولى بالجواز من القراض، لأن الغرر والخطار في القراض أكثر، لأنه قد يكون في المال ربح، وقد لا يكون فيه ربح، وجواز أحد الأمرين كجواز الآخر، ليس أحدهما أغلب من صاحبه، والنخل قد أجرى الله العادة بأن تحمل كل سنة، فلا بد أن يكون للنخل ثمرة في الغالب من الأحوال؛ وهذا بين وإنما قلنا في قياسنا هذا ولا تجوز إجارته تحرزا من أن يلزمنا عليه كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها.

فصل

فصل وذهب من خالفنا في جواز المساقاة إلى أن فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع يهود خيبر منسوخ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، وقالوا هو مشتق من خيبر - ومعناه النهي عن العمل الذي فعل بخيبر، وذلك ليس بصحيح، لأن عقود المعاوضات لا يشتق لها الأسماء من أماكنها بخلاف قولهم أتهم وأنجد لأنا قد عرفنا من لغة العرب اسم الفاعل من نزوله بالمكان، وعقود المعاوضات بخلاف ذلك؛ ولأن العرب كانت تعرف المخابرة قبل الإسلام، وهو عندهم اسم لكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الصحابة قد عملوا بالمساقاة بعده، فبطل ما ادعوه بكل وجه. فصل وعللوا أيضا حديث المساقاة بأن قالوا إن أهل خيبر كانوا عبيدا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمين، لأن الله تعالى أفاء عليهم خيبر وأهلها، فلذلك جازت المساقاة بينه وبينهم على جزء من الثمرة، وصح أن تخرص الثمرة عليهم فيخيرهم الخارص بين أن يلتزموا نصيب المسلمين بما خرصه به، أو يلتزم هو نصيبهم على ما ورد في الحديث، وهذا ما لا يصح؛ ولنا عنه أجوبة، منها أن عبد الله بن رواحة كان يخرص عليهم، فقالوا له أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم؛ وعلى قولهم: إن السيد لا يصح ضمانه من عبده، لأن العبد لا يملك عندهم، فماله لسيده، وبيع الثمر في رؤوس النخل بخرصها إلى الجداد، من المزابنة التي لا تجوز إلا فيما خصصته السنة من بيع العرايا في خمسة أوسق، أو فيما دون خمسة أوسق. وقوله في هذا الحديث إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم، هو والله أعلم مما نسخ بنسخ الربا، لأنه متأخر - وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان من آخر ما أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة. وقد قيل إن ابن رواحة إنما كان يخرص ليعرف قدر الزكاة التي كانت تلزم المسلمين، كما يخرص

على المسلم حائطه لإحصاء الزكاة فيه، وهو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم سواه، والآثار لا تدل على ذلك، بل تدل على خلافه وعلى أن الخرص إنما كان فيما بينهم وبين المسلمين، ليضمنوا نصيب المسلمين بما خرص عليهم. روي «عن جابر بن عبد الله قال أفاء الله خيبر على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ثم قال: يا معشر اليهود، أنتم أبغض خلق الله إلي قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله؛ وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي» - يريد والله أعلم - بعد إخراج الزكاة من الجميع، لأن المساقاة إنما تزكى على ملك صاحب الحائط، لا على ملك العامل ولا على ملكهما؛ وروي «عن عبد الله بن عمر قال فخرصها عليهم عبد الله بن رواحة، فصاحوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خرصه، فقال لهم عبد الله بن رواحة أنتم بالخيار، إن شئتم فهي لكم، وإن شئتم فهي لنا بخرصها، ونؤدي إليكم نصفها؛ فقال بهذا قامت السماوات والأرض؛» وذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حلي نسائهم، فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة يا معشر يهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أخفف عليكم؛ فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض». فقوله في هذا الحديث خفف عنا وتجاوز في

القسم، يدل على أن الخرص إنما كان في القسمة بين المسلمين واليهود، فهو حجة لمالك فيما قاله، وتابعه عليه جميع أصحابه من جواز قسمة ثمر النخل بالقسمة بين الشركاء بالخرص، لأن اليهود كانوا. أشراكا للمسلمين في الثمر بعملهم؛ ويحتمل أن يكون هذا في طائفة من اليهود في بعض حصونهم ومواضعهم. وجاء في سائر الآثار من تضمين اليهود نصيب المسلمين بما خرص عليهم ومن تخييرهم في أخذه دون ذكر ضمان مع طوائف غيرها في مواضع سواها، لأن خيبر كانت حصونا كثيرة؛ فأما تخييرهم في أخذهم الثمر في رؤوس النخل بما خرص عليهم من الثمر، ليؤدوه عند الجداد من غير تضمين فليس بضيق، وقد أجازه جماعة من أهل العلم، وهو على قياس ما قاله مالك في الخرص بسبب الزكاة؛ وأما تخييرهم في التزامهم الثمرة في رؤوس النخل بما خرصت به عليهم من الثمر يؤدونه عند الجداد مضمونا عليهم فهو من المزابنة، ولا يكون ذلك إلا منسوخا كما ذكرنا - والله أعلم. وقد ذكر عن بعض أهل العلم إجازته وهو بعيد. وأما المساقاة فمحكمة غير منسوخة، بدليل ما ذكرناه من إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اليهود على المساقاة التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ ومن أجوبتنا على أن يهود خيبر لم يكونوا عبيدا للمسلمين. أن أبا بكر وعمر أقراهم على المساقاة، ثم أجلاهم عمر إلى الشام، ولو كانوا عبيدا للمسلمين، لم يكن ليتلف عليهم أموالهم، فليس أهل العنوة بعبيد إذا أقروا في مواضعهم، وضربت عليهم الجزية؛ وإنما هم أهل ذمة أحرار وقد سئل ابن القاسم عن نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة مثل أهل مصر، هل يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن؛ قال: لا يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن ولا إلى شيء من عوراتهن؛ قيل له ليس هن بمنزلة الإماء؛ قال: لا بل هن أحرار، كان دية من قتل منهن خمسمائة، ومن أسلم منهن كان حرا، فهن أحرار يحرم منهن ما يحرم من الأحرار؛

فصل

هذه رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب، واتقى في سماع سحنون منه تزويج بناتهم ولم يره حراما. فصل والمساقاة مستثناة من الأصول الممنوعة لضرورة الناس إلى ذلك وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للناس عمل حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها للاستئجار من ثمنها على ذلك - إن لم يكن لهم مال، فلهذه العلة رخص في المساقاة. فصل والمساقاة أصل في نفسها وعقد على حياله، فلا تنعقد إلا بلفظ المساقاة على مذهب ابن القاسم لو قال رجل لرجل أستأجرك على عمل حائطي هذا بنصف ثمرته، لم يجز على مذهبه؛ كما لا تجوز الإجارة بلفظ المساقاة، وذلك بين من قوله في الكتاب إذا ساقاه في ثمرة قد طاب بعضها أن ذلك لا يجوز وتكون إجارة؛ بخلاف قول سحنون فإنه يجيزها ويجعلها إجارة؛ ولمالك في كتاب ابن المواز مثله، وكلام ابن القاسم أصح، لأن المساقاة والإجارة أصلان، وأحكامهما مفترقة، فلا ينعقد أحدهما بلفظ الآخر. فصل وهي من العقود اللازمة تنعقد باللفظ وتلزم به؛ بخلاف القراض الذي إنما ينعقد ويلزم بالعمل لا باللفظ؛ واختلف في المزارعة: فقيل إنها تنعقد وتلزم باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد وتلزم إلا بالعمل، وقيل إنها تنعقد وتلزم بالشروع في العمل، وأما الشركة فإنها لا تلزم باللفظ ولا بالعمل واختلف بماذا تنعقد به فقيل إنها تنعقد باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد إلا بالعمل والقولان قائمان من المدونة.

فصل

فصل ولا تجوز المساقاة إلى أجل مجهول، وإنما تجوز إلى سنين معلومة وأعوام معدودة، إلا أنها تكره فيما طال من السنين وانقضاء السنين فيها بالأجرة لا بالأهلة فلا تجوز المساقاة إلى أشهر معلومة. فصل وليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليهود خيبر: «أقركم ما أقركم الله»، دليل على جواز المساقاة إلى أجل مجهول، لأن قوله ذلك إنما كان عدة منه لهم في أن يقرهم في المساقاة على شروطها - ما أقرهم الله أي لم يأمره الله تعالى بإجلائهم عنها، وترك معاملتهم فيها، وكان يرجو ذلك من الله، فلم يأذن له فيه إلا في مرضه الذي مات منه، فأوصى بذلك وأجلاهم عمر بعده لأنه ساقاهم مدة مجهولة أو مدى أعمارهم، وإنما قال ذلك لهم بعد عقد المساقاة معهم كما يقول الرجل للرجل إذا شاركه أو قارضه: أنت شريكي ما أحيانا الله، لا يريد بذلك ضرب مدة مجهولة، وإنما يريد إني أبقى معك على القراض. والشركة على شروطها؛ هذا تأويل الحديث عندنا - والله أعلم. وقد قيل إنه إنما قال ذلك لهم وكان يخرص عليهم، لأنهم عبيده أفاءهم الله بأرضهم عليه؛ ويجوز بين العبد وسيده من الغرر ما لا يجوز بين الأجنبيين، وقد تقدم تضعيف هذا التأويل فلا معنى لإعادة القول فيه. فصل وتجوز المساقاة في كل أصل له ثمرة ما لم يحل بيع الثمرة - كان الأصل ثابتا أو غير ثابت، إلا أنه ما كان ثابت الأصل كالنخل والشجر والزيتون فتجوز فيه المساقاة - عجز عنها صاحبها أو لم يعجز، وما كان غير ثابت الأصل كالمقاثي والباذنجان والكمون والزرع وقصب السكر، فلا تجوز فيه المساقاة حتى يعجز عنه صاحبه؛ هذا على مذهب مالك؛ وابن نافع يجيز المساقاة في ذلك كله - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز؛ والشافعي لا يجيز المساقاة إلا في النخل والكرم الذي جاء

فصل

فيه الخرص، وكان أبو عمر بن القطان يقول: المساقاة جائزة على ما في المدونة في الياسمين والورد والقطن - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز، خلاف المقاثي والزرع؛ وهو بعيد من التأويل، إذ لا يعضده دليل؛ وإذ لا فرق في حقيقة القياس بين القطن والزرع والمقاثي وقصب السكر في جواز المساقاة فيها من غير عجز، لأن أصولها غير ثابتة، بخلاف الياسمين والورد التي أصولها ثابتة، فلا ينبغي أن يختلف في أن المساقاة في الياسمين والورد جائزة على مذهب مالك - وإن لم يعجز صاحبها عن عملها؛ ولو قال قائل إن المساقاة في المقاثي والقطن وما كان في معناهما، جائزة. وإن لم يعجز صاحبها عن عملها، بخلاف الزرع وقصب السكر وما كان في معناهما، لكان له وجه، لأن هذه ثمار تجنى من أصولها، فأشبهت ثمار الأصول الثابتة والزرع وقصب السكر وما أشبههما لا تجنى من أصولها إلا بقطع الأصول، ففارقت ثمر الأصول؛ إلا أن هذا لم يقولوه ولا يوجد لهم، وليس في قوله في المدونة: لا بأس بمساقاة الياسمين والورد والقطن - ما يوجب استواءها في أنه لا بأس بالمساقاة فيها كلها وإن لم يعجز عنها، لاحتمال قوله: لا بأس بالمساقاة فيها كلها، إذا عجز عن عمل القطن منها. فصل ولا تجوز المساقاة في شيء مما ليس له أصل ثابت لأعوام ولا لعام واحد، إلا بعد أن ينبت ويستقل كالزرع سواء وقبل أن يحل بيعه. فصل ولا تجوز في شيء من البقول، لأن بيعها يحل إذا نبتت واستقلت، وأجاز ابن دينار فيها المساقاة، ومعناه إذا نبتت قبل أن يستقل على القول بجواز المساقاة - في الزرع إذا نبت قبل أن يستقل؛ لأن البقول إذا نبتت واستقلت، جاز البيع فيها، ولا تجوز مساقاة ما يجوز بيعه؛ واختلف في الفجل والاسفنارية فجعلهما في المدونة من البقول في حكم وضع الجائحة، فعلى قوله فيهما لا تجوز المساقاة

فصل

فيهما، لأن من أصل ابن القاسم أن كل ما وضعت الجائحة في قليله وكثيره، لم تجز المساقاة فيه، وما لم توضع الجائحة فيه إلا في الثلث، جازت فيه المساقاة؛ وروى سحنون عن ابن القاسم أن المساقاة جائزة فيهما أي في الفجل والاسفنارية، وعلته في جواز المساقاة فيهما: أن لهما حدا يجوز إليه بيعهما فيما لم يبلغا حد جواز البيع فيهما، أشبها الزرع وقصب السكر ونحو ذلك في جواز المساقاة فيها بعد نباتها واستقلالها. فصل وتجوز المساقاة على ما اتفقا عليه من الأجزاء، وعلى أن تكون الثمرة كلها له بعمله؛ وقد قيل إن إعطاء الرجل الرجل ثمر حائطه كلها بعمله فيه منحة وعطية كإخدام العبد، لأن المخدم ينفق عليه فيفتقر إلى الحيازة، ويبطل بالموت، وهو بعيد؛ ولا يجوز أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دنانير ولا دراهم ولا شيئا من الأشياء إلا ما استخف من اشتراط الشيء اليسير على العامل من العمل الذي لا يلزمه، مثل سد الحظيرة، وإصلاح الغفيرة وهي مجتمع الماء من غير أن ينشئ بناءها، لأن المساقاة عقد مستثنى من الأصول جوز للضرورة، فلا يجوز منه إلا قدر ما جوزه الشرع، والذي جوزه الشرع منه ما كان متعلقا بإصلاح الثمرة، وما زاد على ذلك كان ممنوعا بالأصل، لأنه إجارة مجهولة وبيع الثمر قبل بدو صلاحها. فصل وعمل الحائط على وجهين: فمنه ما يتعلق بإصلاح الثمرة. ومنه ما لا يتعلق بإصلاحها. فأما ما لا يتعلق بإصلاح الثمرة، فلا تجب على المساقي، ولا يصح أن يشترط عليه من ذلك إلا الشيء اليسير - كما تقدم.

فصل

وأما ما يتعلق بإصلاح الثمرة، فإنه ينقسم على ضربين: ضرب منه ينقطع بانقطاعها ويبقى بعدها الشيء اليسير. وضرب منه يتأبد ويبقى أثره. فأما ما ينقطع بانقطاع الثمرة ويبقى بعده الشيء اليسير، فهذا الذي يلزم المساقي ويجب له به العوض، وذلك مثل الحفر والسقي وزبر الكرم، وتقليم الشجر، والتسريب، وإصلاح مواضع السقي، والتذكير والجداد، وما أشبه ذلك. وأما ما يتأبد ويبقى بعد الثمرة مثل إنشاء حفر بئر أو إنشاء ظفيرة للماء، أو إنشاء غراس، أو بناء بيت تجنى فيه الثمرة كالجرين، وما أشبه ذلك فلا يلزم العامل، ولا يجوز اشتراطه عليه عند المساقاة؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه، فقد وقع له حصة من الثمن، وهو لو استأجره عليه على انفراده بجزء من الثمرة لم يجز، لأنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك إذا اشترطه عليه في المساقاة، لأن العوض قد حصل عليه في الموضعين. فصل فإذا وقعت المساقاة على غير الوجه الذي جوزه الشرع، فإنها تفسخ ما لم تفت بالعمل ويرد الحائط إلى ربه، واختلف إذا فاتت بالعمل ماذا يجب للعامل فيها بحق عمله على أربعة أقوال: أحدها: أنه يرد إلى إجارة مثله جملة من غير تفصيل، وهذا يأتي على قول عبد العزيز بن أبي سلمة في القراض الفاسد. والثاني أنه يرد إلى مساقاة مثله جملة أيضا من غير تفصيل، وعليه يأتي قول أصبغ في العتبية في الذي يساقي الرجل في الحائط على أن يحمل أحدهما

نصيبه من الثمرة لصاحبه إلى منزله - وهو بعيد، وهو على أصل ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب في القراض الفاسد. والثالث: أنه يرد في بعض الوجوه إلى إجارة المثل، وفي بعضها إلى مساقاة المثل - وهو مذهب ابن القاسم - وذلك استحسان ليس بقياس على نحو قوله أيضا في القراض، والأصل في ذلك عنده أن المساقاة إذا خرجا فيها عن حكمها إلى حكم الإجارة الفاسدة، أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما اشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة يزيده إياها خارجة عنها؛ فإنه يرد فيها إلى إجارة المثل إذا لم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، وذلك مثل أن يساقيها في حائطه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير، أو دراهم، أو عرضا من العروض، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا ساقاه على أن يزيده صاحب الحائط دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض، فقد استأجره على عمل حائطه بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبجزء من ثمره، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، ولأنه إذا ساقاه على أن يزيده العامل دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض فقد اشترى منه الثمرة بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبعمله في الحائط، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، أيضا، وأما إذا لم يخرجا عن حكمها وإنما عقداها على غرر، مثل أن يساقيه حائطا على الثلث، وحائطا على النصف وما أشبه ذلك، أو اشترط أحدهما فيها على صاحبه من عمل الحائط ما لا يلزمه مما لا يبقى لرب الحائط منفعة مؤبدة، فإنه يرد في ذلك إلى مساقاة مثله؛ وهذه جملة تأتي عليها مسائل كثيرة، هي مبسوطة مسطورة لابن حبيب وغيره، والذي يوجد لابن القاسم أنه رده فيه إلى مساقاة المثل في أربع مسائل: اثنتان في المدونة وهي إذا ساقاه في حائط وفيه ثمر قد أطعم. والثانية إذا شرط المساقى على المساقي أن يعمل معه، والاثنتان في

فصل

العتبية الواحدة منهما في سماع عيسى من كتاب النكاح وهي المساقاة مع البيع في صفقة واحدة. والثانية منها في سماع عيسى من كتاب الجوائح والمساقاة وهي إذا ساقاه في حائطه سنة على الثلث أو سنة على النصف؛ فقال إنه يرد فيهما جميعا إلى مساقاة مثله؛ وكذلك يلزم على هذا إذا ساقاه في حائطين أحدهما على الثلث، والثاني على النصف؛ وكذلك ما أشبه هذا المعنى؛ ومثله إذا ساقاه في حائط على أن يكفيه مؤونة حائط آخر. فقال إنه يكون إجارة مثله في الذي شرط عليه كفايته، ويرد في الآخر إلى مساقاة مثله. والقول الرابع أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم تكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان الشرط للمساقي أو أقل - إن كان الشرط للمساقى وكان يمضي لنا عند من أدركناه من الشيوخ أن الذي ترد فيه إلى مذهب ابن القاسم من المساقاة الفاسدة إلى مساقاة مثله. هذه الأربع مسائل المنصوص عليها وسائرها كلها يرد فيها - إلى مذهبه - إلى إجارة المثل فعلى قولهم في تأويلهم على ابن القاسم، يكون هذا قولا خامسا في المسألة، والصواب أن ما ذهب إليه ابن حبيب على الأصل الذي ذكرناه، مفسر لمذهب ابن القاسم لا خلاف له. فصل فما يرد العامل فيه إلى أجرة مثله يفسخ ما عثر عليه قبل العمل وبعده، ويكون له فيما عمل إلى وقت العثور عليه أجرة مثله؛ وأما ما يرد فيه إلى مساقاة مثله، فإنما يفسخ ما لم يفت بالعمل، فإذا فات بالعمل لم تفسخ المساقاة إلى انقضاء أمدها وكان فيما بقي من الأعوام على مساقاة مثله، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب القراض

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب القراض فصل في معرفة اشتقاق اسم القراض القراض مأخوذ من القرض. وأصل القرض ما يفعله الرجل ليجازى عليه من خير أو شر، بدليل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] لأن فيه دليلا على أن القرض قد يكون حسنا وغير حسن. ومن ذلك سمي السلف قرضا لأنه إنما يفعله الرجل بصاحبه ليجازيه الله به. وسمى الله تعالى إنفاق المال في سبيله ابتغاء ما عنده قرضا حسنا لإمضائه إياه وتبتيله له لوجهه خالصا رجاء ثوابه عليه فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] فلما كان صاحب المال والعامل فيه على جزء منه منتفعين جميعا يقصد كل واحد منهما إلى منفعة صاحبه لينفعه هو اشتق له من معناه اسم وهو القراض والمقارضة، من قارض يقارض لأنها مفاعلة من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة. هذا اسمه عند أهل الحجاز. وأما أهل العراق فلا يقولون قراضا البتة ولا عندهم كتاب القراض، وإنما يقولون مضاربة وكتاب المضاربة، أخذوا ذلك من قول الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] وقوله:

فصل

{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع إلى الرجل ماله على أن يخرج به إلى الشام وغيرها فيبتاع المتاع على هذا الشرط. وفي قول الصحابة لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة ابنيه عبد الله وعبيد الله: لو جعلته قراضا، دليل على صحة هذه التسمية في اللغة، لأن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هم أهل اللسان وأرباب البيان، وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة فالحجة بقول هؤلاء أولى وأقوى. فصل ومما يحتج به في جواز القراض قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية لأن القراض تجارة من التجارات. والقراض هو مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل امرئ يقدر على ذلك بنفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة لما جرت عادة الناس في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص في المساقاة وبيع العرية والشركة في الطعام والتولية فيه، وصار لهذا الوجه سنة، فلا خلاف في جوازه بين الأمة في الجملة وإن اختلفوا في كثير من شروطه وأحكامه، سعمل به الصحابة والسلف، واتبعهم عليه الخلف. فصل وأول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مولى الحدقة مع عثمان بن عفان

فصل

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه، فأقيم يعقوب فيمن أقيم، فجاء إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف، وقال له إن جاءك من يعرض لك فقل المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم، فجاء بمزود رأس المال ومزود ربح. ويقال إن أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رضي الله عن جميعهم-. وذلك أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خرجا في جيش إلى العراق، فلما مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، فقالا وددنا. ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا فربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر بن الخطاب قال: أكل الجيش أسلفه مثل الذي أسلفكما؟ فقالا لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال أو هلك لضمناه. فقال عمر أدياه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، وقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا. فقال عمر قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. فصل والقراض أصل في نفسه، وهو رخصة وتوسعة بين المسلمين للضرورة التي دعت إليه، فلا يعمل به إلا على ما جرى من سنته. وسنة القراض المعروف الجائز

فصل

أن يدفع الرجل إلى الرجل المال على أن يعمل به على جزء من الربح يتفقان عليه، ولا ضمان على العامل فيه لأنه أمانة بيده إلا أن يتعدى فيه أو يخالف إلى شيء مما نهي عنه. ولا نفقة له في المال ولا كسوة إلا أن يسافر به سفرا بعيدا والمال كثير فله فيه النفقة والكسوة. وإن كان السفر بعيدا والمال قليلا فلا نفقة له ولا كسوة. وإن كان السفر قريبا والمال كثيرا فله فيه النفقة دون الكسوة. وإن كان السفر قريبا والمال قليلا فله النفقة دون الكسوة على ما في سماع عيسى عن ابن القاسم، وظاهر ما في الواضحة أنه لا نفقة له ولا كسوة. فصل ولا ربح للعامل في المال حتى ينض إلى رب المال رأس ماله. وحكم الزكاة على مذهب ابن القاسم أن يخرج من جملة المال عند المفاصلة إذا كان في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة وعمل بالمال حولا كاملا. وفي هذا الكتاب دليل على وجوب الزكاة في جملة المال وإن لم يعمل به حولا كاملا إذا كان في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة. وذهب سحنون إلى أن الزكاة تخرج من جملة المال إذا كان فيه ما تجب فيه الزكاة وإن لم يعمل العامل به حولا ورأى الربح مزكى على أصل المال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه في العتبية. - ولا يجوز اشتراط زكاة رأس المال على العامل، ويجوز أن يشترطها العامل على رب المال لأنها واجبة عليه. واختلف إن اشترط أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز لكل واحد منهما على صاحبه، وهو قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، لأنه يرجع إلى جزء مسمى. فإن اشترطت الزكاة على العامل صار عمله على أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره. وإن اشترطت الزكاة على رب المال صار عمله على نصف الربح كاملا. والثاني: أن ذلك لا يجوز لواحد منهما على صاحبه وهو قول مالك في أصل الأسدية.

والثالث: أنه يجوز لرب المال أن يشترط ذلك على العامل ولا يجوز للعامل أن يشترطه على رب المال، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في الجوائح والمساقاة من العتبية في زكاة تمر الحائط المساقى، إذ لا فرق بين اشتراط زكاة تمر الحائط المساقى وبين زكاة ربح مال القراض. والرابع: عكس ذلك أنه يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال ولا يجوز أن يشترطه رب المال على العامل. وهذا القول ليس بمنصوص عليه إلا أنه يتخرج على قياس بأن الجزء المشترط في الزكاة يدفع إن لم يكن في المال ما تجب فيه الزكاة للمشترط عليه، لأنه يقول لمشترطه عليه إنما اشترطته على الزكاة فإذا لم تكن في المال زكاة فرده علي، لأن الغرر على هذا القول إنما يكون في اشتراط رب المال الزكاة على العامل لا في اشتراط العامل إياها على رب المال، لأن العامل إذا اشترطت عليه الزكاة يصير له إن لم يكن في المال زكاة نصف الربح، لأن الجزء المشترط عليه في الزكاة من نصيبه إليه، وإن كان في المال زكاة يصير له أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره، لأن ربع العشر قد اشترط عليه فأخرج فيه الزكاة فلا يدري ما يعمل. وإن اشترطت على رب المال يصير للعامل نصف الربح، في المال ما تجب فيه الزكاة أو لم يكن، لأن الجزء الذي اشترطه من نصيب رب المال ليؤديه في الزكاة إن لم يكن في المال زكاة يرجع إلى رب المال المشترط عليه. والقول الثالث الذي رواه أشهب عن مالك من أنه يجوز أن يشترط رب المال زكاة الربح على العامل ولا يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال يتخرج على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة يكون إن لم يكن في المال زكاة لمشترطه لا يرجع إلى المشترط عليه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، لأن العامل إذا اشترطت عليه الزكاة على هذا القول لا يصير له من الربح إلا أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره وجبت في المال الزكاة أو لم تجب، لأن الجزء الذي اشترط عليه في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يأخذه رب المال، ولا يعتبر

بالغرر الذي يكون في جهة رب المال، إذ قد يحصل خمسة أعشار الربح وربع عشره إن لم تجب في المال زكاة، وخمسة أعشاره وهو النصف إن أخذ منه ربع العشر الذي اشترطه في الزكاة لأن الربح إنما يزكى على ملكه فلا يعتبر بما يؤخذ من حظه منه في الزكاة. والقول الثاني الذي في أصل الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه يتخرج على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يكون بينهما، لأنهما يتداعيانه فيقسم بينهما، لأن العامل إن كان هو المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان في المال زكاة أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة يصير له منه أربعة أعشاره وسبعة أثمان عشره. وإن كان رب المال هو المشترط عليه الزكاة يصير له نصف الربح إن كان في المال زكاة، وخمسة أعشاره وثمن عشره إن لم يكن في المال زكاة، فلا يدري العامل إن كان يصير له نصف الربح أو خمسة أعشاره وثمن عشره. ويتخرج هذا القول الذي في الأسدية أيضا على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يلغى ويقتسمان الربح على ما بقي من الأجزاء، لأن العامل إن كان المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان في المال زكاة أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة تصير له منه ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلث جزء. وإن كان رب المال هو المشترط عليه الزكاة يصير له نصف الربح إن كان في المال زكاة، وستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلثا جزء إن لم يكن في المال زكاة. فلا يدري العامل إن كان يصير له من الربح نصفه أو ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلثا جزئه. والقول الأول الذي في المدونة من أنه يجوز لكل واحد منهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه في حظه وجهه ما ذكره في المدونة من أن ذلك يرجع إلى جزء معلوم يعمل عليه العامل، وذلك نصف الربح إن كان هو مشترط الزكاة على رب العامل في حظه، وأربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره إن كان رب المال هو مشترط الزكاة عليه في حظه. وما في الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما اشتراط زكاة الربح على صاحبه أظهر، لأن المال الذي قارضه به إن كان أقل من النصاب لا يدري إن كان يبلغ بربحه النصاب فتجب فيه الزكاة، أو لا يبلغ بربحه

فصل

فلا تجب فيه الزكاة. وإن كان مال القراض الذي دفع إليه النصاب فأكثر لا يدري إن كان ينض المال قبل الحول فلا تجب فيه الزكاة أو لا ينض حتى يحول عليه الحول فتجب فيه الزكاة، فالغرر في ذلك بين. ووجه ما في المدونة أنه حمل الأمر في ذلك على الأغلب من أن المال لا ينض قبل الحول وأنه وإن كان دفعه إليه وهو أقل من نصاب يبلغ بالربح فيه النصاب. وقد تكلمنا على حكم اشتراط أحد المساقين على صاحبه زكاة تمر حائط المساقاة في كتاب البيان والتحصيل من كتاب الجوائح والمساقاة في سماع أشهب منه وبالله التوفيق. فصل وما يشترط أحد المتقارضين على صاحبه من الشروط ينقسم على قسمين: أحدهما: لا يفسد القراض ولا يخرجه عن سنته. والثاني: يفسده ويخرجه عن سنته. فأما ما لا يفسده ولا يخرجه عن سنته فإنه ينقسم على قسمين: أحدهما: يجوز ابتداء ولا كراهية فيه، مثل أن يشترط عليه ألا يشتري به حيوانا ولا يحمله في بحر ولا يخرج به عن بلده وما أشبه ذلك. والثاني: يكره اشتراطه ابتداء فإذا وقعت مضت، مثل أن تنزل الرفقة بالمكان معها التجارة فيعطي الرجل الرجل المال قراضا على أن يشتري منهم ثم يبيع وما أشبه ذلك. وليس لشيء من هذه الشروط حد ولا تنحصر إلى عدد. ومسائل الكتاب تأتي على أكثرها كل في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل وأما ما يفسده ويخرجه عن سنته فإنه يجب فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل. واختلف إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه بحق عمله على أربعة أقوال:

أحدها: أنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب أيضا. والثاني: أنه يرد إلى إجارة مثله أيضا جملة من غير تفصيل، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة. والثالث: أنه يرد إلى قراض المثل ما لم يكن أكثر من الجزء الذي سمي له من الربح فلا يزاد عليه، وإنما يكون له الأقل من قراض مثله أو من الجزء الذي سمي له إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارضة أو أقل من الجزء الذي سمي له من الربح فلا ينقص منه، وإنما يكون له الأكثر من قراض مثله أو من الجزء الذي سمي له إن كان المقارض هو مشترط الشرط على رب المال. وهذا القول يأتي على ما حكاه ابن المواز عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القراض بالضمان أن له الأقل من قراض مثله أو ما سمي له من الربح. والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه داخلة في المال ليست بخارجة منه ولا منفصلة عنه ولا خالصة لمشترطها، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن المال وخالصة لمشترطها، وفي كل غرر وحرام تعاملا عليه خرجا به عن سنة القراض الجائز. وهذا هو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب وكان يمضي لنا عند الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة أن العامل يرد في القراض الفاسد كله إلى إجارة مثله حاشى سبع مسائل: وهي القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل. والقراض المبهم. وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركا. وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد أو على ألا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمره به. فهذا قول خامس في المسألة على هذا التأويل. والصحيح

فصل

أن يحمل ما في المدونة على التفصيل الذي حكى ابن حبيب عن ابن القاسم من قوله وروايته عن مالك واختاره واستحسنه. فصل وهذا التفصيل ليس بقياس وإنما هو استحسان. والذي يوجبه النظر والقياس أن يرد القراض الفاسد كله إلى قراض المثل وإلى أجرة المثل جملة من غير تفضيل. وأما تأويل ما في المدونة على ما حكيناه عن الشيخ أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا حظ له في النظر والقياس ولا وجه له في الاستحسان، إذ الاستحسان في الأحكام إنما يكون على مذهب من أجازه وأخذ به لمعان تختص بالفروع فيعدل من أجلها عن إلحاقها بالأصول، وذلك معدوم في مسألتنا. فصل فوجه قول من قال إن القراض الفاسد يرد العامل فيه كله إلى إجارة المثل جملة من غير تفصيل أن القراض إجارة بغرر، لأن العامل يعمل في المال على جزء مما يربح فيه إن كان فيه ربح، إلا أنه استثني من الأصول للضرورة، فإنما يجوز إذا وقع على وجهه وسنته. فإذا وقع على خلاف ذلك فليس بقراض وإن سمياه قراضا، وإنما هو إجارة فاسدة فيرد فيها إلى إجارة مثله، وإنما يكون قراضا إذا عملا على سنة القراض. ألا ترى أنه لو قارضه على أن يعمل له بالمال إلى أجل كذا وكذا في كذا وكذا وله كذا وكذا لكانت إجارة ولم يكن قراضا، فلا معنى للاعتبار بذكر القراض إلا إذا عمل به على سنته. وأيضا فإن القراض عقد صحيح يوجب عوضا مسمى للعامل بالعمل، فإذا كان فاسدا وجب له أجر المثل في عمله لفواته. أصله إذا استأجره إجارة فاسدة ففاتت بالعمل أو باعه بيعا فاسدا ففاتت السلعة المبيعة. فصل ووجه قول من قال إنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل أن القراض

فصل

أصل في نفسه وعقد منفرد على حياله، والأصول موضوعة على أن كل عمد فاسد أو على شبهة مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره من العقود كالنكاح والبيوع والإجارة. فكما يرد فاسد البيع وغيره من العقود إلى صحيحها لا إلى صحيح غيرها فكذلك يجب أن يرد فاسد القراض إلى صحيحه. فصل وكذلك الجعل الفاسد والمساقاة الفاسدة يجريان على هذا الاختلاف فيردان إلى حكم أنفسهما في قول، وإلى حكم غيرهما في قول دون تفصيل. وقد قيل فيهما على تفصيل على ما قد ذكرناه في مواضعه وذلك على ما تقدم من الاستحسان في الأحكام. فصل وإذا رد المقارض إلى أجرة مثله فالمشهور في المذهب أن الإجارة متعلقة بذمة رب المال لا بربح المال. وذهب ابن حبيب إلى أنها متعلقة بربح المال، فإذا لم يكن في المال ربح لم تكن له إجارة وهو بعيد. فصل فإذا قلنا إنها متعلقة بذمة رب المال فهل يكون أحق بربح المال من الغرماء ففي ذلك اختلاف. قال في كتاب ابن المواز: لا يكون أولى من الغرماء، وهو ظاهر ما في المدونة، وقد تأول ما في المدونة على أنه دفع المال وأخرج من يده، ولذلك جعله إسوة الغرماء. هذا على اختلافهم في الرهن هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا، فتفتقر إليه على مذهب ابن القاسم في المدونة، وذلك بين من قوله في كتاب الرهون منها إن المرتهن لا يكون أحق بالرهن من الغرماء بما أنفق عليه وإن قال له الراهن أنفق على أن نفقتك في الرهن حتى يقول

فصل

له أنفق على أن نفقتك في الرهن نصا أيضا خلاف مذهب أشهب. وأما قراض المثل فإنه يتعلق بربح المال، هذا هو المحفوظ المعلوم. وقد حكى عبد الوهاب في شرح الرسالة عن القاضي أبي الحسن أنه قال: يحتمل عندي على قول مالك أن يكون له ما يساوي قراض مثله وإن كان في المال وضيعة أيضا. قال عبد الوهاب فالفرق على هذا بين قراض المثل وإجارة المثل أن إجارة المثل متعلقة بالإطلاق، وقراض المثل متعلق بالشرط الذي شرطاه. وتفسير ذلك أن يقال في الإجارة لو استأجر رب المال من عمل له هذا العمل كم تكون إجارته؟ فيكون ذلك للعامل. ويقال في القراض إذا كان العامل قد رضي بجزء كذا على هذا الشرط الفاسد فكم ينبغي أن يكون له؟ فما قيل من شيء فهو قراض المثل على تأويل القاضي أبي الحسن راجع إلى إجارة المثل. وإنما يختلف ذلك على تأويله في صفة التقويم وهو بعيد جدا. فصل والقراض الفاسد يفسخ قبل العمل وبعده، كان مما يرد فيه العامل إلى أجرة مثله أو إلى قراض مثله، خلاف المساقاة، لأن المساقاة التي يرد فيها مساقاة مثله لا تفسخ بعد العمل. هذا قول ابن حبيب في الواضحة، ومثله في كتاب ابن المواز. فأما الفسخ فيما يرد فيه إلى إجارة مثله إذا عثر عليه بعد العمل فبين ترد إلى رب المال السلع التي توجد بيد المقارض ويكون له أجر مثله في شرائها. وأما الفسخ فيما يرد فيه إلى قراض مثله فلا يكون برد العروض إلى صاحب المال وإنما معناه أنه لا يتمادى على العمل إذا نض المال بيده على ذلك القراض الفاسد. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن القراض الذي يرد فيه إلى قراض مثله لا يفسخ بعد العمل كالمساقاة، يريد أنه إذا عثر عليه وقد شغل المال في السلع لا يردها سلعا ولا يجبر على بيعها إلا على ما يرجو من أسواقها التي ابتاعها عليها،

فصل

ولم يرد أنه يتمادى على العمل بعد نضوض المال، هذا ما لا يصح أن يتأول عليه. فليس قوله على هذا التأويل بخلاف لما في الواضحة وكتاب ابن المواز. وأما المساقاة التي يرد فيها إلى مساقاة مثله إذا لم يعثر عليها إلا بعد العمل فلا تفسخ إلى انقضاء أجلها وتمام مدتها، كان ذلك عاما أو أعواما، فإنما فارق القول في هذا من المساقاة لأن المساقاة لها أجل والقراض لا أجل له، بيد أنه إذا شرع في العمل لزمهما القراض إلى أن ينض المال. فنضوض المال أجل القراض إذا شرع فيه، فيستوي قراض المثل ومساقاة المثل في ألا يفسخ واحد منهما إذا لم يعثر عليه حتى يقضي أمده. فمن ساوى بينهما فهذا تأويله، ومن فرق بينهما فلافتراقهما في المدة والأجل. فهذا شرح هذه المسألة وبالله التوفيق. فصل والقراض جائز بالدنانير والدراهم لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، لأنهما أصول الأثمان والمثمونات، وبهما يقوم ما عداهما من العروض وسائر المتلفات، وكذلك النقار والأتبار، أعني تبر الذهب والفضة في البلد الذي يجري فيه ذلك ولا يتعامل عندهم بالمسكوك. فصل ولا يجوز القراض بشيء من العروض المعينات ولا بشيء من المكيلات والموزونات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ولا عند أحد من فقهاء الأمصار، لأن القراض في الأصل غرر لأنه إجارة مجهولة إذ لا يدري العامل كم يربح في المال ولا إن كان يربح أم لا. إلا أن الشرع جوزه للاضطرار إليه وحاجة الناس إلى التعامل عليه، فيجب ألا يجوز منه إلا مقدار ما جوزه الشرع، وأن يكون ما عداه ممنوعا بالأصل. وأيضا فإن القراض بالعروض لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يجعلا رأس مال القراض العرض بعينه، أو ثمنه الذي يبيعه به، أو قيمته يوم العقد، أو قيمته يوم التفاضل. لأن معرفة رأس المال ومقداره لا بد منه في القراض ليعرف العامل على ما يعمل. فإن كان نفس العرض هو رأس المال فذلك غرر لأنه

قد يأخذ السلعة وقيمتها ألف دينار ويردها وقيمتها مائة دينار فيذهب العامل ببعض رأس المال، أو يأخذها وقيمتها مائة دينار فيردها وهي تساوي ألف دينار فيذهب رب المال بأجرة العامل. وإن كان الثمن الذي يبيعه به هو رأس المال فقد اشترط رب المال منفعة لنفسه على العامل فيما تحمل عنه من مؤونة بيعها وما يكفيه من ذلك. وإن كان قيمتها يوم يدفعها إليه هو رأس المال كان رب المال قد باع منه العرض بما قوماه به على أنه إن باعه بأقل من ذلك جبره من ربحه، وإن كان باعه بأكثر من ذلك كان له نصف الفضل، فذلك المز من الغرر البين والمزابنة، كمن دفع إلى رجل ثوبا ليبيعه بعشرة دنانير على أن عليه ما نقص وله بعض ما زاد. وإن كان رأس المال قيمتها يوم التفاضل فذلك أيضا غرر بين، لأن قيمته يوم التفاضل مجهولة فيكون العامل يعمل على رأس مال مجهول، قد يكثر فيغترق ربحه أو يقل فيذهب ببعض رأس مال رب المال، فصارت جميع وجوه هذه المسألة إلى غرر وفساد. غير أن الحكم فيها يختلف إذا نزلت على مذهب ابن القاسم. فأما إذا جعلا رأس المال الثمن الذي يبيعه به فإنه تكون له إجارة مثله في بيعه العرض، ثم يرد إلى قراض مثله في الثمن إذا لم يعثر عليه إلا بعد العمل، وهو في سائر الوجوه أجير له إجارة مثله. وذكر ابن وهب في موطئه قول عبد العزيز بن أبي سلمة الواقع في المدونة إذا قارضه بعرض وقوماه بقيمته إنه أجير، فقال ابن وهب: أباه مالك. فعلى ما تأول ابن وهب على مالك أن القراض كيفما وقع له إجارة مثله في بيعه العرض ثم يرد إلى قرض مثله بعد ذلك، وهذا إذا باع العرض بعين. وأما إذا باعه بعرض فلا يصح أن يدخل فيه اختلاف ويرد إلى إجارة مثله قولا واحدا. والأول أبين أن يرد إلى إجارة مثله باع بعين أو بعرض. فإن لم يبينا في القراض بالعروض ما جعلا رأس المال ولم يزد معطى العروض قراضا على أن قال خذ هذا العرض فاعمل به قراضا فذلك بمنزلة أن لو قال له: بعه واعمل به قراضا، قاله ابن المواز. فأجير وكره. روى أشهب عن مالك إجازته، وروى ابن القاسم عنه كراهيته. فإن وقع لم يفسخ، عمل أو لم يعمل، قاله ابن القاسم، إلا أن يكون قال صرفها أو استضربها واعمل بها

فصل

فيكون له أجر مثله في تصريفها أو استضرابها ويرد إلى قراض مثله فيما خرج منها كالقراض بالعروض سواء. فصل ووجه إجازة القراض بتبر الذهب والفضة ألا تباع، ولذلك نزع مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أشهب عنه فقال قد قارض الناس قبل أن تضرب الدنانير والدراهم، ولأن السكة لا تأثير لها في الجواز، ولا في المنع، بدليل أن كل حكم تعلق على الذهب والفضة إذا كانا مسكوكين يتعلق بهما إذا كانا تبرين من منع التفاضل في الصنف الواحد والنسيئة في الصنفين. ووجه المنع من القراض بهما تشبيههما بالعروض في أن الناس لا يتبايعون بهما أو يتصرفون فيهما إلا بعد علاج وصنعة، فذلك بمنزلة بيع العروض. وقال ابن شعبان في الزاهي إنما لا يجوز ذلك لأنهما لا تضبط كيفية ذهبهما، وهذا أظهر في القياس. وعلى هذا التعليل يكون القراض بتبر الذهب والفضة مكروها أيضا بالبلد الذي يدار فيه التبر، أو لا يدار. فصل وكذلك اختلف في القراض بالفلوس فأجيز وكره. فمن أجاز ذلك شبهها بالعين لإمكان التصريف بها، ومن منع منه شبهها بالعروض. وينبغي أن يفرق في جواز القراض بها بين القليل والكثير على ما وقع لابن القاسم في السلم الثاني من المدونة في الذي يأمر الرجل أن يبيع سلعته فيبيعها بالفلوس. فيأتي على هذا في القراض بالفلوس ثلاثة أقوال .. الإجازة، والكراهة جملة من غير تفصيل، والتفصيل بين القليل والكثير وهو ظاهر في المعنى. فصل ولا ينبغي للرجل أن يقارض إلا من يعرف الحلال من الحرام، ولا يجوز له

تحصيل القول في باب شراء العامل من يعتق عليه أو على رب المال

أن يقارض من يستحل الحرام ويعمل بالربى من المسلمين. وكذلك الكافر لا يجوز للرجل أن يعطيه مالا قراضا، وكذلك عبده الكافر لا يجوز له أن يعطيه مالا قراضا ولا أن يأتمنه على البيع والشراء لقول الله عز وجل: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وقد وقع في سماع عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب أنه لا بأس بمقارضة المسلم للنصراني وهو بعيد. وأما أخذ المسلم من النصراني مالا قراضا فمكروه لأنه من باب إجارة المسلم نفسه من النصراني. فصل والقراض من العقود الجائزة لا يلزم بالعقد واحدا منهما، وإنما يلزم بالشروع في العمل أو شغل المال، فإذا شرع في العمل وشغل المال لم يكن لرب المال أخذه حتى ينض، ولا للعامل صرفه دون ذلك، وبالله التوفيق. تحصيل القول في باب شراء العامل من يعتق عليه أو على رب المال هذا الباب والذي بعده يشتمل على أربع مسائل: إحداها: شراء العامل من يعتق عليه. والثانية: شراء من يعتق على رب المال. والثالثة: عتق العامل عبدا أو جارية من مال القراض. والرابعة: إذا وطئ المقارض جارية من مال القراض فحملت. فصل فأما إذا اشترى العامل من يعتق عليه فإن ذلك لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون عالما.

فصل

والثاني: أن يكون غير عالم. فأما الوجه الأول وهو أن يكون عالما فلا يخلو من وجهين. أحدهما: أن يكون موسرا. والثاني: أن يكون معسرا. فإن كان موسرا فلا يخلوا من وجهين: أحدهما: أن يكون فيه ربح. والثاني: ألا يكون فيه ربح. وكذلك إن كان معسرا لا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يكون فيه ربح. والثاني: ألا يكون فيه ربح. وأما الوجه الثاني وهو أن يكون غير عالم فلا يخلو أيضا من أن يكون موسرا أو معسرا، فإن كان موسرا فلا يخلو من أن يكون فيه ربح أو لا يكون فيه ربح، فتنتهي المسألة على هذا إلى ثمانية أوجه: أربعة في العالم، وأربعة في غير العالم لا زيادة فيها. فصل فأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق عليه ويؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم إلا أن يكون ثمنه الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم الحكم فيؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته من الربح من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه به وهو عالم أنه يعتق عليه فقد رضي أن يؤدي إلى رب المال ما يجب له من الثمن الذي اشتراه به في رأس ماله وحصته من الربح فيكون لرب المال أخذه بالأكثر. وقال المغيرة: يعتق عليه قدر حظه منه ويقوم عليه حظ رب المال يوم الحكم خلاف قول ابن القاسم أنه يكون عليه الأكثر.

فصل

فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم موسر ولا ربح فيه فإنه يعتق عليه ويؤدي إلى رب المال الأكثر من قيمته يوم الحكم أو من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه وهو عالم بأنه يعتق عليه فقد رضي أن يؤدي إليه الثمن- الذي اشتراه به. وقال المغيرة: لا يعتق عليه منه شيء إذا لم يكن فيه فضل ويباع فيدفع ثمنه إلى رب المال. وهو على قياس قول غير ابن القاسم الواقع في الباب الثاني إنه إذا اشترى عبدا بالمال القراض وأعتقه ولا فضل فيه إنه لا يعتق عليه، إذ لا فرق بين أن يشتري بالمال القراض من يعتق عليه وهو عالم أو يشتري به عبدا فيعتقه في أنه متعد على رب المال في ماله في الوجهين جميعا، ووجه قوله أن عداءه في مال غيره لا يلزمه في ماله ما لم يلتزمه. فصل وأما إذا اشترى أبا نفسه أو من يعتق عليه وهو عالم معسر وفيه ربح فقال في الكتاب إنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال، يريد يوم الحكم، فيدفع إلى رب المال ويعتق ما بقي إذا كان الثمن الذي اشتراه به مثل قيمته يوم الحكم أو أقل. وأما إن كان الثمن الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم الحكم فيتبعه بما يجب له من الزائد في ذمته. مثال ذلك أن يشتريه بمائتين، ورأس المال من ذلك مائة، وقيمته يوم الحكم مائة وخمسون، فيباع منه لرب المال برأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم وذلك مائة وخمسة وعشرون، ويعتق الباقي، ويتبعه في ذمته بخمسة وعشرين، لأن الواجب له من المائتين التي اشتراه بها مائة وخمسون، بيع له منها بمائة وخمسة وعشرين وبقيت له خمسة وعشرون يتبعه بها. وإن أراد رب المال أن يأخذ من العبد قدر رأس المال وحصته من الربح يوم الحكم على ما يساوي جملته كان ذلك له لأنه أوفر لنصيب العامل الذي يعتق منه، لأنه إذا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه كان ذلك أوكس لثمنه لضرر الشركة. وإن أراد

فصل

رب المال أن يأخذ من العبد برأس ماله وحصته من الربح ما كان يباع له منه لو بيع لم يكن ذلك له على ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب الوصايا. وإن أراد أن يتبعه برأس ماله وحصته من الربح دينا في ذمته ويعتق عليه كان ذلك له على قياس قوله. فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم معسر ولا ربح فيه فلا يعتق عليه ويتبع بقيمته دينا في ذمته، إلا أن يشاء ذلك رب المال ويرضى به، ولكن يباع ويسلم الثمن إلى رب المال، إلا أن يكون ثمنه الذي اشتراه به أكثر فيكون لرب المال أن يتبع العامل في ذمته بالزائد لأنه قد رضي بذلك حين اشتراه وهو يعلم. فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق عليه نصيبه ويقوم عليه سائره يوم الحكم، كحكم العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه منه وهو موسر. وهذا معنى قوله في الكتاب إنه يعتق عليه ويرد إلى رب المال رأس ماله وربحه. ولا اختلاف في هذا بين ابن القاسم والمغيرة، وإنما اختلفا إذا علم، فابن القاسم يراعي علمه ويوجب عليه الأكثر، والمغيرة لا يراعيه فلا يوجب عليه لرب المال إلا رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم على ما تقدم. فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر ولا ربح فيه فإنه يباع ويدفع إلى رب المال ماله. فصل وكذلك إن كان معسرا، إذ لا فرق في هذا الوجه بين الموسر والمعسر.

فصل

فصل وأما إن كان غير عالم معسرا وفيه فضل فإنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال يوم الحكم ويعتق الباقي. وإن أراد رب المال أن يأخذ منه قدر رأس ماله وحصته من الربح على ما يساوي جملة كان ذلك له لأنه أوفر للعتق، وليس له أن يأخذ منه ما كان يباع له منه برأس ماله وحصته من الربح على قياس ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب الوصايا حسبما تقدم إذا كان عالما. وبالله التوفيق. فصل وتلخيص هذه المسائل الثمان أنه إن كان غير عالم ولا فضل فيه عن رأس المال فسواء كان موسرا أو معسرا يباع ويسلم ثمنه إلى رب المال. وإن كان غير عالم وفيه فضل عن رأس المال كان كالعبد بين الشريكين يعتق أحدهما حظه منه وهو موسره أو معسره. إن كان موسرا أعتق عليه حظه وقوم عليه حظ رب المال، وإن كان معسرا أعتق عليه حظه منه وبقي حظ صاحب المال منه رقيقا له إلا أن لا يريد ذلك ويطلب ماله فيباع له منه برأس ماله وربحه ما بيع ويعتق الباقي. وإن كان عالما موسرا أعتق عليه وأدى إلى رب المال الأكثر من رأس ماله، وحصته من الربح يوم الحكم أو يوم الشراء إن كان فيه فضل وإن كان عالما معسرا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه وأعتق الباقي إن كان فيه فضل. وإن لم يكن فيه فضل أسلم لرب المال أو بيع وأسلم إليه ثمنه. والمغيرة لا يراعي علم العامل فيقول: إذا علم ما يقول ابن القاسم إذا لم يعلم في جميع الوجوه حسبما ذكرناه على مذهبه، وبالله التوفيق. فصل وأما المسألة الثانية وهي شراء العامل من يعتق على رب المال فإنها تنقسم أيضا على الوجوه التي قسمنا عليها شراء من يعتق عليه.

فصل في بيان وجوه ألفاظ الكتاب في هذا الوجه

فصل فأما إذا اشترى من يعتق على رب المال وهو عالم موسر وفيه ربح يوم الشراء فإنه يعتق ويؤخذ منه لرب المال رأس ماله وحصته من الربح إن كان فيه ربح يوم الشراء. وإن لم يكن فيه ربح يوم الشراء لم يؤخذ منه إلا الثمن الذي اشتراه به وإن كانت قيمته أكثر مما اشتراه به لأنه لا يصح له فيه ربح لأنه يعتق عليه. فصل وإن كان معسرا وفيه ربح يوم الشراء بيع منه لرب المال برأس ماله وحصته من الربح، وعتق الفضل إن فضل منه شيء وإن لم يساو إلا أقل من رأس المال وحصة رب المال من الربح بيع جميعه لرب المال واتبع العامل بما نقض من رأس ماله وحصته من الربح. فصل وأما إذا ابتاعه وهو لا يعلم فإنه يعتق على رب المال، فإن كان للعامل فيه ربح يوم الشراء قوم على رب المال نصيب العامل منه إن كان له مال كهبته العبد بين الشريكين. فإن لم يكن مال بقي حظ العامل فيه رقيقا. وسواء في هذا الوجه كان العامل مليا أو معدما. فصل في بيان وجوه ألفاظ الكتاب في هذا الوجه قوله فيه إذا اشترى العامل أبا رب المال أو ابنه وهو لا يعلم عتقوا على رب المال، يريد يوم الشراء. وقوله وإن كان فيهم ربح دفع إلى العامل من مال صاحب المال بقدر نصيبه من الربح على ما قارضه، يريد أنه كان في المال ربح يوم الشراء، مثل أن يكون رأس مال القراض مائة فيربح فيها مائة أخرى ثم يشتريهم

فصل

بالمائتين فيصيب العامل منهم على هذا التنزيل الربع فيغرم رب المال للعامل قيمة ربع العبد يوم الحكم إن كان له مال ويعتق كله عليه، وإن لم يكن له مال بقي ربعه رقيقا للعامل بمنزلة العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه. هذا معنى قوله في الكتاب وإرادته. فصل وأما إذا اشتراهم وهو عالم فقال في الكتاب إنهم يعتقون على العامل إن كان له مال ويؤخذ منه ثمنهم، يريد الثمن الذي اشتراهم به وإن كانت قيمتهم أكثر مما اشتراهم به، لأنه لا يجوز لرب المال أن يربح فيمن يعتق عليه، بخلاف إذا اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم وقيمته أكثر مما ابتاعه به فإنه يغرم هاهنا رأس المال وحصته من الربح، لأن الربح فيمن لا يعتق عليه. وهذا في الذي يشتري أبا رب المال وهو عالم إن لم يكن في المال ربح. وأما إن كان في المال ربح قبل الشراء، مثل أن يكون رأس المال مائة فيربح فيه مائة أخرى ثم يشتريهم بمائتين فلا يؤخذ منه جميع الثمن وإنما يؤخذ منه رأس مال رب المال وحصته من الربح وذلك مائة وخمسون. وقال في الكتاب: وإن لم يكن له مال بيعوا فأعطي رب المال رأس ماله وربحه، يريد أن الربح كان فيه يوم الشراء، وذلك مثل أن يكون رأس المال مائة فيصير بالربح فيها مائتين ثم يبتاعهم بجميع المائتين وهو عالم، فإنه يباع منهم بمائة وخمسين رأس مال رب المال وحصته من الربح، ويعتق ما فضل كان أقل من ربع العبد أو أكثر، لأنه إن ساوى العبد أكثر من مائتين لم يصح أن يباع لرب المال منه بأكثر من مائة وخمسين، لأن ذلك هو الذي تعدى له عليها العامل، ولم يصح له أن يأخذ مما زادت قيمته بعد الشراء شيئا، لأنه لا يصح له ملكه فلم يصح له الربح فيه. وإن ساوى العبد أقل من مائتين فمن حق رب المال أن يباع له من العبد بمائة وخمسين وإن اغترق ذلك جميع العبد، لأنه تعدى له على ذلك القدر. ولم يساو العبد إلا أقل من مائة وخمسين لوجب أن يباع كله ويتبع العامل بما نقص من مائة وخمسين. وهذا كله معنى قوله في الكتاب وإرادته فيه، وهي مسألة قد اختلف فيها كما ذكر، والاختلاف بعضه في المدونة وبعضه خارج عنها.

فصل

فصل والذي يتحصل فيها من الاختلاف إذا اشتراهم، وهو يعلم، ستة أقوال: أحدها: قوله في الكتاب إنهم يعتقون عليه إن كان له مال ويباعون إن لم يكن له مال. والثاني: أنهم يعتقون على رب المال. وهذا القول يأتي على ما في كتاب الرهون في بعض الروايات. والثالث: أن البيع لا يجوز. وهذا القول يأتي على ما في كتاب العتق الثاني في الأب يشتري من يعتق على ابنه الصغير. والرابع: أنه لا يعتق على واحد منهما. وهو قول ابن القاسم في أصل سماعه. والخامس: أنه يضمن الثمن ويكون له العبد. وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس عنه. والسادس: أن رب المال بالخيار إن أحب أن يأخذه فيعتق عليه ويكون للعامل فضله إن كان فيه فضل، وإن أحب أن يضمن العامل لتعديه كان ذلك له. وإذا اشتراهم وهو لا يعلم ففي ذلك قولان: أحدهما: قوله في الكتاب إنهم يعتقون على رب المال. والثاني: قول ابن القاسم في أصل سماعه إنهم لا يعتقون على واحد منهما. فصل وأما المسألة الثالثة وهو أن يعتق المقارض عبدا أو جارية من مال القراض. فإن كان موسرا واشتراه للعتق أعتق عليه وغرم لرب المال رأس ماله أو رأس ماله وربحه إن كان فيه فضل. وإن كان موسرا فاشتراه للقراض ثم أعتقه عتق عليه وغرم لرب المال قيمته يوم العتق إلا قدر حظه منه إن كان فيه فضل. وعلى قول غير ابن

فصل

القاسم في المدونة وهو مذهب المغيرة أنه إن كان فيه فضل عتق عليه نصيبه وقوم عليه نصيب صاحب المال، وإن لم يكن فيه فضل لم يعتق منه شيء. وهذا إن كان اشتراه بجميع مال القراض. وأما إن اشتراه ببعض مال القراض فعند ابن القاسم أنه يعتق عليه ويجبر القراض من ماله بقيمته يوم العتق إن كان اشتراه للقراض، أو بالثمن الذي اشتراه به إن كان اشتراه للعتق، خلافا للمغيرة ولغير ابن القاسم المتقدم. وأما إن كان معسرا فلا يعتق منه شيء إلا أن يكون فيه فضل فيباع منه لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويعتق الباقي على العامل. فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يطأ المقارض جارية من القراض فتحمل، فإن كان اشتراها للقراض ثم تعدى عليها فوطئها فحملت وله مال أخذ منه قيمتها يوم وطئها فيجبر به القراض، وكانت أم ولد له. وإن لم يكن له مال ولا كان فيها فضل بيعت واتبع بقيمة الولد دينا. واختلف إن كان فيها فضل فقيل إنه يباع منها لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويكون ما بقي بحساب أم ولد. وقيل يكون حكمها حكم الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له على الاختلاف المعلوم في ذلك. وأما إن كان اشتراها للوطء فوطئها فحملت، فقال ابن القاسم مرة يؤخذ منه الثمن، ومرة تؤخذ منه القيمة فيجبر بذلك القراض إن كان له مال، وإن لم يكن له مال اتبع به دينا وكانت له أم ولد على كل حال. وقال مالك تؤخذ منه القيمة فيجبر به القراض إن كان له مال، فإن لم يكن له مال بيعت. وهذا إن لم يكن فيها فضل، فإن كان فيها فضل فعلى ما تقدم من الاختلاف. هذا تحصيل القول في هذه المسألة على ما حملها عليه بعض أهل النظر باتباع ظواهر الروايات. والذي أقول به في هذه المسألة أن الاختلاف في بيعها إذا حملت وهو عديم إنما هو إذا اشترى ووطئ ولم يعلم إن كان اشتراها للقراض أو لنفسه بمال استسلفه من القراض، فحمله مالك على أنه اشتراها للقراض ولم يصدقه أنه

فصل في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه

اشتراها لنفسه بمال استسلفه من القراض، ولذالك قال إنها تباع في القيمة إذا لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض ولم يصدقه أنه اشتراها للقراض على ما في سماع أبي زيد، ولذلك قال إنها لا تباع، إلا أنه قال في سماعه وفي تفسير ابن مزين يتبع بقيمتها. ومعناه عندي إن كانت القيمة أكثر من الثمن، فإرادته أنه يتبع بالأكثر من القيمة أو الثمن. وأما إن علم أنه اشتراها للقراض ببينة تقوم على ذلك فتباع فيما لزمه من قيمتها قولا واحدا. وكذلك إن علم أنه اشتراها لنفسه من مال القراض فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها به في ذمته قولا واحدا والله أعلم. فصل في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه إذا اختلف دافع المال والمدفوع إليه فقال الدافع دفعته قراضا وقال المدفوع إليه وديعة لا يخلو الأمر في هذه المسألة من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون المال حاضرا. والثاني: أن يكون غائبا. والثالث: أن يكون قد تلف دون أن يحركه المدفوع إليه أو بعد أن حركه ثم صرفه. فأما إن كان حاضرا فليست بمسألة، يأخذ صاحب المال ماله. وأما إن كان المال غائبا ففي ذلك قولان: أحدهما: قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القول قول الدافع. والثاني: قول أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك وربيعة أن القول قول المدفوع إليه لأنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه وهو لم يقر في ذمته بشيء. وأما إن تلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه وصرفه في موضعه ببينة على

فصل

القول بأن المودع إذا اتجر في الوديعة لا يصدق في صرفها إلى موضعها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثاني: أن القول قول المدفوع إليه المال، وهو قول ربيعة ومن تابعه. والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه. فإن تلف قبل أن يحركه كان القول قول المدفوع إليه، وإن تلف بعد أن حركه كان القول قول الدافع وهو قول أشهب. وأما على القول بأن المودع إذا حرك الوديعة لا يبرأ من ضمانها إلا بصرفها إلى صاحبها فهو ضامن لها دون يمين تلزم الدافع. فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال الدافع بل أبضعته معك لتعمل لي به، فقال في الكتاب إن القول قول رب المال بعد أن يحلف ويكون عليه للعامل إجارة مثله إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من نصف الربح فلا يزاد عليه. ومعنى ذلك بعد أن يحلف العامل، لأن وجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهما مدع على صاحبه: رب المال يدعي على العامل أنه عمل له في المال باطلا، والعامل يدعي أنه عمل فيه على نصف الربح. فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين كان له أجر مثله إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف الربح. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما. على هذا ينبغي أن تحمل الرواية وتصرف إليه بالتأويل. ولا يلتفت إلى ما في ألفاظها مما يدل على أنه جعل القول قول رب المال فإن نكل كان القول قول العامل على حكم المدعي والمدعى عليه. وعلى ذلك حمل أبو إسحاق التونسي وغيره المسألة. واعترض قوله إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض فقال ينبغي إذا نكل رب المال أن يكون القول قول العامل وإن كان ممن لا يستعمل مثله في القراض، لأن رب المال قد مكنه من دعواه وإن كانت لا تشبه بنكوله عن اليمين.

والمسألة عندي صحيحة لا اعتراض فيها لأن قوله إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض ليس من تمام قوله فإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل مع يمينه إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض، وإنما المعنى في المسألة أن الكلام قد تم بقوله فإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل مع يمينه، ثم ابتدأ فقال: وهذا الذي وصفته من الأيمان إنما يكون إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض، لأنه إذا كان ممن يستعمل في القراض يكون كل واحد منهما قد ادعى على صاحبه ما يشبه فوجبت له اليمين عليه على ما قلناه، فإن نكلا أو حلفا كان للعامل أجر مثله إلا أن يكون أكثر من نصف الربح كما قال. وإن نكل العامل وحلف رب المال أخذ المال وربحه ولم تكن عليه أجرة. وإن نكل رب المال وحلف العامل استوجب نصف ربح المال على ما حلف عليه. وأما إن كان العامل ممن لا يستعمل مثله في القراض فلا يمكن من اليمين لإتيانه بما لا يشبه، ويكون القول قول رب المال، فإن حلف استحق ما ادعاه من أنه كان أبضع معه المال ولم تكن عليه إجارة، وإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل وإن كان مثله لا يستعمل في القراض، لأن رب المال قد أمكنه من دعواه وإن كان لا تشبه بنكوله عن اليمين. فهذا هو معنى المسألة لا ما سواه. ولو كان المدفوع إليه المال ممن يعلم أنه يعمل للناس بالقراض لوجب أن يكون القول قوله على مذهب ابن القاسم أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان الجزء الذي ادعاه يشبه أن يكون قراض مثله. وإن كان لا يشبه أن يكون قراض مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله قياسا على قوله في مسألة كتاب الجعل والإجارة في الصانع ورب الثوب يختلفان فيقول رب الثوب عملته لي باطلا ويقول الصانع بل عملته لك بكذا وكذا، وعلى قياس قول غيره في مسألة الصانع من الكتاب المذكور يكون القول قوله أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان الجزء الذي ادعاه أكثر من قراض مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله. نقف على افتراق هذه الوجود الثلاث

فصل

وهي أن يكون المدفوع إليه المال لا يشبه أن يستعمل مثله في القراض،، وأن يكون ممن يعمل للناس بالقراض. وكذلك مسألة الصانع تفترق فيها الوجوه الثلاثة، وهي أن يكون ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة، وأن يكون ممن يشبه أن يعمل بأجرة، وأن يكون من الصناع الذين يعملون للناس بالأجرة. لأن المسألتين تحمل كل واحدة منهما على صاحبتها، إذ لا فرق بينهما في المعنى. فإذا كان ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة كان القول قول رب الثوب أنه عمله له باطلا. وإذا كان يشبه أن يعمل بأجرة ولم يكن من الصناع حلفا جميعا وكان له أجر مثله. وإذا كان من الصناع كان الجواب في ذلك لابن القاسم ما قاله في كتاب الجعل والإجارة، ولغيره ما قاله فيه حسب ما ذكرناه بتمامه، وبالله التوفيق. فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال رب المال بل دفعته إليك قرضا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المال قد تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه. والثاني: أن يكون تلف أو نقص بعد أن حركه. والثالث: أن يكون زاد بربح فيه. فأما إذا تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثاني: أن القول قول المدفوع إليه، وهو قول ربيعة ورواية ابن عبد الحكم عن مالك. والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه، وهو قول أشهب. فاتفق أشهب وابن القاسم على أن القول قول رب المال إذا تلف بعد أن

حركه لأن المدفوع إليه يدعي في مال قد حركه أنه لا ضمان عليه فيه. وكان القياس على أصل أشهب أن يكون القول قول المدفوع إليه وإن كان قد حركه لأنه لم يحرك إلا ما أذن له رب المال في تحريكه. وأما إذا كان في المال ربح فقيل إنه يوقف، فمن كذب منهما نفسه ورجع إلى قول صاحبه أخذه، وإن رجع الثاني إلى قول الأول بعد أن كان رجع الأول إلى قول الثاني لم يوجب رجوعه على الذي رجع أولا يمينا. وقيل إنه لرب المال يأخذه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الرهون لابن القاسم، وعلى ما في كتاب إرخاء الستور لأشهب وإن كان مقيما على إنكاره. وقيل إنه ليس له أن يأخذه وإن رجع إلى قول الذي أقر له به وبالله التوفيق لا شريك له.

كتاب الشركة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله كتاب الشركة القول في الشركة الشركة قد تحصل بين الاثنين والجماعة في الدور والأرضين والحيوان والعروض والدنانير والدراهم وجميع الأشياء بالمواريث والهبات والصدقات والأشرية وغير ذلك. فصل ولا يكون الرجل شريكا للرجل إلا إذا شاركه في رقاب الأموال على الإشاعة. وأما إن لم يشاركه في رقاب الأموال فليس شريكا وإنما هو خليط، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكا. والخلطة أعم من الشركة، قال الله عز وجل في الخليط: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] فسماهم الله تعالى لما لم يشتركوا في أعيان النعاج. وقال تعالى في الشركة في عين المال، على الإشاعة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29]

فصل

يقول الله تعالى: هل يستوي العبد الذي يكون بين الجماعة المشتركين فيه السبتة أخلاقهم، والعبد الذي يكون خالصا لرجل واحد فيرضيه بخدمته ويعرف له حق طاعته فيثيبه عليها أو لا يستوي ذلك. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله. ثم قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. فدل على اشتراكهم في المال المقسوم قبل القسمة، كائنا ذلك المال ما كان من الأموال وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وائما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام.» قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل .. الحديث» «وقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بين الشركاء ما لم تقع الحدود فإذا وقعت الحدود فلا شفعة». فصل وهذا كله أبين من أن يحتاج إلى بسطه والتكلم عليه والاحتجاج له، إذ لا إشكال فيه ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم. وكفى من هذا ما تقتضيه آية المواريث، وإنما ذكرناه لما تعلن به من معنى الشركة. وإنما القصد إلى التكلم على الاشتراك للربح والكسب ابتغاء الارتفاق في ذلك وما يجوز منه مما لا يجوز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ على ذلك بنيت مسائل الكتاب. فصل فالشركة للربح والكسب ابتغاء الارتفاق تنقسم على ثلاثة أقسام:

فصل

شركة الأموال. وشركة الأبدان. وشركة الوجوه وهي شركة الذمم. فأما شركة الأموال فإنها جائزة على الجملة عند جميع الأمة، ويقوم جواز ذلك من الكتاب والسنة، فأما. الكتاب فقول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]. وأما السنة فمنها ما روي «عن سليمان بن أبي مسلم أنه قال سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم ذلك، وسألنا النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: " ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه.» ومنها أيضا ما روي «أن عبد الله بن هشام أتت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال هو صغير، فمسح برأسه ودعا له، فكان عبد الله بن هشام يخرج إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا معك فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب أحدهم الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل». فصل وهي في التفصيل، أعني شركة الأموال، تنقسم على ثلاثة أقسام: شركة مفاوضة. وشركة مضاربة. وشركة عنان. فأما شركة المفاوضة فهي أن يجوز فعل كل واحد منهما على صاحبه، وأن يستويا في جميع ما يستفيدان فلا يصيب أحدهما شيئا إلا كان صاحبه شريكا له

فصل

فيه. وسميت مفاوضة لاستوائهما في الربح والضمان وشروعهما في الأخذ والإعطاء من قولهم تفاوض الرجلان في الحديث إذا شرعا فيه. وهي عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم جائزة خلافا للشافعي في قوله إن شركة المفاوضة غرر لا تجوز لتضمنها مشاركة كل واحد منهما صاحبه فيما يضمن أو يربح أو يخسر بإذنه وبغير إذنه. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تفاوضوا فإنها أعظم بركة». وهذا نص في موضع الخلاف مع أنه لا غرر فيها، لأنهما إنما أخرجا المالين ثم وكل كل واحد منهما صاحبه على التصرف فيه على الإطلاق، وذلك جائز إذا صرحا به، فلا فصل بين أن يصرحا به أو يقصداه، فإن الخبر المعروف «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الغرر» والشركة لا تسمى بيعا. فصل والمفاوضة جائزة على ما يتفاوضان عليه من الأجزاء، ولا تفسد المفاوضة بينهما وإن كان لأحدهما مال غيره لم يدخله في المفاوضة، خلافا لأبي حنيفة في الوجهين. فصل وأما شركة المضاربة فهي أن يدفع الرجل إلى الرجل مالا يتجر فيه ويكون الربح فيه بينهما على ما يتفقان عليه من الأجزاء، والوضعية على رأس المال وهي المقارضة. وإنما سميت مضاربة من الضرب في الأرض، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع المال إلى الرجل على أن يخرج به إلى الشام وغيره فيبتاعه به المتاع على هذا الشرط. وقد مضى هذا في موضع من كتاب القراض مستوفى، وإنما ذكرناه ها هنا لما اقتضاه من التقسيم.

فصل

وأما شركة العنان فهي الشركة في شيء خاص كأنه عن لهما أمر أي عرض فاشتركا فيه، فهي مأخوذة من قولهم عن الشيء يعن ويعن إذا عرض. وهذه الشركة جائزة بإجماع من أهل العلم لا أعلم بينهم فيها اختلافا، فهي جائزة بين جميع الناس إذا اتفقوا عليها ورضوا بها، ولازمة لأهل الأسواق فيما اشتروه للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع تلك السلعة أو في غير السوق، وإن كان من الطعام أو لغير التجارة في ذلك النوع على] اختلاف. وقولي في غير السوق أعني في بعض الأزقة. وأما ما ابتاع الرجل في داره أو حانوته فلا شركة لأحد معه ممن حضر الشراء باتفاق. فصل وأما شركة الأبدان فأجازها مالك وأصحابه في الصناع وغيرهم إذا كان العمل واحدا وتعاونوا فيه ولم يفترقوا في المواضع. وأجاز أشهب في سماع أصبغ عنه افتراق الصانعين الشريكين في حانوتين إذا كان العمل واحدا. وأجاز ابن حبيب افتراق الأكرياء في المواضع والبلدان إذا كانت الدواب مشتركة بينهم. وليس قوله عندي بخلاف لمذهب ابن القاسم. وقال الشافعي لا تجوز شركة الأبدان بحال، وأجازها أبو حنيفة بين الصناع ولم يجزها في الاصطياد والاحتطاب، إذ لا يقتضي ذلك ضمانا من كل واحد منهما على صاحبه، بخلاف الصناع الذين يضمن كل

واحد منهما ما تقبل صاحبه من العمل، فكان كل واحد منهم وكيلا لصاحبه على ذلك. والدليل على صحة قول مالك في إجازة شركة الأبدان بين الصناع وغيرهم ممن لا ضمان عليهم قول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فجعل الغانمين شركاء فيما غنموا بقتالهم وأفاءت عليهم سيوفهم، وليس هناك مال ولا تجارة، وإنما هي شركة أبدان بغير ضمان. فالآية حجة على الشافعي في المنع من شركة الأبدان بكل حال، وعلى أبي حنيفة في المنع من شركة الأبدان فيما لا ضمان فيه كالاحتطاب، والاصطياد. ومن الحجة لمالك ما روي أن «ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا ولم ينكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليهما.» وذهب سحنون إلى أن الصانعين إذا اشتركا لا يضمن أحدهما ما تقبل صاحبه من المتاع إلا أن يجتمعا على أخذه، ولا يلزم أحدهما ضمان العمل عن صاحبه إلا أن يلتزما ذلك، خلاف مذهب ابن القاسم في الوجهين. فقول ابن القاسم في الشريكين الصانعين إذا مرض أحدهما أو غاب الغيبة الطويلة فعمل صاحبه في مرضه أو غيبته إنه لا يكون متطوعا له بعمله صحيح على أصله، لأنه عمل عنه بما لزمه من الضمان، فوجب له الرجوع عليه بقيمة عمله. وهذا معنى قوله إن ما عمل يكون له دون المريض أو الغائب إلا أن يحب أن يعمل له نصف عمله، وليس ذلك بمعارض لقوله في كتاب الجعل والتجارة إن الرجل إذا استأجر أجيرين لحفر بئر فمرض أحدهما وعمل الآخر إنه متطوع له بعمله، إذ ليس أحدهما بضامن عن صاحبه، وإنما تستوي المسألتان على قول سحنون الذي لا يجعل أحد الشريكين الصانعين ضامنا عن صاحبه، وقد قال إن إحداهما ترد إلى الأخرى، وذلك صحيح على أصله غير لازم لابن القاسم على أصله. وقوله في مسألة الجعل والإجارة إن الحافر متطوع لصاحب البير ليس بخلاف لقول ابن القاسم لأنه حمل الإجارة على أنها معينه تنفسخ بالموت

فصل

والمرض، وحملها ابن القاسم على أنها مضمونة عليهما لا تنفسخ بموتهما وتلزمهما في أموالهما ولا يمكن أن يختلفا لمن يكون العامل متطوعا إذا وقعت الإجارة على بيان في المضمون أو المعين. وإن أشبه أن يختلفا فيما تحمل عليه إن لم تقع على بيان. وإنما يكون العامل متطوعا لصاحبه في المضمون أو لصاحب البير في المعين إذا لم يحتج إلى الاستئجار على ذلك، على قولهم فيمن حصد زرعا لغيره بغير إذنه. وبالله التوفيق. فصل وأما شركة الذمم فلم يجزها مالك لأنها شركة بغير مال ولا صناعة، فكأن كل واحد منهما قال لصاحبه تحصل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحصل عنك بنصف ما اشتريت. وذلك غرر ومخاطرة. وقال أبو حنيفة: شركة الوجوه جائزة، وهي تنعقد على الوكالة لأن ما يشتريه كل واحد منهما فبعض له وبعض لصاحبه على وجه الوكالة. وهذه الوكالة تصحح حال وهذا لا يصح، لأنه لو قال وكلتك لتشتري لي سلعة على أن يكون لك ربح سلعتي التي اشتريتها لم يصلح لأن ذلك مجهول منهما جميعا. وإنما جاز ذلك في شركة العنان لأن هناك أصلا تنعقد الشركة عليه وهو المال. فإن قالوا أليس يجوز أن يشتري الرجلان سلعة بينهما بالدين على أن كل واحد منهما حميل بها على صاحبه فتصح الشركة فيها ويكون كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه. فإذا جازت الشركة بشرط الضمان في هذه المسألة جازت شركة الذمم لأنها شركة تقتضي الضمان، لأن ما جاز اشتراطه جاز القصد إليه. قلنا: لا يلزم ذلك. والفرق بين المسألتين أن اللذين اشتريا السلعة بالدين على أن كل واحد منهما ضامن لما على صاحبه يعلم كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه، لأنهما شريكان فيما تحملا بثمنه، كمسألة كتاب السلم الثاني في

الرجل يسلم إلى الرجلين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه فجاز ذلك إذ لا غرر فيه. وأما شركة الذمم فإنما قصد فيها إلى أن يتحمل كل واحد منهما عن صاحبه بنصف ما يبتاعه بغير إذنه ولا معرفته، وذلك من أعظم الغرر وقد منع في كتاب البيوع الفاسدة ما هو أقل غررا من هذا، وهو أن يبيع الرجلان سلعتيهما من رجل على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، فلم يجز ذلك إذ لا يدري كل واحد منهما ما يتحمل به عن صاحبه، إذ قد تستحق سلعة أحدهما ولا تستحق سلعة الأخر. وإن استحقت إحداهما فلا يدري بما يرجع عليه إلا بعد التقويم، وليس هما شريكين فيما باعاه. وشركة الذمم لا يدري كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه بحال، لأنه إنما تحمل عنه بما يبتاع بغير إذنه ولا علمه. وقد حمل بعض الناس مسألة كتاب البيوع الفاسدة هذه على الخلاف لما في كتاب الشركة من إجازة شراء الرجلين السلعة بالدين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه، لتعليله مسألة كتاب البيوع الفاسدة بأن المشتري إنما اشترى من أحدهما على أن يتحمل ما على الآخر، فابتاع من الملي على أن يتحمل له بما على الآخر. ومسألة كتاب السلم الثاني إنما أسلم إلى أحدهما على أن يتحمل له بما على الآخر فأسلم إلى الملي على أن يتحمل له بما على المعدم. والصواب أن ذلك ليس باختلاف من القول. والفرق بينهما أن مسألة كتاب البيوع الفاسدة لم يكن البائعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكين فيما باعاه ولا عرف كل واحد منهما مقدار ما تحمل به عن صاحبه. ومسألة كتاب الشركة المتبايعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان فيما ابتاعاه، يعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. وكذلك مسألة كتاب السلم الثاني المسلم إليهما المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان في الدنانير التي هي رأس مال السلم وعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. فالأصل في هذا أن الحميلين المتحمل كل واحد منهما بما على صاحبه إذا كانا شريكين فيما باعاه أو ابتاعاه جائز، وإن لم يكونا شريكين لم يجز. فعلى هذا إذا باع رجلان سلعة من رجل على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه جاز ذلك لكونهما شريكين فيها ومعرفة كل واحد منهما بما تحمل به عن صاحبه. وسواء كانت شركتهما فيها على السواء أولم تكن على

فصل

السواء. ولو اشترى رجلان سلعتين من رجل على أن يأخذ أحدهما إحدى السلعتين بكذا أو بما ينوبها من الثمن على الاختلاف في ذلك، ويأخذ الثاني السلعة الثانية بكذا أو بما ينوبها من الثمن أيضا على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لم يجز لكونهما غير شريكين فيها، لأنهما إذا لم يكونا شريكين فيها فهي بمنزلة الصفقتين ولا إشكال في الصفقتين لو باع رجل سلعة من رجل أو بعض سلعة ثم باع في صفقة ثانية من رجل آخر سلعة أخرى أو بقية السلعة على أن يتحمل له بما على المبتاع الأول لم يجز لأنه بيع على حمالة، وهي الحمالة بالجعل. وقد ذهب ابن لبابة إلى أن حمالة الرجلين كل واحد منهما بما على صاحبه في الصفقة الواحدة يجوز في المبتاعين ولا يجوز في البائعين. والفرق بينهما عنده أن السلعة التي باعها البائع من الرجلين على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه لو دفعها لأحدهما في جميع ما عليهما وعلى صاحبه لجاز، وإن الثمن الذي دفعه المشتري إلى البائعين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لو دفعه إلى أحدهما فيما يجب عليه بالضمان الذي اشترط عليه لم يجز. فبهذا افترقت المسألتان عنده. وما قدمنا ذكره هو الصحيح إن شاء الله أن الشركة رخصة، فيجوز في الاشتراك ما لا يجوز مع الانفراد. فصل واختلف فيما تنعقد به الشركة بين المتشاركين على قولين: أحدهما أن تنعقد باللفظ وإن بقي ما أخرجه كل واحد منهما بيده فإن ضمانه منه، فيكون ما اشترى أحدهما بالمال الذي أخرجه بينهما وإن تلف مال صاحبه بيده قبل أن يخرجه فكان ضمانه منه، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة خلاف قول غيره فيها، وذلك إذا اشترى بما أخرج قبل تلف ما أخرجه صاحبه. وأما إن اشترى به بعد تلف ما أخرجه صاحبه وهو لا يعلم فهو بالخيار بين

فصل

أن يلزمه ما اشتراه أو ينفرد به دونه، لأنه يقول له لو علمت أن المال الذي أخرجته قد تلف لم أشتر إلا لنفسي. وأما ما اشترى بعد أن علم بتلف ما أخرجه صاحبه فهو له خاصة. والثاني أنها لا تنعقد بينهما حتى يكون ضمان ما تلف بينهما، قيل بخلط ما أخرجاه وهو مذهب سحنون، وقيل بأن يجمعا المال عند أحدهما وإن لم يخلطاه وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. فصل وهي من العقود الجائزة، لكل واحد من المتشاركين أن ينفصل عن شريكه متى ما أراد، ولا يلزمه البقاء معه على الشركة إلا على التكافي والاعتدال، لأنه إن فضل أحدهما صاحبه في قيمة ما يخرجه فإنما يسمح في ذلك رجاء بقائه معه على الشركة، وذلك لا يلزمه فيصير غررا. ألا ترى أن المزارعة تجوز وإن كان قيمة كراء ما يخرجه أحدهما أكثر مما يخرجه صاحبه على مذهب من يرى أن المزارعة تلزم بالعقد، وهو مذهب سحنون وابن الماجشون وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون. ولا يجوز ذلك على مذهب من يرى أن المزارعة لا تلزم بالعقد، ولكل واحد منهما أن ينفصل عن صاحبه- ما لم يبذرا، وهو قول ابن القاسم في المدونة ونص رواية أصبغ عنه في العتبية، ولا على مذهب من يرى أنها لا تلزم إلا بالشروع في العمل، وهو قول ابن كنانة في المبسوطة وبه جرت الفتوى عندنا بقرطبة. وهو على قياس رواية علي بن زياد عن مالك في أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل. فصل وإنما وقع هذا الاختلاف في المزارعة لأنها شركة وإجارة من كل واحد منهما مقتضية لصاحبتها بكليتها لا فضل فيها عنها. فاختلف أيهما يغلب. فمن غلب الشركة لم يرها بالعقد لازمة ولا أجازها إلا على التكافي، غير أنه جوز أن يتطول أحدهما على صاحبه بما لا قدر لكرائه. وفي التكافي قولان: أحدهما أنه لا يكون

فصل

إلا بالتشارك في الرقاب حتى يستويا في مصيبة التلف. والثاني أنه يكون وإن لم يشتركا في الرقاب بأن تكون قيمة كراء ما يخرجه أحدهما مكافئا لقيمة كراء ما يخرجه صاحبه. ومن غلب الإجارة ألزمها بالعهد وأجاز التفاضل بينهما ولم يراع التكافي. قال ابن حبيب: ما لم يتفاحش الأمر مثل أن يكون قيمة كراء ما أخرجه أحدهما أكثر من قيمة ما أخرجه صاحبه بالأمر البائن الذي لا يتغابن في مثله في البيوع. وقال ابن سحنون ذلك جائز وإن تفاحش وتباين التفاضل إذا كان في العوض، وأما إن أخرج أحدهما شيئا له بال لم يخرج صاحبه عنه عوضا فلا يجوز. والقول الأول أقيس وهو إجازة التفاضل بكل حال على القول بتغليب الإجارة وإلزام العقد. فصل واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال: أحدهما: أن الزرع لصاحب البذر ويرد لأصحابه كراء ما أخرجوه. والثاني: أن الزرع لصاحب العمل، وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز. والثالث: أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول، وهي البذر، والأرض، والعمل. فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء واحد منها كان الزرع بينهم أثلاثا. وإن اجتمع لأحد منهم شيئان منها دون أصحابه كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق التونسي. والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض، والعمل، والبقر.

فصل

والخامس: أن يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب وهي: البذر، والأرض، والعمل، والبقر. والسادس: قول ابن حبيب إن الفساد أن سلم من كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع بينهم على ما اشترطوه وتعادلوا فيما أخرجوه، وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع لصاحب البذر. فصل ولا يجوز أن ينضاف إلى الشركة بيع ولا إجارة إذا كانا خارجين عنها. واختلف إذا كانا داخلين فيها، فأجاز ذلك سحنون، واختلف فيها قول مالك، واضطرب فيه قول ابن القاسم في المدونة: فأجاز أن يشترك الرجلان بالعرضين من صنفين إذا استوت قيمتهما، وبالعروض من أحدهما والدنانير والدراهم من الآخر. ولم يجز أن يأتي الرجل بالدابة والآخر بالبيت أو الرحى فيشتركان على أن يعملا عليهما وإن استوت قيمة كرائهما، وأجاز أن يستأجر أحدهما من صاحبه نصف الدابة على أن يعملا عليها، وهذا تناقض لأنه بيع وأجرة داخلان في الشركة. وأجاز ذلك كله سحنون على أصله في أن كل بيع أو أجرة أو صرف كان داخلا في الشركة فهو جائز. فصل وعقد الشركة في المال بيع من البيوع، لأن الرجلين إذا تشاركا بالعروض أو الدنانير والدراهم فقد باع كل واحد منهما صاحبه نصف ما أخرج هو، وهو بيع لا تقع فيه مناجزة لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع بسبب الشركة. ألا ترى أنهم لم يجيزوا أن يصرف الرجل نصف ديناره من رجل إذا لم يبن مشتري نصف الدينار به لبقاء يد بائعه عليه بسبب الشركة، لأن أهل العلم أجمعوا على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الشريكين أو الدراهم من كليهما جميعا أيضا، ولم يعتبروا عدم المناجزة منهما في ذلك، وهو إجماع على غير قياس. وقد اختلف أهل العلم في الإجماع على غير قياس هل يصح عليه القياس أم لا على قولين، فذهب ابن القاسم في هذه المسألة إلى جواز القياس عليه، فأجاز الشركة بالطعام إذا اتفق في

الكيل والصفة قياسا على الدنانير والدراهم ومنع من ذلك في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، وفي الطعامين المختلفين كانا من صنف واحد كالقمح والشعير والبيضاء والمحمولة أو من صنفين كالقمح والزبيب، لاجتماع علتين في ذلك وهما الصرف والشركة في الدنانير والدراهم، والبيع والشركة في الطعامين المختلفين وعدم التناجز. وأجاز الشركة بالعرضين المختلفين أو العروض من أحدهما والدنانير أو الدراهم من عند الآخر إذا استوت القيمة في ذلك، فهو جائز، بخلاف البيع والصرف إذا كان خارجا عن الشركة فيجوز على مذهبه. وقوله الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وبالطعامين المختلفين إذا اتفقت قيمتهما، أو المتفقين إذا اتفقا في القيمة والكيل لم يختلف قوله في شيء من ذلك ..

فصل

فصل واختلف في الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر إذا وقعت على مذهب من لا يجيزها فلم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، فقيل إنهما يقتسمان ما بأيديهما على ما كان فيه من ربح أو خسارة على قيمة الدنانير والدراهم يوم اشتركا. وقيل إنهما يقتسمان ذلك على قيمة الدنانير والدراهم يوم الفسخ، وإلى هذا يرجع قول ابن القاسم في المدونة إذا اعتبرته بما يخرج الحساب، وهذا أقرب مأخذا في العمل. فصل فما يشترك به من الأشياء ينقسم على قسمين: أحدهما أن يشترك الرجلان بصنف واحد، والثاني أن يشتركا بصنفين. فأما الصنف الواحد فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا يؤكل ولا يشرب، والثاني أن يكون مما يؤكل ويشرب. فأما إن كان مما لا يؤكل ولا يشرب فسواء كان مما لا يجوز فيه]

فصل

التفاضل كالذهب والفضة أو مما يجوز فيه التفاضل كالعروض. والشركة فيها جائزة باتفاق إذا استويا في الكيل والقيمة فيما لا يجوز فيه التفاضل، أو في القيمة فيما يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك. يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يشتركا بصنفين فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا تجوز فيه النسيئة، والثاني أن يكون مما تجوز فيه النسيئة. فأما إن كان مما تجوز فيه النسيئة كالصنفين من العروض أو العروض والدنانير أو الدراهم، فأجاز ذلك ابن القاسم لانفراد العلة الواحدة وهي البيع والشركة، وسحنون أيضا، وهو مذهب مالك أيضا. وروي عنه أنه قال في ذلك: ليست الشركة بالعروض من عمل الناس، فغمز ذلك هذا القول والله أعلم لعلة البيع والشركة. وأما سحنون فلم يراع البيع مع الشركة إذا كان داخلا فيها وغير خارج عنها. فهذا ما حضرني من القول في الشركة، وبالله التوفيق.

كتاب الوكالات

كتاب الوكالات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد. وبالله أستعين وعليه أتوكل. قال الله عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وَقَالَ {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 109] وَقَالَ {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 81]. وقال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] وهذا كله أصله الحفظ والرعاية، لأن الوكيل حافظ لما وكل عليه ينوب في الحفظ والرعاية مناب من وكله. ومن ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله وكل بالرحم ملكا يقول أي رب نطفة، أي رب علقة أي رب مضغة، فينفخ فيه الروح فيقول أي رب ما الرزق؟ وما الأجل؟ وشقي أو سعيد؟ فيكتب في بطن أمه». فصل فالوكالة نيابة عن الموكل، فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما يلزم الرجل القيام به لغيره أو يحتاج إليه لمنفعة نفسه.

فأما الوكالة فمما يلزم الرجل القيام به لغيره فكتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم من ينوب عنهم فيما يلزمهم لمن وكلهم أو لمن إلى نظرهم. وكاستخلاف الإمام على ما يلزمه القيام به من أمر المسلمين. كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستخلف على المدينة إذا خرج لغزو أو حج أو عمرة، ويبعث عماله إلى البلاد، وأمراءه على الأجناد. ومن ذلك «بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن معلمين، فلما قدما اليمن تفرقا في المنزل ثم التقيا، فقال معاذ لأبي موسى كيف هذا تقرأ القرآن. قال مالك وأحسبهما كانا قد أتيا لتعليم الناس الإسلام والقرآن، فقال أبو موسى أما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وقائما وعلى كل حال. وقال معاذ أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما احتسب قومتي» «واستعماله على مكة عتاب بن أسيد؟» «وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى موتة جيشا وأمر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم. فانطلقوا حتى لقوا ابن أبي سيرة الغساني بمؤتة وبها جموع من نصارى العرب والروم. فأغلق ابن أبي سيرة الحصن دون المسلمين ثلاثة أيام ثم خرجوا فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر بن أبي طالب فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلحوا على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يأتي نعيهم المدينة: " مر علي بجعفر بن أبي طالب في الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان ". وقدم يعلى بن منيع على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبرهم، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرك. فقال بل أخبرني يا رسول الله. فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبرهم كله ووصفه له. فقال والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت

فصل

فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم ". وقد كان عبد الله بن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة فبكى أهله لبكائه حين رأوه يبكي، فقال والله ما بكيت جزعا من الموت ولا صيانة لكم ولكني بكيت من قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فأيقنت أني واردها ولا أدري هل أنجو منها أم لا». فصل وأما الوكالة فيما يحتاج إليه الرجل لمنفعة نفسه فذلك كتوكيله على البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كل أمر مباح أو مندوب إليه أو واجب تعبد به الإنسان في غير عينه، لأن ما تعبد به في عينه كالوضوء والصلاة والصيام لا يصح أن ينوب عنه في ذلك غيره. قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]. فهذه وكالة على الشراء. «واستعمل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجلا على خيبر فجاءه بتمر فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكل تمر خيبر هكذا. فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تفعل بع الجميع بالدراهم وابتع بالدراهم جنيبا». فهذه أيضا وكالة على البيع والشراء. «وبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة قبل أن يخرج». فهذه وكالة على النكاح ". وقال: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها». فهذه وكالة على الحدود. «واستخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر على الصلاة، ووكل بلالا أن يرقب الفجر ويوقظهم للصلاة وقال

فصل

اكلأ لنا الصبح». «وأمر علي بن أبي طالب المقداد بن الأسود أن يسأل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي ماذا عليه.» والآثار في هذا وشبهه أكثر من أن تحصى. فصل فإذا وكل الرجل الرجل وكالة مطلقة لم يخصه بشيء دون شيء فهو وكيل له على جميع الأشياء، وإن سمى بيعا أو ابتياعا أو خصاما أو شيئا من الأشياء فلا يكون وكيلا له إلا فيما سمى. وإن قال في آخر الكلام وكالة مفوضة تامة أو لم يقل فذلك سواء، لأنه إنما يرجع على ما سمى خاصة. وهذا قولهم في الوكالة إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت. فصل والوكالة لا تورث على الوكيل، ولا له أن يوكل على ما وكل عليه غيره ولا أن يوصي بذلك إلى أحد بعد مماته بخلاف الوصي إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل. فإن فعل فتلف المال كان ضامنا له على مذهب ابن القاسم، وإن علم أنه لا يلي مثل ذلك بنفسه إذا لم يعلم بذلك الموكل الأول. هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم، وفي ذلك نظر. وقال أشهب إذا كان مثله في الكفاية فلا ضمان عليه. فصل ويد الوكيل كيد موكله فيما وكله عليه. فمن حلف ألا يفعل فعلا فوكل على فعله فهو حانث إلا أن يكون نوى أن يفعله هو بنفسه. وكذلك من حلف أن يفعل فعلا فوكل غيره على فعله فقد بر إلا أن يكون نوى أن يلي هو الفعل بنفسه. ففعل الوكيل كفعل الموكل فيما يوجبه الحكم سوى معنى قولنا يد الوكيل كيد الموكل. وقد أتى ابن شعبان في هذا بعبارة فاسدة غير مرضية واحتجاج غير صحيح

فصل

فقال: وفعل الوكيل فعل موكله لأن من حلف ألا يفعل فعلا فوكل غيره على فعله حنث، واحتج لذلك بقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] قال فكان فعل ملك الموت هو فعل الله عز وجل. وهذا كلام بغير تحصيل في غاية من الفساد. أما فعل ملك الموت فهو فعل الله تعالى لأنه خالقه وفاعله حقيقة، وكذلك أفعال سائر العباد، الله هو خالقها وفاعلها. قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وقال عز من قائل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وأما فعل الوكيل فلا يجوز أن يكون فعل الموكل وإنما هو كفعله في وجوب الحكم فيه، ولا يقال ضرب السلطان أو قتل أو كتب لما لم يفعله بيده وإنما أمر به غيره إلا مجازا لا حقيقة، فكيف يصح قياس فعل الموكل والوكيل من المخلوقين بأفعال الخالق تعالى. وما يستقيم هذا الاحتجاج إلا على مذهب أهل القدر القائلين إن أفعال العباد مخلوقة لهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولو تدبر ابن شعبان هذا الكلام لما تكلم به، ولكنها غفلة وغلط، وليس أحد بمعصوم من الخطأ والغلط، وبالله التوفيق لا شريك له ولا ند. فصل واختلف إذا مات الموكل هل تنفسخ وكالة الوكيل بموته أم لا. فحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أن وكالته لا تنفسخ وأنه باق عليها

فصل

يبيع ويبتاع ويتقاضى حتى يعزله الورثة. وقال أصبغ تفسخ الوكالة بموت الموكل ولا تجوز خصومته ولا القيام بشيء مما كان إليه حتى يوكله الوارث. ووقع لأصبغ في سماعه من كتاب البضائع والوكالات أن الوكالة تنفسخ بموته إن كان هو البائع ولا يجوز له أن يتقاضى الثمن إلا بتوكيل الورثة، وإن لم يكن هو البائع وكان الوكيل هو الذي ولي البيع فهو على وكالته يقبض ثمن ما باع حتى يعزله الورثة. ولم أعلمهم اختلفوا أن القاضي لا ينفسخ تقديمه بموت الإمام الذي قدمه للقضاء، وأنه على خطته حتى يعزله عنها الإمام الذي يلي الأمر بعده. فانظر ما الفرق بين ذلك. فصل وإذا مات الموكل على القول الذي يرى فيه أن الوكالة تنفسخ بموته ولم يعلم الوكيل بموته، أو عزل ولم يعلم بعزله فاختلف هل يكون معزولا بنفس الموت أو العزل أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون معزولا بنفس الموت أو العزل. وهذا قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في الذي يحجر على وكيله فيقتضي من غرمائه بعد عزله وهم لا يعلمون بذلك إنهم لا يبرءون بالدفع إليه وإن لم يعلم هو بعزله. هذا هو ظاهر قوله وعلى هذا كان الشيوخ يحملونه. وعلى ذلك حمله أبو إسحاق التونسي. فإذا لم يبرأ الغرماء بالدفع إليه فكذلك لا يبرأ هو ويكون للغرماء أن يرجعوا عليه إن تلف المال بيده لأنه أخطأ على مال غيره. فهذا يبين أن الوكالة تنفسخ في حقه هو ومن عامله أو دفع إليه بنفس الموت أو العزل. والثاني: أنه لا يكون معزولا في حق أحد إلا بوصول العلم إليه فيكون معزولا في حقه بوصول العلم إليه وفي حق من دفع إليه أو بايعه بوصول العلم إليه. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول كتاب الوكالات من المدونة إن الورثة يلزمهم ما باع الوكيل أو اشترى بعد موته قبل أن يعلم به كما يلزمهم ما اشترى قبل موته أو باع. وكذلك يبرأ- من دفع إليه إذا لم يعلم بموت الموكل على قياس قولهم.

وعلى قول مالك هذا لو علم الوكيل بموت موكله فباع ولم يعلم المشتري بذلك فتلفت السلعة المبيعة عنده لكان الوكيل ضامنا لقيمتها لانفساخ الوكالة في حقه لعلمه بموته وتعديه فيما لا تصرف له فيه، ولم يكن على المشتري أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة. ولو لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشتري لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة. ولو لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشترى لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة لتعديه بابتياع ما قد انفسخت الوكالة فيه في حقه. وقول مالك هذا في كتاب الوكالة مثل قول ابن القاسم في كتاب الشركة في الشريكين يفترقان فيقضي الغريم أحدهما إنه إن علم فهو ضامن لنصيب الذي لم يدفع إليه ويرجع على الذي دفع إليه بما غرم للشريك الذي رجع عليه لانفساخ الوكالة بعلمهما جميعا. وإن لم يعلم فلا ضمان عليه إذ لم تنفسخ الوكالة في حقه على ما قدمناه، ويكون الشريك الذي قبض ضامنا لحصة شريكه مما قبض لانفساخ الوكالة في حقه بعلمه. والثالث: أنه لا يكون الوكيل معزولا إلا بوصول العلم إليه، فإذا وصل العلم إليه كان معزولا في حقه وحق من اقتضى منه وبايعه. وهذا قول أشهب لأنه قال إذا علم الوكيل بعزله ولم يعلم الغريم إنه ضامن بخلاف إذا لم يعلما. فإن قيل إنه قد قال إنه ضامن أيضا إذا علم وإن لم يعلم الوكيل فقيل إنه يكون معزولا في حقهما جميعا بعلم أحدهما. قلنا: لا نقول ذلك ولا يصح، لأنه إنما ضمنه إذا دفع وهو عالم والوكيل لا يعلم لتعديه بالدفع، لا من أجل أن الوكالة قد انفسخت في حق الوكيل. ألا ترى أنه لا يجب له الرجوع على الوكيل إن تلف المال بيده لبقاء الوكالة لم تنفسخ في حقه فهو أمانة عنده، ولو كانت الوكالة منفسخة أيضا لوجب له الرجوع عليه بما غرم لصاحب الدين، وهذا بين، وبالله التوفيق لا شريك له ولا ند.

فصل

فصل فهذا تحصيل هذه المسألة عندي وتخريجها، وقد تؤول فيها تأويلات كثيرة، فمن الناس من يجعل قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في التحجير على الوكيل مثل قول أشهب، إذ لم ينص فيها أن الوكيل لم يعلم بفسخ وكالته، فكان يتأول قوله على أنه علم ويجعل مثله أيضا مسألة موت الموكل فيقول إنه إذا لم يعلم الوكيل بموت موكله فلا ضمان على من دفع إليه إلا أن يعلم فيكون متعديا في الدفع. ومن الناس من يفرق بين مسألة الحجر على الوكيل ومسألة موت الموكل فيقول إنما لم يضمن من دفع إلى الوكيل في مسألة الموت إذا لم يعلم مراعاة لقول من يقول إن الوكالة لا تنفسخ بموت الموكل وإن علم الوكيل وأن له التصرف ما لم يعزله الورثة. فيضمن الغريم على هذا التأويل في الحجر وإن لم يعلم واحد منهما ولا يضمن في الموت إلا من علم. ومنهم من يقول هو اختلاف من القول ولا فرق بين المسألتين، فيدخل الاختلاف من كل واحدة منهما في صاحبتها فيأتي في موت الوكيل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إلى الوكيل بعد موت الموكل وإن لم يعلم، علم الوكيل بموت الموكل أو لم يعلم. والثاني: أنه يبرأ بدفعه إليه إذا لم يعلم، علم الوكيل أو لم يعلم. والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بموت الموكل، ولا يبرأ إذا علم. وفي عزل الوكيل أيضا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إليه وإن لم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم. والثاني: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم. والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بعزله، ولا يبرأ إذا

علم. وهذا هو الأظهر من التأويلات، وهو الذي بدأنا بذكره. ويتحصل منها خمس تأويلات: أحدها: أنه لا فرق بين موت الموكل وعزله لوكيله، وأن في كل واحد منهما ثلاثة أقوال: أحدها: أن الوكالة تنفسخ بنفس الموت والعزل في حق الوكيل وحق من عامله وإن لم يعلم واحد منهما بذلك على ظاهر ما في كتاب الشركة في عزل الوكيل. والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بعلم الوكيل، وهو قول أشهب. والثالث: أنها لا تنفسخ في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وهو قول ابن القاسم في الشريكين وظاهر ما في أول كتاب الوكالات لمالك. والتأويل الثاني: أنه لا فرق أيضا بين موت الموكل وعزله لوكيله وأن في كل واحد منهما قولين لا أكثر: أحدهما: أن الوكالة تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل. والثاني: أنها لا تنفسخ في حق كل واحد منهما إلا بوصول العلم إليه. والتأويل الثالث: الفرق بين الموت والعزل فلا تنفسخ الوكالة في الموت في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وفي العزل قولان: أحدهما: أن الوكالة تنفسخ بنفس العزل في حقهما جميعا. والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل خاصة. والتأويل الرابع: الفرق أيضا بين الموت والعزل، فلا تنفسخ الوكالة في الموت في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وتنفسخ في العزل بوصول العلم إلى الوكيل قولا واحدا. والتأويل الخامس: أيضا: الفرق بين الموت والعزل، فتنفسخ الوكالة في

فصل

الموت بمعرفة الوكيل في حقه وحق من عامله، وفي العزل بنفس العزل وإن لم يصل العلم بذلك إلى واحد منهما. وبالله التوفيق. فصل وهذا كله لا يسلم من الاعتراض. والصحيح أن المسألة تتخرج فيها ثلاثة أقوال كما قدمت. والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأصوليين فيمن علم بالحكم ثم نسخ ولم يبلغه النسخ هل يكون الحكم منسوخا عنه بورود النسخ فيه وإن لم يبلغه، أو لا يكون منسوخا عنه إلا ببلوغه إليه فقالوا: إن الذي يدل عليه مذهب مالك أن الحكم منسوخ عنه بورود النسخ فيه وإن لم يبلغه. واستدلوا على مذهبه في ذلك بقوله في المرأة يموت عنها زوجها أو يطلقها: إن عدتها من يوم وقع الفراق أو الموت لا من يوم يأتيها الخبر وبقوله في الوكيل يموت موكله أو يعمل أنه معزول وإن لم يعلم. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يكون الحكم منسوخا عنه حتى يعلم به. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال بعضهم بقول مالك وقال بعضهم بقول العراقيين واستدل أصحابنا على صحة ما دلهم عليه مذهب مالك بأن حكم الله تعالى قد استقر، وخفاؤه على من خفي عليه لا يخرجه من أن يكون متعبدا به، وأكثر ما في بابه أن يكون معذورا بجهله به. فصل فعلى هذا التأويل لا يكون الاختلاف الحاصل في أفعال الوكيل ومبايعته واقتضائه بعد عزله أو موت موكله، وما أنفقت المرأة بعد موت زوجها أو طلاقه قبل أن تعلم بذلك إلا من جهة الاختلاف في العذر بالجهل ومراعاة التفريط بالإعلام. فصل والوكالة جائزة بعوض وعلى غير عوض. فإن كانت بعوض فهي إجارة تلزمهما جميعا، ولا تجوز إلا بأجرة مسماة وأجل مضروب وعمل معروف. وإن

فصل

كانت بغير عوض فهي معروف من الوكيل يلزمه إذا قبل الوكالة ما التزمه، وللموكل أن يعزله من الوكالة متى شاء، إلا أن تكون الوكالة في الخصام فليس له أن يعزله عن الوكالة ويوكل غيره ولا يخاصم عن نفسه إذا كان قد قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا من عذر. هذا هو المشهور في المذهب. ووقع لأصبغ في الواضحة ما يدل على أن له أن يعزله عن الخصام ما لم يشرف على تمام الحكم. وفي المكان الذي لا يكون للموكل أن يعزله عن الخصام لا يكون له هو أن يتخلى عنه إذا قبل الوكالة. فصل واختلف في الجعل على الخصومة على أنه إن يفلح فله كذا وكذا وإن لم يفلح فلا شيء له هل يجوز أم لا على قولين، وهما في المدونة في كتاب الجعل والإجارة منها. وكذلك اختلف أيضا في الرجل يقول: دلني على امرأة أتزوجها ولك كذا وكذا، أو دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا فدل عليه، فقيل إن ذلك يلزمه في النكاح والبيع، وهو قول سحنون وأصبغ. وقيل إنه يلزمه في البيع ولا يلزمه في النكاح، وهو قول مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة. وكذلك فرق ابن القاسم بين قوله ولني بيع دارك ولك كذا وكذا، أو ولني إنكاح ابنتك ولك كذا وكذا، فأجاز ذلك في البيع في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولم يجز ذلك في النكاح في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح. ولا فرق في شيء من ذلك بين البيع والنكاح، وقول سحنون وأصبغ أظهر. وفي سماع عيسى من الكتاب المذكور أنه قال اسع لي في نكاح بنت فلان أو أشخص لي في ذلك جائز إذا كان ذلك في البلد ولم يشخص فيه إلى بلد آخر، وبالله التوفيق.

كتاب الشفعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الشفعة القول في الشفعة الأصل في تسمية أخذ الشريك الشقص الذي باع شريكه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به شفعة هو أن الرجل في الجاهلية كان إذا اشترى حائطا أو منزلا أو شقصا من حائط أو منزل أتاه المجاور أو الشريك فيشفع إليه في أن يوليه إياه ليتصل له الملك أو يندفع عنه الضرر حتى يشفعه فيه فسمي ذلك شفعة، وسمي الآخر شفيعا، والمأخوذ منه مشفوعا عليه. فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة» وأنه قال: «الشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء فإذا صنعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة». وهذا الحديث يقتضي ثلاثة أوجه من الفقه. أحدها: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء. وأن لا شفعة للجار وإن كان جديدا له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة.

والثاني: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم. والثالث: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء في الرباع والأصول دون سائر العروض وبالله التوفيق. فأما الوجه الأول، وهو أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء وأن لا شفعة للجار وإن كان جديدا له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة فيستدل عليه بثلاثة أوجه من الحديث: أحدها: نص الكلام. والثاني: دليل الخطاب. والثالث: الظاهر والعموم. فأما النص فهو قوله «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة». وأما دليل الخطاب فهو أنه لما علق الشفعة بعدم القسمة فقال الشفعة فيما لم ينقسم بين الشركاء دل على انتفائها مع وجودها وهذا بين. وأما الظاهر والعموم فإنه لما قال الشفعة فيما لم يقسم، والشفعة من ألفاظ العموم المستغرقة للشفعة كان قد جعل جنس الشفعة فيما لم يقسم فلم يبق فيما قد قسم شفعة. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وأصحابهما أنه لا شفعة للجار. وأثبت أبو حنيفة للجار المصاقب الشفعة ما لم يكن بينها طريق نافذة، ولغير المصاقب إذا اشتركا في طريق غير نافذة. فأولى الناس بالشفعة عندهم الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم إذا بقيت له في الطريق شركة، ثم الجار الذي ليس بمصاقب إذا كان شريكا في طريق غير نافذة. وحجتهم ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجار

أحق بصقبه»، وأنه قال: «الجار أحق بشفعة جاره»، وأنه قال: «الخليط أحق من الشريك». قالوا ومن طريق القياس أن ملك الجار متصل بالملك المبيع، لأن موضع الحائط الحاجز بين الدارين مبيع. وقد اتصل ذلك بملك الشفيع فأشبه الشريكين لما كان ملك كل واحد منهما متصلا بملك الآخر كانت الشفعة واجبة لكل واحد منهما. وهذا كله ليس بصحيح، لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجار أحق بصقبة» و «الجار أحق بشفعة جاره»، ليس فيه بيان ما هو أحق به، فيحتمل أن يريد معاونته على ما يعرف له، والعرض عليه إذا أراد البيع. ويحتمل أن يريد بالجار الشريك للمقاربة التي بينهما، لأن العرب تسمي الجار شريكا، وتسمي الزوجة شريكة وجارة لاشتراكهما في البيت. وإذا احتمل الحديث هذين الاحتمالين لم يصح أن يحمل على أنه أحق بالشفعة، إذ قد نص على أنه لا شفعة له بقوله «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة». ولا يصح أن تحمل الأحاديث على التعارض ما أمكن الجمع بينهما بتأويل محتمل وقد قال بعض من احتج عليهم: ولا يصح أن يحمل قوله «الجار أحق بصقبه» و «الجار أحق بشفعة جاره» على الوجوب في الأخذ بالشفعة إن حملت الجار على حقيقة اللفظ ولم تحمله على الشريك، إذ لا يخلو أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك أو أحق بذلك من الأجنبي الذي ليس بجار ولا شريك، ولا يصح أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك، إذ لا يقول أحد إن الشفعة للجار دون الشريك؛ ولا أنه أحق بذلك من غير الجار، إذ لا يقول أحد إن الشفعة واجبة للأجنبي الذي ليس بجار ولا شريك. وليست بحجة صحيحة لاحتمال أن يريد أنه أحق بذلك من المشتري، فالحجة عليهم إنما هي ما ذكرناه من أن الأحاديث لا يصح أن تحمل على التعارض ما أمكن الجمع

فصل

بينها بتأويل محتمل. وما رووه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخليط أحق من الشريك»، ظاهره يوجب أن الشريك ليس بشفيع، وهذا ما لا يقوله أحد، وهو عندنا محمول على أنه أحق بالعرض عليه، لأنه إن لم يعرض عليه وباع فوت عليه المبيع، والشريك إن لم يعرض عليه وباع لم يفوت عليه البيع لأنه يأخذ من المشتري بالشفعة. فالحديث حجة لنا في أن الخليط وهو الجار الجديد في المال لا شفعة له. وقياسهم ينتقض بالجار المقابل، وقد قال ابن شعبان لو كانت الشفعة واجبة للجار لوجبت لجميع من بالبلد الذي بيعت به الدار لقول الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] الآية. فجعل كل من بالمدينة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جارا. وبالله التوفيق. فصل وأما الوجه الثاني وهو أن الشفعة إنما تكون في الرباع والأصول دون سائر العروض، فالدليل عليه من الحديث قوله فيه: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» إذ القسمة بإيقاع الحدود وصرف الطرق إنما تكون في الرباع والأصول دون ما سواها من العروض التي إنما تقسم بالكيل والوزن. وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول جمهور أهل العلم. ومنهم من أوجبها في كل شيء مشاع من الأصول والعروض والحيوان وغير ذلك وهو قول شاذ. قاله بعض أهل مكة، وروي في ذلك حديث منقطع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث سعيد بن المسيب وغيره. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، يعني بالمدينة. ومن طريق القياس أن الحيوان والعروض مال يصح الانتقال به فلم تجب فيه شفعة. أصله الدنانير والدراهم والمكيل والموزون وبالله تعالى التوفيق. فصل وأما الوجه الثالث وهو أن الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من أموال دون ما لا ينقسم فيستدل عليه من الحديث بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم،» لأن قوله فيما

فصل

لم يقسم يدل على أنه إنما أوجب الشفعة فيما ينقسم، لأن ما لا ينقسم لا يقال فيه يثبت فيه حكم كذا وكذا ما لم يقسم. ألا ترى أنه لا يصح أن يقال يثبت في الإنسان حكم كذا وكذا ما لم يقسم. وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فمنهم من قال إن الشفعة لا تجب فيما لا ينقسم من الأصول كالشجرة والنخلة تكون بين الرجلين بأصلها على ما يدل عليه الحديث، وهو قول مطرف. ومنهم من قال إن الشفعة في ذلك واجبة لأنها من الأصول فحمل الباب فيها محملا واحدا وإن كانت لا تنقسم، لأنها من جنس ما ينقسم. وهو قول أشهب وابن الماجشون وأصبغ وأحد قولي ابن القاسم، لأن له في المدونة أن الرحى إذا بيعت بأصلها فإن في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى الشفعة بما ينوبها من الثمن، وروى عنه سحنون في العتبية أنه لا شفعة في مناصب الرحى لأنها لا تنقسم. فصل وعلى هذا يأتي اختلاف المتأخرين من أصحابنا في الضرر الذي من أجله جعلت الشفعة. فمن رأى أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم من الأصول لم يعلل بضرر الشركة لإمكان انفصالهما عنه بالقسمة، وقال إن العلة في ذلك ضرر القسمة، وهي تكون بوجوه منها أنه قد تنقص قيمتها إذا قسمت وإذ قد يحتاج كل واحد من المتقاسمين إلى استحداث مرافق في نصيبه فيلزمه في ذلك مؤونة. ومنها ما يلزم فيها من المؤن والأجر التي تختص بقسمة الأصول، إذ ليس كل واحد يحسن قسمتها، فلا بد في الأغلب من الحال أن يستأجر على قسمتها من يختص بمعرفة ذلك، وهي علة صحيحة يشهد لصحتها اطرادها وانعكاسها. ألا ترى أن العروض التي تنقسم بالكيل والوزن لا شفعة فيها إذ لا مؤنة في قسمتها. ومن رأى أن الشفعة تكون فيما ينقسم وفيما لا ينقسم قال إن العلة فيما لا ينقسم ضرر الشركة، إذ لا يقدر أحد من الشركاء أن يتصرف في المال المشترك بشيء من وجوه التصرف دون إذن شريكه. ولا يلزم على هذا إيجاب الشفعة فيما لا ينقسم من

فصل

العروض لأن الضرر يرتفع فيها ببيعها وقسم الثمن، إذ لا يتشاح الناس فيها ولا يرغبون في إمساكها كرغبتهم في الأصول وتشاحهم في إمساكها. فصل واتفق أهل العلم على إيجاب الشفعة في الأصول اتفاقا مجملا، ولم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في الشقص المبيع الشفعة إذا بيع بعين أو بقرض. فأما إن باع الرجل شقصه من شريكه أو من أجنبي بأصل أو بشقص من أصل له فيه شرك أو لا شرك به فيه فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن في ذلك كله الشفعة. ووقع في أول سماع ابن القاسم ما ظاهره أن قول مالك اختلف في ذلك كله، وأنه كان يقول إذا علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد وجه البيع إنه لا شفعة في ذلك، وأن بعض المدنيين كان يذكر ذلك، وهو قول ربيعة. فعلى هذا تكون المناقلة المختلف في وجوب الشفعة فيها في هذه الوجوه كلها. وحكى العتبي وابن الماجشون أنهما قالا إن المناقلة التي قال مالك لا شفعة فيها إنما هي أن يبيع الرجل شقصه من شريكه بشقص من أصل له فيه شرك فيكون كل واحد منهما إنما أراد التوسع في حظه بما صار إليه من حظ شريكه عوضا عما عاوضه به. فعلى هذه المناقلة إنما تكون في هذا الوجه الواحد من سائر الوجوه. وروى أبو زيد عن مطرف في الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما شقصه من شريكه بشقص من أصله مع شريك آخر أنه لا شفعة لهذا الشريك الآخر في هذا الشقص لأنه لم يقصد به البيع وإنما أراد التوسع في حظه. وكذلك على قول مطرف هذا لو كانت دار بين ثلاثة نفر فباع أحدهم حظه من أحد شريكيه بأصل فلا شفعة للشريك الثالث الذي لم يبع فيه لأنه لم يرد البيع وإنما أراد التوسع في حظه. فعلى قول مطرف هذا تكون المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها. وأصله أنك متى وجدت أحد المتعاملين في الأصول قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص فهي المناقلة التي لا شفعة فيها. وعلى تأويل

فصل

مطرف وابن الماجشون على علة أن المعاملة في الأصول لا تكون مناقلة تسقط فيها الشفعة حتى يكون كل واحد منهما قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص. وعلى ظاهر ما وقع في سماع ابن القاسم على مالك أن المعاملة في الأصول كيف ما وقعت فهي مناقلة لا تجب فيها الشفعة على أحد القولين، ففي تعين المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها ثلاثة أقوال على ما بيناه. فصل وهي واجبة فيما تجب فيه على قدر الأنصباء على ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها على عدد الرؤوس. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه أنها على قدر الأنصباء، لأنها لما كانت تجب بالملك وجب أن تكون على قدر الأملاك كالغلل، ولما كانت لدفع المضرة عن الأشراك وكانت المضرة عليهم على قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة التي ترفع الضرر عنهم على قدر حصصهم وبالله التوفيق. فصل وعهدة الشفيع على المشتري لا على البائع، سواء أخذها من يد البائع قبل القبض أو من يد المشتري بعد القبض. هذا مذهب مالك وأصحابه ومذهب الشافعي. وقد وقع في المدونة ما يدل على أن الشفيع مخير في كتب عهدته على من شاء منهما، وليس ذلك بصحيح، والأولى أن يتأول ذلك على الموجود المنصوص عليه في المذهب. وقال أبو حنيفة إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري فعهدته عليه، وإن أخذه من يد البائع قبل أن يقبضه المشتري فالعهدة عليه. وقال ابن أبي ليلى إن العهدة على البائع بكل حال. والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن البيع لم يفسخ بين البائع والمشتري بعد وجوب البيع له وتقرر ملكه على الشقص فوجب أن تكون العهدة عليه. فصل وإنما تكون العهدة في مذهبنا للشفيع على البائع في المقارض يبتاع بمال

فصل

القراض شقصا وهو شفيعه أو رب المال شفيعه، لأن رب المال إن كانت له الشفعة فالمال له فلا يصح له أن يكتب العهدة على نفسه، وإن كانت الشفعة للمقارض فلا يجوز له أن يجعل العهدة على رب المال فيما ابتاع بماله. فصل وإذا باع المبتاع الشقص أخذه الشفيع ممن شاء منهما وكتب عهدته عليه. وكذلك قال أشهب إذا غاب الشفعاء إلا واحدا فأخذ جميع الشفعة ثم جاء أحد الغيب كان مخيرا في كتاب عهدته إن شاء على المشتري وإن شاء على الشفيع، لأنه كان مخيرا في الأخذ فهو كمشتر من المشتري. وإن جاء ثالث كان مخيرا إن شاء كتب عهدته على المشتري وإن شاء على الشفيع الأول وإن شاء عليه وعلى الثاني. فقيل إن قول أشهب هو خلاف لمذهب ابن القاسم وإنه لا يكتب عهدته على مذهب ابن القاسم إلا على المشتري، وليس ذلك عندي بصحيح. والصواب أن قول أشهب مفسر لمذهب ابن القاسم إن شاء الله وبه التوفيق. فصل واختلف في الأخذ بالشفعة فقيل إنها تنزل منزلة البيع، وقيل منزلة الاستحقاق فيما يختص بذلك من الأحكام. فصل وتورث الشفعة فينزل الوارث منزلة الموروث في الحق الذي كان له من الأخذ أو الترك، سواء مات الموروث والشقص الذي يستشفع به في يده فورثه عنه، أو مات بعد بيع الشقص على القول بأن البيع لا يسقط شفعته. ولا تباع ولا توهب. وقد وقع لأصبغ في الواضحة أن الشقص إذا بيع وله شفعاء فيسلم جميعهم الشفعة إلا واحدا فأراد الذي لم يسلم أن يأخذ الجميع أن تسليمهم إن كان على

فصل

الهبة للمشتري والعطية فليس له إلا سهمه منها وللمشتري سهام المسلمين. وإن لم يكن على هذا الوجه إلا على ترك الشفعة وكراهية الأخذ بها فللمتمسك جميعها. فصل فإذا صح على قول أصبغ هذا للمشتري بالهبة حظ المسلم ولم يكن لمن سواه من الشفعاء أخذه، فكذلك البيع على هذا القياس ينزل المشتري به منزلة الشفيع البائع للشفعة، فلا يكون لمن سواه من الشفعاء عليه شفعة، إلا أن يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حظوظهم. وعلى هذا تأول ابن لبابة رواية ابن القاسم عن مالك في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل شفعة قد وجبت له ولا يهبها، فقال معناه من غير المبتاع، واستدل على صحة تأويله برواية جلبها من كتاب الدعوى والصلح قال: يجوز أن يبيع شفعته من المبتاع بعد وجوب الصفقة قبل أن يستشفع ولا يجوز له بيع ذلك من غيره. ومثل هذا حكي أيضا عن مالك من رواية أشهب عنه أنه قال: ولا يجوز له أن يبيعها من غير المبتاع قبل أن يأخذ بشفعته، واختار هو من رأيه ألا يبيع الشفعة ولا يهبها لا من المبتاع ولا من غيره، وهو الصواب. والروايات التي جلب ليست بجلية لاحتمال أن يتأول على أنه إنما أراد بها أن أخذ العرض من المبتاع على تسليم الشفعة له يجوز بعد وجوب الصفقة، وسمي ذلك بيعا لما فيه من معنى البيع. وقول أصبغ شاذ بعيد عن النظر. وحكى ابن لبابة أيضا أنه رأى ابن الحباب يعقد لنفسه وثيقة شراء نصيب رجل من مال وما وجب له من الاستشفاع في نصيب كان بيع من ذلك المال قبل ذلك. قال فلما تمت الوثيقة قال لي هذه من غرائب المنتجات التي لا يعرفها والله غيرنا، يريدني ونفسه. فالذي يتحصل في هذا أنه لا يجوز للشفيع أن يهب ما وجب له من الاستشفاع لغير المبتاع ولا يبيعه منه. واختلف هل له أن يهب ذلك للمبتاع ويبيعه منه أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز ويخلص المشتري بما اشترى، ولا يكون لغير البائع

فصل

والواهب من الشفعاء عليه شفعة إلا أن يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حقوقهم. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وينفسخ البيع فيكون الشفيع على شفعته، ويفسخ حكم الهبة فيمضي على حكم التسليم. وأما بيع الشفيع نصيبه للذي يستشفع قبل أن يأخذ بالشفعة أو هبته فلا يجوز باتفاق. وأما تسليم الشفعة بمال بعد وجوبها له فجائز باتفاق، وبالله التوفيق. فصل وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة لغيره، ولا له أن يأخذ للبيع. . وقد استحسن أشهب ألا يكون ذلك له. وأما المريض فإنه يأخذ بالشفعة ولا اعتراض في ذلك، وإن كان أخذه في هذه الحال لورثته لأنه إن لم يأخذ في مرضه كان لهم أن يأخذوا لأنفسهم بعد وفاته. فصل وقد اختلف في الحد الذي تنقطع فيه شفعة الحاضر العالم إذا سكت ولم يقم بطلب شفعته، فقال أشهب ورواه عن مالك إن حد ذلك السنة، وقال ابن القاسم في المدونة ورواه عن مالك إن السنة قليل ولا تنقطع إلا فيما فوق السنة. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنه على شفعته ما لم يوقفه السلطان على الأخذ أو الترك فيترك أو يتركها طوعا منه ويشهد بذلك على نفسه أو يمضي من طول المدة ما يدل على أنه كان تاركا لها. والخمس سنين قليل إلا أن يحدث المشتري فيها بيتا أو غرسا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك، فكأنه يرى على هذه الرواية أن حد ما تنقطع فيه الشفعة هو ما يكون فيه الحيازة. وهو نص قول ابن الماجشون في المبسوطة أنه لا تنقطع شفعة الحاضر إلا بعد مضي

فصل

عشرة أعوام للحديث الذي جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حاز شيئا عشر سنين فهو له». قال ابن المعدل وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين سنة، ثم رجع إلى عشر سنين. وقد روي عن مالك أنه على شفعته وإن طال ما لم يصرح بتركها، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة بضد ذلك إن الشفعة إنما هي على الدروب فإن لم يقم بشفعته ساعة علم بالبيع فلا شفعة له. وأما الغائب فهو على شفعته وإن طالت غيبته وكذلك إن كان الشفيع حاضرا والمشتري غائبا فاشتراها له وكيل. فصل فإن سكت الشفيع ولم يقم حتى أحدث المشتري فيما اشتراه غرسا أو بناء أو حتى طالت المدة وخرجت عن الحد الموقت في الشفعة بطل حقه وسقط قيامه ولم يعذر في ذلك بجهل. وهذه إحدى المسائل التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي سبع مسائل على ما روي عن أبي عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. حكى ابن عتاب عن ابن بشر القاضي أنه قال كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: سبع مسائل لا يعذر فيها الجاهل بجهله ولا يشرحها، وإذا سألناه عن تفسيرها لنا. قال فتتبعتها إلى يومي هذا فلم أجد منها إلا بعضها. فذكر خمس مسائل مختلفة المعاني يقتضي بعضها الجهل بما يوجبه الحكم من أن السكوت يبطل حق الساكت، وبعضها الجهل بمقدار الشيء المتعدى فيه. قال: وأخرج إلينا كتابه فكتبناها وهي هذه المسألة، ومسألة الأمة تعتق تحت العبد فيطأها وهي عالمة بالعتق ثم تريد الخيار وتدعي الجهل؛ ومسألة المملكة تقضي بالثلث بالمجلس فلا يناكرها الزوج ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك

ويدعي الجهل؛ ومسألة السارق يسرق الثوب الذي يسترفع فيه الدراهم وهو لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه دراهم مربوطة لم يعلم بها ومسألة المرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده ويدعي الجهل، قال ابن عتاب توجد منها مسائل كثيرة فذكر أيضا مسائل مختلفة المعاني وقعت في المدونة والمستخرجة غيرها من الدواوين نص فيها على أن الجاهل لا يعذر بجهله بعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيها. منها حديث مرعوس في المقرة جهلا بالزنا؛ ومسألة سماع ابن القاسم في الذي يخير امرأته فتقضي بواحدة فيقال لها ليس ذلك لك فتريد أن تقضي مرة أخرى بالثلث وتدعي الجهل فيما قضت به؛ ومنها رواية أصبغ عن ابن القاسم في من استحلف أباه في حق له أن شهادته ساقطة وإن جهل أنه عقوق. وكذلك قاطع الدنانير جاهلا بكراهيته. ومن الدمياطية في الرجل يرد الرهن إلى الراهن أن ذلك خروج من الرهن ولا يعذر بالجهل. ومن الواضحة فيمن باع جارية وقال كان لها زوج فطلقها أو مات عنها وقالت ذلك الجارية لم يجز للمشتري أن يطأها ولا يزوج حتى تشهد البينة على الصدق أو الوفاة، وإن أراد ردها وادعى أنه ظن أن قول البائع والجارية في ذلك مقبول لم يكن له ذلك، وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك. ومنها قول أشهب في ديوانه فيمن أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة وادعى الجهالة إنه يحد ولا يعذر كما لو زنى رجل وادعى أنه لم يعلم بتحريم الزنى. وفرق أشهب بين المعتق والمطلق ثلاثا فيطأ في العدة أو واحدة قبل الدخول فيطأ، فقال في هاتين إن الولد يلحقه ولا يحد لأنها شبهة لأهل الجهل. وما حكى ابن حبيب عن أصبغ في المتظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يؤدب ولا يعذر بالجهل، وفي الوصي يشتري النصرانية فيعتقها أنه يضمن وإن أخطأ ولا يعذر بالجهل والخطأ، وذكر حديث ابن أبي حبيبة الجرو والفناء من الموطأ. ومن قذف عبدا فظهر أنه حر قد كان أعتق قبل ذلك ولم يعلم القاذف بعتقه، وكذلك إن شرب هو أو قذف أو زنى ولم يعلم بعتقه أن الحد يجب على قاذفه في قذفه إياه، وعليه فيما واقع من الحدود. ومن اشترى من يعتق عليه ولم يعلم أنه يعتق عليه. وذكر أيضا

مسائل عنده كثيرة غير هذه، قال: والبيوع الفاسدة حكم الجاهل فيها والعامد سواء إلا في الإثم. قال: وكذلك الوضوء والصلاة يستوي فيهما الجاهل والعامد، وكذلك الحج يستوي الجاهل والعامد في كثير من أحكامه. فأحسن الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما جمع من هذه المسائل إلا أنه إنما ذهب إلى ذكر كل مسألة وجد فيها النص من قول قائل إن الجاهل لا يعذر بجهله وإن خالفه في ذلك غيره ولم يستوعبها وإن كان جمع كثيرا منها وترك مسائل كثيرة لا يعذر فيها الجاهل بجهله باتفاق وعلى اختلاف لم يذكرها إذ لم يجد النص فيها بأن الجاهل غير معذور فيها بجهله، منها مسألة من رأى حمل امرأته فلم ينكره ثم أراد أن ينفيه بعد ذلك، ومنها الشاهد يرى الفرج يستحل أو العبد يستخدم فلا يقوم بشهادته ولا ينكر ذلك، وغيرها من المسائل، كأكل مال اليتيم والغاصب والمحارب والمتصدر لفتوى بغير علم، والطبيب يقتل بمعاناته وهو جاهل بالطب، والشاهد يخطئ في شهادته في الأموال والحدود، ولم يذكر من هذا كله شيئا. فهذه المسائل على افتراق معانيها أكثر من أن تحصى أو تحصر بعدد. فأما القاضي ابن بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم يأت في هذه المسألة بشيء، وأما الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فجمع المسائل التي ذكر ليبين بذلك أن الفقيه أبا عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخطأ في حصرها إلى سبع مسائل فقصر في النظر وأخطأ في التأويل. ولم يكن الفقيه أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على كثرة حفظه وجلالة قدره ممن يجهل هذه المسائل ولا تخفى عليه مواضعها ولا ممن يغلط هذا الغلط البين. فلما علمت هذا أعملت نظري في معرفة الوجه الذي ذهب إليه فرأيت أنه يحتمل أن يكون أراد نوعا ما تنحصر مسائله إلى سبع مسائل، واحتمل عندي أن يكون ذلك النوع هو ما يكون مجرد السكوت فيه على فعل الغير يسقط حق الساكت ويبطل قيامه باتفاق، لأني وجدت في هذا النوع سبع مسائل لا ثامنة لها: إحداها: مسألة الشفعة هذه وما كان في معناها كالغريم يعتق بحضرة غرمائه فيسكتون ولا ينكرون ثم يريدون القيام عليه، وكالرجل يبيع العبد على أنه بالخيار فيتركه بيد المبتاع حتى يطول الأمر بعد انقضاء أيام الخيار ثم يريد استرجاعه بما

اشترط من الخيار ويدعي الجهل في سكوته على بقائه بيد المبتاع بعد انقضاء أيام الخيار وما أشبه ذلك. والثانية: مسألة الحيازة، من حال مال رجل في وجهه مدة تكون الحيازة فيه عامله فادعى أنه ابتاعه منه صدق مع يمينه ولم يعذر صاحب المال إن ادعى الجهل فإن سكوته يبطل قيامه. الثالثة: مسألة المملكة تقضي بالثلاث فيسكت الزوج ولا ينكر ثم يريد المناكرة بعد ذلك ويدعي الجهل في سكوته، أو لا تقضي بشيء وتسكت حتى توطأ أو ينقضي المجلس على اختلاف في ذلك ثم تريد أن تقضي وتدعي الجهل، وما أشبه ذلك كالأمة تعتق تحت العبد فلا تختار حتى يطأها الزوج ثم تريد أن تختار نفسها وتدعي الجهل في سكوتها حتى وطئها. والرابعة: مسألة الشاهد يرى الفرج يستحل أو الحر يستخدم أو ما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة لله فيسكت ولا يقوم بشهادته ثم يقوم بها بعد حين ويدعي الجهل في سكوته. والخامسة: مسألة المرأة المطلقة يراجعها زوجها فتسكت حتى يطأها ثم تدعي أن عدتها قد كانت انقضت وتدعي الجهل في سكوتها. والسادسة: مسألة المرأة تزوج وهي حاضرة فتسكت ولا تنكر حتى يدخل بها الزوج ثم تنكر النكاح وتقول لم أرض به وتدعي الجهل في سكوتها حتى دخل بها. والسابعة: مسألة الرجل يباع عليه ماله ويقبضه المشتري وهو حاضر لا يغير فيه ويدعي أنه لم يرض البيع ويدعي الجهل. ويحتمل أن يكون أراد سبع مسائل في نوع واحد من معنى الطلاق: إحداها: مسألة رجل يوصي لمكاتبه - من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك - في الذي يملك امرأته أمرها فتقول قد قبلت ثم تصالحه بعد ذلك قبل أن يسأل ما قبلت ثم تقول كنت أردت ثلاثا لترجع فيما صالحت به أنها لا ترجع على

فصل

الزوج بشيء لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثا ولا تعذر في ذلك إن ادعت الجهالة. والثانية: الذي يسمع امرأته تقضي بالثلاث فيسكت ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك ويدعي الجهل. والثالثة: المرأة تختار في التخيير واحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك ثلاثا وتقول جهلت وظننت أن لي أن أختار واحدة. والرابعة: المملكة أو المخيرة يملكها زوجها أو يخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على قول مالك الأول، ثم تريد أن تقضي بعد ذلك وتقول جهلت وظننت أن ذلك بيدي متى شئت. والخامسة: التي يقول لها زوجها إن غبت عنك أكثر من سنة فأمرك بيدك فيغيب عنها ويقيم بعد السنة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها ثم تريد أن تقضي وتقول: جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى شئت. والسادسة: الأمة تعتق تحت العبد فتتركه يطؤها ثم تريد أن تختار وتزعم أنها جهلت أن الخيار كان لها. والسابعة: الرجل يجعل أمر امرأته بيد غيرها فلا يقضي المملك حتى يطأها زوجها ثم يريد أن يقضي ويقول جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان لي من القضاء فيما ملكت، وبالله تعالى التوفيق. فصل واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما كان متشبثا بالأصول ومتصلا به كالثمرة والزرع والكراء ورقيق الحائط إذا بيعوا مع الحائط، والرحى إذا بيعت مع الأصل، والماء والنقض إذا بيعا دون الأصل، فمرة قال في ذلك كله الشفعة لتعلقه بأصل ما فيه الشفعة، ومرة قال إن ذلك كالعروض المنفصلة من الأرض فلا شفعة فيها. وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.

فصل

فصل فأما التمرة فلا فرق في وجوب الشفعة فيها عند من أوجبها، وهو قول مالك في المدونة استحسانا، قال وما علمت أنه قال أحد من أهل العلم قبلي إن فيها الشفعة، بين أن تباع دون الأصل بعد زهوها أو مع الأصل بعد الزهو أو قبله بعد الإبار على مذهب ابن القاسم. وأما إن بيعت قبل الإبار فلا شفعة فيها إذ لم يقع عليها حصة من الثمن، وإنما يأخذها على مذهب ابن القاسم ما لم تجذ أو تيبس إذا كان البيع وقع فيها قبل الإبار من جهة الاستحقاق لا من جهة الاستشفاع. وقد فرعتها في تفسير هذه المسألة وما يتعلق بها من كتاب العيوب فلا وجه لإعادة ذكرها، وبالله التوفيق لا شريك له. فصل وكذلك الزرع أيضا لا فرق عند من رأى الشفعة فيه بين أن يباع دون الأصل إذا حل بيعه أو مع الأصل بعد أن ينبت أو قبل أن ينبت وقد قيل إنه ما لم ينبت فلا شفعة فيه أصلا إذ لم يقع عليه حصة من الثمن كالثمرة التي لم تؤبر. والصواب أنه قد وقع عليه حصة من الثمن وأن الشفعة فيه واجبة بخلاف الثمرة التي لم تؤبر، وبالله التوفيق. فصل والخلاف في وجوب الشفعة فيه قائم من المدونة لأنه على إسقاط الشفعة فيه بأن بيعه لا يجوز حتى ييبس، فيلزم على هذا التعليل أن تجب الشفعة فيه إذا بيع قبل أن ييبس على مذهب من يجيز ذلك من أهل العلم، أو يرى العقد فيه فوتا إذا وقع من أصحابنا وإذا بيع مع الأصل خلاف ما نص عليه في المدونة، ومثل ظاهر ما في سماع أشهب من قول مالك إن الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض. وبالله تعالى التوفيق.

فصل

فصل وعلى هذا الاختلاف يتركب طرو الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل طلوع البذر فيها أو بعد طلوعه، وبالله التوفيق. فصل فإذا طرأ الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل أن يطلع البذر فيها مثل أن تكون الأرض بين الشريكين فيبيع أحدهما نصيبه منها فيريد الشريك الأخذ بالشفعة وهي مبذورة قبل طلوع البذر فيها فلا يخلو الأمر في ذلك من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون المبتاع هو الباذر لها. والثاني: أن يكون البائع هو الذي بذرها أو باعها مبذورة. والثالث: أن يكون البذر لغيرهما مثل مكتر أو ممنوح أو ما أشبه ذلك. فأما إن كان المبتاع هو الذي بذرها فيأخذها الشفيع ويبقى البذر للمبتاع الذي بذره على مذهب من يحمل محمل البيع فلا يصح له الأخذ بالشفعة إلا بعد طلوع البذر. . وقيل إنه يأخذه مع الأصل بقيمة البذر والعمل، وقيل بقيمته على الرجاء والخوف بمنزلة السقي والعلاج في الثمرة. وأما إن كان البائع هو الباذر لها فيأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى في الزرع الشفعة. وعلى القول الذي لا يرى في الزرع الشفعة يأخذها بما ينوبها من الثمن على القول الذي يحمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، وأما على القول الذي يحمل الأخذ بالشفعة محمل البيع فلا يأخذها حتى يبرز الزرع. وأما إن كان غيرهما هو الباذر لها فيأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن، ولا كلام في هذا الوجه.

فصل

فصل وكذلك إن طرأ على الأرض والبذر قد نبت فلا يخلو من الثلاثة الأحوال المذكورة، غير أن الوجهين يستوفي الحكم فيهما. وهو أن يكون البذر للمبتاع أو يكون لأجنبي فيأخذ الشفيع فيهما الأرض دون الزرع بجميع الثمن. وأما إن كان البذر قد بذره البائع فيأخذ الشفيع الأرض والزرع بجميع الثمن على القول الذي يرى الشفعة في الزرع، ويأخذ الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن على القول الذي لا يرى في الزرع شفعة وأما إن طرأ الشفيع بعد يبس الزرع فلا شفعة فيه ويأخذ الأرض بجميع الثمن إن كان البذر للمبتاع أو لأجنبي، وإن كان البذر للبائع أخذ الأرض بما ينوبها من الثمن. فصل وأما طرو المستحق على الأرض فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يستحق الأرض والزرع. والثاني: أن يستحق الأرض دون الزرع. فأما إذا استحق الأرض والزرع مثل أن يزرع الرجل أرضه فيتعدى عليه فيها رجل فيبيعها فهو بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يأخذ أرضه بزرعها ولا كلام في هذا الوجه. وأما إذا استحق الأرض دون الزرع فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال أيضا: أحدها: أن يكون الزرع بذره المستحق منه. والثاني: أن يكون بذره البائع. والثالث: أن يكون لأجنبي. فأما إن كان بذره المستحق منه وهو غاصب فحكمه حكم الغاصب وهو معلوم، وإن لم يكن غاصبا فلا شيء للمستحق في الزرع ولا له قلعه وإنما له الكراء إن لم يكن الإبان قد فات.

فصل

وأما إن كان البذر لأجنبي بوجه صحيح فهو له ويأخذ المستحق أرضه وله على الزارع الكراء إن كان أكرى منه هو، وإن كأن الغاصب هو الذي أكراها منه فله الكراء أيضا إن كان الإبان لم يفت، وإن كان الإبان قد فات جرى ذلك على الاختلاف في غلة الأرض المغصوبة، وقد تقدم القول فيها. وأما إن كان بذر الزرع البائع فباع الأرض مبذورة من المستحق منه فيأخذ المستحق أرضه وينفسخ البيع في الزرع ويرجع المبتاع بجميع الثمن على البائع. وفي كتاب ابن المواز أن الزرع يبقى للمبتاع، وهو بعيد. فهذا وجه القول في طرو كل واحد منهما على انفراد، وهو يغني على القول في طروهما معا وبالله التوفيق. فصل وأما الكراء فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا انفرد عن بيع الأصل، ولا يتصور فيه غير ذلك وبالله التوفيق. فصل وأما رقيق الحائط والرحى فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيهما إذا بيعا مع الأصل، فإن انفرد البيع فيهما على الأصل لم يكن فيهما شفعة باتفاق. فصل وأما الماء فلا اختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع شقص منه مع الأصل أو دونه ولم تقسم الأرض. واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا قسمت الأرض، فقال في المدونة إنه لا شفعة فيه. وروى يحيى عن ابن القاسم في العتبية أن فيه الشفعة. فذهب سحنون وابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، إلا أنهما اختلفا في تأويل الجمع بينهما، فقال سحنون معنى مسألة المدونة أنها بئر واحدة فلا شفعة فيها إذ لا تنقسم. .

فصل

والشفعة تكون فيما ينقسم دون ما لا ينقسم. وقال ابن لبابة معنى مسألة المدونة أنها بئر لا فناء لها ولا أرض ومعنى رواية يحيى أن لها فناء وأرضا مشتركة تكون فيها القلد. وذهب القاضي أبو الوليد إلى أن ذلك اختلاف من القول، وأن الاختلاف في ذلك جار على الاختلاف فيما لا ينقسم كالنخلة والشجرة تكون بين النفر، إذ لا تنقسم العين والبئر كما لا تنقسم النخلة والشجرة. وكان من أدركت من الشيوخ يقول إن ذلك اختلاف من القول وإن الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق بالأرض ومتشبث به كالنقض والنخل دون الأرض والكراء وما أشبه ذلك. وبالله التوفيق. فصل وأما النقض فلا خلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع مع الأصل لأنه تبع له. واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع ثم طرأ عليه من الاستحقاق ما يوجب للمستحق فيه الشركة أو باع أحد الشريكين حظه من النقض دون الأصل وهو من التساوي على صفة يجوز فيه البيع لوجوب قسمه مع الأصل على قولين قائمين من المدونة. وكذلك إن كان النقض القائم بين الشريكين والعرصة لغيرهما فباع أحدهما حظه من النقض لشريكه فيه الشفعة على الاختلاف المذكور إن أبلى صاحب العرصة أن يأخذه لأنه مبدأ عليه ليس من أجل أنه شفيع، ولكن من أجل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار». وقد اختلف هاهنا ممن يأخذ رب العرصة النقض وبما يأخذه. فقيل إنه يأخذه من المبتاع بالقيمة مقلوعا، وقيل بالثمن الذي ابتاعه به، وقيل بالأقل من القيمة أو الثمن. وقيل إنه إنما يأخذه من البائع بقيمته مقلوعا أو بالأقل من القيمة أو الثمن وينفسخ البيع فيه بينه وبين المبتاع، فيرجع على البائع بالثمن الذي دفع إليه. وكل ذلك قد تؤول على ما في المدونة. والأظهر منها أنه إنما يأخذه من البائع بالأقل من القيمة أو الثمن، والأظهر

فصل

في القياس أن يأخذ من المبتاع بالقيمة مقلوعا. وهذا كله على القول بجواز بيع الأنقاض قائمة على القلع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله التوفيق. فصل وفي شراء النقض على الهدم أو النخل على القلع والشفعة في ذلك مسائل لم تستوعبها المدونة، وأنا أذكر منها ست مسائل مشروحة بعللها هي أصلها وعليها مدارها، فمن فهمها ووقف على معانيها استدل بها على سائرها إن شاء الله .. إحداها: أن يشتري النخل على القلع ثم تستحق الأرض أو بعضها. والثانية: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض بعد ذلك فتستحق الأرض أو بعضها. والثالثة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل فيستحق الأرض أو بعضها. والرابعة: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل. الخامسة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل بعد ذلك، فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل. والسادسة: أن يشتري النخل على القلع فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل. فصل فأما المسألة الأولى وهي أن يشتري النخل على القلع ثم يستحق رجل

فصل

الأرض فقال فيها في المدونة إن لمستحق الأرض أن يأخذ من المبتاع النخل بقيمتها مقلوعة وليس من وجه أنه شفيع، إذ لا شركة له معه فيها، ولكن من وجه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» وإن شاء خلى بينه وبين قلعها، وهذا صحيح على مذهب ابن القاسم في أن شراء الأنقاض على القلع جائز وإن كان من حق صاحب العرصة أن يأخذها بقيمتها مقلوعة. وأما على القول بأن ذلك لا يجوز فيفسخ البيع فيها وترجع إلى بائعها ولا يكون لمستحق الأرض عليها سبيل. وقال سحنون ينظر في ذلك فإنه لا يخلو أن يكون البائع للنقض غاصبا للأرض أو مشتريا لها. فإن كان غاصبا فإن المستحق يدفع إليه أعني البائع وهو الغاصب قيمة النخل مقلوعة ويأخذها إن شاء وينتقض شراء المشتري لها، وإن شاء أسلمها إليها فقلعها. وإن لم يكن غاصبا فالمستحق، وإنما له أن يأخذ منه الثمن الذي دفع إليه في النخل على القلع لأنها قد استحقت منه، كمن باع سلعة بمائة ثم باعها من آخر بتسعين فأخذها المبتاع الأول فليس الثاني أن يأخذ من البائع الثمن الذي أخذه من المبتاع الأول، وإنما له أن يرجع عليه بالثمن الذي دفع إليه لأن السلعة استحقت من يده. فإن قال مستحق الأرض لا أعطيه قيمة البناء، قيل للبائع أعطه قيمة الأرض براحا ويتم البيع للمبتاع في النخل ويقلعها على ما اشتراها عليه، فإن أبى من ذلك أيضا كانا شريكين في الأرض والنخل هذا بقيمة النخل قائمة والمستحق بقيمة الأرض بيضاء، وينتقض شراء المشتري فيما صار لمستحق الأرض من الأنقاض ويمضي شراؤه فيما صار منها للبائع إن كان الذي صار له منها جلها ويرجع عليه من الثمن بقدر ما صار منها للمستحق. وإن كان الذي صار منها للبائع غير الجل مما يكون للمشتري أن يرد فليس له أن يمسك وإن كان الجزء معلوما لأن ما يصير له بالقسمة منه مجهول، إذ لا يقسم إلا مع الأرض على اختلاف في هذا الأصل في غير ما كتاب من المدونة. فصل فإن استحق نصف الأرض فإن المستحق يأخذ نصف الأنقاض وهو ما قابل النصف المستحق بقيمتها مقلوعة على مذهب ابن القاسم. وأما النصف الثاني

فصل

فحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه يأخذه بالشفعة بالثمن، وليس ذلك بصحيح، إذ لم تجب الشركة بينهما فيه إلا بعد البيع فلا وجه للشفعة فيه. وإنما الصحيح أن يأخذ بقيمته مقلوعا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» وينظر في النصف المستحق على مذهب سحنون المتقدم إن كان البائع غاصبا أو مشتريا بمثل ما تقدم، وبالله التوفيق. فصل وأما المسألة الثانية وهي أن يشتري النخل على أن يقلعها ثم يشتري الأرض فيستحقها رجل فإن المبتاع يرجع على البائع بثمن الأرض التي استحقت من يده ثم يكون الحكم بين مبتاع النخل وبين المستحق في الأنقاض على ما تقدم في المسألة الأولى من قول ابن القاسم وسحنون، وبالله تعالى التوفيق. فصل وأما المسألة الثالثة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري الأنقاض فيستحق الأرض رجل فإن المستحق للأرض هاهنا لا يأخذ الأنقاض على مذهب ابن القاسم إلا بقيمتها قائمة، لأنه زاد في ثمن الأنقاض ليبقيها في أرضه، فليس هو بمنزلة من اشتراها للقلع. كذا حكى عبد الحق في كتابه وهو صحيح. وينبغي على هذا إن أبى أن يدفع إليه قيمتها قائمة أن يقال للمشتري أعطه قيمة أرضه براحا، فإن أبى من ذلك أيضا حملا على الشركة على ما تقدم. وينبغي على مذهب سحنون أن ينظر، فإن كان البائع غاصبا كان للمستحق أن يدفع إليه قيمة النقض منقوضا وينقض البيع فيه بينه وبين المشتري فيرجع عليه بالثمن الذي دفع إليه، فإن أبى من ذلك مضى النقض للمشتري بشرائه وبقي فيه على حقه والمستحق على حقه فيها. فإن لم يتفقا في ذلك على شيء يجوز بينهما بيعت الدار وقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الأنقاض قائمة وقيمة العرصة براحا. وإن

فصل

كان البائع للأنقاض مشتريا قيل للمستحق ادفع إليه قيمة الأنقاض قائمة، فإن فعل انتقض البيع فيها، وإن أبى من ذلك قيل للبائع ادفع إليه قيمة البقعة براحا. فإن فعل كانت له البقعة وللمبتاع النقض، فإن اتفقا فيهما على شيء يجوز بينهما وإلا بيع الجميع فاقتسما الثمن على القيم، فإن أبى من ذلك أيضا حملا من الشركة على ما تقدم، وانتقض البيع فيما صار من النقض للمستحق ومضى فيما صار منه للبائع على ما تقدم من التفسير أيضا. فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يشتري النخل على القلع أولا ثم يشتري الأرض فيستحق رجل نصف الأرض والنخل؛ والخامسة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النقض في صفقة أخرى فيستحق رجل نصف الأرض والنخل، ففيهما ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شفعة في النخل، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الشفعة فيها، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة. والثالث: أن الشفعة فيها إن كان اشتراها قبل الأرض، ولا شفعة فيها إن كان اشترى الأرض قبلها، وهو اختيار محمد بن المواز. فأما على القول بوجوب الشفعة في النخل فيأخذ المستحق نصف الأرض ونصف النخل بالشفعة بنصف الثمنين، وإن شاء أخذ نصف الأرض بالشفعة وترك نصف النخل فقلعها المبتاع في المسألة الرابعة، وبقي على حقه فيها في المسألة الخامسة، إذ لم يشترها على القلع. وإن شاء أخذ النخل بالشفعة وترك الأرض. وأما على القول بألا شفعة في النخل، فاختلف هل يكون له أن يأخذها بالقيمة من أجل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس له.

فصل

والثاني: أن ذلك له. فإذا قلنا إن ذلك له فيأخذ بالقيمة قائما في المسألتين على ما في بعض روايات المدونة. وعلى قياس ما حكى عبد الحق لا يأخذه بالقيمة قائما إلا في المسألة الخامسة وهي إذا تقدم شراء الأرض قبل النخل، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند. فصل وأما المسألة السادسة وهي أن يشتري النخل خاصة على أن يقلعها فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل، فإن البيع ينتقض فيما بقي في يد المشتري من النخل مما لم يستحق على البائع، ويرجع بجميع الثمن على البائع، إذ لا يقدر على الوصول إلى نصف ما اشترى إلا أن يقاسم البائع للمستحق الأرض مع النخل، وهو إذا قاسمه قد يقل ما يصير له في نصيبه لجودة الأرض أو يكثر لرداءتها، فلا يجوز له أن يتمسك بما بقي في يد البائع منها لأن ذلك مجهول فينتقض البيع، كما قال ابن القاسم فيمن اشترى نصيب رجل في نخل وشريكه غائب على القلع إن ذلك لا يجوز، لأنه لا يستطاع قسمة النخل وحدها دون الأرض فيؤول ذلك إلى الجهل إذا قسم مع غيره. على أن ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قال في المدونة إذا اشترى نقض دار على أن يقلعه ثم أتى رجل فاستحق نصف الدار إنه يكون له أن يرد ما بقي في يديه من النقض مما لم يستحق على البائع. وظاهر قوله له أن يرد التخيير وأن له أن يمسك، وهو كلام فيه نظر، إلا أن يكون معنى ما تكلم عليه ابن القاسم أن الأرض والنقض متساو لا يختلف في القسمة وإنما يصير له فيه النصف حقيقة، وهو معنى قول سحنون في هذه المسألة إنها تجوز في حال ولا تجوز في حال. وجواب ابن القاسم فيها في المدونة على القول بأنه لا شفعة في النقض، ولذلك قال يخير المبتاع. ولو تكلم فيها على القول بوجوب الشفعة في النقض لبدأ بتخيير الشفيع قبل تخيير المبتاع على المعلوم من مذهبه في ذلك، خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله التوفيق لا شريك له.

فصل

فصل وقد اختلف عي الشركة التي يوجبها الحكم هل تجب الشفعة بها قبل تقررها أم لا على قولين. أحدهما. أن لا شفعة في ذلك، وهي رواية أشهب عن مالك في أصل سماعه. والثاني. أن الشفعة في ذلك واجبة، وهو قول أشهب من رأيه، ونصب الرواية قال: وسئل مالك فقيل له: إني أعطيته في خيف في وادي خمسين ومائة قفيز بين كل قفيزين عشرة أذرع، ثم إن بعض أهل ذلك الخيف من أهل الأرض باعوا ذلك الخيف، فهل لي شفعة فيما باعوا؟ فقال له لا أظن أن لك شفعة. فقال إنهم لم يحدوه ولم يقسموه ولم يسموا لي في أعلى الحائط ولا في أسفله. فقال ما أرى لك شفعة، أراهم قد سموا لك أذرعا مسماة، فقال لمالك إنهم لم يسموها في موضع من الخيف بعينه، فأين أجد ذلك في أعلى الخيف أم في أسفله؟ فقال له لا أدري اذهب إلى القاضي. قال أشهب: أوهم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أفتى به الرجل. أرى له في ذلك الشفعة، لأنه أعطاه خمسين ومائة قفيز بأذرع مسماة لم يعطها له في موضع بعينه حتى تكون معروفة بأعيانها فلا تكون له شفعة، ولكنه إنما أعطاه أذرعا ليس ذلك له في موضع محدود بعينه حتى يكون بعرف الذي له من الخيف، وإنما إعطاء من الخيف عدد أذرع يكون له شريكا في الخيف أعلاه وأسفله بقدرها من عدد الأذرع كلها، بمنزلة الذي يكون له في حائط مائة نخلة فيهب منها لرجل محشر بخلاف لا يسميها بأعيانها فيكون شريكا له في الحوائط بالعشر. فإن باع الواهب أو الموهوب له قبل القسم كان في ذلك الشفعة. وفي المجموعة لأشهب وابن نافع مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه لا شفعة في ذلك، إلا أن أشهب تأول أنه إنما وهب القفز دون الأرض، فلذلك لم ير له شفعة. وقد نزلت هذه المسألة بصاحبنا الفقيه أبي القاسم أصبغ بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قرية نسان، وذلك أن صاحبها توفي فابتاع من بعض ورثته حظوظهم، وكان صاحبها قد باع قبل موته فيها من غيره مبذر زوجين على الإشاعة، فطلبه

بالشفعة، فأفتينا فيها من غير ذكر رواية على ما يوجبه القياس والنظر ألا شفعة له في ذلك عليه، وكان المبتاع للزوجين قد أعلم القاضي يومئذ بمسألته، فقال له لك الشفعة ووعده أن يقضي له بذلك. فلما اتصل به ما قلنا أنكر الفتوى وظن أنها خطأ، فأخذ معي فيها فحاججته على رد قوله وتصحيح ما ذهبنا إليه. فلما لزمته الحجة ولم يقدر على القضاء مع مخالفة الفتوى رجع عن قوله بوجوب الشفعة وقال إن الذي يبطلها فساد البيع في الزوجين على الوجه المذكور، فطالبه الفقيه ابن القاسم بالحكم له بإبطال الشفعة عنه للقائم بها عليه على مذهبه الذي رآه، فقضى له بذلك وأشهدنا على قضائه به وحكمه، وزعم أن العلة عنده في فساد البيع الجهل بمبلغ أرض القرية لأنه اشترى على الشركة إذ لم يشترط الخيار فكأنه اشترى جزءا مجهولا يعرف مبلغه إن كان ثلثا أو ربعا إلا بعد تكسير أرض القرية. وهذا غير صحيح، لأن ما اشترى لا يزيد بزيادة أرض القرية ولا ينقص بنقصانها، لأنه إنما اشترى زوجين على الشركة في أرض القرية، فإن وجد تكسيرها عشرة أزواج كان له منها الخمس وإن وجد ثمانية كان له منها الربع، وربع الثمانية وخمس العشرة سواء، فلا غرر في ذلك ولا جهل، والبيع صحيح إذا كان قد وقف على أرض القرية وعرف كريمها من لئيمها. ومن أهل العلم من زماننا من ذهب إلى أن البيع لا يجوز في ذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة إذا كانت الأرض مختلفة في الطيب، ولا على قول غيره فيها وإن كانت مستوية قياسا على قولهما في كتاب كراء الأرضين في اكتراء الأرض مزارعة، وقال إن العلة في المنع من ذلك عند ابن القاسم إذا كانت الأرض مختلفة، وعند غيره إن كانت مستوية أن الحكم يوجب القسمة، فكأنه اشترى ما يخرج له فيها بالقسمة. وهذا ظاهر البطلان، إذ لو صحت هذه العلة لما أجاز ابن القاسم الكراء إذا استوت الأرض ولا أجاز اشتراء جزء على الإشاعة من دار ولا أرض لأن الحكم يوجب القسمة فيأخذ فيها ما يخرج له السهمة. وقد أجمع أهل العلم على جواز ذلك. وإنما معنى مسألة المدونة أن الكراء إنما وقع على أن يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء من الأرض، فأجازه ابن القاسم إذا استوت الأرض وإن أمكن أن تختلف الأغراض في نواحيها قياسا على قولهم في إجازة

فصل [فتوى ابن رشد بإبطال حكم قاضي قرطبة في قضية شفعة]

شراء ثوب يختاره المشتري من ثياب صنفها واحد وإن اختلفت صفاتها، ولم يجزها إذا اختلفت الأرض كما لم يجز شراء ثوب على أن يختاره من أصناف. ولم يجز ذلك عند غير ابن القاسم وإن استوت الأرض لاختلاف الأغراض في نواحيها على مذهب من لا يجيز البيع في الثياب على الاختيار حتى تكون صنفا واحدا وصفة واحدة. والدليل على صحة تأويلنا هذا في هذه المسألة أنها تنقسم في الاحتمال إلى أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الكراء وقع على أن يعطيه المكري من أي موضع شاء. والثاني: أن يكون وقع على أن يضربا على الأرض بالسهام فيأخذ من الموضع الذي وقع السهم عليه. والثالث: أن يكون وقع الأمر مسكوتا عليه. والرابع: أن يكون وقع على أن يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء فأما على أن يعطيه المكري من أي موضع شاء أو على أن يأخذ من الموضع الذي وقع عليه السهم بالقرعة فلا يصح أن يكونا تكلما على ذلك لأن ذلك لا يجوز عند أحد من العلماء. وكذلك لا يصح أن يكونا تكلما على أن البيع وقع مسكونا عليه على حكم الشركة لأن البيع لو كان وقع على ذلك لوجب أن يكون صحيحا عندهما جميعا، اختلفت الأرض في الطيب والكرم أو استوت في ذلك على ما بيناه فلم يبق إلا ما تأولناه وهو أن البيع إنما انعقد بينهما على أن يأخذ المكتري الأذرع التي اكترى حيث شاء من الأرض على ما بيناه. وإنما يفسد البيع في هذه المسألة إن كان مبذر الزوجين غير معلوم القدر، وقد نص على ذلك ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدونة. فصل [فتوى ابن رشد بإبطال حكم قاضي قرطبة في قضية شفعة] وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه لا شفعة في ذلك أصح من مذهب أشهب

على ما أفتينا به، وقد أتيت في جوابي حينئذ من الحجة بعد جواب الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما يقتضي توجيه الرواية وتصحيحها، ونصه: تصفحت- رحمنا الله وإياك- سؤالك ووقفت عليه وما جاوب به الفقيه أبو محمد - أكرمه الله- من أنه لا شفعة لمبتاع مبذر الزوجين من القرية على إشاعة فيما بيع منها بعد ذلك صحيح وبه أقول، لأن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ألا شفعة في الأصول إلا فيما بين الشركاء على ما ثبت من «قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة فيما بين الشركاء ما لم تقع الحدود». والشريك بإجماع أهل العلم إنما هو الذي يشارك الرجل في رقبة المال بجزء معلوم على الإشاعة، ولا يختص أحدهما دون صاحبه بضمان ما يطرأ عليه من هلاك أو غصب أو استحقاق. هو مبتاع مبذر الزوجين من القرية على الوجه الذي ذكرت في سؤالك ليس بشريك في القرية للبائع منه ولا لمن انتقلت إليه بالابتياع منه أو من ورثته، لأنه إنما ابتاع منه مساحة معلومة من أرضها. فهي بمنزلة من اشترى ثوبا من ثياب ولم يعينه ولا اشترط الخيار، وإن كان الحكم يوجب في ابتياع مبذر الزوجين عند التشاح أن تكسر جميع أرض القرية فيعرف ما يقع مبذر الزوجين منها فيأخذه حيثما وقع له بالقرعة على حكم الشركة إذا لم يعينا في تبايعهما الموضع الذي يأخذ منه مبذر الزوجين، قالا في تبايعهما على الإشاعة أو سكتا عنه، الحكم في ذلك سواء، لأنه إن طرأ على شيء من أرض القرية استحقاق أو غصب أو هلاك لم يلزم مبتاع الزوجين من ذلك شيء ما لم تكسر أرض القرية فيشهدا على أنفسهما بالرضى بالتشارك فيها على ما يقع تكسير الزوجين من تكسير جميع القرية، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه بين أحد من أهل العلم. فإذا صح هذا على ما بيناه وجب ألا شفعة له على المبتاع لمبذر الزوجين. ومعنى قول أهل العلم في مثل هذا البيع إنه جائز وهما شريكان إنما هو أن الحكم يوجب القسمة بينهما عند التشاح على حكم الشركة لا أنهما شريكان من الآن بعقد البيع، هذا ما لا يصح أن يتأول عليهم بوجه. ولو وقع البيع بينهما في مبذر الزوجين على هذا بشرط أن يكون المبتاع لمبذر الزوجين شريكا للبائع في القرية بما يبلغ تكسيرها من تكسير جميع أرض القرية إذا كسراهما حتى تكون المصيبة منهما جميعا على حسب ذلك فيما يطرأ على القرية بعد البيع من غصب أو

فصل

استحقاق كان بيعا فاسدا لمآل الأمر بالشرط إلى ابتياع جزء مجهول لا يعلم إلا بعد التكسير، وبالله التوفيق. فصل ولو باع منه مبذر الزوجين من القرية على أن فيها عشرة أزواج قبل أن يتحقق تكسيرها لما وجب أن يكونا شريكين فيها بعقد البيع إلا على مذهب من لا يرى على البائع في مثل هذا البيع حق توفية، ويجعل اشتراط المبتاع على البائع عشرة أزواج كصفقة اشترى عليها، فإن وجد تكسير القرية عشرة أزواج فأكثر لزمهما البيع ولم يكن لواحد منهما خيار، وإن وجد تكسير القرية أقل من عشرة أزواج فإن المبتاع مخير بين أن يتمسك ببيعه بجميع الثمن أو يرد ويرى الضمان من المبتاع إن غرقت الأرض أو غصبت لا على من يرى على البائع فيه حق توفية ويجعل الضمان منه إن غصبت أو غرقت قبل التكسير، ويرى أن ما وجد فيها من زيادة على العشرة الأزواج التي اشترط عليه فلا حق للمبتاع فيها وأنه يكون شريكا بالزوجين اللذين ابتاع، فلا يكون له من القرية إلا سدسها إن وجد تكسيرها اثني عشر زوجا. وإن وجد تكسيرها أقل من عشرة أزواج سقط عنه من الثمن بحساب ذلك. فانظر هذا الأصل والاختلاف فيه في سماع أشهب وعيسى وأبي زيد من كتاب جامع البيوع، وفي نوازل سحنون من الكتاب المذكور ومن كتاب العيوب، وفي سماع عيسى أيضا من كتاب النكاح. وإنما يكون المبتاع شريكا للبائع بالزوجين إذا اشتراهما على الإشاعة من القرية بعد تكسير القرية والوقوف على حقيقة ذلك، فهذا تحقيق القول في هذه المسألة وبالله تعالى التوفيق لا شريك له. فصل ويجب إذا اشترى زوجين من القرية على الإشاعة ولم يسميا عدد أزواج القرية فاستحق من القرية شيء أو غصب قبل التكسير فقلنا إن المبتاع يكون له الزوجان مما بقي ويشارك البائع بقدر ذلك ألا يجبرا على ذلك إن أبى أحدهما وأراد رد البيع، لأن من حجة المبتاع أن يقول الذي استحق أو ذهب أفضل وأطيب فلا أرضى أن أخذ من الباقي، ومن حجة البائع أن يقول الذي بقي أفضل وأطيب فلا أرضى أن تأخذ منه،. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب القسمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد ... وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب القسمة قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. وقال تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين لما سأله الناس أن يقسم بينهم مغانمهم وألحوا عليه في ذلك: «أتخافون ألا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم، والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا». فصل فالحكم بقسمة ما ينقسم إذا دعا إلى ذلك بعض الأشراك واجب، ويبيع ما لا ينقسم وقسمة ثمنه بينهم إذا دعا إلى الانفصال في ذلك بعضهم لازم، لا

فصل

اختلاف بين أهل العلم في هذه الجملة. وإنما اختلفوا عند تفصيلها في تعيين ما ينقسم وفي صفة القسم فيما ينقسم على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. فصل فالقسمة تكون في شيئين: أحدهما: رقاب الأموال. والثاني: منافعها. فأما قسمة الرقاب فإنها تكون على ثلاثة أوجه: قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل. وقسمة مراضاة بعد تعديل وتقويم. وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. ولكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة أحكام اختصت بها دون ما سواها. فأما قسمة القرعة بعد التعديل والتقويم فهي القسمة التي يوجبها الحكم ويجبر عليها من أباها فيما ينقسم، ولا يصح إلا فيما تماثل أو تجانس من الأصول والحيوان والعروض، لا فيما اختلف وتباين من ذلك، ولا في شيء من المكيل والموزون، ولا يجمع فيها حظ اثنين في القسم. ويجب القيام فيها بالغبن إذا ثبت لأن كل واحد منهما دخل على قيمة مقدرة وذرع معلوم، فإذا وجد نقصا من ذلك وجب له الرجوع به. وأما قسمة المراضاة بعد التقويم والتعديل فتصح في الجنس الواحد وفي الأجناس المختلفة المتباينة وفي المكيل والموزون إلا فيما كان منه صنفا واحدا مدخرا لا يجوز فيه التفاضل. وهذه القسمة أيضا متى ظهر فيها غبن في ذرع أو قيمة كان للمغبون الرجوع بذلك للعلة التي قدمناها. وكذلك قسمة المراضاة والمهايأة

فصل

بغير تعديل ولا تقويم تجوز في الجنس الواحد وفي المختلف من الأجناس أيضا، وفي المكيل والموزون إلا فيما لا يجوز فيه التفاضل من الطعام إلا أنه لا قيام فيها لواحد منهم على صاحبه بالغبن، لأنه لم يأخذها أحد على قيمة مقدرة ولا على ذرع معلوم ولا على أنه مماثل لما خرج عنه، وإنما أخذه بعينه على أن يخرج فيما سواه من جميع حقه سواء كان أقل منه أو أكثر كبيع المكايسة سواء. فصل وهذه القسمة لا يختلف فيها أنها بيع من البيوع، وإنما يحكم فيها بحكم البيع فيما يطرأ من الاستحقاق والرد بالعيوب وسائر الأحكام المتعلقة بالبيوع. وأما القسمة على الوجهين الأولين فاختلف هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع، فنص مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة على أنها بيع من البيوع. وذهب سحنون إلى أنها تمييز حق. ويوجد من قوله ما يدل على خلاف مذهبه. واضطرب قول ابن القاسم في ذلك على ما تقتضيه مسائله في المدونة وغيرها. ووجه قول من قال إنها بيع من البيوع هو أن كل واحد من المتقاسمين عاوض صاحبه في حصته بحصته فملك حصة صاحبه من الجزء الذي صار إليه بحصته من الجزء الذي خرج عنه، وهذه معاوضة محضة، والمعاوضة مبايعة. ووجه قول من قال إنها تمييز حق أنها غير موقوفة على اختيار المتقاسمين بل قد تجوز فيها المخاطرة بالقرعة، وذلك ينافي البيع، فثبت أنها لتمييز الحق. والأظهر في قسمة القرعة أنها تمييز حق، وفي قسمة المراضاة بعد التعديل والتقويم أنها بيع من البيوع. وأما قسمة المراضاة بعد تعديل ولا تقويم فلا اختلاف أنها بيع من البيوع في جميع الأحكام كما ذكرنا. فصل والقرعة إنما جعلت في القسمة تطييبا لأنفس المتقاسمين، وأصلها قائم من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما الكتاب فقوله تعالى في قصة يونس عليه

فصل

السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. وفي قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]. وأما السنة فهي ما روي «أن رجلا أعتق أعبدا له ستة عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق». وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا». وإنما أسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين العبيد في العتق ليقاسم الميت للورثة فيأخذ له الثلث ويعطي الورثة الثلثين، فهذا أصل صحيح في القضاء بالسهمة في القسمة فيما كان مماثلا من العروض والأصول أو متجانسا، وما يوجبه الحكم فجائز أن يتراضى عليه من غير حكم، وبالله التوفيق. فصل ورقاب الأموال تنقسم في القسمة على ثلاثة أقسام: مكيل وموزون، وحيوان وعروض، ورباع وأصول. فصل فأما المكيل والموزون فلا يخلو من أن يكون صنفا واحدا أو صنفين فزائدا. فإن كان صنفا واحدا فلا يخلو أيضا من أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا. فأما إن كان صبرة واحدة فلا خلاف في وجوب قسمه على الاعتدال في الكيل والوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء، ولا في جواز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن وعلى التفضيل البين، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من الطعام المدخر الذي لا يجوز فيه التفاضل. ويجوز ذلك كله بالمكيال المعلوم والمجهول، وبالصنجة المعلومة والمجهولة. ولا خلاف أيضا في أن قسمته جزافا

فصل

بغير كيل ولا وزن ولا تحر لا تجوز، لأن ذلك غرر ومخاطرة وإن كان من الطعام المدخر دخله أيضا عدم المماثلة. وأما قسمته تحريا فلا تجوز في المكيل، وتجوز في الموزون. ويدخل في جواز ذلك من الاختلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا. فصل وأما إن لم يكن من صبرة واحدة فلا يخلو من أن يكون مما يجوز فيه التفاضل مثل: محمولة وسمراء وقمح وشعير ونقي ومغلوت فلا تجوز قسمته إلا على الاعتدال في الوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنهما إذا اقتسما القمح والشعير بالمكيال المجهول فأخذ أحدهما القمح والثاني الشعير وإن اعتدلا في الكيل واقتسما الزائد من القمح على الشعير أو الشعير على القمح بينهما بنصفين إن وجدا في أحدهما زيادة على الآخر، لأن ما كان من القمح مساويا للشعير وبالشعير في الكيل فقد بادل كل واحد منهما صاحبه في نصفه بالمكيال المجهول، ولا تجوز مبادلة القمح بالشعير بالمكيال المجهول، كما لا يجوز بيع أحدهما بالمكيال المجهول، لأن ذلك غرر، إذ لا يدري ما يقع المكيال المجهول من المعلوم، لأن الذي يأخذ الشعير يقول لو علمت أنه يبلغ هذا العدد لم أرض أن آخذ الشعير فأعطيه القمح. ولو اقتسما القمح على حدة والشعير على حدة لجاز بالمكيال المجهول على ما تقدم في الصبرة الواحدة. وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل مثل ما لا يدخر من الأطعمة ومثل الحناء والعصفر وشبه ذلك فيجوز قسمه على الاعتدال والتفاضل البين بالمكيال المعلوم والصنجة المعروفة. ولا يجوز بالمكيال المجهول

فصل

ولا بالصنجة المجهولة لأن ذلك غرر على ما بيناه في الصبرتين من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل مثل قمح وشعير. وأما في واجب الحكم فلا تقسم كل صبرة إلا على حدة. وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المجهول كما تجوز بالمكيال المعلوم، لأن قسمة الصبرة الواحدة على الكيل تمييز حق وليس ببيع. وكذلك إن كان صنفين تجوز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن، وعلى غير الاعتدال. ولا يجوز ذلك إلا بالمكيال المعلوم والصنجة المعلومة. وأما في واجب الحكم فلا يقسم كل صنف إلا على حدة. وإذا قسم كل صنف على حدة جاز ذلك بالمكيال المعلوم والمجهول حسب ما مضى بيانه وبالله تعالى التوفيق. فصل ولا تجوز القرعة في قسم شيء مما يكال أو يوزن. فصل أما الحيوان والعروض فقسمتهما على التراضي من غير سهمة جائزة باتفاق، ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. وأما قسمتهما بالتعديل والسهمة فمنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون في سماع يحيى من كتاب القسمة، وقال إنها تباع ويقسم الثمن، وأجازه مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنعوا منه في الصنفين. فصل وفي تمييز الصنف الواحد من الصنفين في ذلك اختلاف بين أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما أشهب فأجرى القسمة في ذلك مجرى البيع وحملها عليه فقال: إن ما جاز سلم بعضه في بعض فلا يجوز جمعه في القسمة بالسهمة وأما ابن القاسم فلم

فصل

يجر قوله على قياس، لأنه جعل القسمة في بعض المواضع أخف من البيع فأجاز القسمة بالسهمة فيما يجوز سلم بعضه في بعض،، وجعلها في بعض المواضع أشد من البيع فمنع من القسمة بالسهمة فيما هو عنده في البيع صنف واحد لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض، وذلك قوله في المدونة إنه تقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة والبغال على حدة والحمير على حدة، إلا أن يتأول عليه أنه أراد أن يقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة والبغال على حدة والحمير على حدة إذا كان في كل صنف منها ما يحمل القسمة، فيكون ذلك مثل ظاهر قوله في البز في أحد الموضعين من المدونة، ومثل قول عيسى بن دينار من رأيه في سماعه من كتاب القسمة في قسمة الأرض الدنية والكريمة. وهذا أولى ما حمل عليه قوله والله أعلم. فيتحصل من مذهبه على هذا التأويل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجمع الخيل والبراذين والبغال والحمير في القسمة إن كان كل صنف منها يحتمل أن يقسم على حدة. والثاني: أنه لا يجمع في القسمة إلا أن يكون كل صنف منها لا يحتمل أن يقسم على حدة. والثالث: أنه لا يجمع في القسم بحال وإن لم يحتمل أن يقسم كل صنف على حدة. وكذلك البز والثياب على هذا القياس يكون فيه ثلاثة أقوال: وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين، فجعل الخز والبز والحرير صنفا واحدا، والقطن والكتان صنفا، والصوف والمرعزى صنفا، والفراء وإن اختلفت أجناسها صنفا. فصل وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة إذا رضي الشريكان بذلك، ومثله موجود لابن القاسم في المدونة في مسألة الشجرة والزيتونة، وذلك معترض لأنه إن كان غررا فلا يصح الرضا به، وإن لم يكن غررا فيلزم الحكم به.

فصل

فصل وأما الثوب الواحد والبعير الواحد وما أشبه ذلك فلا يقسم بين الشريكين إلا أن يتراضيا بذلك لأن في قسمه فسادا له. وكذلك الحكم في كل ما هو زوج لصاحبه لا يستغني أحدهما عن صاحبه مثل النعلين والخفين والبابين وما أشبه ذلك. فصل وأما الرباع والأصول فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، ولم يقل ابن أبي سلمة في ذلك ما قال في الحيوان والعروض إنها لا تقسم بالسهمة. فصل ولا يجمع في القسمة الدور مع الحوائط ولا مع الأرضين، ولا الحوائط مع الأرضين، وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدته. واختلف إذا اختلفت الدور في النفاق أو تباعدت مواضعها هل تجمع في القسمة أم لا على ثلاثة أقوال. وكذلك اختلف إذا اختلفت الأرضون في الكرم والنفاق أو في السقي على ما سيأتي كل في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل واختلف في قسمة الدار الواحدة أو الأرض بين النفر فقال مالك: إنها تقسم بينهم إذا دعا إلى ذلك أحدهم وإن لم يصر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه، ولم يتابعه على ذلك من أصحابه إلا ابن كنانة. وقال ابن الماجشون لا تقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالقسمة إلا ما لا منفعة

فصل

فيه في وجه من الوجوه فلا تقسم. وقال ابن القاسم لا تقسم إلا أن تنقسم من غير ضرر ويصير لكل واحد منهم في حظه موضع ينفرد به وينتفع بسكناه، ولا يراعي في ذلك نقصان الثمن على مذهبه، وإنما يراعي ذلك في العروض. وقال مطرف إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكبير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به. هذا ظاهر قوله. وقد قيل إنها لا تقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل إنما تقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكبير. فصل وإذا احتملت ساحة الدار وبيوتها القسمة قسمت كلها قسما واحدا، فجعل لكل نصيب من البيوت ما يقابله من الساحة وعدل ذلك بالقسمة ثم استهم عليها. وإن لم تحتمل الساحة القسمة واحتملتها البيوت قسمت البيوت وأقرت الساحة بينهم يشتركون في الارتفاق فيها كالفناء إلا أن يتفقوا على قسمتها. وأما إن لم تحمل البيوت القسمة واحتملتها الساحة فالذي يأتي على مذهب ابن القاسم أنها لا تقسم إلا بالتراضي، لأنها إن جمعت في القسمة السهام خرج سهام بعضهم في البيوت وبعضهم في الساحة فلم يجز الاستهام على ذلك كالصنفين اللذين لا يجمعان في القسمة. وذهب ابن حبيب إلى أنه يضم البنيان في القسمة إلى الساحة حتى كأنه منها ثم يقسم كله قسما واحدا وإن لم تقع السهام كلها في البنيان، وذلك بعيد، لأن فيه إجازة جمع صنفين في القسمة بالسهام، وذلك ما لا يجوز، إلا أن يريد مع تراضيهم على ذلك، فيخرج قوله على مذهب أشهب وعلى قول ابن القاسم في مسألة الشجرة والزيتونة. فصل والذي جرى به العمل عندنا أن الدار لا تقسم حتى يصير لكل واحد من الشركاء من الساحة والبيوت ما ينتفع به ويستتر فيه عن صاحبه.

فصل

فصل وقد قيل إن الساحة لا تقسم بين الورثة وإن صار في نصيب كل واحد منهم ما ينتفع به. وإنما تقسم البيوت خاصة. وهو قول مطرف وتأويله عن مالك في قوله: لا تقسم الساحة بين الورثة وإن حملت القسم. والأول أصح. ويتأول قول مالك على ساحة الفناء أو على ساحة الدار إذا أبقوها وقسموها البيوت، وهي تحتمل أن تقسم معها قسما واحدا أو على أنهم ورثوا الساحة وقد قسمت البيوت. وذهب سحنون إلى أنه إن كان على البيوت حجر لم تقسم الساحة، وإن لم يكن لها حجر قسمت. جعل الساحة إذا كان للبيوت حجر كالفناء لا تقسم إلا بالتراضي. وبالله تعالى التوفيق. فصل والأفنية تنقسم على قسمين: فناء يكون أمام محور القوم إلى جانب الطريق، فهذا لا يقسم وإن اجتمعوا على قسمه، لأن لعامة الناس فيه حقا ومرفقا عند تضايق الناس في الزحام. فإن اقتسموا ردت القسمة وصرف الفناء على حاله. وذهب أصبغ إلى أن ذلك لا يجوز ابتداء، وإذا وقعت القسمة لم تنقض لما للناس في ذلك من المرفق في بعض الأحيان. والأول أصح وأولى. وفناء يكون بين دور القوم ليس إلى جانب الطريق ولا لأحد من المارة فيه مرفق. فهذا الفناء إن اجتمع أهله على اقتسامه اقتسموه. قال ابن القاسم على ما تراضوا عليه. وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك أنهم يقتسمونه على حال منازلهم، فإن أبى بعضهم القسمة لم يحكم بها بينهم. فصل وقد اختلف في الأنادر والمسارح هل تقسم أم لا على قولين. ولا فرق

فصل

بين هذا وبين الفناء الذي يكون وسط دور القوم على غير الطريق، فهذا الاختلاف داخل فيه بالمعنى، وبالله التوفيق. فصل وإذا اقتسم الشريكان الدار ولم يشترطا أن يقيما بينهما حاجزا فلا يحكم بذلك عليهم، ويقال لمن دعا إلى ذلك استر على نفسك في حظك إن شئت. وإن اشترطوا ذلك ولم يحدوه أخذ من نصيب كل واحد منهما نصف فناء الجدار وإن كان أحدهما أقل نصيبا من صاحبه. وكذلك تكون النفقة بينهما بالسواء إلى أن يبلغ مبلغ الستر إذا لم يحدوا في ذلك حدا. ولا اختلاف في هذا أعلمه، وإنما اختلفوا في أجرة القسام فقيل إنها على عدد الرؤوس. وقيل إنها على قدر الأنصباء. والقولان موجودان لابن القاسم. فصل ولا يقضي القاضي بقسمة الأصل بين الورثة حتى يثبتوا عنده الموت وعدة الورثة وأنه كان ملكه وماله لم يفوته إلى أن توفي في علم الشهود بذلك. وكذلك لا يقضي بالقسمة بين الشركاء حتى يثبتوا عنده ملكهم، وبالله التوفيق. فصل وأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون إلا على المراضاة والمهايأة. وهي على وجهين: أحدهما: أن يتهايأ بالأزمان. والثاني: أن يتهايأ بالأعيان. فصل فأما التهايؤ بالأزمان، وهو أن يتفقا على أن يستغل أحدهما العبد أو الدابة أو يستخدم العبد أو يركب الدابة أو يسكن الدار أو يحرث الأرض مدة من الزمان،

فصل

والآخر مثلهما أو أقل أو أكثر. فهذا يفترق فيه الاستغلال والاستخدام في العبد والركوب في الدابة والسكنى في الدار والازدراع في الأرض. فصل فأما التهايؤ على الاغتلال فلا يجوز في المدة الكثيرة باتفاق. واختلف في المدة اليسيرة كاليوم ونحوه، ففي كتاب محمد لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وإن كان ذلك يوما واحدا. قال محمد: وقد سهل مالك في اليوم الواحد. فصل وأما التهايؤ في الاستخدام فاتفقوا على أن ذلك لا يجوز في المدة الكثيرة، واتفقوا على تجويزها في الأيام اليسيرة إلا أنهم اختلفوا في حدها قال ابن المواز: يجوز في مثل خمسة أيام فأقل ولا يجوز في أكثر. وفي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك يجوز في الشهر. قال ابن القاسم: وأكثر من الشهر قليلا. فصل وأما التهايؤ في الدور والأرضين فتجوز فيها السنين المعلومة والأجل البعيد ككرائها، قاله ابن القاسم في المجموعة. ووجه ذلك أنها مأمونة إلا أن التهايؤ إذا كان في أرض المزارعة فلا يجوز إلا أن تكون مأمونة مما يجوز فيها النقد، وبالله التوفيق. فصل وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستخدم هذا عبدا وهذا عبدا، أو يغتل هذا عبدا وهذا عبدا، أو يسكن هذا دارا وهذا دارا، أو يزرع هذا أرضا وهذا أرضا، ففي المجموعة عن ابن القاسم أن هذا يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرض، ولا يجوز في الغلة والكراء، وذلك على قياس التهايؤ بالأزمان، فيسهل في اليوم الواحد على أحد قولي مالك فيه، ولا يجوز في أكثر من ذلك باتفاق لأنه غرر ومخاطرة. وكذلك استخدام العبيد والدواب يجري على الاختلاف المتقدم في التهايؤ بالأزمان والله

فصل

أعلم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع في سكنى الدار ولباس الثوب واستخدام العبد من أباه من الشركاء إذا دعا إلى ذلك أحدهم، كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم. فإن كان مما لا ينقسم قسم بينهم على التهايؤ بالأزمان، وإن كان مما ينقسم قسم بينهم على قدر حظوظهم فانتفع كل واحد بما صار له في حظه لتلك المدة. واحتج له الطحاوي بما روي في حديث «المرأة التي وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له رجل زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة من قوله فيه لا أجد إلا إزاري هذا فلها نصفه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء»، فدل ذلك من قوله على أن الأمر لو تم بينهما على ذلك لكان لكل واحد منهما لبسه بكماله في حال ما يحق ملكه لنصفه، والله أعلم. فصل ومن هذا الباب قسمة الحبس للاغتلال، فقيل إنه يقسم ويجبر على القسم من أباه وينفذ بينهم إلى أن يحدث عن الموت أو الولادة ما يغيره بزيادة أو نقصان. واحتج من ذهب إلى ذلك بقولهم فيمن حبس في مرضه على ولده وولد ولده إن الحبس يقسم على عدد الولد وولد الولد، وبغير ذلك من الظواهر الموجودة في مسائلهم. وقيل إنه لا يقسم بحال. واحتج من ذهب إلى ذلك بقول مالك في المدونة: إن الحبس مما لا يقسم ولا يجزأ. وقيل إنه لا يقسم إلا أن يتراضى المحبس عليهم على قسمته قسمة اغتلال فيجوز ذلك لهم. فصل والقسمة من العقود اللازمة، فإذا وقعت بين الشركاء فيما تجوز فيه القسمة على التراضي أو على القرعة بوجه صحيح جائز لزمت ولم يكن لأحدهم نقضها ولا الرجوع عنها، ولا تنتقض إلا بما يطرأ عليها مما لم يعلم به كطروء الغريم

فصل

والموصى له أو الوارث على التركة بعد اقتسامها، ففيه إحدى عشرة مسألة: إحداها: طروء الغريم على الغرماء. والثانية: طروء الوارث على الورثة. والثالثة: طروء الموصى له على الموصى لهم. والرابعة: طروء الغريم على الورثة. والخامسة: طروء الغريم على الموصى له بالثلث وعلى الورثة. والسادسة: طروء الموصى له بعدد على الورثة. والسابعة: طروء الغريم على الغرماء والورثة. والثامنة: طروء الموصى له بعدد على الموصى لهم وعلى الورثة. والتاسعة: طروء الموصى له بجزء على الورثة. . والحادية عشر: طروء الغريم على الموصى لهم بأقل من الثلث وعلى الورثة. فصل فأما المسألة الأولى والثانية والثالثة وهي طروء الغريم على الغرماء، وطروء الوارث على الورثة، وطروء الموصى له على الموصى لهم، فحكمها سواء، وهو أن يتبع الطارئ كل واحد منهم بما ينوبه ولا يأخذ الملي منهم بالمعدم. وإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائما لم يفت أخذ من كل واحد منهم ما يجب له ولم تنتقض

فصل

القسمة إن كان ذلك مكيلا أو موزنا. وإن كان حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة لما يدخل عليه من الضرر في تبعيض حقه. واختلف هل يضمن كل واحد منهم للطارئ ما ينوبه مما قبض إن قامت له بينة على تلفه من غير سببه أم لا على قولين: أحدهما: أنه ضامن لذلك. والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه. فإذا قلنا إنه ضامن مع قيام البينة فتلزمه القيمة يوم القبض بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق وما أشبه ذلك. وإذا قلنا إنه لا ضمان عليه مع قيام البينة فلا يضمن بالتفويت بالعتق والصدقة والهبة والبيع، ولا يلزمه في البيع إلا الثمن الذي قبض، ويصدق في دعوى التلف إن لم تكن له بينة فيما لا يغاب عليه دون ما يغاب عليه. ويأتي على ما لأصبغ في سماعه من كتاب النكاح أنه في العين ضامن دون ما سواه وإن قامت على تلفه بينه. فيتحصل في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضامن في العين وغيره وإن قامت البينة على تلفه من غير سبب. والثاني: أنه لا ضمان عليه في العين ولا في غيره إذا قامت البينة على تلفه من غير سبب. والثالث: تفرقة أصبغ بين العين وغيره. وعلى القول بأنه لا ضمان عليه إذا قامت البينة على تلفه يصدق فيما لا يخاف عليه في دعوى التلف مع يمينه. فصل وأما المسألة الرابعة والخامسة والسادسة، وهي طروء الغريم على الورثة، وطروءه على الموصى لهم بالثلث وعلى الورثة، وطروء الموصى لهم بعدد على الورثة فحكمها أيضا سواء. والاختلاف فيها واحد في انتقاض القسمة وفيما يضمن به كل واحد منهم حظه الذي صار إليه بها. فأما القسمة فتنتقض على رواية أشهب عن مالك لحق الله تعالى، ولا تنتقض عند أشهب وسحنون. واضطرب قول ابن

فصل

القاسم في انتقاضها فمرة قال إنها تنتقض من جميعهم، فيخرج الدين الطارئ من جملة المال ثم يقسم ما بقي، فتكون المصيبة فيما مات أو جني عليه أو نقض بحوالة سوق أو غيره من جميعهم، إلا أن يشاؤوا أن يخرجوا الدين من عندهم ويقروا قسمتهم بحالها، أو يتطوع أحدهم بإخراج جملة الدين الطارئ من عنده لاغتباطه بحظه فيكون ذلك له ولا تنتقض القسمة، بمنزلة أن لو وهبه صاحبه. وليس لأحدهم أن يخرج ما ينوبه من الدين ويتمسك بحظه الذي صار إليه بالقسمة إلا أن يكون الدين ثبت بشهادة أحدهم مع يمين الطالب فيريد سائر الورثة أن يخرجوا الدين من عندهم ويقرروا القسمة بينهم ويأبى الشاهد من ذلك فلا يكون ذلك له، لأنه يتهم على أنه إنما أراد نقض القسمة ليزداد حظه إما لغبن جرى عليه فيها أو لتلف حظه أو بعض حظه بأمر من السماء أو ما أشبه ذلك. وفي ذلك نظر، لأنه إذا اتهم وجب ألا تجوز شهادته، وهو قول أشهب. ومرة قال إن القسمة إنما تنتقض بين من بقي حظه بيده أو شيء منه أو استهلكه أو شيئا منه. وأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو مع سائر الورثة فيما بقي من التركة بعد تأدية الدين. وقع هذا له في بعض روايات المدونة. وذهب ابن حبيب إلى أن القسمة تنتقض بين جميعهم مثل قول ابن القاسم الأول، إلا أن لمن شاء منهم عنده أن يفك نصيبه بما ينوبه من الدين إلا أن يكون ما بأيدي سائر الورثة قد تلف شيء منه بموت أو جائحة فليس ذلك له إلا أن يشركهم في ضمان ما مات من ذلك أو أجيح بأن يحمل نوبه منه. وأما أشهب وسحنون فاتفقا على أن القسمة لا تنتقض واختلفا في فض الدين على ما بأيديهم، فقال سحنون إنه يفض على قيمة ما بيد كل واحد منهم يوم الحكم، وقال أشهب في أحد قوليه يفض على الأجزاء التي اقتسموا عليها زادت قيمتها أو نقصت ما كانت قائمة لم تفت. فعلى قول سحنون وأشهب سواء ثبت الدين بشاهدين أو بشهادة أحد الورثة مع يمين الطالب، إذ لا للشاهد بشهادته على مذهبهما. فصل ولا اختلاف بين جميعهم في أن الورثة لا يضمنون بالقسمة التلف بأمر من

فصل

السماء إذا لحق الدين فيلزمهم أن يؤدوا ذلك. واختلفوا هل يضمنون بالإحداث كالبيع والهبة والصدقة والعتق، فذهب ابن حبيب إلى أنهم يضمنون بذلك، فيلزمهم أن يؤدوا ولا يرجعوا على الموهوب له بشيء. وذهب أشهب وسحنون إلى أنهم لا يضمنون بذلك يريد فيرجع صاحب الدين على الموهوب له ولا يكون له في البيع على المشتري شيء، إلا أن تكون فيه محاباة فيكون حكمها حكم الهبة. وفي المدونة دليل على القولين جميعا. وما ادعوا تلفه من الحيوان الذي لا يغاب عليه صدقوا في ذلك مع أيمانهم، بخلاف العروض التي يغاب عليها. وأما العين والمكيل والموزون من الطعام وغيره فاختلف فيه إن قامت البينة على تلفه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يبرؤون من ضمانها، وهو القياس على القول بوجوب الفسخ. والثاني: أنهم لا يبرؤون من ضمانها، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب القسمة. والثالث: الفرق بين العين وما سواه من المكيل والموزون. فصل والاختلاف في انتقاض القسمة مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في عين التركة أو واجب في ذمة الميت؟ فمن علل بأنه متعين في عين التركة نقض القسمة. ومن علل أنه إنما يجب في ذمة الميت ولا يتعين في عين التركة لم ينقض القسمة. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف قول مالك فيمن يبدأ باليمين مع الشاهد في دين المتوفى إن كان الورثة أو الغرماء في مسائل شتى، منها مسألة النكاح الثاني في الوصي ينفق مال اليتيم على يتاماه ثم يطرأ عليه دين. فصل وأما المسألة السابعة وهي طروء الغريم على الغرماء والورثة فالحكم فيها أن

فصل

ينظر، فإن كان فيما أخذه الورثة كفاف دين الغريم الطارئ رجع عليهم على ما تقدم من وجه العمل في طروء الغريم على الورثة ولم يكن له رجوع على الغرماء، وإن لم يكن فيه كفاف دينه رجع على الغرماء ببقية حقه على ما تقدم من وصف العمل أيضا في رجوع الغريم على الغرماء. فصل وكذلك الحكم في المسألة الثامنة وهي طروء الموصى له بعدد على الموصى لهم وعلى الورثة، أن ينظر فإن كان ما أخذه الورثة زيادة على الثلثين هو كفاف وصية الموصى له الطارئ فلا رجوع له على الموصى لهم، وإن لم يكن في ذلك كفاف وصيته رجع بتمام وصيته على الموصى لهم على ما تقدم في رجوع الوارث على الورثة والغريم على الغرماء والموصى له على الموصى لهم. فصل وأما المسألة التاسعة وهي طروء الموصى له بجزء على الورثة فذهب ابن حبيب إلى أن ذلك بمنزلة طروء الغريم على الورثة. وذهب ابن القاسم إلى أن ذلك بمنزلة طروء الوارث على الورثة. فصل وأما المسألة العاشرة وهي طروء الموصى له بجزء على الموصى لهم بجزء وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر فيما أخذه الورثة من الثلث زائدا على الثلثين، فإن كان فيه كفاف الجزء الطارئ لم يكن له الرجوع إلا على الورثة، ويرجع عليهم على الاختلاف المتقدم بين ابن القاسم وابن حبيب في صفة رجوع طروء الموصى له بجزء على الورثة، وإن لم يكن في ذلك كفاف الجزء الطارئ رجع بالباقي على الموصى لهم على ما تقدم في طروء الموصى له على الموصى لهم.

فصل

فصل وأما المسألة الحادية عشر وهي طروء الغريم على الموصى له بأقل من الثلث وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر، فإن كان ما قبض الموصى له يخرج من ثلث ما بقي بعد دين الغريم الطارئ فلا رجوع للغريم عليه إلا في عدم الورثة، وإن كان لا يخرج من ثلث ذلك فيرجع بالزيادة على الثلث على من وجد منهم مليا. وأما قدر الثلث فلا يرجع به على الموصى له إلا في عدم الورثة على ما تقدم. مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثين دينارا فيقبض منها الموصى له خمسة ويقبض الورثة خمسة وعشرين ثم يطرأ غريم له على المتوفى ثمانية عشر دينارا، إذ الثلث على هذا بعد الدين الطارئ أربعة دنانير وقد قبض الموصى له خمسة دنانير، فإن وجدهم جميعا أملياء رجع على الموصى له بالدينار الزائد، وعلى الورثة بسبعة عشر دينارا تمام حقه. وإن وجد الورثة أملياء والموصى له عديم رجع على الورثة بجميع دينه ثمانية عشر دينارا، واتبع الورثة الموصى له الدينار الزائد على قدر حقوقهم. وإن وجد الموصى له مليا والورثة عدماء رجع بجميع الخمسة الموصى له واتبع الورثة بثلاثة عشر تتمة دينه، ورجع الموصى له على الورثة بالأربعة دنانير التي غرمها عنهم لعدمهم، وبالله التوفيق لا شريك له. فصل وأما طروء الاستحقاق على أحد الأنصباء بعد القسمة أو وجود العيب به، فإن كانت القسمة بالقرعة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن القسمة تنتقض كان الاستحقاق قليلا أو كثيرا والأنصباء قائمة أو فائتة، وتكون وصية ما تلف من جميعهم كلحوق الدين، وهو قول ابن الماجشون وابنه عبد العزيز على اختلاف الرواية في ذلك في سماع يحيى من كتاب القسمة. والثاني: أنها لا تنتقض إلا أن يستحق الجل من النصيب أو ما فيه الضرر على الاختلاف المعلوم في حد ذلك، ويرجع المستحق منه على أشراكه على حكم البيع في القيام والفوات، كان الفوات باستهلاك أو استنفاق أو إحداث أو أمر

من السماء، الحكم في ذلك سواء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثالث: وهو مذهب أشهب وسحنون أن القسمة لا يضمن بها في الاستحقاق لهلاك بأمر من السماء على رواية أشهب عن مالك في الإخوة الثلاثة الذين اقتسموا الثلاثة الأعبد فأخذ كل واحد منهم عبدا فمات عبد أحدهم واستحق عبد الثاني، أن المستحق منه يرجع على الذي بقي عبده بيده بثلثه فيشاركه فيه، ولا رجوع له على الذي مات عبده بيده لأن القسمة إنما تنتقض فيما بينهما خاصة، وتصح فيما بينهما وبين الذي مات عبده. ثم إن أشهب وسحنون بعد اجتماعهما على أن الذي مات عبده لا يضمن في الموت ولا يجب للمستحق منه الرجوع عليه بشيء، اختلفا هل يضمن بالإحداث كالهبة والصدقة والعتق والبيع وما أشبه ذلك. فذهب سحنون إلى أنه لا يضمن بشيء من ذلك فيكون للمستحق منه الرجوع عليه في البيع بما ينوب المستحق من الثمن الذي قبض، ويرجع في عين العبد الموهوب فيشارك الموهوب له فيه بما ينوبه، وفي عين العبد المعتق، فيقوم ذلك الحظ على المعتق إن كان موسرا. وذهب أشهب إلى أنه يضمن بجميع ذلك فيكون للمستحق منه أن يرجع على الذي باع أو وهب أو تصدق أو أعتق بما ينوب المستحق من قيمة ما فوت بشيء من ذلك يوم صار إليه بالقسمة، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.

كتاب الوصايا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد، وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب الوصايا أذن الله تبارك وتعالى لعباده في الوصية وذكرها في غير ما آية من كتابه فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]. وقال عز من قائل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَقَالَ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50]. وحض عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة»، مخافة أن يفجأه الموت وتخترمه المنية فتفوته الوصية. وكذلك قال بعض الرواة في هذا الحديث: «لا ينبغي لأحد عنده مال يوصى فيه تأتي عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة». قال بعض شيوخ صقلية: معناه وهو موعوك. وأما الصحيح فليس بمفرط في ترك كتاب وصيته. والصواب حمل الحديث على ظاهره من العموم في الموعوك والصحيح. لأن الصحيح لا يأمن أن تفجأه المنية فلا يمكنه ما يريد من الوصية،

فصل

فليس من الحزم ولا صواب الرأي ترك كتاب الوصية في الصحة ولا في المرض، وإن كان الأمر في المرض آكد عليه منه في الصحيحة، لأن المرض سبب من أسباب الموت، وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي. فصل ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ووصيته عنده مكتوبة» " يريد مكتوبة قد أشهد عليها، وأما إن كتبها ولم يشهد عليها ووجدت عنده بعد موته فلا ينفذ ما فيها وإن كانت بخط يده لاحتمال أن يكون إنما كتبها ليؤامر نفسه ولم يعزم بعد على تنفيذها، والروايات بذلك منصوصة عن مالك وغيره. فصل وإن كتب وصيته وأشهد عليها فلا يخلو من أن تكون مطلقة غير مقيدة أو مقيدة بمرض بعينه أو سفر بعينه أو بلد يعين، أو وقت يعين، أو ما أشبه ذلك. فإن كانت مطلقة لم يقيدها بشيء وإنما قال إن مت أو إذا مت أو متى ما مت أو ما أشبه ذلك من الألفاظ المطلقة العامة فإنه ينفد ما فيها باتفاق، سواء أقرها على يده أو وضعها عند غيره. وكذلك إن أشهد على وصيته ولم يكتب بذلك كتابا، فإن كان وضعها عند غيره ثم أخذها منه فوجدت عنده بطلت باتفاق، سواء أخذها منه في صحته أو في مرضه. وأما إن كانت مقيدة بسفر بعينه، أو بمرض بعينه أو ما أشبه ذلك، فمات من غير ذلك المرض أو في غير ذلك السفر فلا يخلو من أن يكون كتب بذلك كتابا أو لم يكتبه فأما إن لم يكتب بذلك كتابا وإنما أشهد به خاصة فلم يختلف قول مالك أن الوصية لا تنفذ. وأما إن كتب بذلك كتابا فلا يخلو أيضا من أن يكون أقره عنده أو وضعه عند غيره. فأما إن كان أقره عنده ولم يجعله على يدي غيره فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة أجازها ومرة أبطلها، والقولان قائمان في المدونة. وأما إن كان وضعها

فصل

على يدي غيره، فلم يختلف قول مالك أنها تنفد. ولأشهب في هذه المسألة تفصيل هو مذكور في موضعه. فصل وتجوز وصية السفيه والمولى عليه لأنه إنما حجر عليه في ماله مخافة الفقر، والوصية إنما تنفد بعد الموت في حال يؤمن عليه فيه الفقر. وتجوز وصية المجنون في حال إفاقته، ووصية الصغير الذي يعرف وجوه القرب عند مالك وأصحابه، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه. فصل وقد تعلق من أوجب الوصية بظاهر هذا الحديث وقال إن لفظة الحق تقتضي الوجوب، وهذا غير صحيح، لأن لفظ الحق إذا قيل فيه عليه فهو محتمل للوجوب والندب. وأما إذا أضيف إليه وجعل له فقيل فيه من حقه أن يفعل كذلك أو كذا وكذا، فالأظهر فيه الندب لا الوجوب. فصل ومما يدل أيضا على أن المراد بالحديث الحض والندب لا الوجوب أن بعض رواته يقول فيه: له مال يريد أن يوصي فيه، وتعليق الوصية بإرادة الموصي نص في سقوط وجوبها. فصل ولو حمل الحديث على الوجوب لكان معناه في الأمور الواجبة عليه من قضاء الدين ورد الأمانات وأداء ما فرط فيه من الزكوات وما أشبه ذلك من الأمور المعينات، فإن ما يلزم الرجل في حياته يجب عليه أن يوصي به عند وفاته، بخلاف الوصية بشيء من ماله في وجه من وجوه البر.

فصل

فصل فالوصية بما يتقرب به إلى الله تعالى مما لا يجب عليه في حياته على مذهب مالك وجمهور أهل العلم، مرغب فيها ومندوب إليها وليست بواجبة، وهي تجوز للقرابة والأجنبيين إلا أن الوصية للقرابة أفضل منها للأجنبيين، فينبغي للموصي أن يبدأ به لأن الله بدأ بهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وَقَالَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تصلوها ولا تقطعوها. «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لميمونة زوجته وقد أعتقت وليدة لها: " لو وصلت بها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك». «وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي طلحة في الحائط الذي تصدق به: " إني أرى أن تجعله في الأقربين» فقسمه أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. فصل وأما الوصية للوارث فلا تجوز إلا أن يجيزها الورثة. وقد حمل جماعة من أهل العلم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» على عمومه فلم يجيزوا له الوصية وإن أجازها له الورثة، معناه إلا على سبيل الهبة منهم له التي تفتقر إلى الحيازة. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المنع إنما تعلق بحق الورثة كالزائد على ثلث المال، فإذا أجازوه جاز، كالرضى بالعيب، وتسليم الشفعة وما أشبه ذلك. وقد روي أيضا في بعض الآثار «لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة».

[فصل فيما تنقسم إليه الوصايا]

[فصل فيما تنقسم إليه الوصايا] فصل والوصايا تنقسم على خمسة أقسام: فمنها ما يجب تنفيذه، ومنها ما لا يلزم تنفيذه، ومنها ما يختلف في وجوب تنفذه، ومنها ما لا ينبغي تنفيده. فأما ما يجب تنفيذه فثلاثة أنواع: أحدها: أن يوصي بما في فعله قربة وفي تركه حرج من الأمور الواجبة كالزكاة وعتق الظهار وما أشبه ذلك. والثائي: أن يوصي بما في فعله قربة ولا حرج في تركه كالوصية للمساكين وما أشبه ذلك. والثالث: أن يوصي بما يختلف فيه هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من يرى فيه قربة. وأما ما لا يجب تنفيذه فنوع واحد وهو ما في فعله حرج من الأمور المحظورات، كالوصية بإقامة مناحة ميت وما أشبه ذلك. وأما ما يختلف في وجوب تنفيذه فنوعان: أحدهما: أن يوصي بما يختلف هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من يرى أنه لا قربة فيه، كالوصية بالحج على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أوجب مالك وأكثر أصحابه تنفيذ الوصية بذلك، ولم يوجب ذلك ابن كنانة. والاختلاف في هذا جار على الاختلاف في تصويب المجتهدين. والثاني: أن يوصي بما لا قربة في فعله ولا في تركه من الأمور الجائزة، كالوصية ببيع ملك من أملاكه أو ببيع عبد من عبيده وهو لا يرغب في ذلك، أو شراء عبد آخر من الثلث للورثة وما أشبه ذلك. وانظر هل يأتي على هذا المعنى اختلافهم فيمن أوصى بسرف في أكفانه وحنوطه، إذ قد قيل إن الزائد على قدر ما يجب أن يكفن فيه يكون من الثلث وهو قول سحنون. وقيل إنه يبطل، حكاه ابن شعبان عن مالك وابن القاسم.

فصل

وأما ما لا يلزم تنفيذه فنوعان: أحدهما: الوصية للوارث. والثاني: الوصية بما زاد على الثلث. وأما ما لا ينبغي تنفيذه فنوع واحد وهو المكروه الذي القربة في تركه دون فعله، كالوصية بإقامة لهو عرس مما استخف وجوز وما أشبه ذلك، فهذا يندب الورثة إلى ألا ينفذوه، فإن أبوا إلا تنفيذه لم يمنعوا من ذلك. فصل والوصية بثلث المال فما دونه تجوز في القليل والكثير من المال إلا أن الموصي يؤمر بحسن النظر للورثة إذا كان المال يسيرا. فقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا كان المال يسيرا فليدعه لوارثه فهو أفضل. وهذا والله أعلم أخذه من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». فصل وقد اختلف أهل العلم في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية أو تجب عند من أوجبها. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية. وقال في ألف درهم فما دونه، إنه مال فيه وصية. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا وصية في ثمانمائة درهم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال ألف درهم فما دونها نفقة. وعن عائشة أنها قالت في امرأة لها ثلاثة آلاف درهم وأربعة من الأولاد لا وصية في مالها. فصل ولا يجوز لأحد وصية بأكثر من ثلث ماله وإن لم يكن له وارث خلافا لأبي

حنيفة في قوله إنه يجوز له أن يوصي بجميع ماله إن لم يكن له وارث. فإذا أوصى الرجل بأكثر من ثلث ماله لم يجز إلا أن يجيز ذلك الورثة، وإجازتهم لا يخلو من أن تكون في صحته أو في مرضه الذي مات منه. أو بعد موته. فأما إذا كان إذنهم له في صحته فلا يلزمهم ذلك باتفاق. وأما إن أذنوا له في مرضه الذي مات منه فيلزمهم عند مالك إن كانوا مالكين لأمرهم بائنين عنه بأنفسهم، خلافا لأبي حنيفة والشافعي ولما يدل عليه بعض أقاويل مالك. قيل إذا استأذنهم بدليل ما في المدونة. وأما إذا لم يستأذنهم فيلزمهم وإن لم يكونوا بائنين عنه إذا كانوا مالكين لأمر أنفسهم. وقيل سواء استأذنهم أو لم يستأذنهم لأنهم يقولون بادرنا إلى الإجازة لتطيب نفسه، لأنا خشينا إن لم نبادر بها أن يحقد بذلك علينا فيمنعنا رفده. وأما إن أجازوا بعد موته فذلك لازم لهم باتفاق. واختلف هل يكون ذلك كالهبة التي تفتقر إلى حيازة أم لا على قولين في المذهب. وإنما قلنا إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص: «الثلث، والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». وقد استحب جماعة من العلماء أن لا يوصي الرجل إلا بأقل من الثلث لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير». وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والثلث كثير» وأوصى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بربع ماله، وأبو بكر الصديق بخمس ماله وقال: رضيت لنفسي في وصيتي بما رضي الله لنفسه من الغنيمة، وتلا:

فصل

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. وقال إبراهيم النخعي: كان الخمس أحب إليهم من الربع، والربع أحب إليهم من الثلث. وقد استحب جماعة من العلماء الثلث في الوصية لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم». وهذا إنما ينبغي أن يفعل فيه بالاجتهاد في قلة المال وكثرته. فإذا كان قليلا فإبقاؤه على الورثة أفضل والله أعلم، لأن الله تعالى أعطاه ثلث ماله عند وفاته يجعله حيث يراه من وجوه البر، فإذا أبقاه على الوارث نظرا له لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»، فهو أفضل له من صدقته على الأجنبيين والله أعلم. فصل إنما أوجب الوصية من أوجبها لقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] الآية (21) وقد اختلف أهل العلم في تأويلها اختلافا كثيرا، فالمشهور أنها منسوخة، واختلف الذين رأوا أنها منسوخة في الناسخ لها ما هو. فقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه نسخها ما نزل من قسمة الفرائض. وهذا قول من لم ير نسخ القران بالسنة، وهو أولى ما قيل فيها، لأنه لا اختلاف أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية. وقد روي أن الناس في أول الإسلام كانوا يتوارثون الله تعالى لما ذكر فرض الوالدين قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فكان يحتمل أن يكون لهما ولا يمكن أن يعلم ذلك إلا بتوقيف من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، أو دليل من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذلك. وقد دل على ذلك من قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله فرض لكل ذي حق حقه في آية المواريث» فبين بذلك أنها ناسخة لآية الوصية. وأما نسخها بقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية

فصل

لوارث»، على مذهب من يجيز نسخ القرآن بالسنة، فلا إشكال فيه، وهي رواية أبي الفرج عن مالك حكى عنه في كتابه أنه قال: نسخت الوصية للوالدين ما تواتر عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث»، ونسخت الوصية للأقربين آية المواريث. وقيل نسخت الوصية للوالدين بقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]، والوصية للأقربين بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] فحض على إعطائهم ورغب فيه من غير إيجاب. وقالت طائفة من أهل العلم: نسخ من الآية فرض الوصية للوالدين وبقي فرض الوصية للأقربين الذي لا يرثون محكما غير منسوخ. فواجب على الرجل أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، فإن لم يفعل فقد أثم وأجرم. وإن أوصى بالثلث لغير ذوي قرابته وله قرابة محتاجون صرف ثلث الميت إليهم في قول بعضهم، وفي قول بعضهم يصرف إليهم ثلث الثلث. وقالت طائفة: الآية كلها محكمة لم ينسخ منها شيء، وظاهرها العموم فيمن يرث ومن لا يرث من الوالدين والأقربين، والمراد بها من لا يرث منهم دون من يرث بدليل آية المواريث وقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث». فآية المواريث والسنة الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مذهب ليست بناسخة لآية الوصية وإنما هي مخصصة لها ومبينة لمعناها. وقالت طائفة: الآية محكمة فيمن لا يرث دون من يرث من الوالدين والأقربين، إلا أن المراد بها الحض والندب لا الوجوب بدليل قوله: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] لأن الواجب لا يقال فيه إنه معروف ويستوي فيه المتقي وغير المتقي. فصل والوصية بالعتق وغيره عدة، للموصي أن يرجع عنها إن شاء في صحته أو

فصل

مرضه، سواء كانت وصيته في الصحة أو في المرض، بخلاف التدبير ليس للمدبر أن يرجع عما دبر في صحته ولا في مرضه. وقد اختلف إذا قال: إذا مت فعبدي حر هل هو محمول على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية بسبب يدل عليها، أو على الوصية حتى يعلم أن أراد التدبير بسبب يدل عليه. فحمله ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية. فصل واختلف بماذا تجب الوصية للموصى له على قولين: أحدهما: أنها تجب له بموت الموصي مع قبول الموصى له بعد الموت. واختلف على هذا القول إن مات الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل، فقيل إن ورثته ينزلون في القبول أو الرد منزلته، وهو قول مالك في المدونة، وقيل إن الورثة لا ينزلون منزلته في ذلك وتبطل الوصية وترجع ميراثا لورثة الموصي، وإلى هذا ذهب أبو بكر الأبهري حكاه عنه عبد الوهاب في المدونة. والقول الثاني: أنها تجب له بنفس موت الموصي دون القبول، وهو أحد قولي الشافعي. فعلى قوله إن مات الموصى له بعد موت الموصي وجبت الوصية لورثته، ولم يكن لهم أن يردوها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوا، والله أعلم. فصل والوصايا خارجة من الثلث فيما علم الموصي من المال، ولا تدخل في ما لم يعلم به، بخلاف المدبر في الصحة فإنه يدخل فيما علم وفيما لم يعلم. واختلف في التدبير في المرض والعتق البتل في المرض، فقيل إنهما لا يدخلان فيما لم يعلم به من المال، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل إنهما يدخلان فيما علم به وفيما لم يعلم، وهو الذي يأتي على ما في سماع عيسى من كتاب الديات من العتبية، لأنه نص فيه أن التدبير في المرض يدخل فيما لم يعلم. وإذا دخل فيه المدبر في المرض فأحرى أن يدخل فيه المبتل في المرض. وقد قيل إنه يدخل المدبر في

فصل

المرض ولا يدخل المبتل في المرض، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في بعض روايات العتبية، ومثله لابن القاسم في المدونة، وهو بعيد، لأن المبتل في المرض آكد من المدبر فيه. ألا ترى أن ابن الماجشون يبدئه عليه عند ضيق الثلث. وإنما يقول ابن القاسم إنهما يتحاصان لقرب ما بينهما عنده في التأكيد. فلو قيل إن المبتل في المرض يدخل فيما لم يعلم ولا يدخل فيه المدبر في المرض بعكس رواية أصبغ وما لابن القاسم في المدنية لكان الأظهر، والله أعلم. فصل وإن ضاق الثلث عن الوصايا بدئ الآكد فالآكد لا الأقدم فالأقدم، وما كان بمنزلة واحدة في التأكيد تحاصوا في الثلث وإن كان بعضها أقدم من بعض، إلا أن ينص الموصي على تبدئة بعضها على بعض فيبدأ بالذي نص على تبدئته اتباعا لوصيته وإن كان غيرها من الوصايا آكد، ما لم يكن مما لا يجوز له الرجوع عنه كالمبتل في المرض، والمدبر فيه أو في الصحة. فصل وما يجب إخراجه من رأس المال يبدأ على ما يجب إخراجه من الثلث. فصل فالذي يجب إخراجه من التركة قبل وقوع المواريث فيها ينقسم على قسمين: أحدهما: ما يجب إخراجه من رأس المال. والثاني: ما يجب إخراجه من الثلث. فأما ما يجب إخراجه من رأس المال فإنه ينقسم أيضا على وجهين: أحدهما: الحقوق المعينات. والثاني: الحقوق التي ليست بمعينات. فأما الحقوق المعينات فتخرج كلها وإن أتت على جميع التركة، وذلك مثل

فصل

أم الولد، وزكاة تمر الحائط الذي يموت عنه صاحبه وقد أزهت، وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وفيها السن التي تجب فيها الزكاة، وما أقر به المتوفى من الأصول والعروض بأعيانها لرجل أو قامت على ذلك بينة. فصل وأما الحقوق التي ليست بمعينات فإن كان في التركة وفاء بها أخرجت كلها، وإن لم يكن فيها وفاء بها بدئ الآكد فالآكد منها، وما كان بمنزلة واحدة تحاصوا في ذلك، وبالله التوفيق. فصل فآكد الحقوق وأولاها بالتبدئة من رأس المال عند ضيقه عنها الكفن وتجهيز الميت إلى قبره. وقد روي عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه إن الكفن من الثلث. والصحيح ما عليه الجماعة أنه من رأس المال. والدليل على ذلك ما ثبت أن «مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا شملة كانوا إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإدخر». وما ثبت أيضا «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم وثيابهم» من غير أن يعتبر ما يبقي لورثتهم أو لدين إن كان عليهم، وهذا بين. ثم حقوق الآدميين من الديون الثابتة على المتوفى بالبينة العدلة أو بإقراره بها في صحته أو في مرضه لمن لا يتهم عليه، ثم حقوق الله تعالى المفترضات من الزكوات على مراتبها والكفارات والنذور إذا اشهد على نفسه في صحته بوجوب ذلك عليه في ذمته، فيبدأ من ذلك كله في رأس ماله الآكد فالآكد، كما يبدأ من ذلك الآكد فالآكد في ثلثه إذا فرط فيه في حياته فأوصى به أن يؤدي عنه بعد وفاته. وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وليس فيها السن التي تجب

فصل

فيها الزكاة، تجري في التبدئة مجرى ما لم يخرجه عند حلوله وأشهد به على نفسه في صحته. فصل وأما ما يجب إخراجه من الثلث فيخرج كله على وجهه إن كان فيه وفاء به، فإن لم يكن فيه وفاء به فيبدأ الآكد فالآكد. وما استوى من ذلك أو تقارب لم يبدأ بعضه على بعض ووقع في ذلك التحاص. وبالله التوفيق. فصل فأول ما يخرج من الثلث المدبر في الصحة. وصداق المريض إذا دخل في مرضه. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان. وقيل يبدأ المدبر في الصحة. وقيل يبدأ صداق المريض، والثلاثة الأقوال لابن القاسم. ثم بعد ذلك ما فرط فيه من زكاة الحرث والعين والماشية، ثم ما فرط فيه من زكاة الفطر عند ابن القاسم خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون وغيره. ثم العتق في الظهار وقتل النفس في الخطأ. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يقرع بينهما، وقيل ذلك إلى الورثة يعتقون على أي الكفارتين شاءوا، يريد إن اتفقوا، فإن اختلفوا رجع ذلك إلى القرعة وقيل تبدأ كفارة قتل النفس، وذلك إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة. وأما إن كان في الثلث رقبة وإطعام ستين مسكينا فتعتق الرقبة في القتل ويطعم على الظهار باتفاق. وقد قيل إنه إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة وفضل لا يبلغ الإطعام إنه يبدأ بالظهار ويشترك فيما بقي من كفارة قتل النفس. ثم كفارة اليمين، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدا، ثم كفارة التفريط في قضاء رمضان. وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة. وقد قيل إن الطعام لقضاء رمضان يبدأ على كفارة اليمين عند ابن القاسم، والأول أظهر. ثم النذر قاله ابن أبي زيد يريد إذا أوصى به. ثم العتق المبتل في المرض. والمدبر في المرض. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان وقيل يبدأ المبتل في المرض، وقيل يبدأ المدبر في المرض، وهذا إذا كانا في فور واحد.

وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول منهما. والنذر الذي يوجبه على نفسه في المرض ينبغي أن يكون بمنزلتهما. ثم بعد هذا الموصى بعتقه بعينه، والموصى أن يشترى فيعتق، والموصى بعتقه على مال إذا عجل المال، والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة، والموصى بعتقه إلى شهر وما أشبهه لا يبدأ أحد منهم على صاحبه ويتحاصون. وقد قيل إن الذي أوصى بعتقه أو بشرائه للعتق يبدأ على المعتق إلى أجل قريب، وعلى الموصى بعتقه على مال وإن عجل المال. وعلى الموصى بكتابته وإن عجل الكتابة. وقد قيل إن الموصى بعتقه بعينه يبدأ على الموصى بشرائه للعتق. ثم بعد هذه الخمسة الموصى بعتقه إلى سنة. ثم الموصى بعتقه سنتين. والموصى بكتابته لا يبدأ أحدهما على صاحبه. وقيل إن الموصى بعتقه إلى سنة كالموصى بعتقه إلى سنين. قال غير ابن أبي زيد: ثم النذر، وهو بعيد، لتبدية الموصى بعتقه عليه، لأن الوصية بالعتق يصح الرجوع فيها والنذر لازم لا رجوع فيه، فهو إذا أوصى به أوكد منه وقول ابن أبي زيد أصح. ثم الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال وبالحج. وقد اختلف في ذلك فقيل إنها كلها سواء في التحاص، وهو أحد قولي مالك في المدونة. وقيل يبدأ الحج على العتق، وقيل يبدأ العتق على الحج ويتحاص مع المال، وهو قوله الثاني فيها. ووجه هذا القول أن العتق عنده آكدها، ثم يليه المال، ثم يليه الحج، فيتحاص العتق مع المال ولا يبدأ أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد. ويتحاص أيضا المال مع الحج ولا يبدأ أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد، ويبدأ العتق على الحج لبعد ما بينهما على ما رتبناه. ووجه العمل فيه أن يتحاص العتق والمال والحج، فما ناب العتق والحج بدئ فيه العتق على الحج، ولم يكن للحج من ذاك إلا ما فضل عن العتق. وقد قيل يبدأ الحج ثم يتحاص في المال والعتق. وقيل يبدأ العتق ويتحاص في المال والحج. وسواء كانت الوصية بالمال جزءا أو عددا فإن اجتمعا جميعا الوصية بالعدد والجزء فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يبدأ الجزء. وقيل يبدأ العدد. وهذا الاختلاف موجود لمالك وابن القاسم، ومعناه في الصرورة. وأما في حجة التطوع فلم يختلف قولهما في أن العتق مبدأ عليهما، ولا في أن الحج لا يبدأ على المال.

فصل

واختلف قول ابن القاسم هل يبدأ المال على الحج أو يتحاصان. فله في سماع عيسى أنهما يتحاصان. وفي المدنية لأن الوصية بالمال تبدأ. وقال ابن وهب: يبدأ الحج على العتق ولم يفرق بين الصرورة وغيره، والقياس على مذهب مالك أن الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال يبدآن على الوصية بحجة الإسلام، لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد. فلا قربة في ذلك عنده على أصل قوله. فصل وذهب ابن الماجشون إلى خلاف هذا الأصل فقال إن التدبير في الصحة يبدأ على العتق المبتل في المرض، والعتق المبتل في المرض يبدأ على العطية المبتلة في المرض، والعطية المبتلة في المرض تبدأ على التدبير في المرض، والتدبير في المرض يبدأ على الزكاة التي فرط فيها. والزكاة التي فرط فيها تبدأ على كفارة قتل الخطأ، وعتق كفارة قتل الخطأ يبدأ على عتق كفارة الظهار. قال: وكل ما نوعت لك من هذا فسواء كان في فور واحد أو فور بعد فور، إنما يبدأ الأوجب فالأوجب والأثبت فالأثبت على ما فسرت لك. والذي ذهب إليه ابن الماجشون أقوى في الحجة مما ذهب إليه ابن القاسم. وذلك أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به من الزكاة ولا يجوز له أن يرجع عما بتله أو دبره في المرض. وما لا يجوز له الرجوع فيه. وأيضا فإنه يتهم على أنه أراد أن يرجع فيما بتله أو دبره فأوصى بزكاة ليست عليه. وحكى عبد الوهاب في المعونة أن الوصية بالعتق المعين تبدأ على الزكاة، وهو بعيد في القياس، ووجهه اتباع ظاهر الحديث. روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن تبدأ العتاقة على الوصايا، فعم ولم يخص». وحكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تبدأ على كل شيء المدبر وغيره. وكان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى تبدئة ما أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا المدبر في الصحة وغيره. ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد، حكى ذلك عنه ابن عتاب وقال إن الشيوخ أجمعوا على ذلك، وهو صحيح.

فصل

فصل وهبات المريض وصدقاته وأعطياته موقوفة، فإن مات في مرضه ذلك كانت من الثلث، وإن صح فمن رأس المال. وكذلك العتق إلا أن تكون له أموال مأمونة فينفذ عتقه معجلا، ويكون للموهوب له أو المتصدق عليه قبض ما وهب له أو تصدق به عليه في مرض الواهب أو المتصدق قبل موته على أحد قولي مالك في مراعاة المال المأمون في ذلك. وهذا مذهب فقهاء الأمصار أن هبات المريض وصدقاته من الثلث. وقال داود: هي من رأس المال، وتصرفه كله كتصرف الصحيح. والدليل على صحة قول مالك ومن تابعه ما ثبت أن «رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتق ثلثهم». ولا فرق بين العتق وغيره من الهبة والصدقة في هذا. وما روي أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم» فأخبر أن الرجل ليس له عند الموت إلا الثلث فدل على منع ما زاد عليه، ولأن الأصول دالة على أن حضور سبب الموت بمنزلة حضور الموت بعينه، بدليل أنه لو أعتق لكان من الثلث، ولو وهب لوارثه شيئا لم يجز ذلك، إذ لا يجوز أن يوصي له. وإذا كان كذلك ثم لم يجز أن يوصي بعد الموت بأكثر من الثلث، كذلك لا يجوز له أن يهب في المرض أكثر من الثلث. .

كتاب الولاء والمواريث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الولاء والمواريث فصل في ترتيب الولايات وتقسيمها ووجه الحكم فيها الولاية تنقسم على خمسة أقسام: أحدها: ولاية الإسلام والإيمان. والثاني: ولاية الحلف والأيمان. والثالث: ولاية الهجرة. والرابع: ولاية النسب. والخامس: ولاية العتق. فأما ولاية الإسلام والإيمان فإن الله قد نص عليها في محكم القرآن فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] إلا أن هذه الولاية ولاية عامة فلا يتوارث بها إلا عند عدم النسب والولاء، لكنها شرط في صحة الميراث بهما، أعني بالنسب والولاء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر ولا

الكافر المسلم ولا يتوارث أهل ملتين شيئا» ويوجب في الموضع الذي لا يوجب الموارثة بها المناصحة والتناصر في دين الله والتعاون في ذاته. قال الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حق المسلم على أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات». وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». وأما ولاية الحلف والأيمان فقيل إن الناس كانوا يتوارثون بها في أول الإسلام بدليل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نسخ الله ذلك بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وقيل إن ذلك كان في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والمعونة والمشورة ولا ميراث. واحتج من ذهب إلى هذا بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حلف في الإسلام وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة». وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في

الإسلام». فالآية على هذا التأويل محكمة فيما عدا الميراث من النصر والمعونة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الآية محكمة على ظاهرها في الميراث وغيره، وأن الرجلين إذا لم يكن بينهما نسب معروف فوالى أحدهما الآخر على أن يتوارثا ويتعاقلا فإن ذلك يصح ويتوارثان ويتعاقلان. قالوا ولكل واحد منهما أن يرجع على الموالاة ويفسخها ويوالي غيره ما لم يعقل أحدهما عن صاحبه، فإن عقل عنه لزمته الموالاة. وهذا يرده قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حلف في الإسلام» معناه لا حكم له في الموارثة على ما كان يفعل في الجاهلية. وأيضا فإن الآية التي احتجوا بها يخالفونها ولا يقولون بها، وذلك أن الله تعالى علق فيها استحقاق النصيب بعقد اليمين فقال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] وهم لا يرون أن اليمين تؤثر في استحقاق الميراث شيئا. وقد رويت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا المعنى آثار تدل على ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن للمولى بالموالاة أن يرجع بولايته إلى من شاء بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تولى مولى بغير إذنه فعليه لعنة الله». وقوله: «لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم». وذهب الطحاوي إلى استعمال هذه الآثار على ظواهرها وما تدل عليه من معانيها فقال: إن للمولى

بالموالاة أن ينتقل بولايته إلى من شاء بإذن من ينتقل إليه. فالانتقال الولاء عنده أربع شرائط، وهي أن يكون ذلك بإذن المولى، وبإذن من ينتقل عنه، وبإذن من ينتقل إليه، والرابع أن يكون الولاء المنتقل عنه بالموالاة لا بالعتق، لأن الولاء بالعتق لا يصح الانتقال عنه «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته». قال وليس في قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق» ما ينبغي أن يكون ثم ولاء سوى ولاية العتاقة، لأن الحديث إنما قصد به إلى الولاء بالعتاقة لا إلى الولاء بما سواه، فإنما ينفي أن يكون ولاء المعتق بالعتاقة لغير الذي أعتقه. وقد تكلمنا على لفظه إنما وما يوجب في كتاب كراء الأرضين. وبالله التوفيق. وأما ولاية الهجرة فإن الناس كانوا يتوارثون بها في أول الإسلام، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72]. فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي آخى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها بينهم دون ذوي الأرحام حتى أنزل الله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] يريد بقوله في كتاب الله على ما قال أهل التأويل أي في آية المواريث. فالمراد بأولي الأرحام في هذه الآية من سمى الله في آية المواريث أو دخل فيها بالمعنى وإن لم يسم.

فصل

فصل وورث أهل العراق بهذه الآية العمة والخالة وسائر ذوي الأرحام وجعلوهم أحق بالميراث من الموالي. وهذا ليس بصحيح لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين مراد الله في كتابه في هذه الآية. فقال: «فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر». وأما ولاية النسب فموجودة أيضا في القرآن. قال الله عز وجل: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وقال تعالى حاكيا عن زكرياء - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5]- يقول وإني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني- {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] أي ولدا وارثا معينا يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة. وذلك أن زكرياء كان من ولد يعقوب فوهب الله له يحيى. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قرأ هذه الآية قال: يرحم الله أخي زكرياء وما كان عليه من ورث ماله، ويرحم الله أخي لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد». وأما ولاية العتق فإنها توجب الميراث عند انقطاع النسب بحق الإفعام بالعتق والمن به عند جماعة العلماء. قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] يريد أنعم الله عليه بالإسلام

فصل

وأنعمت عليه بالعتق. فولاية العتاقة كالنسب سواء في وجوب الميراث بها عند عدم الأقربين والعصبة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء نسب». وقال: «الولاء لحمة كلحمة النسب». فصل «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق». فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فعل الإعتاق وإن لم يكن ذلك حقيقة اللفظ، لأن الثواب حاصل عن العتق والولاء حاصل عنه فوجب ألا يفترقا. وقد أجمعوا أن من وكل رجلا على عتق عبده فالولاء للموكل لا للوكيل الذي تولى فعل الإعتاق. ولهذا قلنا: إن من أعتق عبده عن غيره بإذنه أو بغير إذنه إن الولاء للمعتق عنه؛ لأن ثواب العتق له، وكأنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه بشرط إعتاقه عنه. وليس ذلك من هبة الولاء المنهي عنه في الحديث، لأن النهي إنما يقتضي نقل الولاء بعد ثبوته وتقرره لمن حصل له ثواب العتق على ما بيناه. فصل ومن هذا المعنى اختلفوا في عتق السايبة فكرهه ابن القاسم ابتداء من ناحية هبة الولاء المنهي عنه، فإذا وقع كان الولاء للمسلمين، وأجاز ذلك أصبغ ابتداء ومنع منه ابن الماجشون ورأى أن ذلك هبة الولاء حقيقة، فقال: إن وقع كان

فصل

الولاء لملأ المسلمين. ففهم أصبغ ومن أجاز عتق السايبة من قول الرجل لعبده: أنت سايبة؛ أن مراده بذلك إعتاقه عن المسلمين وجعل ثواب العتق لهم لا لنفسه. وفهم ابن الماجشون ومن لم يجز أن مراده بذلك أن يجعل ثواب العتق لنفسه وولاءه للمسلمين. ولم يتحقق عند ابن القاسم مراده بذلك فلذلك كرهه ابتداء. فهذا توجيه الاختلاف في عتق السايبة عندي. ألا ترى أن الرجل لو قال لعبده: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين لم يختلف أن ذلك جائز وأن الولاء يكون للمسلمين أعني في المذهب. وأما في غير المذهب فالشافعي وأبو حنيفة يقولان إن الرجل إذا قال لعبده أنت حر عن المسلمين إن الولاء له لا للمسلمين على أصلهما فيمن أعتق عبده عن غيره بغير إذنه أن الولاء له دون المعتق عنه. واستدلوا على ذلك بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق». وإذا استدلوا على ذلك بهذا الظاهر فيلزمهم عليه عتق الوكيل، والعتق عن الغير بإذنه، وهذا بين لا خروج لهما عنه. فصل وإذا قلنا إن المفهوم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» أي لمن حصل له ثواب العتق، فمن أسلم على يديه رجل فلا ولاء له عليه. هذا قولنا وقول فقهاء الأمصار. وقال إسحاق بن راهويه: له ولاؤه، واحتج بما روي «عن تميم الداري أنه قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يا رسول الله، ما السنة فيمن أسلم على يديه رجل فقال: هو أحق به في محياه ومماته». وهذا محمول عندنا على أنه أحق به في نصرته والقيام بأموره وتولي دفنه إذا مات. بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الولاء لمن أعتق». ولأن الولاء إنما يكون بالإنعام، ولا إنعام لمن أسلم على يديه، وبالله التوفيق.

فصل

فصل وكذلك من التقط لقيطا فهو حر ولا ولاء له عليه وقد قال قوم: إن ولاءه لمن التقطه. واحتجوا بقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته. وهذا محمول أيضا عندنا على أن عمر إنما أراد أن له ولايته والقيام بأموره والثواب على تربيته، وعلى بيت المال نفقته بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق». فصل ومن الناس من قال إن اللقيط عبد لمن التقطه، وهذا لا وجه له، لأنه لا يخلو من أن يكون ابن أمة مملوكة فهو لسيدها لا يحل لملتقطه أن يتملك، أو يكون ابن حرة فهو حر. فصل وما روي عن عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا في أولاد الزنى: أعتقوهم وأحسنوا إليهم. فإن مخرج ذلك في أمر الحرية على الإعلام لهم بأنهم أحرار، وهذا جائز في الكلام، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده عبدا مملوكا فيشتريه فيعتقه» وليس يجوز بقاء] ملك الولد على والده ولا ملك الوالد على ولده لأنه يتنافى أن يكون ابنا عبدا أو أبا عبدا، بدليل قول الله عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وقال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]

فصل

فنفى الله تعالى أن يكون الولد عبدا. فإذا كان هذا في الولد فهو في الأب أولى لحرمة الأب وما أوجب الله له من الحق. ألا ترى أنه قرن شكره بشكره فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]. وقول عمر هو حر؛ مفهومه الإخبار بحريته لا إعتاقه، ولو كان حرا بإعتاقه لكان الولاء له؛ لأن هبة الولاء لا تجوز. فصل والموالي أربعة: موالي لا يتوارثون وهم المسلمون الذين لا يتناسبون. وموالي يتوارثون وهم المسلمون المتناسبون. وموالي يرثون ولا يورثون وهم الموالي المسلمون المعتقون. وموالي يورثون ولا يرثون وهم الموالي المعتقون. فصل الموالي الذين يرثون ولا يورثون ثلاثة: مولى الرجل الذي أعتقه، ومولى أبيه، ومولى أمه. فإن كان الرجل حرا معتقا فولاؤه لمولاه الذي أعتقه، فإن لم يكن مولى وكان حرا لم يعتق كان ولاؤه لمولى أبيه الذي أعتقه، فإن كان الأب حرا لم يعتق كان ولاؤه لمولى جده الذي أعتقه. هكذا أبدا ما ارتفع وعلا. فإن لم يكن في آبائه حر معتق وكانوا كلهم أحرارا غير معتقين ورثه المسلمون، ولم يكن لموالي الأم من ولائه شيء. وكذلك إن كان في آبائه حر

فصل

معتق فانقرض المعتق وعصبته ورثه المسلمون دون موالي الأم. فإن كان الميت منقطع النسب ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان آباؤه كفارا أو عبيدا كان ولاؤه لموالي الأم إن كانت معتقة، فإن كانت الأم حرة لم تعتق كان الولاء لموالي الجدات للأم. وإن كانت منقطعة النسب ابنة زنى أو منفية بلعان أو كان أبوها عبدا أو كافرا كان الولاء لموالي الجدة أم الأم، وهكذا على هذا الترتيب ينزل الأمر. فصل والولاء في جميع ما ذكرنا من موالي الرجل وموالي ابنه وموالي أمه يورث به ولا يرث. ومعنى ذلك أن الميراث يكون لأقرب الناس بالمعتق يوم مات المولى الموروث، لا لمن ورث المولى المعتق. فصل وهو ينتقل إلى الأقرب فالأقرب من العصبة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء للكبر». يريد الأقرب إلى المولى المعتق فالأقرب من العصبة، وبالله التوفيق. فصل فأولى الناس بميراث الرجل المعتق إذا لم يكن له ورثة ولا عصبة مولاه الذي أعتقه، فإن لم يكن حيا فولده ثم ولد ولده وإن سفلوا الأقرب فالأقرب. فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد أو كانوا فانقرضوا فأبوه ثم ولد الأب وهم الإخوة. فإن كانوا لأب وأم أو لأب فالميراث بينهم، وإن كان بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب، فالذي لأب وأم أقعد من الذي لأب وأحق بالميراث. فإن لم يكن له إخوة فولد الإخوة، فإن كان بعضهم ابن أخيه لأب وأم وبعضهم ابن أخيه لأب فابن الأخ للأب والأم أقعد

وأحق بالميراث. فإن لم يكن له ولد الإخوة فأولادهم، فإن لم يكن أولادهم فأولاد أولادهم أبدا ما سفلوا على هذا الترتيب الذي وصفنا ومتى استووا في القعدد وكان أحدهم أقرب إلى المعتق بأم كان أحق بالميراث، وإن استووا كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن للأب ولد ولا ولد ولد أو كانوا فانقرضوا كان أبوه وهو الجد أحق الناس بالولاء، فإن لم يكن الجد فولده وهم الأعمام، فإن كان بعضهم أقرب إلى المعتق بأم كان أقعد بالميراث. فإن استووا كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن الأعمام فولد الأعمام، فإن لم يكن ولد الأعمام فولد ولدهم وإن سفلوا أبدا على الترتيب الذي وصفناه في بني الإخوة، متى استووا في القعدد وكان أحدهم أقرب إلى المعتق كان أحق بالميراث، وإن استووا في ذلك كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن للجد ولد ولا ولد ولد، أو كانوا فانقرضوا فأبو الجد أحق بالميراث، فإن لم يكن أبو الجد فولده، فإن لم يكن ولده فولد ولده على الترتيب الذي وصفناه في الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، فإن لم يكن له ولد فولد ولده على الترتيب الذي وصفاه. فإن لم يكن لجد الجد ولد ولا ولد ولد فوالد الجد هكذا أبدا ما تباعد نسبهم وامتد فرعهم. فإن انقطعوا ولم يبق منهم أحد كان الميراث لجماعة المسلمين بولاية الإسلام، إلا أن يكون مولاه الذي أعتقه معتقا فيكون الولاء لمولى مولاه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه في انتقال الولاء عن المولى المعتق ثم لمولى مولى مولاه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن لم يكن مولاه الذي أعتقه معتقا وكان حرا لم يعتق بولادته فمولى أبيه ثم لمن يجب له ذلك بسببه على ما بيناه. وإن كان مولاه الذي أعتقه منقطع النسب ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كان عبدا أو كافرا فولاؤه لمولى أمه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن كانت أمه حرة لم تعتق فولاؤه لمولى أبيها، فإن كان أبوها عبدا أو كافرا أو كانت منقطعة النسب ابنة زنى أو منفية بلعان فولاؤه

فصل

لموالي أم أم مولاه، فإن لم يكن له موالي من قبل أم مولاه فميراثه لجماعة المسلمين بولاية الإسلام. فصل فإن كان الرجل المتوفى حرا لم يعتق كان الولاء للمولى الثاني وهو مولى أبيه الذي أعتقه، ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما أحكمته السنة في ميراث الولاء على ما وصفناه. فإن كان أبوه حرا أيضا لم يعتق كان الولاء لمولى أبي أبيه. فإن كان أبو أبيه حرا لم يعتق كان ولاؤه لموالي أبي أبي الأب فإن كان أبو أبي الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنه أبا الأب بلعان أو كان ابنه من زنى كان الولاء لموالي أم أبي الأب. وإن كان أبو الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنه وهو الأب بلعان أو كان ولده من زنى كان الولاء لموالي أم الأب. فإن كانت أم الأب حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أم الأب، فإن كان أبو أم الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنته وهي أم الأب بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم أم الأب، وهكذا ترتيب الولاء أبدا في موالي الأب فمن فوقه من الآباء والأمهات. فصل وإن كان الرجل المتوفى حرا غير معتق منقطع النسب إما ولد زنى أو منفيا بلعان أو لم يكن في آبائه حر مسلم كان ولاؤه للمولى الثالث، وهو مولى أمه، ثم لمن يجب له ذلك بسببه على ما أحكمته السنة في ميراث الولاء. وقد بينا ذلك. فإن كانت أمه حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أمه ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كان أبو الأم عبدا أو كافرا أو قد كان نفى ابنته بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كانت الأم حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كان أبو

فصل

أم الأم عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنته أم الأم بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. وهكذا يترتب الولاء أبدا في موالي الأم فمن فوقه من الآباء والأمهات. فصل ومتى ما أعتق الأب أو أسلم إن كان كافرا رجع الولاء إليه وجره إلى مواليه إن كان مولى، أو إلى عصبته وجماعة المسلمين إن كان لا ولاء عليه لأحد. وكذلك إن استلحق الملاعن ابنه رجع الولاء إليه وجره عن موالي الأم إلى مواليه إن كان مولى أو إلى عصبته وجماعة المسلمين إن لم يكن عليه ولاء لأحد. وبالله التوفيق. فصل والأصل في هذا أن كل ولد يولد للحر من حرة فولاؤه لموالي أبيه إن كان مولى أو لجماعة المسلمين إن كان حرا لم يعتق بعتق، ولا يرجع ولاؤه إلى موالي أمه أبدا إلا أن تعتق وهي حامل به فيكون ولاء ولدها لمعتقها ولمن يجب ذلك له بسببه، لأن الرق قد مسه في بطن أمه. وكذلك إذا كوتبت وهو في بطنها أو دبرت أو أعتقت إلى أجل فولاء ما في بطنها لسيد أمهم، ولدته في الكتابة أو بعد أدائها أو ولدته المدبرة في حياة سيدها أو بعد وفاته، أو ولدته المعتقة إلى أجل قبل الأجل أو بعده. وبالله التوفيق. فصل والولاء ينتقل عن الرجل والمرأة إلى بنيهما وعصبتهما من الرجال دون النساء، فلا ترث المرأة من الولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت أو أعتق من أعتق من أعتقت، أو ولد من أعتقت من الذكور إن كان حرا لم يعتق، أو ولد من

فصل

أعتقت من الإناث إن كان ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كافرا على ما بيناه قبل من أن الموالي ثلاثة: مولى الرجل الذي أعتقه، ومولى أبيه، ومولى أمه. فصل وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» يهوديا أو نصرانيا لأن عتق الكافر جائز وفيه أجر. قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة ففي هذا إجازة عتق الكافر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الرقاب أنفسها ثمنا وأغلاها عند أهلها». فلم يخص كافرا من مسلم إلا أنه لا يرثه إلا أن يسلم لاختلاف الدينين. وكذلك إن أعتق الذمي عبده الذمي فإن الولاء يثبت له بعتقه إياه ويرثه إن أسلما جميعا. فإن قال قائل: كيف يصح له الولاء، وقد قلت فيما تقدم: إن الولاء لمن حصل له ثواب العتق، والنصراني لا يثاب على عتقه؟ فالجواب على ذلك أن هذا إجماع، والإجماع أصل في نفسه، فلا يعترض عليه بالقياس. وأيضا فإن النصراني له ثواب العتق إن أسلم على ما روي «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنا نتخلق بها في الجاهلية؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسلمت على ما سلف لك من خير. » فصل وأما إن أعتق النصراني مسلما فلا يثبت له ولاؤه؛ لأنه أعتق من لا يصح له

فصل فيما يجب الميراث به

حبسه ولا يستقر عليه ملكه، لقول الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]. هذا مذهب مالك وأصحابه، ورواية ابن القاسم عنه في كتاب ابن المواز أن الولاء يثبت لهم، وهو أظهر، لأن إسلامه لا يسقط ملك سيده عنه وهو عبده وعلى ملكه حتى يباع عليه، وبالله التوفيق. فصل وقد مضى القول في الولاء موعبا، ويحسن أن يوصل بذلك القول في فرائض المواريث إذ لم يقع منها في المدونة إلا فريضة واحدة ناقصة، فأنا أذكر هاهنا منها جملة مختصرة ملخصة كافية على مذهب مالك وما روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فصل فيما يجب الميراث به الميراث يكون بين الأحرار المسلمين بأحد ثلاثة أشياء: إما نسب ثابت. أو نكاح منعقد. وإما ولاء عتاقة. فإن لم يكن للمتوفى وارث بوجه من هذه الوجوه ورثه جميع المسلمين بولاية الإسلام. لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض. قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقد يجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها. وقد يجتمع منها شيئان لا أكثر مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو زوجها وابن عمها، فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد، نصفه بالزوجية ونصفه بالنسب أو الولاء. ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل

فصل في تسمية من يرث من الرجال

ومولاته فيكون لها أيضا جميع المال إذا انفردت، نصفه بالنسب ونصفه بالولاء وكذلك ما أشبهه، وبالله التوفيق لا شريك له. فصل ولا ميراث إلا بعد الدين والوصية. فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزمه في تكفينه وإقباره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا وما كان في معناها على مراتبها، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة، وبالله التوفيق. فصل في تسمية من يرث من الرجال وهم خمسة عشر: الأب، والجد للأب وإن علا، والابن، وابن الابن وإن سفل، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ للأب، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق، وابن العم للأب، والزوج، والمولى بولاء العتاقة. فصل في تسمية من يرث من النساء وهن: عشرة: الأم، والجدة للأب، والجدة للأم، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والأخت للأم، والزوجة، والمولاة المعتقة. فصل ولا يرث من ذوي الأرحام سوى من له فرض مسمى بأرحامهم شيئا، وهم الأجداد من قبل الأم، والأعمام للأم، وبنوهم، وبنو الأخ للأم، والأخوال، والخالات، وبنوهم، وبنو البنات، وبنو الأخوات؛ ولا جميع العصبة من النساء بأنسابهن شيئا، وهن العمات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، فهؤلاء وأولادهم

فصل في الحجب

ومن علا من أشباههم، مثل عمة الأب، وخالة الجد، لا يرثن ولا يحجبن وارثا؛ لأن كل من لا يرث بحال فلا يحجب. فصل في الحجب الأب يحجب من فوقه من الآباء. ومن كان بسببه من الجدات، ويحجب الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم.، والابن يحجب من تحته من بني البنين، ويحجب الإخوة كلهم ذكورهم وإناثهم، ويحجب الأعمام وبنيهم، ويحجب الأم عن الثلث إلى السدس، والزوجة عن الربع إلى الثمن، والزوج عن النصف إلى الربع. والأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، والأخ للأب يحجب ابن الأخ الشقيق. وابن الأخ الشقيق يحجب ابن الأخ للأب، الأقرب يحجب الأبعد أبدا. فإذا استويا في القعدد فالشقيق أحق. وابن الأخ وإن سفل يحجب العم الشقيق. والعم الشقيق يحجب العم للأب، والعم للأب يحجب ابن العم الشقيق. وابن العم الشقيق يحجب ابن العم للأب، الأقرب يحجب الأبعد أيضا على ما تقدم في الإخوة. والأم تحجب جميع الجدات اللواتي من قبلها واللواتي من قبل الأب. وكل واحدة من الجدتين تحجب من فوقها من الجدات. والبنت وبنت الابن وإن سفلت تحجب الإخوة للأم، والزوجة من الربع إلى الثمن. باب ميراث البنين الابن إذا انفرد كان له جميع المال، فإن كانوا أكثر من واحد كان المال بينهم بالسواء. والبنت الواحدة إذا انفردت كان لها النصف، وللاثنين فصاعدا الثلثان. فإن اجتمع البنون والبنات فلا فريضة للبنات واحدة كانت أو أكثر معهم، والمال بين جميعهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن كان مع البنين من له فرض مسمى بدئ به وكان ما فضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا، أو بينهم بالسواء

باب ميراث الأبوين

إن كانوا ذكورا، وان كن إناثا فلهن مع أهل الفرائض فرائضهم كاملة إلا أن ينقصها العول. وبنو الأبناء كالأبناء في عدم الأبناء ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون، ولا شيء لبني الابن ذكورا كانوا أو إناثا مع الابن الذكر، ولهم مع البنت أو البنات ما فضل عن فرائضهم على السواء إن كانوا ذكورا، وللذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا، فإن كانوا إناثا فلا شيء لهن مع البنتين فصاعدا إلا أن يكون معهن ابن ابن أو بإزائهن فيرد عليهن ويكون الفاضل بينهن وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين. ولهن مع البنت الواحدة السدس تكملة الثلثين، ولا شيء لمن تحتها من بنات الأبناء إلا أن يكون معهن ابن ابن بإزائهن أو أبعد منهن فيرد عليهن ويكون الفاضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. باب ميراث الأبوين الأب إذا انفرد كان له المال كله، وله مع البنين السدس فريضة، وله مع أهل الفرائض ما فضل عن فرائضهم إن فضل السدس أو أكثر منه، فإن فضل أقل منه لم ينقص منه إلا ما نقصه العول. وللأم إذا لم يكن ولد أو اثنان من الإخوة أو الأخوات فصاعدا كانوا أشقاء أو لأب أو لأم الثلث فريضة لا يزاد عليه ولا ينقص منه إلا أن ينقصها العول. فإن كان للمتوفى ولد أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى أو اثنان من الإخوة أو الأخوات فصاعدا ورثا أو حجبا، فلها السدس فريضة لا تزاد عليه ولا تنقص منه إلا أن ينقصها العول. فهذه حال الأم إلا في الغراوين، وهما زوجة وأبوان، أو زوج وأبوان، فلها فيهما ثلث ما بقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة. باب ميراث الجدات وللجدة الواحدة من قبل أب كانت أو من قبل أم السدس إذا انفردت، فإن اجتمعتا فالسدس بينهما بنصفين. فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فالسدس لها

باب ميراث الزوجين

دون التي للأب، وإن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس بينهما بنصفين. ولا يرث من الجدات إلا جدتان: أم الأم وأمهاتها، وأم الأب وأمهاتها. وأما أم أبي الأب، وأم أبي الأم فإنهما لا ترثان. باب ميراث الزوجين وللزوج من امرأته النصف إن لم يكن لها ولد، فإن كان لها ولد ذكرا أو أنثى منه أو من غيره أو ولد ولد ذكر له الربع. وللزوجة من زوجها الربع إن لم يكن له ولد ولا ولد ولد، فإن كان له ولد ذكرا كان أو أنثى منها أو من غيرها أو ولد ولد ذكر فلها منه الثمن. فإن كان للرجل زوجات فالثمن أو الربع بينهن بالسواء لا يزدن على ذلك شيئا. والمدخول بهن وغير المدخول بهن في الميراث سواء. باب ميراث الجد ميراث الجد للأب وإن علا كميراث الأب إذا لم يكن دونه أب ولا ترك المتوفى إخوة أشقاء أو لأب إلا في الغراوين فإن للأم معه ومع الزوجة أو الزوج الثلث بخلاف ما لها مع الأب. فيرث الجد المال كله إذا انفرد، فإن كان معه أهل فرائض فرض له السدس ولم ينقص منه إلا أن ينقصه العول. باب ميراث الإخوة الشقائق وللأب الأخ الشقيق إذا انفرد كان له المال كله، فإن كانوا أكثر من واحد فالمال بينهم على عددهم. وهو مع أهل الفرائض عاصب فيما بقي لهم، فإن استكملوا المال لم يكن له أولهم إن كانوا عددا شيء إلا أن يكون في الذين استكملوا المال إخوة لأم ورثوا الثلث فيشاركنهم فيه على أنهم إخوة لأم. وتسمى هذه الفريضة المشتركة، وتعرف بالحمارية. ولو فضل للإخوة الشقائق شيء لم يكن لهم إلا ما فضل وإن كان أقل مما صار للإخوة للأم.

باب ميراث الإخوة للأم

وللأخت الواحدة الشقيقة النصف، وللأختين فصاعدا الثلثان لا ينقص من ذلك إلا أن ينقصهن العول. فإن كان معهن أخ أو إخوة أشقاء فلا فريضة لهن معه ولا معهم، والمال بينهم إذا انفردوا، أو ما فضل عمن له فرض مسمى إن كان معهم من له فرض مسمى، للذكر مثل حظ الأنثيين. والإخوة للأب كالإخوة الشقاق عند عدم الشقائق ذكرانهم كذكرانهم، وإناثهم كإناثهم إلا في المشتركة فإنهم لا يشتركون مع الإخوة للأم لخروجهم عن ولادتها. فلا شيء للإخوة للأب مع الأخ الشقيق، ولهم مع الأخت الشقيقة أو مع الأختين ما فضل من المال على السواء إن كانوا ذكورا، وللذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا. فإن كانوا إناثا فلا شيء لهن مع الأختين فصاعدا، ولهن مع الواحدة السدس تكملة الثلثين فريضة. والأخوات الشقائق أو اللواتي لأب مع الابنة أو البنات، فلا شيء للواتي لأب مع الشقائق وإن كانت شقيقة واحدة. باب ميراث الإخوة للأم وأما الإخوة للأم فإن كان واحدا فله السدس، وإن كانوا أكثر فهم شركاء في الثلث على السواء ذكورا كانوا أو إناثا. وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى فيه سواء إلا في ميراث الإخوة للأم. ولا يرثون إلا في الكلالة، وهي ألا يورث المتوفى بابن وإن سفل ولا بأب وإن علا. باب ميراث الإخوة مع الجد وينزل الجد مع الإخوة الشقائق أو الذين لأب منزلة أخ فيقاسمهم المال للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الثلث أفضل له .. فلا ينقص منه شيء. فإن كان مع الإخوة الشقائق إخوة لأب عادّوا الجد بهم فمنعوه كثرة الميراث ورد ما صار لهم في المقاسمة على الإخوة الشقائق، ولم يكن للإخوة للأب معهم شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة ويفضل من المال بعد ما صار للجد أكثر من النصف فيكون الفاضل عن الأخت للإخوة للأب للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كان مع

فصل

الجد والإخوة من له فرض مسمى بدئ به، ثم قاسم الإخوة فيما بقي إلا أن يكون ثلث ما بقي أو السدس من رأس المال أفضل له من المقاسمة فيكون له الأفضل من الثلاثة الأشياء، فما صار للإخوة الشقائق أو الذين لأب مع الجدود وفي الفرائض كان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن اجتمعوا رجع الشقائق عن الذين لأب فيما صار لهم في المقاسمة، ولم يكن للإخوة للأب معهم شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة ويفضل من المال بعد ما صار للجد ولأهل الفرائض أكثر من النصف فيكون الزائد على النصف للإخوة للأب. فإن استكمل أهل الفرائض المال بسدس الجد لم يكن للإخوة شيء ذكورا كانوا أو إناثا إلا في الأكذوبة، وهي امرأة توفيت عن زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ويرتى للأخت بالنصف، ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت بما دخل ذلك من العول فيقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، فيقسم من سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة. فصل وإنما لم ينقص الجد مع الإخوة الشقائق والذين لأب من الثلث شيئا إذا لم يكن معهم من له فرض مسمى، أو من ثلث ما بقي إن كان معهم من له فرض مسمى، لأن الإخوة للأم يفرض لهم مع عدم الإخوة الشقائق أو الذين لأب الثلث فريضة لا ينقصون منه إلا أن ينقصهم العول. فلما كان الجد يحجبهم عن الثلث وجب ألا ينقص منه شيئا، إذ لو كان إخوة لأم لكان لهم ذلك الثلث. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زوج وأم وجد وإخوة لأب وإخوة لأم أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم، ولا شيء للإخوة للأب معه، إذ لو لم يكن الجد لم يكن لهم مع الإخوة للأم شيء، فكان أحق منهم بجميع الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم. وهذه الفريضة تنسب إلى مالك فتسمى المالكية لقوله بها وصحة اعتباره فيها، وبالله التوفيق. فصل ولا ميراث بين المسلم والكافر، فميراث الكافر لأهل دينه إلا أن يكون عبدا

فصل في ميراث الخنثى

فيرثه سيده بالملك الذي له فيه. وميراث المسلم لورثته من المسلمين إلا أن يسلم عبد الكافر فيموت قبل أن يباع عليه فيرثه بالملك الذي لنفسه؟ ولا بين الحر والعبد ومن فيه بقية رق من مكاتب أو مدبر أو معتق إلى أجل أو أم ولد. وميراث هؤلاء لساداتهم دون قرابتهم إلا أن يعتقوا أو يموت سيد أم الولد، فإن مات سيد أم الولد عتق لها وولد أم الولد من سيدها وولد ابنتها من غير سيدها أيضا يعتقون بموت السيد، فلا ميراث بينهم وبين قراباتهم إلا أن يموت السيد أو يعجل عتقهم. وولد من فيه بقية رق من أمته بمنزلته. ولا يرث المولود حتى يستهل صارخا ولا يورث. ولا يرث قاتل العمد من المال ولا من الدية شيئا. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية، ومما يرثان الولاء جميعا. ولا يرث ولد الزنى ولا المنفي بلعان من أبيه شيئا ولا يرثانه، فإن استلحق الملاعن ابنه جلد الحد ولحق به وورثه. وإن استلحق الزاني ولده من الزنى لم يلحق به إذا كان الزنى في الإسلام. ولا يتوارث من جهل موته مثل أهل البيت يموتون جميعا بغرق أو هدم أو غير ذلك فلا يعلم أيهم مات قبل صاحبه، فيرث كل واحد منهم ورثته من الأحياء ولا يورث بعضهم من بعض. ولا يتوارث من ولد في أرض الشرك مثل المسبيين والمستأمنين إلا أن يثبت نسبهم ببينة أو يكونوا جماعة كثيرة تحملوا فيشهد بعضهم لبعض. ويتوارث توءما المسبية أو المستأمنة بالأب والأم، ولا يتوارث توءما الزانية إلا بالأم. واختلف في توءمي المغتصبة والملاعنة، فالمشهور في توءمي الملاعنة أنهما يتوارثان بالأب والأم، والمشهور في توءمي المغتصبة أنهما لا يتوارثان إلا بالأم. وبالله تعالى التوفيق. فصل في ميراث الخنثى والخنثى المشكل يورث نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى على ما ذهب إليه أهل الفرائض، وفي ذلك اختلاف. ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة

فصل في فرائض المواريث

ولا أبا ولا أما. وقد قيل إنه وجد من ولد له من بطنه ومن ظهره، فإن صح ذلك ورث من ابنه لصلبه ميراث الأب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الأم كاملا، وهو بعيد. والله أعلم. فصل في فرائض المواريث والفرائض التي فرضها الله عز وجل في المواريث ست: ثلثان، ونصف، وثلث، وربع، وسدس، وثمن. فإن كان في الفريضة نصف فأصلها من اثنين. وإن كان فيها ثلث وثلثان فأصلها من ثلاثة. وإن كان فيها ربع أو ربع وثلث ما بقي فأصلها من أربعة.، وإن كان فيها ثمن أو ثمن ونصف فأصلها من ثمانية. وإن كان فيها ربع وثلث أو سدس وربع فأصلها من اثني عشر. وإن كان فيها ثمن وسدس أو ثمن وثلث فأصلها من أربعة وعشرين وإن كان فيها سدس وثلث ما بقي فأصلها من ثمانية وعشرين. وإن كان فيها سدس وربع وثلث ما بقي. فأصلها من ستة وثلاثين. فأصول الفرائض تسعة على ما ذكرناه منها، ستة لا تعول، وثلاثة قد تعول. إحداها: فريضة ستة فإنها تعول بالسدس إلى سبعة، وبالثلث إلى ثمانية وبالنصف إلى تسعة وبالثلثين إلى عشرة، وهو أكثر ما تعول به الفرائض. والثانية: فريضة اثني عشر فإنها تعول بنصف السدس إلى ثلاثة عشر، وبالربع إلى خمسة عشر، وبالسدس ونصف السدس إلى سبعة عشر. والثالثة: فريضة أربعة وعشرين فإنها تعول بالثمن إلى سبعة وعشرين. وما كان من الفرائض ليس فيه من له فرض مسمى فأصلها من حيث تنقسم، وذلك ما يجتمع من عدد البنات وضعف عدد البنين إن كان الورثة بنين وبنات،

باب ميراث الولاء

وكذلك الإخوة مع الأخوات، أو ما يجتمع من عدد العصبة الوارثين أو الإخوة الذكور أو البنين. فصل والورثة ينقسمون على أربعة أقسام: فمنهم من له فرض مسمى وليس بعاصب، فلا يزاد على فريضته ولا ينقص منها إلا أن يدخل الفريضة عول، وهم الأزواج والزوجات، والأم والجدات، والبنت والبنات، والإخوة والأخوات للأم. ومنهم من له فرض مسمى وهو عاصب، فيرث المال كله إن انفرد، ولا ينقص من فريضته إذا لم ينفرد إلا أن يدخل الفريضة عول، وهو الأب والجد للأب وإن علا. ومنهم من هو عاصب في حال، وهن الأخوات الشقائق واللواتي للأب لأنهن عصبة مع البنات. ومنهم من هو عاصب في كل حال، فيرث المال كله إذا انفرد وما فضل عمن له فرض مسمى إن فضل عن شيء وهم الأبناء وبنوهم، والإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، والموالي والمواليات بولاء العتاقة. باب ميراث الولاء الولاء كالنسب يجب الميراث به عند عدم النسب كما يجب بالنسب، فللمولى المعتق المال كله إذا انفرد، وهو مع من له فرض مسمى عاصب فيما بقي. والموالي ثلاثة: مولى الرجل الذي أعتقه. ومولى أبيه. ومولى أمه.

فإن كان الرجل حرا معتقا فولاؤه لمولاه الذي أعتقه ثم لمن يجب له ذلك بسببه وهم الأقرب فالأقرب من العصبة الرجال. فأحق الناس بولاء ما أعتق الرجل والمرأة من رجل أو امرأة ابنه ثم ابن ابنه وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم أبوه، ثم بنو أبيه وهم الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب، فإن كانوا في درجة واحدة في القرب فالمال بينهم بالسواء إلا أن يكون فيهم شقيق فيكون أحق من الذين لأب. ثم الجد، ثم بنوه وهم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب أيضا، فإن كانوا في درجة واحدة وبعضهم شقيق فالشقيق أحق من الذين لأب. ثم أبو الجد ثم بنوه على الترتيب الذي ذكرنا. ثم جد الجد ثم بنوه على الترتيب الذي ذكرنا. ثم أبو جد الجد ثم بنوه وهكذا أبدا إلى ما يمكن أن يعلم ويحصى. وإن كان الرجل حرا لم يعتق وكان أبوه حرا معتقا فولاؤه لمولى أبيه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على الترتيب الذي وصفناه في مولاه. وإن كان أبوه حرا أيضا لم يعتق فولاؤه لمولى جده إن كان حرا معتقا ثم لمن يجب له ذلك بسببه أيضا على ما بيناه. فإن كان ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كافرا فولاؤه لمولى أمه إن كانت حرة معتقة ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن كانت حرة لم تعتق فولاؤه لموالي أبيها. وإن كانت ابنة زنى أو منفية بلعان أو أمة أو كافرة فولاؤه لموالي أمها. ومتى استلحق الملاعن ابنه أو أسلم الكافر أو أعتق العبد جر الولاء عن موالي الأم إلى مواليه أو موالي أبيه لأن كل ولد يولد للحر المسلم من الحرة فليس لموالي أمه من ولائه شيء، وولاؤه لمولاه إن كان حرا معتقا أو لمولى من كان من آبائه حرا معتقا، فإن لم يكن فيهم معتق فميراثه لجماعة المسلمين. فإن لم يكن لأحد الموالي الثلاثة عصبة أو كان فانقرضوا رجع الولاء إلى مولى مولاه إن كان مولاه حرا معتقا ثم لمن يجب ذلك له بسببه على الترتيب الذي وصفناه. ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن من الرجال إن كان حرا لم يعتق، أو من النساء إن كان منقطع النسب أو مات أبوه عبدا أو كافرا.

كتاب العتق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب العتق ما جاء في العتق قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة. وقال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]. معنى الكلام فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة، لأن "لا" لا تأتي أبدا إلا مكررة، "مثل قوله عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] ومثل قوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] فجاءت في هذه الآية مفردة لأن المعنى فيها هو ما ذكرناه من تكريرها في الجواب. فتفسير الآية: فلم يقتحم هذا الإنسان الذي ظن أن لن يقدر عليه أحد والله يقدر عليه، وظن أن لم يره أحد والله يراه، وقال إنه أهلك مالا لبدا أي كثيرا، يريد في عداوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد هداه الله النجدين، أي أراه طريق الخير والشر وأنعم عليه أن جعل له عينين يبصر بهما حجج الله، ولسانا وشفتين يعبر بهما عن نفسه العقبة ولا ركبها ولا اقتحمها ولا جازها لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة.

فصل

والعقبة قيل فيها إنها الصراط، وقيل إنها عقبة فيما بين الجنة والنار، وقيل: إنها عقبة في جهنم، وقيل: إنها عقبة على جسر جهنم. وأظهر الأقوال أنها الصراط والله أعلم. والإنسان قيل فيه إنه رجل من بني جمح ذو جلد وقوة يكنى أبا الأشدين. وأعتق أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعة كلهم يعذب في الله، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رقابا جلدا يمنعونك ويقومون دونك، فقال أبو بكر: يا أبت إنما أريد ما أريد، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21]. يقول الله تبارك وتعالى: لم يكن لأحد ممن أعتق عنده يد يكافئه عليها ولا نعمة يجازيه بها، لكن فعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى في الآخرة بجزيل ثواب الله عز وجل على ذلك ومجازاته عليه. وفي الصحيح من الحديث أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» ". وروي عنه أنه قال: «أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما جعل الله وجاء كل عظم من عظامه عظما من عظامه محرما من النار. وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة جعل الله وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار». وأنه قال: «من أعتق أمتين كانتا له حجابا من النار». ومن أعتق ذكرا فكذلك. فالرجل يفك رقبته من النار على ما جاءت به الآثار بعتق عبد مسلم أو أمتين مسلمتين. والمرأة تفك رقبتها من النار بعتق أمة مسلمة. «وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الرقاب أفضل؟ فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها». فصل وقد اختلف في هذا التفضيل هل هو على عمومه في جميع الرقاب مسلمين

فصل

كانوا أو كفارا، أو هل إنما ذلك عند استوائهما في الكفر والإسلام؟ فروى زياد عن مالك أنه قال: أفضل الرقاب أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا أبالي أيهوديا كان أو نصرانيا أو ولد زنى وفي كلٍّ أجر، والأجر في ذلك على قدر ما يجترح من ثمنه ومنفعته لله. وقال أصبغ: عتق المسلم أفضل من عتق الكافر وإن كان أقل ثمنا منه، وإنما يكون الأعلى ثمنا أفضل عند استوائهما في الكفر والإسلام. وإذا كانت الرقبتان مسلمتين فالأعلى ثمنا أفضل وإن كانت الأخرى أفضل حالا، وهذا التطوع. أما في الرقبة الواجبة فلا يجوز فيها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا مؤمنة وفي سماع أصبغ من كتاب الوصايا فيمن قال بعتق خيار رقيقي أنه يعتق أعلاهم ثمنا حتى يستوعب الثلث، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم وقال أصبغ: إلا أن يستدل أنه أراد الخيار في الدين فيعتق الأفضل دينا. فصل والعتق ينقسم على وجهين: تطوع وواجب. فالتطوع ما يوقعه المعتق ابتداء بلفظ يوجب العتق دون سبب يقدمه. وأما الواجب فهو ما يوقعه أو يقع لسبب أوجبه. وهو ينقسم على وجهين: مضمون ومعين. فأما المضمون فإنه يجب عند مالك وأصحابه بثلاثة أشياء: أحدها: النذر، وهو أن يقول: لله علي أن أعتق عبدا أو كذا وكذا عبدا أو كل عبد أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من صنف كذا شكرا على ما أولاه أو على شيء يتمناه. والثاني: اليمين وهو أن يقول: إن فعلت كذا أو كذا أو إن لم أفعله فعلي عتق رقبة أو كذا وكذا رقبة أو كل لما أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من صنف كذا. والثالث: الفعل الذي أوجب الله تعالى به العتق وهو قتل الخطأ ووطء

المظاهر منها بعد الظهار. وليس العتق في كفارة اليمين بواجب لأنه مخير بينه وبين الإطعام والكسوة، ثم الصيام لمن لم يجد. وأما المعين فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون في ملكه. والثاني: ألا يكون في ملكه. فأما ما كان في ملكه من العبيد فإن العتق يجب فيه بخمسة أشياء، وهي النذر، واليمين، والإيلاء، وعتق البعض منه، والتمثيل. فأما النذر وهو أن يقول: لله علي عتق رقبة عبدي هذا إن فعل الله كذا وكذا وما أشبه ذلك، فيؤمر فيه بالعتق ولا يجبر عليه عند ابن القاسم. وقال أشهب: إن لج وأبى أن يعتقه أعتق عليه. فوجه قول ابن القاسم أن عتقه بغير نية لا وفاء فيه لنذره في إجباره على عتقه تفويت عليه للوفاء بنذره. وأما اليمين فيجبر على العتق متى ما عثر عليه لوجوبه عليه بالحنث، إن كان في الصحة فمن رأس المال، وإن كان في الفرض أو كانت يمينه على حنث فلم يفعل حتى مات فمن الثلث. وأما الإيلاء فيوجب للأمة العتق من رأس المال بعد الموت سواء كان في الصحة أو المرض. وأما عتق البعض من العبد فيوجب على سيده عتق سائره بالحكم ما لم يفلس أو يموت، فإن أفلس أو مات قبل أن يحكم عليه بالعتق لم يعتق. واختلف إن مرض فعثر على ذلك في المرض، فقيل: يعتق عليه في الثلث في مرضه، وقيل: لا يعتق عليه فيه إلا بعد الموت. وقيل: إن كان له مال مأمون أعتق عليه في مرضه، وإن لم يكن له مال مأمون لم يعتق عليه حتى يموت. وقيل: لا يعتق عليه حتى يصح، فهي أربعة أقوال قائمة كلها من المدونة.

فصل

فصل واختلف إن أعتق بعض عبده في مرضه فقيل: يعتق عليه جميعه في مرضه من الثلث. وقيل: يوقف ولا يعتق إلا بعد الموت من الثلث، كانت له أموال مأمونة أو لم تكن. وقيل: إنما هذا إذا لم تكن له أموال مأمونة، فإن كانت له أموال مأمونة عجل عتقه من رأس ماله، وهذا الاختلاف كله في المدونة. فصل وهكذا حكم من مثل بعبده في الصحة أو المرض فلم يعثر عليه حتى مرض أو مات أو أفلس، لأن العبد لا يكون حرا بنفس المثلة حتى يحكم عليه بالعتق. فصل وأما ما لم يكن في ملكه من العبيد فإن العتق يجب عليه فيه إذا ملكه بخمسة أشياء، وهي: النذر، واليمين، وأن يكون ممن لا يحل له ملكه من أقاربه، وأن يمثل بعبد يملك بعضه فيوجب ذلك عليه عتق جميعه حظه وحظ شريكه بالحكم لا بنفس المثلة، وأن يعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه فيوجب ذلك عليه عتق حظ شريكه إذا اشتراه أو تقويمه عليه إن لم يشتره على ما ثبت في الحديث المأثور في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فصل واختلف إن لم يعثر عليه حتى مرض أو مات، فقيل إنه لا يقوم عليه بعد الموت ولا في المرض، قاله بعض رواة مالك في المدونة. وقيل: إنه يقوم في المرض ويعتق عليه فيه. وقيل إنه إنما يقوم عليه بعد الموت في الثلث. وقيل: إنه إن كان له مال مأمون قوم عليه في مرضه، وإن لم يكن له مال مأمون لم يقوم عليه إلا بعد موته. وقيل: إنه يقوم عليه في مرضه ولا يعتق عليه فيه حتى يموت، فإذا مات عتق في ثلثه إن حمله الثلث، وإن لم يحمله كان ما بقي لورثته. وقيل: إنه لا يقوم عليه في مرضه وتعرف قيمته، فإن مات من مرضه ذلك ولم يصح منه كانت تلك

فصل

القيمة بعد الموت في الثلث. وقيل إنه إن مات بحدثان ذلك ولم يَطُل قُوِّم عليه وأعتق من رأس ماله، وهي رواية أشهب عن مالك في العتبية، ورواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة. فصل وأما إن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يعجل عليه التقويم في المرض من الثلث. والثاني: أنه لا يعجل ذلك عليه حتى يموت. والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون؛ فإن كان له مال مأمون قوم عليه في المرض، وإن لم يكن له مال مأمون لم يقوم عليه حتى يموت، وهذا الاختلاف كله في المدونة. والرابع: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا من رأس ماله إن صح، وإن لم يصح لم يقوم في الثلث على حال وعتق عليه فيه حظه وحده، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة. فصل وتحصيل هذه المسألة بتلخيص أن تقول فيها: اختلف في الرجل يعتق شقصا من عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في صحته ثم يمرض قبل أن يعتق عليه بقية عبده أو قبل أن يقوم عليه حظ شريكه فيعثر على ذلك في مرضه على ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن القاسم في المدونة: إنه يعتق عليه بقية عبده، ويقوم عليه حظ شريكه في الثلث. قيل: في المرض، وقيل: بعد الموت لا في المرض، وقيل: إن كانت له أموال مأمونة أعتق عليه بقية عبده في المرض وقوم عليه حظ شريكه في الثلث. وإن لم تكن له أموال مأمونة لم يعتق عليه بقية عبده، ولا يقوم حظ شريكه

إلا بعد موته. وقيل: إنه إذا أعتق شقصه من عبد بينه وبين شريكه يحكم عليه بالتقويم في المرض ولا يعتق حتى يموت، فإن مات أعتق في ثلثه حظ شريكه الذي قوم عليه أو ما حمل الثلث منه ويبقى شريكه عليه في المرض إلا برضاه، إذ لا يدري هل يخرج من الثلث أم لا. فمن حجته ألا يقوم نصيبه سائره رقيقا لورثته، وهو قول أصبغ. والنظر يوجب ألا يعجل تقويم نصيب إلا إلى عتق متيقن. وقد قيل: إنه تعرف قيمته في المرض ولا يقوم عليه حتى يموت، فإن مات جعلت تلك القيمة في ثلثه، فإن لم يحملها الثلث نفذ من ذلك ما حمل الثلث وما لم يحمل الثلث بقي رقيقا للشريك الذي لم يعتق. والثاني: قول بعض الرواة في المدونة: إنه لا يعتق عليه في الثلث بقية عبده ولا يقوم عليه فيه حظ شريكه. والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة إنه يقوم عليه في الثلث حظ شريكه على ما ذكرناه من الاختلاف في تعجيل التقويم أو تأخيره ولا يعتق عليه فيه بقية عبده. واتفقوا فيما علمت أنه إن لم يعثر على ذلك حتى مات أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقية عبده ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث، وهذا إذا طال، واختلف إذا لم يطل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقيته ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث، وهو ظاهر ما في المدونة. والثاني: أنه يقوم عليه بعد الموت حظ شريكه إن كان موته بحدثان عتق نصيبه؛ لأن ذلك حق قد وجب لشريكه، ولا يعتق عليه بقية عبده إن كان العبد كله له، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتبية، وفي رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة. والثالث: أنه يعتق عليه بعد الموت بقية عبده إن كان العبد كله له ويقوم عليه نصيب شريكه إن غافلة الموت. حكى هذا القول ابن حبيب عن مالك وأصحابه

فصل

ولم يذكر فيه اختلافا. وظاهر ما في المدونة يخالفه وأما التفليس فلا اختلاف في أنه يسقط التقويم والتتميم. وأما إن أعتق الرجل شقصا من عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في المرض فلا خلاف بينهم في أن ذلك كله يكون من الثلث ما أعتق منه وما بقي إن مات من ذلك المرض ولم يصح منه. واختلف هل ينظر في ذلك في حال المرض أو يؤخر النظر فيه حتى يموت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ينظر في ذلك في حال المرض فيعتق جميع العبد في الثلث إن كان له، ويقوم عليه كحظ شريكه فيه إن كان له فيه شريك. والثاني: أنه لا ينظر في ذلك إلا بعد الموت. والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون، فإن كان له مال مأمون عتق عليه في المرض جميعه إن كان له، وقوم عليه فيه حظ شريكه إن كان له فيه شريك. وإن لم يكن له مال مأمون لم ينظر في ذلك إلا بعد الموت وهو أحد قولي مالك في المدونة. وذهب ابن الماجشون إلى أنه إذا أعتق شقصا له من عبد في مرضه لم يقوم عليه حظ شريكه في المرض ولا بعد الموت إن مات من مرضه ذلك ولم يصح، بخلاف إذا كان العبد كله له فأعتق بعضه، وبالله التوفيق. وهو المستعان. فصل وحال إيقاع العتق ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: العتق في الصحة. والثاني: العتق في المرض. والثالث: العتق بعد الموت.

فصل

فصل فأما العتق في الصحة فإنه يكون على وجوه، مُبَتَّلا، أو مؤجلا بغير يمين، وبيمين. فأما المبتل بغير يمين فهو أن يقول: عبدي حر. ولا يزيد على ذلك، أو يقول: هو حر لله، أو: هو حر لوجه الله؛ أو يقول: هو لله، أو: لوجه الله. ولا يقول: حر. وكذلك إن قال ذلك في عضو من أعضائه فإن الحرية تلزمه بذلك في جميعه كالطلاق سواء. فإن قال: كلامه حر أو شعره حر أو ما أشبه ذلك مما يبين منه وينفصل عنه جرى ذلك على الاختلاف في الطلاق، فيلزمه العتق على مذهب أصبغ، ولا يلزمه ذلك على مذهب سحنون. فصل وإن قال: أنت سائبة فمذهب ابن القاسم أنه حر إن أراد بذلك الحرية وولاؤه لجميع المسلمين، وذلك مكروه عنده لنهي رسول الله عه عن بيع الولاء وهبته. وقال أصبغ: ذلك جائز ولا كراهية فيه كالذي يعتق عبده عن غيره فيكون الولاء للمعتق عنه ولا يكره ذلك له، وهو حر أراد الحرية أو لم يردها. وقال ابن الماجشون: لا يجوز عتق السائبة، فإن فعل فالولاء له إن عرف، وإن جهل فولاؤه لجميع المسلمين. وبالله التوفيق. فصل وأما المؤجل بغير يمين فإنه على وجهين: أحدهما: أن يكون الأجل مجهولا. والثماني: أن يكون معلوما. فأما المجهول فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجهل إتيانه فلا يُدرَى إن كان يأتي أو لا يأتي لجواز الوجهين جميعا من غير أن يغلب أحدهما على صاحبه، أو يكون الأغلب منهما أنه لا يأتي. والثاني: أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي والأغلب أنه يأتي.

والثالث: أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه يأتي. فأما القسم وهو أن يجهل إتيانه لاحتمال أن يأتي وألا يأتي من غير أن يغلب أحد الأمرين على صاحبه، أو يكون الأغلب منها أنه لا يأتي، مثل أن يقول: إذا قدم فلان فأنت حر وما أشبه ذلك فإن العتق في ذلك ليس بواجب للعبد إلا أن يأتي الأجل وسيده حي لم يمت ولا خرج عن ملكه. وقد اختلف إذا أراد السيد أن يبيعه هل له ذلك أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس له، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن ذلك له، وهو قول ابن القاسم فيها. وأما القسم الثاني وهو أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي وإلا غلب أنه يأتي، مثل أن يقول: عبدي حر إذا وضعت فلانة وهي حامل. وإذا حاضت الغير يائسة من المحيض. أو إذا خسفت الشمس أو القمر وما أشبه ذلك، فحكمه عند أشهب حكم القسم الأول على أصله في مساواته بينهما في الطلاق. فإذا حاضت فلانة أو وضعت أو خسفت الشمس والقمر على مذهبه في صحته كان حرا من رأس المال، وإن حاضت في مرضه كان حرا من الثلث، وإن لم تحض إلا بعد موته فلا حرية له، وذلك له منصوص عليه في سماع أبي زيد من كتاب الولاء. وروى مثله ابن وهب عن مالك. وأما على مذهب ابن القاسم فالعبد معتق إلى وضع فلانة وما أشبه ذلك من رأس المال وضعت في حياة المعتق أو بعد وفاته، على أصله فيمن طلق زوجته إلى مثل ذلك الأجل أن الطلاق يعجل عليه كالأجل الآتي لا محالة. وأما القسم الثالث وهو أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه يأتي مثل قوله إذا مات فلان أو إذا أمطرت السماء أو ما أشبه ذلك فأنت حر؛ فإن هذا يكون العبد حرا إلى ذلك الأجل من رأس المال، أتى الأجل قبل موت السيد أو بعده، وليس له أن يبيع

فصل

ولا يطأ إن كانت أمته، وما ولد له من أمته من ولد أو لها إن كانت أمة دخل في اليمين، ولا خلاف في هذا القسم بينهم. وبالله التوفيق. فصل وأما الأجل المعلوم وهو مثل أن يقول: أنت حر إلى شهر أو إلى سنة أو إلى سنتين أو ما أشبه ذلك فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن لا يبلغه عمر واحد منهما أو لا يبلغه عمر العبد. والثاني: أن يبلغه عمرهما جميعا. والثالث: أن يبلغه عمر العبد ولا يبلغه عمر السيد. فأما إذا لم يبلغه عمر واحد منهما أو لم يبلغه عمر العبد فلا حرية له، لأنه بمنزلة من قال لعبده: أنت حر بعد موتك. وأما إذا بلغه عمرهما جميعا فهو معتق إلى ذلك الأجل من رأس المال، وليس له بيعه، ولا وطؤها إن كانت أمة. وأما إن بلغه عمر العبد ولم يبلغه عمر السيد فإنه بمنزلة المدبر يعتق إلى ذلك الأجل من الثلث ولا يرده الدين المستحدث إلا بعد الموت. فصل فإن كان العتق المبتل أو المؤجل بيمين فإن الحالف يلزمه إذا حنث من بتل أو عتق إلى أجل بغير يمين إلا في وجه واحد فإن قول مالك اختلف فيه، وذلك إذا حلف الرجل على عبده بحريته ألا يفعل فعلا فحنثه وفعل ذلك الفعل. واختلف في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، رويت عنه في ذلك قضيتان، قضى أولا بعتق العبد، ثم قضى بإرقاقه وقال: أخاف أن يكون ذلك ذريعة للعبيد إلى عصيان سادتهم، وقال به بعض الناس في الطلاق، ووقع مثله في المبسوطة لأشهب، وفي مواضع أخر منها، منها قول مالك وأصحابه إن الطلاق يلزم.

فصل

فصل وإنما لزم العتق باليمين لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] واليمين بالعتق من العقود، فوجب الوفاء به. وهذا صحيح على أصل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن أصل مذهبه أن كل من حلف بما لله فيه طاعة يلزمه في اليمين كما يلزمه في النذر، ومن حلف بما ليس لله فيه طاعة أو له فيه معصية فلا يلزمه في اليمين كما لا يلزمه في النذر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». فصل ولا يخرج على هذا الأصل إلا الطلاق، فإن الطلاق يلزم باليمين ولا يلزم بالنذر. وإنما كان ذلك لأن القائل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار قد أوجب الطلاق على نفسه بشرط دخول الدار، فهو بمنزلة أن يوجبه على نفسه ابتداء بغير شرط. والطلاق ليس مما ينذر لله ولا يتقرب به إليه فلذلك لم يلزم بالنذر. فصل ولزوم الطلاق باليمين مما أجمع عليه أهل العلم واتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه. وأما العتق وسائر أفعال البر بيمين فإن أهل العلم اختلفوا في لزوم ذلك اختلافا كثيرا. فمنهم من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين وأوجب على الحالف به كفارة يمين. ومنهم من لم يلزمه شيئا من ذلك باليمين ولا أوجب عليه كفارة يمين. وعلة من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين أن الحالف بها لم يرد النذر بذلك ولا القربة به، وإنما قصد إلى منع نفسه مما حلف عليه. فلا يلزمه أن يخرج لله مما لم يرد به القربة إليه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات». وقوله: «من كانت هجرته إلى الله

فصل

ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». فصل ولو خرجت يمينه بشيء من هذه الأشياء مخرج النذر لله والشكر له لَلَزِمته باتفاق وإجماع. وذلك مثل أن يحب الولد أو قدوم أبيه أو دخول مكة وما أشبه ذلك فيقول: إن رزقني الله ولدا، أو قدم أبي، أو وصلت إلى مكة فعلي كذا وكذا لشيء يذكره من صيام أو صدقة أو مشي أو عتق أو ما أشبه ذلك. ومنهم من ألزم العتق باليمين قياسا على الطلاق ولم يلزم سائر الطاعات به. وليس بقياس صحيح، لأن الطلاق ليس مما ينذر لله ويوفى له به ويتقرب إليه. ومنهم من ألزم العتق وسائر الطاعات التي يتقرب بها إلى الله باليمين قياسا على النذر، وهو قول مالك وأصل مذهبه. وقد شذت له مسائل عن هذا الأصل يجب ردها بالقياس عليه: من ذلك قوله: إن من حلف بصدقة شيء من ماله على رجل بعينه إنه يؤمر بذلك ولا يجبر عليه بالحكم، ولا فرق في القياس بين ذلك وبين أن يحلف بعتق عبد بعينه، وإنما فرق بينهما مراعاة لقول من لا يوجب عليه الصدقة باليمين وقوة الاختلاف في ذلك. فصل واليمين بالعتق على وجهين: أحدهما: أن يحلف على فعل نفسه. والثاني: أن يحلف على فعل غيره. فأما الوجه الأول وهو أن يحلف على فعل نفسه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحلف ألا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف أن يفعله.

فصل

فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بعتق عبده ألا يفعل فعلا فإنه على بر، وله أن يبيع العبد ويطأ الأمة إن كانت أمة. فإن لم يخرج العبد أو الأمة من ملكه حتى فعل الفعل الذي حلف عليه ألا يفعله لزمه الحنث وعتق عليه العبد أو الأمة. واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ولد للعبد من أمته أو للأمة من ولد بعد اليمين هل يدخل في العتق أم لا على قولين واختار ابن القاسم وأصبغ ألا يدخل الولد في اليمين لأنه على بر. وأما الوجه الثاني وهو أن يحلف أن يفعل فعلا فإنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يضرب أجلا. والثاني: ألا يضرب أجلا. فأما إن ضرب أجلا فليس له أن يبيع حتى يحل الأجل لأنه مرتهن باليمين. واختلف قول ابن القاسم هل له أن يطأ إن كانت أمة على قولين: فله في المدونة أن له أن يطأ لأنه على بر. وروى عنه عيسى أنه ليس له أن يطأ وهو قول بعض الرواة في المدونة لأنه لا يجوز له أن يطأ إلا ما له أن يبيع. وأما إذا لم يضرب أجلا فليس له أن يطأ ولا يبيع لأنه على حنث، وما ولد لها من ولد، أو له من أمته إن كان عبدا فإنهم يدخلون في اليمين. هذا هو المشهور في المذهب من قول مالك وأصحابه. وقال المغيرة: إنهم لا يدخلون في اليمين. وقد وقع في المبسوطة أن قول مالك اختلف في ذلك، وهو وهم في الرواية والله أعلم. وإنما اختلف قول مالك في الذي يكون الحالف به على بر على ما قدمناه، وبالله التوفيق. فصل فإذا باع العبد أو الأمة قبل أن يبر فيهما بما حلف عليه رد البيع ووقفت حتى يبر أو يموت فيعتق في ثلثه، إلا أن يفوت عند المشتري بعتق أو اتخاذ أم ولد. ففي سماع عيسى أنها لا ترده وفي سماع أصبغ أنها ترد إلى البائع ويرد الثمن على المشتري.

فصل

فصل وأما الحالف على فعل غيره فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يحلف عليه بعتق عبده ألا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا. فأما إذا حلف عليه ألا يفعل فعلا مثل أن يقول: عبدي حر إن دخل فلان الدار أو إن قدم أبي وما أشبه ذلك، فهو كالحالف على نفسه ألا يفعل فعلا بعتق عبده. وأما إذا حلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا، مثل أن يقول عبدي حر إن لم يحج أبي أو إن لم يقدم فلان أو إن لم يهب لي دينارا وما أشبه ذلك. فإن سمى أجلا كان ذلك كالحالف على فعل نفسه في جميع الوجوه، وإن لم يسم أجلا فإن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فمرة قال: إنه كالحالف على نفسه في الوجوه كلها، ومرة جعله بخلاف الحالف على نفسه فقال: إنه يُتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل له أن يطأ إن كانت أمة في أيام التلوم، فقال ابن القاسم: لا يطأ، وإن مات عتقت في ثلثه؛ لأنه مات على حنث وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إنه يطأ في أيام التلوم، وهو على قياس قوله في المدونة: إنه لا يعتق إذا مات في التلوم. ومرة فرق بين قوله: عبدي حر إن لم يحج فلان، وعبدي حر إن لم يهب لي فلان دينارا، فيتلوم له في قوله: عبدي حر إن لم يهب لي فلان دينارا، ولا يتلوم له في قوله: عبدي حر إن لم يحج فلان، ولكن يمنع من بيعه ومن الوطء إن كانت أمة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الأيمان بالطلاق من العتبية. فصل وإذا أنذر الرجل العتق فقال: لله علي أن أعتق عبدي هذا، أو: لله علي نذر عتق عبدي هذا، أو قال: لله علي عتق رقبة أو نذر عتق رقبة، فإن ذلك لازم لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». إلا أنه لا يحكم عليه بعتقه على مذهب مالك. وإنما لم يحكم عليه

فصل

بعتقه على مذهبه لأن العتق لم يقع عليه بعد. وإنما نذر أن يعتقه فوجب عليه الوفاء لله بنذره، والوفاء لا يحصل إلا بنية التقرب بعتقه والوفاء لله بنذره. فلو أعتق عليه بغير اختياره لم يكن ذلك وفاء لنذره لعدم نيته التقرب بعتقه، وكان قد حيل بينه وبين الوفاء بالنذر، إذ لا يستطيع أن يعتقه مرة أخرى إن كانت الرقبة بعينها، فهذه علة مالك في منعه من الحكم عليه بالمعتق. والله أعلم. وقال أشهب: يؤمر أن يعتقه، فإن وعد بذلك ترك وتلوم له، وإن أبى من عتقه وقال: لا أعتقه ولا أفي لله بنذري فيه؛ عتق عليه. وقول مالك هو القياس، ومذهب أشهب استحسان. وكذلك لو نذر أن يعتق رقبة معينة لم يحكم عليه بعتق رقبة لأنه لو حكم عليه بها لم تجزه عن الرقبة الواجبة عليه وكان عليه أن يعتق رقبة ثانية بنية التقرب لله والوفاء بالنذر. فصل وأما العتق في المرض فيكون في الثلث بإجماع من أهل العلم، ويوقف حتى يموت ولا ينفد عتقه في حال المرض إلا أن تكون له أموال مأمونة على الاختلاف في مراعاة المال المأمون. والأصل في ذلك ما ثبت «أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فأعتق ثلث تلك الرقيق». وإنما اختلف الناس في هبات المريض وصدقاته، فالذي ذهب إليه مالك وفقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن ذلك من الثلث. وذهب أهل الظاهر إلى أن هباته وأعطياته جائزة، وأن تصرفه صحيح في ماله. ودليلنا العتق أنه من الثلث، وهبة المريض لوارثه أنها لا تجوز. وإنما لم تجز له الهبة في المرض لأن الوصية لا تجوز له، فكذلك الأجنبي لا يكون له أكثر من الثلث، لأن الزائد على الثلث لا يجوز له بعد الوصية. فإن عارض معارض في هبة المريض لوارثه دليلنا عليه بإجماع الصحابة في قول أبي بكر لعائشة: لو حددته أو حزته لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث. فصل وأما العتق بعد الموت فإنه من الثلث بإجماع، وهو يكون على أربعة أوجه:

وجهان لا يصح الرجوع فيهما، وهو المدبر في الصحة والمدبر في المرض. ووجهان يصح الرجوع فيهما، وهما الوصية بالعتق، واليمين التي يكون فيها على حنث بالعتق، لأن الرجوع عنه بأن يبر بفعل ما حلف عليه ليفعلنه. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب المكاتب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب المكاتب فصل في اشتقاق المكاتب الكتابة عتق الرجل عبده أو أمته على مال يؤديه إليه. وأخذت تسمية ذلك كتابةً من كتب السيد لعبده بذلك كتابا. وكانت الكتابة متعارفة بين الناس في الجاهلية قبل الإسلام، فأقرها الله تعالى في شرع نبيه محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فالأصل في جواز الكتابة كتاب الله وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وأما السنة فمنها ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم». وما روي عنه أنه قال: «من كان مكاتبا على مائة درهم فقضاها كلها إلا عشرة دراهم فهو عبد أو قال: على مائة أوقية فقضاها كلها إلا أوقية واحدة فهو عبد». وهذا كالنص منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

فصل

جواز المكاتبة لأن تعليق الأحكام بها يفيد جوازها. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة أن الكتابة جائزة بين العبد وسيده إذا كانت على شروطها الجائزة. وإنما اختلفوا في شروطها وفي أحكامها، وفي وجوبها على السيد إذا دعا إليها العبد، وفي لزومها للعبد إذا أباها ورد ذلك السيد على ما سنورده إن شاء الله تعالى. فصل وأول مكاتب كان في الإسلام «سلمان الفارسي، كاتبه أهله على مائتي وَدِيَّة يحييها لهم، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا غرستها فأذنني، فلما غرسها أذنه فدعا له فيها فلم تمت منها ودية واحدة». وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب يكنى أبا مؤمل قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعينوا أبا مؤمل فأعتق فقضى كتابته وفضلت عنده فضلة فاستفتى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أنفقها في سبيل الله». وقد كان يقال: المكاتب مهيأ له الخير. وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب لعمر بن الخطاب يكنى أبا أمية، فلما أتاه بأول نجم من نجومه قال له عمر بن الخطاب: خذه فاستعن به في سائر نجومك، فقال له: أخر ذلك إلى آخر نجم، فقال له: أخشى ألا أدرك ذلك. فصل فأما قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فإنه أمر والمراد به الندب والإرشاد لا الوجوب والإلزام على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم. ومن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأوامر محمولة على الوجوب لأنه الأظهر

فصل

من محتملاتها إلا أن يدل الدليل على أن المراد غير الوجوب من ندب أو إباحة أو نهي أو تعجب أو دعاء، لأن هذه المعاني كلها قد ترد بلفظ الأمر. قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] فهذا أمر والمراد به الإباحة. وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فهذا أمر والمراد به الندب والإرشاد وقال: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] هذا أمر والمراد به النهي. وقَوْله تَعَالَى لإبليس: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64]. وقال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] فهذا أمر والمراد به التعجب. وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فهذا أمر والمراد به الرغبة والطلبة، لأن أمر أحد لا يتوجه إلا لمن دونه. فصل والدليل على أن مراد الله تعالى بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الندب لا الوجوب إجماعٌ للأمة على أنه غير واجب على أحد أن يعتق عبده ولا أن يبيعه. والكتابة لا تخلو من أن تكون عتقا أو بيعا منه لعبده، وهي إلى العتق أقرب، لا ينتزع ماله ويعتقه، وقد كان له أن ينتزعه ولا يعتقه، مع الإجماع أيضا على أنه ليس على من ملك العبد أن يأذن له في التجارة، والكتابة إذن له منه فيها. ومما دل

فصل

على ذلك رده عز وجل أمر العبيد إلى السادة بقوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فلم يجعل للحكام في ذلك مدخلا، وما ليس للحكام فيه مدخل فيما تنازع الناس فيه ليس بواجب، وإذا لم يجب ارتفع التنازع. فصل فإذا سقط الوجوب ثبت أنه على الندب لأنه يفضي إلى العتق، والعتق فيه أجر وثواب. ولم يصح أن يقال إنه على الإباحة لأن الإباحة إنما تكون فيما لا أجر فيه ولا ثواب. وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد احتج بقوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وإنما احتج بذلك لإسقاط الوجوب وهو الذي أراد، وبالله التوفيق. فصل وقد اختلف في الخير الذي عنى الله في هذه الآية ما هو؟ فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء، وقالت طائفة: الأمانة والدين، وقالت طائفة: الصدق والوفاء. وهذان القولان متقاربان في المعنى لأن الأمانة والصدق والوفاء من الدين. فيتحصل في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخير في الدين من الصلاح والعفاف وإن لم يكن له مال ولا قدرة على الاحتراف والكسب وكان إنما يؤدي كتابته مما يسأل ويتصدق به عليه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب. والثاني: أنه القوة على الأداء بالتحرف والكسب وإن لم يكن له مال. وأما إن

فصل

لم تكن له قدرة على التحرف والكسب وكان إنما يؤدي كتابته إن كوتب مما يتصدق به عليه فيكره لسيده أن يكاتبه إذا سأله ذلك. وهذا مذهب عبد الله بن عمر قال: يعطني أوساخ الناس. والثالث: أنه يكون له مال، روي ذلك عن ابن عباس، وهذا أضعف الأقوال لأن الله عز وجل قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ولم يقل: إن علمتم لهم خيرا. فصل وكذلك قوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] هو على الندب لا على الوجوب. ومعناه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يضع عنه من أجر كتابته شيئا يتعجل به عتقه. والذي يدل عليه أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان نبيه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولو كان فرضا لكان محدودا؛ لأن الفرض لا يكون غير محدود بكتاب أو سنة. فلما لم يوجد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دل على أن الناس يؤمرون به ولا يجبرون عليه بالحكم، كالمتعة التي أمر الله بها فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وَقَالَ {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] فاستدل بهذه الآيات على أنها غير واجبة لكونها مطلقة غير محدودة في الكتاب ولا في السنة.

فصل

وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من كتابته، وقائل هذا القول لم ير ذلك واجبا. واختار بعض الناس أن يوضع عنه آخر نجم من نجومه. ومنهم رأى أن يعطيه من عنده من غير مال الكتابة. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من الزكاة لا للسادة لقول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. وقد روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». فصل فليس على السيد أن يكاتب عبده إذا ابتغى ذلك منه بقليل ولا بكثير وإن علم فيه خيرا، ولا أن يضع عنه إن كاتبه شيئا إلا أن يشاء. هذا قول مالك وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم. ومن أهل العلم من حمل أمر الله تعالى بالكتابة على الوجوب، وهم أهل الظاهر فقالوا: يلزم الرجل أن يكاتب عبده إذا ابتغى منه الكتابة بقيمته فأكثر، وروي ذلك عن ابن عباس. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم على ما بيناه. وذهب الشافعي إلى أنه لا يجب على السيد أن يكاتب عبده إذا سأله ذلك، وأنه إذا كاتبه وجب أن يجبر على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئا ما كان. قال: وهذا والله أعلم عندي مثل قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] لأن من مذهبه إيجاب المتعة. قال: فإن مات السيد قبل أن يضع جبر ورثته على ذلك، وإن كانوا صغارا وضع عنهم الحاكم أقل ما يقع عليه اسم الشيء في كتابته فجعل الشافعي الفرع أوجب من الأصل وليس اسم الشيء من كتابته، فجعل الشافعي

فصل

الفرع أوجب من الأصل. وليس يكاد شيء من كلام العرب يعطف بعضه على بعض يكون أوله غير واجب وآخره واجبا، هذا لا يكاد يعرف. وإنما المعروف من كلامهم أن يكون أوله واجبا وآخره غير واجب. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فبدأ بالعدل وهو واجب، ثم ذكر الإحسان بعده وهو غير واجب. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فيبدأ بالواجب ثم ذكر التفضل بعده. فصل ومما يدل على فساد قول الشافعي أن الشيء المعلوم إذا أسقط منه شيء مجهول عاد مجهولا غير معلوم، فكيف يصح أن يُكتَب على العبد أربعة آلاف درهم في التمثيل ويُشهد بها عليه وهي أقل من أربعة آلاف قد حلموا على ذلك وحكم الكتاب أن يكون عدلا بين المتعاملين وإن كان الذي كتب السيد على عبده وأشهد به عليه حقا فليس يجب أن يسقط عن العبد شيء منه، وإن كان باطلاً فالكتابة منفسخة، وما أشهدا به على أنفسهما كذب. وأيضا فإن الشافعي يزعم أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم فإن كان يعني من جميع ما كاتبه عليه فقد ترك قوله، وإن كان يعني مما تبقى عليه من الكتابة بعد وضع ما يجب وضعه، فالواجب أن يكون ما يوضع عنه معلوما في أصل الكتابة حتى يعلم الحال التي يعتق فيها من الحال التي لا يعتق فيها، لأنها حال معلومة تتعلق بها أحكام كثيرة، فلا بد أن تكون معلومة كما كانت الكتابة معلومة، والشافعي يجعلها مجهولة.

فصل

فصل وإذا قال: إن الذي يجب أن يسقط عنه من آخر كتابته أقل ما يقع عليه اسم شيء فقد يجوز أن يجعله دانق فضة من عشرة آلاف درهم أو حبة. وتأويل أمر الله على هذا بعيد لا يجوز في عقل عاقل، ولو أنعم النظر قائل هذا القول لما قاله، والله أعلم. فصل ومن مذهب الشافعي أن المكاتب لا يعتق بأداء جميع الكتابة إلا أن يشترط جميع ذلك لنفسه في عقد الكتابة. وعند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وجمهور أهل العلم أن المكاتبة يعتق إذا أدى جميع الكتابة وإن لم يشترط ذلك، ولا يضره عندهم ألا يقول له مولاه في حين كتابته إذا أديت إلي جميع كتابتك فأنت حر لأن ذلك مفهوم من فعلهما وقصدهما وإن لم يذكراه. فصل وفقهاء الأمصار متفقون على أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء على ما ورد في السنة الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما السلف قبلهم فقد روي عنهم في ذلك اختلاف كثير. منه أن المكاتب إذا عقدت له الكتابة فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا لأنه قد ابتاع نفسه من سيده بثمن معلوم إلى أجل معلوم، وهذا قول شاذ ترده السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها، رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة أنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية، فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك [أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. وفي حديث يحيى ابن سعيد

فصل

عن عمرة عن عائشة إن أحب أهلك] أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت». فهذا يدل أن المكاتب عبد ما لم يؤد كتابته، وأنه لو كان بعقد كتابته حرا غريما من الغرماء لم يجز بيعه عند أحد من العلماء. وقول ثان أنه إذا عجز يعتق منه بقدر ما أدى ويورث ويرث، ويؤدي إن قتل بقدر ما أدى. وفي هذا حديث يرويه ابن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد». وهو قول علي بن أبي طالب. وقول ثالث: أنه إذا شطر كتابته فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا. وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقول رابع: أنه إذا أدى الثلث فهو غريم من الغرماء، روي ذلك عن ابن مسعود وشريح، وقول خامس: أنه إذا أدى الثلاثة الأرباع فهو غريم، روي ذلك عن عطاء. وقول سادس: أن المكاتب إذا أدى قيمته فهو غريم، روي هذا أيضا عن ابن مسعود وشريح. فصل واختلف هل للسيد أن يجبر عبده على الكتابة أم لا على قولين، فروي عن مالك أن له أن يكاتبه كرها، حكاه عنه إسماعيل القاضي في كتاب الأحكام له، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة، لأنه إذا كان له أن يعتقه بتلا على مال يجعله- عليه بعد العتق دينا ويلزمه ذلك فأحرى أن تلزمه الكتابة، وهو ظاهر رواية أشهب عن مالك في سماعه من العتبية. واختلف قول ابن القاسم في ذلك، فله في المكاتب من المدونة في الذي يكاتب عبده على نفسه وعلى عبد للسيد غائب إن الكتابة تلزمه ويتبع بها شاء أو أبى. وقال في العتق الثاني منها في الذي يقول لعبده

فصل

أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا أو لم يسم الأجل: إنه لا يكون حرا إذا لم يقبل ذلك العبد. وذلك خلاف لقوله في إجازة الكتابة على الغائب. وحكى ابن حبيب الاختلاف في ذلك أيضا وبالله التوفيق. فصل والذي اختار ابن بكير وإسماعيل القاضي أن للسيد أن يجبر عبده على الكتابة، لأنه إذا كان للسيد أن يؤاجر عبده السنة أو السنتين ويأخذ الأجرة وهو باق على رقه، فمكاتبته مدة معلومة على مقدار ما يعلم أنه يطيق أداءه في تلك المدة من عمله واكتسابه لازم له ليس له أن يمتنع منه، لأن ذلك يفضي به إلى الحرية من غير ضرر يلحقه فيه. وتعلق من منع من ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فقال: في هذا دليل على أنه لا يكاتب إذا لم يبتغ الكتابة، وهذا بعيد، لأن السيد إذا كان مرغبا في كتابة عبده إذا سأله ذلك مأجورا عليه فهو في مكاتبته إياه من غير أن يسأله الكتابة أعظم أجرا وأكثر ثوابا، وليس للعبد أن يمتنع من ذلك للعلة التي قدمناها. واعتل أيضا من منع ذلك بأن السيد يتهم على إسقاط نفقته التي كانت تلزمه عن نفسه، وهي علة ضعيفة، لأنه وإن سقطت عنه نفقته فقد منع نفسه من استخدامه وأخذِ خراجه، لأنا لا نقول: إن له أن يجبر على الكتابة إلا من يقوى عليها ولا يضعف عنها.

فصل

فصل فإن قال الرجل لعبده: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا؛ لزمه المال في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبِل العبد أو لم يَقْبل، ويسقط عنه في قول ابن القاسم. ولابن القاسم في آخر العتق الثاني مثل قول مالك هذا. وقال ابن نافع: لا يكون حرا ويكون المال دينا عليه إلا أن يقبل ذلك ويرضى به. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك كذا وكذا؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: قول مالك في كتاب المكاتب من المدونة أنه العبد حر والمال عليه بمنزلة قوله: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا. والثاني: رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب المكاتب أن العبد بالخيار إن شاء أن يعجل له الحرية ويكون غريما بما سمي من المال فذلك له، وإن كره أن يكون غريما بها فلا عتاقة له. والثالث: قول ابن القاسم في العتق الثاني من المدونة: إن قبل كان حرا إذا أدى المال كالكتابة، وإن لم يقبل فلا حرية له، إلا أن يفرق على مذهبه بين قوله: أنت حر على أن عليك كذا وكذا، وأنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا، وفُرِّق بين ذلك. ولا تفرقة بينهما وجهٌ وهو أنه إذا قال: على أن تدفع فقد جعل الدفع إليه وإذا قال: على أن عليكم فقد ألزمه ذلك ولم يجعله إليه. وقد قيل: إن هذين اللفظين سواء بخلاف قوله: على أن تؤدي إلي كذا وكذا. والصواب ألا فرق بين أن يقول على أن تدفع أو على أن تؤدي. ويتخرج في المسألة قول رابع وهو أن يكون حرا إذا أدى المال شاء أو أبى على مذهب من يؤاجر العبد على الكتابة، وقد بينا ذلك. فصل والكتابة جائزة على ما تراضى عليه العبد وسيده من قليل أو كثير، وتجوز

فصل

على مذهب مالك حالة ومؤجله. فإن وقعت مسكوتا عليها نجمت، لأن العرف في الكتابة أن تكون مؤجلة منجمة. هذا قول متأخري أصحابنا. وقال ابن أبي زيد في رسالته: والكتابة جائزة على ما رضيه العبد وسيده من المال منجما. فظاهر قوله أن الكتابة لا تكون إلا منجمة، وليس ذلك بصحيح على مذهب مالك. وإنما صنع من الكتابة الحالة ولم يجزها أبو حنيفة وأصحابه، وأجازها بعضهم على نجم واحد، ومنهم من قال: لا تجوز على أقل من نجمين. والذي يدل على صحة مذهب مالك في ذلك قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فأطلق ولم يقيد مكاتبة من مكاتبة، فظاهره يفيد إباحة الكتابة الحالة والمؤجلة. فصل ولا تجوز الكتابة بالغرر والمجهول، إلا أنه يستخف فيها ما لا يستخف في البيوع، فتجوز الكتابة على وصفين غير موصوفين، وعلى عبد فلان وما أشبه ذلك وإن كان لا يجوز في البيوع. فصل وهذا فيه تفصيل: أما الكتابة إلى أجل مجهول أو بغرر أو مجهول إلا ما يستخف من الغرر اليسير الذي ذكرناه فإن كان الغرر في حقهما أو في حق السيد منها، مثل أن يقول: أكاتبك إلى موت فلان بكذا وكذا لشيء معلوم أو إلى أجل معلوم بعبد آبق أو بعير شارد أو جنين في بطن أمه لفلان إن قدرت على شيء من ذلك كله في الأجل بهبة أو ميراث، أو بلؤلؤ غير موصوف وما أشبه ذلك فلا يجوز قولا واحدا. وأما إن كان الغرر في حق المكاتب منها مثل أن يكاتبه إلى أجل معلوم على عبد فلان أو على أن يأتيه بعبده الآبق أو يقول له كاتبتك على أن تقوم لي على هذه البقرات فإن بلغت كذا وكذا إلى أجل كذا فأنت حر، فيتخرج ذلك كله على

فصل

قولين لدخول الخلاف من بعضهم في بعض؛ لم يجز ابن القاسم في سماع يحيى الكتابة في مسألة البقرات حسبما يأتي القول عليه في موضعه من شرح كتاب المكاتب من العتبية. وأجاز في سماع أبي زيد منه الكتابة على طلب العبد الآبق وأجاز في المدونة الكتابة على عبد فلان، ولم يجز ذلك أشهب. وأما إن كان للعبد عبد أَبَق فكاتبه سيده عليه فإن برئ منه إليه الآن فهو حر والعبد الآبق للسيد وجده أو لم يجده، لأن مقتضى الأمر إنما هو أعتق عبده وانتزع منه عبده الآبق. وأما إن لم يبرأ إليه منه وإنما كاتبه على أن يطلبه فيجيئه به، فإن وجده وجاء به في الأجل خرج حرا، وإن حل الأجل ولم يجده رجع رقيقا على حكم الكتابة إذا عجز المكاتب، فهو بمنزلة إذا كاتبه على أن يجيئه بعبده الآبق يجري ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه، وبالله التوفيق. فصل وإذا كاتب الرجل عبده فقد أحرز ماله عن سيده، فليس له أن ينتزعه منه، وهو كالمأذون له في التجارة فيجوز بيعه وشراؤه ومقاسمته شركاءه وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه، وليس له أن يهب ولا أن يتصدق ولا أن يعتق إلا بإذن سيده. وقد قيل: إنه لا يجوز لسيده أن يأذن له في ذلك لأنه داعية إلى أن يرق نفسه. وليس له أن ينكح ولا أن يسافر إلا بإذن سيده. وهذا قول مالك في موطئه. قال في المدونة: إلا أن يكون سفرا قريبا. فصل والكتابة من العقود اللازمة، فإذا عقد السيد لعبده الكتابة لزمهما العقد ولم يكن لأحدهما خيار في حله، ليس للسيد أن يفسخ كتابة عبده باختياره إذا أبى العبد

فصل

ولا للعبد أن يُعجِّز نفسه باختياره إذا أبى السيد وله مال ظاهر. فإن رضي العبد وسيده بفسخ الكتابة وله مال ظاهر فلا يخلو من أن يكون للمكاتب ولد في الكتابة أو لا يكون له ولد. فأما إن كان له ولد فليس لهما ذلك لتعلق حق الولد في العقد، وأما إن لم يكن له ولد فذلك على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس لهم أو، وهو قول مالك في المدونة. ووجه ذلك أن الكتابة تتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لكل واحد من المتعاقدين، وحق لله تعالى وهو حرمة العتق. فإن رضي المتعاقدان بإسقاط حقهما لم يسقط لذلك حق الله تعالى، كالعبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فيرضى شريكه والعبد بترك التقويم؛ فلا يجوز ذلك لأن فيه إسقاط حق الله تعالى في إكمال الحرية. الثاني: أن ذلك لهما، وهو قول ابن كنانة وابن نافع. ووجهه أن الحق في عقد الكتابة للمتعاقدين لا يتعداهما، فإذا رضيا بإسقاطه جاز، كتقابل المتابعين. وذهب الشافعي إلى أنه للعبد أن يعجز نفسه أي وقت شاء، شاء سيده أو أبى وإن كان له مال ظاهر. وحجته أن حق المكاتب لما كان في الكتابة أغلب من حق سيده لم تكن الكتابة لازمة في حقه، كالنكاح لما كان حق الزوج مغلبا فيه لم يكن العقد لازما في حقه. وهذا كله غير صحيح، لأن في الكتابة حق لله وحق للسيد، فلا نسلم أن حق المكاتب أغلب. ولو سلمنا ذلك لم يجب إذا غاب أحد الحقين أن يسقط من غير عذر. ألا ترى أن الزوج وإن ملك الطلاق فإنه لا يملك به إسقاط حق الزوجة من المهر إن سمي، وإنما أسقط به حق نفسه. وفي تعجيز العبد نفسه إسقاط حق السيد من العوض الذي تراضيا عليه. فصل وأما التعجيز إذا لم يكن له مال ظاهر فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يتراضيا على ذلك العبد وسيده. والثاني: أن يدعو إلى ذلك العبد ويأبى السيد. والثالث: أن يدعو إلى ذلك السيد ويأبى العبد. أما إذا تراضيا على ذلك العبدُ وسيدُه فذلك جائز لأن حق الله قد ارتفع بالعذر وهو ظهور العجز، ولا يحتاج في ذلك إلى الرفع إلى السلطان على ما في المدونة. وقد قيل إنه لا يعجز إلا بالسلطان، لأن حق الله تعالى لا يُصدَّقان على إسقاطه ولا يسقط إلا بعد نظر السلطان واجتهاده. وأما إن دعا إلى ذلك العبد وأبى السيد فله أن يعجز نفسه دون السلطان لأنه موضع لا مدخل فيه للاجتهاد ولا يفتقر فيه إلى حكم. وأما إن دعا إلى ذلك السيد وأبى العبد فليس له أن يعجزه إلا بالسلطان بعد التلوم والاجتهاد، وبالله التوفيق.

كتاب التدبير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين وعليه أتوكل كتاب التدبير القول في التدبير التدبير عقد من عقود الحرية يلزم من التزمه ويجب على من أوجبه على نفسه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ولما روي من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المدبر لا يباع ولا يوهب». وهذا إذا كان التدبير مطلقا غير مقيد. فأما إن كان مقيدا بسفر بعينه أو بمرض بعينه أو ما أشبه ذلك فاختلف فيه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فصل وصفة التدبير المطلق اللازم أن يقول الرجل في عبده: هو مدبر أو حر عن دبر مني، أو حر بعد موتي بالتدبير، أو حر بعد موتي لا يغير عن حاله وما أشبه ذلك. فصل واختلف إذا قال الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي أو إذا مت ولم يزد على هذا القول، هل هو محمول على الوصية حتى يتبين أنه أراد التدبير، أو محمول على

فصل

التدبير حتى يتبين أنه أراد الوصية؟ فحمله ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية. ولكلا القولين وجه من النظر. ولو قال: إن فعلت كذا وكذا فعبدي حر بعد موتي ففعله لكان مدبرا لا رجوع فيه على قولهما جميعا لوجوب العتق عليه بعد الموت بالحنث، وذلك منصوص عليه لابن القاسم في المدونة وغيرها. فإذا دبر الرجل عبده تدبيرا مطلقا فقد لزمه ووجب عليه وليس له أن يرجع عنه بقول ولا فعل على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: هي وصية وله أن يرجع فيها. واحتجوا بحديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا» وبأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها. إلا أنهم اختلفوا بماذا يكون له الرجوع فيه، فقال الشافعي: إنما يكون له أن يرجع فيه بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة أو صدقة. وأما إن قال: قد رجعت في تدبيره ولم يخرجه عن ملكه حتى مات فليس برجوع منه ويعتق في ثلثه. وقال أبو ثور: إذا قال: قد رجعت فيه فقد بطل تدبيره وإن مات وهو في ملكه لم يعتق. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التدبير لازم له وواجب عليه ليس له أن يرجع عنه بقول ولا يفعل لما قدمناه من ظاهر القرآن. وما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخلاف الوصية وبالله التوفيق. فصل والفرق بين التدبير والوصية أن التدبير عتق قد أوجبه لعبده على نفسه في حياته إلى أجل آت لا محالة، أن لا يكون له الرجوع فيه بقول ولا فعل كالمعتق إلى أجل، لأن العتق يقع عليه عند الموت واحتمال الثلث له بعقد السيد المعتق له، كما يقع على المعتق إلى أجل عند حلول الأجل بعقد السيد المعتق له. والموصى بعتقه لم يعقد السيد له عقد عتق في حياته، وإنما أمر أن يعتق عنه بعد وفاته، فالعتق إنما يقع عليه بعد الموت من الموصي إليه، فهو كمن وكل رجلا أن يبيع

فصل

عبده من فلان أو يهبن له أنَّ له أنْ يرجع عن ذلك بما شاء من قول أو فعل ما لم ينفذ الوكيل أمره. فصل ولا حجة للشافعي ومن ذهب مذهبه في إبطال التدبير وإجازة بيع المدبر فيما رواه جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه باع مدبرا» لأنه إنما هو حكاية فعل، فيحتمل أن يكون تدبيره مقيدا، ويحتمل أن يكون كان عليه دين قبل التدبير فباعه عليه في الدين. وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات لم يكن لهم أن يحملوه على موضع الخلاف وإلا ولنا حمله على موضع الوفاق. فصل فإن قالوا: الأحاديث إنما تنقل للفائدة فلو حمل الحديث على الوفاق لم تكن فيه فائدة لأن موضع الوفاق مستفاد بالإجماع ففي حمله على موضع الخلاف فائدة مجردة قيل لهم: هذا تحكم، لأنه قد ينقل ما يفيد كما ينقل ما يؤكد ما قد استفيد، ولعل هذا الحديث هو الشرع الذي صدر عنه الإجماع الذي قد استفدنا معرفته. وإذا كان الأمر على ذلك فلا يصح أن يحمل على ما يستفاد منه فائدة مجردة دون ما استفدناه بالإجماع مع احتماله للموضعين بغير دلالة. وإنما كان يصح لهم التعلق بالحديث لو كان لفظا عاما مثل أن يقول: بيع المدبر جائز لحق حمله على عمومه في جميع المواضع حتى يأتي ما يخصه. وأما وليس بلفظ عام وإنما هو حكاية فعل فلا. فصل ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من حمل هذا الحديث الذي ورد مجملا على موضع يجوز فيه بيع المدبر عندنا وعندهم أنه قد روي هذا الحديث مفسرا، فرواه الأعمش عن سلمة بن كهيل «عن جابر قال: أعتق رجل من الأنصار عبدا له عن دبر يسمى مذكورا قبطيا وكان محتاجا وعليه دين فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائة

فصل

درهم وقال: اقض دينك». ونحن نجيز بيع المدبر إذا صادف عقد تدبيره دينا على سيده. وقد روي أيضا من طريق جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا في دين». واختلفت تأويلات أصحابنا، فمنهم من قال إن الحديث الأول يفسره لأنه هو بعينه، ومنهم من قال: هو حديث آخر، ومعناه أنه باعه بعد الموت في دين، إذ لم يذكر في الحديث أنه باعه عليه في حياته. وولاية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيعه من أدل دليل على أنه إنما باعه عليه في حق لازم، لأن الإمام لا يلي بيع مال أحد إلا في موضع الحكم. فإن كان بيعه عليه في حياته فلدين سبق التدبير والله أعلم. وقد روي أيضا من رواية جابر بن عبد الله عن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه باع خدمة المدبر» فيحتمل أن يكون هذا معنى الحديث وإنما تجوز الراوي في اللفظ إذ الإجارة بيع من البيوع. وكذلك حديث عائشة الذي احتجوا به في إجازة بيع المدبر لا حجة لهم فيه لأن السحر الذي فعلته يوجب القتل فكيف بالبيع. ويحتمل أن يكون العتق يبطل بقصدها إلى استعجاله قبل وقته بما لا يجوز لها كالنكاح في العدة يمنع من النكاح بعدها، وكالقاتل عمدا يمنع الميراث، لأنه أراد استعجاله قبل أن يجب له. وأيضا فقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد بيع هذه المدبرة وطلبها فلما لم يجدها جعل ثمنها في مدبرة. وحكمه- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك في ملأ خير القرون وهم حضور متوافرون دليل على إجماعهم على أن بيع المدبرة لا يجوز، والإجماع أصل يجب المصير إليه والعمل به. فصل ومما احتج به أصحابنا في وجوب التدبير والمنع من بيعه أن المدبر لما انتقل اسمه بعقد الحرية الذي عقد له سيده وجب أن ينتقل حكمه وألا يجوز بيعه كالمكاتب لما انتقل اسمه انتقل حكمه ولم يجز بيعه.

فصل

فصل وقد استدل بعض أهل العلم على الفرق بين الوصية والتدبير بالإجماع على أن المدبر لا يرجع فيه بالقول وأن الوصية يرجع فيها بالقول، وليس ذلك بصحيح، لأن أبا ثور يجيز الرجوع في التدبير بالقول على ما حكيناه. فصل ومما يدل على صحة ما ذهب إليه مالك من أن المدبر لا يجوز بيعه أن عقود العتق على ضربين: ضرب منها علق العتق فيه بصفة آتية لا محالة كمجيء الشهر وموت زيد وما أشبه ذلك، فهذا الضرب لا يجوز فيه بيع العبد. وضرب علق فيه بصفة يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع، كقدوم زيد وما أشبه ذلك. فهذا يجوز البيع فيه على الأشهر من الأقاويل ما لم يحصل الصفة والمدبر من الضرب الأول لأن العتق معلق فيه بصفة آتية لا محالة وهي موت السيد، فوجب ألا يجوز بيعه، وأشبه أم الولد أيضا التي لا يجوز بيعها لتعلق عتقها بموت سيدها. فإن قال قائل: إذا جاز بيع المدبر فكان بخلاف المعتق إلى أجل، لأن التدبير يعتق من الثلث والمعتق إلى أجل من رأس المال. ولما كان المدبر يعتق من الثلث وجب أن يجوز بيعه كالموصى بعتقه. قيل له: ليس هذا بصحيح لأن كون الموصى بعتقه من الثلث ليس هو العلة في جواز بيعه. والدليل على ذلك أن من أعتق عبده إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر السيد وقد يبلغه عمر العبد يعتق من الثلث ولا يجوز بيعه، ووجود العلة مع عدم الحكم مفسر لها لا محالة، وهذا بين. فصل وإنما كان المدبر من الثلث لأن السيد يتهم على أن يستخدم عبده طول حياته ثم يعتقه من رأس ماله بعد وفاته فيبطل الميراث الذي أوجبه الله للورثة. ومن أهل العلم من لا يراعي هذه التهمة فيراه من رأس المال وهو قول داود. ويرده ما روى أبو قلابة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدبر من الثلث». وقد احتج ابن القصار للزوم عقد

فصل

التدبير للمدبرة بسراية التدبير إلى ولدها وكونه مدبرا معها، وحكم أن ذلك إجماع بخلاف الوصية. واحتجاجه بذلك لا يلزم، إذ ليس بإجماع، فقد حكى أبو بكر بن المنذر في كتاب الأشراف له عن عمر بن عبد العزيز وعطاء وجابر بن زيد أنهم مملوكون، واحتج جابر بن زيد بأن ذلك بمنزلة الحائط يتصدق به الرجل إذا مات، فله ثمرته ما عاش، فحكم لولد المدبرة بحكم الغلة. وكان الشافعي يقول: فيها قولان. أحدهما: أنهم بمنزلة أمهم. والقول الثاني: كما قال جابر بن زيد. ومالَ المُزَنِي إلى قول جابر بن زيد. قال: هو أشبههما بقول الشافعي. قلت: وكذلك اختلف أيضا في ولد المدبر من أمته، فقال مالك على أصله: إنهم بمنزلته مدبرون معه. وروي عن عبد الله بن عمر أنهم بمنزلة أمهم، وبه قال عطاء والزهري والأوزاعي والليث بن سعد. وإذا حكموا لهم بحكم أمهم فهم مملوكون بمنزلة مال المدبر، لسيده انتزاعهم منه ما لم يمرض أو يموت. وفي المدونة ليحيى بن سعيد قول ثالث: أن المدبر لا يباع وسيده أولى بماله ما كان حيا، فإذا توفي سيده فمال المدبر له وولده من أمته لورثة سيده، لأن ولده ليس من ماله. هذا نص قوله، فلم يحكم لولده من أمته بحكمه فيكون مدبرا معه كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا حكم له بحكم أمه، إذ لو حكم له بحكم أمه كما قال ابن عمر وعطاء والزهري والأوزاعي لوجب إذا لم ينتزعه السيد حتى مرض أو مات أن يكون تبعا للمدبر كماله، إن حمله الثلث أعتقوا عليه، وإن لم يحمله الثلث أعتق منه ما حمل الثلث وأُقدَّ ولده بيده. ويحتمل أن يريد يحيى بن سعيد أن ولده من أمته ولد له قبل التدبير فلا يكون قوله على هذا التأويل مخالفا لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فصل قد مضى الكلام في التدبير المطلق. وأما التدبير المقيد وهو أن يقيد تدبيره

فصل

بمرض أو سفر أو ما أشبهه ذلك مما قد يكون ولا يكون، مثل أن يقول: أنت مدبر إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا أو في هذا البلد، أو أنت مدبر إذا قدم فلان وما أشبه ذلك، فاختلف فيه. روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب المدبر من العتبية أنها وصية وليس بتدبير إلا أن يرى أنه أراد بذلك التدبير وقصده، فله على هذه الرواية أن يرجع عنه في مرضه ذلك ويبيعه إن شاء. وفي كتاب محمد بن المواز لابن القاسم، وكتاب محمد بن سحنون لابن القاسم وابن كنانة أنه تدبير لازم لا رجوع فيه، معناه عندي إن مات من مرضه ذلك. وهذا الاختلاف يقوم من المدونة من اختلاف ابن القاسم ومالك في الرجل يقول لعبده: أنت حر إذا قدم فلان، فقال مالك: ليس له أن يبيعه حتى ينظر هل يقدم فلان أم لا. وقال ابن القاسم: لا أرى ببيعه بأسا. فكذلك لو قال لعبده: أنت مدبر إذا قدم فلان يلزمه التدبير على قول مالك من ساعته بشرط قدوم فلان، ولا يكون له أن يبيعه ولا أن يرجع فيه بقول حتى ييأس من قدوم فلان. وعلى قول ابن القاسم لا يكون تدبيرا وإنما هي وصية، فكأنه قال إذا قال: إذا قدم فلان أو إن قدم فلان فيعتق عني عبدي فلان بعد موتي، فيكون له أن يبيعه وأن يرجع فيه بالقول إن شاء، فيقول قبل قدوم فلان وبعد قدومه: قد رجعت عن عتق فلان، بخلاف قوله: أنت حر إذا قدم فلان، هذا لا يكون له- على مذهب ابن القاسم - أن يرجع فيه بالقول، وإنما له أن يبيعه لأنه يشبه اليمين، فإذا بقي في ملكه حتى قدم فلان لزمه العتق. فصل ومما يبين ما ذهبنا إليه من إقامة الاختلاف من المدونة في مسألة التدبير المقيد بشيء قد يكون ولا يكون، أنه لو قيد تدبير عبده بصفة آتية لا محالة مثل أن يقول له: إذا مات فلان فأنت مدبر عني أو إذا انقضى العام فأنت مدبر عني للزمه التدبير ولم يكن له فيه رجوع باتفاق، كما يلزمه العتق إلى أجل آت لا محالة باتفاق. وبالله تعالى التوفيق.

فصل

فصل والمدبر على وجهين: مدبر في الصحة. ومدبر في المرض. وهما جميعا- على مذهب مالك - من الثلث، إلا أنه يُبَدِّئ مدبر الصحة على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما، ويدخل المدبر في الصحة فيما علم وفيما لم يعلم من المال. واختلف في مدبر المرض فقيل: إنه يدخل فيما علم وفيما لم يعلم، وقيل: إنه لا يدخل إلا فيما علم. وإذا مات سيد المدبر ولم يحمل ثلثه المدبر عتق منه ما حمل الثلث وكان باقيه للورثة ولم يجب عليه السعي في افتكاك رقبته كما يقوله أبو حنيفة في ذلك. وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه، وإن كان عليه دين بيع فيه إن أحاط الدين به، وإن لم يحط به بيع منه قدر الدين وأعتق منه ثلث باقيه. وقال أبو حنيفة: إنه لا يباع في الدين ويسعى فيه للغرماء فإذا أدى ما لهم خرج حرا، ذكر ذلك عبد الوهاب في المعونة. فصل وللرجل أن يطأ مدبرته لأن ذلك لا ينقص تدبيرها بل يؤكده، لأنها قد تحمل فتكون أم ولد وهو أقوى من التدبير، بخلاف المكاتبة لأنها تستعجل العتق بالأداء فليس له أن ينقض ذلك عليها. وله أن يستخدم مدبرته ويؤاجرها بخلاف أم الولد إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء طول حياته، وقد ثبتت لها حرية بالإيلاد لا يبطلها دين ولا غيره. وبالله التوفيق ولا شريك له.

كتاب أمهات الأولاد

كتاب أمهات الأولاد فصل في وجوب العتق لأم الولد بعد موت سيدها بالولادة قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، فأباح تعالى وطء ما ملكت اليمين. والوطء يكون عند الحمل. قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]. واشترى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية القبطية فولدت له ابنه إبراهيم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عنه عند ولادتها: «أعتقها ولدها»، يريد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ثبت لها حرمة بسبب ولدها فلا تعود إلى الرق أبدا، ولا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها ثبتت حريتها فلا يبقى له فيها إلا الاستمتاع طول حياته بدليل ما روي عنه من حديث ابن عباس أنه قال: «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة بعده». وإذ قد انعقد الإجماع على أن أم الولد لا تعتق قبل موت سيدها وأن أحكامها أحكام أمة في جميع أحوالها

فصل

من الموارثة والشهادة ودلتها وأرش جراحاتها. «وروي عن مسلم بن يسار أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب: إن عمر بن الخطاب أعتق أمهات الأولاد، فقال: أو عمر أعتقهن؟ أعتقهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بني المصطلق - فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل، فقلت: نعزل ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» دليل على أن حمل الإيماء من ساداتهن مبطل لأثمانهن ومحرم لبيعهن، إذ لو لم يكن حمل الأمة مبطل لثمنها لما أقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الخطأ واستعمال الحيلة فيما لا حاجة بهم إليهم ولقال لهم: وأي حاجة بكم إلى العزل، وما الذي تخافون من الحمل، وهذا ظاهر. ومن أهل العلم من ضعف هذا الدليل فقال: يحتمل أن يكونوا إنما أرادوا العزل مخافة أن يحملن من وطئهم فلا يقدرون على الفداء بهن حتى يضعن، وتحرجوا من العزل فلم يقدموا عليه لما كانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا بين أظهرهم وهم أهل كتاب أن العزل هو الموءودة الصغرى حتى سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأباحه لهم وأخبرهم أن كل نسمة تسبق في علم الله أن تكون لا بد أن تكون. والأول أظهر أنهم إنما أرادوا العزل مخافة أن يفوتهم الفداء جملة لا مخافة أن يفوتهم تعجيل الفداء ولا يمكنهم إلا تأخيره إلى حين الوضع، لأن في الحديث: وأحببنا الفداء. فلو كان إنما خافوا أن يفوتهم تعجيل الفداء لقالوا: وأحببنا تعجيل الفداء، والله أعلم. فصل وإذا ولدت الأمة من سيدها الحر فقد حرم عليه بيعها وهبتها ورهنها

والمعاوضة على رقبتها أو على خدمتها أو إسلامها في الجناية وعتقها في الواجب، وليس له منها إلا الاستمتاع بالوطء فما دونه طول حياته، وهي حرة من رأس ماله بعد وفاته. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكافة فقهاء الأمصار. وقد كان بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك اختلاف، فذهبت طائفة إلى إجازة بيعهن أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن قيس، وأبو موسى الأشعري، وإليه ذهب أيضا «جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري، روي عنهما أنهما قالا: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نرى بذلك بأسا». وقال عبد الله بن مسعود: تعتق من نصيب ولدها. وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير إلى أن أبا حفص عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أمرهن وكشفه. فاجتمع هو بعد أن كان يقول فيما روي عنه بجواز بيعهن ومن حضره من بقية العشرة ومن المهاجرين والأنصار على أنهن متعة لساداتهن ما عاشوا، ثم هن بعد موتهم أحرار من رءوس أموالهم، فانعقد الإجماع على هذا من حينئذ واستقر الأمر عليه إلى أيام عبد الملك بن مروان، إلا ما يذكر من رجوع علي بن أبي طالب أيام خلافته إلى إجازة بيعهن في الدين، ثم اضطرب في أمرهم ففحص عبد الملك عن ذلك فأخبره الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أمضى ما وصفت عنه. وروي أنه أخبره أن المسور قال: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا يبعن في دين ولا يعتقن من ثلث فأقر ذلك وكتب به إلى البلدان». ومن الفقهاء من يدعي الإجماع في هذه المسألة. ولا يصح ما روي من رجوع علي بن أبي طالب، وهذا على ما ذهب إليه ابن القصار وغيره ممن تابعه على أن الإجماع لا ينعقد إلا بانقراض أهل العصر، فلا ينخرم الإجماع المنعقد أيام خلافة عمر بن الخطاب برجوع علي أيام خلافته. وفيما روي من رجوعه ما يدل على أنه رجع إلى ما كان انعقد عليه الإجماع، فتجدد بذلك الإجماع في زمانه، وذلك قول عبيدة السلماني في حديثه: فقبل مني وصدقني. روى الشعبي عن

فصل

عبيدة السلماني أنه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: رأى أبو بكر رأيا ورأى عمر رأيا عتق أمهات الأولاد حتى مضيا لسبيلهما، ثم رأى عثمان ذلك، ثم رأيت أنا بعدُ بيعَهن في الدين. قال عبيدة: فقلت لعلي: رأيك ورأي عمر وعثمان في الجماعة أحب إلينا من رأيك بانفرادك في الفرقة، فقبل مني وصدقني. وهذا من علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إجماع منه مع سائر الصحابة على المنع من بيعهن في غير الدين، ثم رجع عما انفرد به من جواز بيعهن في الدين إلى ما أجمع عليه الصحابة بقبوله لقول عبيدة وتصديقه له. وإلى جواز بيعهن في الدين وغيره ذهب أبو داود القياسي والرافصة وأهل الظاهر، واحتج من نصر مذهبهم بقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وبما روي «عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، ثم نهانا عمر عن بيعهن». وهذا كله لا حجة لهم فيه. أما الآية التي احتجوا بظاهرها من القرآن وهي قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فإنه عموم تخصص بما ذكرناه من الأدلة. وأما حديث جابر فإنه ضعيف عند أهل النقل. وقد روي عنه من طريقه ما عارضه وهو أنه قال: «كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم زجرنا عن بيعهن». ذكره أبو الفرج في الحاوي وزجره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيعهن فسخ لما كانوا عليه من استجازة ذلك وفعله. وقد يكون أيضا في عهد الإمام من الأفعال ما لا يعلمها فلا حجة فيه على حال. فصل فهذا هو المانع من بيع أمهات الأولاد من جهة الأثر. وأما المانع من طريق النظر فهو أنه لما حملت بولده وحصلت له الحرية من قبل أبيه اتصل بها وخالطها حتى صار كعضو منها فسرت الحرية في جميعها وصارت في معنى المعتقة منه، وهذا من أصح الاعتلال وأقواه، لأنه مروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قال: خالطت دماؤنا دماءهن ولحومنا لحومهن. ويتحرى من هذا قياس بأن

فصل

يقال: إن هذه أمة حملت في ملك واطئها بولد حر على أبيه فحرم بيعها اعتبارا بحال حملها. وإنما قلنا في ملك واطئها تحرزا من حمل الأمة الزوجة، وقلنا بولد حر على أبيه تحرزا من إعتاق سيد الأمة إياه لأنه يكون حرا لا من جهة أبيه. وهذا القياس مبني على صحة الاستدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو استدلال صحيح، وبه احتج أبو سعيد البراذعي على داود القياسي حين ناظره في هذه المسألة، فانقطع ولم يحر جوابا. وذلك أن داود القياسي استدل عليه باستصحاب الحال فقال: قد اتفقنا على جواز بيعها قبل العلوق فمن زعم أن بيعها بعد الولادة لا يجوز فعليه إقامة الدليل. فقال أبو سعيد: ما أنكرت أن هذا مقابل بما هو أولى منه وهو أنا قد اتفقنا على منع بيعها حاملا، فمن زعم أنها إذا وضعت جاز بيعها فعليه إقامة الدليل قال: فسكت ولم يقل شيئا. فلأهل العلم في بيع أمهات الأولاد ثلاثة أقوال: أحدها: قول مالك وكافة العلماء: إنها لا تباع أصلا في الدين ولا غيره وتعتق من رأس المال. والثاني: قول أهل الظاهر: إنها تباع في الدين وغيره ولا تعتق من رأس المال ولا من الثلث. وللشافعي مثله في مواضع من كتبه، ثم قطع في أربعة عشر موضعا من كتبه أنهن لا يبعن في دين وغيره مثل قول مالك وجمهور العلماء. والثالث: أنها لا تباع إلا في الدين، وهو القول الذي روي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع إليه ثم رجع عنه على ما بيناه. وما روي عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير أنها تعتق من نصيب الذي في بطنها قول رابع في المسألة. فصل وأجاز الشافعي استئجار أم الولد في الخدمة واستخدامها خلاف ما ذهب إليه مالك من أنه لا يجوز أن تؤاجر ولا تستخدم إلا فيما خف ولا تعب فيه وإن كانت دنية. وتبتذل الدنية في الحوائج الخفيفة فيما لا تبتذل فيه الرفيعة. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل حرمة منعت من بيع الرقبة منعت من

فصل

بيع المنافع، لأن هذه الحرمة لم تحصل للرقبة دون المنافع وقد كانت مقصية لتبتيل العتق في الحال لكن منع من ذلك أن الحرمة لما حصلت لها بسبب الوطء لم يجز أن تكون مانعة منه وهو أصلها الذي عنه حصلت. فإن كان الأمر على هذا صح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يجز استخدامها إلا في الشيء اليسير الخفيف. فصل وإنما وجب أن تعتق أم الولد من رأس المال بعد وفاة سيدها لأن الحرمة أوجبت لها الحرية إلا أنا أخرناها لئلا تفيته حقه من الوطء وكذلك روي في الحديث. فإذا مات فهي حرة، وذلك يقتضي رأس المال دون الثلث، فلا تباع أم الولد في الدين في حياة سيدها ولا بعد وفاته. وإن أولدها وعليه دين يحيط بماله فلا سبيل للغرماء عليها بخلاف العتق. والفرق بين العتق والإيلاد أن العتق فعل المعتق وكسبه، ونفس العتق الذي هو كسب المعتق يخرج العبد عن ملكه، وليس لمن عليه دين يستغرق ماله أن يخرج ماله عن ملكه على غير عوض لأن ذلك إتلاف لأموال غرمائه. وأما الإيلاد فليس فعل الواطئ ولا كسبه ولا يقع بمشيئته وإرادته. وقد أباح الله تبارك وتعالى لعباده وطء ما ملكت أيمانهم كما أباح لهم وطء نسائهم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] فالغرماء إذا عاملوا الرجل فقد علموا أنه يستبيح ما أباح الله تعالى له من الوطء بملك يمينه وعلى ذلك عاملوه، فإن حمل نساؤه من وطئه فهي مصيبة دخلت عليهم من الله ليست من فعل الواطئ ولا كسبه كالموت الذي هو فعل الله لا كسب لمخلوق فيه. فصل وهو مصدق في حمل أمته أنه منه وإن كان مستغرق الذمة بالديون. وأما إن قال: إنها ولدت منه ولا أولاد معها أو أنها أسقطت منه فلا يصدق، وتباع للغرماء إلا

فصل

أن يكون قد سمع ذلك من قوله قبل أن يداين، أو كان ذلك أمرا قد سمع وفشا عند النساء والجيران فيصدق. فصل ولا اختلاف في ولد الأمة من سيدها الحر أنه حر. وأما ولد أم الولد من غير سيدها فهم على مذهب مالك وجميع أصحابه وكافة فقهاء الأمصار بمنزلة أمهم في العتق بعد وفاة السيد من رأس ماله، وبخلافها في الاستخدام والاستئجار والوطء، فله أن يستخدمهم ويؤاجرهم، وليس له أن يطأ إن كانت أمة لأنها محرمة له كالربيبة المحرمة بنص القرآن. فإذا وطئ الرجل المرأة بالملك فبناتها عليه حرام كما لو وطئها بنكاح، وهذا ما لا خلاف فيه. وإنما جاز له أن يؤاجرهم ويستخدمهم لأن حرمتهم أضعف من حرمة أمهم فجاز له فيهم ما لم يجز في الأم. وأيضا فإن الأم له وطؤها والابنة ليس له وطؤها، فلو منعناه من استخدامها وإجارتها لم يبق له عليها حق من حقوق الملك ووجب أن تعتق عليه. وإلى هذا ذهب ربيعة فقال: يعجل عليه عتق ولد أم الولد من غيره. وفي المسألة قول ثالث أنهم مملوكون، وممن روي ذلك عنه الزهري. وقيل إنه هو المشهور من قوله وبالله التوفيق. فصل وكل ما أسقطته الأمة مما يعلم أنه ولد فإنها تكون به أم ولد، كان مضغة أو علقة أو دما في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقال أشهب: لا تكون أم ولد بالدم المجتمع. وقال حماد بن أبي سليمان والأوزاعي إذا كانت مضغة عتقت به. وذهب الشافعي إلى أنها لا تكون أم ولد حتى يتم شيء من خلقه عين أو ظفر وما أشبه ذلك، وهو قول أبي حنيفة إنها لا تعتق إلا بما لا يشك فيه وهو أن تسقط سقطا مخلقا أو فيه خلق من يد وما أشبه ذلك. فوجه هذا القول أنه رأى أنه لا يوقن أنه ولد إلا أن يتم شيء من خلقه. ووجه قول حماد بن أبي سليمان والأوزاعي أنه قد يتقن أنه ولد وإن لم يتم شيء من خلقه إذا كان مضغة. ووجه قول أشهب أنه قد

فصل

يتيقن أنه ولد وإن لم يكن مضغة إذا كان علقة. ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه قد يتيقن أنه ولد بكونه دما وإن لم يكن بعد علقة ولا مضغة. فصل واختلف قول مالك إذا توفي سيدها وهي حامل، فمرة قال: إنها تكون حرة إذا تبين الحمل بتحرك الولد، يقتل من قتلها وترث وتورث، وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. ومرة قال: إنها لا تكون حرة حتى تضع حملها لاحتمال أن ينفشَّ الحمل فلا يتحقق أنه كان حملا، وهو مذهب ابن الماجشون وسحنون. وعلى هذا اختلفوا في اللعان على الحمل، وفي وجوب النفقة للمطلقة البائن، وفي مسائل كثيرة من هذا المعنى. فصل فعلى هذا القول بأنها لا تكون حرة حتى تضع تكون لها النفقة، ويختلف على القول بأنها تكون حرة بتبين الحمل هل لها نفقة على الاختلاف في أم الولد الحامل هل لها نفقة في مال سيدها أم لا، اختلف في ذلك قول مالك، ولم يختلف في أن الحرة الحامل لا نفقة لها من مال زوجها وإن حبسها ميراثها. فصل واختلف قول مالك فيمن تزوج أمة ثم اشتراها وهي حامل هل تكون بذلك الحمل أم ولد أم لا على قولين: فمرة قال: إنها تكون أم ولد لأنه عتق عليه وهو في بطنها، وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك. ومرة قال: إنها لا تكون به أم ولد لأن الرق قد مسه في بطن أمه، وهو مذهب أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك، إلا أن تكون الأمة لأبيه أو لمن يعتق عليه

فصل

في بطنها فإنها لا تكون له أم ولد عند جميعهم لأنه قد عتق ما في بطنها على من اشتراها. وإنما تكون له أم ولد عند ابن القاسم وروايته عن مالك إذا اشتراها فأعتق عليه الولد وفي شرائها من أبيه اختلاف أجازه ابن القاسم ولم يره بمنزلة من اشترى أمة واستثنى عليه جنينها،. وأما ما ولدت منه بعقد النكاح قبل أن يشتريها فإنها لا تكون له أم ولد عند مالك وجميع أصحابه خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها تكون بذلك أم ولد. فصل ولا تكون أمة العبد أم ولد له بما ولدت له في حال العبودية، ولا وإن أعتق وأمته حامل منه على مذهب ابن القاسم، سواء حملت منه وهي له أو كانت له زوجة فحملت منه ثم اشتراها حاملا، إلا أن يملك ذلك الحمل بهبة أو صدقة وما أشبه ذلك. ويتخرج إجازة شرائه إياها على قولين في المذهب: أحدهما: أن ذلك لا يجوز لأن شراء الجنين في بطن أمه غرر لا يجوز. والثاني: أن ذلك جائز لأنه إنما اشتراه ليرتفع عنه التحجير في الأمة ويملك بذلك التصرف فيها قياسا على ما قالوه في الذي يهب لرجل سكنى داره أو غلة جنانه إنه يجوز له أن يشتري منه السكنى والغلة ليرتفع عنه بذلك التحجير في الأصل ويملك التصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره. واختلف إن وقع البيع في الحمل على القول بأن ذلك لا يجوز، فقيل: يفسخ البيع فيه ما لم يفت بالوضع، وقيل: العقد فيه فوت لأنه يكون به حرا وتكون عليه فيه القيمة على الرجاء والخوف. وعلى مذهب أشهب ورواية ابن عبد الحكم فلا تكون به أم ولد وإن ملك ذلك الحمل.

فصل

فصل واختلف في المكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل يولدون إماءهم هل يكن لهم أمهات أولاد إذا أفضوا إلى الحرية أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يكن لهم لذلك أمهات أولاد. والثاني: أنه يكن لهم بذلك أمهات أولاد. والثالث: الفرق في ذلك بين المكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل. وتحصيل الخلاف في هذا أنه اختلف في الأمة هل لها حرمة بإيلاد سيدها المكاتب أو المدبر أو المعتق إلى أجل أم لا على قولين: أحدهما: أن لها بذلك حرمة. والثاني: أنه لا حرمة لها بذلك. فإذا قلنا إن لها بذلك حرمة فإنها تكون له أم ولد بما حملت به بعد عقد الكتابة أو التدبير أو العتق إلى أجل إذا أفضى إلى الحرية وإن وضعت قبل إفضائه إليها فلا خلاف. وأما ما حملت به قبل ذلك فوضعته بعده مثل أن تكون له زوجة فتحمل منه قبل الكتابة أو التدبير أو عقد العتق المؤجل فيشتريها من سيدها وهي حامل بعد عقد الكتابة أو عقد التدبير أو عقد العتق المؤجل فلا تكون به أم ولد إلا على قول من يرى في الحر إذا اشترى زوجته وهي حامل منه تكون له أم ولد بذلك الحمل، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك. وأما إذا قلنا إنه لا حرمة لها بذلك فحالها فيما حملت به من سيدها أو وضعته في هذه الحال حال أمة العبد تلد من سيدها أو تحمل منه لا تكون بذلك أم ولد إلا أن يقضي إلى الحرية بأداء الكتابة أو انقضاء أجل الحرية أو موت سيده في التدبير وخروجه من ثلثه وأمته حامل منه فيملك ذلك الحمل على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك، وبالله التوفيق.

فصل

فصل فإذا أقر الرجل بوطء أمته فجاءت بولد فإنه يلحقه إلى ما تلحق فيه الأنساب، سواء قال: كنت أنزل فيها أو أعتزل عنها إلا أن يدعي الاستبراء. قال في المدونة: بحيضة، وقيل: بثلاثة حيض. وهو قول ابن الماجشون، فيصدق في ذلك قيل: بيمين وهو قول ابن الماجشون، وقيل: بغير يمين وهو قول سحنون، وينفي الولد عن نفسه بغير لعان. وقيل: إنه لا يصدق في دعوى الاستبراء ويلحق به الولد على كل حال إلى ما يلحق به الأنساب، وهو قول المغيرة من أصحابنا. ومعناه إذا كان ينزل فيها ولا يعزل عنها والله أعلم. ومن أهل العلم خارج مذهب من يرى أن الولد لا يلحقه إذا قال: كنت أعزل عنها، وإن لم يدع الاستبراء. وإذا لم يدع الاستبراء لم ينتفع بإنكار الولد وإن كان يعزل عنها على مذهب مالك وجميع أصحابه وكانت الأمة مصدقة في إلحاق الولد به سواء أنكر أن تكون ولدت أصلا أو قال: إنها ولدت وليس هو هذا الولد الذي تريد أن تلحقه به. فصل وأما إن لم تأت بولد فادعت أنها ولدت منه فلا تصدق في ذلك ولا تكون له أما حتى تقيم امرأتين على الولادة، فإن أقامت امرأة واحدة على الولادة حلف السيد أنها ما ولدت منه. وإن لم يشهد لها بالولادة أحد لم يجب على السيد يمين وإن كان مقرا بالوطء. فصل وأما إن أنكر الوطء فأقامت به عليه شاهدين وأتت بولد فالصواب أن ذلك بمنزلة إقراره بالوطء تصدق في إلحاق الولد وتكون به أم ولد. وإن لم تقم بينة على الولادة فإن ادعى الاستبراء أجري الأمر في تصديقه فيه على الاختلاف فيمن أراد أن يناكر زوجته فيما قضت به في التمليك بعد أن أنكره، وفيمن ادعى رد الوديعة بعد الإنكار. والقولان قائمان في المدونة. ومن الناس من يفرق بين أن يقر بالوطء أو ينكر وتقوم به عليه البينة، فيقول إنه إذا أنكره وقامت به عليه البينة لم تصدق

فصل

الأمة في الولادة وإن كان الولد قائما حتى تقيم امرأتين على الولادة على ظاهر ما وقع في كتاب الشهادات وفي هذا الكتاب من قوله، فهذا إذا أقامته كانت أم ولد وثبت نسب ولدها إن كان معها ولد، وهذا ليس بصحيح لأنه ليس في قوله إن نسب الولد يثبت إذا أقامت امرأتين على الولادة وما ينبغي أن تصدق في ذلك إذا لم يكن لها بينة على الولادة، وبالله التوفيق. فصل وأما إن ادعت الولادة ولم تأت بولد فلا تكون أم ولد حتى تقيم شاهدين على إقرار السيد بالوطء وامرأتين على الولادة. فإن أقامت شاهدين على إقراره بالوطء وامرأة واحدة على الولادة، أو شاهدا واحدا على إقراره بالوطء وامرأتين على الولادة لزمته اليمين. وأما إن لم تقم إلا امرأة واحدة على الولادة وشاهدا واحدا على إقراره بالوطء فقيل إنه يحلف، وقيل إنه لا يمين عليه على اختلاف الروايات في المدونة وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.

كتاب السرقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله، وبالله أستعين وعلى الله أتوكل كتاب السرقة الأصل في وجوب السرقة كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] وأما السنة فكثير، منها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار». وقوله: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا». وقوله «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لم يقطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في ربع دينار». وقولها: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا. ومن ذلك ما ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» «وأنه قطع يد سارق رداء صفوان». وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ

فصل فيما تعتبر فيه الأوصاف المشترطة في قطع يد السارق

ثمن المجن». وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن يد السارق تقطع إذا كانت سرقته على الشروط والأوصاف التي لا يصح القطع إلا بها، فيستغنى في هذا عن إيراد نص العلماء عليه. فصل فيما تعتبر فيه الأوصاف المشترطة في قطع يد السارق والأوصاف المشترطة في قطع يد السارق تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفة السرقة. فأما ما يعتبر منها في السارق فخمسة أوصاف وهي: البلوغ، والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولادة على الاختلاف بين أصحابنا في هذا الوصف، لأن أشهب يرى على الجد القطع إذا سرق من مال حفيده، وألا يضطر إلى السرقة من جوع يصيبه. وأما من يعتبر منها في الشيء المسروق فأربعة أوصاف وهي: النصاب، وأن يكون مما يتمول ويحل بيعه، فإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه فلا قطع فيه باتفاق، حاشى الحر الصغير على قول ابن القاسم وروايته عن مالك خلاف مذهب ابن الماجشون. وإن كان مما يجوز ملكه ولا يحل بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الأضاحي ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، وأن لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة ملك على اختلاف بين أصحابنا في مراعاة شبهة الملك، كالذي يسرق من المغنم وشبهه وأن يكون مما تصح سرقته لأن ما لا تصح سرقته كالعبد لا قطع فيه. وأما ما يعتبر منها في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو أن يكون الموضع حرزا للمال أو للشيء المسروق. وأما ما يعتبر منها في صفة السرقة فوصفان: أحدهما أن يخرج الشيء

فصل

المسروق من حرزه على صفة تسمى إخراجا على الحقيقة وإن لم يباشر ذلك لنفسه على ما يأتي في مسائلهم. والثاني أن تكون قيمته يومئذ ما يجب فيه القطع. فصل فجميع الأوصاف المشترطة في وجوب القطع اثنا عشر وصفا، منها ما يتفق عليها ومنها ما يختلف فيه. منها الحرز والنصاب. فأما الحرز فاعتبره مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعامة الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم: إن من سرق ربع دينار أو قيمته فعليه القطع سرقه من حرز أو من غير حرز إذا أخذه من ملك مالك لم يأتمنه عليه، لأن الله أمر بقطع يد السارق عموما، فبين النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - المقدار الذي يقطع فيه ولم يبين الحرز. وليس ذلك بصحيح بل قد نص النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اعتبار الحرز فقال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن». فصل والدليل قائم من كتاب الله عز وجل أيضا على اعتبار الحرز في وجوب قطع يد السارق، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقطع يد السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. والسرقة مأخوذة من المسارقة، فلا يكون الرجل سارقا إلا فيما أخذ مما أخفي عنه وأحرز دونه مسارقة عن العيون وعن أهله. وأما ما أهمل بغير حرز أو اؤتمن عليه فليس أخذه مسارقا له وإنما هو مختلس له أو خائن لصاحبه فيه.

فصل

فصل فإذا اعتللنا بهذا في سقوط القطع عمن سرق من غير حرز فالعلة فيه أنه ليس بسارق، فأمر الله تعالى بقطع يد السارق. وإن قلنا: إنه سارق فإنما أسقطنا القطع عنه بالسنة الثابتة، لأن السنة مفسرة للقران ومخصصة لعمومه ومبينة لمجمله، قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لفظان عامان متناولان لجمع السراق، فخصصت السنة من ذلك من سرق من غير حرز، كما خصصت من ذلك من سرق أقل من النصاب الذي يجب فيه القطع. ولا اختلاف بين الأمة أن عموم القرآن يخصص بأخبار الآحاد العدول. وإنما اختلفوا هل يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة أم لا؟ على قولين، وأما بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك عند أحد بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما كان ذلك جائزا في حياته، مثل ما جاء في رجوع أهل قباء في صلاتهم عن قبلتهم التي كانوا على يقين منها بخبر الواحد، وإنما جاز ذلك لهم لأن الطريق المؤدي إلى العلم يقوم مقام العلم. وذهب بعض الأصوليين إلى أن قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] من المجمل الذي يفتقر إلى البيان لا من العموم، قال: لأنه لما ورد بلفظ العموم فخصصت السنة منه صفات وشروطا من حرز ونصاب عاد مجملا. وهذا ليس بصحيح، إذ لا فرق بين تخصيص بعض الأعيان الذي يقتضيه اللفظ العام أو يقيده بصفات وشروط، لأنه إذا قيد اللفظ العام بشرط أو صفة فقد خصص ما يتناوله ما لم يحصل على ذلك الشرط ولا كان بتلك الصفة، وهذا بَيِّن.

فصل في صفة الحرز الذي يجب القطع على من سرق منه

فصل في صفة الحرز الذي يجب القطع على من سرق منه فإذا صح اعتبار الحرز فليس من شرطه الأبواب ولا الأقفال ولا الأغلاق، وإنما الحرز على ما جرت به العادة من أن الناس يحرزون متاعهم فيه ويحفظونه به، وما هو حرز مما ليس بحرز تأتي عليه مسائل الكتاب وغيره إن شاء الله تعالى. من ذلك اختلافهم في السرقة من الدار المشتركة أو المأذون فيها. وتحصيل القول في ذلك أن الدور تنقسم في السرقة منها على ستة أقسام: دار حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس. ودار ينفرد الرجل بسكنها مع زوجته عن الناس. ودار أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس. ودار مشتركة بين ساكنيها مباحة للناس. ودار المشتركة بين سكانها محجورة عن سائر الناس. فأما الدار التي حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس فالقطع على من سرق منها ما يجب فيه القطع إذا خرج به من الدار. وإن سرق من بعض بيوتها وأخذ في الدار قبل أن يخرج منها لم يقطع ولا خلاف في هذا. وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها الخاص من الناس كالرجل يضيف الضيف فيدخله داره، أو يبعث الرجل إلى داره ليأتيه من بعض بيوته بمتاعه أو ما أشبه ذلك، فاختلف إذا سرق الضيف أو الرجل المبعوث من بيت معلق قد حجر عليه دخوله على قولين: أحدهما: قوله في المدونة في كتاب ابن المواز أنه لا يقطع وإن خرج بما سرق من جميع الدار لأنه خائن وليس بسارق. والثاني: قول سحنون إنه يقطع وإن لم يخرج به من الدار إذا خرج به إلى الموضع الذي أذن له بدخوله لأنه أشبه عنده الشركاء في ساحة الدار إذا سرق

أحدهم من بيت صاحبه فخرج بما سرق إلى ساحة الدار وحكى عبد الحق في المسألة قولا ثالثا تأوله على ما في المدونة وحكى أنه قول مالك في كتاب ابن المواز وهو أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار، وليس ذلك بصحيح لأنه قد نص في المدونة وكتاب ابن المواز أنه خائن وليس بسارق، ولا يقطع الخائن على حال. وأما الدار التي ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس فاختلف إن سرقت الزوجة أو أمتها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما؟ أو سرق الزوج أو عبده من مال الزوجة من بيت قد حجرته عليهما على قولين: أحدهما: أنه يقطع من سرق منهم وخرج بما سرق من البيت الذي حجر عليه وأغلق دونه وإن لم يخرج عن جميع الدار، وهو ظاهر ما في المدونة ونص قول سحنون قياسا على المتحايزين بالسكنى في الدار الواحدة لأنه إذن محكوم به في الموضعين. والثاني: أنه لا يقطع وإن خرج به من الدار، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز. وحكى عبد الحق أن الذي لمالك في كتاب ابن المواز أنه يقطع إن خرج به من الدار، وليس ذلك بصحيح، لأنه قد نص في أول المسألة على ما حكيناه عنه، فيتأول ما وقع له في آخرها على أنه إنما أراد بذلك الأجنبي لئلا يتناقض قوله ويضطرب كلامه في مسألة واحدة. وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس كالعالم والطبيب يأذن للناس في دخولهم إليه في داره، أو كالرجل يحجر على نفسه في ناحية من داره ويترك بابها مفتوحا يدخل بغير إذن، فهذه يجب القطع على من سرق من بيوتها المحجورة إذا خرج بسرقته من جميع الدار، ولا يجب القطع على من سرق من قاعة الدار وما لم يحجر من بيوتها وإن خرج من الدار. ولا اختلاف في هذا. وإنما

لم يجب عليه القطع حتى يخرج من جميع الدار لأن بقية الدار من تمام الحرز، ففارقت المحجرة بأنها لا تدخل إلا بإباحة صاحبها وإنما لم يسقط عنه القطع إذا خرج من جميع الدار كالضيف على مذهب ابن القاسم لأن الضيف خصه بالإذن فصار مؤتمنا وكان له فيما أخذ- على مذهبه- حكم الخائن لا حكم السارق. وأما الدار المشتركة بين ساكنيها المباحة للناس كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حدة وقاعتها مباحة للبيع والشراء فيها فحكم قاعتها حكم المحجرة، فمن سرق من بيوتها شيئا كان من الساكنين فيها أو من غيرهم وأخذ في قاعة الدار فقد وجب عليه القطع، ولا خلاف في هذا أيضا. وأما الدار االمشتركة بين سكانها المحجورة عن سائر الناس فلا اختلاف في أن السكان يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يخرج بها من الدار ولا أدخلها. ولا خلاف في أنه لا قطع على من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو خرج به عن الدار، إلا أن يكون الذي سرق من قاعتها دابة من مربطها المعروف لها وما أشبه ذلك من المتاع الثقيل الذي يجعل بعضه فوق بعض فيكون ذلك الموضع حرزا كمربط الدابة، فيكون حكم من سرق شيئا من ذلك منهم حكم من سرق من بيت من البيوت. وإن كان لأحد من ساكني هذه الدار زوجة فسرق أحد الزوجين أو عبده من مال صاحبه من بيت من الدار قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما فعليهما القطع قولا واحدا أيضا. واختلف إن سرق الأجنبي من بيت من يموت الدار شيئا وأخذ في قاعتها قبل أن يخرج به من الدار، أو سرق مما وضع بعض الأشراك في قاعتها مثل الثوب ينشره فيها فأخرجه من الدار، فقيل: إنه يقطع به في الوجهين

فصل

جميعا، وهو نص ما في كتاب ابن المواز، وظاهر ما في المدونة لابن القاسم في الوجه الأول ونص ما له فيها في الوجه الثاني. والقياس إذا قطع في الوجه الثاني ألا يقطع في الوجه الأول. وعلى هذا حمل عبد الحق ما في المدونة. وإذا قطع في الوجه الأول ألا يقطع في الوجه الثاني، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في كتاب ابن المواز، وهو بعيد، لأنه قد نص على أنه يقطع في الوجهين. فإذا حمل عليه أنه لا يقطع في الوجه الثاني من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الأول، فيجب أن يحمل عليه أيضا أنه لا يقمع في الوجه الأول من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الثاني، فيكون ذلك اختلافا من قوله، ويتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أنه يقطع في الوجهين جميعا. والثاني: أنه لا يقطع في الوجهين جميعا. والثالث: أنه يقطع في الأول ولا يقطع في الثاني. والرابع: أنه يقطع في الثاني ولا يقطع في الأول. واختلف أيضا إذا سرق الأجنبي ما نسي بعض الأشراك في قاعة الدار مما لم يقصد إلى وضعه فيها، فروى سحنون عن ابن القاسم أنه يقطع. وذهب ابن المواز إلى أنه لا يقطع إذا كان مما لا يشبه أن يكون ذلك موضعه. وأما ما كان موضعا له كمربط الدابة وشبه ذلك فلا اختلاف أنه يقطع إذا أخرجه من الدار، وإن أخذ قبل أن يخرجه منها وقد بان به ونحاه عن موضعه جرى ذلك على الاختلاف المذكور إذا أخرجه من البيت إلى قاعة الدار. فصل وأما النصاب فإنه معتبر عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل العلم. وشذت طائفة منهم فأوجبت القطع في القليل والكثير تعلقا بظاهر قول

فصل في معرفة حد النصاب عند من اعتبره

الله عز وجل وقولُه الحق {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فلم يخص قليلا من كثير. واحتجوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة ويقطع يده» فهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنبيه على أنه يقطع في القليل والكثير إلى أشياء ذكروها. واحتجوا بها وتعلقوا بظاهرها لا حجة لهم بها، لأن الحد إذا ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب المصير إليه والعمل به لأن المفسر يقضي على المجمل، والخاص يقضي على العام. وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده؛» ليس على وجه التنبيه على إيجاب القطع في القليل والكثير، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد بها بيضة الحديد. والثاني: أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على وجه التقليل كما قيل في العقيقة إنها تستجب ولو بعصفور، والعصفور لا يعق به ولا يجوز في العقيقة. وكما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة أن تباع إذا زنت ثلاثا أو أربعا ولو بضفير، ومثل هذا كثير. فيكون معنى قوله الزجر عن السرقة وتحقير ما تقطع فيه يد السارق في جنب قطع يده، وهذا بين وبالله التوفيق. فصل في معرفة حد النصاب عند من اعتبره اختلف الذين اعتبروا النصاب في حده اختلافا كثيرا. فمنهم من قال: لا تقطع يد السارق في أقل من درهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من درهمين. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ثلاثة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم. ومنهم من

فصل

قال: لا تقطع في أقل من أربعة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من خمسة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فهذه عشرة أقوال أصحها قول مالك ومن تابعه أنه لا تقطع يد السارق ثلاثة دراهم كيلاً، وإن كان ذلك أكثر من ربع دينار. ومن سرق ما سوى الفضة والذهب لم يقطع إلا أن تكون قيمته ثلاثة دراهم. ولا تقوم السرقة بالذهب لأن الآثار تعضد قوله وتؤيده وتشهد بصحته. ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراج والجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن». فدل ذلك من قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أن المسروق إنما يقوم بالدراهم لا بالدنانير، كما فعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأترجة التي قومها بالدراهم فبلغت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع سارقها. وقالت عائشة: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا، معناه فيمن سرق الذهب بعينه لا فيمن سرق ما قيمته ربع دينار، لأن من سرق ما يقوم من العروض فالسنة فيه أن يقوم بالدراهم على ما ثبت من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن». فصل وأيضا فالدراهم والدنانير كل واحد منها أصل في نفسه لا يرد إليه صاحبه لأنهما جميعا أثمان للأشياء وقيم للمتلفات، واختصت السرقة بالتقويم بالدراهم دون الدنانير من سائر المتلفات للسنة المذكورة.

فصل فيما يقطع فيه السارق من الذهب المغشوشة أو الناقصة

فصل فلا تقوم السرقة إلا بالدراهم كان البلد تجري فيه الدنانير والدراهم أو لا يجري فيه أحدهما، وإنما يتعامل الناس فيه بالعروض. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ظاهر قوله في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز خلاف قول أبي بكر الأبهري، وقال عبد الوهاب: إنما تقوم بالأغلب في البلد من الصنفين. وأما ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن من سرق عرضا في بلد لا يتعامل الناس فيه إلا بالعروض فإنه يقوم في أقرب البلدان إليه التي يتعامل فيها الناس بالدراهم؛ فخطأ صراح لا يصح، إذ قد تكون السلعة بالبلد الذي سرقها فيه كاسدة مرغوبا عنها لا قيمة لها به وفي البلد الذي تجري فيه الدراهم لها قيمة كثيرة لقلتها فيه ونفاقها عندهم، فيؤول إلى قطع اليد في أقل من النصاب. والاعتبار بقيمة السرقة يوم سرقت وأخرجت من الحرز في قول مالك والشافعي خلافا لقول أبي حنيفة إنه تعتبر قيمتها يوم سرقها إلى يوم الحكم وبالله التوفيق. فصل فيما يقطع فيه السارق من الذهب المغشوشة أو الناقصة وسواء كان الذهب والفضة طيبين أو دنيئين إلا أن يكونا مغشوشين بالنحاس فلا يقطع في النصاب منهما إلا أن يكون النحاس الذي فيهما تافها يسيرا جدا لا قدر له. فصل وأما إن نقصت الذهب والفضة في الوزن، فإن كان نقصها نقصا بينا تتفق عليه الموازين فلا يقطع، وإن كان نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين قطع. فصل فأما إن كانت الدراهم تجوز عددا بأعيانها فنقصت في الوزن فقال في الرواية: إنها إن نقصت ثلاث حبات من كل درهم فلا يقطع، ظاهره وإن كانت تجوز بجواز

فصل

الوازنة خلاف الزكاة. والفرق بينهما أن الزكاة الاحتياط فيها إيجابها، والسرقة الاحتياط فيها ترك القطع. وأما إن كان النقص فيها نحو الحبتين من كل درهم فقد قال أصبغ: إن ذلك يسير يقطع، معناه عندي إن كانت تجوز بجواز الوازنة. وقال أبو إسحاق التونسي قول أصبغ وإن كانت لا تجوز بجواز الوازنة. وإن كان هذا ظاهره فيقال: إن معناه خلاف ظاهره، والله تعالى أعلم. فصل ومذهب الشافعي في هذا قريب من مذهب مالك، لأن النصاب عنده في القطع ربع دينار فلا يقطع على مذهبه إلا من سرق ربع دينار ذهبا أو قيمته من العروض أو الدراهم، وهو قول محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك، حكاه عنه ابن حارث. فصل وأما أهل العراق فلا يرون أن تقطع يد السارق في أقل من مثقال أو عشرة دراهم. ومنهم من يراعي المثقال دون العشرة دراهم فلا يوجب القطع على من سرق عشرة دراهم أو أكثر إذا كانت قيمتها أقل من مثقال. ومنهم من يراعي العشرة دراهم دون المثقال فلا يوجب القطع على من سرق مثقالا أو أكثر منه إذا كانت قيمته أقل من عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وأصلهم في هذا ما «رواه ابن عباس وعمرو بن العاص أن ثمن الذي قطع فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عشرة دراهم.» قالوا: فهذان صاحبان قد خالفهما ابن عمر في قيمة المجن، فالأولى ألا تستباح يد أحد إلا بيقين. وهذا لا يلزم، لأنه يحتمل أن يكون قضية أخرى في مجن آخر فلا تتعارض الآثار، لأنه إذا وجب القطع في ثلاثة دراهم فلا شك أنه يجب في عشرة دراهم، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.

فصل في السراق يجتمعون على سرقة النصاب

فصل في السراق يجتمعون على سرقة النصاب القطع بإخراجه من الحرز، سرقه واحد من واحد، أو جماعة من جماعة، أو جماعة من واحد، أو واحد من جماعة إذا تعاونوا في إخراجه لحاجتهم على التعاون في ذلك، كما يقتل الواحد بالواحد والجماعة بالجماعة والواحد بالجماعة والجماعة بالواحد، وكما تقطع اليد باليد والأيدي بالأيدي والأيدي باليد واليد بالأيدي. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تقطع الجماعة بالسرقة وإن تعاونوا عليها حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما يجب فيه القطع، كل على مذهبه في النصاب، وتقتل الجماعة بالواحد، فناقضوا، والمناقضة للشافعي ألزم لأنه يقول: إن الجماعة تقتل بالواحد وإن الأيدي تقطع باليد. لأن النفس لا تتبعض واليد تتبعض فإنما قطع كل واحد منهم بعضها. وكذلك النصاب يتبعض عنده فإنما سرق كل واحد منهم بعضه. ونقض الشافعي في هذه المسألة أيضا أصله في قوله: إن عشرين رجلا إذا ملكوا عشرين مثقالا وكانوا شركاء فيها إن الزكاة واجبة عليهم لاشتراكهم في النصاب، وهذا بين في التناقض، ومن أصل أصلا فاسدا يبني عليه انهدم بنيانه. ولا اختلاف أحفظه في سرقة الواحد ما يجب فيه القطع من الجماعة المشتركين أنه يقطع، كما لم يختلفوا أن العبد يقتل بالعبد وإن يده تقطع بيده وإن كان العبد المقتول أو المقطوع يده لجماعة. واتفاقهم على هذا يقضي بصحة مذهب مالك في أن الجماعة تقطع إذا تعاونت في سرقة النصاب، لأن القطع إنما وجب لحرمة النصاب المسروق على الوجه الموصوف، كما وجب القصاص من النفس أو اليد لحرمتها، فوجب أن يتساوى ذلك كله في الواحد من الواحد والجماعة من الجماعة والواحد من الجماعة والجماعة من الواحد. فرحم الله مالك بن أنس فإنه كان أمير المؤمنين في الرأي والآثار، وأعرف الناس بالقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فصل في بيان من يجب عليه القطع في السرقة

فصل في بيان من يجب عليه القطع في السرقة والقطع يجب على الأحرار والعبيد والذميين الحربيين المعاهدين من الرجال والنساء البالغين. هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وعامة العلماء في جميع الأمصار. وإنما وقع الخلاف قديما في العبد الآبق، ثم انعقد الإجماع لعموم قول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]. فصل في معرفة ما يجب به القطع في السرقة ولا يجب القطع إلا ببينة عادلة أو اعتراف. فأما البينة فشاهدا عدل، ولا يقطع بشاهد ويمين ولا بشاهد وامرأتين. وأما الاعتراف فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأتي مستهلا على نفسه بالسرقة من غير أن يؤخذ ويتهم بها. والثاني: أن يقر على نفسه بها بعد أن يتهم بها فيؤخذ دون خوف ولا وعيد ولا تهديد. والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد. والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد. فأما إذا استهل بذلك على نفسه من قبل أن يؤخذ فيقطع من غير تعيين قولا واحدا، وله أن يرجح عن إقراره إذا كان لرجوعه وجه. واختلف إذا جحد الإقرار أصلا أو لم يأت لرجوعه بوجه. وأما إن كان إقراره بعد أن يؤخذ فاختلف فيه، قيل إنه يقطع بمجرد إقراره دون أن يعين السرقة التي أقر بها، وهو ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة. وقيل:

فصل

إنه لا يقطع حتى يعينها وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع أشهب من الكتاب المذكور. فإذا قلنا: إنه يقطع بمجرد إقراره دون تعيين على ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة فله أن يرجع عن إقراره وإن لم يأت بوجه، وهو ظاهر ما في المدونة ولا خلاف عندي في هذا الوجه. وإذا قلنا: إنه لا يقطع إلا أن يعين فاختلف هل له أن يرجع عن إقراره بعد التعيين أم لا على قولين مرويين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقعا له في سماع عيسي من كتاب السرقة. والقولان هاهنا عندي إنما هما إذا قال إنما أقررت لوجه كذا، وأما إن جحد الإقرار أصلا بعد التعيين فلا يقال قولا واحدا. وأما إذا ضرب أو هدد فأقر فلا يقطع بمجرد إقرار، فإن عين فاختلف هل يقطع أم لا على قولين قائمين من المدونة وغيرها. فإذا قلنا إنه يقطع على أحد القولين فإنما يقطع ما لم يرجع عن إقراره، وإن رجع عن إقراره أُقيل بلا خلاف. وإذا قلنا: إنه لا يقطع على القول الثاني فإن تمادى على إقراره بعد أمن ففي المدونة أنه يقطع. وقال ابن الماجشون: إنه لا يقطع. فصل فلرجوع السارق عن إقراره بالسَّرْق ثلاثة أحوال: حال يقبل رجوعه فيها إن أتى وبه شبهة، ويحلف إذا جحد الإقرار أصلا وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع فيها وعلى قبول رجوعه، وذلك إذا أتى تائبا مستهلا ثم رجع. وحال يقبل رجوعه فيها وإن جحد الإقرار أصلا قولا واحدا وهي الحال التي لا يتفق على وجوب القطع عليه فيها، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ ولم يعين ثم رجع، وإذا أقر بعد الضرب أو التهديد وعين ثم رجع. وحال لا يقبل رجوعه إذا جحد الإقرار أصلا قولا واحدا، ويختلف إذا قال: أقررت لوجه كذا وكذا، وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع عليه فيها، ويختلف في قبول رجوعه، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ وعين ثم رجع. وبالله التوفيق.

فصل في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال.

فصل في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال. ويجب القطع في مذهب مالك في كل ما يتمول ويجوز بيعه، سواء كان مباح الأصل أو غير مباح الأصل، سواء كان مما يبقى أو مما يسرع إليه الفساد، خلاف قول أبي حنيفة فيما يسرع إليه الفساد، وخلاف قوله وقول الشافعي فيما كان مباح الأصل كالماء والحطب والكلأ وشبهه. وتعلق أبو حنيفة في ألا قطع في الطعام الذي لا يبقى ويسرع إليه الفساد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع في ثمر ولا كثر» لأنه تأول أن القطع إنما يسقط في ذلك لأنه مما لا يبقى واعتل ذلك أيضا من طريق النظر بأن ما لم يحرز بغيره لا قطع فيه وإن كان محرزا بنفسه، فما يحرز بغيره وليس بمحرز بنفسه أولى ألا يقطع فيه، وليس هذا بشيء، والصحيح قول مالك، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لأنه عموم فلا يخص منه شيء إلا بدليل، ولا دليل لأبي حنيفة يصح به التخصيص في سرقة بعض الأموال إلا تأويله على الحديث، وتأويله عليه يعارض بما هو أولى منه، وذلك أن الحرز لم يأوه فلذلك لم يجب فيه القطع. فصل في ترتيب القطع في السرقة وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق ضرب وحبس. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومذهب أهل الحجاز. ولم ير أن يقتل بعد الرابعة على ما روي «عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه أتي بعبد قد سرق فقطع يده اليمنى، ثم أتي به بعد ذلك قد سرق فقطع رجله اليسرى، ثم أتى به بعد ذلك قد سرق فقطع يده اليسرى، ثم أتي به بعد قد سرق فقطع رجله اليمنى، ثم أتي به بعد قد سرق فقتله» لأنه حديث غير صحيح. وفي حديث

فصل في حد القطع في السرقة

مصعب بن ثابت: قتل السارق بالحجارة في الخامسة ولم يقل به أحد من أهل العلم إلا ما ذكره أبو المصعب في مختصره عن أهل المدينة مالك وغيره، وهذا غير صحيح لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إسلامه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير حق». ولو صح الخبر لوجب أن يحمل على أنه خرج على وجه التغليظ كقوله في شارب الخمر: اقتلوه. تغليظا وزجرا، والله أعلم. فصل وذهب أهل العراق إلى أنه تقطع يده اليمنى ثم رجله اليمنى ولا يقطع منه شيء بعد ذلك. واتفق جمهور السلف والخلف من أهل الحجاز والعراق على قطع الرجل بعد اليد وإن كان الله عز وجل لم يذكر في كتابه إلا الأيدي للسنة الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشذت طائفة من التابعين وبعض أهل الظاهر فلم يروا أن تقطع من السارق إلا الأيدي لا أكثر، وهو مذهب الخوارج. فصل في حد القطع في السرقة وتقطع يد السارق من الكوع لا خلاف بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا في الرجل، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم أنه يقطع من المفصل الذي في أصل السارق. وقال في المدونة: تحت الكعبين ويبقى الكعبان في الساقين. وقال في كتاب ابن شعبان: بين الكعبين، وقيل إنه يقطع من المفصل الذي في وسط القدم ويترك له العقب حكاه ابن شعبان عن علي وابن عباس وعطاء وابن جعفر. وقال إنه موضع يحتمل الاختلاف لأن المفصل الذي في وسط القدم هو أول المفاصل الذي يأتي على جميع أصابع الرجل، كما أن الرسغ هو أول المفاصل الذي يأتي على أصابع اليد، فشبهوا هذا بهذا. هذا معنى قوله دون لفظه. والله أعلم.

فصل في السارق يقطع وقد استهلك السرقة

فصل في السارق يقطع وقد استهلك السرقة وأجمع أهل العلم على أن السلعة المسروقة إذا وجدت قائمة بيد السارق فإنها ترد إلى صاحبها. واختلفوا إذا تلفت عنده وأقيم عليه الحد هل يتبع بها أم لا على أربعة أقوال: أحدها: أنه يتبع بها في اليسر والعدم وهو قول الشافعي. والثاني: أنه لا يتبع بها في اليسر ولا في العدم، حكى هذا القول إسماعيل القاضي عن أهل الشرق. والثالث: أن المسروق منه مخير إن شاء اتبع السارق بقيمة سرقته ولم تقطع يده، وإن شاء بذل له القيمة وترك اتباعه بها وقطعت يده. هذا قول أبي حنيفة، حكاه عنه عبد الوهاب في شرح الرسالة، فلا يجب للإمام على مذهبه إذا تلفت السرقة أن يقطع يد السارق إلا بعد تخيير المسروق منه. وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان متصل اليسر من يوم سرق إلى يوم أقيم عليه الحد ضمن قيمة السرقة، وإن كان عديما أو أعدم في بعض المدة سقط عنه الغرم، وهذا هو الصحيح، لأنه إذا كان موسرا متصل اليسار فكأن سرقة قائمة العين لأنه وإن أتلفها فقد وفى بها ماله. وهذا التعليل إنما يصح إذا أتلفها بالاستيفاء وأما إذا أتلفها بالجناية عليها أو تلفت بأمر من السماء فلم يف بتلافها ماله فيلزم عليه ألا يؤخذ من ماله وإن اتصل يسره إذا تلفت بأمر من السماء أو بجنايته عليها، وهذا ما لم يقولوه. فالعلة الصحيحة في هذا على مذهب مالك أنه إنما وجب ألا يتبع بقيمة السرقة في العدم إذا قطعت يده لئلا تجتمع عليه عقوبتان: قطع يده واتباع ذمته ولم يوجب الله عليه إلا عقوبة واحدة جزاء بما كسب فقال: فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب. وأما في الملأ فيرد على المسروق منه قيمة سرقته وإن قطعت يده، كما يرد عليه عين سرقته بالإجماع إذا ألفيت قائمة بيده وليس ذلك عقوبة ثانية. ولا يلزم على

فصل في حكم توبة السارق

هذا أن يؤخذ منه إذا أيسر بعد أن أعدم لأن العدم قد أسقطها عنه، إذ لا يصح أن تتبع ذمته بها فيكون ذلك عقوبة أخرى، وإذا سقطت عن ذمته لم يصح أن تعود عليه والله أعلم. فصل في حكم توبة السارق توبة السارق غير مقبولة منه في إسقاط الحد عنه بخلاف توبة المحارب، لأن الله فرق بينهما في كتابه، فأمر بإقامة الحد عليهم ثم عقب بذكر التوبة من غير استثناء فجعلها مستقلة بعد القطع، فدل ذلك على أن توبته لا تسقط عنه الحد وإن أسقطت عنه الإثم إذا صحت توبته ورد السرقة على صاحبها وتحلله من إمساكها عنه. وذكر تعالى إقامة الحد على المحاربين ثم استثنى منهم من تاب ألا يقام عليه الحد فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]. وهاتان الآيتان أصل في أن تقبل توبة المرتد وكل معلن بما كان عليه، وألا تقبل توبة الزنديق ولا الساحر ولا الزاني ولا الشارب للخمر ومن أشبههم من المستترين بما كانوا عليه إذا أسرتهم البينة لأنهم يتمنون أن يكون ذلك منهم تحيلا لإسقاط الحدود منهم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ} [غافر: 84 - 85] إلى قوله: الكافرون وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. وبالله سبحانه التوفيق لا رب غيره. تم كتاب السرقة بحمد الله وعونه يتلوه كتاب الحرابة

كتاب المحاربين والمرتدين

كتاب المحاربين والمرتدين القول في ماهية الحرابة وما الواجب فيها قال الله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فجعل الفساد في الأرض بمنزلة القتل في وجوب القتل به. فمعنى الآية من قتل نفسا بغير نفس أو بغير فساد في الأرض فأسقط غير وعطف الكلام على ما قبله ثم بين الله تبارك وتعالى الفساد في الأرض المذكور في هذه الآية ما هو فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. فصل فمحاربة الله ورسوله عصيانهما بإخافة السبيل، وإخافة السبيل هو السعي في الأرض فسادا أو السعي في الأرض فسادا هو الحرابة نفسها لا غيرها. وقَوْله تَعَالَى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] تكرير لذكر الحرابة بغير اسم الحرابة على سبيل التأكيد، وهو كثير موجود في القرآن ولسان العرب. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، والبث والحزن شيء واحد. وقال: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22]

فصل

وهما شيء واحد. وقال: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعاد ذكر جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما. وقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] والنخل والرمان من الفاكهة، وهذا كثير، وبالله التوفيق. فصل فمن أخاف السبيل فقد استحق اسم الحرابة بإجماع، ولهذا قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الإمام مخير في المحارب، وإن لم يقتل ولا أخذ مالا إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطعه من خلاف وإن شاء ضربه ونفاه، لأن الله خير في عقوبة المحارب بأحد هذه الأربعة الأشياء فقال: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، لأن كل ما قال الله فيه افعل كذا أو كذا فصاحبه بالخيار في فعل أي ذلك شاء، مثل قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. ومثل قوله في كفارة الأيمان: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. فصل وقد اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل: إنها نزلت في المشركين الحربيين، فالإمام مخير بهذه الآية في أسرى المشركين إن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقد قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء أن ينفي. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقيل: إنها

فصل

نزلت في «الرهط من عرينة أو عكل الذين أتوا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ريف وإنا استوخضنا المدينة، فأنزلهم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فأتي بهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستطعمون فلا يطعمون ويستسقون فلا يسقون حتى ماتوا». روي هذا عن أنس بن مالك وجاء عنه أنه أحرقهم بالنار بعد قتلهم. فصل ولم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل بأحد غير هؤلاء قبل ولا بعد. وثبت عنه أنه نهى عن المثلة. واختلف في حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء الرهط، فقيل: إنه منسوخ، نسخه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة، وقيل: إنه نسخ بهذه الآية وإنها إنما نزلت عتابا لما فعل بهم، وقيل: إنه حكم ثابت في نظرائهم أبدا غير منسوخ لأنهم ارتدوا وقتلوا وحاربوا وسرقوا، فحكمهم غير حكم من حارب وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة الذين ثبت الحكم فيهم بالآية. وقيل: إنهم سملوا أعين الرعاء فلذلك سمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعينهم. وقيل: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسمل أعينهم لكنه أراد أن يفعل ذلك فأنزل الله الآية فعرفه بالحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم. فصل فأما قول من قال إن الآية نزلت في المشركين الحربيين فإنه بعيد جدا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فيها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. ولا اختلاف أن توبة الحربي تسقط عنه بالرمة من الأحكام في حال كفره سواء أسلم قبل القدرة عليه أو

فصل

بعد ذلك وكذلك قول من قال: إن الآية نزلت في الذين حكم فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما حكم من قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم بعيد أيضا لمخالفة حكمه فيهم ما تضمنته الآية من العقوبات مع تظاهر الآثار بأن الآية إنما وردت بعد الذي كان من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء الرهط المذكورين. فصل وأولى ما قيل في الآية أن الله أنزلها على رسوله إعلاما منه له بالحكم فيمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة، وأن سبب نزولها كان نقض ناقض من أهل الذمة من بني إسرائيل عهده وسعيه في الأرض بالفساد. وإنما قلنا إن ذلك أولى ما قيل في الآية لأن القصص التي قصها الله قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم وأن تكون هذه الآية المتوسطة بين ذلك تقتضي تعريف الحكم فيهم وفي نظائرهم أولى ما قيل في ذلك مع ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فيحتمل أن يكونوا من بني إسرائيل والله أعلم وأحكم. فصل وليس معنى قول مالك ومن قال بقوله في تخيير الإمام في عقوبة المحارب إنه يفعل فيه بالهوى، ولكن معناه أنه يتخير من العقوبات التي جعلها الله جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله وأولى بالصواب بالاجتهاد فكم من محارب لم يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين. فصل فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد فيه قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره عن المسلمين. وإن لم يكن على هذه الصفة وأخذ بحضرة خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك وهو الضرب والنفي.

فصل

فصل وأما إن قتل فلا بد من قتله ولا يخير الإمام في قطعه ولا في نفيه، وإنما له التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير للإمام في نفيه وإنما له التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. هذا تحصيل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد وقع في بعض روايات المدونة أنه من نصب نصبا شديدا أو علا أمره وطال زمانه فإن الإمام يقتله ولا خيار له فيه. معناه أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ في مثل هذا إلا بالقتل لأنها العقوبة المختارة في مثله بالاجتهاد، فلا تكون هذه الرواية على هذا التأويل خلافا لأصله الذي حكيناه عنه. فصل وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن أو في هذه الآية ليست للتخيير وإنما هي للترتيب والتعقيب. وأن العقوبات التي أنزلها الله في المحارب تختلف باختلاف إجرامه. قالوا لأن كل موضع ذكر الله فيه عقوبات مختلفة وقصد الترتيب بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وإن قصد التخيير بدأ بالأخف فالأخف. مثال الأول: كفارة الظهار والقتل. ومثال الثاني: كفارة اليمين وفدية الأذى. فلما بدأ الله في المحارب بالقتل ثم الصلب ثم القطع ثم النفي علمنا أنه قصد الترتيب لا التخيير. وهذه دعوى لا دليل عليها. بل الدليل قائم على بطلانها، من ذلك قول الله عز وجل: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] فبدأ بالقتل وهو أخف من الصلب فذلك يوجب التخيير على مذهبهم بين القتل والصلب وهم لا يقولونه. وأيضا فإن الله قال في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، فبدأ بالهدي وهو أغلظ من الإطعام والصيام فكان ذلك

فصل

على التخيير ولم يكن على الترتيب وأيضا فلو كان اللسان العربي يوجب الترتيب إذا بدأ في العقوبات بالأغلظ فالأغلظ على ما قالوه دون التخيير لما احتاج تعالى أن يقول في كفارة القتل وكفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، ولقال أو صيام شهرين متتابعين لأن أو أخف على اللسان وأوجز في الكلام، لأن البلاغة إنما هي في بيان المعاني مع اختصار اللفظ مع أنا لا نقول إن عتق رقبة أغلظ من صيام شهرين متتابعين بل صيام شهرين متتبابعين أشد وأغلظ من عتق رقبة لا سيما على من هو كثير اليسار، وفي بعض هذا كفاية. فصل واستندوا فيما ذهبوا إليه من ذلك إلى ما روي عن ابن عباس أن المحارب إذا حارب وقتل قتل وإن حارب وقتل وأخذ المال صلب. وإن حارب وأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، وإن حارب السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي إلا أن يتوب في ذلك كله قبل أن يقدر عليه. فصل فأما الشافعي فقال بقول ابن عباس هذا. وقد اختلفت الروايات عنه اختلافا كثيرا أعني ابن عباس. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إن أخاف السبي ولم يقتل وظفر به قبل أن يتوب حبس لقول الله عزوجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، وتأولوا أن النفي الحبس. وإن أخذ مالا فكان ما أخذ عشرة دراهم فصاعدا قطعت يده ورجله من خلاف. فإن قتل وأخذ المال فإن أبا حنيفة قال: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف أو صلبه وقتله على الخشبة، وإن شاء لم يصلبه وقطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله بغير صلب أو قطع. قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهما: إذا وجب عليه القتل لم يقطع لأن القتل يأتي على كل شيء، ولكن أحب إليهم أن يقتل على الخشبة مصلوبا. فإن خرج

فصل

ولم يفعل غير ذلك كان أمره إلى المخروج ولم يحكم عليه بحكم المحارب وبالله التوفيق. فصل واختلف في معنى قول الله عز وجل: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33]، فقيل: إنه يقتل ثم يصلب ليرتدع أهل الفساد، وهو قول أشهب. وقيل: إنه يصلب حيا ويقتل في الخشبة وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون وهو اختيار ابن بكير، لأن الصلب أن يقتل مصلوبا فيسيل دمه وهو مربوط في الخشبة من قولهم: تمر مصلب إذا كان ذا صفر سائل، ولأن الله إنما خير في صفة قتله ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله لقال أن يقتلوا، أو يقتلوا ثم يصلبوا، وهذا بين. فصل فعلى مذهب من رأى أنه يقتل ثم يصلب يصلي عليه قبل الصلب. واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل في الخشبة فقال ابن الماجشون في الواضحة: ينزل من الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يترك أحد من أهله ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه ولا ليصلي عليه. قال في الثمانية: ويصف خلف الخشبة ويصلى عليه وهو مصلوب، خلاف ظاهر قوله في الواضحة. وقال سحنون: إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلي عليه. واختلف قوله: هل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل الفساد أم لا على قولين. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يبقى في الخشبة أكثر من ثلاثة أيام ثم ينزل لأن إبقاءه عليها أكثر من ثلاثة أيام مثلة. وهذا التحديد تحكم بغير دليل ولا برهان. فصل وأما قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. واختلف إذا

فصل

كان أشل اليد اليمنى أو مقطوعها في قصاص أو جناية وشبهه. فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى حتى يكون القطع من خلاف كما قال الله عز وجل. وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى، وقول ابن القاسم أظهر. فصل وأما قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فاختلف في تأويله روى مطرف عن مالك أن النفي السجن، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم ورواه عن مالك إن النفي أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أقله ما تقصر فيه الصلاة فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته. وقال ابن الماجشون معنى ذلك أن يطلبهم الإمام لإقامة الحد عليهم فيكون هروبهم إقامة الحد عليهم هو النفي، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا. وقال السدي وغيره: هو أن يطلبهم الإمام بالخيل حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم أو ينفوا من أرض الإسلام إلى أرض الحرب، وهو نحو قول ابن الماجشون. فعلى قول هؤلاء تكون العقوبات التي ذكر الله في المحارب بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه - والأشبه أن تكون كلها فيمن قدر عليه. وقيل: إن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلده إلى بلد آخر، وهو قول سعيد بن جبير وغيره، وهو بعيد، لأن نفي المحارب عن بلده إلى بلد آخر ليس بعقوبة له، إذ هو في حرابته وخروجه غائب عن بلده، فإنما نفيه إلى بلد آخر دون أن يسجن إحمال له وتسليط وبعث على التزيد في العبث والفساد. فصل وأما قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فإن أهل العلم اختلفوا في هذا المعنى في أربعة مواضع: أحدها: قبول توبة المحارب من أهل الإسلام وأهل الذمة. والثاني: في صفة المحارب التي تقبل منه التوبة. والثالث: في صفة التوبة التي تقبل منه.

والرابع: فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام. فأما الموضع الأول وهو قبول التوبة منه فإن الأصل في ذلك قولين: أحدها: أن توبته لا تقبل منه ولا تسقط حقا من الحقوق ولا حكما من الأحكام. قال ذلك من ذهب إلى أن الآية نزلت في المشركين من أهل الحرب، وهو قول الحسن، وقد بينا ضعف هذا القول. والثاني: أن توبته تقبل منه، وهو قول جل أهل العلم. ثم اختلف هؤلاء في صفة المحارب الذي تقبل منه التوبة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا تقبل منه إلا أن يخرج في حرابته من دار الإسلام ويلحق بدار الحرب. والثاني: أنها لا تقبل منه إلا أن يكون قد لحق بدار الحرب أو كانت له فئة في بلد الإسلام وإن لم يلحق بدار الحرب. والثالث: أنها تقبل منه في جميع الأحوال كان وحده لا فئة له أو كانت له فئة ولم يلحق بدار الحرب أو كان قد لحق في حرابته بدار الحرب. واختلفوا أيضا في صفة توبته التي تقبل منه على أقوال: أحدها: أن توبته تكون بوجهين: أحدهما: أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام. والثاني: أن يلقي سلاحه ثم يأتي الإمام طائعا وهو مذهب ابن القاسم. والقول الثاني: أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه. وأما إن ألقى سلاحه وأتى الإمام طائعا فإنه يقيم عليه حد الحرابة إلا أن يكون قد ترك قبل أن يأتيه ما هو عليه وجلس في موضعه حتى لو علم الإمام حاله لم يقم عليه حد الحرابة، وهذا قول ابن الماجشون. والقول الثالث: أن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام. واختلفوا أيضا فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال:

فصل فيمن حارب على تأويل كأهل الأهواء

أحدها: أن التوبة لا تسقط عنه إلا حد الحرابة ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس. والثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابه وجميع حقوق الله من الزنى والقطع في السرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك. ويتبع بحقوق الناس من الأموال في ذمته، وإن كان قتل فإن أولياء القتيل فيه بالخيار بين أن يقتلوا أو يعفوا. والثالث: أن التوبة تسقط عنه حق الحرابة وجميع حقوق الله وما أخذ من الأموال، إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بعينه لم يتلفه أو يكون قد قتل فيكون للأولياء أن يستقيدوا منه إن شاءوا، وهذه رواية الوليد بن مسلم عن مالك. والرابع: أن التوبة تسقط جميع ما فعله من حق الله أو لأحد من الناس في دم أو مال إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بيده بعينه. فصل وقد اختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل: إن له الأمان ويسقط عنه به حد الحرابة. وقيل: لا أمان له ويقام عليه حد الحرابة، لأنه إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية ويكون على الذمة، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل إقامة الحدود فيهم وذلك ما لا يصح، وهو قول ابن الماجشون. فصل فيمن حارب على تأويل كأهل الأهواء فهذا كله في المحارب، الذي يخرج فسقا وخلوعا على غير تأويل. وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه. واختلفوا هل يقتل بمن قتل قصاصا. إذا تاب أو أخذ قبل أن يتوب. فقال عطاء وأصبغ: يقتل به قودا. وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل به ولا يقاد منه. ومثله في الأثر من

فصل

كتاب الجهاد من المدونة من قول ابن شهاب: هاجت الفتنة الأولى فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يرون أن يهدم أمر الفتنة فلا يقام على أحد قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة مست، ولا يرى بينهما وبين زوجها ملاعنة، يريد إن نفى ولدها، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد. ومن أسر منهم في الحرب وهي قائمة لم يظهر بعد على أهل رأيه فللإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من أن يعين مع أصحابه على المسلمين. وإن كان ذلك بعد انقطاع الحرب والظهور على أهل رأيه فإنه لا يقتل، وحكمه حكم البدعي في جماعة المسلمين الذي لا يدعو إلى بدعته يستتاب في قول ذلك فإن تاب وإلا قتل. وهو قول مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ. وفي قول ابن الماجشون وسحنون ينهى عن بدعته ويؤدب ويستتاب ويقبل منه ما أظهر من قليل التوبة أو كثيرها وهو قول عطاء وبالله التوفيق. فصل وأما المحارب إذا ارتد فحارب في ردته فقتل وأخذ المال ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب كما يستتاب المرتد إذا لم يحارب، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه كانت حرابته في بلد الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب. وأما إن أسلم المرتد المحارب في ارتداده بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ فإن كانت حرابته في بلد الحرب فهو كالحربي يسلم لاتباعة عليه في شيء مما فعل في بلد الحرب في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في بلد الإسلام فإنما يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة ويغرم ما أخذ من المال إن كان له مال ويتبع به في ذمته إن لم يكن له مال بمنزلة ما استهلك من الأموال بغير حرابة. وكذلك ما أصاب من الدماء والجراح يحكم عليه في ذلك بما يحكم على المرتد إذا قتل أو جرح في حال ارتداده ثم أسلم. وهذا أصل اختلف فيه قول ابن القاسم، فمرة نظر إلى حال المرتد في القود والدية يوم الفعل، ومرة نظر إلى حاله يوم الحكم، ومرة فرق بين الدية والقود فنظر إلى القول يوم الفعل وإلى الدية يوم الحكم.

فصل

فصل فعلى قوله الذي نظر إلى حالة المرتد يوم الفعل في الجناية والدية إن كان قتل مسلما أو نصرانيا عمدا أقيد منه بهما لأنه كان كافرا يوم العقل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم. وإن كان قتلهما خطأ كانت الدية على المسلمين لأنهم ورثته يوم الجناية ولا عاقلة له حينئذ. وعلى قوله الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في الجناية والدية إن كان قتل مسلما أقيد منه به، وإن كان قتل نصرانيا لم يقد منه لأن المسلم لا يقتل بالنصراني وكانت ديته في ماله، وإن كان قتلهما خطأ كانت الدية على العاقلة لأنه يوم الحكم مسلم له عاقلة فعقل عنه جناياته. وعلى هذا القياس يجري حكم جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين الجناية والدية، وبالله التوفيق لا شريك له.

كتاب الرجم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد كتاب الرجم فصل في التشديد في الزنا حرم الله تبارك وتعالى الزنى على عباده وحظره في غير ما آية من كتابه. فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة: 12] وَقَالَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال عز

فصل

وجل: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه». فصل فالزنى من أعظم الذنوب وأجل الخطايا، ليس بعد الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله ذنب أعظم منه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ثم أن تزني بحليلة جارك». فصل وفرض الله تبارك وتعالى الحدود في الزنى على المحصنين من عباده على قدر مراتبهم في الإحصان. والإحصان هو التعفف عن الفواحش والامتناع منها. وهو مأخوذ من قولهم حصن منيع ودرع حصينة. وله ثلاثة أسباب: وهي الإسلام، والحرية، والتزويج. فهو على مراتب ثلاث، أولها الإسلام. فالإسلام إحصان لأنه يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات. ثم الحرية لأنها تكف أيضا عن الفواحش والدنايات. فمن حصلت له الحرية ينبغي له أن ينزه نفسه عن أن يلم بفاحشة أو يقرب دناءة. ثم التزويج لأن من حقه أيضا أن يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات.

فصل

فصل فإذا زنى الكافر بكافرة مثلة فلا حد على واحد منهما عندنا، حرين كانا أو عبدين، بكرين كانا أو ثيبين، ويؤدبان عليه إن أعلناه لأنه ليس بمحصن بسبب من أسباب الإحصان. وإنما حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اليهوديين بالرجم على حكم التوراة لا على حكم الإسلام، لأنهم لم تكن لهم ذمة يومئذ، وإنما أنزلت آية الجزية سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من حنين. ولو كانت لهم حينئذ ذمة لما رجمهم لأن الرجم لا يجب في شريعتنا إلا بعد الإحصان بالإسلام والحرية والتزويج. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا خلاف بينهم في هذا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما إن اليهوديين والنصرانيين إذا زنيا حكم عليهما بالرجم إن كانا محصنين أو بالجلد إن كانا بكرين. قال الشافعي في أحد قوليه إذا رضيا بحكم المسلمين وبالله التوفيق. فصل فإذا أسلم الكافر ثم زنى وهو عبد كان حده خمسين جلدة لإلمامه بالفاحشة المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام. فإن أعتق ثم زنى كان حده مائة جلدة لإلمامه بالفاحشة المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام والحرية. والتزويج، وهي أرفع مراتب الإسلام في التحصين. فصل ولا يكون الوطء بالتزويج إحصانا حتى يقع بعد الإسلام والحرية، فإن وقع قبلهما أو قبل أحدهما لم يوجب حكما ولا اعتبر به في انتقال الحد. وأما الحرية والإسلام فمتى اجتمعا جميعا اعتبر بهما تقدم الإسلام الحرية أو الحرية الإسلام.

فصل

وإن انفرد الإسلام دون الحرية كان إحصانا يعتبر به. وإن انفردت الحرية دون الإسلام لم يكن إحصانا يعتبر به. فصل فعلى هذا الترتيب الذي وصفناه تُتَأَوَّل آيُ القرآن الواردة في ذلك. فأما قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وقوله عز وجل من قائل: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] فإنهما آيتان منسوختان لم يختلف أهل العلم أنهما منسوختان، وإنما اختلفوا في ترتيب نسخهما وفي الناسخ لهما ما هو. وإن كانتا في الزانيين المحصنين أو في الزانيين البكرين أو عامة في الصنفين فقيل إن الآيتين جميعا في المحصنين. وقيل إنهما في البكرين. وقيل إنهما عامتان فيهما جميعا. وقيل إن الآية الأولى في المحصنين والآية الثانية في البكرين، فلا يصح أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى لاختلاف الحكمين والمحكوم فيهم، وتكون الأولى منسوخة بالرجم المتواتر فعلُه الباقي حكمه المنسوخ خطه على قول من ذهب إلى أن ما روي عن عمر بن الخطاب بقول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] لأن العذاب المذكور في هذه الآية هو الرجم في الثيب على ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والثانية بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]. وأما من قال إن الآيتين في الزانيين البكرين أو في

فصل

الزانيين المحصنين أو عامة في الصنفين فلا بد أن تكون إحداهما ناسخة لصاحبتها، إما الأولى بالثانية، وإما الثانية بالأولى. ثم الناسخة منهما لصاحبتها منسوخة إما بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] على مذهب من رأى أنهما في الزانيين المحصنين، أو بآية الجلد وما أنزل الله من الحكم بالرجم على مذهب من رأى أن الآيتين عامتان في الصنفين، فقيل: إن الثانية هي الناسخة للأولى. وقال إسماعيل القاضي: إن الأولى في التلاوة هي الناسخة للثانية، وذلك أن الزانيين في صدر الإسلام كانا يحنصان ويحبسان ويشهدان فنسخت بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وهذا بعيد لأن من حق الناسخ أن يكون واردا بعد المنسوخ، والتلاوة تدل أن الثانية وردت بعد الأولى، لأن الهاء من قوله فيها: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] عائدة على الفاحشة المذكورة في الآية الأولى. ولا يصح أن تكون هاء الكناية عائدة على ما لم يذكر بعد إلا أنه يؤيده ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما نزلت آية الجلد قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». فصل فكان الرجم من عند الله عز وجل بأحد وجهين: إما بنص أوحي به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قوله: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فكان يتلى على أنه وحي ولم يكن قرآنا، إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح أن يكون محكما إذ لو كان محكما لثبت بين اللوحين ولما صح سقوطه، لأن الله تعالى قد حفظ القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

فصل

ولا يصح أن يكون منسوخا إذ لو كان منسوخا لما جاز أن يريد عمر بن الخطاب أن يكتبه في القرآن وهو ليس منه إذ قد نسخ. فلما بطل أن يكون محكما وبطل أن يكون منسوخا بطل أن يكون قرآنا. وإنما أراد عمر والله أعلم أن يكتب ذلك على أنه وحي لا على أنه قرآن. فلما خشي أن يظنه قرآنا إذا رآه في المصحف مكتوبا توقف عن كتابته فيه. وقد قيل إنه كان يقرأ وحيا فظنه عمر قرآنا، قاله إسماعيل القاضي، وهو بعيد، لأن عمر لا يصح عليه أن يظن قرآنا ما ليس بقرآن، لأن من علامات القرآن أنه محفوظ معلوم لا يصح الشك فيه ولا الارتياب في شيء منه. وكيف يصح أن يظن عمر قرآنا: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أو بدليل قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] لأن في الكلام دليلا على أنهم لو أتوا بأربعة شهداء لتعلق عليهم بذلك حكم، وذلك الحكم هو ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الرجم في الثيب. فصل سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الرجم الجلد كما سن مع الجلد التغريب على ما روى عنه عبادة بن الصامت أنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». ثم نسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سن من الجلد مع الرجم في الثيب بما رواه أبو هريرة وغيره «أنه رجم ماعزا ولم يجلده» وبما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني وسئل ابن معبد من رواية ابن

فصل

عيينة في «قصة العسيف: اغْدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها» فصار هذان الحدان مانعين للجلد مع الرجم، ونفي الرجم دون جلده ونفي التغريب على البكر مع الجلد على ما أحكمته السنة. فصل ولا اختلاف في هذا بين فقهاء الأمصار، وإنما تعلق بحديث عبادة فأوجب على الزاني المحصن الجلد مع الرجم من شذ من أهل الظاهر. ومما يؤيد أن حديث عبادة منسوخ بحديث أبي هريرة وصاحبيه أن إسلام أبي هريرة متأخر في سنة سبع من الهجرة بعد افتتاح خيبر، وكذلك صاحباه. وعبادة بن الصامت من النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، فروايته وقت نزول آية النور، وأمر العسيف بعد ذلك بسنين. فصل وأما قول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] قرئ أحصن وأحصن. فمن قرأ أحصن وهي رواية أهل المدينة فمعناه تزوجن، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي وابن بكير أن المراد بالإحصان في هذه الآية التزويج، واستدلا على ذلك بأن نعتهن بالإيمان قد تقدم في قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. فصل والمراد بالآية على هذا التأويل الإعلام بأن التزويج في حال العبودية لا يقع به الإحصان ولا يوجب الرجم ولا جلد مائة ولا دليل فيها على أنها إن لم تتزوج

فصل

فلا حد عليها «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير». قال ابن شهاب لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الحد عليها قبل التزويج، لأن المراد بالجلد في هذا الحديث الحد لا التعزير، لأن الأمر يقتضي الوجوب حتما، والتعزير ليس بواجب، قد يكون وقد لا يكون. وفي بعض الروايات في هذا الحديث فليجلدها، وذلك مبين رواية مالك فيه. وقد ذكر بعض أصحاب الخلاف عن ابن عباس أنه لا حد على من زنى من العبيد قبل أن يتزوج، وهذا شديد أن يكون في الشرع زنى لا يوجب حدا، وما أظن الحكاية عنه في ذلك إلا وهما والله أعلم. فصل فمن ذهب إلى هذا قال: حد الأمة إذا زنت قبل التزويج بالسنة، وإذا زنت بعد التزويج بالكتاب. وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يريد بالمحصنات هاهنا الحرائر المسلمات لا الحرائر المتزوجات لأن حد الحرائر المتزوجات الرجم وهو لا يتبعض. فصل العبد يجلد في الزنى خمسين تزوج أو لم يتزوج قياسا على الأمة، فالأمة مخصوصة من عموم قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] بالآية، والعبد مخصوص من عمومها بالقياس على الأمة. ونفاة القياس يقولون بجلد العبد في الزنى مائة جلدة.

فصل

فصل وقد قيل إن المراد بقوله فإذا أُحصِن أسلمن على قراءة من قرأ أحصن، لأن العبودية أوجبها الكفر فملكناهن كفارا فقال فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على المحصنات، أي الحرائر، من العذاب. وهذا محتمل أيضا، إذ قد يصح في اللغة أن يقول الله عز وجل: من فتياتكم المؤمنات فإذا أحصن بالإسلام كما قال: يا أيها الذين آمنوا. فعلى هذا يكون حد الأمة إذا زنت قبل التزويج وبعد التزويج بالقرآن والحديث، فجلدها قبل التزويج مؤيد للآية ومبين لمعناها. والأول أظهر لوجهين: أحدهما: تقدم نعتهن بالإيمان، فالظاهر أن الإحصان شيء آخر حتى يقوم الدليل على أنه هو. والثاني: سؤال الصحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، لأن في تخصيصهم بالسؤال عما يجب عليها في زناها قبل التزويج دليلا على أنهم علموا الواجب عليها فيه بعد التزويج بقول الله عز وجل فإذا أحصن، وفهم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تخصيصهم بالسؤال. ولو كان معنى قوله فإذا أحصن فإذا أسلمن لقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا معنى لتخصيصكم بالسؤال، حدها سواء قبل التزويج وبعده، لأنه لو أقرهم على التخصيص وأجابهم عليه دون أن يعلموا حدها بعد التزويج لدل ذلك أن حدها بعد التزويج جلد مائه أو الرجم وذلك ما لا يقوله أحد. فصل وقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ظاهره العموم في كل زان وزانية، إلا أنا علمنا أن المراد بها المسلمون دون المشركين بدليل أنها نزلت ناسخة للآية الواردة في المسلمين وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ورودها: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا». وعلمنا أن المراد بها

فصل

الأحرار دون العبيد وقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وعلمنا أن المراد بها الأبكار دون المحصنين بالنكاح بما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولا وعملا من أن حد الزاني المحصن الرجم دون الجلد، فبقيت الآية محكمة في الزانين الحرين البكرين. والشافعي يحمل الآية على عمومها في الكفار والمسلمين ولا يخص منها العبيد والمحصنين. وأهل الظاهر نفاة القياس لا يخصصون منها الإناث دون ذكرانهم فيوجبون في الزنى على العبد جلد مائة وعلى الأمة جلد خمسين. وهذا ترده الأصول، وتدفعه العقول. وذلك أن جميع الحدود في السرقة والقتل والحرابة والقذف والزنى في الأحرار يستوي فيها الذكر والأنثى، فكذلك العبد والأمة في حد الزنى لمساواة العبد لها في المعنى الذي من أجله خص حدها وهو الرق، بدليل أنها لو عتقت لكمل حدها. وهذا بين لا إشكال فيه. فصل الرجم يجب على الزاني بخمسة أوصاف، وهي: أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، مسلما، واطئا وطئا مباحا بنكاح صحيح منبرم لا خيار فيه لأحد بعد حصول الأربعة الأوصاف. وأما البلوغ والعقل فلا خلاف في صحة اشتراطهما في وجوب الرجم والجلد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث: المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ». وكذلك الحرية أيضا لا أعلم في صحة اشتراطها في وجوب الرجم خاصة اختلافا بين أحد من فقهاء الأمصار. وكذلك الوطء بالنكاح الصحيح. وأما تقيدنا إياه بالمباح دون المحظور فالاختلاف فيه من قول مالك وأصحابه معلوم. ذهب ابن الماجشون إلى أن الوطء المحظور بالنكاح الصحيح يحل ويحصن. وروي عن مالك أنه يحصن ولا يحل، فلا يصح

فصل

على قولهما تقييد الوطء بالمباح دون المحظور، وإنما يصح تقييده على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن الوطء المحظور لا يقع به تحليل ولا يكون به إحصان. وأما الإسلام فالمخالف في صحة اشتراطه في وجوب الرجم الشافعي وأبو حنيفة. وحجتهما ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان فيما أنزل الثيب والثيبة فارجموهما البتة، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين. وهذا ما لا حجة فيه. أما قول عمر بن الخطاب ففيه إضمار الإحصان. وإن اختلفا فيه فهما يقولان إنه الحرية ونحن نقول إنه الإسلام والحرية جميعا. وأما رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين فإنما رجمهما بحكم التوراة لا بشرع الإسلام. وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنه: «رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين وحد المسلمين يومئذ الجلد ولم يكن لهم حينئذ ذمة» على ما بيناه فيما تقدم، فلا تعلق لهما بالحديث. والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن». وهذا نص في موضع الخلاف إن كان ثابتا. ومن طريق القياس أن نقص الكفر أكثر من نقص الرق، لأن الكفر هو سبب الرق. فإذا كان نقص الرق يمنع الإحصان فنقص الكفر أولى بأن يمنعه. ومعنى آخر وهو أنه قد قيل إن الكفار غير مخاطبين بشيء من شرائع الإسلام، لقول الله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] فإذا كان الزنى بدليل هذه الآية غير محرم على الكافرين فكيف يصح أن يرجموا على ما لم يحرم عليهم ولا خوطبوا باجتنابه. فصل ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في وجوب الرجم على الزاني باجتماع هذه الأوصاف، وإنما يخالف في ذلك الخوارج المارقة، وهم غير معتد بخلافهم.

فصل

فصل فإذا رجم لم يجلد مع الرجم في قول كافة الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه يجلد ثم يرجم بظاهر قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قالوا فعم كل زان محصن أو غير محصن، ثم قامت دلالة الرجم فأضفناها إلى الجلد مع ما روى عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة والرجم». واحتجوا بما روي أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا كله لا حجة فيه لأن حديث عبادة بن الصامت منسوخ بما ثبت من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجم دون الجلد، وبهذا الحديث يخصص الظاهر الذي احتجوا به من القرآن، وحديث علي يحتمل أن تكون كتمته الإحصان فلم يعلم به حتى جلدها. فصل فإذا تزوج الرجل المرأة وخلا بها فأقرا بالوطء قبل الزنى أو بعد الزنى فقد لزمهما الإحصان. وأما إن أنكراه بعد الزنى ولم يعلم منهما إقرار به قبله فاختلف هل يصدقان في إنكاره أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن وهب إنهما لا يصدقان في إنكارهما وإن كان ذلك بقرب البناء. والثاني ما ذهب إليه جمهور أصحاب مالك أنهما يصدقان في إنكار الوطء إلا أن يطول الزمان جدا، وهو ظاهر ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة. والثالث أنهما يصدقان وإن طالت إقامتهما بعد الدخول، وهو ظاهر ما في كتاب الرجم من المدونة. وإن كان إنكارهما قبل الزنى فلا اختلاف في أنهما يصدقان ولا يرجمان. وقد ذهب بعض الناس إلى أن مسألة كتاب الرجم ليست بخلاف لمسألة كتاب

فصل

النكاح وفرق بينهما بتفاريق لا تصح، ذكرها عبد الحق وغيره من المتكلمين على مسائل المدونة. وأما إن ادعاه أحدهما على صاحبه وأنكره الآخر قبل الزنى فلا يلزم المنكر الإحصان باتفاق ولا المقر به على سبيل الدعوى باتفاق أيضا، وله أن يرجع عن إقراره قبل أن يؤخذ في الزنى أو بعد أن يؤخذ فيه، كان الرجل أو المرأة. وأما إن أقر أحدهما بالوطء على سبيل الدعوى والآخر منكر، فأما المنكر فلا يكون محصنا باتفاق، وأما المقر فقال ابن القاسم يكون محصنا، وقال ابن عبد الحكم لا يكون محصنا. حكى هذين القولين عبد الوهاب في شرح الرسالة ولم يلخصه هذا التلخيص. ووجه قول ابن عبد الحكم بأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإنكار أحدهما شبهة للآخر، لأنه يمكن أن يقر بذلك لغرض يكون له فيه. ووجه قول ابن القاسم بأنه مقر على نفسه، والله يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فيجب إعمال قوله عليه وإن أنكر صاحبه. أصله إذا أقر بالزنى أحدهما وأنكره الآخر. وأما إن كان اختلافهما في الوطء بعد الزنى، فأما المقر فيلزمه الإحصان بإقراره بالوطء ويجب عليه الرجم باتفاق. وأما المنكر فاختلف فيه هل يصدق أم لا على الثلاثة الأقوال التي تقدمت في إنكارهما جميعا الوطء بعد الزنى. وذهب بعض الناس إلى أن هذا الاختلاف غير داخل في هذه المسألة وأنه يحد ولا يصدق في إنكاره الوطء بعد الزنى لإقرار صاحبه به عليه. وليس هذا بشيء لأن إقرار أحدهما على صاحبه شهادة منه عليه بالإحصان، ولا تجوز شهادة شاهد واحد بالإحصان. فصل فأما من لم يحصن بالتزويج من الأحرار فحده جلد مائة وتغريب عام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام». وقوله في حديث مالك وجلد

فصل

ابنه مائة وغربه عاما. ولا تغريب على النساء ولا على العبيد. هذا قول مالك وجميع أصحابه خلافا لأبي حنيفة في قوله لا تغريب على الزاني إلا أن يرى ذلك الإمام فيفعله على سبيل التعزير لا على سبيل الحد. قالوا لأن الله قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولم يذكر التغريب، فكان إثباته زيادة في النص، والزيادة في النص نسخ، ولا يصح نسخ القران بأخبار الآحاد. ولا يسلم أن الزيادة في النص نسخ على الإطلاق، بل هو حكم آخر إذا لم تغير الزيادة فيه الحكم الأول، والتغريب ثابت بالسنة، والجلد ثابت بالقران. وقال الشافعي تغرب المرأة الحرة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام». وله في الأمة والعبد قولان: أحدهما أنهما لا يغربان. والثاني أنهما يغربان لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب! فعم، ولأنه حد يتبعض فكان للعبد فيه مدخل. ودليلنا على سقوط التغريب عن النساء قوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها»، وفي سقوطه عن العبد قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَالَ {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فلم يذكر تغريبا فلا نثبته إلا حيث يقوم الدليل، مع ظاهر «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها» فكرر الجلد ولم يكرر التغريب. ومعلوم أن الجلد من حدود الزنى فكان التغريب أولى بالذكر لو كان واجبا. وأيضا فإن خدمة العبد مستحقة لسيده فلا تسبقه إلا بدليل. والتغريب هو أن يحبس في غير بلده عاما على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعلى قول مطرف وروايته عن مالك أيضا المحبس دون النفي. فصل وسواء زنى حر بحرة أو عبد بأمة أو حر بأمة أو عبد بحرة يكون على من كان رقيقا منهما حد العبيد وعلى من كان حرا منهما حد الأحرار، إلا ما يحكى عن الأوزاعي أن العبد إذا زنى بحرة رجم وإذا زنى بأمة جلد. وهذا فاسد لأن الزاني لا

فصل

يختلف حده إلا باختلاف أحواله في نفسه لا باختلاف أحوال المزني بها. فصل والزنى الذي يوجب الحد على الزاني البالغ العاقل المسلم بإجماع هو أن يزني بآدمية يوطأ مثلها لا شبهة له في ملكها حية غير حربية في بلد الحرب طائعا غير مكره عالما بحرام ذلك. وإنما قلنا بآدمية لأنه إن زنى ببهيمة من البهائم لم يجب عليه حد إلا ما وقع في كتاب ابن شعبان من أن الحد في ذلك واجب عليه وهو بعيد. وإنما قلنا غير حربية في بلد الحرب لأن أشهب يقول من زنى بحربية في بلاد الحرب فلا حد عليه. وإنما قلنا لا شبهة له في ملكها لأن من زنى بأمة ولده أو بأمة له فيها شرك فلا حد عليه. وإنما قلنا حية لأن ابن شعبان يقول من زنى بميتة فلا حد عليه، وهو قول محمد بن عبد الحكم حكاه ابن حارث. وإنما قلنا يوطأ مثلها لأنه قد روي عن مالك أنه من زنى بصغيرة لا يوطأ مثلها فلا حد عليه. وإنما قلنا طائعا غير مكره لأنه قد اختلف فيمن أكره على الزنى هل عليه حد أم لا، فقيل إنه لا حد عليه لأن الإكراه يرفع الحرج عمن أكره فيما بينه وبين الله تعالى. فإن كانت المرأة هي المكرهة له على أن يزني بها ارتفع عنه الحرج في الزنى جملة. وإن كان غيرها هو المكره له على الزنى لم يكن عليه إثم إلا من قبلها ووجب عليه الأدب من أجل ذلك كما وجب على المكره له على ذلك. وقيل إنه يحد لأنه لا ينعظ ويطأ إلا باختياره وإرادته، وليس ذلك بصحيح، لأنه لم يختره راضيا بفعله وإنما اختاره على القتل مضطرا إليه كارها له غير راض به. وإنما قلنا عالما بحرام ذلك لأن أصبغ من أصحابنا يرى الجهل بتحريم الزنى شبهة تسقط الحد. وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وجماعة من السلف، وهو الصواب إذا صحت الجهالة وبالله التوفيق. فصل ولا يحد الزاني إلا باعتراف أو حمل ظاهر أو بأربعة شهود عدول يشهدون على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة.

فصل

فصل فأما وجوب الحد بالاعتراف فلا خلاف فيه إذا كان المعترف على نفسه بالغا عاقلا يصح منه الاعتراف ليس بصبي ولا مجنون. والأصل في ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن يلزمه ويؤخذ به. وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية. وأما السنة «فرجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا بإقراره على نفسه» «ورجمه المرأة التي أقرت بالزنى على نفسها إذ جاءت وهي حامل فقال لها: اذهبي حتى تضعي فلما وضعت قال: اذهبي حتى ترضعيه» الحديث. وقوله «يا أنيس اغدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» في حديث العسيف. وإنما اختلفوا هل يقام الحد بإقراره على نفسه مرة واحدة أو لا يقام عليه حتى يقر على نفسه أربع مرات. فقال مالك والشافعي إنه يقام عليه بإقراره مرة واحدة إذا ثبت عليه ولم يرجع عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام عليه الحد حتى يقر على نفسه أربع مرات في أربع مجالس، وهو مذهب ابن شهاب على ما روي «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهد على نفسه أربع مرات فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجم». وهذا لا حجة لهم فيه لأنه إنما أقر على نفسه أربع مرات لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه استثباتا في أمره، لأنه خشي أن يكون به جنة فلما سأل عنه وأخبر أنه صحيح أمر به فرجم. وقد قال في حديث العسيف «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يقل أربع مرات، ولو كان ذلك واجبا لقاله.

فصل

واختلفوا أيضا في رجوعه عن الإقرار، فالذي عليه فقهاء الأمصار أنه يقال ويقبل رجوعه. وقال ابن أبي ليلى وعثمان التيمي لا يقبل رجوعه. وقال ابن الماجشون من أصحابنا يقال إذا قال إنما أقررت لوجه كذا وكذا بما يشبه. وهو دليل أحد قولي مالك في المدونة. وقال الأوزاعي إذا رجع عن إقراره على نفسه أربع مرات قبل إقامة الحد عليه حد حد القذف لأنه قد قذف نفسه، وهذا بعيد. والصحيح أنه يقال وإن جحد الإقرار أصلا. والأصل في ذلك «أن ماعز بن مالك لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال: ردوني إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يردوه وقتلوه رجما، فلما علم بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فهلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه». واختلفوا في هذا المعنى في إقرار الأخرس على نفسه بالإشارة، فقال الشافعي ومالك إنه يقام عليه الحد بإقراره إذا فهم عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام عليه الحد بإقراره بالإشارة لأنه لا يمكنه أن يفرق بها بين الوطء الحلال ووطء الزنى، وهذا غير صحيح، لأن ذلك يمكن أن يعبر عنه بالإشارة تعبيرا يفهم عنه ويقطع عليه منه. فصل وأما ظهور الحمل ممن لم يعلم لها في الظاهر زوج. فاختلف فيه مذهب مالك وأصحابه إلى أن ذلك يوجب عليها الحد إلا أن تكون لها بينة على أنها تزوجت أو استكرهت. وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يقام عليها الحد لأنها يشبه ألا تكون زنت. والغالب من حال الناس عدم الزنى فلا يجب أن يحمل عليها الزنى إلا بيقين، وأشد ما في هذا أن تكون شبهة تذهب عنها الحد. وهذا ليس بصحيح، لأن هذا لو كانت شبهة لوجب أن يكون قوله إذا شهد عليها بالزنا إنها امرأتي شبهة تسقط عنه الحد. ولو كان ذلك لم يكن سبيل إلى إقامة الحد في الزنى أبدا. وأيضا فإن إقامة الحد عليها إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن

فصل

إذا قامت البينة أو كان الحمل والاعتراف، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فدل على إجماعهم على ذلك وقولهم به. فصل وأما وجوب حد الزنى بالبينة فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الحد لا يقام بأقل من أربعة شهداء رجال عدول على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة. والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]. وقد حكي عن قوم أنهم أجازوا في الزنى شهادة ثلاثة رجال وامرأتين وذلك خلاف للقرآن. وقد قيل في اختصاص الشهادة في الزنى بأربعة شهداء من بين سائر الأشياء غير ما وجه، منه أن القاذف لا ضرورة به إلى القذف فغلظ عليه في ذلك بزيادة عدد الشهود ليتعذر عليه غالبا فيحد فيكون ذلك ردعا له عن معاودة القذف ودفعا للمضرة عن المقذوف. ومنه أن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، فلما لم يكن على الشهود بالزنى القيام بشهادتهم فقاموا بذلك من غير أن تجب عليهم وتركوا ما أمروا به من الستر غلظ عليهم في ذلك سترا من الله على عباده. وهذا أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل إنما احتج في الزنى إلى أربعة شهداء لأنه بمنزلة فعلين لأن الزنى منه ومنها، منه الفعل ومنها التمكين، فاحتاج كل فعل إلى شاهدين وهذا فيه نظر، وبالله التوفيق. فصل فإن شهد على معاينة الزنى أقل من أربعة شهود حدوا ولم يعذروا بأنهم جاءوا على وجه الشهادة لا على وجه القذف، ولا اختلاف في هذا. واختلف إذا شهد أقل من أربعة على شهادة أربعة بمعاينة الزنى، فقيل إنهم قذفة يحدون، وهو

فصل

ظاهر ما في المدونة. وقيل إنه لا حد عليهم إلا أن يقولوا هو زان أشهدنا فلان وفلان وفلان بذلك، بخلاف إذا قالوا أشهدنا فلان وفلان وفلان أنه زان، وهو قول ابن المواز، فلم يرهم قذفة إلا أن يبدؤوا في شهادتهم بذكر الزنا. فصل وإذا قلنا إنهم قذفة على ما في المدونة فلا يسقط الحد عنهم إلا ما يوجب على المشهود عليه بالزنا، وذلك أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم يشهدون على شهادة أربعة أو على معاينة الزنى على مذهب ابن القاسم في المدونة ورواية عيسى عنه في الشهادات من العتبية، أو يأتوا إن كانوا ثلاثة بشاهد واحد يشهد معهم على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه على رواية يحيى عن ابن القاسم التي لا يشترط فيها في صحة الشهادة على الزنى أن يأتي الشهود معا. فصل وإذا قلنا أيضا إنهم قذفة فهل يحد الشهود على شهادتهم إن أنكروا الشهادة أو أنكرها واحد منهم أو كانوا أقل من أربعة؟ يجري ذلك على الاختلاف في سقوط شهادة القاذف إن كانت تسقط بنفس القذف أو بإقامة الحد عليه وهو مذهب ابن القاسم خلاف قول أصبغ وأحد قولي ابن الماجشون وقول الشافعي. فصل وإذا قلنا إن الشاهدين على شهادة غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة ليسوا بقذفة إلا أن يقولوا هو زان على ما ذهب إليه محمد ابن المواز، فيجب بشهادتهم على المشهود على شهادتهم الحد إن كانوا أقل من أربعة أو أنكروا الشهادة أو أنكرها

فصل

واحد منهم، إلا أن يكون الشاهد على شهادتهم واحدا فلا تجوز شهادته ويحد هو لانفراده. وقد قيل إنه لا يحد. فيتحصل في النقلة عن غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة أو نقلوا عن أقل من أربعة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا حد عليهم كانوا أكثر من واحد أو واحدا. والثاني: أن عليهم الحد كانوا أكثر من واحد أو واحدا. والثالث: أنه يحد إن كان واحدا ولا يحدون إن كانوا جماعة أكثر من واحد. فصل وأما إن قال الشاهد سمعت فلانا يقول إن فلانا زان ولم يشهد على شهادته فليس بقاذف إلا أن يعجز عن أن يثبت ذلك بشاهدين، ولا اختلاف في هذا. وكذلك إذا قال الرجل عند الإمام أو عند غير الإمام إن فلانا يقول إنك زان وإن لم يشهد على شهادته، فتدبر ذلك تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.

كتاب القذف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد كتاب القذف فصل في بيان تحريم القذف حرم الله تبارك وتعالى أعراض المسلمين كما حرم دماءهم وأموالهم في كتابه وعلى لسان رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت». فصل فإذاية المسلمين في أعراضهم تنقسم على قسمين: أحدهما: أن يذكر الرجل أخاه المسلم بما فيه مما يكره سماعه.

فصل

والثاني: أن ينسب إليه ما ليس فيه. فأما إذا ذكره بما فيه مما يكره سماعه فإن قال ذلك في مغيبه فهي الغيبة التي حرمها الله عز وجل على عباده حيث يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] وليس فيها إلا الندم والاستغفار والتحلل من المغتاب. وأما إن قال ذلك في حضوره مواجهة له على سبيل التنقص والغض منه فهو البهتان، وفيه الأدب على حال القائل والمقول له بالاجتهاد. فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن ينسب إليه ما ليس فيه فإنه ينقسم على قسمين: أحدهما: أن ينسب إليه الفاحشة الموجبة على فاعلها الحد حد الزنى، أو أنه كان عن فاحشة توجب حد الزنى وذلك بنفيه عن أبيه. والثاني: أن ينسب إليه ما لا يجب على فاعله حد الزنى أوجب ذلك حدا أو أزيد. فأما إذا نسب إليه ما لا يوجب على فاعله حد الزنى فإن حكم ذلك حكم السب، فعلى فاعل ذلك الأدب بالاجتهاد على حال القائل والمقول له فيه، سواء كان ذلك في مغيبه أو في حضوره مواجهة له. وأما إن نسب إليه ما يجب على فاعله حد الزنى فهو القذف الذي حرمه الله على عباده ولعن فاعله في الدنيا والآخرة وتوعد عليه بالعذاب العظيم حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]، يريد بالمحصنات

فصل

العفائف وبالغافلات الغافلات عن الفواحش والفجور لم يفطن لها ولا عرفن بها، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]. فصل إلا أن أهل العلم بالتأويل قد اختلفوا في المحصنات اللائي حكمهن هذا. فقالت طائفة: إن الآية نزلت في شأن عائشة وما كان من قول أهل الإفك فيها، فهذا الحكم لها خاصة دون سائر النساء المؤمنات المحصنات. وقالت جماعة: بل ذلك لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون سائر نساء المؤمنين. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليهن، فهي مبهمة لم يجعل الله لهم توبة. والآية الأخرى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، قال في آخرها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] فجعل لهم توبة. فلا توبة لمن قذف أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال: فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه استحسانا لتفسيره. وقد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن عائشة وعني بها كل من كان في الصفة التي وصف الله فيها فهي عامة في كل محصنة لم تقارف سوءا. وقال بذلك جماعة: إن الآية نزلت في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول النور فأوجب الجلد وقبل التوبة. وهذا الأظهر إن شاء الله لأن الآية عامة فتحمل على عمومها في وجوب العذاب العظيم واللعنة في الدنيا والآخرة لكل من قذف محصنة عفيفة لم يعلم أنها قارفت سوءا ولا ألمت بفاحشة، إلا أن يتوب فإن الله تعالى إن شاء قبل توبته على ما ورد في الآية الأولى. وكما لم تقتصر الآية الأولى في وجوب الجلد على أصحاب الإفك وكان الحكم فيمن قذف كل محصنة ومحصن إلى يوم القيامة أن يجلد الحد كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحاب الإفك عبد الله بن أبي سلول وحسان

فصل

بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاءة كذلك لا تقتصر الآية الثانية فيما تضمنت من الوعيد على من قذف عائشة أو سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو وجب أن يقصر على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من أجل أن سبب نزولها كان من شأنها وقول أهل الإفك فيها لوجب أن تقصر آية اللعان على هلال بن أمية، وآية السارق على سارق رداء صفوان بن أمية، وآية الظهار على أوس بن الصامت، لأن ما جرى من شأنهم كان سببا لنزول هذه الآيات، فإذا لم يجب هذا لم يجب هذا. فصل وأما ما روي عن ابن عباس من إنفاذ الوعيد على من قذف أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس بصحيح، لأن الله قد قبل توبة من تاب من أصحاب الإفك. والدليل على ذلك أن الله عاتب أبا بكر الصديق قطعه الإنفاق على مسطح ابن خالته وغيره من ذوي قرابته فقال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. فقال أبو بكر: بلى يا رب إني أحب أن يغفر الله لي، فأعاد إليهم النفقة. وقد كان حسان ابن ثابت يدخل على عائشة فتكرمه. وروي عن مسروق أنه قال: كنت عند عائشة فدخل عليها حسان بن ثابت مرة فأمرت فألقي له وسادة فشبب بأبيات له حيث يقول: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت عائشة: أما إنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد قال ما قال وقد أنزل الله فيه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، قالت إنه كان يدفع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والصحيح أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول وكان من المنافقين. وأما حسان بن ثابت فقد أنكر قوم أن يكون ممن خاض في الإفك أو جلد فيه،

فصل

ورووا أن عائشة برأته من ذلك. وروي أنها كانت تطوف فسمعت امرأتين تذكران حسان بن ثابت فابتدرتاه بالسب فأنكرت عائشة ذلك عليهما وقالت: ابن الفريعة تسبان، والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلسانه، أليس القائل: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء فقالتا لها: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي والله أعلم. فصل وكيف ما كان فلا يختلف أهل العلم أن قذف المحصنات من الكبائر الموبقات. روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «قذف المحصنات يحبط عمل مائة سنة» وهذا عند غير واحد من المدنيين ما لم يتب أو يحد فإذا أخذ منه الحد أو تاب كفر ذلك عنه اللعنة وهي الإبعاد وعاد إليه ثواب العمل. فصل وأصل الحد قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5].

فصل

فصل والمراد بالمحصنات في هذه الآية الحرائر العفيفات. والإحصان الذي يوجب الحد في القذف هو الإحصان بالحرية والإسلام الذي يوجب جلد مائة في الزنى ويدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الرجال والنساء، لأنه لما كانت لا تزني امرأة إلا برجل اكتفى الله عز وجل بذكر المحصنات عن المحصنين، وهو أمر متفق عليه، لا اختلاف عند أحد من المسلمين أن قذف المحصن كقذف المحصنة في وجوب الحد ولحوق الإثم. فصل وهذا المعنى يدل على أن قاذف الجماعة حدا واحدا، لأن قاذف المحصنة قاذف للذي زنى بها ولم يوجب الله تعالى عليه إلا حدا واحدا مع قوله أيضا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وهن جماعة. وهذا موضع اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: قول مالك ومن قال بقوله إن عليه حدا واحدا، قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين في مجالس شتى، وهو مذهب أبي حنيفة. والدليل على ذلك ما قلناه، ولا اختلاف في هذا بين أحد من أصحاب مالك. فإذا قذف الرجل جماعة فحد لأحدهم فذلك الحد لكل قذف تقدم قام طالبوه أو لم يقوموا عند مالك وأصحابه، حاشى المغيرة فإنه يقول إن طالبوه مفترقين حد لكل واحد منهم. وحكى ابن شعبان عن بعض أصحابنا لصاحب يا بن الزانيين وأمه حرة مسلمة حد حدين لحرمة الصحابي. والثاني: قول الشافعي إن عليه الحد لكل واحد منهم، قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين في مجالس شتى. [والثالث قول ابن أبي ليلى التفرقة بين أن يقذفهم في كلمة واحدة أو في

فصل

مجالس شتى] وقال عثمان البثي: إن قذف جماعة حد لكل واحد منهم، وإن قال لرجل زنيت بفلانة حد حدا واحدا. قال لأن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة. وهذا قول لا يعضده قياس ولا نظر، إذ لا فرق بين أن يقول فلان وفلانة زانيان أو يقول زنى فلان بفلانة. فصل وحد العبيد في القذف على النصف من حد الأحرار قياسا على حد الزنى لقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء الأمصار وأكثر العلماء، وروي ذلك عن جماعة الخلفاء أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وروي عن ابن مسعود أن العبد يجلد في القذف ثمانين لأن العلة في ذلك عندهم أن القذف حق للمقذوف، فلزم فيه النصراني ما يلزم المسلم، فوجب أن يلزم فيه العبد ما يلزم الحر، لأن النصراني أدنى مرتبة من العبد. فإذا لم ينقص النصراني من الثمانين في القذف لنقص مرتبته على مرتبة المسلم فأحرى ألا ينقص العبد، كما لو غصبت المرأة نفسها لكان لها صداق مثلها، حرا كان غاصبها أو عبدا أو كافرا، لأنه حق لها كحد القذف. وليس كذلك الزنى لأنه حق لله تعالى، لا حق فيه لمخلوق، فلذلك كان الحد فيه على المراتب: العبد خمسين، والحر مائة، والمحصن الرجم، والنصراني لا شيء عليه إلا أن يعلنه فيؤدب لإعلانه، أو يكون ذميا فيرد إلى دينه. فلعمري إن من أوجب على العبد في القذف ثمانين جلدة كما يجب على الحر لهو أسعد بالقياس إلا أن جل أهل العلم على أن على العبد في القذف أربعين قياسا على حد الزنى، وهو في الخلفاء الراشدين المهديين. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد».

فصل

فصل وقد ظن أهل الظاهر أن قول ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز ومن قال بقولهما يجلد العبد في الفرية ثمانين نفي للقياس وفرار عن قياس العبد على الأمة، وليس ذلك نفيا للقياس ولكنه نفس. القياس ومحضه وحقيقته على ما بيناه. فصل ولا خلاف أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف أهل العلم هل يتعلق به حق الله أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتعلق به حق لله تعالى فلا يجوز فيه العفو، بلغ الإمام أو لم يبلغ. وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه تدل رواية أشهب عن مالك في العتبية. ويأتي على قياس هذا القول أن حد القذف يقيمه الإمام إذا انتهى إليه، رفعه إليه صاحبه أو أجنبي من الناس. والثاني: أنه لا يتعلق به حق لله تعالى، ولصاحبه أن يعفو عنه بلغ الإمام أو لم يبلغ. وهو أحد قولي مالك في كتاب السرقة والرجم من المدونة. والثالث: أنه حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغ الإمام صار حقا لله ولم يجز لصاحبه أن يعفو عنه إلا أن يريد سترا. وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقد وقع في المدونة في الذي يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه يقيم عليه الحد إذا كان معه شهود. فتأول محمد بن المواز أن معنى ذلك إذا جاء المقذوف وقام بحقه على أحد قولي مالك. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وغيره أنه يقيمه عليه وإن كان المقذوف غائبا، وهذا يأتي على قول مالك الآخر، وبالله التوفيق. فصل والحد يجب في التصريح بالقذف والتعريض البين الذي يرى أن صاحبه أراد

فصل

به قذفا. هذا قول مالك وأصحابه خلافا للشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما في قولهما إن التعريض لا يجب فيه الحد وإنما فيه الأدب. وقال أصحاب الشافعي إلا أن يقول أردت به القذف فيحده والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنا إنما تعبدنا بالمعاني لا بالألفاظ، لأن الألفاظ قد ترد وظاهرها خلاف المراد بها. فإذا فهم مراد المتكلم بها وقصده منها كان الحكم له لا للفظ. قال الله عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] فهذا لفظ ظاهره الأمر والمراد به المفهوم منه النهي الذي هو ضد الأمر، فقام المفهوم من اللفظ عند سامعه مقام التصريح له به. وهذا كثير موجود في القرآن ولسان العرب. وقال الله عز وجل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أرادوا إنك لأنت الأحمق السفيه، فالكلام ظاهره المدح والمفهوم منه السب والاستهزاء فهو أبلغ من التصريح بالسب. وكذلك قد يكون من التعريض ما هو أبلغ من التصريح بالقذف، مثل أن يتساب الرجلان فيقول أحدهما لصاحبه يا بن الفاعلة يا بن الصانعة يا بن العفيفة التي لم تزن قط ولا ألمت بفاحشة. فهل يشك أحد أو يمتري أن هذا أبلغ وأشد من قوله يا بن الزانية. فصل وقد احتج الشافعي في إسقاط الحد في التعريض بالقذف بقول الله عز وجل وقوله الحق: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] قالوا فقد منع الله من المواعدة في العدة وأباح التعريض بذلك، وهو احتجاج فاسد يلزمه عليه أن يبيح التعريض بالقذف لأن الله أباح التعريض في النكاح في الحال الممنوع منه. وهذا قول من لم يفهم معنى الآية. إنما منع الله من المواعدة، والمواعدة مفاعلة من اثنين فلا تكون مواعدة إلا منهما جميعا أو منه ومن وليهما، وذلك يشبه العقد،

فصل

لما جاء من النهي عن الإخلاف بالوعد وكره لأحدهما أن يعد صاحبه بالنكاح لئلا يبدو له فيخلف بالوعد. وكره لأحدهما أن يعد صاحبه بالنكاح ليلا يبدو له فيخلف بالوعد. فإذا عرض بالوعد ولم يصرح به لم يكن فيه موضع للكراهة. فصل ومما يقطعهم ويبطل مذهبهم جملة أن يقال لهم: لا بد لكم من أحد وجهين: إما أن تقولوا إن التعريض لا يفهم منه القذف أصلا. أو تقولوا إنه يفهم منه القذف ولا يجب فيه الحد. فإن قالوا لا يفهم منه القذف قيل لهم ما تقولون في رجلين تسابا فقال أحدهما لصاحبه يا بن الزانية فقال مجاوبا له: ومثلك يقول لأحد يا بن الزانية وأمك العفيفة المشهورة بالعفاف التي لم تزن قط ولا مرة واحدة من عمرها. فإن قال قائل: إن مثل هذا لا يفهم منه القذف إلا أنه لا يجب فيه الحد قيل لهم: فما الفرق بين ذلك وبين أن يقول أردت به القذف؟ ولا خلاف بيننا وبينهم أنه إذا أقر على نفسه أنه أراد به القذف أنه يحد، وهذا ما لا انفصال لهم عنه. فصل فحد القذف يجب بسبعة أوصاف، خمسة في المقذوف وهي: الإسلام، والحرية، والبلوغ، والعفاف، وأن يكون معه متاع الزنا ليس بحصور ولا مجبوب قد جب قبل بلوغه، واثنان في القاذف وهي البلوغ، والعقل. ومن الناس من قال بثمانية أوصاف فزاد في المقذوف العقل، وليس ذلك بصحيح لأنه داخل تحت العفاف. فإن انخرم وصف من هذه الأوصاف سقط الحد، وإن اجتمعت وجب

فصل

الحد. فلا يخلو القاذف من أن يكون حرا أو عبدا. فإن كان حرا فحده ثمانون، وإن كان عبدا فحده أربعون على مذهب مالك ومن قال بقوله. وقد تقدم ذكر اختلاف في ذلك وتوجيه كل قول. فإذا ثبت هذا فالبلوغ في القاذف بلوغ الحلم في الرجال أو الحيض في النساء، وفي المقذوف الحلم في الرجال وإمكان الوطء في النساء على مذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه، وفي ذلك اختلاف. قال محمد بن الجهم ومحمد بن عبد الحكم: لا حد على من قذف صبية لم تبلغ المحيض. فصل ويجب حد القذف على مذهب مالك في وجهين: أحدهما: أن يرميه بالزنا، والثاني: أن ينفيه من نسبه وإن كانت أمه أمة أو كافرة إما بتصريح وإما بتعريض بين يقوم مقام التصريح في الوجهين على ما بيناه. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا نفاه من نسبه وأمه أمة أو نصرانية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة. فصل ويجب بوجهين: أحدهما: إقرار القاذف على نفسه بالقذف. والثاني: أن يقوم به جمليه شاهدا عدل من الرجال. فصل وفي إجازة شهادة النساء فيه وثبوته باليمين مع الشاهد، أو إيجاب اليمين على القاذف بالشاهد الواحد أو بالدعوى إذا لم يكن شاهد اختلاف بين أصحابنا. يجري الاختلاف في ذلك على الاختلاف في إجازة شهادة النساء في جراح العمد وفي القصاص باليمين مع الشاهد.

فصل

فصل فإن اتفق الشاهدان على اللفظ في الشهادة واختلفا في المواطن جازت الشهادة، وهذا ما لا اختلاف فيه من قول ابن القاسم إن الأقوال تلفق إذا اتفق اللفظ أو اختلف واتفق المعنى وإن تفرقت المجالس والأوطان. وأما إن اختلف اللفظ والمعنى واتفق ما يوجب الحكم من الشهادة، مثل أن يشهد أحدهما أنه قال له يا زان ويشهد الآخر أنه قال له ليس أبوك فلان، فالمشهور أن الشهادة لا تجوز، مثل أن يشهد أحد الشاهدين على الرجل أنه صالح امرأته ويشهد الآخر أنه طلقها ثلاثا على أنها بائنة منه فيفرق بينهما بشهادتهما. فيأتي على هذا القول أن يحد المشهود عليه بشهادة الشاهدين لأنهما قد اجتمعا على إيجاب الحد عليه. وذلك أيضا مثل أن يشهد أحد الشاهدين أنه قال إن ركبت الدابة فامرأتي طالق ويشهد الآخر أنه قال إن دخلت الدار فامرأتي طالق، فركب الدابة ودخل الدار. اختلف في ذلك أيضا، والمشهور أن الشهادة لا تلفق ولا تجوز. وأما إن اختلف اللفظ في الشهادة واختلف ما يوجبه من الحكم فلا تلفق الشهادة باتفاق. وأما الأفعال فإنها لا تلفق وإن اتفقت المواطن على مذهب ابن القاسم، إلا فيما يستند إلى القول كشرب الخمر، لأن الحد فيه مبني على القذف، لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. وكالرجل يحلف بالطلاق لا يدخل الدار فيشهد عليه رجل أنه دخلها يوم السبت ويشهد عليه آخر أنه دخلها يوم الجمعة أو يوم الأحد وما أشبه ذلك. وقال محمد بن مسلمة وابن نافع: لا تلفق الأفعال في موضع من المواضع، وابن الماجشون يلفق الأفعال إذا اتفقت الشهادة في الزنا وإن اختلفت المواطن. وأما إن اختلفت الأفعال فلا تجوز الشهادة وإن اتفق ما توجب من الحكم. فصل واختلف أهل العلم هل تسقط شهادة القاذف بنفس القذف أو لا تبطل حتى

يقام الحد عليه على قولين. فذهب مالك وأكثر أصحابه وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن شهادته جائزة حتى يقام الحد عليه، وقال الشافعي: لا تجوز شهادته قبل الحد ولا بعده وقال: هو قبل الحد شر منه بعد الحد، لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وهو مذهب ابن الماجشون وأصبغ. والصحيح ما ذهب إليه مالك لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فإنما نهى الله عن قبول شهادتهم إذا لم يأتوا بأربعة شهداء، وللقاذف الإتيان بالشهادة ما لم يحد، فهذا يبين أن شهادته لا تسقط إلا بإقامة الحد عليه، وما لم يقم عليه الحد فلم يتبين فسوقه لاحتمال أن يأتي بالشهداء أو يعفو عنه المقذوف أو يقر بما رماه به من الزنا. وهذا كله بين لا إشكال فيه. واختلف أهل العلم في قبول شهادة القاذف إذا تاب، فمنهم من قال إنها مقبولة وهو مذهب مالك والشافعي وأصحابهما، ومنهم من قال إنها لا تقبل وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. قالوا لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فالاستثناء إنما يعود على التفسيق دون قبول الشهادة. وهذا غير صحيح لأن المعنى الذي من أجله لم تقبل شهادته هو التفسيق. فإذا ارتفع التفسيق وجب قبول الشهادة. ومعنى قوله في الآية أبدا ما لم يتب، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا ويكون معناه ما لم يسلم. هذا أولى ما يحتج به لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد قيل إن مالكا إنما رأى شهادة القاذف مقبولة إذا تاب، لأن من مذهبه أن الاستثناء الوارد عقب الجملة المعطوف بعضها على بعض بالواو راجع إلى جميعها لا إلى أقرب مذكور منها، وهو معنى حسن أيضا. واختلف في صفة توبة القاذف التي إذا تاب منها قبلت شهادته على قولين: أحدهما: أن توبته أن يكذب نفسه ويعترف أنه قال البهتان وتاب إلى الله من ذلك.

والثاني: أن توبته من ذلك صلاح حاله وندمه على ما فرط من ذلك والاستغفار منه وتركه العود في مثل ذلك من الجرح، وهو قول مالك وهو أصح، لأن توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود والندم والاستغفار منه. فإن كان فاسقا عرفت توبته بانتقاله من حال الفسق إلى حال الصلاح، وإن كان صالحا فتعرف توبته بتزيده في الخير وارتفاع درجته فيه، وبالله سبحانه التوفيق.

كتاب الديات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين وصلى الله على محمد كتاب الديات فصل في تحريم القتل وما جاء في ذلك حرم الله تبارك وتعالى على عباده قتل النفس بغير حق وأوعد على ذلك بالنار الأليم والعذاب العظيم، منذ أهبط آدم إلى الأرض، لم تختلف في ذلك الشرائع والملل. قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] فلولا أن الله حرم ذلك على آدم وولده وتواعدهم على ذلك لما قال المقتول من ابني آدم لأخيه القاتل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29]. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نفس قتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها».

فصل

فصل وضرب الله لعباده المؤمنين مثلا فيما قص عليهم من نبإ ابني آدم المذكورين ليتأسوا بفعل المتقي منهما، وأعلم تبارك وتعالى عباده أن قتل النفس بغير حق كقتل جميع الخلق في عظم الإثم إعذارا إليهم لتقوم الحجة بذلك عليهم، فقال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الآية. وروي عن مجاهد قال: جعل الله جزاء من قتل نفسا مؤمنة بغير حق جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، فلو قتل جميع الخلق لم يزد من العذاب على ذلك، وما سماه الله عظيما فلا يعلم قدره إلا هو عز وجل. فصل فالقتل ذنب عظيم من أعظم الذنوب وأجل الخطايا وأكبر الكبائر ليس بعد الشرك ذنب أعظم منه عند الله. وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، ثم أن تزني بحليلة جارك». وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من شارك في دم امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عنه أنه قال: «من لقي الله ولم يشرك ولم يقتل لقي الله خفيف الظهر» والأخبار الواردة في القتل كثيرة، وكفى من ذلك ما جاء في القرآن.

فصل

فصل وجميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب منها قبل المعاينة بإجماع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] وعسى من الله واجبة. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وقول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». فإن مات ولم يتب منها كان في المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] معناه لمن شاء. إلا القتل عمدا فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين: ذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق له، ممن روي ذلك عنهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت. روي أن سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عمن قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له من توبة فكلهم قال: هل تستطيع أن تحييه؟ هل تستطيع أن تبتغي في الأرض نفقا أو سلما في السماء؟ وروي أن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، يعني أنه لا توبة له. وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول؟ فأعاد عليه، فقال ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثا ثم قال: ويحك! وأنى له بالتوبة؟ وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب. ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول

فصل

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا». فصل وذلك- والله أعلم- لأن القتل يجتمع فيه حق الله وحق للمقتول المظلوم. ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبة بذلك نفسه. فصل واختلف الذاهبون إلى هذا المذهب في حكم الآيتين الواردتين في قتل النفس التي حرم الله: آية النساء قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وآية الفرقان قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70]. ومنهم من ذهب إلى أن الآيتين محكمتان، وأن آية الفرقان نزلت في المشركين، وآية النساء نزلت في المسلمين، وتأول أن الخلود المذكور فيها غير مؤيد لأنه لا يخلد في النار على التأبيد إلا الكفار.

فصل

فصل وأما من قال: إن القاتل مخلد في النار فقد أخطأ وخالف أهل السنة، لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما كسب من صالح أعماله، لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن عمل حسنة ومات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسنته فإنه يقول تعالى وقوله الحق: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال عز من قائل: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. فصل وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة. فممن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم. واختلف من صار إلى هذا المذهب أيضا في حكم الآيتين المذكورتين. فمنهم من قال إلى أن اللينة نسخت الشديدة، ومنهم من قال إنهما محكمتان واردتان في الكفار واستدل على ذلك بما فيهما من ذكر الخلود في النار الذي هو من صفة عذاب الكافرين، لأن من أدخل النار من الموحدين فلا بد أن يخرج منها بالشفاعة. ومنهم من قال إن آية الفرقان وردت في الكفار، وآية النساء في المسلمين، إلا أن معناها أن ذلك جزاؤه إن جازاه ولم يغفر له، بدليل قَوْله تَعَالَى:

فصل

{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه قال: «هو جزاؤه إن جازاه». ومنهم من قال في آية النساء إن المراد بها من قتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله. فصل والصواب إن شاء الله أن الآيتين محكمتان غير منسوختين، لأنهما وردتا بلفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. وأما المذهبان فلكليهما وجوه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة. فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب، ويناله شديد العقاب، ولمن واقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا ييأس من رحمة الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة؟ يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين منه أنه لم يقتل قال لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل قال له توبة. وإن هذا تحسن من الفتوى. فصل ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن قادوا منه وإلا بذل لهم الدية وصام شهرين متتابعين أو أعتق رقبة إن كان واجدا، أو أكثر من الاستغفار. ويستحب أن يلازم الجهاد ويبذل نفسه لله، روي هذا كله عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفيه دليل على الرجاء في قبول توبته.

فصل

فصل واختلف أيضا في القاتل إذا أقيد منه هل يكون القصاص كفارة له أم لا على قولين: فمن أهل العلم من ذهب إلى أن القصاص كفارة له. واحتج بما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عبادة بن الصامت أنه قال: «الحدود كفارات لأهلها». ومنهم من ذهب إلى أن القصاص لا تكون له كفارة، لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص وإنما هو منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل، وهو معنى قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من حديث عبادة بن الصامت بهذا الدليل ويبقى الحديث مستعملا فيما هو حق لله لا يتعلق فيه حق لمخلوق والله أعلم وأحكم. ومن الدليل أيضا على أن القصاص من القاتل لا يكون كفارة له قول الله تبارك وتعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] فظاهره أن الحدود لا تكون كفارة لهم، وذلك والله أعلم لما تعلق بهم من حقوق المخلوقين. فصل وهذه المعاني كلها من أحكام الآخرة مردودة إلى الباري سبحانه وله أن يفعل ما يشاء عدل منه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. فصل وأما أحكام القاتل عمدا في الدنيا فأن يقتص منه على الشرائط التي أحكمتها

فصل

السنة، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. قال الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، معناه أن القاتل إذا علم أنه يقتص منه إن قتل أمسك عن القتل فحييا جميعا. وقيل إن معناه أن القاتل إذا اقتص منه تناهى الناس عن القتل فكان سببا لحياتهم. فصل فمن شرائط صحة القصاص على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، فيقتل الحر بالحر والحرة بالحرة والحرة بالحر والحر بالحرة، والعبد بالعبد والأمة بالأمة والعبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافر والكافرة بالكافرة والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد الكافر بالعبد الكافر والأمة الكافرة بالأمة الكافرة والعبد الكافر بالأمة الكافرة والأمة الكافرة بالعبد الكافر. فصل ويقتل العبد بالحر لأن الحر إذا كان يقتل بالحر لاستوائهما في الحرية فالعبد أولى أن يقتل به لمزية الحرية. ويقتل الكافر بالمسلم لأن المسلم إذا كان يقتل بالمسلم لاستوائهما في مرتبة الإسلام فالكافر أولى أن يقتل به لمزية الإسلام. فصل ولا يقتل الحر ولا الحرة بالعبد ولا بالأمة لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]

فصل

والعلة في ذلك نقصان مرتبة الحرية. فصل ولا يقتل المسلم ولا المسلمة بالكافر ولا بالكافرة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فدل ذلك على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن وإذا لم يكافيه فالقصاص مرتفع. فصل وإنما وجب القصاص بين الرجال والنساء إذا لم تكن مرتبة المقتول ناقصة عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، وأن يقتل الحر بالحرة والحرة بالحر، والعبد بالأمة والأمة بالعبد، وإن كان ذلك خلاف ما يدل عليه قول الله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] لأنه دليل يعارضه عموم قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فوجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالحرة والحرة بالحر، ووجب بالقياس مثل ذلك في العبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد النصراني بالأمة النصرانية والأمة النصرانية بالعبد النصراني. ولم يجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة والمسلم بالكافر والمسلمة بالكافرة لأن الآية إنما أريد بها الأحرار المسلمون. والدليل على ذلك أن الله لم يخاطبنا بها في شرعنا وإنما أخبر تعالى أنه كتبها في التوراة على موسى بن عمران صلى الله على

فصل

نبينا وعليه، وهم أهل ملة واحدة ولم تكن لهم ذمة ولا عبيد لأن الاستعباد إنما أبيح للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخص به وأمته من بين سائر الأمم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. ونصرت بالرعب مسيرة شهر. وأعطيت جوامع الكلام، وبعثت إلى الناس كافة» لقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. فصل وقوله في الآية: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] يدل أيضا على ما قلناه من أن الآية إنما أريد بها المسلمون الأحرار، لأن العبد لا يتصدق بدمه لأن الحق في ذلك لسيده، والكافر لا تكفر عنه صدقته. فصل ولو كنا المخاطبين بالآية في شرعنا لوجب أن يخص من عمومها قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ويخص من ذلك قتل المسلم بالكافر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر». فصل ومما يبطل أن يكون في قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دليل على أنه لا

فصل

تقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى ما روي من أنها إنما وردت ناسخة لما كانت عليه القبائل في الجاهلية من التعالي والتعزز بعضها على بعض فكان إذا عزت القبيلة القبيلة بكثرة العدد والمنعة وعلت عليها بذلك فقتل حر من القبيلة العزيزة لحر من القبيلة المعزوزة لم يسلموه للقصاص وبذلوا موضعه عبدا أو امرأة. وإذا قتل عبد من المعزوزة لعبد من العزيزة أو حرة لحرة لم يرضوا بالقصاص منهما وطلبوا موضع العبد حرا وموضع المرأة رجلا، فأمر الله عباده المؤمنين ألا يمتثلوا ذلك وأن يقتلوا الحر القاتل بالحر المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول، والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. ولا جائز أن يكون معنى الآية غير هذا لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأجمع المسلمون على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل على الشرط الذي ذكرناه، وهو ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، إلا أن من أهل العلم من قال إن الرجل إذا قتل بالمرأة قضي له بنصف الدية، وهو عثمان البتي، وهو قول مرغوب عنه ترده الأصول. فصل وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية تأويل جيد ظاهر رواه عنه أبو المصعب وهو أنه قال أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية: الحر بالحر أن معنى ذلك الجنس، الذكر والأنثى فيه سواء. وكذلك العبد بالعبد معناه الجنس الذكر والأنثى سواء. وأعاد تعالى ذكر الأنثى بالأنثى إنكارا لما كان من أمر الجاهلية. ألا ترى أن {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بالمساواة في ذلك الحرية في جنسها والعبودية في جنسها. وهذا جيد لأن الألف واللام إنما يدخلان على الواحدة للتعريف إما بالعهد وإما باستغراق الجنس، فإذا لم يكن عهد فلا بد أن يحمل على استغراق الجنس وإلا كان نكرة فكأنه قال تعالى على هذا التأويل الأحرار بالأحرار والعبيد بالعبيد.

فصل

فصل وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم الحر يقتل بالذمي المعاهد وبالعبد تعلقا بظاهر قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وبظاهر قول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فقالوا هذا عام في قتل كل نفس محرمة القتل. وتأولوا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر على أنه الكافر الحربي» وهذا كله خطأ فاحش. أما تعلقهم بقول الله عز وجل: أن النفس بالنفس فلا يصح لما قدمناه من أن الآية إنما كتبت على أهل التوراة وهم ملة واحدة لا ذمة لهم ولا عبيد كما للمسلمين، لأن الجزية فيء وغنيمة خص الله بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعباده المؤمنين. وكذلك تعلقهم بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] لا حجة لهم فيه لأنه ليس على عمومه في كل من قتل مظلوما، لأن الحربي المستأمن محرم القتل وقاتله ظالم له، وهو مخصوص عندهم من عموم الآية لا يقتل به المسلم فيلزمهم مثل ذلك في الذمي المعاهد وهم لا يقولونه فقد ناقضوا أيضا بالسيد يقتل عبده فقالوا إنه لا يقتل به وخصصوه من عموم الآية وإن كان مظلوما بقتل سيده إياه. وناقضوا أيضا بالجراح لأنهم قالوا إنه يقتل الحر المسلم بالعبد والكافر، ولا يفقؤون عينه بعينه، وكذلك سائر الجراح وذلك في نسق الآية، فزعموا أن النفس تساوي النفس وأن اليد لا تساوي اليد. فإن كانوا أرادوا الجسم فالمساواة ظاهرة وإن كانوا أرادوا الجنس فالجنسان مختلفان. فصل وتأويلهم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتل مسلم بكافر» على أنه أراد به الكافر الحربي من أبعد التأويلات وأبينها في الخطأ، لأن الحربيين قد أمر الله بقتلهم وجعل ذلك من أفضل الأعمال وأحبها إليه. فهل يجوز أن يتوهم متوهم أن من قتل من أمر الله بقتله ووعده على ذلك جزيل الثواب يجب عليه القتل حتى يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبين لنا أنه لا قود بيننا وبين أهل الحرب، هذا ما لا يشكل على أحد ولا يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيانه.

فصل في تقاسيم القتل

فصل في تقاسيم القتل والقتل يكون على ثلاثة أوجه: أحدها: ألا يعمد للضرب ولا للقتل. والثاني: أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل. والثالث: أن يعمد للقتل. فأما إذا لم يعمد للقتل ولا للضرب مثل أن يرمي الشيء فيصيب به إنسانا فيقتله، أو يقتل المسلم في حرب العدو وهو يرى أنه كافر وما أشبه ذلك، فهذا هو قتل الخطأ بإجماع، لا يجب فيه القصاص، وإنما تجب فيه الدية على العاقلة والكفارة في ماله. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] معناه لكن خطأ، فهو مستثنى منفصل عن المستثنى منه ومن غير جنسه، لأن الخطأ لا يقال فيه إن له أن يفعله ولا ليس له أن يفعله. فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عمده للضرب على وجه اللعب. والثاني: أن يكون على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب. والثالث: أن يكون على وجه النائرة والغضب. فأما الوجه الأول: وهو أن يكون على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك من الخطأ وفيه الدية على العاقلة، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.

فصل

والثاني: أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا أن يعفو أولياء القتيل، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك. وقد تؤول أن معنى قول ابن الماجشون وروايته عن مالك إن ضربه على وجه اللعب دون أن يلاعبه صاحبه أو لا يلاعبه إذا علم أنه لم يضربه إلا على وجه اللعب. والثالث: أن ذلك شبه العمد وفيه الدية مغلظة في مال الجاني ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، وقول ربيعة وابن شهاب وأبي الزناد. وقد قيل إن التفرقة بين أن يلاعبه أو لا يلاعبه قول رابع في المسألة. وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب على وجه الأدب وهو ممن يجوز له الأدب كالمؤدب والصانع فهو يجري عندي على الاختلاف في الذي يعمد للضرب على وجه اللعب ويدخل فيه الثلاثة الأقوال المذكورة في ذلك الوجه. ورأيت لأبي الوليد الباحي أن الاختلاف في هذا الوجه إنما هو راجع إلى تغليظ الدية ولا قصاص بحال. فصل هذا إذا علم أن ضربه كان على وجه الأدب، وأما إن لم يعلم إلا بقوله ودعواه ففي تصديقه على ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يصدق ويقتص منه لأن العداء قد ظهر والقصاص قد وجب وهو يدعي ما يسقطه عنه. والقول الثاني: أنه يصدق في ذلك وإذا صدق فيه فهو بمنزلة إذا علم بالبينة ودخل الاختلاف المذكور في ذلك.

فصل

وأما الوجه الثالث: وهو أن يكون الضرب على وجه النائرة والغضب ففيه قولان: أحدهما: وهو المشهور عن مالك المعروف من قوله أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه والأم والجد فإنه لا يقتص منه وتغلظ الدية عليه في ماله. وهذا قول مالك في المدونة لأنه أنكر شبه العمد وقال إنه باطل إنما هو عمد أو خطأ لا ثالث لهما، لأن الله لم يذكر في كتابه غيرهما. والقول الثاني: أن ذلك شبه العمد ولا يقاد منه وتغلظ الدية عليه، وهو مروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حكاه العراقيون عنه، وعليه أكثر أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في صفة تغليظ الدية. فمنهم من يرى أنها مربعة وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من يرى أنها مثلثة وهو مذهب الشافعي. واختلفوا أيضا في الجراح كاختلافهم في القتل هل فيه شبهة عمد أم لا؟. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. واختلفوا أيضا في صفة شبه العمد فمنهم من يقول إنه لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة. وقال أبو حنيفة: لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة أو ليطة القصبة أو النار. فصل وأما الوجه الثالث: وهو أن يعمد للقتل فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك على وجه الغيلة. والثاني: أن يكون على وجه النايرة والعداوة. فأما إن كان على وجه الغيلة فإنه يقتل على كل حال. ولا يجوز للأولياء العفو عنه. وأما إن كان على وجه النايرة والعداوة فالأولياء بالخيار، إن شاءوا أن يعفوا،

فصل

وإن شاءوا أن يقتصوا فذلك لهم إلا أن يقتل بعد أن يأخذوا الدية فقد قيل إن الوالي يقتله ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه تأويلا على قول الله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] وقد شد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية»، وقع في تفسير ابن سلام. فصل واختلفوا إن أرادوا أن يعفوا عن الدية هل يلزم ذلك القاتل أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يلزمه، وهو مذهب ابن القاسم والمعلوم من قول مالك. والثاني: أن ذلك يلزمه وهو قول أشهب. والأصل في الاختلاف مبني على الاختلاف في تأويل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]. فالذي ذهب إليه المحققون وتأولوه على مذهب مالك أن العافي هو القاتل. ومعنى الكلام من أعطي من أخيه القاتل شيئا من العقل فرضي به فليتبعه بمعروف وليؤد إليه بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] يعني مما كان كتب على من قبلكم لأن فيما كان قبل لم تكن دية وإنما كان الواجب القصاص. فصل وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية» معناه إن بذلت له وطاع بها القاتل على هذا التأويل. ومن أهل العلم من حمل الحديث على ظاهره فقال: إن لولي المقتول أن

فصل فيما يجب به القصاص

يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وتأول أن العافي في الآية ولي المقتول يعفو عن الدم فيتبع القاتل بالدية فيلزمه أن يؤديها بإحسان، وهو تأويل بعيد، لأن شيئا نكرة، ولا يصح أن يراد به القصاص لأنه معرفة بنص الله تعالى عليه في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وإنما عني به ما يتراضيان عليه من قليل المال وكثيره إذ لا حد لدية العمد. فصل فإن اتفقا على الدية مبهمة من غير أن يسميا شيئا حكم فيه بدية مربعة على مذهب مالك وأصحابه خلافا للشافعي في قوله إنها مثلثة. فجعل مالك العافي في هذه الآية الدافع لا التارك، وجعل العافي في آية الطلاق في قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو الزوج. فالمعنى عنده في الآية: إلا أن يعفو الزوجات فيتركن النصف أو يعفو الزوج فيدفع الجميع والله أعلم بما أراد من ذلك لا إله إلا هو. فصل فيما يجب به القصاص والقصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء: إما ببينة تقوم على القتل. وإما باعتراف القاتل على نفسه. وإما بقسامة أولياء المقتول بما تصح به القسامة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله. فإذا قامت البينة على القتل أو اعترف به القاتل على نفسه اقتص منه بمثل

فصل في تقاسيم الديات

القتلة التي قتله بها إلا أن يكون قتله بالنار أو بالسم فاختلف في ذلك. قال ابن حبيب في الواضحة: إنه لا يقتل بالنار ولا بالسم لأن ذلك من المثل. وظاهر ما في المدونة أنه يقتص منه بمثل القتلة التي قتله بها وإن كان قتله بالنار إذ لم يفرق فيها بين النار وغيره، وهو ظاهر قوله في السم أنه يقاد منه به. ومن أهل العلم من يرى أنه لا يكون القود إلا بالسيف. وأما إن لم يثبت القتل بالبينة وإنما استحق دمه بالقسامة فلا يقتل إلا بالسيف. فصل في تقاسيم الديات والديات على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه ثلاث: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المدلجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به. وقد ذكرنا أنه قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وأبو حنيفة يرى الدية في ذلك مربعة حسب ما ذكرناه عنه. فصل في دية الخطأ فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل، سنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك. وتؤخذ في ثلاث سنين، وقيل في أربع سنين. والأول أكثر وهو مذهب مالك. فصل وهذا أمر كان في الجاهلية فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام، ولا يحمله القياس، لأن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]

فصل

«وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثه في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك». وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» ولكنها خصمت من هذه الظواهر كلها الواردة في القرآن والسنن والآثار بالسنة والإجماع. فصل وهي مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، إلا أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة، واختلفوا في أسنانها اختلافا كثيرا ليس هذا موضع إيراده، إذ لم أقصد إلى ذكر الاختلاف وإنما قصدت إلى تلخيص المذهب. وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك أصلا لا قياسا. فصل وأما على أهل الذهب والورق فهي ما قومها به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألف دينار أنه قومها على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ولم يختلف عن عمر بن الخطاب

فصل

أنه قوم الدية على أهل الذهب ألف دينار، وذلك مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم. وبعض الرواة يقول في تقويم الدية على أهل الذهب والورق قوم عمر الدية، وبعضهم يقول: جعل، وبعضهم يقول قضى. واختلف قول الشافعي في ذلك، فكان قوله في القديم كقول مالك. وقال في الحديث: إن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل في الوقت الذي يقضى بالدية، وقال: قوم عمر الدية على أهل الذهب والورق فاتباعه أن تقوم في كل وقت. وما ذهب إليه مالك أصح وأولى لأن فيه أثرا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس أنه «قضى لرجل من الأنصار قتله مولى لبني عدي بالدية اثنا عشر ألف درهم». ونميهم نزلت هذه الآية: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وأما أبو حنيفة فلا حجة له فيما ذهب إليه إلا ما رواه أهل العراق عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تقويم الدية بعشرة آلاف درهم على أهل الورق. فصل ولا تؤخذ في الدية عند مالك، وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشياة ألف شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل البرود مائتي حلة» وهو قول عطاء وقتادة. وروي ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب أنه وضع الديات على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. فصل ودية الخطأ كسائر مال المقتول يقضى منها دينه وتجوز فيها وصيته ويرثها جميع ورثته إلا أن يكون القاتل من ورثته فإنه لا يرث منها شيئا للإجماع أن قاتل

فصل في دية العمد

الخطأ لا يرث من الدية. وقد «كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من الدية شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» وكان قتل خطأ، فقضى بذلك هو والناس بعده ولم يختلفوا في ذلك إلا ما روي عن بعض أهل الظاهر من الخلاف في ذلك وبالله التوفيق. فصل في دية العمد وأما دية العمد فليست بمؤقتة ولا معلومة. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وشيء نكرة يقع على القليل والكثير. فصل فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإن الدية تكون في ماله حالة مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. ولا تغلظ الدية على أهل الذهب والورق بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد كما يفعل في دية التغليظ المثلثة في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وروى يحيى عن أشهب أنها تغلظ بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد. وعن ابن نافع مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو ظاهر ما في المدونة. وقد روي عن مالك أن دية العمد إذا قبلت مبهمة تكون في ثلاث سنين، والأول هو المشهور في المذهب.

فصل في الدية المغلظة

فصل وهى أيضا موروثة عن المقتول يرثها ورثته ويقضي منها دينه إلا أنه لا تدخل فيها الوصايا لأنه مال لم يعلم به. وإن عفا عن دمه جاز ذلك من رأس ماله ولم يكن من ثلثه. وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إن قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. فالديات عنده ديتان دية الخطأ مخمسة، ودية شبه العمد ودية العمد إن قبلت مثلثة وبالله التوفيق. فصل في الدية المغلظة وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المدلحي بابنه وفي شبه العمد على رواية العراقيين عن مالك فإن على أهل الإبل مثلثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، حالة في مال القاتل غير مؤجلة. وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: إنها على العاقلة لأنها نزلت منزلة الخطأ، واحتجوا بقول عمر بن الخطاب لسراقة بن جعشم أعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وسراقة لم يكن أبا القاتل وإنما كان سيد القوم. فدل ذلك على أنه إنما أمره أن يعدها له من أموال قوم القاتل. وحكى ابن حبيب عن مطرف أنها في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال. فصل فإن كان من أهل الذهب والورق ففي ذلك روايتان: إحداهما: أنها لا تغلظ ولا يزاد فيها بفضل ما بين الأسنان.

فصل في دية الكتابيين

والثانية: أنها تغلظ. فإذا قلنا إنها تغلظ ففي صفة تغليظها ثلاثة أقوال: أحدها: أن يقوم الثلاثون حقة والثلاثون جذعة والأربعون خلفة قيمتها بالغة ما بلغت فيكون ذلك عليه إلا أن تكون أقل من الألف مثقال ومن الاثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء. والثاني: وهو مذهب ابن القاسم في المدونة أن تقوم أسنان الخطأ الخمسة وأسنان المغلظة الثلاثة فينظر كم بينهما فيسمى ذلك من دية الخطأ، فإن كان الثلث أو الربع زيد على الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم ثلثها أو ربعها. والثالث: أن يعرف كم بين القيمتين فيزاد ذلك على الذهب أو الورق. ودية شبه العمد عند أبي حنيفة مربعة ولا تغليظ فيها عند أهل الذهب والورق، وعند أبي ثور مخمسة ولا تغليظ فيها بحال. فصل في دية الكتابيين وأما دية اليهودي والنصراني فإنها مثل نصف دية الحر المسلم. هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ورواه في موطأه عن عمر بن عبد العزيز وتابعه عليه جميع أصحابه. وقال الشافعي: ديتهما مثل دية المسلم وهو قول جماعة من السلف. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم، واحتج بظاهر قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فتأول أن المراد به الكافر وقال: أوجب الله في قتله خطأ الدية والكفارة كما أوجب في المؤمن، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء، وهذا لا حجة فيه لأن الله لم يذكر فيه أنه كافر، فيحتمل أن يكون المراد به أنه مؤمن. ولو صح أن المراد به الكافر لما أوجب استواء الديتين لاستواء الكفارتين. لأن هذا أمر لا مدخل للقياس

فصل في دية المرتد

فيه وإنما يرجع فيه إلى التوقيف. وإذا كان ذلك فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى ما قيل في ذلك، لأنه مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «لما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح قال في خطبته: دية الكافر مثل نصف دية المسلم» وأما دية المجوسي فإنها ثمانمائة درهم عند مالك والشافعي. وقد تقدم مذهب أبي حنيفة أن ديته مثل دية الحر المسلم، وعلى أهل المذهب ستة وستون دينارا وثلثا دينار، وعلى أهل الإبل ستة أبعرة وثلثا بعير، وجراحه على حساب ديته هذه. فصل في دية المرتد واختلف في دية المرتد إذا قتل قبل أن يستتاب، فقيل لا دية على قاتلته. وقيل ديته دية مجوسي. وقيل ديته دية دينه الذي ارتد إليه. فصل في دية العبد وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما هو كسلعة من السلع فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا. وروي عن الشافعي مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا. والمشهور عنه الظاهر من مذهبه أن العبد إذا قتل خطأ فقيمته على عاقلة القاتل في ثلاث سنين وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أنه يرى ألا يزاد على الدية إن كانت قيمته أكثر من

فصل في دية الجنين

الدية. وقالت طائفة من أهل الكوفة لا يبلغ به دية الحر وينقص منها شيء، قال بعضهم الدرهم وقال بعضهم العشرة دراهم. وقال الحسن: إذا قتل الحر العبد خطأ فعليه الدية والكفارة ولم يبين إن كانت في ماله أو على العاقلة. وإذ أجمل فيه فينبغي أن يكون حكمها حكم الدية في الخطأ والعمد. فصل وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن على جارحه ما نقصه من غير تفصيل قياسا على العروض والحيوان. والثاني: أن جراحاته في قيمته كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر. وقال الشافعي: قياس العبد على الحر أولى من قياسه على الحيوان والسلع، لأنه حيوان عاقل مكلف ليس كالحيوان والسلع. والثالث: أن على جارحه ما نقصه إلا أن في ما مومته وجائفته وموضحته فإن ذلك يكون من قيمته كحسابها من دية الحر. وسيأتي حكم الجراحات في موضعها وإنما ذكرناها هنا لما تعلق بها. فصل في دية الجنين بقي من حكم الديات التكلم على دية الجنين. ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قضى في الجنين يطرح من بطن أمه بغرة عبد أو وليدة». وأجمع أهل العلم على الحكم في ذلك وأن في جنين الحرة المسلمة أو النصرانية من المسلم والأمة من سيدها الحر غرة عبد أو وليدة إذا خرج من بطن أمه ميتا وهي حية ذكرا كان أو أنثى تم خلقه أو لم يتم إذا تيقن أنه جنين. كل ما تكون به الأمة أم ولد إذا أسقطته من سيدها يكون على الجاني فيه غرة عبد أو وليدة، كل على مذهبه في ذلك. هذا كله لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيه. واختلفوا في قيمة الغرة وعلى من تجب في الخطأ وممن تجب.

فصل

فصل فأما اختلافهم في قيمتها فقال مالك: خمسون دينارا أو ستمائة درهم، وذلك استحسان عنده ليس كالسنة الثابتة. وقال أبو حنيفة: خمسون دينارا أو خمسمائة درهم على أصله أن الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وأما الشافعي الذي يرى الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل بالغة ما بلغت فيقول في الغرة إنها تكون بنت سبع سنين أو ثماني سنين سالمة من العيوب لأنها لا تستغني بنفسها فيما دون هذا السن، ولا يفرق بينها وبين أمها دونه. قال: فإن لم توجد الغرة فقيمتها، وهذا ما لا يختلف فيه إلا ما استحسنه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن تكون قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم. وقال داود وأهل الظاهر: إن كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ إلا أن يتفق الجميع على سن أنه لا يجزئ. فصل وأما اختلافهم على تجب في الخطأ فقال مالك: إنها في مال الجاني لأنها أقل من الثلث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إنها على العاقلة. فصل وأما اختلافهم لمن تجب ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها للأم كجرح من جراحها وهو قول ربيعة. والثاني: أنها للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما خلا بها فهي له كلها، وهذا قول عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار وقول مالك الأول. والثالث: أنها موروثة عن الجنين على الفرائض، وإلى هذا رجع مالك وعليه أكثر أصحابه وبالله التوفيق. فصل وأما جنين النصرانية من النصراني فقال مالك: فيه عشر دية أمه ونصف عشر

فصل

دية أبيه، وهما سواء. ويأتي على مذهب الشافعي مثل ذلك إلا أن دية النصراني واليهودي والمجوسي عنده كدية المسلم سواء. فصل وأما جنين الأمة من غير سيدها فإن خرج حيا ثم مات ففيه قيمته بالغة ما بلغت لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. وأما إن خرج ميتا ففيه اختلاف كثير. ذهب مالك والشافعي إلى أن فيه عشر ثمن أمه. وقال أبو حنيفة: إن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيا، وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية. وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن فيه ما نقص من أمه كما يكون في أجنة البهائم. وقال حماد: فيه حكومة وهو نحو قول أبي يوسف. وقال سعيد بن المسيب: فيه عشرة دنانير. فصل واختلفوا في الجنين يخرج من بطن أمه ميتا وقد ماتت أمه من ضرب بطنها، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: لا شيء فيه من غرة ولا غيرها إذا ألقته بعد موتها ميتا. وقال ربيعة والليث بن سعد فيه الغرة، وروي ذلك عن ابن شهاب، وهو قول أشهب من أصحابنا. وقد أجمعوا على أنه لو ضرب بطن ميتة فألقت جنينها ميتا أنه لا شيء فيه. وكذلك أجمعوا أنها لو ماتت من الضرب ولم تلق الجنين أنه لا شيء فيه. واختلفوا على القول بأن الغرة لا تجب فيه إلا بأن يسقط من الضرب ميتا وهي حية إذا ماتت وقد خرج بعض الجنين، فحكى ابن شعبان في ذلك قولين: أحدهما: أن الغرة تجب فيه. والثاني: أن الغرة لا تجب إلا أن يخرج جميع الجنين قبل موتها. والصواب أنه إذا خرج الجنين ميتا بعد موت أمه أنه لا شيء فيه على ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبالله التوفيق.

كتاب القسامة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد كتاب القسامة فصل في وجوب القود بالقسامة قد قلنا فيما تقدم إن القصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء: إما ببينة عادلة على القتل ومعاينته، وإما باعتراف القاتل على نفسه بالقتل، وإما بقسامة. فأما وجوب القصاص بالبينة والاعتراف فلا خلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم. وقد ذكرنا قبل ما في صفته بين أهل العلم من الاختلاف وأما القسامة فأوجب القصاص بها مالك والشافعي في أحد قوليه وجماعة من العلماء. والأصل في وجوب القصاص بها قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، أي حجة توجب له القصاص، فلا يتعد فيه، لأن السلطان الحجة. فأجمل الله تبارك وتعالى المعنى الذي يصح به القصاص ويوجبه بلفظ السلطان. وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالقسامة في الأنصاري الذي قتل بخيبر فقال لولاته: أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا لم نشهد ولم نحضر، قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار. فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده». وهو حديث صحيح لا

فصل

اختلاف بين أحد من أهل العلم في صحته. وقوله فيه أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم يبين أن القسامة يقتل بها القاتل. ولو كانت القسامة لا توجب القتل وإنما توجب الدية على ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه لقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتحلفون وتستحقون دية صاحبكم. وهذا بين مع ما روي في الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لولاته: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فيسلم إليكم». فكان هذا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما روي عنه في غير هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بني نصر ببحرة الرغاء على شط لية البحرة. وما روي أيضا عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قضى بالقسامة في عامر بن الأضبط يوم قتله يحلم بن حمامة الليثي فأقسم ولاته ثم دعاهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الدية فأجابوه إليها ففداه بمائة من الإبل الحديث واقعا موقع البيان لمحمل قول الله عز وجل في القرآن {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] حكى هذين الأثرين ابن حبيب في الواضحة. وتعلق الشافعي فيما ذهب إليه في أحد قوليه أن القسامة لا يستحق بها الدم وإنما يستحق بها الدية بقوله في حديث مالك إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب. ولا حجة له فيه لاحتمال أن يكون معناه إن رضيتم بأخذ الدية وترك القصاص بعد القسامة. وإذا حمل قوله على هذا لم تتعارض ألفاظ الحديث. فصل وقد روي في هذا الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ اليهود باليمين، فتعلق بذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إذا وجد قتيل في محلة وبه أثر وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه أو على أحد منهم بعينه استحلف من المحلة خمسون رجلا يختارهم الولي. بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. وإن لم

فصل

يبلغوا خمسين رجلا كررت عليه الأيمان ثم غرموا الدية. وإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا. وقال عثمان الليثي: خلافا لما روي أن عمر بن الخطاب قضى له من رواية الكوفيين أنه أحلف الذين وجد عندهم القتيل وأغرمهم الدية، فقال له الحارث ابن الأزمع: أتحلفون وتغرمون، قال: نعم. فصل والحجة في السنة لا فيما خالفها، والصحيح منها تبدئة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولياء القتيل بالأيمان على ما رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقول من قال إن الحكم بالقسامة وتبدية المدعين بها خلاف الأصول وخلاف ما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»، وقوله «لو يعطى الناس بأيمانهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم» غير صحيح، لأنا لا نبدي أولياء القتيل بالقسامة بمجرد دعواهم، وإنما يحكم لهم بها إذا كان لهم دليل يغلب على الظن به صدق قولهم، فليس هذا خلافا للأصول، بل هو مطابق لها ولا يقول إنه خلاف لها إلا من لم يفهم المعاني ولا وقف على حقيقة الأصول، إذ ليس العلة في تبدئة المدعى عليه باليمين كونه مدعى عليه، ولو كان كذلك لما وجد مدعى عليه إلا والقول قوله مع يمينه، ولا العلة في إيجاب البينة على المدعي كونه مدعيا إذ لو كان كذلك لما وجد مدع إلا عليه إقامة البينة. وإنما العلة في كون المدعى عليه مصدقا مع يمينه أن له سببا يدل على تصديقه وهو كون السلعة بيده. ألا ترى أن السلعة إذا خرجت من يده وحازها الرجل بحضرته مدة طويلة ثم ادعى أنه اشتراها منه فالقول قوله مع يمينه. وإن كان هو المدعي للشراء، لأن له سببا على تصديقه وهو حيازة السلعة بحضرته المدة الطويلة. وإذا كان لكل واحد من المتداعيين سبب يدل على

فصل

تصديقه بدئ باليمين من قوي سببه على سبب صاحبه، كمن ادعى على رجل أنه اشترى منه سلعة وأقام على ذلك شاهدا واحدا فالقول قوله مع يمينه لأن سببه الدال على صدقه وهو الشاهد أقوى من سبب المدعى عليه وهو اليد. وإن تساوت الأسباب حلفا جميعا ولم يبدأ أحدهما على صاحبه باليمين وذلك كاختلاف المتتابعين. فصل فالأصل في جميع الأحكام والدعاوي أن يبدأ باليمين من يغلب على الظن صدقه كان مدعيا أو مدعى عليه. ألا ترى أن الرجل إذا دخل بزوجته وأقام معها مدة طويلة فطلقها أو لم يطلقها فطلبته بالصداق وادعت عليه أنه قد مسها وأنكر ذلك أنها مصدقة عليه بيمينها، وقيل بغير يمين وإن كانت هي المدعية وهو المدعى عليه لما يغلب على الظن صدق دعوى ولاة المقتول بسبب يدل على ذلك مثل السبب الذي حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجله بالقسامة على أولياء المقتول أو ما أشبهه وجب الحكم بالقسامة والقود بها. فإن قيل وما السبب الذي من أجله حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقسامة؟ قيل له: كانت خيبر دار يهود وكانت محضة لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل. فمثل هذا يغلب على ظن من سمعه أنه لم يقتله إلا اليهود. ولو وقع مثل هذا في زماننا لوجب الحكم به ولم يصح أن يتعدى إلى غيره. فصل وهذا السبب هو الذي يعبر عنه أصحابنا باللوث وقد سئل مالك في رواية

فصل

أشهب عنه عن اللوث الذي يوجب القسامة ما هو فقال: الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع. قليل له أترى شهادة المرأة من ذلك؟ قال: نعم فقيل له: فشهادة الرجل الذي ليس بعدل من ذلك؟ شهادة العبد ولا شهادة النصراني، ولم ير في رواية ابن القاسم عنه الشاهد الواحد لوثا إلا أن يكون عدلا. ومن اللوث شهادة الشهود غير العدول، وشهادة اللفيف من النساء والصبيان. ومن اللوث أن يوجد القاتل بحداء المقتول بحد يده بيده أو متلطخا بدمه أو خارجا من موضعه وهو يشخب في دمه ولا يوجد فيه غيره أو ما أشبه ذلك. وقد رأى ربيعة شهادة النصراني لوثا. فصل وأما الشاهد العدل على معاينة القتل فلا خلاف فيه عند مالك وأصحابه أنه لوث يوجب القسامة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز. وقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: لا يقسم مع الشاهد الواحد على إقراره، ظاهره في العمد وهو ظاهر ما في المدونة إذا أسقطت منها زيادة سحنون، وذلك قوله دم الخطأ، إلا أنه بعيد. والصواب وجوب القسامة مع الشاهد الواحد على إقراره بالقتل عمدا، إذ لا فرق بين شهادة الشاهد على معاينة القتل وبين شهادته على إقرار القاتل على نفسه. وكذلك اختلف أيضا في شهادة الشاهد الواحد على إقراره بقتل الخطأ هل يكون لوثا أم لا. وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب الديات. والصحيح ما في المدونة أنه لا يكون لوثا يوجب القسامة، لأن

فصل

الاختلاف في قوله قتلت فلانا خطأ معلوم موجود فكيف إذا لم يثبت القول. ووقع الاختلاف في ذلك في الصلح من المدونة، مرة جعل إقراره بالقتل لوثا يوجب الدية على العاقلة بقسامة، مات مكانه أو كانت له حياة. ومعنى ذلك إذا لم يتهم أنه أراد غنى ولده كما قال في كتاب الديات. ومرة قال إن الدية عليه في ماله بقسامة، ومرة قال بغير قسامة، ولم يفرق بين أن تكون له حياة أو لا تكون. والاختلاف في وجوب القسامة إنما يتصور عندي إذا كانت له حياة. وأما إذا كان موته نقضا ولم يكن له حياة فإنما يجب عليه الدية في ماله بغير قسامة. هذا الذي ينبغي أن تحمل عليه الروايات، لأنه إذا جعل الدية عليه في ماله لما جاء من أن العاقلة لا تحمل الاعتراف، فإقراره إنما هو على نفسه، والاختلاف إنما هو في وجوب القسامة مع إقراره إذا كانت له حياة كالاختلاف في إقرار القاتل عمدا على نفسه إذا كانت للمقتول حياة والله أعلم. فصل وقول الميت دمي عند فلان لم يختلف قول مالك إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقود عدلا كان أو مسخوطا، وتابعه على ذلك جميع أصحابه والليث بن سعد، وخالفهم في ذلك جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعاويهم» الخبر ". وقالوا حرمة المال أخفض من حرمة النفس، فإذا لم يقبل إقراره عليه بالمال فإقراره عليه بالدم أولى ألا يقبل، وهذا كله لا يلزم. أما الذي استدلوا به فلا دليل لهم فيه لأن المدعي للدم الطالب له هو ولي المقتول فلم نعطه بدعواه، وإنما أعطيناه بما انضاف إليه من قول المقتول. وأما قولهم إن قوله إذا لم يقبل في المال فأحرى ألا يقبل في النفس فليس بصحيح، لأن أصل موضوع القسامة إنما هي لحراسة الأنفس وإنما يطلب فيها الشبهة، واللطخ لإيجاب القصاص الذي هو حياة الأنفس. قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل:

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73]. والقصة مشهورة في شأن الرجل الذي قتله ابن أخيه ليرثه وادعى قتله على أهل قرية فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضرب ببعضها، ففعل ذلك فقال قتلني ابن أخي، فصار هذا أصلا في قبول دعوى المقتول وتأثيرها في دعوى القتل. وقد قال جماعة منهم الفقيه أبو عمر بن عبد البر وغيره إن الاحتجاج بهذه الآية غفلة شديدة أو شعوذة لأن الذي ذبحت البقرة من أجله وضرب ببعضها كانت فيه آية لا سبيل إليها اليوم ولا تصح إلا لنبي أو بحضرة نبي، ولم يقسم على قتيل بني إسرائيل بل علم صدقة بالآية. وهذا غير صحيح، بل الدليل منها قائم وذلك أن الآية إنما كانت في الإحياء وأما في قَوْله تَعَالَى ابن أخي فلان قتلني فليس فيه آية لأن كل حي عاقل لا آفة فيه من بني آدم يتكلم ويخبر بما في علمه. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول فلان قتل فلان فيكون فيه آيتان آية في إحيائه وآية في إخباره بالغيب. فلما خصه الله بالإحياء من بين سائر الأموات دل ذلك على أن الشرع كان عندهم أن من قتل فأدرك حيا فأخبر بقاتله صدق قوله، فلما فات بالموت ولم تدرك حياته أحياه الله لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليستدرك بإحيائه ما كان فاته من الحكم، فهذا كان سبب تخصيصه بالإحياء والله أعلم، كما كان سبب تخصيص البقرة بالذبح ما أراد الله مجازاة الذي امتنع من تجارته خوفا من إيقاظ أبيه بأن يعوضه أضعاف ما فاته من الربح بسبب ترك إيقاظ أبيه. روي عن ابن عباس في سبب هذه البقرة أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل من أبر الناس لأبيه، وأن رجلا مر به ومعه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح فقال له الرجل تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا قال: إبق كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا، فقال الآخر أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا وأبى أن يوقظ أباه برورا به، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة

فصل

فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة فأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعها منهم ببقرة فأبى فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى، فقالوا له والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا يا موسى إنا وجدنا عند هذا بقرة فأبى أن يعطينا إياها وقد أعطيناه ثمنها. فقال له موسى أعطهم بقرتك، فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي، فقال صدقت. وقال للقوم أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها وفعلوا ما أمروا به من ضرب القتيل ببعضها فأحياه الله فأخبر بقاتله. فصل ومن الدليل أيضا على صحة قول مالك ما روي أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام ليتناهى الناس عن القتل. فظاهر هذا أنها مقرة في الإسلام على ما كانت عليه في الجاهلية، وقد كانت العرب في الجاهلية تقبل دعوى المقتول على قاتله وتحكم به. وأيضا فإنه ليس المبتغى في إيجاب القسامة القطع والبت، وإنما المبتغى شبهة تنضاف إلى دعوى الولاة تقويها وتلطخ المدعى عليه حتى يغلب على الظن صدق دعواهم، ولذلك سمي لطخا ولوثا، كل ذلك حراسة للدماء ومنعا من الاجتراء عليها. والمعلوم من حال الناس عند الموت الإنابة والاستشعار للتوبة والإقلاع عن المعاصي والندم عليها، هذا ما لا يدفع ضرورة، فإذا أخبر في تلك الحال بقاتله غلب على الظن صدق مقاله إذ يبعد أن يتهم من هو في تلك الحال أن يريد أن يبوء بإثم القتل. فصل وأما قوله قتلني فلان خطأ ففي ذلك عن مالك روايتان: إحداهما: أن قوله يقبل وتكون معه القسامة كالعمد.

فصل

والثانية: أن قوله لا يقبل لأنه يتهم أن يكون أراد غناء ولده وهو قول ابن أبي حازم. وجه الرواية الأولى أنه استحقاق دم فوجب أن يستحق بما يستحق به دم العمد. ووجه الرواية الثانية أن الواجب في دم الخطأ مال على العاقلة، فأشبه قوله عند الموت لي عند فلان كذا وكذا، وهذا أظهر في القياس. والرواية الأولى أشهر، والله أعلم. فصل فإن جرح الرجل جرحا له عقل مسمى عمدا أو خطأ فمات من ذلك الجرح لم يخل الأمر من ثلاثة أوجه: أحدها ألا يعلم الجرح إلا بقول الميت فلان دمي عند فلان هو جرحني هذا الجرح الذي ترون بي فمنه أموت فالصحيح فيه ألا سبيل إلى القصاص من الجرح ولا إلى أخذ الدية فيه إن كان خطأ، لأن الجراح لا يستحق بالقسامة القود منها في العمد ولا الدية في الخطأ، وإنما للولاة أن يقسموا فيقتلوا إن كان الجرح عمدا، أو للورثة أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة إن كان

فصل

الجرح خطأ. قاله محمد بن المواز وعاب ما وقع في سماع يحيى من كتاب الديات أن الولاة بالخيار إن شاءوا أقسموا واستحقوا الدم وإن شاءوا اقتصوا من الجرح وأخذوا ديته إن كان خطأ. وعاب ذلك أيضا يحيى بن يحيى وغيره. وأما الوجه الثاني: وهو أن يثبت الجرح بشاهدين، فهذا يكون الولاة فيه بالخيار بين أن يقسموا فيقتلوا في العمد، أو يقسموا فيستحقوا الدية في الخطأ على العاقلة، وبين ألا يقسموا فيقتصوا من الجرح إن كان عمدا أو يأخذوا ديته إن كان خطأ لثبوته بشهادة شاهدين. وقد وقع في سماع أبي زيد ما يدل على خلاف هذا أن الولاة إذا أبوا أن يقسموا فلا سبيل لهم إلى القصاص من الجرح في العمد ولا إلى أخذ ديته إن كان خطأ، وهو على قياس قول أشهب حسبما ذكرناه هناك. وأما الوجه الثالث: وهو أن يشهد على الجرح شاهد واحد، فينبغي على ما اخترناه وصححناه في الوجهين المتقدمين أن يفترق في هذا الوجه الخطأ من العمد. فأما الخطأ فيكون الورثة فيه مخيرين بين أن يقسموا على الدم فيستحقون الدية على العاقلة، وبين أن يحلفوا على الجرح يمينا واحدا فيستحقون الدية في مال الجاني أو على العاقلة إن بلغ الثلث فصاعدا. وأما العمد فإن نكل الأولياء عن القسامة على الدم لم يكن لهم سبيل إلى الاقتصاص من الجرح، لأن الجرح لا يقتص منه إلا بشهادة شاهدين أو يمين المجروح مع الشاهد الواحد على الاختلاف المعلوم في ذلك. وأما يمين الورثة إذا مات من الجرح وأبى الولاة أن يقسموا أو لم يمكنوا من القسامة على مذهب من لا يرى القسامة بالشاهد الواحد على الجرح فلا، لأن الورثة لا ينزلون منزلته في استحقاق القصاص باليمين مع الشاهد، وإنما ينزلون منزلته في استحقاق دية الجرح في الخطأ لأنه مال من الأموال فيحلفون ويستحقونه بمنزلة الورثة يقوم لهم شاهد واحد على دين لموروثهم قبل رجل فإنهم يحلفون ويستحقونه. فصل ولا يقسم في قسامة العمد من ولاة المقتول أقل من رجلين. والأصل في

فصل

ذلك «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخي المقتول بخيبر وبني عمه: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» فجمعهم في الأيمان ولم يفرد الأخ بها دون بني عمه. ومن جهة المعنى لما كان لا يقتل بأقل من شاهدين لم يستحق دمه إلا بقسامة رجلين. قال أشهب: وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في لعانه. قال ابن الماجشون: ألا ترى أن النساء لا يقسمن في العمد لما كن لا يشهدن فيه. فصل فإذا كان ولاة المقتول رجلين حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، فإن طاع أحدهما أن يحمل منها أكثر من خمس وعشرين يمينا لم يجز ذلك. فإن كان ولاته أكثر من اثنين إلى خمسين رجلا وهم في العدد سواء وتشاجروا في حملها قسمت بينهم على عددهم، فإن وقع فيها كسر مثل أن يكون عددهم عشرين فإنه يحلف كل واحد منهم يمينين يمينين ويبقى من الأيمان عشر أيمان، فيقال لهم لا سبيل لكم إلى الدم حتى تأتوا بعشرة منكم فيحلفون العشرة الأيمان فإن حلف منهم عشرة استحقوا الدم، وإن أبى جميعهم من حلفها بطل الدم كنكولهم عن جميع الأيمان. فصل فإن طاع الاثنان بحمل الخمسين يمينا جاز ذلك عند ابن القاسم ولم يعد من لم يحلف من بقية الأولياء ناكلا، لأن الدم قد قيم فيه. وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون: لا بد أن يحلفوا كلهم ولا يجوز أن يحلف بعضهم وهو كالنكول ممن لم يحلف منهم. وأما إن كان عددهم أكثر من خمسين فاتفق جميع من سمينا أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأهم ولا يعد من بقي ناكلا لتمام القسامة بخمسين يمينا. وقد

فصل

رأيت لابن الماجشون أن الأولياء إن كان عددهم أكثر من خمسين فلا بد أن يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا وإلا لم يستحقوا الدم في كتاب مجهول. فصل وإن كان ولي الدم الذي له العفو رجلا واحدا فلا يستحقه بقسامة إلا أن يجد من العصبة أو العشيرة من يقسم معه من داناه إلى أب معروف، فإن وجد رجلا واحدا حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن وجد رجلين أو أكثر قسمت الأيمان بينهم على عددهم. فإن رضوا أن يحملوا عنه منها أكثر مما يجب عليهم لم يجز، وإن رضي هو أن يحمل منها أكثر مما يجب عليه فذلك جائز ما بينه وبين خمس وعشرين يمينا، ولا يجوز له أن يحلف أكثر من ذلك. فصل وإن كان أولياء الدم رجلين فأرادا أن يستعينا في القسامة بغيرهما من الأولياء الذين دونهم في المرتبة فذلك جائز وتقسم الأيمان بينهم على عددهم] فإن رضي المستعان بهم أن يحلف كل واحد منهم أكثر مما يجب عليه من الأيمان لم يجز. وإن رضي الوليان أن يحلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه فذلك جائز. ولا يجوز لأحدهما أن يحلف أكثر من خمس وعشرين يمينا. وإذا حلف كل واحد من الوليين ما يجب عليه من الأيمان إذا قسمت على عددهم فلا بأس أن يحلف بعض المستعان بهم أكثر من بعض. فصل وإذا حلف أحدهما خمسا وعشرين يمينا ثم وجد صاحبه من يعينه فإن

فصل

الأيمان التي حلف المستعان به لا تكون محسوبة للمستعين بل تقسم بين الوليين، فإن لم تقسم بينهما وحسبت كلها للمستعين فحلف ما بقي من الخمس والعشرين يمينا، فيزاد عليه حتى يستكمل نصف ما بقي من الخمسين يمينا بعد الأيمان التي حلف بها المستعان به، قاله عبد الملك، وزاد قال إلا أن يكون الأول حلف على يأس ممن يعينه ورأى أن يحلف بغير معين فلا يزاد شيء من الأيمان على المستعين، ويكون جميع الأيمان التي حلف المستعان به محسوبة له لا يقسم بينه وبين صاحبه. فصل وإن كان الأولياء إخوة وجدّا فإن ابن القاسم قال: الجد كالأخ من الإخوة في العفو، من عفا منهم جاز عفوه، الجد كان أو أخا من الإخوة، وقال: إن الجد يحلف ثلث الأيمان في العمد والخطأ. فأما في الخطأ فصواب، وأما في العمد فكان القياس على مذهبه أن تقسم الأيمان بينهم على عددهم إذا نزل الجد منزلة أخ من الإخوة. وذهب أشهب إلى أنه لا حق للجد مع الإخوة في القيام به ولا في العفو عنه، فالإخوة على مذهبه يقسمون دونه، فإن استعانوا بقسامة الجد قسمت الأيمان بينهم على عددهم. فصل فإذا نكل ولاة الدم عن اليمين وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو بشاهد على القتل ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف المدعى عليه خمسين يمينا، ويحلف عنه رجلان فأكثر من ولاته خمسين يمينا إن طاعوا بذلك ولا يحلف هو معهم. وهذه رواية سحنون في سماع عيسى عن ابن القاسم في العتبية وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والثاني: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر

فصل

خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف فيهم المتهم. فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده. وهو قول ابن القاسم في المجموعة. والثالث: أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول. وهذا قول مطرف في الواضحة. فصل وأما إن كانت القسامة إنما وجبت بشاهدين على الجرح، ففي رد الأيمان على القاتل قولان: أحدهما: أنها ترد على المدعى عليه فيحلف ما مات من ضربي، فإن نكل سجن حتى يحلف. وإن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن أقر قتل. هذا قول ابن القاسم وابن الماجشون. قال في كتاب ابن المواز: ويقتص منه من الجرح إن نكل الأولياء عن القسامة، يريد حلف المدعى عليه أو نكل، لأن الجرح قد ثبت بشهادة شاهدين عليه. فصل وإما إن كانت القسامة بشاهد على القتل فلا يقتص من الجرح، حلف القاتل خمسين يمينا أو نكل عنها، لأنه لا يقتص من الجرح إلا بيمين المجروح. فأما بيمين ورثته فلا. هذا قول ابن المواز وهو صحيح. وقد تأول على ابن القاسم أنه يقتص منه من الجرح إذا كان جرحا معروفا، وهو بعيد لم يقله ابن القاسم إلا في القسامة بشاهدين على الجرح والله أعلم. قال ابن المواز: وقد ذكر ابن القاسم عن مالك قولا لم يصح عند غيره، قال: إذا ردت اليمين على المدعى عليهم في العمد فنكلوا فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة ويقتص منه من الجرح سوى العقل. وروي عنه رواية أخرى أنه إن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن نكل سجن حتى يحلف ولا دية فيه وهو الصواب.

فصل

والقول الثاني: أن الأيمان لا ترد عليه ولا يحلف لأن يمينه إن حلف يمين غموس، فعلى هذا القول إن أقر لم يقتل، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ. فصل وأما إن نكل بعض الولاة وهم في العدد سواء عن القسامة أو عفي عن الدم قبلها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون، أن الدم والدية يبطلان ولا يكون لمن بقي من الأولياء أن يقسم ويأخذ حظه من الدية. والثاني: وهو قول أشهب، أن الدم يبطل ويحلف من بقي من الأولياء فيأخذ حظه من الدية. والثالث: وهو قول ابن نافع، أن نكوله إن كان على وجه العفو والترك لحقه حلف من بقي وكانت له الدية، وإن كان على وجه التحرج والتورع حلف من بقي وقتلوا. فصل وأما إن عفا أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة ففي ذلك أيضا ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن الماجشون أن الدم والدية تبطلان ولا يكون لمن بقي شيء من دية ولا قصاص. والثاني: أن لمن بقي من الأولياء لم يعف ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: أنه إن عفا كان كاف لمن بقي حظوظهم، وإن أكذب نفسه لم يكن لمن بقي شيء من الدية وإن كانوا قد قبضوها ردوها. هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق. فصل فيأتي على هذا في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء عن الدم ثلاثة أقوال:

فصل

أحدها: أنها تبطل ولا شيء لمن بقي منهم وهو قول ابن الماجشون. والثاني: أن لمن بقي حظه من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم أو بقسامة إن كان العفو قبله. والثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل ثبوت الدم أو بعده. وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القسامة بين أن يعفو أحد الأولياء أو يكذب نفسه، فجعل تكذيب نفسه بعد القسامة كعفوه عن الدم قبل القسامة لا شيء لمن بقي من الدية على ما ذكرناه. وإذا كان الأولياء رجالا لا نساء معهم، أو كانوا بنين وبنات أو إخوة وأخوات فلا فرق بين أن يثبت الدم ببينة أو بقسامة في حكم العفو عنه. وأما إن كان الأولياء بنات أو إخوة وأخوات أو عصبة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن من قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماع منهم، ثبت الدم ببينة أو بقسامة. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني: أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إن ثبت بقسامة فلا حق للنساء فيه مع الرجال في عفو ولا قيام، لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم. وهذا مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه. والثالث: أنه إن ثبت الدم بالبينة فالنساء أحق بالقيام والعفو لأنهن أقرب درجة من الرجال. وإن كان ثبت الدم بقسامة فمن قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم. وهذا القول رواه مطرف وابن الماجشون عن مالك. فصل وأما إذا كان الأولياء بنات وأخوات وعصبة وثبت الدم ببينة فلا حق للعصبة معهم في عفو ولا قيام. وأما إن ثبت بقسامة العصبة ففي ذلك قولان:

فصل

أحدهما: أن من قام بالدم فهو أولى به كان البنات أو الأخوات أو العصبة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن العصبة أحق بالقيام بالدم والعفو فيه لأنهم استحقوه بأيمانهم وهذه رواية عيسى عن ابن القاسم. هذا الذي كتبته في هذه الوجوه تلخيص ما قد يتعذر استخراجه من الأصول وسائر حكم الأولياء. وما يرد في الدم وترتيبهم في الدماء ومن له فيه حق ممن لا حق له فيه وما اتفقوا عليه من ذلك كله واختلفوا فيه موجود في الأصل ومشروح فيه فلا معنى للاشتغال بذلك. فصل وأما دم الخطأ فإنه يثبت بالقسامة أيضا على ما بيناه فيما قبل. ويقسم على الورثة على قدر مواريثهم من الدية رجالا كانوا أو نساء. فإن لم تنقسم الأيمان عليهم على قدر مواريثهم إلا بكسر جبرت اليمين المنكسرة على أكثرهم منها حظا، وقيل على أكثرهم حظا من الأيمان. فإن استوى الورثة في الميراث مثل أن يكونوا إخوة كلهم أو بنين ذكورا فانكسرت عليهم يمين أو أيمان تساوت حظوظهم فيها. مثل أن يكون الورثة ثلاثة إخوة فيجب على كل واحد من الأيمان ست عشرة يمينا وثلثا يمين، أو ثلاثين أخا فيجب على كل واحد منهم يمين وثلثا يمين ففي ذلك اختلاف أيضا: ذهب ابن القاسم إلى أنه يجبر على كل واحد منهم الكسر الذي صار في حظه من الأيمان المنكسرة، فيحلف الثلاثون أخا يمينين يمينين، ويحلف الثلاثة الإخوة سبع عشرة يمينا سبع عشرة يمينا. وخالفه أشهب فقال: يحلف الثلاثون أخا يمينا يمينا ثم يقال لهم ائتوا بعشرين رجلا منكم فيحلفون يمينا يمينا. وكذلك إن كان عددهم أكثر من خمسين رجلا حلفوا كلهم على مذهب ابن القاسم، وحلف منهم خمسون على مذهب أشهب. فصل فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا

فصل

يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات، وإنما يختلفان في قسم ما حصل على كل فريق منهن بينهن. فإذا قسمت الأيمان عليهن صار على الزوجات منها ست أيمان وربع يمين، وعلى البنات ثلاث وثلاثون يمينا وثلث يمين، وعلى الأخوات عشر أيمان وثلاثة أثمان يمين وثلث يمين فتجبر اليمين المنكسرة على الأخوات لأن حظهن منها أكثر، أو على البنات لأنهن أكثر حظا من الأيمان على الاختلاف في ذلك. فيبقى على الزوجات من الأيمان ستة أيمان. فإن كن أربعا حلفن يمينين يمينين على مذهب ابن القاسم، وحلفن على مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف اثنتان منهن يمينا يمينا، ويبقى على البنات ثلاث وثلاثون يمينا إن جبرت اليمين المنكسرة على الأخوات فإن كن عشرا على مذهب ابن القاسم يمينين يمينين، وعلى مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف واحدة منهن يمينا واحدة. فإن وقع التشاح بينهن فيمن تحلف منهن الأيمان الباقية فرأيت لابن كنانة أن الإمام لا يجبر عليها أحدا ويقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، فيشبه أن يقول أشهب مثل ذلك أو يقرع بينهن فيها، وقد قاله بعض أهل النظر إلا أنه ساقه على مذهب ابن القاسم، ولا يصح إلا على مذهب أشهب. فصل فإن نكلوا عن الأيمان أو نكل واحد منهم ففي ذلك خمسة أقوال في المذهب. أحدها: أنه ترد الأيمان على العاقلة ويحلفون كلهم ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف لم يلزمه شيء، ومن نكل لزمه ما يجب عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم، وهو أبين الأقاويل وأصحها في النظر.

والثاني: أنه يحلف من العاقلة خمسون رجلا يمينا يمينا، فإن حلفوا برئوا وبرئت العاقلة من جميع الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف منهم ولزم بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يمينا. وهذا قول ابن القاسم الثاني. والثالث: أنهم إن نكلوا فلا حق لهم، أو نكل بعضهم فلا حق لمن نكل، ولا يمين على العاقلة لأن الدية لم تجب عليهم بعد وإنما تجب بالفرض، قاله ابن الماجشون. والرابع: أن اليمين ترجع على المدعى عليه وحده، فإن حلف برئ، وإن نكل لم يبلغ العاقلة بنكوله شيء، لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، والنكول كالإقرار، وإنما هو بنكوله شاهد على العاقلة، روى ابن وهب هذا عن مالك. والخامس: أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت، وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية، قاله ربيعة، وهو على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعديين وبالله سبحانه التوفيق. لا شريك له ولا ند.

كتاب الجراحات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وصحبه كتاب الجراحات فصل في اشتقاق الجراحات قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] وَقَالَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] وَقَالَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالجراح مأخوذة من الجوارح لأنها لا تفعل إلا بها. فكل من جنى جناية أو جرح جرحا أو أذنب ذنبا أو اكتسب إثما بيده أو بلسانه أو بجارحة من جوارحه فهو جارح في اللغة، إلا أن الجراح قد تعرفت في جراح الحيوان في أبدانها، كما أن دابة اسم لكل ما دب في الأرض من بني آدم وغيره من الحيوان، وقد تعرفت في الخيل والبغال والحمير. فمن قال اشتريت اليوم دابة لا نفهم من قوله إلا أنه اشترى فرسا أو بغلا أو حمارا وإن كانت الدابة تقع على غير هذا من الحيوان. وكذلك من قال: حكمت اليوم على الجارح بالغرم أو بالأدب لا يفهم عنه إلا على أنه حكم على من جرح حيوانا لا على من جرح غير ذلك من الأشياء. قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

فصل

فصل فالجراح تقع على ما كان في الرأس وفي الجسد ويختص ما كان منها في الرأس دون الجسد باسم الشجاج، فكل شجة جرح وليس كل جرح شجة. فصل فقول الله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] عام فيما كان في الرأس وفي سائر البدن، إلا أنه ليس على عمومه في العمد والخطأ، بل المراد بها العمد دون الخطأ، بدليل إجماعهم على أنه لا قصاص في الخطأ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فأوجب الدية والكفارة دون القصاص. ولا هو على عمومه أيضا في جميع جراح العمد، بل المراد به منها ما أمكن القصاص فيه ولم يخش إتلاف النفس منه. والدليل على أنه لا قود فيما كان مخوفا ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة» فكذلك ما في معناها من الجراح التي هي متالف عظام الرقبة والصلب والصدر وكسر الفخذ ورض الأنثيين وما أشبه ذلك. والدليل على أنه لا قصاص فيما لا يمكن القصاص منه مثل ذهاب بعض النظر وبعض السمع وبعض العقل هو أن القصاص مأخوذ من قص الأثر أي اتباعه، فهو أن يتبع الجارح بمثل الجرح الذي جرح فيؤخذ منه دون زيادة عليه ولا نقصان منه، فإذا لم يقدر على ذلك ارتفع التكليف به لقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فخص من عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] جراح الخطأ كلها وبعض جراح العمد، وبقية الآية محكمة فيما أمكن القصاص فيه من جراح العمد ولم يخش منه ذهاب النفس.

فصل

فصل وأول الجراح الحارصة وهي التي تحرص الجلد أي تقشره قليلا. ثم الدامية وهي التي تدمي من غير أن يسيل منها شيء. وقيل الدامية أولا ثم الحارصة. وقيل إن الدامية هي الحارصة نفسها ثم الدامغة وهي التي يسيل منها دم، وقيل الدامية والدامغة سواء. ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم شقا، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت من اللحم ثم السمحاق. وقال ابن حبيب السمحاق: هي الحارصة التي تشق الجلد، والأول أعم وأكثر، وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة وهي الملطا ويقال الملطاة بالهاء، ثم الموضحة وهي التي توضح عن العظم أي تبدي وضحه. ثم الهاشمة التي تهشم العظم. ثم المنقلة وهي التي تكسر العظم فينقل منها العظام ليلتئم الجرح. ثم المأمومة وتسمى الآمة وهي التي تبلغ أم الرأس وهي الدماغ. فصل وأما ما دون الموضحة من الجراح فليس فيه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عقل مسمى فسواء كانت في الرأس أو في سائر الجسد الحكم فيها عنده سواء، إنما فيهما على مذهبه القصاص في العمد وحكومة في الخطأ إن برئت على شين. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان من رواية مالك عن يزيد بن قسيط عن سعيد بن المسيب أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، وهو يقول في موطأه ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل. فتوجيه هذا أن يحمل قضاء عمر وعثمان في الملطاة على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوقيت كما قالوا في قضاء زيد بن ثابت في العين القائمة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» خرجه أبو داود. وروي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق

فصل

أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسة أبعرة، يريد إذا كانت في الرأس، وهو قول حسن إلا أن مالكا لم يره ولا أخذ به. وقال الفقهاء السبعة فيما دون الموضحة الخطأ أجر المداوي. ومن أهل العراق من ذهب إلى أنه لا قصاص فيما دون الموضحة وهو بعيد، لأن الله يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فوجب القصاص من كل جرح على سبيل العمد إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع يمنع من القصاص فيما دون الموضحة. فصل وأما الموضحة فلا تكون عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا في جمجمة الرأس وفيها القصاص في العمد. وخمس من الإبل في الخطأ على ما ثبت «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابه لعمرو بن حزم إلا أن تكون في الوجه فتشينه فيزاد فيها بقدر شينها». وأما الهاشمة وهي التي تهشم العظم فلم يعرفها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال: لا أرى هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة. واختلف ابن القاسم وأشهب في القود منها، فلم يره ابن القاسم ورآه أشهب، ويقتص منها على مذهبه موضحة، فإن برئت موضحة ولم يصب العظم هشم فلا شيء للمستقيد، وإن أصابه هشم فذلك القصاص، وإن ترامت إلى منقله أو إلى نفسه فذلك قتيل الله لا دية فيه. فصل ودية الهاشمة عند من عرفها من العلماء، وهم الجمهور، عشر من الإبل، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وروي ذلك عن زيد بن ثابت ولا مخالف له من الصحابة. وأما المنقلة وهي ما أطار فراش العظم ففيها خمس عشرة فريضة، روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم من غير رواية مالك. واتفق على ذلك العلماء، والخطأ والعمد فيها سواء، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف خلاف ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه أقاد من المنقلة. وأما المأمومة وهي التي تخرق العظم وتبلغ الدماغ وهو أم الرأس ففيها ثلث الدية في العمد أيضا والخطأ، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف، ولا خلاف فيها بين أهل العلم.

فصل

فصل وأما الجائفة فإنها من جراح البدن لا من شجاج الرأس وهي ما وصل إلى الجوف ولو بمدخل إبرة، فلا تكون إلا في الظهر أو البطن، وفيها ثلث الدية عمدا كانت أو خطأ إذ لا قود فيها لأنها من المتالف. واختلف قول مالك فيها إذا أنفدت، فقال مرة فيها ثلث الدية، وقال مرة فيها ثلثا الدية. فصل وليس عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من جراح البدن عقل مسمى ما عدا الجائفة. وذكر في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال في كل نافذة في عضو من الأعضاء ثلث دية ذلك العضو ولم يأخذ به. وإنما قاله سعيد بن المسيب والله أعلم قياسا على الجائفة لما كانت جراحة تنفذ إلى الجوف، والجوف مقتل، وكان فيها ثلث الدية، جعل في كل جرح ينفذ عضوا من الأعضاء خطأ ثلث دية ذلك العضو. وهذا نحو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو قياسا على موضحة الرأس لما كان مقتلا. فصل فالجراح في الرأس والجسد تنقسم على قسمين: أحدهما: الخطأ، والثاني: العمد. فأما الخطأ فلا قصاص فيه ولا أدب، وإنما فيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من ثلث ديته أو ثلث دية المجني عليه على اختلاف قول مالك في ذلك. فإن كان الثلث فأكثر فعلى العاقلة. هذا مذهب مالك وأصحابه، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وقول ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة. وقال الشافعي: تحمل العاقلة القليل والكثير من الدية دية الخطأ. ومن حجته أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حمل العاقلة الأكثر دل على أنها تحمل الأقل، لأنها إذا حملت الكل فقد حملت كل جزء من أجزائها. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة من جناية الرجل ما بلغ نصف عشر ديته، ومن جناية المرأة ما بلغ نصف عشر ديتها.

فصل

وقال ابن شبرمة والثوري: تحمل العاقلة من جناية الرجل والمرأة ما بلغ أرش الموضحة، وهو قول إبراهيم النخعي قال: ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو على العاقلة، يريد الموضحة فما فوقها، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرض فيما دونها شيئا. والدليل على صحة قول مالك أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية غيره من دم ولا مال لقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] «وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» إلا أن يخص ذلك سنة قائمة أو إجماع. وقد أجمعوا أن العاقلة تحمل الثلث فصاعدا، لأن من قال إن العاقلة تحمل القليل والكثير، ومن قال إنها تحمل العشر أو نصف العشر، فقد قال إنها تحمل الثلث، فكان الثلث مخصوصا بالإجماع من الأصل المتفق عليه. فصل ودية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما بينهما وبين ثلث الدية. فإذا بلغت إلى ثلث الدية لم تستكملهما ورجعت إلى عقل نفسها فكان لها في ذلك وفيما زاد عليه نصف عقل الرجل، وفي هذا اختلاف كثير. قد قيل إنها تعاقله إلى نصف عشر الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها]، وقيل إلى نصف الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها. وقيل إن لها النصف من عقل الرجل في القليل والكثير، وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة. والدليل على صحة قول مالك أن ذلك قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مراسيل عمرو بن شعيب وعكرمة، وقد أرسله سعيد بن المسيب أيضا، ومراسيله كالمسندة. ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطأه «عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت كم في أصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل: فقلت كم في أربع؟ فقال:

عشرون من الإبل. قلت حين عظم جراحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، فقال: أعراقي أنت؟ قال: فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال: هي السنة يا بن أخي». فقوله هي السنة دليل على أنه أرسله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمرسل عند مالك كالمسند سواء في وجوب الحكم به. والشافعي لا يقول بالمراسيل إلا بمراسيل سعيد بن المسيب فإنها عنده كالمسندة لثقته وجلالة قدره. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المرسل أقوى من المسند لأن الثقة لا يرسل إلا ما قد صح عنده، فإذا أرسل فقد تقلد وإذا أسند فقد أحال على السند وتبرأ منه. ومما يدل على صحة مذهب مالك من طريق الاعتبار أن الله تبارك وتعالى ساوى بين الرجل والمرأة في الأصل والمبدإ إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما بعد الثلث فقال الصادق المصدوق عن ربه عز وجل «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يأتي الملك فيقول: أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد، فينفخ فيه الروح». فيقع الفصل فيه من الله بالتذكير إن شاء أو التأنيث بعد هذا الأمر المشترك فيه وهو من العام ثلثه. وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وبين الاعتبار من قَوْله تَعَالَى في الآيتين إحداهما: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. والثانية: قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أن أمد الغيض وهو النقصان من أمد المعلوم في العادة وهو تسعة أشهر في الأغلب والأكثر ثلاثة أشهر فإن الولد نسبه لستة أشهر فإذا اعتبرنا الزيادة بالنقصان اعتبارا عدلا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا منها ثلاثة أشهر، وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة تمام العام. وقد تقدم أن الأربعة

فصل

الأشهر المشترك فيها ثلث العام فكأنما اشتركا من العام وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلاثة من الخلقة، ثم وقع الفصل بعد الثلاث وانفرد الذكر لتذكيره والأنثى بتأنيثها، فكذلك يشتركان في العاقلة في الثلث، ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى نفسه كما رجع بعد ثلث العام إلى صورة نفسه، فحسبك بهذا بيانا واضحا ودليلا راشدا إن شاء الله. فما كان من الجراح جراح الخطأ فيه دية مسماة بأثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضي فيه بالمسمى، وما لم يكن فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء مسمى فلا شيء فيه إلا أن يبرأ على عثل فتكون فيه حكومة بالاجتهاد. فصل وصفة الاجتهاد في ذلك أن يقوم المجني عليه سالما من العثل ويقوم بالعثل أن لو كان عبدا في الحالتين، فما كان بين القيمتين سمى من قيمته سالما فما كان له من الأجزاء كان له ذلك الجزء من ديته. فصل وأما العمد فإنه ينقسم على قسمين: عمد لا قصاص فيه، وعمد فيه القصاص. فأما العمد الذي فيه القصاص فلا دية فيه إلا ما يتراضيان عليه على المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه. وابن عبد الحكم من أصحاب مالك يقول: إن المجروح مخير بين أن يقتص أو يأخذ العقل، وهو أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح إنه مخير بين أن يفقأ عين الأعور بعينه أو يأخذ الدية ولا خيار فيه للأعور الجاني

فصل

وهذا شاذ في الجراح، وإنما القولان مشهوران عن مالك في إيجاب الدية على القاتل في القتل شاء أو أبى. فصل وأما العمد الذي لا قصاص فيه لأنه متلف أو لأنه لا يستطاع القصاص فيه، ففيه الدية المسماة أو حكومة فيما لا دية فيه مسماة، في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا ففي ذلك ثلاثة أقوال لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أحدها: أن ذلك في ماله من غير تفصيل لأنه عمد، الخطأ لامتناع القصاص فيه. والثالث: أن ذلك في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال. فصل وكذلك ما كان من قطع الآراب والجوارح وإذهاب الحواس والمنافع بالجنايات عليها ينقسم على قسمين: خطأ- وعمد. وينقسم العمد على قسمين: قسم فيه القصاص وقسم لا قصاص فيه. فما كان من الخطأ ففيه الدية المسماة إن كان مما له دية مسماة، والحكومة إن لم تكن له دية مسماة في مال الجاني إلا أن يبلغ الثلث فصاعدا. وما كان من العمد الذي لا قصاص فيه ففيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا فعلى الثلاثة الأقوال التي تقدمت في الجراحات. وما كان من العمد الذي فيه القصاص فالقصاص فيه إلا أن يصطلحا على شيء في المشهور من المذهب،

فصل

خلاف قول ابن عبد الحكم وإحدى الروايتين عن مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح، وقد تقدم ذكر ذلك. فصل وقد مضى الكلام في تسمية ديات الجراح، ونذكر هنا ديات الأعضاء والجوارح والحواس والمنافع إن شاء الله. فأول ذلك العقل وفيه الدية كاملة، وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والسمع فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك، والبصر فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والأنف والأنف فيه الدية كاملة إذا أوعى المارن جدعا، فإن قطع بعضه فبحساب ما قطع منه. والشفتان فيهما الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية خلاف قول سعيد ابن المسيب إن في السفلى منهما ثلثي الدية. وفي اللسان الدية كاملة فإن قطع بعضه فبحساب ما ذهب من كلامه على الأحرف، وقيل بالتوخي والاجتهاد. وأما أشفار العينين وجفونهما والحاجبان فليس في شيء من ذلك عند مالك إلا حكومة بالاجتهاد. وأما شعر الرأس واللحية فلا شيء فيه إن نبت الشعر وعاد لهيئته على مذهب مالك. وإن لم ينبت كان فيه حكومة بالاجتهاد، ولا قصاص فيه بالعمد وإنما فيه الأدب بالاجتهاد. ومن أهل العلم من يرى الدية كاملة في أشفار العينين وفي جفونهما وفي الحاجبين وفي شعر الرأس واللحية، ومعنى ذلك إذا لم ينبت الشعر والله أعلم. ومنهم من يرى في شعر الرأس واللحية القصاص في العمد. فصل وفي السن خمس من الإبل، والأضراس والأسنان سواء، في كل واحد منهما خمس من الإبل على قضاء معاوية. وذكر مالك في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال. قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة. قال سعيد: فالدية تنقص في قضاء عمر وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنت أنا لجعلت فيها بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء. وذلك أن الأسنان اثنا عشر سنا وهي أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب،

فصل

فيجب له ستون بعيرا على خمسة أبعرة في كل سن. والأضراس عشرون: أربع ضواحك وهي التي تلي الأنياب، واثنا عشر رحى ثلاث في كل شق، وأربع نواجد وهي أقصاصا. فيجب لها أربعون بعيرا على قول سعيد بن المسيب، فيأتي في جميع الأسنان مائة بعير وستون بعيرا، وعلى قضاء عمر ثمانون بعيرا. فصل وفي الصلب الدية كاملة] إذا أقعد لم يقدر على المشي. وفي الذكر الدية كاملة] قطع كله أو الحشفة وحدها، فإن قطع بعضها فبحساب ذلك. وفي الأنثيين الدية كاملة]، في كل واحدة منهما نصف الدية. وذهب سعيد بن المسيب إلى أن في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى الثلث لأن الولد يكون من اليسرى. وفي إذهاب الجماع الدية كاملة. وفي اليدين الدية كاملة. وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي الرجلين الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي إشراف الأذنين عند أشهب الدية كاملة، وليس في ثدي الرجل وأليته عند مالك إلا حكومة. وأما المرأة ففي ثدييها الدية كاملة، وفي أليتيها على مذهب أشهب الدية كاملة. وفي شفري المرأة الدية كاملة. وذكر أبو الفرج عن ابن الماجشون أن في الشوى وهي جلدة الرأس الدية كاملة. وكذلك في الصدر إذا هدم ولم يرجع إلى ما كان عليه، قال فيه الدية. وفي كتاب الأبهري إذا ضرب أنفه فأذهب شمه والأنف قائم ففيه الدية كاملة، وقاله أبو الفرج وروى ابن نافع عن مالك أن فيه حكومة وهو شاذ. وينبني على أصولهم أن يكون في الذوق الدية كاملة، ولا أعلم فيه لأصحابنا نصا. فصل فيتحصل فيما يجنى به على الرجل من الديات على المذهب ثمان عشر

فصل

دية، إحدى عشرة في رأسه، وسبع في جسده. فأما التي في الرأس العقل، والسمع، وأشراف الأذنين عند أشهب، والبصر، والشم على اختلاف، والأنف، والذوق، وإن كنت لا أعلم فيه نصا، والكلام، والشفتان، والشوى وهي جلدة الرأس، والأضراس والأسنان يجتمع فيها على مذهب مالك أكثر من دية. والتي في الجسد: اليدان، والرجلان، والصلب، والصدر، والذكر، والأنثيان، وإذهاب الجماع. ويجتمع في المرأة ثمان عشرة دية أيضا، لأن فيها ثلاث ديات ليست في الرجل، وهي الشفرتان، والحلمتان، والأليتان عند أشهب، كما أن في الرجل ثلاث ديات ليست في المرأة وهي إذهاب الجماع، والذكر، والأنثيان. فصل والعمد الذي يجب فيه القصاص في إتلاف الجارحة فيما يظهر من حاله وقصده فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعمد للضرب على وجه العداوة والغضب. والثاني: أن يعمد له على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب. والثالث: أن يعمد له على وجه اللعب. فأما إذا عمد له على وجه العداوة والغضب فلا يخلو أن يكون ضربه في غير الجارحة التالفة أو في الجارحة التالفة. فأما إن كانت ضربته في غير الجارحة التالفة مثل أن يضربه في رأسه فتذهب منها عينه فإنه لا يقتص من العين باتفاق، وإنما فيها الدية في ماله أو على العاقلة على اختلاف قول ابن القاسم في ذلك. وأما إن ضربه بلطمة أو بسوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر فيه أنه لم يقصد إلى فقء عينه فأصاب عينه في ذلك ففقأها ففي ذلك قولان: أحدهما: وهو المشهور في المذهب، أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه وما أشبه ذلك.

فصل

والثاني: أن ذلك شبه العمد فلا قصاص فيه وفيه الدية المغلظة في ماله وهو قول جل أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. والقول الأول أصح، والدليل عليه حديث أنس في شأن أم الربيع. روي في الصحيح «أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة والله لا تقتص منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سبحان الله يا أم الربيع القصاص في كتاب الله. فقالت والله لا تقتص منها أبدا. قال فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» كذا وقع في كتاب مسلم أن الجارية أخت الربيع عمة أنس بن مالك راوي الحديث وأن الحالف الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره أنس بن النضر». ووقع في رواية القابسي من كتاب الحدود أن الجارحة أخت الربيع مثل ما في كتاب مسلم. ويجب على الجارح مع القصاص الأدب على مذهب مالك لجرأته. وقال عطاء بن أبي رباح: الجروح قصاص ليس للإمام أن يضربه ولا أن يسجنه إنما هو القصاص وما كان ربك نسيا، ولو شاء لأمر بالضرب والسجن. وأما إن عمد على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب القصاص على أنه عمد. والثاني: نفيه وتغليظ الدية على أنه شبه العمد. والثالث: أنه خطأ ففيه الدية غير مغلظة على العاقلة إن زاد على الثلث على الاختلاف في الضرب إذا كان على وجه اللعب فمات منه. وكذلك إذا عمد على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب، فيجري ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في النفس فلا معنى لإعادته. فصل ومن هذه الجوارح ما تختص بمنافع كجارحة العين فإن منفعتها المختصة بها

فصل

البصر، وجارحة الأذن فإن منفعتها المختصة بها السمع، وكجارحة اليد فإن منفعتها المختصة بها البطش واللمس، وكجارحة اللسان فإن منفعتها المختصة بها الكلام. فما كان من هذه الجوارح التي لها منافع تختص بها فالدية المسماة فيها إنما تجب لذهاب المنفعة المختصة بها، وهي تبع لها إذا ذهبت بذهابها. فإذا ذهبت الجارحة على انفراد دون المنفعة ففيها حكومة أو دية كاملة. مثال هذا الذي ذكرناه أن من أذهب بصر رجل وعينه قائمة فعليه الدية كاملة، وإن أذهب بصره وفقأ عينه ففيه أيضا الدية كاملة وتكون جارحة العين تبعا للبصر. وكذلك الأذن مع السمع، فإن قطع أشراف الأذنين وبقي السمع ففيها على مذهب ابن القاسم حكومة. وكذلك إن كان الرجل أصم فقطع رجل أذنيه ففيهما حكومة، أو كان أعمى قائم العينين ففقأ عينيه ففيهما حكومة. فصل واختلف في محل العقل فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن محله القلب، وهو مذهب المتكلمين من أهل السنة. وذهب ابن الماجشون من أصحابنا إلى أن محله الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الاعتزال. والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]. وقال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فأضاف تعالى العقل إلى القلب لما كان موجودا به وحالا فيه، كما أضاف البصر إلى العين والسمع إلى الأذن والبطش إلى اليد لما كان كل شيء من ذلك حالا في جارحته المضافة إليه. فمن أصيب بمأمومة فذهب منها عقله فله على مذهب مالك دية العقل ودية المأمومة، لا يدخل بعض ذلك في بعض، إذ ليس الرأس عنده بمحل للعقل ولا يختص به كمن أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة. وعلى مذهب أبي حنيفة وابن الماجشون

فصل

إنما له دية العقل ولا شيء في المأمومة لاختصاص العقل عنده بموضعها، كمن أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، أو أذهب سمع رجل وقطع أذنه في ضربة واحدة. فصل ومن شرط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر والحرية أو الرق، فإن اختلفا في شيء من ذلك ارتفع القصاص، إلا أن مالكا وقف في رواية أشهب عنه في جراح النصراني للمسلم. وقال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل. وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.

كتاب الجنايات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله كتاب الجنايات قد تقدم فيما مضى من الكلام حكم جنايات الأحرار بعضهم على بعض في النفس وفيما دون النفس، ورسم سحنون هذا الكتاب بكتاب جنايات العبيد. والعبيد مخاطبون مكلفون بجناياتهم لاحقة بهم متعلقة برقابهم دون ساداتهم. والأصل في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنه فقال يا رسول الله هذا ابني فما لي منه. قال: لا تجني عليه ولا يجني عليك» والعبد كذلك فوجب لهذا أن تكون جنايات العبيد متعلقة برقابهم لا يلزم ساداتهم أكثر من إسلامهم بما جنوا، كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا بجب فيها القصاص. وإن أحب ساداتهم أن يفتكوهم بما جنوا ولا يسلموهم بجناياتهم كان ذلك لهم إلا فيما فيه القصاص في أبدانهم فلا يكون ذلك لهم إلا برضى المجني عليهم. فصل فمعرفة ما يقتص فيه من العبيد مما لا يقتص منه أصل هذا الكتاب وعليه تنبني مسائله فلا بد من ذكر ذلك وتحصيله. أما القصاص فيما بينهم البين فاختلف أهل العلم فيه على أربعة أقوال: أحدها: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن تابعه إن القصاص بينهم في النفس وفيما

فصل

دون النفس كما هو بين الأحرار لاستوائهما في المرتبة كانوا لرب واحد أو لأرباب شتى، إلا أن الخيار في العفو والقصاص لسيد العبد المجروح أو المقتول دونه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه. والدليل على صحته قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الآية. والثاني: أنه لا قصاص بينهم في النفس ولا فيما دون النفس كالصغير والمجنون. روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود وقال به جماعة من التابعين وبعض فقهاء العراقيين، وهو بعيد جدا، لأن القلم مرتفع عن الصغير والمجنون بخلاف العبيد. والثالث: أن القصاص بينهم في النفس ولا قصاص بينهم في الجراح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، واحتج لهم الطحاوي بحديث قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين «أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقتص لهم منه». وبما روي عنه أيضا «أن عبدا لقوم أغنياء قطع أذن عبد لقوم فقراء فلم يجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما قصاصا». قال: ولو كان واجبا لاقتص لهم لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] إلى قوله {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] قال واستعملنا في النفس بالنفس قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم». فصل فأما الحديث فلا حجة لهم فيه لأنه يحتمل أنه لم يقتص للفقراء لأنه أمرهم بالعفو على أخذ الأرش لموضع فقرهم ففعلوا ذلك، وأنه لم يقتص للأغنياء لأنه رغبهم في العفو لئلا تنقص قيمة عبد الفقراء بالقصاص منه. ولذلك والله أعلم نقل في الحديث ذكر فقرهم. وإذا وجب القصاص بينهم في النفس فهو فيما دون النفس أوجب، والله أعلم.

فصل

والقول الرابع: أن القصاص بين العبيد إلا أن يكونوا لمالك واحد وهذا القول وقع في المدونة لبعض الناس. فصل وأما العبيد والأحرار فإن القصاص بينهم مرتفع في النفس وفيما دون النفس إلا أن يقتل العبد الحر فيقتل به. وقد قيل إن الجراح كالقتل. فصل فجنايات العبيد تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: جناياتهم على العبيد. والثاني: جناياتهم على الأحرار. والثالث: جناياتهم على الأموال. فأما جناياتهم على العبيد في مذهب مالك الذي يرى القود بينهم في النفس وفيما دون النفس فإنها تنقسم على وجهين: أحدهما: أن تكون خطأ في النفس وفيما دون النفس من الجراح، أو عمدا مما لا يستطاع القصاص منه لأنه متلف أو لأنه لا يمكن القصاص منه. والثاني: أن تكون عمدا في النفس أو فيما دون النفس من الجراح التي يقتص منها وليس بمتالف. فصل فأما الوجه الأول: وهو أن يقتل أحد العبدين صاحبه خطأ أو يجرحه خطأ أو عمدا لا يجب فيه القصاص فسيد العبد الجاني مخير بين أن يسلمه بجنايته أو يفتكه بقيمة العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه، وإن لم ينقصه الجرح شيئا فلا شيء عليه إلا في المنقلة والمأمومة والجائفة فإنه يفتكه في المأمومة والجائفة بثلث قيمة العبد المجروح، وفي المنقلة بعشر قيمته ونصف عشر قيمته إن برئت على غير شين وإن برئت على شين فنقص ذلك من قيمته افتكه بما نقص الجرح من قيمته

فصل

على ما هو عليه من الشين،. وقيل يفتكه بالأكثر من الواجب في ذلك الجرح أو مما نقص الجرح من قيمته على ما هو عليه من الشين، لأن هذه الجراح الثلاث يستوي فيها الخطأ والعمد في العبيد. وتثبت الجناية في هذا الوجه بشاهدين وشاهد وامرأتين وباليمين مع الشاهد وبإقرار العبد على نفسه بالجناية بحضرة الجناية عند ابن القاسم خلاف قول ابن نافع. فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يقتل أحد العبيدين صاحبه عمدا أو يجرحه عمدا جرحا يجب فيه القصاص فإن سيد العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه إن نقص إلا أن تكون موضحة فيفتكه بنصف عشر قيمة العبد المجروح إن برئت الموضحة على غير شين، وإن برئت على شين فعلى ما ذكرنا من الاختلاف. فصل وهذا إذا ثبت القتل أو الجرح بشهادة شاهدين. وأما إن لم يكن على ذلك إلا شاهد واحد فإن السيد يحلف مع الشاهد عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أراد القصاص أو العقل، ذكره ابن سحنون. وقال أصبغ في العتبية إن أراد السيد العقل حلف، وإن أراد القصاص حلف العبد، وهو قول المغيرة المخزومي. وإن لم تثبت الجناية إلا بإقرار العبد بها على نفسه اقتص منه بقوله لأنه لا يتهم. وقد حكى بعض الرواة

فصل

عن كثير من أصحاب مالك أنه لا يجوز إقراره على نفسه بجناية العمد لأنه لا يجوز له أن يتلف نفسه على سيده. فصل وأما جنايات العبيد على الأحرار فإنها تنقسم على وجهين: أحدهما: جناياتهم عليهم في النفس. والثاني: جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح. فأما جناياتهم عليهم في النفس فلا يخلو إذا قتل العبد الحر أن يكون ذلك خطأ أو عمدا. فإن كان خطأ خير سيد القاتل بين أن يسلمه أو يفتكه بالدية، فإن اختار افتكاكه بالدية قيل يفتكه بالدية حالة وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، قاله في مسألة العبد والحر يصطدمان وقيل يفتكه بالدية مؤجلة في ثلاثة أعوام. وقاله ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب الديات، وهو ظاهر في سماع أصبغ من الكتاب المذكور في مسألة الحر والعبد يصطدمان. وإن كان عمدا خير أولياء الحر بين أن يقتلوا العبد أو يستحيوه، فإن قتلوه بقي ماله لسيده، وإن أخذوه ليقتلوه فاستحيوه ففي ماله قولان: أحدهما: أن المال يكون للسيد كما لو قتلوه، والثاني: أن المال يكون تبعا له كما لو استحيوه فأسلم إليهم في الجناية. والقولان في سماع أصبغ من كتاب الديات. وأما إن استحيوه فأسلم إليهم فلهم أن يأخذوه في الجناية بماله إلا أن يشاء سيده أن يفتكه بماله منهم بدية الحر المقتول فيكون ذلك له. وقد قيل إن ماله إن كان عينا فيه وفاء بالجناية لم يخير سيده ووديت الجناية من ماله. فصل وأما جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح فسواء كان الجرح عمدا أو خطأ لأن العبد لا يقاد من الحر بالجراح، فيخير سيد العبد الجارح بين أن يسلمه أو يفتكه بدية الجرح حالا إن كان عمدا، أو أقل من الثلث إن كان خطأ. وإن كان الجرح خطأ وأرشه أكثر من الثلث فعلى الاختلاف المذكور.

فصل

فصل وأما جنايتهم على الأموال فسواء كانت لحر أو لعبد ذلك في رقابهم، يخير سيد العبد الجاني بين أن يسلمه بما استهلك من الأموال أو يفتكه بذلك كان ما استهلك من الأموال أقل من قيمته أو أكثر، أو استهلك ألف مثقال وقيمته عشرة دنانير لم يكن له أن يمسكه إلا بغرم ألف مثقال، إلا أن يرضى منه المجني عليه بدون الألف فيجوز ذلك إن كان المجني عليه حرا مالكا لأمر نفسه أو عبدا مأذونا له في التجارة. وأما إن كان عبدا محجورا عليه أو صبيا مولى عليه فلا يجوز ذلك إلا بإذن سيد العبد أو ولي اليتيم. وأما إن رضي المجني عليه بدون قيمة العبد فلا يجوز إلا أن يكون حرا مالكا لأمر نفسه. وإذا أسلم في الجناية فماله تبع له. فصل وإنما يكون في رقبة العبد ما استهلك من الأموال التي لم يؤتمن عليها. وأما ما استهلك مما أؤتمن عليه بعارية أو كراء أو وديعة أو استعمال أو ما أشبه ذلك فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يستهلكه بالانتفاع. والثاني: أن يستهلكه بالإفساد والإهلاك من غير انتفاع به. فأما إذا استهلكه بالانتفاع مثل أن يكون ثوبا يتعدى عليه فيبيعه ويأكل ثمنه أو طعاما فيأكله بعينه أو ما أشبه ذلك فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك في ذمته لا في رقبته. وأما ما استهلك بالإهلاك والإفساد فقال ابن الماجشون: ذلك في رقبته. وقال ابن القاسم: لا يكون ذلك في رقبته وإنما يكون في ذمته لأنه أؤتمن عليه. فصل وهذا كله بخلاف ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل، لأن

فصل

المواشي ليست هي الجانية إذ ليست بمخاطبة ولا بمكلفة، وإنما الجاني ربها إذ لم يمنعها من الإفساد في الليل، فيلزمه غرم ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل من قليل أو كثير، وليس له إسلام الماشية بالفساد. والعبد عاقل مكلف مخاطب فهو الجاني وجناياته في رقبته، فإذا أسلمه سيده فليس عليه أكثر من ذلك، إذ لا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك». إلا أن يأمره السيد بالجناية فإن أمره بها اقتص منهما جميعا عند ابن القاسم، كان العبد فصيحا أو أعجميا. وقال ابن وهب: إذا أمر السيد عبده بقتل رجل فإن كان فصيحا اقتص من العبد وضرب السيد مائة وسجن عاما. وإن كان أعجميا اقتص من السيد وضرب العبد مائة وسجن عاما. وأما ما أفسدت الماشية بالنهار فلا شيء على صاحبها فيه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار». فصل وإنما يسقط عنه الضمان فيما أفسدت من الزرع بالنهار إذا أخرجها عن جملة مزارع القرية وتركها بالمسرح. وأما إن أطلقها للرعي قبل أن تخرج من جملة مزارع القرية دون راع يذودها عن الزرع فهو ضامن لما أفسدت، وإن كان معها رعاتها فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الراعي إن فرط أو ضيع حتى أفسدت شيئا. على هذا حمل أهل العلم ما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى على أرباب الزرع بحفظها بالنهار وإن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. فصل والأصل في هذه المسألة قول الله تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] الآية والنفش لا يكون إلا بالليل، وأما بالنهار فهو الهمل. وشرعنا على هذا في إيجاب الضمان على رب

فصل

الماشية فيما أفسدت ماشيته بالليل، وأما في صفة التضمين فهو على خلاف ما قضى به سليمان، لأنه قضى لصاحب الزرع أن يستوفي من نسل الماشية ورسلها ما كان يخرج من زرعه على المتعارف. وأما ما قضى به داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أن يتأول على شرعنا لأنه قضى بالغنم لصاحب الزرع، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها. وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعليه وسلم، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: يا نبي الله إن هذا أرسل غنمه في حرثي ليلا فلم يبق لي منه شيئا. فقال له اذهب فإن الغنم لك كلها، فقضى بذلك داود. فمر صاحب الغنم إلى سليمان فأخبره بالذي قضى به داود فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال وكيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، وإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال له داود قد أصبت والقضاء ما قضيت. فهذا معنى قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]. فصل وليس في قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دليل على أنه أصاب الحق عند الله في قضائه هذا، وأن داود أخطأه كما يقول من يذهب إلى أن الحق في طرف وأن المجتهد إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه. بل في الآية ما يدل على أن ما حكم به كل واحد منهما حق عند الله في حقه لأنه قال تعالى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ومن أخطأ في قضية فلا يوصف بأنه أوتي حكما وعلما. وطريق هذه المسألة القطع والعلم لا غلبة الظن، فلا يصح أن يستدل فيها بشيء من الظواهر المحتملة. والذي يقوله المحققون أن كل مجتهد مصيب، وهو الصواب الذي لا يصح خلافه، لأن الله تعالى تعبد المجتهد باجتهاده، فهو مأمور أن يقضي به ويحل

به ويحرم به، كما تعبده أن يقضي بشهادة الشاهدين ويحل بهما ويحرم بهما. فإذا لم يجز أن يقال لمن قضى بتحليل أو تحريم في مال أو فرج بشهادة شاهدين عدلين إنه خطأ عند الله إذ لم يتعبد ما خوطب به، كذلك لا يجوز أن يقال لمن أحل أو حرم باجتهاده في موضع الاجتهاد إنه مخطئ عند الله، وليس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك نص. والذي يدل عليه مذهبه القول بتصويب المجتهدين. والذي يدل على ذلك من مذهبه أن المهدي سأله أن يجمع مذهبه في كتاب ويحمل عليه الناس، فقال له مالك: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفرقوا في البلاد وأخذ الناس بآرائهم، فدع الناس وما اختاروه. فلولا أن كل مجتهد مصيب عنده لما جاز أن يقر الناس على ما هو الخطأ عنده. ومما يدل على ذلك من مذهبه أيضا قوله في المدونة في الذي يعرف خطه ولا يذكر الشهادة إنها شهادة لا تجوز عنده ولا تصح ولا يحكم بها، ولكنه يرفعها ويؤديها كما علم. فلولا أن كل مجتهد عنده مصيب لما أمره أن يؤدي شهادة لا يصح الحكم بها، فلعل القاضي الذي رفعت إليه يحكم بها فيكون قد عرضه للحكم بالخطأ، هذا لا يصح، وهو مذهب الشافعي وجماعة أصحابه. واختلف في ذلك عن أبي حنيفة. وقد تأول بعض الناس على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحق في طرف واحد من قوله إذ سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مخطئ ومصيب. وهذا لا يصح، لأنه لم يقل مخطئ عند الله، وإنما أراد أنه مخطئ عنده فلا يصح له اتباعه والحكم بمذهبه. وإذا احتمل قوله هذا بطل الاستدلال به. واستدل أيضا بعض الناس على ذلك من مذهبه من قوله فيمن خفيت عليهم القبلة إنهم يجتهدون في طلبها ولا يصلي أحد منهم مؤتما بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد. قال: فلو كان كل واحد منهم مصيبا في اجتهاده لجاز أن يأتم كل واحد منهم بصاحبه. وهذا لا يلزم لأن من ائتم بمن صلى إلى جهة ما فهو مصل إلى تلك الجهة، لأن صلاته مرتبطة بصلاة إمامه وهو متعبد باجتهاده لا يجوز له أن يتركه لاجتهاد غيره. فمن هذا الوجه قال مالك: إنه لا يجوز أن يأتم أحد منهم بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد، لا من الوجه الذي ذكر والله أعلم.

كتاب الجامع

كتاب الجامع قال محمد بن رشد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد حمد الله تعالى وجل حق حمده. والصلاة على نبيه الكريم وعبده: إني لما ضمنت الجزء الأول من كتاب المقدمات بيان ما يجب اعتقاده من المعتقدات التي أوجبها الله عز وجل على المكلفين من عباده، من الإيمان به والإقرار بوحدانيته، والمعرفة به على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، بما نصب لهم من الدلالات على ذلك في محكم كتابه، والإيمان برسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتصديق لما جاء به من عنده، والمعرفة لصحة رسالته ونبوته بالدلالة الظاهرة، والمعجزات الباهرة، التي أظهرها الله تعالى وأحكام الكتاب من ناسخه ومنسوخه، وخاصه وعامه، ومفصله ومجمله، ونصه ومحتمله، وحقيقته ومجازه، وأحكام السنن وتقاسيمها، وحقيقة الإجماع، ووجه القياس ووجوب الحكم به فيما لم يرد به نص في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة. وما تنقسم عليه أحكام الشرائع من واجب ومستحب ومباح وحرام ومكروه وتفسير ذلك كله وبيانه. وضمنا سائر الأجزاء أحكام جميع شرائع الدين فرائضها وسننها وفضائلها وشرائط صحتها وفسادها، رأيت أن أختمه بجزء جامع يحتوي على ما تهم معرفته من العلم بنسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه وأولاده وعيون

باب في ذكر نسب النبي - عليه السلام - ومولده ومبعثه وصفته وأسمائه وأخلاقه وسنه ووفاته وأزواجه وأولاده وهجرته وبعوثه وغزواته

سيره وأخباره، من حين مولده إلى وقت وفاته، وعلى جمل مما يحق معرفته مما يجب على الإنسان في خاصته أو يحرم عليه أو يستحب له أو يكره له أو يباح له في مطعمه ومشربه وملبسه وجميع شأنه؛ وعلى بيان فضل مكة والمدينة، وفضل مالك إمام دار الهجرة ومقدار مرتبته في العلم والله الموفق للصواب لا رب غيره ولا معبود سواه. باب في ذكر نسب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومولده ومبعثه وصفته وأسمائه وأخلاقه وسنه ووفاته وأزواجه وأولاده وهجرته وبعوثه وغزواته هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. روي هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفق على صحته أهل العلم بالنسب لم يختلفوا في شيء منه. وإنما اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل بن إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وفيما بين إبراهيم وآدم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - اختلافا كثيرا لا يقطع على صحة شيء منه. روي عن ابن عباس أنه قال: فيما بين معد بن عدنان إلى إسماعيل ثلاثون أبا. ولا اختلاف بينهم في أن نزارا بأسرها وهم ربيعة ومضر هي الصريخ من ولد إسماعيل، وقريش وهم بنو النضر بن كنانة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من بني كنانة واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم».

فصل في نسب أمه - عليه السلام - ووقت ولادتها إياه

واسم هاشم عمرو، وإنما قيل لهاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه. واسم قصي يزيد، وإنما قيل له قصي لأنه تقصى مع أمه أخواله ومكن معهم في باديتهم فبعد عن مكة وكان يدعى مجمعا لأنه لما رجع إلى مكة من عند أخواله جمع قبائل قريش بمكة حين انصرافه. واسم عبد مناف المغيرة ويكنى أبا عبد شمس واختلف في عبد المطلب فقيل اسمه عبد المطلب، وقيل اسمه شيبة، وكان يقال له شيبة الحمد لشيبة كانت في ذؤابته. وقال من قال ذلك إنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبد المطلب بيثرب فسمي عبد المطلب، والله أعلم. فصل في نسب أمه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ووقت ولادتها إياه وأم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب تزوجها عبد الله ابن عبد المطلب وهو ابن ثلاثين سنة وقيل ابن خمس وعشرين سنة، خرج به أبوه عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته. وقيل كانت آمنة في حجر عمها وهيب بن عبد مناف، فخطب إلية ابنته هالة لنفسه، وخطب إليه ابنة أخيه آمنة على ابنه عبد الله، فزوجه وزوج ابنه في مجلس واحد. فولدت هالة لعبد المطلب حمزة وولدت آمنة لعبد الله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حملت به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وولدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة في الدار التي كانت تدعى لحمد بن يوسف أخي الحجاج، عام الفيل إذ ساقته الحبشة إلى مكة في جيشهم لغزو البيت، فردهم الله عز وجل عنه وأرسل عليهم طيرا أبابيل فأهلكتهم، لا اختلاف في ذلك. قيل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من

فصل في مرضعات النبي - عليه السلام -

رمضان، وقيل يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وقيل لثمان خلون منه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وقيل أول اثنين منه. وقد قيل إنه ولد في شعب بني هاشم، ولا خلاف أنه ولد عام الفيل. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ولد يوم الفيل، فيحتمل أن يكون أراد اليوم الذي حبس الله فيه الفيل عن وطء الحرم وأهلك الذين جاءوا به، ويحتمل أن يكون أراد بقوله يوم الفيل عام الفيل. فصل في مرضعات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأرضعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحمزة ثويبة جارية أبي لهب، وأرضعت معهما أبا سلمة بن عبد الأسد. فالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وحمزة وأبو سلمة إخوة من الرضاعة. وروي عن ابن عباس أنه قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا تتزوج ابنة حمزة؟ قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة» وروي عن عراك بن مالك «أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله إنا قد تحدثنا أنك خطبت درة بنت أبي سلمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعلى أم سلمة لو أني لم أنكح أم سلمة لم تحل لي لأن أباها أخي من الرضاعة» وأعتق أبو لهب ثويبة بعد أن هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر. ثم استرضع له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني سعد بن بكر حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. فردته ضئره حليمة إلى أمه آمنة بعد خمس سنين ويومين من مولده، فأخرجته أمه آمنة إلى أخوال أبيه بني النجار تزورهم بعد سبع سنين من مولده، فتوفيت بعد ذلك بالأبواء ومعها النبي، فقدمت به أم أيمن مكة بعد موت أمه بخمسة أيام.

فصل في سن النبي- عليه السلام - يوم مات أبوه

فصل في سن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم مات أبوه ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب وأمه حامل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: بل توفي بالمدينة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن ثمانية وعشرين شهرا. وقبره بالمدينة في دار من دور بني عدي بن النجار. وكان خرج إلى المدينة ليمتار قمحا، وقيل إنه كان ابن سبعة أشهر، وقيل إنه كان ابن شهرين، ولم يكن له ولد غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكفله جده وعمه. فتوفي جده عبد المطلب سنة تسع من عام الفيل. وقيل بل توفي وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن ثمان سنين. وقيل بل توفي وهو ابن ثلاث سنين. فأوصى به إلى ابنه أبي طالب، فصار في حجره حتى بلغ خمس عشرة سنة، ثم انفرد بنفسه. وكان أبو طالب يحبه، وكان هو مائلا إليه لوجاهته في بني هاشم وسنه، وكان مع ذلك شقيق أبيه. فصل في سن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم تزوج خديجة وذكر أولاده منها وتزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة بنت خويلد وهو ابن إحدى وعشرين سنة. قيل وهو ابن ثلاثين سنة. وهي ثيب بعد زوجين كانا لها. قيل إنها كانت يومئذ بنت ثلاث وأربعين سنة. وقيل بنت أربعين سنة، وإنها ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة. وروي أنه خرج في تجارة، فرآه نسطور قد أظلته غمامة فقال: هذا نبي. وتوفيت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وقيل بأربع سنين، وقيل: بخمس سنين. وكانت حين وفاتها بنت خمس وستين سنة، وهي أول من آمن به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يجمع معها غيرها، ولا تزوج سواها من أزواجه إلا بعد موتها.

وولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم منها حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، أربع بنات: زينب وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. والأصح أن رقية هي الثانية بعد زينب ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ولا اختلاف في أن زينب أكبرهن. قيل إنها ولدت في سنة ثلاثين من مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وماتت في سنة ثمان للهجرة. أسلمت وهاجرت حين أبى زوجها أبو العاصي أن يسلم، ثم أسلم بعدها وهاجر. وتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك ابنا سماه عبد الله فبه كان يكنى. وتوفيت يوم وقعة بدر، وبسبب مرضها تخلف عثمان عن شهود بدر بأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهمه فهو من أهل بدر. وتزوج بعدها أم كلثوم، فتوفيت عنده ولم تلد منه، فكان نكاحه لها في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة. وتوفيت في سنة تسع منها. وصلى عليها أبوها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب. فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] قال لهما: أبوهما لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد. وقال أبو لهب: رأسي من رأس أمكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما. وتزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيدة نساء العالمين، بعد وقعة أحد. وقيل إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزوجه إياها بسبعة أشهر ونصف، وكان سنها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وسن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم، وزينب، ولم

فصل في ذكر أزواجه- عليه السلام -

يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير. قيل: بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر. وقيل: بثمانية أشهر. واختلف في ولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم الذكور من خديجة. فقيل: أربعة: القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله، والطيب، والطاهر. وقيل ثلاثة: القاسم وعبد الله وهو الطيب. سمي بذلك لأنه ولد في الإسلام، والطاهر. وقيل اثنان: القاسم، وعبد الله وهو الطاهر والطيب، فلعبد الله على هذا ثلاثة أسماء. وقد حكى معمر عن ابن شهاب أن بعض أهل العلم قال: ما نعلمها ولدت له إلا القاسم، وولدت له بناته الأربع. وعاش القاسم فيما روي حتى مشى. فصل في ذكر أزواجه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللواتي لم يختلف فيهن إحدى عشرة امرأة. أولهن خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي، وقد مضى القول فيها. ثم سودة العامرية من بني عامر بن لؤي. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة بعد موت خديجة، وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عروة. بنى بها بمكة في سنة عشر من الهجرة، وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وأسنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهم بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وأنت حل من شأني، فإنما أريد أن أحشر من نسائك، وإني قد وهبت يومي لعائشة وإني لا أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى توفي عنها. فتوفيت بعده في آخر زمان عمر بن الخطاب.

ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق التميمية القرشية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة بكرا بعد موت خديجة قبل الهجرة، قيل بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين أو سبع سنين، وابتنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين فأقام معها تسع سنين. وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعاشت بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمان وأربعين سنة. وتوفيت سنة سبع وخمسين، وهي بنت ست وستين سنة. ولم يكن من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تزوج بكرا غيرها. ثم أم سلمة المخزومية، واسمها هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. كانت قبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، فولدت له سلمة وبه كانت تكنى، وعمرو، وزينب. فلما توفي أبو سلمة خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتزوجها سنة اثنتين من الهجرة في شوال، وابتنى بها في شوال، وقال لها: «إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ثم درت. فقالت: ثلث». وتوفيت سنة ستين في أول خلافة يزيد بن معاوية. وقيل في رمضان من سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة لوصيتها بذلك. وكان والي المدينة يومئذ مروان بن الحكم، وقيل الوليد بن عقبة، ودفنت بالبقيع. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية القرشية أخت عبد الله بن عمر لأبيه وأمه. أمها زينب بنت مظعون الجمحي. تزوجها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة ثلاث من الهجرة في شعبان. وقيل سنة اثنتين من التاريخ. وكانت قبله تحت: خنيس بن حذافة السهمي. فلما تأيمت منه خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتزوجها، وطلقها تطليقة ثم ارتجعها، وذلك «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نزل عليه فقال له: ارتجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة». وتوفيت حين بايع الحسن لمعاوية سنة إحدى وأربعين. وقيل سنة سبع وأربعين. ثم زينب بنت خزيمة الهلالية العامرية. كانت تدعى في الجاهلية أم

المساكين، وذلك- والله أعلم- لرأفتها بهم، وإحسانها إليهم. وكانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة ثلاث. ولم تلبث إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته. ولم تمت من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته غيرها وغير خديجة. وقيل إنها كانت أخت ميمونة لأمها. ثم زينب بنت جحش الأسدية ابنة عمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من الهجرة. وكانت قبله تحت زيد بن حارثة الذي كان تبنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي التي قال الله فيها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. وذلك أنه لما تزوجها قال المنافقون تزوج حليلة ابنه وقد كان ينهي عن ذلك، فأنزل الله الآية المذكورة وأنزل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. فدعي من حينئذ زيد بن حارثة، وقد كان يدعى زيد بن محمد. وكانت أول أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفاة بعده ولحوقا به، توفيت سنة عشرين في خلافة عمر في السنة التي افتتحت فيها مصر، وقيل سنة إحدى وعشرين في السنة التي افتتحت فيها الإسكندرية. ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. اسمها رملة وهو المشهور وقيل هند. كانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي خرج بها مهاجرا من مكة إلى أرض الحبشة مع المهاجرين، فولدت له هناك حبيبة التي كانت تكنى بها، ثم افتتن وتنصر ومات نصرانيا. وأبت أم حبيبة أن تتنصر وأبى الله لها إلا الإسلام والهجرة، فتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل خطبها بعد أن قدمت المدينة فزوجها إياه عثمان وهي بنت عمه، وقيل بل خطبها إلى النجاشي فتزوجها وهي بأرض الحبشة

وهو المشهور. فولي عقد نكاحها النجاشي لأنه أسلم فكان وليها هناك، ومهرها أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى شرحبيل ابن حسنة وجهزها من عنده، ولم يبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها شيئا وكان مهور سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعمائة درهم. وقيل أيضا لما أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النجاشي في أمرها خطبها النجاشي عليه وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم، وعقد عليها خالد بن سعيد بن العاصي. وكان زواجه لها على ما ذكر في ست من تاريخ الهجرة، وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سنة أربع وأربعين. ثم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار أحد بني المصطلق، سباها يوم المريسيع وحجبها وقسم لها، قال ذلك ابن شهاب. وقال أبو عبيدة تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من التاريخ، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين وكان اسمها برة فسماها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جويرية. وروي أنها كانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة جميلة. قالت عائشة: «كانت جويرية امرأة عليها حلاوة وملاحة لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. قالت: فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتستعينه على كتابتها. قالت: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فقالت يا رسول الله: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك. فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت وما هو يا رسول الله؟ قال أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت نعم. قال: قد فعلت. فخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلوا ما بأيديهم من سبايا بني المصطلق. قالت عائشة: فلم نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها». ثم صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي من سبط هارون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من سبايا خيبر، صارت في سهمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتقها وتزوجها في سنة سبع من الهجرة،

وجعل عتقها صداقها، وقيل إنه اشتراها بأرؤس، وقيل إنه اصطفاها. روي عن أنس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جمع سبي خيبر جاءه دحية فقال أعطني جارية من السبي، فقال اذهب فخذ جارية، فذهب فأخذ صفية بنت حيي فقيل: يا رسول إنها سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذ جارية من السبي غيرها» وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في زمن معاوية في رمضان من سنة خمسين. وكانت امرأة حسيبة جميلة عاقلة فاضلة. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وهي تبكي، فقال لها ما يبكيك؟ فقالت بلغني أن حفصة وعائشة تنالان مني وتقولان نحن خير من صفية نحن بنات ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه، فقال لها: ألا قلت لهن كيف تكن خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ثم ميمونة بنت الحارث بن حرن الهلالية خالة عبد الله بن عباس. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة سبع في عمرة القضاء، جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل وكانت تحت العباس، فولت أم الفضل زوجها العباس فأنكحها إياه العباس، قيل قبل أن يحرم بعمرته، وقيل وهو محرم بها، وقيل بعد أن حل منها. فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج مكة ولم يمهلوه أن يبني بها فيها، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبني بها بسرف. وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسرف في الموضع الذي ابتنى بها فيه سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ست وستين. فهؤلاء أزواجه اللواتي لم يختلف فيهن، فحصل العلم بنقل التواتر بهن، وهن إحدى عشرة امرأة، منهن ست من قريش: خديجة، وسودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وأربع من العرب: زينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وميمونة؛ وواحدة من بني إسرائيل وهي صفية. توفي منهن اثنتان في حياته: خديجة أول نسائه، وزينب بنت خزيمة. وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التسع الباقيات على ما تقدم من ذكرهن.

فصل في [أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي فارقهن]

فصل في [أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي فارقهن] وأما اللواتي نقل من طريق الآحاد أنه تزوجهن ثم فارقهن فسبع نسوة، على ما ذكر علي بن المعمر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: جملة من تزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمان عشرة امرأة، وقيل بل أكثر من سبع. فمنهن فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي. قيل إن أباها الضحاك عرضها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال إنها لم تصدع قط، فقال لا حاجة لي بها. وقيل إنه تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أنزلت آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت تلقط البعر وتقول أنا الشقية اخترت الدنيا. وليس ذلك بصحيح، إذ قد قيل إنه لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خير أزواجه إلا التسع نسوة وهن اللواتي توفي عنهن. وقد قال جماعة: إن التي كانت تقول أنا الشقية هي التي كانت استعاذت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اختلف في المستعيذة منه اختلافا كثيرا. ومنهن أسماء بنت النعمان من بني الجون من كندة. لم يختلفوا في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها، واختلفوا في قصة فراقها، فقيل إنه «لما دخلت عليه دعاها فقالت تعال أنت وأبت أن تجيء؛ وقيل إنها قالت أعوذ بالله منك فقال لها: لقد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها؛» وقيل إن التي استعاذت منه إنما كانت امرأة جميلة من بني سليم تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يعجبه أن تقولي له أعوذ بالله منك، فقالته لما أدخلت عليه ودعاها فطلقها. وقيل بل إنما قال أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لأسماء بنت النعمان الكندي لأنها

كانت من أجمل النساء فخفن أن تغلبهن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل إن التي استعاذت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل إن التي استعاذت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانت امرأة جميلة من سبي بني العنبر كان أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذها. وقيل إنه إنما فارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسماء بنت النعمان الكندية من أجل وضح من بياض كان بها. وقد اختلف في اسمها فقيل أميمة وقيل أمامة. ولما لحقت بأهلها خلف عليها- فيما روي- المهاجر بن أبي أمية المخزومي، ثم قيس بن مكشوح المرادي. ومنهن العالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت عنده ما شاء الله ثم طلقها، فقال ابن شهاب: وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التي تزوجت قبل أن يحرم نساءه نكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم. ومنهن سناء بنت أسماء بنت الصلت السلمية تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فماتت قبل أن يدخل بها، وقيل إنه طلقها قبل أن يدخل بها. وقد اختلف فيها وفي اسمها فقيل أسماء بنت الصلت وقيل غير ذلك. ومنهن قتيلة بنت قيس بن معد يكرب الكندية أخت الأشعث بن قيس. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة عشر ثم قبض ولم تكن قدمت عليه ولا رآها ولا دخل بها فخلف عليها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت فبلغ ذلك أبا بكر الصديق فقال: لقد هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر بن الخطاب ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب. وقيل إنها ارتدت حين ارتد أخوها بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم راجعا الإسلام، فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بارتدادها. ومنهن أم شريك الأنصارية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يدخل بها لأنه كره عفرة نساء الأنصار.

ومنهن فاطمة بنت شريح ذكرها أبو عبيدة في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة. ومنهن هند بنت يزيد بن العرطا من بني بكر بن كلاب. ذكرها أبو عبيدة في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل هي عمرة بنت يزيد. قال ابن عبد البر: والاختلاف فيها كثير. ومنهن الشفباء فإنها لما دخلت عليه لم تكن بالبشرة لما دخلت عليه فانتظر بها البشر ومات إبراهيم ولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغتة ذلك، فقالت لو كان نبيا ما مات أحب الناس إليه وأعزهم عليه، فطلقها وأوجب لها المهر وحرمت على الأزواج. ومنهن مليكة بنت داود الليثية ذكرها ابن حبيب في أزواجه اللواتي يبن بهن، ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة. ومنهن شراف بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبي. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهلكت قبل دخوله بها. ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب الصحابة. ومنهن ليلى بنت الخطيم بن عدي من بني الحارث بن الخزرج. روي «أنها أقبلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مولي ظهره الشمس فضربت على منكبه، فقال: من هذه؟ قالت: أنا ابنة مباري الريح أنا ليلى بنت الخطيم جئتك أعرض عليك نفسي فتزوجني، قال قد فعلت. فرجعت إلى قومها فقالت تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا بئس ما صنعت. أنت امرأة غيراء والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاحب أزواج استقيلي نفسك. فرجعت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت أقلني، قال قد أقلتك». ومنهن خولة بنت الهذيل. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها، وقع ذلك في كتاب ابن أبي خيثمة، ولم يذكرها ابن عبد البر في كتاب الصحابة. ومنهن ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية التي وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرها

فصل في سراري النبي - صلى الله عليه وسلم -

أحمد بن صالح المصري في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكرها غيره فيهن علمت. قاله ابن عبد البر. فصل في سراري النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتسرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية القبطية، وهي مارية بنت شمعون، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية ومصر، فولدت له ابنه إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي في بني مازن عند مرضعته أم بردة سنة عشر وهو ابن ثمانية عشر شهرا. وقيل بل توفي وهو ابن ستة عشر شهرا. وقيل إن وفاته كانت لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر. وتوفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وذلك في المحرم من سنة ست عشرة وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهادة جنازتها، فصلى عمر عليها ودفنت بالبقيع. وتسرى أيضا ريحانة بنت شمعون من بني قريظة، وقيل من بني النضير، والأكثر أنها قريظة، ثم أعتقها فلحقت بأهلها. وقيل إنه تزوجها ثم فارقها، وقيل بل مات عنها وهي زوجة، وقيل ماتت قبل وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويقال إن وفاتها كانت سنة عشر مرجعه من حجة الوداع. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثني أنه كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ولائد: مارية القبطية، وريحانة من بني قريظة، وجارية أخرى جميلة أصابها في السبي فكادها نساءه وخفن أن تغلبهن عليه. وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب بنت جحش، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيي، فلما رضي عنها ودخل عليها وهبتها له، وذلك في الشهر الذي قبض فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيتحصل من جملة ما ذكر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإحدى عشرة امرأة اللواتي لم يختلف فيهن ونقل التواتر أمرهن خمس عشرة امرأة، والله تعالى أعلم.

فصل في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -

فصل في صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما روي وجاءت به الآثار أنه كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، فكان طوله على ما وصف به من هذا طولا وسطا حسنا غير معيب، ضخم الرأس كثير شعره، رجلا غير سبط، وجعدا غير قطط، كأنه زهرة بالمشط قد رجل ومشط، كث اللحية توفي وفي عنفقته شعرات بيض، أزهر اللون أبيض مشوب بحمرة، في وجهه تدوير، أدعج العينين عظيمهما تشوبهما حمرة، أهدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين، جليل المشاش وهي رؤوس العظام، ذو مسربة وهي شعرات تتصل بالصدر إلى السرة. إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا. بين كتفيه خاتم النبوءة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل في أخلاقه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أما أخلاقه فلا يحصى الحسن منها كثرة. منها أنه أجود الناس كفا، وأوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويكفي من ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقد «سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن خلقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: كان خلقه وأمره القرآن واتباعه تريد أنه كان يعفو ويصفح ويحسن ويعرض عن الجاهلين، لقول

فصل في أسمائه - عليه السلام -

الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]» وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وروي عنها أنها قالت: «ما ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادما ولا امرأة قط، ولا خير في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه من شيء يؤذى به إلا أن تنتهك لله حرمة فينتقم لله» لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] وقوله في الزناة: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] وقوله في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] الآية إلى قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] ولقد أحسن صاحبنا الفقيه أبو العباس في قوله في قصيدة له حيث قال: يأيها المتعاطي وصف سؤدده ... لا تعرضن لكيل البحر بالغمر فإنه كان مفطورا على شيم ... معدومة المثل لم يخلقن في البشر فصل في أسمائه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأما أسماؤه فكثيرة. ذكر مالك في موطئه عن ابن شهاب عن محمد بن جبير

فصل في سنه - عليه السلام - يوم نبأه الله عز وجل

ابن مطعم «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، يريد يتبعوني، وأنا العاقب». وليس في قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لي خمسة أسماء دليل على أنه لا أسماء له غيرها، إذ لا ينتفي عنه بذكر بعض أسمائه وإن ذكر عددها سائرها. وهذا كما تقول: في فلان ثلاث خصال وهي كذا وكذا، فلا ينتفي أن تكون له خصال سواها؛ لأن أسماءه هذه الخمسة مشتقة عن صفاته، فلا يمتنع أن يكون له أسماء سواها مشتقة من صفاته. بل قد جاء ذلك، فروي هذا الحديث من رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وزاد فيه: وقد سماه الله رؤوفا رحيما. وروي أيضا في أسمائه المقفي، ونبي التوبة، ونبي الملحمة. وسماه الله عز وجل خاتم النبيئين. وجائز أن ينضاف إلى هذه الأسماء المروية سواها مما هو مشتق من صفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن هذه أيضا مشتقة من صفاته: محمد وأحمد من الحمد، والماحي من أن الله يمحو به الكفر كما قال في الحديث، ويمحو به ذنوب من تبعه. والحاشر من أن أمته تنحشر إليه يوم القيامة وتتبعه فتكون قدامه وخلفه وعن يمينه وشماله. والعاقب من أنه آخر الأنبياء. والمقفي أنه قفا من قبله من الأنبياء. وخاتم النبيين مثله في المعنى. وسمي نبي التوبة لأن الله تعالى تاب به على من تاب من عباده. وسمي نبي الملحمة لأنه بعث بالقتال على الدين. والحمد لله رب العالمين. فصل في سنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم نبأه الله عز وجل ونبأه الله- عز وجل- وهو ابن أربعين سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، اختلفت الرواية في ذلك عن ابن عباس.

فصل [في مراحل دعوته عليه السلام]

فصل [في مراحل دعوته عليه السلام] وكان أول ما بعثه الله به الدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه، ولا جزية أحلها له، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين، وهي التي أقام بمكة، أو ثلاث عشرة سنة، وحينئذ أنزل الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] وقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتله، وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90]. فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة، وذلك بعد ثمان من الهجرة، فأمر الله تعالى بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، إلا من كان له عهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل

فإن الله أتمه له إلى مدته فقال عز وجل: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. فصل فلما بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن أربعين سنة أو ابن ثلاث وأربعين سنة على ما ذكر من ذلك، أسر أمره ثلاث سنين أو نحوها لم يعلن فيها بالدعاء إلى الإسلام، ثم أمره الله عز وجل بإظهار دينه والإعلان بالدعاء إلى الإسلام فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فمعنى قوله: وإن لم تفعل أي إن لم تعلن بالدعاء إلى الإسلام فقد بلغت حق التبليغ، ولا تحذر في ذلك أمر الناس فإن الله يعصمك منهم. وقال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] الآية. فلما أعلن بالدعاء إلى الإسلام كما أمره الله عز وجل وسفه أحلام قريش في عبادتهم الأصنام التي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، نابذوه وأرادوا قتله، وأقبلوا بالعذاب على من آمن منهم والإذاية لهم. فلم يزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جوار عمه أبي طالب إلى أن توفي في شوال من السنة الثامنة من مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو التاسعة منه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم فقالوا إلى أين؟ قال إلى هنا" وأشار إلى أرض الحبشة،» فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بنفسه، ومنهم من هاجر بأهله حتى قدموا أرض الحبشة، وأقام بمكة من كان له من عشيرته الكفار منعة. فلما رأت قريش أن الإسلام يفشو وينتشر اجتمعوا فتعاقدوا على بني هاشم، وأدخلوا معهم بني المطلب من بني عبد مناف، ألا يكلموهم ولا يجالسوهم ولا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقتلوه، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة. فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب من بني عبد مناف

كلهم كافرهم ومؤمنهم، المؤمن دينا والكافر حمية، فصاروا في شعب أبي طالب محصورين مبعدين مجتنبين حاشى أبي لهب وولده صاروا مع قريش على قومهم، فبقوا كذلك ثلاث سنين إلى أن جمع الله قلوب قوم من قريش على نقض ما كانت قريش تعاقدت فيه على بني هاشم من بني المطلب من بني عبد المناف. وأعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمه أبا طالب أن الله عز وجل قد بعث الأرضة على صحيفتهم فلحست كل ما كان فيها من عهد لهم وميثاق واسم الله، ولم تترك فيها إلا ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة. وقيل إنه إنما أعلم عمه أبا طالب بأن الأرضة لحست ما كان في الصحيفة من شركهم وظلمهم ولم تترك فيها إلا اسم الله تعالى. فقال أبو طالب لما أخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه الله عليه من ذلك: لا والثواقيب ما كذبتني، فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون من قريش، فلما رأتهم قريش في جماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برمته إلى قريش. فتكلم أبو طالب فقال قد حدثت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها. فأتوا بها معجبين لا يشكون في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدفع إليهم، فوضعوها إليهم وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله إليها دابة فلحست منها كذا وكذا ولم تترك فيها إلا كذا وكذا، فإن كان الحديث كما يقول فأقيموا فلا والله لا أسلمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. فقالوا قد رضينا بالذي تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح. فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وتلاوم منهم قوم وقالوا هذا بغي منا على قومنا، ومشوا في نقض الصحيفة حتى نقضوها.

فصل في [بيعة العقبة والهجرة إلى المدينة]

فصل في [بيعة العقبة والهجرة إلى المدينة] وأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة مع من بقي معه ممن أسلم ولم يهاجر إلى أرض الحبشة صابرا على أذى قومه إلى أن بايع الأنصار بالعقبة. وذلك أنه لقي منهم ستة نفر عند العقبة بالموسم فدعاهم إلى الإسلام، وكان من صنع الله لهم أنهم كانوا جيران اليهود فكانوا يسمعونهم يذكرون أن الله يبعث نبيا قد أظل زمانه. فقالوا هذا والله الذي تهددنا يهود به فلا يسبقنا أحد، فآمنوا وبايعوا وانصرفوا إلى المدينة ودعوا إلى الإسلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قدم في العام المقبل إلى الموسم اثنا عشر رجلا من ساداتهم، وهم النقباء، فبايعوا رسول الله عند العقبة، وبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير ليعلما من أسلم منهم القرآن وشرائع الإسلام ويدعوا من لم يسلم منهم إلى الإسلام. فلما كان في العام الثالث قدم منهم نفر كثير ممن أسلم، فبايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأن يرحل إليهم. فلما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت سرا من كفار قريش وكفار قومهم، أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا. قيل إن أول من خرج منهم أبو سلمة بن عبد الأسد، وحبست عنه امرأته أم سلمة نحوا من سنة ثم أذن لها باللحاق بزوجها فلحقت به، ولم يبق مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة من أصحابه إلا أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، أقاما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمره، وحبس قوم من أصحابه عن الهجرة كرها، منعهم قوم من الكفار فكتب لهم أجر المهاجرين. فلما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة وقد دخل أهلها في الإسلام قالوا: هذا شيء شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج. فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أمره

فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم أن ليس في الدار ديار، فعلموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فات ونجا. «وكان أبو بكر يستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهجرة فيقول له: "لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا" فرجا أبو بكر أن يكون هو، فابتاع راحلتين فأعدهما لذلك. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخطئه أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار. فلما كان يوم أذن الله له بالهجرة أتى أبا بكر بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر قال ما جاء هذه الساعة إلا من حدث. فلما دخل تأخر له عن سريره فجلس، فأعلمه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الله قد أذن له في الهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الصحبة. فبكى أبو بكر فرحا وأعلمه استعداده الراحلتين لذلك» فبعثهما مع عبد الله بن أرقط يرعاهما، ولم يعلم أحد خبر الهجرة إلا أبو بكر وعلي وآل أبي بكر. وأمر عليا أن يتخلف بعده ليرد الودائع التي كانت عنده، ثم خرج هو وأبو بكر من خويخة في ظهر بيته إلى غار ثور، وهو جبل بأسفل مكة، فدخلاه ليلا، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يسمع ما يقول الناس ثم يأتيهما إذا أمسيا بما يكون، وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه ثم يريحها إلى الغار إذا أمسى. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمست. فأقاما في الغار ثلاثة أيام، وجعلت قريش فيه مائة ناقة، حتى إذا سكن الناس عنهما بعد ثلاث أتاهما ذلك الذي استأجراه بالراحلتين، وأتت أسماء بالسفرة ونسيت أن يجعل لها عصاما، فجعلت نطاقها فسميت ذات النطاقين. ويقال شقت نصفه للسفرة وانتطقت بنصفه. وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الراحلتين ولم يأخذها إلا بالثمن، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطريق، ودليلهما عبد الله بن أرقط. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - دليلهما رقيط وكان كافرا، وقال موسى بن عقبة اسمه أريقط. واتبعهما سراقة بن خشعم على فرس له لما جعل المشركون في رده مائة ناقة. قال فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعلمت حين رأيت ذلك أنه قد

فصل [في ذكر الأحداث والغزوات بعد هجرته عليه السلام للمدينة]

منع مني وأنه ظاهر، فناديتهم أنا سراقة فانتظروني أكلمكم والله لا أربيكم. فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي بكر: قل له ما تريد؟ فسألني فقلت: تكتب لي كتابا، فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو رقعة ثم ألقاه إلي. فلقيته به يوم فتح مكة وهو بالجعرانة. فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقباء يوم الاثنين لهلال شهر ربيع الأول في حرة بني عمرو بن عوف من الأنصار على سعد بن خيثمة، ويقال على كلثوم بن الهدم. ولم يختلفوا أنه نزل بالمدينة على أبي أيوب، واسمه خالد بن زيد، فأقام عنده حتى ابتنى مسكنه ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا وركب من بني عمرو يوم الجمعة، فنزل على بني سالم وصلى فيهم الجمعة. ويقال إنه أقام في بني عمرو ثلاث ليال. وقال ابن شهاب وغيره: أقام في بني عمرو بضعة عشر يوما ثم ركب. فصل [في ذكر الأحداث والغزوات بعد هجرته عليه السلام للمدينة] والتاريخ محسوب من قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة. [السنة الأولى] ففي السنة التي بنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد قباء. وقيل إنه هو المسجد الذي قال الله فيه إنه أسس على التقوى. وقيل بل هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وقد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفيها بنى بعائشة في شوال على رأس ثمانية أشهر من قدومه المدينة. وفيها تزوج علي فاطمة، ويقال في السنة الثانية على رأس اثنين وعشرين شهرا من قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة.

[السنة الثانية]

[السنة الثانية] ثم كانت السنة الثانية ففيها كانت غزوة الأبواء في صفر منها، وهي غزوة ودان، غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المهاجرين خاصة، وهي أول غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فوادع بني ضمرة بن عبد مناف، ثم رجع ولم يلق كيدا. وفيها كان بعث حمزة بن عبد المطلب، بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من كفار أهل مكة، فحجر بينهم مجدي بن عمرو الجهني وتوادع الفريقان ولم يكن بينهم قتال. وفيها كان بعث عبيدة بن الحارث، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فنهض حتى بلغ أبنى وهي ماء بأسفل ثنية المرة من الحجاز، فلقي جمعا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص كان في ذلك البعث فرمى فيهم بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله. واختلف أهل السير في هذين البعثين أيهما كان قبل صاحبه. وفيها كانت غزوة بواط، خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلع بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وفيها كانت غزوة العشيرة خرج النبي حتى بلغ العشيرة فوادع فيها بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وفيها كانت غزوة بدر الأولى، أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة،

فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ سفوان في ناحية بدر وفاته كرز فرجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وفيها كان بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، قيل في طلب كرز بن جابر، فبلغ الحرار ثم رجع. وفيها كان بعث عبد الله بن جحش، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمانية من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين. والخبر فيما جرى فيه طويل قد ذكرته في الجزء الرابع من جامع كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية، فاكتفيت بذكره هناك لمن أحب الوقوف عليه. وفيها كانت غزوة بدر الثانية التي أعز الله بها الدين، وذكرها الله عز وجل في محكم التنزيل. والخبر فيما جرى فيها طويل قد ذكرت عيونه في الجزء الرابع من كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية. وفيها كانت غزوة بني سليم، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد سبعة أيام من منصرفه من بدر يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليها ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حربا. وفيها كانت غزوة السويق. وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف قبل بدر ندب إلى غزو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة فحرق أصولا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحلفا له وجدهما في حرث لهما ثم كر راجعا. فنفر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونفر المسلمون في أثره، وبلغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون بذلك، فأخذه المسلمون فسميت غزوة السويق.

[السنة الثالثة]

وفيها ولد عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المهاجرين. وفيها صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، قيل يوم الثلاثاء والناس في صلاة الظهر في النصف من شعبان. وفيها في شعبان فرض صيام شهر رمضان. وفيها أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر. وفيها ماتت رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتخلف عثمان عن بدر من أجلها، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهمه. [السنة الثالثة] ثم كانت السنة الثالثة، ففيها كانت غزوة ذي أمر في صفر منها غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نجدا يريد غطفان، فأقام- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنجد صفرا كله ثم انصرف ولم يلق حربا. وفيها كانت غزوة بحران في ربيع الآخر منها. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ربيع الأول، ثم غزا قريشا فبلغ بحران معدنا بالحجاز، فأقام هنالك ربيع الآخر وجمادى الأولى ثم انصرف إلى المدينة ولم يلق حربا. وفيها كانت غزوة بني قينقاع وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة وادعته اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا وألحق كل قوم بحلفائهم، وشرط عليهم فيما اشترط ألا يظاهروا عليه أحدا. فنقض بنو قينقاع من اليهود عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج إليهم وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله ابن أبي سلول ورغب في حقن دمائهم وألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأشفعه فيهم وحقن دماءهم، وهم قوم عبد الله بن سلام. وكان حصاره لهم خمس عشرة ليلة. وفيها كان «البعث إلى كعب بن الأشرف. وذلك أنه لما اتصل به قتل صناديد قريش ببدر قال: بطن الأرض خير من ظهرها، ونهض إلى مكة يرثي كفار قريش

ويحرض على قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان شاعرا. ثم انصرف إلى موضعه فلم يزل يؤذي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجو والدعاء إلى خلافه ويسب المسلمين حتى أذاهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من لي بكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أنا أقتله إن شاء الله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك» فكان من خروجه إليه وتلطفه في قتله بما أذن له فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القول ما هو مذكور في السير. وفيها كانت غزوة أحد من المشاهد العظام. والخبر فيها وفي سببها طويل وقد ذكرت ذلك باختصار في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاكتفيت بذلك عن ذكره هاهنا كراهة التطويل. وفيها كانت غزوة حمراء الأسد في اليوم الثاني من وقيعة أحد. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باتباع العدو، فخرج الناس إلى موضع يدعى بحمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، فأقام فيه يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة. ولما بلغ العدو خروجه في اتباعهم فت ذلك في أعضادهم، وقد كانوا هموا بالرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وتمادوا إلى مكة. وفيها في رمضان منها تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت خزيمة من بني عامر ابن صعصعة، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة. وفيها في شعبان منها تزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وفيها تزوج عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أم كلثوم ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفيها ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين، فلم يكن بينه وبين الحسن إلا طهر واحد، وقيل خمسون ليلة، والله تعالى أعلم.

[السنة الرابعة]

[السنة الرابعة] أثم كانت السنة الرابعة ففيها كان بعث النفر الذين كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بهم مع عضل والقارة فغدروا بهم في الرجيع .. وذلك أنه قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صفر منها، وهو آخر السنة الثالثة من الهجرة، نفر من العضل والقارة، فزعموا أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين. فبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم من أصحابه ستة رجال وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم. وقد ذكرت جملة الخبر بذلك مختصرا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاختصرت ذكره هنا مخافة التطويل. وفيها في شهر صفر منها كان بعث بئر معونة. وقد ذكرنا سببه وما جاء فيه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاختصرت ذكره هنا مخافة التطويل. وفيها في شهر ربيع الأول منها كانت غزوة بني النضير، غزاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحصنوا منه ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها، فألقوا ما بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا ذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام. وقد ذكرنا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية سبب هذه الغزوة وبقية خبرها فاكتفينا بذلك عن ذكره هنا حرصا على التقريب والاختصار. وفيها كانت غزوة ذات الرقاع في جمادى الأولى منها خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخمس خلون من الشهر يريد بني محارب بن ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلة، فلقي بها جمعا من غطفان وتقارب الناس ولم يكن بينهم قتال. وصلى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف ثم انصرف.

[السنة الخامسة]

وسميت ذات الرقاع لأن أقدامهم تثقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل بل قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها، وقيل ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع تدعى بذات الرقاع، وقيل بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حمرة وصفرة وسواد فسموا غزوتهم بذات الرقاع لذلك والله أعلم. وفيها كانت غزوة بدر الثالثة في شعبان منها. وذلك أن أبا سفيان كان نادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض أصحابه أن يجيبه بنعم. فخرج للميعاد المذكور ونهض حتى أتى بدرا فأقام هنالك ثماني ليال ينتظر أبا سفيان ابن حرب. وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان ثم رجع واعتذر هو وأصحابه بأن العام عام جدب. وفيها بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق. وفيها بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سيف البحر فرجع ولم يلق كيدا. [السنة الخامسة] ثم كانت السنة الخامسة. ففيها في ربيع الأول منها كانت غزوة دومة الجندل. خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دومة الجندل وانصرف من طريقه قبل أن يبلغ إليها ولم يلق حربا. وفيها في شوال منها كانت غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب التي ذكرها الله في كتابه في سورة الأحزاب فقال فيها: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا - وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 25 - 26] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27] يريد بني قريظة، وقد ذكرنا سببها وجملا مما جرى فيها في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية.

[السنة السادسة]

وفيها كانت غزوة بني قريظة. وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أصبح وقد ذهبت الأحزاب رجع إلى المدينة ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر، أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة فقال: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم. فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان سميعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة. فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى النساء والذراري. فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالهم حيي بن أخطب، وكعب بن سعد في ستمائة أو سبعمائة استنزلهم ثم قتلهم بالمدينة واصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته». وروي عن عائشة أنها قالت إن كانت لعندي تضحك وتحدث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل رجالهم إذ هتف هاتف أين فلانة؟ قالت: أنا والله وإني لمقتولة. قلت ويلك ولم؟ قالت لحدث أحدثته، فانطلق بها فضرب عنقها. وفيها كان البعث إلى ابن أبي الحقيق. وذلك أنه لما انقضى شأن الخندق وقريظة تذاكرت الخزرج من في العداوة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كابن الأشرف الذي قتله محمد بن مسلمة حتى لا ينفرد الأوس دوننا بمثل تلك المنقبة، فذكروا ابن أبي الحقيق واستأذنوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتله فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وطرقوه في بيته بخيبر ليلا فقتلوه. وقد ذكرنا أسمائهم وبقية خبرهم في قتلهم إياه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية. [السنة السادسة] ثم كانت السنة السادسة، ففيها في جمادى الأولى منها كانت غزوة بني

لحيان. خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطالبا بثأر عاصم بن ثابت وحبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فتمادى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مائتي راكب حتى نزل عسفان، وبعث فارسين من أصحابه بلغا كراع الغميم ثم كرا، ورجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة. وفي هذه الغزوة قالت الأنصار: المدينة بائنة عنا وقد بعدنا عنها ولا نأمن عدونا أن يخالفنا إليهم، فأخبرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أنقابها ملائكة، على كل نقب منها ملك يحجبها بأمر الله. وفيها كانت غزوة ذي قرد. «لما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليالي وأغار على سرح المدينة عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغابة وناقته العضباء، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري وحملوا المرأة واللقاح. وكان أول من أنذرهم سلمة بن الأكوع كان ناهضا إلى الغابة، فلما أشرف على ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح وأنذر المسلمين، ووقعت الصيحة بالمدينة، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس لأبي طلحة وقال: "إن وجدته لبحرا". وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يقال له ذو قرد، فأقام عليه يوما وليلة. ولما نام القوم في ليلة قامت امرأة الغفاري المقتول فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضباء فإذا هي ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن أنجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة عرفت ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر بذلك، فأرسل إليها فجيء بها وبالمرأة، فقالت يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس ما جازيتها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم؛ وأخذ ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وفيها كانت غزوة بني المصطلق. غزاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأغار عليهم وهم غارون على

ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى النساء والذرية. وقيل إنهم جمعوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع فاقتتلوا فهزمهم الله. والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون. ومن ذلك السبي كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فأدى عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجها. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ما رأيت أعظم بركة منها على قومها، ما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسلم سائر بني المصطلق. وفي هذه الغزوة أنزلت آية التيمم، وفيها قال أهل الإفك في عائشة ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا في كتابه. وفيها قال عبد الله بن أبي بن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]. وقد ذكرنا الحديث في ذلك بكماله، وحديث الوليد بن عقبة حين وجهه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم بعد إسلامهم بعامين مصدقا وما كان من شأنه معهم، وأن الله أنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] وكل ذلك في الجزء الرابع من شرح الجامع من العتبية لمن أحب الوقوف على ذلك. وقد قيل في هذه الغزوة إنها كانت قبل الخندق وقريظة، والصواب أنها كانت بعدهما. وفيها كانت عمرة الحديبية. والحديث فيما جرى فيها طويل، وقد ذكرته بكماله في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية، وبينا في أول سماع ابن القاسم من شرح كتاب التجارة إلى أرض الحرب منها معنى ما وقع في المقاضاة بينه وبين كفار قريش من الشرط في أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم لمن أحب الوقوف على ذلك.

[السنة السابعة]

وفي هذه الغزاة كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة التي قال الله تعالى فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، يريد فتح مكة، {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] يريد مغانم خيبر. وفيها كان بعث بشير بن سعد بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ناحية خيبر فرجع ولم يلق كيدا. وفيها كان بعث كعب بن عمير إلى ذات الطلاح من أرض الشام، فقتل هو وأصحابه، وقيل قتل أصحابه وسلم هو جريحا، قتلتهم قضاعة. وفيها استسقى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجهد أصاب الناس. وفيها أوقف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعة حوائط له. وفيها توفيت أم رومان امرأة أبي بكر ونزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبرها. وفيها اتخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتما، وإنما اتخذه حين بعث الرسل فقيل له إن العجم لا تقرأ إلا كتابا مختوما فاتخذه. وكان نقش فصه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل لا إله إلا الله محمد رسول الله. [السنة السابعة] ثم كانت السنة السابعة. ففيها كانت غزوة خيبر. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة، وخرج في المحرم إلى خيبر، وافتتحها في صفر، ورجع

في غرة ربيع الأول. وكانت حصونا كثيرة فافتتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، ثم القموص حصن ابن أبي الحقيق، ومن سباياه كانت «صفية أعتقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجها وجعل عتقها صداقها». واختلف أهل العلم في ذلك، وهي مسألة قد ذكرنا تحصيل القول فيها في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح من شرح العتبية. وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم. حاصرهم بضع عشرة ليلة فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسيرهم ويحقن دمائهم ففعل. فقيل في هذين الحصنين إنهما افتتحا بصلح فلم يكن فيهما خمس ولا كان لأحد فيهما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، فقطع لأزواجه منهما. وكذلك الكتبية قيل فيها إنها كانت صلحا صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبني النضير وفدك، وقيل إنها كانت عنوة كلها. وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك وفي حكم أرض العنوة في سماع أشهب من كتاب الجهاد من شرح العتبية وذكرنا في الجزء الرابع من شرح الجامع منها جملا مما جرى في افتتاحها. وفي هذه الغزوة حرم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية. وفيها «أهدت اليهودية زينب بنت سلام بن مشكم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشاة المصلية، وسمت له منها الذراع وكان أحب اللحم إليه. فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها وقال: هذا العظم يخبرني أنه مسموم ودعا باليهودية فقال ما حملك على هذا فقالت أردت أن أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله أراد بقاءك أعلمك فلم يقتلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات من أكلته تلك». وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل ومائتي فارس. وفيها كان فتح فدك وذلك أنه لما اتصل بأهلها ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأهل خيبر بعثوا إليه ليؤمنهم ويتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك. فكانت فدك مما لم

يوجف عليه بخيل ولا ركاب أفاءها الله عز وجل على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بما خصه به من الرعب، فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله تعالى. وفيها كان فتح وادي القرى. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من خيبر فافتتحها عنوة وقسمها، وأصيب بها غلام أسود يسمى مدعم بسهم غرب فقتله. والحديث بذلك في الموطأ بكماله. وفيها كانت عمرة القضاء. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من خيبر إلى المدينة فأقام فيها شهري ربيع وشهري جمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال، وبعث في خلال ذلك السرايا. من ذلك غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من مشارف الشام. وقد ذكرنا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية بعض ما جرى في هذه الغزوة. ثم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة قاصدا إلى مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية. فلما اتصل ذلك بقريش خرج أكابرهم من مكة عداوة لله ولرسوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه. فدخل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وأتم الله له عمرته، وقعد بعض المشركين بقعيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل ليرى المشركون أن بهم جلدا وقوة، وكانوا قد قالوا في المهاجرين إن حمى يثرب قد وهنتهم. وتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهي خالة عبد الله بن عباس، وأختها أم الفضل عند العباس قيل قبل أن يحرم بعمرته، وقيل وهو محرم بها، وقيل بعد أن حل منها. فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج عن مكة ولم يمهلوه أن يبني بها، فخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنى بها بسرف. وفيها «بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم الفرس بكتاب فمزقه فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مزق الله ملكه فأجيبت دعوته».

[السنة الثامنة]

وفيها بعث دحية الكلبي إلى قيصر عظيم الروم بكتابه. وفيها بعث زيد بن حارثة إلى من عرض لدحية في خمسمائة راكب. وفيها بعث عبد الله بن حدرد الأسلمي ورجلين معه إلى الغابة على ثمانية أميال من المدينة، لما بلغه أن رفاعة قيس يريد أن يجمع جيشا لحرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فكمنوا له ورماه عبد الله بن حدرد بسهم فقتله. وفيها كانت غزوة زيد بن حارثة إلى الطرف من ناحية طريق العراق فرجع ولم يلق كيدا. وفيها اتخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر، ويقال في سنة ثمان. قال مالك: عوده من طرفاء الغابة عمله له غلام لسعد بن عبادة، وقيل غلام لامرأة من الأنصار. وقيل غلام للعباس بن عبد المطلب، فلعلهم اجتمعوا كلهم على عمله. فلما خطب عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حن الجذع الذي كان يقف عليه حين يخطب حتى ارتج المسجد، فوضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده عليه فسكن. [السنة الثامنة] ثم كانت السنة الثامنة. ففيها كانت غزوة مؤتة. بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جمادى الأولى منها كان بعث الأمراء إلى الشام وأمر على الجيش زيد بن حارثة مولاه، وقال إن قتل أو قال إن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وودعهم ثم انصرف، ونهضوا فلما بلغوا مكانا من أرض الشام أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم نزل في ناحية البلقاء وهو في مائة ألف من الروم ومائة ألف أخرى من متنصرة العرب أهل البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة فصمموا ونهضوا وقالوا إن هي إلا إحدى الحسنيين بعد أن كانوا توقفوا وهموا أن يكتبوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما اتصل بهم من جموع الروم. فالتقوا بهم بقرية يقال لها مؤتة،

فقتل الأمراء الذين سماهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا بعد واحد، ثم اتفق المسلمون على خالد بن الوليد فأخذ الراية وانحاز بالمسلمين قيل بعد أن فتح الله عليه وأنذر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالمدينة بخبرهم في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بأيام. وفيها كانت غزوة فتح مكة. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجب، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية. والخبر بذلك وسائر ما جرى في الغزوة يطول، وقد ذكرنا جملة ذلك باختصار في الجزء الرابع من جامع كتاب البيان في شرح العتبية لمن أحب الوقوف عليه. وفيها كانت غزوة حنين. والخبر فيها يطول ذكره. وقد ذكرنا أيضا في الجزء المذكور من جامع كتاب البيان في شرح العتبية فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وفيها كانت غزوة الطائف. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من حنين إلى الطائف، لم ينصرف إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء. فسلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريقه إلى الطائف على الجعرانة، ثم أخذ على قرن، وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه. ثم نزل- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف وحاربهم المسلمون. وحصن ثقيف لا مثل له في حصون العرب. فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين يوما. وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصب المنجنيق على الطائف، وأمر بقطع أعناب أهلها إلا قطعة كانت للأسود بن

مسعود ولابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها فكف عنها. ولما انصرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطائف إلى الجعرانة على مقربة من حنين قسم الغنائم هناك. وقد ذكرنا بقية ما جرى في هذه الغزوة أيضا في الجزء الرابع من كتاب البيان في شرح جامع العتبية، فتركت ذكره هنا اختصارا. وفيها اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجعرانة. وذلك أنه لما أتى على قسمة الغنائم بها خرج منها إلى مكة معتمرا، وأمر ببقاء الفيء فخمس بناحية الظهران. فلما فرغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عمرته استخلف على مكة عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة، وكان خروجه منها لعشر خلون من رمضان فكانت مدة مغيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وأوقع بهوازن بحنين وحارب الطائف واعتمر إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وأربعة عشر يوما. وانهزم يوم حنين مالك بن عوف رئيس جيش المشركين، فلحق بانهزامه بالطائف كافرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أتاني مسلما لرددت إليه أهله وماله» فبلغه ذلك فلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرج من الجعرانة، فأسلم وأعطاه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وهو أحدهم ومعدود فيهم، واستعمله على من أسلم من قومه ومن قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغمورا عليه وسائر المؤلفة متفاضلين، منهم الفاضل المجمع على فضله كالحارث ابن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، ومنهم دون ذلك. وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم. وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وكان خيرا فاضلا ورعا.

[السنة التاسعة]

[السنة التاسعة] ثم كانت السنة التاسعة. ففيها تسارع الناس إلى الإسلام. وفيها كانت غزوة تبوك بعد فتح مكة، وهي جيش العسرة. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من عمرته بعد فتح مكة وغزوة حنين وحصار الطائف أقام المدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وخرج في رجب في سنة تسع بالمسلمين إلى غزو الروم، وهي آخر غزوة غزاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه. وكان خروجه إليها في حر شديد حين طاب أول التمر وفي عام جدب. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكاد يخرج غازيا إلى وجه إلا ورى بغيره إلا غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة ونفقة المال والمشقة وقوة العدو المقصود إليه. والخبر في ذكرها وما جرى يطول، وقد ذكرنا منه عيونه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية. وفيها كان إسلام ثقيف. وقد ذكرنا الخبر بذلك أيضا في الجزء المذكور من شرح الجامع. وفيها كانت حجة أبي بكر الصديق. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من تبوك أراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت عراة فلا أحب الحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر، ثم أردفه عليا لما أنزلت براءة ليقرأها على الناس بالموسم، وينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج. فأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عام قابل حجة الوداع، ولم يحج من المدينة غيرها. فوقعت حجة رسول

[السنة العاشرة]

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» الحديث فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، ولم يحج بعد العام مشرك ولا طاف بالبيت عريان. وفيها وفي سنة عشر بعدها قدمت وفود العرب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدخول في الإسلام. وذلك أنه لما فتح الله على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكة وأظهره يوم حنين وانصرف من تبوك وأسلمت ثقيف، أقبلت إليه وفود العرب من كل جهة يدخلون في دين الله أفواجا، وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل ومرثد بن قيس في وفد بني عامر، ومسيلمة في وفد بني حنيفة. وقد ذكرنا خبرهم في الجزء الرابع من شرح الجامع من العتبية. [السنة العاشرة] ثم كانت السنة العاشرة. ففيها كانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل عليه ذو القعدة منها تجهز للحج وأمر الناس بالحج، وخرج لخمس بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، وقيل: سباع بن عرفطة الغفاري ولم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام إلا ثلاث حجات، اثنتان بمكة، وواحدة بعد فرض الحج من المدينة. ومن أحسن حديث في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجه أصحاب الحديث الصحيح مسلم وغيره، وقطعه مالك في موطأه فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذلك فعل البخاري. وقد ذكرنا الحديث بطوله في كتاب الحج من هذا الكتاب كتاب المقدمات. وفيها قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم فقسمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الناس. وفيها بعث عليا إلى اليمن، قيل: مفقها في الدين، وقيل: لقبض الصدقات من

[السنة الحادية عشرة]

العمال وليوافي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، فوافاه فيها ببدنة. وسميت حجة الوداع؛ لأنه ودعهم، وسميت حجة البلاغ؛ لأنه قال في خطبته فيها: «ألا هل بلغت» وسميت حجة الإسلام لأنها الحجة التي كان فيها حج أهل الإسلام ليس فيها مشرك. وفيها بعث عيينة بن حصن إلى بني العنبر، وبعث عليا إلى اليمن، وبعث أسامة بن زيد إلى الداروم. [السنة الحادية عشرة] ثم كانت السنة الحادية عشر. ففيها توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، في الوقت الذي دخل فيه المدينة في هجرته إليها من مكة. بدأ به وجعه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بيت ميمونة بنت الحارث يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، ثم انتقل إلى عائشة فمرض عندها، وكان موته في يومها وفي بيتها وعلى صدرها حين استوى الضحى. وصلى أبو بكر بالناس في مرضه سبع عشرة صلاة قبل وفاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكانت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس عشر سنين الهجرة لم يختلف في ذلك. واختلف في سنه يوم نبئ على ما ذكرناه في صدر هذا الكتاب، واختلف أيضا في سنه يوم مات. فذكر البخاري من رواية الزبير بن عدي عن أنس بن مالك أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين سنة. وروى أيضا حميد عن أنس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو ابن خمس وستين سنة. وروى عنه ربيعة في الموطأ أنه توفي وهو ابن ستين سنة. واختلفت الرواية في ذلك أيضا عن ابن عباس، فروي عنه أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين سنة. وروي عنه أنه توفي وهو ابن خمس وستين. واختلف أيضا في مقامه بمكة بعد أن نبئ إلى أن هاجر منها إلى المدينة، فقيل: عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة. فمن قال: إنه نبئ وهو ابن أربعين سنة

[الخلفاء الراشدون]

وأنه أقام بمكة عشر سنين، أو إنه نبئ وهو ابن أربعين سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قال: إنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. والرواية بأنه توفي وهو ابن خمس وستين تقتضي أنه نبئ وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة. وذهب الطحاوي إلى أن أصح ما في هذا أنه توفي وهو ابن ستين على ما روى ربيعة عن أنس في الموطأ بدليل ما روي عن عائشة أنها كانت تقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة في مرضه الذي مات فيه مما أسرها به وأخبرت به عائشة بعد وفاته. «قالت عائشة: أخبرتني أنه أخبرها أنه لم يكن نبي بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأخبرني أن عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس ستين» وعن زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله»، قال؛ لأن ما قاله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مبلغ سنه يقتضي صحة قول من قال من أصحابه في ذلك كقوله. وليس ما قاله الطحاوي في ذلك ببين، لأن حديث عائشة الذي ذكره وحديث زيد بن أرقم يعارضه ما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن عيسى ابن مريم مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة» والله أعلم. وفيها بعث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع باليمن يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وقدم جرير وقد قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفيها بعث أسامة بن زيد إلى مؤتة من أرض الشام وأمره أن يهريق بها دما فلم ينفذ لبعثه حتى قبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنفذ بعثه أبو بكر. [الخلفاء الراشدون] وفيها بويع أبو بكر الصديق. وفيها ارتد من ارتد من العرب.

وفيها أحرق أبو بكر الفجاءة واسمه إياس بن عبد الله بن ياليل. وذلك أنه سأل أبا بكر أن يعينه على من ارتد من العرب ويحمله ففعل، فجعل يقتل المسلم والمرتد، فكتب فيه فأخذ، فقيل: قتله ثم أحرقه. وفيها وجه خالد بن الوليد إلى طليحة فهزمه وقتل من قتل من أصحابه، وهرب طليحة ثم أسلم وحسن إسلامه. ثم مضى بأمر أبي بكر إلى مسيلمة باليمامة وقد كانت تنبت امرأة يقال لها: سجاح بنت الحارث من بني تميم فتزوجها مسيلمة، فقتل خالد مسيلمة وافتتح اليمامة بصلح صالحه عليها مجاعة بن مرارة. واستشهد ألف ومائة من المسلمين، وقيل: ألف وأربعمائة منهم سبعون جمعوا القرآن. وتوفي أبو بكر لثمان بقين من جمادى الآخرة يوم الاثنين سنة ثلاث عشرة، فكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال. واستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب، وقتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. طعنه أبو لؤلؤة غلام نصراني للمغيرة عند صلاة الصبح قبل أن يدخل في الصلاة، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف بأمره، فكانت خلافته فيما قيل: عشر سنين وخمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما. ومات عمر وقد جعلها شورى إلى ستة نفر، وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص. فاجتمعوا على ولاية عثمان بن عفان. وقتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سنة خمس وثلاثين وهو ابن تسعين سنة، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: ست وثمانين. ودفن ليلا وصلى عليه جبير بن مطعم فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، ويقال: إلا اثني عشرة ليلة. وبويع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالخلافة على رأس ستة أشهر من مقتل عثمان، وكانت خلافته فيما يقال: خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.

فصل [مراتب الصحابة]

وأصيب غداة يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ومات - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الأحد لتسع بقين من رمضان سنة أربعين، وهو ابن سبع وخمسين سنة، ويقال: ابن ثمان وخمسين سنة. وكانت الجماعة على معاوية سنة أربعين. فصل [مراتب الصحابة] فمراتب هؤلاء الخلفاء الأربعة في الفضل كمراتبهم في الولاية. فالذي عليه عامة أهل السنة وكافة علماء الأمة أن أمة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الأمم، كما أنه أفضل الأنبياء والرسل وخاتم النبيين وسيد المرسلين وأمين رب العالمين المبعوث إلى الخلق أجمعين، وأن أفضل أصحابه الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب. وقد روي هذا عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: إنه الذي رجع إليه بعد أن كان وقف في عثمان وعلي فلم يفضل أحدهما على صاحبه على ظاهر ما وقع في كتاب الديات من المدونة على أنه كلام محتمل للتأويل. وقد ذكرنا وجوه احتماله واختلاف الروايات فيه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية. ثم تقدم بعد هؤلاء الخلفاء في التفضيل بقية العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة ومات وهو راض عنهم، وهم الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. فهؤلاء العشرة كلهم بدريون. ثم المقدم بعد هؤلاء العشرة في الفضل بقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان وهم أصحاب الشجرة الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] إلى قوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]

فصل في الزهد والورع

ومنهم من اتفقت له هذه المواطن كلها، ومنهم من نال بعضها. ثم من أنفق من بعد الفتح وقاتل وكلا وعد الله الحسنى. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن مات في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء مثل حمزة، وجعفر، وسعد بن معاذ، ومصعب بن عمير أو مات في حياته وإن لم يكن من الشهداء، كعثمان ابن مظعون الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذهبت ولم تلبس منها بشيء أفضل ممن بقي بعده، وإياه اختار ابن عبد البر. ومن حجتهم «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي» وهذا لا حجة فيه لأن الحديث ليس على عمومه في أبي بكر وغيره، لأن العموم قد يراد به الخصوص، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» وإنما أراد الكفار منهم دون المؤمنين. فالقول الأول هو الصحيح، ويؤيده ما روي «عن ابن عمر أنه قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم نسكت». وبالله التوفيق. فصل في الزهد والورع الورع هو اجتناب المحرمات والمشتبهات. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» الحديث. فاجتناب المحرمات واجب، واجتناب الشبهات مستحب، ولا ينطلق اسم الورع إلا على من اجتنب المحرمات والمشتبهات. والزهد هو ما يبعث

فصل

على اجتناب المحرمات والمشتبهات، وترك التنعم بالمباح من الشهوات. فكل زاهد ورع وليس كل ورع زاهدا، فالورع أعم من الزهد. فصل فالزهد في الدنيا هو ضد الرغبة فيها، والرغبة هو الاستعظام لها والحرص عليها والميل إليها. فإذا كان الزهد هو ضد الرغبة فهو الاستصغار للدنيا والاحتقار لشأنها الذي يدعو إلى رفض فضولها وأخذ القوام منها عونا على طاعة الله عز وجل فيها، فلا يترك الزاهد منها شيئا إلا لله، ولا يأخذ منها شيئا إلا لله وعونا على طاعة الله. ولا يتركها كلها إذا صغرت عنده وهانت عليه، فيكون عاصيا لله إذ ترك منها واجبا أمر بأخذه، أو مقصرا في حظه إذ ترك منها ما ندب إلى أخذه، لكنه لما صغرت عنده وهانت عليه اتبع فيها أمر الله في كتابة وما ندب إليه على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ منها ما أعان على القربة إليه، وترك منها مما يجوز له أخذه تركه زهدا فيه ليتقرب بذلك إلى ربه. هذا هو الزهد عند جماعة من العلماء والزهاد، كالحارث بن أسد المحاسبي وغيره. وقال سفيان الثوري وغيره منهم: إنه قصر الأمل. وليس بصحيح، لأن قصر الأمل ليس هو الزهد وإنما هو المعين على الزهد، لأن من قصر أمله وتوقع نزول المنية زهد في الدنيا ولم يرغب فيها. وقال الأوزاعي وغيره منهم: إنه بغض المحمدة وبغض المحمدة إنما هو بعض الزهد لا جميعه، لأن الزهد يكون في المحمدة وفيما سواها من شهوات الدنيا. قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] الآية إلا

أنه لما كان حب المحمدة على الطاعة والتزين بها في الدنيا غالبا على قلوب العباد قال: إن ذلك هو الزهد، بمعنى أنه إذا زهد فيها فهو فيما سواها أزهد. وقال سفيان بن عيينة منهم ورواه عن الزهري: الزهد من غلب صبره الحرام وشكره الحلال. وهذا ليس بالزهد وإنما هو صفة الزاهد، لأن من كان بهذه الصفة فهو زاهد، فهي معنى تكون عن الزهد؛ لأنه إذا زهد قوي صبره عن الحرام فلم يركن إليه، وقوي شكره على الحلال فلم تشغله حلاوته عن الشكر. وقال الفضيل بن عياض وغيره منهم: الزهد الترك للدنيا. وليس الترك للدنيا هو الزهد، ولكنه كائن عنه؛ لأنه إذا زهد في الدنيا تركها. وليس قوله الترك للدنيا على عمومه؛ لأن من أحوال الدنيا ما لا يجوز تركه، فلو قال: الزهد ترك ما لا قربة فيه من أحوال الدنيا؛ لكان في العبارة عما قصد إليه أولى، وقد قارب الحقيقة في الزهد، إذ جعله المعنى الذي يكون عن الزهد، وهو فائدته التي تقربه من الله عز وجل. ومنهم من قال: الزهد أن يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما بيده، فجعل الزهد بعض التوكل لما كانت الثقة بما في يد الله دون ما بيده تبعث الواثق بذلك على ألا يدخر ما بيده فيقدمه لآخرته. وليس ذلك بصحيح، إذ قد يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما في يده ومع هذا فيدخره ليتنعم به أو يتصدق به للمحمدة والثناء فيكون راغبا فيه. وقد يتصدق به لله لا للمحمدة فيكون زاهدا فيه. وليس التصدق به لله هو الزهد نفسه، ولكنه عن الزهد كان. ومنهم قال: الزهد بغض للدنيا، وذلك أن الله عز وجل ذم الحب لها فقال: {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20] والبغض ضد الحب فسمي الزهد به، وذلك إذا أبغضها لاحتقاره لها، وصغر شأنها عنده، إذ قد يبغض الرجل الدنيا لضر نزل به فيها وخطرها عنده عظيم. فليس الزهد في الدنيا ضد الحب لها على الإطلاق، وإنما هو ضد الرغبة فيها، لأن الراغب فيها إنما يرغب فيها لعظم شأنها عنده. والاحتقار لها

والبعض فيها المندوب إليه بالشرع لا بالطبع، لأن الله تعالى قد زينها وحذر منها ابتلاء واختبارا. وقد قال بعض الناس: إن الزاهد إنما هو من أبغض الدنيا طبعا بغريزته كما يبغض الأنتان وشبهها، وإن من لم يحل هذا المحل وإن أبغض الدنيا بأجمعها فليس بزاهد وإنما هو صابر. وهو غلط ظاهر، لأن ما طبع عليه الإنسان لا يؤجر عليه إذ لا كسب له فيه، وإنما يؤجر الزاهد على الصبر على الزهد فيما طبع على محبته. قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] الآية. وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَقَالَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] الآية. ومنهم من قال: الزهد في الدنيا هو التهاون بالدنيا لهوانها على الله. واحتج بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بسخلة ملقاة على سباطة قوم ومعه أصحابه فقال: أترون أهل هذه ألقوها من كراهتها عليهم أو من هوانها. قالوا: بل من هوانها عليهم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» وندبهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن يهون عليهم ما هان على الله. وقال الحسن: ويحك يا ابن آدم لا تخالف الله في هواه فإن الله لا يحب الدنيا. وقال ابن المنكدر: لو لقيت الله وليس لي ذنب إلا حب الدنيا لخشيت أن يقال: هذا أحب ما أبغض الله. فوصف قائل هذا القول الزهد بحقيقة ما يكون عنه ولم يخرج عن معناه. ألا ترى أنك تقول: زهدت في الدنيا فهانت علي، ولا تقول هانت علي فزهدت فيها. وكذلك سائر ما تقدم من الأقوال لم يخرج قائلوها بما قالوه في

فصل

الزهد عن معناه وإنما أخطؤوا في تسميته، فسماه بعضهم باسم الزاهد، وبعضهم باسم المعين على الزهد، وبعضهم باسم المعنى الذي يورثه الزهد، وبعضهم باسم بعض الزهد، لأن كل واحد منهم يقع المزيد بما سماه لترغيبه إياه فيه. فصل فالزهد نافلة مستحبة لا فريضة يستوجب الزاهد بها رضى الله تعالى ورفيع الدرجات في جنة المأوى، وإن كانت الواجبات كلها لا تكون إلا بالزهد فلا يسمى شيء منها زاهدا إذ قد اختصت من الأسماء بما هو أليق بها من الزهد. ألا ترى أن الإيمان لا يكون إلا بالزهد في كل معبود سواه، والصلاة لا تكون إلا بالزهد في الاشتغال بما يصد عنها ويمنع منها، وكذلك سائر الفرائض والطاعات. فصل فالزهد وما يتعلق به من المعاني مختلفة الوجوه، وهي ستة أشياء: الزهد، والزاهد، والمزهود فيه، والمزهد في الدنيا، والمزهود من أجله الباعث على الزهد الذي عنه يكون الزهد، والمزهود له. فأما الزهد في الدنيا فهو الاستصغار بجملتها والاحتقار لجميع شأنها لتصغير الله تعالى لها وتحقيره إياها وتحذيره من غرورها في غير ما آية من كتابه، من ذلك قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]؛ لأنه إذا كانت

صغيرة حقيرة هانت عليه فترك منها زهدا فيها كل ما لا قربة في أخذه منها من التنعم بنعيمها من المطعم والمشرب والاستمتاع بمتاعها من الملبس والمركب والمسكن والتلذذ بملاذها من المسموعات والمبصرات، والخلود فيها إلى الراحة، فلم يأخذ من ذلك كله إلا قوام عيشه، أو ما كان زائدا على ذلك مما ندب إلى أخذه كاتخاذ ثوبين لجمعته، ولباس ما يغره لباس ما دونه، لأن الله عز وجل يحب أن تُرَى أثر نعمته على عبده على ما جاء في الحديث. وكالراحة التي يستعين بها على الطاعة على ما جاء عن معاذ بن جبل من قوله لأبي موسى الأشعري: أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، فهذا هو الزهد في الدنيا. وأما ترك ما يجب تركه من المحرمات فلا يسمى زهدا،، ولا اسم طاعة، وإن كان في الحقيقة زهدا وطاعة؛ لأنه إنما زهد في ذلك خوف العقاب، وليس هذا هو الزهد الذي يتطوع به رجاء جزيل الثواب ومرضاة الرحمن. وأما الزاهد فهو المستصغر للدنيا الذي قد انصرف قلبه عنها لصغر قدرها عنده، فلا يفرح بشيء من الدنيا، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذه منها إلا ما أمر بأخذه، أو ما يعينه على طاعة ربه، ويكون مع ذلك قلبه دائم الشغل بذكر الله تعالى، وذكر الآخرة والفكرة فيها، لا ينتقل عما هو فيه من ذلك إلا إلى ما هو في معناه من ذكر الله، أو ذكر الآخرة على قدر الأحوال وطلب القربة لا مالا له، وطلبا للاستراحة منه لما هو أخف عليه مما فيه تسلية لنفسه. وهذا هو أرفع أحوال الزهد، لأن من بلغ إلى هذه المرتبة منه فهو في الدنيا بشخصه، وفي الآخرة بروحه وعقله، قد غلب وساوس الشيطان، واستحق الثواب الجزيل من الله تعالى والرضوان.

فصل

وأما المزهود فيه فهي الدنيا التي هي ما حواه الليل والنهار، وأظلته السماء، وأقلته الأرض. أمر العباد بالزهد فيها بالاستصغار لها والاحتقار لجميعها، وندبوا إلى أن يتركوا منها كل مباح لا عون فيه على طاعة الله، ولم يندبوا إلى أن يتركوها كلها فيخرجوا عنها، بل فرض عليهم أن يأخذوا منها ما لا يتم ما افترض عليهم إلا بأخذه، وندبوا إلى أن يأخذوا منها كل مباح في أخذه عون على الطاعة. فالمباح منها من أي نوع كان فيه عون على الطاعة كان الزهد في أخذه، وإن لم يكن فيه عون على طاعة كان الزهد في تركه. وأما المُزَهِّد في الدنيا فشيئان منها زهدا فيها بعض من لا يؤمن بالبعث وبعض من يؤمن به: أحدهما: كثرة آفاتها، والثاني: فناؤها وفناء أهلها فيها، وزوالهم عنها قبل فنائها. وأما المزهود من أجله الباعث على الزهد الذي عنه يكون الزهد فخمسة أشياء: أحدها: أنها مفتنة مشغلة للقلوب عن التفكر في أمر الله. والثاني: أنها تنقص عند الله تعالى درجات من ركن إليها. والثالث أن تركها قربة من الله وعلو مرتبة عنده في درجات الجنة. والرابع طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعم. والخامس رضوان الله والأمن من سخطه وهو أكبرها. قال الله عز وجل: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72]. وأما المزهود له فهو الله عز وجل الذي رفض الزاهد الدنيا المحببة إليه ابتغاء مرضاته، وخوفا من سؤاله، وتقربا إليه وموافقة له في تصغير ما صغر، وبغض ما أبغض، رغبة فيما عنده عز وجل من جزيل الثواب وبالله التوفيق. فصل وقد قالت طائفة من العلماء: ليس الزهد في شيء من الحلال، وإنما الزهد

في الحرام، لأن العباد لم يؤمروا بالزهد فيما أحل لهم، بل هم مأجورون على اكتسابه إذا تورعوا فيه، فلهم من الأجر على ذلك ما ليس لتارك الاكتساب. قالوا: ففي التمتع بالحلال خلال لا يجوز الزهد فيها، منها الأجر على التحري، والتورع في اكتسابه، وعلى الشكر لله على ذلك. ومنها أنه يكون له في تمتعه بالحلال عصمة عن الحرام، لأن من أكل الطيب ولبس اللين ثم رأى غيره ينال ذلك لم تدعه نفسه إلى الحسد، ولا إلى طلب ذلك من حرامه. واحتجوا لقولهم بما ترك بعض أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من المال إلا أنه لا تورث. قالوا: فلو كان الزهد في الحلال لما أبقى أحد من هؤلاء وراءه شيئا من المال، فلم تفرق هذه الطائفة بين الزهد والورع وجعلوهما شيئا واحدا. والذي أقول به في هذا: إن الزهد غير الورع، وإن الزهد إنما هو في الحلال لا في الحرام، لأن ترك الحرام فرض فلا يقال فيمن تركه: إنه من أهل الزهد في الدنيا. وإن الزهد هو المعنى الذي يبعث صاحب المال على أن يجود لله عز وجل من ماله بما لا يلزمه من صلة رحم أو عتق أو تحبيس في السبيل، أو بناء مسجد أو هبة أو صدقة أو تحبيس وما أشبه ذلك، وإن لم يستوعب بذلك ماله كله أو أبقى لنفسه منه بعضه لنفقة على نفسه وعياله، وإن أكل من طيب الطعام وشرب من لذيذ الشراب، ولبس لين الثياب من غير إسراف ولا إقتار، إذ قد ندب الله عز وجل إلى ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد سئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن معنى قوله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] فقال: معناه أن يعيش في الدنيا ويأكل ويشرب غير مقتر عليه، ولما عسى أن يراه من وجوه البر، ومخافة أن تطول حياته فيبقى عالة

فصل

على الناس أو يموت فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»، «وقال لكعب بن مالك حين تاب الله عليه فقال يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» وما قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه خير للعبد فلا شك في أنه خير له من ضده. فمن جاد لله من ماله بما لا يلزمه زهدا فيه ورغبة فيما له عند الله على ذلك من جزيل الثواب فهو من الزهاد بما زهد لله فيه من ماله وخرج عنه لله عز وجل. فالصحابة المذكورون بالغنا كلهم زهاد في الدنيا بما بذلوه لله تعالى من أموالهم في حياتهم، وبما نووا فيما أنفقوا منه لأنفسهم إلى حين وفاتهم، وإن كان كثيرا فالذي بذلوا منه في حياتهم أكثر مما أنفقوا بعد وفاتهم. لا أنه لا يقع على الزاهد اسم زاهد حتى ينخلع من جميع ماله لله عز وجل ويترك التنعم بشيء منه خوف السؤال عنه كما قالت الطائفة التي بدأنا بذكرها. فالزهاد في الدنيا يتعاطون في الزهد فيها على قدر مبلغهم على الدنيا إلى الدار الآخرة، لأن الدنيا والآخرة ككفتي الميزان، فإذا مال الرجل عن إحداهما إلى الأخرى رجحت به. فإذا رجحت به كفة الأخرى فهو معدود في جملة الزهاد في الدنيا، فتفاضل الزهاد في الدنيا على قدر رجحان الكفة بهم. ونهاية زهد الزاهد في الدنيا ألا يميل إلى شيء منها إلا أن يكون في ذلك قربة لله تعالى، فتكون كفة الدنيا فارغة لا وزن لها. فإن استوت به الكفتان، أو رجحت به كفة الدنيا فليس بمعدود في الزهاد في الدنيا. فالزهد في الدنيا إنما هو بقدر النيات، فلا يعلمه إلا العالم بقدرها المجازي عليها. فقد يكون صاحب المال الكثير أزهد في الدنيا من صاحب المال القليل وممن لا مال له. فصل وهذا الباب الاختلاف فيه، قد قالت طائفة من العلماء: إن الزهد

فصل في المفاضلة بين الفقر والغنى

فراغ القلب من الدنيا للاشتغال بالآخرة، فليس من الزهد ترك ما يشتهيه والقلب به مشغول عن الآخرة، ولكن من الزهد أخذه ليتفرغ القلب للآخرة، وليس ذلك من تعظيم الشهوة ولكن ليفرغ قلبه للآخرة، وهو قول بعيد. وقالت طائفة أخرى: الزهد إخفاء الزهد بلباسه الثياب الحسان، واتخاذه في بيته المتاع واستعماله الطيب من الطعام ليلا ينظر إليه الخلق فيتوهموا عليه الزهد فيحسدونه على ذلك، إذ القلب لا يمتنع إذا ظهر منه التقشف والتقلل أن يرتاح لحب حمد الناس على ذلك وتعظيمهم إياه من أجله. وهذا من الأقوال الظاهرة الخطأ. وقالت طائفة أخرى عامتهم قدرية: إن الزهد إنما هو الجوع وترك كل لذة، ومن أخذ منها شيئا من لذاتها أو تمتع ليستعين بذلك على طاعة كقيام ليل أو غيره مخدوع، وترك ذلك العمل مع الجوع أفضل، لأن الزهد لا يعدله شيء. وما احتجت به هذه الطائفة والرد عليها يطول. وقالت طائفة أخرى: الزهد كله فيما حرم وما أحل فهو معونة على الطاعة، وكل ما فعله العبد وليس فيه ثواب فهو معصية وقد وجب عليه الزهد فيه. واحتجوا بما جاء من أن صاحب الشمال يكتب كل ما لا يكتب صاحب اليمين، والله أعلم، وبه التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه. فصل في المفاضلة بين الفقر والغنى اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال، فمنهم من ذهب إلى أن الغنى أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن الفقر أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن

الكفاف أفضل، ومنهم من توقف في ذلك فلم ير المفاضلة فيه. وهذا فيمن كان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الغنى، فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى. ومن كان يؤدي حق الله الواجب في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل له، لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب كل واحد منهما مما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الصبر والرضا بما قسم الله له منه، والشكر لله تعالى على ذلك والتصرف والخدمة فيما يلزمه من نفقته وكسوته، ونفقة من يلزمه الإنفاق عليهم وكسوتهم فيؤجر على ذلك. ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه. قال الله عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] والشكر لله تعالى على ما آتاه من فضله، فيؤجر على ذلك كله كالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنه كان منهم الفقير والغني ومن أغناه الله من فضله بعد أن كان فقيرا، فكانوا كلهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - محمودين في حال الفقر وفي حال الغنى، لأنهم صبروا في حال الفقر على ضيق العيش وشكروا الله تعالى على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لم يعلم مقداره إلا الله تعالى، وشكروا الله تعالى في حال الغنى على ما آتاهم من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من النوائب اللازمات، وتطوعوا لوجه الله بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل خالق الأرض والسماوات.

والذي أقول به في هذا تفضيل الغنى على الفقر، وتفضيل الفقر على الكفاف. وإنما قلت: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقول الله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد أمرنا أن نسأله تبديل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم من المعنى. وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى. وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل ما بين ما يعد الله به من الغنى، ويعد به الشيطان من الفقر! وقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] وقوله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وما أشبه ذلك من الآيات كثير. ولقول «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين قيل له: ذهب الأغنياء بالأجور: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما نفعني مالي ما نفعني مال أبي بكر»، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من جهز جيش العسرة ضمنت له على الله الجنة»، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»

وأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبول ما أتى من غير مسألة، ونهيه عن إضاعة المال وعن الوصية بما زاد على الثلث وما أشبه ذلك من الأحاديث التي يكثر عدها، ولا يمكن حصرها؛ ولأن الفقير يؤجر من وجهين: أحدهما: الصبر على الفقر والفاقة مع الرضى بذلك، والشكر لله تعالى عليه. والثاني: تصرفه وعمله فيما يعيد به على نفسه مما لا بد له منه من نفقته ونفقة من تلزمه نفقته. والغني يؤجر من وجوه كثيرة: منها الشكر لله عز وجل على ما آتاه من فضله. ومنها الصبر على ما يعطيه من ماله لوجه الله عز وجل في الواجبات عليه من الزكوات، وفيما سوى ذلك من القربات، ومن الإنفاق على من يجب عليه الإنفاق عليه من الزوجات وصغار البنين والبنات، والآباء والأمهات المعدمين مع حبه له وشحه عليه. قال الله عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ثناء منه عز وجل بذلك عليهم. وقد يتزوج الغني الزوجتين والثلاث والأربع ويتسرى الإماء ذوات العدد، فيستمتع من وطئهن ويؤجر بذلك فيهن، والفقير لا يقدر على شيء من ذلك. وما فضل عند الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه، واستمتاعه به في الرفيع من اللباس، والطيب من الطعام، والحسن من المركوب، والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أولى من ترك ذلك وإمساك ماله إذ لا أجر في مجرد إمساك المال، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير ينوي أن يفعله منه، وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحسن؛ لأن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب جابر بن عبد الله لما لبس الثوبين الجديدين بأمره له

بذلك ونزع الخلقين: ماله ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له». وقال عمر بن الخطاب: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم. ويوجد في التوسعة على أهله في الإنفاق. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى ما تجعله في فِيّ امرأتك». ففي هذا كله بيان واضح على أن وجود المال خير من عدمه؛ لأنه إذا عدمه لم ينتفع بعدمه، وإذا وجده انتفع بوجوده، إما باستمتاع مباح غير مكروه لا أجر له فيه، وإما باستمتاع مندوب إليه له فيه أجر، إلى ما يفعل منه من الخير الواجب والتطوع. وإنما قلت: إن الفقر أفضل فيه عما يحتاج إليه، فأغناه ذلك عن الكدح والتصرف فيما يحتاج إليه. والفقير يؤجر من وجهين حسبما ذكرناه. واستدل من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ولا دليل لهم فيه، لأن الأغنياء يشاركونهم في الصبر، والأجور في الأعمال على قدر النيات فيها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أوقع أجر العبد على قدر نيته» ومقدار النيات لا يعلمها إلا المجازي عليها. وبما روي من أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. ولا دليل لهم فيه، إذ ليس على عمومه، للعلم الحاصل بأن طائفة من الأغنياء المسلمين كعبد الرحمن بن عوف،

وعثمان بن عفان يدخلون الجنة قبل كثير من الفقراء، وأنهم أفضل من أبي ذر وأبي هريرة. ولأن السبق إلى الجنة لا يدل على زيادة الدرجة فيها. وكذلك ما روي من كون الفقراء أكثر أهل الجنة؛ لأن الفقراء في الناس أكثر من الأغنياء، والمحمودون منهم أكثر من المحمودين من الأغنياء. وليس الكلام في أي الطائفتين أكثر، وإنما هو في أيهما أفضل أي أكثر ثوابا. وقد بينا وجه كثرة الثواب في ذلك. وأقوى ما يحتج به من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى هو أن الفقير أيسر حسابا وأقل سؤالا، إذ لا بد من أن يسأل صاحب المال من أين كسبه وهل أدى الحق الواجب عليه فيه أم لا، ويسأل أيضا على تمتعه فيه بالمباح من المطعم والملبس بنص قول الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] «وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأصحابه: "لتسألن عن نعيم هذا اليوم» في طعام صنعه لهم أبو الهيثم بن التيهان خبز شعير ولحم وماء مستعذب. وهذا لا حجة لهم فيه أيضا ولا خفاء في أن من وجب عليه شيء فسئل هل عمله أو لم يعمله فوجد قد عمله أفضل ممن لم يجب عليه ولا يسأل عنه؛ لأنه يؤجر على ما عمل من الواجب كما يؤجر على ما عمل من التطوع. وإنما توقف عن المفاضلة بين الفقر والغنى من لم يفضل أحدهما على صاحبه، والله أعلم، من أن لكل طائفة منهما معنى تؤجر عليه دون الأخرى، والأجور في ذلك

على قدر النيات في ذلك المعنى، ولا يعلم قدرها إلا المجازي عليها، فوجب الوقوف على ذلك لاحتمال أن يؤجر الفقير على معنى واحد لقوة نيته فيه أكثر مما يؤجر الغني على معان كثيرة لضعف نيته فيها. وهذا صحيح مع التعيين، فلا يصح أن نقول: إن أجر فلان في غناه أكثر لكثرة ما يفعل منه من الخير، أو أكثر من أجر فلان في فقره لصبره ورضاه بما قسم الله له من ذلك، ولا: إن أجره في فقره بصبره ورضاه بما قسم الله له من ذلك أكثر من أجر فلان في غناه على ما يفعل منه من الخير. وأما في الجملة فالغنى أفضل من الفقر على ما بيناه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما من فضل الكفاف على الفقر أو على الغنى فلا وجه له في النظر والله أعلم. وأما الفقير الذي لا يقدر أن يقوم بما يحتاج إليه حتى يسأل فالغني أفضل منه قولا واحدا والله أعلم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اليد العليا خير من اليد السفلى»؛ لأن اليد العليا هي المنفقة والسفلى السائلة. وقد استعاذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفقر المنسي كما استعاذ من الغنى المطغي وبالله التوفيق.

فصل في البغي والحسد

فصل في البغي والحسد الحسد من الذنوب العظام؛ لأن الله تعالى نهى عنه وحرمه في كتابه على لسان رسوله فقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا». والحسد هو أن يكره الرجل أن يرى النعمة في شيء من الأشياء على غيره ويتمنى أن تنتقل عنه إليه. وأما أن يسأل الله من فضله أن يعطيه مثل ما أعطى لغيره دون أن تزول النعمة عنه فليس ذلك بمحظور ولا حسد، وإنما هو الغبطة، تقول: غبطت الرجل في كذا وحسدته عليه، فالغبطة مباحة والحسد محظور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار». معناه لا حسد أصلا لكن في هاتين الاثنتين تغابطوا فيهما، فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحاسدوا ليس على عمومه»؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد أباحه في الخبر فقال: «لا حسد إلا في اثنتين». والذي ذهب إلى هذا قال: «إن الحسد على وجهين: حسد معه بغي، وحسد لا بغي معه». روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حسدتم فلا تبغوا». والبغي، والله أعلم، أن يريد

فصل في الصدق والكذب

الحاسد الإضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه. فالحسد الذي لا بغي معه جائز، والحسد الذي معه البغي محظور. فالحسد على هذا ينقسم على قسمين: حسد في الخير، وحسد في المال. فالحسد في الخير مرغب فيه في غالب الحال، والحسد في المال جائز إن لم يكن معه بغي، ومحظور إن كان معه بغي. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بلغني أن أول معصية الحسد والكبر والشح حسد إبليس وتكبر على آدم، وشح آدم فقيل له: كل من شجر الجنة كلها إلا التي نهاه الله عنها، فشح فأكل منها. وقد مضى القول في الحسد. وكذلك التكبر محظور مذموم، لأن الكبرياء إنما هي لله. فمن تكبر قصمه الله، ومن تواضع رفعه الله. وأما الشح فهو على وجهين: شح بالواجبات، وشح بالمندوبات. فأما الشح بالواجبات فحرام، وأما الشح بالمندوبات فمكروه. فمن وقي الشح في الوجهين فقد أفلح. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقوله في آدم: فشح فأكل منها فلم يأكل منها إبقاء عليها وشحا بها وأكل من التي نهاه الله عنها. وبالله التوفيق. فصل في الصدق والكذب الصدق واجب، والكذب محظور. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال عز وجل: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى

فصل

قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيكون المؤمن جبانا وبخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا» أي: لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان؛ لأن الكذب فجور، وكان عبد الله بن مسعود يقول: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. ألا ترى أنه يقال: صدق وبرّ، وكذب وفجر. فنص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الجبن والبخل أخف من الكذب. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: لا يزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين. وقد جاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: عليك بالصدق وإن ظننت أنه مهلك. ومعناه إن حسبت ذلك ما لم تتيقنه، لأن الظن قد يكون بمعنى الشك وبمعنى اليقين. وذلك فيما يلزم الرجل أن يصدع فيه بالحق لما يرجو في الصدق من الصلاح والخير، ويخافه في الكذب من الشر والفساد، كالكلام عند السلطان وشبه ذلك. فهذا الذي عليه أن يصدع فيه بالحق، وإن خشي أن يكون في ذلك هلاكه ما لم يتقين الهلاك في الصدق وإن خاف على نفسه ما يلزمه بقوله فيما يجب عليه من الحقوق كالقتل والسرقة والزنا وشبه ذلك. فصل والكذب محظور وممنوع في الجملة، وهو ينقسم على خمسة أقسام:

أحدها: كذب لا يتعلق فيه حق لمخلوق وهو الكذب في ما لا مضرة فيه على أحد، ولا يقصد به وجه من وجوه الخير، وهو قول الرجل في حديثه كان كذا وكذا وجرى كذا وكذا لما لم يكن ولا جرى، فهذا الكذب محرم في الشريعة بإجماع من العلماء، وهو الذي جاء فيه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن المؤمن لا يكون كذابا» أي لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان، وهو الذي يغلب عليه الكذب حتى يعرف به، وقد يكون مؤمنا ممدوح الإيمان وإن كان جبانا وبخيلا، أي بخيلا بغير الواجبات، لأن البخل بالواجبات فسوق، والتوبة بالإقلاع عنه والاستغفار منه. والثاني: كذب يتعلق به حق لمخلوق، وهو أن يكذب الرجل على الرجل فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل أو قال ما لم يقل مما يؤذيه أو يغض منه، وهو أشد من الأول، لأن التوبة منه لا تصح إلا بأن يتحلل صاحبه فيحله منه طيبة بذلك نفسه، أو يأخذ حقه منه إن تعين له بذلك عليه حق. والثالث: كذب يقصد به وجه من وجوه الخير للمسلمين لكذب في الحرب للتخذيل بين المشركين وما أشبه ذلك. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحرب خدعة». وذلك نحو ما جاء من «أن نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة الخندق مسلما فقال يا رسول الله: إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما أنت رجل واحد من غطفان، فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا، فاخرج فإن الحرب خدعة؛ فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان يناديهم في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: قل فلست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرحل ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر

قريش وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا علي. قالوا: نفعل. قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالا ونسلمهم إليكم تضربوا أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غطفان وقال مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا، فأرسلوا إليه أن اليوم السبت وقد علمتم ما نال من تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود، وخذل الله بينهم واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد قلبت أبنيتهم وكفأت قدورهم فارتحلوا» فهذا الكذب مستحب. والرابع كذب الرجل فيما يرجو فيه منفعة نفسه ولا ضرر فيه على غيره، ككذب الرجل لامرأته فيما يعدها به ليستصلحها، فهذا الكذب جوزته السنة على ما جاء من «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكذب امرأتي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا خير في الكذب. فقال الرجل: يا رسول الله أعدها وأقول لها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا جناح عليك» وقد قيل: إنه لا يباح فيه إلا بتعريض الكلام لا بنص الكذب، والأول أصح أن التصريح بالكذب في ذلك جائز، يدل عليه قول الله عز وجل حكاية عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]. وقد قيل: إن معاريض القول جائزة في كل

فصل فيما يجوز فيه النظر من أمر النجوم مما لا يجوز

موضع لما جاء عن بعض السلف أن فيها مندوحة عن الكذب. والذي أقول به أن ذلك مكروه لما فيه من الإلغاز على المخاطب فيظن أنه كذبه فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن. والخامس كذب الرجل في دفع مظلمة عن أحد مثل أن يختفي عنده رجل مظلوم ممن يريد قتله أو ضربه ظلما فيسأله عنه هل هو عنده أو يعلم مستقره؟ فيقول: ما هو عندي ولا أعلم له مستقرا، فهذا الكذب واجب لما فيه من حقن دم الرجل والدفع عن شرته. فصل فيما يجوز فيه النظر من أمر النجوم مما لا يجوز النظر في أمر النجوم فيما يستدل به على معرفة سمت القبلة فيما بعد عنها من البلاد ومعرفة أجزاء الليل وما مضى منها مما بقي لافتراق أحكامها في العبادات المشروعة، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر بأن يميزها ويعرف مواضعها من الجنوب أو الشمال ووقت طلوعها وغروبها جائز، بل هو مستحب، لأن الله تعالى قد أعلم أنه خلقها لهذا. قال عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وأما النظر من أمرها فيما زاد على ذلك مما يتوصل به إلى معرفة نقصان الشهور من كمالها دون رؤية أهلتها فذلك مكروه؛ لأنه من الاشتغال بما لا يعني. إذ لا يجوز

لأحد أن يعمل في صومه وفطره على ذلك فيستغني به عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين». وإنما اختلف أهل العلم فيمن كان من أهل هذا الشأن إذا أغمي الهلال هل له أن يعمل على معرفته بذلك؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن غم عليكم فاقدروا له أم لا». فقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إنه يعمل في خاصته على ذلك، وقاله الشافعي أيضا في رواية، والمعلوم من مذهبه ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل على ذلك. واختلف أهل العلم في معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاقدروا له» فذهب مالك إلى أن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث الثاني: «فأكملوا العدد ثلاثين» مفسر له. وذهب الطحاوي إلى أنه ناسخ له وإلى أن معنى التقدير له كان قبل أن ينسخ بأن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر في الليلة الثانية، فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع ساعة علم أنه من تلك الليلة، وإن غاب لمنزلتين وهما ساعة وخمسة أسباع ساعة علم أنه من الليلة الماضية فقضوا اليوم. وهذا قول خطأ لا خفاء به، إذ لا يسقط القمر في أول كل ليلة من جميع الشهور، كان الشهر ناقصا أو تاما، لستة أسباع ساعة، هذا يعلم يقينا بمشاهدة بعض الأهلة في أوائل الشهور أرفع وأبطأ مغيبا من بعض. وأيضا فإنه خلاف ظاهر الحديث ومقتضاه في أن التقدير إنما أمر به ابتداء قبل الفوات ليصوم أو ليفطر، لا في الانتهاء بعد الفوات ليقضي أو لا يقضي. والذي أقول به في معنى التقدير المأمور به في الحديث إذا غم الهلال أن ينظر إلى ما قبل هذا الشهر الذي غم الهلال عند آخره من الشهور، فإن كان توالى منها شهران أو ثلاثة كاملة عمل على أن هذا الشهر ناقص فأصبح الناس صياما،

فصل

وإن كانت توالت ناقصة عمل على أن هذا الشهر كامل فأصبح الناس مفطرين، إذ لا تتمادى أربعة أشهر ناقصة ولا كاملة على ما علم لما أجرى الله به العادة، ولا ثلاثة أيضا ناقصة ولا كاملة إلا في النادر. وإن لم تتوال قبل الشهر الذي غم الهلال في آخره شهران فأكثر ناقصة ولا كاملة، احتمل أن يكون هذا الشهر ناقصا وأن يكون كاملا احتمالا واحدا، فوجب أن يكمل عدده ثلاثون يوما كما جاء في الحديث الآخر، فيكون على هذا الحديثان جميعا مستعملين كل واحد منهما في موضع غير موضع صاحبه. وهذا في الصوم، وأما في الفطر إذا غم هلال شوال فلا يفطر بالتقدير الذي يغلب على الظن فيه أن رمضان ناقص. فصل وأما الكسوفات فقد ندرك معرفتها من طريق الحساب، ومعرفة انتقال الشمس والقمر في البروج، واجتماعهما في درجة واحدة من البرج، وبعد أحدهما من الآخر إلى ما يقابله من درجات البروج، لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج من غرب إلى شرق على ترتيب وحساب لا يتعديانه. قال الله عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وقال عز وجل: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وَقَالَ {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فالقمر سريع الذهاب في البروج يقطع جميعها في شهر واحد، ولا تقطعها الشمس إلا في اثني عشر شهرا. فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر ويصير بإزائها من البرج الذي هي فيه، ثم يخلفها، فإذا بعد عنها استهل، وكلما زاد بعده منها زاد ضوؤه إلى أن ينتهي في البعد ليلة أربعة عشر

فصل

فيكمل استدارته وضوؤه لمقابلة الشمس له، ثم يأخذ في القرب منها فلا يزال ضوؤه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصبح بإزائها على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو. فإذا قدَّر الله عز وجل على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في سيره أن يكون بإزاء الشمس بالنهار فيما بين الأبصار وبين الشمس يستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابلها، أو بعضها إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو الكسوف للشمس آية من آيات الله عز وجل يخوف بها عباده كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]؛ ولذلك أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعاء عند ذلك وسن له صلاة الكسوف. فليس معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء علم غيب ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، ولكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه مما لا يعني، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفي الإخبار به قبل أن يكون ضرر في الدين، لأن من سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فيجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه، كما قال مالك في رواية ابن القاسم عنه من كتاب السلطان من العتبية؛ لأن ذلك من حبائل الشيطان. فصل وأما شيء من المغيبات فلا يدركها أحد من ناحية النظر في النجوم. وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه فيقول: إنه يعلم متى يقدم فلان أو وقت نزول المطر أو ما في الأرحام، أو ما يستتر الناس به من الأخبار وما تحدث من الفتن والأهوال وما أشبه ذلك من المغيبات، فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون الاستتابة، لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50]

«ولقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» وقيل: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عليه، وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان من العتبية. والذي أقول به أن هذا ليس اختلافا من القول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال. فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله وكان مستترا بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة؛ لأنه كافر زنديق. وإن كان معلنا بذلك غير مستتر به يظهره ويحاج عليه استتيب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء. وإن كان مؤمنا بالله عز وجل مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله عز وجل هو الفاعل لذلك كله إلا أنه جعلها أدلة على ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده ويتوب منه، لأن ذلك بدعة يجرح بها فتسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في نوازله في كتاب الشهادات من العتبية. ولا يحل لمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، ولا يصح أن يجتمع في قلب مسلم تصديقه مع قول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] الآية. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صدق كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على قلب محمد». ويمكن أن

فصل في شراء المغنيات وبيعهن

يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر بذلك ويجعله دليلا على صدقه فيما يقول، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلعه عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلا على صحة نبوءته. قال الله عز وجل في كتابه حاكيا عن عيسى بن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي تعرف ذلك الأنبياء وتخبر به تكذيب لدلالتهم. وفي ما دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره وهداه ولم يرد إضلاله ولا إغواءه. والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون به من الجمل فيصيبون مثل ما روي عن هرقل أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك الختان قد ظهر إنما هو على التجربة التي قد تصدق في الغالب، من نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أنشأت بحرية ثم تشأمت فتلك عين غديقة» وبالله التوفيق. فصل في شراء المغنيات وبيعهن روي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام»، ثم تلا الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] الآية كلها. وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير أن المراد بقوله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث الغناء واستماعه. روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية: ومن

الناس من يشتري لهو الحديث فقال: الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وهو قول مجاهد وعطاء. وقال مكحول: من كانت له جارية مغنية فمات لم يصل عليه؛ لقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] معناه لم يصل عليه رغبة في الصلاة عليه. وقد اختلف في معنى قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقالت طائفة: هو الشراء على الحقيقة بالأثمان، بدليل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن». فالمعنى على هذا في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] أي من يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فحذف ذا أو ذات وأقام اللهو مقامه، مثل قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية. وقالت طائفة: معنى الآية ومن الناس من يختار لهو الحديث ويستحسنه ولعله ألا ينفق فيه مالا ولكن اشتراؤه استحسانه. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية في النضر بن الحارث الداري كان يشتري من كتب أحاديث الأعاجم فارس والروم وصنيعهم، ويحدث قريشا فيستحلونها ويعجبهم ما يسمعون فيها فيلهون ويلهيهم بها. وقال جماعة من أهل التفسير: إن الآية نزلت في أهل الكفر بدليل قوله فيها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] قالوا: فمعنى لهو الحديث الشرك، وهو كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فمن ذهب إلى هذا رأى الغناء مكروها منهيا عنه غير محرم بالقرآن. واختار أبو جعفر الطبري أن تحمل الآية على عمومها في كل ما كان ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله عز وجل عم بقوله: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ولم يخص بعضها دون بعض، فوجب أن يحمل على عمومه في الغناء والشرك حتى يأتي ما يدل على خصوصه. وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر الطبري أولى ما قيل في تأويل الآية، لأنها وإن كانت نزلت فيما كان يفعله النضر بن الحارث فهي عامة تحتمل على عمومها، ولا يقتصر على ما كان سبب نزولها مما كان يفعله النضر بن

الحارث. وقد دل على حملها على عمومها ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن». وقد نزل على تصديق ذلك في كتاب الله تعالى يريد ما فهمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عموم قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]. وقوله في الحديث: لا يحل اشتراء المغنيات ولا بيعهن، معناه إذا اشتراهن المشتري لغنائهن أو باعهن البائع بزيادة على قيمتهن من أجل غنائهن. وأما إذا اشتراهن للخدمة وما أشبهها ولم يزد في أثمانهن من أجل غنائهن فذلك جائز للبائع والمبتاع. فإن اشتراهن للخدمة بأكثر من أثمانهن من أجل غنائهن فذلك حرام على البائع، مكروه للمبتاع؛ لأنه أضاع ماله وأعطاه في الباطل فأطعم البائع ما لا يحل له، فهو بذلك معين له على الإثم. وقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وإن اشتراهن لغنائهن بقيمتهن دون غناء فذلك حرام على المبتاع جائز للبائع. وظاهر قوله في الحديث أن الثمن كله محرم على البائع، وهو نص قول أصبغ. والذي يحرم عليه منه إنما هو ما زاد على قيمتها من أجل غنائها، كمن باع خمرا وثوبا صفقة واحدة بدنانير، فلا يحرم عليه من الدنانير التي باعها بهما إلا ما ينوب الخمر منها. فالمعنى في ذلك أن الحرام من ثمن المغنية لما كان مشاعا في جملتها لم يحل له أن يأكل منه قليلا ولا كثيرا حتى يخرج الحرام منه فيخلص له الحلال؛ لأنه إذا أكل منه شيئا فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من الحرام وإن كان باقي الثمن عنده وفيه وفاء بجميع الحرام في التمثيل، كرجل سرق دينارا من مال بينه وبين شريكه فأكله فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من حق شريكه حتى يتحلله منه أو يرده إليه. وقد اختلف فيمن اشترى أمة فألفاها مغنية والغناء يزيد في قيمتها، هل ذلك عيب فيها يجب له به ردها أم لا على قولين. والذي أقول به اتصال إن كانت جارية رفيعة للاتخاذ كان ذلك عيبا فيها يجب له به ردها لما يخاف المبتاع من أن يلحق

فصل في معاملة من خالط ماله الحرام

عار ذلك بولده، وإن كانت وخشا للخدمة لم يكن ذلك عيبا فيها، وهو قول مالك في رواية زياد عنه. وبالله التوفيق .. فصل في معاملة من خالط ماله الحرام وقبول هبته وأكل طعامه ووراثته عنه لا يخلو من خالط ماله الحرام بالربا وثمن الخمر والغلول وأثمان السلع المغتصبات وما أشبه ذلك مما لا اختلاف في حرامه، من أن يكون الغالب عليه الحلال، أو يكون الغالب عليه الحرام، أو يكون جميعه حراما: إما بأن يكون لا مال له حلال، وإما أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال. فأما إذا كان الغالب على ماله الحلال فأجاز ابن القاسم معاملته واستقراضه وقبض الدين منه وقبول هبته وأكل طعامه، وأبى من ذلك كله ابن وهب، وحرمه أصبغ على أصله في أن المال الذي خالطه شيء من الحرام حرام كله تلزم الصدقة بجميعه. والقياس قول ابن القاسم، وقول ابن وهب استحسان، وقول أصبغ تشديد على غير قياس. وأما إذا كان الغالب على ماله الحرام فمنع أصحابنا من معاملته وقبول هبته، قيل: على وجه الكراهة وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: على وجه التحريم وهو مذهب أصبغ، إلا أن يبتاع سلعة حلالا فلا بأس أن يبتاع منه وأن يقبل منه هبة إن علم أنه قد بقي بيده ما بقي بما عليه من التباعات على القول بأن معاملته محظورة. وأما إذا كان ماله كله حراما إما بأن لا يكون له مال حلال، وإما أن يكون

قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال، فاختلف في معاملته وقبول هبته وأكل طعامه على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك كله لا يجوز وإن كانت السلعة التي وهب أو الطعام الذي أطعم قد علم أنه اشتراه. وأما إن علم أنه ورثه أو وهب له فيكون حكمه حكم ما اشتراه. والثاني: أن معاملته ومبايعته تجوز في ذلك المال وفيما ابتاعه من السلع وفيما وهب له أو ورثه وإن كان عليه من التباعات ما يستغرقه إذا عامله بالقيمة ولم يحابه. ولا تجوز هبته في شيء من ذلك ولا محاباته فيه. والثالث: أن مبايعته لا تجوز في ذلك المال، فإن اشترى سلعة بذلك المال جاز أن يشترى منه وأن تقبل منه هبته. وكذلك ما ورثه أو وهب له وإن كان ما عليه من التباعات قد استغرقه، روي هذا القول عن ابن سحنون وابن حبيب. وكذلك هؤلاء العمال ما اشتروه في الأسواق فأهدوه لرجل طاب للمهدى له. والرابع: أن مبايعته وقبول هبته وأكل طعامه يجوز في ذلك المال وفيما اشتراه أو وهب له أو ورثه وإن كان عليه من التباعات قد استغرقه. فعلى هذا القول يجوز أن يورث عنه ذلك ويسوغ للوارث بالوراثة. واختلف على القول بأن مبايعته في ذلك المال وقبول هبته وأكل طعامه لا تجوز هل يسوغ للوارث بالوراثة أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك يسوغ له بالوراثة ولا يسوغ له بالهبة، وهو الذي ذهب إليه سحنون على ما وقع في نوازله من جامع العتبية. والثاني: إنه لا يسوغ له بالميراث كما لا يسوغ له بالهبة، ويلزم الوارث من

فصل في التحليل من الظلامات والتباعات

التنحي من هذا المال والصدقة به ما كان يلزم الموروث. وتوجيه الاختلاف في وجوه هذه المسألة يطول، وقد فرغنا من ذلك في مسألة مشخصة في هذا المعنى وما يتعلق به لمن سألني ذلك من المريدين وبالله سبحانه التوفيق. فصل في التحليل من الظلامات والتباعات سئل مالك عن قول سعيد بن المسيب في فعله أنه كان لا يحلل أحدا، فقال: ذلك يختلف، فقلت له: الرجل يسلف الرجل الذهب فيهلك ولا وفاء له، قال: إنه يحلله فإنه أفضل عندي فإن الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وليس كل ما قال يتبع عليه وإن كان له فضل. قيل: فالرجل يظلم الرجل، قال: لا أرى ذلك، هو مخالف عندي للأول، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] وَيَقُولُ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فلا أرى أن نجعل في حل من ظلم. ومن أهل العلم من رأى التحليل من الظلامات والتباعات أفضل من ترك التحليل منها. فوجه القول الأول أن التباعات والظلامات يستوفيها صاحبها يوم القيامة من حسنات من وجبت له عليه على ما جاء من أن الناس يقتصون من بعضهم يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وهو في ذلك الوقت مفتقر إلى الزيادة في حسناته ونقصان سيئاته بما له من التباعات والظلامات التي حلل منها وهو لا يدري هل يوازي أجره في التحليل ما يجب له من الحسنات في الظلامات والتباعات أو يزيد عليها أو ينقص منها. فكان الحظ له ألا يحلل منها. ووجه القول الثاني أن التحليل إحسان للمحلل عظيم، وفضل يسديه إليه جسيم، يبتغي عليه المكافآت من الله عز وجل، وهو

فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تعالى أكرم من أن يكافئه بأقل مما وهب، فإنه تعالى يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] فهذا القول أظهر والله أعلم. ووجه تفرقة مالك بين التباعات والظلاماست ما استدل به من قوله: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس فرأى أن ترك تحليل الظالم للظالم عقابا له أمرا هو محمود عليه لما في ذلك من الإخافة والردع من أن يعود إلى مثله. فأما في الدنيا فالعفو والصفح عن الظالم أولى من الانتصار منه بأخذ الحق منه في بدنه أو ماله لقول الله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] ولا يعارض هذا قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] لأن المدحة في ذلك وإن كانت متوجهة بهذه الآية لمن انتصر ممن بغى عليه بالحق الواجب ولم يتعد في انتصاره وكان مثابا على ذلك لما فيه من الردع والزجر، فهو في العفو والصفح أعظم ثوابا بدليل قوله بعد ذلك فمن عفا وأصلح فأجره على الله. وقد قيل: إن الآية نزلت في الباغي المشرك. ويحتمل أن يكون معنى الآية الانتصار مما فيه لله حد لا يجوز العفو عنه والله أعلم. فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون عالما بالمعروف والمنكر؛ لأنه إن لم يكن عارفا بهما لم يصح له أمر ولا نهي، إذ لا يأمن أن ينهى عن معروف أو يأمر بمنكر. والثاني: أن يأمن من أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكثر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر خمر فيؤول نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا لم يأمن من ذلك لم يجز له أمر ولا نهي. والثالث أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع؛ لأنه إذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي. فالشرطان الأول والثاني مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب. فإذا عدم الشرط الأول والثاني لم يجز أن يأمر ولا ينهى، وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان الأول والثاني جاز له أن يأمر وينهى ولم يجب ذلك عليه، إلا أنه مستحب له وإن غلب على ظنه أنه لا يطيعه، إذ لعله سيطيعه، لا سيما إذا رفق به، فإن الله عز وجل يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقد روي أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقع بالشام وانهمك في الخمر، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2] {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] فترك الرجل الخمر وتاب منها ونزع عنها. وإذا رأى الرجل أحد أبويه على منكر من المناكر فليعظهما برفق وليقل لهما في ذلك قولا كريما كما أمره الله حيث يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] إلى قوله: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. والدليل على وجوب ذلك بالشرائط المذكورة قول الله عز وجل:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن الله قلوب بعضكم عن بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل كانوا إذا عمل العاقل منهم بالخطيئة نهاهم الناهي تعزيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم صرف قلوب بعضهم عن بعض ولعنهم على لسان نبيهم داوود وعيسى ابن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]». فإذا كثرت المناكير في الطرقات من حمل الخمر فيها ومشي الرجال مع النساء الشواب يحادثونهن وما أشبه ذلك من المناكير الظاهرة وجب على الإمام تغييرها جهده بأن يولي من يجعل إليه تفقد ذلك والقيام به. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم». ويستحب لمن دعاه الإمام إلى ذلك أن يجيبه إليه إذا علم أن به قوة عليه لما في ذلك من التعاون على فعل الخير. قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ومن مر به شيء من ذلك أو اعترضه في طريقه وجب عليه أن ينكره على الشرائط الثلاثة المذكورة، فإن لم يقدر على ذلك بيده ولا بلسانه أنكره بقلبه. وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]

فصل في اللباس للرجال والنساء وما كان في معناه

معناه في الزمان الذي لا ينفع فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا يقوى من ينكره على القيام بالواجب في ذلك، فيسقط الفرض عنه فيه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه، ولا يكون عليه سوى الإنكار بقلبه ولا يضره مع ذلك من ضل. روي «عن أبي أمامة قال: سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: كيف تصنع في هذه الآية قال: أية آية؟ قلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال لي: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، فقال: سألت عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يد لك به فعليك بنفسك وإياك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل منهم يومئذ كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله». وما أشبه زماننا بهذا الزمان! تغمدنا الله بعفو منه وغفران. فإذا كان الزمان زمانا يوجد فيه على الحق معين فلا يسع أحد السكوت على المناكير وترك تغييرها. قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وبالله التوفيق. فصل في اللباس للرجال والنساء وما كان في معناه اللباس ينقسم على خمسة أقسام: واجب، ومندوب إليه، ومباح، ومحظور،

ومكروه. منها عام ومنها خاص، ومنها ما يثبت الحكم له بحق الله عز وجل، ومنها ما يثبت له بحق اللابس. فالواجب بحق الله تعالى ستر العورة على أبصار المخلوقين من الناس، وهو وهو عام في جميع الناس من الرجال والنساء. والواجب منه بحق اللابس ما يقي من الحر والبرد أو يستدفع به الضرر في الحرب، إذ ليس له أن يترك ذلك من أجل الإضرار بنفسه. وهو أيضا عام في جميع الناس من الرجال والنساء. والمندوب إليه منه بحق الله عز وجل كالرداء للإمام والخروج إلى المسجد للصلاة؛ لقول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] والثياب الحسنة للجمعة والعيدين لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته». وما في معنى ذلك. والمندوب إليه بحق اللابس ما يتجملون به فيما بينهم من غير إسراف، «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي نزع الثوبين الخلقين ولبس الجديد: ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له» «وقوله للذي رآه رث الهيئة فسأله هل لك من مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: من كل المال. قال: فَلْيُرَ عليك مالُك.» وقول عمر بن الخطاب: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب. وقوله: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع رجل عليه ثيابه. وذلك عام في الوجهين جميعا. والمباح أن يلبس ما شاء من ثياب الكتان والقطن والصوف ما لم يكن شيء من ذلك سرفا على قدر حاله، وذلك أيضا عام غير خاص. والمحظور ثياب الحرير؛ «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حلة عطارد: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة»، «وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرير والذهب: "هذان

حل لإناث أمتي محرم على ذكورهم». فتحريم لباسه خاص للرجال دون النساء. وقد قيل: إنه مباح للرجال في الحرب، قاله ابن الماجشون ورواه عن مالك. فلا اختلاف في أن لباس الرجال له في غير الحرب محظور لا يباح لهم إلا من ضرورة. فقد «أرخص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير لحكة كانت بهما». وكره ذلك مالك ولم يرخص فيه إذ لم يبلغه الحديث والله أعلم. وقد روي عنه أنه أرخص فيه للحكة على ما جاء في الحديث. ومثله التختم بالذهب؛ لأنه من اللباس الذي يجوز للنساء دون الرجال. وأما التختم بالفضة فإنه جائز مباح للرجال والنساء لا كراهة فيه عند عامة العلماء من السلف والخلف. وقد شذ من كرهه بكل حال، لرواية ابن شهاب «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من ورق ثم نبذه فنبذ الناس خواتمهم» وهي رواية غلط لأن المحفوظ أنه نبذ خاتم الذهب لا خاتم الورق. وكذلك شذ أيضا من كرهه إلا لذي سلطان، لما «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الخاتم إلا لذي سلطان». ومعناه - إن صح - أنه لا يجب أو لا يستحب إلا لذي سلطان. والاختيار فيه عند الجمهور أن يلبس في الشمال، والوجه في ذلك استحباب التيامن؛ لأنه يتناوله بيمينه فيجعله في شماله. ومن السلف من يختار التختم في اليمين. وقد روي في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والوجه فيه أنه من اللباس والزينة فيؤثر به اليمين على الشمال، كما يؤثر الرجل اليمنى على اليسرى لما جاء في السنة في الانتعال بأن ينتعل اليمين قبلها ويخلع بعدها لتكون أكثر استمتاعا باللباس منها. وقد يكون فيه اسم الله فلا يحتاج إذا تختم في يمينه أن يخلعه عند الاستنجاء لأن ذلك مما يستحب لمن تختم في شماله. ولا يجوز التختم بالحديد؛ لأنه حلية أهل النار، ولا بالشبه، فقد جاء النهي عن التختم بهما عن النبي - عليه

فصل ومثله المخيط في الإحرام ومثله الجلوس على بسط الحرير

السلام - وقد أجاز ذلك من لم يبلغه النهي عن ذلك، كما أنه أجاز التختم بالذهب للرجال والنساء من لم يبلغه النهي عن ذلك، وهو شذوذ، وبالله التوفيق. فصل ومثله المخيط في الإحرام ومثله الجلوس على بسط الحرير والارتفاق بمرافق الحرير يجوز ذلك للنساء دون الرجال على من رأى ذلك لباسا بدليل حديث مالك الذي رواه عن إسحاق بن أبي طلحة «عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: "قوموا فلأصلي لكم " قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلينا وراءه». فسمى أنس الجلوس عليه لباسا فوجب أن يكون حكمه حكم اللباس. ومن جهة المعنى أن الحرير إنما جاء النهي عنه من جهة التشبه بالكفار فوجب أن يجتنب الجلوس عليه من جهة التشبيه بهم. وكذلك التنقب به؛ لأنه لباس للمتنقب به بخلاف ستور الحرير المعلقة في البيوت لا بأس بها لأنها إنما هي لباس لما سترتها من الحيطان. وقد رخص بعض العلماء في الجلوس على بسط الحرير والارتفاق بمرافقه إذ لم ير ذلك لباسا، أو هو قول عبد الملك بن الماجشون في سماع عبد المالك بن غانم من جامع المستخرجة. والذي عليه الأكثر والجمهور أن ذلك بمنزلة اللباس بدليل ما ذكرناه. ومن اللباس ما هو محظور على النساء دون الرجال، وهو الرقيق الذي يصف من الجباب لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نساء كاسيات عاريات» الحديث "، يريد كاسيات في الحقيقة عاريات في المعنى.

واختلف في العلم من الحرير في الثوب فمن أهل العلم من أجازه لما جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير وقال: «لا تلبسوا منه إلا هكذا وهكذا" وأشار بالسبابة والوسطى». وروي إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في موضع الأصبع والأصبعين والثلاث والأربع، وكرهه جماعة من السلف. وكذلك اختلف السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في لباس الخز الذي سداه جرير وما كان في معناه اختلافا كثيرا يتحصل فيه أربعة أقوال: أحدها: أن لباسها جائز من قبل المباح، من لبسها لم يأثم، ومن تركها لم يؤجر على تركها. وهو مذهب ابن عباس وجماعة من السلف. منهم ربيعة على ما وقع من قوله في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع العتبية، لأنهم تأولوا أن النهي والتحريم في لباس الحرير للرجال إنما ورد في الثوب المصمت الخالص من الحرير. والثاني: أن لباسها غير جائز وإن لم يطلق عليه أنه حرام، فمن لبسها أثم ومن تركها نجا، إذ قد قيل في حلة عطارد السيراء التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة»، إنها كانت يخالطها الحرير وكانت مضلعة بالقز، وهو مذهب عبد الله بن عمر. والظاهر من مذهب مالك وإن كان قد أطلق القول فيه أنه مكروه، والمكروه ما كان في تركه ثواب ولم يكن في فعله عقاب. إذ قد يطلقه فيما هو عنده غير جائز تجوزا من أن يحرم ما ليس بحرام. والذي يدل على ذلك من مذهبه قوله في المدونة: وأرجو أن يكون الخز للصبيان خفيفا. والثالث: أن لباسه مكروه على حد المكروه، فمن لبسه لم يأثم ومن تركه أجر على تركه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، لأن ما اختلف أهل العلم فيه لتكافئ الأدلة في تحليله وتحريمه فهو من المتشبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه». وعلى هذا القول يأتي ما حكى مطرف من أنه رأى على مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثوب إبريسم كساه إياه هارون الرشيد، إذ لم يكن ليلبس ما يعتقد أنه يأثم بلبسه.

والرابع: الفرق بين ثياب الخز وسائر الثياب المشوبة بالقطن والكتان، فيجوز لباس الخز اتباعا للسلف، ولا يجوز لباس ما سواها من الثياب المشوبة بالقطن والكتان بالقياس عليها، لأن الخز إنما أجيز اتباعا للسلف، فلباسه رخصة، والرخصة لا يقاس عليها. وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال، إذ لا فرق في القياس بين الخز وغيره من المحررات التي قيامها حرير وطعمها قطن أو كتان، لأن المعنى الذي من أجله استجاز لباس الخز من لبسه من السلف هو أنه ليس بحرير محض موجود في المحررات وشبهها. فلهذا المعنى استجازوا لبسه لا من أجل أنه خز إذ لم يأت أثر بالترخيص لهم في ثياب الخز فيختلف في قياس غيره عليه. ومن اللباس المحظور أيضا السرف فيه الزائد على القدر المأذون فيه الذي يخرج به صاحبه إلى الخيلاء والكبر والبطر، وهو عام في الرجال والنساء ممنوع بحق الله تعالى، لأن البطر والكبر ممنوعان في الشرع. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] وَقَالَ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وَقَالَ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] وَقَالَ {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله»، وقال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا». ومن اللباس المحظور اللبستان اللتان نهى عنهما النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو اشتمال الصفاء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء.

فصل في دخول الحمام

واشتمال الصماء هو أن يلتحف في الثوب ثم يرفعه ويلقيه على أحد منكبيه ويخرج يده من تحته. وصفة الاحتباء المنهي عنه أن يجلس الرجل ويضم ركبتيه إلى صدره ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ به ركبتيه ويشده حتى يكون كالمعتمد عليه والمسند إليه. فهذا إذا فعله بدت عورته إلا أن يكون تحته ثوب. وكذلك مشتمل الصماء تنكشف عورته من الناحية التي ألقى الثوب منها على منكبه إلا أن يكون عليه إزار، فإن كان عليه إزار جاز له أن يشتمل الصماء عليه لارتفاع علة النهي وهي انكشاف العورة. وقيل: إن ذلك لا يجوز وإن كان عليه إزار، واختلف في ذلك قول مالك فوجه المنع من ذلك اتباع ظاهر الحديث بحمله على عمومه وكيلا يكون ذلك ذريعة للجاهل الذي لا يعلم العلة في ذلك فيفعله ولا إزار عليه إذا رأى العالم يفعله وعليه إزار. وأما اللباس المكروه فهو ما خالف زي العرب وأشبه زي العجم، ومنه التعميم بغير التحاء، وقد روي أن ذلك عمة الشيطان. وقيل: إنما صفة عمائم قوم لوط، والله أعلم وبه التوفيق. فصل في دخول الحمام دخول الحمام إذا كان خاليا جائز لا كراهية فيه، وأما دخوله مستترا مع مستترين فقال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه من كتاب الجامع من العتبية: لا بأس بذلك أي لا حرج عليه فيه وتركه أحسن. فقد قال مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الوضوء من العتبية وقد سئل عن الغسل بالماء السخن من الحمام: والله ما دخول الحمام بصواب فكيف يغتسل بذلك الماء. ووجه الكراهة في ذلك وإن دخله مستترا مع مستترين مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير ظن إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس. وأما دخوله غير

مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ولا يجوز، لأن ستر العورة فرض ومن فعل ذلك كان جرحة فيه. والنساء في هذا بمنزلة الرجال. هذا هو الذي يوجبه النظر، لأن المرأة لا يجوز لها أن تنظر من المرأة إلا ما يجوز أن ينظره الرجل من الرجل، بدليل ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب». وما روي أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفضين رجل إلى رجل ولا امرأة إلى امرأة» خرج الحديثين أبو داود. فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم المرأة مع المرأة فيما يجوز لها أن تنظر إليه منها كحكم الرجل فيما يجوز له أن ينظر إليه من الرجل. وقد أجمع أهل العلم فيما علمت أن النساء يغسلن المرأة الميتة كما يغسل الرجل الرجل الميت، ولم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في غسل النساء ذوي محارمهن من الرجال، وفي غسل الرجل ذوات محارمه من النساء حسبما ذكرناه في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب من كتاب الجنائز من العتبية. وقد قال ابن أبي زيد في الرسالة: ولا تدخل المرأة الحمام إلا من علة. وقال عبد الوهاب في شرحها: هذا لما روي من أن الحمام محرم على النساء فلم يجز لهن دخوله إلا من عذر، ولأن المرأة ليست كالرجل لأن جميع بدنها عورة، ولا يجوز لها أن تظهر لرجل ولا امرأة. والحمام يجتمع فيه النساء ولا يمكن الواحدة أن تخليه لنفسها في العادة، فكره لها ذلك إلا من عذر. هذا نص قول عبد الوهاب وفيه نظر. أما ما ذكرناه من أن الحمام محرم على النساء فلا أعلمه نصا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب الجامع من المعونة أنه قال: «الحمام بيت لا ستر فيه لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخله إلا بمئزر،

ولا امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخله إلا لعلة». فإن صح ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمعناه في دخولهن إياه على ما جرت به عادتهن من دخولهن إياه غير مستترات. وأما ما قاله من أن بدن المرأة لا يجوز أن يراه رجل ولا امرأة فليس بصحيح، إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة، بدليل ما ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما روي من أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: إنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء المشركين فَانْهَ عن ذلك أشد النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها. وما اجتمع عليه العلماء من أن النساء يغسلن النساء كما يغسل الرجال الرجال. وإنما قال ابن أبي زيد: إن المرأة لا تدخل الحمام إلا من علة لما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بإزار وامنعوا منها النساء إلا مريضة أو نفساء». وإنما أمر والله أعلم أن يمنع النساء من دخولها إلا مريضة أو نفساء؛ لأن إباحة ذلك لهن ذريعة إلى أن يدخلنه غير مئتزرات، لا من أجل أن عليهن إثما في دخولهن إياها مئتزرات. فدخول النساء الحمامات مكروه لهن غير محرم عليهن. وعلى هذا يتأول ما روي في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عائشة، من ذلك حديثها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن دخول الحمامات ثم رخص للرجال أن يدخلوها بالميازر». فيتأول أنه إنما يرخص في ذلك للنساء بدليل هذا الحديث حماية للذرائع في دخولهن إياها بغير ميازر. ومن ذلك ما «روي عنها أنها أتتها نساء من أهل الشام فقالت: لعلكن من أهل الكورة التي يدخل نساؤها الحمامات. قال: قلن نعم. قالت فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد هتكت ما بينها وبين الله، أو ستر ما بينها وبين الله؛» لأنها إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها حيث لا تأمن أن

يطلع أحد من الرجال عليها مكشوفة الرأس والجسم أو تجردت عريانة وإن أمنت أن يطلع عليها أحد من الرجال إذ كان معها النساء في الحمام وشبهه. فقد قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء: إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء حمام مفرد، فأما اليوم فقد زال ذلك فيجب أن يجوز. وقد روي عن أم كلثوم قالت: أمرتني عائشة فطليتها بالنورة ثم طليتها بالحناء ما بين قرنها إلى قدمها في الحمام من حصر كان بها. قالت: فقلت لها ألم تكوني تنهي النساء عن الحمام؟ قالت: إني سقيمة، وأنا أنهى الآن أيضا ألا تدخل امرأة حماما إلا من سقم. فدل ذلك من قولها وفعلها أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم ونهتهن عن ذلك ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض. ولو كان عليهن حراما لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز، ومع الصحة مكروه إذ كن مستترات متزرات؛ لأن بدن المرأة إنما عورة على الرجل لا على المرأة. وإنما اختلف في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة، فقيل: إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من المرأة. والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، بدليل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فلولا أنها في النظر إليه كحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه لما أباح لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتداد عنده، وهذا بين والله أعلم وبه التوفيق.

فصل في السلام والمصافحة والاستئذان

فصل في السلام والمصافحة والاستئذان الابتداء بالسلام سنة مؤكدة من سنن الإسلام. قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفشوا السلام» وقال: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات». والرد أوكد وأوجب لما يتعلق في ذلك من حق المسلم. قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] والاختيار في السلام أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم، ويقول الراد عليه وعليك السلام. ويجوز الابتداء بلفظ الرد والرد بلفظ الابتداء ويتنهى إلى لفظ البركة على ما جاء عن ابن عباس من أنه أنكر الزيادة على ذلك وقال: إن السلام انتهى إلى البركة. وفي قول الله عز وجل: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها دليل على جواز الزيادة على البركة إذا انتهى المبتدئ بالسلام في سلامه إليها. وقد ذكر مالك في موطئه أن رجلا سلم على عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات، فقال عبد الله بن عمر: وعليك ألفا ثم كأنه كره ذلك. فصل روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يسلم الكبير على الصغير والراكب على

فصل

الماشي» ومعنى ذلك إذا التقيا، فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب بالسلام، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير بالسلام. وأما المار بغيره أو الداخل عليه فهو الذي يبدأ بالسلام وإن كان ماشيا والذي يمر به راكبا أو صغيرا. وكذلك السائر في الطريق إذا لحق بغيره فتقدمه وجب عليه أن يبدأه بالسلام وإن كان صغيرا أو راكبا وهو ماش. فصل وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم على ما جاء في الحديث، وكذلك في الرد يجزئ رد واحد من المسلم عليهم عن جميعهم على قياس ذلك. وقد قيل في غير المذهب: إنه لا يجزئ ذلك في الرد وهو شذوذ. ويكره السلام على المرأة الشابة ولا بأس به على المتجالة. فصل والمصافحة جائزة بل هي مستحبة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» وقد كره مالك المصافحة في رواية أشهب من كتاب الجامع من العتبية وقال: هو أخف من المعانقة. والمشهور عن مالك إجازتها واستحبابها، وهو الذي يدل عليه مذهبه في الموطأ بإدخاله فيه حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي تقدم بالأمر بها. والآثار فيها كثيرة، منها حديث البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلمين يتلقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا». وإنما المعلوم من مذهب مالك كراهية المعانقة، ومن أهل العلم من أجازها، منهم ابن عيينة، روي أنه دخل على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصافحه وقال له: يا أبا محمد لولا أنها بدعة لعانقناك فقال سفيان بن عيينة: عانق من هو خير منك ومني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مالك: جعفر؟ قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد

فصل

ليس بعام. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، فتأذن لي أن أحدث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد. قال: حدثني عبد الله بن طاووس، عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: «لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة اعتنقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل بين عينيه وقال: جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا، ما أعجب ما رأيت بأرض الحبشة» الحديث. ولما لم يرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعلها إلا مع جعفر بن أبي طالب رأى ذلك خصوصا له، وكره ذلك للناس إذ لم يصحبها العمل من الصحابة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنها مما تنفر عنها النفوس في كل وقت، إذ لا يمكن في الغالب إلا لوداع من طول اشتياق لغيبة، أو مع الأهل وما أشبه ذلك. وفارقت عنده المصافحة لوجود العمل بها. ووجه إجازتها اعتبارها بالمصافحة. وقد روي من «حديث أبي ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصافحه فجاءه قرة فلزمه» وهذا يمكن أن يكون فعله مرة ولم يداوم عليه. فصل ويكره تقبيل اليد في السلام. وقد سئل مالك عن الرجل يقدم من السفر فيتناول غلامه أو مولاه يده فيقبلها فقال: إن ترك ذلك أحب إلي. وهو كما قال: ينبغي لمولاه أو سيده أن ينهاه عن ذلك؛ لأنه بإسلامه أخوه في الله فلعله أفضل منه عند الله إلا أن لا يكون مسلما فلا ينهاه عن ذلك؛ لما جاء من «أن اليهود أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه مختبرين له عن تسع آيات بينات فلما أخبرهم بها قبلوا يديه ورجليه» في حديث طويل. فصل ولا يبدأ أهل الذمة بالسلام؛ لأن السلام تحية وإكرام، وقد قال الله عز وجل: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] فيجب ألا يكون الكافر أهلا لها. هذا

من طريق المعنى. وقد جاء بذلك الأثر أيضا. روي عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أي راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم». وقد روي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله بمعناه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وقد روى أشهب عن مالك في الجامع من العتبية أنه لا يسلم على أهل الذمة ولا يرد عليهم، ومعناه أنه لا يرد عليهم بمثل ما يرد على المسلمين وأن يقتصر في الرد عليهم بأن يقال: وعليكم على ما جاء في الحديث. وجاء في حديث الموطأ أن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السلام عليكم، فقل: عليك بغير واو. والذي ينبغي في هذا أن يقول في الرد: عليك - بغير واو - وإن تحققت أنه قال في سلامه: السام عليك وهو الموت، أو السلام عليك - بكسر السين - وهي الحجارة فقل عليك بغير واو. وإن شئت قلت: وعليك بالواو؛ لأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. روي عن عائشة «أن اليهود دخلوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: السام عليكم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وعليكم. فقالت عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عائشة عليك بالحلم وإياك والجهل، فقالت: يا رسول الله: أما سمعت ما قالوا، فقال لها: أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا» وإن لم تتحقق ذلك قلت وعليك. قالوا: ولأنك إن قلت عليك بغير واو وكان هو قد قال: السلام عليك كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه. ومن أخطأ فابتداء اليهودي بالسلام لم يلزمه أن يقول له: إني إنما بدأتك بالسلام؛ لأني ظننتك مسلما فلا تظن أني قصدتك بذلك وأنا أعلم أنك لست بمسلم، وهذا معنى قول مالك في موطئه: إنه لا يستقيل اليهودي في سلامه من سلم عليه؛ لأنه إن فعل ذلك فقد رجع له في إكرامه له بالسلام وبطلت غبطة الذمي بذلك. وقد قال الداودي معنى ذلك: لا يسأله أن

فصل

يرد عليه سلامه من أجل أنه لا يلحقه بسلامه عليه بركة وليس ذلك بشيء. وقد قيل: إنه يقول في الرد على الذمي: عليك السلام - بكسر السين - وعلاك السلام: ارتفع عنك. ومن أهل العلم من أجاز أن يبدأ أهل الذمة بالسلام، وهو خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل ولا يسلم على أهل الأهواء كلهم، قاله ابن القاسم في سماعه من جامع العتبية، وحكى أنه رأى ذلك من مذهب مالك. ومعناه في أهل الأهواء الذين يشبهون القدرية من المعتزلة والروافض والخوارج، إذ من الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أن معتقده كافر، فلا يختلف في أنه لا يسلم عليه؛ ومنه ما هو خفيف لا يختلف في أنه ليس بكفر ولا في معتقده أنه ليس بكافر فلا يختلف في أنه يسلم عليه. ويحتمل أنه يريد أنه لا يسلم عليهم على وجه التأديب لهم والتبرؤ منهم والبغضة فيهم لله؛ لأنهم عنده كفار بمثال قولهم ويحمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم؛ لأنهم عندهم كفار بآل قولهم، وقد اختلف قوله في ذلك. ولا ينبغي أن يسلم على أهل الباطل في حال تشبثهم بالباطل وعملهم به كالملهيين واللاعبين بالشطرنج وشبه ذلك. فصل والاستئذان واجب، لا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه، أجنبيا كان أو قريبا. وقد جاء أن «رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استأذن عليها فقال الرجل يا رسول الله: إني خادمها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا قال: فاستأذن عليها». وروى أبو موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع». وقال الله عز وجل: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]

فصل في تشميت العاطس

أي حتى تستأذنوا وتسلموا. وقد قرئ ذلك. فالاستئناس هو الاستئذان في الصحيح من الأقوال؛ لأنه استفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مختبرا بذلك من فيه وهل فيه أحد أم لا؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم له ويأنسوا إلى استئذانه إياهم. وقد اختلف هل يبدأ بالسلام أو بالاستئذان، والصواب أن يقدم الاستئذان، فإن أذن له بالدخول سلم على من في البيت ودخل. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تأذنوا لمن لا يبدأ بالسلام». وقد استوفينا الكلام على هذا في رسم باع شاة من سماع عيسى من جامع العتبية، وبالله التوفيق. فصل في تشميت العاطس روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، وإذا قال: الحمد لله فليقل له يرحمك الله. فإذا قيل له ذلك فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم». وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله، وليقل له من عنده يرحمك الله، وليرد عليك يغفر الله لنا ولكم». وقال مالك: إن شاء قال العاطس في الرد على من سمته: يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالكم". وقال الشافعي: أي ذلك قال فحسن. وقال أصحاب أبي حنيفة: يقول: يغفر الله لنا ولكم ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يهديكم الله ويصلح بالكم شيء قالته الخوارج؛ لأنهم لا يستغفرون للناس. والصحيح ما ذهب إليه مالك من أنه يرد عليه بما شاء من ذلك، إذ قد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمران جميعا. وقد اختار الطحاوي وعبد الوهاب وغيره: يهديكم الله

ويصلح بالكم على قوله: يغفر الله لنا ولكم؛ لأن المغفرة لا تكون إلا من ذنب، والهداية قد تعري من الذنوب. والذي أقول به أن قوله: يغفر الله لنا ولكم أولى، إذ لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب، وصاحب الذنب يحتاج إلى الغفران؛ لأنه إن هدي فيما يستقبل ولم يغفر له ما تقدم من ذنوبه بقيت التباعة عليه فيها. وإن جمعها جميعا فقال: يغفر الله لنا ولكم ويهديكم الله ويصلح بالكم كان أحسن وأولى. والذمي إذا عطس وحمد الله فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال: يهديك الله ويصلح بالك، لأن اليهودي والنصراني لا تغفر له السيئات حتى يؤمن. ومما يدل على هذا ما روي «أن اليهود والنصارى كانوا يتعاطسون عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم». وتعليق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشميت بالحمد بقوله: وإذا قال: الحمد لله فليقل له: يرحمك الله دليل على أن العاطس لا يشمت حتى يحمد الله، وهو قول مالك إنه لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله. قيل له: فإنه ربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فأسمع القوم يشمتونه، فقال: إذا سمعت الذين يشمتونه فشمته. وقد اختلف في تشميت العاطس فقيل: هو واجب على كل من سمعه يحمد الله وهو مذهب أهل الظاهر، وقيل: هو واجب على الكفاية كرد السلام، وقيل: هو ندب وإرشاد وليس بواجب. وإنما أمر العاطس أن يحمد الله لما له في العطاس من المنفعة. والدليل على ذلك أنه لا يشمت إذا كان مضنوكا على ما جاء في الحديث من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن «عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل: إنك مضنوك». قال عبد الله بن أبي بكر راوي الحديث: لا أدري بعد الثلاثة أو الأربعة. ويقال: تسميت وتشميت. وقال الخليل: تشميت العاطس لغة في تسميته. وقال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك. وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن. وبالله التوفيق.

فصل في المهاجرة

فصل في المهاجرة ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث لما قد يقع بينه وبينة مما قد تنفر منه الطباع، إلا أن يكون من أهل الأهواء والبدع أو من أهل الفسوق من المسلمين فيهجرهما في ذات الله، لأن الحب في الله والبغض في الله واجب، ولأن في ترك مؤاخاة البدعي حفظا لدينه، إذ قد يسمع من شبهه ما يعلق بنفسه. وفي ترك مؤاخاة الفاسق ردع له عن فسوقه. والسلام يخرج المهاجر عن هجرانه إذا كان متماديا على إذايته والسبب الذي هجره من أجله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». وأما إن كان قد أقلع عن ذلك فلا يخرج عن هجرانه فتجوز شهادته عليه إلا بأن يعود معه إلى ما كان عليه قبل. هذا معنى قول مالك. والآثار في الأمر بالتواخي في الله والنهي عن التقاطع والتدابر كثيرة. والثلاث آخر حد اليسير في أشياء كثيرة من أحكام الشرع، فاستخف في المهاجرة لجري العادة في الطباع بها عند وقوع ما يثيرها. والأصل في تحديدها في الهجرة وغيرها قول الله عز وجل: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وبالله التوفيق. فصل في بيان السنن التي في البدن وهي عشر: خمس في الرأس: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية؛ وخمس في الجسد وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان. جاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما المضمضة والاستنشاق فهما من سنن الوضوء وقد مضى القول فيهما. والسواك تطهير للفم ومرضاة للرب. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء». والأصبع تجزئ عن السواك ما لم يجد سواكا.

وأما قص الشارب فما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأمر به يبين ما جاء عنه من الأمر بإحفائه فيستعمل الأمران جميعا بأن يقص أعلاه ويحفي الإطار منه، ولا يحمل على التعارض. وهذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه رأى حلقه مثلة، وقال في ذلك إنه بدعة وهو صحيح، لأن اتصال العمل بترك إحفائه دليل على نسخ الأمر بذلك. والأولى أن يجعل حديث الأمر بقصه مبينا لحديث الأمر بإحفائه. وكان ابن القاسم يكره أن يؤخذ من أعلاه وقال: معنى الأمر بإحفائه إحفاء الإطار منه. وأما اللحية فتعفى على ما جاء في الحديث؛ لأن فيها جمالا. وقد جاء في بعض الأخبار أن الله عز وجل زين بني آدم باللحى، فحلقها مثلة وتشبيه بالأعاجم في ذلك، إلا أن تطول فلا بأس بالأخذ منها. وأما حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار فهو من النظافة المشروعة في الدين. والاستنجاء من باب زوال النجاسة، ويجزئ فيه الأحجار على ما جاء في الآثار، والماء أطهر وأطيب. ومن قدر على الجمع بينهما فهو أحسن، لأن الله قد أثنى على من فعل ذلك من الأنصار بقباء فقال فيهم: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. وأما الختان فهو طهرة الإسلام ومن سنة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وملته التي أمر الله بالتزامها حيث يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي التزموها. هو أول من اختتن من الناس حين أمره الله بالختان. قيل: وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: وهو ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. روي الأمران جميعا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة. ويستحب ختان الصبي إذا أمر بالصلاة من السبع سنين إلى العشرة، ويكره

فصل في التناجي

أن يختن في سابع ولادته كما تفعله اليهود. وروي عن ابن عباس أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته ولا تجوز شهادته. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «لا يحج البيت حتى يختتن». وقد اختلف هل للكبير رخصة في ترك الختان أم لا؟ فروي عن الحسن أنه كان يرخص في ذلك للشيخ الكبير، وقال ذلك محمد بن عبد الحكم إذا ضعف وخاف على نفسه، ولم يرخص له سحنون في تركه وإن خاف منه على نفسه. واختلف فيمن ولد مختونا فقيل: قد كفى الله المؤونة فيه، وقيل: يجري الموسى عليه فإن كان فيه ما يقطع قطع، وبالله التوفيق. فصل في التناجي ولا يتناجى اثنان دون واحد للنهي الوارد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، وكذلك الجماعة دون الواحد؛ لأن ذلك أشد لحزنه وإساءته وقلة التأدب معه. وقد قيل: إن ذلك إنما يكره في السفر وحيث لا يعرف المتناجيان، ولا يوثق بهما، ويخشى الغرر منهما. وحجة من ذهب إلى هذا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمر أنه قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان منهما دون صاحبهما». وهذا لا حجة فيه، إذ ليس في النهي عن ذلك في السفر ما يدل على إباحته في الحضر، فالصواب أن تحمل الأحاديث التي ليس فيها ذكر السفر على عمومها في السفر والحضر، بدليل قوله فيه: لا يحل. فإذا خشي المتناجيان دون صاحبهما أن يظن بهما أنهما يتناجيان في عورة فلا يحل لهما أن يتناجيا دونه، كان ذلك في سفر أو حضر، وإذا أمن من ذلك فهو مكروه لهما في الحضر والسفر من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، وبالله التوفيق لا رب غيره.

فصل في التيامن في الأشياء

فصل في التيامن في الأشياء كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيامن في أمره كله وقال: «إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم». وقال: «إذا أكل أحدكم أو شرب فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله ويعطي بشماله». وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطعامه وطهوره ويده اليسرى لحاجته وما كان من الأذى». فما يتصرف به الإنسان منه ما يستحب له فعله بيمينه ومنه ما يستحب له فعله بشماله، فإن فعل ما يستحب له فعله بيمينه بشماله، أو ما يستحب له فعله بشماله بيمينه، أساء ولم يكن عليه شيء، وأجزأه ذلك الفعل إن كان من العبادات التي يستحب له أن يفعله بشماله ما كان فيه أذى. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يغسل الرجل باطن قدميه بيمينه» ولا يمتخط بيمينه، ولا ينزع الأذى من أنفه بيمينه. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يمتخط بيمينه وينزع الأذى عن أنفه بيمينه على ظاهر ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كانت يمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجهه وشماله لما وراء ذلك». وقد روي أن الحسن بن علي امتخط عند معاوية يمينه فقال له معاوية: شمالك، فقال الحسن: يميني لوجهي وشمالي لحاجتي. ومذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الامتخاط مثل الذي فعل ابنه الحسن. وبالله التوفيق.

فصل في المشي في النعل الواحدة

فصل في المشي في النعل الواحدة يكره على مذهب مالك وأصحابه أن يمشى في نعل واحدة، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ لأنه عندهم نهي أدب وإرشاد، لما في ذلك من السماحة والشهرة لمخالفة العادة في اللباس، وما ينسب إلى فاعل ذلك من ترك المروءة وقلة التحصيل، لا نهي تحريم خلاف ما ذهب إليه أهل الظاهر من أنه نهي تحريم يأثم عندهم من مشى في نعل واحدة. واختلف في المذهب هل يباح لمن انقطع قبال نعله وهو يمشي أن يقف في نعل واحدة حتى يصلح نعله الأخرى، فأجاز ذلك ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، ولم يجزه أصبغ إلا أن يطول ذلك. وقول ابن القاسم أظهر، إذ ليس ذلك بمشي وإن طال وقوفه. ولا يجوز له على قولهما جميعا أن يمشي في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى التي انقطع قبالها. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما انقطع شسع نعله فمشى في نعل واحدة» إلا أنه حديث ضعيف لا يصححه أهل العلم بالحديث. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه قال: «إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة حتى يصلح شسعه». والذي أراه في هذا أن تستعمل الآثار كلها ولا يطرح شيء منها فيقال على استعمالها: إن الرجل لا يمشي ابتداء في نعل واحدة إذا انقطع شسع إحداهما، وإنه إذا انقطع شسع إحدى نعليه وهو يمشي مشى في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى؛ لأن ذلك سير لا يطول، بخلاف ابتداء المشي في النعل الواحدة. فقد روي عن علي بن أبي طالب أنه رئي يمشي في نعل واحدة وهو يصلح شسع الأخرى. وروي مثله أيضا عن عبد الله بن عمر. وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تجيز المشي في النعل الواحدة وتنكر حديث أبي هريرة في النهي عن ذلك، وروي عنها أنها كانت تمشي في الخف الواحدة وتقول:

فصل في السنة في الشراب والطعام

لأحنثن أبا هريرة. والمعنى في ذلك، والله أعلم، لتبين بفعلها أن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك ليس بنهي تحريم يأثم من فعله، وإنما هو نهي أدب وإرشاد فلا يأثم من فعله ويؤجر من تركه، وبالله التوفيق. فصل في السنة في الشراب والطعام ومن السنة في الأكل والشرب تسمية الآكل الله عز وجل عند ابتدائه، وحمده عند فراغه، لما روي من «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا وضع يده في الطعام قال: بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وإذا فرغ منه قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. » وأن يأكل إذا أكل مع غيره مما يليه؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربيبه عمرو بن أبي سلمة: قل بسم الله وكل مما يليك» وهذا إذا كان الطعام صنفا واحدا كالثريد واللحم وشبه ذلك. وأما إذا كان أصنافا مختلفة كأنواع الفاكهة في طبق مما تختلف أغراض الآكلين فيه فلا بأس للرجل أن يتناول ما بين يدي غيره. وذلك منصوص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عبد الله بن عكراش بن ذؤيب. وقد ذكرته بكماله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. وذلك بين أيضا من «حديث أنس بن مالك: فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبع الدباء من حوالي القصعة». ولا بأس إذا أكل الرجل مع أهله وبنيه أن يتناول مما بين أيديهم إذ لا يلزمه

أن يتأدب معهم ويلزمهم أن يتأدبوا معه في الأكل، فإن لم يفعلوا ذلك أمرهم بذلك كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما قاله لعمرو بن أبي سلمة. ومن الأدب إذا أكل الرجل مع القوم أن يأكل كما يأكلون من تصغير اللقم والترسيل في الأكل وإن خالف ذلك عادته. ومن هذا المعنى نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القران في التمر، وهو أن يأكل تمرتين إذا لم يقرنوا، وإن كان هو الذي أطعمهم. ويجوز له ذلك إذا أكل مع من لا يلزمه أن يتأدب معهم من أهله وولده. وقد قيل: إنه إنما نهي عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يؤاكله بأكثر من حقه. فعلى هذا يجوز له إذا كان هو الذي أطعمهم أن يقرن وإن كانوا لا يقرنون. والأظهر أن يكون النهي عن ذلك للمعنيين جميعا، فلا يقرن الرجل دون أصحابه المؤاكلين له الذين يلزمه أن يتأدب معهم وإن كان هو الذي أطعمهم]. ويستحب للرجل أن لا ينهم في الأكل ويكثر منه، فإن ذلك مما يضر به، فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلثه للماء، وثلثه للنفس. ولا يأكل متكئا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فلا آكل متكئا»؛ ولأن ذلك من فعل الأعاجم تجبرا وتكبرا. وأن يغسل يده وفمه من الدسم عند فراغه من الأكل؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. «روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب لبنا فمضمض وقال: إن له دسما.» وإن لم يكن لطعامه دسم لم يكن عليه غسل يده منه، فقد كان عمر بن الخطاب إذا أكل ما لا دسم له مسح يده بباطن قدمه. وأما غسل الرجل يده للأكل فليس من السنة، فقد كرهه مالك وقال فيه: إنه ليس من الأمر أي من السنة المأمور بها فيلزم التزامها؛ لأنها من فعل الأعاجم ولم يرو عن السلف، إلا أن يخشى أن يكون قد مس بيده شيئا يكره أن يباشر به الطعام.

فصل

ولا ينبغي أن ينفخ في طعام ولا شراب، ولا أن يتنفس في إنائه إذا شرب، وإذا ضاق به النفس فلينح القدح عن فيه، فإذا تنفس أعاده إليه؛ لما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النفخ في الشراب». والمعنى في ذلك أنه يخشى أن يطير مع نفسه شيء من ريقه فتعافه نفس من رآه، فإذا رأى قذاة في الإناء أراقها ولم ينفخها، وقد جاء الحديث بذلك. فصل ويجوز الشراب قائما؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه شرب قائما، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يشربون قياما. وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الشرب قائما» من رواية أنس بن مالك، ومن رواية أبي سعيد الخدري «أنه زجر رجلا رآه يشرب قائما». وقال إبراهيم النخعي: إنما كره الشرب قائما؛ لما يأخذ في البطن، فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشرب قائما؛ لما ذكر له أن ذلك يضر بمن فعله، فلما تحقق أن ذلك لا يضر به شرب قائما ولم ينه عن ذلك. فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أن ينهى عن الغيلة ثم لم ينه عنها؛ لما ذكر من أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا. ويحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي من أجله كره الشرب قائما فنهى عنه إشفاقا على أمته وطلبا لمصالحهم. وإذا احتمل أن يكون كل واحد من الحديثين ناسخا للآخر وجب أن يسقطا جميعا، فلا يمتنع من الشرب قائما إلا أن يتيقن على ما ذهب إليه مالك وبوب عليه في موطئه باب شرب الرجل وهو قائم.

فصل

فصل وإذا أتي الرجل بالشراب وهو في جماعة فشرب ناوله من على يمينه؛ لما جاء من استحباب التيامن في الأمور، ولما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن». فصل ولا يجوز الأكل ولا الشرب في أواني الذهب والفضة ولا استعمالها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ولا فرق بين الأكل والشرب في ذلك؛ لأن المعنى فيه واحد وهو التشبه في ذلك بالأعاجم والأكاسرة المتكبرين المتجبرين. وأما الحلقة من الذهب والفضة تكون في القدح والتضبيب في شفتة فقياسه قياس العلم من الحرير في الثوب، كرهه مالك وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه على قدر الإصبعين والثلاث والأربع، ووقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر. فصل ويجب على آكل الثوم نيئا اجتناب المساجد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أكل هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم». وكذلك الكراث والبصل إن كان يؤذي ريحهما قياسا على الثوم. فالعلة التي قد نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها في الثوم وهي التأذي بريحها. والأسواق في هذا بخلاف المساجد؛ لأن للمساجد حرمة تختص

فصل فيما يجب إتيانه من الولائم والدعوات

بها ليست للأسواق إلا أن ذلك مكروه في مكارم الأخلاق، وبالله التوفيق. فصل فيما يجب إتيانه من الولائم والدعوات والدعوات إلى الأطعمة تنقسم على خمسة أقسام، منها ما يجب على المدعو إليها إجابة الداعي إليها، ولا يجوز التخلف عنها إلا لعذر، وهي دعوة الوليمة التي أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها وحض عليها وأمر بإجابة الداعي إليها. ومنها ما تستحب الإجابة إليها وهي المأدبة التي يفعلها الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه على حسن العشرة وإرادة التودد والألفة. ومنها ما يجوز إجابة الداعي إليها ولا حرج في التخلف عنها، وهي ما سوى دعوة وليمة العرس من الدعوات التي تصنع على ما جرت به العادة دون مقصد مذموم كدعوة العقيقة والنقيعة والوكيرة والخرس والإعذار وما أشبه ذلك. ومنها ما يكره إجابة الداعي إليها، وهو ما يقصد به منها قصدا مذموما من تطاول أو امتنان وابتغاء محمدة وشكر وما أشبه ذلك، لا سيما لأهل الفضل والهيئات، لأن إجابتهم إلى مثل هذه الأطعمة إضاعة للتعاون، وإخلاف للهيبة عند دناءة الناس وسبب للإذلال. فقد قيل: ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له. ومنها ما تحرم الإجابة إليها وهي ما يفعله الرجل لمن يحرم عليه قبول هبته كأحد الخصمين للقاضي، وبالله التوفيق. فصل في العيادة ويستحب للمسلم عيادة لأخيه المسلم إذا مرض؛ لما في ذلك من الألفة والمواصلة المندوب إليهما في الشريعة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق المسلم على

فصل في الغيبة

أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات». وجاء أن الرجل إذا عاد المريض خاض في الرحمة حتى إذا جلس عنده قرت فيه أو نحو ذلك. وشهود جنازته إذا مات آكد عليه في الاستحباب من عيادته إذا مرض؛ لأنه بعد الموت أحوج إلى الدعاء منه في حال الحياة. وقد جاء أن في الصلاة على الجنازة قيراطا من الأجر وفي حضور دفنها قيراطا أيضا، والقيراط مثل جبل أحد ثوابا وبالله التوفيق فصل في الغيبة ولا تحل الغيبة؛ لأن الله عز وجل حرمها في كتابه العزيز فقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] فقرن عز وجل تحريم اغتياب المسلم بتحريم أكل لحمه ميتا؛ لما في ذلك من الإذاية التي تدعو إلى المقاطعة والبغضاء، وتولد الأحقاد والعداوات، وذلك ضد المأمور به من الألفة والتواخي في ذات الله. والغيبة له هي أن يذكر منه ما يكره سماعه وإن كان حقا، وأما إن كان باطلا فذلك البهتان. وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] إلا في ثلاثة لا غيبة فيهم، وهم الإمام الجائر، والفاسق المعلن، وصاحب البدعة؛ لأن الغيبة إنما هي أن تذكر من المرء ما يكره أن يذكر عنه لمن لا يعلم ذلك منه، والإمام الجائر والفاسق المعلن قد اشتهر أمرهما عند الناس، فلا غيبة في أن يذكر

فصل في التماثيل

من جور الجائر وفسق الفاسق ما هو معلوم من كل واحد منهما، وصاحب البدعة يدين ببدعته ويعتقد أنه على الحق فيها، وأن غيره على الخطأ في مخالفته في بدعته، فلا غيبة فيه في ذكره بها؛ لأنه كان معلنا بها فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستترا بها فواجب أن يذكر بها، ويحفظ الناس من اتباعه عليها. وإنما يكون مغتابا لكل واحد منهم إن ذكر عنهم سوى ما اشتهروا به. وينبغي لأهل الفضل والدين أن يحفظوا ألسنتهم من الخوض فيما لا يعنيهم ويلتزموا الصمت فلا يتكلموا من أمور الدنيا إلا فيما يحتاجون إليه؛ لأن في الإكثار من الكلام السقط والخطل، والتعرض للزلل. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه، وما بين رجليه» ودخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو يجذب لسانه، فقال له: مه، فقال: إن هذا أوردني الموارد. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وبالله التوفيق. فصل في التماثيل ولا يجوز عمل التماثيل المصورة على صفة الإنسان أو صفة شيء من الحيوان؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم:

فصل في وصل الشعر وما كان في معناه وفي الخضاب

أحيوا ما خلقتم». وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل وتصاوير». والمحرم من ذلك بإجماع ما كان مخلوقا له ظل قائم على صفة الإنسان، أو ما يحيى من الحيوان، وما سوى ذلك من المرسوم في الحيطان، والمرقوم في الستور التي تنشر، أو البسط التي تفترش أو الوسائد التي يرتفق بها ويتكأ عليها مكروهة وليست بحرام في الصحيح من الأقوال، لتعارض الآثار في ذلك؛ لأن ما تعارضت فيه الآثار فهو من المشتبهات التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه». وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال: أحدها: تحريم جميعها سواء كانت مرسومة في حائط، أو مرقومة في ثوب ينشر أو يتوسد أو يبسط. والثاني: إباحة جميعها. والثالث: إباحة ما عدا المرسوم منها في الحيطان والجدر. وما عدا المرقوم منها في الستور التي تعلق ولا تمتهن بالبسط لها والجلوس عليها. والذي يباح من ذلك للعب الجواري به ما كان غير تام الخلقة لا يحيى ما كان على صورته في العادة، كالعظام التي يجعل لها وجوه بالرسم وكالترويق في الحائط. وقد قال أصبغ: الذي يباح من ذلك ما يسرع إليه البلى والفساد، وليس ذلك ببين في وجه القياس والنظر، وبالله التوفيق. فصل في وصل الشعر وما كان في معناه وفي الخضاب ولا يجوز للمرأة أن تصل شعرها ولا أن تشم وجهها ولا بدنها، ولا أن تنشر

فصل في التفرقة بين الصبيان في المضاجع

أسنانها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة، والمتنمصات المتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله». والمعنى في المنع من ذلك أن فيه غرورا وتدليسا. فالوشم المنهي عنه هو أن المرأة كانت تغرز ظهور كفيها، أو معصمها بإبرة، أو مسلة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه بالكحل فتخضر بذلك. والوشر هو أن تنشر أسنانها حتى تفلجها وتحددها. ويجوز لها أن تخضب يديها ورجليها بالحناء. واختلف في تطريف أصابعها، فأجاز ذلك مالك في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، ولم ير به بأسا. وجاء النهي في ذلك عن عمر بن الخطاب، روي عنه أنه خطب فقال: يا معشر النساء إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا وأشار إلى موضع السوار. وأما الخضاب فهو صبغ شعر الرأس واللحية بما عدا السواد من الحناء والكتم وشبه ذلك، فقيل: إن ذلك جائز، وقيل: إنه مستحب. وأما بالسواد فمن أهل العلم من أجازه، ومنهم من كرهه؛ لما فيه من التدليس والإيهام أنه باق على حاله من الشباب، فقد تغتر المرأة التي تتزوجه بذلك. ولو فعل ذلك الشيخ في الحرب ليوهم العدو أنه شاب جلد لأوجر في ذلك إذا صحت نيته فيه. وبالله التوفيق. لا إله إلا هو. فصل في التفرقة بين الصبيان في المضاجع ويفرق بين الصبيان في المضاجع، قيل: لسبع سنين إذا أمروا بالصلاة وقيل:

فصل فيما يجوز للرجل أن ينظر إليه من النساء

لعشر إذا أدبوا عليها وهو ظاهر الحديث ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان متعريين في لحاف واحد؛ للنهي الوارد في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو نهيه عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار. ويروى معاكمة. والمكامعة هي أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد أخذا من الكمع وهو الضجيع، ومنه قيل لزوج المرأة: كمعها. وأما المعاكمة فهي مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومنه قيل: عكمت الثياب إذا شددت بعضها إلى بعض. ومن هذا ما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تباشر المرأة المرأة ولا الرجل الرجل» وبالله التوفيق. فصل فيما يجوز للرجل أن ينظر إليه من النساء ولا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة ليست منه بمحرم للنهي عن ذلك، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان ثالثهما» معنى أنه يوسوس إليه مواقعة المعصية بها مع الخلوة حتى تحدثه نفسه بها. . ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة المتجالة؛ لقول الله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. ولا يجوز له أن ينظر إلى الشابة إلا لعذر من شهادة أو علاج،

فصل

أو عند إرادة نكاحها؛ لإباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك وقوله: «فإنه أحرى أن يؤدم بينهما». وإنما اختلف إذا أراد نكاحها هل له أن يغتفلها النظر من الكوة؟ فكره ذلك مالك ولم يبحه له، وأجاز ذلك ابن وهب وغيره للآثار المروية في ذلك. من ذلك حديث جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل؛ قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة وكنت أتخفى لها في أصول النخل حتى رأيت منها بعض ما يعجبني فخطبتها فتزوجتها». ولم يسمع ذلك مالك ولا صح عنده؛ ولذلك كرهه، والله أعلم، أو لعله إنما كره ذلك مخافة أن يرى منها بعض عريتها. ومن أجاز ذلك للآثار المروية فيه فإنما أجازه إذا أمن من ذلك. فصل ويجوز للعبد أن يرى من سيدته ما يراه ذو المحرم منها؛ لقوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] إلا أن يكون له منطرة فيكره أن يرى منها ما عدا وجهها. ولها أن تؤاكله إذا كان وغدا دنيا، يؤمن منه التلذذ بها، بخلاف الشاب الذي لا يؤمن ذلك منه. وقد اختلف في غير أولي الإربة من الرجال الذين عناهم الله تعالى، فقيل: هو الأحمق والمعتوه الذي لا يهتدي لشيء من أمور النساء، وقيل: هو الحصور العنين الذي لا ينتشر للنساء، والخصي مثله في المعنى. والقول الأول هو الذي ذهب إليه مالك، ويؤيده «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه في المخنث الذي كان عند أم سلمة: "لا يدخل هؤلاء عليكن» الداخلة

فصل في حضور اللهو

عليها في استتارها منه. هذا هو القياس إذا لم يكن عبده من غير أولي الإربة. وقد وقع له في موضع إجازة دخوله عليها إذا لم يكن حرا وكان عبدا لها ولزوجها أو لغيره، وذلك استحسان على غير قياس مراعاة للاختلاف وبالله التوفيق. فصل في حضور اللهو ولا يجوز تعمد حضور شيء من اللهو واللعب، ولا من الملاهي المطربة كالطبل والزمر وما كان في معناه؛ لقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل لهو يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاث»: والثلاث ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه ". ورخص من ذلك في النكاح الدف وهو الغربال باتفاق، والكبر والمزهر على ثلاثة أقوال: إباحتها جميعا، وكراهتهما جميعا، وإباحة الكبر دون المزهر، قيل: للنساء دون الرجال، وقيل: للنساء والرجال. واختلف هل هو من قبيل المباح الذي يستوي فعله وتركه، أو هو من قبيل المباح الذي تركه أحسن من فعله وبالله التوفيق.

فصل في قراءة القرآن بالألحان

فصل في قراءة القرآن بالألحان ولا يجوز قراءة القرآن بالألحان المطربة كالغناء الملهية لسامعها عن الخشوع والاعتبار بآيات القرآن والخشية وتجديد التوبة عند سماع مواعظه. فالواجب أن ينزه القرآن عن ذلك ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق إلى ما عند الله؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83]. والألحان تكره في الشعر فكيف في القرآن. فمن قصد إلى سماع القرآن بالصوت الحسن والقراءة المجودة فهو حسن. وقال عمر بن الخطاب لأبي موسى: ذكرنا ربنا؛ لحسن صوته بالقرآن وتجويده لقراءته. وقد اختلف في تأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» اختلافا كثيرا. وأحسن ما في ذلك عندي أن يكون المعنى فيه ليس منا من لم يلتذ بسماع قراءة القرآن؛ لرقة قلبه، وشوقه إلى ما عند ربه كما يلتذ أهل الغواني بسماع غوانيهم، والله أعلم وبه التوفيق. لا رب غيره ولا معبود سواه. فصل في السفر بالقرآن إلى أرض العدو والتعوذ به ولا يجوز أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ لما في ذلك من الاستخفاف

فصل

بحقه وحرمته مخافة أن يناله العدو، وللنهي الوارد في ذلك. ويجوز أن يكتب إليهم منه بالآية والآيتين إذا كان الغرض من ذلك الدعاء إلى الإسلام؛ لما روي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآيات. فصل والتعوذ بالقرآن جائز. قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَقَالَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]. «وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. وكان من تعوذه: أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات من شر ما خلق وبرأ وذرأ ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. » والرقية به وبأسماء الله تعالى جائزة؛ لقوله جل ذكره: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 82 - 92] «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابني جعفر بن أبي طالب: استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين»، إذ دخل عليهما فرآهما ضارعين فسأل عن ذلك حاضنتهما فقالت: إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك. والآثار في هذا المعنى كثيرة.

فصل

وتجوز رقية الذمي بكتاب الله؛ لقول أبي بكر الصديق إذ دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها: ارقيها بكتاب الله عز وجل. وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاه عبد الوهاب، فلا اختلاف في جواز الاستعاذة بالقرآن والرقية به. وإنما اختلف أهل العلم في جواز تعليق الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والحبالى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله عز وجل، وما هو معروف من ذكره وأسمائه؛ للاستشفاء من المرض، أو في حال الصحة؛ لدفع ما يتوقع من المرض والعين، فظاهر قول مالك من رواية أشهب من كتاب الصلاة إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال: لا بأس بذلك للمرضى وكرهه للأصحاء مخافة العين وما يتقى من المرض. وأما التمائم بغير ذكر الله وهي بالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجيزه بحال لمريض ولا صحيح؛ لما جاء في الحديث: «من تعلق شيئا وكل إليه ومن علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له»؛ ولما رواه في موطئه من أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في بعض أسفاره رسولا والناس في مقيلهم ألا تبقين في رقبة قلادة من وتر أو غيره إلا قطعت». ومن أهل العلم من كره التمائم، ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال؛ لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض، ومنعها في الصحة؛ لما يتقى منه، أو من العين على ما روي عن عائشة أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة. وقول مالك في رواية أشهب المذكورة أولى الأقوال بالصواب من جهة النظر، إذ يبعد إجازة تعليق تميمة لا ذكر لله فيها في حال من الأحوال، ولا وجه من طريق النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر الله بين الصحة والمرض إلا اتباع قول عائشة في ذلك، إذ لا تقوله رأيا والله أعلم. وقوله الثاني أتبع للأثر لاستعمال الآثار كلها بحمل النهي على ما ليس فيه ذكر الله، وقول عائشة على ما كان منها بذكر الله. فصل ومن عين إنسانا أمر العائن أن يتوضأ له. وصفة ذلك أن يغسل وجهه ويديه

فصل في التداوي بالكي وقطع العروق والحجامة وشرب الدواء

ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في إناء، ثم يصب على المريض المعين، لورود الخبر بذلك في «حديث عامر بن ربيعة لما مر بسهل بن حنيف فعين سهلا، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ له على هذه الصفة بعد أن تغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت» وما يصيب المعين بقول العائن إذا لم يبرك أمر أجرى الله العادة به في الغالب مع القدر السائق. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا بركت إن العين حق». يريد أن الله أجرى العادة به في أغلب الأحوال، لا أن قول العائن هو المحدث لما أصاب المعين وبالله التوفيق. فصل في التداوي بالكي وقطع العروق والحجامة وشرب الدواء لا اختلاف فيما أعلمه في أن التداوي بما عدا الكي من الحجامة، وقطع العروق، وأخذ الدواء مباح في الشريعة غير محظور، وقد كرهه بعض السلف ورأى تركه اتكالا على الله أفضل. «واحتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حجمه أبو طيبة فأمر له بصاع من طعام وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه. وقال: "إن كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه». «وتطبب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطبيبي بني أنصار: أيكما أطب فقالا: أوفي الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الله الدواء كما أنزل الأدواء». وروي أنه «قيل لعائشة: من أين لك العلم بالطب؟ فقالت: إن العلل كانت تعتاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا وكان يشاور الطبيب فكنت أسمع ما يقول له». وروي أن أسامة بن شريك قال: «شهدت الأعارب يسألون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل علينا من حرج أن نتداوى؟ فقال: "تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء - أو قال: شفاء - علمه من علمه، وجهله من جهله». ولا يجوز التداوي بشرب الخمر ولا بشرب شيء من النجاسات.

فصل في اللعب بالنرد وبالشطرنج وما كان في معناهما

وأما التداوي بالكي فاختلف السلف في إجازته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عنه. «روى عمران بن حصين قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن الكي فما زال البلاء بنا حتى اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا. قال عمران وكان يسلم علي فلما اكتويت فقدت ذلك ثم راجعته بعد السلام». وروي «عن جابر بن عبد الله قال: اشتكى منا رجل شكوى شديدة فقال الأطباء: لا يبرأ إلا بالكي فأراد أهله أن يكووه وقال بعضهم: لا حتى نستأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأمروه فقال: لا، فبرئ. فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هذا صاحب بني فلان؟ قالوا: نعم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن هذا لو كوي لقال الناس: إنما أبرأه الكي» والذي عليه الأكثر إجازته، فقد «كوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسعد بن زرارة من الذبحة فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس الميت ليهود يقولون: لم يغن عنه صاحبه» وجاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر وابن عباس أنه قال: «إن كان الشعاء ففي ثلاث أو قال: الشفاء في ثلاث: شربة عسل، أو كية نار، أو شرطة محجم». فقد يحتمل بدليل هذه الآثار أن يكون نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكي إنما كان في أمر ما أو علة ما أو نهي أدب وإرشاد إلى التوكل على الله والثقة به، فلا شافي سواه ولا مهرب لأحد عما قضاه. ومن الدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما توكل من استرقى أو اكتوى» يريد ما توكل حق التوكل، لأن من لم يسترق ولم يكتو أكثر إخلاصا للتوكل منه. ويعضد هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يدخل الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون». فصل في اللعب بالنرد وبالشطرنج وما كان في معناهما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله»، «ومن لعب بالنرد فكأنما غمس يده في لحم خنزير». وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد. ومثله الأربعة عشر، وهي قطع معروفة كان يلعب

فصل في قتل الحيات وما يؤذي من الحيوان

بها كالنرد. وقد سئل مالك عن لعب الرجل بها مع امرأته في البيت فقال: ما يعجبني ذلك وليس من شأن المؤمن اللعب؛ لقول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فهذا من الباطل. فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطار لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وأما اللعب بشيء من ذلك كله على غير وجه القمار فقد وسع فيه بعض العلماء. والصواب أن ذلك لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله». فعم ولم يخص قمارا من غيره. ولأن اللعب بالشطرنج وما كان في معناه يلهي عن العبادات ويشغل عن ذكر الله والمحافظة على الصلوات، ويؤدي الإدمان على ذلك إلى القمار والأيمان الكاذبة، وذلك كله فسوق. فمن أدمن اللعب به كان ذلك قدحا في إمامته وشهادته، فقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها. وبلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا عندهم نرد فأرسلت إليهم فيها لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري وأنكرت ذلك عليهم، وبالله التوفيق. فصل في قتل الحيات وما يؤذي من الحيوان ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الحيات في غير حديث، من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» فذكر فيهن الحية. وروي عنه أنه قال: «ما سالمناهن منذ حاربناهن» وروي «منذ عاديناهن فمن تركهن فليس منا». قال أحمد ابن صالح: والمعاداة التي أراد في الحديث كانت منذ أخرج آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من

الجنة. قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الحيات عموما. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا" يريد الحيات، "فإذا رأيتم منها شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان». فكان ذلك مخصصا لعموم أمره بقتل الحيات، فلا يجوز أن تقتل الحيات بالمدينة إلا بعد الاستئذان ثلاثا إلا ذي الطفيتين والأبتر على ما جاء في الحديث من أنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء. ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل حيات البيوت، فاحتمل أن يريد بيوت المدينة خاصة، وأن يريد جميع البيوت بالمدينة وغيرها، فيستحب لهذا الاحتمال ألا تقتل حيات البيوت في غير المدينة إلا بعد الاستئذان ثلاثا من غير إيجاب بخلاف حيات المدينة. وأما حيات الصحاري والأودية فلا خلاف في أنها تقتل من غير استئذان؛ لأنها باقية على الأمر بقتلها. وأما الوزغ فيقتل حيثما وجد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله وسماه فوسيقا. وكذلك يقتل سائر ما أمر بقتله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور. «ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل أربع: النحلة، والنملة، والهدهد، والصرد» فلا تقتل النحلة لأنها ينتفع بها إذا بقيت ولا ينتفع بلحمها إذا قتلت، والنملة؛ لأنها لا ينتفع بلحمها إذا قتلت وهي موصوفة بمعنى محمود من التسبيح على ما جاء من أن الله عز وجل أوحى إلى نبي من الأنبياء؛ لما أحرق قرية النمل إذ لدغته واحدة منهن: لدغته نملة واحدة قرصته أحرقت أمة من الأمم تسبح. وروي أن نبيا من الأنبياء خرج بالناس يستسقي فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة. إلا أن تؤذي فيجوز قتلها لإذايتها. وكذلك يجوز قتل ما يؤذي من جميع الدواب كالبرغوث والقملة، ولا يجوز قتل شيء من ذلك بالنار؛ لأنه من التمثيل والتعذيب، وبالله التوفيق.

فصل في السنة في السفر للرجال والنساء

فصل في السنة في السفر للرجال والنساء الوحدة في السفر مكروهة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم». وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير الصحابة أربعة، وخير الطلائع أربعون، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة إلا أن تفترق كلمتهم». ويستحب للمسافرين الرفق بدوابهم وإنزالها منازلها في الخصب والتجافي عليها بسقيها في الجدب، وأن لا يعرسوا على الطريق، وأن يعجل الرجل الرجوع إلى أهله إذا قضى نهمته من سفره، وأن يدخل في صدر النهار ولا يأتي أهله طروقا على ما جاء في الحديث من ذلك كله. ولا بأس بالإسراع في المشي وطي المنازل فيه عند الحاجة إلى ذلك، فقد سار ابن عمر وسعيد بن أبي هند وكانا من خيار الناس من مكة إلى المدينة في ثلاثة أيام وهي مسيرة عشرة أيام على السير المعتاد. ولا تسافر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» بدليل قول الله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] وفيما عدا الهجرة إلى بلد الإسلام من بلد الكفر إذا أسلمت فيه، وفيما عدا السفر إلى حج الفريضة؛ لأن هجرتها إلى بلد الإسلام مخصصة من عموم الحديث بالإجماع، والسفر إلى الحج مخصص منه بالقياس على الإجماع.

فصل في تنزيه المساجد عما لم توضع له

ويكره في الأسفار تعليق الأجراس في أعناق الإبل والدواب، فقد «روي أن العير التي فيها الأجراس لا تصحبها الملائكة» وتقليدها الأوتار قيل: إذ لا يأمن أن تختنق بها على أخذ التأويلين في الحديث الذي جاء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل عبد الله بن أبي بكر في بعض أسفاره والناس في مقيلهم ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت». وقيل معنى ذلك في التمائم المعلقة عليها مخافة العين، قاله مالك في موطئه، وتأويله أظهر، والله أعلم. فصل في تنزيه المساجد عما لم توضع له وينبغي أن تنزه المساجد عن عمل الصناعات وأكل الألوان والمبيت فيها إلا من ضرورة للغرباء، ومن الوضوء فيها واللغط ورفع الصوت فيها وإنشاد الضالة والبيع والشراء؛ لقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ} [النور: 37] إلى آخر الآية؛ لأنه عز وجل أعلم بهذه الآية ما وضعت المساجد له، فوجب أن تنزه عما سوى ذلك مما ذكرناه، ومن تقليم الأظفار، وقص الشعر فيها، والأقذار كلها والنجاسات؛ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم واجعلوا مطاهركم على أبوابها». وقد بنى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا ويرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. وكان عطاء بن يسار إذا مر به من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معه وما تريد، فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة. وبالله التوفيق.

فصل في وسم الأنعام والدواب وخصائصها

فصل في وسم الأنعام والدواب وخصائصها يجوز خصاء الغنم بخلاف الخيل؛ لما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خصاء الخيل» وضحى بكبشين أملحين موجوءين، ولم ينكر ذلك؛ لأن الغنم تراد للأكل وخصاؤها لا يمنع من ذلك بل هو صلاح للحومها وتطيب لها. والخيل إنما تراد للركوب والجهاد وذلك ينقص قوتها ويضعفها ويقطع نسلها، فهذا فرق ما بينهما. ويكره أن يوسم شيء من الحيوان في الوجه، ولا بأس بذلك في أجسادها؛ لما يحتاج الناس إليه من علامات يعرفون بها أنعامهم ودوابهم. وأما الغنم فأرخص في أن توسم في آذانها إذ لا يمكن أن توسم في أجسادها لمغيب السمة فيها بأصوافها. وقد «نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السمة في الوجه» وروي عنه «أنه مر به حمار قد كوي في وجهه فعاب ذلك» حكى ذلك عبد الوهاب في المعونة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا موسوم الوجه فأنكر ذلك». قال ابن عباس: فوالله لا أسم في شيء من الوجه، فأمر بحمار له فكوي في جاعرتيه، فهو من أول من كوى الجاعرتين، وبالله التوفيق. فصل في الرؤيا والحلم ينبغي لمن رأى في منامه ما يكره أن يتفل عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ ويستعيذ بالله عز وجل من شر ما رأى ويتحول على جنبه الآخر، فإنه إذا فعل ذلك

لم يضره ما رأى إن شاء الله على ما جاء في الحديث الذي ذكره مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: سمعت أبا قتادة بن ربعي يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الرؤية الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فليتفل عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شر ما رأى فإنها لن تضره إن شاء الله». قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أبالي بها. وفي رواية ابن وهب مثل هذا إلا أنه قال:: «أعوذ بما أعاذت به ملائكة الله ورسله من شر ما رأيت أن يصيبني منه شيء أكرهه في الدنيا والآخرة، وليتحول على شقه الآخر». والمعنى في ذلك أن الرؤيا الصالحة وهي الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا أو في الآخرة لا مدخل فيها للشيطان وهي من الله عز وجل من ستة وأربعين جزءا من النبوءة إذا رآها الرجل الصالح، وروي من خمسة وأربعين جزءا، وروي من سبعين جزءا " والمعني في هذه التجزئة أن ما يصاب في تأويله من هذه الرؤيا التي على هذه الصفة المذكورة في الحديث فيخرج على ما تعبر به فما يخطأ في تأويله فلا يخرج على ما يعبره بكونه جزءا من خمسة وأربعين، أو من ستة وأربعين، أو من سبعين، إذ لو خرجت كلها على ما تعبر لكانت كالنبوءة في الإخبار بالمغيبات، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يبقى بعدي من النبوءة إلا المبشرات "، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة». فالرؤية الصالحة المبشرة من الله جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث إن كانت من الرجل الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها وإن كانت من الله تعالى: إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوءة ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين.

فصل في السباق

والرؤية المكروهة تنقسم على قسمين: منها رؤيا من الله عز وجل قد يصاب في تأويلها فيخرج ما يعبر به، وقد يخطأ في تعبيرها فلا تخرج على ما تعبر به، ولا يقال فيها أيضا: إنها جزء من خمسة وأربعين ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين. ومنها حلم من قبل الشيطان يحزن به الإنسان لا تضر رؤيته شيئا، فأمر الرجل إذا رأى في منامه ما يكرهه أن يستعيذ بالله من شر ما رأى، فإذا فعل ذلك موقنا بما روي في ذلك لم يضره ما رأى. والمعنى في ذلك أن الله لا يوفقه للاستعاذة مما رأى بيقين صحيح إلا فيما هو من تحزين الشيطان أو فيما هو بخلاف ما تأوله مما كرهه، وقد يصرف الله عنه ما كرهه مما رآه في منامه وإن كان من الله بالاستعاذة منه، كما يصرف عنه سوء القدر بالدعاء الذي قد سبق في علمه أنه يصرفه به على ما قد ذكرناه في رسم سن من الجامع من كتاب البيان وبالله التوفيق. فصل في السباق المسابقة جائزة على مذهب مالك في الخيل والإبل، وبالرمي بالسهام. والأصل في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن القوة الرمي» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر». ومن أهل العلم من لم يجز المسابقة إلا في الخيل والإبل، لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا سبق إلا في خف أو حافر». وأجاز محمد بن الحسن المسابقة على الأقدام، وأجاز بعض أصحاب الشافعي المسابقة بالحمير والبغال، وهو شذوذ؛ لأن الغرض في السباق التمرن لقتال العدو، ولا يتأتى ذلك في البغال والحمير، إذ لا تصلح للكر

والفر. ألا ترى أنه لا يسهم لها، وإنما يصلح لذلك الخيل وحدها وهي التي يسهم لها. وثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بينهما. والمسابقة في ذلك جائزة على الرهان، والرهان الذي يكون فيها على ثلاثة أوجه: وجه جائز باتفاق، ووجه غير جائز باتفاق، ووجه مختلف في جوازه. فأما الوجه الجائز باتفاق فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا لا يرجع إليه بحال ولا يخرج من سواه شيئا، فإن سبق مخرج الجعل كان الجعل للسابق، وإن سبق هو صاحبه ولم يكن معه غيره كان الجعل طعمة لمن حضر. وإن كانوا جماعة كان الجعل لمن جاء سابقا بعده منهم. وهذا الوجه في الجواز مثل أن يخرج الإمام الجعل فيجعله لمن سبق من المتسابقين، فهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم أجمعين. وأما الوجه الذي لا يجوز باتفاق فهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين إن كانا اثنين أو كل واحد من المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا، فهذا لا يجوز باتفاق؛ لأنه من الغرر والقمار والميسر والخطار المحرم بالقرآن. وأما الوجه المختلف فيه فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا ولا يخرج من سواه شيئا على أنه إن سبق أخذ جعله وإن سبقه غيره كان الجعل للسابق. فهذا الوجه اختلف فيه قول مالك، وهو على مذهب سعيد بن المسيب جائز. ومن هذا الوجه المختلف فيه أن يخرج كل واحد من المتسابقين جعلا على أن من سبق منهما أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه على أن يدخلا بينهما محللا لا يأمنان أن يسبقهما على أنه إن سبقهما أخذ الجعلين جميعا. فهذا الوجه أجازه سعيد بن المسيب ولم يجزه مالك ولا اختلف فيه قوله كما اختلف في الوجه الأول الذي قبله؛ لأنه أخف في الغرر من الوجه الذي قبله. ويجمع بينهما في المعنى أن حكم مخرج الجعل مع صاحبه من تلك حكم مخرج الجعل مع المحلل في هذه. وسواء كان مع الجماعة المتسابقين محلل واحد أو مع الاثنين المتسابقين جماعة محللون، الخلاف في كل ذلك، إلا أنه كلما كثر المحللون وقل المتسابقون كان الغرر أخف والأمر أجوز. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل في الشؤم والعدوى والطيرة

أنه قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق فذالكم القمار» رواه أبو هريرة، وهو حجة لسعيد بن المسيب، وبالله التوفيق. فصل في الشؤم والعدوى والطيرة روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وأنه قال: «إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس» وأنه قال: «لا عدوى ولا طيرة». فمن أهل العلم من قال: الشؤم في الدار ما يصيب ساكنها من المصائب، وكذلك الفرس والمرأة، وجعل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا طيرة» معارضا له. وضعف حديث الشؤم بما روي أن عائشة أنكرت على أبي هريرة حديثه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ومنهم من صحح الحديث وتأوله على أن الشؤم في الدار معناه سوء الجوار، وفي المرأة سوء خلقها، وفي الفرس كذلك. والذي أقول به أنه لا تعارض بين الحديثين، لأن المعنى الذي أوجبه في أحدهما غير المعنى الذي نفاه في الآخر. نفى في الحديث الواحد أن يكون لشيء من الأشياء عدوى في شيء من الأشياء أو تأثير فيه؛ لقوله لا عدوى ولا طيرة، إذ لا فاعل إلا الله تعالى. وأعلم في الحديث الآخر أنه قد يوجد الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وهو تكرار الأذى على ساكن بعض الدور أو نكاح بعض النسوة أو اتخاذ

فصل في فضل مكة والمدينة والتفضيل بينهما

بعض الخيل بقضاء الله عز وجل وقدره السابق على ما أخبر به حيث قال في كتابه العزيز: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] وفي الفرس ركوبه فيما لا ينبغي ركوبه فيه أو مصيبة تحدث عليه بركوبه إياه، لا بعدوى شيء من ذلك على شيء ولا بتأثير له فيه. فلم ينف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "لا عدوى وجود ما هو موجود مما يعتدى، وإنما نفي أن يكون شيء من الأشياء يعدى على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهلة بالله ". ألا ترى ما جاء في الحديث الصحيح من قوله: «لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل المريض على المصح وليحل المصح على المريض حيث شاء». قالوا يا رسول الله: وما ذاك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه إذا نفي أن يكون لشيء عدوى ونهي أن يحل المريض على المصح؛ لأنه قد يتأذى بذلك، على ما هو موجود من جري العادة في ذلك بقضاء الله وقدره السابق، ويبين هذا الذي ذكرناه حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا عدوى ولا هام ولا صفر فقام أعرابي فقال يا رسول الله: إن الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء يرد عليها البعير الجرب فتجرب كلها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن أعدى الأول». وبالله التوفيق لا شريك له ولا رب غيره ولا معبود سواه. فصل في فضل مكة والمدينة والتفضيل بينهما لا اختلاف بين أهل العلم في فضل مكة والمدينة وأنهما أفضل البقاع، وإنما اختلفوا في التفضيل بينهما. فذهب جماعة من المالكيين إلى أن المدينة أفضل من مكة، وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما من أهل العلم: مكة أفضل من المدينة وهو الأظهر؛ لأن الله عز وجل حرم مكة وعظم حرمتها، وجعل بيته فيها قبلة للصلاة فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ} [البقرة: 144] وَقَالَ {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]

الآية وقال: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] وقد جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة مزية على المدينة بتحريم الله إياها فقال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس»، وأوجب بذلك أهل العلم كلهم الجزاء على من صاد في حرم مكة، ولم يوجبه على من صاد في حرم المدينة إلا الشاذ منهم. فيستفاد من هذا الإجماع على أن الذنب في الصيد في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة. وقد رأى جماعة من أهل العلم أن تغليط الحدود في حرم مكة لحرمته، ولا تقام فيه؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم في حرم المدينة. فإذا كان الذنب في مكة أغلظ منه في المدينة، والصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة على ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا من رواية عطاء ابن أبي رباح عن الزبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في هذا». وإذا كان الذنب في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة، والصلاة في مسجد مكة الذي أوجب الله الحج إليه لفضله بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أفضل من الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صح أن مكة أفضل من المدينة، إذ ليس تفضيل بعض البقاع على بعض بمعنى موجود في ذواتها، وإنما هو لتضعيف الحسنات والسيئات فيها. وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأن أعمل عشر خطايا بالمدينة أحب إلي أن أعمل واحدة بمكة. والمعنى في هذا أن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف فيها الحسنات. وقد استدل القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي على ما ذهب إليه من تفضيل المدينة على مكة بظواهر آثار كثيرة لا حجة في شيء منها.

من ذلك ما روت عمرة بنت عبد الرحمن عن رافع بن خديج أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدينة خير من مكة». قال: وهذا نص في تفضيل المدينة على مكة، وليس بنص كما زعم إذ لم يقل: إنها أفضل منها وإنما قال: هي خير منها، فيحمل ذلك لما ذكرناه من الأدلة الظاهرة على أن مكة أفضل من المدينة على أنه إنما أراد بقوله: إن المدينة خير من مكة أنها خير منها في سعة الرزق فيها، بكثرة الزرع والثمرات، وتمكن التجارات؛ لأن الله عز وجل أخبر عن مكة أنها بلد غير ذي زرع بقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فمعنى الحديث، والله أعلم، أنه أراد أن ينبه أصحابه المهاجرين على فضل الله عليهم بأن جعل هجرتهم من مكة إلى بلد هو أوسع في الزرع منها ليشكروا الله على ذلك حق شكره. ومن ذلك دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمكة ومثله معه. وهذا أيضا لا دليل فيه، إذ ليس في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك لأهل المدينة في مدينتهم وصاعهم ومدهم على ما جاء في الحديث المذكور ما يدل على أنها أفضل من مكة بوجه. ومن ذلك قوله: «اللهم كما أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك». وهذا الحديث ليس على عمومه، ومعناه فأسكني في أحب البقاع إليك بعد مكة، بدليل ما تقدم من أن مكة أفضل من المدينة بالنص الذي ذكرته على ذلك. ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة». وهذا أيضا لا حجة فيه إذ ليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل من صبر على لأواء المدينة وشدتها في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقام معه لنصرته، والصلاة في مسجده بعد وفاته؛ لما جاء من الفضل في الصلاة في مسجده على سائر المساجد إلا المسجد الحرام ما يدل على فضل المدينة على مكة، لا سيما وقد جاء النص بأن الصلاة في مسجد مكة أفضل من الصلاة في مسجد المدينة بمائة صلاة.

ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن معنى قوله: إن الإيمان ليأرز إلى المدينة أن الناس ينتابونها من كل ناحية للدخول في الإسلام؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فهذا لا دليل فيه على أنها أفضل من مكة. ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بقرية تأكل القرى يقال لها: يثرب تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد». وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن المعنى أمرت بالهجرة إلى قرية تفتح القرى منها أي المدن، فكان ذلك كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حياته وبعد وفاته، وذلك من علامات نبوته أن أخبر بما كان قبل أن يكون، فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة. ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال». وهذا لا دليل فيه أيضا لا سيما وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر ابن عبد الله «أنه يرد على كل ماء وسهل وجبل إلا المدينة ومكة قد حرمها الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها». ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، ولا دليل في ذلك؛ لأن المعنى فيه الإعلام بفضل ذلك الموضع فترفع درجات المصلي فيه ويسمع دعاؤه فيه فيصل بذلك إلى روضة من رياض الجنة. فالكلام ليس بحقيقة وإنما هو من المجاز الذي جاء به القرآن ويعرفه العرب، مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجنة تحت ظلال السيوف»، وليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل ذلك الموضع ما يدل على أن المدينة أفضل من مكة. ومما استدل به أيضا على أن المدينة أفضل من مكة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق منها، فتربته أفضل الترب. وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنا قد بينا أن البقاع لم يفضل بعضها على بعض بمعنى موجود فيها من خاصية تختص بها، وإنما فضلت عليها لتفضيل الله لها برفع درجات العاملين فيها. ولما أكمل احتجاجه بهذه الأحاديث التي ذكرناها وضعفنا احتجاجه بها قال: فإذا ثبت بما ذكرناه فضيلة المدينة على مكة كانت الصلاة في مسجدها أفضل لا محالة من الصلاة في المسجد الحرام، ويكون استثناء المسجد الحرام من تفضيل

فصل في حكم إجماع أهل المدينة وترجيح مذهب مالك - رحمه الله - وذكر فضله وعلو مرتبته في العلم

الصلاة في مسجد الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على سائر المساجد إنما هو في مقدار الفضيلة لا في أصلها، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بدون الألف لفضل مسجد مكة على غيره من المساجد؛ فكانت للمسجد الحرام بذلك مزية على سائر المساجد، كما كان لمسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مزية على المسجد الحرام، فبان بذلك فضل المدينة على مكة. هذا معنى قوله وليس بصحيح؛ لما ذكرنا من تضعيف الاستدلالات التي استدل بها لفضل المدينة على مكة؛ ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا من «أن الصلاة في المسجد الحرام بمكة أفضل من الصلاة بمسجد الرسول بالمدينة،» فالاستثناء في هذا الحديث على ظاهره استثناء لجملة التفضيل، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه لا فضل له عليه، بل له الفضل عليه على ما جاء في الحديث الذي ذكرناه. وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل المدينة على مكة بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها. يعني المدينة». وهذا لا حجة فيه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هاجر من مكة فلم يصح له الرجوع إليها وكانت المدينة أحب البقاع إلى الله بعدها استحب ألا ينتقل عنها حتى يموت فيها فيكون قبره بها، وبالله التوفيق. فصل في حكم إجماع أهل المدينة وترجيح مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر فضله وعلو مرتبته في العلم إجماع أهل المدينة على الحكم فيما طريقه النقل حجة يجب المصير إليها والوقوف عندها وتقديمها على أخبار الآحاد وعلى القياس، كنحو إجماعهم على جواز الأحباس والأوقاف، وعلى صفة الأذان والإقامة، وعلى مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومده، وعلى إسقاط الزكاة من الخضروات وشبه ذلك؛ لأن ذلك كله نقله الخلف

منهم عن السلف، فحصل به العلم من جهة نقل التواتر، فوجب أن يقدم على القياس وعلى أخبار الآحاد؛ إذ لا يقع بها العلم وإنما توجب غلبة الظن كشهادة الشاهدين. وبهذا المعنى احتج مالك على أبي يوسف حين ناظره بحضرة الرشيد لإثبات الأوقاف والصدقات، فقال: هذه صدقات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحباسه مشهورة عندنا بالمدينة معروفة ينقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن. فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول: إنها غير جائزة وأنا أقول: إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى إجازتها. وبمثل هذه الحجة رجع إلى القول بأن مقدار الصاع والمد ما يقوله أهل المدينة وترك مذهب أبي حنيفة لما رأى في ذلك من تواتر النقل وتناصره الموجب للعلم. وكذلك ما اتصل العمل به بالمدينة من جهة القياس والاجتهاد هو حجة أيضا كمثل ما أجمعوا عليه من جهة النقل، يقدم على أخبار الآحاد وعلى ما خالفه من القياس عند مالك؛ لأن ما اتصل العمل به لا يكون إلا عن توقيف. وأما إجماعهم على الحكم في النازلة من جهة الاجتهاد فقيل: إنه حجة يقدم على اجتهاد غيرهم وعلى أخبار الآحاد لأنهم أعرف بوجوه الاجتهاد وأبصر بطريق الاستنباط والاستخراج؛ لما لهم من المزية عليهم في معرفة أسباب خطاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاني كلامه ومخارج أقواله، لاستفادتهم ذلك من الجم الغفير الذين شاهدوا خطابه وسمعوا كلامه. وهذا في القرن الثاني والثالث منهم الذين توجهت إليهم المدحة بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». وقيل: إنه ليس بحجة من أجل أنهم بعض الأمة، والعصمة إنما هي لجميع الأمة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة». واختلف على القول بأنه ليس بحجة هل له مزية يقدم بها على ما سواه من الاجتهاد ويرجح بها عليه أم لا على قولين. فعلى القول بأن له مزية يقدم بها على ما سواه من الاجتهاد ويرجح بها عليه يقدم خبر الواحد. وعلى القول

فصل في [اختلاف علماء المدينة وغيرهم بعدهم]

بأنه لا مزية له على ما سواه من الاجتهاد يرجح بها أحد الأثرين المتعارضين، ويختلف هل يقدم على خبر الواحد أم لا، فحكى ابن القصار عن مالك أن القياس عنده مقدم على خبر الواحد خلافا لأبي حنيفة في تقديمه على القياس والله أعلم. فصل في [اختلاف علماء المدينة وغيرهم بعدهم] وإذا اختلف علماء المدينة وغيرهم بعدهم في حكم نازلة فالواجب أن يرجع فيها إلى ما يوجبه الاجتهاد والنظر بالقياس على الأصول، ولا يعتقد أن الصواب في قول واحد منهم دون نظر، وإن كان أعلمهم. ولا اعتراض علينا في هذا بانتحالنا لمذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتصحيحنا له وترجيحنا إياه على ما سواه من المذاهب؛ لأنا لم ننتحل مذهبه في الجملة إلا وقد بانت لنا صحته وعرفنا الأصول التي بناه عليها واعتمد في اجتهاده على الرجوع إليها مع علمنا بمعرفته بأحكام كتاب الله عز وجل من ناسخه ومنسوخه، ومفصله ومجمله، وخاصه وعامه، وسائر أوصافه ومعانيه، وسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبيين صحيحها من سقيمها، وأنه كان إماما في ذلك كله غير مدافع فيه بشهادة علماء وقته له بذلك وإقرارهم بالتقديم له فيه؛ ولأنا اعتقدنا أيضا أنه هو الذي عناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» لوجهين: أحدهما: أنه هو المسمى بعالم المدينة لتعرفه به، فإذا قال القائل: هذا قول عالم المدينة، أو فقيه المدينة، أو إمام دار الهجرة، علم أنه هو الذي أراد، كما يعلم إذا قال هذا قول الشافعي أنه أراد بذلك محمد بن إدريس الشافعي دون من سواه من أهل نسبه، وكذلك الثوري والأوزاعي. والثاني: تأويل الأئمة ذلك فيه منهم ابن جريج، وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي من غير خلاف عليهم في ذلك؛ لأن من قال: يحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنى بذلك العمري العابد ليس بصحيح؛ لأن الصفة التي وصفها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن أكباد

فصل في [فضائل مالك]

الإبل تضرب إليه في طلب العلم إنما هي موجودة في مالك لا في العمري؛ لأن أكباد الإبل لم تضرب إليه في طلب العلم؛ لأنه إنما كان من شأنه أن يخرج إلى البادية التي لا يحضر أهلها الأمصار لطلب العلم ولا يخرج أهل العلم إليهم، فيعلمهم أمر دينهم ويفقههم فيه ويرغبهم فيما يقربهم من ربهم ويحذرهم مما يبعدهم عنه. وهذا وإن كان فيه من الفضل ما فيه فقد أربى ما وهب الله مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفضل فيما انتشر عنه من العلم وإحيائه من الدين بما لا يعلمه إلا الله الذي يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم. لأن علمه لم ينقطع بموته؛ لأن العلم أخذه عنه من ضرب آباط الإبل إليه فيه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأخذ عمن أخذه عنه خلف عن سلف، فأجره جار عليه إلى يوم القيامة» كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وصدقة تجري عليه، وولد صالح يدعو له». ولولا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومثله من العلماء؛ لدرس العلم وذهب الدين. وعمل العمري العابد انقطع بموته إذ كان من يعلمهم العلم بالبوادي لا تتعداهم منفعته، فلا يلحق فضل العبادة بفضل العلم بإجماع من العلماء. فقد قالوا جميعا: إن الرجلين إذا كان أحدهما أعلم والثاني أفضل إن الأعلم أولى بالإمامة ولم يكن ذلك كذلك إلا بزيادة فضل العلم على فضل العمل. وقد روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وقد روي أن العمري العابد المذكور كتب إلى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحضه على الانفراد للعبادة وترك مجالسة الناس، فكتب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن الله قسم بين عباده الأعمال كما قسم بينهم الأرزاق، فرب رجل فتح له في كذا، ولم يفتح له في كذا، ورب رجل فتح له في كذا، ولم يفتح له في كذا، فعدد أنواع أعمال البر ثم قال: وما أظن ما أنت فيه بأفضل مما أنا فيه، وكلانا على خير إن شاء الله. فصل في [فضائل مالك] وفضائله أكثر من أن تحصى. منها ما روي أن عبد الرحمن بن القاسم قال:

يا أبا عبد الله، ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: من أين علموا ذلك؟ فقال: منك يا أبا عبد الله، فقال مالك: ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها مني. وروي عن أبي بكر أحمد بن زهير قال: كان مالك يجلس إلى ربيعة فكانت حلقته في زمن ربيعة مثل حلقة ربيعة وأكثر. وأفتى معه ربيعة عند السلطان. ومن ورعه وفضله توقفه عن كثير مما كان يسأل عنه. روي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة وذكر أنهم أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال: فأخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بهذا. قال: ومن يعلمها؟ قال: الذي علمه إياها. قال عبد الرحمن: قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا وروي عن أبي الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة قال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وروي عن خالد بن خداش أنه قال: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة فسألته عنها، فما أجابني إلا في خمس مسائل منها. وروي عنه أنه قال: جنة العالم لا أدري، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله. وروى ابن وهب عن مالك قال: سمعت عبد الله بن يزيد يقول ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول لا أدري حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وقال أبو عمر بن عبد البر: صح عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا أدري نصف العلم. وروي عن محمد بن رمح أنه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام منذ أكثر من خمسين سنة، فقلت له: يا رسول الله: إن مالكا والليث يختلفان فبأيهما نأخذ؟ قال مالك. وروى أشهب عن الدراوردي قال: رأيت في منامي أني دخلت مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوافيت رسول الله يخطب الناس إذ أقبل مالك فدخل من باب المسجد، فلما أبصره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إلي إلي، فأقبل إليه حتى دنا منه، فسل خاتمه من خنصره ووضعه في خنصر مالك. وروي عن مصعب بن عبد الله الزبيري

[خاتمة]

قال: سمعت أبي يقول: كنت جالسا مع مالك بن أنس في مجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجل فقال: أيكم مالك بن أنس؟ قالوا: هذا. فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره وقال: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البارحة جالسا في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكا فأوتي بك ترعد مفاصلك فقال: ليس بك بأس يا أبا عبد الله وكناك وقال: اجلس، فجلست، فقال: افتح حجرك ففتحته فملأه مسكا منثورا، وقال ضمه إليك وبثه في أمتي. قال فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولا تغر، لئن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله. وروي عن عبد السلام بن عمر بن خالد من أهل الإسكندرية قال: رأى رجل في المنام قوما اجتمعوا في جبانة الإسكندرية يرمون في غرض فكلهم يخطئ الغرض، فإذا برجل يرمي ويصيب القرطاس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا مالك بن أنس. وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه. [خاتمة] [تم الجزء الثاني من الجامع وبتمامه كمل جميع الديوان من المقدمات، والحمد لله كثيرا كما هو أهله، وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وعلى آدم وما بينهما من النبيين والمرسلين على يد الفقير الراجي رحمة ربه كثير الذنوب والخطايا الاسم مشطب عليه الصنهاجي. وكان تمامه في يوم الثلاثاء ما بين الظهر والعصر في شهر ذي قعدة عام ثمانية عشر وسبعمائة، وموافقة من شهور العجم شهر يناير، وذلك في خمسة عشر منه، وذلك في التاريخ المؤرخ به. وصلى الله على محمد].

§1/1