المقدمات الأساسية في علوم القرآن

عبد الله الجديع

[مقدمة]

[مقدمة] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. أمّا بعد .. فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار. لقد كانت الرّغبة لديّ في تحرير مقدّمات مهمّة تتّصل بالكتاب العزيز قديمة، وذلك على سبيل المشاركة في تقريب العلوم الأساسيّة لفهم الكتاب والسّنّة، دون بخس لما سبق به أهل العلم في هذا الباب، ولكن بمنهج محرّر يجمع بين صحيح النّقل وصريح العقل دون تكلّف، مجانب الاستدلال بالضّعيف من الأخبار، غير جار على المعتاد من التّقليد لا في المضمون ولا في الأسلوب، إذ لو كنّا مجرّد نقلة لكان الإبقاء على مؤلّفات الأقدمين أولى من تكلّف التّصنيف. وعلوم القرآن أولى وأوّل ما يشمّر له أصحاب الهمم العالية، إذ هي مفاتيح سائر علوم الإسلام، ولا يحسن بالطّالب أن يقدّم عليها سواها

فيشتغل بحديث أو فقه أو غير ذلك، ولمّا يأخذ من علم القرآن قاعدته، وإنّي لأعجب من منتسب للعلم قد ذهب حظّه من علوم الكتاب، واقتصر سعيه على طرف من فتات المسائل، فاستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، وأسوأ منه حالا من تدنّى تحصيله من ذلك إلى قدر لا يحسن معه تلاوة القرآن وهو يتصدّى لعظام الأمور! وحيث لا يخفى أنّ علوم القرآن بمعناها العامّ لا حصر لها بأنواع معيّنة، فهو الكتاب الّذي قال الله تعالى فيه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]، فإنّ الكلام فيها إنّما هو من حيث النّظر إلى معرفة مقدّمات أساسيّة ينبغي الإلمام بها لكلّ راغب في دراسة هذا الكتاب العزيز، توضّح مزاياه، وتحقّق إسناده، وتهدي إلى معرفته وفهمه. ومن خلال الدّراسة تحصّل لي أنّ البحث في ذلك يتناول معرفة المقدّمات السّتّ التّالية: المقدّمة الأولى: نزول القرآن. المقدّمة الثّانية: حفظ القرآن. المقدّمة الثّالثة: نقل القرآن. المقدّمة الرّابعة: النّسخ في القرآن. المقدّمة الخامسة: تفسير القرآن. المقدّمة السّادسة: أحكام قراءة القرآن.

وربّما أدرجت مباحث أخرى في جملة (علوم القرآن) كالكلام على خصائصه وأسلوبه اللّغويّ، وأسلوب القصّة فيه، وقوانين الجدل والمناظرة، وطريقة وأنواع الأحكام فيه، وشبه ذلك، ممّا ينقسم إجمالا إلى ثلاثة أقسام: أوّلها: مباحث تتّصل بإبراز الإعجاز في القرآن، وهذا ليس علما تطبيقيّا من علوم القرآن، وقد قدّمت بالتّنبيه على أهمّه، والمقصود الاعتناء بالعلوم التأصيليّة العامّة الّتي سمّيتها ب (المقدّمات) لتكون قاعدة لغيرها، لا بالإنشائيّات الأدبيّة. وثانيها: مباحث تندرج تحت علم التّفسير، والّذي يعنينا هنا هو ذكر مقدّمة تحتوي على أصول عامّة في هذا الفنّ العظيم، فالقصّة القرآنيّة والمثل في القرآن مثلا ممّا يعرف من تفاصيل ذلك الفنّ، ولا ينبغي إدراجه تحت المقدّمات في علوم القرآن. وثالثها: ما يتّصل بمباحث الأحكام، فمحلّه تأصيلا علم (أصول الفقه)، وتفريعا (الفقه)، وأخذه من هناك أولى، خصوصا وأنّ السّنّة تشارك القرآن في ذلك من كلّ وجه، إذ طبيعة الأحكام فيهما واحدة. واستثنيت من ذلك (موضوع النّسخ) فجعلته إحدى هذه (المقدّمات)، مع مشاركة السّنّة للقرآن فيه، وذلك لما له من الصّلة بسلامة القرآن. كذلك، ليس من مباحث علوم القرآن المحضة: علم النّحو، وعلم

الصّرف، وعلوم البلاغة، وإن اتّصلت به أو كان السّبب في وضعها وإنشائها؛ لأنّها صارت قوانين لعموم لغة العرب، واعتنى النّاس بها على سبيل الاستقلال لهذه العلّة، فأغنت أبحاثها الخاصّة عن إقحامها في علوم القرآن المحضة. فهذا الكتاب قد أتيت فيه على تحرير تلك المقدّمات، مع التّقديم بين يديها بتمهيد لبيان الاعتقاد في القرآن وأسمائه وتعريف السّورة والآية، ولبيان ما يعود إليه إعجازه. والله تبارك وتعالى أسأل أن يتقبّل هذا الجهد منّي، وأن يرفعني به ووالديّ وأهل بيتي، ومن بذل جهدا في مراجعته، ومن كان سببا في نشره، إلى منازل أوليائه المقرّبين، وأن ينفع به جميع من وقف عليه، هو وليّ ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. وكتب أبو محمّد عبد الله بن يوسف الجديع في محرّم الحرام 1422 هـ ***

تمهيد

تمهيد القرآن وإعجازه تعريف القرآن: القرآن في لغة العرب: مصدر كالقراءة، ومعناه الجمع، وسمّي القرآن الّذي أنزل الله على محمّد صلى الله عليه وسلم قرآنا؛ لأنّه يجمع السّور ويضمّها (¬1). وهو اسم للكتاب العربي المنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم والمكتوب في المصاحف، المبتدأ بالبسملة فسورة الفاتحة، والمختتم بسورة النّاس. وهو ذاته المكتوب في اللّوح المحفوظ، كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ 21 فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ 22 [البروج: 21 - 22]، وفي الكتاب المكنون، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 79 [الواقعة: 77 - 79]، وفي الصّحف المكرّمة، كما قال الله عزّ وجلّ: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ 16 [عبس: 11 - 16]. وهو غير التّوراة الّتي أنزل الله على موسى، وغير الإنجيل الّذي أنزل على عيسى. ¬

(¬1) هذا التّعريف أصحّ ممّا اختاره الشّافعيّ رحمه الله، أنّ (القران) اسم جامد، كالتّوراة والإنجيل، وكان لا يهمزه، على قراءة ابن كثير المكّيّ. انظر: مناقب الشافعيّ، للبيهقيّ (1/ 276 - 277)، والأسماء والصّفات، للبيهقيّ كذلك (2/ 27 - 28).

وهو جميعه بسوره وآياته وكلماته كلام الله تعالى، تكلّم به، أسمعه لرسوله جبريل عليه السّلام، فنزل به جبريل مبلّغا إيّاه كما سمعه لرسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجلّ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102]، وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 [الشّعراء: 192 - 194]. فبلّغه محمّد صلى الله عليه وسلم كما أنزل عليه ما كتم منه حرفا، وبلّغه أصحابه للأمّة من بعده ما كتموا منه حرفا، وهو بأيدي النّاس في المصاحف مسطور، وفي قلوب الحفّاظ محفوظ، تعهّد الله تعالى بحفظه فما يقدر على تبديل شيء منه أحد حتّى يرفع من الصّدور والسّطور بإذنه تعالى. كما قال الله عز وجلّ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً [الإسراء: 86 - 87]، فدلّ على أنّ القرآن يمكن أن يرفعه الله بقدرته إن شاء. وقد صحّ من حديثي حذيفة بن اليمان وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليسرى على كتاب الله عز وجلّ في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (رقم: 4049) والحاكم في «المستدرك» (رقم: 8460) من طريق أبي معاوية الضّرير، عن أبي مالك الأشجعيّ، عن ربعيّ بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثّوب، حتّى لا يدرى ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجلّ في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من النّاس: الشّيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلّا الله، فنحن نقولها». قلت: إسناده صحيح، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم»، وقال البوصيريّ في «زوائد ابن ماجة» (3/ 254): «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات». وأمّا من حديث أبي هريرة؛ فأخرجه ابن حبّان في «صحيحه» (رقم: 6853) من طريق عليّ بن مسهر عن سعد بن طارق (وهو أبو مالك الأشجعيّ) عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه الجملة المذكورة. وإسناده صالح. ورواه فضيل بن سليمان عن أبي مالك الأشجعيّ عن ربعيّ عن حذيفة، وعن أبي حازم عن أبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسرى على كتاب الله ليلا، فيصبّح النّاس ليس في الأرض ولا جوف مسلم منه آية». أخرجه الضّياء المقدسيّ في «اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرّحمن» (رقم: 17) والدّيلميّ في «مسند الفردوس» (4/ 167/ ب- زهر) وإسناده صحيح. فبيّنت هذه الرّواية أنّ أبا مالك حفظ الحديث عن حذيفة وأبي هريرة جميعا. ورواه بعضهم موقوفا على حذيفة وأبي هريرة، والرّفع أصحّ، على أنّ مثل هذا لا يقال من قبل الرّأي، فله حكم الرّفع.

وهو مضاف إلى الله تعالى إضافة صفة لا إضافة خلق، هذا اعتقاد أهل السّنّة والجماعة، وهو الّذي دلّت عليه البراهين النّقليّة والعقليّة (¬1). و (القرآن) اسم لجميع الكتاب المنزل. ¬

(¬1) هذه الجملة بيان للاعتقاد في القرآن العظيم، وتفصيلها في كتابي «العقيدة السلفية في كلام ربّ البريّة».

أسماء القرآن

كما أنّ الجزء منه كآية أو نحوها يسمّى (قرآنا) أيضا، كما قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 [الأعراف: 204]، وهذا مراد به بعض القرآن. أسماء القرآن: سمّى الله تعالى القرآن العظيم بأسماء، ونعته بنعوت، فمن أسمائه: 1 - الكتاب، كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]. 2 - كلام الله، كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التّوبة: 6]. 3 - الفرقان، كما قال عز وجلّ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان: 1]. 4 - الذّكر، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9]. 5 - المصحف، وهي تسمية ظهرت بعد أن جمع القرآن في عهد الصّدّيق، كما سيأتي شرحه، ولم يثبت حديث مرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله في إطلاق هذه التّسمية على القرآن المجموع فيما بين الدّفّتين؛ لأنّه لم يكن في عهده بين دفّتين على هيئة المصحف.

تعريف السورة والآية

وتسمية (المصحف) جاءت من الصّحف الّتي جمع بعضها إلى بعض فأصبحت على هيئة الكتاب. وأمّا ما ذكر الله عز وجلّ من نعوت كلامه المنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم فكثير، فهو: هدى، وشفاء، ورحمة، وموعظة، وذكرى، وبشرى، ونذير، وبيان، وروح، ونور، ومبين، ومفصّل، ومبارك، وبصائر، وكريم، وعليّ، وحكيم، وعزيز، ومجيد، وقيّم، وأحسن الحديث، وغير ذلك من الصّفات الدّالّة على عظمته ومنزلته ورفيع قدره ممّا اقترن بذكره أو عند الإشارة إليه في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم. تعريف السورة والآية: السّورة، قيل في معناها أقوال أعدلها ما يأتي: الأوّل: يقال (سورة) للمنزلة من البناء، فسمّيت (السّورة) من القرآن بذلك؛ لأنّها منزلة بعد منزلة، مقطوعة عن الأخرى، أو لأنّها درجة إلى غيرها. والثّاني: الشّرف والمنزلة، ومنه قول النّابغة: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب فسمّيت (السّورة) من القرآن بذلك لشرفها ومنزلتها.

القرآن المعجزة الباقية

والثّالث: أصلها (سؤرة) وهي بقيّة الشّيء، ترك الهمز فيها تسهيلا لكثرتها في الكلام والقرآن، وعليه تكون (السّورة) بمعنى القطعة من القرآن (¬1). والآية: العلامة، وسمّيت (الآية) من القرآن بذلك- فيما قيل- لأنّها علامة لانقطاع كلام من كلام، أو لأنّها بمنزلة أعلام الطّريق المنصوبة للاهتداء بها (¬2). وكذلك (الآية) الجماعة في قول بعض أهل العربيّة، وعليه فسمّيت (الآية) من القرآن بذلك لأنّها جماعة حروف (¬3). القرآن المعجزة الباقية: إعجاز القرآن: إثباته عجز البشر عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه، في ألفاظه ومعانيه. وهذه الخصوصيّة جعلت القرآن أعظم الأدلّة على صدق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رسالته، والحجّة الباقية على النّاس إلى أن تقوم السّاعة. ¬

(¬1) لسان العرب، مادة: سور (4/ 386 - 387). (¬2) لسان العرب، مادة: أيا (14/ 62). (¬3) معجم مقاييس اللّغة، لابن فارس (1/ 168 - 169)، الصّحاح، للجوهري (6/ 2276).

قال الله عز وجلّ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 [العنكبوت: 50 - 51]. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬1). وقد كان الله عزّ وجلّ يجري على أيدي رسله وأنبيائه ويسوق لهم من البراهين ما يدلّ على صدقهم أنّهم مبعوثون من عند الله، ممّا لا يقع مثله في العادة لغيرهم من البشر، وهو معجزاتهم، كعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، والإسراء والمعراج لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، لكنّ تلك المعجزات كانت أدلّة لمن شهدها، ونصيب من لم يشهدها إنّما هو الخبر الواجب التّصديق، بخلاف القرآن، فإنّه المعجزة الباقية، الّتي لم تزل حيّة بين النّاس، لم يتبدّل ولم يتغيّر، ولن يكون ذلك في يوم من الدّهر. تحدّى الله عز وجلّ أرباب الفصاحة والبيان، بل جميع بني الإنسان، بل حتّى لو ظاهرهم عليه الجانّ، ولم يزل يتحدّى: أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4696، 6846) ومسلم (رقم: 152).

أو بمثل بعضه، فما فعلوا، ولن يفعلوا. كما قال جلّ وعلا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 88 [الإسراء: 88]، وقال عز وجلّ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 13 - 14]، وقال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 23 - 24]. تحدّاهم بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله، على مثاله في النّظم والتّأليف والإحكام، وفي المعاني والدّلالات والأحكام، فعجزوا عن معارضته في كلّ ذلك، عن مماثلته بعباراتهم، أو مجاراته ببيانهم، أو مسابقته بقوانينهم وشرائعهم. ذلك؛ لأنّه كلام ربّ العالمين تبارك وتعالى، وكلامه سبحانه من صفاته، وهو الّذي لا مثل له في ذاته ولا في صفاته، كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11]، فكما لا مثل له في سمعه، ولا مثل له في بصره، ولا مثل له في سائر صفاته، فكذلك لا مثل له في كلامه.

فهذه- والله- هي العلّة الّتي فارق بها كلامه سائر الكلام، وعجز لأجله الخلق عن معارضته، فليس كشعرهم ولا كنثرهم، ولا كقوانينهم وشرائعهم، مع أن حروفه من حروف كلامهم، ومفرداته من مفردات قاموسهم، فلم يجدوا له في ألسنتهم مع الفصاحة، ولا في عقولهم مع الرّجاحة، ما يمكنهم به أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، فقد أبت قوانين الشّعر وأساليب النّثر ولوائح الأنظمة أن يقايس بها ويجري عليها. وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: 37 - 39]. وعن أبي ذرّ الغفاريّ، رضي الله عنه، قال: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلّون الشّهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا، (فذكر قصّة إسلامه)، وفيها قال أبو ذرّ: فقال أنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكفني، فانطلق أنيس حتّى أتى مكّة، فراث (¬1) عليّ ثمّ جاء، فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكّة على دينك، يزعم أنّ الله أرسله، قلت: فما يقول النّاس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشّعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول ¬

(¬1) فراث: أي أبطأ.

أنواع الإعجاز في القرآن

الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء (¬1) الشّعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر، والله إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون (¬2). أنواع الإعجاز في القرآن: يعسر أن تحدّ وجوه الإعجاز في القرآن العظيم، فكلّ شيء منه لا نظير له، فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه، في تأليفه ونظمه، في بيانه وبلاغته، في تشريعه وحكمه الّتي حيّرت الألباب، في أنبائه وأخباره، في تاريخه وحفظه، في علومه الّتي لا تنقطع ولا تقف عند غاية. وقد أجمل وصفه وأحسنه من قال: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة (¬3)، ولا يشبع منه العلماء، ¬

(¬1) أقراء الشّعر: طرقه وأنواعه وأوزانه وقوافيه. (¬2) حديث صحيح. أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم: 2473). (¬3) هذا وصف عجيب، وسمة خاصّة لهذا القرآن العظيم، فإنّه تتلوه ألسنة لم تفتق بالعربيّة، بل ربّما تعسّر عليها قراءة سواه من الكلام العربيّ، أمّا هو فتنطلق به الألسنة مع عجمتها، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، وهذا رأيناه وشهدناه.

النوع الأول: الإعجاز اللغوي

ولا يخلق على كثرة الرّدّ (¬1)، ولا تنقضي عجائبه، هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجنّ: 1 - 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (¬2). والتّنبيه هاهنا على أربعة أنواع للإعجاز القرآني: النّوع الأوّل: الإعجاز اللّغويّ: هذا النّوع هو أبرز ما تحدّى به القرآن العرب في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو التّحدّي في أبرز خصائصهم، فمع أنّه بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن وجوه فصاحتهم وأساليب بيانهم، وهم يومئذ في الذّروة في ذلك نثرا ونظما، ¬

(¬1) أي لا يأتي عليه التكرار بذهاب لذّته، بل هو في كل مرّة جديد، مهما تكرّرت تلاوته، وليس كذلك سائر الكلام. (¬2) روي هذا حديثا مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ. فأخرجه ابن أبي شيبة (10/ 482) وأحمد (رقم: 704) والدّارمي (رقم: 3211) والتّرمذيّ (رقم: 2906) والنّسائيّ في «مسند عليّ» - كما في «تهذيب الكمال» (34/ 267) - وغيرهم، من طريق الحارث بن عبد الله الأعور، عن عليّ بن أبي طالب، به. قال التّرمذيّ: «إسناده مجهول، وفي الحارث مقال». قلت: التّحقيق أنّ علّته ضعف الحارث، وما أشار إليه التّرمذيّ من الجهالة زائل أثرها بالمتابعة، والأشبه أن يكون هذا من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، أخطأ الحارث في رفعه.

لكنّهم عجزوا عن معارضته ولو بسورة من مثله، فصاروا يتخبّطون، فتارة يقولون: (هو شعر)، وتارة: (قول كاهن)، وتارة: (أساطير الأوّلين)، لا يثبتون على شيء؛ لأنّهم يعلمون أنّه ليس كما يقولون، وما كان لهم ليغفلوا عن صفة الشّعر ولا صيغة النّثر، وهم أهل ذلك وعباقرته، وإنّما شأنهم شأن من قال الله فيهم: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النّمل: 13 - 14]. وهكذا قال أولئك المشركون عن القرآن: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف: 7]، وقالوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) [الفرقان: 4 - 5]، وقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء: 5]. فهو سبيل من سبق، وحجّة من لا برهان له، كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 52 [الذّاريات: 52]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصّلت: 41 - 43]. أعيتهم الحيل، وضاقت بهم السّبل، فلجئوا إلى وصف القرآن بما لا يشكّون لو أنصفوا أنّهم فيه مبطلون، لكن أعمتهم الأهواء فأنّى يبصرون.

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ 34 [الطّور: 29 - 34]. ويبقى القرآن يتحدّى ولا يرجع الكفّار جوابا، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 14 [هود: 14]، وأنّى لهم الجواب، والله يقول وهو أعلم بهم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24]. قال الأديب الرّافعيّ: «فقطع أنّهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلّا من الله، ولا يقولها عربيّ في العرب أبدا، وقد سمعوها واستقرّت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنّها تنفي عنهم الدّهر نفيا، وتعجزهم آخر الأبد، فما فعلوا ولا طمعوا أن يفعلوا، وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلمّا رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك، ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كلّ سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السّيف، وانصرفوا عن توهّن حجّته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام، فقالوا: ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، وأمثال ذلك، ممّا أخذت به الحجّة عليهم، وكان إقرارا منهم بالعجز، إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطّباع والعادات» (¬1). ¬

(¬1) إعجاز القرآن، لأديب الإسلام مصطفى صادق الرّافعي (ص: 170).

وإنّما حالهم كما قال الله عز وجلّ: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: 9]. ثمّ إنّ هذا القرآن قد اشتمل من القاموس العربيّ على أحسن الكلمات وأفصحها، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزّمر: 23]، أمّا في تركيب جمله، وتناسق عباراته، ومقاطع آياته، فهو الفرد الّذي لا نظير له. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 [فصّلت: 3]، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27 قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28 [الزّمر: 28]. فكم ترى يكون في الكلام من المعاني أو البيان أو البديع، فإنّ القرآن في ذروة ذلك، بل به عرف كلّ ذلك، فما وضعت علوم البلاغة إلّا بسببه، طريقا إلى فهمه، وإبرازا لعظيم قدره، وتأصيلا ليبنى سائر الكلام على قاعدته ونهجه. وأهل التّفسير في القديم والحديث يراعون هذه الخصوصيّة للقرآن، فلم يتكلّم أحد في تفسير هذا الكتاب وبيان دلائله ومعانيه من لدن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم إلّا وهو يراعي الجوانب البلاغيّة فيه، وأسرار ذلك لا تنتهي، ولن تنتهي. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النّساء: 82].

النوع الثاني: الإعجاز الإخباري

النّوع الثّاني: الإعجاز الإخباريّ: وهذا هو الإعجاز فيما تضمّنه القرآن من الأنباء، وهو أربعة أشياء: أوّلها: الإخبار عن الغيب المطلق، كالخبر عن الله عزّ وجلّ وأسمائه وصفاته، والملائكة، وصفة الجنّة وصفة النّار. وقد أتى القرآن في هذا الأمر بما لا يدركه بشر من تلقاء نفسه، إذ طريقه لا يكون من جهة العقول، إنّما طريقه السّمع الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصّلت: 42]. وثانيها: الإخبار عن الأمور السّابقة، كالخبر عن بدء الخلق، وعن الأمم السّالفة. وقد قصّ علينا القرآن من ذلك عجبا، وأتى من الأنباء بما لم يملك المنصفون من أهل الكتاب والعلم إلّا تصديقه، كما قال الله عز وجلّ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: 10]، وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ 197 [الشّعراء: 192 - 197]. فجاء ما آتاه الله من ذلك تصديقا لما بين يديه، وما تعلّم من أحد من

إنس ولا جنّ، وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48]. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشّورى: 52]. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 2 - 3]. فقصّ الله سبحانه قصّة نوح، ثمّ قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49]. وفصّل قصّة يوسف، ثمّ قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102]. وقصّ طرفا من نبأ موسى، ثمّ قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 44 - 46]. وقال بعد ذكر قصّة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ

يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. ما أعظمها من منّة يمتنّ الله عزّ وجلّ بها على نبيّه صلى الله عليه وسلم! وما أعظمها من معجزة خرقت جميع قوانين الخلق في التّعلّم والتّلقّي! يبلغ صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره وهو بين قومه، يعرفونه بالأمّيّة، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يعرفوه بمجالسة معلّم، ثمّ يظهر للنّاس بما لا طاقة لهم بمثله. وحين افتروا فقالوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، قال الله عز وجلّ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النّحل: 103]. ويستمرّ التّحدّي، فيجعل الله عز وجلّ من الواقع المشاهد دليلا على صدق ما جاء به نبيّه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ 46 [الحج: 42 - 46]. وثالثها: الإخبار عمّا يكون في مستقبل الزّمان، كالإخبار عن الشّيء قبل وقوعه في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو عمّا سيكون بعد ذلك. كما في قوله عز وجلّ: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ

مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5 [الرّوم: 1 - 5]. وقد صحّت الرّواية بتحقّق ما أخبرت به هذه الآيات عن غير واحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك حديث نيار بن مكرم الأسلميّ، قال: لمّا نزلت الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للرّوم، وكان المسلمون يحبّون ظهور الرّوم عليهم؛ لأنّهم وإيّاهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5، فكانت قريش تحبّ ظهور فارس؛ لأنّهم وإيّاهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلمّا أنزل الله تعالى هذه الآية، خرج أبو بكر الصّدّيق يصيح في نواحي مكّة: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ، قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أنّ الرّوم ستغلب فارسا في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرّهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرّهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسمّ بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، قال: فسمّوا بينهم ستّ سنين، قال: فمضت السّت سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلمّا دخلت السّنة السّابعة

ظهرت الرّوم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين؛ لأنّ الله تعالى قال: فِي بِضْعِ سِنِينَ، قال: وأسلم عند ذلك ناس كثير (¬1). كذلك ما تضمّنه القرآن من الإخبار عن أشراط السّاعة، والبعث بعد الموت، والحشر والحساب، والمصير إلى الجنّة أو إلى النّار، بما لا سبيل للبشر إلى معرفته إلّا بوحي الله عزّ وجلّ، جميعه برهان على أنّ القرآن كلام الله. ورابعها: الإخبار عمّا تكنّه النّفوس وتخفيه الضّمائر، ممّا لا يمكن أن يعلمه إلّا الله، ولا يصل إلى علم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا بوحي الله. كالّذي تراه في سورة التّوبة من ذكر أسرار المنافقين، حتّى خاف النّاس أن ينزل القرآن بأسمائهم يظهر حقائق ما في نفوسهم. كما قال سعيد بن جبير: قلت لابن عبّاس: سورة التّوبة، قال: التّوبة؟، قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حتّى ظنّوا أن لا يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها (¬2). ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه التّرمذيّ (رقم: 3194) والطّحاويّ في «شرح مشكل الآثار» (7/ 442 - 443) من طريق عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبي الزّناد، عن عروة بن الزّبير، عن نيار، به. قلت: وإسناده حسن، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4600) ومسلم (رقم: 3031).

النوع الثالث: الإعجاز التشريعي

النّوع الثّالث: الإعجاز التّشريعيّ: ويكمن فيما أودع الله في كتابه من القوانين الّتي تشهد في استقامتها وعدلها وصلاحها لكلّ زمان أنّها من عند الله، وأن لا طاقة للخلق أن يوجدوا لها نظيرا، مهما بلغت العقول. ذلك أنّ التّشريع مبنيّ على تحقيق مصالح العباد في الدّارين، ولا يحيط بتلك المصالح أحد من خلق الله؛ لقصور العلم، والنّقص بالطّبع، لكنّ الله سبحانه هو الخالق، فهو أعلم بخلقه وحاجتهم وما يكون به صلاحهم وفسادهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. فلذا جاء تشريعه موصوفا بالحسن المطلق وبالحقّ المطلق، كما قال عز وجلّ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقال: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً 33 [الفرقان: 33]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشّورى: 17]، وقال عز وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: 119]، وقال سبحانه: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام: 66]، وقال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105]، وقال عز وجلّ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 48]. ولو كان من عند غير الله لما صحّ في العقول أن يكون هو الحقّ المطلق،

النوع الرابع: الإعجاز العلمي

أو يكون أحسن قانون وتشريع، مهما رجحت عقول مقنّنيه، فإنّه ما من قوم إلّا ولهم من الشّرائع والقوانين ما يسيّرون به شئون حياتهم، لكنّهم لا يفتئون يغيّرون ويصلحون، ولو وصفوا قانونهم بالحقّ المطلق لتعذّر عليهم تبديله والاستدراك عليه، وإنّما هذه أوصاف لا تكون إلّا لما هو خارج عن قدرات المخلوقين. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 [فصّلت: 41 - 42]. فأنزل القرآن حين أنزل، وهو إلى اليوم، وسيبقى إلى آخر الدّهر، لا يجد النّاس سبيلا إلى نقض شيء من أحكامه وشرائعه، مهما سعى الكفّار والّذين في قلوبهم مرض لإبطال ما جاء به من الحقّ والعدل والهدى، كما لا يجدون سبيلا للإتيان بما هو أحسن منه، إذ لا أحسن منه. النّوع الرّابع: الإعجاز العلميّ: وذلك فيما بيّن الله في هذا الكتاب ودلّ عليه من الآيات في السّماوات والأرض والأنفس، ممّا لم يكن ليحيط به علم بشر في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ثمّ يبقى النّاس يكتشفون أسراره في الكون، والقرآن قد سبق به منذ دهر بعيد تصريحا وتلويحا، كان يتلوه على النّاس نبيّ أمّيّ، لم يدرس علوم الفضاء ولا البيئة ولا البحار ولا طبقات الأرض ولا الأجنّة، لينبئ

العالم أنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ هذا القرآن من علم الله الّذي أحاط بكلّ شيء. فتأمّل مثاله في الأنفس في قول الله عز وجلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً 14 [نوح: 13 - 14]، ثمّ تأمّل تفسير تلك الأطوار في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14]. وتأمّل مثاله في الكون في قول الله عز وجلّ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 ... الآيات [الأنبياء: 30 - 33]، أو في قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40 [يس: 37 - 40]. ألا تكفي هذه الآيات باحثا عن الحقيقة ليشهد أنّه الحقّ من ربّه؟ أترى يكون هذا من بشر من أهل مكّة يأتي به من تلقاء نفسه قبل خمسة عشر قرنا من الزّمان؟ كلّا، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى 5 [النّجم: 3 - 5]، تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ

وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 252]. والعلم الحديث يظهر على النّاس بعجائب في خلق الله، فيبهر النّاس بها، وحقّ لهم، لكنّ الأعجب أن يكون القرآن قد نبّه على اعتبارها ودلّ عليها منذ دهر بعيد، ولم يكن للنّاس يومئذ من وسائل النّظر والاكتشاف ما لأهل زماننا، إنّه استمرار شهادة الحقّ، أنّ هذا القرآن من عند الله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصّلت: 53]. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185]. إنّ الله سبحانه أراد لهذا القرآن أن يكون حجّته على الأمم إلى قيام السّاعة، وما كان ليصحّ ذلك إلّا والدّليل على أنّه من عند الله باق مستمرّ، فتارة لغته وفصاحته وتأليفه ونظمه، وتارة عصمته من التّحريف وبقاؤه غضّا طريّا كما لو أنزل السّاعة، وتارة ما جاء به من القوانين والشّرائع العادلة الّتي استغرقت جميع مصالح العباد، وتارة ما فيه من التّنبيه على الآيات الكونيّة، والدّلائل العلميّة، وهكذا، إلى براهين لا تنقطع ولا تتناهى، كلّها تشهد أنّه كلام ربّ العالمين. ***

المقدمة الأولى نزول القرآن

المقدمة الأولى نزول القرآن الفصل الأول: كيفية نزول القرآن الفصل الثاني: أسباب نزول القرآن الفصل الثالث: معرفة المكي والمدني الفصل الرابع: أول ما نزل وآخر ما نزل الفصل الخامس: الأحرف السبعة ***

الفصل الأول: كيفية نزول القرآن

الفصل الأول: كيفية نزول القرآن المبحث الأول: كيف أنزل القرآن؟ المقطوع به من دين الإسلام أنّ القرآن لم ينزل على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم جملة واحدة كما هو الشّأن في الكتب السّالفة كالتّوراة والإنجيل، إنّما نزل بحسب الوقائع منذ البعثة حتّى آخر حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يثبّت هذه الحقيقة قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32]، وقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا 106 [الإسراء: 106] (¬1). ¬

(¬1) والاستدلال بهذه الآية إنّما هو في قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، قال ابن عطيّة: «هذا كان بما أراد الله تعالى من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معيّنة» (المحرّر الوجيز 9/ 216). واستدلّ ابن عبّاس رضي الله عنهما بهذه الآية بقوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ على قراءتها بالتّشديد: (فرّقناه). فأخرج أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 367) وابن جرير في «تفسيره» (15/ 178) بإسناد صحيح عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقرأ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا 106. قال أبو عبيد: «لا ينبغي أن تكون على هذا التّفسير إلّا بالتّشديد (فرّقناه»). =

ولكن ما معنى الإنزال في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1 [القدر: 1]؟ فهذه آيات متوافقة فيما بينها، أنبأت بأنّ الله تعالى أنزل القرآن في ليلة مباركة من شهر رمضان هي ليلة القدر. وهي خبر قد يدلّ ظاهره على نزول جميع القرآن في تلك اللّيلة. فكيف التّوفيق بين هذا الظّاهر والحقيقة المقطوع بها في نزوله مفرّقا؟ من علماء السّلف من ذهب إلى أنّ ابتداء النّزول كان في ليلة القدر لا جميع القرآن، وهذا القول لا يوجد ما يردّه، وهو وجه في تفسير الآيات الثّلاث المذكورة. لكن صحّ عن إمام المفسّرين عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- ما أفادنا أنّ للقرآن تنزّلين: الأوّل: من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، وكان جملة واحدة. والثّاني: من السّماء الدّنيا إلى الأرض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مفرّقا على الوقائع. فعنه قال: أنزل الله القرآن إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا ¬

= قلت: والقراءة بالتّشديد مذكورة عن عليّ وابن عبّاس وابن مسعود وأبيّ بن كعب، وجماعة من التّابعين، (انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5/ 96 والمحرّر الوجيز 9/ 215).

أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، فهو قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1. وفي لفظ: أنزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السّماء الدّنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه، حتّى جمعه (¬1). وهذا خبر تلقّاه أكثر العلماء بالقبول، وهو مرويّ من وجوه متعدّدة عن ابن عبّاس، ومثله إخبار عن أمر غيبيّ لا يصار إلى مثله إلّا بتوقيف، فله حكم الحديث المرفوع، والقول به أولى من القول بمجرّد النّظر. ومن العلماء من يرى أنّ الحكمة من إنزاله جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا وهو كتاب الله تعالى إلى أهل الأرض، هي: إعلام الملإ الأعلى بالرّسالة الجديدة إلى أهل الأرض، وبيان فضيلة من يوحى إليه هذا الدّستور وفضيلة أتباعه، خاصّة مع حدوث ذلك في أعظم ليلة، ليلة قال الله فيها: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 4 [الدخان: 4]، وقال فيها: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3]، فهو تمجيد للقرآن نفسه، وللرّسول الموحى إليه به صلى الله عليه وسلم، وللأمّة الّتي ستسعد بالاهتداء به. ولعلّ من وراء ذلك حكما هي في علم الله أكبر ممّا ذكر وأجلّ وأعظم، والله أعلم. ¬

(¬1) أثران صحيحان. أخرجهما ابن جرير الطّبريّ في «تفسيره» (2/ 145) بسند صحيح.

المبحث الثاني: حكمة التنزيل مفرقا

المبحث الثاني: حكمة التنزيل مفرّقا نزّل القرآن على نبيّنا صلى الله عليه وسلم مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة سنة في مكّة، وعشر سنين في المدينة، وذلك حسب ما كانت تقتضيه الحاجة، فربّما نزلت السّورة تامّة، وربّما نزل منها آيات، بل ربّما نزل بعض آية، كما في سبب نزول قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في آية: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ من سورة النّساء [الآية: 95] (¬1). ولهذه الصّورة في التّنزيل حكم عظيمة، منها: 1 - تثبيت فؤاد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32]، وهذه الحكمة امتازت بها السّور والآيات المكّيّة؛ وذلك لما كان يحتاج إليه صلى الله عليه وسلم يومئذ من ¬

(¬1) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله قال: فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يملّها عليّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترضّ فخذي، ثمّ سرّي عنه، فأنزل الله عز وجلّ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. أخرجه البخاريّ (رقم: 2677، 4316). وفي «الصّحيحين» نحوه من حديث البراء بن عازب.

2 - إبطال اعتراضات الكفار.

التّثبيت في مواجهة الكفّار واحتمال أذاهم، فجاءت بالتّذكير بالثّواب، والصّبر والاحتساب، وسرد قصص الأنبياء والسّابقين، كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120]. 2 - إبطال اعتراضات الكفّار. وبيانه: أنّ الكفّار كانوا يجتهدون في الطّعن على القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويضربون لذلك الأمثال، يقع ذلك منهم على صفة الاستمرار، فكان جبريل عليه السّلام ينزل بالقرآن ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ويردّ الاعتراض ويدحض الشّبه بأحسن البراهين، كما قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً 33 [الفرقان: 33]. 3 - التدرّج في التّشريع مراعاة للمكلّفين. فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنّة والنّار، حتّى إذا ثاب النّاس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزّنا أبدا، لقد نزل بمكّة على محمّد صلى الله عليه وسلم وإنّي لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ 46 [القمر: 46]، وما نزلت سورة البقرة والنّساء إلّا وأنا عنده (¬1). ولا يخفى ما للتّدرّج من الأثر في التّربية وبناء الشّخصيّة، وترى كم كان ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4707).

4 - توكيد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بكون ما جاء به من عند الله.

لنزول القرآن مفرّقا من الأثر في أعظم غرس غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أصحابه الّذين لم يوجد التّاريخ لهم نظيرا بعدهم، رضي الله عنهم. زد على ذلك ما في التّدرّج في النّزول من تيسير أخذ القرآن حفظا وفهما كما لا يخفى. 4 - توكيد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بكون ما جاء به من عند الله. قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النّساء: 82]، فكتاب توحى مقاطعه وأجزاؤه في ثلاث وعشرين سنة لا ترى شيئا من آخره ينقض شيئا من أوّله ولا يخالفه، بل يؤكّده ويصدّقه، لهو من أعظم البراهين على أنّه من عند حكيم خبير، ما هو بقول شاعر يتيه به عقله في كلّ واد، ولا كاهن تغرّه الشّياطين بالأكاذيب، بل ولا بقول عاقل أديب قد جرى لسانه بالحكمة والبيان، فإنّ أعقل العقلاء ليدلّه عقله اليوم على خطئه بالأمس أو قصوره، ومن النّاس من يصنّف في علم أو فنّ يكون فيه رأس صناعته وربّما مكث فيه عقودا من الزّمن وهو يصلح ويزيد وينقّح، لا يخرج للنّاس منه حرفا في تلك السّنين الطّوال، ثمّ يخرج تصنيفه للنّاس حجّة لهم في ذلك الفنّ، فكم ترى له من متعقّب، ومستدرك عليه ومصوّب! وهذا القرآن ينزل في بضع وعشرين سنة تنزل سورة أو بعض آيات، بل آية أو بعض آية، يصبّح النّاس ويمسّون بجديده، لم يأت منه حرف بخلاف حرف ولا كلمة بخلاف كلمة، ولا معنى بخلاف معنى، يتلوه على النّاس نبيّ أمّيّ ما قرأ قبله وما كتب، صلى الله عليه وسلم، وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ

المبحث الثالث: من كان ينزل بالقرآن؟

قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ 48 [العنكبوت: 48]، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52]، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 [فصّلت: 41 - 42]. المبحث الثالث: من كان ينزل بالقرآن؟ قال الله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 [الشّعراء: 192 - 195]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النّحل: 102]، وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ [النّجم: 1 - 6]، والرّوح الأمين هو روح القدس وهو شديد القوى، وهو جبريل عليه السّلام، كما قال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 97]. وقد أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّفة الّتي كان يأتيه الوحي عليها، فقد سأله الحارث بن هشام رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ،

فيفصم عنّي (¬1) وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» (¬2). ولم ير النّبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الملكيّة إلّا مرّتين، كما ثبت به الخبر من حديث عائشة رضي الله عنها وقد سألها مسروق بن الأجدع عن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ 23 وقوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى 13؟ فقالت: أنا أوّل هذه الأمّة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «إنّما هو جبريل، لم أره على صورته الّتي خلق عليها غير هاتين المرّتين، رأيته منهبطا من السّماء، سادّا عظم خلقه ما بين السّماء إلى الأرض» (¬3). ... ¬

(¬1) يفصم عنّي: يقلع عنّي وينجلي ما يتغشّاني منه، قاله الخطّابيّ، وقال: «والمعنى أنّ الوحي كان إذا ورد عليه تصعّده له مشقّة ويغشاه كرب، وذلك لثقل ما يلقى عليه من القول، وشدّة ما يأخذ به نفسه من جمعه في قلبه وحسن وعيه وحفظه، فيعتريه لذلك حال كحال المحموم» (شرح البخاري للخطّابي 1/ 120). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 2، 3043) ومسلم (رقم: 2333) من حديث عائشة. (¬3) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 236، 241) ومسلم (رقم: 177) والتّرمذيّ (رقم: 3070) من طرق عن داود بن أبي هند عن الشّعبيّ، عن مسروق، به. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

الفصل الثاني: أسباب نزول القرآن

الفصل الثاني: أسباب نزول القرآن المبحث الأول: القرآن من جهة النزول قسمان الأول: ما لا يتوقّف على سبب. ويندرج تحته أكثر نصوص القرآن، فقد كانت تنزل ابتداء بالعقائد والشّرائع من غير توقّف على سبب يتطلّب جوابا كواقعة أو سؤال، ذلك أنّ هذا القرآن إنّما أنزله الّذي يعلم الإنسان خلقا وجبلّة، ويعلم ما يحقّق نفعه ومصلحته، فيبتدئه بالعلم والشّرائع على الصّفة الّتي يعلم من حاجته. الثاني: ما ينزل لحادثة مخصوصة أو سؤال. وهذا القسم بمنزلة الفتاوى في النّوازل، والنّازلة: قضيّة معيّنة تنزل بالمسلمين أو بعضهم، فيوحي الله تعالى جوابها إلى نبيّه للفصل فيها. وتحت هذا تندرج (أسباب نزول القرآن) من نحو الأمثلة التّالية: 1 - عن جندب بن سفيان، رضي الله عنه، قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمّد، إنّي أرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ

رَبُّكَ وَما قَلى 3 [الضّحى: 1 - 3] (¬1). 2 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: الحمد لله الّذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تكلّمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] (¬2). 3 - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: أنّ عبد الله بن أبيّ لمّا توفّي جاء ابنه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفّنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له، فأعطاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قميصه، فقال: «آذنّي أصلّي عليه»، فآذنه، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر رضي الله عنه، فقال: أليس الله قد نهاك أن تصلّي على المنافقين؟ فقال: «أنا بين خيرتين، قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1073، 4667، 4668، 4698) ومسلم (رقم: 1797). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 46) والنّسائيّ (رقم: 3460) وفي «التّفسير» (رقم: 590) وابن ماجة (رقم: 188، 2063) والحاكم (رقم: 3791) من طريق الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، به. قلت: وإسناده صحيح. وقال الحاكم: «صحيح الإسناد».

المبحث الثاني: الطريق إلى معرفة سبب النزول

مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التّوبة: 80]»، فصلّى عليه، فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التّوبة: 84] (¬1). واعلم أنّ القسمين من التّنزيل ما كان منهما لسبب وما كان لغير سبب جمعهما النّزول للحاجة، إذ جميع القرآن لهداية المكلّفين وإرشادهم إلى خير الدّنيا والآخرة، الأمر الّذي لا سبيل لهم إليه إلّا به، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50]. المبحث الثاني: الطريق إلى معرفة سبب النزول يعرف سبب نزول الآية بطريق النّقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أصحابه. واعلم أنّ قول الصّحابي: (نزلت هذه الآية في كذا) بمنزلة الحديث المرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كحديث أبي مسعود الأنصاريّ، رضي الله عنه، قال: لمّا أمرنا بالصّدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إنّ الله لغنيّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1210، 4393، 4395، 5460) ومسلم (رقم: 2400، 2774).

الآخر إلّا رئاء، فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآية [التّوبة: 79] (¬1). لكن يلاحظ: حين يقول صحابيّ: (نزلت هذه الآية في كذا)، ويقول آخر: (نزلت في كذا) ويذكر أمرا آخر؛ أنّ سبب النّزول منهما أقربهما في سياقه لإفادة ذلك من غير تأويل، ويكون الثّاني قصد إلى مجرّد التّفسير في أنّ هذا الأمر الّذي ذكر مندرج حكمه تحت هذه الآية. مثل حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: سألت- أو سئل- رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الذّنب عند الله أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «ثمّ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك»، قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1349، 4391) ومسلم (رقم: 1018). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4483، 5655، 6468، 7094) ومسلم (رقم: 86).

مع حديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما: أنّ ناسا من أهل الشّرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا، فأتوا محمّدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ الّذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفّارة، فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68]، ونزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزّمر: 53] (¬1). فهذان الحديثان جميعا صحيحان من جهة النّقل، واختلفا في الظّاهر في بيان السّبب الّذي نزلت لأجله الآية، فطريق التّوفيق بينهما أنّك لو تأمّلت أقربهما في إفادة السّببيّة وجدتها أظهر في حديث ابن عبّاس، فإنّه صريح في نزول الآية جوابا لسؤال النّفر من أهل الشّرك عن كفّارة أعمالهم. أمّا حديث ابن مسعود فليس فيه من المناسبة بين سياق الحديث ونزول الآية غير ما جاء فيها من موافقة القرآن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بلازم من تلك الموافقة أن تكون الآية نزلت بخصوصها، وإنّما وجد ابن مسعود اندراج الحكم المذكور فيما حدّث به النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جملة الآية، ولا ريب أنّها نزلت في إفادة ذلك الحكم والدّلالة عليه، فهو استدلال بعموم الآية من قبل ابن مسعود. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4532) ومسلم (رقم: 122).

المبحث الثالث: هل يمكن تكرر النزول؟

المبحث الثالث: هل يمكن تكرر النزول؟ لا مانع من أن تنزل الآية لأكثر من سبب. مثاله: ما وقع في نزول آيات اللّعان، فقد صحّ أنّها نزلت في قصّة قذف عويمر العجلانيّ امرأته، وفي قصّة قذف هلال بن أميّة امرأته، وفي كلّ من القصّتين ما يبيّن أنّ الآيات نزلت بسببها، وإن كانت في الثّانية منهما أظهر. فأمّا قصّة عويمر؛ فعن سهل بن سعد: أنّ عويمرا أتى عاصم بن عديّ- وكان سيّد بني عجلان-، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا؛ أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فسأله عويمر، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتّى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك» فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمّى الله في كتابه، فلاعنها، (وذكر سائر الحديث) (¬1). وأمّا قصّة هلال، فعن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما: ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4468، 4469، 4959، 5002، 5003، 6874) ومسلم (رقم: 1492).

أنّ هلال بن أميّة قذف امرأته عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حدّ في ظهرك»، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة! فجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «البيّنة وإلّا فحدّ في ظهرك»، فقال هلال: والّذي بعثك بالحقّ إنّي لصادق، فلينزلنّ الله ما يبرّئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل وأنزل عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتّى بلغ: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النّور: 6 - 9]، (وذكر سائر الحديث) (¬1). فهذا وشبهه ليس من التّعارض، إنّما هو من نزول الآية أو الآيات لأكثر من سبب، ربّما توافق السّببان وقتا فنزلت الآية فيهما، وربّما تكرّر نزول الآية عند تكرّر الوقعة المقتضية لها، ولا يمنع من ذلك كونها موجودة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنّزول الأوّل تناول الحدث الأوّل مع الإعلام للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بما تضمّنته الآية من عموم الحكم لنظائر تلك الوقعة وأشباهها، والنّزول الثّاني ليعرف أنّ الحدث الجديد مراد بتلك الآية على سبيل القطع واليقين، إذ كلّ آية تنزل لسبب فإنّ إرادة السّبب بها قطعيّة، بخلاف ما يخضع لتصرّفات الحاكم واجتهاده، فإنّ تنزيله الآية على وقعة أو حدث فإنّما يقع على سبيل الظّنّ لا القطع، وهذه فائدة جليلة في مثل هذه الصّورة من أسباب النّزول. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4470).

المبحث الرابع: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

المبحث الرابع: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ما نزل لسبب خاصّ فهل يقصر فيه الحكم على سببه؟ تلاحظ عند مقارنة ألفاظ الآيات الّتي نزلت لسبب أنّها تأتي باللّفظ العامّ الّذي يشمل تلك الوقعة الّتي جاء الحديث بأنّها السّبب في نزولها، كما يشمل كلّ ما يندرج تحت عموم ذلك اللّفظ. وحين نقلت لنا أسباب نزول بعض آيات الكتاب لم يقصد النّاقلون لذلك بقولهم مثلا: (نزلت هذه الآية في فلان) أنّ حكمها لا يتعدّاه إلى غيره. وحمل اللّفظ العامّ على سبب خاصّ إبطال لدلالة العموم وفائدته، ولو أراد الله تعالى اختصاص الحكم بالواقعة الّتي نزل فيها لما أنزله نصّا عامّا، وإنّما أريد للنّصّ أن يكون قانونا عامّا يجري على كلّ الأشباه والنّظائر لتلك القصّة الّتي نزلت الآية لأجلها. ولذا جاءت القاعدة هنا: (العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب). وخذ لها مثالا: عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]، قال: فقال الرّجل: ألي

المبحث الخامس: فوائد معرفة أسباب النزول

هذه يا رسول الله؟ قال: «لمن عمل بها من أمّتي». وفي رواية: فقال رجل من القوم: يا نبيّ الله، هذا له خاصّة؟ قال: «بل للنّاس كافّة» (¬1). المبحث الخامس: فوائد معرفة أسباب النزول معرفة أسباب نزول القرآن من الأسباب الّتي لا يستغني عنها المتدبّر لكلام الله تعالى، وفيها من الفوائد شيء عظيم، فمن ذلك: إدراك حكم التّشريع، ومعرفة مقاصد الشّريعة، وكيف أنّ الأحكام الشّرعيّة كانت تأتي مناسبة للواقع، ومسايرة للحدث، ومحقّقة ومستوفية حاجة المكلّف. فتدلّك أسباب النّزول على أن القرآن لم ينزل لتلتمس بتلاوته البركة وإن كان فيه أعظم البركات، وإنّما نزل قانونا للحياة، تضبط به المعاملات من بيوع ونكاح وطلاق وأقضية وميراث، كما تضبط به العبادات من طهارة وصلاة وصيام، وغير ذلك، ليس للفرد خاصّة، بل للمجتمع والدّولة كذلك. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 503، 4410) ومسلم (رقم: 2763)، والرّواية الثّانية لمسلم وحده.

معرفة الوجه الّذي يكون عليه معنى الآية. وهذا يعني أنّ معرفة السّبب أصل في تفسير الآية، ولذلك يهتدي به المفسّرون لإدراك معاني القرآن. وتأمّل ذلك فيما حدّث به حميد بن عبد الرّحمن بن عوف: أنّ مروان (هو ابن الحكم) قال: اذهب يا رافع (لبوّابه) إلى ابن عبّاس فقل: لئن كان كلّ امرئ منّا فرح بما أتى وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون، فقال ابن عبّاس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنّما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثمّ تلا ابن عبّاس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ هذه الآية [آل عمران: 187]، وتلا ابن عبّاس: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188]، وقال ابن عبّاس: سألهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إيّاه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إيّاه ما سألهم عنه (¬1). وأراد ابن عبّاس أنّ هذه الآية الّتي استدلّ بها مروان لما قال إنّما هي متّصلة بالآية الّتي قبلها، وهي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ فهؤلاء أهل الكتاب، ووجه الذّمّ لهم أنّهم ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4292) ومسلم (رقم: 2778).

المبحث السادس: وجوب التحقق من صحة السبب

كتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألهم وأجابوه بغيره معجبين بما صنعوا، مظهرين للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهم أعطوه ما أراد، يرجون بذلك ثناءه عليهم ومدحه لهم. ولم يرد ابن عبّاس أن يجعل الآية مقصورة عليهم، فإنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، وإنّما بيّن لمروان غلطه باستعماله عموم اللّفظ دون مراعاة سبب النّزول في فهم ذلك العموم، فالآية عامّة فيمن صنع صنيع أولئك اليهود، والله إنّما ذكر نبأهم للاعتبار، لكن ذلك الاعتبار يجب أن يراعى فيه مورد الآية، اتّقاء لتنزيل النصّ في غير محلّه. المبحث السادس: وجوب التحقق من صحة السبب لما تقدّم بيانه من أثر معرفة أسباب نزول القرآن على فهمه على أفضل وجه وأتمّه، فإنّه يجب التّحرّي في ثبوت ذلك، واعلم أنّ الغلط يرد في هذا من جهة تحديث الإنسان بكلّ ما يبلغه، وكفى بالمرء إثما أن يحدّث بكلّ ما سمع دون أن يتحقّق من صحّة ذلك. مثل ما حدّث به يوسف بن ماهك، قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرّحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إنّ هذا الّذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي [الأحقاف: 17]، فقالت عائشة من وراء

الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلّا أنّ الله أنزل عذري (¬1). فجائز أن يكون مروان بلغه مثل ذلك عن عبد الرّحمن بن أبي بكر أنّ هذه الآية نزلت فيه، وجائز أن يكون قاله من قبل نفسه، فأنكرت ذلك أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقول: نحن ذرّيّة أبي بكر ما أنزل الله في أحد منّا ذمّا، وقولها قول من عايش التّنزيل وعلم مواقعه، بخلاف قول مروان الّذي غاية أمره أن يكون بلغه ذلك فحدّث به، إذ لم يشهد التّنزيل، مع ما انضمّ إليه من العصبيّة. والأشدّ من هذا الأخذ مما يرى في الكتب كتب التّفسير وغيرها من ذكر أسباب النّزول، دون تمييز للثّابت منها من غيره، بل ربّما من المؤلفين والكتّاب والوعّاظ من يذكر الشّيء من ذلك ويؤصّل على وفقه ويفصّل، ثمّ يتبيّن مجيئه من رواية كذّاب أو متروك. ومن الأمثلة الشّائعة لذلك ما تتناقله كتب التّفسير في سبب نزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ 77 [التّوبة: 75 - 77] أنّها نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ، ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4550).

وهي قصّة كذب، وثعلبة هذا مبرّأ من النّفاق، وهو من البدريّين، وقد غفر الله تعالى لأهل بدر (¬1). ¬

(¬1) قصّة ثعلبة هذه أوردتها أكثر كتب التّفسير وأسباب النّزول، ويتداولها الخطباء والوعّاظ، وقلّ جدّا من نبّه على بطلانها، مع وهاء إسنادها، ونكارة متنها من وجوه عديدة، ورأيت بعض أهل العلم الفضلاء المعاصرين قد تنبّهوا لذلك فنبّهوا عليه، وكتب بعضهم أبحاثا نافعة، من أجودها، ما كتبه الشّيخ الفاضل عداب محمود الحمش في رسالته: «ثعلبة بن حاطب المفترى عليه». وأبيّن علّة النّقل فأقول: أخرجها ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (رقم: 2253) والطّبرانيّ في «المعجم الكبير» (8/ 260) وابن أبي حاتم الرّازيّ في «تفسيره» (رقم: 10406، 10408) وابن جرير (10/ 189) وأبو نعيم الأصبهانيّ في «معرفة الصّحابة» (رقم: 1375) والبيهقيّ في «دلائل النّبوة» (5/ 289 - 292) وابن عبد البرّ في «الاستيعاب» (2/ 91 - هامش: الإصابة) والواحديّ في «الوسيط» (2/ 513) و «أسباب النّزول» (ص: 252 - 254) وعزّ الدّين ابن الأثير في «أسد الغابة» (1/ 272 - 273) من طرق عن معان بن رفاعة، عن عليّ بن يزيد الألهانيّ، عن القاسم أبي عبد الرّحمن، عن أبي أمامة: أنّ ثعلبة بن حاطب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، قال: «ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره، خير من كثير لا تطيقه»، وذكر قصّة طويلة بعضهم يختصرها، وفيها أنّ الآيات: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ .. وما بعدها نزلت فيه. قلت: معان هذا شاميّ ليس بالقويّ في الحديث، وشيخه عليّ بن يزيد الألهانيّ منكر الحديث متروك، حدّث بعجائب، وعليه الحمل في هذه القصّة. وقال الذّهبيّ في حديثه هذا: «حديث منكر بمرّة» (تجريد أسماء الصّحابة: 1/ 66).

خلاصة وأحكام

خلاصة وأحكام 1 - من القرآن ما نزل ابتداء، ومنه ما نزل لسبب. 2 - يعرف السّبب عن طريق الرّواية الثّابتة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو الصّحابي. 3 - ما يقوله الصّحابيّ كسبب نزول آية له حكم الحديث المرفوع وإن لم يذكر فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم. 4 - إذا روي في سبب نزول الآية أكثر من سبب اتّبعت القاعدة التّالية: إن كان أحدهما أصحّ من الآخر من جهة الإسناد، قدّم الأصحّ. إن تساويا في الثّبوت وكانا غير صريحين في السّببيّة دخلا جميعا في عموم حكم الآية. إن كان أحدهما صريحا في السّببيّة دون الآخر قدّم الصّريح. إن كانا صريحين في السّببيّة؛ سلك فيهما طريق الجمع والتّوفيق. إن تعذّر الجمع فلا مانع من القول بتكرّر النّزول. 5 - العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. 6 - صورة السّبب قطعيّة الدّخول في العموم، بمعنى أنّ سبب النّزول مقصود جزما بالآية، وليست ظنّيّة الدّلالة عليه. 7 - معرفة أسباب النّزول من قواعد التّفسير.

الفصل الثالث: معرفة المكي والمدني

الفصل الثالث: معرفة المكي والمدني المبحث الأول: المراد بالمكي والمدني للعلماء في تفسير ذلك طرق أحسنها: مراعاة زمن النّزول، وجعل الفاصل بينهما الهجرة. فالمكّيّ: ما نزل قبل الهجرة، وإن كان بغير مكّة، والمدنيّ: ما نزل بعد الهجرة وإن لم يكن بالمدينة. أمّا من ذهب من العلماء مثلا إلى اعتبار مكان النّزول فقال: المكّيّ ما نزل بمكّة، والمدنيّ: ما نزل بالمدينة، فقسمته غير دقيقة، إذ من القرآن ما نزل بغير مكّة ولا المدينة، فالاقتصار حينئذ على مكّيّ ومدنيّ قصور. ومنهم من ذهب إلى أنّ المكّيّ ما كان فيه خطاب: يا أَيُّهَا النَّاسُ والمدنيّ ما كان فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وهذا حدّ مضطرب، فإنّه وجد في المكّي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفي المدنيّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ. فلذا كان التّفسير المذكور أوّلا أقرب تفسيراتهم، وذلك باعتبار الهجرة فاصلا بينهما، خاصّة مع ما في مراعاته من الحكم والفوائد الّتي سيأتي التّنبيه على بعضها.

المبحث الثاني: طريق معرفة المكي والمدني

المبحث الثاني: طريق معرفة المكي والمدني يعرف المكّيّ والمدنيّ بواحد من طريقين: الأوّل: النّقل عن الصّحابة، فقد كانوا يشهدون التّنزيل ويعلمون وقائعه وأحواله وأزمانه. والآثار المنقولة عنهم ممّا يميّز بعض المكّيّ أو بعض المدنيّ عديدة. فإن لم نجد الخبر عنهم بذلك ووجدنا النّقل الثّابت عن التّابعين، خاصّة من كانت له عناية بالتّفسير كمجاهد مثلا، فلا بأس من اعتماد قولهم فيه إن سلم من المعارض الأصحّ. أقول هذا لورود بعض الآثار في ذلك عن بعض التّابعين ورد ما هو أولى منها وأصحّ. والثّاني: الاجتهاد عند عدم النّقل، وذلك بتمييز خصائص المكّيّ والمدنيّ وإلحاق ما لم يرد النّقل به أنّه مكّيّ أو مدنيّ، بجامع تلك الخصائص. المبحث الثالث: خصائص المكي والمدني خصائص المكّي: 1 - الدّعوة إلى التّوحيد، وإثبات الرّسالة، وإثبات اليوم الآخر، والوعد والوعيد، وجدال المشركين بالبراهين العقليّة والآيات الكونيّة.

خصائص المدني

2 - وضع القواعد العامّة للتّشريع في الحلال والحرام، والتّركيز على تثبيت مكارم الأخلاق كالعدل والإحسان، وإبطال ما ينافيها من مساوئ الأخلاق كالظّلم والفجور والأذى ممّا كان يفعله أهل الجاهليّة. 3 - ذكر قصص الأنبياء والأمم السّالفة للعبرة والقياس، وتثبيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. 4 - قصر الفواصل بين الآي، مع قوّة الوقع في الألفاظ والإيجاز في العبارة. خصائص المدني: 1 - تفصيل العبادات والمعاملات والحدود وقانون الدّولة الإسلاميّة وسائر شرائع الإسلام ممّا يتناسب التّكليف به مع واقع التّمكّن للمجتمع المسلم. 2 - التّركيز على دعوة أهل الكتاب وشرح أحوالهم وبيان ضلالهم، حيث كانوا يوجدون في مجتمع المدينة بعد الهجرة. 3 - الكشف عن حقيقة النّفاق وشرح صفات المنافقين وأحوالهم، والنّفاق لم يظهر في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى مكّن الله لهذا الدّين، فصار بعض النّاس يستترون بالإسلام في الظّاهر خوفا من سلطان الحقّ وأهله، وهم يسرّون له العداوة والكيد والتّآمر. 4 - طول الآيات بما يتناسب مع الشّرح والبيان لشرائع الإسلام.

المبحث الرابع: علامات لتمييز المكي والمدني

المبحث الرابع: علامات لتمييز المكي والمدني يعرف المكّيّ والمدنيّ بعلامات مستفادة من تتبّع المأثور عن السّلف من أهل التّفسير، مع مراعاة الخصائص المتقدّمة. فمن العلامات لمعرفة المكّي ما يلي: 1 - كلّ سورة فيها سجدة فهي مكّيّة، ومنها سورة الحجّ. 2 - كلّ سورة فيها لفظ كُلا فهي مكّيّة، لما فيها من الدّلالة على الرّدع، وإنّما كان مع المشركين قبل التّمكين. 3 - كلّ سورة فيها يا أَيُّهَا النَّاسُ وليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي مكّيّة. وكان عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول: قرأنا المفصّل حججا ونحن بمكّة ليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (¬1). 4 - كلّ سورة فيها قصص الأنبياء وذكر الأمم الغابرة سوى أهل الكتاب فهي مكّيّة. قال التّابعيّ الإمام عروة بن الزّبير: ما كان من ذكر الأمم والقرون والعذاب، فإنّه أنزل بمكّة. ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30134) وإسناده صحيح.

ومن العلامات لمعرفة المدني ما يلي

وفي رواية: إنّي لأعلم ما نزل من القرآن بمكّة، وما أنزل بالمدينة، فأمّا ما نزل بمكّة فضرب الأمثال وذكر القرون، وأمّا ما نزل بالمدينة فالفرائض والحدود والجهاد (¬1). 5 - كلّ سورة فيها قصّة آدم وإبليس فهي مكّيّة إلّا البقرة. 6 - كلّ سورة تفتتح بالحروف فهي مكّيّة إلّا البقرة وآل عمران. ومن العلامات لمعرفة المدني ما يلي: 1 - كلّ سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة. قال عروة بن الزّبير: ما كان من حدّ أو فريضة فإنّه أنزل بالمدينة (¬2). 2 - كلّ سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنيّة، سوى العنكبوت فهي مكّيّة، وذلك في قوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ 11 [الآية: 11]. 3 - كلّ سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنيّة. واعلم أنّ هذه العلامات تقريبيّة، دلّ عليها الأثر والتّدبّر والنّظر. ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 367) وابن أبي شيبة في «المصنّف» (رقم: 30131) بالرّواية الأولى، وإسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30140) بالرّواية الثّانية، وإسناده صحيح. (¬2) جزء من الأثر الّذي قبله بالرّواية الأولى.

المبحث الخامس: فوائد معرفة المكي والمدني

المبحث الخامس: فوائد معرفة المكي والمدني 1 - تمييز النّاسخ والمنسوخ، وهو من شرط الكلام في شرائع الدّين. 2 - التّمكين من فهم القرآن من خلال الواقع الّذي كان ينزل فيه، ممّا يخلص منه القدرة على وضع نصوص الكتاب في مواضعها، فالخطاب المكّي مثلا يراعي حال الاستضعاف للمؤمنين والطّغيان والاستعلاء للكافرين، بخلاف الخطاب المدنيّ ففيه مراعاة القوّة والتّمكّن والعزّة للمؤمنين، والذّلّة والهزيمة للكافرين. وما يقتضيه كلّ وضع من تلك الأوضاع المختلفة قاعدة عظيمة لفقه شرائع الإسلام وتنزيل كلّ شيء منزلته بمراعاة أحوال المكلّفين. 3 - استفادة المنهج السّليم للدّعوة إلى الله عز وجلّ، فالمكّيّ والمدنيّ يعني مراحل السّيرة النّبويّة في الدّعوة والتّبليغ، وكلّ دعوة لهذا الدّين تقوم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي لا تخلو من أن تكون في مرحلة من تلك المراحل، وحيث إنّ الأمّة مأمورة بمتابعة ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم فهي غير معذورة في مجاوزة ذلك الهدي في استعمال القرآن. وهذه حقيقة لا يساعد عليها مجرّد الوقوف عند حرفيّات النّصوص، حتّى يتعدّاها البصير إلى التّأمّل والفقه للواقع النّبويّ، إذ كان القرآن ينزل معالجا لذلك الواقع.

المبحث السادس: حصر السور المكية والمدنية

المبحث السادس: حصر السور المكية والمدنية ما يوجد في كثير من المصاحف من وصف السّورة في صدرها بأنّها (مكّيّة) أو (مدنيّة) ليس توقيفيا عن الله تعالى أو نبيّه صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو بحسب المنقول عن السّلف في ذلك، ومنه ما هو متّفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه، فإليك أصحّ ما قيل في ذلك: السّور المكّيّة: الأنعام، الأعراف، يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر، النّحل، الإسراء، الكهف، مريم، طه، الأنبياء، المؤمنون، الفرقان، الشّعراء، النّمل، القصص، العنكبوت، الرّوم، لقمان، السّجدة، سبأ، فاطر، يس، الصّافّات، ص، الزّمر، غافر، فصّلت، الشّورى، الزّخرف، الدّخان، الجاثية، الأحقاف، ق، الذّاريات، الطّور، النّجم، القمر، الملك، القلم، الحاقّة، المعارج، نوح، الجنّ، المزّمّل، المدّثّر، القيامة، المرسلات، النّبأ، النّازعات، عبس، التّكوير، الانفطار، الانشقاق، البروج، الطّارق، الأعلى، الغاشية، الفجر، البلد، الشّمس، اللّيل، الضّحى، الشّرح، التّين، العلق، القدر، القارعة، الهمزة، الفيل، قريش، الكافرون، المسد. هذه السّور لا يكاد يختلف في شيء منها أنّها مكّيّة. أمّا ما اختلف فيها والرّاجح أنّها مكّيّة، فإليكها: الفاتحة، الرّعد، الحجّ، الرّحمن، الواقعة، التّغابن، الإنسان، الزّلزلة،

السور المدنية

العاديات، التّكاثر، العصر، الماعون، الكوثر، الإخلاص. السّور المدنيّة: البقرة، آل عمران، النّساء، المائدة، الأنفال، التّوبة، النّور، الأحزاب، محمّد صلى الله عليه وسلم، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصّفّ، الجمعة، المنافقون، الطّلاق، التّحريم، البيّنة، النّصر. هذه السّور لا يوجد اختلاف معتبر في كونها مدنيّة. أمّا ما اختلف فيها والرّاجح أنّها مدنيّة، فهي: المطفّفين، الفلق، النّاس (¬1). ¬

(¬1) هناك اختلاف يسير في بعض ما أوردته في السّور المكّيّة والمدنيّة، لكنّه ضعيف لم يدلّ عليه أثر ثابت ولا دلّت عليه خصائص السّور، فلم أعتبره. ومن سبب الاختلاف في تحديد المكّيّ والمدنيّ في بعض سور القرآن عدم استقامة القاعدة عند بعض المفسّرين، فربّما لوجود بعض الآيات المدنيّة في سور مكّيّة صيّر البعض تلك السّورة مدنيّة، كما وقع في سورة الحجّ مثلا، وأحيانا باستعمال المفسّر لبعض الخصائص الّتي لا تطّرد دائما، أو غير ذلك. واعلم أنّه نقل عن ابن عبّاس وابن الزّبير تعيين جميع المكّيّ والمدنيّ في سياق واحد، ولا يثبت شيء من ذلك من جهة الإسناد. والتّرجيح الّذي ذكرته تحت (ما اختلف فيه، والرّاجح أنّه مكّيّ)، و (ما اختلف فيه والرّاجح أنّه مدنيّ) فهو باستعمال خصائص المكّيّ والمدنيّ المتقدّم ذكرها في أكثره، مع اعتضاد بعض السّور بمرجّحات أخرى، تصير إلى تأكيد كون السّورة مكّيّة أو مدنيّة، ومن ذلك:- 1 - سورة الفاتحة مكّيّة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= والدّليل عليه ما أخرجه البخاريّ (رقم: 4204، 4370، 4426، 4720) من حديث أبي سعيد بن المعلّى، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2 هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته». وهذا الحديث يفسّر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ 87، وهذا امتنان من الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنّ سورة الحجر مكّيّة. حكم البغويّ بأنّ الأصحّ كون الفاتحة مكّيّة، واستدلّ بهذا، وقال: «فلم يكن يمنّ عليه بها قبل نزولها» (معالم التّنزيل: 1/ 49). 2 - سورة الرّحمن مكّيّة. أخرج أحمد في «مسنده» (6/ 349) قال: حدّثنا يحيى بن إسحاق، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلّي نحو الرّكن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 13. وأخرجه الطّبرانيّ في «المعجم الكبير» (24/ 86) من طريق سعيد بن أبي مريم، حدّثنا ابن لهيعة، به، لكن فيه: (بعد أن يصدع بما أمر). قلت: وإسناد هذا الحديث صالح. كما يشهد لما ذكرت، ما أخرجه ابن أبي الدّنيا في «كتاب الشّكر لله عزّ وجلّ» (رقم: 67) قال: حدّثني محمّد بن عبّاد بن موسى من كتابه، حدّثنا يحيى بن سليم الطّائفيّ، عن إسماعيل بن أميّة، عن نافع، عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرّحمن، أو قرئت عنده، فقال: «ما لي أسمع الجنّ أحسن جوابا لردّها منكم؟ ما أتيت على قول الله عز وجلّ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 13 إلّا قالت الجنّ: ولا بشيء من نعمة ربّنا نكذّب». وأخرجه الخطيب البغداديّ في «تاريخه» (4/ 301) من طريق محمّد بن عبّاد، به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= كما أخرجه ابن جرير (27/ 123) قال: حدّثنا محمّد بن عبّاد بن موسى، وعمرو بن مالك البصريّ، قالا: حدّثنا يحيى بن سليم، به. وهو عند البزّار (رقم: 2269 - كشف الأستار) عن عمرو بن مالك وحده.- قلت: إسناد الحديث حسن، والعبرة برواية محمّد بن عبّاد، أمّا عمرو بن مالك فهو ضعيف. والشّاهد من هذا الحديث هو أنّ الثّابت في اجتماع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنّ إنّما كان بمكّة قبل الهجرة. 3 - سورة المطفّفين مدنيّة. لحديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنه، قال: لمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلا، فأنزل الله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. أخرجه النّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 674) وابن ماجة (رقم: 2223) وابن جرير (30/ 91) والطّبرانيّ في «الكبير» (11/ 371) وابن حبّان (رقم: 4919) والحاكم (رقم: 2240) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 5286) والواحديّ في «أسباب النّزول» (ص: 482) والبغويّ في «معالم التّنزيل» (8/ 361) من طرق عن الحسين بن واقد، قال: حدّثني يزيد النّحويّ، أنّ عكرمة حدّثه، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده جيّد، وقال الحاكم: «حديث صحيح». 4 - سورتا الفلق والنّاس مدنيّتان. ودليل ذلك ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم: 814) من حديث عقبة بن عامر الجهنيّ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تر آيات أنزلت اللّيلة لم ير مثلهنّ؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1». وعقبة بن عامر إنّما أسلم أوّل مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة.

المبحث السابع: آيات مدنية في سور مكية

المبحث السابع: آيات مدنية في سور مكية الوصف للسّورة بأنّها (مكّيّة) إنّما هو بحسب الأغلب الأعمّ في سور القرآن، تكون السّورة مكّيّة بجميع آياتها، والقرآن كما بيّنا في نزوله كانت تنزل الآية فيقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ضعوها في موضع كذا»، لذا جاءت بعض الآيات المدنيّة ضمن سور مكّيّة، وثبتت بذلك الرّواية، كذلك جاءت آية مكّيّة ضمن سورة مدنيّة. وقمت بتتبّع ذلك بأسانيده، فخلصت منه إلى أنّ الّذي ثبتت به الرّواية من المدنيّ في المكّيّ في تسع سور، هي كالتّالي: 1 - في سورة هود: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [الآية: 114]. 2 - وفي سورة النّحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [الآية: 126]. 3 - وفي سورة الإسراء: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الآية: 85]. 4 - وفي سورة الحجّ ثلاثة مواضع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الآية: 11].

وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ 22 [الآيات: 19 - 22]. وأُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) [الآيتان: 39 - 40]. 5 - وفي سورة يس: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [الآية: 12]. 6 - وفي سورة الزّمر موضعان: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ 55 [الآيات: 53 - 55]. ووَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ

وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الآية: 67]. 7 - وفي سورة الشّورى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الآية: 27]. 8 - وفي سورة الأحقاف: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 10 [الآية: 10]. 9 - وفي سورة التّغابن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الآية: 14]. وموضع مجيء المكّيّ في المدنيّ، هو قوله تعالى في سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الآية: 16]. ***

الفصل الرابع: أول ما نزل وآخر ما نزل

الفصل الرابع: أول ما نزل وآخر ما نزل المبحث الأول: أول ما نزل من القرآن اختلف في ذلك على أقوال، الثّابت نقله منها قولان: الأوّل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. كما جاء في قصّة بدء الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه (وهو التّعبّد) اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّالثة، ثمّ أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ

3 [العلق: 1 - 3]»، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زمّلوني، زمّلوني» الحديث (¬1). والثّاني: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1. كما في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما. قال يحيى بن أبي كثير: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل أوّل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1، فقلت: أنبئت أنّه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أوّل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 فقلت: أنبئت أنّه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فقال: لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاورت في حراء، فلمّا قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السّماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت: دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا، وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 [المدّثر: 1 - 3]» (¬2). وهذان في التّحقيق قولان غير متعارضين، فإنّ في حديث جابر نفسه ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3، 4670، 4672 - 4674، 6581) ومسلم (رقم: 160). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4638 - 4640) ومسلم (1/ 144).

في رواية عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدّث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السّماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السّماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ 2 إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ 5 [المدّثّر: 1 - 5]، فحمي الوحي وتتابع» (¬1). فهذا صريح في أنّ الوحي سبق بالنّزول قبل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1، لكنّ جابرا لم يعلم أنّ ذلك الّذي سبق كان اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ولذلك لم ينكر هذا القول حين سأله عنه أبو سلمة بن عبد الرّحمن، وإنّما ذكر ما عنده من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا عائشة فكان عندها بخصوص ذلك من العلم ما لم يكن عند جابر. ومن العلماء من يحمل حديث عائشة على نزول الوحي بالنّبوّة ب اقْرَأْ، وحديث جابر على نزوله بالرّسالة ب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1، فكلاهما أوّل بالنّسبة للنّبوّة والرّسالة. لكن ليس هناك ما يلجئ إلى هذا، وما تقدّم أولى. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4، 3066، 4641، 4642، 4671، 5860) ومسلم (رقم: 161).

المبحث الثاني: آخر ما نزل من القرآن

المبحث الثاني: آخر ما نزل من القرآن آخر آية نزلت من القرآن كلّه قوله تعالى من سورة البقرة في ختام آيات الرّبا: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. فعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: آخر شيء نزل من القرآن: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ (¬1). ومثله ما جاء عن ابن عبّاس في رواية أخرى، قال: آخر آية نزلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم آية الرّبا (¬2). فالمقصود به الآية المذكورة، فهي تمام آيات الرّبا ومعطوفة عليها. وأمّا ما ثبت عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النّساء: 176] (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه النّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 77، 78) وابن جرير (رقم: 6311) والطّبرانيّ في «الكبير» (11/ 371) من طريق حسين بن واقد، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس. قلت: وإسناده صحيح. (¬2) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4270). (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4106، 4329، 4377، 6363) ومسلم (رقم: 1618).

آخر سورة نزلت سورة النصر.

فهذا محمول على أنّها آخر ما نزل من القرآن في أحكام الميراث. وحديث ابن عبّاس المتقدّم سالم في التّحقيق من معارض قائم، إذ هو إمّا معارض بما أريد به شيء مخصوص، كما في حديث البراء المذكور، وإمّا معارض بما لم يثبت من جهة الإسناد إلى قائله. آخر سورة نزلت سورة النّصر. لحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال لي ابن عبّاس: تعلم آخر سورة نزلت من القرآن، نزلت جميعا؟ قلت: نعم، إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 [النّصر: 1]، قال: صدقت (¬1). وحديث ابن عبّاس الآخر، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنّه دعاني يومئذ إلّا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عبّاس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: ف إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ¬

(¬1) حديث صحيح، أخرجه مسلم (رقم: 3024).

وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً 3، فقال عمر: ما أعلم منها إلّا ما تقول (¬1). وأمّا ما صحّ عن البراء بن عازب من قوله: آخر آية أنزلت آية الكلالة، وآخر سورة أنزلت براءة. وفي لفظ: إنّ آخر سورة أنزلت تامّة سورة التّوبة، وإنّ آخر آية أنزلت آية الكلالة (¬2). فقد يكون قصد آخر ما نزل في الطّوال؛ وذلك أنّ سورة التّوبة ليس فيها الإشارة إلى أجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما وقع في سورة النّصر، وإنّما نزلت سورة التّوبة بعد غزوة تبوك وبعد هجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم للثّلاثة الّذين خلّفوا حيث نزل القرآن بشأنهم، وذلك في سنة تسع للهجرة، وكانت قد نزلت قبل الحجّة الّتي بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر عليها، فقد بعث عليّا بهذه السّورة في تلك الحجّة، ومكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدها ما يزيد على عام، وصحّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: إنّ الله عزّ وجلّ تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتّى توفّي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). ... ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3428، 4043، 4167، 4685، 4686) وهو في بعض هذه المواضع مختصر. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه، ولفظه الثّاني لمسلم، وتقدّم تخريجه عن البراء قريبا في آخر آية أنزلت. (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4697) ومسلم (رقم: 3016).

الفصل الخامس: الأحرف السبعة

الفصل الخامس: الأحرف السبعة المبحث الأول: إنزال القرآن على سبعة أحرف تواترت الأحاديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف». منها على سبيل المثال: حديث عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثمّ أمهلته حتّى انصرف، ثمّ لبّبته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ» فقرأ القراءة الّتي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت» ثمّ قال لي: «اقرأ» فقرأت، فقال: «هكذا أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسّر منه» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 2287، 4706، 4754، 7111) ومسلم (رقم: 818). لبّبته بردائه: جعلت ثوبه في عنقه وجررته به.

المبحث الثاني: بيان المراد بالأحرف السبعة

هذه الأحرف السّبعة الّتي ذكرتها الأحاديث جميعها قرآن أنزله الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم وليست اجتهادا، قصد بها التّيسير على الأمّة في أخذ القرآن وتلاوته، يجب الإيمان بها من حيث الإجمال، كما يجب الإيمان بما علمنا صحّة نقله منها من حيث التّفصيل، ولا يحلّ الإقدام على جحدها أو جحد شيء منها إذا ثبت النّقل به، وإن لم يأت على موافقة رسم المصحف، كما سترى بعض أمثلته في المنقول عن الصّحابة، رضي الله عنهم. المبحث الثاني: بيان المراد بالأحرف السبعة اختلف العلماء في المراد بالأحرف السّبعة على أقوال، خلاصة أشهرها: 1 - سبع لغات للمعنى الواحد. وهذا بمنزلة قولك: (هلمّ، تعال، أقبل) فهي وإن اختلفت في لفظها فقد اتّحدت في معناها ولم تتخالف. 2 - سبع لغات منثورة في القرآن يتألّف من مجموعها، أغلبه بلغة قريش، ومنه بلغة هذيل أو ثقيف أو تميم أو اليمن أو غيرهم. 3 - سبعة وجوه من المعاني، هي: الأمر، والنّهي، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال. 4 - الوجوه السّبعة للتّغاير الطّارئ على التّركيب، وهي: اختلاف الأسماء بالإفراد والتّثنية والجمع والتّذكير والتّأنيث، واختلاف وجوه

والراجح من هذه المذاهب المذهب الأول.

الإعراب، واختلاف التّصريف، والتّقديم والتّأخير، والاختلاف بالإبدال، والزّيادة والنّقص، واختلاف اللهجات بالتّفخيم والتّرقيق. والرّاجح من هذه المذاهب المذهب الأوّل. وذلك أنّ الأحاديث المتواترة الواردة فيه والّتي هي طريقنا لإثبات الأحرف السّبعة، بيّنت بوضوح أنّه اختلاف حروف لا اختلاف معاني، مقصود به رفع الحرج عن التّالين من أصحاب الألسنة المختلفة، والإنسان قد يجري في استعماله لفظ (هلمّ) مثلا بدل (أقبل) ويجده بالاعتياد أيسر عليه، فرفع الحرج في مثل ذلك بنزول القرآن على الحروف المختلفة الجارية في الاستعمال ما دام المعنى متّفقا غير متخالف، ومنه كذلك تقديم لفظ أو تأخيره والمعنى متّحد. وهذا يبيّنه بوضوح حديث أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، قال: قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: «بلى»، فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟ فقال: «بلى، كلاكما محسن مجمل» قال: فقلت له، فضرب صدري، فقال: «يا أبيّ بن كعب، إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو على حرفين؟ قال: فقال الملك الّذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الّذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتّى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت: (غفورا رحيما) أو قلت:

(سميعا عليما) أو قلت: (عليما سميعا) فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب» (¬1). أراد صلى الله عليه وسلم أنّ اختلافهما حين اختلفا في القراءة لم يكن عن تضادّ، فإنّ القرآن أنزل على هذا الوجه وعلى هذا، وما دام الوجهان متّفقين كالتّقديم والتّأخير في المثال المذكور، أو التّنويع فيه بذكر لفظ بدل لفظ، واللّفظان لشيء واحد؛ فليس في هذا من بأس. ولم يرد صلى الله عليه وسلم التّرخيص بأن يبدل التّالي باجتهاده لفظا بلفظ، وإنّما هذا مثل للتّقريب، وأنت تلاحظ في صدر الحديث أنّ أبيّا وابن مسعود إنّما قرآ بما أقرأهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا باجتهادهما. والشّاهد في هذا الحديث لما قصدناه ظاهر، وهو عود اختلاف الأحرف السّبعة إلى هذا المعنى. ومثاله في مجيء القراءة النّبويّة بمثل هذه الصّورة؛ ما جاء من حديث ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 124) وأبو داود (رقم: 1477) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 124) والطّحاويّ في «مشكل الآثار» (رقم: 3112، 3113) من طرق عن همّام بن يحيى، قال: حدّثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب، به. قلت: وهذا إسناد صحيح. وللحديث طرق كثيرة استوعبت شرحها وبيان درجاتها في كتاب «طرق حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف».

عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية في خاتمة النّور وهو جاعل إصبعيه تحت عينيه، يقول: «بكلّ شيء بصير» (¬1). والّذي في المصحف: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النّور: 64]. ويزيد هذا القول قوّة المأثور من قراءة جماعة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: 1 - عن عبد الرّحمن بن حاطب، عن عمر: أنّه صلّى العشاء الآخرة، فاستفتح آل عمران، فقرأ: (الم. الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّام) (¬2). ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 308) والطّبرانيّ في «الكبير» (17/ 282) من طرق عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، به. قلت: وإسناده حسن، رواه عن ابن لهيعة من متثبّتي أصحابه أبو الأسود النّضر بن عبد الجبّار، وابن لهيعة إذا روى عنه متثبّت وليس في حديثه ما ينكر فحديثه حسن، وسائر الإسناد ثقات. (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 296) قال: حدّثنا حجّاج، عن هارون بن موسى، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطب، عن أبيه، به. قلت: وهذا إسناد حسن، وحجّاج هو ابن محمّد الأعور، وهارون هو النّحويّ من القرّاء، ورجال الإسناد ثقات سوى ابن علقمة، فهو صدوق حسن الحديث. وقد تابعه محمّد بن إسحاق، عند ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 51 - 52). وذكره البخاريّ في «صحيحه» (4/ 1872) تعليقا.

والّذي في المصحف: الْقَيُّومُ [آل عمران: 2]. 2 - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: لقد توفّى الله عمر، رضي الله عنه، وما يقرأ هذه الآية الّتي ذكر الله فيها الجمعة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلّا (فامضوا إلى ذكر الله) (¬1). والّذي في المصحف: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9]. 3 - وعن أبي رزين مسعود بن مالك الأسديّ، قال: ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير (28/ 100) قال: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، أنّ عبد الله قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد صحيح كالشّمس، وابن وهب هو عبد الله، وشيخه يونس بن يزيد الأيليّ. وأخرجه الشّافعيّ في «الأمّ» (1/ 196) أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، بالإسناد نحوه. وعلّقه البخاريّ في «صحيحه» (4/ 1858) بصيغة الجزم.

في قراءة عبد الله (يعني ابن مسعود): (وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم قبله) (¬1). والّذي في المصحف: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150]. إلى أمثلة أخرى مرويّة عنهم، تدلّ جميعا على أنّ ذلك من تلك الأحرف الّتي قرأ عليهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ترى بين شيء منها وبين ما في المصحف مخالفة في المعنى. أمّا الأقوال الأخرى فضعفها بعد هذا ظاهر، فهي مع مخالفتها لما ذكرت من الأدلّة فإنّ كلّا منها لا يخلو من ضعف في نفسه: فالقول الثّاني يردّه أنّ عمر وهشاما اختلفا في الحروف وكلاهما قرشيّ. والقول الثّالث يردّه أنّ الأحرف السّبعة بدلالة النّصوص الواردة فيها إنّما هي بقراءة الكلمة الواحدة على وجهين فأكثر، والكلمة الواحدة لا تكون أمرا ونهيا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها ومثلا، بل في هذا ضمّ النّقيض إلى النّقيض. ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 56) قال: حدّثنا شعيب بن أيّوب، حدّثنا يحيى، حدّثنا مفضّل بن مهلهل، عن الأعمش، قال: كان أبو رزين من القرّاء الّذين يقرأ عليهم القرآن، أظنّه قال: وتؤخذ عنهم القراءة، قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات ولا علّة له، ويحيى هو ابن آدم.

وروي في الحديث ما يشهد لهذا المذهب، لكنّه لا يثبت من جهة الإسناد (¬1). والقول الرّابع يردّه وجود أكثر هذه الوجوه في المصحف العثمانيّ الّذي عليه قراءات القرّاء، مع أنّ جمع عثمان رضي الله عنه إنّما كان في الإبقاء على حرف من السّبعة وما كان منها موافقا للرّسم دون سائرها، وذلك درءا للفتنة باختلاف الحروف، فإن كانت تلك الحروف لا زالت جميعا موجودة في المصحف فلا معنى إذا لما صنع عثمان. كما تردّه الأحاديث المفسّرة في الأحرف السّبعة، كحديث أبيّ بن كعب المتقدّم. والمقصود بهذه المسألة تبيين كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وأنّها جميعا قرآن أنزله الله تعالى. ولكن اعلم أنّ هذا الأمر قبل المصحف العثمانيّ، فإنّ تلك الأحرف كانت معروفة لأصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، أمّا بعده فإنّ النّاس لم يبق لهم طريق لتمييز تلك الأحرف إلّا بالمقدار الّذي تضمّنه المصحف العثمانيّ، فما لم يكن فيه، فهو حتّى لو ثبت به الإسناد فيجوز عليه من الاحتمال ما يمنع القطع بكونه لم يزل قرآنا، لجواز أن يكون من المنسوخ تلاوة، والعلّة ورود نقله بطريق الآحاد، وما في المصحف منقول بطريق التّواتر. ¬

(¬1) روي من حديث ابن مسعود، وإسناده ضعيف، شرحت علّته في الكتاب المذكور آنفا حول هذا الحديث.

وهذا أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان له مصحف كتبه لنفسه ممّا أقرأه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان فيه ما ليس في مصحف الجماعة من اختلاف الأحرف وزيادة المنسوخ (¬1)، فلو قبلنا الشّيء من ذلك وصيّرناه كالقرآن الّذي في المصاحف فقد نضيف إلى القرآن ما نسخت تلاوته. ومجرّد اتّفاق مصحف الجماعة على عدم ذكر هذا الحرف أو ذاك دليل كاف على احتمال النّسخ لذلك الحرف. كما يرد عليه احتمال الوهم على الرّاوي، وإن ضعف، بخلاف نقل الجماعة، فهو مقطوع به. وسيأتي التّنبيه على صلة الأحرف السّبعة بالقراءات السّبع. ... ¬

(¬1) سيأتي ذكر أمثلة لذلك في (المقدّمة الرّابعة).

المقدمة الثانية حفظ القرآن

المقدمة الثانية حفظ القرآن الفصل الأول: جمع القرآن الفصل الثاني: ترتيب القرآن الفصل الثالث: الرسم العثماني***

الفصل الأول: جمع القرآن

الفصل الأول: جمع القرآن المبحث الأول: تمكين الأمة من حفظ القرآن حين قال المشركون فيما ذكره الله تعالى عنهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] مستهزئين متهكّمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، منكرين أن يكون ما جاءهم به من عند الله، ردّ الله عز وجلّ عليهم بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9] يقول: نعم، إنّه تنزيلنا ووحينا، وهو محفوظ بحفظنا، ليس لأحد عليه سلطان بتغيير أو تبديل أو زيادة أو نقص. كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 [فصّلت: 41 - 42]، فنفى ربّنا تعالى عن القرآن كلّ باطل، فحفظه من ذلك فيما تقدّمه، فما هو بقول ساحر ولا مجنون، ولا بأساطير الأوّلين، بل هو المصدّق لما قبله من وحي الله وتنزيله، والشّاهد على ما فيه من الحقّ، والمصوّب لما طرأ عليه من التّحريف والتّبديل، كما حفظه من الباطل بعد أن أوحاه إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم، فبرّأه من كتمانه، كما برّأه من الزّيادة أو النّقص فيه، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ

لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ 47 [الحاقّة: 44 - 47]، فإذا كان هذا الوعيد في حقّ نبيّ الله ومصطفاه، فكيف يمكن لأحد بعده أن يبدّل كلام الله؟ فقاتل الله أهل الأهواء! عن نافع مولى عبد الله بن عمر، قال: خطب الحجّاج (يعني الثّقفيّ) فقال: إنّ ابن الزّبير (يعني عبد الله) يبدّل كلام الله تعالى، قال: فقال ابن عمر، رضي الله عنهما: كذب الحجّاج، إنّ ابن الزّبير لا يبدّل كلام الله تعالى، ولا يستطيع ذلك (¬1). وفي قوله تعالى في الآية المتقدّمة: وَلا مِنْ خَلْفِهِ مع قوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ دليل على سلامة القرآن ما أبقاه الله بين أيدي النّاس، محفوظ بحروفه كما أنزله الله، يقرأه النّاس في كلّ زمان وكأنّه حديث عهد بالله ربّ العالمين، كأنّما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديهم يتلوه عليهم وعنه يأخذونه غضّا طريّا. وهذا مقدّمة لتمكين الأمّة من حفظ القرآن، فما يأتي بيانه من مراحل جمعه ومصيره إلى المصاحف، فهو الطّريق الّذي أراد الله تعالى به حفظ هذا القرآن ليبقى حجّته على العالمين، وفيه دليل على أنّ ما قامت به الأمّة بعد نبيّها صلى الله عليه وسلم بخصوص ذلك كان ممّا أراده الله قدرا لحفظ كتابه، وسخّرهم له ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه البيهقيّ في «الأسماء والصّفات» (رقم: 528) وإسناده صحيح.

المبحث الثاني: مراحل جمع القرآن

كأسباب، ولعلّ الله تعالى أراد أن يزيد في أجورهم ويرفع في درجاتهم بمثل ذلك العمل، لعظيم بلائهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعرف الأمّة من بعدهم ما جعل الله لهم من الفضل عليهم أن كانوا سببا في حفظ دينهم بحفظ هذا القرآن، فجازى الله أبا بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم من إخوانهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفظ هذا القرآن عن أمّة الإسلام أفضل ما يجازي به أولياءه الصّالحين. المبحث الثاني: مراحل جمع القرآن المرحلة الأولى: جمع القرآن في عهد الرّسالة: جمع القرآن في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حصل على صورتين: الصّورة الأولى: الحفظ في الصّدور. وقدوة النّاس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لم يكن يكتب، ولا يقرأ من كتاب، إنّما كان يقرأ القرآن حفظا. فعن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 [القيامة: 16]، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعالج من التّنزيل شدّة، كان يحرّك شفتيه، فأنزل الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17، قال: جمعه في صدرك ثمّ تقرأه، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 قال: فاستمع وأنصت، [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 19] ثمّ إنّ علينا أن

تقرأه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأه (¬1). وكان جبريل يأتيه في كلّ عام في رمضان يدارسه القرآن، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعرض عليه حفظه. فعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها، قالت: أسرّ إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني العام مرّتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي» (¬2). وأمّته صلى الله عليه وسلم أمّيّة كذلك، وإنّما كان النّاس يأخذون عنه القرآن فيجمعونه في صدورهم، وكانوا رضي الله عنهم أمّة عمل، يأخذون القرآن للعمل به، لم يكن يغرّهم كثرة الحفظ دون العمل، وهذا أحد أهمّ الأسباب في قلّة الحفّاظ الّذين جمعوا القرآن كلّه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الواحد منهم لا يخلو من حفظ بعض القرآن. قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 5، 4643 - 4645، 4757، 7086) ومسلم (رقم: 448). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3426، 5928) ومسلم (رقم: 2450).

كان الرّجل منّا إذا تعلّم عشر آيات؛ لم يجاوزهنّ حتّى يعرف معانيهنّ، والعمل بهنّ (¬1). والّذين عرفوا بجمع القرآن كلّه في صدورهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممّن صحّت بتسميتهم الأخبار هؤلاء السّادة الأخيار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو الدّرداء، وأبو زيد الأنصاريّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص. عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من ابن أمّ عبد، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة» (¬2). وابن أمّ عبد هو عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه. وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (1/ 35) قال: حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيق المروزيّ، قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا الحسين بن واقد، قال حدّثنا الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود. قلت: وهذا إسناد صحيح. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3548، 3549، 3595، 3597، 4713) ومسلم (رقم: 2464).

جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلّهم من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (¬1). وأمّا عبد الله بن عمرو؛ فهو صاحب سنّة التّوقيت في الختم (¬2). وهؤلاء الأعيان من الصّحابة كانوا قد تفرّغوا لأخذ القرآن والاعتناء بحفظه، والّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم كانوا قد عرضوا عليه قراءتهم وعلم إتقانهم؛ ولذا زكّاهم. وستأتي في مرحلة جمع القرآن في عهد أبي بكر الإشارة إلى كثرة من قتل من القرّاء في حرب المرتدّين ممّا يدلّ على وجود الحفظ في آخرين من الصّحابة، وجائز أن يكون عند بعضهم القرآن كلّه، مثلما وقع لهؤلاء النّفر ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3599، 4717، 4718) ومسلم (رقم: 2465). (¬2) وسيأتي ذكر حديثه في المقدّمة السّادسة (ص: 492). ووقع في رواية عنه أنّه جمع القرآن على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فأخرج أحمد (رقم: 6516، 6873) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8064) وابن ماجة (رقم: 1346) وابن حبّان في «صحيحه» (رقم: 756، 757) من طرق عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة يحدّث، عن يحيى بن حكيم بن صفوان، أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جمعت (وفي لفظ: حفظت) القرآن فقرأته في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أخشى أن يطول عليك الزّمان وأن تملّ، اقرأ به في كلّ شهر» .. وذكر سائر الحديث. قلت: وإسناده صالح، والقصّة صحيحة.

الصورة الثانية: الحفظ في السطور.

المذكورين هنا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يجوز أن يكون عند بعضهم بعضه لا كلّه. الصّورة الثّانية: الحفظ في السّطور. لم يكن الاعتماد على الصّدور وحده كافيا لحفظ القرآن الّذي أراد الله تعالى أن يبقى دستورا للبشر إلى قيام السّاعة، فإنّ حفظ الصّدور لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتريه ما كتب الله على بني آدم من النّسيان والوهم، وبناء الثّقة في الدّين عليه مجرّدا غير ممكن، لذلك كان التّدوين والكتابة ضرورة لا بدّ منها لحفظه وإبقاء قدسيّته، والقرآن نفسه أشعر بضرورة الكتابة في مواضع كثيرة، فإنّ الله تعالى سمّاه (الكتاب)، وهذا يقتضي أن يكون مكتوبا. ولذا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد اتّخذ جماعة مأمونة من أصحابه ممّن كان يعرف الكتابة يكتبون ما كان ينزل عليه من القرآن، كما كان الإذن فيه عامّا لكلّ من شاء أن يكتب، وقد قال لهم: «لا تكتبوا عنّي شيئا غير القرآن، فمن كتب عنّي شيئا غير القرآن فليمحه» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في «مسنده» (رقم: 11085، 11087، 11158، 11344، 11536) ومسلم (رقم: 3004) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8008) من طرق عن همّام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: =

وعلّة ذلك مدركة، وهي الخوف من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه. ومن أعيان كتّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم. وكانوا جميعا من آمن النّاس على كلام الله تعالى، وهم مزكّون من رسول الله صلى الله عليه وسلم باختياره لهم لهذه الوظيفة الثّقيلة، بل مزكّون من الله تعالى بإقرار نبيّه صلى الله عليه وسلم على اتّخاذهم لذلك. ومن لم يكن في موضع الثّقة فإنّ الله تعالى فضحه، كما وقع لذاك الّذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يغيّر ما كان يمليه عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه: أنّ رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سَمِيعاً بَصِيراً كتب سَمِيعاً عَلِيماً، فإذا كان سَمِيعاً عَلِيماً كتب سَمِيعاً بَصِيراً، وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما فقد قرأ قرآنا كثيرا، قال: فتنصّر الرّجل، وقال: إنّما كنت أكتب ما شئت عن محمّد، قال: فمات فدفن فلفظته الأرض، ثمّ دفن فلفظته، قال أنس: قال أبو طلحة: فأنا رأيته منبوذا على ظهر الأرض (¬1). ¬

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، به. وانظر تعليقي على كتاب «المقنع» لابن الملقّن (1/ 337 - 339). (¬1) حديث صحيح. أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 2020) وأحمد (رقم: 13573) وعبد بن حميد (رقم: 1354) من طرق عن حمّاد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس، به. قلت: وإسناده صحيح. وقوله: «ليس من النّاس» أي ما وقع له.

فحاصل هذا المبحث

وفي رواية لهذه القصّة، قال أنس: كان رجل نصرانيّا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيّا، فكان يقول: ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه لمّا هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لمّا هرب منهم فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنّه ليس من النّاس، فألقوه (¬1). وهذه العقوبة وعيد لمن يظنّ أنّه يقدر أن يبدّل كلام الله، ذلك أنّ الله تعالى قد تعهّد بحفظه، كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9]. فحاصل هذا المبحث: أنّ جمع القرآن على العهد النّبويّ كان بهذين الطّريقين: جمعه في ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3421) من طريق عبد العزيز بن صهيب، واللّفظ له، ومسلم (رقم: 2781) من طريق سليمان بن المغيرة، كلاهما عن أنس.

المرحلة الثانية: جمع القرآن في عهد الصديق

الصّدور، وكتابته في السّطور. وكانوا يكتبونه فيما تهيّأ لهم الكتابة فيه، من الجلود وجريد النّخل وغير ذلك، ولم يكن جمعهم له مكتوبا على صفة الكتاب الواحد تجمع أوراقه إلى بعضها لتعذّر ذلك يومئذ، حيث كان القرآن مستمرّ النّزول، وربّما نزلت الآية أو السّورة فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ضعوها في موضع كذا وكذا»، كما كان نسخ التّلاوة واردا في حياته صلى الله عليه وسلم، فلو كان مؤلّفا على صفة الكتاب التّامّ لشقّ معه إضافة الجديد وإزالة المنسوخ، خاصّة وأنّهم ما كان لهم من آلة الكتابة يومئذ ما تهيّأ لمن بعدهم. المرحلة الثّانية: جمع القرآن في عهد الصّدّيق: وهذه يبيّنها أخبر النّاس بها كاتب الوحي الأمين زيد بن ثابت. قال، رضي الله عنه: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (¬1)، فإذا عمر بن الخطّاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك ¬

(¬1) أي في حرب المرتدّين.

الّذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرّجال، حتّى وجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاريّ لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حتّى خاتمة براءة [التّوبة: 128 - 129]، فكانت الصّحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله، ثمّ عند عمر حياته، ثمّ عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنه (¬1). (العسب) جمع عسيب، وهو جريدة النّخل، و (اللّخاف) حجارة بيض رقاق. وقوله: (لم أجدها مع أحد غيره) إنّما أراد مكتوبة، ولم يرد محفوظة، فإنّ زيدا نفسه كان ممّن جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعه طائفة كانوا أحياء يومئذ. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4402، 4701، 4703، 6768، 6989). ويأتي تمام تخريجه (ص: 170).

هل هناك جمع وقع في خلافة عمر؟

وقد روي أنّ عمر بن الخطّاب شهد مع خزيمة أو أبي خزيمة على حفظه، كما روي أنّ عثمان شهد بذلك، ولا يثبت عن عمر ولا عثمان من جهة الإسناد (¬1). وهذا الجمع الّذي حصل بأمر أبي بكر الصّدّيق، رضي الله عنه، كان للقرآن جميعا على الصّورة الّتي كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أملاها على أصحابه من كتّاب الوحي، مشتملة على الأحرف السّبعة الّتي أنزل عليها القرآن. هل هناك جمع وقع في خلافة عمر؟ روي في ذلك من الخبر ما لا يثبت من طريق النّقل؛ إمّا من رواية ضعيف، أو من جهة انقطاع في الإسناد (¬2)، والصّحيح ما تقدّم في حديث زيد بن ثابت أنّ عمر أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وأنّ الصّحف الّتي جمعت على عهد الصّدّيق بقيت بعده عند عمر إلى أن استشهد، رضي الله عنه، ثمّ عند ابنته حفصة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها. المرحلة الثّالثة: جمع القرآن في عهد عثمان: وهذه هي المرحلة الأخيرة من مراحل جمع القرآن، وهي الّتي تمّ فيها جمع النّاس على مصحف واحد منعا للفتنة، وإليك قصّة ذلك: ¬

(¬1) كما سيأتي بيان علّة ذلك تعليقا (ص: 129 - 131). (¬2) وهو نفسه المرويّ المشار إليه في التّعليق السّابق.

عن أنس بن مالك، رضي الله عنه: أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشّام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنّصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصّحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وسعيد بن العاص وعبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيّين الثّلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن (وفي رواية: في عربيّة من عربيّة القرآن) فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف ردّ عثمان الصّحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬1). قال الإمام أبو عمرو الدّانيّ: «أكثر العلماء على أنّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، لمّا كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كلّ ناحية من النّواحي بواحدة منهنّ، فوجّه إلى الكوفة إحداهنّ، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشّام الثّالثة، وأمسك عند نفسه واحدة، وقد قيل: إنّه جعله سبع ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3315، 4699، 4702).

المبحث الثالث: الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان

نسخ، ووجّه من ذلك أيضا نسخة إلى مكّة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأوّل أصحّ، وعليه الأئمة» (¬1). المبحث الثالث: الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان والفرق بين الجمعين ظاهر من الرّوايات الصّحيحة في ذلك، والفارق بينهما في أمرين بارزين: الأوّل: السّبب الدّاعي للجمع. ففي عهد الصّدّيق الخوف على ذهاب القرآن بذهاب حملته، كما وقع في إشارة عمر على أبي بكر، حيث قال: «إنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن». أمّا في عهد عثمان فكان الدّاعي الخوف على الأمّة من الافتتان في دينها بسبب اختلاف الحروف الّتي يقرأ بها القرآن، كما كان في إشارة حذيفة بن اليمان على عثمان، قال له: «يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنّصارى»، وإذا كان بعض كبار الصّحابة لم يستوعب أوّل الأمر مثل ذلك الاختلاف، كأبيّ بن كعب، حتّى أزال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه الحرج، فكيف الشّأن في سائر النّاس بعد انتشار الإسلام وتوسّع رقعته وكثرة من دخل فيه من الشّعوب؟ ¬

(¬1) المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار (ص: 9).

والثاني: الصفة التي وقع عليها الجمع.

والثّاني: الصّفة الّتي وقع عليها الجمع. في عهد الصّدّيق جمع القرآن من السّطور والصّدور على الصّفة الّتي أخذها النّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكتبها بأمره كتّاب الوحي، فصارت جميعا بما فيها الأحرف السّبعة في صحف، محفوظة في موضع واحد، ولم تكتب منها المصاحف يومئذ، كما أنّ ظاهر الأمر أنّ السّور لم تؤلّف يومئذ على صفة معيّنة، إنّما في قصّة ذلك ما يشعر بضمّ آيات السّورة الواحدة إلى بعضها كما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوها عنه كالشّأن في آخر سورة التّوبة. وأمّا في عهد عثمان؛ فإنّ الجمع كان بكتابة مصحف يكون للنّاس إماما، لا يختلف في شيء من حروفه، يعصمون به من الضّلالة، وجعل عثمان رضي الله عنه إمامه في ذلك الصّحف الّتي جمعت في عهد الصّدّيق، وأمر الكتّاب أن يصيروا فيما اختلفوا فيه عند الكتابة إلى لغة قريش فتكون فصلا بينهم، وكلّ حرف لا يأتي على موافقة الرّسم وإن كان من السّبعة؛ فلم يكتبوه في المصحف، ذلك أنّ الصّحابة أدركوا المعنى الّذي لأجله أنزل القرآن على سبعة أحرف، وهو التّيسير على التّالين، وأنّه ما من حرف إلّا وهو على وفاق الآخر في معناه، ورأوا بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابتداء ظهور اختلاف الأمّة بسبب ذلك، كما رأوا العلّة في اختلاف الأحرف الّتي هي التّيسير قد زالت، وبدأ يحلّ محلّها فرقة وفتنة، فدرءوا تلك الفتنة بحفظ القرآن مجموعا على رسم واحد عمّم على جميع عواصم الدّولة الإسلاميّة، وبقي من تلك الأحرف ما يتّفق في الرّسم مع المصحف الإمام.

المبحث الرابع: موقف الصحابة من الجمع العثماني

المبحث الرابع: موقف الصحابة من الجمع العثماني تلقّى الصّحابة يومئذ صنيع عثمان رضي الله عنه بالقبول، وسلّموا له ما فعل، وإن كان بعضهم قد احتفظ بمصحفه الخاصّ، كعبد الله بن مسعود، كما سيأتي في قصّته. عن مصعب بن سعد بن أبي وقّاص، قال: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين، فما رأيت أحدا منهم عاب ما صنع عثمان رضي الله عنه في المصاحف (¬1). والمرويّ عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، موافقة عثمان على ما فعل (¬2)، لم يرو عنه غير ذلك، فطعن الغلاة فيه في عثمان رضي الله عنه في أمر جمع المصحف وارد منهم على عليّ نفسه، فإنّه ولي الخلافة بعد عثمان، وشأن القرآن هو شأن دين الإسلام، فما كان لإمام هدى كعليّ ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1004) وإسناده صحيح. (¬2) روى أبو بكر بن أبي داود في «المصاحف» (ص: 23) من طريق شعبة بن الحجّاج، عن علقمة بن مرثد، عمّن سمع سويد بن غفلة يقول: سمعت عليّا يقول: «رحم الله عثمان، لو وليته لفعلت ما فعل في المصاحف». ونحوه روى أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 284 - 285) من طريق شعبة. قلت: وإسناده منقطع، لا علّة له غير ذلك، وروي عند عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 994 - 995) وابن أبي داود (ص: 22، 23) موصولا ضمن حديث فيه طول بسند ضعيف، فيه محمّد بن أبان بن صالح القرشيّ، وهو ضعيف الحديث.

عبد الله بن مسعود والجمع العثماني

بن أبي طالب يعلم في صنيع عثمان نقصا أو عيبا ويقرّه في مصاحف المسلمين وذلك وعثمان حيّ، فضلا عن حاله من بعد حين ولي الخلافة، فسحقا لأهل البدع، كم تجني عليهم بدعهم من الضّلال؟! أمّا عامّة أهل الإسلام من بعد، فإنّهم رأوا ما صنع عثمان رضي الله عنه منقبة له، كيف لا؛ وقد وقى الله به الأمّة من الاختلاف في القرآن، وحفظه به! ويكفي أن تكون الأمّة كلّها باختلاف طوائفها لا يوجد عندها قرآن غير هذا الّذي جمع عثمان رضي الله عنه، وإذا كان الله تعالى قد تعهّد بوقاية هذا الكتاب وحفظه والنّاس لا يعرفون إلّا ما جمعه عثمان، فذلك من أعظم البراهين على أنّ الله تعالى أبقاه محفوظا في الأمّة بصنيع عثمان، فرضي الله عن عثمان. عبد الله بن مسعود والجمع العثمانيّ: لا يخفى قدر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلته في الصّحابة، بل ومكانته في القرآن خاصّة، وكان معارضا لصنيع عثمان في أمور ثلاثة: الأوّل: تولية زيد بن ثابت دونه. كان ابن مسعود في الكوفة حين شرع عثمان في جمع المصحف، وكان عثمان قد اقتدى بالشّيخين قبله أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في اختيار زيد بن ثابت لهذه المهمّة، لكن أغضب ذلك عبد الله بن مسعود، حتّى قال:

على قراءة من تأمرونّي أقرأ؟ لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وإنّ زيدا لصاحب ذؤابتين يلعب مع الصّبيان. وفي رواية عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسديّ، قال: لمّا أمر عثمان رضي الله عنه في المصاحف بما أمر به، قام عبد الله بن مسعود خطيبا، فقال: أتأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ فو الّذي نفسي بيده، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وزيد بن ثابت عند ذلك يلعب مع الغلمان، ثمّ استحيا ممّا قال، فقال: وما أنا بخيرهم، ثمّ نزل. قال شقيق: فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فما سمعت أحدا ردّ ما قال (¬1). فهذا الخبر واضح في غضب ابن مسعود من تقديم زيد بن ثابت عليه ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرج الرّواية الأولى منه: النّسائيّ (رقم: 5063) من طريق هبيرة بن يريم، عن ابن مسعود. قلت: وإسناده صحيح. وأخرج الرّواية الثّانية: الطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 5595) من طريق عبد الواحد بن زياد، حدّثنا سليمان الأعمش، عن شقيق، به. قلت: وإسناده صحيح. وأصله في «الصّحيحين»: رواه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم: 2462) من طريقين آخرين عن الأعمش، نحوه.

في هذه الوظيفة، وأنا أحيل غضب ابن مسعود على أمرين مهمّين: أوّلهما: ما يعلمه من نفسه من العناية بالقرآن كما يدلّ عليه قوله المذكور، مع التّزكية النّبويّة له في ذلك. فتقدّم ذكره في الحديث فيمن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن من أصحابه، وكذلك ما ثبت عن علقمة بن قيس النّخعيّ، قال: جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه وهو بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلبه، قال: فغضب عمر وانتفخ حتّى كاد يملأ ما بين شعبتي الرّحل، وقال: ويحك، من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فو الله ما زال يطفأ ويذهب عنه الغضب حتّى عاد إلى حاله الّتي كان عليها، ثمّ قال: والله ما أعلم من النّاس أحدا هو أحقّ بذلك منه، وسأخبركم عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر اللّيلة كذلك في الأمر من أمور المسلمين، وأنّه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فلمّا دخل المسجد إذا رجل قائم يصلّي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته، فما كدنا نعرف الرّجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» وذكر بقيّة الحديث (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 175) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8257) وابن خزيمة في «صحيحه» (رقم: 1156) ويعقوب بن سفيان في «المعرفة» (2/ 538 - 539) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 5592، 5593) والطّبراني في «الكبير» (9/ 64، 65) =

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكّي قراءته، وهذا عمر من بعده يعدّه أولى النّاس بإقراء القرآن يومئذ. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: خطبنا عبد الله بن مسعود، فقال: والله، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم (¬1). فهذه التّزكية والقبول عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة أصحابه أعطى ابن مسعود الحقّ في الاعتراض: أن يختار زيد بن ثابت ويقدّم عليه، وقد أسلم ابن مسعود وحفظ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الكثير من القرآن وزيد يومئذ صبيّ لم يعرف الإسلام بعد فضلا عن القرآن. وثانيهما: شهوده العرضة الأخيرة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: أيّ القراءتين تعدّون أوّل؟ قالوا: قراءة عبد الله، قال: لا، بل هي الآخرة (وفي رواية: قراءتنا القراءة ¬

= والحاكم (رقم: 2893) وأبو نعيم في «الحلية» (رقم: 376) والبيهقيّ في «الكبرى» (1/ 452 - 453) من طرق عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة. يزيد بعضهم ذكر طريق أخرى عن عمر. وإسناده صحيح، جاء عن عمر من غير وجه، وعن النّبيّ من طريق جماعة من الصّحابة، بعضهم يذكر القصّة، وبعضهم يكتفي بالمرفوع منها. (¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم: 2462)، واللّفظ للبخاريّ.

الأولى، وقراءة عبد الله قراءة الأخيرة)، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ عام مرّة، فلمّا كان العام الّذي قبض فيه عرض عليه مرّتين، فشهده عبد الله، فعلم ما نسخ منه وما بدّل (¬1). والثّاني: موقفه من إثبات المعوّذتين في المصحف. وهذا الاعتراض من أشدّ ما يذكر عن عبد الله بن مسعود على الجمع العثمانيّ. فعن عبد الرّحمن بن يزيد، قال: رأيت عبد الله يحكّ المعوّذتين، ويقول: لم تزيدون ما ليس فيه؟ وفي رواية قال: لا تخلطوا فيه ما ليس منه. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 3422) وابن أبي شيبة (رقم: 30279) وابن سعد في «الطّبقات» (2/ 342) والبخاريّ في «خلق أفعال العباد» (رقم: 382) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7994، 8258) وأبو يعلى (رقم: 2562) والطّحاويّ في «شرح المعاني» (1/ 356) و «شرح المشكل» (رقم: 286، 5590) وابن عساكر في «تاريخه» (33/ 140) من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاس، به. والرّواية الأخرى لأبي يعلى. قلت: وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (رقم: 2494، 2999) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 287) من طرق عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، بنحوه. قلت: وهذه متابعة صالحة.

وفي رواية عنه: أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف، يقول: ليستا من كتاب الله (¬1). والثّالث: إنكاره تحريق المصاحف الّتي لا توافق المصحف العثمانيّ. إنّ النّاس قبل المصحف الإمام كانت عندهم المصاحف الّتي انتسخوها لأنفسهم، وربّما كان مرجع النّاس في ذلك إلى من سمعوا منه من القرّاء من الصّحابة أو غيرهم، فجائز عليها الاختلاف، سواء بسبب اختلاف الحروف الّتي بلغهم القرآن عليها، أم بسبب النّسخ، وصنيع عثمان إنّما قصد إلى توحيد المسلمين على مصحف واحد. فحين كتبت المصاحف العثمانيّة جعلها أمير المؤمنين عثمان المرجع للمسلمين في مصاحفهم، وأمر بإزالة ما سواها ممّا كتب عن غيرها، فساء ذلك ابن مسعود، وأبى أن يسلّم مصحفه، وأفتى النّاس بالاحتفاظ بمصاحفهم، كما تدلّ على ذلك الأخبار عنه، ومنها: ¬

(¬1) أثر صحيح برواياته الثّلاث. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 268) بالرّواية الأولى، وابن أبي شيبة (رقم: 30196) والطّبرانيّ كذلك، بالرّواية الثّانية، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (129 - 130) والطّبرانيّ، بالرواية الثّالثة، قلت: وأسانيدهم صحاح. وأخرجه عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1010 - 1011) من طريق عبد الرّحمن بن يزيد، قال: رأيت ابن مسعود، رضي الله عنه، يحكّ المعوّذتين من المصحف، ويقول: «لا يحلّ قراءة ما ليس منه». قلت: وإسناده صحيح.

عن خمير بن مالك الهمدانيّ، قال: أمر بالمصاحف أن تغيّر، قال: قال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغلّ مصحفه فليغلّه، فإنّه من غلّ شيئا جاء به يوم القيامة، قال: ثمّ قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (¬1). وعن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: أتى عليّ رجل وأنا أصلّي، فقال: ثكلتك أمّك، ألا أراك تصلّي وقد أمر بكتاب الله أن يمزّق كلّ ممزّق، قال: فتجوّزت في صلاتي، وكنت أحبس، فدخلت الدّار ولم أحبس، ورقيت فلم أحبس، فإذا أنا بالأشعريّ، وحذيفة وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: ادفع إليهم هذا المصحف، قال: والله لا أدفعه إليهم، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ثمّ أدفعه إليهم؟ والله لا أدفعه إليهم (¬2). ¬

(¬1) حديث صالح الإسناد. أخرجه أحمد (رقم: 3929) وعمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1006) والطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 70) وابن أبي داود (ص: 15) وابن عساكر (33/ 139) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن خمير، به. وقوله: (تغيّر) أي تزال. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 285) والطّبرانيّ (9/ 71) والحاكم (رقم: 2896) من طريق عبد الله بن عون، حدّثني عمر بن قيس، عن أبي ميسرة، به. قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، قلت: وهو كما قال، وعمر بن قيس هو الماصر.

هذا الحصر يعود إليه جميع ما يذكر عن ابن مسعود من أسباب الاعتراض على الجمع العثمانيّ، وجوابه باختصار: 1 - قدّم زيد عليه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ائتمنه على كتابة الوحي، وهذه خصلة تكفي وحدها لتقديم زيد، كيف وقد جمع القرآن والنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ، وائتمنه أبو بكر الصّدّيق وعمر الفاروق على الجمع الأوّل وما اعترض ابن مسعود عليهما في ذلك. وما ضرّ زيدا أن يسبقه ابن مسعود بالسّنّ أو الإسلام أو التّلقّي لبعض سور القرآن تلقّاها زيد من بعد مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطّها بيده! 2 - ما قصد أحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا عثمان ولا غيره الغضّ من منزلة ابن مسعود في الإسلام، بل فضله عندهم مجمع عليه، وإن اختاروا غيره لهذه الوظيفة. 3 - شهوده العرضة الأخيرة لا ريب أنّه من أسباب تفضيله وتقديمه في القرآن، لكنّه نفسه لم يجعل شهوده لما ممّا يرجّحه على زيد، كذلك ابن عبّاس لم يعدل عن قراءة زيد مع قوله المذكور، وإنّما الفائدة في قول ابن عبّاس أنّ ما جاء في حرف ابن مسعود فهو غير منسوخ التّلاوة. على أنّ قول ابن عبّاس مقابل بما هو مشهور من كون قراءة النّاس الّتي في هذه المصاحف هي العرضة الأخيرة. ومن الدّليل عليه حديث سمرة بن جندب، رضي الله عنه، قال:

عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، فيقولون: إنّ قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة (¬1). وعن محمّد بن سيرين، قال: يرون أو يرجون أن تكون قراءتنا هذه أحدث القراءتين عهدا بالعرضة الأخيرة (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الرّوياني (رقم: 817، 826) والبزّار (رقم: 2315 - كشف) والحاكم (رقم: 2904) من طريق حجّاج بن منهال، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، به. قال الحاكم: «حديث صحيح، على شرط البخاريّ بعضه، وبعضه على شرط مسلم». قلت: إسناده صحيح، الحسن هو البصريّ، لا يصحّ وصمه بالتّدليس بالمعنى الاصطلاحيّ، إنّما كان كثير الإرسال، وثبت لقاؤه سمرة وسماعه منه، وغاية ما قيل: كان حديثه عن سمرة صحيفة، وأقول: هذا لا يضرّ وقد ثبت سماعه، وأشدّ النّاس في اشتراط السّماع ابن المدينيّ والبخاريّ؛ وقد صحّحا سماعه من سمرة. (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» من طريق أيّوب السّختيانيّ، (ص: 357) وابن شبّة في «تاريخه» (3/ 994) من طريق هشام بن حسّان، كلاهما عن محمّد بن سيرين، به، قلت: وإسناده صحيح. وروي عن عبيدة السّلمانيّ، قال: القراءة الّتي عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في العام الّذي قبض فيه هي القراءة الّتي يقرؤها النّاس اليوم. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30282) والبيهقيّ في «الدّلائل» (7/ 155) وفيه ضعف يسير، وعبيدة من أصحاب عليّ وابن مسعود، ومن قرّاء القرآن.

ووجه الجمع بين الأخبار هنا أن نقول: حيث إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن في عامه الّذي توفّي فيه مرّتين باعتبار وقوع ذلك منه مع جبريل عليه السّلام، أو مرّات باعتبار وقوع العرض من الطّرفين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السّلام، فيكون زيد حضر إحداها وابن مسعود الأخرى. 4 - مستند زيد في الجمع إنّما كان الصّحف الّتي جمعها في عهد الصّدّيق، ولم يعتمد حفظه أو حفظ غيره مجرّدا. كذلك فإنّه لم ينفرد بشيء غير التّكليف بمسئوليّة وظيفة الجمع، وقد وافقه عثمان حيث تمّ ذلك بإشرافه، وعليّ بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وغيرهم من كبار الصّحابة ممّن تنتهي إليهم أسانيد قراءات القرّاء السّبعة وغيرهم من القراءات الّتي هي على وفاق المصحف في الرّسم، بل إجماع الصّحابة وعامّة التّابعين حاصل على ذلك، ما شذّ عنهم غير ابن مسعود. 5 - وأمّا شأن المعوّذتين، فإنّ ابن مسعود لم يجحد أن تكونا ممّا أنزله الله، وإنّما حسب أنّهما دعاء أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن علقمة النخعيّ، عنه: أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف، ويقول: إنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما (¬1). ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه البزّار في «مسنده» (رقم: 1586) والطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 269) من طريق حسّان بن إبراهيم، عن الصّلت بن بهرام، عن إبراهيم، عن علقمة، به. والسّياق المذكور للبزّار، وهو أجود من سياق الطّبرانيّ، إذ جاء نفي القراءة بهما عند الطّبرانيّ مدرجا في جملة الحديث، فأوهمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ بهما. قلت: وإسناده حسن، حسّان صدوق، وسائر الإسناد ثقات.

وعن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، عنه أنّه كان يقول: لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنّما هما معوّذتان تعوّذ بهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (قل أعوذ بربّ الفلق) و (قل أعوذ بربّ النّاس)، وكان عبد الله يمحوها من المصحف (¬1). فابن مسعود يعلم المعوّذتين، ويقرّ بكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالتّعوّذ بهما، لكنّه ينكر أن تكونا من القرآن، ولا ريب أنّ مثل هذا عظيم الخطر، لكنّه رضي الله عنه خفيه أن تكونا قرآنا، وغيره كان أعلم بهما وأنّهما كانتا من القرآن، بل اتّفاق الجميع، وكفى به برهانا على غلط ابن مسعود، فروايته للقرآن عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ناقصة، والفرد مهما بلغ في العلم والمعرفة؛ فإنّه يفوته الشّيء من ذلك، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. ولا يردنّ في خاطرك أن يكون ما ذكره ابن عبّاس من أنّ ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة فعلم ما نسخ، فكان المعوّذتان ممّا نسخ، فإنّهما لو كانتا كذلك في نظر ابن مسعود لكان ذلك أقوى في حجّته على نفيهما من المصحف، ولما احتاج أن يعلّل نفيهما بكونهما دعاء أوحي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليستا بقرآن، ثمّ إنّ المنسوخ قرآن أيضا لكنّه نسخ، وليس هكذا قول ابن ¬

(¬1) حديث صالح الإسناد. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 268) من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلاليّ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرّحمن، به. قلت: وإسناده صالح لا بأس به لموافقته الحديث الّذي قبله.

مسعود في المعوّذتين. فحاصل هذا أنّ ابن مسعود لم يعلم، وغيره قد علم، ومن علم حجّة على من لم يعلم، وممّا يبطل مذهب ابن مسعود في المعوّذتين إضافة إلى مخالفته إجماع عامّة الصّحابة، أدلّة أخرى، منها: ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث صراحة أنّهما قرآن، وأنّه كان يقرأ بهما في الصّلاة، كما جاء عن عقبة بن عامر الجهنيّ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل عليّ آيات لم ير مثلهنّ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 إلى آخر السّورة، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 إلى آخر السّورة» (¬1). وعنه، قال: اتّبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال: «لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 144، 150، 151، 152) ومسلم (رقم: 814) والتّرمذيّ (رقم: 2904، 3364) والنّسائيّ (رقم: 954، 5440) والدّارميّ (رقم: 3316) من طريق قيس بن أبي حازم، عن عقبة به. وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 149، 159) والنّسائيّ (رقم: 953، 5439) من طرق عن اللّيث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر. وأخرجه أحمد (4/ 155) والدّارميّ (رقم: 3314) كلاهما عن أبي عبد الرّحمن عبد الله بن يزيد المقري، حدّثنا حيوة، وابن لهيعة، قالا: سمعنا يزيد بن أبي حبيب، يقول: حدّثني أبو عمران، أنّه سمع عقبة بن عامر. قلت: وهذان إسنادان صحيحان، وابن لهيعة إذا روى عنه أبو عبد الرّحمن المقري فهو ثبت، كيف وقد تابعه حافظان من حفّاظ المصريّين؟

وعنه، قال: كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في السّفر، فقال لي: «يا عقبة، ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا؟» فعلّمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1، قال: فلم يرني سررت بهما جدّا، فلمّا نزل لصلاة الصّبح صلّى بهما صلاة الصّبح للنّاس، فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصّلاة التفت إليّ فقال: «يا عقبة، كيف رأيت؟» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 149 - 150، 153) وأبو داود (رقم: 1462) والنّسائيّ (رقم: 5436) من طريق معاوية بن صالح، حدّثنا العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرّحمن، عن عقبة. وأخرجه أحمد (4/ 144) والنّسائيّ (رقم: 5437) من طريق الوليد بن مسلم، والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 125) من طريق بشر بن بكر، قالا: حدّثنا ابن جابر، عن القاسم، عن عقبة. وفي رواية بشر قول القاسم: حدّثني عقبة بن عامر. قلت: وهذه أسانيد صحيحة إلى القاسم، وهو صدوق جيّد الحديث، وقد سمع هذا من عقبة، وابن جابر اسمه عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر. وهذا الحديث الّذي أوردت هاهنا بعض سياقاته حديث متواتر عن عقبة، له عنه طرق عدّة، لا يرتاب في صحّته عنه من يفهم الحديث.

وكان أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، حدّث بموقف ابن مسعود من المعوّذتين، فردّه بما سمعوه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك: فعن زرّ بن حبيش، قال: قلت لأبيّ بن كعب: إنّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه، فقال: أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أنّ جبريل عليه السّلام قال له: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 فقلتها، فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 فقلتها، فنحن نقول ما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم (¬1). وأبيّ بن كعب أحد الّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن، وكان من المقدّمين فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه تنتهي بعض أسانيد بعض القرّاء السّبعة، كنافع وابن كثير وعاصم وأبي عمرو، وهي على وفاق هذا المصحف، وفيه المعوّذتان. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الشّافعي في «السّنن» (رقم: 93) وأحمد (5/ 130) والحميديّ (رقم: 374) والبخاريّ (رقم: 4692، 4693) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 119) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 394) من طريق عاصم بن بهدلة، وعبدة بن أبي لبابة، سمعا زرّ بن حبيش، به. وأخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 6040) والشّافعيّ كذلك (رقم: 93) وأحمد (5/ 129) وابن أبي شيبة (رقم: 30193) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 129 - 130) والطّحاويّ (رقم: 118، 120، 121) وابن حبّان (رقم: 797) من طريق عاصم، والبيهقيّ (2/ 393 - 394) من طريق عبدة، به. كما أخرجه أحمد (5/ 129) من طريق الثّوريّ، عن الزّبير بن عديّ، عن أبي رزين، عن زرّ. قلت: وإسناده صحيح، واسم أبي رزين مسعود بن مالك الأسديّ.

كما أنّ المأثور أنّ المعوّذتين كانتا في مصحفه (¬1). نعم؛ كان أبيّ ربّما قرأ ببعض المنسوخ من القرآن، وربّما كان ذلك في مصحفه (¬2)، إلّا أنّ المعوّذتين لم تكونا من المنسوخ، بدلالة عدم ردّ ابن ¬

(¬1) أخرج أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 318) عن محمّد بن سيرين، قال: كتب أبيّ في مصحفه فاتحة الكتاب، والمعوّذتين، واللهمّ إنّا نستعينك، واللهمّ إيّاك نعبد، وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين. قلت: وإسناده صحيح إلى ابن سيرين، وكذلك أخرج نحوه ابن شبّة في «تاريخه» (3/ 1009 - 1010) بإسناد آخر صحيح عنه. والسّورتان اللّتان كانتا في مصحف أبيّ وليستا في مصاحف المسلمين من المنسوخ تلاوة، فإنّهما لو كانتا ضمن المكتوب من الوحي لكتبهما زيد ومن كان معه، ولكانتا في جملة ما أقرأه أبيّ لمن حمل عنه القراءة ممّن ترجع إليهم روايات بعض السّبعة. (¬2) مثاله ما تقدّم في التّعليق الماضي. ويدلّ عليه حديث عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: عليّ أقضانا، وأبيّ أقرؤنا، وإنّا لندع كثيرا من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أدعه لشيء، والله تبارك وتعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106]، وفي رواية: وقد نزل بعد أبيّ كتاب. أخرجه أحمد (5/ 113) والبخاريّ (رقم: 4211، 4719) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 15) وابن أبي شيبة (رقم: 30120) وابن سعد (2/ 339) وابن شبّة (2/ 706) ويعقوب بن سفيان (1/ 481) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 113) والحاكم (رقم: 5328) وأبو نعيم في «المعرفة» (رقم: 754) والبيهقيّ في «المدخل» (رقم: 77) و «الدّلائل» (7/ 155) وابن عساكر (7/ 325) من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قال عمر، به. والرّواية الأخرى لابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد بسند صحيح.

وببعض ما ذكرت من الوجوه يبطل قول ابن مسعود.

مسعود لهما بهذه الحجّة، فقام بهذا الّذي نقله القرّاء عن أبيّ وما ذكرناه عنه هاهنا من الرّواية حجّة لإبطال قول ابن مسعود بنفيهما من المصحف. من المعلوم من سيرة ابن مسعود أن الله تعالى قيّض له أصحابا من بعده من سادة التّابعين قاموا بعلمه، فلم يأت عن أحد من هؤلاء موافقة ابن مسعود في رأيه هذا، ممّا يؤكّد الشّذوذ والغلط المتيقّن فيه. فعن إبراهيم النّخعيّ (وإليه المنتهى في علم ابن مسعود) قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: نعم، يعني المعوّذتين (¬1). وببعض ما ذكرت من الوجوه يبطل قول ابن مسعود. واعلم أنّ بعض العلماء كذّبوا كلّ ما نقل عنه بخصوص هذه القضيّة، وما أنصفوا، فالقواعد العلمية تقطع بكونه كان يذهب إلى نفي المعوّذتين، وطائفة زعمت أنّ ابن مسعود كان لا يراهما ممّا يكتب في المصحف، ولم يكن يجحد كونهما من القرآن، وهذا زعم يخالف الآثار المنقولة عنه في ذلك، وكأنّ الفريقين قصدا من جهة إبطال التّمسّك بمثل هذا عند الملحدين للطّعن في نقل القرآن، ومن جهة أخرى تنزيه ابن مسعود مع جلالته وعلمه عن مثل هذا الغلط الشّنيع. ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30197) بإسناد صحيح. والأسود هو ابن يزيد النّخعيّ، من أخصّ أصحاب ابن مسعود وأعلمهم.

لكنّهم لم يكونوا مضطرّين إلى ذلك ليضعفوا حجّتهم بمثله، وإنّما يكفي بعض القول الّذي قدّمناه في الذّبّ عن القرآن، دون تأثّر بهذا الّذي قاله ابن مسعود، وأمّا غلط ابن مسعود فهو دليل على أنّ الغلط في الأصول وارد على الكبار في الاجتهاد، وليس يمنع اعتقاد فضلهم وعلوّ قدرهم من وقوعهم فيه، وإنّما العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ لأمّته في مجموعها من بعده، وحيث تواطأت الأمّة على اعتقاد ما في المصحف وفيه المعوّذتان أنّه كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فاعتقادها هذا معصوم، وهو الحقّ المبين. 6 - وأمّا قضيّة تحريق المصاحف غير المصحف العثمانيّ، فإنّ امتناع ابن مسعود عن تسليم مصحفه، وأمره النّاس بإخفاء مصاحفهم الّتي نسخوها لأنفسهم قبل المصحف الإمام، فهو نتيجة متصوّرة لموقفه المتقدّم شرحه من صنيع عثمان. وكذلك الموقف من جهة أمير المؤمنين عثمان، فإنّه قصد بالجمع أن يجمع النّاس على مصحف واحد، ولا يتأتّى ذلك وهو يدعهم يحتفظون بما عندهم من القراءات والحروف ممّا لا يأتي على وفاقه. والموقف العامّ من الصّحابة كان متّفقا مع رأيه، سوى ابن مسعود، وعابوا على ابن مسعود صنيعه. قال مصعب بن سعد: أدركت أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين شقّق عثمان

رضي الله عنه المصاحف؛ فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد (¬1). وقال الزّهريّ: بلغني أنّ ذلك كره من مقالة ابن مسعود، كرهه رجال من أفاضل أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم (¬2). وتقدّم أمر حذيفة لابن مسعود بأن يدفع مصحفه لمن كلّفه أمير المؤمنين بإزالة المصاحف بالكوفة، وامتنع ابن مسعود. وهذا أبو الدّرداء، وهو سيّد أهل الشّام، وأحد من تنتهي إليهم قراءة ابن عامر، يبلغه صنيع ابن مسعود، فلا يرضاه: قال علقمة بن يزيد النّخعيّ: قدمت الشّام، فلقيت أبا الدّرداء، فقال: كنّا نعدّ عبد الله حنّانا، فما باله يواثب الأمراء؟ (¬3). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 284) وابن شبّة (3/ 1004) قالا: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديّ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن مصعب، به. قلت: وهذا إسناد صحيح. (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد (ص: 283) والتّرمذيّ (رقم: 3103) وابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 17) وابن عساكر (33/ 139) بإسناد صحيح إلى الزّهريّ. (¬3) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي داود (ص: 18) وابن عساكر (33/ 140) من طريق عبد السّلام بن حرب، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة. وإسناده صحيح.

ابن مسعود وموافقة الجماعة

ابن مسعود وموافقة الجماعة: ويبدو أنّ ابن مسعود صار في آخر أمره إلى موافقة الجماعة وإن كان قد احتفظ بالقراءة على حرفه؛ لأنّه أدرك أنّ الاختلاف الّذي وقع بينه وبينهم إنّما كان في الحرف أو في الحفظ، وليس هذا من قبيل اختلاف التّضادّ. نقل أبو وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود، قال: إنّي قد سمعت القراء؛ فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علّمتم، وإيّاكم والاختلاف والتّنطّع، فإنّما هو كقول أحدكم: هلمّ، وتعال (¬1). ماذا عن الصّحف الّتي ردّها عثمان إلى حفصة أمّ المؤمنين؟ يجيب عن ذلك سالم بن عبد الله بن عمر، فيذكر أنّ مروان (يعني ابن الحكم) كان يرسل إلى حفصة يسألها الصّحف الّتي كتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إيّاها. قال سالم: فلمّا توفّيت حفصة ورجعنا من دفنها؛ أرسل مروان بالعزيمة ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (رقم: 34 - فضائل القرآن) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 361) و «غريب الحديث» (3/ 160) وابن شبّة (3/ 1007) وابن جرير (1/ 22) والبيهقيّ في «السّنن» (2/ 385) و «الشّعب» (رقم: 2268) والخطيب في «تاريخه» (5/ 126) من طريق الأعمش، عن أبي وائل. قلت: وإسناده صحيح.

إلى عبد الله بن عمر: ليرسلنّ إليه بتلك الصّحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشقّقت، فقال مروان: إنّما فعلت هذا؛ لأنّ ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف، فخشيت إن طال بالنّاس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصّحف مرتاب، أو يقول: إنّه قد كان شيء منها لم يكتب (¬1). ... ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 24 - 25) وإسناده صحيح. كما أخرجه (ص: 21) هو وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 156) ببعض الاختصار، بإسناد صحيح كذلك، وفيه من الفائدة أنّ سؤال مروان لحفصة وقع حين كان أميرا على المدينة، رواه الزّهريّ عن أنس بن مالك، كما في الرّواية عن سالم بن عبد الله: أنّه فشاها وحرّقها. وروى نحو ذلك عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1003 - 1004) بأسانيد صحيحة.

الفصل الثاني: ترتيب القرآن

الفصل الثاني: ترتيب القرآن المبحث الأول: ترتيب الآيات في السور ترتيب الآيات كما هي في المصحف في كلّ سورة توقيفيّ، تلقّاه النّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجتهد أحد برأيه في وضع آية في موضع ما من القرآن من غير سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الدّليل عليه: 1 - حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]؛ فألحقناها في سورتها من المصحف (¬1). 2 - حديث عبد الله بن الزّبير، رضي الله عنهما، قال: قلت لعثمان بن عفّان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 2652، 3823، 4506). وهذه القصّة في الجمع العثماني.

[البقرة: 240]، قال: قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها (أو: تدعها)؟ قال: يا ابن أخي، لا أغيّر شيئا منه من مكانه (¬1). 3 - حديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: قلت لعثمان بن عفّان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1 ووضعتموها في السّبع الطّوال، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممّا يأتي عليه الزّمان ينزل عليه من السّور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشّيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا» وينزل عليه الآيات فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا» وينزل عليه الآية فيقول: «ضعوا هذه الآية في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت (الأنفال) من أوائل ما أنزل بالمدينة، و (براءة) من آخر القرآن، فكانت قصّتها شبيهة بقصّتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها، وظننت أنّها منها، فمن ثمّ قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1، ووضعتها في الطّوال (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4256، 4262). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 399، 499) وأبو داود (رقم: 786، 787) والتّرمذيّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(رقم: 3086) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8007) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 280، 285، 369) وعمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1015) والبزّار في «مسنده» (رقم: 344) والطّحاويّ في «شرح معاني الآثار» (1/ 201 - 202) و «شرح مشكل الآثار» (رقم: 131، 1374) وابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 31، 32) وابن جرير في «تفسيره» (رقم: 131) وابن حبّان (رقم: 43) والحاكم في «المستدرك» (رقم: 2875، 3272) والبيهقيّ في «السّنن الكبرى» (2/ 42) و «دلائل النّبوّة» (7/ 152 - 153) والخطيب في «الموضّح لأوهام الجمع والتّفريق» (1/ 338) من طرق كثيرة عن عوف بن أبي جميلة الأعرابيّ، قال: حدّثني يزيد الفارسيّ، حدّثنا ابن عبّاس، به. قال التّرمذيّ: «هذا حديث حسن، لا نعرفه إلّا من حديث عوف عن يزيد الفارسيّ، عن ابن عبّاس، ويزيد الفارسيّ هو من التّابعين من أهل البصرة، قد روى عن ابن عبّاس غير حديث، ويقال: هو يزيد بن هرمز، ويزيد بن أبان الرّقاشيّ هو من التّابعين من أهل البصرة، وهو أصغر من يزيد الفارسيّ، ويزيد الرّقاشيّ إنّما يروي عن أنس بن مالك». قلت: نبّه التّرمذيّ على أمرين: الأوّل: وقوع الاختلاف في يزيد الفارسيّ هل هو ابن هرمز، أو غيره، وليّن التّرمذيّ التّسوية بينهما، والخلاف فيه معروف بين أهل الحديث، فقد سوّى بينهما عبد الرّحمن بن مهديّ وأحمد بن حنبل ومحمّد بن سعد وابن حبّان وغيرهم (انظر تعليقي على كتاب «الكنى» للإمام أحمد ص: 119)، وفرّق بينهما يحيى القطّان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرّازيّ، وعدّهما البخاريّ واحدا في التّرجمة، لكن ببعض تردّد. والأظهر- فيما أرى- التّسوية بينهما، وعليه فقد صرّحوا بتوثيق ابن هرمز. ولو سلّمنا التّفريق بينهما فإنّ أبا حاتم الرّازيّ ممّن جزم بذلك، ومع ذلك قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «وكذلك صاحب ابن عبّاس لا بأس به» (الجرح 4/ 2/ 294) يعني الفارسيّ. والثّاني: دفع اللّبس بين يزيد الفارسيّ ويزيد الرّقاشيّ، إذ كلاهما بصريّ تابعيّ، ومع ذلك فقد تحرّف في بعض الكتب إلى (الرّقاشي). وقال الحاكم في الحديث في الموضع الأوّل: «صحيح على شرط الشّيخين»، وقال في الموضع الثّاني: «صحيح الإسناد». والصّواب من قوليه الثّاني، فلم يخرّج الشّيخان ليزيد الفارسيّ، إنّما روى مسلم فقط ليزيد بن هرمز. وأقول: لم يعرف للمتقدّمين طعن على هذا الحديث، حتّى جاء بعض المعاصرين فردّوه، حمل رايتهم الشّيخ المحدّث أحمد محمّد شاكر رحمه الله، فطعن على هذا الحديث من جهة الإسناد والمتن وذلك في تعليقه على «المسند» (رقم: 399)، أمّا الإسناد فبعد أن نصر التّفريق بين اليزيدين صار للحكم بجهالة يزيد الفارسيّ، وهو الّذي علمناه في تحقيقاته من أكثر النّاس توسّعا في قبول خبر المجهول، إذ له طريقة في إجراء الرّواة على العدالة تفوق طريقة ابن حبّان في التّوسّع. وجواب ذلك قبل مفارقته: هو أنّا نسلّم جدلا أنّ الفارسيّ غير ابن هرمز، فإنّه قال فيه أبو حاتم الرّازيّ: «لا بأس به»، ووثّقه ابن حبّان (الثّقات 5/ 531 - 532)، والرّاوي إذا روى عنه ثقة، وعدّله إمام من أئمّة الشّأن ارتفعت عنه الجهالة وثبتت له العدالة، والشّيخ شاكر نقل من كلام أبي حاتم التّفريق بين اليزيدين، لكنّه أهمل ذكر التّعديل أو الإشارة إليه. وأمّا المتن فقال الشّيخ شاكر: «فيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثّابتة بالتّواتر القطعيّ قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السّور، كأنّ عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك». وأقول: إنّما يرد التّوهّم الّذي ذكره الشّيخ شاكر عند ما نتصوّر أنّ تواتر نقل القرآن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= يتناول ترتيب سوره في المصحف، وقد ثبت بأدلّة أخرى لا يردّها الشّيخ شاكر أنّ ترتيب سور القرآن كان اجتهاديّا من الصّحابة عند ما كتبوا المصحف، منها حديث عائشة الآتي ذكره في ترتيب السّور، وهو عند البخاريّ، ومنها الآثار الواردة عن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم باختلاف ترتيب مصاحفهم عن مصحف عثمان، كمصحف ابن مسعود وأبيّ وعليّ، وما حكاه ربيعة بن أبي عبد الرّحمن وهو مدنيّ من شيوخ مالك بن أنس، وما حكى الّذي حكى في شأن المصحف إلّا عن شيء رأى النّاس عليه، ومذهب مالك الاحتجاج بعمل أهل المدينة فيما هو دون أمر المصحف. وأمّا البسملة فليس الأمر كما قال، إذ أنّ خلاف العلماء قديم مشهور في كونها آية من غير سورة النّمل أو ليست بآية، ومذهب مالك أنّها ليست بآية في أوائل السّور (قرطبي 1/ 93)، فهل هذا إنكار للقطعيّ كما ذكر الشّيخ شاكر؟ نعم، البسملة قرآن، وكانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة على فصل السّورة عن السّورة، كما سيأتي، وقد قرأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سورة الكوثر فابتدأ بالبسملة (أخرجه مسلم رقم: 400)، وقال في سورة الملك: «إنّ سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتّى غفر له، وهي سورة تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» (أخرجه التّرمذيّ رقم: 2893 وغيره- ويأتي ص: 139 - قال التّرمذيّ: حديث حسن)، وسورة الملك ثلاثون آية من غير البسملة. فأيّ قطعيّ إذا عارضه هذا الحديث؟ وأين كان بحور المحدّثين عن إنكار مثل هذا الحديث، وتأتي عليه القرون في كتب العلم شائعا منتشرا ما أورد الشّكّ على قلب أحد منهم حتّى يدّخر اكتشاف ذلك لأهل زماننا، لو كان حديثا قليل الشّيوع لأمكن أن يغفلوه، أمّا وهو في كتبهم، بل منهم كالتّرمذيّ من يحكم بثبوته مع وجود النّكارة الّتي ذكر الشّيخ شاكر، فهذا ما يصعب تخيّله عنهم. عذرا على إطالة النّفس قليلا في هذا الحديث، فلقد رأيت المقام يقتضيه، خاصّة مع جريان التّقليد عند طائفة للشّيخ شاكر في دعواه.

فهذا الحديث صريح في أنّ ترتيب الآيات في كلّ سورة كان بتوقيف من النّبيّ صلى الله عليه وسلم. 4 - مجيء النّاسخ قبل المنسوخ في السّورة الواحدة. كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234]، وقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240]، فهذه منسوخة بالّتي قبلها على قول الأكثرين، وهي تالية لها في ترتيب الآي. فلو كان التّرتيب اجتهاديّا من الصّحابة، لأخّروا النّاسخ وقدّموا المنسوخ، على القاعدة في هذه المسألة، فحيث وقعت هذه الصّورة كذلك فقد نفت جواز القياس في مثلها. 5 - وقوع الإعجاز بترابط آي السّورة الواحدة، ولذا وقع التّحدّي بالإتيان بسورة مثله، كما قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]. وسمّيت السّورة (سورة) تشبيها لها بالسّور، لكونها تحيط بالآيات إحاطة السّور بالمدينة (¬1). وممّا يدلّ على أنّ الوحي كان ينزل بالسّور مؤلّفة من عند الله، آيات في ¬

(¬1) بصائر ذوي التّمييز (3/ 274).

كتاب الله تعالى، كقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التّوبة: 64]، وقوله: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التّوبة: 86]، وقوله: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التّوبة: 124]، وقوله: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النّور: 1]، وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ [محمّد: 20]. 6 - تواتر الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسمية السّور، كالأحاديث في قراءتها في الصّلاة أو بيان فضائلها، أو ذكر عدد آيات بعضها. 7 - عدم مجيء خبر واحد صريح صحيح يدلّ على أنّ أحدا من الصّحابة تصرّف في وضع آية من القرآن برأيه. وما روي عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت في الآيتين من آخر سورة التّوبة؛ فلا يثبت شيء منه من قبل الإسناد (¬1). ¬

(¬1) أخرج ذلك أبو بكر بن أبي داود في «كتاب المصاحف» (ص: 30) من طريق محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد، عن أبيه عبّاد بن عبد الله بن الزّبير، قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 128 إلى قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إلى عمر، فقال: من معك على هذا؟ قال: لا أدري والله، إلّا أنّي أشهد أنّي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوهما فيها، فألحقتها في آخر براءة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= هذا خبر لا يصحّ، ابن إسحاق مشهور بالتّدليس ولم يقل: (سمعت)، وعبّاد لم يدرك عمر. وأخرج عمر بن شبّة في «تاريخه» (3/ 705، 999) وابن أبي داود كذلك (ص: 31) من طريق يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطب، قال: أراد عمر أن يجمع القرآن، فقام في النّاس فقال: من كان تلقّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في المصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك، فقام عثمان بن عفّان رضي الله عنه فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتّى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قال: وما هما؟ قال: تلقّيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 128 إلى آخر السّورة، قال عثمان: وأنا أشهد أنّهما من عند الله، فأين ترى أن تجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. وهذا خبر رواه عمر بن طلحة بن علقمة اللّيثيّ، وهو ضعيف. وأمّا الرّواية عن زيد بن ثابت؛ فأخرجها عمر بن شبّة في «تاريخه» (3/ 1001) من طريق إسماعيل بن جعفر، واللّفظ له، وابن جرير (1/ 26، 27) من طريق عبد العزيز الدّراورديّ، كلاهما عن عمارة بن غزيّة، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: عرضت المصحف فلم أجد فيه هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد، ثمّ استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد منهم، حتّى وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ، فكتبتها، ثمّ عرضته مرّة أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السّورة، قال: فاستعرضت =

المبحث الثاني: ترتيب السور

المبحث الثاني: ترتيب السور اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن: هل هي توقيفيّة، أو اجتهاديّة؟ على قولين: الأوّل: توقيفيّة، وحين جمعه أبو بكر ثمّ عثمان كان جمعه على التّرتيب الّذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه النّاس، وهو كما هو في مصاحف المسلمين ¬

= المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد منهم، ثمّ استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد منهم، حتّى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا، من الأنصار، فأثبتّها في آخر براءة، قال زيد: ولو تمّت ثلاث آيات؛ لجعلتها سورة واحدة، ثمّ عرضته عرضة أخرى؛ فلم أجد فيه شيئا. قلت: هذه رواية لا تصحّ من أجل تفرّد عمارة بن غزيّة عن الزّهريّ بهذا السّياق، وقصّة جمع القرآن محفوظة عن الزّهريّ من طريق المتقنين من أصحابه ليس فيها هذا الّذي ذكر عمارة، وليس عمارة من أصحاب الزّهريّ الّذين يعرفون بالرّواية عنه، وأخاف أن يكون لم يسمعه منه، وإنّما حدّثه بعض الضّعفاء بذلك، وإلّا فأين المتقنون من أصحاب الزّهريّ لم يرو أحد منهم شيئا كهذا؟ وأخرجها ابن عساكر في «تاريخه» (19/ 306) من طريق أبي القاسم البغويّ الحافظ، وبعنعنة عمارة عن الزّهريّ، ولم يسق لفظه إلّا بشيء من أوّله دلّ على أنّ الرّواية في الجمع الّذي وقع في زمن الصّدّيق. وقال البغويّ: «وهذا عندي وهم من عمارة؛ لأنّ الثّقات رووه عن الزّهريّ عن عبيد بن السّبّاق، عن زيد». قلت: وهذا إبانة عن عدم حفظ عمارة للحديث على وجهه، وابن السّبّاق لم يذكر عن زيد بن ثابت هذه الكلمة: (ولو تمّت ثلاث آيات؛ لجعلتها سورة واحدة)، ممّا أكّد الحكم بنكارتها.

من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ورأى بعض أصحاب هذا القول أنّ اعتقاد كون القرآن متواترا يقتضي أن يكون متواترا حتى في ترتيب سوره. الثّاني: اجتهاديّة، وهو قول أكثر العلماء (¬2)، وعليه تدلّ أدلّة، منها: 1 - حديث عثمان بن عفّان المتقدّم (¬3)، صريح أنّه لم يكن لهم توقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع السّور، ولذا اجتهد في شأن (براءة) و (الأنفال). 2 - حديث عائشة، رضي الله عنها، في قصّة الرّجل العراقيّ الّذي سألها عن تأليف القرآن، قال: يا أمّ المؤمنين، أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلّي أؤلّف القرآن عليه فإنّه يقرأ غير مؤلّف، قالت: وما يضرّك أيّه قرأت قبل، إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنّة والنّار (وذكرت الحديث) (¬4). وهذه القصّة وقعت بعد إرسال عثمان المصاحف إلى الأمصار، بدليل أنّ الّذي حدّث بها عن عائشة يوسف بن ماهك كان بحضرتها عند مجيء ذلك العراقيّ، ويوسف هذا تابعيّ لم يدرك زمان إرسال عثمان ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبيّ (1/ 59 - 60). (¬2) فتح الباري، لابن حجر (9/ 40)، الإتقان، للسّيوطيّ (1/ 175). (¬3) بطوله في المبحث السّابق (ص: 124). (¬4) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4707).

للمصاحف، إنّما كان بعدها، قال الحافظ ابن حجر: «ذكر المزّيّ أنّ روايته عن أبيّ بن كعب مرسلة، وأبيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصّحيح» (¬1). 3 - المعروف عند أهل العلم أنّ مصاحف الصّحابة كانت تختلف في ترتيبها، فترتيب مصحف ابن مسعود غير ترتيب مصحف عليّ، وكذا مصحف أبيّ بن كعب، وجميعا غير ترتيب المصحف العثمانيّ، وفي ذلك عنهم نقول كثيرة وآثار عدّة، فلو كان عندهم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم توقيف في ترتيب سور القرآن لما اختلفوا. وتقدّم أنّ ابن مسعود ممّن شهد العرضة الأخيرة، وكان مصحفه من أشدّ مصاحف الصّحابة اختلافا في ترتيب السّور: فعن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنّي لأعرف النّظائر الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، سورتين في ركعة. قال أبو وائل: ثمّ قام فدخل، فجاء علقمة فدخل عليه، قال: فقلنا له: سله لنا عن النّظائر الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، سورتين في ركعة، قال: فدخل، فسأله، ثمّ خرج إلينا، فقال: عشرون سورة من أوّل المفصّل في تأليف عبد الله (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري (9/ 39)، وانظر «تهذيب الكمال» للمزّيّ (32/ 452). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 3607، 4350) والبخاريّ (رقم: 4710) ومسلم (رقم: 822) والتّرمذيّ (رقم: 602) والنّسائيّ (رقم: 1004) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، به، بعضهم يختصره، والسّياق هنا لأحمد ومسلم. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

وروى ذلك علقمة بن قيس النّخعيّ نفسه والأسود بن يزيد النّخعيّ، فقالا: أتى ابن مسعود رجل، فقال: إنّي أقرأ المفصّل في ركعة، فقال: أهذّا كهذّ الشّعر، ونثرا كنثر الدّقل؟ لكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النّظائر السّورتين في ركعة: النّجم والرّحمن في ركعة، واقتربت والحاقّة في ركعة، والطّور والذّاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنّازعات في ركعة، وويل للمطفّفين وعبس في ركعة، والمدّثّر والمزّمّل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعمّ يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدّخان وإذا الشّمس كوّرت في ركعة (¬1). قال الإمام أبو داود السّجستانيّ: هذا تأليف ابن مسعود. وقصدت بذكر هذا الحديث إبطال زعم من قال: إنّ العرضة الأخيرة كانت على ترتيب السّور في المصحف كما هي اليوم في مصاحف المسلمين، فهذا ابن مسعود كان قد شهدها، ومع ذلك فقد اختلف تأليف السّور في مصحفه. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه بهذه الرّواية: أبو داود (رقم: 1396) قال: حدّثنا عبّاد بن موسى، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن علقمة، والأسود، به. قلت: وهذا إسناد صحيح.

والقول بأنّ التّرتيب للسّور اجتهاديّ لا ينافي تواتر القرآن، فهو مقطوع بنقله تامّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يؤثّر فيه تقديم لسورة وتأخير لأخرى، وليس اعتقاد ذلك التّرتيب من لوازم الإيمان. وما جاء أنّ جبريل كان يعارض النّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن ليس فيه أنّه كان على هذا التّرتيب، فقد تكون تلك المعارضة على ترتيب النّزول. على أنّ الظّاهر أنّ بعض سور القرآن كان مرتّبا منذ عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كالسّبع الطّوال أو بعض سور المفصّل من سورة (ق) إلى آخر القرآن، وإن لم يكن هناك دليل يفيد القطع بالتّرتيب. قال الإمام مالك بن أنس: إنّما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ورأى بعضهم أنّ ترتيبه توقيفيّ إلّا (الأنفال) و (براءة) لما جاء في حديث عثمان المتقدّم، فيكون هذا قولا ثالثا، وليست حجّته بقويّة. وحاصل خلافهم: ترجيح المذهب الثّاني لقوّة دليله، وهو أنّ ترتيب السّور كان باجتهاد من الصّحابة. قال سليمان بن بلال: سمعت ربيعة (هو ابن أبي عبد الرّحمن المعروف بربيعة الرّأي) يسأل: لم قدّمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكّة، وإنّما نزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا، وألّف القرآن على ¬

(¬1) أخرجه الدّاني في «المقنع» (ص: 8) بإسناد صحيح.

المبحث الثالث: أسماء السور

علم ممّن ألّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا ممّا ينتهى إليه ولا يسأل عنه (¬1). المبحث الثالث: أسماء السّور لم يرد نصّ بتسمية كلّ سورة من سور القرآن باسم يخصّها، إنّما وردت أحاديث كثيرة في تسمية كثير من السّور، كالفاتحة والبقرة وآل عمران، وغيرها، ولم يحفظ ذلك في كلّ السّور، والمعتمد فيها ما اعتاده المسلمون من أسمائها. وعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّاس: سورة الحشر، قال: قل سورة النّضير (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1016) قال: حدّثنا أحمد بن عيسى، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، به. قلت: وهذا إسناد صحيح. (¬2) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3805، 4601). قال الدّاوديّ: «كأنّ ابن عبّاس كره تسميتها سورة الحشر؛ لئلّا يظنّ أنّ المراد بالحشر يوم القيامة، أو لكونه مجملا؛ فكره النّسبة إلى غير معلوم» (فتح الباري، لابن حجر: 7/ 332 - 333)، والدّاوديّ اسمه أحمد بن نصر أبو جعفر، فقيه مالكيّ، له شرح على «صحيح البخاريّ».

ففي هذا ما يبيّن أنّ تسمية سور القرآن لم تكن توقيفيّة عند أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلّا لما ساغ لابن عبّاس أن يخالف ذلك. ومن السّور ما له أكثر من اسم، وكلّ ذلك واسع، فالفاتحة ورد تسميتها ب (الفاتحة) و (أمّ الكتاب) و (أمّ القرآن)، وغير ذلك، والعامّة تسمّيها (سورة الحمد)، واسم (التّوبة) و (براءة) لسورة واحدة، و (الإسراء) و (بني إسرائيل) لسورة واحدة، وهكذا. وتقدّم في حديث عثمان، رضي الله عنه، في قصّة البسملة في (براءة) قوله: وينزل عليه- يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم- الآيات، فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا»، وينزل عليه الآية، فيقول: «ضعوا هذه الآية في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا». وأمّا ما تراه مذكورا في فواتح السّور في مصاحف المسلمين من أسمائها؛ فذلك ممّا زاده كتّاب المصاحف تعريفا بالسّورة، كما زادوا ذكر المكّيّ والمدنيّ وعدد آي السّورة، ولم يكن شيء من ذلك موجودا في المصاحف العثمانيّة، فليست تلك التّسمية جزءا من المصحف. على أنّ بعض السّلف كان يحترز من فعل ذلك؛ خشية أن يعدّه النّاس من القرآن: فعن أبي بكر السّرّاج (الزّبرقان بن عبد الله)، قال: قلت لأبي رزين (مسعود بن مالك): أكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ قال: لا، إنّي

المبحث الرابع: فواصل الآيات

أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنّوا أنّه من القرآن (¬1). وأقول: في ذكره مصلحة كذلك، لكن ينبغي أن تدفع الشّبهة الّتي أشار إليها أبو رزين بأن يبيّن ذلك في جملة الاصطلاحات الّتي تلحق بأواخر نشرات المصاحف. المبحث الرابع: فواصل الآيات هل فواصل الآيات توقيفيّة؟ اختلفوا فيها على قولين: الأوّل: توقيفيّة، وقوّاه بعض العلماء بحديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثّلاثين من آل حم 1 يعني الأحقاف، قال: وكانت السّورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سمّيت الثّلاثين (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 241) ومن طريقه: الدّاني في «المحكم» (ص: 16) وإسناده صحيح. وانظر الآثار عن بعض السّلف في كراهة ذلك في كتاب «المصاحف» لابن أبي داود (ص: 138)، وجميعه للعلّة المذكورة. (¬2) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 3981) من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم بن أبي النّجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود. قلت: وهذا إسناد حسن.

ففيه أنّ إحصاء الآيات لكلّ سورة كان معهودا زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما جاء في سورة الفاتحة أنّها سبع آيات (¬1)، و (الملك) أنّها ثلاثون آية (¬2). ¬

(¬1) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2 هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته». أخرجه البخاريّ (رقم: 4204، 4370، 4426، 4720) من حديث أبي سعيد بن المعلّى، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرجه البخاريّ كذلك (رقم: 4427) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّ القرآن هي السّبع المثاني والقرآن العظيم». وسمّيت (الفاتحة) المثاني، لأنّها تثنّى أي تكرّر في كلّ ركعة في الصّلاة. (¬2) كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتّى غفر له، وهي تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ». أخرجه أحمد (رقم: 7975، 8276) وإسحاق بن راهويه في «مسنده» (رقم: 122 - مسند أبي هريرة) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 260 - 261) وأبو داود (رقم: 1400) والتّرمذيّ (رقم: 2893) والنّسائيّ في «اليوم واللّيلة» (رقم: 710) وابن ماجة (رقم: 3786) وابن الضّريس في «فضائل القرآن» (رقم: 236) والفريابيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 33) وابن السّنّيّ في «اليوم واللّيلة» (رقم: 683) وابن حبّان (رقم: 787) والحاكم (رقم: 2075) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2506) من طرق عن شعبة، عن قتادة، عن عبّاس الجشميّ، عن أبي هريرة، به. قال التّرمذيّ: «حديث حسن» وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد». قلت: إسناده حسن، سمعه قتادة كما في رواية أبي عبيد، وعبّاس تابعيّ لا بأس به.

الترجيح

والثّاني: اجتهاديّة، وذلك لعدم ورود شيء صريح فيه، وعدّ آيات السّورة لا يعني تحديد موضع الفاصلة للآية. الترجيح: القول الأوّل- فيما أرى- أشبه بالصّواب؛ لأجل ما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الوقوف على رءوس الآي، وتقطيع القراءة آية آية (¬1)، وأنّه كان يقرأ بالعدد من الآيات في الصّلاة، مع ملاحظة خواتم الآي وما فيها من التّناسق والجناس فيما قد علم حصره من عدد الآي كسورة الفاتحة أو الملك، والّذي يجري نظيره في جميع سور القرآن، جميع ذلك يؤكّد أنّ فواصل الآي توقيفيّة، هكذا تلقّاها النّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما يؤكّد ذلك من جهة أخرى؛ أنّ ما يكون مرجعه لمجرّد الاجتهاد فإنّه يفتقر إلى ميزان منضبط، ورءوس الآي لا تخضع لقاعدة واحدة، ولم يرد ¬

(¬1) كما في حديث أمّ سلمة رضي الله عنها: أنّها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يقطّع قراءته آية آية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. أخرجه أحمد (6/ 302) وأبو داود (رقم: 4001) والتّرمذيّ (رقم: 2928) وغيرهم من طريق يحيى بن سعيد الأمويّ، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أمّ سلمة، ولفظ التّرمذيّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطّع قراءته يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثمّ يقف، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثمّ يقف، وكان يقرأها: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. قال الدّارقطنيّ [وقد روى الحديث في «سننه» (312 - 313)]: «إسناده صحيح، وكلّهم ثقات».

المبحث الخامس: البسملة

عن الصّحابة اختلاف يذكر في ذلك، فلو خضع لاجتهادهم لعلم فيه الاختلاف. ولا يعترض عليه باختلاف قليل وقع في ذلك في قراءات القرّاء السّبعة، من أجل أنّهم رووها كذلك، فيكون اختلافهم في عدّ بعض الآيات من قبيل التّنوّع في الرّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى أيّ تقدير فهذه مسألة ليس فيها تنصيص، ولا يبنى عليها اعتقاد أو عمل. المبحث الخامس: البسملة البسملة (¬1) قرآن بالإجماع، إذ هي بعض آية من سورة (النّمل). وأجمعوا أنّها ليست في فاتحة سورة (التّوبة). وإنّما اختلفوا فيها في فواتح سائر السّور اختلافا كبيرا على مذاهب: الأوّل: هي آية من كلّ سورة غير (التّوبة). ¬

(¬1) قال الإمام مكّيّ بن أبي طالب القيسيّ: «البسملة مشتقّة من اسمين، من (بسم) ومن (الله)، ف (بسم) ملفوظ به واللّام من (الله) جلّ ذكره، وهي لغة للعرب، تقول: (بسمل الرّجل) إذا قال: (بسم الله الرّحمن الرّحيم)، و (حوقل الرّجل) و (حولق) إذا قال: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله)، و (هلّل الرّجل) إذا قال: (لا إله إلّا الله)، وهو كثير» [الكشف عن وجوه القراءات السّبع: 1/ 14].

الثّاني: ليست بآية في جميع السّور، وكتبت في المصحف للتّبرّك. الثّالث: هي آية مستقلّة لا تدخل في حصر آيات السّورة، وإنّما جاءت للفصل بين السّور؟ الرّابع: هي آية من الفاتحة خاصّة، وفاصلة بين السّور فيما عداها. وهذا الأخير أرجحها وأقواها برهانا، إذ لا ينازع أحد أنّها مثبتة في أوائل السّور في المصحف ما عدا سورة التّوبة، وتظاهرت الأدلّة في عدم عدّها آية من تلك السّور غير الفاتحة، وأمّا الفاتحة فالأدلّة صحيحة صريحة في عدّ آياتها سبعا، والبسملة كانت تنزل فاصلة بين السّور، وأثبتت لهذه العلّة في المصحف، والفاتحة أوّل الكتاب، لم يسبقها شيء لتفصل عنه، ونحن وإن كنّا حرّرنا من قبل أنّ ترتيب السّور في القرآن كان اجتهاديّا من الصّحابة، فقد ذكرنا أنّ الظّاهر أن يكون بعضه قد علموا ترتيبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك فاتحة الكتاب، فإنّ تسميتها ب (فاتحة الكتاب) ممّا ثبتت به الرّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني بالضّرورة أن تكون أوّل المصحف، ولم يخالف الصّحابة ذلك عند كتابة المصحف، فحيث أثبتوها بالبسملة في صدرها؛ فقد دلّ على أنّها آيتها السّابعة، وأنّهم هكذا تلقّوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أثّر اختلاف الأدلّة في شأن قراءتها في الصّلاة على مواقف كثير من العلماء، في عدّها آية من الفاتحة أو لا، وهذا ممّا لا ينبغي مع ثبوتها في

المصحف بنفس خطّه. أمّا اختلاف القرّاء في عدّها؛ فإنّه سهل محتمل بعد ما اتّفقوا أنّها قرآن، كما اتّفقوا على ما في المصحف، وإنّما اختلافهم في عدّها آية أو بعض آية، من كلّ سورة أو من الفاتحة فقط (¬1). وأمّا الدّليل على أنّها قرآن كانت تنزل فصلا بين السّورتين وليست منهما، عدا الفاتحة، فحديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعرف خاتمة السّورة حتّى ينزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1، فإذا نزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1 علم أنّ السّورة قد ختمت، واستقبلت أو ابتدئت سورة أخرى (¬2). ¬

(¬1) انظر: النّشر في القراءات العشر، لابن الجزريّ (1/ 271). (¬2) حديث صحيح. أخرجه البزّار (رقم: 2187 - كشف الأستار) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، به. وأخرجه بنحوه: أبو داود (رقم: 788) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 1376) والحاكم (رقم: 845) والبيهقيّ (2/ 42) من طريق ابن عيينة بإسناده. قلت: إسناده صحيح، وبعض من رواه عن سفيان لا يذكر فيه ابن عبّاس، وذكره فيه محفوظ من وجوه صحاح، ولم يتفرّد به سفيان عن عمرو، كما لم يتفرّد به عمرو عن سعيد، ممّا يطول شرحه، والمهمّ هنا أن تعلم أنّ ذلك الاختلاف لا أثر له في صحّة الحديث، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشّيخين». واعلم أنّ مسألة البسملة هذه مسألة طويلة الأطراف، والّذي يهمّنا هاهنا أن نبيّن أنّها قرآن كما هي في المصحف، وأنّها لم تكن من وضع الصّحابة بآرائهم، إنّما لما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّها من الفاتحة، وأنّها كانت تنزل عليه ليعلم فصل السّورة، لذا أثبتوها بين كلّ سورتين غير الأنفال والتّوبة؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات ولم يبيّن لهم أنّها والأنفال سورة واحدة أو سورتان كما دلّ عليه حديث عثمان المتقدّم في المبحث الأوّل من هذا الفصل، فلم يكتبوا سطر البسملة الّذي قد علموا بالتّوقيف أنّه للفصل بين السّورتين. واعلم أنّه ما زاد أحد في القرآن شيئا ولا نقص منه من جميع هؤلاء المختلفين من العلماء في شأن البسملة، خلافا لما زعمه بعض من انتصر إلى مذهب من المذاهب فيها.

المبحث السادس: تتمة في مسائل

المبحث السادس: تتمة في مسائل المسألة الأولى: الأنفال والتّوبة سورتان في قول أكثر العلماء، وذهب بعضهم إلى أنّهما سورة واحدة، والأدلّة أظهر على خلافه، فقد ورد ما يبيّن الفصل بينهما وأنّهما سورتان وإن لم يفصل بينهما بالبسملة، فمن ذلك: 1 - حديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس: سورة التّوبة؟ قال: التّوبة؟ قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حتّى ظنّوا أن لا يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها، قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر، قال: قلت: فالحشر؟ قال: نزلت في بني النّضير (¬1). 2 - حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: آخر آية أنزلت آية الكلالة، وآخر سورة أنزلت (براءة). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4600) ومسلم (رقم: 3031).

وفي لفظ: إنّ آخر سورة أنزلت تامّة سورة التّوبة، وإنّ آخر آية أنزلت آية الكلالة (¬1). المسألة الثّانية: أقسام السّور باعتبار الطّول أربعة: 1 - الطّوال، ويقال: (الطّول) وهي سبع سور: البقرة، وآل عمران، والنّساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. واختلف في السّابعة، فقيل: التّوبة، وقيل: الأنفال والتّوبة كسورة واحدة، وقيل: يونس، بدلهما. 2 - المئين، وهي: السّور الّتي تزيد آياتها على مائة آية أو تقاربها، كالأنفال ويونس وهود والنّحل والإسراء والمؤمنون. 3 - المثاني، وهي: السّور الّتي تكون آياتها أقلّ من مائة، كالنّور والفرقان والقصص ويس والزّمر. واعلم أنّه ورد استعمال لفظ (المثاني) في النّصوص مرادا به ثلاثة معان كلّها تعود إلى القرآن: الأوّل: القرآن كلّه، ومنه قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4106، 4329، 4377، 6363) ومسلم (رقم: 1618)، واللّفظ الثّاني له وحده.

مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزّمر: 23]، وسمّي بذلك لأنّ القصص والأنباء ثنّيت فيه. الثّاني: ما كان دون المئين وفوق المفصّل من السّور. كما في حديث واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه، قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أعطيت مكان التّوراة السّبع الطّوال، ومكان الزّبور المئين، ومكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل» (¬1). والسّبب في إطلاق هذه التّسمية على هذا المقدار من السّور هو نفسه في إطلاقها على جميع القرآن؛ لكونها أكثر اختصاصا به. ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 1012) ومن طريقه: أحمد (4/ 107) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 1389) وابن جرير في «التّفسير» (رقم: 126) والبيهقيّ في «الشّعب» (2/ 465). والطّبرانيّ في «الكبير» (22/ 75) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2484) من طريق عمرو بن مرزوق، كلاهما قالا: حدّثنا عمران القطّان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، به. قلت: وإسناده حسن، عمران صدوق يحسّن حديثه، وسائر الإسناد ثقات. تابع عمران عليه: سعيد بن بشير. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 225) وابن جرير (رقم: 126) والطّبرانيّ في «الكبير» (22/ 76) و «مسند الشّاميّين» (رقم: 2734) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2485) من طرق عنه. قلت: وهي متابعة يعتبر بها.

الثّالث: سورة الفاتحة خاصّة، لحديث أبي سعيد بن المعلّى وغيره (¬1). والسّبب في إطلاق ذلك عليها أنّها تثنّى في الصّلاة في كلّ ركعة (¬2). فلفظ (المثاني) مشترك في هذه المعاني جميعا، يتبيّن المراد به بالقرينة. 4 - المفصّل، وهو: السّور من ق إلى آخر القرآن على قول قويّ، وهو ثلاثة أقسام: طوال، وهي إلى: عَمَّ، وأوساط، وهي إلى وَالضُّحى 1، وقصار وهي ما بقي إلى آخر المصحف. وسمّيت (المفصّل) لكثرة الفصول الّتي بين سورها بالبسملة (¬3). واعلم أنّه ليس هناك دليل يقطع بتحديد أوّل وآخر كلّ قسم من هذه الثّلاثة، وإنّما تكلّم العلماء فيها بالاجتهاد، فهذه سورة الشّعراء مثلا (227) آية، ومع ذلك جاءت في المصحف في سياق سور هي من المثاني. المسألة الثّالثة: تجزئة القرآن وتحزيبه وقسمة الأرباع على الصّورة الّتي توجد في مصاحف المسلمين اجتهاديّة، ولها أصل من فعل أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن على غير هذه القسمة، وكان السّلف يختلفون في ذلك، وليس المعنى فيه تعبّديّا وإنّما هو لتيسير أخذ القرآن. ¬

(¬1) تقدّم ذكره في التعليق (ص: 65، 139). (¬2) انظر: غريب الحديث، لأبي عبيد (3/ 145 - 146). (¬3) انظر: تفسير ابن جرير (1/ 104 - شاكر).

الفصل الثالث: الرسم العثماني

الفصل الثالث: الرسم العثماني المبحث الأول: ما هو الرسم العثماني؟ الرّسم العثماني، هو: شكل الإملاء لخطّ المصحف الإمام الّذي أمر أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، بأن يكتب عليه. ككتابة: (الصّلاة، الرّبا، آيات، يا لوط): الصلاة، الرّبوا، آيات، يا لوط، وهكذا، وليس المراد به نوع الخطّ كالنّسخ والكوفيّ والرّقعة. ولم يجر ذلك على قواعد منضبطة، وإن كان غالبه يعود إلى قاعدة، كما شرحه الإمام أبو عمرو الدّانيّ (¬1). فمثل (الصّلاة، والزّكاة) كتبوهما بالواو بدلا من الألف، وذلك على اعتبار أصلهما، وهو: (صلو، زكو). ومثل (اللّيل) كتبت (الليل) بلام واحدة للإدغام. ومثل (ليكونن، ولنسفعن) كتبتا وَلَيَكُوناً ولَنَسْفَعاً بالتّنوين بدلا من النّون على حكمها عند الوقف. ¬

(¬1) في كتاب «المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار». وانظر كذلك: الإتقان، للسّيوطيّ (2/ 471 - 480).

المبحث الثاني: النقط والشكل فيه

أمّا ما لا يعود من ذلك إلى قاعدة فأحسن ما يقال في جوابه: إنّ الصّحابة كتبوه كذلك لأنّه كان اصطلاح الهجاء في ذلك الوقت. المبحث الثاني: النقط والشكل فيه النّقط هو: وضع النّقطة أو النّقطتين أو النّقط فوق الحرف، والنّقطة أو النّقطتين تحت الحرف، تمييزا له عمّا يشبهه في صورته، مثل: (الباء والتّاء والثّاء والياء والزّاي والقاف). ويسمّى (الإعجام). والشّكل هو: الضّبط بالحركات. هذان الأمران كلاهما محدث لم يكن في المصحف العثماني، وأضيف إلى رسوم المصاحف صيانة للقرآن عن اللّحن والتّصحيف، وذلك على وفق ما نقله متقنو القرّاء من الأداء. وعليه فإنّ ذلك يختلف فيما بين المصاحف باختلاف القرّاء الّذين ضبط المصحف على قراءاتهم، فأنت ترى مثلا مصحفا على رواية حفص عن عاصم، وآخر على رواية ورش عن نافع، يتفاوتان في النّقط والشّكل. فما حكم إضافة ذلك إلى المصاحف؟ جوابه: أمّا السّلف حين بدأ ظهور ذلك؛ فإنّ جماعة منهم كرهوه،

علامات الوقف والسكت وما يتصل بأحكام التلاوة

والمعنى في كراهيّتهم: خوف أن يدخل على المصحف ما ليس منه، فلمّا ضبط النّقل من بعد، وصار اعتماد النّاس على المصاحف بتلاوة النّقلة المتقنين، فإنّ الإجماع وقع على جواز ذلك، وعليه كما ترى مصاحف الأمّة. وترى اختلاف وجوه القراءات الصّحيحة يرجع عامّته إلى النّقط والشّكل، مع اتّحاد الرّسم. مثل قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا [النّساء: 94، والحجرات: 6]، هكذا قرأها من السّبعة نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم، وقرأها حمزة والكسائيّ: فتثبّتوا، فاختلف النّقط، والرّسم كما ترى متّحد. ومثل قوله تعالى: إنّه عمل غير صلح [هود: 46]، هكذا قرأها من السّبعة جميعهم؛ إلّا الكسائيّ، فإنّه قرأها: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فاختلف الشّكل، والرّسم متّحد. ومثل ذلك الهمز والتّسهيل، ك هُزُواً وهُزُواً. والتّشديد والتّخفيف، ك يُنَزِّلَ ويُنَزِّلَ. علامات الوقف والسّكت وما يتّصل بأحكام التّلاوة: كلّ ما تراه في المصحف من ذلك فهو مزيد بحسب ما علم من القرّاء في الأداء أو من أئمّة التّفسير، وليس جزءا من الرّسم العثمانيّ.

المبحث الثالث: حكم المحافظة عليه في خطوط المصاحف

المبحث الثالث: حكم المحافظة عليه في خطوط المصاحف رسم المصحف وقع باجتهاد الصّحابة، ولم تكن الصّفة الّتي ترسم عليها الكلمة ممّا تلقّاه النّاس عن الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، إنّما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبها الكتبة على الصّفة الّتي سمعوها، لم يخرجوا بكتابتهم عمّا سمعوا، وكان ما رسموا عليه حروف الكلمة بما أوتوا من المعرفة بأصول الكتابة، لا بتعليم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم ذلك. وغلط من ظنّ أنّ رسم الكلمة كان بتوجيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّه لم ينقل ذلك في شيء من الأخبار الثّابتة أو شبه الثّابتة (¬1). وممّا يدلّ على رجوع ذلك إلى اجتهادهم؛ قول عثمان للرّهط القرشيّين الثّلاثة الّذين كانوا يكتبون المصحف مع زيد بن ثابت (عبد الله بن الزّبير وسعيد بن العاص وعبد الرّحمن بن الحارث بن هشام): إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن (وفي رواية: في عربيّة ¬

(¬1) من النّاس من ذكر لذلك ما رواه السّمعانيّ في «أدب الإملاء» (ص: 170) من طريق الوليد بن مسلم، حدّثنا يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، قال: قال معاوية رضي الله عنه: كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معاوية، ألق الدّواة، وحرّف القلم، وانصب الباء، وفرّق السّين، ولا تقوّر الميم، وحسّن اللَّهِ، ومدّ الرَّحْمنِ، وجوّد الرَّحِيمِ». قلت: وهذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الإسناد قبل الوليد من لم يعرف بتعديل، والوليد مدلّس تدليس التّسوية، وقبول حديث من يعرف بهذا أن يحفظ السّماع بين كلّ راويين إلى الصّحابيّ، ومكحول لم يلق معاوية.

من عربيّة القرآن) فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم، ففعلوا (¬1). وهذا هو الوجه في نسبة رسم المصحف إلى عثمان؛ لأنّه وقع بأمره وإشرافه، ثمّ أجمع عليه المسلمون، فصاروا لا ينسخون مصحفا إلّا على رسمه، ومذهب جمهور العلماء من السّلف والخلف: وجوب المحافظة على ذلك الرّسم في كتابة أو طبع المصاحف، ولا يحلّ تغييره بتغيّر طرق الإملاء والهجاء، وذلك صيانة للقرآن من تصرّفات النّسّاخ والطّابعين. قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك، فقيل له: أرأيت من استكتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث النّاس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى (¬2). قال الإمام أبو عمرو الدّانيّ: «ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمّة» (¬3). ويزيد قول مالك المذكور بيانا ما نقله عنه أشهب كذلك، قال: سئل ¬

(¬1) طرف من حديث جمع القرآن، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3315، 4699، 4702) من حديث أنس بن مالك. في بعض روايات هذا الحديث كلام للزّهريّ لم يذكر ممّن سمعه، ولهذا لم أحتجّ به، ففي رواية التّرمذيّ (رقم: 3103) قال الزّهريّ: فاختلفوا يومئذ في التَّابُوتُ [البقرة: 248، طه: 39] و (التّابوة)، فقال القرشيّون: (التّابوت)، وقال زيد: (التّابوة)، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التّابوت)، فإنّه نزل بلسان قريش. (¬2) أخرجه الدّاني في «المقنع» (ص: 9 - 10) و «المحكم في نقط المصاحف» (ص: 11) بإسناد يحتمل مثله عن أشهب. (¬3) المقنع (ص: 10).

مالك عن الحروف تكون في القرآن، مثل الواو والألف، أترى أن تغيّر من المصحف إذا وجدت فيه كذلك؟ قال: لا (¬1). فهذا المنع من علماء الأمّة مالك وغيره خشية أن تؤدّي الرّخصة في ذلك إلى الجرأة على القرآن، وهذا مأخذ صحيح. ويؤكّده أنّ الرّسم يحتمل جميع وجوه القراءات الصّحيحة، وتيسير أخذ القراءة المعيّنة كرواية حفص مثلا حاصل بما زيد على ذلك الرّسم من النّقط والشّكل والعلامات، مع بقاء الرّسم نفسه بدون تلك الزّيادات محتملا القراءات الأخرى، فلو رسم على ما يتلى به على قراءة واحدة، فإنّ مصلحة احتمال الرّسم لسائر القراءات تزول، وهذه مفسدة، فإنّ الصّحابة رسموه على ما يحتمل وجوه الأحرف السّبعة المتّفقة في الرّسم، ولم يقصدوا تفويت ذلك على الأمّة، فالمسوّغ لخلاف ذلك مجوّز تفويت هذه المصلحة. وهناك من لا يرى بأسا في كتابة المصحف على ما جرت به قواعد الإملاء الحديثة اليوم، يحسبون ذلك أيسر لتلاوة القرآن، وهذا منهم غلط بيّن، فإنّا نرى في عامّة المسلمين من لا يحسن القراءة، بل لا يعرفها، إلّا في المصحف، ونرى ما ضبط عليه المصحف محقّقا للمقصود على أحسن وجوهه، فحيث انتفت المصلحة الرّاجحة في ذلك، واحتملت المفسدة، بل ترجّحت، فإنّ القول بمنع ذلك أظهر وأبين. ¬

(¬1) المقنع (ص: 28) بنفس الإسناد المشار إليه في التّعليق قريبا عن أشهب.

هل تجب المحافظة على خط المصحف عند الاقتباس منه؟

كذلك نرى في تميّز المصحف في خطّه ورسمه عن سائر الكتب خصوصيّة لكتاب الله، ولو كتب على نمط سائر الكتب لذهب عنه ذلك الاختصاص، وهذه مصلحة أخرى تنضمّ إلى سابقتها لا يصلح تفويتها. ورأينا من يكتب الصّوت بالنّصّ القرآنيّ بغير الحروف العربيّة، ككتابته بحروف لاتينيّة، يقصد به تيسير أخذ القرآن لمن لغته على تلك الحروف. وهذا عمل إذا ضبط فهو حسن وفيه مصلحة بيّنة، لكنّه ليس بمصحف، إنّما هو بمنزلة التّسجيل الصّوتيّ لتلاوة تال للقرآن، فلا يصحّ أن يقال في ذلك (مصحف)، والنّاس وإن كانوا يفعلون ذلك اليوم، فيقولون (المصحف المرتّل) فهو من أغلاطهم الشّائعة، وإنّما المصحف هو المكتوب بين اللّوحين على الرّسم العثمانيّ، فأمّا (بين اللّوحين) فهو مقتضى اللّغة، وأمّا (على الرّسم العثمانيّ) فهو اتّفاق المسلمين بعد عثمان. هل تجب المحافظة على خطّ المصحف عند الاقتباس منه؟ ما تقدّم من وجوب المحافظة على الرّسم فهو عند كتابة مصحف، أمّا اقتباس الكتّاب والمؤلّفين الآية والآيات فليس هناك ما يوجب الوقوف عند رسم المصحف في ذلك النّصّ المقتبس، إذ ليس له خصائصه، ولم يزل علماء الأمّة منذ القديم كما رأيناه في المخطوطات القديمة وإلى اليوم لا يلتزمون الثّبات في ذلك على الرّسم.

المقدمة الثالثة نقل القرآن

المقدمة الثالثة نقل القرآن الفصل الأول: تواتر نقل القرآن الفصل الثاني: القراءات الفصل الثالث: أئمة القراءة***

الفصل الأول: تواتر نقل القرآن

الفصل الأول: تواتر نقل القرآن المبحث الأول: تعريف التواتر التّواتر في اللّغة: قال الجوهريّ: «واترت الكتب فتواترت، أي: جاءت بعضها في إثر بعض وترا وترا، من غير أن تنقطع» (¬1). وفي «شرح القاموس» (¬2): «أصل هذا من الوتر، وهو الفرد، وهو أنّي جعلت كلّ واحد بعد صاحبه فردا فردا، والخبر المتواتر: أن يحدّثه واحد بعد واحد، وكذلك خبر الواحد مثل المتواتر». فمقتضى اللّغة أنّ التّواتر في النّقل تتابع الرّواة برواية الفرد عن الفرد يأتي الواحد في إثر الآخر دون انقطاع. وأمّا في الاصطلاح: فتفاوتت العبارات عند أصحاب الفنون وتباينوا في ذلك تباينا كبيرا، ولكنّهم جميعا اتّفقوا على أنّ التّواتر في الأخبار: هو ما أفاد القطع بصحّتها وأسقط الظّنّ. ¬

(¬1) الصّحاح (مادة: وتر). (¬2) المسمّى «تاج العروس من جواهر القاموس» للزّبيديّ (14/ 338).

بعضهم يشترط رواية العدد عن العدد، وهذا شرط مع شدّة اضطرابهم فيه فإنّه لا يفيده الاستعمال اللّغويّ، وينبغي في باب التّعاريف أن يكون في اللّغة أصل للمعنى الاصطلاحيّ. أمّا إذا قلنا: التّواتر رواية الخبر بطريق يفيد العلم، واكتفينا بهذا في التّعريف، لكان أصحّ، ثمّ تراعى الأسباب الّتي يخلص بها إلى هذه النّتيجة. وهذه الأسباب هي المعبّر عنها بالقرائن الّتي تحتفّ بالخبر، كصدق النّاقل، أو موافقة غيره له مع امتناع الاتّفاق بينهم على الكذب والغلط. فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم روى القرآن عن جبريل عليه السّلام، ورواه جبريل عليه السّلام عن الله ربّ العالمين، وهذه رواية فرد عن فرد، لكنّها أعلى طريق لإفادة العلم واليقين. فههنا الاعتبار بصفات النّاقل. ومسألة من العلم تثبت في السّنّة، يجتمع النّقلة في الأمصار الإسلاميّة في زمن الرّواية على نقلها، لكلّ أهل بلد أسانيدهم وطرقهم فيها حتّى تنتهي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كسنّة المسح على الخفّين، فهذا ممّا لا يرتاب في إفادته القطع واليقين أنّه كان من سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وهاهنا الاعتبار بصفات النّاقل، مع العدد واختلاف البلدان المانع من التّواطؤ على الغلط. ويقابل ذلك حديث يروى عن عدد كثير من الصّحابة إلى كلّ واحد

المبحث الثاني: نقل القرآن

منهم إسناد أو أسانيد، ومع ذلك لا يصحّ، فهو لا يفيد الظّنّ الرّاجح، فضلا عن اليقين، كحديث: «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا» (¬1). ومثله إشاعة تظهر في النّاس، يتناقلها الجمع عن الجمع، فإذا بحثت عن مخرجها وجدتها ترجع إلى الكذب. المبحث الثاني: نقل القرآن لا ريب أن طريق نقل القرآن الرّواية. لكن ما منزلتها في الرّوايات؟ هل نقلت إلينا بطريق التّواتر الّذي يعني أنّ القرآن قطعيّ الثّبوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ القرآن رسالة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنزله الله تعالى قانونا للحياة، فحين كان نبيّه صلى الله عليه وسلم يتلوه على النّاس لم يحمله عنه فرد واحد، بل حملته الأمّة كلّها يومئذ. وقد تقدّم في المقدّمة الثّانية شرح الكيفيّة الّتي جمع بها القرآن، وأنّه كان يحفظ في الصّدور وفي السّطور، وذلك تحقيقا لوعد الله تعالى بحفظه، ليبقى حجّة على النّاس إلى أن تقوم السّاعة. فترى هذا القرآن قد اجتمع عامّة الصّحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ¬

(¬1) وهو حديث روي عن بضعة عشر صحابيّا، وهو على طريقة من يراعي مجرّد العدد في التّواتر يعدّه متواترا، وهذا غلط كبير في العلم، فإنّ الحديث ليس بضعيف فقط، بل شديد الضّعف، كما شرحته في جزء خاصّ.

الاعتناء بنقله وضبط تلاوته وأدائه وروايته، وبقي النّاس ينسخون المصاحف عن أصول الصّحابة، ويقرءون بأداء النّقلة المتقنين، في جميع البلدان، وهو كتاب واحد، برسم واحد، يتلى على أنواع من الأداء قد تلقّتها الأجيال عن الأجيال، لا يزيد فرد على فرد في تلاوته على ما في هذا المصحف، وتأتي عليه القرون بعد القرون لا يزال منه شيء عن موضعه، فهذه دور المخطوطات في العالم كلّه في بلاد الإسلام وغيرها فيها ما لا يحصيه إلّا الله من المصاحف الّتي كتبت في الأزمان والبلدان المختلفة، لا ترى مصحفا يختلف عن الآخر في شيء، وهذه بيوت المسلمين لا يكاد يخلو بيت من مصحف، انظر فيها مشرّقا أو مغرّبا، فلن ترى بينها اختلافا. هذا أحد طريقي نقل القرآن، وهو هذا المصحف وحمل الأمّة له جيلا عن جيل. أمّا إن جئت إلى قراءات القرّاء، فإنّ الأسانيد بها قد انتهت إلى الدّواوين المتواترة عن أصحابها، وهي الكتب الّتي صنّفها أئمّة القراءة في وجوه الأداء للقرآن كما تلقّوها عن أئمّته الكبار، فلمّا صار ذلك علما مضبوطا في كتب خاصّة فقد أغنى النّاس عن استمرار الإسناد إلى اليوم. وذلك كتدوين الحديث في الكتب، فإنّه أغنى الأمّة عن الاشتغال بالإسناد بعدها، فهذا «صحيح البخاريّ» مثلا، فهو مقطوع بصحّته إليه، وإن كانت أغلب الأسانيد منه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم غير متواترة، وهذه مفارقة بينه وبين القرآن، فالقرآن بقراءات أئمّة القراءة محفوظ إلى أولئك الأئمّة

المبحث الثالث: الشبهات حول نقل القرآن

المصنّفين للقراءات بالأسانيد الّتي اجتمعت فيها قرائن التّواتر (¬1). نعم، لم يزل الإسناد موجودا تعتني به طائفة من العلماء وغيرهم للقرآن والحديث، لكنّه ليس الطّريق إلى العلم، وإن كان له مصلحة للقرآن خاصّة إذا أخذ عن المشايخ الكبار، وهي أخذ القرآن عن قارئ متقن قد حمله على ذلك الوجه عن شيخ قبله. وكبار القرّاء الّذين يقومون على مراجعة المصاحف، وعامّتهم ممّن قرأ على الشّيوخ بأسانيدهم، يرجعون في ضبط المصاحف إلى تلك الكتب المصنّفة في الأداء، لا يعتمدون أسانيدهم الخاصّة. المبحث الثالث: الشبهات حول نقل القرآن واعلم أنّه لا نزاع في تواتر نقل القرآن الّذي في المصحف عند عامّة المسلمين (¬2)، وإنّما نازع بعض أصحاب الضّلالة في تواتره فيما بين الصّحابة ¬

(¬1) انظر: النّشر في القراءات العشر، للإمام ابن الجزريّ (1/ 58) وما بعدها. (¬2) وإن أورد أحد ما روي أنّ الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفا، منها: لَمْ يَتَسَنَّهْ في البقرة [الآية: 259] كانت (يتسنّ) بغير هاء، فزاد الحجّاج الهاء، إلى آخر الخبر الّذي أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 49 - 50)، فأقول: هذا خبر كذب، فإنّ مصحف عثمان زمن الحجّاج قد طبق ديار الإسلام، وما كان الحجّاج ليغيّر حرفا من كتاب الله والمصاحف العثمانيّة قد وقعت لكلّ الأمصار، وانتسخ النّاس منها مصاحفهم، والقرّاء يومئذ من الّذين يرجع إليهم النّاس في القراءة موجودون، فإن كان الحجّاج غيّر حرفا في مصحف فوالله ما كان=

وتعلقوا بشبهات، يرجع حاصلها إلى ما يأتي

الّذين جمعوا القرآن في عهد عثمان وبين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نزاع عند هؤلاء في التّواتر بعد عثمان وإلى اليوم. وتعلّقوا بشبهات، يرجع حاصلها إلى ما يأتي: الشّبهة الأولى: موقف ابن مسعود من الجمع العثمانيّ عامّة، وذكر المعوّذتين فيه خاصّة. وهذا تقدّم ذكره وإبطال التّعلّق به في المقدّمة السّابقة. الشّبهة الثّانية: ما كان مذكورا في مصحف أبيّ بن كعب وليس هو في مصاحف المسلمين. وهذا كذلك سبق ذكره مع بعض مثاله، وأنّ مرجعه إلى أنّ أبيّا ربّما قرأ بالمنسوخ من القرآن، وما كان من ذلك فهو من هذا القبيل على أقصى تقدير، أو يكون أبيّ كتبه في مصحفه لنفسه ليحفظه أو يتعاهده، وذلك أنّ مصحفه كان يخصّه، فجائز أن يكون ذلك بمنزلة تعليقة يزيدها الكاتب في هامش كتاب، وممّا قد يؤكّده أنّه لم يؤثر عن أبيّ إنكار لصنيع عثمان ومن ¬

= ليقدر أن يفعله في جميع تلك المصاحف، وإن كان أرهب كثيرا من النّاس يومئذ بظلمه وطغيانه، فما كان ليقدر أن يصمّت جميع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فيحرّف القرآن على مرأى من جميع المسلمين، ثمّ هب أنّ ذلك قد وقع من الحجّاج؛ فأين النّقلة لم يجتمعوا على نقله، ولماذا لم يأت إلّا من طريق عبّاد بن صهيب رجل من المتروكين الهلكى؟ كيف وقد ثبتت الأسانيد الدّالّة على بطلان هذه الحكاية بخصوص كتابة تلك الأحرف؟ ومثل هذا لا يستحقّ الإطالة بأكثر ممّا ذكرت لظهور فساده.

معه من الصّحابة حين كتبوا المصحف، مع أنّهم كانوا يستشيرونه فيما كانوا يصنعون. فعن هانئ البربريّ مولى عثمان، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها: (لم يتسنّ)، وفيها: (لا تبديل للخلق)، وفيها: (فأمهل الكافرين)، قال: فدعا بالدّواة، فمحا إحدى اللّامين، وكتب: لِخَلْقِ اللَّهِ [الرّوم: 30]، ومحا (فأمهل) وكتب: فَمَهِّلِ [الطّارق: 17]، وكتب: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259] ألحق فيها الهاء (¬1). الشّبهة الثّالثة: أخبار وردت في قرآن منسوخ التّلاوة. وسيأتي مثاله في (المقدّمة الرّابعة). وبطلان الاعتراض بهذا ظاهر، فإنّ الله تعالى أنزل قرآنا نسخت تلاوته، وبقي منه شيء محفوظ في السّنن، ومنه ما أنساه الله النّاس في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 286) - ومن طريقه: ابن جرير في «تفسيره» (3/ 38) - قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديّ، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدّثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربريّ، به. قلت: وهذا إسناد جيّد، ورجاله ثقات، أبو وائل اسمه عبد الله بن بحير بن ريسان، ثقة، وهانئ لا بأس به صدوق.

مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. الشّبهة الرّابعة: أخبار وردت بزيادات في بعض آيات الكتاب. وذلك مثل: حديث أسماء بنت يزيد، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزّمر: 53] (¬1). وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: إنّ أكبر آية في القرآن فرجا آية في سورة الغرف (¬2): قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إن شاء (¬3). ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه أحمد (6/ 454، 459، 460، 461) وعبد بن حميد (رقم: 1577) والتّرمذيّ (رقم: 3235) والطّبرانيّ في «الكبير» (24/ 161) والحاكم (رقم: 2982) من طرق عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، به. قلت: وإسناده حسن، شهر بن حوشب صدوق لا بأس به، وبقيّة الإسناد ثقات. قال التّرمذيّ: «حديث حسن غريب». (¬2) يعني سورة الزّمر، وسمّاها بذلك لقوله تعالى فيها: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الآية: 20]. (¬3) أثر صحيح. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 142) من طريق معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن عامر، عن مسروق، عنه به. وإسناده صحيح.

وعن سعد بن أبي وقّاص، رضي الله عنه: أنّه كان يقرأ هذه الآية: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النّساء: 12] لأمّ (¬1). فهذا وشبهه لا يجوز الاعتراض به على نقل الجماعة لكتاب الله، إذ لا يخرج عن احتمال أحد أمرين: الأوّل: أنّها زيادة تفسيريّة أدرجت في السّياق، يكون بعضها من قبيل الحديث المرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، كزيادة (ولا يبالي) في حديث أسماء بنت يزيد، ويكون بعضها من قبيل الرّأي والاجتهاد لأحد الصّحابة في تفسير الآية، كما في زيادة ابن مسعود في آية الزّمر: (إن شاء)، وكما في زيادة سعد بن أبي وقّاص في آية المواريث: (لأمّ) (¬2). ¬

(¬1) أثر صالح الإسناد. أخرجه الدّارميّ في «مسنده» (رقم: 2863) وأبو عبيد (ص: 297) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 4936) وابن جرير (4/ 287) والبيهقيّ في «الكبرى» (6/ 231) من طرق عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن عبد الله بن قانف الثّقفيّ، عن سعد. رواه عنه سفيان الثّوريّ وشعبة بن الحجّاج وهشيم، ويعلى ثقة، والقاسم شيخ ليس بالمشهور، وثّقه ابن حبّان. (¬2) في رواية شعبة ما يؤيّد القول بأنّها كانت تفسيرا من قبل سعد، قال شعبة: عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: قرأت على سعد: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ قال سعد: لأمّه.

وفي هذا ما يشعر بأنّ المصاحف الخاصّة ببعض الصّحابة، كابن مسعود، ربّما تضمّنت بعض العبارات التّفسيريّة، ولم تجرّد للقرآن. قال الإمام أبو جعفر النّحّاس بعد ذكر حديث أسماء وابن مسعود في الزّيادة في آية الزّمر: «هاتان القراءتان على التّفسير» (¬1). والثّاني: أن تكون تلك الزّيادة قرآنا منسوخا، لم يعلم بنسخه بعض الصّحابة، فقرءوا بالمنسوخ، أو كتبوه في مصاحفهم. وذلك مثل ما ورد عن أبي يونس مولى عائشة أمّ المؤمنين، أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، ثمّ قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ 238 [البقرة: 238]، فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ: (حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين)، ثمّ قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) إعراب القرآن، لأبي جعفر النّحّاس (4/ 16). (¬2) حديث صحيح. أخرجه مالك (رقم: 367) قال: عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، به. ومن طريق مالك أخرجه: أحمد (6/ 73، 178) ومسلم (رقم: 629) وأبو داود (رقم: 410) والتّرمذيّ (رقم: 2986) والنّسائيّ (رقم: 472). قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

فهذا من عائشة رضي الله عنها لعدم علمها بالنّسخ، وحفظ ذلك غيرها، فعن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر)، فقرأناها ما شاء الله، ثمّ نسخها الله، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (¬1). فهذان احتمالان كلاهما أو أحدهما وارد على جميع أنماط هذه الزّيادات، ولا يصحّ أن يستدرك على القرآن المحكم بما ورد عليه الشّكّ، بل رجح أنّه إمّا ليس بقرآن أو هو قرآن منسوخ. والعجيب أنّ المعترض بمثل هذا على القرآن ممّن ينتسب إلى الإسلام هم الرّافضة الّذين يطعنون أصلا على جميع الصّحابة الّذين نقل عنهم مثل ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 301) ومسلم (رقم: 630) وأبو داود في «النّاسخ والمنسوخ» (كما في «تهذيب الكمال» 12/ 557) وأبو عوانة في «مستخرجه» (1/ 354) وأبو نعيم الأصبهانيّ في «مستخرجه» (رقم: 1407) من طرق عن فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء، به. زاد: فقال له رجل كان مع شقيق يقال له أزهر: وهي صلاة العصر، قال: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم. قلت: فضيل بن مرزوق فيه كلام من قبل حفظه، وهو لا بأس به، وفي هذا الحديث ثقة، فقد تابعه الأسود بن قيس العبديّ على معناه. علّقه مسلم بعد رواية فضيل، ووصله أبو عوانة (1/ 354) وأبو نعيم في «مستخرجه» (رقم: 1408) وإسناده صحيح.

هذا النّمط من الزّيادات، فليسوا عندهم موضع الثّقة، لكن حين ظنّوا هذه الآثار تخدم أهواءهم تشبّثوا بها!! نعوذ بالله من الهوى. الشّبهة الخامسة: ما قيل: كان عند القرّاء الّذين قتلوا في حرب الرّدّة قرآن لم يكن عند غيرهم، ولم يعلمه أحد بعدهم، فهذا يعني ذهاب جزء من القرآن. وأقول: إنّما تعلّق هؤلاء بما نقل عن ابن شهاب الزّهريّ، قال: بلغنا أنّه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة الّذين كانوا قد وعوه، فلم يعلم بعدهم ولم يكتب، وذلك فيما بلغنا حملهم على أن يتبعوا القرآن، فجمعوه في الصّحف في خلافة أبي بكر خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن معهم كثير من القرآن، فيذهبوا بما معهم من القرآن ولا يوجد عند أحد بعدهم، فوفّق الله عثمان فنسخ تلك الصّحف في المصاحف، فبعث بها إلى الأمصار، وبثّها في المسلمين (¬1). والاعتراض بهذا غلط من جهة الرّواية والدّراية جميعا: ¬

(¬1) أثر لا يصحّ. أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 23) قال: حدّثنا أبو الرّبيع، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، به. قلت: إسناده إلى الزّهريّ صحيح، لكنّه مرسل كما سأذكر، وأبو الرّبيع اسمه سليمان بن داود المهريّ، وابن وهب عبد الله، ويونس هو ابن يزيد الأيليّ صاحب الزّهريّ، والجميع ثقات.

فأمّا الرّواية؛ فهذا بلاغ مرسل، الزّهريّ لم يشهد زمان اليمامة، بل لم يكن ولد يومئذ، فحرب المرتدّين كانت سنة (12) للهجرة، والزّهريّ ولد سنة (50) أو بعدها، فبينه وبين الحدث نحو أربعين عاما أو أكثر، ولم يذكر هذا الخبر عن أحد. ولا يثبت أهل الإنصاف شيئا بمثل هذا النّمط من الأسانيد. كان الإمام يحيى بن سعيد القطّان لا يرى إرسال الزّهريّ وقتادة شيئا، ويقول: «هو بمنزلة الرّيح» ويقول: «هؤلاء قوم حفّاظ؛ كانوا إذا سمعوا الشّيء علقوه» (¬1). يعني بذلك أنّ أحدهم ربّما سمع الإشاعة فثبتت في قلبه، فحدّث بها، فلا يدرى كيف جاءت، ولا من أين مخرجها، وهذا هو الّذي أسقط الاعتبار بمراسيله، وإنّما يقبل من الزّهريّ من الأخبار ما ذكر إسناده به وسلم ذلك الإسناد من الخلل. فإذا كان لا يقبل منه المرسل في الأمر السّالم من المعارض، فأولى أن لا يقبل منه خبر كهذا يشكّك في ضياع بعض القرآن الّذي تعهّد ربّ العالمين بحفظه. ثمّ إنّ هذا المرسل جاء على خلاف الموصول المحفوظ عن الزّهريّ، وذلك أنّه قال: ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتّعديل، لابن أبي حاتم الرّازيّ (ص: 246).

عن عبيد بن السّبّاق، عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إليّ أبو بكر الصّدّيق، رضوان الله عليه، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر، رضوان الله عليه، جالس عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر جاءني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل في المواطن كلّها فيذهب من القرآن كثير، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، الحديث (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح، تقدّم ذكره بطوله عن «صحيح البخاريّ» (ص: 91 - 92). أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 3) وأحمد (رقم: 57، و 5/ 188 - 189) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 281) والبخاريّ (رقم: 4701، 6768، 6989) والتّرمذيّ (رقم: 3103) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7995) وأبو يعلى في «مسنده» (رقم: 63، 64، 65، 91) والبزّار (رقم: 31) وأبو بكر المروزيّ في «مسند أبي بكر» (رقم: 45) والطّبرانيّ في «الكبير» (5/ 164 - 165) وابن حبّان (رقم: 4506) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 41) من طرق عن إبراهيم بن سعد. وأخرجه أبو عبيد (ص: 283) والبخاريّ (رقم: 4402) من طريق شعيب بن أبي حمزة. والطّبرانيّ (5/ 162) من طريق عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر. وأحمد (رقم: 76) وأبو عبيد (ص: 284) والبخاريّ (رقم: 4703) وأبو يعلى (رقم: 71) وأبو بكر المروزيّ (رقم: 46) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (5/ 305) والطّبرانيّ (5/ 163 - 164) وابن حبّان (رقم: 4507) من طرق عن يونس بن يزيد الأيليّ. جميعهم عن ابن شهاب، عن عبيد بن السّبّاق، عن زيد بن ثابت. يذكره بعض من أخرجه مختصرا. هؤلاء الأربعة عن الزّهريّ يذكرون اللّفظ الّذي أوردت في الأصل بهذا الإسناد المتّصل الّذي ذكر الزّهريّ سماعه فيه من ابن السّبّاق، وابن السّبّاق من زيد. وكأنّ الرّواية المنكرة المرسلة عن الزّهريّ وقع فيها اختصار وحذف أفسدها، فإنّ مخرج القصّة من هذا الوجه الّذي لا يختلف على الزّهريّ فيه من قبل حفّاظ أصحابه المذكورين هنا، ومنهم يونس الّذي روى عن الزّهريّ تلك الرّواية المرسلة.

فهذا أصل رواية الزّهريّ لهذه القصّة، ليس فيها ما تضمّنه ذلك البلاغ المبتور من التّشكيك. وأمّا الدّراية؛ فمن وجوه، أهمّها: أوّلا: في الرّواية الصّحيحة لجمع القرآن على عهد أبي بكر أنّه أمر زيد بن ثابت بذلك، وجرى بينهما مراجعات حتّى اقتنع زيد، فلو كان شيء من القرآن ذهب حقيقة، لكان ذكر ذلك أقوى في حجّة أبي بكر لإقناع زيد، وإنّما دفع أبا بكر لذلك الخوف على مستقبل القرآن من عوارض الزّمن كما يستفاد بوضوح من الرّواية. ثانيا: أكثر الصّحابة الّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم أو عرفوا بحفظه في عهده، كأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبي الدّرداء وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كانوا أحياء عند الجمع الأوّل للقرآن، بل أكثرهم بقي إلى زمان الجمع الثّاني في عهد عثمان. فقد كان جميع القرآن عند هؤلاء، فلم يكن لمقتل من قتل في حرب الرّدّة من أثر على شيء من القرآن.

ثالثا: لم يكن مستند الصّحابة عند جمع القرآن في عهد الصّدّيق حفظ الحفّاظ، إنّما كان الحفظ شاهدا مصدّقا، وكان الاعتماد على ما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ما كان الله تعالى ليدع حجّته الباقية على خلقه لا تحملها إلّا قلوب غير معصومة من نسيان أو سهو أو غلط؛ ولذا قام رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بترتيب أمر بقاء هذا القرآن، فاتّخذ له الكتبة العارفين الأمناء، ولم يتركه لمجرّد حفظهم له في صدورهم؛ لذا لم يرد نصّ واحد يوجب على أفراد الصّحابة أو بعضهم استظهار القرآن، وإنّما ندبهم الشّرع إلى ذلك وحثّهم عليه، ولو تعيّن الاستظهار طريقا لحفظ القرآن لفرضه ولو على طائفة. فكيف يظنّ بعدئذ أنّ شيئا من القرآن قد فات بموت بعض حفّاظه؟ رابعا: إن كان لهذه الرّواية أصل، فيكون القرآن الّذي لم يعلم ولم يكتب هو ممّا نسخت تلاوته، فإنّ بعض الصّحابة بقي يحفظ الشّيء من المنسوخ حتّى بعد جمع القرآن، ممّا يدلّ على إمكان حمل بعض من قتل في حرب الرّدّة لشيء من ذلك، ولذلك نقول: كان مستند الجمع المكتوب الّذي خلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، معضّدا بحفظ من شهد العرضة الأخيرة زيد بن ثابت، وإقرار عامّة الصّحابة عليه. الشّبهة السّادسة: ما روي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لقد نزلت آية الرّجم، ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت

سريري، فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته؛ دخل داجن (¬1) فأكلها. وهذا حديث لا يصحّ، فأمّا ذكر الرّضاع فيه فغلط (¬2). ¬

(¬1) الدّاجن: هي الشّاة الّتي تعلف في البيوت. (¬2) أخرجه ابن ماجة (رقم: 1944) وأبو يعلى (رقم: 4587، 4588) من طريق محمّد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة. وعن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، به. قلت: ابن إسحاق صدوق، ومن كانت هذه صفته فإنّ حديثه يكون في درجة الحسن بعد السّبر والنّظر الّذي يخلص منه إلى نقائه من الخلل، كذلك هو رجل مشهور بالتّدليس مكثر منه، يدلّس عن المجروحين، وشرط قبول رواية من هذا حاله أن يذكر سماعه ممّن فوقه، فإذا قال (عن) لم يقبل منه. وابن إسحاق له في هذا الخبر إسنادان كما ترى، وجمعه الأسانيد بعضها إلى بعض وحمل المتن على جميعها ممّا عيب عليه، فربّما كان اللّفظ عنده بأحد الإسنادين فيحمل الآخر عليه؛ لأنّه حسبه بمعناه، وقد لا يكون كذلك. - قيل لأحمد بن حنبل: ابن إسحاق إذا تفرّد بحديث تقبله؟ قال: «لا، والله إنّي رأيته يحدّث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من ذا» (تهذيب الكمال 24/ 422). نعم؛ ربّما كان يرويه تارة فيذكر أحد إسناديه، كذلك أخرجه أحمد (6/ 269) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 118 - 119) من طريق إبراهيم بن سعد، عنه، قال: حدّثني عبد الله بن أبي بكر، فذكره بإسناده دون إسناد ابن القاسم. وحين رأى بعض النّاس تصريح ابن إسحاق بالتّحديث في هذه الرّواية صحّحوها، قالوا: اندفعت شبهة تدليسه، ونقول: فماذا عن شبهة تخليطه؟ ولنجر الكلام في ظاهر الإسناد الآن، فنقول: اندفعت مظنّة التّدليس في روايته عن عبد الله بن أبي بكر، وبقيت قائمة في روايته عن ابن القاسم، هذا على جواز أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= يكون ابن إسحاق حفظه بإسناد ابن أبي بكر. والتّحقيق أنّه لم يحفظه، وذلك أنّ الإمام الحجّة مالك بن أنس قال: عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرّحمن، عن عائشة، قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثمّ نسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن. أخرجه في «الموطّأ» (رقم: 1780) ومن طريقه: الشّافعيّ (2/ 21 - مسنده) وإسحاق بن راهويه (رقم: 1007) ومسلم (رقم: 1452) وأبو داود (رقم: 2062) والتّرمذيّ (بعد رقم: 1150) والنّسائيّ (رقم: 3307) والدّارميّ (رقم: 2170) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 2063، 4566) وابن حبّان (رقم: 4221، 4222) والبيهقيّ في «الكبرى» (7/ 454). فهذا أصل قصّة الرّضعات العشر، ولم يرد ذكر رضاع الكبير أصلا في هذا الحديث في غير رواية ابن إسحاق المختلّة. واللّفظة الأخيرة في رواية مالك: (فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن) غير محفوظة، وسأبيّن علّتها بعد الفراغ من رواية ابن إسحاق. وهذا الحديث ممّا رواه عبد الرّحمن بن القاسم كذلك عن أبيه عن عمرة عن عائشة، كما رواه مالك عن ابن أبي بكر دون الجملة الأخيرة، كما سيأتي. وقصّة رضاعة الكبير كذلك ممّا رواه عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، قالت: جاءت سهلة بنت سهيل، فقالت: يا رسول الله، إنّي أرى في وجه أبي حذيفة شيئا من دخول سالم عليّ، فقال: «أرضعيه» فقالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ألست أعلم أنّه رجل كبير؟» ثمّ جاءت فقالت: ما رأيت في وجه أبي حذيفة شيئا أكرهه. أخرجه أحمد (6/ 38 - 39) ومسلم (رقم: 1453) والنّسائيّ (رقم: 3320) وابن ماجة (رقم: 1943) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الرّحمن بن القاسم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= فهذا أصل رضاع الكبير من حديث عائشة. فكأنّ ابن إسحاق دخل عليه حديث في حديث، وحمل شيئا على شيء، فهو بلغه رواية عبد الله بن أبي بكر لقصّة نزول عشر رضعات، وبلغه رواية عبد الرّحمن بن القاسم لرضاع الكبير، كما بلغه قصّة الرّجم أنّها ممّا كان أنزل من القرآن، فدخل عليه بعض ذلك في بعض، وأخاف أن تكون قصّة الدّاجن كذلك ممّا علق في ذهنه من ذكرها في قصّة الإفك عن عائشة وما لها بهذا الموضع من صلة. ويزيد في تأكيد غلطه وتخليطه في الرّواية المذكورة ما أخرجه مسلم (2/ 1077) وغيره من طريق زينب بنت أبي سلمة، قالت: سمعت أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم تقول لعائشة: والله، ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرّضاعة، فقالت: لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، والله إنّي لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» فقالت: إنّه ذو لحية، فقال: «أرضعيه؛ يذهب ما في وجه أبي حذيفة» فقالت: والله، ما عرفته في وجه أبي حذيفة. قلت: فهذه عائشة تحتجّ على أمّ سلمة بقصّة رخصة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ سالم، فلو كان عندها في ذلك قرآن؛ أتراها تعدل عنه للاستدلال لمذهبها بمجرّد هذه القصّة؟ ثمّ لو كان لديها فيه قرآن فكيف صحّ أن يخالفها في حكمه سائر نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، جميعهنّ يطبقن على ذلك؟ فهذه أمّ سلمة رضي الله عنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهنّ أحدا بتلك الرّضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلّا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصّة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرّضاعة ولا رائينا. (أخرجه مسلم، رقم: 1454). وببعض ما ذكرت تبطل رواية ابن إسحاق، وإذا كان جماعة من العلماء الكبار كأحمد بن حنبل والنّسائيّ نصّوا على أنّ ابن إسحاق ليس بحجّة في الأحكام، فهو أحرى أن لا يكون حجّة تستعمل للتّشكيك في نقل القرآن. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= أعود لبيان الجملة الأخيرة الّتي وقعت في رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة: فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن. روى هذا الحديث عن عمرة ثقتان ضابطان كبيران، كلاهما من التّابعين، الواحد منهما فوق عبد الله بن أبي بكر بدرجات، لم يذكرا في حديثهما هذه اللّفظة: الأوّل: القاسم بن محمّد بن أبي بكر. أخرجه ابن ماجة (رقم: 1942) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 2064، 4561 م) من طريق حمّاد بن سلمة، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان ممّا نزل من القرآن ثمّ سقط: أن لا يحرّم من الرّضاع إلّا عشر رضاعات، ثمّ نزل بعد: أو خمس رضاعات. والثّاني: يحيى بن سعيد الأنصاريّ. أخرجه الشّافعيّ (1/ 21 - مسنده) ومسلم (2/ 1075) والطّحاويّ (رقم: 2065، 2066، 4567، 4568) والبيهقيّ (7/ 454) من طرق عنه، عن عمرة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أنزل في القرآن: عشر رضاعات معلومات، ثمّ أنزل: خمس رضاعات. فهذان الحافظان لم يذكرا ما ذكره عبد الله بن أبي بكر، قال الإمام الطّحاويّ: «القاسم بن محمّد في الحفظ والإتقان فوق عبد الله بن أبي بكر، لا سيّما وقد وافقه على ما روى من ذلك يحيى بن سعيد، وهو فوق عبد الله بن أبي بكر أيضا» (شرح المشكل: 11/ 490). وقال: «والقاسم ويحيى أولى بالحفظ من عبد الله بن أبي بكر؛ لعلوّ مرتبتهما في العلم؛ ولأنّ اثنين أولى بالحفظ من واحد لو كان يكافئ واحدا منهما، فكيف وهو يقصر عن كلّ واحد منهما، مع أنّ حديثه محال؛ لأنّه لو كان ما روى كما روى؛ لوجب أن يلحق بالقرآن، وأن يقرأ به في الصّلوات كما يقرأ فيها سائر القرآن، وأن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركوا بعض القرآن فلم يكتبوه في مصاحفهم، وحاش لله أن يكون كذلك، أو يكون قد بقي من القرآن غير ما جمعه الرّاشدون =

وأمّا قضيّة الرّجم؛ فقد كان شأنها معلوما عند أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّها كانت قرآنا أنزل، فنسخه الله من القرآن وأحكمت السّنّة حكمه، فذهبت التّلاوة، وبقي الحكم، وعليه أدلّة عديدة، منها: 1 - عن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل الله آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها (وفي رواية: وقد قرأتها: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة)، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، (وفي رواية: ولولا أن يقولوا: أثبت في كتاب الله ما ليس فيه لأثبتّها كما أنزلت)، فأخشى إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرّجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرّجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرّجال والنّساء؛ إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل، أو ¬

= المهديّون، ولأنّه لو كان ذلك كذلك؛ جاز أن يكون ما كتبوه منسوخا، وما قصّروا عنه ناسخا، فيرتفع فرض العمل، - ونعوذ بالله من هذا القول ومن قائليه» (شرح المشكل: 11/ 491 ونحوه في 5/ 312 - 313). وقال: «وممّا يدلّ على فساد ما قد زاده عبد الله بن أبي بكر على القاسم بن محمّد ويحيى بن سعيد في هذا الحديث: أنّا لا نعلم أحدا من أئمّة العلم روى هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر غير مالك بن أنس، ثمّ تركه مالك فلم يقل به وقال بضدّه، وذهب إلى أنّ قليل الرّضاع وكثيره يحرّم، ولو كان ما في هذا الحديث صحيحا أنّ ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ لكان ممّا لا يخالفه ولا يقول بغيره» (المشكل: 5/ 315). وكان مالك قال بعد رواية الحديث في «الموطّأ»: «ليس على هذا العمل».

الاعتراف (¬1). فهذا صريح في أنّ آية الرّجم ممّا نسخ الله تعالى تلاوته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بقي محكما إلى موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما تردّد عمر ولا من معه من الصّحابة في إضافته إلى المصحف، ثمّ لا يبقى المحذور الّذي خافه عمر أن يأتي أحد ينكر الرّجم يقول: ليس في كتاب الله. 2 - عن زرّ بن حبيش، قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأيّن تعدّها؟ قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قطّ؟ لقد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: (الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالا من الله، والله عليم حكيم) (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 6441، 6442، 6892) ومسلم (رقم: 1691) من طريق الزّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عبّاس، عن عمر. (¬2) حديث صحيح. أخرجه الطّيالسيّ في «مسنده» (رقم: 540) وعبد الرّزّاق في «مصنّفه» (رقم: 5990) =

3 - عن كثير بن الصّلت، قال: كان سعيد بن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف، فمرّوا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة»، فقال عمر: لمّا نزلت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أكتبنيها، (قال شعبة: فكأنّه كره ذلك)، فقال عمر: ألا ترى أنّ الشّيخ إذا لم يحصن جلد، وأنّ الشّابّ إذا زنى وقد أحصن رجم؟ (¬1). هذه القصّة في زمن الجمع في عهد عثمان، وذلك بقرينة ذكر سعيد، وقد حدّث زيد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ عن عمر في شأن هذه الآية، وفي هذا الحديث ¬

= والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7150) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 132) وابن حبّان (رقم: 4428) والحاكم (رقم: 3554، 8068) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 113، 116) والضّياء المقدسيّ في «المختارة» (رقم: 1164، 1165) من طرق عديدة عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، به. قلت: وإسناده جيّد، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد». وأخرجه عبد الله بن أحمد (5/ 132) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن زرّ. قلت: وهي متابعة صالحة، يزيد هذا لا بأس بحديثه في المتابعات، والإسناد إليه صحيح. - والرّواية الأخرى لابن ماجة (رقم: 2553) من طريق الزّهريّ بإسناد صحيح. والرّواية الثّانية لأحمد (رقم: 352) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7151، 7154) من طريق شعبة بن الحجّاج، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، عن عبد الرّحمن بن عوف، عن عمر، بها. قلت: إسنادها صحيح. (¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 183) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7145) والحاكم (رقم: 8071) والمزّيّ في «تهذيب الكمال» (24/ 130) من طريق محمّد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن كثير بن الصّلت، به. قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، قلت: وهو كما قال.

وحديث أبيّ بن كعب قبله أنّ آية الرّجم حقّ، أنزلها الله تعالى وحفظها الصّحابة، والمذكورون هاهنا هم الّذين تولّوا شأن المصاحف، وإنّما لم يكتبوها في المصحف لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابتها أصلا، كما يدلّ عليه حديث كثير، وكأنّهم حيث لم يؤمروا بكتابتها علموا أنّها ليست من المصحف، وهذا يؤيّد ما ذكرناه قبل من أنّ مستند الصّحابة في كتابة المصحف هو نفس المكتوب الّذي كتبوه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، وحفظ الصّدور إنّما كان شاهدا ومصدّقا. 4 - عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت الشّعبيّ وسئل: هل رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال: رأيته أبيض الرّأس واللّحية، قيل: فهل تذكر عنه شيئا؟ قال: نعم، أذكر أنّه جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). فهذا إثبات لكون الرّجم ثبت حكمه بالسّنّة، وهذا مصدّق لما تقدّم من الأخبار أنّ الرّجم نسخت تلاوته وبقي حكمه، ولو مات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (رقم: 8087) من طريق أحمد بن يونس الضّبّيّ، حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا إسماعيل، به. قال الحاكم: «هذا إسناد صحيح»، قلت: وهو كما قال. وأصله عند البخاريّ (رقم: 6427) من طريق ثانية عن الشّعبيّ. وله طرق عن أمير المؤمنين عليّ، اخترت الّتي عند الحاكم لبيان الشّعبيّ أنّه شهد ذلك، وفيه ردّ على من زعم أنّ الشّعبيّ لم يسمع من عليّ شيئا.

من جملة كتاب الله؛ لما فات مثله عليّ بن أبي طالب ليقول: (رجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه الأخبار الصّحيحة كافية لإبطال ما جاء في تلك الرّواية عن عائشة أنّ آية الرّجم كانت مكتوبة في صحيفة أكلتها الدّابّة. ولو جاءتنا رواية ظاهر إسنادها الصّحّة تخالف نقل الجماعة لكانت تلك الرّواية شاذّة مردودة، فكيف وهي دون ذلك، وخالفت منقول الصّحابة جميعا لأمر خطير تتوافر همم جميعهم على نقله؟ فكيف إذا كان ذلك هو القرآن الّذي أراد الله ربّ العالمين أن يكون حجّته على النّاس أجمعين، يمكّن الله تعالى عنزة من الذّهاب ببعضه؟ فيا للعجب من تفاهات العقول عند مدّعيها من هؤلاء الطّاعنين في القرآن! الشّبهة السّابعة: نصوص لا يملك صاحبها غير مجرّد الدعوى أنّها من القرآن، ولا يقدر أن يذكر ذلك بإسناد واحد ولو كان ضعيفا، وإنّما افتراها مفتر فنسبها إلى أنّها ممّا أسقطه الصّحابة من القرآن، فتبعه أصحاب الضّلالة من بعده من أشياعه على إفكه؛ لأنّهم حسبوا فيه نصر ما ينتمون إليه، كذاك الّذي سمّته الرّافضة (سورة الولاية). هذه جملة ما يشبّه به أصحاب الأهواء من الرّافضة أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشكالهم، ومن اليهود والنّصارى؛ حسدا من عند أنفسهم لما حرموه من الهدى بتحريفهم لكتابهم.

فتأمّل كيف اجتمع الرّافضة وإيّاهم في هذا! تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. وإنّي أحسب من خلال تتبّعي لأباطيلهم أن ليس لهم ما يشبّهون به يخرج عمّا ذكرت، إلّا أن يكون دون ما ذكرت في البطلان والسّقوط. ومنذ سنين طويلة وأنا أتساءل عن سبب حرص المستشرقين على الكتب الّتي صنّفها بعض علماء الإسلام فيما يتّصل بنقل القرآن، ولا أجد الجواب يرجع إليّ إلّا أنّ هؤلاء حاقدون على دين الإسلام، لهم مقاصد سوء، يبحثون عن طريق للطّعن على القرآن، فتراهم أوّل من اعتنى مثلا بنشر كتاب «المصاحف» لأبي بكر بن أبي داود السّجستانيّ، وهو كتاب مفيد للمشتغلين بالعلم، مصنّفه إمام ابن إمام، فقصد هؤلاء إلى نشره وترجموه إلى بعض لغاتهم ظنّا منهم أنّهم وجدوا فيه بعض مرادهم، لما تضمّنه من حكاية قصّة جمع القرآن، والمصاحف الّتي كانت عند بعض الصّحابة ممّا فيه اختلاف حرف أو ترتيب عن مصاحف المسلمين، وقد شرحت أنّه ليس من ذلك شيء فيه مطعن على القرآن العظيم. وهؤلاء المستشرقون مساكين كإخوانهم من أهل البدع، لا يدرون ما الأسانيد، ولا يميّزون صحيح نقل من سقيمه، فجميع الأخبار المحكيّة عندهم مسلّمات، وإنّي لأعذرهم في ذلك، فإنّ اليهود والنّصارى قد حرموا الإسناد، واختصّت به هذه الأمّة الوسط، فأنّى لهم أن يفهموه؟! ***

الفصل الثاني: القراءات

الفصل الثاني: القراءات المبحث الأول: أنواع القراءات باعتبار نقلها القراءات: جمع قراءة، وهي: مذهب من مذاهب النّطق في القرآن يذهب به إمام من القرّاء مذهبا يخالف غيره، مع الموافقة لرسم المصحف، وثبوت الإسناد إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأنواعها أربعة: 1 - متواترة، وهي ما اتّفق عليه القرّاء فيما صحّ نقله عنهم، وهو الغالب في القرآن، وأكثر العلماء يحصر المتواتر بالمنقول عن (السّبعة القرّاء) كعاصم ونافع، وبعضهم يقول: (العشرة القرّاء). ومن الغلط إطلاق القول: (القراءات السّبع متواترة) يعنون كلّ شيء نسب إليها، وإنّما الواجب في التّواتر اتّفاق النّقلة إلى أولئك القرّاء على شيء واحد، ثمّ اتّفاق القرّاء السّبعة أو العشرة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على شيء واحد (¬1). فإن انفرد الإمام من القرّاء بشيء فلا يصحّ وصفه بالتّواتر. 2 - مشهورة، وهي ما صحّ إسناده واشتهر عند القرّاء من غير نكير، ¬

(¬1) انظر: المرشد الوجيز، لأبي شامة المقدسي، (ص: 174 - 177).

ولم يبلغ حدّ التّواتر، مع موافقة الرّسم العثمانيّ والعربيّة. ومثالها: مواضع اختلاف القرّاء المعروفين السّبعة أو العشرة. وفيه مصنّفات، ك «التّيسير» لأبي عمرو الدّانيّ، و «الشّاطبيّة» لأبي القاسم بن فيرة الأندلسيّ، و «النّشر» لابن الجزريّ. 3 - آحاد، وهي ما صحّ سنده، لكن خالف الرّسم العثمانيّ. مثل كثير من القراءات المرويّة عن آحاد الصّحابة، وعلمت عنهم بالإسناد الّذي يروى به الحديث. كقراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدّرداء، رضي الله عنهما: (واللّيل إذا يغشى. والنّهار إذا تجلّى. والذّكر والأنثى) (¬1). والّذي في المصحف: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 3 [اللّيل: 3]. وربّما أطلق بعضهم على قراءة الآحاد وصف الشّذوذ؛ لأجل وقوع التّفرّد بها عن نقل الجماعة، لكن لا يصحّ أن يقصد بذلك أنّ تلك القراءات غير محفوظة إلّا أن يراد: غير محفوظة في المصحف، وذلك لما شرحناه من ¬

(¬1) جزء من حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3532، 3533، 3550، 5922) من طريق إبراهيم النّخعيّ، عن علقمة، قال: قدمت الشّام ... (فذكر لقاءه أبا الدّرداء) وفيه قول أبي الدّرداء لعلقمة: كيف يقرأ عبد الله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى 1؟ قال: فقرأت عليه: (واللّيل إذا يغشى. والنّهار إذا تجلّى. والذّكر والأنثى)، قال: والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى فيّ. وتقدّم لهذا النّمط من القراءات أمثلة، انظر (ص: 80 وما بعدها).

قبل من إسقاط المصحف العثمانيّ من الأحرف السّبعة ما لم يتوافق مع الرّسم، فإذا صحّ الإسناد بشيء من تلك الحروف، فإن سلم من النّسخ؛ فهو على حرف من تلك الحروف لا يجوز إلغاء اعتباره. 4 - شاذّة، وهي ما روي ولم يصحّ سنده. كقراءة (ملك يوم الدّين) (¬1). ¬

(¬1) هذا الحرف نسب إلى الإمام أبي حنيفة، وقد نسبت إليه قراءة مكذوبة عليه، قال ابن الجزريّ في معرض التّمثيل للقراءة الشّاذّة الّتي لا تصحّ أسانيدها: «كقراءة ابن السّميفع وأبي السّمّال وغيرهما في نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس: 92] (ننحّيك) بالحاء المهملة، ولِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً بفتح سكون اللّام، وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، الّتي جمعها أبو الفضل محمّد بن جعفر الخزاعيّ، ونقلها عنه أبو القاسم الهذليّ وغيره، فإنّها لا أصل لها، قال أبو العلاء الواسطيّ: إنّ الخزاعيّ وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خطّ الدّارقطنيّ وجماعة: أنّ الكتاب موضوع لا أصل له» قال ابن الجزريّ: «وقد رويت الكتاب المذكور، ومنه: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء) برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راج ذلك على أكثر المفسّرين ونسبها إليه وتكلّف توجيهها، وإنّ أبا حنيفة لبريء منها» (النّشر: 1/ 16). قلت: الخزاعيّ المذكور متّهم عندهم (انظر: لسان الميزان 5/ 114). وابن السّميفع اسمه محمّد بن عبد الرّحمن بن السّميفع، قال ابن الجزريّ: «له اختيار في القراءة شذّ فيه» وقال في قراءته: «القراءة ضعيفة، والسّند بها فيه نظر، وإن صحّ فهي قراءة شاذّة لخروجها عن المشهور» (غاية النّهاية: 2/ 161 - 162). وأبو السّمّال اسمه قعنب بن أبي قعنب البصريّ، قال ابن الجزريّ: «له اختيار في القراءة شاذّ عن العامّة» وأورد إسناد قراءته إلى عمر بن الخطّاب، وقال: «وهذا سند لا يصحّ» (غاية النّهاية: 2/ 27).

مسألة: لا تجوز القراءة بالشّاذّ في الصّلاة، ولا إضافته إلى القرآن. أمّا الآحاد الصّحيحة؛ فأكثر العلماء على منع القراءة بها؛ لأنّ القرآن يطلب فيه اليقين والقطع، وما ليس في المصحف فإنّه يرد عليه من الاحتمال ما لا يمكن معه الجزم بأنّه من القرآن المحكم، كاحتمال النّسخ له تلاوة. لكن يستفاد من هذا النّوع من القراءات أن تجعل بمنزلة التّفسير للقرآن، أو يستهدى بها في ذلك. قال الإمام أبو عبيد: «ما جاء من هذه الحروف الّتي لم يؤخذ علمها إلّا بالإسناد والرّوايات الّتي يعرفها الخاصّة من العلماء دون عوامّ النّاس، فإنّما أراد أهل العلم منها أن يستشهدوا بها على تأويل ما بين اللّوحين، وتكون دلائل على معرفة معانيه وعلم وجوهه». ثمّ قال بعد أن مثّل ببعض ذلك: «فهذه الحروف وأشباه لها كثيرة قد صارت مفسّرة للقرآن، وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التّابعين في التّفسير فيستحسن ذلك، فكيف إذا روي عن لباب أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم ثمّ صار في نفس القراءة؟ فهو الآن أكثر من التّفسير وأقوى، وأدنى ما يستنبط من علم هذه الحروف معرفة صحّة التّأويل» (¬1). ¬

(¬1) فضائل القرآن، لأبي عبيد الهرويّ (ص: 326 - 327).

المبحث الثاني: شروط صحة القراءة

المبحث الثاني: شروط صحة القراءة لا تصحّ القراءة إلّا إذا حقّقت شروطا ثلاثة: الأوّل: موافقتها للعربيّة بوجه من الوجوه. ولا يوجد في قراءات القرّاء المعروفين ما هو خارج عن العربيّة. قال ابن الجزريّ: «ولا يصدر مثل هذا إلّا على وجه السّهو والغلط وعدم الضّبط، ويعرفه الأئمّة المحقّقون، والحفّاظ الضّابطون، وهو قليل جدّا، بل لا يكاد يوجد» (¬1). كما قطع- رحمه الله- باستحالة وجود ما يصحّ نقله ويوافق رسم المصحف؛ وهو مع ذلك ممّا لا يسوغ في العربيّة (¬2). الثّاني: موافقتها لرسم أحد المصاحف العثمانيّة ولو احتمالا. والمصاحف العثمانيّة قد اختلفت في رسمها في شيء قليل، وكلّه كلام الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] هكذا في مصاحف مكّة والبصرة والكوفة، وبه قرأ جميع السّبعة غير نافع وابن عامر، فهذان قرآ على ما في مصاحف المدينة والشّام، وذلك بغير هُوَ. ¬

(¬1) النّشر (1/ 16)، وذكر عن بعضهم أمثلة لذلك وقال: «والنّظر في ذلك لا يخفى»، كما ذكر بعض المحكيّ عن حمزة الزّيّات وهو من السّبعة، وقال: «تتّبعت ذلك فلم أجده منصوصا لحمزة لا بطرق صحيحة ولا ضعيفة» (النّشر 1/ 17). (¬2) النّشر (1/ 429).

وكقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها 15 [الشّمس: 15] وفلا يخاف عقباها. قال الإمام أبو عبيد: «هذه الحروف الّتي اختلفت في مصاحف الأمصار كلّها منسوخة من الإمام الّذي كتبه عثمان، رضي الله عنه، ثمّ بعث إلى كلّ أفق ممّا نسخ بمصحف، ومع هذا؛ إنّها لم تختلف في كلمة تامّة ولا في شطرها، إنّما كان اختلافها في الحرف الواحد من حروف المعجم، كالواو والفاء والألف وما أشبه ذلك، إلّا الحرف الّذي في الحديد وحده، قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ، فإنّ أهل العراق زادوا على ذينك المصرين (يعني المدينة والشّام): هو، وأمّا سائرها ... فليس لأحد إنكار شيء منها ولا جحده، وهي كلّها عندنا كلام الله» (¬1). وجائز أن يكون الوجه في اختلاف الرّسم لهذه الحروف هو: أنّه حين كتبت أصولها جميعا بإشراف أمير المؤمنين عثمان، من قبل أمناء الوحي زيد بن ثابت وإخوانه، رأوا إمكان تضمين تلك المصاحف بعض الحروف المسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا تعذّر عليهم رسمه جميعا في مصحف واحد، ففرّقت فيها لتبقى محفوظة على الأمّة، كبعض صور اختلاف الأحرف السّبعة الّتي نزل عليها القرآن. والمقصود هنا: أنّ من شرط صحّة القراءة أن تكون موافقة لرسم واحد من هذه المصاحف الّتي عليها قراءات الأئمّة المعتمدين. ¬

(¬1) فضائل القرآن (ص: 333).

المبحث الثالث: فوائد اختلاف القراءات

الثّالث: صحّة الإسناد إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فهذه الثّلاثة شروط صحّة القراءة، ولا بدّ من اجتماعها، وإلّا فلا تكون القراءة صحيحة معدودة من القرآن على سبيل القطع واليقين. المبحث الثالث: فوائد اختلاف القراءات اختلاف القراءات من باب اختلاف التّنوّع، لا اختلاف التّضادّ، وحيث تصحّ القراءة، كقراءات القرّاء السّبعة؛ فإنّ لها من المعاني شيئا عظيم الأثر، توقن معه نفس العارف أنّ هذا القرآن بجميع وجوه قراءاته من عند الله، فمن أبرز تلك الفوائد: 1 - التّخفيف على الأمّة ورفع الحرج عنها بالقراءة على الوجه المتيسّر لها خاصّة ما يتّصل بأحكام مخارج الحروف وصفاتها ونحو ذلك. ولقد علمنا أنّ من حكمة إنزال القرآن على سبعة أحرف التّيسير على الأمّة، والاختلاف في القراءات الصّحيحة جزء من اختلاف الأحرف السّبعة الّتي أنزل عليها القرآن. 2 - الإبانة عن الإعجاز بتنوّع وجوه التّلاوة، فإنّ الاختلاف في الحرف ربّما دلّ على معان من العلم لا توجد في الحرف الآخر، فتكون الكلمة الواحدة تؤدّى على صورتين أو أكثر من النّطق تدلّ كلّ صورة منها على معنى غير الّذي دلّت عليه الأخرى.

وذلك مثل: [1] قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] بفتح اللّام عطفا على الأيدي في الغسل في قراءة نافع وابن عامر والكسائيّ وعاصم من رواية حفص، وبكسر اللّام عطفا على الرءوس في المسح في قراءة الباقين وعاصم من رواية أبي بكر بن عيّاش. وهذه الثّانية دلّت على المسح على الخفّين في قول كثير من أهل العلم. [2] وقراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائيّ: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ 137 [الشّعراء: 136 - 137] أي: ما جئت به كذب وافتراء الأوّلين، وقرأ باقي السّبعة: خُلُقُ أي عادة، فردّوا عليه وعظه قائلين: هذا الّذي نحن عليه عادة الأوّلين وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 138 [الشّعراء: 138]. 3 - تفسير الإجمال في قراءة أخرى، كما في قراءة وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] لأكثر السّبعة، ويَطْهُرْنَ لحمزة والكسائيّ ورواية عن عاصم، ففي الأولى إجمال في احتمال أن تكون طهارتهنّ بمجرّد انقطاع الدّم، وفي الثّانية إبانة عن كون ذلك باغتسالهنّ بعد انقطاع الدّم.

الفصل الثالث: أئمة القراءة

الفصل الثالث: أئمة القراءة المبحث الأول: القراءة سنة متبعة كان جماعة من أئمّة السّلف يقولون: «القراءة سنّة متّبعة»، أي: يأخذها اللّاحق عن السّابق، ويقف الإنسان فيها عند المسموع، لا يقرأ كما يشاء. قال أبو عبيد: «وإنّما نرى القرّاء عرضوا القراءة على أهل المعرفة بها ثمّ تمسّكوا بما علموا منها؛ مخافة أن يزيغوا عمّا بين اللّوحين بزيادة أو نقصان، ولذا تركوا سائر القراءات الّتي تخالف الكتاب، ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربيّة فيها إذا خالف ذلك خطّ المصحف، وإن كانت العربيّة فيه أظهر بيانا من الخطّ، ورأوا تتبّع حروف المصاحف وحفظها كالسّنن القائمة الّتي لا يجوز لأحد أن يتعدّاها» (¬1). ومن الحجّة على ذلك حديث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علّمتم (¬2). ¬

(¬1) فضائل القرآن (ص: 361). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أبو عبيد (ص: 361) والبزّار (رقم: 449) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (رقم: 832) وابن جرير (1/ 12) والحاكم (رقم: 2885، 2886) من طرق عن عاصم بن أبي النّجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن عليّ. قلت: وإسناده جيّد، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد».

وعن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: القراءة سنّة (¬1). وعن محمّد بن المنكدر، قال: القراءة سنّة، يأخذها الآخر عن الأوّل (¬2). وعن عروة بن الزبير، قال: إنّما قراءة القرآن سنّة من السّنن، فاقرءوه كما علّمتموه (¬3). وهذه الآثار تعني أيضا أنّ طريق ضبط قراءة القرآن هو السّماع والتّلقّي من أفواه الشّيوخ، لا يكفي فيه مجرّد الأخذ عن المصحف، حتّى يكون ذلك منقولا محفوظا عن أهله (¬4). ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (رقم: 67 - فضائل القرآن) وأبو عبيد (ص: 361) والطّبرانيّ في «الكبير» (5/ 145 - 146) وابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 50، 52) والحاكم (رقم: 2887) والبيهقيّ في «السّنن» (2/ 385) و «الشّعب» (رقم: 2679) والخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 1596) من طريق عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، قال: قال لي خارجة بن زيد: قال لي زيد بن ثابت، به. قلت: وهذا إسناد حسن، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد». (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 50، 51). (¬3) أثر حسن. أخرجه أبو عبيد (ص: 361) وابن مجاهد (ص: 52) من طرق عن ابن لهيعة، قال: حدّثنا خالد بن أبي عمران، عن عروة، به. قلت: إسناده حسن، رواه عن ابن لهيعة عند ابن مجاهد أبو عبد الرّحمن المقرئ. (¬4) وسيأتي لهذا مزيد بيان في (المقدّمة السّادسة) في الكلام على حكم القراءة بالتّجويد ومراعاة المنقول في التّلاوة.

المبحث الثاني: رواة السبعة

المبحث الثاني: رواة السبعة ثقات النّاس الّذين اعتنوا بكتاب الله قراءة وإقراء على مرّ القرون من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا لا يحصيهم إلّا الله وحده، وأئمّة القراءة المشهورون من بينهم خلق كثير، اعتنى بجمع سيرهم وأحوالهم جماعة من كبار العارفين بهم، فمن أبرز ما صنّف فيهم على سبيل الإفراد: 1 - معرفة القرّاء الكبار، لإمام المؤرّخين الحافظ شمس الدّين أبي عبد الله الذّهبيّ (المتوفّى سنة: 748 هـ). 2 - غاية النّهاية في طبقات القرّاء، لإمام القرّاء شمس الدّين أبي الخير ابن الجزريّ (المتوفّى سنة: 833 هـ). وأدنى ما ينبغي العلم به من سير هؤلاء وأحوالهم معرفة من انتهت أمّة الإسلام في الأمصار إلى نقلهم، وصارت إلى حفظهم وضبطهم، الأئمّة السّبعة الّذين تنسب إليهم القراءات السّبع، ومن عرف بالتّقدّم في حمل قراءاتهم من بعدهم من تلامذتهم أو ممّن بعدهم ممّن تنسب إليهم روايات تلك القراءات. وتتمّة للبحث في نقل القرآن، فهذا مختصر في التّعريف بهؤلاء الأعلام، إذ هم حلقة من أهمّ حلقات سلسلته، مستخلصا بيان درجاتهم في الرّواية والنّقل من كلام أئمّة الشّأن العارفين، معتمدا منهجيّة سادة أئمّة الجرح والتّعديل في علم النّقلة:

1 - إمام أهل المدينة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني

1 - إمام أهل المدينة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني قرأ على سبعين من التّابعين، وأقرأ أكثر من سبعين سنة، وكان حجّة في القراءة، صدوقا في الحديث. وكان جماعة من الكبار يستحبّون قراءته: فعن مالك بن أنس، قال: «قراءة نافع سنّة» (¬1). وقال عبد الله بن وهب المصريّ: «قراءة أهل المدينة سنّة»، قيل له: قراءة نافع؟ قال: «نعم، وعلى قراءة نافع اجتمع النّاس بالمدينة: العامّة منهم والخاصّة» (¬2). وعن اللّيث بن سعد: أنّه حجّ؛ فوجد نافعا إمام النّاس في القراءة لا ينازع (¬3). وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه: أيّ القراءتين أحبّ إليك؟ قال: «قراءة أهل المدينة» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 62). (¬2) أخرجه ابن مجاهد (ص: 62 - 63) وإسناده لا بأس به، وفي «غاية النّهاية» لابن الجزريّ (1/ 331) نسبه لمالك. (¬3) أخرجه ابن مجاهد (ص: 63) وهو صحيح عنه. (¬4) مسائل الإمام أحمد- رواية ابنه عبد الله (نص: 388) ونحوه نقل ابن هانئ في «مسائله عن أحمد» (1/ 102).

اشتهر بنقل قراءته تلميذاه

توفّي نافع سنة (169 هـ). اشتهر بنقل قراءته تلميذاه: 1 - ورش، واسمه: عثمان بن سعيد القبطيّ المصريّ. لقّبه ب (ورش) شيخه نافع، وذلك لشدّة بياضه، والورش شيء يصنع من اللّبن، أو اسم الطّائر المعروف ب (الورشان). كان ثقة حجّة في القراءة، وانتهت إليه في زمانه رئاسة الإقراء بمصر (¬1)، توفّي سنة (197 هـ). 2 - قالون، واسمه: عيسى بن مينا بن وردان الزّرقيّ المدنيّ. (قالون) بالرّوميّة: جيّد، ولقّبه به شيخه نافع لجودة قراءته (¬2). وكان حجّة في القراءة، صدوقا في الحديث، توفّي سنة (220 هـ). 2 - إمام أهل مكة عبد الله بن كثير بن عمرو الداري كان بصيرا بالعربيّة فصيحا، حجّة في القراءة، ثقة في الحديث، وكان الشّافعيّ يختار قراءته (¬3). توفّي سنة (120 هـ). ¬

(¬1) معرفة القرّاء الكبار، للذّهبيّ (1/ 153). (¬2) معرفة القرّاء (1/ 155). (¬3) آداب الشّافعيّ لابن أبي حاتم (ص: 142)، مناقبه، للبيهقيّ (1/ 276).

اشتهر بنقل قراءته

اشتهر بنقل قراءته: 1 - البزّيّ، واسمه: أحمد بن محمّد بن عبد الله المكّيّ. كان إماما ثبتا في القراءة، لكنّه ضعيف في الحديث، ولعلّه شغله الاعتناء بالقرآن عن ضبط الحديث (¬1)، توفّي سنة (250 هـ). ويروي القراءة عن عكرمة بن سليمان بن كثير، عن شبل بن عبّاد، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، كلاهما عن عبد الله بن كثير. وهذا إسناد جيّد. 2 - قنبل، واسمه: محمّد بن عبد الرّحمن بن محمّد المخزوميّ. كان ثقة متقنا للقراءة، توفّي سنة (291 هـ). أخذ القراءة عن أبي الحسن أحمد بن محمّد بن علقمة القوّاس، عن وهب بن واضح أبي الإخريط، عن ابن قسطنطين، عن معروف بن مشكان، وشبل بن عبّاد، عن عبد الله بن كثير. وهذا إسناد جيّد. ¬

(¬1) قال الإمام النّاقد الذّهبيّ في «سير أعلام النّبلاء» (11/ 543) في ترجمة (أبي عمر الدّوريّ) الآتي ذكره قريبا: «جماعة من القرّاء أثبات في القراءة دون الحديث، كنافع، والكسائيّ، وحفص، فإنّهم نهضوا بأعباء الحروف وحرّروها، ولم يصنعوا ذلك في الحديث، كما أنّ طائفة من الحفّاظ أتقنوا الحديث ولم يحكموا القراءة، وكذا شأن كلّ من برّز في فنّ ولم يعتن بما عداه».

3 - إمام أهل البصرة أبو عمرو بن العلاء المازني

3 - إمام أهل البصرة أبو عمرو بن العلاء المازني اختلف في اسمه، والأكثر أنّه: زبّان. كان من أئمّة النّاس في العربيّة والقرآن مع الأمانة والدّين والثّقة. قال ابن مجاهد: «كان مقدّما في عصره، عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللّغة، إمام النّاس في العربيّة، وكان مع علمه وفقهه بالعربيّة متمسّكا بالآثار، لا يكاد يخرج اختياره عمّا جاء عن الأئمّة قبله، متواضعا في علمه، قرأ على أهل الحجاز، وسلك في القراءة طريقهم، ولم تزل العلماء في زمانه تعرف له تقدّمه، وتقرّ له بفضله، وتأتمّ في القراءة بمذاهبه» (¬1). وقد قال شعبة بن الحجّاج لتلميذه عليّ بن نصر الجهضميّ: «انظر ما يقرأ به أبو عمرو ممّا يختار لنفسه، فإنّه سيصير للنّاس إسنادا» (¬2). فقال ابن الجزريّ: «وقد صحّ ما قاله شعبة، رحمه الله، فالقراءة الّتي عليها النّاس اليوم بالشّام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدا يلقّن القرآن إلّا على حرفه، ... ولقد كانت الشّام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمس مائة فتركوا ذلك، ... وأنا أعدّ ذلك من كرامات شعبة» (¬3). ¬

(¬1) السّبعة (ص: 82). (¬2) أخرجه ابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 82 - 83) بسند لا بأس به. (¬3) غاية النهاية في طبقات القرّاء (1/ 292)، وإنّما عنى ابن الجزريّ زمانه.

اشتهر بنقل قراءته

توفّي سنة (154 هـ). اشتهر بنقل قراءته: 1 - الدّوريّ: أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز البغداديّ. كان ثبتا حجّة في القراءة، ليس بمتقن في الحديث، توفّي سنة (246 هـ). 2 - السّوسيّ: أبو شعيب صالح بن زياد. كان حجّة في القراءة، ثقة في الحديث، توفّي سنة (261 هـ). أخذ الدّوريّ والسّوسيّ القراءة عن أبي محمّد يحيى بن المبارك اليزيديّ، عن أبي عمرو. وهذا إسناد صحيح. 4 - إمام أهل الشام عبد الله بن عامر اليحصبي من أئمّة التّابعين، كان إمام الجامع بدمشق، حجّة في القراءة، ثقة في الحديث، وكانت قراءته قراءة أهل الشّام في القرون الأولى. توفّي سنة (118 هـ). اشتهر بنقل قراءته: 1 - هشام بن عمّار أبو الوليد السّلميّ. كان ثبتا في القراءة، صدوقا في الحديث، توفّي سنة (245 هـ).

5 - إمام أهل الكوفة عاصم بن بهدلة ابن أبي النجود الأسدي

أخذ القراءة عن عراك بن خالد بن يزيد المرّيّ، وأيّوب بن تميم، وغيرهما، عن يحيى بن الحارث الذّماريّ، عن ابن عامر. وهذا إسناد صحيح. 2 - ابن ذكوان، واسمه: عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان البهرانيّ. كان ثقة حجّة في القراءة، صدوقا في الحديث، قال أبو زرعة الدّمشقيّ: «لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشّام ولا بمصر ولا بخراسان في زمان عبد الله بن ذكوان أقرأ منه عندي» (¬1)، توفّي سنة (242 هـ). أخذ القراءة عن أيّوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث، عن ابن عامر. وهذا إسناد صحيح. 5 - إمام أهل الكوفة عاصم بن بهدلة ابن أبي النّجود الأسدي انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد أبي عبد الرّحمن السّلميّ، وكان فصيحا متقنا، ومن أحسن النّاس صوتا بالقرآن، صدوقا في الحديث. قال أبو إسحاق السّبيعيّ (وكان فصيحا لا يلحن): «ما رأيت أحدا أقرأ للقرآن من عاصم بن أبي النّجود، ما أستثني أحدا من أصحاب عبد الله» (¬2) يعني: لا يقول إنّ أحدا من أصحاب ابن مسعود كان أقرأ للقرآن منه. ¬

(¬1) تاريخ دمشق، لابن عساكر (27/ 8). (¬2) أخرجه ابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 70) بإسناد صالح.

اشتهر بنقل قراءته تلميذاه

وكان أحمد بن حنبل يرى قراءته في التّرتيب بعد قراءة نافع، فحين سأله ابنه عبد الله: أيّ القراءتين أحبّ إليك؟ قال: «قراءة أهل المدينة، فإن لم يكن فعاصم» (¬1). توفّي عاصم سنة (127 هـ). اشتهر بنقل قراءته تلميذاه: 1 - أبو بكر بن عيّاش الأسديّ الكوفيّ، قيل: اسمه شعبة. كان ثبتا حجّة في القراءة، ثقة صدوقا في الحديث، وكان الإمام أحمد بن حنبل يفضّل روايته عن عاصم على رواية حفص (¬2)، توفّي سنة (193 هـ). 2 - حفص بن سليمان الأسديّ الكوفيّ. كان حجّة في القراءة، ليس بشيء في الحديث. قال الذّهبيّ: «أمّا في القراءة فثقة ثبت ضابط لها، بخلاف حاله في الحديث» (¬3). توفّي سنة (180 هـ). وعلى رواية حفص اليوم أكثر مصاحف المسلمين وقراءتهم. ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد- رواية ابنه عبد الله (نص: 388) ونحوه نقل ابن هانئ في «مسائله عن أحمد» (1/ 102). (¬2) الإنصاف، لأبي الحسن المرداويّ (2/ 59). (¬3) معرفة القرّاء الكبار (1/ 141).

6 - إمام أهل الكوفة حمزة بن حبيب الزيات

6 - إمام أهل الكوفة حمزة بن حبيب الزيات من أئمّة القراءة والفرائض والعربيّة بالكوفة، مع الدّين والصّلاح والعبادة والثّقة. كان يقول: «ما قرأت حرفا قطّ إلّا بأثر» (¬1). وشهد له بذلك الإمام سفيان الثّوريّ، فقال: «ما قرأ حرفا من كتاب الله إلّا بأثر» (¬2). وكان الثّوريّ قد عرض القرآن على حمزة أربع عرضات (¬3). وأمّا ما ورد عن بعض العلماء من كراهة قراءة حمزة؛ فجميع من روي عنه ذلك لم يسمعوا قراءة حمزة منه، وإنّما سمعوها من النّاس، إذ كانت القراءة الشّائعة في الكوفة، وكانت العامّة ربّما بالغت في الإدغام والمدّ والإمالة والهمز، فرأى بعض العلماء ذلك تكلّفا، فعابوا تلك القراءة. قال محمّد بن الهيثم العكبريّ (وكان ضابطا لقراءة حمزة): «واحتجّ من عاب قراءة حمزة بعبد الله بن إدريس أنّه طعن فيها، وإنّما كان سبب هذا أنّ رجلا ممّن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس عبد الله، فقرأ، فسمع ابن ¬

(¬1) أخرجه ابن مجاهد في «السّبعة» (ص: 76) بإسناد جيّد. (¬2) أخرجه ابن مجاهد (ص: 76) بإسناد جيّد. (¬3) أخرجه ابن مجاهد (ص: 75) بإسناد صحيح.

اشتهر بنقل قراءته

إدريس ألفاظا فيها إفراط في المدّ والهمز وغير ذلك من التّكلّف المكروه، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه». قال ابن الهيثم: «وهذا الطّريق عندنا مكروه مذموم، وقد كان حمزة يكره هذا وينهى عنه، وكذلك من أتقن القراءة من أصحابنا» (¬1). فهذا حمزة قرأ وأقرأ بما سمع بالإسناد الصّحيح، ونهى عن التّكلّف في النّطق في التّلاوة، فما عليه بعد ذلك من بأس في قراءته، ولذا صار النّاس من بعد إلى عدّه من الأئمّة السّبعة الّذين عليهم الاعتماد في القراءة. توفّي حمزة سنة (156 هـ). اشتهر بنقل قراءته: 1 - خلف بن هشام أبو محمّد البزّار (¬2). كان ثقة حجّة فاضلا، له اختيار في القراءة أقرأ به، فعدّ أحد القرّاء العشرة، توفّي سنة (229 هـ). 2 - خلّاد بن خالد الشّيبانيّ الكوفيّ. كان صدوقا متقنا، توفّي سنة (220 هـ). أخذ خلف وخلّاد القراءة عن سليم بن عيسى الحنفيّ، عن حمزة. وهذا إسناد صحيح. ¬

(¬1) السّبعة لابن مجاهد (ص: 77). (¬2) براء غير منقوطة في آخره.

7 - إمام أهل الكوفة علي بن حمزة الكسائي

7 - إمام أهل الكوفة علي بن حمزة الكسائي كان أحد أركان العربيّة والقراءة. قال أبو عبيد: «كان من أهل القراءة، وهي كانت علمه وصناعته، ولم نجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه» (¬1). توفّي سنة (189 هـ). اشتهر بنقل قراءته تلميذاه: 1 - أبو الحارث اللّيث بن خالد البغداديّ. كان ثقة ضابطا، مقدّما في قراءة الكسائيّ، توفّي سنة (240 هـ). 2 - الدّوريّ: أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز البغداديّ (¬2). هؤلاء أئمّة القراءة ورواة قراءاتهم، ولكلّ منهم أسانيده في روايته إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، تستفاد من مظانّها، ككتاب «السّبعة» لابن مجاهد، و «التّيسير في القراءات السّبع» للدّاني، و «النّشر في القراءات العشر» لابن الجزريّ. ... ¬

(¬1) معرفة القرّاء الكبار، للذّهبيّ (1/ 122). (¬2) تقدّم في ترجمة أبي عمرو بن العلاء.

المقدمة الرابعة النسخ في القرآن

المقدمة الرابعة النسخ في القرآن الفصل الأول: معنى النسخ وثبوته وحكمته الفصل الثاني: شروط ثبوت النسخ، وما يقع به، وطريق معرفته الفصل الثالث: أنواع النسخ في القرآن الفصل الرابع: مسائل في النسخ الفصل الخامس: شبهات حول النسخ ودحضها ***

الفصل الأول: معنى النسخ وثبوته وحكمته

الفصل الأول: معنى النسخ وثبوته وحكمته المبحث الأول: معنى النسخ المراد ب (النّسخ) في لسان العرب: الرّفع والإزالة، ومنه يقال: (نسخ الكتاب) رفع منه إلى غيره، و (نسخت الشّمس الظّلّ) أزالته. أمّا في استعمال أهل العلم، فقد عرّف أكثر أهل الأصول النّسخ بأنّه: رفع حكم شرعيّ عمليّ جزئيّ ثبت بالنّصّ بحكم شرعيّ عمليّ جزئيّ ثبت بالنّصّ ورد على خلافه، متأخّر عنه في وقت تشريعه، ليس متّصلا به. فالرّفع هو (النّسخ)، والحكم الشّرعيّ المرفوع هو (المنسوخ)، والحكم الشّرعيّ المتأخّر هو (النّاسخ). وهذا المعنى مستفاد من دلالة اللّغة مع موافقة دلالة القرآن في استعمال هذا اللّفظ، على ما سأبيّنه. ويمكن القول: إنّ ابتداء هذا التّعريف المستقرّ اصطلاحا للنّسخ إنّما ظهر في كلام الإمام الشّافعيّ (¬1)، ولم يكن مطّردا قبله وإن كان موجودا، ¬

(¬1) حيث قال في «الرّسالة» (فقرة: 361): «ومعنى (نسخ) ترك فرضه»، وقال (فقرة: 328): «وليس ينسخ فرض أبدا إلّا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة، وكلّ منسوخ في كتاب وسنّة هكذا»، وقال (فقرة: 608): «وإنّما يعرف النّاسخ بالآخر من الأمرين».

معنى النسخ عند السلف

فقد كانوا يطلقون لفظ (النّسخ) على ما هو أوسع من ذلك. معنى النسخ عند السلف: ولمّا تكرّر استعمال السّلف قبل الشّافعيّ لعبارات النّسخ في كلامهم على وجوه مختلفة من المعاني، فإنّه ينبغي الوقوف على مرادهم بذلك، وحاصل القول فيه أنّه واقع على ما يمكن تقسيمه إلى قسمين: الأوّل: نسخ كلّيّ. وهو النّسخ بالمعنى الأصوليّ، وستأتي في هذا الباب جملة من أمثلته. والثّاني: نسخ جزئيّ، وهذا على خمسة أنواع: 1 - تخصيص العامّ: وذلك بورود النّصّ بلفظ يدلّ على استيعاب جميع ما يتناوله ذلك اللّفظ، ثمّ يأتي التّخصيص فيخرج به بعض أفراد ذلك العامّ ويبقى ما سواه مرادا باللّفظ. مثاله: خبر ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية [النّور: 27]، ثمّ نسخ واستثنى من ذلك: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ [النّور: 29] (¬1). ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» (رقم: 1056) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 407 - 408) واللّفظ له، من طريق عليّ بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده حسن، عليّ بن الحسين صدوق حسن الحديث.

2 - تقييد المطلق

ففي الآية الأولى نهى الله عزّ وجلّ عن دخول بيوت الآخرين قبل الاستئذان، وذلك شامل بلفظه لجميع بيوتهم، ثمّ خصّ من النّهي ما كان من تلك البيوت غير مسكون يدخله الإنسان لتحصيل حاجة، فأباح دخوله دون استئذان. فسمّى ابن عبّاس التّخصيص نسخا مع استمرار العمل بالنّصّ الأوّل. 2 - تقييد المطلق: وذلك بورود النّصّ بلفظ يتناول شيئا أو شخصا غير محدّد، فيأتي في موضع آخر ما يحدّده. مثاله: قول قتادة وغيره من السّلف في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] قالوا: نسخت بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التّغابن: 16] (¬1). أمر الله تعالى بالتّقوى أمرا مطلقا في الآية الأولى، ومقيّدا بالاستطاعة في الآية الثّانية، والقاعدة في هذا بناء المطلق على المقيّد، وفي القيد تضييق ¬

(¬1) هو صحيح عن قتادة، أخرجه عبد الرّزّاق في «تفسيره» (1/ 128) وابن جرير (4/ 29 و 28/ 127) وابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص: 242). وروي عن سعيد بن جبير والسّدّيّ وآخرين كذلك.

3 - تبيين المجمل وتفسيره

للسّعة في الإطلاق لا إلغاء معناه، فأنت ترى أنّ الأمر بالتّقوى حاصل بالآيتين، لكن أزيح عن الآية الأولى ما قد يفهم من لفظها الواسع، فيقع للنّاس من الحرج ما لا طاقة لهم به، ففسّرت الآية الثّانية المراد وحدّدته. فسمّوا تقييد المطلق نسخا مع أنّ العمل بالآية الأولى محكم لم يترك، إنّما بيّن وجهه بالآية الثّانية. 3 - تبيين المجمل وتفسيره: كما وقع عند نزول قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284]. فعن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قال: فاشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ بركوا على الرّكب فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير»، قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير، فلمّا اقترأها القوم ذلّت بها ألسنتهم، فأنزل الله

في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ 285، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عزّ وجلّ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: نعم (¬1). فهذا الّذي نزل من القرآن من بعد من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالمغفرة غير مناف للمحاسبة لهم عمّا أسرّوا؛ لأنّ المحاسبة لا تعني العذاب، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً 9 [الانشقاق: 7 - 9]، وأمّا إضمار الكفر والنّفاق وبغض المؤمنين وموالاة الكافرين، فتلك من أعمال القلوب الّتي يحاسب عليها صاحبها ويؤاخذ بها. كما يدلّ أنّ هذه الآية محكمة: امتناع النّسخ في الأخبار أصلا، وسيأتي. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (رقم: 125) وأبو عوانة (1/ 76 - 77) والطّحاوي في «شرح المشكل» (رقم: 1629) وابن حبّان (رقم: 139) من طريق روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.

4 - ترك العمل بالنص مؤقتا لتغير الظرف

4 - ترك العمل بالنّصّ مؤقّتا لتغيّر الظّرف: والمراد به الإزالة الوقتيّة للعمل بالنّصّ الأوّل، لا إسقاط العمل به مطلقا، فاستعماله لم يزل قائما، لكنّه موقوف حتّى يكون الوقت الّذي يناسبه، وليس هكذا النّسخ بمعناه الاصطلاحيّ؛ لأنّ هذه الصّورة ليست معارضة بين نصّين نفى المتأخّر منهما المتقدّم. ومثاله جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصّفح أو الإعراض عن المشركين والكفّار، مع الآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم، فقد زعم بعض السّلف أنّ القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم الأوّل. كما قال التّابعيّ قتادة بن دعامة السّدوسيّ: «كلّ شيء في القرآن فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ منسوخ، نسخته براءة والقتال» (¬1). وهذا هو الّذي عبّرت عنه طائفة بقولهم: (منسوخ بآية السّيف)، يريدون بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التّوبة: 5]. وجميع ذلك ليس من باب النّسخ في شيء، إذ شروط النّسخ منتفية فيه، والعمل بالنّصّين جميعا حاصل. ولبعض العلماء في هذا النّمط من النّصوص تفسير حسن يبقي على الإعمال للنّصّين، كلّ منهما في وقته المناسب له، ويجعل ترك العمل المؤقّت ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 427) بإسناد صحيح.

5 - نقل حكم الإباحة الأصلية

بأحدهما ممّا يندرج تحت قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] على قراءتي عبد الله بن كثير المكّيّ وأبي عمرو بن العلاء البصريّ من السّبعة، فقال الزّركشيّ: «ما أمر به لسبب ثمّ يزول السّبب، كالأمر حين الضّعف والقلّة بالصّبر وبالمغفرة للّذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثمّ نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنّما هو نسء، كما قال تعالى: أَوْ نُنْسِها، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضّعف يكون الحكم وجوب الصّبر على الأذى، وبهذا التّحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين في الآيات الآمرة بالتّخفيف أنّها منسوخة بآية السّيف، وليست كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أنّ كلّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم، ثمّ ينتقل بانتقال تلك العلّة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنّما النّسخ الإزالة حتّى لا يجوز امتثاله أبدا» (¬1). 5 - نقل حكم الإباحة الأصليّة: والمراد به ما كان مسكوتا عنه من الأشياء، كالمآكل والمشارب والملابس، وشبه ذلك، فكان حكمه قبل ورود النّاقل على الإباحة، وهي حكم مستفاد من مجرّد سكوت الشّارع عن ذلك. فوقع في كلام بعض السّلف إطلاق اسم النّسخ على تغيير تلك الإباحة ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن، للزّركشيّ (2/ 42).

إلى حكم جديد بالنّصّ. مثاله: ما وقع منهم في شأن تحريم الخمر، فإنّ النّصوص جاءت فيه على النّحو الّذي ورد في حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، أنّه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في النّساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النّساء: 43]، فدعي عمر فقرئت عليه، ثمّ قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في المائدة: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 19]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: انتهينا، انتهينا (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 442 رقم: 378) وأبو عبيد في «النّاسخ والمنسوخ» (رقم: 254) وأبو داود (رقم: 3670) والتّرمذيّ (رقم: 3049) والنّسائيّ (رقم: 5540) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 388 - 389 و 3/ 958 و 4/ 1200) وابن جرير في «تفسيره» (7/ 33) والنّحّاس في «النّاسخ والمنسوخ» (ص: 148 - 149) والجصّاص في «أحكام القرآن» (1/ 323) والبيهقيّ (8/ 285) والواحديّ في «الوسيط» (2/ 223) والضّياء في «الأحاديث المختارة» (رقم: 256) من طرق عن أبي إسحاق السّبيعيّ، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر، به. قلت: وإسناده صحيح، وإدراك أبي ميسرة لعمر ثابت، وجمهور من رواه عن إسرائيل وصله، فلا يضرّه إرسال من أرسله، كما لا يضرّه خطأ من أخطأ فيه عن أبي إسحاق فجعله عنه عن حارثة بن مضرّب، عن عمر، كما رواه كذلك الحاكم (4/ 143 رقم: 7224)، كذلك قال حمزة الزّيّات، وقول أصحاب أبي إسحاق عنه كما ذكرته أوّلا.

وكان ابن عبّاس يطلق اسم (النّسخ) على ما أفادت الآيتان الأوليان من الإباحة المضيّقة للخمر، فكان يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، نسختهما الّتي في المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ الآية (¬1). فهذا الّذي جاءت به هذه الآيات لم يكن نسخا لشيء، إنّما كانت الخمر قبل نزول هذه الآيات مباحة، لكونها ممّا كان النّاس يتعاطونه كسائر مشاربهم المباحة بأصلها، إذ لم يرد المانع، فلمّا نزلت آية البقرة دلّت النّاس على ما فيها من الضّرر وأخرجتها من دائرة الإباحة المطلقة إلى إباحة مضيّقة، فلمّا نزلت آية النّساء زادت في التّضييق ولم تحرّم تحريما مطلقا، فلمّا ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه أبو داود (رقم: 3672) والبيهقيّ في «الكبرى» (8/ 285) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 279) من طريق عليّ بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، به. قلت: وهذا إسناد حسن.

نزلت آية المائدة أتت على ما بقي من الإباحة الّتي لم تتناولها الآيتان السّابقتان، فهي آيات مصدّقة لبعضها، وليس بينها تناسخ، إذ من شرط صحّة النّسخ- كما سيأتي- ثبوت التّعارض بين النّاسخ والمنسوخ، وهذا معدوم هاهنا فيما بين هذه الآيات، ثمّ إنّ ما دلّت عليه من الحكم لم يسبق إلّا بالإباحة الثّابتة بسكوت الشّارع، لا بنصّه. ولو صحّ إطلاق النّسخ على نقل حكم الإباحة الأصليّة إلى حكم آخر بدليل الشّرع، لساغ أن نقول في كلّ آية تحريم: هي ناسخة لما كان عليه الحال قبل نزولها، وهذا مخالف لما دلّ عليه القرآن من معنى النّسخ، كما ستعلمه من المباحث التّالية (¬1). إذا فهذه الوجوه الخمسة الّتي وقع إطلاق (النّسخ) عليها في كلام السّلف، ليست في التّحقيق من باب النّسخ الّذي استقرّ معناه عند أهل العلم من بعد، وجميعها ممّا يجب التّنبّه له؛ وذلك خشية إبطال العمل بنصّ من نصوص القرآن بالظنّ والوهم، فإنّ أكثر ما ادّعي فيه النّسخ يرجع إلى هذه الوجوه. فإن قلت: فلم سمّوا ذلك نسخا؟ قلت: يجيب عن ذلك العلّامة الشّاطبيّ بقوله: «لأنّ جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أنّ النّسخ في الاصطلاح المتأخّر اقتضى أنّ الأمر ¬

(¬1) وانظر: الموافقات، للشّاطبيّ (3/ 107)، والتّلخيص، للجوينيّ (2/ 460).

المبحث الثاني: ثبوت النسخ في الكتاب والسنة

المتقدّم غير مراد في التّكليف، وإنّما المراد ما جيء به آخرا، فالأوّل غير معمول به، والثّاني هو المعمول به. وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإنّ المطلق متروك الظّاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيّد، فكأنّ المطلق لم يفد مع مقيّده شيئا، فصار مثل النّاسخ والمنسوخ. وكذلك العامّ مع الخاصّ، إذ كان ظاهر العامّ يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللّفظ، فلمّا جاء الخاصّ أخرج حكم ظاهر العامّ عن الاعتبار، فأشبه النّاسخ والمنسوخ، إلّا أنّ اللّفظ العامّ لم يهمل مدلوله جملة، وإنّما أهمل منه ما دلّ عليه الخاصّ، وبقي السّائر على الحكم الأوّل. والمبيّن مع المبهم كالمقيّد مع المطلق. فلمّا كان كذلك استسهل إطلاق لفظ (النّسخ) في جملة هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد» (¬1). المبحث الثاني: ثبوت النسخ في الكتاب والسنة النّسخ واقع في نصوص الوحي بدلالة الكتاب والسّنّة، فمن أدلّة ذلك من كتاب الله تعالى ما يلي: 1 - قوله عزّ وجلّ: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ ¬

(¬1) الموافقات، للشّاطبيّ (3/ 108 - 109).

مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. هذه الآية برهان صريح على وقوع النّسخ في القرآن، بمعنى الإزالة والتّبديل، وذلك بأن ينزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم آية على خلاف آية نزلت قبلها، تغيّر حكمها إلى حكم جديد، هو أرفق بالنّاس أو أعظم لهم ثوابا وأفضل عاقبة ممّا كان لهم قبل ذلك. كما في الآية دليل على إمكان نسخ الآية بوحي سواها، دون أن يكون ذلك الوحي قرآنا يتلى. فإن قلت: فأين توجدنا ذلك فيها؟ قلت: في قوله عزّ وجلّ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، ولم يقل: (نأت بآية خير منها أو مثلها). فإن قلت: لكن كيف يكون شيء غير الآية خيرا منها أو مثلها؟ قلت: التّفاضل بين الآيات ليس من جهة ألفاظها، فجميع ذلك كلام الله، وإنّما من جهة ما فيها من الشّرائع والأحكام بالنّسبة للمكلّف، فالأحكام هي الّتي تتفاضل فيكون بعضها خيرا من بعض، فإذا عادت الخيريّة إلى الأحكام دون اعتبار صيغتها ولفظها، فقد صحّ النّسخ بكلّ ما ثبت أنّ الله تعالى أوحاه لنبيّه صلى الله عليه وسلم. فحاصل المعنى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بوحي خير منها أو مثلها)، وحيث صحّ نسخ الوحي بوحي خير منه للعباد، صحّ نسخه

بوحي مثله في درجته. وهذا يدلّ على أنّ النّسخ كما يكون في القرآن، فإنّه يكون في السّنّة، إذ تساويا في كونهما وحي الله وتنزيله، القرآن بلفظه ومعناه، والسّنّة بمعناها، كما يحقّق ذلك عموم قول الله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى 2 وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى 5 [النّجم: 2 - 5]، وقول الله عزّ وجلّ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وعموم الآيات الآمرة بطاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، والنّصوص النّبويّة تواترت في هذا المعنى، ومن صريح ذلك حديث المقدام بن معدي كرب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السّباع، ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (28/ 410 رقم: 17174) وأبو داود (رقم: 4604) وابن نصر في «السّنّة» (رقم: 244، 403) والطّبراني في «الكبير» (20/ رقم: 668، و 20/ رقم: 670) وغيرهم، من طرق عن حريز بن عثمان، عن عبد الرّحمن بن أبي عوف، عن المقدام، به. قلت: وإسناده صحيح، وله طرق غير هذا.

وكان إمام أهل الشّام التّابعيّ حسّان بن عطيّة يقول: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسّنّة، كما ينزل عليه بالقرآن، فيعلّمه إيّاها كما يعلّمه القرآن (¬1). فكأنّه يعني قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى 5 وهو جبريل عليه السّلام. أمّا معنى قوله: أَوْ نُنْسِها فهو من الإنساء، وهو رفع الله عزّ وجلّ لها من الصّدور، كما قال الله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6 - 7]، وقد ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد قرأ قرآنا ثمّ أنسيه، وأقرأ أصحابه قرآنا فأزاله الله من صدورهم بقدرته. ومن الدّليل على صحّة ذلك ما حدّث به أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن رهط من الأنصار من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه قام رجل منهم في جوف اللّيل يريد أن يفتتح سورة قد كان وعاها، فلم يقدر منها على شيء إلّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فأتى باب النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين أصبح، يسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثمّ جاء آخر، وآخر، حتّى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضا: ما جمعهم؟ فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السّورة، ثمّ أذن لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبروه خبرهم وسألوه عن السّورة، ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه الدّارميّ في «مسنده» (رقم: 594) وابن نصر في «السّنّة» (رقم: 102، 402) وإسناده صحيح.

فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا، ثمّ قال: «نسخت البارحة»، فنسخت من صدورهم ومن كلّ شيء كانت فيه (¬1). وكان الحسن البصريّ يقول في هذه الآية ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها: أقرئ- يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم- قرآنا ثمّ نسّاه، فلم يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه (¬2). فهذا أولى ما قيل في معنى هذه اللّفظة، ويأتي لهذا مزيد استدلال. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الطّحاويّ في «شرح المشكل» (5/ 272 رقم: 2035) والبيهقيّ في «دلائل النّبوّة» (7/ 157) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 110 - 111) والواحديّ في «الوسيط» (1/ 189) من طريق أبي اليمان، قال: حدّثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزّهريّ، حدّثني أبو أمامة، به. قلت: وهذا إسناد صحيح. تابع شعيبا: يونس بن يزيد الأيليّ، عن الزّهريّ، قال: حدّثنا أبو أمامة بن سهل ونحن في مجلس سعيد بن المسيّب، لا ينكر ذلك، أنّ رجلا، فذكره ولم يذكر «الرّهط». أخرجه الطّحاويّ (رقم: 2034) وابن الجوزيّ (ص: 111 - 112). وكذلك أخرجه أبو عبيد في «النّاسخ والمنسوخ» (رقم: 17) من طريق عقيل بن خالد ويونس الأيليّ، كرواية الطّحاويّ الأخيرة. وهذا لا يضرّ، من أجل أنّ شعيبا ثقة متقن، ومن جهة أخرى فإنّ أبا أمامة صحابيّ صغير، ولد في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن جهة ثالثة: إقرار سعيد بن المسيّب له على ما حدّث به. (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير (1/ 475، 476) وإسناده صحيح.

وعلى القراءة الأخرى: نُنْسِها من النّسء، وهو التّأخير، والمعنى على ما تقدّم ذكره في المبحث السّابق عن الزّركشيّ. 2 - وقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 101 قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 102 [النّحل: 101 - 102]. قال مجاهد: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ رفعناها فأنزلنا غيرها. وقال قتادة: هو كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها (¬1). قلت: وهذه الآية دلّت بلا خفاء على ثبوت النّسخ في القرآن، وسكتت عن إمكانه في غيره من الوحي، لكن لك أن تستدلّ منها على وقوع النّسخ في السّنّة الّتي أوحاها الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى. 3 - وقوله سبحانه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرّعد: 39]. هذه آية عامّة فيما يشاء الله محوه وما يشاء إثباته، كمحو الذّنوب بالمغفرة، ومحو الحكم بإبداله بغيره، والآية بسواها، وعلم جميعه عنده سبحانه في كتاب، ما محا منه وما أثبت. وعليه فيصحّ قول من فسّر هذه الآية بإدراج النّاسخ والمنسوخ فيها، كما ¬

(¬1) صحيحان عن مجاهد وقتادة. أخرجهما ابن جرير في «تفسيره» (14/ 176) بإسنادين صحيحين.

روي عن ابن عبّاس (¬1). وصحّ عن عكرمة مولى ابن عبّاس قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: ينسخ الآية بالآية فترفع، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ: أصل الكتاب (¬2). وقال قتادة: قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ، هي مثل قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، وقوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: جملة الكتاب وأصله (¬3). 4 - وقوله جلّ وعلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: 15]. ¬

(¬1) فأخرج عنه ابن جرير (13/ 169) وأبو جعفر النّحّاس في «معاني القرآن» (3/ 502 - 503) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 85 - 86) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ قال: من القرآن، يقول: يبدّل الله ما يشاء فينسخه، وَيُثْبِتُ ما يشاء فلا يبدّله، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يقول: وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب: النّاسخ والمنسوخ، وما يبدّل وما يثبت، كلّ ذلك في كتاب. قلت: وهذا الأثر ضعيف الإسناد، وإن كان معناه محتملا صحيحا. (¬2) أخرجه ابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 86 - 87) بإسناد صحيح. (¬3) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير (13/ 169) وإسناده صحيح. وروي القول بنحو ذلك عن جماعة من السّلف غير من ذكرت.

ودلالة هذه الآية على المقصود في قوله: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي الآية، ففيها برهان على أنّ الله عزّ وجلّ هو الّذي يبدّل الآية بالآية، لا سبيل إلى ذلك إلّا بوحيه وتنزيله. فهذه المواضع الأربعة في كتاب الله أدلّة على إثبات وقوع النّسخ في بعض ما أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم، خاصّة الموضعين الأوّلين، فهما من أبين شيء وأظهره لإثبات ذلك. وقد تظافرت الرّوايات الثّابتة من جهة النّقل على أنّ النّسخ قد وقع لبعض القرآن والأحكام المنزلة، كما سيأتي التّمثيل بطائفة منه. وتواتر عن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر النّسخ والقول به. كما ذهب إلى القول به عامّة أئمّة الإسلام من السّلف والخلف. قال ابن الجوزيّ: «انعقد إجماع العلماء على هذا إلّا أنّه قد شذّ من لا يلتفت إليه» (¬1). ولم يعرف إنكاره عن منتسب إلى العلم إلى القرن الرّابع، حين اشتدّ فشوّ البدع، وذلك بتأويل فاسد سآتي على ذكره في الشّبهات. قال أبو جعفر النّحّاس: «من المتأخّرين من قال: ليس في كتاب الله عزّ وجلّ ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان، واتّبع غير سبيل المؤمنين» (¬2). ¬

(¬1) نواسخ القرآن، لابن الجوزيّ (ص: 84). (¬2) النّاسخ والمنسوخ، للنّحّاس (ص: 40)، وانظر: «الفقيه والمتفقّه» للخطيب البغداديّ (1/ 332)، و «إحكام الفصول» للباجي (ص: 324) و «المسوّدة» لآل تيميّة (ص: 175).

ورأى بعض العلماء أنّه لم يخالف في ثبوت النّسخ أحد من أهل الإسلام، وأنّ ما نسب إلى بعض المتأخّرين فهو على ندرته خلاف منهم في اللّفظ لا في المعنى (¬1). واعلم أنّ مبدأ النّسخ ثابت في شرائع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ولا تأتي شريعة رسول على الوفاق التّامّ لشريعة رسول آخر، كما قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]، ونعلم أنّ الله تعالى نسخ بعض ما كان من الشّرائع في التّوراة برسالة عيسى عليه السّلام، كما قال تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50]، ثمّ نسخ الله عن العباد ممّا كان شريعة في التّوراة والإنجيل، وذلك بما بعث به نبيّه محمّدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، كما قال عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ الآية [الأعراف: 157]. ¬

(¬1) انظر ما حكاه ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (4/ 70). والّذي يشار إليه بذلك الرّأي من المتأخّرين، هو: أبو مسلم الأصفهانيّ، واسمه: محمّد بن بحر، كاتب مفسّر معتزليّ، ولد سنة (254 هـ) وتوفّي سنة (322 هـ)، مترجم في «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 35) و «بغية الوعاة» للسّيوطيّ (1/ 59).

فإذا تبيّن هذا دلّ على أنّ النّسخ في نفس الشّريعة الواحدة ما دام الوحي ينزل جائز غير ممتنع. وقد ذكر جحد النّسخ في شرائع الله عن طائفة من اليهود، بشبهة أنّه يلزم من إثباته اعتقاد البداء (¬1)، وهذا من ضلالهم وجهلهم بالله وحكم أفعاله تبارك وتعالى. وهذا الّذي فرّ منه اليهود بالجحد، وقعت فيه طائفة من باطنيّة الرّافضة الملاحدة، فنسبوا إلى ربّهم هذا الاعتقاد الفاسد (¬2)، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. ¬

(¬1) البداء: ظهور الرّأي بعد أن لم يكن (التعريفات، للجرجانيّ، ص: 62). وانظر: «الإحكام» لابن حزم (4/ 68)، و «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 462)، و «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 326). وذكر هذه العقيدة عن هذه الطّائفة من اليهود جاء في مواضع عديدة، منها: «الفصل» لابن حزم (1/ 180 - 181)، «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ (ص: 178). (¬2) ذكرت هذه العقيدة عن المختار بن أبي عبيد الثّقفيّ الكذّاب الّذي ادّعى النّبوّة، كما في «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ (ص: 118 - 119)، وحكاها طائفة من العلماء عن الرّافضة، فانظر: «مقالات الإسلاميّين» للأشعريّ (1/ 109، 2/ 153)، «البرهان» للجوينيّ (2/ 1295، 1300)، «المستصفى» للغزّاليّ (ص: 131)، «شرح المنار» لابن الملك (2/ 710)، «المسوّدة» لآل تيميّة (ص: 185). وفي بيان فساد هذه العقيدة انظر: «الواضح» لابن عقيل (4/ 198 - 203، 239 - 240)، «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 469)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 109).

المبحث الثالث: الحكمة من النسخ

المبحث الثالث: الحكمة من النسخ النّسخ جار مع مقاصد الشّرع لتحقيق مصلحة المكلّف: 1 - فتارة ينزل الوحي بالحكم الشّاقّ على المكلّفين؛ لأجل اختبارهم وامتحان صدق إيمانهم. كما في نزول قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284]، فقد نال المسلمين منه حرج شديد، فلمّا وقع منهم التّسليم والانقياد أنزل الله عزّ وجلّ تصديق ما في قلوبهم: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285]، ونزلت الآية بعدها بالتّخفيف (¬1). هذا الوجه على قول من يعدّ هذه الصّورة نسخا. 2 - وتارة من أجل التّدرّج في التّشريع لحداثة النّاس بالجاهلية، ولا يخفى ما فيه من تأليف قلوبهم على الإسلام، وتهيئتهم لما أريدوا له من نصر دين الله، إذ كانوا الجيل الّذي اصطفاه الله عزّ وجلّ لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا بالأخفّ فالأثقل تحقيقا لهذه الغاية. مثاله: التّدرّج في الصّلاة في قلّة الرّكعات، ثمّ نسخ ذلك بفرض الصّلاة بركعاتها المعلومة. ¬

(¬1) تقدّم ذكر الحديث فيه (ص: 210 - 211).

فعن أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين ركعتين، في الحضر والسّفر، فأقرّت صلاة السّفر، وزيد في صلاة الحضر. وفي رواية، قالت: فرضت الصّلاة ركعتين، ثمّ هاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السّفر على الأوّل (¬1). وكالتّدرّج في الصّيام بفرض صوم يوم واحد أوّلا هو يوم عاشوراء، ثمّ نسخ بصوم شهر رمضان أو بدفع الفدية لمن شاء بدلا من صومه، ثمّ نسخ بفرض صومه لمن شهده صحيحا مقيما. والدّليل على صحّة ذلك حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: صام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك (¬2). وحديث عبد الرّحمن بن أبي ليلى، قال: حدّثنا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان، فشقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا ترك الصّوم ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 343، 1040، 3720) ومسلم (رقم: 685)، والرّواية الأخرى للبخاريّ. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1793) ومسلم (رقم: 1126) بمعناه. وبمعناه كذلك عن عائشة وابن مسعود وجابر بن سمرة، وغيرهم.

ممّن يطيقه، ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184]، فأمروا بالصّوم (¬1). وحديث سلمة بن الأكوع، رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184]، كان من أراد منّا أن يفطر ويفتدي فعل، حتّى نزلت هذه الآية الّتي بعدها فنسختها (¬2). 3 - كما في النّسخ إظهار نعمة الله عزّ وجلّ بما يرفع به من الحرج والضّيق بنوع سابق من أنواع التّكليف، وخذ مثاله غير ما تقدّم في عدّة المتوفّى عنها زوجها، حيث فرض الله عليها أن تعتدّ عاما كاملا أوّل الأمر، وهذه المدّة على وفاق ما كانت تعتدّه إحداهنّ في الجاهليّة، فخفّف الله عن النّساء بأن جعلها أربعة أشهر وعشرا. فأمّا اعتدادها عاما، فكما في قول الله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: ¬

(¬1) حديث صحيح. علّقه البخاريّ (رقم: 1847) بصيغة الجزم، ووصله البيهقيّ في «سننه» (4/ 200) بإسناد صحيح. وأخرجه كذلك أبو داود (رقم: 506، 507) بإسناد صحيح. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4237) ومسلم (رقم: 1145).

240]، فنسخ الله ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234]. وإظهار الفضل فيه يتبيّن بما حدّث به حميد بن نافع أحد التّابعين، عن زينب بنت أمّ سلمة، قالت: سمعت أمّ سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا»، مرّتين أو ثلاثا، كلّ ذلك يقول: «لا»، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة ترمي بالبعرة على رأس الحول». قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشا (¬1)، ولبست شرّ ثيابها، ولم تمسّ طيبا حتّى تمرّ بها سنة، ثمّ تؤتى بدابّة: حمار أو شاة أو طائر، فتفتضّ به (¬2)، فقلّما تفتضّ بشيء إلّا مات، ثمّ تخرج فتعطى بعرة، فترمي، ثمّ تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره (¬3). ¬

(¬1) الحفش: البيت الصّغير الضّيّق الذّليل. (¬2) فسّره الإمام مالك في نفس الحديث عند البخاريّ حيث سئل: ما تفتضّ به؟ قال: تمسح به جلدها. (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 5024) ومسلم (رقم: 1488، 1489).

وبقي النّاسخ والمنسوخ يتلى في كتاب الله تذكيرا بفضل الله، بما جاء به دينه من التّيسير. 4 - كما يقع في النّسخ تطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه بتمييز هذه الأمّة على الأمم وإظهار فضلها. ومثاله قصّة نسخ استقبال القبلة، حيث كانت حين فرضت الصّلاة إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلت إلى الكعبة. وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآيات [البقرة: 142 - 144]. وسوى ذلك حكم ومقاصد للنّسخ، تندرج سعتها في عموم قول الله عزّ وجلّ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 102 [النّحل: 102]، حيث جاءت هذه الآية ردّا على المشركين في جحدهم النّسخ بقولهم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.

قال الشّافعيّ: «إنّ الله خلق الخلق لما سبق في علمه ممّا أراد بخلقهم وبهم، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، وأنزل عليهم الكتاب تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأخرى نسخها؛ رحمة لخلقه بالتّخفيف عنهم، وبالتّوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنّته والنّجاة من عذابه، فعمّتهم رحمته فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه» (¬1). وفي الجملة فإنّ حقيقة النّسخ تغيير للأحكام بتغيّر الأحوال والظّروف، وإنزال فرفع للآيات لمقتض، وذلك ممّن يعلم مصالح خلقه تبارك وتعالى، وهو على كلّ شيء قدير، كما قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ [النّحل: 101]، وكما قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ 107 [البقرة: 106 - 107]. ومن هذا يتبيّن فساد مذهب الغالطين على ربّهم، الجاهلين به ممّن ضلّ في أمر النّسخ، من المشركين واليهود وغلاة الرّافضة ومن شايعهم من أهل زماننا، وما شأنهم إلّا كما قال الله عن المشركين من قبل: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النّحل: 102]. ... ¬

(¬1) الرّسالة (ص: 106).

الفصل الثاني: شروط ثبوت النسخ، وما يقع به، وطريق معرفته

الفصل الثاني: شروط ثبوت النسخ، وما يقع به، وطريق معرفته المبحث الأول: شروط ثبوت النسخ القول بوقوع النّسخ لآية في كتاب الله، أو حكم ثبت بوحي الله، من أشدّ ما يكون وأخطره، إلّا لمن وقف فيه عند المنقول، وانتهى فيه إلى ما جاء به الرّسول، وبنى فيه على صريح الأصول، وقد قال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15]، فدلّ على أنّ النّسخ لله تعالى وحده، كان ذلك في نصّ كتاب أو نصّ سنّة. وعليه، امتنع ادّعاه النّسخ بالاحتمال، والأصل: وجوب العمل بجميع الأحكام الثّابتة بنصوص الكتاب والسّنّة، واعتقاد أنّها محكمة، حتّى نتيقّن النّسخ؛ لقوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]. قال أبو جعفر النّحّاس: «لا يقال (منسوخ) لما ثبت في التّنزيل، وصحّ فيه التّأويل، إلّا بتوقيف أو دليل قاطع» (¬1). ¬

(¬1) النّاسخ والمنسوخ، للنّحّاس (ص: 355).

الشرط الأول: أن يكونا ثابتين بالنص.

وقال ابن حزم: «لا يحلّ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسّنّة: هذا منسوخ، إلّا بيقين» (¬1). وقال ابن الجوزيّ: «وإطلاق القول برفع حكم آية لم يرفع جرأة عظيمة» (¬2). وقال الموفّق ابن قدامة: «لا يجوز ترك كتاب الله وسنّة رسوله إلّا بنسخ، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال» (¬3). وقال أبو إسحاق الشّاطبيّ: «الأحكام إذا ثبتت على المكلّف، فادّعاء النّسخ فيها لا يكون إلّا بأمر محقّق؛ لأنّ ثبوتها على المكلّف أوّلا محقّق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلّا بمعلوم محقّق» (¬4). وعليه، فالواجب أن يضبط القول بالنّسخ في نصوص الكتاب والسّنّة بشروط، يصحّ معها القول به، وهي تعود في جملتها إلى سبعة شروط، يجب اعتبار جميعها في كلّ من النّصّين: النّاسخ والمنسوخ: الشّرط الأوّل: أن يكونا ثابتين بالنّصّ. أي: يكون كلّ منهما إمّا آية من كتاب الله وإمّا سنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (4/ 83)، ومعناه في «المحلّى» (1/ 53). (¬2) نواسخ القرآن، لابن الجوزيّ (ص: 75). (¬3) المغني في الفقه، لابن قدامة (2/ 666). (¬4) الموافقات، للشّاطبيّ (3/ 105 - 106).

فيصحّ أن تنسخ الآية الآية والسّنّة، كما يصحّ أن تنسخ السّنّة الآية والسّنّة. وصيغة النّصّ تأتي على وجهين: الأولى: صيغة طلب، كالأمر والنّهي. مثاله في الحكم النّاسخ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144]، ومثاله في المنسوخ قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12]. والثّانية: صيغة خبر معناه الطّلب. كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234]، فهذا خبر معناه الأمر. فأمّا سائر نصوص الأخبار في الكتاب والسّنّة ممّا لم يقصد به الطّلب، كالإخبار عن الأمم الماضية، والإخبار عمّا سيكون كأشراط السّاعة واليوم الآخر، فهذه لا يدخلها النّسخ؛ لأنّ خبر الصّادق يستحيل الرّجوع عنه، لما يقتضي ذلك من الإخبار بخلاف الواقع في أحد الخبرين، فإنّ من قال: (جاء زيد) ثمّ قال بعده: (لم يأت) فأحد خبريه على خلاف الواقع جزما، بكذب أو وهم، وخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منزّه عن ذلك (¬1). ¬

(¬1) وانظر: «فهم القرآن» للحارث المحاسبيّ (ص: 332)، «النّاسخ والمنسوخ» للنّحّاس (ص: 531)، «الإحكام» لابن حزم (4/ 72 - 73)، «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 332).

1 - مذاهب الصحابة وأقوالهم.

وزعم بعض من ينسب إلى السّنّة في مسألة (امتناع النّسخ في الأخبار) أنّ النّسخ ممتنع في الأخبار إلّا أخبار الوعيد، فإنّه يجوز فيها النّسخ. وهذا القول خطأ بيّن، فإنّ خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في وعد أو وعيد حقّ كما أخبرنا به، وهو واقع كما جاء به الخبر، ولا يستشكل أنّ الله تعالى قد لا ينفذ الوعيد؛ لأنّه أخبرنا أنّ وعيده بمشيئته، فإن شاء عذّب عدلا، وإن شاء رحم فضلا، كما هو الشّأن في عصاة الموحّدين، وأخبرنا أنّ فريقا ممّن استحقّوا الوعيد لا انفكاك لهم عنه بحال، كالكفّار في نار جهنّم، فأيّ نسخ يكون فيه وهو إمّا منجّز وإمّا معلّق بنفس دلالة الخبر؟ ودلّ تحقيق هذا الشّرط على أنّ النّسخ لا يتصوّر وقوعه بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لانقطاع الوحي، وعليه فلا نسخ بشيء من المسالك الثّلاثة التّالية: 1 - مذاهب الصّحابة وأقوالهم. فأقاويلهم كانت تصدر منهم باجتهاد، لا ينزّل منها شيء منزلة النّصّ، فلو نقل عن بعضهم الرّأي بخلاف النّصّ، فرأيه محكوم بالنّصّ، ويعتذر عن الصّحابيّ في خلافه له. فمثلا ما زعمته طائفة أنّ حلّ نكاح المتعة كان محكما، وإنّما حرّمه عمر بن الخطّاب، فهذا خطأ، وإنّما حرّم عمر ما ثبت تحريمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، وما كان لعمر ولا لأحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبدّل المحكمات من دين ¬

(¬1) انظر: «تحريم نكاح المتعة» للحافظ أبي الفتح نصر المقدسيّ.

2 - الإجماع.

الإسلام، ولا تعرف مثل هذه الدّعوى عن منتسب إلى السّنّة والعلم. قال الموفّق ابن قدامة: «وما كان جائزا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره، ولأنّ نسخ الأحكام إنّما يجوز في عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ النّصّ إنّما ينسخ بنصّ مثله، وأمّا قول الصّحابيّ فلا ينسخ ولا ينسخ به، فإنّ أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتركونها بأقوالهم» (¬1). وممّا يجوز أن يرجع إلى اجتهاد الصّحابيّ قوله: (هذا النّصّ منسوخ) فليس له حكم المرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يقضى به على النّصّ، حتّى يذكر النّاسخ ويفسّر دعواه بما ينطبق ومعنى النّسخ، خاصّة مع ما تقدّم من إطلاق بعض الصّحابة النّسخ على تخصيص العامّ أو تقييد المطلق، أو شبه ذلك. والقول بعدم قبول النّسخ بهذا الطّريق عليه جمهور العلماء (¬2). 2 - الإجماع. وليس المراد به ما اتّفق عليه المسلمون من نصوص الكتاب والسّنّة، فإنّ هذا الإجماع عائد إلى النّصّ، وإنّما يراد به: القول الّذي لا يعرف له مخالف. ¬

(¬1) المغني في الفقه (9/ 531) قاله في مسألة (أمّهات الأولاد). (¬2) انظر: «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 532)، «المستصفى» للغزّاليّ (ص: 151)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 181)، «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 360)، «المسوّدة» لآل تيمية (ص: 207).

والسّبب في عدم صحّة الاستناد إليه في النّسخ، أنّه ليس بحجّة بنفسه في التّحقيق (¬1)، ثمّ إنّه جاء بعد النّصّ (¬2). وفي هذا إبطال لمذهب من قال بنسخ بعض النّصوص بالإجماع، كدعوى نسخ قتل شارب الخمر في الرّابعة (¬3)، وظنّ نسخ آية الاستئذان الّتي في سورة النّور: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [الآية: 58]، وذلك بترك عمل النّاس بها (¬4). ومن أفسد المقالات في هذه المسألة قول من قال: إنّ الإجماع على ترك ¬

(¬1) انظر كتابي «تيسير علم أصول الفقه» (ص: 164). (¬2) انظر: «الواضح» لابن عقيل (4/ 317)، «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 531)، «روضة النّاظر» لابن قدامة (1/ 265)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 161)، «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 361)، «المسوّدة» لآل تيمية (ص: 183)، «شرح المنار» لابن الملك (2/ 716). (¬3) والمراد به ما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثمّ إن شرب فاقتلوه»، وهو حديث صحيح، ودعوى نسخه بترك العمل به اشتهرت عن الإمام التّرمذيّ صاحب «السّنن»، حيث ذكر ذلك في كتاب «العلل» في آخر «جامعه». وللعلّامة الشّيخ محمّد أحمد شاكر حول الحديث وما ذكر من دعوى النّسخ، بحث مفيد، جدير بالمراجعة، وذلك في تعليقه على «المسند» للإمام أحمد (9/ 40 - 70). (¬4) وهي آية محكمة، كما شرحت ذلك وبيّنت الخطأ في ظنّ نسخها في كتابي «أحكام العورات في الكتاب والسّنّة».

3 - القياس.

العمل بالنّصّ يدلّ على وجود النّاسخ، لكنّه لم يصلنا. وفساد هذا القول من جهة ما فيه من اعتقاد ضياع شيء من الدّين وحفظ ما يعارضه! وهذا ضلال وجهل من قائله، فإنّ الله الّذي أكمل لنا الدّين قد تعهّد بحفظه، وإن كان يخفى بعضه على الأفراد فلا يجوز أن يخفى جميعه على جميع الأمّة، فإنّ اتّفاقها على تضييع نصّ من نصوص الشّرع اتّفاق منها على الضّلال، فكيف يصحّ هذا وهي معصومة منه؟ 3 - القياس. وسبب عدم اعتبار النّسخ به أنّه دليل اجتهاديّ، شرط صحّته البناء على النّصّ، فإذا خالف نصّا آخر فاحتمال النّسخ وارد بين النّصّ الّذي استفيد منه حكم القياس والنصّ المعارض له، لا بين نصّ وقياس (¬1). على أنّ القياس لا يصحّ وروده بخلاف النصّ. الشّرط الثّاني: أن يكونا ثابتين نقلا. وهذا الشّرط معتبر عند ما تكون السّنّة طرفا في النّسخ، أمّا إذا كان مستند النّسخ الآية من كتاب الله فهذا شرط لا يطلب فيه. ¬

(¬1) انظر: «الفقيه والمتفقّه» للخطيب البغداديّ (1/ 333)، «الإحكام» لابن حزم (4/ 120)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 288، 314)، «المغني» للخبّازي الحنفي (ص: 254)، «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 529)، «روضة النّاظر» لابن قدامة (1/ 266)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 164)، «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 362)، «المسوّدة» لآل تيمية (ص: 202)، «شرح المنار» لابن الملك (2/ 715).

الشرط الثالث: أن يكونا حكمين شرعيين.

فالواجب أن يسلم الحديث النّاسخ أو المنسوخ من القوادح، باستيفائه جميع شروط الصّحّة. قال أبو بكر بن خزيمة: «لا يجوز ترك ما قد صحّ من أمره صلى الله عليه وسلم وفعله في وقت من الأوقات إلّا بخبر صحيح عنه ينسخ أمره ذلك وفعله» (¬1). وهل يطلب فيه التّواتر؟ اختلفوا في ذلك، والصّواب: لا؛ لأنّ النّسخ إنّما يتّصل بالأحكام العمليّة، والعمل بالظّنّ الرّاجح صحيح معتبر. وقد جاءت السّنّة الصّحيحة المشهورة بقبول خبر الواحد العدل في إثبات النّسخ، وذلك في حديث عبد الله بن عمر بأصحّ إسناد إليه، قال: بينا النّاس بقباء في صلاة الصّبح، إذ جاءهم آت (وفي رواية: رجل)، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه اللّيلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشّام، فاستداروا إلى الكعبة (¬2). وبهذا الشّرط يسقط الاعتداد بالحديث الضّعيف في النّسخ. الشّرط الثّالث: أن يكونا حكمين شرعيّين. والمقصود أن يكون الحكم ثابتا بخطاب الشّرع، لا بدليل العقل، مثل ما ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (3/ 57). (¬2) متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 395 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 526).

الشرط الرابع: أن يكونا عمليين.

يثبت بطريق (الاستصحاب) كالإباحة الأصليّة، والبراءة الأصليّة. فقد ثبت في العقول أنّ ما خلقه الله في الأرض فهو مباح للإنسان حتّى يرد خطاب الشّرع بنقله عن تلك الإباحة، كما ثبت في العقول أنّ الذّمم بريئة حتّى يرد خطاب الشّرع بإيجاب الواجبات. فتدرّج الشّارع في تحريم الخمر بتضييق الإباحة فيها، ثمّ بنقل حكمها من بعد من الإباحة إلى التّحريم، ليس نسخا؛ لأنّ الإباحة لم يحتج إلى معرفتها بدليل الشّرع، إنّما عرفت بعدم الخطاب (¬1). وفرض الله الصّلاة والصّوم، ولم يكن من ذلك شيء، فتكليف الذّمم بذلك لم يكن على المعارضة لحكم سابق ثابت بدليل الشّرع، بل جاء هذا التّكليف ليشغل موضعا فارغا صالحا له. الشّرط الرّابع: أن يكونا عمليّين. أي يتّصلان بأحكام كسب الجوارح، كالصّلاة والصّوم. مثل نسخ فرض استقبال بيت المقدس في الصّلاة باستقبال الكعبة، ونسخ فرض قيام اللّيل في أوّل سورة المزّمّل بما نزل في آخرها، ونسخ التّخيير بين صوم رمضان والفدية بالطّعام بفرض الصّوم، ونسخ حبس الزّواني بالحدود (¬2). ¬

(¬1) انظر ما تقدّم في هذه المقدّمة (ص: 214 - 215). (¬2) أوردت تفاصيل النّصوص لهذه الأمثلة في مواضع من هذه المقدّمة.

الشرط الخامس: أن يكونا جزئيين.

أمّا أعمال القلوب، كالتّوحيد والإيمان والإخلاص والخوف والرّجاء، وشبه ذلك، فلا يقع فيها نسخ. الشّرط الخامس: أن يكونا جزئيّين. فيمتنع النّسخ في القواعد ومقاصد التّشريع؛ لأنّها كلّيّات. ولم يقع في جميع ما يذكر فيه النّسخ من نصوص الكتاب والسّنّة نسخ لقاعدة كلّيّة، إنّما جميع أمثلة النّسخ واردة في جزئيّات الأحكام؛ رعاية للمقاصد الكلّيّة، كما سبقت الإشارة إليه في (الحكمة من النّسخ) (¬1). وتستثنى من النّسخ كذلك أحكام جزئيّة اقترن تشريعها بما دلّ على تأبيدها (¬2). وذلك مثل قوله تعالى في حديث فرض الصّلوات ليلة المعراج: «هي خمس وهي خمسون، لا يبدّل القول لديّ» (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التّوبة، ولا تنقطع التّوبة حتّى تطلع الشّمس من مغربها» (¬4). ¬

(¬1) انظر: «الموافقات» للشّاطبيّ (3/ 105، 107). (¬2) انظر: «البرهان» للجوينيّ (2/ 1298). (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 342، 3164) ومسلم (رقم: 163) من حديث أنس بن مالك. (¬4) حديث صحيح. أخرجه أحمد (28/ 111 رقم: 16906) وأبو داود (رقم: 2479) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8711) والدّارميّ (رقم: 2418) وآخرون من حديث معاوية بن أبي سفيان. بإسناد صالح. كما أخرجه أحمد (3/ 106 رقم: 1671) وغيره من حديث معاوية وعبد الرّحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص بنحوه. وإسناده جيّد.

الشرط السادس: أن يكونا متعارضين في المعنى.

الشّرط السّادس: أن يكونا متعارضين في المعنى. والمقصود أن لا يوجد سبيل لإعمال النّصّين جميعا، وإنّما يأتي أحدهما على ضدّ الآخر في دلالته ومعناه. فكلّ نصّين أمكن التّوفيق بينهما فذلك مقدّم على المصير إلى النّسخ. مثل: أن يكون أحدهما خاصّا والآخر عامّا، فيبنى العامّ على الخاصّ، فيخرج ذلك الخاصّ من العموم، ويبقى سائر النّصّ العامّ معمولا به. ومثل: المطلق مع المقيّد، والمجمل مع المفسّر، والتّشريعين المختلفين لاختلاف الظّرف فكلّ منهما معمول به في وقته أو معناه. وقد سبق المثال لذلك عند شرح معنى (النّسخ عند السّلف). قال ابن جرير الطّبريّ: «وإنّما يكون النّاسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة ... فأمّا ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من النّاسخ والمنسوخ في شيء» (¬1). وقال الموفّق ابن قدامة: «والعامّ لا ينسخ به الخاصّ؛ لأنّ من شروط ¬

(¬1) تفسيره (3/ 120)، وانظر: «اختلاف الحديث» للشّافعيّ (ص: 214).

الشرط السابع: أن يكون الناسخ متأخرا في زمن تشريعه عن المنسوخ.

النّسخ: تعذّر الجمع، والجمع بين الخاصّ والعامّ ممكن بتنزيل العامّ على ما عدا محلّ التّخصيص» (¬1). وممّا يمتنع فيه النّسخ مطلقا من نصوص التّكليف: جميع ما لا يتصوّر فيه التّضادّ بين تكليفين، كالنّصوص الآمرة بالتّوحيد وسائر العقائد، ونصوص مكارم الأخلاق والفضائل، فهذه لا تجوز أضدادها في دين الإسلام، ومن شرط صحّة النّسخ التّقابل بين التّكليفين. الشّرط السّابع: أن يكون النّاسخ متأخّرا في زمن تشريعه عن المنسوخ. والمراد به أن يكون الحكمان قد انفصل أحدهما عن الآخر بزمان أمكن فيه امتثال الحكم المنسوخ قبل تبديله بالنّاسخ (¬2). كما تراه مثلا في قصّة نزول قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187]: فعن البراء بن عازب، رضي الله عنه: أنّ أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشّى لم يحلّ له أن يأكل شيئا ولا يشرب، ليلته ويومه من الغد حتّى تغرب الشّمس، حتّى نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلى الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، قال: ونزلت في أبي قيس بن عمرو، أتى أهله وهو صائم بعد المغرب فقال: هل من شيء؟ فقالت ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة (1/ 188 - 189). (¬2) انظر: «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 543)، «المستصفى» للغزّاليّ (ص: 144).

امرأته: ما عندنا شيء، ولكن أخرج ألتمس لك عشاء، فخرجت، ووضع رأسه فنام، فرجعت إليه فوجدته نائما، وأيقظته فلم يطعم شيئا، وبات وأصبح صائما حتّى انتصف النّهار، فغشي عليه، وذلك قبل أن تنزل هذه الآية، فأنزل الله فيه (¬1). واعتبار هذا الشّرط لصحّة النّسخ يبطل الخوض في مسألة تعرّضت لها طائفة من أهل الأصول، وهي: (هل ينسخ الحكم قبل امتثاله؟) وتكلّموا فيها بما لا يزيد علما ولا يبنى عليه عمل، كالّذي جاء في حديث فرض الصّلوات ليلة المعراج، أنّ الله تعالى فرض خمسين صلاة، ثمّ نسخها بخمس قبل أن يقع امتثال التّكليف الأوّل. فليس هذا من باب النّسخ الّذي نقصد إلى ضبطه ليستفيد المتفقّه من تأصيله. ولا أثر لتقدّم الآية النّاسخة وتأخّر المنسوخة في ترتيب المصحف؛ لأنّه لم يراع في ذلك النّزول، وإنّما العبرة بزمن تشريع الحكم. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (30/ 573 - 575 رقم: 18611، 18612) والبخاريّ (رقم: 1816) وأبو داود (رقم: 2314) والتّرمذيّ (رقم: 2968) والنّسائيّ (رقم: 2168) والدّارميّ (رقم: 1645) من طريق أبي إسحاق السّبيعيّ، عن البراء، به. واللّفظ للنّسائيّ، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

المبحث الثاني: ما يقع به النسخ

المبحث الثاني: ما يقع به النسخ من خلال شروط النّسخ المتقدّمة تبيّنّا أنّ السّنّة تشارك الكتاب في جميع ذلك، وعليه فما يقع به النّسخ واحد من الأمور الأربعة التّالية: الأوّل: نسخ قرآن بقرآن. مثل نسخ التّخيير للقادر على الصّوم بين أن يصوم أو يفتدي، بالصّوم دون الفدية. فالحكم المنسوخ في قول الله عزّ وجلّ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184]. والنّاسخ له قوله تعالى في الآية بعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]. فعن سلمة بن الأكوع، رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان من أراد منّا أن يفطر ويفتدي فعل، حتّى نزلت هذه الآية الّتي بعدها فنسختها (¬1). ولا يختلف أهل العلم أنّ هذه الصّورة للنّسخ واقعة في مواضع في القرآن، تتفاوت أقوالهم في عددها، والتّحقيق أنّها قليلة. ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم تخريجه (ص: 229).

والثاني: نسخ سنة بسنة.

والثّاني: نسخ سنّة بسنّة. مثل حكم التّطبيق في الرّكوع: فالمنسوخ ما حدّث به علقمة بن قيس والأسود بن يزيد: أنّهما دخلا على عبد الله (وهو ابن مسعود)، فقال: أصلّى من خلفكم؟ قالا: نعم، فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثمّ ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثمّ طبّق بين يديه، ثمّ جعلهما بين فخذيه، فلمّا صلّى قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). والنّاسخ ما حدّث به مصعب بن سعد بن أبي وقّاص، قال: صلّيت إلى جنب أبي، فلمّا ركعت شبّكت أصابعي، وجعلتهما بين ركبتيّ، فضرب يديّ، فلمّا صلّى قال: قد كنّا نفعل هذا، ثمّ أمرنا أن نرفع إلى الرّكب (¬2). ووقوع هذا النّوع لا يختلفون في صحّته. والثّالث: نسخ قرآن بسنّة. وهذا قد اختلفوا فيه على مذهبين: المذهب الأوّل: امتناع نسخ الآية بسنّة. وهذا مذهب الأئمّة سفيان ¬

(¬1) حديث صحيح، أخرجه مسلم (رقم: 534). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 757) ومسلم (رقم: 535).

الثّوريّ (¬1)، والشّافعيّ (¬2)، وأحمد بن حنبل في إحدى الرّوايتين عنه (¬3)، وطائفة من أصحاب مالك (¬4). ومن عبارة الشّافعيّ في ذلك: «وأبان الله لهم أنّه إنّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأنّ السّنّة لا ناسخة للكتاب، وإنّما هي تبع للكتاب» (¬5). وسئل أحمد بن حنبل: أتنسخ السّنّة شيئا من القرآن؟ قال: «لا ينسخ القرآن إلّا القرآن» (¬6). وممّن عزي إليه القول بأنّه لا ينسخ الآية إلّا آية مثلها من المتقدّمين: ¬

(¬1) نواسخ القرآن، لابن الجوزيّ (ص: 98). (¬2) انظر: «الرّسالة» للشّافعيّ (ص: 106 - 108)، «أحكام القرآن» له (1/ 33 - 36)، «السّنّة» لابن نصر المروزيّ (ص: 69)، «النّاسخ والمنسوخ» للنّحّاس (ص: 53)، «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرّ (2/ 1195)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 258 - 259)، «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 515)، «الاعتبار» للحازميّ (ص: 57)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 153). (¬3) انظر: «مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود السّجستانيّ (ص: 276)، «جامع بيان العلم» لابن عبد البرّ (2/ 1194 - 1195)، «نواسخ القرآن» لابن الجوزيّ (ص: 98، 100)، «الاعتبار» للحازميّ (ص: 57)، «روضة النّاظر» لابن قدامة (1/ 258). (¬4) جامع بيان العلم، لابن عبد البر (2/ 1195) وعزاه إلى جمهورهم. (¬5) الرّسالة (ص: 106)، أحكام القرآن (1/ 33). (¬6) رواه عنه الفضل بن زياد، فيما حكاه ابن عبد البرّ في «جامع بيان العلم» (2/ 1194)، ونحوه لأبي داود في «مسائله» (ص: 276).

التّابعيّ الثّقة أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشّخّير، لما صحّ عنه من قوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا، كما ينسخ القرآن بعضه بعضا» (¬1). والدّليل لأصحاب هذا المذهب ليس بخارج عن نفس الآيات الّتي دلّت على ثبوت النّسخ في كتاب الله، وقد تبيّن فيها الدّلالة على صحّة النّسخ بمطلق الوحي لمطلق الوحي، والسّنّة وحي كالقرآن (¬2). وممّا تعلّق به الشّافعيّ قوله تعالى: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي فقال: «فيه بيان ما وصفت من أنّه لا ينسخ كتاب الله إلّا كتابه، كما كان المبتدئ لفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جلّ ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه» (¬3). وهذا استدلال صحيح لو كانت السّنّة من تلقاء نفس النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّها لا تكون ناسخة لحكم ثبت تشريعه بالكتاب، أمّا اعتقاد كونها وحيا أوحاه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم مثل القرآن، فقد ساوته في معناه وإن غايرته في لفظه، وسبق ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم: 344) وأبو داود في «المراسيل» (رقم: 456) وأبو نعيم في «مستخرجه» (رقم: 777) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (رقم: 323) والحازميّ في «الاعتبار» (ص: 50)، وإسناده صحيح. (¬2) وانظر: «الواضح في أصول الفقه» لأبي الوفاء ابن عقيل (4/ 260 - 265). (¬3) الرّسالة (ص: 107).

المذهب الثاني: صحة نسخ الآية بسنة.

أن بيّنت وجه ذلك (¬1). وظنّ بعض العلماء أنّ مذهب الشّافعيّ ومن وافقه إنّما هو لأجل عدم وجود المثال له: أن تكون في كتاب الله آية قد نسخت بسنّة، وهذا الظّنّ خطأ، من جهة أنّ الشّافعيّ قد فسّر استدلاله وبيّنه، وليس فيه شيء من هذا، ثمّ إنّ مثاله سيأتي، وإن كان الشّافعيّ قد تأوّله. المذهب الثّاني: صحّة نسخ الآية بسنّة. وهذا مذهب الحنفيّة (¬2)، وطائفة من المالكيّة (¬3)، واختاره بعض أعيان ¬

(¬1) انظر ما تقدّم (ص: 218 - 220). وقد وضع بعض الحمقى في هذه المسألة حديثا: فأخرج ابن عديّ في «الكامل» (2/ 443) والدّارقطنيّ (4/ 145) وابن الجوزيّ في «العلل المتناهية» (رقم: 190) ونصر المقدسيّ في «تحريم نكاح المتعة» (رقم: 33) والحازميّ في «الاعتبار» (ص: 58) من طريق محمّد بن داود القنطريّ، حدّثنا أبو عبّاد جبرون بن واقد الإفريقيّ، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزّبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله لا ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا». قال ابن عديّ: «منكر» ووافقه الحازميّ، وقال الذّهبيّ في «الميزان» (1/ 388): «موضوع»، وقال في جبرون: «متّهم، فإنّه روى بقلّة حياء ... » فذكر هذا الحديث. (¬2) انظر: «المغني في أصول الفقه» للخبّازيّ (ص: 255)، «شرح المنار» لابن الملك (2/ 717)، «النّاسخ والمنسوخ» للنّحّاس (ص: 53)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 259). (¬3) انظر: «الإحكام» للباجيّ (ص: 350 - 356، 358 - 359)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 259)، «المسوّدة» لآل تيميّة (ص: 182).

الشّافعيّة كإمام الحرمين الجوينيّ (¬1) والغزّاليّ (¬2)، وهو الرّواية الثّانية عن أحمد بن حنبل (¬3)، واختيار ابن حزم الظّاهريّ (¬4). واستدلال أصحاب هذا المذهب بما سبق تأصيله أنّ السّنّة وحي كالقرآن، وما فرض الله عزّ وجلّ من طاعة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع بأنّ بيان النّبيّ صلى الله عليه وسلم للقرآن حجّة ملزمة كالقرآن، لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النّحل: 44]، والنّسخ بيان (¬5). ومثال المنسوخ حكمه من القرآن بسنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى [البقرة: 180]. ففرض الوصيّة للوالدين بهذه الآية منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، فلا وصيّة لوارث» (¬6). ¬

(¬1) انظر: «البرهان» للجوينيّ (2/ 1307)، «التّلخيص» له (2/ 520). (¬2) انظر: «المستصفى» للغزّالي (ص: 147). (¬3) انظر: «الواضح» لابن عقيل (4/ 290). (¬4) انظر: «الإحكام» لابن حزم (4/ 107 - 108)، «المحلّى» له (1/ 52). (¬5) انظر: «السّنّة» لابن نصر المروزيّ (ص: 69 - 70)، «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص: 229 - 230)، وما ذكرته من المصادر في التّعليقات على هذا المذهب. (¬6) حديث صحيح. أخرجه أحمد (36/ 628 رقم: 22294) وأبو داود (رقم: 2870، 3565) والتّرمذيّ (رقم: 2120) وابن ماجة (رقم: 2713) من طرق عن إسماعيل بن عيّاش، حدّثنا شرحبيل بن مسلم الخولانيّ، قال: سمعت أبا أمامة الباهليّ، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجّة الوداع، فذكره. قلت: وإسناده جيّد، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن»، وهو حديث مشهور له شواهد.

والرابع: نسخ سنة بقرآن

وأصحاب المذهب السّابق يرون الآية منسوخة بآيات المواريث في سورة النّساء، وهذا الحديث دليل على النّسخ على طريقة الشّافعيّ، وليس هو النّاسخ للآية (¬1). لكن من تحقّق وجد أنّ آيات المواريث لا تنفي صحّة الوصيّة للوالدين مع ما فرضت لهما من الميراث، وشرط صحّة النّسخ التّقابل بين النّاسخ والمنسوخ، وهو موجود في هذا الحديث (¬2). وهذا هو الرّاجح من المذهبين، والأوفق للأصول: أنّ السّنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنسخ الآية من كتاب الله؛ لأنّ الجميع من عند الله. ولأصحاب هذا المذهب اختلاف في درجة السّنّة من جهة الثّبوت: إن كانت متواترة أو آحادا، وهذا تقدّم بيانه في (شروط ثبوت النّسخ). والرّابع: نسخ سنّة بقرآن: وجمهور أهل العلم على صحّة نسخ حكم ثبت بالسّنّة بآية من كتاب الله، وأبى ذلك الشّافعيّ، مستدلّا بكون السّنّة مبيّنة للكتاب، فكيف ينسخ ¬

(¬1) انظر: «الرّسالة» (ص: 137، 222)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 291). (¬2) انظر: «السّنّة» لابن نصر المروزيّ (ص: 72).

المبيّن؟ والشّافعيّ لا يخالف أنّ السّنّة أثبتت أحكاما وشرائع ليست في كتاب الله، فإذا صحّ هذا لم يمتنع أن تأتي بحكم فيأتي القرآن بنسخه. ثمّ إنّ صحّة نسخ الآية بالسّنّة تدلّ بطريق الأولى على صحّة نسخ السّنّة بالآية (¬1). ومثال السّنّة المنسوخة: فرض استقبال بيت المقدس في الصّلاة أوّل الأمر، وذلك ما دلّ على إثباته قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143]. والنّاسخ له قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144]. وبيانه في حديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو بمكّة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستّة عشر شهرا، ثمّ صرف إلى الكعبة (¬2). ¬

(¬1) انظر بحث هذه المسألة في: «الرّسالة» للشّافعيّ (ص: 108 - 111، 222)، «الواضح» لابن عقيل (4/ 298)، «المغني» للخبّازيّ (ص: 255، 256)، «التّلخيص» للجوينيّ (2/ 521)، «شرح المنار» لابن الملك (2/ 717)، «روضة النّاظر» لابن قدامة (1/ 257)، «إحكام الفصول» للباجيّ (ص: 356)، «الإحكام» للآمديّ (3/ 150)، «المسوّدة» لآل تيميّة (ص: 185). (¬2) حديث صحيح. =

المبحث الثالث: طريق معرفة النسخ

وفي حديث البراء بن عازب، رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] فتوجّه نحو الكعبة (¬1). المبحث الثالث: طريق معرفة النسخ يعرف النّسخ بواحدة من طرق ثلاث، هي: 1 - أن يأتي في لفظ النّصّ ما يفيده صراحة. ¬

= أخرجه أحمد (5/ 136 رقم: 2991) وابن سعد في «الطّبقات» (1/ 243) والبزّار (رقم: 418 - كشف) والطّبرانيّ في «الكبير» (11/ 67 رقم: 11066) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 3) من طريق يحيى بن حمّاد، حدّثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده صحيح، وصحّحه ابن حجر في «الفتح» (1/ 96). وفيه دليل على أنّ القبلة كانت أوّل الأمر إلى بيت المقدس قبل الهجرة بمكّة وبعد الهجرة بضعة عشر شهرا، ثمّ نسخت إلى الكعبة، وو ما روي عن ابن عبّاس بخلاف هذا وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الكعبة، فلمّا هاجر استقبل بيت المقدس ففرح بذلك اليهود، فذلك لم يروه عن ابن عبّاس إلّا عليّ بن أبي طلحة، ولم يسمع منه، والإسناد إليه به ضعيف. (¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 390 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 525).

فمثاله في لفظ الآية: نسخ الحكم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 65 [الأنفال: 65]. بقوله بعده: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 66 [الأنفال: 66]. وعن عبد الله بن عبّاس، قال: لمّا نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة، فجاء التّخفيف، فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، قال: فلمّا خفّف الله عنهم من العدّة، نقص من الصّبر بقدر ما خفّف عنهم (¬1). ومثاله في لفظ الحديث من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: حديث بريدة الأسلميّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4376) وأبو داود (رقم: 2646) من حديث عكرمة عن ابن عبّاس. ورواه غيره عنه بنحوه.

2 - أن يأتي في سياق النص قرينة تدل عليه.

لكم، ونهيتكم عن النّبيذ إلّا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلّها، ولا تشربوا مسكرا» (¬1). أو مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ الصّحابيّ راوي الحديث: كحديث عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثمّ جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس (¬2). وحديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممّا مسّت النّار (¬3). 2 - أن يأتي في سياق النّصّ قرينة تدلّ عليه. كالّذي ورد به قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 356، 359) ومسلم (رقم: 977) والنّسائيّ (رقم: 2032، 2033) عن بريدة، به. (¬2) حديث صحيح. أخرجه مالك (رقم: 626) وأحمد (رقم: 623، 631، 1094، 1167) - واللّفظ له في الموضع الأوّل- ومسلم (رقم: 962) وأبو داود (رقم: 3175) والتّرمذيّ (رقم: 1044) والنّسائيّ (رقم: 1999، 2000) وابن ماجة (رقم: 1544) من طريق مسعود بن الحكم الزّرقيّ، أنّه سمع عليّا، به. (¬3) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (رقم: 192) والنّسائيّ (رقم: 185) من طريق عليّ بن عيّاش، حدّثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر، به. قلت: وإسناده صحيح.

3 - أن يعرف تاريخ المتقدم والمتأخر.

سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم» (¬1). فأشار صلى الله عليه وسلم بهذا إلى نسخ حكم حبس الزّواني في البيوت الوارد في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النّساء: 15]. 3 - أن يعرف تاريخ المتقدّم والمتأخّر. فالمتأخّر في تشريعه ناسخ للمتقدّم، كما هو الشّأن في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وممّا يفيد في هذا تمييز المتقدّم في نزوله بمعرفة المكّيّ والمدنيّ. كما أنّ ممّا ينبغي أن يستفاد ممّا يتّصل بالنّسخ في السّنّة: أنّ ما وجدناه من الأحكام غير معلوم التّاريخ معارضا لأحكام جاءت في حجّة الوداع أو بعدها إلى وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فما جاء من تلك الأحكام في الحجّة أو بعدها ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 313، 317، 318، 320) ومسلم (رقم: 1690) وأبو داود (رقم: 4415، 4416) والتّرمذيّ (رقم: 1434) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7143، 7144) وابن ماجة (رقم: 2550) والدّارميّ (رقم: 2241) من طريق الحسن البصريّ، عن حطّان بن عبد الله، عن عبادة بن الصّامت، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، به. قال التّرمذيّ: «حديث صحيح». قلت: وقع في إسناده عند ابن ماجة خطأ.

ناسخ لما لم يعلم تاريخه؛ لأنّا نعلم أنّ تلك الشّرائع ممّا قد ختم به الدّين. وإليك مثالين على ذلك: الأوّل: حكم الشّرب قائما. صحّ نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشّرب قائما من وجوه، منها: حديث أبي سعيد الخدريّ وأنس بن مالك رضي الله عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم زجر عن الشّرب قائما (¬1). وجاء الفعل النّبويّ على خلافه في حجّة الوداع، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم (¬2). فهذا الحديث يزيل أثر النّهي عن الشّرب قائما. والثّاني: صلاة المأمومين قياما والإمام قاعد. فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهرا، فجلس في مشربة (¬3) له ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه من حديث أبي سعيد: أحمد (17/ 379 رقم: 11278، و 18/ 75 رقم: 11509) ومسلم (رقم: 2025). وعن أنس كذلك عند أحمد (20/ 353 رقم: 13062، و 21/ 224، 470 رقم: 13618، 14105) ومسلم (رقم: 2024). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1556، 5294) ومسلم (رقم: 2027). (¬3) آلى من نسائه: حلف لا يأتيهنّ، والمشربة: الغرفة.

درجتها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلّى بهم جالسا وهم قيام، فلمّا سلّم قال: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلّى قائما فصلّوا قياما» (¬1). قال الحميديّ في هذا الحديث: هو في مرضه القديم، ثمّ صلّى بعد ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم جالسا والنّاس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنّما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم (¬2). عنى صلاته صلى الله عليه وسلم بالنّاس في مرضه الّذي مات فيه، حين صلّى قاعدا، وأبو بكر رضي الله عنه يأتمّ به قائما، والنّاس يأتمّون بأبي بكر قياما (¬3). ولا ينبغي أن يكون مجرّد تأخّر إسلام الصّحابيّ راوي الحديث طريقا لتمييز التّقدّم والتّأخّر في النّسخ؛ لأنّ الصّحابة كان يحدّث بعضهم بعضا، إلّا أن يأتي في الرّوايتين دليل آخر يدلّ على ذلك. ... ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 371 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 411). (¬2) ذكره عنه البخاريّ في «صحيحه» (1/ 245)، والحميديّ هو أبو بكر عبد الله بن الزّبير، أحد أعيان الأئمّة، وصاحب «المسند»، ومن كبار شيوخ البخاريّ. (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 655 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 418) من حديث عائشة.

الفصل الثالث: أنواع النسخ في القرآن

الفصل الثالث: أنواع النسخ في القرآن النّسخ في القرآن من جهة الإبقاء على الآية في كتاب الله مع إسقاط التّكليف بالحكم الّذي دلّت عليه، أو إسقاط تلاوتها دون الحكم، أو نسخها كلّيّا فلا يبقى منها إلّا الخبر عنها، ينحصر الكلام فيه في أنواع ثلاثة، بيانها في المباحث التّالية: المبحث الأول: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة مثاله: قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء: 15]، نسخ بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النّور: 2] كما ثبت ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما (¬1). وعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (رقم: 4413) من طريق يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس. وإسناده حسن.

المبحث الثاني: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم

ونفي سنة، والثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم» (¬1). وهذا النّوع من النّسخ فرض على الفقيه تمييزه في نصوص الكتاب والسّنّة، ذلك لما له من الأثر في الأحكام العمليّة، وهو الّذي اجتهد المصنّفون في باب النّسخ في تتبّعه وجمعه. المبحث الثاني: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم وهذا النّوع قليل الوجود في النّصوص المنقولة إلينا، وثبوت حكمه مع نسخ تلاوته إنّما عرف عن طريق النّقل الثّابت. ومن أمثلته ما يلي: 1 - عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل الله آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها (وفي رواية: وقد قرأتها: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة)، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، (وفي رواية: ولولا أن يقولوا: أثبت في كتاب الله ما ليس فيه، لأثبتّها كما أنزلت)، فأخشى إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل: والله، ما نجد آية الرّجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرّجم في كتاب الله ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم تخريجه (ص: 257).

حقّ على من زنى إذا أحصن من الرّجال والنّساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل، أو الاعتراف (¬1). 2 - وعن عمر بن الخطّاب كذلك، قال: ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو: إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم (¬2). 3 - وعن زيد بن أرقم، قال: لقد كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضّة لابتغى إليهما آخر، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب، ويتوب الله على من تاب (¬3). 4 - وعن أبيّ بن كعب: ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه، والرّواية الأخرى لابن ماجة، والثّانية لأحمد والنّسائيّ. وتقدّم تخريجه (ص: 178). (¬2) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 6442)، وهو جزء من حديثه في قصّة الرّجم. (¬3) حديث صحيح. أخرجه أحمد (32/ 31 رقم: 19280) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 323) والبزّار (رقم: 3639 - كشف الأستار) والطّبرانيّ في «الكبير» (5/ 207 رقم: 5032) من طرق عن يوسف بن صهيب، قال: حدّثني حبيب بن يسار، عن زيد، به. قلت: وإسناده صحيح.

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ عليه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، فقرأ فيها: إنّ ذات الدّين عند الله الحنيفيّة المسلمة، لا اليهوديّة ولا النّصرانيّة، من يعمل خيرا فلن يكفره. وقرأ عليه: ولو أنّ لابن آدم واديا من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له ثانيا لابتغى إليه ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب، ويتوب الله على من تاب (¬1). ومن هذا القبيل ما حدّث به أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: أنزل الله عزّ وجلّ في الّذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه، حتّى نسخ بعد: أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا، فرضي عنّا ورضينا عنه (¬2). ¬

(¬1) حديث جيّد الإسناد. أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 539) وأحمد (5/ 131) والتّرمذيّ (رقم: 3898) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 132) وأبو نعيم في «الحلية» (رقم: 5272) والحاكم (رقم: 2889) والضّياء في «المختارة» (رقم: 1162، 1163) من طرق عن شعبة بن الحجّاج، عن عاصم، قال: سمعت زرّ بن حبيش يحدّث، عن أبيّ، به. قلت: عاصم هذا هو ابن أبي النّجود، مقرئ صدوق جيّد الحديث. وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح»، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد». (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 2647 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 677). وبئر معونة موضع بين مكّة والمدينة، قتل عنده المشركون سريّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّتهم سبعون رجلا من قرّاء القرآن، كما جاء في روايات حديث أنس هذا.

المبحث الثالث: نسخ التلاوة والحكم

فهذه فضيلة لا ينسخ حكمها، إنّما النّسخ رفع تلاوتها من القرآن. والأخبار المثبتة لوقوع هذا النّوع من النّسخ أكثر من هذا، وهذا الّذي ذكرت من أثبته إسنادا وأحسنه. واعلم أنّ تسمية هذا نسخا من جهة كونه قد رفع، فهو إطلاق لفظ (النّسخ) على مجرّد الرّفع. ومن النّاس من ذهب إلى ردّ وجود هذا النّوع من النّسخ، وتعرّض لبعض الأحاديث الواردة بذلك بالتّضعيف، ولأخرى بالتّأويل، ولم يتعرّض لطائفة أخرى منها وهي ثابتة صريحة، كهذا الّذي ذكرت، والصّواب ما بيّنت من ثبوت هذا النّوع من النّسخ، واندراجه تحت القول بصحّة النّسخ، وهذا أبعد عن طريق ردّ الصّحيح الثّابت بغير حجّة مع إمكان حمله على معنى صحيح. المبحث الثالث: نسخ التلاوة والحكم وهو نوعان: الأوّل: ما بلغنا لفظه أو موضوعه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثمّ نسخن بخمس معلومات (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم تخريجه (ص: 174).

والثّاني: ما بلغنا مجرّد الخبر عنه ورفع منه كلّ شيء، كما في حديث زرّ بن حبيش قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأيّن تعدّها؟ قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قطّ؟ لقد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة (¬1). كما تقدّم في هذا المعنى حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف (¬2). هذان النّوعان يندرجان عند أهل العلم تحت (النّسخ)؛ لأنّ ذلك قد أزيل ورفع بعد ما أنزل، وعند طائفة تحت (الإنساء)، والأمر في ذلك قريب، فهذه الآيات أنزلت ثمّ رفعت، فهي منسوخة، وهي منسأة (¬3). ... ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم تخريجه (ص: 178 - 179). (¬2) تقدّم سياقه في هذه المقدّمة (ص: 220 - 221). (¬3) وانظر: «الإحكام» لابن حزم (4/ 61 - 62).

الفصل الرابع: مسائل في النسخ

الفصل الرابع: مسائل في النسخ والمقصود بهذا الفصل ذكر قضايا متمّمة لهذه المقدّمة، غير ما تقدّم: المسألة الأولى: لا مانع من وقوع نسخ الحكم مرّتين، وذلك بنفس الدّليل الّذي صحّ لنا به وقوع النّسخ مرّة، ولنفس المقاصد والحكم الّتي نبّهنا عليها. ومثاله ما تقدّم ذكره في شأن الصّوم، حيث فرض أوّلا صوم يوم عاشوراء، ثمّ نسخ بفرض صوم رمضان أو الفدية، ثمّ نسخ خيار الفدية، فهذه ثلاث شرائع توالت على هذه الفريضة (¬1). المسألة الثّانية: ما يأتي من شرائع الله تعالى مذكورا في كتابه أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم عمّن قبلنا من الأمم، فهو شرع لنا غير منسوخ، إنّما المنسوخ منه ما قام في شرعنا دليل على خلافه. على هذا قول كثير من الفقهاء، كالإمام مالك وجمهور أصحابه، وبعض الحنفيّة والشّافعيّة، وهو الأصحّ عن الإمام أحمد بن حنبل (¬2). والدّليل عليه قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأنبياء قبله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. ¬

(¬1) انظر ما تقدّم (ص: 228 - 229). (¬2) الإحكام، للباجي (ص: 327 - 328)، المسوّدة، لآل تيميّة (ص: 174).

وبهذا استدلّ ابن عبّاس لسجود النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سورة ص: فعن العوّام بن حوشب، قال: سألت مجاهدا عن السّجدة الّتي في ص؟ فقال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس؟ فقال: أتقرأ هذه الآية: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، وفي آخرها: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ؟ قال: أمر نبيّكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بداود (¬1). واعلم أنّ الّذي يكون شرعا لنا من ذلك فليس هو ما ورد في كتب أهل الكتاب الّتي بين أيديهم وأخبارهم الّتي يروونها، وإنّما الّذي جاءنا عنهم في القرآن وصحيح السّنّة (¬2)، وذلك لما طرأ على ما عندهم من التّبديل. المسألة الثّالثة: معرفة النّاسخ والمنسوخ شرط للكلام في الحلال والحرام وشرائع الإسلام. قال الشّافعيّ رحمه الله: «ولا ينبغي للمفتي أن يفتي أحدا إلّا متى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب، وعلم ناسخه ومنسوخه، وخاصّه وعامّه، وأدبه، وعالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا، وعالما بلسان العرب، عاقلا، يميّز بين المشتبه، ويعقل القياس، فإن عدم ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3239، 4528، 4529) وآخرون، كما بيّنت ذلك في كتابي «تحرير البيان في سجود القرآن» (رقم: 46). (¬2) إحكام الفصول، للباجيّ (ص: 330 - 331)، كشف الأسرار، لعلاء الدّين البخاريّ (3/ 213).

واحدا من هذه الخصال لم يحلّ له أن يقول قياسا» (¬1). وذكر عن القاضي يحيى بن أكثم قال: «ليس من العلوم كلّها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلّمين وكافّة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ لأنّ الأخذ بناسخه واجب فرضا، والعلم به لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كلّ عالم علم ذلك؛ لئلّا يوجب على نفسه أو على عباد الله أمرا لم يوجبه الله عزّ وجلّ، أو يضع عنه فرضا أوجبه الله عزّ وجلّ» (¬2). وصحّ عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ: أنّ عليّ بن أبي طالب مرّ بقاصّ يقصّ (¬3)، فقال: هل علمت النّاسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت (¬4). وعن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: إنّما يفتي النّاس أحد ثلاثة: رجل علم ناسخ القرآن من منسوخه. قالوا: ومن ذاك؟ قال: عمر بن ¬

(¬1) الأم، للشّافعيّ (15/ 129). (¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ (رقم: 1416). (¬3) أي: واعظ يعظ. (¬4) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 746) وأبو عبيد في «النّاسخ والمنسوخ» (رقم: 1) والنّحّاس في «النّاسخ والمنسوخ» (ص: 48 - 49) والبيهقيّ (10/ 117) من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم الأسديّ، عن أبي عبد الرّحمن، به. قلت: وإسناده صحيح.

الخطّاب، قال: وأمير لا يجد بدّا، أو أحمق متكلّف. وقد حدّث محمّد بن سيرين بهذا، ثمّ قال: فلست بواحد من هذين، وأرجو أن لا أكون الثّالث (¬1). المسألة الرّابعة: مع ضرورة معرفة النّاسخ والمنسوخ للفقيه، إلّا أنّه لا يظنّ كثرة وجود ذلك في أدلّة التّشريع (¬2). وقد حرّرت في جمعه كتب، من أحسنها كتاب الحافظ أبي الفرج ابن الجوزيّ المسمّى (نواسخ القرآن)، فقد أتى فيه على ما قيل هو منسوخ، وشرحه وبيّنه، وميّز ما ثبت فيه النّسخ منه وهو قليل جدّا، وأظهر فساد دعوى النّسخ في أكثر ذلك. وكانت طائفة من المفسّرين قد سلكت مسلكا في غاية الفساد في هذا الباب، فصاروا إلى ادّعاء النّسخ في آيات كثيرة تجاوزت عند بعضهم المائتين، أكثرها ممّا تسلّطوا عليه بسيف النّسخ ما زعموا نسخه بآية السّيف، وهو جرأة منهم مذمومة. ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه الدّارميّ في «مسنده» (رقم: 176) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 108 - 109) من طريق أبي أسامة حمّاد بن أسامة، عن هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن حذيفة، به. قلت: وإسناده حسن. (¬2) انظر: «الموافقات» للشّاطبي (3/ 105).

فأتوا على كلّ آية فيها الأمر أو معناه بالإعراض عن المشركين والجاهلين والصّبر والعفو فقالوا: هذه منسوخة بآية السّيف، يعنون آية الأمر بالقتال للمشركين أو أهل الكتاب، وذلك قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية [التّوبة: 5]، أو قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [التّوبة: 29]. وتوسّعوا حتّى ادّعوا النّسخ على الأخبار الّتي لا ينسخ مثلها، مثل قول بعضهم: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] منسوخ بفرض الزّكاة. وهذا من أفسد شيء يكون، فهذه صفة مدح ذكرها الله للمؤمنين وأخبر بها عنهم، وهم ينفقون قبل فرض الزّكاة وبعد فرضها، والزّكاة المفروضة من ذلك وليست ضدّه ليقال: هاهنا نسخ. ومن تلك الكتب الّتي هي أجدر بالإتلاف والإزالة منها بالتّداول والنّشر: كتاب «النّاسخ والمنسوخ» لمحمّد بن حزم، ومثله لهبة الله بن سلامة، وكتاب مرعيّ الكرميّ، فهذه وشبهها كتب بالخطإ والقول على الله بغير علم ألصق منها بالعلم والهدى. وبمثلها اغترّت طائفة من المتأخّرين فاستعظموا ما ذكر هؤلاء لما رأوا فيه من إبطال المحكمات، فأنكروا النّسخ أصلا بقصد حسن، هو الذّبّ عن القرآن العظيم، كما تسلّط بصنيع هؤلاء المستشرقون الحاقدون على الإسلام، فطعنوا على القرآن بذلك.

فكن على حذر من التّقليد في هذا الباب دون تحقيق، ولاحظ انطباق شروط النّسخ قبل القول به توق بذلك الزّلل فيه. المسألة الخامسة: الأمّة متعبّدة بجميع نصوص الكتاب والسّنّة الثّابتة، إلّا ما ثبت نسخه، ولا يجوز التّوقّف عن العمل بنصّ خوفا أن يكون منسوخا؛ فإنّ الأصل فرض العمل بجميع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]، وهذا يقين لا يحلّ تركه إلّا بيقين مثله. ومن عمل بالمنسوخ وترك النّاسخ وهو لا يعلم فلا حرج عليه، إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬1)، وإنّما يلزمه التّحوّل إلى العمل بالنّاسخ ساعة علمه به، كما وقع لأهل قباء حين نسخت القبلة (¬2). ... ¬

(¬1) الإحكام، لابن حزم (4/ 116)، التّلخيص، للجويني (2/ 538 - 540). (¬2) أخرج ذلك البخاريّ (رقم: 395 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 526) من حديث عبد الله بن عمر.

الفصل الخامس: شبهات حول النسخ ودحضها

الفصل الخامس: شبهات حول النسخ ودحضها علمت أنّ القول بإثبات النّسخ ووقوعه في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، هو الّذي كان عليه سلف الأمّة وأئمّتها، وذلك بدلالة الكتاب والسّنّة، وتقدّم من البراهين على ذلك ما فيه الكفاية، وأنّ القول بنفي وجود النّسخ مذهب شاذّ ظهر متأخّرا، ثمّ لا يكاد يذكر في أهل الإسلام على مرّ العصور إلّا عن نفر قليل. ويعود هذا المذهب إلى شبهات تعلّق كلّ قائل بشيء منها، ولا يهمّنا ما شبّه به اليهود وأصحاب الضّلالة من الكفّار، إنّما يجدر التّنبيه على طرف تعلّق به الأفراد الّذين أنكروا النّسخ من أهل الإسلام كبعض أهل زماننا، حسبوها غيرة على القرآن؛ لأنّ طريقة المكثرين من مدّعي النّسخ قد آذتهم، ونحن نوافقهم في دفع الغلوّ في دعوى النّسخ، ولكنّنا ننكر عليهم المصير إلى جحد النّسخ؛ لأنّ ذلك إذا سلم لهم بالتّحريف لتفسير آية ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو آية وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً، فإنّه لا مفرّ من صحيح السّنن المتواترة عن عهد النّبوّة، وقد سبق ذكر كثير منها في تفاريع موضوع النّسخ، وتركنا منها غيرها ممّا يتعلّق بوقائع النّسخ؛ لأنّه ليس من موضوع هذه المقدّمة استيعاب ما وقع فيه النّسخ من القرآن. فمن جحد النّسخ ممّن أشرت إليه فهو ممّن لا خبرة له بالسّنن

ولا اشتغال بتمييز صحيحها من سقيمها، ففسّر القرآن بمجرّد رأيه فزلّت قدمه، وجحد معلوما. وخذ طرفا ممّا شبّه به هؤلاء ملحقا ببيان فساده، ومن قولهم طرف مدرك الفساد ممّا تقدّم، وطرف بيّن الضّعف أعرضت عنه: الشّبهة الأولى: القول بالنّسخ يوجب إبطال بعض القرآن، وهذا خلاف قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصّلت: 42]، والمعنى: أنّ نصوص القرآن وأحكامه لا تبطل أبدا. ولعلّ هذه الشّبهة أقدم ما اعترض به على موضوع النّسخ. وأقول: هذا اعتراض بفهم لا بنصّ، يوجب إبطال جميع ما تقدّم ذكره من أدلّة إثبات النّسخ ووقائعه، وكان الأولى بقائله أن يفهم الآية على معنى يتلاءم مع تلك الأدلّة بدلا من العدو عليها بالإبطال، فيصير إلى ما فرّ منه. الآية نفت الباطل عن كتاب الله وآياته، وليس من ذلك النّاسخ والمنسوخ، فكلاهما حقّ، لا يوصفان بالباطل، إنّما الباطل ما يكون من قبل الخلق لا من قبل ربّ العالمين، تعالى وتقدّس، ولا يزعم قائل بالنّسخ أنّ النّسخ يجوز بغير ما أنزل الله. فالتّعلّق بهذه الآية لنفي النّسخ اعتداء على القرآن، وتنزيل له على غير مواضعه، فإنّ الله حين نفى تطرّق الباطل لكلامه من جهة من الجهات، علّل ذلك بكونه تنزيله ووحيه، وما النّاسخ والمنسوخ إلّا من ذلك، فهو

حقّ أبدل بحقّ لحكمة، وهو قبل النّسخ وبعده كلام الله الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، كما قال: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النّحل: 101 - 102]. الشّبهة الثّانية: قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الإسراء: 86 - 87]. تعلّقت بهذا طائفة أنكرت منسوخ التّلاوة، قالوا: في الآية دليل أنّ الله لم ينس نبيّه صلى الله عليه وسلم شيئا ممّا أوحاه إليه؛ لأنّه لو وقع فهو ذهاب بما أوحى إليه. وأقول: هذا تعلّق أوهى من سابقه، مردود بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6 - 7]، وبما ثبت من الأخبار الصّحاح أنّ الله تعالى أنزل قرآنا ثمّ رفعه. وصحّ من حديث عبد الرّحمن بن أبزى: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الفجر، فترك آية، فلمّا صلّى قال: «أفي القوم أبيّ بن كعب؟»، قال أبيّ: يا رسول الله، نسخت آية كذا وكذا أو نسّيتها؟ قال: «نسّيتها» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (24/ 80 رقم: 15365) والبخاريّ في «القراءة وراء الإمام» (رقم: 129) والنّسائيّ في «فضائل الصّحابة» (رقم: 136) وابن خزيمة (رقم: 1647) من طريق سفيان الثّوريّ، حدّثنا سلمة بن كهيل، عن ذرّ، عن سعيد بن عبد الرّحمن بن أبزى، عن أبيه، به. قلت: وهذا إسناد صحيح. وروي بإسناد سفيان بزيادة (عن أبيّ) في آخره، ولا أثر لذلك، وذرّ هو ابن عبد الله المرهبيّ.

ففي هذا زيادة على ما تقدّم ذكره في هذه المقدّمة تؤكّد أنّ رفع الآية بعد إنزالها كان أمرا معلوما على عهد التّنزيل، وأنّه يقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا المعنى في هذه الآية، فكما قال ابن جرير: «إنّه جلّ ثناؤه لم يخبر أنّه لا يذهب بشيء منه، وإنّما أخبر أنّه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنّما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أنّ ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال الله تعالى ذكره: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى 6 إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، فأخبر أنّه ينسي نبيّه منه ما شاء، فالّذي ذهب منه الّذي استثناه الله» (¬1). الشّبهة الثّالثة: قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9]، قالت طائفة: لم ينزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرآن إلّا ما بين اللّوحين؛ لهذه الآية، فأنكروا منسوخ التّلاوة. وأقول: إنّما يصحّ هذا لو ادّعى أحد النّسخ بغير ما أنزل الله، أو جوّزه بعد عهد التّنزيل، ولا يقول بهذا أحد، والله تعالى قد حفظ القرآن من أن يرد عليه تبديل أو تغيير حتّى من جهة نبيه صلى الله عليه وسلم، أمّا هو سبحانه فإنّه يفعل ما يشاء، كما قال: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: 15]. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (1/ 479).

الشّبهة الرّابعة: أنكرت طائفة منسوخ التّلاوة بزعمهم أنّه لم يأت إلّا من طريق روايات آحاد، وهذا الفريق لا ينكر مبدأ النّسخ أصلا، إنّما ينكر هذا النّوع خاصّة بهذه الدّعوى. وجواب ذلك: أنّ الأحاديث المنقولة في هذا قد استفاضت بالأسانيد الصّحيحة، وكثرتها على طريقة طائفة من أهل العلم يثبت بها التّواتر، مثل آية الرّجم. فإذا ضممت إلى ذلك السّلامة من الدّليل المعارض لم يحلّ إلّا تصديق تلك الأخبار والإيمان بمقتضاها. والعجب أنّ أصحاب هذه الدّعوى يصيرون إلى ما دون خبر الواحد الصّحيح في كثير من استدلالهم ممّا يوافق أهواءهم، فإذا جاء ما لا يأتي على مرادهم قالوا: (خبر واحد)، كما أنّ الخلق الأعظم منهم- كما أسلفت- لا خبرة له بالحديث، فيطّلع في المسألة على الحديث الفرد ويفوته سائر ما جاء فيها، بل ربّما فاته من ذلك الصّحيح الثّابت ولم يقف إلّا على الضّعيف الواهي. والواجب على العالم الانتهاء إلى السّنن الثّابتة، فهو خير من رأي هؤلاء وإن شبّهوا له بالقرآن، فإنّ الآية قد يحتمل لفظها المعاني، فتأتي السّنن الثّابتة على إزالة الاشتباه وتحرير المراد.

المقدمة الخامسة تفسير القرآن

المقدمة الخامسة تفسير القرآن الفصل الأول: معنى التفسير وحكمه الفصل الثاني: المنهج في التفسير الفصل الثالث: تاريخ التفسير الفصل الرابع: نقد مناهج التفسير الفصل الخامس: قواعد التفسير***

الفصل الأول: معنى التفسير وحكمه

الفصل الأول: معنى التفسير وحكمه المبحث الأول: معنى التفسير التّفسير في اللّغة: تفعيل من الفسر، ومعناه: الإبانة والكشف. واصطلاحا: علم يفهم به القرآن؛ بمعرفة معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وعظاته وعبره. وكان السّلف يسمّونه (علم التأويل). وهو الّذي دعا به النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عمّه عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، بقوله: «اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التّأويل» (¬1). وهو الّذي أراده الإمام المفسّر ابن جرير الطّبريّ حين سمّى كتابه في التّفسير «جامع البيان عن تأويل آي القرآن». وهذا غير التّأويل في عرف المتأخّرين، فهؤلاء عرّفوه بقولهم: التّأويل صرف اللّفظ عن المعنى الرّاجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. والتّفسير بالنّظر إلى ما يحتاجه نصّ القرآن من البيان أنواع، يوضّحها ما روي عن ابن عبّاس، قال: ¬

(¬1) حديث صحيح. يأتي تخريجه قريبا (ص: 315).

1 - التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها.

التّفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله (¬1). وهذه الجملة بيانها كما يلي: 1 - التّفسير الّذي تعرفه العرب من كلامها. هذا سبيله معرفة استعمال العرب للألفاظ والتّراكيب، قال ابن جرير: «إمّا بالشّواهد من أشعارهم السّائرة، وإمّا من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة» (¬2). وهو مشروط بأن «لا يكون خارجا عن أقوال السّلف من الصّحابة والأئمّة والخلف من التّابعين وعلماء الأمّة» (¬3). 2 - التّفسير الّذي لا يعذر أحد بجهالته. والمراد به ما هو بيّن بنفسه، يفهمه التّالي دون الحاجة إلى تفسير، وهذا هو الأصل؛ لأنّ أكثر القرآن يعود إليه. ولأجله صحّ الأمر بالتّدبّر، كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 29 [ص: 29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (1/ 34) من طريق أبي الزّناد، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده منقطع، أبو الزّناد اسمه عبد الله بن ذكوان، تابعيّ صغير لم يدرك ابن عبّاس، لكن هذه القسمة حسنة في نفسها، وإن لم نجزم بصحّتها عن ابن عبّاس. (¬2) تفسير ابن جرير (1/ 41). (¬3) كالّذي قبله.

3 - التفسير الذي يعلمه العلماء.

الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 [محمّد: 24]، وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 17 [القمر: 17]، ولو كان أكثره من سائر الأقسام لما جاز معه أن يتوجّه الخطاب في هذه الآيات وشبهها إلى جميع المكلّفين، إذ لا يؤمر الجميع بتدبّر ما يتوقّف معرفة معناه على علم الخاصّة. 3 - التّفسير الّذي يعلمه العلماء. وهو ما يتعدّى فهمه ومعرفته الدّلالة القريبة من الألفاظ ممّا يشترك فيه الخاصّة والعامّة، ويتوقّف على تحصيل مقدّمات من الدّراية والعلم والآلة، ممّا سنأتي على بيانه إن شاء الله. 4 - التّفسير الّذي لا يعلمه إلّا الله. يراد به متشابه القرآن الّذي مهما أعملت فيه العقول فإنّها لا تصل إلى حقيقته، وذلك مثل ما أخبر عنه القرآن من الغيوب، كالخبر عن الله عز وجلّ وأسمائه وصفاته كعلمه وتقديره وتدبيره، فنحن ندرك معاني الألفاظ التي ورد بها القرآن في ذلك، كما نميّز الفرق بينها من خلال اختلاف دلالاتها في اللّسان، كالفرق بين السّمع والبصر، وندرك أثر ذلك في العبوديّة لله، فنعلم أنّ الله يسمع سرّنا ونجوانا، ولا تحول الحجب دون رؤيته، لكنّا لا ندري كيف يسمع وكيف يبصر، كما لا نعلم كيف هو تبارك وتعالى، إذ لا مثال يقاس به، ولا فكر يحيط به وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110]، و (ما خطر ببالك، فليس الله كذلك)، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11]. فتفسيرنا لذلك لا يتجاوز معنى اللّفظ وتمييز الفرق بينه وبين سواه باستعمال العرب مع تنزيه الربّ عن مشابهة الخلق، دون تجاوز. ومثله تفسير وقت قيام السّاعة، أو تعيين أوقات ظهور الآيات، كطلوع الشّمس من مغربها، والدّابّة. فالخوض في ذلك خوض فيما لا منفعة فيه، والسّعي وراءه سعي وراء سراب، بل قد يصير بصاحبه إلى الخروج عن الصّراط المستقيم، كما وقع من طوائف أخطأت في أبواب الصّفات والقدر واليوم الآخر وغيرها. وهذا ما يشير إليه القرآن في قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7]. كما صحّ من حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ (فذكرت الآية إلى آخرها)، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم» (¬1). ¬

(¬1) متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4273) ومسلم (رقم: 2665).

ويلاحظ دلالة الآية على قلّة ما فيه التّشابه من آي الكتاب ممّا لا يعلم تأويله إلّا الله، وجعل أمّ الكتاب أي معظمه محكمات تدرك معانيها، وينبني عليها عمل. واعلم أنّ الابتلاء بالمتشابهات إنّما هو لاختبار الإيمان والتّصديق، ولذا قال سبحانه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وهذا هو قدر التّكليف الّذي يتّصل بها. ويتّجه أن يكون من ذلك الحروف المقطّعة في أوائل بعض السّور، فإنّه لم يوقف على حقيقة المراد بها، وخوض من خاض في تفسيرها تكلّف ليس وراءه كبير منفعة، غاية ما يقال كرأي كثيرين: إنّها للتّنبيه على عربيّة هذا القرآن، حيث جاء نظمه مؤتلفا من حروف كلامهم، ولذا يأتي في أكثر المواضع ذكر الكتاب بعدها. ونفت طائفة أن يكون في القرآن ما لا سبيل إلى العلم به، قالوا: لأنّ الله أنزل هذا القرآن للتّدبّر، فكيف يقع فيه ما يستأثر الله بعلمه؟ والصّواب أنّه لا منافاة بين التّدبّر وإدراك معنى اللّفظ ودلالته بل وبناء الاعتقاد أو العمل على مقتضاه، وبين تعذّر إحاطة العلم بذلك، فإنّ الله تعالى قد عرّفنا بنفسه في كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم بما أخبرنا به من أسمائه وصفاته، وما أمرنا بتدبّره من آياته وآثار أفعاله، مع احتجابه عنّا، فعرفناه وآمنّا به دون أن نحيط به علما، ولم يكن ممّا أراد منّا في خطابه أن نتتبّع ما لا

تنبيه

ندرك من صفته، إنّما أراد أن ندرك من خطابه ما يتعلّق به التّكليف، فينبني عليه الاعتقاد أو العمل، وليس من القرآن شيء لا يرتبط به اعتقاد أو عمل، حتّى ما اشتبه ولم نحط به علما، ألم تر قول الرّاسخين في العلم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا؟! تنبيه: (المتشابه) وصف أطلقه الله تعالى على القرآن كلّه، وذلك في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزّمر: 23]، ومعناه هنا غير الّذي سبق، وهو ما يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، لا اختلاف فيه ولا تضادّ. كما أطلق لفظ (المتشابه) على الآيات الّتي تتشابه ألفاظها في المواضع المختلفة في القرآن، واعتنت به طائفة وصنّفوا فيه، مثاله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ في البقرة [الآية: 173]، ولِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ في سائر المواضع [المائدة: 3، الأنعام: 145، النحل: 115]، ومثل: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ في الأنعام [الآية: 165]، وخَلائِفَ فِي الْأَرْضِ في موضعين [يونس: 14، فاطر: 39]، ومثل: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60]، وفَانْبَجَسَتْ في الأعراف [الآية: 160]. ومن فائدته تمييز الفروق لملاحظة ما يقع فيها من الدّلائل، وتيسير حفظ القرآن.

المبحث الثاني: حكم التفسير

المبحث الثاني: حكم التفسير حكم تفسير القرآن على أساس قسمة الوجوه الأربعة السّابقة، كما يأتي: فأمّا الوجهان الأوّل والثّالث، فالاشتغال بهما فرض كفاية، لا بدّ أن يكون في الأمّة في كلّ زمان من يحقّق لها الكفاية فيه. أمّا الأوّل فإنّ لسان العرب في استعمالها الألفاظ أو معرفة مرادها بها، لا سبيل إليه إلّا بأن يوجد في الأمّة ما يحفظ ومن يحفظ عليها ذلك، والتّفريط فيه تضييع لأصل عظيم لفهم القرآن. وأمّا الثّالث، فإنّ الحاجة إلى تبيين مراد الله تعالى بأمره ونهيه في كتابه، يوجب على الأمّة أن يكون فيها متخصّصون في معرفة الكتاب، يتقنون آلة الفهم، ويحسنون استعمالها؛ وذلك للوقوف على شرائع دين الإسلام، ودلالة الخلق عليه، ووقايتهم من الخوض في القرآن بغير علم. وأصل هذا قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التّوبة: 122]. كذلك ما أخذ الله على أهل العلم من الميثاق في بيان العلم، كما قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187]، وقال عز وجلّ: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79].

حكم التفسير بالرأي

وأمّا الوجه الثّاني، وهو تدبّر القرآن، فإنّ الله تعالى أمر به جميع المكلّفين، كلّا بحسب ما آتاه الله، كما سبق ذكر بعض الأدلّة فيه. وأمّا حكم تفسير ما استأثر الله بعلمه، فهو المنع والتّحريم، لاندراجه تحت قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]، وقوله عز وجلّ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 32]، وسائر النّصوص المانعة من الكلام في الدّين بغير علم، كذلك أصحابه موصوفون بالزّيغ، كما تقدّم. حكم التفسير بالرأي: الاجتهاد من قبل أهل العلم في تفسير القرآن واجب، كما تقدّم، والاجتهاد إظهار للرّأي في تفسير الآية، لكن شتّان ما بين مجتهد بذل غاية وسعه، وهو أهل لذلك: قد ملك الآلة، وأتى الأمر من بابه، وبين متكلّف قد صرّفته الأهواء كيف شاءت، فاستنّ بسنّة من سبق من أهل الضّلالة في التّحريف والتّبديل، أو تكلّف متعجّلا فتكلّم في القرآن دون رويّة. فهذان صنفان، كلاهما تكلّم بالرّأي، لكنّ الأوّل محمود مأجور، والثّاني مذموم موزور. وعلى هذا الثّاني يتنزّل ما ورد من ذمّ التّفسير بالرّأي وتحريمه؛ لأنّ هواه أو عدم تثبّته وتحرّيه يوقعه في أن يقول على الله غير الحقّ.

وكان أئمّة الصّحابة والتّابعين على ما آتاهم الله من المكانة في العلم في غاية الاحتراز من الكلام في القرآن، إلّا ما بدا وجهه وظهرت حجّته، ومن الأثر فيه ما يلي: 1 - عن أنس بن مالك: أنّه سمع عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، يقول: «فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا 31 [عبس: 27 - 31]، قال: فكلّ هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثمّ نفض عصا كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله التّكلّف، اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب» (¬1). 2 - وعن مسروق بن الأجدع، قال: ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه الحاكم (رقم: 3897) وعنه: البيهقيّ في «شعب الإيمان» (رقم: 2281) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أنّ أنسا، به. قلت: وإسناده صحيح، وصالح هو ابن كيسان. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشّيخين». وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30096) وسعيد بن منصور في «تفسيره» (رقم: 43) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 375) والحاكم، والبيهقيّ، من طريق حميد الطّويل عن أنس، به ببعض الاختصار. وإسناده صحيح. كذلك أخرجه ابن سعد في «الطّبقات» (3/ 327) والبخاريّ في «صحيحه» (رقم: 6863) من طريق ثابت البنانيّ، عن أنس، واقتصر البخاريّ منه على النّهي عن التّكلّف.

بينما رجل يحدّث في كندة (¬1)، فقال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم كهيئة الزّكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعود، وكان متّكئا (¬2)، فغضب فجلس، فقال: «من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإنّ الله قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]» (¬3). 3 - وعن عبد الله بن أبي مليكة، قال: سأل رجل ابن عبّاس عن يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السّجدة: 5]؟ فقال ابن عبّاس: فما يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4]؟ قال الرّجل: إنّما سألتك لتحدّثني، فقال ابن عبّاس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم (¬4). ¬

(¬1) كندة: قبيلة من أهل اليمن، تفرّقوا في البلاد، والمراد هنا: منازلهم بالكوفة. (¬2) قال مسروق في رواية صحيحة الإسناد: إنّي تركت في المسجد رجلا يفسّر القرآن برأيه. أخرجها أحمد (رقم: 3613). (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4496، 4531، 4545) ومسلم (رقم: 2798). (¬4) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 376) وابن جرير في «تفسيره» (29/ 72) والحاكم (رقم: 8803 وهو آخر حديث في: المستدرك) من طرق عن أيّوب السّختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، به. قلت: وإسناده صحيح. وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط البخاريّ».

4 - وعن عبيد الله بن عمر، قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة وإنّهم ليعظّمون القول في التّفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمّد، وسعيد بن المسيّب، ونافع» (¬1). 5 - وكان مسروق بن الأجدع يقول: «اتّقوا التّفسير، فإنّما هو الرّواية عن الله عز وجلّ» (¬2). 6 - وكذلك قال عامر الشّعبيّ: «والله، ما من آية إلّا قد سألت عنها، ولكنّها الرّواية عن الله» (¬3). وروي في تحريم تفسير القرآن بمجرّد الرّأي حديثان شائعان، لم أستدلّ بهما لضعفهما من جهة الرّواية، مستغنيا بما أوردت آنفا ممّا يحقّق المقصود، وإنّما أنبّه عليهما دفعا للتّعلّق بهما. الأوّل: ما روي عن عبد الله بن عبّاس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في القرآن بغير علم (وفي رواية: برأيه)؛ فليتبوّأ مقعده من النّار» (¬4). ¬

(¬1) أثر صحيح الإسناد. أخرجه ابن جرير (1/ 37). وهؤلاء المذكورون جميعا من فقهاء المدينة الّذين عليهم مدار الفتوى فيها بعد أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. (¬2) أثر صحيح الإسناد. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 377). (¬3) أثر صحيح الإسناد. أخرجه ابن جرير (1/ 38). (¬4) أخرجه أحمد (رقم: 2069، 2429، 2974، 3024) والتّرمذيّ (رقم: 2950) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 109، 110) وأبو يعلى (رقم: 2338، 2585، 2721) وابن جرير (1/ 34) والطّبرانيّ في «الكبير» (12/ رقم: 12392) وغيرهم من طريق عبد الأعلى بن عامر الثّعلبيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس. قلت: وعبد الأعلى هذا ضعيف الحديث، ليس بالقويّ، ولم يتابع على هذا الحديث، كما أنّه قد اختلف عليه فيه، فمرّة حدّث به مرفوعا، ومرّة موقوفا. ولم يصب من حسّنه، وقد فصّلت القول فيه في «علل الحديث».

والثّاني: ما روي عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» (¬1). وبيّن كثير من أهل العلم الفصل بين التّفسير بالرّأي المحمود والرّأي المذموم، فمن ذلك: قال البيهقيّ: «الرّأي الّذي يغلب على القلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الرّأي لا يجوز الحكم به في النّوازل، فكذلك لا يجوز تفسير القرآن به، وأمّا الرّأي الّذي يسنده برهان، فالحكم به في النّوازل جائز، وكذلك تفسير القرآن به جائز» (¬2). وقال ابن عطيّة: «معنى هذا أن يسأل الرّجل عن معنى في كتاب الله، فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلوم، كالنّحو ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3652) والتّرمذيّ (رقم: 2952) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 111) وأبو يعلى (رقم: 1520) وابن جرير (1/ 35) والطّبرانيّ (رقم: 1672) وابن عديّ في «الكامل» (4/ 527) وغيرهم من طرق عن سهيل بن عبد الله ابن أبي حزم القطعيّ، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندب، به. قلت: وإسناده ضعيف، سهيل ضعيف الحديث، وتفرّد بهذا عن أبي عمران. (¬2) شعب الإيمان (2/ 423).

والأصول، وليس يدخل في هذا ... أن يفسّر اللّغويّون لغته، والنّحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاد المبنيّ على قوانين علم ونظر، فإنّ القائل على هذه الصّفة ليس قائلا بمجرّد رأيه» (¬1). وقال القرطبيّ: «النّهي يحمل على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشّيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه؛ ليحتجّ على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرّأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النّوع يكون تارة مع العلم، كالّذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه. وتارة يكون مع الجهل، وذلك إذا كانت الآية في ذلك محتملة، فيميل فهمه إلى الوجه الّذي يوافق غرضه، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه، أي رأيه حمله على ذلك التّفسير، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك الوجه. وتارة يكون له غرض صحيح، فيطلب له دليلا من القرآن، ويستدلّ عليه بما يعلم أنّه ما أريد به .. والوجه الثّاني: أن يسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة، من غير ¬

(¬1) المحرّر الوجيز (1/ 29).

استظهار بالسّماع والنّقل فيما يتعلّق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتّقديم والتّأخير، فمن لم يحكم ظاهر التّفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربيّة كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسّر القرآن بالرّأي، والنّقل والسّماع لا بدّ له منه في ظاهر التّفسير أوّلا؛ ليتّقي به مواضع الغلط، ثمّ بعد ذلك يتّسع الفهم والاستنباط، والغرائب الّتي لا تفهم إلّا بالسّماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظّاهر». ثمّ قال: «وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرّق النّهي إليه» (¬1). ... ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 33 - 34)، وانظر معناه للنّووي في «التّبيان في آداب حملة القرآن» (ص: 85 - 86)، وللمزيد: «البرهان في علوم القرآن»، للزّركشيّ (2/ 161 - 164).

الفصل الثاني: المنهج في تفسير القرآن

الفصل الثاني: المنهج في تفسير القرآن المبحث الأول: شروط المفسر لما تقدّم ذكره من خطورة الكلام في تفسير القرآن بالهوى وبغير علم، وصيانة للكتاب العزيز عن العبث في معانيه يشترط في المتكلّم فيه (المفسّر) شروط، هي صفات لازمة لا يحلّ التّعرّض لتفسير القرآن بدونها: الشّرط الأوّل: صحّة الاعتقاد وسلامة المنهج. والعلّة في هذا أنّ فساد الاعتقاد والمنهج يصير بصاحبه إلى تحريف دلالة القرآن إلى ما يعتقد وينهج، وقد وقع ذلك من طوائف ممّن تصدّى للتّفسير ولم يكونوا على الاستقامة، فقالوا على الله غير الحقّ وحرّفوا الكلم عن دلالته، ككلامهم في تحريف معاني الصّفات، والوعد والوعيد، وغيرها من آيات العقائد والإيمان. والمقياس: الوقوف عند ما جاء به الكتاب، وثبت به الخبر عن الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، مع متابعة الأثر عن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأئمّة التّابعين، ثمّ من جرى على منهاجهم ممّن جعل الله لهم الإمامة في الدّين، من أمثال الأئمّة أبي حنيفة ومالك وسفيان الثّوريّ وعبد الله بن المبارك والأوزاعيّ وسفيان بن عيينة والشّافعيّ وأحمد بن حنبل والحميديّ والبخاريّ وابن

الشرط الثاني: صحة المقصد والتجرد للحق والسلامة من الهوى.

جرير الطّبريّ، ومن وافق سبيلهم وجرى على هديهم في أبواب العقائد والسّلوك، فسبيل أولئك سبيل المؤمنين، وهو الأعلم والأسلم، لا سبيل من خلف، ممّن زاد واختلف، فجاء بما لم يرد به خبر، ولا جرى على أثر، متقحّما ما ليس له به علم، سالكا سنن اليهود في التّحريف والتّبديل. الشّرط الثّاني: صحّة المقصد والتجرّد للحقّ والسّلامة من الهوى. وهذا شبيه في أثره للّذي قبله ومتمّم له، والإخلاص والصّدق قائد لصاحبه إلى الهدى. وصحّة المقصد من أعظم أسباب التّوفيق، وفهم القرآن توفيق ومنحة، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» (¬1). أمّا الرّياء والمباهاة في العلم فممحقة لبركته في الدّنيا، ووبال على صاحبه في الآخرة، نعوذ بالله من الخذلان. فقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: «من تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السّفهاء، أو ليصرف به وجوه النّاس إليه، فهو في النّار» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 71 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان. (¬2) حديث حسن. أخرجه الرّويانيّ في «مسنده» (رقم: 1364) وبحشل في «تاريخ واسط» (ص: 128) والبزّار (رقم: 178 - كشف الأستار) وغيرهم من حديث قتادة عن أنس. قلت: وهذا حديث حسن بطرقه، له بضعة عشر طريقا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، خمسة منها صالحة للاعتبار، يتقوّى بها الحديث، وذلك إضافة لحديث أنس: عن جابر بن عبد الله، وكعب بن مالك، وأمّ سلمة، ومكحول مرسلا، كذلك موقوفا عن ابن مسعود. وقد شرحت طرقه تفصيلا في «علل الحديث».

وثبت من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم علما ممّا يبتغى به وجه الله، لا يتعلّمه إلّا ليصيب به عرضا من الدّنيا، لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة» يعني ريحها (¬1). والعلم النّافع المحقّق لمعرفة الله عز وجلّ وخشيته لا يكون إلّا مع الإخلاص والاستعانة به، والقصد إلى العمل بذلك العلم. كذلك من الحجب الكثيفة المانعة من إدراك حقائق التّنزيل والفهم السّليم لكلام الله: اتّباع الهوى، كان ذلك في الشّبهات أو في الشّهوات. وقد قال الله عز وجلّ لعبده داود عليه السّلام: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: 50]. ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 731) وأحمد (14/ 169 رقم: 8457) وأبو داود (رقم: 3664) وابن ماجة (رقم: 252) وأبو يعلى (رقم: 6373) وآخرون من حديث أبي هريرة، به. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، عند الخطيب في «الجامع لأخلاق الرّاوي» (رقم: 16). وهو حديث حسن بطريقيه، كما بيّنته في «علل الحديث» وغيره.

الشرط الثالث: التحري والتثبت في الفهم.

قال الزّركشيّ: «واعلم أنّه لا يحصل للنّاظر فهم معاني الوحي حقيقة، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة، وفي قلبه بدعة، أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كبر أو هوى، أو حبّ الدّنيا، أو يكون غير متحقّق الإيمان، أو ضعيف التّحقيق، أو معتمدا على قول مفسّر ليس عنده إلّا علم بظاهر، أو يكون راجعا إلى معقوله، وهذه كلّها حجب وموانع، وبعضها آكد من بعض» (¬1). الشّرط الثّالث: التّحرّي والتّثبّت في الفهم. وأحسن ما يعين عليه ويرشد إليه اتّباع الطّرق الشّرعيّة لفهم القرآن، وذلك وفق المنهجيّة الآتية في المبحث التّالي. الشّرط الرّابع: الدّقّة في النّقل، واعتماد القويّ الثّابت. وذلك في نقل اللّغة، وفي كلّ ما يعتمد على الإسناد من الحديث في القراءات والتّفسير وأسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ، والآثار عن الصّحابة ومن بعدهم، وفي الكلام المعزوّ للعلماء، خاصّة علماء السّلف، فإنّ الحكايات الواهية وما لا أصل له كثير في ذلك. وإلى هذا يشير الإمام أحمد بن حنبل في عبارة جامعة، قال: «ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتّفسير» (¬2). ¬

(¬1) البرهان، للزّركشي (2/ 180 - 181). (¬2) أخرجه ابن عديّ في «الكامل» (1/ 212)، ومن طريقه: الخطيب في «الجامع لأخلاق الرّاوي» (رقم: 1493) بإسناد صحيح. وعلّق عليه =

المبحث الثاني: الطرق التي يتبعها المفسر

يشير إلى أغلب ما يذكر فيها، فهو إمّا ضعيف أو موضوع لا أصل له. وعن الإمام عبد الرّحمن بن مهديّ، قال: «لا يجوز أن يكون الرّجل إماما حتّى يعلم ما يصحّ ممّا لا يصحّ، وحتّى لا يحتجّ بكلّ شيء، وحتّى يعلم مخارج العلم» (¬1). المبحث الثاني: الطرق التي يتبعها المفسر من الأسباب المعينة على فهم القرآن على أحسن وجه، بعيدا عن التّكلّف والمجازفة، وفيما لا يتوقّف فهمه على دلالة اللّفظ القريب، أن تسلك المنهجيّة التّالية: أوّلا: أن يفسّر القرآن بالقرآن. وذلك بأن يستكشف معنى الآية من نفس القرآن، وهذا على وجوه: ¬

= ابن حجر في مقدّمة «لسان الميزان» (1/ 106) بقوله: «ينبغي أن يضاف إليها الفضائل، فهذه أودية الأحاديث الضّعيفة والموضوعة، إذ كانت العمدة في المغازي على مثل الواقديّ، وفي التّفسير على مثل مقاتل والكلبيّ، وفي الملاحم على الإسرائيليّات، وأمّا الفضائل فلا يحصى كم وضع الرّافضة في أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السّنّة بفضائل معاوية بدأ وبفضائل الشّيخين». (¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (رقم: 12839) والبيهقي في «المدخل» (رقم: 188) وإسناده صحيح.

فتارة بملاحظة السّياق الّذي وردت فيه الآية، كفهم تقدير الجواب في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرّعد: 31] ولم يذكر جواب (لو)، وهو مدرك بتأمّل السّياق، والمعنى: لو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى لكان هذا القرآن. وتارة بملاحظة سياق الآيات، كفهم المراد بالقارعة ممّا يليها من نفس بيان القرآن، وذلك في قوله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ 4 الآيات [القارعة: 1 - 4]، فقد فسّرها ما بعدها. وتارة يكون فهم المراد من خلال تأمّل ورود التّفسير في موضع آخر في القرآن، كتفسير قوله تعالى: يَوْمِ الدِّينِ في سورة الفاتحة، بقوله في سورة الانفطار: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الآيات: 17 - 19]. وتارة بتتبّع مواضع التّكرار، إذ ليس في القرآن تكرار بمعنى إعادة الشّيء نفسه مرّة أخرى على سبيل التّساوي من كلّ وجه، وإنّما التّكرار في كلّ موضع له من الدّلالة ما يستقلّ به عن الموضع الآخر، إمّا بزيادة تفسير أو تفصيل أو دليل، فالبحث عن معنى الآية أو الآيات من خلال جمعها والمقارنة بينها وبين مواضع تكرارها طريق عظيم الأثر في فهم القرآن، مثل الرّبط بين الأمر بالحجّ في سورة آل عمران في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ

ثانيا: أن يفسر القرآن بالسنة.

حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [الآية: 97] مع الآيات في ذلك في سورتي البقرة والحجّ، وفهم حقيقة النّفاق بالرّبط بين الآيات في أوّل البقرة مع الآيات في ذلك من سورة النّساء، مع سورتي التّوبة والمنافقون، وفهم حقيقة اليهود من خلال ما قصّ الله من أنبائهم في المواضع المختلفة، وهكذا. وسيأتي ذكر طرف من القواعد المساعدة على التّوصّل إلى تفسير القرآن بالقرآن، ضمن (قواعد التّفسير). وهذا الطّريق في التّفسير قد سلكه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، ومن الدّليل عليه حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيّنا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هو كما تظنّون، إنّما هو كما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]» (¬1). ثانيا: أن يفسّر القرآن بالسّنّة. وذلك بأن ينظر في السّنن الثّابتة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الآية، فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم هو المبيّن للقرآن بإذن الله، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 32 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 124).

1 - بيانها لمعاني المفردات.

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النّحل: 44]، وبيانه صلى الله عليه وسلم وحي معصوم لا يساويه بيان غيره من البشر مهما بلغ علمه، كما قال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى 4 [النّجم: 2 - 4]. فالسّنّة تفسّر مجمل القرآن، وتخصّص عامّه، وتقيّد مطلقه، وتبيّن ناسخه ومنسوخه. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «فإن قال قائل: فما أحسن طرق التّفسير؟ فالجواب: إنّ أصحّ الطّرق في ذلك أن يفسّر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنّه قد فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسّنّة، فإنّها شارحة للقرآن وموضّحة له» (¬1). واعلم أنّ تفسير السّنّة يستفاد من وجوه، أهمّها: 1 - بيانها لمعاني المفردات. مثل تفسير قوله تعالى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها 12 [الشّمس: 12]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة» (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 195)، وانظر: البرهان، للزّركشيّ (2/ 175 - 176). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4658 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 2855) من حديث عبد الله بن زمعة. وعارم: أي شرس شرّير. والمعنى أنّه كان رجلا له منعة في قومه مع شرّ وسوء خلق، شبيها بما كان لأبي زمعة، وهو الأسود بن المطّلب من عمومة الزّبير بن العوّام، كان في الجاهليّة. (وانظر: الفتح 8/ 705 - 706).

2 - تفسيرها للإجمال

وكتفسير السّبع المثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2 هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته» (¬1)، يفسّر بذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ 87 [الحجر: 87]. وهذا النّمط من التّفسير النّبويّ قليل، ولعلّ السّبب في ذلك ظهور معاني مفردات القرآن في أغلبها للمخاطبين به يومئذ؛ إذ نزل بلسانهم، بخلاف من بعدهم. 2 - تفسيرها للإجمال: وأكثر التّفسير النّبويّ للقرآن واقع على هذا الوجه، كتفسير الأحكام وشرائع الإسلام الّتي جاء ذكرها في القرآن بقدر يتعسّر أو يتعذّر معه الامتثال، كبيان صفة الصّلاة، وأحكام الزّكاة، والصّيام، والحجّ، والقصاص، والدّيات، وغيرها. ومن ذلك تقييدها المطلق، كتقييد قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النّساء: 11، 12] بالثّلث، ومنعها بما يزيد عليه (¬2). وتخصيصها العامّ، كتخصيص عموم قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم تخريجه (ص: 65، 139). (¬2) كما في حديث سعد بن أبي وقّاص، وهو متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1233 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 1628).

3 - رفعها للإشكال

الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] بإباحته صلى الله عليه وسلم ميتة البحر في قوله: «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته» (¬1). ومنه أيضا بيان الإبهام في الآية المعيّنة، كما في حديث البراء بن عازب، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27]» (¬2). 3 - رفعها للإشكال: كما في حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب عذّب»، فقلت: أليس قد قال الله عز وجلّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً 8 [الانشقاق: 8]؟ فقال: «ليس ذاك الحساب، إنّما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذّب» (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه مالك في «الموطّأ» (رقم: 45) وأحمد (رقم: 7233، 8735، 8912، 9099، 9100) وأبو داود (رقم: 83) والتّرمذيّ (رقم: 69) والنّسائيّ (رقم: 59، 176، 4350) وابن ماجة (رقم: 386، 3246) من حديث أبي هريرة. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1303، 4422) ومسلم (رقم: 2871). (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 103 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 2876).

4 - توكيدها للقرآن مع زيادة البيان

4 - توكيدها للقرآن مع زيادة البيان: الاستعمالات النّبويّة للآية والاستشهاد بها لشيء يكشف من معاني القرآن ما لا يمكن أن يعرف من غير هذا الطّريق، فتكون السّنّة فيما جاءت به من المعنى مؤكّدة ومصدّقة لما جاء به الكتاب، وزائدة في بيانه. مثاله حديث عبد الله بن الشّخّير، قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ 1 قال: «يقول ابن آدم: ما لي، مالي» قال: «وهل لك يا ابن آدم من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت؟» (¬1). كذلك يعرف بالسّنّة النّسخ، فإنّها تأتي به أو تدلّ عليه. كما ترشد إلى معرفة أسباب نزول القرآن (¬2). وهذا الطّريق متّفق على استعماله عند أهل العلم، وهو مقدّم عندهم على ما سواه من طرق التّفسير، كيف لا وهو بيان من بيانه وحي ودين؟ بل هو القاضي على كلّ بيان سواه، لا ينازع تفسيره بتفسير من دونه، مهما كان قدر المفسّر، لكن بشرط أن تصحّ به الرّواية. وعلى هذا المنهج جرى الأوّلون، فعن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (رقم: 2958). (¬2) تقدّم شرح ذلك في فصوله من هذا الكتاب، ما يتّصل منه بالنّسخ أو أسباب النّزول.

ثالثا: تفسير القرآن بآثار الصحابة.

كان ابن عبّاس إذا سئل عن الأمر، فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه (¬1). ثالثا: تفسير القرآن بآثار الصّحابة. وهذا بالنّظر في المنقول الثّابت عنهم في التّفسير عند فقده في القرآن والسّنّة، ذلك، أنّهم قد أوتوا من الدّراية بالقرآن ما لم يؤت أحد بعدهم، ولا عجب، فهم العرب الخلّص، وبلسانهم نزل القرآن، وقد شهدوا التّنزيل، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فربّاهم بالقرآن، وكان يصبّحهم ويمسّيهم يتلوه عليهم ويبيّنه لهم بالقول والعمل، وهذه خصائص توجب بالضّرورة أن يكونوا أعلم النّاس بكتاب الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). حكم الاستدلال بتفسير الصّحابيّ: كلام الصّحابيّ في التّفسير وارد على أربعة أقسام: أوّلها: أن يكون حكاية عمّا وقع في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كسبب نزول آية أو ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 22984) والدّارميّ (رقم: 166) وابن سعد (2/ 366) والحاكم (رقم: 439) والبيهقيّ في «المدخل» (رقم: 73) والخطيب في «الفقيه والمتفقّه» (رقم: 542، 543) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبيد الله، به. (¬2) انظر ما سيأتي في المقدّمة السّادسة (ص: 467) عند ذكر هدي الصّحابة في أخذ القرآن. كذلك بالنّسبة إلى دورهم في التّفسير انظر ما سيأتي في (تاريخ التّفسير).

سورة، أو الإخبار عن شيء كان يومئذ. فأمّا المثال لسبب النّزول فقد تقدّم. وأمّا المثال لشيء وقع يومئذ، فكحديث عائشة، في قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] قالت: «كان ذلك يوم الخندق» (¬1). فمثل هذا له حكم المرفوع، وهو حجّة (¬2). وثانيها: أن يكون خبرا لا يقال مثله من قبل الرّأي، فله حكم المرفوع، وهو حجّة، بشرط أن لا توجد مظنّة غالبة أنّه ممّا أخذ عن علماء أهل الكتاب، كبعض قصص الأنبياء وغيرهم، وما يتّصل ببدء الخلق وذكر الجنّة والنّار (¬3). فمثال ما له حكم الرّفع حديث ابن عبّاس في سياق قصّة إسماعيل عليه السّلام وأمّه وأبيه إبراهيم الخليل عليه السّلام، وبناء البيت الحرام، فقد ذكر قصّة طويلة أكثرها لم يقل فيه: (قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم) (¬4). ومثل قول ابن عبّاس أيضا ممّا يدرج تحت تفسير غير آية: ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3877) ومسلم (رقم: 3020). (¬2) وانظر ما تقدّم في شأن أسباب النّزول (ص: 45). (¬3) وانظر ما سيأتي في الفصل الرّابع حول الإسرائيليّات (ص: 343). (¬4) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3184).

«ليس في الدّنيا شيء ممّا في الجنّة إلّا الأسماء» (¬1). ونقول لهذا: (له حكم الرّفع) لأنّ مثله لا يقال إلّا بتوقيف، إذ احتمال كونه مجرّد اجتهاد ضعيف، ومظنّة كونه من الإسرائيليّات ضعيفة كذلك؛ لأنّ ابن عبّاس وإن سمع من كعب الأحبار، لكنّه أقلّ جدّا مع نقده لذلك. أمّا إذا كان الصّحابيّ ممّن قد ثبت كثرة تحديثه بالإسرائيليّات، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، فالواجب أن لا يقال فيما نقلوا ممّا فيه مظنّة ذلك: (له حكم الرّفع). مثل قول أبي هريرة في تفسير قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [القصص: 46] قال: نودي أن: يا أمّة محمّد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني (¬2). فهذا خبر لا يقال مثله من قبل الاجتهاد، إنّما يعتمد على النّقل، لكن حين ثبت أنّ أبا هريرة حمل من علوم أهل الكتاب، لم يصحّ أن يقال في هذا: (له حكم الرّفع). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه وكيع بن الجرّاح في «نسخته عن الأعمش» (رقم: 1) وهنّاد في «الزّهد» (رقم: 3، 8) وابن جرير (1/ 174) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 260) وغيرهم من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاس، به. وإسناده صحيح. (¬2) أثر صحيح. أخرجه النّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 402) وابن أبي حاتم (رقم: 16946) والحاكم (رقم: 3535). وإسناده صحيح.

رابعا: تفسير القرآن بأقوال التابعين ومن بعدهم.

وثالثها: أن يكون من قبيل تفسير اللّفظ من جهة استعمال العرب له، فذلك حجّة في نقل اللّغة، فإنّ ما يقوله ابن عبّاس في مثل ذلك أقوى ممّا يذكر عن الخليل بن أحمد أو الفرّاء أو أبي عبيدة أو غيرهم من أئمّة اللّغة. ومثال هذا كثير جدّا في كتب التّفسير بالمأثور. ورابعها: أن يكون باجتهاد الصّحابيّ، وهو ما سوى الأقسام الثّلاثة الماضية، فهذا موقوف عليه، وليس بحجّة ملزمة على القول الرّاجح لأهل العلم (¬1). وهذا يوجد بكثرة في كتب التّفسير بالأثر كالّذي قبله. رابعا: تفسير القرآن بأقوال التّابعين ومن بعدهم. والمراد بهم من أتى بعد الصّحابة من أهل العلم بالقرآن، قبل انتشار التّدوين، كما سيأتي في (تاريخ التّفسير). فينظر في كلامهم في التّفسير عند فقد الأثر عن الصّحابة، وذلك على ¬

(¬1) وطريقة البخاريّ ومسلم أنّهما خرّجا من تفسير الصّحابة ما يقتضي شرطهما أنّه مسند، أي بمنزلة المرفوع، خاصّة البخاريّ فما خرّج من ذلك أكثر ممّا خرّج مسلم. واستدلّ بذلك الحاكم صاحب «المستدرك» ليستدرك آثار الصّحابة في التّفسير ممّا لم يخرّجه الشّيخان، وقال: «اتّفقا على أنّ تفسير الصّحابيّ حديث مسند» (المستدرك 1/ 542 وأعاد نحوه 2/ 258) ورجّح بعض العلماء ذلك، وانظر للمسألة: «المسوّدة» لآل تيميّة (ص: 158 - 159)، «إعلام الموقّعين» لابن القيّم (4/ 198 - 202)، «البرهان» للزّركشيّ (2/ 157).

خامسا: اعتبار دلالة اللغة، والقياس بالأشباه والنظائر.

سبيل الاستحباب، فقد كان عهدهم قريبا من عصر النّبوّة، وحملوا العلم عن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتتلمذوا عليهم، وتأدّبوا بأدبهم، مع ما أوتوا وعرفوا به من الدّين، والصّدق، والأمانة، وصحّة الاعتقاد، وسلامة المنهاج، والبعد عن التّكلّف (¬1). خامسا: اعتبار دلالة اللّغة، والقياس بالأشباه والنّظائر. وهذا مسلك إعمال الرّأي مشروطا بمراعاة لغة القرآن، وأصول الشّريعة في الفهم والاستنباط. وهو يوجب تحصيل آلة تعين على استكشاف ألصق المعاني بمراد الله تعالى بكلامه، وتعود إلى أصلين: الأصل الأوّل: العلم بالعربيّة. ويتمثّل بالقدرة على استعمال المعاجم الموضوعة لشرح الحقيقة اللّغويّة، مع الدّراية بعلوم النّحو والصّرف والبلاغة، على الوجه الّذي يمكّن من فهم التّراكيب والدّلالات بحسب وضعها اللّغويّ. ولقد كان هذا المنهج، وهو الرّجوع إلى لسان العرب لفهم الألفاظ ودلالاتها، سبيل من سبق من أئمّة التّفسير منذ عصر السّلف. فهذا مفسّر الصّحابة عبد الله بن عبّاس، يتفقّد لغة القرآن في كلام ¬

(¬1) يأتي في (أنواع التّفسير) تسمية أمّهات كتب التّفسير بالمأثور المشتملة على المنقول عن السّلف.

الأصل الثاني: العلم بما يتصل بالقرآن مما له الأثر في فهمه.

العرب، ويستشهد لها بنثرهم وشعرهم: فعنه، قال: كنت لا أدري ما فاطِرِ السَّماواتِ [الأنعام: 14] حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها (¬1). وكان إذا سئل عن الشّيء من عربيّة القرآن ينشد الشّعر (¬2). ويقول: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشّعر؛ فإنّه ديوان العرب (¬3). الأصل الثّاني: العلم بما يتّصل بالقرآن ممّا له الأثر في فهمه. كالمقدّمات ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 345) ومن طريقه: ابن الأنباري في «الوقف والابتداء» (رقم: 109) والبيهقي في «الشّعب» (رقم: 1682) بسند حسن. (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29974) وعبد الله بن أحمد في «زوائد فضائل الصّحابة» (رقم: 1916) من طريق عكرمة عن ابن عبّاس، وإسناده صحيح. كذلك روى نحوه عن ابن عبّاس عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أخرجه سعيد بن منصور في «التّفسير» (رقم: 91) وأحمد في «الفضائل» (رقم: 1865) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 343) و «غريب الحديث» (4/ 373) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1681) وإسناده صحيح. (¬3) أثر حسن. أخرجه الحاكم (رقم: 3845) وقال: «صحيح الإسناد» قلت: هو حسن. كذلك أخرجه آخرون بنحوه.

الأساسيّة في علوم القرآن، مثل أسباب النّزول، والنّاسخ والمنسوخ، وعلم القراءات، وسبق التّنبيه على أهمّيّتها لفهم القرآن (¬1)، وعلم أصول الفقه. وقد قرّبت هذه العلوم بالتّصانيف المفردة فيها: فأسباب النّزول وإن لم يكن فيها كبير شيء، لكنّ جمع السّيوطيّ حسن، وهو المسمّى ب «لباب النّقول في أسباب النّزول»، فقد أتى فيه على تصنيف الواحديّ قبله وزاد، والمأخذ عليه أنّه ليس بالمحرّر، وفيه الثّابت وغيره، وهو قد يبيّن درجة الخبر أحيانا، لكنّه كذلك معروف بتساهل شديد في الحكم على الأحاديث. وفي المعاصرين ألّف الشّيخ مقبل الوادعيّ فيه كتابا حسنا سمّاه: «الصّحيح المسند من أسباب النّزول»، اختار فيه ما ثبت لديه في الباب، وعليه تعقّبات واستدراك، وفي كتابه فوات، وفي طريقته تشدّد زائد. وفي النّاسخ والمنسوخ، تقدّم النّصح بكتاب أبي الفرج ابن الجوزيّ المسمّى «نواسخ القرآن» (¬2) فهو نافع محقّق للغرض. وفي القراءات، كتب كثيرة لا تدخل تحت الحصر، ولو أقبلت في بابها على كتب إمام القرّاء أبي الخير ابن الجزريّ المتوفّى سنة (833 هـ) لكفتك، ككتاب «النّشر في القراءات العشر». ¬

(¬1) انظر ما تقدّم (ص: 52، 56، 267). (¬2) انظر (ص: 269).

وفي توجيه اختلاف القراءات بعض المؤلّفات المفيدة، من أحسنها «حجّة القراءات» لأبي زرعة عبد الرّحمن بن محمّد بن زنجلة. كذلك، فإنّ في القراءات التّفسيريّة المنقولة عن أفراد الصّحابة، ما يعين كثيرا في تفسير القرآن، والمقصود ما ثبتت به الرّواية عنهم، كالمنقول من قراءة ابن مسعود وعليّ بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وعائشة وغيرهم. صحّ عن إمام التّابعين في التّفسير مجاهد المكّيّ قال: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود، لم أحتج إلى أن أسأل ابن عبّاس عن كثير من القرآن ممّا سألت (¬1). وعامّة من جرى على اقتفاء الأثر في التّفسير قد اعتنى بهذا الجانب من أصوله (¬2). وأمّا علم أصول الفقه، فهو رأس هذه العلوم، لا يحلّ لمن لا يحسنه أن يتقحّم الكلام في تفسير القرآن، فبه تعرف أصول درجات الأحكام، وأدلّتها، والطّرق إلى فهمها، والكلّيّات الّتي تعود إليها. والمؤلّفات فيه لا تحصر، والمختصر فيه مع الاستيعاب محقّق للغرض (¬3). ¬

(¬1) أخرجه التّرمذيّ في «الجامع» (بعد رقم: 2952) وإسناده صحيح. (¬2) وانظر ما تقدّم (ص: 186). (¬3) وقد وفّقني الله بفضله ومنّه إلى تجريد مختصر نافع فيه إن شاء الله، بعيد عما لا ينبني عليه عمل منه، مع الاستدلال بالثّابت البيّن، والتّمثيل الّذي لم تجر عليه أكثر الكتب في هذا الباب، سمّيته: «تيسير علم أصول الفقه»، فالحمد لله على توفيقه.

خاتمة الفصل

خاتمة الفصل هذا الّذي بيّنت في هذا الفصل من ذكر صفة المفسّر وشرطه، والطّرق الخمس التي عليه اتّباعها، يمثّل منهاج السّلامة للكلام في القرآن، العاصم من الزّلل، والمعين على معرفة أسرار التّنزيل، وهو يمثّل القاعدة الكلّيّة لفهم القرآن. ثمّ من تسلّح به فلا حرج عليه من بعد أن يستنبط ما لم يذكر قبله، فإنّ الله تعالى لم يحجر ذلك على سالف، إنّما هو النّظر في خطابه المباشر لكلّ أحد بعينه. قال الزّركشيّ: «المنقول من ظاهر التّفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنّقل، والسّماع لا بدّ منه في ظاهر التّفسير؛ ليتّقى به مواضع الغلط، ثمّ بعد ذلك يتّسع الفهم والاستنباط» (¬1). ... ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن (2/ 155).

الفصل الثالث: تاريخ التفسير

الفصل الثالث: تاريخ التفسير المراد بهذا الفصل ذكر المراحل التّاريخيّة الّتي مرّ بها اعتناء الأمّة بتفسير القرآن، لنعرف من خلالها مواردنا لهذا العلم العظيم، فإنّنا في الوقت الّذي نؤكّد فيه على ذمّ التّقليد، وندعو إلى التّجديد والرّجوع إلى منابع هذا الدّين الصّافية، نقوم على أسس مستقرّة في الأعماق لا نخشى معها زلزلة العواصف، بخلاف من يقدم على تفسير القرآن وهو يبذر في تربة سبخة، ويسقي بماء ملح، كشرذمة لا يكاد يخلو منهم زمان بعد خير القرون، يريدون الإبداع- زعموا- دون تاريخ، ويدّعون التّجديد دون قديم، ولا يبدع من لا تاريخ له، ولا يجدّد من لا أصل له. المبحث الأول: التفسير في عهد الصحابة كان الصّحابة في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاء الوحي من السّماء انتظروا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفسيره فيما يحتاج إلى شرحه وبيانه، وربّما عمدوا إلى التّبيّن منه فيما يستشكل، كما ذكرت آنفا بعض الأثر فيه. كما أنّه صلى الله عليه وسلم قد أباح لهم أن يفهموا القرآن؛ لأنّ الآلة كانت متحصّلة لهم، وصوّب لهم خطأهم فيما يخطئون فيه، دون أن يلوم أحدا منهم أو يؤاخذه

على فهمه، كما في قصّة نزول قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82]، حين شقّ ظاهرها على النّاس حتّى كشف لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن معناها (¬1)، وكما في قصّة عديّ بن حاتم عند نزول: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] (¬2). ولمّا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فقد كان مرجعهم في تبيين الكتاب، ولم يكونوا يصدرون عن سواه فيه، فقد كفاهم. أمّا بعده صلى الله عليه وسلم، فقد اتّسعت البلاد، ودخل النّاس في الإسلام أفواجا، ودخلت العجمة، فاحتاج المسلمون لشرح ما لم يكن الصّحابة في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى شرحه من القرآن والسّنّة، ففزعوا إلى خلفاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم في العلم من بعده من أصحابه، والّذين صاروا أئمّة النّاس في شرائع الدّين وعنهم يصدرون، وبرز فيه منهم خلق كثير، هؤلاء رءوسهم: أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأبو موسى الأشعريّ، ومعاذ بن جبل، وأبو الدّرداء، ¬

(¬1) حديث صحيح. تقدّم ذكره بتمامه وتخريجه (ص: 299). (¬2) حيث قال عديّ: لمّا نزلت (وذكر الآية)، عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في اللّيل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: «إنّما ذلك سواد اللّيل، وبياض النّهار». متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1817، 4239، 4240) ومسلم (رقم: 1090).

وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأمّ سلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم. وسيّد المفسّرين لمن بعده من هؤلاء الأئمّة: حبر الأمّة وترجمان القرآن ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب، رضي الله عنه، فإنّه لم ينقل عن أحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّفسير أكثر ممّا نقل عنه. وما آتاه الله من العلم بالقرآن إنّما حصل له ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فقد صحّ عنه أنّه قال: «اللهمّ فقّهه في الدّين، وعلّمه التّأويل» (¬1). وقد كان مقدّما على أقرانه عند أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، حتّى كان يجعله في العلم في مصافّ البدريّين مع صغر سنّه (¬2). وكان فقيه الصّحابة عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول: «نعم ترجمان القرآن ابن عبّاس» (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 2397، 2879، 3032، 3102) وابن سعد (2/ 365) وابن حبّان (رقم: 7055) والحاكم (رقم: 6280) وغيرهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، به. تابعه داود بن أبي هند عن سعيد بن جبير، عند الطّبرانيّ (رقم: 10614). وأصله في «الصّحيحين»، وقد فصّلت القول في طرقه في «علل الحديث». (¬2) تقدّم حديث ابن عبّاس في ذلك (ص: 74 - 75). (¬3) أثر صحيح. أخرجه ابن سعد (2/ 366) وابن أبي شيبة (12/ 111) وأحمد في «الفضائل» (رقم: 1562، 1863) وابن جرير (1/ 40) وغيرهم بإسناد صحيح.

وقال الإمام مجاهد المكّيّ تلميذ ابن عبّاس وخرّيجه: «كان ابن عبّاس إذا فسّر الشّيء رأيت عليه نورا» (¬1). كذلك فيمن تقدّم ذكره من الصّحابة إمامان يعرف لهما الرّسوخ في فهم القرآن وتفسيره، هما: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فإنّ بعض العلماء قدّمه في التّفسير على ابن عبّاس، وقال: ابن عبّاس إنّما أخذ عن عليّ (¬2)، ولهذا احترزت بقولي آنفا في ابن عبّاس: (سيّد المفسّرين لمن بعده) أن يكون سيّد المفسّرين من الصّحابة مطلقا، وإنّما العبرة بحسب ما ورثه المسلمون من تفسير ابن عبّاس وما ورثوه من تفسير عليّ في القلّة والكثرة. وكان عليّ يقول: «سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليس من آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل» (¬3). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد الفضائل» (رقم: 1935) بإسناد صحيح. (¬2) انظر: «البرهان» للزّركشيّ (2/ 157). وما صحّ عن عكرمة مولى ابن عبّاس، قال: «كان ابن عبّاس أعلم بالقرآن من عليّ، وكان عليّ أعلم بالمبهمات من ابن عبّاس». أخرجه ابن سعد (2/ 367) ويعقوب بن سفيان (1/ 495، 527). فإنّ عكرمة صحب ابن عبّاس، ولم يدرك عليّا، وإنّما بلغه الشّيء عنه. (¬3) أثر صحيح. أخرجه ابن سعد (2/ 338) من طريق معمر، عن وهب بن أبي دبّيّ، عن أبي الطّفيل، عن عليّ. وإسناده صحيح، ورجاله ثقات جميعا.

المبحث الثاني: التفسير في عهد التابعين

عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، وقد صحّ عنه قوله: «والله الّذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلّا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلّا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم منّي بكتاب الله تبلّغه الإبل لركبت إليه» (¬1). المبحث الثاني: التفسير في عهد التابعين حمل عن الصّحابة علم التّفسير جماعة من التّابعين، من أبرزهم: مجاهد بن جبر المكّيّ، وسعيد بن جبير الكوفيّ، وعكرمة مولى ابن عبّاس المدنيّ، وطاوس بن كيسان اليمانيّ، وعطاء بن أبي رباح المكّيّ، وهؤلاء رءوس أصحاب ابن عبّاس، ومن أكثر التّابعين كلاما في التّفسير. سعيد بن المسيّب، وزيد بن أسلم، وأبو العالية الرّياحيّ، ومحمّد بن كعب القرظيّ، من أعيان المفسّرين من أهل المدينة. علقمة بن قيس النّخعيّ، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، ومرّة الهمدانيّ، وعامر الشّعبيّ، وإسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ، وإبراهيم النّخعيّ، من أعيان المفسّرين بالكوفة. الحسن البصريّ، ومحمّد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السّدوسيّ، والرّبيع بن أنس، من أعيانهم بالبصرة. ¬

(¬1) متّفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 4716) ومسلم (رقم: 2463).

وممن يلحق بهم

وهؤلاء ثقات أئمّة قد حفظ عنهم علم كثير في تأويل القرآن. وممّن يلحق بهم: الضّحّاك بن مزاحم الهلاليّ، وهو ثقة، لكن أكثر الرّواية عنه من طريق جويبر بن سعيد، وهو متروك، وعنه طريق أخرى سيأتي ذكرها. وأبو صالح باذام مولى أمّ هانئ، وهو صدوق على التّحقيق، وله في التّفسير كلام كثير، أكثره ممّا يجيء من رواية محمّد بن السّائب الكلبيّ، وهو كذّاب باعترافه، فإن جاء من طريق ثابت فهو معتبر. تميز أصحاب ابن عباس: واعلم أنّ أصحاب ابن عبّاس أكثر من حمل عنه تفسير القرآن من التّابعين، والتّقدّم فيهم لعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير. سئل أبو حاتم الرّازيّ عن عكرمة وسعيد بن جبير: أيّهما أعلم بالتّفسير؟ فقال: «أصحاب ابن عبّاس عيال على عكرمة» (¬1). وقال حبيب بن أبي ثابت: «اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان ¬

(¬1) الجرح والتّعديل، لابن أبي حاتم (7/ 9).

على عكرمة التّفسير، فلم يسألاه عن آية إلّا فسّرها لهما، فلمّا نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا» (¬1). وقال أيّوب السّختيانيّ لسفيان بن عيينة: لو قلت لك: إنّ الحسن (يعني البصريّ) ترك كثيرا من التّفسير حين دخل علينا عكرمة البصرة حتّى خرج منها، لصدقت (¬2). وهذه شهادة من الحسن تثبت تقدّم عكرمة في التّفسير. وأمّا مجاهد، فإنّه ثبت عنه قوله: «عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات، أقف عند كلّ آية أسأله: فيم أنزلت، وفيم كانت» (¬3). وعن سفيان الثّوريّ قال: إذا جاءك التّفسير عن مجاهد فحسبك به (¬4). كما ثبت عن سفيان قوله: «خذوا التّفسير من أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضّحّاك بن مزاحم» (¬5). وهؤلاء سوى الضّحّاك إليهم ترجع أصحّ الرّوايات في التّفسير عن ابن عبّاس، كما سيأتي في الفصل التّالي. ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (رقم: 4319) بإسناد حسن. (¬2) أخرجه العقيليّ في «الضّعفاء» (3/ 375) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه الدّارميّ (رقم: 1108) بإسناد حسن. (¬4) أخرجه ابن جرير (1/ 40) بإسناد صحيح. (¬5) أخرجه ابن عديّ في «الكامل» (5/ 150) بإسناد لا بأس به.

المبحث الثالث: التدوين في التفسير

المبحث الثالث: التدوين في التفسير بعد التّابعين بدأ التّأليف والجمع في علم التّفسير، ولم يثبت وقوعه قبل ذلك، إنّما جمع تفسير بعض الصّحابة والتّابعين من قبل من حمل ذلك من أتباعهم في نسخ وروايات، كما في «تفسير مجاهد» الّذي يرويه عنه ابن أبي نجيح (¬1)، ولا يصحّ أنّ ابن عبّاس أو مجاهدا أو غيره من التّابعين ألّفوا في التّفسير (¬2). ومن أبرز من ألّف فيه من طبقة أتباع التّابعين: عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم (¬3)، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وسفيان الثّوريّ (¬4)، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. ¬

(¬1) خرّج هذا التّفسير ابن جرير وابن أبي حاتم في «تفسيريهما» من طرق ثابتة. أمّا التّفسير المطبوع المسمّى «تفسير مجاهد» فهذا مرويّ من طريق ضعيف لا يصحّ، فيه عبد الرّحمن بن الحسن بن أحمد الأسديّ، وكان غير ثقة، وأحسب أنّه لو جمع إنسان منثور تفسير مجاهد في الكتب لجاء أعظم من تلك الرّواية. (¬2) ونسب لابن عبّاس كتاب في التّفسير لا أصل له، كذلك جمع بعضهم بعض المنقول عنه وأفرده، وهذا لا يقال فيه: ألّفه ابن عبّاس. وسيأتي في الفصل التّالي ذكر الأسانيد المشهورة بالتّفسير عن ابن عبّاس، والتّنبيه على النّسخ المجموعة عنه فيه. (¬3) وتفسيره منثور في أمّهات كتب التّفسير، كتفسير ابن جرير، ويأتي في كثير من الأحيان (ابن زيد) منسوبا إلى أبيه، وهو رجل ضعيف. (¬4) وعنه رواية منشورة في مجلّد، وهي من طريق أبي حذيفة النّهديّ موسى بن مسعود، وهو صدوق من أصحاب الثّوريّ على لين فيه، ويحتمل منه التّفسير.

وبعد طبقة هؤلاء زاد المصنّفون فيه، فممّن تلاهم: روح بن عبادة المتوفّى سنة (205 هـ)، وعبد الرّزّاق الصّنعانيّ المتوفّى سنة (211 هـ) (¬1)، وسنيد بن داود المتوفّى سنة (226 هـ) (¬2)، وسعيد بن منصور المتوفّى سنة (227 هـ) (¬3)، وأبو بكر عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة المتوفّى سنة (235 هـ) (¬4)، وعبد بن حميد المتوفّى سنة (249 هـ) (¬5)، وغيرهم. وهؤلاء اعتنوا بجمع الأحاديث والآثار المنقولة بأسانيدها في التّفسير. وفي طبقتهم طائفة من أعيان أئمّة العربيّة قصدوا إلى بيان عربيّة القرآن ومعاني ألفاظه في لسان العرب مستشهدين لذلك بشعرهم ونثرهم، منهم: أبو زكريّا يحيى بن زياد الفرّاء المتوفّى سنة (207 هـ) (¬6)، وأبو عبيدة معمر بن المثنّى المتوفّى سنة (209 هـ) (¬7)، والأخفش أبو الحسن سعيد بن ¬

(¬1) وتفسيره مطبوع متداول، وهو من رواية إسحاق بن إبراهيم الدّبريّ عنه، وهو صحيح عنه، والكلام حول إسناده في شرح يطول. (¬2) سنيد لقب له واسمه الحسين، وهو ضعيف جدّا لا يعتمد عليه، وقد خرّج تفسيره ابن جرير الطّبريّ ضمن «جامع البيان»، ويذكره باسمه لا بلقبه. (¬3) وتفسيره كالجزء من «سننه»، ومنه قطعة نشرت. (¬4) وتفسيره منثور في «الدّرّ المنثور» للسّيوطيّ، ولا نعلم وجود نسخة منه. (¬5) كالّذي قبله. (¬6) وكتابه في ذلك «معاني القرآن» منشور. (¬7) وفيه كتابه «مجاز القرآن»، منشور، وليست هذه التّسمية تعني (المجاز) الّذي يقابل (الحقيقة) في علم البلاغة، إنّما يراد به (غريب القرآن).

مسعدة البصريّ المتوفّى سنة (210 هـ) (¬1)، وأبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ المتوفّى سنة (276 هـ) (¬2). ثمّ في أواخر المائة الثّالثة بدأ ظهور المصنّفات الجوامع في التّفسير، ومنها التي تستعمل جميع آلة المفسّر، من أثر ولغة ورأي، فمن أشهر المصنّفين فيه: أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبريّ المتوفّى سنة (310 هـ) (¬3)، وأبو بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر النّيسابوريّ المتوفّى سنة (318 هـ) (¬4)، وأبو محمّد عبد الرّحمن بن محمّد أبي حاتم الرّازيّ المتوفّى سنة (327 هـ) (¬5). وفي المائة الرّابعة بدأ التّفسير بالرّأي يشيع، وكان وجوده قبل ذلك قليلا، وظهرت كذلك مشاركات بعض أهل البدع فيه على طرقهم في نصر ¬

(¬1) وكتابه «معاني القرآن» منشور. (¬2) وله في ذلك «تفسير غريب القرآن» و «تأويل مشكل القرآن»، منشوران، وهما مختصران نافعان جدّا. (¬3) وكتابه «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» كتاب فذّ لا نظير له في مضمونه فيما وصلنا من الجوامع في هذا العلم من مؤلّفات تلك الحقبة. (¬4) ولم نطّلع على تفسيره، لكن فيما يبدو أنّه كان شبيها بمنهجه في سائر كتبه، ككتاب «الأوسط»، فقد قال الحافظ الذّهبيّ: «ولابن المنذر تفسير كبير في بضعة عشر مجلّدا، يقضي له بالإمامة في علم التّأويل» (سير أعلام النّبلاء 14/ 492). قلت: وقد أورد السّيوطيّ في «الدرّ المنثور» منه الكثير جدا من الحديث والأثر. (¬5) وتفسيره مقتصر على جمع الحديث والأثر في التّفسير دون إعمال الرّأي فيه ولا التّنبيه على الجوانب اللّغويّة منه، لكنّه يعدّ من أجمع كتب التّفسير بالأثر، ومنه قطعة كبيرة منشورة.

آرائهم، كالمعتزلة، والشّيعة. وفي هذا الوقت وبعده كثر التّصنيف في التّفسير، حتّى فاقت المصنّفات فيه الحصر، كما هو الشّأن في سائر الفنون، وتنوّعت فيه المسالك بين اختصار وتطويل، واتّباع وابتداع، وتوسّع النّاس فيه بالرّأي، بين محمود ومذموم، وإن أردت تمييز ذلك ممّا تقف عليه من تلك الكتب فحاكمها بما تقدّم شرحه من صفة المفسّر ومنهج التّفسير. وآت في الفصل التّالي لهذا زيادة تمييز تعين على انتخاب أقرب تلك الكتب إلى تحقيق المنفعة بالقرآن، مع الوقاية من معاطب الرّأي وزلل أهله. وجدير أن تعلم أنّه أفرد بالتّصنيف أبواب من التّفسير، كتفسير آيات الصّفات، وقصص القرآن، وآيات الأحكام، وغير ذلك. وأبرزها تفسير آيات الأحكام، فقد لقي من التّحرير والتّهذيب ما لم يكن مثله لسائر الأبواب، ولا يخفى أنّ سببه ما ينبني عليه من تفاصيل الشّرائع العمليّة، فمن أعيان من صنّف فيه من الأقدمين: القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكيّ المتوفّى سنة (282 هـ) (¬1)، وأبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الطّحاويّ الحنفيّ المتوفّى سنة (321 هـ)، وعلى خطاه جرى أبو بكر أحمد بن عليّ الرّازيّ الجصّاص المتوفّى سنة ¬

(¬1) وكتابه «أحكام القرآن» منه اقتباس كثير في الكتب، وقد قال فيه الذّهبيّ في ترجمته: «لم يسبق إلى مثله» (سير أعلام النّبلاء 13/ 340).

(370 هـ) (¬1)، وتلاهم في التّصنيف فيه كثيرون، وممّن ينبغي تخصيصه بالذّكر منهم: القاضي أبو بكر محمّد بن عبد الله الإشبيليّ المالكيّ المعروف ب (ابن العربيّ) المتوفّى سنة (543 هـ) (¬2)، وعلى كتابه بنى أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبيّ المتوفّى سنة (671 هـ) في تفسيره الكبير المسمّى «الجامع لأحكام القرآن». وللإمام الشّافعيّ في ذلك كتاب مجموع، جمعه الحافظ أبو بكر البيهقيّ من منثور كلامه (¬3). ... ¬

(¬1) في كتابه «أحكام القرآن»، وهو مطبوع، أمّا كتاب الطّحاويّ فلا نعلم شيئا عن وجوده، ثمّ بلغني أنّه طبع في تركيا، ولم أطّلع عليه. (¬2) في كتابه البديع «أحكام القرآن»، وهو منشور متداول. (¬3) وهو منشور، ونسبة مضامينه للشّافعيّ صحيحة.

الفصل الرابع: نقد مناهج التفسير

الفصل الرابع: نقد مناهج التفسير علم التّفسير من خلال النّظر في المؤلّفات المتنوّعة الكثيرة فيه، يلاحظ أنّ المشتغلين به سلكوا مناهج مختلفة متعدّدة، ولما تقدّم ذكره من خطورة الرّأي الّذي يحكمه الهوى والبدعة في هذا الباب، ومن أجل الاهتداء إلى أفضل ما يعين على فهم القرآن من كتب التّفسير، ينبغي للدّارس لعلوم القرآن أن يحيط دراية بمناهج تلك المصنّفات، مع ملاحظة ما يؤخذ عليها. فإليك تلخيصها في المباحث التّالية، ممثّلا بأبرز الكتب الّتي يمكن الوقوف عليها، ملحقة بالنّقد الّذي يقتضيه الحال: المبحث الأول: المؤلفات في التفسير بالمأثور وهو التّفسير بالقرآن نفسه، وبالسّنّة، وبالآثار عن الصّحابة والتّابعين. وهذا المنهج أفضل المناهج، والزّيادة عليه يجب أن تستفاد من خلاله، ومراعاته علامة الصّواب، وقاعدة لضبط التّجديد في فهم القرآن. وتقدّم شرح هذا المنهج بما لا يحتاج إلى مزيد، وقد تميّزت به طائفة ممّن كتب في التّفسير وجمع فيه من السّابقين واللّاحقين، فمن أبرز الكتب فيه:

1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تأليف: الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطّبريّ المتوفّى سنة (310 هـ). هذا الكتاب أفضل كتب التّفسير بالمأثور وأجمعها، مع التّحرير والنّقد، ويمتاز بإسناد جميع الرّوايات من الحديث والآثار، كما يراعي اختلاف القراءات واللّغة، ومؤلّفه إمام مجتهد ثقة متقن كبير القدر. قال في بيان شرطه في مقدّمته: «ونحن في شرح تأويله وبيان ما فيه من معانيه، منشئون إن شاء الله كتابا مستوعبا لكلّ ما بالنّاس إليه الحاجة من علمه جامعا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيا، ومخبرون في كلّ ذلك بما انتهى إلينا من اتّفاق الحجّة فيما اتّفقت عليه الأمّة، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبيّنو علل كلّ مذهب من مذاهبهم، وموضّحو الصّحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه». وقد وفّى بشرطه. ولم يزل أهل العلم يثنون على هذا الكتاب ويقدّمونه: قال النّوويّ: «لم يصنّف مثله» (¬1). وقال ابن تيميّة: «وأمّا التّفاسير الّتي في أيدي النّاس فأصحّها تفسير محمّد بن جرير الطّبريّ، فإنّه يذكر مقالات السّلف بالأسانيد الثّابتة، وليس ¬

(¬1) تهذيب الأسماء واللّغات (1/ 78).

2 - تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

فيه بدعة، ولا ينقل عن المتّهمين، كمقاتل والكلبيّ» (¬1). وكان مختصرا لأهل زمانه حين كانت الهمم عالية، أمّا أهل زماننا فيرونه أطول المطوّلات، وقد وصلنا بتمامه بحمد الله. 2 - تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصّحابة والتّابعين. تأليف: الإمام عبد الرّحمن بن أبي حاتم الرّازيّ، المتوفّى سنة (327 هـ). وهذا التّفسير وافق مضمونه اسمه، وهو من جمع حافظ ثقة عارف، نسبته إليه صحيحة. وقد قال في مقدّمته مبيّنا شرطه فيه: «سألني جماعة من إخواني إخراج تفسير القرآن مختصرا بأصحّ الأسانيد، وحذف الطّرق والشّواهد والحروف والرّوايات وتنزيل السّور، وأن نقصد لإخراج التّفسير مجرّدا دون غيره، متقصّين تفسير الآي حتّى لا نترك حرفا من القرآن يوجد له تفسير إلّا أخرج ذلك» حتّى قال: «فتحرّيت إخراج ذلك بأصحّ الأخبار إسنادا وأشبهها متنا». وقد وفّى بما اشترطه، لكن لا تفهمنّ من قوله: «بأصحّ» أنّ كلّ ما في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 208). قلت: لم يخرّج ابن جرير لمقاتل وهو ابن سليمان إلّا موضعا واحدا- فيما أحسب- وذلك في اسم من بعثه أصحاب الكهف بورقهم، ولكنّه خرّج للكلبيّ في مواضع قليلة، ويمكن القول: ليس فيما خرّجه منكر.

3 - معالم التنزيل.

هذا التّفسير صحيح إلى من عزي إليه، وإنّما هو الأصحّ في تفسير تلك الآية عند ابن أبي حاتم، أي لا شيء عنده أحسن منه، مع جواز أن يكون ضعيفا لا يصحّ بنفسه، كما يعلم من استعمال هذه الصّيغة، والواقع يثبت أنّ في الكتاب ما يثبت وما لا يثبت. ولم يزل هذا التّفسير مرجعا لأهل العلم يصدرون عنه، ويعتمدون عليه، لكن لم يصلنا منه نسخة تامّة، وإن كان السّيوطيّ قد ضمّنه كتابه الآتي قريبا: «الدّر المنثور». 3 - معالم التّنزيل. تأليف: الإمام محيي السّنّة أبي محمّد الحسين بن مسعود البغويّ المتوفّى سنة (516 هـ). هذا التّفسير جلّ اعتماده على المأثور عن السّلف، وهو مختصر فيما تضمّنه من الآثار من تفسير شيخه أبي إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثّعلبيّ المتوفّى سنة (427 هـ) والمسمّى «الكشف والبيان في تفسير القرآن»، كما بيّن ذلك البغويّ نفسه في مقدّمته، وزاد برواية نفسه كثيرا من الحديث المسند وبعض الأثر، كما اعتنى باختلاف القرّاء، ويعتمد اللّغة، ولم يخل من نفس فقيه وإن قلّ. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة عن تفسير الزّمخشريّ والقرطبيّ والبغويّ؟ فقال: «أسلمها من البدعة والأحاديث الضّعيفة البغويّ، لكنّه

4 - زاد المسير في علم التفسير.

مختصر من تفسير الثّعلبيّ، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع الّتي فيه، وحذف أشياء غير ذلك» (¬1). 4 - زاد المسير في علم التّفسير. تأليف: الإمام أبي الفرج عبد الرّحمن بن عليّ ابن الجوزيّ، المتوفّى سنة (597 هـ). هذا الكتاب يعتمد على الأثر واللّغة وبعض الرّأي، ويسوق الأقوال في ذلك بأحسن سياقة وأخصرها، كما يعتني باختلاف القراءات وتوجيهها، حتّى الشّاذّة منها، كذلك يذكر أسباب النّزول والمكّيّ والمدنيّ، والنّسخ، وتوضيح المشكل، جميع ذلك بعبارة سهلة وعرض ممتع، ويقلّ جدّا أن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 208). وأقول: الأمر كما قال ابن تيميّة، لكن ينبغي حمل قوله أوّلا: «الأحاديث الضّعيفة» على الموضوعة، كما ذكر من بعد؛ لأنّ الكتاب فيه الضّعيف، بل المنكر، لكنّه قليل، ثمّ إنّ العبارة قد تشير إلى أنّ الثّعلبيّ كان صاحب بدعة، وليس كذلك؛ لما قاله ابن تيميّة نفسه من بعد، فإنّه ذكر الواحديّ فقال: «وأمّا الواحديّ فإنّه تلميذ الثّعلبيّ، وهو أخبر منه بالعربيّة، لكنّ الثّعلبيّ فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحديّ (البسيط، والوسيط، والوجيز) فيها فوائد جليلة، وفيها غثّ كثير من المنقولات الباطلة». قلت: الواحديّ هذا هو أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمّد النّيسابوريّ المتوفّى سنة (468 هـ)، وهو صاحب «أسباب النّزول»، تفاسيره تعدّ مزيجا بين الأثر والرّأي، ويسند فيها الحديث، سوى «الوجيز» فهو مختصر كاسمه، ويعتمد اللّغة، وهو من المبرّزين فيها، والحديث الموضوع وبعض الرّأي الفاسد في العقائد موجود فيها. و «الوجيز» و «الوسيط» مطبوعان.

يذكر شيئا غير معزوّ لأحد، وإذا علّق بشيء من قبل نفسه أتى بأتمّ معنى وأخصر عبارة. غير أنّه لما قصد إليه من الاختصار فإنّه لا يذكر الأسانيد، والتزم ما قاله في مقدّمته: «وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدّمة إلّا على وجه الإشارة، ولم أغادر من الأقوال الّتي أحطت بها، إلّا ما تبعد صحّته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره فهو لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون قد سبق، وإمّا أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير، وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التّفاسير، فأخذ منها الأصحّ والأحسن والأصون، فنظمه في عبارة الاختصار». ويمكن القول: إنّ ابن الجوزيّ راعى في تفسيره أكثر ما يجب أن يتّصف به المفسّر. وهذا الكتاب مطبوع بتمامه. وقفة: عند المقارنة بين هذا التّفسير وتفسير شيخ الشّافعيّة أبي الحسن عليّ بن حبيب الماورديّ المتوفّى سنة (450 هـ) والمسمّى «النّكت والعيون»، نجد توافقا شديدا في المنهج، فإنّ ما وصفت به كتاب ابن الجوزيّ يصلح وصفا لكتاب الماورديّ، وهذا أقدم، فيجوز أن يكون ابن الجوزيّ قد بنى عليه وزاد، كما أنّه جانب ما سلكه الماورديّ من الرّأي والتّرجيح. ومع ما وقع من الماورديّ من اعتبار الأثر، إلّا أنّه فاته منه ما يعتبر،

5 - تفسير القرآن العظيم.

وقال من الرّأي ما كثر، حتّى جعل كتابه ألصق بكتب التّفسير بالرّأي. 5 - تفسير القرآن العظيم. تأليف: الإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدّمشقيّ، المتوفّى سنة (774 هـ). وهذا الكتاب أكثر هذه الكتب تحرّيا وتحقيقا مع الاختصار والتّهذيب، أحسن مثال لمراعاة المنهج السّليم في التّفسير، يقف عند المنقول، ويحقّق الرّواية المرفوعة، بل وكثيرا من الآثار الموقوفة والمقطوعة من كلام الصّحابة والتّابعين، ويبيّن درجات الكثير من الأخبار من جهة الثّبوت، ويلاحظ اللّغة واختلاف القرّاء، مع العناية بالأصول والعقائد والأحكام والفقه، ولهذه الخصائص كتب الله له القبول منذ زمانه وإلى اليوم، يرد منه الخاصّ والعامّ. 6 - الدّرّ المنثور في التّفسير بالمأثور. تأليف: الحافظ جلال الدّين عبد الرّحمن بن أبي بكر السّيوطيّ، المتوفّى سنة (911 هـ). هذا التّفسير لا يكاد يوجد فيه غير الأحاديث والآثار، مخرّجة معزوّة إلى الأصول الّتي استفيدت منها، ومنها كتب كثيرة إمّا أنّها ليست منشورة وإمّا أنّها في حكم المفقود، وقد حذف السّيوطيّ فيه الأسانيد اختصارا، وكان قد كتبه أوّلا بالأسانيد وسمّاه «ترجمان القرآن»، ثمّ لخّص هذا الكتاب منه.

7 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

ومع اختصاره إلّا أنّه يعدّ دليلا للباحث يوقفه على الكثير من الأحاديث والآثار في التّفسير، ولا ينبغي أن يعتمد على مجرّد الأخذ منه من لا خبرة له بالصّحيح من السّقيم من الرّوايات؛ لما فيه من الضّعيف والمنكر، والسّيوطيّ يسكت عن ذلك لا يبيّنه، كما يؤخذ عليه نسبة بعض الأخبار إلى بعض الكتب، وليست فيها، وذلك منه على سبيل الوهم. 7 - فتح القدير الجامع بين فنّي الرّواية والدّراية من علم التّفسير. تأليف: العلّامة محمّد بن عليّ الشّوكانيّ اليمانيّ، المتوفّى سنة (1250 هـ). هذا كتاب قد راعى فيه مؤلّفه الأثر، ووقف على المنقول والخبر، وفيه شبه في المنهج من ابن كثير، لكنّه أظهر استعمال العربيّة، واعتنى بالبلاغة، يعتمد فيما يذكره فيه النّقل عمّن تقدّمه دون تقليد، إلّا في الصّدور عن «الدّر المنثور» للسّيوطيّ، فإنّه استفاد منه الكثير من الآثار وهو لم يقف على أسانيدها، وهو في الجملة نافع مفيد. المبحث الثاني: نقد المؤلفات على هذا المنهاج بيّنت آنفا ما تمتاز به تلك المؤلّفات المذكورة من حيث الجملة، وهي مراجع لهذا العلم، خاصّة المتقدّمة منها، وذلك ممّا وصلنا وهو منشور متداول، وإلّا فأشباهها من كتب التّفسير كثيرة في كلّ زمان، وليس ذكر هذه الكتب يعطيها ميزة التّقدّم على ما لم يذكر ممّا يشاكلها في المنهج.

المأخذ الأول: إيراد الأحاديث الضعيفة والمنكرة دون بيان

ثمّ إنّ التّفسير المأثور غير المفرد بالتّأليف كثير منتشر لا يخلو منه كتاب من أمّهات كتب الحديث، وإنّما هذه الكتب المذكورة قصد بها التّفسير دون غيره. ومن خلال الدّراسة والتّأمل لهذه المصنّفات، يلاحظ أنّها اشتركت في اتّباع أفضل المناهج في التّفسير، لكنّ الكمال في هذا ممتنع؛ لذا لم يخل كتاب منها من أن يؤخذ عليه، والمآخذ على كلّ منها تتفاوت في الجزئيّات قلّة وكثرة، لكنّها بالنّظر إلى غلبة الصّواب، تصير لهذه الكتب بمنزلة المحاسن، وإنّما يجب التّنبيه على مأخذين كبيرين واردين على جميعها: المأخذ الأول: إيراد الأحاديث الضعيفة والمنكرة دون بيان: وسبق في شرط المفسّر أن يجتنب ما لا يثبت نقله (¬1)، والتّساهل في ذلك لا يجوز، وجميع من ذكر من مؤلّفي هذه الكتب معدود في الأئمّة العارفين بالصّحيح والسّقيم، نعم يكون العذر لمن ذكر الإسناد أنّ عهدته برئت بسياق السّند، كابن جرير وابن أبي حاتم، أمّا الآخرون فلا يذكرون الإسناد، أو يذكرونه قليلا، فالأصل أن لا يحذف الإسناد إلّا مع بيان درجة الحديث، أو تخريجه من أصل من الأصول الصّحاح، مثل «صحيحي البخاريّ ومسلم». وهذه الكتب تقع لمن يميّز هذا الباب ومن لا يميّزه، وخطورة هذا ¬

(¬1) انظر (ص: 296).

1 - رواية مجاهد عن ابن عباس

المأخذ على من لا يميّزه لا تخفى. ربّما قيل: التّساهل بقبول الضّعيف الّذي لم يشتدّ ضعفه مذهب معروف لبعض العلماء. والجواب: نعم، لكن هذا مشكل، فلو سلّمنا هذا المذهب، فإنّ قدر الضّعف هنا غير متميّز، بل ما نعنيه من الحديث الضّعيف في هذا الباب كثير منه من قبيل الضّعيف الواهي، على أنّ راجح القولين ترك الضّعيف وإن كان يسير الضّعف، إلّا ما له عاضد يقوّيه (¬1). والتّساهل في الآثار المنقولة عمّن دون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر، وأكثره عن الصّحابة فيما يروى عن ابن عبّاس، وحيث إنّ الاعتماد على الرّواية عنه أصل في التّفسير؛ فإنّي مبيّن درجات أشهر الأسانيد الّتي يدور عليها تفسير ابن عبّاس في الكتب المشهورة، ممّا ذكرت ومن غيره: 1 - رواية مجاهد عن ابن عبّاس: من طريق شبل بن عبّاد المكّيّ، أو ورقاء بن عمر، أو عيسى بن ميمون الجرشيّ المكّيّ المعروف ب (ابن داية)، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عبّاس. وهذا صحيح من أيّ هذه الطّرق جاء، وهو أصحّ الأسانيد في التّفسير ¬

(¬1) كما بيّنته في كتابي «تحرير علوم الحديث»، وانظر كذلك تعليقي على كتاب «المقنع في علوم الحديث» لابن الملقّن (1/ 232 - 233).

2 - رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس

إلى مجاهد، بشرط ملاحظة سلامة الإسناد قبلهم (¬1). 2 - رواية سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: نقل عنه التّفسير من طرق كثيرة، أشهرها ثلاث: [1] رواية أبي بشر جعفر بن إياس بن أبي وحشيّة، عنه. وهذه صحيحة، وأشهر طرقها: شعبة بن الحجّاج، وهشيم بن بشير، وأبو عوانة الوضّاح اليشكريّ، وقد خرّج منها البخاريّ في «صحيحه» في كتاب (التّفسير) شيئا. [2] رواية المنهال بن عمرو، عنه. وهذه صحيحة أيضا، وعند البخاريّ بها موضع في (التّفسير) (¬2). [3] رواية عطاء بن السّائب، عنه. وهذه صحيحة بشرط أن يكون الرّاوي عن عطاء ممّن حمل عنه قبل اختلاطه؛ لأنّه كان ثقة فلمّا كبر تغيّر حفظه، فإن كان الرّاوي حدّث عنه بعد تغيّره أو لم يعرف متى حدّث عنه، فهذا يعدّ حسنا بشرط السّلامة من الغلط، وفي جميع الأحوال يجب أن يسلم الإسناد إلى عطاء (¬3). ¬

(¬1) ذكر الحافظ الخليليّ في كتاب «الإرشاد» (1/ 393) رواية شبل للتّفسير، وقال: «قريب إلى الصّحّة». (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4537 م). (¬3) ووجدت السّيوطيّ في «الإتقان» (2/ 534) صحّح رواية عطاء على شرط الشّيخين، وهذا تساهل ظاهر، فإنّهما لم يخرّجا له إلّا انتقاء.

3 - رواية عكرمة، عن ابن عباس

3 - رواية عكرمة، عن ابن عبّاس: وجاء التّفسير عنه من طرق كثيرة، من أشهرها: [1] رواية سماك بن حرب، عنه. وهذه رواية صالحة إذا ثبت الإسناد إلى سماك، ما لم تكن في تفسير مرفوع، فإن كانت في مرفوع فهي ليّنة، وذلك لأنّ سماكا مع صدقه وحسن حديثه فقد وقع في روايته عن عكرمة اضطراب. [2] رواية الحكم بن أبان، عنه. وهذه رواية إذا ثبت بها الإسناد إلى الحكم فهي جيّدة، لكن احذر فيها رواية حفص بن عمر العدنيّ، فإنّه ليس بثقة، فقد خرّج بها ابن جرير وابن أبي حاتم في «تفسيريهما». [3] رواية يزيد بن أبي سعيد النّحويّ، عنه. ويرويها عن يزيد: الحسين بن واقد المروزيّ، وهي رواية جيّدة إذا ثبت الإسناد إلى الحسين، وفيها نقل النّاسخ والمنسوخ عن ابن عبّاس. [4] رواية محمّد بن أبي محمّد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير. هكذا تأتي هذه الرّواية بالشّكّ، لكنّه شك لا يضرّ لو ثبت الإسناد إليهما؛ لأنّه تردّد بين ثقتين، وهذه رواية حدّث بها سلمة بن الفضل عن محمّد بن إسحاق، حدّثه بها محمّد هذا، وهو رجل غير مشهور، تفرّد

4 - رواية أبي صالح باذام مولى أم هانئ، عن ابن عباس

بالرّواية عنه ابن إسحاق، ولم يوثّق من أحد يعتدّ بتوثيقه، فهي لهذا رواية ليّنة، وإذا أخذتها من «تفسير الطّبري» فضعفها أشدّ؛ لأنّه خرّجها بواسطة شيخه محمّد بن حميد الرّازيّ، وهو ضعيف جدّا (¬1). 4 - رواية أبي صالح باذام مولى أمّ هانئ، عن ابن عبّاس: وروايته جاءت من طرق عديدة، لكنّ أشهرها عنه اثنتان: [1] رواية إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ، عنه. وهي من طريق عمرو بن حمّاد القنّاد، عن أسباط بن نصر الهمدانيّ، عن السّدّيّ. وهذه طريق حسنة في التّفسير. وبنفس هذا الإسناد روى السّدّيّ عن مرّة بن شراحيل الهمدانيّ، عن عبد الله بن مسعود تفسيره. والتّفسير المنقول عن السّدّيّ من أحسن التّفاسير المرويّة عن السّلف، لحسنه مع كثرة ما نقل به (¬2). ¬

(¬1) فقول السّيوطيّ في «الإتقان» (2/ 534): «هي طريق جيّدة، وإسنادها حسن» وقلّده فيه كثير من المعاصرين، حكم غير مقبول، فمحمّد بن أبي محمّد هذا ذكره الذّهبيّ في «الميزان» (4/ 26) وقال: «لا يعرف»، وقال ابن حجر في «التّقريب» (التّرجمة: 6276): «مجهول»، فأنّى لروايته الحسن؟! (¬2) قال الخليليّ في «الإرشاد» (1/ 398): «أمثل التّفاسير تفسير السّدّيّ».

وخرّج هذا التّفسير ابن جرير (¬1). [2] رواية محمّد بن السّائب الكلبيّ، عنه. وهذه رواية الكذب، فالكلبيّ هذا من رءوس الكذّابين، وقد شان أبا صالح بما أتى به عنه، وروايته أكبر الرّوايات عن ابن عبّاس في التّفسير، ولذا لم يصبر عنها كثير من نقّاد المحدّثين مع علمهم بكذب الكلبيّ. وثبت عن سفيان الثّوريّ قال: قال لنا الكلبيّ: «ما حدّثت عن أبي صالح عن ابن عبّاس فهو كذب، فلا ترووه» (¬2). وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن تفسير الكلبيّ؟ فقال: «من أوّله إلى آخره كذب»، فقيل له: فيحلّ النّظر فيه؟ قال: «لا» (¬3). وكان الإمام يحيى بن معين يقول: «كتاب ينبغي أن يدفن» (¬4). وإذا جاءت الرّواية عن الكلبيّ من طريق محمّد بن مروان المعروف ب (السّدّيّ الصّغير)، فهي أشدّ وهاء، فهذا رجل متروك ليس بثقة. ¬

(¬1) زعم السّيوطيّ في «الإتقان» (2/ 534) أنّ ابن أبي حاتم لم يورد من تفسير السّدّيّ شيئا؛ لأنّه التزم أن يخرّج أصحّ ما ورد، وأقول: إن أراد أنّه لم يخرّج من روايته عن أبي صالح عن ابن عبّاس، فهذا يبدو صحيحا، أمّا إن أراد أنّه لم يخرّج من تفسير السّدّيّ شيئا مطلقا فغير صحيح، بل أخرج منه الكثير، يقول في ذلك: «حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عمرو بن حمّاد» بإسناده. (¬2) الجرح والتّعديل، لابن أبي حاتم (7/ 271)، تهذيب الكمال (25/ 250). (¬3) الجامع لأخلاق الرّاوي، للخطيب (2/ 163). (¬4) تاريخ دمشق، لابن عساكر (16/ 297)، تهذيب الكمال (8/ 197).

5 - رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس

5 - رواية عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس: وهذه من أشهر روايات التّفسير عن ابن عبّاس، خرّجها عامّة من جمع التّفسير بالمأثور، وذكر البخاريّ بعض المعلّقات في التّفسير عن ابن عبّاس، فوجدت موصولة من رواية ابن أبي طلحة عنه، فقال بعض العلماء: اعتمد البخاريّ هذه الرّواية، وفي هذا نظر. وهي نسخة حدّث بها أبو صالح عبد الله بن صالح المصريّ كاتب اللّيث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس. وهذه الرّواية مع شهرتها، فإنّها ضعيفة عن ابن عبّاس، علّتها ضعف عبد الله بن صالح، والانقطاع فيما بين ابن أبي طلحة وابن عبّاس، فإنّه لم يسمع منه، كما اتّفقت على ذلك عبارة أئمّة الحديث، ودعوى أنّ بينهما مجاهدا دعوى ضعيفة لا دليل عليها، بل صحّ عن حافظ مصر أحمد بن صالح أنّه سئل: عليّ بن أبي طلحة ممّن سمع التّفسير؟ قال: من لا أحد (¬1). فاعتبار بعض العلماء لها من صحيح روايات التّفسير عن ابن عبّاس (¬2)، غير صواب، والأكثرون جروا فيه على تقليد من ادّعى أن بينهما مجاهدا. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في «تاريخه» (11/ 428) بإسناد جيّد. وقد فصّلت بيان ضعف هذه الرّواية عن ابن عبّاس في كتابي «أحكام العورات في ضوء الكتاب والسّنّة» (¬2) كما ذهب إليه السّيوطيّ في «الإتقان» (2/ 532) وغيره.

6 - رواية الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس

6 - رواية الضّحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس: وهذه اشتهرت عنه من طريقين: [1] رواية أبي روق عطيّة بن الحارث الهمدانيّ، عنه. وهي رواية ضعيفة، علّتها الانقطاع بين الضّحّاك وابن عبّاس، فإنّه لم يسمع منه، هذا لو ثبت الإسناد إلى أبي روق. وقد خرّجها ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من طريق بشر بن عمارة الخثعميّ، عن أبي روق، وبشر هذا ضعيف. [2] رواية جويبر بن سعيد البلخيّ، عنه. وهذه طريق واهية تزيد على علّة الانقطاع أنّ جويبرا متروك ليس بثقة، وروايته للتّفسير منتشرة في الكتب. 7 - رواية عطيّة بن سعد العوفيّ، عن ابن عبّاس: عطيّة ضعيف، والطّريق بالتّفسير إليه في نسخة خرّجها ابن جرير قال فيها: (حدّثني محمّد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاس). وهذا إسناد ضعيف جدّا، شيخ ابن جرير هو محمّد بن سعد بن محمّد بن الحسن بن عطيّة العوفيّ، صويلح، وأبوه ضعيف لم يكن أهلا للرّواية في قول أحمد بن حنبل، والحسين بن الحسن العوفيّ ضعيف أيضا، وكان قاضيا

8 - رواية عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن ابن عباس

ببغداد، وأبوه الحسن بن عطيّة ضعيف كذلك، وزد عليه ضعف عطيّة، فهذا إسناد مسلسل بالضّعفاء، لا يجوز الاعتماد عليه. 8 - رواية عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن ابن عبّاس: وهي ضعيفة، فإنّه لم يدرك ابن عبّاس، وكان مدلّسا ربّما حمل عن المجروحين وأسقطهم من أسانيده، وقال الخليليّ عن تفسيره: «ابن جريج لم يقصد الصّحّة، وإنّما ذكر ما روي في كلّ آية من الصّحيح والسّقيم» (¬1). قلت: هذا أيضا لو سلم الإسناد إليه، فإنّ ابن جرير أخرج نسخة كبيرة من طريق الحسين بن داود، عن حجّاج بن محمّد، عن ابن جريج، والحسين هذا هو المعروف ب (سنيد) ضعيف جدّا. نعم جاء التفسير عن ابن جريج مفرّقا بأحسن من هذا الإسناد، لكن تبقى علّته ما تقدّم من تدليس ابن جريج والانقطاع. هذه أشهر روايات التّفسير عن ابن عبّاس، وعنه الكثير غيرها، لكنّه دون هذه في الكثرة، ولو تتبّع ناقد ما يثبت من الأسانيد السّابقة عن ابن عبّاس، وضمّ إليها ما يثبت من المتفرّقات، لاجتمع لديه تفسير كبير عنه. وأمّا قول الشّافعيّ: «لم يثبت عن ابن عبّاس في التّفسير إلّا شبيه بمائة حديث» (¬2)، فهذا- إن صحّ- فهو محمول على الحديث المرفوع في التّفسير. ¬

(¬1) الإرشاد (1/ 398). (¬2) أورده السّيوطيّ في «الإتقان» (2/ 535).

والمنقول عن غير ابن عبّاس من الصّحابة يأتي على سبيل الرّوايات المتفرّقة، لا النّسخ المجموعة، سوى ما ذكرته آنفا من تفسير السّدّيّ عن مرّة عن ابن مسعود. كذلك وردت جملة من تفسير أبيّ بن كعب من طريق أبي جعفر الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية الرّياحيّ، عن أبيّ. وخرّج ابن جرير منها قدرا يسيرا، وإسنادها إذا سلم من علّة إلى أبي جعفر، فهو إسناد لا بأس به، وأبو جعفر صدوق فيه لين. كما يجب التّنبّه إلى أنّ كتب التّفسير بالمأثور لم يحترز أكثرها من الاعتماد على تفسير مقاتل بن سليمان، وكان رجلا متّهما بالكذب وفساد الاعتقاد، وهو غير مقاتل بن حيّان، فهذا ثقة، وهو صاحب تفسير أيضا، لكنّه إذا ذكر قيّد بذكر أبيه. ولا أشكّ أنّ استبعاد ما لا يثبت إسناده من التّفسير المأثور، سواء ما يعزى للصّحابة أم من دونهم من التّابعين؛ يبعد كثيرا من الخلل والاختلاف وضعف الوجه في التّفاسير المنقولة، كما تبرأ بها ساحة المفسّر، وليس يخشى من روايات الضّعفاء والمجروحين ممّا له أصل معروف، فرواياتهم لا تزيد عن أن تكون شاهدا لما هو معروف، وإنّما في روايات كثيرة موجودة في كتب التّفسير بالمأثور، ليس لها ما يشدّها، ربّما انتصر بها صاحب هوى لمذهبه وهواه.

المأخذ الثاني: إيراد الإسرائيليات

المأخذ الثاني: إيراد الإسرائيليات: الإسرائيليّات: هي الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب من غير طريق القرآن والسّنن الثّابتة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كالّذي يحكى عن كعب الأحبار وكان من أحبار اليهود فأسلم، ووهب بن منبّه، وقد اعتنى بأخبارهم، وغيرهما. ولم يكد يوجد كتاب في التّفسير بالمأثور يخلو من إيراد الإسرائيليّات، حتّى زعم بعضهم أنّها مصدر من مصادر التّفسير، وذلك لما رأوا من تسهّل بعض الصّحابة فيها، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، ثمّ ما وقع من اعتناء النّقلة من التّابعين فمن بعدهم بروايتها والتّحديث بها. فما أصل ذلك؟ وما معناه؟ وما حكمه؟ أصل هذه المسألة يرجع إلى الحديث الصّحيح عن عبد الله بن عمرو، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» (¬1). وفي هذا ما يشعر أنّ نهيا كان قبل ذلك، أو ظنّوا أنّه لا يحلّ لهم، كما يدلّ عليه قوله: «ولا حرج»، فجاء هذا بالرّخصة. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 6486، 6888) والبخاريّ (رقم: 3274) والدّارميّ (رقم: 548) والتّرمذيّ (رقم: 2669) وقال: «حديث حسن صحيح». وصحّ نحوه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، فهو حديث مشهور.

وجائز أن يكون مورد الحرج عليهم، ممّا فهموه من قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 [العنكبوت: 51]، كما استدلّت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية حين أهدي لها شيء من كتب أهل الكتاب (¬1). وكان عبد الله بن عبّاس يقول: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الّذي أنزل الله على نبيّكم صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب (¬2)، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا من كتب الله وغيّروا، فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنا قليلا؟ أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله، ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الّذي أنزل إليكم (¬3). وعن مرّة الهمدانيّ، قال: جاء أبو قرّة الكنديّ بكتاب من الشّام، فحمله فدفعه إلى عبد الله بن مسعود، فنظر فيه، فدعا بطست، ثمّ دعا بماء فمرسه فيه، وقال: إنّما هلك من كان قبلكم باتّباعهم الكتب وتركهم كتابهم (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 17381) بإسناد حسن. (¬2) أي: لم يخلط بغيره. (¬3) أثر صحيح. أخرجه الشّافعيّ في «الأم» (12/ 538) والبخاريّ (رقم: 2539، 6929، 7085) والبيهقيّ في «الكبرى» (10/ 162 - 163) وغيرهم من طرق عن الزّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، به. (¬4) أثر صحيح. أخرجه الدّارميّ (رقم: 483) والهرويّ في «ذمّ الكلام» (ص: 147) وإسناده صحيح.

أو يكون مورد الحرج جاء من نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما ورد به حديث جابر بن عبد الله، قال: نسخ عمر، رضي الله عنه، كتابا من التّوراة بالعربيّة، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيّر، فقال رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطّاب، ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلّوا، وإنّكم إمّا أن تكذّبوا بحقّ، أو تصدّقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم، ما حلّ له إلّا أن يتّبعني» (¬1). فهذا الحديث نهي صريح عن سؤال أهل الكتاب، لعلّتين: الأولى: أنّ الله أغنى هذه الأمّة بما أوحى إلى نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى، وأنّ شريعته نسخت ما تقدّمها، فهو المتبوع الأوّل لأمّته. والثّانية: أنّ ما عند اليهود والنّصارى لا يعرف حقّه من باطله، وذلك ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 14631، 15156) والدّارميّ (رقم: 441) وأبو يعلى (رقم: 2135) والبزّار (رقم: 124 - كشف الأستار) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 10) و «الشّعب» (رقم: 176، 179) وغيرهم من طرق عن مجالد بن سعيد، عن عامر الشّعبيّ، عن جابر، به. وإسناده حسن لغيره، فإنّ له شواهد صالحة من حديث أبي الدّرداء، والحسن البصريّ وأبي قلابة الجرميّ ويحيى بن جعدة مرسلا، وعلّق البخاريّ في «الصّحيح» (6/ 2679) طرفا منه جازما به، وقوّاه ابن حجر في «الفتح» (13/ 334، 525).

لما وقع فيه من قبلهم من التّحريف والتّبديل. وهذا المعنى لم ينفكّ الصّحابة عن مراعاته، مع ما فهموه من الإذن في الحديث عن أهل الكتاب، كما تقدّم من صنيع عائشة وابن مسعود وقول ابن عبّاس، فأحاديث الإذن أزاحت عنهم شبهة المنع المطلق، لكنّهم بقوا على ملاحظة المعنى الّذي لأجله جاء النّهي. فترخّص الصّحابة في الحديث عن بني إسرائيل كان في حدود ضيّقة، وبالاستقراء ثبت أنّ القدر الّذي ترخّصوا فيه من ذلك يتّسم بأمور ثلاثة: أوّلها: القلّة، فإذا استبعدت ما لا تثبت أسانيده إليهم، فإنّه يخلص منه قدر قليل جدّا. ثانيها: أنّه أخذ عن مسلمة أهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وليس هذا كمن يتلقّى عن الأحبار والرّهبان وهم على دينهم؛ لأنّ الأصل في هؤلاء الّذين أسلموا منهم أنّهم يتحرّون، فلا يحدّثون بما ظهر كذبه، أو عارض القرآن وأصول الإسلام، إنّما يخبرون بما يأتي على التّصديق لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم. واليهود والنّصارى أوتوا العلم، وعلموا الحقّ فزاغوا عنه وضلّوا، وليسوا كسائر الكفّار، والقرآن نبّه على هذا في مواضع، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146]، وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ

وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ [المائدة: 43]، بل قال الله لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] (¬1)، واعتدّ بشهادتهم على صدقه وصدق ما بعثه به، كما قال: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرّعد: 43]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: 10]. فما جاء به المسلمون منهم وحدّثوا به فالأصل أنّه مصدّق لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ما أفادته نماذجه الثّابتة الأسانيد ممّا وصلنا. ثالثها: لم يكن الصّحابة يتلقّون ما يسمعونه من ذلك بالتّسليم دون نقد وتثبّت، حتّى مع أخذه عمّن أسلم من أهل الكتاب، كما تدلّ على ذلك الآثار، ومنها: عن السّائب بن يزيد، قال: سمعت عمر بن الخطّاب قال لكعب: «لتتركنّ الأحاديث، أو لألحقنّك بأرض القردة» (¬2). ¬

(¬1) أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 10583) بإسناده صحيح عن ابن عبّاس في هذه الآية، قال: «لم يشكّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل». كما جاء مثله عن سعيد بن جبير من قوله. (¬2) أخرجه أبو زرعة الدّمشقيّ في «تاريخه» (1/ 544) بإسناد صحيح. ومقصود عمر الزّجر عن الإكثار من ذلك؛ لأنّ كعبا ثبت تحديثه بالشّيء من ذلك بمحضر عمر، كما سيأتي مثاله.

وعن حميد بن عبد الرّحمن بن عوف: سمع معاوية بن أبي سفيان يحدّث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الّذين يحدّثون عن أهل الكتاب، وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (¬1). وعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّاس: إنّ نوفا البكاليّ يزعم أنّ موسى صاحب بني إسرائيل، ليس هو موسى صاحب الخضر، فقال: كذب عدوّ الله، سمعت أبيّ بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قام موسى عليه السّلام خطيبا في بني إسرائيل» وذكر الحديث (¬2). فهذا وشبهه دليل على منهاج الصّحابة فيما كانوا يسمعونه من الأخبار الإسرائيليّة، فالأصل أنّها معروضة على ما جاء به القرآن والسّنّة، فما وافق منها فهو شاهد حقّ، وما خالف ردّوه. فهذان قسمان، ويبقى قسم ثالث، وهو: ما لا يوجد له في الكتاب ¬

(¬1) أثر صحيح. علّقه البخاريّ في «صحيحه» (6/ 2679)، ووصله في «التّاريخ الأوسط» (رقم: 201) بإسناد صحيح. وانظر: الفتح، لابن حجر (13/ 334)، وتغليق التّعليق، له (5/ 328). وأمّا المراد بقوله: «لنبلو عليه الكذب» فقال ابن الجوزيّ: «المعنى: أنّ بعض الّذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا، لا أنّه يتعمّد الكذب». وانظر: فتح الباري (13/ 335) وتفسير ابن كثير (5/ 330). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 122 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 2380). ونوف هو ابن امرأة كعب، وكان يحدّث بالإسرائيليّات.

والسّنّة تصديق أو تكذيب، فهذا وجدنا الصّحابة تسهّلوا فيه لمعنى صحيح اشتمل عليه، وإن كان لا يمكن القطع بصحّته أو كذبه من كلّ وجه. مثاله: ما حدّث به عبد الرّحمن بن حاطب، قال: جلسنا إلى كعب الأحبار في المسجد وهو يحدّث، فجاء عمر فجلس في ناحية القوم، فناداه، فقال: ويحك يا كعب، خوّفنا، فقال: والّذي نفسي بيده، إنّ النّار لتقرب يوم القيامة، لها زفير وشهيق، حتّى إذا أدنيت وقرّبت زفرت زفرة، ما خلق الله من نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد إلّا وجثا لركبتيه ساقطا، حتّى يقول كلّ نبيّ وكلّ صدّيق وكلّ شهيد: اللهمّ لا أكلفك (¬1) اليوم إلّا نفسي، ولو كان لك يا ابن الخطّاب عمل سبعين نبيّا لظننت أن لا تنجو، قال عمر: إنّ الأمر لشديد (¬2). فهذا يدلّ على معنى صحيح من حيث الجملة، وإن كان الإيمان بما فيه من التّفصيل يتوقّف على تصديق القرآن أو السّنّة له، فمثل هذا لا يصدّق ولا يكذّب، إذ ربّما كذّب وهو حقّ، أو صدّق وهو باطل. والتّوجيه النّبويّ في هذا النّوع كان معلوما للصّحابة، فقد ثبت فيه غير ما حديث، منها: حديث أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التّوراة بالعبرانيّة، ويفسّرونها بالعربيّة لأهل ¬

(¬1) أي: لا أتحمّل عندك. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 154 - 155) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (رقم: 7539) بإسناد حسن.

فخلاصة القول في الإسرائيليات في نظر الصحابة أنها ثلاثة أقسام

الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب، ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الآية [البقرة: 136]» (¬1). فخلاصة القول في الإسرائيليّات في نظر الصّحابة أنّها ثلاثة أقسام: 1 - خبر جاء في القرآن أو السّنّة ما يصدّقه، فهو حقّ. 2 - خبر جاء في القرآن أو السّنّة ما يكذّبه، فهو باطل. 3 - خبر لم يأت ما يصدّقه أو يكذّبه، فلا يوصف بكونه حقّا أو باطلا. وعلى هذا جرى أكثر من جاء بعدهم من تلامذتهم من التّابعين، كأصحاب ابن عبّاس، فإذا استثنيت تفسير مجاهد، فما أقلّ تلك الأخبار عنهم، لكن وقع من آخرين توسّع في ذلك، مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وشهر بن حوشب، ونوف البكاليّ، وتبيع بن عامر الحميريّ، ثمّ محمّد بن إسحاق صاحب «السّيرة»، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. واتّباع منهج الصّحابة في ذلك عاصم ممّا في تلك الأخبار من الأباطيل، كالّذي يحكونه في شأن الأنبياء من النّقائص، وبدء الخليقة من الغرائب المخالفة والخرافة. ولا ريب أنّ ما يؤخذ على كتب التّفسير بالمأثور، هو ذكر تلك الأخبار ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4215، 6928، 7103) وابن جرير (21/ 3) والبيهقيّ في «الكبرى» (10/ 163) و «الشّعب» (رقم: 5207). ونحوه من حديث أبي نملة الأنصاريّ، ومن حديث عطاء بن يسار مرسلا.

بمنزلة ما يذكر في تفسير الآية لبيان معناها من النّصوص النّبويّة والشّواهد اللّغويّة، مع السّكوت عن نقدها. وهذا خطأ جسيم، فتلك الأخبار إن سلمت من النّكارة فإنّها لا تثبت لذاتها، إنّما تقبل بشواهدها، كما تقدّم، فإذا لزم ذلك فقد أغنانا ذكر شاهدها عنها، وإن كانت لا شاهد لها، فمجرّد ذكرها منزّلة منزلة التّفسير للآية يقدح من المعاني في الأذهان ما يكون لبعض النّاس بمنزلة خبر الصّادق الّذي لا ينطق عن الهوى، خاصّة مع ما تمتاز به تلك الأخبار من الغرابة، والنّفس تميل بالطّبع إلى مثل ذلك. ولم يزل نقد ذكر الإسرائيليّات في كتب التّفسير ممّا لا يغفله محقّقو العلماء على مرّ العصور، وتنبيههم على ضرورة إبعادها عن كتب العلوم الإسلاميّة، خاصّة التّفسير، كتأكيدهم على تنقية تلك الكتب من الأحاديث الضّعيفة والموضوعة. قال أبو بكر بن عيّاش: قلت للأعمش: ما لهم يتّقون تفسير مجاهد؟ قال: «كانوا يرون أنّه يسأل أهل الكتاب» (¬1). وقال إسماعيل بن أبي أويس: سمعت خالي مالك بن أنس، وسأله رجل عن زبور داود؟ فقال له مالك: ما أجهلك! ما أفرغك! أما لنا في نافع عن ابن عمر عن نبيّنا، ما شغلنا بصحيحه عمّا بيننا وبين داود عليه السّلام؟! (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد في «الطّبقات» (5/ 467) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 1489) وإسناده حسن.

المبحث الثالث: التفسير بالرأي

ومجانبة ذكر تلك الأخبار في كتب التّفسير أصحّ، فقد علمت ممّا تقدّم أنّ الفائدة منها ضعيفة، إلّا أن تذكر لبيان خلل فيها. قال الحافظ ابن كثير: «ليعلم أنّ أكثر ما يتحدّثون به غالبه كذب وبهتان؛ لأنّه قد دخله تحريف وتبديل، وتغيير وتأويل، وما أقلّ الصّدق فيه، ثمّ ما أقلّ فائدة كثير منه لو كان صحيحا» (¬1). وبما تقدّم تعلم بطلان دعوى المستشرقين ومن تأثّر بقولهم: (الرّوايات الإسرائيليّة مصدر من مصادر التّفسير عند المفسّرين من المسلمين)، وذلك أنّ الصّدور لا يكون عمّا أحسن أحواله أن يكون تصديقه موقوفا على الشّهود. المبحث الثالث: التفسير بالرأي تقدّم بيان أنّ التّفسير بدلالة لغة القرآن من خلال استعمالاتها في عرف أهلها في نثرها وشعرها، والاجتهاد في إطار قواعده، من الطّرق الّتي يسلكها المفسّر، وهما ركنا إعمال الرّأي في تفسير القرآن. وقبل تسمية طائفة من أمّهات كتب التّفسير ممّا يندرج تحت هذا النّوع، أقدّم بالتّنبيه على مسائل: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (5/ 329)، وانظر كذلك: مقدّمة «تفسيره» (1/ 8 - 9)، وكلام شيخه ابن تيمية ضمن «مجموع الفتاوى» (13/ 185).

المسألة الأولى: التفسير باللغة تفسير بالرأي.

المسألة الأولى: التّفسير باللّغة تفسير بالرّأي. لا من جهة أنّ اللّغة تثبت بالرّأي، وإنّما من جهة تحديد كون ذلك المعنى هو المراد بالآية أو اللّفظ المعيّن من القرآن. واستعمال اللّغة في تفسير القرآن أخطر ما يسلكه المفسّر، فهو إذا فسّر الآية بنفس القرآن أو الحديث أو الأثر، فإنّه وإن كان يستعمل رأيه في تتبّع النّصّ والأثر والرّبط له بالآية وتوجيه ذلك، إلّا أنّه قد أحال واعتمد في غالب أمره على النّقل، بينما اللّغة بما وقع فيها من السّعة واحتمال المعاني الكثيرة المختلفة للّفظ الواحد، مع تنوّع الأساليب في تركيب الكلام، لا يسهل تنزيلها على ألفاظ القرآن وتراكيبه دون أصل يرتكز عليه المفسّر. ثمّ إنّ الاقتصار على مجرّد اللّغة لا يعيّن المراد الشّرعيّ بالألفاظ، فلفظ الصّلاة أو الزّكاة أو الصّيام مثلا، لا تسعفك فيها اللّغة لمعرفة مراد الله تعالى بها، ولذا احتيج إلى بيان الرّسول صلى الله عليه وسلم. ولو تأمّلت منهج الصّحابة في التّفسير، ثمّ من تبعهم من تلامذتهم، وجدتهم يستندون إلى السّمع وينتهون إليه، لا يجاوزونه إلى اللّغة إلّا عند فقد بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع أنّهم أنفسهم كانوا مصدرا للّغة، خاصّة الصّحابة، فإذا صاروا إلى التّفسير باللّغة والنّظر، فسّروا بما لا يأتي على المخالفة للنّصوص المسموعة، ولا المناقضة للأصول المعلومة. وهذا المنهج استعمله بعدهم خلائق من أئمّة التّفسير، فرشدوا، ولم

المسألة الثانية: صياغة كتابة التفسير باللغة المناسبة.

يؤتوا في الغالب من هذا الباب، كبعض من سمّيت كتبهم في المبحث السّابق، كابن جرير، والبغويّ، وابن كثير، والشّوكانيّ، فهؤلاء اجتهدوا في التّفسير، وأبانوا من رأيهم فيه، لكنّ اجتهادهم قليل بالنّسبة إلى ما اعتمدوه أو بنوا عليه من النّقل. المسألة الثّانية: صياغة كتابة التّفسير باللّغة المناسبة. الإبداع بتجديد صيغة كتابة التّفسير، وتقريب معاني القرآن بالألفاظ المناسبة لمن قصدت مخاطبته به من عموم المسلمين، إذا كان المنشئ قد انتهى فيه عند المأثور، وجرى فيه على مراعاة المنهجيّة المعتبرة في التّفسير، على ما تقدّم بيانه، فهذا ربّما يدرجه بعضهم تحت التّفسير بالرّأي؛ وذلك لما وقع فيه من الاجتهاد في الصّيغة والتّعبير، وهذا- فيما أرى- تجوّز، فإنّه ألصق بأن يكون تفسيرا بالأثر، وعلى تسليم كونه تفسيرا بالرّأي فهو رأي محمود؛ لاستناده إلى الأصول الصّحيحة. وعليه: فإنّ طائفة كبيرة من المصنّفات في التّفسير على مدى القرون المتعاقبة من تاريخ هذه الأمّة، سلك مؤلّفوها المنهجيّة المعتبرة في التّفسير، بل دعوا إليها وقرّروها، وأدخلوا عباراتهم في تقريب لفظ، أو توجيه إشكال، أو رفع لبس، بين تطويل واختصار. وهذا لا يصحّ أن يكون مأخذا بحال، فكتب التّفسير إنّما تؤلّف في الأصل- كسائر ما يكتب في علوم الإسلام- لنصح الأمّة، وربطها

المسألة الثالثة: ترجمة معاني القرآن.

بدينها، وذلك يوجب أن يخاطب كلّ جيل بلغته. والبقاء في إطار الاتّباع للسّلف في التّفسير، لا يعني الجمود على حكاية ألفاظهم، فهذا يرفضه منهج السّلف ذاته، فإنّهم بكلامهم أرادوا تبصير العباد بالقرآن، وإنّك لتجد في كلام ابن عبّاس أو مجاهد في التّفسير ما يحتاج إلى تفسير لجمهور النّاطقين بالعربيّة في زماننا، فضلا عن عموم المسلمين، وإنّما المطلوب الاهتداء ببيانهم، والحذر من الإتيان بما يخالفه. المسألة الثّالثة: ترجمة معاني القرآن. المقصود بالتّرجمة: نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، كنقل كلام من العربيّة إلى الإنجليزيّة، أو العكس. وهي نوعان: 1 - حرفيّة، وهي ما تأتي على سبيل المطابقة، بنقل اللّفظ إلى نظيره في اللّغة الأخرى، مع الموافقة في النّظم والتّرتيب. 2 - تفسيريّة، وهي بيان معنى الكلام في لغة أخرى، بما يتطابق فيه المقصود في اللّغة المنقول عنها واللّغة المنقول إليها، دون تقيّد بمراعاة المقابلات اللّفظيّة. وترجمة القرآن واقعة على هذين المعنيين، وكلاهما تخرجان القرآن عن قرآنيّته، فعربيّته وصف لازم له، وإن كان رسالة إلى جميع النّاس. والتّرجمة بأيّ نوعيها كانت هي من قبيل التّفسير للقرآن، ولأجل هذا

يتفاوت المترجمون في الإبانة عن المراد، وتختلف عباراتهم في اللّغة المترجم إليها، بل تختلف المعاني وتتعدّد، بمنزلة ما يقع من الاختلاف بين المفسّرين. وبخصوصها ثلاثة تنبيهات: التّنبيه الأوّل: يجب أن يتّصف المترجم بصفات المفسّر، ويتقيّد بالمنهج المتقدّم شرحه في التّفسير، مع خصلة زائدة، وهي: أن يكون متمكّنا في اللّغتين جميعا تمكّن أهل كلّ منهما العارفين بهما. ولما نعلم من القصور في الواقع المشاهد عن تحقيق الشّروط اللّازمة في الشّخص الواحد، فإنّي أرى ضرورة حفظ الدّين توجب أن لا يقتصر في ترجمة معاني القرآن على عمل شخص واحد، مهما ظنّ تمكّنه في التّرجمة، بل تؤلّف لها لجان تجمع بين من تجتمع فيه خصال المفسّر، ومقتدرين أكفاء في معرفة اللّسانين، مع الأمانة والدّين. وسبب ذلك: أنّ شأن التّرجمة خطير، فإنّ من ترجمت له معاني القرآن بلغته، لا سبيل لديه لمعرفة الإسلام والقرآن إلّا تلك التّرجمة، بخلاف من لسانه العربيّة، فإنّ كلام الله بين يديه دون الوسائط. التّنبيه الثّاني: لا يصحّ أن يلقّن غير العربيّ أنّ هذه التّرجمة لمعاني القرآن بلغته، هي القرآن، إنّما يجب أن يبصّر أن هذه اجتهاد بشر في بيان معاني كلام الله، جائز عليه الوهم والغلط والقصور، وواجب أن يبيّن ذلك ضمن تلك التّرجمات؛ لأنّنا رأينا من النّاس من أهل تلك اللّغات من

المسألة الرابعة: الوقاية من مزالق الرأي في كتب التفسير.

يحسب التّرجمة هي عين القرآن، فإذا رأى أحدهم من بعد تفاوتا بين ترجمتين في لغته ورده الشّكّ. التّنبيه الثّالث: للتّرجمة من القدسيّة والحرمة والمنزلة ما لسائر كتب التّفسير، لا ما يكون من ذلك للمصحف، إلّا إذا كتب معها. كما يلاحظ في ذلك ما يكون من الثّواب على تلاوة القرآن، فقراءة التّرجمة بمنزلة القراءة في «تفسير ابن كثير» مثلا، يؤجر عليها القارئ أجر التّعلّم، فإذا قرأ التّرجمة يرجو بها الأجر الّذي يحصّله التّالي على تلاوة القرآن، فإنّه يرجو رحيما جوادا كريما، وإنّي أخاف أن أقول: من قرأ حروف القرآن فله بكلّ حرف عشر حسنات، ومن عجز عن ذلك لعجمته فما تمكّن أن يصل إلى القرآن إلّا من خلال ترجمة معانيه، دون الأوّل في الأجر، بل أحبّ له أن يطمع في فضل الله. المسألة الرّابعة: الوقاية من مزالق الرّأي في كتب التّفسير. لا يخلو كتاب من كتب التّفسير من نقد، وقد تقدّم أنّ كتب التّفسير بالمأثور مع الحرص على النّقل لم تسلم من النّقد، فكيف بمن تكلّم في التّفسير برأيه؟ فمظنّة الخلل في ذلك أشدّ، ولست أرى حجب النّاس عن النّظر في كتاب من كتب العلم والانتفاع بما فيه من الصّواب، لخطأ لا يسلم من مثله الإنسان بخلقته، بل هذه الكتب ينتفع بما فيها من خير، إلّا من يغلب على كتابه مجانبة الصّواب، وهذا لا يتصوّر إلّا في طائفة من

المتعرّضين للتّفسير، قصدوا إلى نصرة بدعهم وأهوائهم بتأويل القرآن، وهم طائفتان سأذكرهم في المبحث الثّامن. وتحقيق الوقاية عند الأخذ من تلك التّفاسير المشار إليها، يكون بمراعاة أمرين: أوّلهما: استصحاب حقيقة أنّ كلّ أحد من البشر يؤخذ من قوله ويترك، إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: معرفة سيرة المفسّر: تحصيله، تخصّصه، عقيدته، مذهبه، فالمدرسة الّتي تلقّى فيها، والشّيوخ الّذين أخذ عنهم، والمذهب الّذي اعتنى به، والبيئة والزّمن الّذي كان فيه، جميع ذلك قد يترك آثارا في شخصيّته تنعكس في صوابها وخطئها على ما يؤلّفه ويكتبه. فمفسّر عاش في بلاد الشّام في القرن السّابع الهجريّ، شيوخه حنابلة في الفقه والاعتقاد، والفقه أغلب عليه مع دراية صالحة بالحديث والأثر، مع حظّ حسن من اللّغة، وزمانه لم يخل من جدل كلاميّ، لكنّ خوض الحنابلة فيه أقلّ من غيرهم، فهذا تركن إليه النّفس في تفسيره في جانب العقائد، مع بعض الحذر، فإنّ لبعض الحنابلة في ذلك شططا في مسائل، فإن جاء على تفسير الأحكام فمظنون أنّ حظّ مذهبه فيه أكثر، وتحريره له أظهر، وقد لا يأتي على ذكر مذهب مخالفه أصلا. قابله بمفسّر من أهل زمانه: شيوخه في العقائد أشعريّة، ومذهبه في

الفقه شافعيّ، مع اطّلاع حسن على المأثور، وتمكّن في العربيّة وفنونها، فهذا يفارق الحنبليّ بالحاجة إلى مزيد احتياط فيما يقوله في تفسير نصوص العقائد، فإنّ الأشعريّة أهل كلام، ومذاهبهم في الصّفات مخالفة للأثر، خارجة عن المنهج المعتبر، لكنّك تجد من البيان بأساليب المعاني والبيان فيما يضمّنه أحدهم تفسيره للقرآن، ما لا ينقضي من حسنه العجب. فإذا تيقّظت لهذا فلا عليك بعده أن تنتفع بما وقع لك من تلك الكتب، فالمظنّة في أصحابها أنّهم أئمّة المسلمين، قصدوا إلى الصّواب ونصح الأمّة، فسعيهم مشكور، وخطؤهم مغفور، لا يحسن بالعاقل الإعراض عن علم أحدهم لخطأ أخطأه قد بان وظهر. وقد صحّ عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: «أحذّركم زيغة الحكيم، فإنّ الشّيطان قد يقول كلمة الضّلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ»، فقال له رجل من أصحابه: ما يدريني- رحمك الله- أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضّلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟ قال: «بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات (وفي لفظ: المشتبهات) الّتي يقال لها: ما هذه! ولا يثنينّك ذلك عنه، فإنّه لعلّه أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته؛ فإنّ على الحقّ نورا» (¬1). قال البيهقيّ: «فأخبر معاذ بن جبل أنّ زيغة الحكيم لا توجب ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو داود (رقم: 4611) والبيهقيّ (10/ 210) وغيرهما بإسناد صحيح.

المبحث الرابع: تسمية بعض جوامع التفسير

الإعراض عنه، ولكن يترك من قوله ما ليس عليه نور، فإنّ على الحقّ نورا، يعني- والله أعلم- دلالة من كتاب أو سنّة أو إجماع أو قياس على بعض ذلك» (¬1). واعلم أنّ هذا الّذي ذكرت قصدت به من له حظّ من الاشتغال بالعلم، ولديه القدرة على تمييز ما أشرت إليه، فإن لم يكن كذلك بأن كان مقلّدا، فهذا عليه أن يستفتي من حضره من أهل العلم فيما يختاره من كتب التّفسير يعينه على فهم القرآن، قال الله عزّ وجلّ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النّحل: 43]. المبحث الرابع: تسمية بعض جوامع التفسير وهذا مراد به التّمثيل ببعض المصنّفات الّتي صارت مرجعا للنّاس في تفسير القرآن، ممّا قصد مصنّفوها إلى بيان القرآن بالأثر واللّغة والنّظر والتّدبّر، فبرز فيها جانب التّفسير بالرّأي، لكن ممّا يغلب عليه الصّواب، وأصحابها عرفوا بقصد الخير، والحرص على إصابة الهدى والسّنّة، وذلك سوى ما تقدّم التّمثيل ببعضه عند الكلام على التّفسير بالمأثور: 1 - المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تأليف: الإمام أبي محمّد عبد الحقّ بن غالب بن عطيّة، الغرناطيّ ¬

(¬1) السّنن الكبرى (10/ 210 - 211).

2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل.

الأندلسيّ، المتوفّى سنة (541 هـ). كان إماما مبرّزا في التّفسير والعربيّة والفقه، وتفسيره من الأمّهات المعتبرة، والتّفاسير المفيدة المحرّرة، سلك فيه مسلك التّحقيق لما تقدّمه من كلام المفسّرين، مع اقتفاء لا بأس به للأثر، واعتناء بالعربيّة. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «تفسير ابن عطيّة وأمثاله أتبع للسّنّة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزّمخشريّ» (¬1)، ثمّ أخذ عليه في أمرين سأذكرهما من بعد. وقال أيضا- وقد ذكر تفسير الثّعلبيّ والبغويّ والواحديّ والزّمخشريّ والقرطبيّ وابن عطيّة-: «وتفسير ابن عطيّة خير من تفسير الزّمخشريّ، وأصحّ نقلا وبحثا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعلّه أرجح هذه التّفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصحّ من هذه كلّها» (¬2). 2 - أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل. تأليف: القاضي الإمام ناصر الدّين عبد الله بن عمر بن محمّد البيضاويّ الشّافعيّ، المتوفّى سنة (685 هـ). تفسيره يتّسم بنفس فقيه لغويّ، لا محدّث ذي دراية بالأسانيد والآثار ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 193). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 209).

3 - البحر المحيط.

المرويّة، مع أنّه ذكر في مقدّمته أنّه انتخبه ممّا بلغه من الأثر، وضمّ إليه فوائد استفادها من تحريرات المتأخّرين، أو ممّا فتح عليه به، مع الاعتناء باختلاف القرّاء وذكر وجوه القراءات، والإعراب. وهو كتاب مع استيعابه أشبه بالمختصر، وينطوي على فوائد كثيرة، لكن ليته لم يذيّل منه السّور بالحديث الموضوع المشهور في فضائلها (¬1). 3 - البحر المحيط. تأليف: الإمام أبي حيّان محمّد بن يوسف بن عليّ الغرناطيّ الأندلسيّ، المتوفّى سنة (745 هـ). كتابه موسوعة ضخمة في التّفسير، جمع وحرّر وناقش وقرّر، وبالغ في الاعتناء بالنّحو حتّى جاوز الحدّ المطلوب للقرآن، وهو فيه سيبويه زمانه، واعتنى بالقراءات عناية فائقة، مع قدر من الاعتناء بالأثر. قال شيخ القرّاء ابن الجزريّ: «له التّفسير الّذي لم يسبق إلى مثله، سمّاه البحر المحيط» (¬2). وأبو حيّان كان إماما في علوم شتّى كالحديث والفقه، وإن غلبت عليه العربيّة، وكان من ثقات القرّاء ومتقنيهم، ظاهريّا في الفقه، صالحا ديّنا. ¬

(¬1) هو الحديث المرويّ عن أبيّ بن كعب في فضائل القرآن سورة سورة، بيّن ابن الجوزيّ في «الموضوعات» (رقم: 470 - 474) أنّه موضوع، وأقرّه عامّة المحقّقين. (¬2) غاية النّهاية في طبقات القرّاء، لابن الجزريّ (2/ 286).

4 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.

4 - نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور. تأليف: الإمام برهان الدّين أبي الحسن إبراهيم بن عمر بن الحسن البقاعيّ الشّافعيّ، المتوفّى سنة (885 هـ). نحا في تفسيره هذا طريقة مبتكرة، بناها على اعتبار المناسبة بين الآيات والسّور، فأوقف على أسرار كثيرة، ومعان جليلة، استفادها بالتّدبّر، تجري على مقتضى اللّغة وإفادة السّياق، مع مراعاة النّقل والحديث في المواضع المختلفة. والحقّ أنّه كتاب جمّ الفائدة، كثير النّفع، غير أنّ مراعاة المناسبة بين السّور بنيت على القول: إنّ ترتيب السّور توقيفيّ، وقد تقدّم أنّ راجح القولين أنّ ترتيب السّور دخله الاجتهاد من قبل الصّحابة، وإن كان لا يمتنع أن تكون أكثر السّور استفيد ترتيبها في المصحف كما سمعت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ كذلك على مسلك اعتبار المناسبة عدم السّلامة من التّكلّف في كثير من المواضع، حتّى فيما بين الآيات في السّورة الواحدة إذا كانت السّورة تتحدّث عن أمور مختلفة، وسأنبّه على ذلك في الفصل التّالي. نقد هذه الكتب: هذه الكتب تعدّ من أفضل المؤلّفات الجوامع في التّفسير، ممّا يتيسّر الوقوف عليه، إضافة إلى ما تقدّم ذكره من كتب التّفسير بالمأثور، وعلى ما وصفت من حسنها وما يعرف من جلالة مؤلّفيها، إلّا أنّها قد اشتملت على

ما لا بدّ من التّنبيه عليه وأخذ الاحتياط فيه، فلها نصيب ممّا تقدّم ذكره من المآخذ على كتب التّفسير بالمأثور، وإن تفاوتت فيها قلّة وكثرة، وذلك بالاستشهاد بما لا يثبت وذكر الإسرائيليّات وإن قلّت أو ندرت في بعضها، وزادت على ذلك مأخذين: المأخذ الأوّل: القصور في ذكر مذاهب السّلف وأقوالهم في التّفسير، مع الاعتناء بذكر أقوال غيرهم، ممّا يقع به أحيانا تفويت للمعرفة بذلك القول، وقد يكون أصوب الأقوال، بينما قول من بعدهم ربّما كان ستره خيرا من كشفه، كالأقوال الّتي تذكر في مسائل العقائد. المأخذ الثّاني- وقد يكون نتيجة للّذي تقدّمه-: سلوك طريقة الخلف في تفسير آيات صفات الله عزّ وجلّ، ومن ينبّه منهم على طريقة السّلف لا يقتصر عليها أو لا يختارها، كالشّأن في تفسير الاستواء على العرش، وتكليم الله لموسى، ويد الله، ووجه الله، وأفعاله تعالى كرضاه وحبّه وسخطه وانتقامه، ممّا أضافه عزّ وجلّ لنفسه، فمذهب السّلف فيها إمرارها كما جاءت دون خوض في تفسيرها، فكلّها مثبتة كما أخبر الله بها عن نفسه، على ما يليق به، دون تشبيه له بخلقه. والمنتسبون للسّنّة في هذه القضيّة ثلاثة أصناف، كلّهم قالوا: نثبت لله ما أثبته لنفسه، لكنّهم افترقوا في معنى الإثبات: [1] فصنف قالوا: لا معنى لليد والوجه والكلام إلّا ما نفهم، فاليد

والوجه عضوان في البدن معلومان، والكلام لا يكون إلّا بفم ولسان وفكّين، فتخيّل هؤلاء من هذه الصّفات لربّهم صورة هي حاصل قياس الغائب على الشّاهد، حتّى قال بعضهم: لله جسم، فشبّهه بخلقه، تعالى الله عن ذلك، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11]. واعلم أنّه ليس المراد بأصحاب هذا الاعتقاد طائفة اعتقدوا لله جسما كجسم الإنسان، فإنّ هذا لا يكاد يوجد فيمن ينتسب إلى الإسلام، وإنّما هو ممّا يشنّع به المخالفون على بعضهم، بل لو جزمت بنفي وجوده في الواقع في المسلمين لم تلم إن شاء الله؛ لأنّ متعلّق النّاس ظواهر النّصوص، وليس فيها ما يسوّل لنفس أن تبني لله عزّ وجلّ صورة في الأذهان. وحين يقولون: «فلان كان مجسّما» فإن كان نعت بذلك من صاحب سنّة واتّباع، فمراده ما تقدّم ذكره من أنّ فلانا هذا أثبت لله الصّفات مع اعتقاد صورة تلك الصّفة على ما عهد في عالم الشّهادة، وإن كان نعت بذلك من قبل الصّنف التّالي، فربّما قصد به من يعتقد مذهب السّلف، ممّن يمرّها كما جاءت دون تفسير. ولم يزل لهذا الصّنف الّذي يجري الصّفات على الظّاهر المعلوم في عالم الشّهادة بقيّة إلى يومنا، فرأينا من يقول: (لله عينان اثنتان) ثمّ يستدلّ لذلك بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفى عن الله العور (¬1)، قال: (والعور في اللّغة: ذهاب حاسّة ¬

(¬1) كما في الحديث الوارد في ذكر المسيح الدّجّال، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: «إنّه أعور، وإنّ الله ليس بأعور» أخرجه البخاريّ (رقم: 3159) ومسلم (رقم: 169).

إحدى العينين، فدلّ على أنّ لله عينين)، وهذا تجوّز ظاهر، فإنّ اللّغة إنّما عرّفت ذلك في المخلوق، وتفسير صفة الخالق بصفة المخلوق تشبيه، والله تعالى لا مثل له يقاس به. [2] وصنف خافوا من إثبات الظّاهر؛ لأنّهم ظنّوا بينه وبين التّشبيه تلازما، فهرعوا إلى تفسير الصّفة بشيء من لازمها، ففسّروا مثلا اليد بالنّعمة والقدرة، وقالوا: تعبير القرآن مجاز لا حقيقة، وخاضوا في ذلك خوضا عجيبا واضطربوا، وما استقرّوا فيه على قدم، وآفة ذلك دخلت عليهم من جهة ما حسبوه تشبيها بإثبات الظّاهر، ومن جهة التّأثّر بإلزامات الطّوائف الخارجة عن السّنّة كالمعتزلة، مع أنّهم بطريقتهم لم ينفكّوا عن تلك الإلزامات على أيّ حال، ومن جهة ثالثة: ما تركوا به منهج الأئمّة الأوّلين، والّذين كانوا أعلم بالله ممّن بعدهم. [3] والصّنف الثّالث، طائفة قالوا: نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه على الوجه الّذي أراد، لا نفسّره ولا نزيد، مع اعتقاد التّنزيه عن مشابهة الخلق، وظاهر الألفاظ عندهم مراد لكن على ما يعلم الله منها، قالوا: ولا فرق بين أن نؤمن أنّ الله تعالى حيّ سميع بصير، وأنّ له يدين، وأنّه استوى على العرش، وأنّه يحيي ويميت ويرضى ويغضب ويتكلّم، فهذه وغيرها ممّا نسبه الله لنفسه ونسبه إليه رسوله صلى الله عليه وسلم ممّا حجب الله عنّا كيف يكون. وليس بين هذا وبين إدراك معاني هذه الألفاظ ودلالاتها في اللّسان إشكال، فنحن نجأر إلى الله بالدّعاء والتّسبيح والذّكر، ونعلم بلا ريبة أنّ

الله يرانا ويسمعنا ويعلم حالنا، وما ذلك إلّا بما نفهمه من معنى السّمع والبصر والعلم ممّا أخبرنا به عن نفسه، لكن لا ندري كيف. وهذا الاعتقاد قد جمع بين الإثبات والتّنزيه. وهو الحقّ من هذه المسالك، فإنّ أصحابه لم يزيدوا في تفسير النّصوص بآرائهم، وهذا هو الموافق للسّنّة، والصّنفان الأوّلان ليسا على السّنّة ولا طريق الجماعة الأولى أئمّة الإسلام: كأبي حنيفة ومالك وسفيان الثّوريّ والشّافعيّ وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، والحميديّ، والبخاريّ، وإخوانهم، فإنّهم أدركوا البدع في هذا الباب وردّوها بالوقوف عند الخبر، وترك مجاوزته بالنّظر، وطريقهم هو الأسلم والأعلم والأحكم. وعليه: فأكثر المفسّرين ممّن وقعوا في التّأويل للصّفات من الأمثلة الأربعة المذكورة، ومن سواهم ممّن سلك هذا السّبيل، سلكوا منهج المتكلّمين من الأشعريّة، إذ كان هو المنهج السّائد في مدارس التّلقّي في أزمنتهم، ولم يزل إلى يومنا هذا في كثير من المدارس الإسلاميّة، ومع قصد أتباعه إلى نصر السّنّة، لكنّهم وقعوا في موافقة المعتزلة وغيرهم من أهل البدع في كثير من الأصول، فطريقهم في هذا ليس السّنّة، ولا منهج الجماعة، وهم يقرّون بالتّفريق بين منهج السّلف ومنهج الخلف في هذا، فالله يغفر لهم، فقد قصدوا الإحسان، والله تعالى يقول: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التّوبة: 91].

المبحث الخامس: تفاسير الفقهاء

واعلم أنّ هذا المأخذ لم تسلم منه أكثر كتب التّفسير المتأخّرة، فاحفظ ذلك، واعلم أنّه مندرج تحت التّفسير بالرّأي غير المحمود، وإن وقع من فاضل، فكلّ يؤخذ من قوله ويترك إلّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم. المبحث الخامس: تفاسير الفقهاء والمقصود به طائفة من أهل العلم قصدت إلى التّركيز على تفسير آيات الأحكام الّتي تشرح شرائع الإسلام وتبيّن الحلال والحرام، وإذا تعرّضوا لما سوى ذلك فهو مقصود بالتّبع لا بالأصالة، وتقدّم أن نبّهت على طرف ممّا صنّف في ذلك في (تاريخ التّفسير). وأنا ذاكر هنا وصفا موجزا لأربع من أمّهات المراجع في هذا الباب، وهي موزّعة على المذاهب الفقهيّة الثّلاثة: الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، أذكرها مسلسلة حسب القدم: 1 - أحكام القرآن: تأليف: أبي بكر أحمد بن عليّ الرّازيّ الجصّاص، المتوفّى سنة (370 هـ). تقدّم في (تاريخ التّفسير) أنّ الجصّاص جرى فيه على خطا أبي جعفر الطّحاويّ في تصنيفه في هذا الباب، وهو إمام في المذهب، ثقة. وكتابه هذا موضوع على طريقة الحنفيّة في الفقه، والتزم فيه تفسير آيات الأحكام خاصّة، قد يجاوزها إلى غيرها قليلا، ويعتني بتقرير ذلك من جهة

2 - أحكام القرآن

اللّغة والأصول، كما يعتمد على النّقل من الحديث والأثر، ويسوق كثيرا من ذلك بأسانيده، ويذكر خلاف الفقهاء، ويناقشه، لكن فيما يصير في نتيجته إلى ترجيح مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والكتاب في الجملة: مرجع ضروريّ في أدلّة مذهب الحنفيّة من الكتاب والسّنّة والأثر، وتخريج خلافهم، بل هو من المراجع المهمّة في فقه الخلاف، كما أنّه نموذج مفيد لتطبيق الأصول على الفروع. ومن المأخذ عليه: أنّه في قلّة ما خرج به عن آيات الأحكام، فقد فسّر بعض الآيات المشتملة على ذكر صفات الباري عزّ وجلّ، فجرى لسانه فيها بالتّأويل على طريقة الخلف، كتفسير ذكر اليدين في سورة المائدة، وغيرها. 2 - أحكام القرآن: تأليف: الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ الطّبريّ، الملقّب «الكيا» الهرّاسيّ، المتوفّى سنة (504 هـ). كان من رءوس الشّافعيّة، وكتابه المذكور بناه على كتاب الجصّاص، لكنّه انتصر لمذهب الشّافعيّة، وهو يأتي على كلام الجصّاص فيختصر منه ما وافقه فيه، ويستقلّ بتحرير قول الشّافعيّة عنه، وربّما نبّه على بعض ما أخذه عن الجصّاص في ثنايا الكتاب، لكن ليته شرح ذلك وبيّنه في مقدّمته، لئلّا يظنّ أنّ تلك عبارته، فإنّ من لا يخبر الكتابين لا يتبيّن له ذلك. وكتابه دون كتاب الجصّاص، لكنّه مفيد على طريقة مذهبه.

3 - أحكام القرآن

3 - أحكام القرآن: تأليف: الإمام المحقّق القاضي أبي بكر محمّد بن عبد الله الإشبيليّ المعروف ب «ابن العربيّ»، المتوفّى سنة (543 هـ). كتابه من أجلّ هذه الكتب الموضوعة في هذا الباب، سلك فيه طريقة حسنة مبتكرة، وذلك أنّه يرقم الآيات الدّالّة على الأحكام في السّورة، فإذا ذكر الآية المقصودة بالتّفسير، وكانت مشتملة على أنواع من الأحكام، قال: (وفيها كذا مسألة) ويحصرها بالعدد، ثمّ يسوقها، وفي ذلك من تقريب العلم وتيسير أخذه ما لا يخفى. ثمّ إنّه وإن اعتنى بمذهب مالك، وحرّر من أقوال أصحابه، وجرى في الغالب على منهاجه، إلّا أنّه استقلّ باستدلال ونظر، فأتى من ذلك بدرر، وهكذا شأن من لم يحكمه التّقليد وقدّم اعتبار صحيح الأثر. وكان قد استقى من كتاب «أحكام القرآن» لإسماعيل القاضي المالكيّ، والّذي يعدّ في التّصنيف في هذا الباب أوّل مبتكر. والإنصاف واجب، فكتاب ابن العربيّ زاد لا يستغني عنه الفقيه على أيّ المذاهب جرى وإلى أيّها انتصر. 4 - الجامع لأحكام القرآن. تأليف: الإمام أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبيّ، المتوفّى سنة (671 هـ).

هذا الكتاب لولا ما بقي بعده من حظّ في فهم كتاب الله، لصحّ القول: طابق في مضمونه مسمّاه، فإنّه جمع ما بلغه في التّفسير واستقصى، وزاد عليه بالتّدبّر والنّظر والوقوف على ما لم يسبق إلى ذكره في التّفسير من الأثر، فوائد كثيرة، وتحقيقات نافعة، مع دراية بالعربيّة ومذاهب أهلها، واختلاف الفقهاء، ممّا يشهد بتبحّره وسعة اطّلاعه. ومع مالكيّته فإنّه لم يقتصر على مذهبه، ومع قصده تفسير آيات الأحكام لكنّه تعرّض لتفسير جميع القرآن. وقد اشترط فيه اتّباع أحسن طرق التّفسير، ممّا تقدّم بيانه، وحذّر من خطورة التّفسير بالرّأي، وحقّق ذلك في الجملة، ولكنّ الطّمع في الزّيادة سبيل قلّ من ينجو منه من المؤلّفين، فأوقعه ذلك في ذكر الحديث الموضوع والمنكر والأخبار الإسرائيليّة، وكان يغنيه ما يسوقه من ثابت الأخبار عن ذلك، كما ذكر فيه من مسائل الفقه والأحكام ما لا صلة له بالقرآن. كذلك يتطرّق إلى ذكر الخلاف بين أهل الكلام في بعض مسائل العقائد، وكان يكفيه الاقتصار على ذكر مذاهب السّلف، فإنّ النّاس لا يحتاجون إلى خلط المتكلّمين، غير أنّ هذه السّمة كانت جزءا من الثّقافة الشّائعة في ذلك الوقت، فلا يكاد ينفكّ أكثر العلماء عن التّأثّر بها. وممّا ينبّه عليه كذلك: أنّه جرى في خطّة تصنيفه على منهج القاضي أبي بكر ابن العربيّ، وكاد أن يستوعب ذكر مسائله بحروفها، كذلك اعتمد

المبحث السادس: التفاسير اللغوية

على تفسير ابن عطيّة «المحرّر الوجيز»، بل كان من أهمّ مراجعه (¬1)، وكثيرا ينقل كلامهما دون عزوه إليهما. وفي الجملة: فهو من جوامع التّفسير المعتبرة، ومرجع معتمد فيه، ومن أمّهات كتب الفقه، وحجّة فيما ينقله من مذهب أصحابه. المبحث السادس: التفاسير اللغوية كما اعتنت طائفة من علماء الأمّة بجمع المأثور وتتبّعه في التّفسير، وأخرى بما يستفاد منه من الفقه والأحكام، وذلك بالإفراد بالتّأليف، فإنّ آخرين قصدوا إلى الاعتناء ببيان نحوه بالإعراب، وبلاغته بإظهار أنواع المعاني والبيان والبديع، كما أبرزت طائفة معانيه وغريبه من جهة ما عرف عن العرب. وهذه الوجوه قد اعتنت بها جوامع التّفسير، كالأمثلة المتقدّمة، لكنّ المقصود هنا ما أفرد فيها من الكتب. وأنا ذاكر من ذلك أمثلة من جوامع تلك الكتب تحقّق الغرض إن شاء الله، إضافة لما تقدّم ذكره في (تاريخ التّفسير) (¬2): 1 - إعراب القرآن. ¬

(¬1) وانظر: مقدّمة ابن خلدون (2/ 533). (¬2) انظر (ص: 321 - 322).

2 - مشكل إعراب القرآن.

تأليف: إمام النّحو أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النّحّاس، المتوفّى سنة (338 هـ). وهذا الكتاب أفرده مؤلّفه في إعراب القرآن والقراءات واختلافها، وأتى فيه على علوم من تقدّمه في النّحو، فقرّبها وأوجزها، معزوّة إليهم بالعبارة، وهو بحقّ من أجلّ ما يرجع إليه في هذا الباب، مطبوع بتمامه، وبمثله الغنى إن شاء الله عن كشّاف الزّمخشريّ المعتزليّ وشبهه. 2 - مشكل إعراب القرآن. تأليف: الإمام أبي محمّد مكّيّ بن أبي طالب القيسيّ القرطبيّ، المتوفّى سنة (437 هـ). هذا الكتاب كما سمّاه مؤلّفه اعتنى فيه بإعراب ما يشكل، لا جميع مفردات القرآن، كما أنّه ألّفه لمن له حظّ من علم النّحو. 3 - إملاء ما منّ به الرّحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن (¬1). تأليف: الإمام أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبريّ الحنبليّ، المتوفّى سنة (616 هـ). ¬

(¬1) هكذا أثبت اسمه في طبعته المصريّة، والّتي كانت سنة 1389 هـ، وصوّرت في بيروت سنة 1399 هـ، وجاء في آخر الكتاب: «وهذا آخر ما تيسّر من إملاء كتاب التّبيان في إعراب القرآن».

المبحث السابع: تفاسير الصوفية

وهذا مختصر يحقّق كثيرا ممّا يقصده من يريد معرفة إعراب القرآن. وفي عصرنا ألّفت كتب مفيدة في هذا الباب، وزادت بيان بلاغة القرآن كذلك، من أبرزها كتاب «إعراب القرآن وبيانه» من تأليف الأستاذ محيي الدّين الدّرويش الحمصيّ، المتوفّى سنة (1402 هـ)، وهو كتاب فريد في أسلوبه واستيعابه وسهولة عرضه، اعتنى فيه بالإعراب أحسن عناية، فأعرب القرآن مفردة مفردة، ونبّه على الصّور البلاغيّة فيه، مع شرح غريبه، لكن يؤخذ عليه التّأثّر بقول المؤوّلة في صفات الله، وتارة يقف عند مذهب السّلف، فإذا استثنيت هذا فالكتاب في موضوعه كبير الفائدة. المبحث السابع: تفاسير الصوفية ويسمّى (التّفسير الإشاريّ). وهو تفسير اللّفظ بغير المتبادر من ظاهره، أو: استخراج معاني كامنة وراء الظّاهر. وهو أيضا التّفسير بما يسمّيه الصّوفيّة «العلم اللّدنّي» أخذا من قول الله عزّ وجلّ في شأن الخضر عليه السّلام: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65]. مثل قولهم في قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النّساء: 36]: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هو القلب،

وَالْجارِ الْجُنُبِ النّفس، وَابْنَ السَّبِيلِ الجوارح. وقول أحدهم في قوله تعالى: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ [طه: 40] قال: نجّيناك من الغمّ بقومك، وفتنّاك بنا عمّن سوانا (¬1). وقال آخر في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5]: من لا يجتهد في معرفته لا يقبل خدمته (¬2). وقد سئل الإمام أبو عمرو ابن الصّلاح عن هذا النّوع من التّفسير؟ فأجاب: «الظّنّ بمن يوثق به منهم أنّه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنّه لم يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشّرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم، فإنّه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنيّة، وإنّما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإنّ النّظير يذكر بالنّظير» قال: «ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك؛ لما فيه من الإيهام والالتباس» (¬3). وسلك هذا الطّريق في التّفسير طائفة، وألّفوا فيه، أبرزهم رجلان: الأوّل: أبو عبد الرّحمن محمّد بن الحسين السّلميّ النّيسابوريّ، المتوفّى سنة (412 هـ). كبير الصّوفيّة في وقته، وكان محدّثا حافظا، لكنّه ألّف كتابا في التّفسير ¬

(¬1) انظر: تلبيس إبليس، لابن الجوزيّ (ص: 331 - 332). (¬2) طبقات الصّوفيّة، لأبي عبد الرّحمن السّلميّ (ص: 439). (¬3) فتاوى ابن الصّلاح (1/ 196 - 197) وذكر الزّركشيّ هذا الكلام بنصّه في «البرهان» (2/ 170، 171) عنه كذلك.

سمّاه «حقائق التّفسير» ضمّنه هذا النّوع من التّفسير المسمّى ب (الإشاريّ)، وحكى فيه مقالات الصّوفيّة وعباراتهم، وفيها ما لا يحتمل، بل ينبو عنه الظّاهر، وفي الاعتذار عنه تكلّف شديد. وشدّد كثير من العلماء النّكير على هذا الكتاب، وعابوه على السّلميّ، حتّى بالغ الواحديّ المفسّر فقال: «صنّف أبو عبد الرّحمن السّلميّ (حقائق التّفسير)، فإن كان قد اعتقد أنّ ذلك تفسير، فقد كفر» (¬1). وقال الذّهبيّ: «في حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلا، عدّها بعض الأئمّة من زندقة الباطنيّة، وعدّها بعضهم عرفانا وحقيقة» (¬2). وانتقده شيخ الإسلام ابن تيميّة، ولكن بعبارة أخفّ (¬3). وظاهر الأمر أنّ السّلميّ كان ناقلا، وإن عيب فبحكايته ما لا يحتمل حتّى مع التّكلّف في تأويله، لا أنّه يؤاخذ بشيء قاله من جهة نفسه. والثّاني: الشّيخ محيي الدّين محمّد بن عليّ بن محمّد الطّائيّ الحاتميّ، المعروف ب «ابن عربيّ»، المتوفّى سنة (638 هـ). وهو متّهم في دينه عند جمهور أئمّة المسلمين، ومنهم من كفّره، وهو رأس القائلين بفكرة وحدة الوجود، وزعم لنفسه أنّه خاتم الأولياء، ¬

(¬1) فتاوى ابن الصّلاح (1/ 197). (¬2) سير أعلام النّبلاء، للذّهبيّ (17/ 252). (¬3) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 130).

وتكلّم بالألفاظ الكفريّة، وله تفسير على طريقته، لكن ما حمل النّاس عليه في شيء من كتبه كالّذي حملوه عليه في كتابه «فصوص الحكم»، ذلك لما رأوا فيه من شنيع العبارة، وفي كلامه ما يشقّ على المسلم حكايته، نسأل الله العفو والعافية، وأمره إلى الله، وقد أغنى الله المسلمين عنه وعن كتبه، فإن كان عنده حقّ فإنّه لم يقصر عليه، والحمد لله (¬1). فتفسير هذه الطّائفة للقرآن تفسير على غير مقتضى الظّاهر، وربّما سمّاه بعض العلماء «تفسيرا باطنيّا»، وجعل أصحابه كالقرامطة (¬2)، وهم طائفة «يدّعون أنّ للقرآن والإسلام باطنا يخالف الظّاهر»، وحقيقة أمرهم أنّ «ظاهرهم الرّفض، وباطنهم الكفر المحض» (¬3). لكن التّحقيق أنّ مسلكهم في التّفسير وإن أشبهوا فيه الباطنيّة القرامطة، إلّا أنّه لا يبلغ مبلغهم، فأولئك ملاحدة زنادقة، ولشيخ الإسلام ابن تيميّة ¬

(¬1) انظر ترجمته في: «سير أعلام النّبلاء» للذّهبيّ (23/ 48)، «تاريخ الإسلام» له (وفيات سنة 631 - 640، ص: 374)، «الوافي بالوفيات» للصّفديّ (4/ 173)، «البداية والنّهاية» لابن كثير (13/ 184)، «لسان الميزان» لابن حجر (5/ 307). (¬2) هم طائفة من المارقة، ظهر أمرهم في خلافة المعتضد العبّاسيّ في سنة (278 هـ)، وكان منهم بعد ذلك شرّ عظيم، أظهروا الكفر، واستباحوا المحرّمات، ووقعت منهم أعاجيب، وقيل في نسبتهم: إنّ (قرمط) لقب لرجل من أهل الكوفة اسمه (حمدان)، أوّل من أظهر هذه الدّعوة، وقيل غير ذلك، وانظر خبرهم في «الكامل» لابن الأثير (6/ 69) و «الأنساب» للسّمعانيّ (10/ 387). (¬3) مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (13/ 127).

كلام محرّر يفصل في سبيل هذين الفريقين، ويبيّن الحكم في هذا النّمط من التّفسير، قال رحمه الله: «وجماع القول في ذلك أنّ هذا الباب نوعان: أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفا لما علم، فهذا هو في نفسه باطل، فلا يكون الدّليل عليه إلّا باطلا؛ لأنّ الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنّه حقّ. والثّاني: ما كان في نفسه حقّا، لكن يستدلّون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الّذي يسمّونه (إشارات)، و (حقائق التّفسير) لأبي عبد الرّحمن فيه من هذا الباب شيء كثير. وأمّا النّوع الأوّل فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم». قال: «وأمّا النّوع الثّاني، فهو الّذي يشتبه كثيرا على بعض النّاس، فإنّ المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسّنّة عليه، ولكنّ الشّأن في كون اللّفظ الّذي يذكرونه دلّ عليه، وهذا قسمان: أحدهما: أن يقال: إنّ ذلك المعنى مراد باللّفظ، فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] هي النّفس، وبقوله: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ* [طه: 24] هو القلب، وَالَّذِينَ مَعَهُ* أبو بكر، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح: 29] عليّ، فقد كذب على الله، إمّا متعمّدا، وإمّا مخطئا.

والثّاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللّفظ، فهذا من نوع القياس، فالّذي تسمّيه الفقهاء (قياسا) هو الّذي تسمّيه الصّوفيّة (إشارة)، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك. فمن سمع قول الله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 79 [الواقعة: 79]، وقال: إنّه اللّوح المحفوظ أو المصحف، فقال: كما أنّ اللّوح المحفوظ الّذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسّه إلّا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلّا القلوب الطّاهرة، وهي قلوب المتّقين، كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السّلف» (¬1). قلت: فهذا يبيّن أنّ التّفسير الإشاريّ ليس جميعه مرفوضا، بل منه ما هو صحيح مقبول، وقرّب هذا العلّامة ابن القيّم فذكر لقبوله أربعة شروط، هي: 1 - أن لا يناقض معنى الآية. 2 - أن يكون معنى صحيحا في نفسه. 3 - أن يكون في اللّفظ إشعار به. 4 - أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (13/ 129 - 130). (¬2) التّبيان في أقسام القرآن، لابن القيّم (ص: 50).

المبحث الثامن: التفسير بالرأي الفاسد

فمن فسّر الصّلاة والزّكاة بمعناهما الشّرعيّ في الكتاب والسّنّة، ثمّ قال: الصّلاة: صلة بين العبد وربّه، والزّكاة: تطهير النّفس من أوساخ الدّنيا، فهذا التّفسير صحيح معتبر، قد جاء على تحقيق الشّروط المذكورة. وكان الإمام السّريّ السّقطيّ سيّد الصّوفيّة يقول: «من ادّعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط» (¬1). واعلم أنّ من الجوامع الّتي اعتنت بذكر التّفسير الإشاريّ مضافا إلى التّفسير المعهود: بالأثر والرّأي: تفسير «روح المعاني» للعلّامة شهاب الدّين أبي الثّناء محمود بن عبد الله الآلوسيّ، المتوفّى سنة (1270 هـ)، وتفسيره جامع واسع، وجميع ما ذكرت من المآخذ على كتب التّفسير بالمأثور أو بالرّأي أو التّفسير الإشاريّ، فإنّه ضرب منه بنصيب، لكن الأشبه أنّه أراد في العقائد مذهب السّلف، وإن ترجّح منه غير ذلك في بعض المواضع. المبحث الثامن: التفسير بالرأي الفاسد الّذي قصدت التّنبيه عليه في هذا المبحث: تلك المؤلّفات في التّفسير الّتي وضعت لتأييد البدع في العقائد، أو جرت في تحقيق هذا المأرب لأهل الأهواء. ¬

(¬1) تلبيس إبليس، لابن الجوزيّ (ص: 168). والسّريّ تلميذ معروف الكرخيّ، وشيخ الجنيد بن محمّد، رحمهم الله.

وذلك كالكتب الّتي نصرت مذاهب المعتزلة في التّوحيد وغيره من عقائدهم، فحرّفوا فيها معاني الكتاب، وأسقطوا اعتبار السّنن الثّابتة، وجانبوا فيها الآثار. وكالكتب الّتي وضعها بعض الرّافضة في الغلوّ في أهل البيت، والطّعن في سادات الأمّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والّتي تشتمل على الأخبار الواهية الّتي لا تقوم في ميزان النّقد. كقولهم: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ* [الرّحمن: 19]: عليّ وفاطمة، واللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرّحمن: 22]: الحسن والحسين. وقولهم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قالوا: أبو بكر، يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا 27 يعني محمّدا، يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني عمر، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الفرقان: 27 - 29] يعني عليّا. وقولهم في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التّوبة: 40] لا يلزم من الصّحبة الإيمان؛ لأنّ الله يقول: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ [الكهف: 37]. وتفاسير الرّافضة ظاهرة العوار، لا يحتاج كشفها إلى كثير علم. وإنّما الّذي يلتبس على كثير من النّاس الكتب الّتي احتوت سموم المعتزلة والمشكّكة، والتّنبيه بالتّعيين على كتابين في ذلك:

الأول: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.

الأوّل: الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل. تأليف: أبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزّمخشريّ، المتوفّى سنة (538 هـ). هذا الكتاب لرأس من رءوس الاعتزال، وفحل من فحول العربيّة، جنّد معرفته باللّسان لنصر مذهبه في هذا الكتاب. قال ابن تيميّة: «وأمّا الزّمخشريّ فتفسيره محشوّ بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة، من إنكار الصّفات والرّؤية، والقول بخلق القرآن، وأنكر أنّ الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة، ... مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلّة النّقل عن الصّحابة والتّابعين» (¬1). وقال وقد ذكر تفاسير المعتزلة: «ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا، كصاحب الكشّاف ونحوه، حتّى إنّه يروج على خلق كثير ممّن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله» (¬2). وقد تعقّبه بالنّقد لأباطيله في العقائد كثير من العلماء، بل إنّهم تعقّبوه حتّى في العربيّة وخطّئوه في طرف منها، ومن أهل العلم من منع النّظر فيه، لكن قال الحافظ ابن حجر: «من رسخت قدمه في السّنّة، وقرأ طرفا من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 208 - 209). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 192).

والثاني: مفاتيح الغيب، أو: التفسير الكبير.

اختلاف المقالات، انتفع بتفسيره، ولم يضرّه ما يخشى من دسائسه» (¬1). قلت: لقد أتى كثير من المفسّرين بعده فانتزعوا فوائد كتابه، وزادوا، فأغنى ما كتبوا عن ذلك الكتاب، ولا تحسبن أن سيفوتك بفواته ما لا تجده عند سواه. والثّاني: مفاتيح الغيب، أو: التّفسير الكبير. تأليف: العلّامة النّظّار فخر الدّين محمّد بن عمر بن الحسين الرّازيّ، المتوفّى سنة (606 هـ). هذا الكتاب على كبر حجمه، فإنّك إن سلمت من تشكيكاته، فلا أحسبك تخرج منه بفائدة ينفرد بها في تفسير القرآن، وفيه ظلمة، ولعلّك ترى هذا الوصف في عامّة مصنّفات الرّازيّ. وذلك لما شحن به هذا الكتاب من الآراء الفلسفيّة الّتي لا تعود بنفع. وقد قال بعض العلماء: «فيه كلّ شيء إلّا التّفسير» (¬2). وقال الحافظ ابن حجر: «كان يعاب بإيراد الشّبه الشّديدة، ويقصّر في حلّها، حتّى قال بعض المغاربة: يورد الشّبه نقدا، ويحلّها نسيئة» (¬3). وقد أغناك الله عن هذا الكتاب بما تقدّم ذكره من الكتب، وبما سيأتي، وبما هو على مناهج ذلك. ¬

(¬1) لسان الميزان، لابن حجر (6/ 4 - 5). (¬2) الإتقان، للسّيوطيّ (2/ 539). (¬3) لسان الميزان (4/ 505).

المبحث التاسع: التفاسير المعاصرة

المبحث التاسع: التفاسير المعاصرة إفرادها بالتّنبيه؛ من أجل ما تميّزت به من المنهجيّة المناسبة للعصر، في لغة الإنشاء، ولغة المضمون. فأمّا لغة الإنشاء، فإنّ لغة التّفسير في العصور الماضية كانت أشبه بخطاب الخاصّة، فلا يكاد ينتفع بها عموم النّاس، ولعلّ من أبرز أسباب ذلك: أنّ تداول الكتاب لم يكن ميسورا إلّا لمن تعنّى طلب العلم، بخلاف زماننا، فإنّ ما أنعم الله تعالى به على بني الإنسان من وسائل الطّباعة والنّشر ذلّل ذلك، حتّى يسّر اقتناء الكتاب لكلّ من شاء. وحسن أن يكتب التّفسير لعموم المسلمين باللّغة الّتي تيسّر عليهم فهم القرآن، لكن لا يصحّ أن يهبط الكاتب في التّفسير إلى لغة الإعلام المعاصر، والّتي هي في الحقيقة مزيج في التّعابير من لغات شتّى، وإن كانت بمفردات عربيّة!! وأمّا لغة المضمون، فإنّ العلم الحديث قد أوقف الإنسان على كثير من أسرار الخلق، ممّا يجد المفسّر ارتباطه بالقرآن ارتباطا مباشرا، بل إنّه ليوقف على حقائق لم يتهيّأ لمن سبق من المفسّرين الوقوف عليها، ولا ريبة أنّ هذا جانب مقصود مأمور به بعموم الأمر بتدبّر القرآن، وإن كنّا نرى ضرورة ضبطه ببعض الضّوابط. كذلك لاحظت كتب التّفسير المعاصرة مستجدّات هذا العصر، وما

1 - تفسير المنار.

يلامس حاجة المسلم اليوم. ونماذج تلك الكتب كثيرة، ولا نزال نرى فيها الجديد، لكنّي رأيت انتخاب أربعة من مشاهيرها، لأربعة من علماء العصر الحديث، اختلفت مناهجهم في صياغة التّفسير: 1 - تفسير المنار. تأليف: العلّامة المصلح محمّد رشيد رضا القلمونيّ، البغداديّ الأصل، المتوفّى سنة (1354 هـ). هذا التّفسير مبتداه دروس الشّيخ محمّد عبده، رحمه الله، استفادها الشّيخ محمّد رشيد، فبنى عليها، وزاد، وهي تستند إلى النّقل والأثر، كما تمتاز بالنّظر الجريء، بعبارة عليها طابع التّجديد، مع الرّبط بمقتضيات الواقع ومتغيّراته، واعتناء بتعليل الأحكام بما يتوافق مع العلم الحديث، وله فيه من الرّأي ما يناقش كغيره، بل فيه ما يردّ عليه، خاصّة ما تضمّنه من ردّ بعض الحديث الصّحيح بالرّأي، والّذي يعدّ من أكبر المآخذ عليه. وهو وثيقة تاريخيّة إضافة إلى كونه تفسيرا؛ لأنّه امتدّت كتابته سنين طويلة، وكان ما يكتب فيه مراعيا للحدث. والأصل أنّ الشّيخ رشيدا كان ينشر هذا التّفسير ضمن مجلّة «المنار»، ثمّ استقلّ عنها بالنّشر. وقد حظي في وقته بإقبال النّاس عليه، ولم يزل له اعتباره في نظر

2 - في ظلال القرآن.

الباحثين وأهل العلم، وفيه خير كثير، مع أنّه لم يتمّه، إنّما انتهى فيه إلى الآية (101) من سورة يوسف، فكان آخره تفسير قوله تعالى: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، فتوفّاه الله عندئذ، فهي بشارة خير له، رحمه الله. 2 - في ظلال القرآن. تأليف: الأديب العالم المفكّر سيّد بن قطب بن إبراهيم المصريّ، المقتول شهيدا إن شاء الله سنة (1387 هـ). هذا الكتاب عصارة تدبّر رجل أوتي نصيبا وافرا من أدب النّثر والكتابة، ليس لغويّا برع في تحليل الألفاظ وتراكيبها، أو فقيها غاص في دقائق الشّرائع، أو نظّارا قصد إلى أساليب الجدل وخاض في متاهات النّظر، ولكنّه رجل أقبل على القرآن يتأمّل معانيه، مسترشدا ببعض كتب التّفسير الّتي سبقته، كتفسير الإمام ابن كثير، مع البراعة الأدبيّة الّتي أوتيها، رابطا ذلك بمحيطه وواقعه، محاكما ذلك الواقع بما فهمه من خلال تدبّره، وذلك في مقدار صلته بربّه ودينه وكتابه، مراعيا متغيّرات زمانه وتطوّرات عصره، مستشعرا ظلم المتجبّرين الخارجين عن حكم الله. جاء كتابه بما قرّب به من معاني القرآن بمنزلة التّفسير، وإن لم يكن يأتي على تحليل مفرداته. فيه اعتماد الحديث والأثر، والتّنبيه على أسباب النّزول. كما سلك فيه مسلكا مبتكرا، وإن لم يكن جديدا في موضوعه، لكنّه غير

3 - التحرير والتنوير.

شائع في تطبيقه في كتب التّفسير، وهو مراعاة الوحدة الموضوعيّة للسّورة، والاعتناء بتحليل مضمونها، ثمّ تجزئته إلى مقاطع، ممّا يحصل به تقريب للبعيد، وربط للمعاني. وهو نمط فريد في شرح الكتاب العزيز (¬1)، ويقع تصنيفه ضمن كتب التّفسير بالرّأي، لكنّه الرّأي المحمود، وذلك باعتبار ما غلب عليه. ووقعت في «الظّلال» هفوات، عظّمتها طائفة، وحقّرتها أخرى، ونحن نحبّ سيّدا، لكنّ الحقّ أحبّ إلينا منه، لا نرضى قول هؤلاء ولا أولئك، فلا نعادي أولياء الله ولا نغالي فيهم، وإنّما هم بشر ممّن خلق الله، ليسوا برسل ولا أنبياء، يؤخذ منهم ويردّ عليهم، وفي تلك الهفوات ما هو خطأ بيّن، اعتذارنا عن سيّد فيها يعود تارة إلى خلفيّته الثّقافيّة، كالّذي يؤخذ عليه في باب العقائد، وتارة إلى ما عاناه هو وإخوانه من ظلم، كالّذي يؤخذ عليه في تفسير المجتمع الجاهليّ، والله يتولّاه برحمته وعفوه. 3 - التّحرير والتّنوير. تأليف: العلّامة الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور المالكيّ، شيخ جامع الزّيتونة بتونس، المتوفّى سنة (1393 هـ). ¬

(¬1) سلك طريقته الشّيخ سعيد حوّى المتوفّى سنة (1408 هـ) في تفسيره المسمّى ب «الأساس في التّفسير»، بل إنّه زاد عليه اعتبار ما سمّاه بالوحدة القرآنيّة، فالقرآن مجمل في الفاتحة، ثمّ سائره مجموعات مترابطة يفصّل بعضها بعضا. وهو تفسير سهل ميسّر، يعتمد على مصادر معروفة، يؤخذ عليه ذكر الإسرائيليّات والأخبار الضّعيفة.

4 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.

كتاب جمّ الفوائد، كثير التّحقيقات، جرى في أسلوبه على طريقة من تقدّم من المفسّرين، واستخلص من كتبهم وزاد، يفسّر باللّغة والرّأي، ويبيّن النّزول وأسبابه، ويعتمد الحديث، ويحرّر الأحكام، ويعتني بمقاصد التّشريع، ويراعي المناسبة والارتباط بين الآيات، والبلاغة القرآنيّة، ويحدّد أغراض السّورة بين يديها، كما يبيّن طرفا من التّفسير العلميّ المستفاد من اكتشافات العلم الحديث، فهو تفسير معاصر، لكن بلغة متينة. ويؤخذ عليه: تفسير آيات الصّفات على طريقة الخلف، وذكر ما لا يثبت من الحديث والأثر. 4 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. تأليف: العلّامة الشّيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الجكنيّ الشّنقيطيّ، المتوفّى سنة (1393 هـ). هذا التّفسير من أجلّ التّفاسير المعاصرة وأنفعها، اجتهد مؤلّفه أن يراعي فيه مسمّاه، لكنّه إذا أتى على تفسير آيات الأحكام بالغ في بيانها، حتّى يخرج فيما يذكره إلى ما هو ألصق بكتب الفقه، غير أنّه فيما يفسّر أو يحرّر يأتي بدرر نفيسة، وتحقيقات دقيقة، مع سلامة في الاعتقاد، وحرص على الدّليل، واتّباع لأحسن مناهج التّفسير بالرّأي، وذلك بسبب ما أوتيه من تمكّن مشهود له به في اللّغة والأصول والمنطق، وله ممّا ذهب إليه باجتهاده ما يخالف فيه، ولم يكمله، إنّما انتهى به عند آخر سورة المجادلة.

المبحث العاشر: تتمة

المبحث العاشر: تتمة من المباحث المهمّة في تفسير القرآن، ممّا خصّ بالبحث: تفسير مشكل القرآن. والمراد به رفع اللّبس ودفع الاشتباه فيما أشكل معناه، وسبق في (تاريخ التّفسير) أنّ ابن قتيبة اللّغويّ صنّف فيه قديما، ومن الكتب النّافعة فيه: 1 - فوائد في مشكل القرآن، لسلطان العلماء عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام السّلميّ. 2 - تفسير آيات أشكلت، لشيخ الإسلام ابن تيميّة. 3 - فتح الرّحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لشيخ الإسلام زكريّا الأنصاريّ. ولا ريب أنّ رفع الالتباس عن آيات الكتاب مطلوب، وهو جزء من البيان للكتاب، لكن لا يجوز أن يخرج عن الأصول المعتبرة في التّفسير. من المناهج المبتكرة في التّفسير المعاصر للقرآن ثلاثة أنماط: 1 - التّفسير الموضوعيّ للقرآن: وهو الاعتناء بدراسة الموضوعات القرآنيّة على غير الصّورة التّقليديّة في التّفسير، وإنّما بالنّظر إلى الأبواب، كدراسة: الإيمان والكفر والنّفاق في القرآن، الأخلاق في القرآن، الرّبا في القرآن، وهكذا.

2 - التفسير العلمي

وهذا أسلوب عصريّ، لم يكن شائعا في تصانيف السّابقين على سبيل الإفراد بالتّأليف، إنّما كانوا يراعون تتبّع المصطلح القرآني من حيث الجملة. وهو مع حداثته، فإنّه لا مانع منه ولا حرج فيه، بشرط التزام المنهج المعتبر في التّفسير. 2 - التّفسير العلميّ: والمراد به تفسير الآيات الّتي تتحدّث عن الكون وخلق الإنسان ونحو ذلك، بما توصّل إليه العلم الحديث من اكتشاف واطّلاع على حقائق لم يهتد إليها عموم النّاس من قبل. وهذا فنّ من التّفسير لا يغفل أثره في إعجاز القرآن، وزيادة الإيمان، لكنّي أراه لا يقبل إلّا بشروط ثلاثة: 1 - أن لا يصادم أصلا معلوما بنفس دلالة القرآن أو صحيح السّنّة. 2 - أن يحتمله اللّفظ من جهة اللّغة. 3 - أن يكون حقيقة علميّة ثبتت بالبراهين، لا مجرّد نظريّة محتملة، خشية أن تجعل نصوص القرآن غرضا لتجارب النّاس. فإذا اجتمعت هذه الشّروط فلا مانع من قبول هذا النّوع من التّفسير، فإنّ الله تعالى قال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصّلت: 53].

3 - التفسير العددي للقرآن

ويمكن القول: فكرة هذا النّوع من التّفسير ليست حديثة، فقد نبّه الأطبّاء وغيرهم من قبل على أشياء، وربطوها بالقرآن، لكنّها لم تبلغ ما بلغه العلم الحديث اليوم. وفي العصر الحديث خلال القرن الماضي، ألّف الشّيخ طنطاوي بن جوهري المصريّ المتوفّى سنة (1358 هـ) تفسيره المسمّى ب «الجواهر»، وشحنه بذكر الاكتشافات العصريّة وربطها بالقرآن، وكان يمثّل بالصّور في كتابه هذا، فرفضه النّاس وعابوه، لما رأوا فيه من التّكلّف والمبالغة. 3 - التّفسير العدديّ للقرآن: كذا سمّاه بعض أهل هذا الزّمان، والمقصود به: استخراج دلائل ومعان، بناء على حساب عدد الحروف أو الكلمات، ومنه البحث عن سرّ عدد السّبعة أو السّبعين أو الأربعين، وشبه ذلك. فهذا تكلّم فيه بعض النّاس من قبل، كما أشار إليه الزّركشيّ (¬1). وهو من بدع التّفاسير، ولاحق بالتّفسير بالرّأي المذموم، فهو لا يتخرّج على لغة ولا على أثر، كما أنّنا لم نر من تكلّم فيه أتى بمثال صالح مقنع، بل لا تخريج له إلّا التّكلّف، والله أعلم. ¬

(¬1) البرهان، للزّركشيّ (2/ 181 - 182).

الفصل الخامس: قواعد التفسير

الفصل الخامس: قواعد التفسير هذا الفصل مختصر، معقود للتّنبيه على ما يحتاج المفسّر أو متدبّر القرآن إلى ملاحظته، وهو أصول جامعة وقواعد كلّيّة، تعين على التّدبّر الأمثل، والفهم الصّحيح للقرآن، تتمّم الأصول المتقدّمة، وتقرن بما ذكرته في طرق التّفسير، لا أعيد فيها ما نبّهت عليه من قبل في موضعه من هذا الكتاب، كمراعاة أسباب النّزول، والمكّيّ والمدنيّ، واختلاف القراءات، والنّسخ، والمأثور في التّفسير، والحذر من الرّأي الفاسد، وترك تفسير المتشابه. وهذا بيان تلك القواعد والأصول في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: محتوى القرآن في القرآن ما ينفع النّاس في الدّنيا والآخرة، علومه لا نهاية لها، وخيره لا انقضاء له ولا انقطاع. صحّ عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «من أراد العلم فليثوّر القرآن، فإنّ فيه علم الأوّلين والآخرين» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» (رقم: 814) وابن أبي شيبة (رقم: 30009) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 96) وسعيد بن منصور (رقم: 1) ومسدّد (كما في «المطالب العالية» رقم: 3400) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 78) والنّحّاس في «القطع» (ص: 84) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 8664 - 8666) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1960) من طرق عن أبي إسحاق السّبيعيّ، عن مرّة بن شراحيل، عن ابن مسعود، به. وإسناده صحيح. وقوله: «فليثوّر» أي: فلينقّر عنه ويفكّر في معانيه وتفسيره وقراءته (النّهاية في غريب الحديث، لابن الأثير 1/ 229).

وعن مسروق بن الأجدع، قال: «ما نسأل أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم عن شيء، إلّا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه» (¬1). واعلم أنّ مجموع مادّة القرآن ترجع إلى ثلاثة أشياء: 1 - العقيدة: وتحتها: أسماء الله تعالى وصفاته، والآيات الدّالّة عليه، والإيمان باليوم الآخر، وسائر الغيّب، والرّسل، والكتب. 2 - التّذكير: وتحته: الأمثال، والقصص، والوعد، والوعيد. 3 - الشّرائع: وهي الأوامر والنّواهي، وأحكام الحلال والحرام. وهذه القسمة أصلها الحديث الصّحيح المتواتر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 تعدل ثلث القرآن» (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائله» (ص: 96) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2284). (¬2) ورد من حديث عدد كبير من الصّحابة، وهو عند البخاريّ (رقم: 4726 ومواضع أخرى) من حديث أبي سعيد، ومسلم (رقم: 811) من حديث أبي الدّرداء، و (رقم: 812) من حديث أبي هريرة.

الأصل الأول: أمثال القرآن.

وفي رواية صحيحة من حديث أبي الدّرداء، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء: فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 جزءا من أجزاء القرآن» (¬1). وذلك من جهة أنّ هذه السّورة قد اشتملت على التّوحيد خاصّة، وهذا ثلث القرآن، باعتبار القسمة السّابقة. فإذا ظهر هذا فههنا تنبيه على ثلاثة أصول يحتاج إلى رعايتها المتدبّر: الأصل الأوّل: أمثال القرآن. القرآن مليء بضرب الأمثال، وعلّة ذلك: ما في المثل من تصوير الشّيء وتقريبه في الأذهان، إذ هو تشبيه، والتّشبيه ينزّل البعيد منزلة القريب، والمعقول منزلة المحسوس، فتعيه العقول وتقبله. والمثل لا يكون إلّا والممثّل به حقيقة معلومة، لا يكون صورة وهميّة. والأمثال في القرآن ثلاثة أنواع (¬2): النّوع الأوّل: أمثال يصرّح فيها بلفظ (المثل) أو ما يدلّ على التّشبيه، ¬

(¬1) هذا من رواية أبي الدّرداء عند مسلم في «صحيحه». (¬2) اعتنى بالنّوعين الأوّلين كثير من العلماء، منهم: أبو بكر ابن العربيّ في «قانون التّأويل» (ص: 566)، والعزّ بن عبد السّلام في «الإمام في بيان أدلّة الأحكام» (ص: 143)، وابن القيّم في «إعلام الموقّعين» (1/ 163 - 266) وأفرد بالنّشر كذلك.

وتسمّى (الأمثال المصرّحة). فمثال التّصريح بلفظ المثل قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرّعد: 17]. ومثال التّصريح بالتّشبيه، قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النّور: 39]. النّوع الثّاني: أمثال لا يصرّح فيها بلفظ التّمثيل، ولكنّها تدلّ على معان تمثيليّة بإيجاز، وهي (الأمثال الكامنة)، كقوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12]. وتشبيهات القرآن جميعها أمثال مضروبة لفهم مراد الله عز وجلّ بخطابه لعباده، كما قال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 25]، وقال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43]. النّوع الثّالث: قصص القرآن. قصّ الله عز وجلّ علينا من أنباء الأوّلين ما جعله أعظم مثل للاعتبار والقياس، فقال: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا

مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 34 [النّور: 34]. فهذا المثل هو قصّة آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وبني إسرائيل، وغير ذلك، فالمخاطبون بهذا القرآن هم الممثّلون، وأصحاب تلك القصص هم الممثّل بهم، والمثل شأنهم وما كانوا عليه وما صاروا إليه. وهذا المثل قضيّة قياسيّة، أصلها تلك الأمم الخالية، وفرعها هذه الأمّة ومن بلغه هذا القرآن، والمعنى الجامع لإلحاق الفرع بالأصل: إمّا استقامة تلحق بمن أنعم الله عليهم، وإمّا انحراف يلحق بمصير المغضوب عليهم والضّالّين. كما قال الله عز وجلّ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 102 - 103]. وكما قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ

الأصل الثاني: جدل القرآن.

اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 70 [التّوبة: 68 - 70]. وهذا النّوع من أعجب الأمثال، وما هو بالأساطير ولا الخيالات، بل هو كما قال الله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3]، لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]. وتدبّر أمثال القرآن وقصصه يتجاوز الاعتبار، إلى ترسيخ معاني العقيدة، وشرح أساليب الدّعوة والحجاج، وبيان الشّرائع (¬1). الأصل الثّاني: جدل القرآن. المقصود بجدل القرآن: أساليب المناظرة الّتي جاء بها لإظهار الحقّ وإقامة الحجّة على المخالفين. وقد تضمّن القرآن جميع ما يستعمل في المناظرات والحوار من البراهين والأدلّة العقليّة، كما قال الله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً 33 [الفرقان: 33]، وقال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ* [المرسلات: 50]، لكنّ ذلك موقوف على استكشافه منه ¬

(¬1) انظر: الإمام في بيان أدلّة الأحكام، للعزّ بن عبد السّلام (ص: 143).

بحسن التّدبّر والفهم عن الله. عز وجلّ. وفي قصص الأنبياء كثير من تلك الأدلّة، على التّوحيد وإثبات النّبوّات. فمن تلك الأساليب: [1] إلزام المخاطب بطريق الاستفهام عمّا هو مسلّم عنده، حتّى يعترف بما ينكره. كقوله تعالى في ردّ فرية اليهود: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91]. [2] إلزام المخاطب بما تقتضيه العقول. كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]، أي: لفسد تدبير السّماوات والأرض واختلّ نظامهما، والسّماوات والأرض لم تفسدا، فنتج عنه أن ليس فيهما آلهة إلّا الله، كما قال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91]، وكما قال سبحانه: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا 42 [الإسراء: 42 - 43]. [3] الاستدلال بالمبدإ على المعاد. كقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ

مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ 8 [الطّارق: 5 - 8] (¬1). [4] الاستدلال بقياس الأولى. كقياس إحياء الموتى على خلق السّماوات والأرض، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف: 33]. [5] السّبر والتّقسيم. وذلك بحصر الأوصاف وإبطال أن يكون واحد منها علّة للحكم (¬2)، كقوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 144 [الأنعام: 143 - 144] (¬3). [6] المطالبة بالبرهان على صحّة الدّعوى. كقول الله تعالى لأهل الكتاب: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (9/ 121). (¬2) الكلّيّات، للكفويّ (2/ 22). (¬3) مباحث في علوم القرآن، منّاع القطّان (ص: 303).

الأصل الثالث: أحكام القرآن.

بعد قوله عنهم: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111]. [7] التّحدّي. كقوله تعالى في إثبات التّوحيد: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56]. وقوله في إثبات عجز الكفّار عن الإتيان بسورة مثل هذا القرآن: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38]. هذه بعض صور الجدل في القرآن ذكرها على سبيل التّنبيه، لا التّتبّع والاستقصاء، فهذا فنّ خاصّ من علوم القرآن. الأصل الثّالث: أحكام القرآن. أحكام القرآن بمعنى الأمر والنّهي يندرج تحتها جميع التّكاليف: كانت من أعمال القلوب، كالتّوحيد والإيمان والإخلاص. أو كانت موزّعة بين القلوب والجوارح، كالعبادات، مثل الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ. أو كانت من أعمال الجوارح، كالمعاملات لصلاح أمر الدّنيا، وحفظ

كيف تستفاد الأحكام من القرآن؟

الضّرورات وتحقيق الحاجات، كالبيع والشّراء والنّكاح. كانت مختصّة بالفرد، أو بالجماعة، أو مشتركة بينهما. فالقرآن قد أتى بجميع تلك الأحكام، تصريحا أو تلويحا، بالقاعدة العامّة أو بالحكم المفصّل، كما قال الله عز وجلّ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النّحل: 89] (¬1). والآيات الدّالّة على الأحكام في القرآن لا ينبغي أن تقيّد بعدد، فكلّ آية في القرآن جائز أن تكون مظنّة للحكم. كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: «ما من حرف أو آية، إلّا وقد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعلمون بها» (¬2). كيف تستفاد الأحكام من القرآن؟ الآيات الدّالّة على الأحكام في القرآن نوعان: الأوّل: ما جاء بالحكم صراحة، كالّذي يستفاد من سور البقرة والنّساء والمائدة، من الفرائض والحلال والحرام، وهذا ظاهر. والثّاني: ما يؤخذ بطريق الاستنباط، وهذا قسمان: أحدهما: ما يستنبط بالتّدبّر لنفس الآية. ¬

(¬1) انظر كتابي «تيسير علم أصول الفقه» (ص: 117). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 99) بإسناد صحيح.

كيف تدل ألفاظ القرآن على الأحكام؟

مثاله: استنباط صحّة أنكحة الكفّار من قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ 4 [المسد: 4]، ولو كان عقد النّكاح بينهما باطلا بسبب الكفر لما أضافها إليه. واستنباط صحّة صوم من أدركه الفجر وهو جنب، من قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]، فأبقى الإذن في الجماع والأكل والشّرب حتّى يتبيّن الفجر، فإذا دخل الفجر وجب الإمساك عن كلّ ذلك، فمن حلّ له أن لا ينزع عن أهله إلّا بدخول الفجر، فقد أقرّ على أن يدركه وقت الصّوم جنبا ولا يقدح ذلك في صومه ولا يمنعه. وثانيهما: بضميمة آية أخرى. كاستنباط أقلّ مدّة الحمل من آيتين، قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15]، مع قوله: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: 14] (¬1). كيف تدلّ ألفاظ القرآن على الأحكام؟ هذا مبحث موضعه بتفصيله (علم أصول الفقه)، والتّنبيه من حيث الجملة على أنّ ألفاظ القرآن تدلّ على الأحكام: ¬

(¬1) انظر: البرهان، للزّركشيّ (2/ 4، 5).

المبحث الثاني: قواعد لغوية

بصيغة الطّلب المباشرة، كالأمر أَقِيمُوا الصَّلاةَ* [البقرة: 110]، والنّهي: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32]. أو بالخبر المفيد للحكم، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183]. أو بما رتّب على العمل من جزاء في العاجل والآجل، كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8 [الزّلزلة: 7 - 8]. وللإمام عزّ الدّين بن عبد السّلام في هذا تصنيف نافع، يحقّق الغاية في هذا الأصل، اسمه: «الإمام في بيان أدلّة الأحكام». المبحث الثاني: قواعد لغوية التّنبيه في هذا المبحث على أصول في التّفسير تنبني على مراعاة الجانب اللّغويّ في القرآن، فإليكها: 1 - اتّباع معنى الكلمة القرآنيّة كما جاء به لسان العرب، وما عرف من كلامهم، وملاحظة الوجوه فيه. والوجوه هي: اللّفظ الواحد يستعمل في المعاني المتعدّدة. كألفاظ (الهدى) و (الإيمان) و (الكفر) و (العفو)، استعمل كلّ منها في

2 - هل في القرآن ألفاظ مترادفة؟

القرآن في أكثر من معنى. ومن أحسن الطّرق المساعدة على ذلك ويقدّم على الرّجوع إلى المعاجم اللّغويّة: تتبّع اللّفظة في مواردها في القرآن نفسه بمختلف اشتقاقاتها، فإنّ أحسن الطّرق في التّفسير: أن يفسّر القرآن بالقرآن، وهذا منه. واعتنى بعض العلماء بإفراد دلالات الألفاظ والمصطلحات المتكرّرة في القرآن، بالتّأليف، ومن أجلّ الكتب فيه: «بصائر ذوي التّمييز في لطائف الكتاب العزيز» للإمام مجد الدّين محمّد بن يعقوب الفيروزآباديّ صاحب «القاموس المحيط»، المتوفّى سنة (817 هـ). وسبق إليه غير واحد كذلك، من أقدميهم: ابن قتيبة في «مشكل القرآن». وممّا يندرج تحت هذه القاعدة ملاحظة الأضداد اللّغويّة في القرآن، كاستعمال (ظنّ) لليقين والتّردّد أو الشّكّ، كقوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ 20 [الحاقّة: 20] في اليقين، وقوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ [القصص: 39] في الشّكّ. 2 - هل في القرآن ألفاظ مترادفة؟ التّرادف: هو توالي كلمتين فأكثر دالّة على شيء واحد باعتبار واحد، مثل: (البرّ) و (القمح) و (الحنطة)، فهذه ألفاظ مختلفة لشيء واحد. وعلامة صحّة التّرادف: إمكان حلول أحد اللّفظين محلّ الآخر، لو

حذفت أحدهما. وأكثر أهل العلم على القول بصحّة وقوعه في اللّغة، ولم ينكره إلّا قليل من علماء العربيّة، أقدمهم أبو العبّاس ثعلب، وتبعه عليه تلميذه أبو الحسين بن فارس (¬1). وعلى القول بثبوته، فلا يظنّ كثرة وقوعه في كلام العرب. أمّا في القرآن، فطائفة على وجوده، وطائفة على عدمه، والقول بعدمه هو الصّحيح، إذ من قال بوجوده فيه لم يذكر له مثالا صالحا، إنّما ذكر مثل قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]، ولا تُبْقِي وَلا تَذَرُ 28 [المدّثّر: 28]، وأَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب: 67]، وبَثِّي وَحُزْنِي [يوسف: 86]. وهذا ليس مترادفا، وليس اللّفظان في هذه المواضع بمعنى واحد، والأصل أنّ العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. نعم، يوجد في القرآن استعمال الألفاظ المتقاربة المعاني، مثل: (الخوف) و (الخشية)، و (الخشوع) و (الخضوع)، لا على سبيل التّرادف، وإنّما بمجيء اللّفظ مستقلّا عن الآخر. ¬

(¬1) وانظر: «المحصول» للرّازيّ (1/ 347)، «الإبهاج في شرح المنهاج» لتقيّ الدّين السّبكيّ وابنه تاج الدّين (1/ 238، 241)، «الإحكام» للآمديّ (1/ 33)، «الكلّيّات» للكفويّ (2/ 108)، «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة (13/ 183)، «روضة المحبّين» لابن القيّم (ص: 54)، «إرشاد الفحول» للشّوكانيّ (ص: 16).

3 - الحقيقة والمجاز

وهذه الألفاظ وشبهها لو توالت فليست مترادفة على التّحقيق، وذلك لما بينها من دقيق الفارق في المعنى. ولإمام اللّغة أبي هلال العسكريّ في هذا النّوع من المفردات كتاب «الفروق»، يثبت وجود الفرق بين هذه الألفاظ وإن تقاربت في المعنى. فجدير بالمتدبّر للقرآن أن يبعد عن اعتباره فكرة وجود المترادف فيه. 3 - الحقيقة والمجاز: الحقيقة: هي اللّفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التّخاطب. وهو ما يتبادر إلى الذّهن معناه من مجرّد لفظه دون التّوقّف على قرينة. فإن كان ذلك الوضع لغويّا فهي (الحقيقة اللّغويّة)، مثل لفظ (أسد)، فإنّه لفظ مستعمل في لغة العرب اسما للحيوان المعروف. وإن كان الوضع شرعيّا، فهي (الحقيقة الشّرعيّة)، مثل لفظ (الإيمان) و (الكفر)، و (المؤمن) و (الكافر)، و (الصّلاة) و (الزّكاة) و (الصّوم)، فهذه ألفاظ استعملت في خطاب الشّارع للدّلالة على معاني مخصوصة. وإن كان الوضع بحسب ما اصطلح عليه النّاس من معنى اللّفظ، فهي (الحقيقة العرفيّة)، كإطلاق النّاس اليوم لفظ (طيّارة) على وسيلة النّقل الجوّيّة المعروفة. والحقيقة بأنواعها الثّلاثة معتبرة لفهم القرآن.

المجاز

وترتيب الحقائق: الشّرعيّة، فالعرفيّة، فاللّغويّة. فتفسير لفظ (الصّلاة) في الكتاب والسّنّة، لا يصار إليه بدلالة اللّغة، إنّما يطلب معناه في مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن تيميّة: «القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللّغة ولا غيرهم» (¬1). فإن قام دليل على عدم إرادة الحقيقة الشّرعيّة فيه، حملنا اللّفظ على ما قام عليه الدّليل من معناه، كقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التّوبة: 104]، فالصّلاة هنا الدّعاء لهم، وهذا تفسير باللّغة. فإن فقدت تفسير اللّفظ في بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ممّا تعلّقت به التّكاليف العمليّة، فاطلبه في عرف النّاس واستعمالهم، مثل لفظ (السّفر) و (عشرة الزّوجة)، فمثل هذا لا تسعف اللّغة في توضيح معناه. أمّا سائر الألفاظ فالمعتبر فيها الحقيقة اللّغويّة. المجاز: المجاز مقابل للحقيقة، وهو: استعمال اللّفظ في غير ما وضع له، لعلاقة بينهما، مع قرينة تمنع من إرادة الحقيقة. والعلاقات الّتي تكون بين المعنى المجازيّ والحقيقيّ للّفظ كثيرة، مفصّلة في (كتب البلاغة)، مثل التّعبير عن الكلّ بالجزء، كالتّعبير بالسّجود ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (13/ 18).

عن الصّلاة، والتّعبير بلفظ المحلّ عن الحالّ فيه، كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82]، والمراد من حلّ فيها، وهم أهلها، وإسناد الفعل إلى الزّمان أو المكان، كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33]، ولا مكر للزّمن، إنّما أسند إليه لأنّ المكر يكون فيه. ومن المجاز الاستعارة كذلك. وقد اختلف النّاس في صحّة القول بإثبات المجاز في القرآن، فجمهور أهل العلم على إثباته، وطائفة منعته (¬1). والنّزاع بينهم أشبه أن يكون لفظيّا، وكأنّ حقيقة قول المانعين ترجع إلى ما تذرّع به أهل البدع باستعمال المجاز في تأويل صفات الباري تعالى، والتّحقيق أنّ فساد قول أهل البدع لا يكون بإبطال القول بالمجاز؛ لأنّ حمل صفات الله عز وجلّ أو شيء منها على المجاز لا يخلو من تفسير الغيب بالشّهادة، وهو ممنوع. ¬

(¬1) مواضع شرح ذلك كثيرة، فمعظم كتب الأصول تذكر هذه المسألة، انظر منها: «الواضح» لابن عقيل (1/ 127 - 128، و 384 - 396)، «التّمهيد» للكلوذانيّ (1/ 77 - 87)، «المحصول» للرّازيّ (1/ 395 - 486)، «الإحكام» للآمديّ (1/ 45 - 50)، «الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز» لعزّ الدّين بن عبد السّلام، «الإبهاج» للسّبكيّين (1/ 271 - 321)، «إرشاد الفحول» للشّوكانيّ (ص: 18)، ولابن تيميّة كلام كثير حول ذلك، وكذا لتلميذه ابن القيّم، وهما ينتصران لمنع القول بالمجاز، كذلك للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطيّ في هذا كتاب «منع جواز المجاز في المنزّل للتّعبّد والإعجاز».

فالمجاز أسلوب من أساليب العربيّة، نعم هو مبتكر في تسميته كسائر مصطلحات فنون العربيّة، ولكنّه جزء من هذه اللّغة. وظهور الكلام فيه قديم، حتّى نسب أبو الخطّاب وابن عقيل القول به إلى الإمام أحمد بن حنبل (¬1). والأصل أن لا يصار إليه إلّا عند تعذّر حمل اللّفظ على حقيقته. ومن علامة المجاز: أنّه لا يؤكّد بالمصدر ولا بالتّكرار، تقول: (أراد الحائط أن يسقط)، فإرادته مجاز، بدليل أنّه لا يصحّ أن يقال: (أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة)، وتقول: (قالت الشّجرة فمالت)، ولا تقول: (قالت الشّجرة فمالت قولا شديدا). فالتّكليم في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النّساء: 164] حقيقة؛ لأنّه أكّده بالمصدر، وفي قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40 [النّحل: 40]، أكّد القول بالتّكرار، كما أكّد المعنى بإنّما، فانتفى المجاز (¬2). كذلك فإنّ المجاز إنّما يظهر معناه بردّه إلى أصله، بخلاف الحقيقة، فمعناها ظاهر في لفظها (¬3). ¬

(¬1) التّمهيد، لأبي الخطّاب (1/ 80)، الواضح، لابن عقيل (2/ 386). (¬2) تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص: 111)، وذكر ابن عقيل في «الواضح» (2/ 395) كذلك علامات أخرى تميّزه عن الحقيقة. (¬3) الواضح، لابن عقيل (1/ 128).

4 - الكناية

4 - الكناية: الكناية واردة في ألفاظ القرآن، على معنى: ترك التّصريح باللّفظ المباشر لعلّة، الأشبه أن تكون تنزيها للقرآن عن الألفاظ المبتذلة، فيأتي بما يحقّق المقصود بأرفع الألفاظ. وذلك مثل الكناية عن الجماع بالرّفث والمباشرة والمسّ واللّمس، كما قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ حتّى قال: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187]، وقال: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 236]، وقال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* [المائدة: 6]. عن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: «الدّخول، والتّغشّي، والإفضاء، والمباشرة، والرّفث، واللّمس، هذا الجماع، غير أنّ الله حييّ كريم، يكني بما شاء عمّا شاء» (¬1). 5 - دلالة المشترك اللّفظيّ: المشترك: هو اللّفظ المستعمل في معنيين أو أكثر بأوضاع متعدّدة. كلفظ (القرء) في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]، مشترك بين الطّهر والحيض، ولفظ (الملامسة) في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* [المائدة: 6]، مشترك بين الجماع واللّمس باليد. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرّزّاق في «المصنّف» (رقم: 10826) بإسناد صحيح. وهو مرويّ عن ابن عبّاس من طرق.

6 - فهم المراد باللفظ من خلال السياق.

ومن النّاس من جعل هذا من قبيل المتشابه، وهذا ضعيف، إنّما المتشابه ما استأثر الله بعلمه. ولا يختلف العلماء في أنّ (المشترك) من قبيل (المجمل) يحتاج تعيين المراد به إلى دليل، وذلك إذا كان المعنيان أو المعاني متضادّة لا يمكن اجتماعها، أمّا إذا أمكن حمله على جميع معانيه فاختلفوا فيه على قولين: أوّلهما: قول الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة: أنّه (مجمل)، ولا يصحّ حمله على جميع معانيه؛ وهو أصحّ القولين. والثّاني: قول المالكيّة والشّافعيّ وجمهور أصحابه: يعمّ جميع معانيه. 6 - فهم المراد باللّفظ من خلال السّياق. وهذا مطلوب في جميع القرآن، فإنّ المفردة فيه لا يحسن أن تفسّر مستقلّة عن سياقها. قال العزّ بن عبد السّلام: «السّياق مرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكلّ ذلك بعرف الاستعمال، فكلّ صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكلّ صفة وقعت في سياق الذّمّ كانت ذمّا، فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذّمّ صار ذمّا واستهزاء وتهكّما بعرف الاستعمال» (¬1). فلو أردت أن تفهم قوله تعالى في وصف قوم شعيب له: إِنَّكَ لَأَنْتَ ¬

(¬1) الإمام في بيان أدلّة الأحكام، للعزّ بن عبد السّلام (ص: 159).

7 - ملاحظة تأثير القواعد النحوية

الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] مجرّدة عن اعتبار عداوتهم له ورفضهم لدعوته، لكانت ثناء منهم عليه، وليست كذلك، إنّما أرادوا التّهكّم به والسّخرية منه. 7 - ملاحظة تأثير القواعد النّحويّة: الإعراب مفتاح لكثير من معاني القرآن، ومعرفة الإعراب توجب معرفة الأساسيّات في علم النّحو، ولا يحلّ الإقدام على تفسير القرآن ممّن لا يميّز مواقع الكلمات في الجمل. وهذا يوجب تمييز العمدة في الجملة من الفضلة من التّابع، والحدث وأزمنته، والمعارف من النّكرات، ومعرفة الضّمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، وأدوات الشّرط، والاستفهام، والتّوكيد، والاستثناء، وحروف العطف، والجرّ، والقسم. كما يلاحظ فيه ما يأتي على القاعدة، وما يخرج عنها، كالذّكر، والتّقدير، والتّقديم، والتّأخير، والزّيادة، والحذف، ومجيء الاسم لفظا صريحا، أو مؤوّلا، وما يأتي مفردا ويأتي جملة كالخبر والحال. ومن القواعد النّحويّة المهمّة في التّفسير: [1] أن تبحث عمّا يعود عليه ضمير الغائب، وتراعي أنّ الأصل عود الضّمير إلى أقرب مذكور. [2] أن تبحث عن جواب ما يحتاج إلى الجواب، كالشّرط، والقسم،

8 - تأثير التغيير الصرفي في المعنى.

والاستفهام. [3] أن تبحث عمّا يتعلّق به الجارّ والمجرور. [4] أن تلاحظ صلة الموصول وعائده. [5] أن تحدّد صاحب الحال، وهو الموصوف حاله. 8 - تأثير التّغيير الصّرفيّ في المعنى. وذلك من جهة الأصالة والزّيادة والحذف، وغير ذلك. كالفرق بين لفظي (الضّلال) و (الإضلال) بسبب الزّيادة الصّرفيّة، والفرق بين اسطعوا واسْتَطاعُوا* [الكهف: 97] في الحذف، وفائدة التّكرير في قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها [الشّعراء: 94]. والتّغيير الطّارئ على أبنية الأفعال يكسبها كثيرا من دقيق المعاني، والقرآن مقصود أن يراعى فيه جميع ذلك، فدلالة (فعل) غير (فعّل) وكلاهما غير (أفعل)، وهكذا. 9 - علوم المعاني البلاغيّة في القرآن: اشتمل القرآن من أنواع (علم المعاني) على أحسنها، ففيه: استعمالات الألفاظ في حقائقها، وفي مجازاتها بقرائنها الدّالّة على ذلك، وهذا باب واسع، وهو عظيم الفائدة، ضروريّ لمتدبّر القرآن، محلّه كتب البلاغة، وجوامع التّفسير، وبعض المصنّفات الخاصّة فيه، كبعض ما كتب سلطان

العلماء عزّ الدّين بن عبد السّلام، لكن لا بدّ من تنبيه على المراد على سبيل الإيجاز بالإشارة، فمن ذلك: [1] مجيء الخبر والإنشاء يراد بكلّ منهما أصل ما يساق له، كما يقوم أحدهما مقام الآخر مجازا بقرينة، وأمثلته كثيرة. [2] مجيء صيغ الأمر والنّهي والاستفهام والتّمنّي والنّداء يراد بها حقائقها، كما تخرج للدّلالة على معان مجازيّة بالقرائن، والقرآن مليء بهذا. [3] التّعبير بلفظ الماضي عمّا لم يكن بعد تأكيدا لوقوعه، كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النّحل: 1]. ولاحظ أنّ (كان) خاصّة قد تدلّ على الماضي والحال والاستقبال، واستعمالها في القرآن بهذا المعنى كثير، كقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النّساء: 148]. كذلك يأتي اللّفظ المضارع معناه الماضي لفائدة، كقوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة: 91]، والمعنى: لم قتلتم. [4] دلالة التّنكير أو التّعريف وفائدة كلّ في محلّه. دخل أبو الفرج غلام ابن شنبوذ على عضد الدّولة زائرا، فقال له: يا أبا الفرج، إنّ الله يقول: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النّحل: 69]، ونرى العسل يأكله المحرور فيتأذّى به، والله الصّادق في قوله؟ قال: أصلح الله الملك، إنّ الله لم يقل: فيه الشّفاء للنّاس،

بالألف واللّام الّذين يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنّما ذكره منكّرا، فمعناه: فيه شفاء لبعض النّاس دون بعض (¬1). [5] معرفة المقيّدات اللّفظيّة، كالتّقييد بالنّعوت كقوله تعالى: وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النّساء: 92]، وبالعطف كقوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [المائدة: 97]، وهذا عطف بيان، وهكذا. [6] دلالة القصر، كما في قوله: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* [الصّافّات: 35]، فقصرت الألوهيّة على الله، وقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]، قصرت الخشية على العلماء، وهكذا. [7] تمييز الوصل والفصل بين الجمل. فالوصل: الرّبط بين الجملتين بحرف العطف الواو، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 119 [التّوبة: 119]. والفصل: قطع الارتباط بين الجملتين، ويكون لأسباب، منها: أن يكون الاتّصال تامّا بين الجملتين، كقوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ 133 [الشّعراء: 132 - 133]، فالجملة الثّانية بدل من الأولى، ولو وصلتا بالعطف لزم أن تكون إحداهما غير الأخرى. ¬

(¬1) معرفة القرّاء الكبار، للذّهبيّ (1/ 333 - 334). وأبو الفرج هذا هو محمّد بن أحمد بن إبراهيم، من أئمّة القراءات والتّفسير، توفّي سنة (388 هـ).

ومنها: أن يكون بين الجملتين ارتباط، لكن منع من الوصل مانع، مثل قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14 - 15]، فلو وصلت جملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لكانت معطوفة على قول المنافقين: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. [8] ملاحظة الاستئناف: وهو الكلام المنقطع عمّا قبله في السّياق، كقوله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ [النّساء: 117 - 118]. وقد تدخل عليه الواو، كقوله تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ، فجملة وَنُقِرُّ مستأنفة، والواو للاستئناف. وقد تدخل كذلك الفاء، ويقال فيها ما يقال في الواو، كقوله تعالى: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* [البقرة: 117]، فجملة فَيَكُونُ* استئنافيّة. [9] رعاية مواقع الإيجاز ومواقع الإطناب: عن الرّبيع بن سليمان، قال: قال رجل للشّافعيّ: يا أبا عبد الله، ما البلاغة؟ قال: «البلاغة أن تبلغ إلى دقيق المعاني بجليل القول» قال: فما الإطناب؟ قال: «البسط ليسير المعاني في فنون الخطاب»، قال: فأيّما أحسن عندك: الإيجاز أم الإسهاب؟ قال: «لكلّ من المعنيين منزلة، فمنزلة الإيجاز عند التّفهّم في منزلة الإسهاب عند الموعظة، ألا ترى أنّ الله تعالى إذا احتجّ في كلامه كيف يوجز، وإذا وعظ كيف يطنب، في مثل قوله محتجّا: لَوْ

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]، وإذا جاءت الموعظة جاء بأخبار الأوّلين، وضرب الأمثال بالسّلف الماضين» (¬1). [10] ملاحظة أسلوب الالتفات. وهو العدول في الكلام من حال إلى حال، كالعدول من حال التّكلّم إلى الخطاب، مثل قوله تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ [الأنعام: 71 - 72]، أو من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22]. [11] ملاحظة وقوع الحذف في الكلام. مثل حذف الجواب اختصارا في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرّعد: 31] أي: لكان هذا القرآن. ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه، كقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197]، أي: وقت الحجّ. وحذف الموصوف وإقامة الصّفة مكانه، كقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: 59] أي: آية مبصرة (¬2). وهذا باب كبير. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقّه» (رقم: 707) بإسناد صالح. (¬2) وفي الحذف في القرآن تأصيل للعزّ بن عبد السّلام في «الإمام» (ص: 204).

قال العزّ بن عبد السّلام: «القاعدة أن يحمل القرآن على أصحّ المعاني، وأفصح الأقوال، فلا يحمل على معنى ضعيف، ولا على لفظ ركيك، وكذلك لا يقدّر فيه من المحذوفات إلّا أحسنها وأشدّها موافقة وملاءمة للسّياق» (¬1). [12] ورود الزّيادة. كما في زيادة (لا) في سياق النّفي في قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] أي: أن تسجد. وزيادة (ما) في قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ* [النّساء: 155]، فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]. وفائدة الزّيادة: التّوكيد، وهو من أساليب العرب معروف في كلامها. وذهب بعض أهل العلم إلى منع القول: (في القرآن حروف زائدة) (¬2)، وأكثرهم على صحّة ذلك، والوصف لها بالزّيادة ليس على معنى خلوّها من الفائدة، فالزّيادة في المبنى زيادة في المعنى، وإنّما هي تسمية اصطلاحيّة. [13] ملاحظة التّقديم والتّأخير. كقوله تعالى: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: 1 - 2] أي: أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا. ¬

(¬1) الإشارة إلى الإيجاز، للعزّ بن عبد السّلام (ص: 220). (¬2) انظر: «البرهان» للزّركشي (2/ 178).

وقوله عز وجلّ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى 129 [طه: 129]، أي: ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى لكان لزاما. [14] دلالة القسم في القرآن. أنماط القسم في القرآن لها من الدّلالة ما خرجت به عن القسم الواقع من الخلق؛ لذا فإنّ معرفة معانيها ووجوهها جزء مهمّ في تفسير القرآن. وللعلّامة ابن القيّم فيها كتاب مفرد، اسمه: «التّبيان في أقسام القرآن». [15] التّوكيد والتّكرار. التّوكيد: عبارة عن تقويه مدلول اللّفظ المذكور أوّلا بلفظ مذكور ثانيا مستقلّ بالإفادة (¬1). ويكون بتكرار اللّفظ أو معناه، كما يكون بأدوات مخصوصة، ومحلّ بسطه كتب النّحو. والمقصود هنا أن يلاحظ: أنّ التّوكيد من أساليب الكلام، وفائدته: تمكين المعنى في نفس المخاطب، وهذا لا ينبغي أن يكون محلّ نزاع. أمّا التّكرار، فإنّه يفيد التّوكيد، لكنّه غير مقصور عليه، فقد يأتي التّكرار لغير التّوكيد؛ لذا فعلى متدبّر القرآن أن يطلب ما وراء ذلك الأسلوب من دقيق المعاني. ¬

(¬1) الإبهاج في شرح المنهاج، للسّبكيّين (1/ 244).

فلو قلت في قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى 35 [القيامة: 34 - 35]: هذا التّكرار لمجرّد التّوكيد، فقد حجبت نفسك عمّا هو أولى بالاعتبار في معنى الآية. وقال الإمام العزّ: «اتّفق الأدباء على أنّ التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتّكرار، لا يزيد على ثلاث مرّات، قال: وأمّا قوله تعالى في سورة المرسلات: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15 في جميع السّورة، فذلك ليس تأكيدا، بل كلّ آية قيل فيها: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15 في هذه السّورة، فالمراد: المكذّبون بما تقدّم ذكره قبيل هذا القول، ثمّ يذكر الله تعالى معنى آخر ويقول: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15 أي: بهذا، فلا يجتمعان على معنى واحد، فلا تأكيد، وكذلك: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 13* في سورة الرّحمن» (¬1). ومن هذا القبيل تكرار القصّة في القرآن، فلها في كلّ موضع من الدّلالة ما يختلف عن الموضع الآخر، وأدنى ما يفيده تكرارها تمكين العبرة بتلك القصّة من نفس المخاطب. ولا تجد في القرآن إعادة مجرّدة للقصّة، وعلامة ذلك أنّك لا ترى قصّة يتّفق سياقها في الموضعين، فضلا عن الاتّفاق في الدّلالة والمقصود. [16] ذكر الشّيء على العموم، ثمّ تخصيص الأفضل منه، كقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238]. ¬

(¬1) الإبهاج في شرح المنهاج، للسّبكيّين (1/ 247).

[17] ملاحظة الدّلالات اللّغويّة لحروف المعاني بحسب استعمالها. والمراد بها: الحروف الّتي تدلّ على معنى في غيرها، كحروف الجرّ والتّوكيد والقسم، وغيرها. وفيه مؤلّفات مفيدة محقّقة للغرض، منها: «مغني اللّبيب» للإمام جمال الدّين ابن هشام، و «الجنى الدّاني في حروف المعاني» للحسن بن قاسم المراديّ، و «رصف المباني في شرح حروف المعاني» لأحمد بن عبد النّور المالقيّ، ومطوّلات الكتب المؤلّفة في علوم القرآن تناولت ذلك أيضا. وهاهنا مسألة جديرة بالتّنبيه، وهي تناوب حروف المعاني، خصوصا حروف الجرّ، وذلك بمجيء الحرف بمعنى الآخر، كما قيل في قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]، أي: على جذوع النّخل. فهذا ممّا اختلف فيه أئمّة العربيّة من البصريّين مع أكثر الكوفيّين ومن تبعهم من المتأخّرين، فمذهب البصريّين: أنّ حروف المعاني لا ينوب بعضها عن بعض، ولكلّ حرف معناه، ويتأوّلون الفعل الّذي تعلّق به الحرف على تضمينه معنى فعل يتعدّى بذلك الحرف، والآخرون قالوا بصحّة ذلك. مثاله قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء: 77]، فعند البصريّين: ونجّيناه من القوم، وعند الكوفيّين: ونصرناه على القوم.

10 - اشتمال القرآن على المحسنات البديعية

وتأوّل البصريّون الآية الأولى على: أنّه شبّه المصلوب لتمكّنه من الجذع بالحالّ في الشّيء (¬1). وفي الجملة، فهذه مسألة حريّة بأن يلاحظ المتدبّر فيها الخلاف، ومذهب البصريّين أعمق في المعاني، ومذهب الكوفيّين أسهل. 10 - اشتمال القرآن على المحسّنات البديعيّة: علم البديع هو الجمال اللّغويّ، اشتمل القرآن على أكمله وأحسنه، ففيه: المحسّنات المعنويّة، واللّفظيّة. فمن ذلك: التّورية في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ 6 [الرّحمن: 6]، فالمعنى القريب للنّجم هو الّذي في السّماء، وإنّما المراد ما لا ساق له من النّبات. والافتنان، وهو الجمع بين فنّين مختلفين، كما في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 27 [الرّحمن: 26 - 27]، فعزّى خلقه بالفناء، ومدح نفسه بالبقاء. والطّباق، وهو الجمع بين المتقابلين في المعنى، كقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا 44 [النّجم: 43 - 44]. ومن المحسّنات اللّفظيّة: الجناس، وأنواعه عديدة، وفي القرآن منها ¬

(¬1) انظر: «مغني اللّبيب» لابن هشام النّحويّ (1/ 111)، «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة (13/ 183).

المبحث الثالث: قواعد أخرى

أشياء، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: 55]. وهكذا في أنواع كثيرة للبديع، اعتنى ببيانها بعض المفسّرين، ويحسن بالمتدبّر مراعاتها وإن كانت ليست من لوازم التّفسير. المبحث الثالث: قواعد أخرى 1 - ما يروى عن السّلف في تفسير الآية الواحدة من تفسيرات مختلفة للكلمة الواحدة أو الجملة المعيّنة، فإنّ أكثرها يعود إلى اختلاف التّنوّع، لا تضادّ بينها ولا تخالف، وهناك معنى كلّيّ تجتمع فيه كلّ تلك التّفسيرات. مثل اختلاف ألفاظ المفسّرين في تفسير كلمة (طوبى) في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ [الرّعد: 29]، فقيل: فعلى من الطّيب، والمعنى: العيش الطّيّب لهم، وقيل: نعمى، أو نعم ما لهم، وقيل: حسنى، وقيل: غبطة، وقيل: فرح وقرّة عين، وقيل: خير، ومنه قول الرّجل: طوبى لك، أي: أصبت خيرا، وقيل: الجنّة، وقيل: شجرة في الجنّة، فهذه التّفسيرات وإن اختلفت إلّا أنّها تشترك جميعا في معنى واحد، هو الثّواب الحسن، وإن كان الأخير منها يحتاج إلى الخبر، والحديث فيه ضعيف. ومثل هذا ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ

الْكَوْثَرَ 1 قال: «بينما أنا أسير في الجنّة، إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدّرّ المجوّف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك» (¬1). مع ما صحّ عن ابن عبّاس من قوله: «الكوثر: الخير الكثير الّذي أعطاه الله إيّاه» (¬2). فليس بين الحديث والأثر تضادّ، فإنّ نهر الكوثر في الجنّة هو الخير الكثير الّذي أعطاه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم. وكذلك قيل لسعيد بن جبير حين حدّث بما تقدّم عن ابن عبّاس: فإنّ النّاس يزعمون أنّه نهر في الجنّة؟ فقال سعيد: النّهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه الله إيّاه (¬3). واختلاف الألفاظ في التّعبير عن الشّيء الواحد مدرك معلوم (¬4)، وقد يعبّر عن الشّيء بما يقرّب معناه وإن لم يكن يساويه من كلّ وجه (¬5). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 12008 ومواضع أخرى) والبخاريّ (رقم: 4680، 6210) وأبو داود (رقم: 4748) والتّرمذيّ (رقم: 3359، 3360) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 726) وغيرهم من حديث أنس بن مالك. (¬2) أثر صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4682، 6207) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 724). (¬3) هذا في رواية البخاريّ. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيميّة (13/ 205 - 206)، البرهان، للزّركشيّ (2/ 151). (¬5) انظر: فتاوى ابن تيميّة (13/ 183).

ولا يكاد يوجد تعارض حقيقيّ بين أقاويل السّلف في التّفسير، فإن وجد وصحّ إسناده عن قائله، ولم يوجد مرجّح من النّصوص، فالتّرجيح لمن رسخ قدمه في التّفسير، أو من له مزيد دراية في موضوع اللّفظ المختلف فيه (¬1). والأصل أنّ كلّ تفسير يحتمله اللّفظ من جهة اللّغة، ولا معارض له يساويه أو يرجح عليه، فهو مقبول. 2 - جميع نصوص القرآن متكافئة في درجة الاعتبار بها، إلّا ما ثبت نسخه. وهذا يعني أنّه لا يصحّ اللّجوء إلى التّرجيح بين نصّين، إنّما الواجب الاجتهاد في التّوفيق بينهما، وذلك باتّباع الأصول المعتبرة في علم أصول الفقه، كتخصيص العامّ، وتقييد المطلق. ولا يحلّ الفزع لادّعاء النّسخ عند مظنّة التّعارض، إلّا أن توجد شروط النّسخ، على ما سبق في (المقدّمة الرّابعة). 3 - مراعاة دلالات: العموم والخصوص، والإطلاق والتّقييد، والأمر والنّهي، والمنطوق والمفهوم. وملاحظة من توجّه له الخطاب، إن كان خاصّا أو عامّا، أو خاصّا أريد به العامّ، أو عامّا أريد به الخاصّ، وهكذا. ¬

(¬1) انظر: «البرهان» للزّركشيّ (2/ 159 - 160، 172).

ومحلّ بسط ذلك كتب أصول الفقه. 4 - إذا وجدت النّصّ يخبر عمّا هو معلوم عادة أو حسّا أو عقلا، فليس المراد منه مجرّد الإعلام بذلك، إنّما يشتمل على غرض آخر، فتأمّله (¬1). وذلك كقوله تعالى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ 22 [التّكوير: 22]، في ردّ دعوى المبطلين، إذ شأنه معلوم في نفي الجنون عنه، وكقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30 [الزّمر: 30] للوعظ والتّذكير، وإلّا فالموت حقيقة مسلّمة، وكقوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص: 44]، وذلك تمنّن على نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمّته، وإظهار لصدقه. 5 - ملاحظة الوحدة الموضوعيّة للسّورة، بالنّظر إلى ترابط أجزائها لتكوّن موضوعا واحدا. ومن هذا ما يعبّر عنه بعض العلماء ب «المناسبة» أو «التّناسب». ومراعاته فيما بين آيات السّورة يعني فهم الآية من خلال سياقها، وحيث إنّ ترتيب الآيات في السّورة توقيفيّ، فعلاقة الآية بالآية معتبرة، ومن خلال ذلك التّرابط يفهم موضوع السّورة. لكن هل يطّرد هذا التّرابط بين آيات السّورة في جميع القرآن؟ ¬

(¬1) نبّه على هذا الأصل الإمام عزّ الدّين بن عبد السّلام في كتاب «الإمام» (ص: 162 - 168) وأتى على ذكر اثنتي عشرة فائدة لذلك.

من المفسّرين من بالغ في استعمال هذه القاعدة، والحقّ فيها وسط. قال العزّ بن عبد السّلام: «من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، ويتشبّث بعضه ببعض؛ لئلّا يكون مقطّعا مبتّرا، وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمر متّحد، فيرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر، ومن ربط ذلك فهو متكلّف لما لم يقدر عليه إلّا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإنّ القرآن نزل على الرّسول عليه السّلام في نيّف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة غير مؤتلفة، وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض، إذ ليس يحسن أن يرتبط تصرّف الإله في خلقه وأحكامه بعضه ببعض، مع اختلاف العلل والأسباب» وذكر لذلك أمثلة (¬1). وبالغ الشّوكانيّ (¬2) في إنكار سلوك هذه الطّريقة، واستدلّ بما لا يخرج في معناه عمّا ذكره العزّ. وذكرت في جوامع التّفسير كتاب البقاعيّ في ذلك (¬3)، وقد زاد فيه أيضا التّناسب بين السّور، كما أفرده السّيوطيّ كذلك بكتاب (¬4)، ومراعاة السّور ¬

(¬1) الإشارة إلى الإيجاز، للعزّ بن عبد السّلام (ص: 221). (¬2) فتح القدير، للشّوكانيّ (1/ 171 - 174). (¬3) وهو المسمّى «نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور» تقدّم (ص: 363). (¬4) في «تناسق الدّرر في تناسب السّور» والمطبوع باسم «أسرار ترتيب القرآن». وانظر لهذا المبحث أيضا: «البرهان» للزّركشيّ (1/ 35).

مسلك فيه تكلّف ظاهر، خاصّة أنّ راجح القولين لأهل العلم أنّ ترتيب السّور في المصحف دخله الاجتهاد. 6 - ملاحظة دلالات خواتيم الآي، والرّبط بينها وبين ما قبلها، كتأمّل وجه الرّبط مثلا بين قوله تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بعد أن قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ* [الأعراف: 200]، ومجيء قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* في خاتمة قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة: 38]. 7 - رعاية أحكام الوقف والابتداء. وهذا سبيله التدبّر، وهو سبب عظيم المنفعة لفهم القرآن، والأصل أنّه اجتهاديّ، ولذا حين أثبتت علاماته في المصاحف اختلفت، وفيه مؤلّفات مفيدة، وتأتي له تتمّة في (المقدّمة السّادسة). 8 - مراعاة بيئة النّصّ الزّمانيّة والمكانيّة، وذلك بتصوّر عهد نزول القرآن وواقع النّاس يومئذ، والمكان الّذي كان ينزل فيه القرآن. والطّريق إليه: معرفة أسباب النّزول، والوقائع الّتي استعمل فيها نصّ القرآن، والدّراية بسيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. حدّث طاوس اليمانيّ عن ابن عبّاس، أنّه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشّورى: 23]؟ فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمّد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عبّاس: عجلت، إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلّا كان له فيهم

قرابة، فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة (¬1). ومن ذلك ملاحظة مراحل التّنزيل، فقد تقدّم ذكر التدرّج فيه وما فيه من الحكم. 9 - ربط القرآن ودلالات النّصوص ممّا لا يتّصل بالجانب التّوقيفيّ المحض، بما يظهر اليوم من الاكتشافات العلميّة المبيّنة لكثير من وجوه الإعجاز في القرآن. هذه المباحث الثّلاثة تضمّنت كلّيّات جوامع، لم أجد بدّا من الإيجاز فيها والاختصار؛ لأنّ الدّخول في تفاصيلها يخرج عن التّقعيد، ويطول به الكتاب، والإشارة بما ذكر إلى ما لم يذكر تغني اللّبيب. ... ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3306، 4541).

المقدمة السادسة أحكام قراءة القرآن

المقدمة السادسة أحكام قراءة القرآن الفصل الأول: تجويد تلاوة القرآن الفصل الثاني: أخذ القرآن والاعتناء به الفصل الثالث: أدب تلاوة القرآن

الفصل الأول: تجويد تلاوة القرآن

الفصل الأول: تجويد تلاوة القرآن المبحث الأول: معنى التجويد وأصل استمداده التّجويد «مصدر من (جوّد تجويدا)، والاسم منه (الجودة) ضدّ الرّداءة، يقال: (جوّد فلان في كذا) إذا فعل ذلك جيّدا، فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجوّدة الألفاظ، بريئة من الرّداءة في النّطق، ومعناه: انتهاء الغاية في التّصحيح، وبلوغ النّهاية في التّحسين» (¬1). وهو «حلية التّلاوة، وزينة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه، وتلطيف النّطق به على حال صيغته وكمال هيئته، من غير إسراف ولا تعسّف، ولا إفراط ولا تكلّف» (¬2). و (علم التّجويد) خصّ بالعناية من قبل أهل الإسلام؛ حرصا منهم على إتقان تلاوة القرآن على الصّفة الّتي أنزل عليها. وهو في التّحقيق من قراءة القرآن بالإعراب، إذ الأصل في الإعراب الإبانة والإفصاح، وذلك لا يتحقّق إلّا بالسّلامة من اللّحن بجميع صوره، ¬

(¬1) ابن الجزريّ في «النّشر في القراءات العشر» (1/ 210). (¬2) ابن الجزري في «النّشر» (1/ 212).

وهو الخطأ في ضبط الحروف، أو الخطأ في ضبط الكلمة، أو الخطأ في ضبط الكلام. فهذه ثلاثة أنواع. فأمّا الخطأ في ضبط الحروف، فلأجله وضعوا (علم التّجويد). وأمّا الخطأ في ضبط الكلمة، فهو إمّا خطأ في ضبط بنيتها، وله وضعوا (علم الصّرف)، أو خطأ في ضبط موقعها في السّياق، وله وضعوا (علم النّحو). وأمّا الخطأ في ضبط الكلام، فلأجله وضعوا للقرآن (علم الوقف والابتداء). والقرآن العظيم يجب أن ينفى عنه كلّ صور اللّحن، فإنّ اللّحن ميل وعوج وخروج عن الصّواب، والله تعالى يقول: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزّمر: 28]، وقال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصّلت: 42]، فمن قرأه باللّحن فقد خرج به عن جادّته، ونسب إليه الخلل. إذا فهذه العلوم جميعها مرادة لضبط تلاوة القرآن، وليس فيها شيء محدث، بل هي مستمدّة من السّماع، فما اختصّ منها بالقرآن فمرجعه إلى نقل القرّاء الّذين تتّصل قراءتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحاب التّدبّر والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل العلم، ك (علم الوقف والابتداء)،

فهذان طريقان عرفنا بهما صفة تجويد القرآن

وما كان للقرآن وغيره من الكلام فمرجعه إلى المسموع من لسان العرب، والّذي عليه بني (علم التّجويد، والصّرف، والنّحو). وهذا يبيّن أنّ (علم التّجويد) من علوم لغة العرب، ومراعاته تحقيق اللّفظ العربيّ على وجهه. وقد رأينا الأقدمين ممّن وضعوا علوم العربيّة قد ضمّنوا كتبهم موضوعات هذا العلم، فذكروا الكلام في مخارج الحروف، وصفاتها كالجهر والهمس والشّدّة واللّين، وأحكامها كالإظهار والإخفاء والإدغام، كما ترى ذلك في كتاب سيبويه وغيره. على أنّه قد انضاف إلى كون (تجويد الحروف) من لسان العرب: أنّ نقلة القراءة أدّوا القرآن مجوّدا بهذه الأحكام، فدلّ على أنّها كانت صفة القراءة النّبويّة. فهذان طريقان عرفنا بهما صفة تجويد القرآن: الأوّل: كون (أحكام التّجويد) من صميم لغة العرب، وقد قال الله تعالى في القرآن: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 [الشّعراء: 195]، وقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النّحل: 103]. والثّاني: نقل أئمّة القراءة الثّقات الّذين وضعت تلك الأحكام على وفق المسموع منهم، وضبطت مصاحف المسلمين على صفة قراءتهم.

المبحث الثاني: حكم القراءة بالتجويد

المبحث الثاني: حكم القراءة بالتجويد أمر الله عزّ وجلّ بتدبّر القرآن وفهم معانيه، وحثّ نبيّه صلى الله عليه وسلم على الإكثار من تلاوته لتحقيق هذا الغرض، كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الثّاني، وهذا الأخذ للقرآن تلاوة أو حفظا أو تدبّرا لا يتهيّأ على الوجه المأمور به لمن قرأ قراءة ملحونة مختلّة، وفاعل هذا خارج بالقرآن عن سننه. فضبط التّلاوة سبب للتّدبّر وفهم القرآن، كما أنّه سبب للخشوع عند تلاوته وانتفاع القلب به، وكلّ هذا مأمور به مطلوب إمّا وجوبا وإمّا ندبا، فضبط التّلاوة يأخذ حكم ما كان سببا فيه. وإذا كان اللّحن منفيّا في الأصل عن القرآن، فإضافته إليه من باب تحريف الكلم عن مواضعه. ولأهل العلم وجوه من الاستدلال لوجوب القراءة بأحكام التّجويد والعربيّة على وفق المنقول عن القرّاء. ومن أحسن ذلك ما ذكرته في المبحث السّابق، وهو تلقّي القراءة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الصّفة الّتي أنزل عليها القرآن، وعربيّة القرآن الّتي جاءت بأفصح ما في لسانهم وأبينه. قال الله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 [الشّعراء: 193 - 195]، فهذا القرآن مسند إلى الله تعالى بهذه الصّيغة العربيّة

الفصيحة، الّتي لم يدخلها تصرّف النّاقل، بل تلقّاها الأمين جبريل، وعنه الأمين محمّد صلى الله عليه وسلم، وعنه الأمناء من أصحابه، وهكذا من بعدهم، يتبع اللّاحق منهم السّابق، على الصّفة الّتي أنزله الله عليها، قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9]، فهو محفوظ في نفسه من أن يبدّل منه شيء حتّى في النّطق بحرف منه. فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنّ القراءة على تلك الصّفة لازمة بعربيّته؛ لكونه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195؟ فقراءة القرآن بغير التّجويد أو بغير النّحو عدول به عن المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج به عن عربيّته، وهذا لا يحلّ. قال الإمام أبو محمّد البغويّ: «إنّ النّاس كما أنّهم متعبّدون باتّباع أحكام القرآن وحفظ حدوده، فهم متعبّدون بتلاوته وحفظ حروفه، على سنن خطّ المصحف الإمام الّذي اتّفقت عليه الصّحابة، وأن لا يجاوزوا فيما يوافق الخطّ عمّا قرأ به القرّاء المعروفون الّذين خلفوا الصّحابة والتّابعين واتّفقت الأمّة على اختيارهم» (¬1). واستدلّ بعض أهل العلم لوجوب القراءة بالتّجويد، بقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزّمل: 4]. قال أبو جعفر النّحّاس: «والقراءة بالتّرتيل والمكث واجبة بنصّ ¬

(¬1) تفسير البغويّ المسمّى ب «معالم التنزيل» (1/ 37).

القرآن (¬1)، والتّرتيل: التّبيين»، قال: «فمن التّبيين: تفصيل الحروف، والوقف على ما تمّ معناه منها» (¬2). وثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه حثّ أن يقرأ القرآن كما أنزل، كما في الحديث الصّحيح في فضل عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ، فقال: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» (¬3). فهذا دليل على أنّ قراءة القرآن على وجهه إنّما هو بقراءته كما أنزل، وهو قد أنزل مرتّلا بلسان عربيّ مبين، وابن مسعود من أئمّة القراءة الّذين على قراءتهم بنيت أحكام التّجويد. وكان ابن مسعود يقول: «أعربوا القرآن، فإنّه عربيّ» (¬4). ¬

(¬1) يشير إلى آيتين: المذكورة، والثّانية: قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106]. (¬2) القطع والائتناف، للنّحّاس (ص: 73، 74). (¬3) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 35، 4255، 4340، 4341) وابن ماجة (رقم: 138) من طريق عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله، به. قلت: وإسناده جيّد، وله طرق عدّة. (¬4) أثر حسن. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29908) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 348) من طريق سفيان الثّوريّ، عن عقبة الأسديّ، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن مسعود، به. قلت: وهذا إسناد صالح، عقبة وثّقه ابن حبّان (الثّقات: 7/ 245)، ورواية الثّوريّ عنه ترفع من أمره، وأبو العلاء هو ابن الشّخّير ولد في حياة الصّدّيق، وكان بالكوفة، فإدراكه وسماعه من ابن مسعود متّجه قويّ. تابعه علقمة بن قيس عن ابن مسعود، قال: «أعربوا القرآن». أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29904) وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف يعتبر به. وروي مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود، وفي إسناده كذّاب، ومن حديث أبي هريرة، وإسناده واه، فيه متروك.

وهذا لا يكون إلّا بأن تعطى الحروف حقّها ومستحقّها. وجرى من بعض العلماء في هذا المقام الاستدلال لوجوب القراءة بالتّجويد بحديث يروى عن عبد الله بن مسعود: أنّه كان يقرئ القرآن رجلا، فقرأ الرّجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: أقرأنيها إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فمدّها. ذكره ابن الجزريّ في (باب المدّ) واحتجّ به، ولا يثبت إسناده (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الطّبرانيّ في «المعجم الكبير» (رقم: 8677) قال: حدّثنا محمّد بن عليّ الصّائغ، حدّثنا سعيد بن منصور، حدّثنا شهاب بن خراش، حدّثني موسى بن يزيد الكنديّ، قال: كان ابن مسعود، فذكره. وأخرجه ابن الجزريّ في «النّشر» (1/ 315 - 316) من طريق الطّبرانيّ بإسناده، وفيه: (مسعود بن يزيد). وقال ابن الجزريّ: «هذا حديث جليل حجّة ونصّ في هذا الباب، رجال إسناده ثقات». قلت: إن كان الصّواب في اسم الرّاوي عن ابن مسعود (موسى) فإنّه لا ذكر له في الكتب، وإن كان (مسعودا) فقد جاء في «الثّقات» لابن حبّان (5/ 441): «مسعود بن يزيد، يروي عن عمر بن الخطّاب، روى عنه محمّد بن الفضل»، وهذا توثيق ليس بمقنع، فابن حبّان لا يعتمد على توثيقه منفردا عند أئمّة النّقد، خاصّة لمن كان من هذه الطّبقة، ولم يتابع على تعديل هذا الرّجل، هذا لو سلّمنا أنّه نفسه المذكور في حديث ابن مسعود، فهذه علّة. وله علّة أخرى، الكنديّ هذا سمع منه شهاب بن خراش هذا الحديث، وأقدم من روى عنه شهاب من الشّيوخ بعض أصحاب أنس بن مالك من صغار التّابعين كقتادة وشبهه، فلو نزّلنا الكنديّ منزلة صغار التّابعين من أصحاب أنس في القدم جزمنا بكون روايته منقطعة؛ لأنّ ابن مسعود قديم الموت، وأمّا مظنّة الانقطاع فهي حاصلة، خاصّة مع عدم ذكره السّماع في هذه الرّواية.

المبحث الثالث: كيف تضبط تلاوة القرآن؟

وحاصل هذا المبحث ممّا تقدّم من الاستدلال قبل: وجوب قراءة القرآن بالتّجويد. المبحث الثالث: كيف تضبط تلاوة القرآن؟ القراءة بالتّجويد تتمّ بمراعاة القواعد الّتي وضعت من قبل الأئمّة القرّاء، وصنّفت فيها المصنّفات، مع الاستعانة ما أمكن بأخذها عن صاحب دراية ومعرفة من القرّاء المتقنين للتّلاوة بتلك القواعد، ولا يجوز للمسلم أن يفرّط في ذلك ما وجد إليه سبيلا، فإن عجز اجتهد في الضّبط بما تيسّر له، بالسّماع من قارئ متقن بواسطة الوسائل السّمعيّة الحديثة، أو

بأخذه من الكتب والرّسائل الّتي ألّفت فيه. قال الحافظ ابن كثير: «أمّا تلقين القرآن فمن فم الملقّن أحسن؛ لأنّ الكتابة لا تدلّ على الأداء، كما أنّ المشاهد من كثير ممّن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدّى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على ألفاظ القرآن، فأمّا عند العجز عمّا يلقّن فلا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، فيجوز عند الضّرورة ما لا يجوز عند الرّفاهية، فإذا قرأ في المصحف والحالة هذه فلا حرج عليه، ولو فرض أن قد يحرّف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه» (¬1). يريد ابن كثير أنّه معذور إذا بذل جهده بما يمكنه فقرأ القرآن بعد ذلك وأخطأ في التّلاوة. وهذا القول وسط صواب، فإنّ الله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]، وصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والّذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران» (¬2). فبيّن صلى الله عليه وسلم أنّ من بذل وسعه مجتهدا في إتقان التّلاوة ولم يساعده لسانه ¬

(¬1) فضائل القرآن لابن كثير (ص: 490 - الملحق بآخر تفسيره). (¬2) حديث صحيح. متّفق على أصله: أخرجه البخاريّ (رقم: 4653) ومسلم (رقم: 798)، واللّفظ له، وسيأتي لفظ البخاريّ في (ص: 436).

على إخراجها على وجوهها، إذ التّعتعة عسر في النّطق ومشقّة، فهذا مأجور من جهتين: على اجتهاده في طلب الصّواب، وعلى نفس تلاوته. وصحّ عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابيّ والأعجميّ، فقال: «اقرءوا، فكلّ حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعجّلونه ولا يتأجّلونه» (¬1). فالأعجميّ ربّما لم تساعده لغته ولسانه على أن يعطي كلّ حرف حقّه ومستحقّه، ومع ذلك يثني النّبيّ صلى الله عليه وسلم على جلوسه لقراءة القرآن، لا ينقص حسن عمله ذلك عن حسن عمل من كان معه من العرب الفصحاء، ويحثّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على التّلاوة وإن كانت عجمته لا تساعده على الإتقان، وإنّما ذلك لصحّة المقاصد من أولئك المجتمعين، ولذا ذمّ بمقابلهم القرّاء المتكلّفين لإقامة الألفاظ حتّى إنّ أحدهم ليحرص على الدّقّة في أدائه يقيم الحرف كإقامة السّهم من القوس، لكنّهم يبتغون به الدّنيا. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه سعيد بن منصور في «فضائل القرآن» من «سننه» (رقم: 31) وأحمد (رقم: 15273) وأبو داود (رقم: 830) وجعفر الفريابيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 174) والآجرّي في «آداب حملة القرآن» (ص: 156 - 157) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2642) من طريق حميد بن قيس الأعرج، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر، به. قلت: وإسناده صحيح، ولم ينفرد به حميد، كما سأذكره (ص: 487)، كذلك له شواهد تزيد في صحّته، ولا يضرّه إرسال من أرسله، كما بيّنته في موضع آخر.

المبحث الرابع: مراتب التلاوة

فعليه، ومع ما بيّناه من وجوب القراءة بالتّجويد نقول: لا يجوز أن يجعل ذلك حائلا دون قراءة القرآن لمن بذل وسعه للقراءة به لكنّه لم يحقّقه على وجهه لعجزه. المبحث الرابع: مراتب التلاوة المبالغة والتّكلّف لتحقيق إخراج الحروف من مخارجها قبيح مذموم، والاعتدال في كلّ شيء حسن محمود. وقد جرى أهل العلم بالقراءة على تقسيم صور الأداء إلى أربع مراتب جدير بالقارئ مراعاتها ليبقى في حدود المشروع، هي كالتّالي: الأولى: التّحقيق، وهو «عبارة عن إعطاء كلّ حرف حقّه: من إشباع المدّ، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتّشديدات، وتوفية الغنّات، وتفكيك الحروف، وهو بيانها وإخراج بعضها من بعض بالسّكت والتّرسّل واليسر والتّؤدة وملاحظة الجائز من الوقوف» (¬1). وفائدته: «رياضة الألسن، وتقويم الألفاظ، وإقامة القراءة بغاية التّرتيل، وهو الّذي يستحسن ويستحبّ الأخذ به على المتعلّمين، من غير أن يتجاوز فيه إلى حدّ الإفراط: من تحريك السّواكن، وتوليد الحروف من الحركات، وتكرير الرّاءات، وتطنين النّونات بالمبالغة في الغنّات» (¬2). ¬

(¬1) ابن الجزريّ في «النّشر» (1/ 205). (¬2) كالّذي قبله.

والثّانية: الحذر، وهو «عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها، بالقصر والتّسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمز، ونحو ذلك ممّا صحّت به الرّواية ووردت به القراءة، مع إيثار الوصل، وإقامة الإعراب، ومراعاة تقويم اللّفظ وتمكّن الحروف» (¬1). ويشترط لجواز القراءة بهذا: أن لا يخرج القارئ به عن الأدنى في صفات الحروف، فلا يصيّر حروف المدّ الألف والواو والياء بمنزلة الحركات، ولا يذهب بصوت الحركة كلّيّا، ولا يغفل الغنّة، ولا يصير إلى ابتلاع حرف صحيح بعضه أو كلّه. وهذا النّمط في القراءة يحتاج إليه لتثبيت الحفظ، أو لتكثير التّلاوة، ولا يساعد على الفقه والتّدبّر كما ينبغي. والثّالثة: التّدوير، وهو مرتبة التّوسّط بين التّحقيق والحدر. ¬

(¬1) ابن الجزريّ كذلك (1/ 207). والمراد ب (القصر) قصر المدود، و (التّسكين) المنقول مثله عن بعض أئمّة القراءة في مثل: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النّساء: 115] بتسكين الهاء في الموضعين، و (الاختلاس) عكس الإشباع، كالشّأن في إشباع الكسرة حتّى تكون ياء في قوله تعالى: تُرْزَقانِهِ [يوسف: 37]، والاختلاس بترك ذلك الإشباع، و (البدل) مثل: الصِّراطَ* بالصّاد والسّين، و (الإدغام الكبير) يكون بالتقاء حرفين متماثلين أو متجانسين أو متقاربين، كلاهما متحرّكان، فيسكّن الأوّل ويدغم في الثّاني، مثل: النَّاسَ سُكارى، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ*، النُّفُوسُ زُوِّجَتْ.

الهدي النبوي في صفة الترتيل

قال ابن الجزريّ: «وهو المختار عند أكثر أهل الأداء» (¬1). والرّابعة: التّرتيل، وهو القراءة المبيّنة المفسّرة المستوعبة لأحكام التّلاوة، وهي قراءة التّدبّر الّتي نزل القرآن بالأمر بها، كما قال الله عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزّمّل: 4]. والّذي أميل إليه: أنّ التّحقيق والتّدوير جميعا من جملة التّرتيل، إذ الأمر يرجع في جميعها إلى ترك الإسراع في القراءة، والتّفاوت في البطء لا ينضبط، خاصّة إذا لاحظنا أنّ الإتيان بأحكام التّلاوة على التّمام مراد في كلّ ذلك. وغاية ما يمكن أن يقال من الفرق بينها: أنّ التّحقيق أبطأ من التّرتيل، والتّرتيل أبطأ من التّدوير. الهدي النبوي في صفة الترتيل: عن أمّ المؤمنين حفصة، رضي الله عنها، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في سبحته قاعدا، حتّى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلّي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ بالسّورة فيرتّلها، حتّى تكون أطول من أطول منها (¬2). فهذا يبيّن أنّ التّرتيل الّذي أمر الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم في كتابه، كان بالتّأنّي ¬

(¬1) النّشر (1/ 207). (¬2) حديث صحيح. أخرجه مالك (رقم: 363) وأحمد (6/ 285) ومسلم (رقم: 733) - والتّرمذيّ (رقم: 373) والنّسائيّ (رقم: 1658) من طريق الزّهريّ، عن السّائب بن يزيد، عن المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ، عن حفصة، به. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». والسّبحة: صلاة النّافلة.

في أداء الحروف والوقوف، ممّا تخرج به تلاوة القرآن عن شبه التّلاوة لسائر الكلام الّذي عهد بأن يسرد سردا: موصولا ببعضه، مكتفى بالنّطق بأدنى ما يكون من صفة الحرف، أو بما هو دون ذلك. وأمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها كانت تصف قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّها كانت قراءة مفسّرة حرفا حرفا (¬1)، وأنس بن مالك يذكر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمدّ بها صوته مدّا (¬2)، ويفسّر أنس ذلك في رواية، فيقول: كانت مدّا، ثمّ ¬

(¬1) وذلك في حديث يعلى بن مملك: أنّه سأل أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: ما لكم وصلاته؟ كان يصلّي، ثمّ ينام قدر ما صلّى، ثمّ يصلّي قدر ما نام، ثمّ ينام قدر ما صلّى، حتّى يصبح، ثمّ نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا. أخرجه أحمد (6/ 294، 300) والبخاريّ في «خلق أفعال العباد» (رقم: 171) وأبو داود (رقم: 1466) والتّرمذيّ (رقم: 2923) والنّسائيّ (رقم: 1022، 1629) وابن خزيمة (رقم: 1158) والحاكم (رقم: 1165) والبيهقيّ (3/ 13) من طريق اللّيث بن سعد، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، به. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح»، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم». قلت: هو صحيح، وليس على شرط مسلم، فإنّه لم يخرّج ليعلى، وإنّما صحّحته تبعا للتّرمذيّ، فإنّه صحّحه مع حكمه بغرابته ممّا دلّ على ثقة يعلى عنده، ويعلى لم يجرح من أحد، ولم يرو منكرا. (¬2) وسياقه عن قتادة، قال: قلت لأنس: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يمدّ صوته مدّا. أخرجه أحمد (رقم: 12198 ومواضع أخرى) والبخاريّ (رقم: 4758) وأبو داود (رقم: 1465) والنّسائيّ (رقم: 1014) وابن ماجة (رقم: 1353) من طريق جرير بن حازم، قال سمعت قتادة، به.

قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1* يمدّ ب بِسْمِ اللَّهِ*، ويمدّ ب الرَّحْمنِ* ويمدّ ب الرَّحِيمِ* (¬1). كذلك سمع عبد الله بن مغفّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ قراءة ليّنة يرجّع فيها، يقول: (آآآ) (¬2). فهذه صفة القراءة النّبويّة ترجع في جملتها إلى التّأنّي والتّرسّل في التّلاوة بإعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه على أكمل وجوهه، ولا يخفى في التّطبيق ما لذلك من الأثر في تدبّر القرآن وفهم معانيه، وهو المقصود من تلاوته. وهذه الصّفة تفسير للأمر بالتّرتيل الّذي جاء به نصّ الكتاب، والمتأمّل يرى اندراج المراتب الاصطلاحيّة الثّلاث (التّحقيق، والتّدوير، والتّرتيل) جميعا تحت ذلك الهدي، إذ كلّها موصوف باستيفاء أحكام التّجويد وإن ¬

(¬1) رواية صحيحة، أخرجها البخاريّ (رقم: 4759) من طريق همّام عن قتادة. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4031، 4555، 4747، 4760) ومسلم (رقم: 794) من طريق أبي إياس معاوية بن قرّة، قال سمعت عبد الله بن مغفّل قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، قراءة ليّنة، يقرأ وهو يرجّع. وللبخاريّ في رواية (رقم: 7102): قال: ثمّ قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفّل، وقال: لولا أن يجتمع النّاس عليكم لرجّعت كما رجّع ابن مغفّل يحكي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (قال شعبة بن الحجّاج): فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: (آآآ) ثلاث مرّات.

المبحث الخامس: الوقف والابتداء

تفاوتت في مقادير المدّ والإشباع وشبه ذلك. وما زاد على تلك المراتب في أداء اللّفظ فهو خروج عن صفة التّلاوة المشروعة، ودخول في جملة التّكلّف المذموم. قال ابن الجزريّ: «ليس التّجويد بتمضيغ اللّسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصّوت، ولا بتمطيط الشّدّ، ولا بتقطيع المدّ، ولا بتطنين الغنّات، ولا بحصرمة الرّاءات، قراءة تنفر عنها الطّباع، وتمجّها القلوب والأسماع، بل القراءة السّهلة العذبة الحلوة اللّطيفة، الّتي لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسّف ولا تكلّف، ولا تصنّع ولا تنطّع، ولا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء، بوجه من وجوه القراءات والأداء» (¬1). وكان الإمام حمزة بن حبيب الزّيّات أحد أئمّة القراءة السّبعة وهو ممّن اشتهرت قراءته بالتّحقيق في الأداء، يقول: «إنّ لهذا التّحقيق منتهى ينتهي إليه، ثمّ يكون قبيحا، مثل البياض له منتهى ينتهي إليه، وإذا زاد صار برصا، ومثل الجعودة لها منتهى تنتهي إليه، فإذا زادت صارت قططا» (¬2). المبحث الخامس: الوقف والابتداء هذا العلم آلة المتدبّرين لكلام ربّ العالمين، ومعرفته على وجهه تكشف للتّالي من أسرار القرآن شيئا عجبا، فتبرز له من جلاله وجماله ومعانيه ¬

(¬1) النّشر (1/ 213). (¬2) السّبعة، لابن مجاهد (ص: 77).

وبيانه ما لا يدرك له حدّا ولا يحصي له عددا. والمراد ب (الوقف) قطع الآية بالصّمت الّذي يرجع معه إليك النّفس، و (الابتداء) استئناف القراءة بعد ذلك القطع. و (الوقف) يقع من التّالي اختيارا، كما يقع منه اضطرارا. و (الوقف الاضطراريّ) ليس مرادا هنا، لعدم دخوله تحت إرادة التّالي، كالوقف لانقطاع النّفس. وأصل تشريع الوقف والابتداء سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد دلّ عليه حديثان: الأوّل: عن أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبيّ بن كعب، إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو على حرفين؟ قال: فقال الملك الّذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الّذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتّى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت: (غفورا رحيما) أو قلت: (سميعا عليما) أو قلت: (عليما سميعا) فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب» (¬1). هذا الحديث وإن كان مورده في أمر آخر، لكنّه دلّ على أنّ ما أفسد المعنى من التّلاوة فصيّر آية الرّحمة آية عذاب، وآية العذاب آية رحمة، فليس بشاف ولا كاف، وخروج بالقرآن عمّا أنزل عليه. ¬

(¬1) حديث صحيح، تقدّم تخريجه في المقدّمة الأولى (ص: 79).

ومثال هذا في باب الوقف والابتداء: أن يقرأ قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [فاطر: 7] ويقف، أو يقرأ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ [الرّعد: 18] ويقف. فمن فعل ذلك فقد واقع المحذور المذكور في الحديث؛ لما أفسد بوقفه من المعنى. وأولى من هذا بالإنكار الوقف على مثل قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا ثمّ البدء بقوله: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمران: 181]. والحديث الثّاني: عن أمّ سلمة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطّع قراءته، يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2* ثمّ يقف، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ثمّ يقف (¬1). وهذا الحديث نصّ في الوقوف على رءوس الآي، وهو اختيار طائفة من أئمّة القراءة يستحبّون الوقف عليها؛ لمجيء الفاصلة القرآنيّة في موضع تمام المعنى. قال الإمام أبو عمرو الدّانيّ: «وممّا ينبغي له أن يقطع عليه رءوس الآي، لأنّهنّ في أنفسهنّ مقاطع، وأكثر ما يوجد التّامّ فيهنّ؛ لاقتضائهنّ تمام الجمل، واستيفاء أكثرهنّ انقضاء القصص، وقد كان جماعة من الأئمّة ¬

(¬1) تقدّم تخريجه (ص: 140).

تنبيهات

السّالفين والقرّاء الماضين يستحبّون القطع عليهنّ وإن تعلّق كلام بعضهنّ ببعض» (¬1). قلت: إذا كانت الآية لا يتمّ معناها أو لا يصحّ إلّا بوصلها بالآية التّالية وصلها بها، كقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ 151 وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 152 [الصّافات: 151 - 152]، وقوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 5 [الماعون: 4 - 5]. ولو وقف على قوله: لَيَقُولُونَ* أو لِلْمُصَلِّينَ جاز لدلالة حديث أمّ سلمة، لكن بشرط أن لا يقطع تلاوته عند ذلك الموضع، أي يجوز الوقف إذا كان لمجرّد أن يترادّ إليه نفسه من غير طول فصل؛ لأنّ طول الفصل أو قطع التّلاوة ينقص المعنى أو يفسده. تنبيهات: الأوّل: تفاصيل مواضع الوقف في كتاب الله تعالى مشروعها وممنوعها وإن أرشدت سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتبارها على رءوس الآي، وما يتمّ به المعنى، إلّا أنّ سائر ذلك ممّا جرى عليه عمل القرّاء من قبل اجتهادهم امتثالا للأمر بتدبّر القرآن، وربّما دخل في ذلك شيء ممّا تلقّوه بأسانيدهم في القراءة، فقولهم: (وقف جائز، وممنوع، ولازم) وشبه ذلك تسميات لما استعملوه من ذلك وجرى عملهم عليه. ¬

(¬1) المكتفى (ص: 145).

وإذا تحاشى التّالي ما أمرت السّنّة بتركه من الوقوف ممّا يفسد المعنى، وراعى الوقف النّبويّ على رءوس الآي، كان ما سوى ذلك من اختيار الوقف والابتداء راجعا إلى التّدبّر وفهم المعنى. لكنّي أذهب في حقّ عموم المسلمين اليوم إلى أن يأخذوا بما بيّن لهم في المصاحف من علامات الوقف، وينبغي عليهم أن يلاحظوا ما ذكر من التّعريف بتلك العلامات في أواخر المصاحف، ويستعملوها على الصّورة الّتي بيّنت لهم، فإنّ ذلك معين على تدبّر القرآن وفهمه، خاصّة ما كان منه من الوقف اللّازم، فعليهم التزام الوقف عنده، وما كان من الممنوع فلا يوقف عنده، إلّا ما كان منه عند رءوس الآي، فقد بيّنت من قبل ما يتّصل به، ويترك الوقف في موضع ليس فيه علامة وقف أصلا. لا أستثني من هذا إلّا من أوتي حظّا من فهم القرآن، وعدّة واقية من الخطأ في ضبط المعنى، من أهل العلم والذّكر، فهؤلاء قد يستحسنون مواضع للوقف باجتهادهم في تدبّر القرآن. التّنبيه الثّاني: يراعى في الابتداء صحّة المعنى واستقامة السّياق، ولو استعمل إنسان علامات الوقف المثبتة في المصاحف في خلال الآية لا على رأسها، فوقف عند علامة من تلك العلامات غير علامة الوقف الممنوع، فلو جعل ابتداءه من الكلمة التّالية لعلامة الوقف دائما فذلك أسلم له وأبعد عن الخلل.

لكن لو انقطع نفسه في غير موضع وقف، فالّذي يحسن به: أن يعود إلى شيء من الآية قبل موضع وقوفه فيصله بما بعده بشرط أن يصحّ المعنى بذلك الابتداء. مثل: لو قرأ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فانقطع النّفس، وليس عند هذا في المصحف وقف، إنّما الوقف على قوله: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، وهو وقف كاف، ويسمّى (الوقف الجائز)، فعليه حينئذ أن يعود ليبدأ في موضع يتّصل به الكلام المفيد، فلا يبدأ بقوله: يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ فهذا مخلّ بالسّياق، وإنّما يرجع فيقرأ: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التّوبة: 6]. التّنبيه الثّالث: الوقوف الّتي في المصاحف مستفادة من مصنّفات خاصّة لأعيان أئمّة القراءة، استفادوها من النّقل والتّدبّر، من أجلّها كتاب (المكتفى في الوقف والابتداء) للإمام أبي عمرو الدّانيّ، وأمّا تفاصيل أقسام الوقوف وأحكامها ففيها كتب نافعة، من أجمعها (معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء) لشيخ القرّاء محمود خليل الحصريّ.

الفصل الثاني: أخذ القرآن والاعتناء به

الفصل الثاني: أخذ القرآن والاعتناء به المبحث الأول: أمر الله تعالى باتّباع القرآن أنزل الله تعالى على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب؛ ليكون للنّاس الهدى الّذي يعصمون به من الضّلالة، والنّور الّذي يضيء لهم ظلمة الطّريق، والزّاد لصلاحهم في دنياهم ونجاتهم في أخراهم. قال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً 174 [النّساء: 174]، وقال: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15 - 16]، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 58 [يونس: 57 - 58]، وقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشّورى: 52]. وأمر سبحانه بالإيمان بهذا القرآن، كما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ

قَبْلُ [النّساء: 136]، وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الأنعام: 92]. وأمر بتلاوته وتدبّره وفهمه، كما قال عزّ وجلّ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النّمل: 91 - 92]، وقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29]. وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 [محمّد: 24]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً 82 [النّساء: 82] وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 17* [القمر: 17]. وأمر باتّباعه والعمل به، كما قال سبحانه: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 2 - 3]، وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155 [الأنعام: 155]، وقال عزّ وجلّ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً 113 [طه: 113]. وأثنى على أهله، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ 30 [فاطر: 29 - 30].

المبحث الثاني: تعلم القرآن وتعليمه، والفضل فيه

وحذّر سبحانه من الإعراض عنه وتوعّد على ذلك، فقال: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا 101 [طه: 99 - 101]، وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى 127 [طه: 124 - 127]. وفي السّنن الثّابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بتعلّم القرآن والحثّ على حمله وحفظه والتّمسّك به ما هو على الوفاق لما جاء به كتاب الله تعالى من ذلك، ممّا يزيد المؤمنين تشويقا إليه، وتسابقا إلى نيل الدّرجات بتحصيله، وذلك فيما يأتي من المباحث. المبحث الثاني: تعلم القرآن وتعليمه، والفضل فيه فيه أحاديث كثيرة، منها: 1 - عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا كتاب الله، وتعاهدوه، وتغنّوا به (زاد في رواية: واقتنوه)، فو الّذي نفسي بيده، لهو أشدّ تفلّتا من المخاض في العقل». وفي رواية: «تعلّموا القرآن، وأفشوه، والّذي نفسي بيده ... » الحديث.

وفي رواية، قال عقبة بن عامر: كنّا جلوسا في المسجد نقرأ القرآن، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّم علينا، فرددنا عليه السّلام، ثمّ قال: «تعلّموا كتاب الله ... » وذكر الحديث (¬1). وفي هذا الحديث من العلم: 1 - وجوب تعلّم القرآن. 2 - تأكيد ندب المواظبة على تلاوته خشية التّفلّت. 3 - الحثّ على التّغنّي به، وهو وارد عند أهل العلم على معنيين: أوّلهما: الاستغناء به عمّا سواه، وهو بأن يجعل الإنسان القرآن كفايته لصلاح دينه ودنياه، وذلك باتّباعه، والعمل به، والوقوف عند حدوده ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29982) وأحمد (4/ 146) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 70) والدّارميّ (رقم: 3227) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 59، 74) وابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 123) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 162، 163) والرّويانيّ (رقم: 209) والطّبرانيّ في «الكبير» (17/ 290 - 291) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1967) من طريق موسى بن عليّ بن رباح، قال: سمعت أبي يقول: سمعت عقبة، به، ولفظ الرّواية الثّانية لابن أبي شيبة. وأمّا الرّواية الأخيرة فأخرجها أحمد (4/ 150، 153) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 69 - 70) والنّسائيّ في «الفضائل» (رقم: 60) والطّبرانيّ (17/ 290، 291) من طريق قباث بن رزين اللّخميّ، قال: سمعت عليّ بن رباح اللّخميّ، يقول: سمعت عقبة، به. قلت: وإسناده من الوجهين صحيح.

وشرائعه، وترك ما سواه ممّا يخالفه. وهذا المعنى وارد على قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» (¬1) في قول جماعة من أئمّة السّلف كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجرّاح وغيرهما. وثانيهما: تحسين الصّوت بتلاوته، فهذا مأمور به مشروع لذاته، لا يتركه التّالي ما وجد إليه سبيلا، كما تأتي الأحاديث فيه في (آداب قارئ القرآن). 4 - وجوب اقتنائه، أي: أن يجعله الإنسان زاده، كما يتّخذ قنيته من الطّعام والشّراب وما يصلح به حاله من شيء. 5 - وجوب بثّه بين النّاس وتعليمهم إيّاه، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عنّي ولو آية» (¬2)، فكلّ مسلم يلزمه قدر من ذلك الواجب، عليه أن يبلّغه ما وجد في النّاس إليه حاجة. 6 - شرعيّة الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 1476، 1512، 1549) وأبو داود (رقم: 1469، 1470) والدّارميّ (رقم: 1461، 3361) وابن حبّان في «صحيحه» (رقم: 120) والحاكم (رقم: 2091 - 2093) والبيهقيّ (10/ 230) من طرق عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقّاص، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، به. قال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد» وهو كما قال، فابن أبي نهيك يقال في اسمه كذلك (عبد الله) تابعيّ ثقة، سمع من سعد. (¬2) جزء من حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3274) من حديث عبد الله بن عمرو. وتقدّم تخريجه (ص: 343).

2 - وعن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم (وفي لفظ: إنّ أفضلكم) من تعلّم القرآن وعلّمه» (¬1). وفي هذا بيان منزلة أهل القرآن الّذين يقبلون عليه تعلّما وتعليما، فهؤلاء من أفضل النّاس عملا. 3 - وعن عقبة بن عامر الجهنيّ، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في الصّفّة، فقال: «أيّكم يحبّ أن يغدو إلى بطحان أو العقيق، فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين، فيأخذهما في غير إثم ولا قطع رحم؟» قال: قلنا: كلّنا يا رسول الله يحبّ ذلك، قال: «فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهنّ من الإبل» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 405، 412، 413) والبخاريّ (رقم: 4739، 4740) وأبو داود (رقم: 1452) والتّرمذيّ (رقم: 2907، 2908) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 61، 63) وابن ماجة (رقم: 212) والدّارميّ (رقم: 3217) من طريق أبي عبد الرّحمن السّلميّ، عن عثمان، به. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». قلت: وفصّلت بيانه في «علل الحديث». (¬2) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30065) وأحمد (4/ 154) وأبو عبيد (ص: 44 - 45) ومسلم (رقم: 803) وأبو داود (رقم: 1456) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 67، 68) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1934) من طرق عن موسى بن عليّ بن رباح، قال: سمعت أبي يقول: سمعت عقبة، به. قوله: (بطحان أو العقيق) واديان قريبان من المدينة، و (كوماوين) الكوماء: هي النّاقة لها سنام عال مشرف، وأراد عظيمتي السّنام، و (زهراوين) أي حسنتي المرأى.

4 - وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلّم منه شيئا فليفعل، فإنّ أصفر البيوت من الخير البيت الّذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإنّ البيت الّذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الّذي لا عامر له، وإنّ الشّيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه» (¬1). هذا من كلام ابن مسعود، وهو من قول العارفين، وآخره لا يمكن قوله إلّا عن توقيف، إذ لا يقال مثله بمجرّد الاجتهاد. 5 - وعن ابن مسعود، أيضا، قال: «إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن هو حبل الله الّذي أمر به، وهو النّور المبين، والشّفاء النّافع، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسّك به، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يزوغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن ردّ، اتلوه، فإنّ الله عزّ وجلّ يأجركم بكلّ حرف منه عشر حسنات، لم أقل لكم الم 1* حرف، ولكن (ألف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف» (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 5998) ومن طريقه: الطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 8642) بإسناد صحيح. وله طرق شرحتها في تذييلي على كتاب «الرّد على من يقول الم 1* حرف» لأبي القاسم بن منده (ص: 93 - 95). (¬2) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 6017) والطّبرانيّ (رقم: 8646) بإسناد صحيح. وبيانه في التّذييل السّابق (ص: 92). ومعنى: (ولا يزوغ فيستعتب) أي لا يميل بأتباعه عن الصّواب فيطلب العفو عمّا وقع منه كشأن المخلوق، فهو صواب وعدل كلّه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

المبحث الثالث: أمر السنة بالتمسك بالقرآن والعمل به

وهذا شبيه بالّذي تقدّمه، صادر ممّن خالط الإيمان والقرآن قلبه، فأدرك أثره في نفسه، ممّن كان إليهم مرجع النّاس لأخذ القرآن. وآخره مشهور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنّه إنّما يصحّ من قول ابن مسعود، ولم يثبت مرفوعا (¬1). المبحث الثالث: أمر السنة بالتمسك بالقرآن والعمل به 1 - عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لله أهلين من النّاس» قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصّته» (¬2). قال ابن الأثير: «أي: حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله والمختصّون به اختصاص أهل الإنسان به» (¬3). ¬

(¬1) بيّنت علّته بتفصيل في «الذّيل» المشار إليه في التّعليقين السّابقين. (¬2) حديث حسن. أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 2124) وأحمد (رقم: 12279، 12292، 13542) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 88) والنّسائيّ كذلك (رقم: 56) وابن ماجة (رقم: 215) وابن الضّريس (رقم: 75) والحاكم (رقم: 2046) من طرق عن عبد الرّحمن بن بديل بن ميسرة العقيليّ، عن أبيه، عن أنس، به. قلت: وإسناده حسن، ابن بديل صدوق حسن الحديث. وله متابع عند الدّارميّ (رقم: 3206) يزيده قوّة. (¬3) النّهاية في غريب الحديث (1/ 83).

2 - وعن أبي شريح الخزاعيّ، رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشروا، أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله؟» قالوا: نعم، قال: «فإنّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسّكوا به، فإنّكم لن تضلّوا ولن تهلكوا بعده أبدا» (¬1). وفي هذا بيان أنّ الاعتصام بكتاب الله سبب العصمة من الضّلال، ولا يتمّ ذلك إلّا بالإقبال عليه تعلّما وتدبّرا وعملا. 3 - وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «القرآن مشفّع، وماحل مصدّق (¬2)، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29997) وعبد بن حميد (رقم: 483) وابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 162) وابن حبّان (رقم: 122) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1942، 2013) من طريق أبي خالد الأحمر، عن عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي شريح، به. وإسناده صحيح. وقيل في هذا الإسناد: عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. أخرجه أحمد بن منيع (كما في «المطالب العالية» رقم: 3866)، والأوّل أصحّ. وله شاهد من حديث جبير بن مطعم مرفوعا بنحوه. أخرجه البزّار (رقم: 120 - كشف) والطّبرانيّ في «المعجم الصّغير» (رقم: 1018) و «الكبير» (رقم: 1539) من طريق أبي داود الطّيالسيّ، حدّثنا أبو عبادة الأنصاريّ، حدّثنا الزّهريّ، عن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به. قلت: وإسناده لا يعتبر به، أبو عبادة هذا اسمه عيسى بن عبد الرّحمن، وهو متروك الحديث ليس بثقة، وفيما ذكرته أوّلا غنية عن هذا. (¬2) ماحل مصدّق: خصم مصدّق القول ضدّ من ترك العمل به.

جعله خلف ظهره ساقه إلى النّار» (¬1). وإنّما هذا في العمل بالقرآن، فهو يشفع لهم يوم العرض على ربّ العالمين، شاهدا لهم، ومن ثمّ قائدا إلى جنّته ورحمته، بخلاف المعرضين عنه، فسيكون خصما لهم وحجّة عليهم يوم القيامة، ومن ثمّ سائقا إلى النّار. 4 - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء اللّيل وآناء النّهار» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البزّار (رقم: 122 - كشف الأستار) وابن حبّان (رقم: 124) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2010) من طريق أبي كريب محمّد بن العلاء، حدّثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، به. قلت: وهذا إسناد جيّد، ابن الأجلح صدوق جيّد الحديث، وسائر الإسناد ثقات، وروايات الأعمش عن أبي سفيان جيّدة. ولا يضرّ هذا الإسناد أن روي الحديث بإسناد آخر للأعمش موقوفا على ابن مسعود، فالأعمش حافظ مكثر لا ينكر له ذلك، وأبو كريب رواه عن ابن الأجلح عن الأعمش بالإسنادين. كذلك أخرجه البزّار (رقم: 121) بهذا الإسناد إلى الأعمش، عن المعلّى الكنديّ، عن ابن مسعود، قوله. والرّواية عن ابن مسعود في ذلك صحيحة من بعض الطّرق غير طريق الأعمش، وهي وإن كانت موقوفة اللّفظ، إلّا أنّها مرفوعة حكما، فهي شاهد قويّ لحديث جابر. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4737، 7091) ومسلم (رقم: 815).

المبحث الرابع: الاعتناء بحفظ القرآن

فصاحب القرآن الّذي يعمل به هو القائم به ليله بالصّلاة به وتدبّره وتفهّم معانيه، ونهاره بامتثال أحكامه وشرائعه، فهذا يتمنّى من لم يحصّل مثل تحصيله أن لو كان له مثل ذلك. كما يفسّره حديث أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل علّمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء اللّيل وآناء النّهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحقّ، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل» (¬1). المبحث الرابع: الاعتناء بحفظ القرآن حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن إلى جنب الاعتناء بفهمه والعمل به، وبيّن أنّ الإنسان يبلغ بذلك المنازل عند الله تعالى بمقدار ما حمل من القرآن في الدّنيا وتيسّر بلسانه من قراءته. عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والّذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران». ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 10214، 10215) والبخاريّ (رقم: 4738، 6805، 7090).

وفي لفظ: «مثل الّذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السّفرة الكرام البررة، ومثل الّذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران» (¬1). فهذا الحديث يبيّن فضل حفّاظ القرآن الماهرين بتلاوته، بأنّهم مع الملائكة حملة القرآن، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ 16 [عبس: 11 - 16]، وفيه تنبيه لحامل القرآن أن يتشبّه في أحواله وأعماله بهؤلاء الملائكة، إذ المدح لا يلحقه بمجرّد الحفظ حتّى يكون كالكرام البررة في كرمهم وبرّهم. 2 - وعن سلمة الجرميّ، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 1499) وابن أبي شيبة (رقم: 30027) وسعيد بن منصور في «فضائل القرآن» (رقم: 14) وأحمد (6/ 48، 94، 98، 110، 170، 192، 239، 266) والبخاريّ (رقم: 4653) وفي «أفعال العباد» له (رقم: 295) ومسلم (رقم: 798) وأبو داود (رقم: 1454) والتّرمذيّ (رقم: 2904) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 70، 71، 72) وابن ماجة (رقم: 3779) والدّارميّ (رقم: 3245) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 3، 5) وابن الضّريس (رقم: 29، 30، 33، 35) وابن حبّان (رقم: 767) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 395) و «الشّعب» (رقم: 1975) من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، به، واللّفظ الثّاني لسعيد والبخاريّ في «الصّحيح» ولابن الضّريس في موضع. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

حضرت الصّلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآنا» (¬1). وهذا في بيان قدر حفّاظ القرآن في الدّنيا بأنّهم أولى النّاس بإمامة الصّلاة، وهذه إمامة في الدّين. 3 - وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثمّ يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد. (وذكر الحديث) (¬2). وفي هذا ترتيب المنازل، فأكثر النّاس حفظا للقرآن أولاهم بالتّقديم. 4 - وعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرأها» (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. ورد ضمن قصّة، أخرجها البخاريّ (رقم: 4051). ) ¬2) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 1278). (¬3) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30048) وأحمد (رقم: 6799) وأبو داود (رقم: 1464) والتّرمذيّ (رقم: 2914) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 81) وابن حبّان (رقم: 766) والحاكم (رقم: 2030) والبيهقيّ (2/ 53) من طريق سفيان الثّوريّ، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن عمرو، به. قلت: وإسناده جيّد. وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». وله شواهد هو بها صحيح.

هدي الصحابة في حفظ القرآن

وهذه منازل الحفّاظ في الآخرة. هذا الّذي أوردت هنا هو أحسن ما يستدلّ به للحثّ على حفظ القرآن واستظهاره، وهو مبين عن درجات رفيعة ومنازل عليّة يغني في هذا الباب عن أحاديث ذوات عدد تحثّ على حفظ القرآن واستظهاره، هي ضعيفة أو موضوعة، إذ لست أحلّ لنفسي الاستدلال بضعيف الحديث، فضلا عن الواهي والموضوع. هدي الصحابة في حفظ القرآن: كان سلف الأمّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحرص النّاس على الاعتصام بهذا الكتاب، وأعلم النّاس به، وأعرفهم بما يجب في حقّه من العناية، فحريّ بمن بعدهم أن يسلك هداهم في ذلك، وأن يعرف عنهم كيف كانوا يأخذون هذا القرآن، فإنّهم القوم الّذين كانوا يغذّون به في اللّيل والنّهار، يصبّحهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويمسّيهم بجديده، ولم تكن الكتابة شائعة، ولا المصاحف موجودة مهيّأة كما صارت لمن بعدهم، فهم إلى حفظه في الصّدور يومئذ كانوا أحوج ممّن بعدهم، فكيف كانوا يحفظون؟ هذا ما نتبيّنه فيما يأتي من صحيح الأخبار: 1 - عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «كان الرّجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ» (¬1). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (1/ 35) وتقدّم (ص: 91).

2 - وعن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، قال: حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهم «كانوا يقترءون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل» (¬1). ففي هذا أنّ الحفظ عندهم كان مقترنا بالعلم بالمحفوظ، وامتثال ما فيه من الأمر والنّهي والاعتبار وغير ذلك، فكانوا لذلك يأخذونه عشر آيات عشر آيات ليكون أيسر عليهم. فلم يكن همّهم كثرة الحفظ كما صار إليه حال من بعدهم، وإنّما علموا أنّ هذا القرآن إنّما أنزل للعمل، ولا عمل دون علم وفهم. وكانوا لا يقدمون على أخذ القرآن حتّى تستعدّ له نفوسهم بالإيمان والتّصديق وتتهيّأ للامتثال، فنفعهم الله بذلك ورفع أقدارهم. 3 - وعن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: «كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة (¬2)، فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلّم القرآن، ثمّ تعلّمنا القرآن فازددنا به إيمانا» (¬3). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29920) وأحمد (5/ 410) عن محمّد بن فضيل، والفريابيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 169) من طريق حمّاد بن زيد، كلاهما عن عطاء بن السّائب، عن أبي عبد الرّحمن، به. قلت: وإسناده صحيح. (¬2) حزاورة: جمع حزور وحزوّر، وهو الّذي قارب البلوغ (النّهاية: 1/ 380). (¬3) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (رقم: 61) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 1678) وابن منده في «الإيمان» (رقم: 208) والبيهقيّ (3/ 120) والمزّيّ في «تهذيب الكمال» (7/ 288) من طريق وكيع بن الجرّاح، قال: حدّثنا حمّاد بن نجيح، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندب، به. وإسناده صحيح.

4 - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإنّ أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السّورة على محمّد صلى الله عليه وسلم فنتعلّم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعلّمون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدّقل» (¬1). وكانوا يراعون الأيسر في الأخذ والحفظ، وعليه يربّون أبناءهم، شبيه بما جرت عليه عادة القرّاء في الكتاتيب مع الصّبيان في البدء بتعليمهم ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه النّحّاس في «القطع والائتناف» (ص: 87) وابن منده في «الإيمان» (رقم: 207) والحاكم (رقم: 101) والبيهقيّ (3/ 120) من طرق عن عبيد الله بن عمرو الرّقّي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف قال: سمعت عبد الله بن عمر، به. قلت: وهذا إسناد حسن، القاسم هو الشّيبانيّ صدوق حسن الحديث. قال ابن منده: «إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة إلّا البخاريّ»، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشّيخين، ولا أعرف له علّة». قلت: القاسم ليس من شرط البخاريّ. وقوله: (وينثره نثر الدّقل) الدّقل: رديء التّمر أو يابسه، يكون لرداءته ويبسه منثورا لا يجتمع بعضه إلى بعض. (معناه عن «النّهاية»: 2/ 127).

المبحث الخامس: الأمر بتعاهد القرآن خشية تفلت حفظه

وتحفيظهم قصار السّور من آخر المصحف، كما يدلّ عليه ما حدّث به التّابعيّ الجليل سعيد بن جبير، قال: إنّ الّذي تدعونه (المفصّل) هو المحكم، قال: وقال ابن عبّاس: «توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم» (¬1). و (المفصّل) من سورة (ق) إلى آخر المصحف على ما حقّقته في كتابي (تحرير البيان في سجود القرآن). ولسنا نقول: السّنّة أن يبدأ بحفظ قصار السّور، بل له أن يحفظ من أيّ القرآن شاء، وإنّما في هذا الهدي مراعاة الأيسر في الحفظ ليبدأ به. المبحث الخامس: الأمر بتعاهد القرآن خشية تفلّت حفظه تعاهد القرآن حاصل بأمرين: إدمان تلاوته، والعمل به، وتقدّم في المبحث الثّاني ذكر الأمر به من حديث عقبة بن عامر، وهو مؤكّد بأحاديث صحيحة أخرى: 1 - فعن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا القرآن؛ فإنّه أشدّ تفلّتا من قلوب الرّجال من الإبل من عقله» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 2283، 2601، 3125، 3357) والبخاريّ (رقم: 4748، 4749) من طريق أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد، به. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد وابنه عبد الله (4/ 411) عن محمّد بن الصّبّاح، قال: حدّثنا إسماعيل بن زكريّا، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، وبريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة. والحديث متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4746) ومسلم (رقم: 791) من طريق أبي أسامة عن بريد، بنحوه، وخرّجته من «المسند» لزيادة «من قلوب الرّجال».

2 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نسّى، واستذكروا القرآن، فإنّه أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال من النّعم» (¬1). 3 - وعن عبد الله بن عمر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة: إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4744، 4745، 4752) ومسلم (رقم: 790). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4743) ومسلم (رقم: 789). تنبيه: أخرج هذا الحديث مسلم، والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 68) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 157، 158) وابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 161) والرامهرمزيّ في «الأمثال» (ص: 89) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1963) من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل القرآن كمثل الإبل المعقّلة، إذا عاهدها صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن فقرأه باللّيل والنّهار ذكره، وإذا لم يقرأه نسيه». هذه الزّيادة لم تأت عن نافع من وجه يصحّ إلّا هذا، والحديث محفوظ من حديث نافع من رواية مالك وعبيد الله بن عمر وغيرهما من أصحاب نافع دون هذه الزّيادة، فالقلب أميل إلى كونها مدرجة ليست من أصل الحديث، والله أعلم.

المبحث السادس: التحذير من هجر القرآن

والمعنى في هذه الأحاديث: أنّ سرعة تفلّت القرآن من صدور الحفّاظ أشدّ من سرعة انطلاق البعير حين يفكّ من قيده، ومن طبعه شدّة النّفور، فإذا انطلق شقّ إمساكه، وربّما ذهب فلا يقدر عليه؛ لذا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحفّاظ على المواظبة على مراجعة حفظهم للقرآن، وإلّا ذهب عليهم. وهذا الأمر بالمعاهدة إنّما هو على سبيل النّدب المؤكّد لا الوجوب، كما سأبيّنه في المبحث التّالي. المبحث السادس: التحذير من هجر القرآن تقدّم في المبحث الأوّل ذكر تحذير الله تعالى عباده من الإعراض عن القرآن، وتوعّد على ذلك. والإعراض عن القرآن صفة الكافرين، كما قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: 1 - 5]. وقال عزّ وجلّ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ 5 [الشّعراء: 5]. وإعراضهم إنّما كان بعدم الإيمان به، والتّسليم لما جاء به من الحقّ والهدى، فمن آمن به واتّبع هداه فليس من المعرضين عنه، لكن قد ينال

المسلم نصيب من ترك العمل بالقرآن بتقصيره في الطّاعات ومواقعته المعاصي، غير أنّ هذا لا يلحقه بالمعرضين، ما دام قلبه منطويا على حسن الاعتقاد في القرآن، وأنّ خروجه عن متابعته فيما خرج به عنه ليس استباحة لخلاف حكم الله، ولا رضا بذلك، إنّما مع الإقرار بالذّنب والتّقصير، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]، فهؤلاء الأصناف الثّلاثة كلّهم على خير وإن تفاوتت درجاتهم، وهذا الّذي هو ظالم لنفسه منهم تارك للعمل ببعض الكتاب، لكنّه غير معرض، إنّما هو مذنب معترف توّاب، يرجو رحمة ربّه ويخاف عقابه. فالمؤمن لا يوصف بالإعراض عن القرآن. أمّا هجر القرآن فهو تركه، فيدخل فيه: ترك الإيمان به، وترك العمل به، وترك قراءته وتدبّره. فيندرج تحت هجره إعراض الكفّار عنه، كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 26 [فصّلت: 26]، فهؤلاء هجروا القرآن هجرا تامّا، وهم القوم المرادون بقوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً 30 [الفرقان: 30]. ومثل هؤلاء كما قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا

فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 177 [الأعراف: 175 - 177]. أمّا حال المسلم، فإنّه قد يقع منه التّقصير بترك العمل ببعض الكتاب أو ترك التّلاوة والتّدبّر له، لكنّه لا يوصف معه بالهجر التّامّ للقرآن، إنّما يناله من ذلك الوصف بحسب ما وقع منه من التّقصير، كما وقعت الإشارة إليه في الكلام عن الإعراض عن القرآن، ففعل المعاصي وترك الواجبات من ترك العمل بالكتاب، ولصاحبه نصيب من الذّمّ بحسبه. ومن هذا ما ورد من حديث سمرة بن جندب، رضي الله عنه، في رؤيا رآها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقصّها عليهم، وفيها: «رأيت اللّيلة رجلين أتياني فأخذا بيدي» فساق الحديث، وفيه: «حتّى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر (¬1) أو صخرة، فيشدخ (¬2) به رأسه، فإذا ضربه تدهده (¬3) الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتّى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه» ثمّ فسّرا ذلك له، فقالا: «والّذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علّمه ¬

(¬1) فهر: حجر. (¬2) يشدخ: يكسر. (¬3) تدهده: تدحرج.

الله القرآن، فنام عنه باللّيل ولم يعمل فيه بالنّهار، يفعل به إلى يوم القيامة». وفي لفظ: «أمّا الرّجل الأوّل الّذي أتيت عليه يثلغ (¬1) رأسه بالحجر، فإنّه الرّجل يأخذ القرآن فيرفضه (¬2)، وينام عن الصّلاة المكتوبة» (¬3). ففي هذا دليل على أنّ من أنعم الله عليه بالعلم بالقرآن فقد قام عليه من الحجّة بمعرفة الأحكام والشّرائع ما لا تسعه مخالفته أو تركه، فإن فعل استحقّ العقوبة على ذلك، وناله نصيب من صفة الهجر للقرآن. أمّا مجرّد ترك التّلاوة فهل يسمّى (هجرا)؟ فيه تفصيل يرجع إلى معرفة ما ينقسم عليه حكم التّلاوة. ¬

(¬1) يثلغ: يضرب حتّى يكسر. (¬2) يرفضه: يتركه. (¬3) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 1320) من طريق أبي رجاء العطارديّ عن سمرة بن جندب، به. واللّفظ الثّاني له كذلك (رقم: 1092، 6640). وورد الحديث بلفظ: «رجل تعلّم القرآن، فنام عنه حتّى نسيه لا يقرأ منه شيئا». أخرجه ابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 161 - 162) من طريق أبي خلدة خالد بن دينار، عن أبي رجاء. قلت: ولفظ البخاريّ أولى وأصحّ، فإنّه ربط ذلك بترك العمل بالقرآن في اللّيل والنّهار، فأمّا تركه في اللّيل فبالنّوم عن المكتوبة، وهذا كما ترشد الأدلّة إذا كان بإهمال وترك الاجتهاد للاستيقاظ للصّلاة، وتركه بالنّهار ظاهر، وذلك بفعل المعصية وترك الواجب. نبّهت على هذا لئلّا يظنّ أنّ تلك العقوبة في الرّؤيا النّبويّة كانت للنّوم عن قيام اللّيل، لليقين في كونه ليس فريضة، ولا تقع العقوبة على ترك ما سوى الفريضة.

والأقسام التي تكون عليها تلاوة القرآن من حيث حكمها ثلاثة

والأقسام الّتي تكون عليها تلاوة القرآن من حيث حكمها ثلاثة: الأوّل: فرض عين. ولم نجد في نصوص الكتاب والسّنّة ما يوجب على كلّ فرد من المسلمين أن يتلو من القرآن سوى ما تصحّ به الصّلاة، وهو سورة الفاتحة وحدها على التّحقيق، ممّا محلّ بسطه في غير هذا الموضع. والثّاني: فرض كفاية. وذلك أنّ الله تعالى أوجب إيجاد طائفة أهل الذّكر الّذين يبصّرون النّاس بشرائع ربّهم ودينه، وذلك مستلزم كونهم يتلون كلامه، قال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التّوبة: 122]. وأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن؛ لأنّه المبلّغ عن الله، كما قال تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النّمل: 91 - 92]، وأهل الذّكر من أمّته على أثره صلى الله عليه وسلم، مأمورون بالتّبليغ من بعده. يؤيّد أنّه فرض كفاية أنّ النّاس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا جميعا يقرءون، ولم يوجب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم من القراءة أكثر ممّا تصحّ به الصّلاة، هذا مع أمر الله تعالى في كتابه بتدبّر القرآن وتلاوته، ممّا دلّ على أنّ ذلك الأمر لأجل أن تبقى في النّاس علوم هذا الكتاب، بحيث لا يزال فيهم من يبلّغهم شرائعه وأحكامه، وهذا تحقّقه طائفة من الأمّة.

والثالث: تلاوة مندوبة.

فما كان من هذا القسم والّذي قبله فتركه هجر محرّم للقرآن، ولو ترك النّاس في بلد إيجاد من يقرأ القرآن منهم ويتلوه ليبلّغهم إيّاه، لصدق عليهم جميعا وصف الهجر للقرآن. والثّالث: تلاوة مندوبة. وهي ما يزيد على الواجب ممّا يحرص المسلمون عليه في كلّ زمان، فيتلوه القارئ ويحفظه أو يحفظ منه ما شاء، ممّا يعود إلى رغبته وإرادته. فهذا القسم من التّلاوة يثاب فاعله ويؤجر، ولا يعاقب تاركه ولا يؤاخذ، فلا يعدّ فعله من الهجران الّذي ذمّ الله تعالى أهله، لكن لا نشكّ أنّ بفواته فوات خير عظيم. وربّما استشكل بعض النّاس هاهنا ما ورد في شأن التّوقيت لختم القرآن في أربعين يوما، على ما سيأتي في (آداب قارئ القرآن)، أو ستّين في قول البعض، أو غير ذلك من التّحديد، فهل إذا ترك إنسان الختم في هذه المدّة يسمّى (هاجرا) للقرآن؟ الجواب: لا، لأسباب؛ أهمّها: 1 - لم يأت في شيء من الأدلّة ما يوجب على أحد ختم القرآن، بل ولا ما يحضّ عليه، وإنّما غاية ما تجد إفادة استحبابه إذا كان مقرونا بالتّدبّر. وأمّا ما يروى عن ابن عبّاس، قال: قال رجل: يا رسول الله، أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال: «الحالّ المرتحل»، قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: «الّذي

يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، كلّما حلّ ارتحل». فهذا حديث لا يصحّ (¬1). 2 - أنّ التّلاوة إنّما أريدت في الأصل؛ لتدبّر القرآن وفهمه والعمل به، وهذا على التّأنّي أعظم نفعا؛ لذلك كان الصّحابة في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن إلى أن يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل. ¬

(¬1) أخرجه التّرمذيّ (رقم: 2948) وابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 240) والحكيم في «النّوادر» (رقم: 852 - تنقيح) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 2783) والحاكم (رقم: 2088، 2089) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2001، 2069) من طرق عن صالح بن بشير المرّيّ، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده ضعيف جدّا، صالح المرّيّ، كان صالحا، لكنّه متروك الحديث. قال الحاكم: «تفرّد به صالح المرّيّ، وهو من زهّاد أهل البصرة». وقال التّرمذيّ: «هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن عبّاس إلّا من هذا الوجه، وإسناده ليس بالقويّ». ورواه بعضهم عن صالح المرّيّ، فلم يذكر في إسناده (عن ابن عبّاس). أخرجه الدّارميّ (رقم: 3350) والتّرمذيّ، وإسناده أوهى من المتّصل. وروي له شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم (رقم: 2090) من طريق مقدام بن داود بن تليد الرّعينيّ، حدّثنا خالد بن نزار، حدّثني اللّيث بن سعد، حدّثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال الذّهبيّ في «تلخيص المستدرك»: «موضوع على سند الصّحيحين، والمقدام متكلّم فيه، والآفة منه». كما أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» (رقم: 800) بسند واه. فهذا حديث لا يحلّ ذكره في الكتب إلّا لبيان وهائه.

المبحث السابع: ما جاء في نسيان الحفظ للقرآن

3 - ما ورد في التّوقيت لم يكن لبيان أقصى ما يختم به القرآن، بحيث لا يصلح الختم فيما زاد عليه، وإنّما كان توجيها لعبد الله بن عمرو بن العاص للتّأنّي في تلاوة القرآن وأخذ النّفس بالرّفق في ذلك، ممّا دلّ على أنّ تلك التّوجيهات أحسن ما ينبغي أن يراعى في تلاوة القرآن، كما سنبيّنه. 4 - وبيّنت فيما تقدّم قريبا أنّه لا يجب على المعيّن من المسلمين أن يقرأ كلّ القرآن، وإنّما يكفيه منه ما تصحّ به الصّلاة، ويغنيه لمعرفة أحكامه أهل العلم الّذين من وظيفته أن يشارك في إيجادهم. فهذه اعتبارات واضحة في أنّ من لم يختم القرآن في مدّة معيّنة أربعين يوما أو ستّين أو غير ذلك ليس بآثم، وليس بهاجر للقرآن ما دام عاملا به: مؤتمرا بأمره، منتهيا عن نهيه، حافظا لحدوده. واجعل من سبيلك أن لا تسمّي الأشياء إلّا بما سمّاها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به، ولا تستعملها إلّا حيث استعملها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تسلم بذلك من خطأ كثير. المبحث السابع: ما جاء في نسيان الحفظ للقرآن بيّنت في (المبحث الرّابع) من هذا الفصل ترغيب السّنّة في حفظ القرآن، وذلك وارد على كلّه أو بعضه. ودلالة ذلك التّرغيب إفادة أنّ حفظ القرآن مندوب إليه محبوب إلى الله

تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنّ هذا كاف لأصحاب الهمم العالية أن يشمّروا لأجله عن سواعدهم، ويشغلوا به فضلة أعمارهم. كما بيّنت أنّ الحفظ يزول بترك معاهدته، يضعف بقلّتها، فيقتضي إبقاؤه أن يديم صاحبه تلاوته آناء اللّيل والنّهار. وأحسن ما يثبّت حفظ القرآن: الصّلاة به، وأحسنه صلاة اللّيل. واعلم أنّ حفظ القرآن وتثبيت ذلك الحفظ من جملة العمل الصّالح الّذي ينبغي للعاقل أن يقايسه بسائر الأعمال، فيقدّم عليه من الأعمال الصّالحة ما هو أولى منه، كالواجبات وما هو أجلّ منه من الطّاعات، فإنّ حفظ القرآن كما قدّمنا مندوب إليه، ليس بواجب، فلو شغل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو بالجهاد في سبيل الله، أو طلب العلم، أو كسب الرّزق، ممّا لم يجد معه سعة من الوقت وفضلة لحفظ القرآن أو بعضه ممّا يزيد على الواجب منه، فينبغي أن يقدّم ذلك الأولى على الحفظ. وأولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أعلم بمراتب الثّواب، فمع شدّة تمسّكهم بالكتاب، إلّا أن حفظ القرآن كان في طائفة قليلة منهم (¬1). ¬

(¬1) عن محمّد بن سيرين، قال: «مات أبو بكر ولم يجمع القرآن». أخرجه ابن سعد (3/ 211) بإسناد صحيح إلى ابن سيرين، لكنّه لم يدرك أبا بكر. وأخرج كذلك (3/ 294) بنفس الإسناد إلى ابن سيرين، قال: «قتل عمر ولم يجمع القرآن». وهذا كالّذي قبله. والمعنى فيه أنّهما رضي الله عنهما لم يحفظا القرآن كلّه إلى أن فارقا الدّنيا.

قال خالد بن الوليد، رضي الله عنه: «لقد شغلني الجهاد في سبيل الله عن كثير من قراءة القرآن» (¬1). وكذلك من حفظ شيئا منه، أو حفظه، فذهب عليه شيء من حفظه لانشغاله بالأولى، فلا حرج عليه، ولو وقع فوات بعض حفظه بتفريط منه، فهذا مكروه قبيح، عليه أن يجتهد في مجانبته؛ لما تقدّم بيانه من الحثّ النّبويّ على تعاهده ومراجعته، وإن كنّا لم نجد في النّصوص الثّابتة ما نؤثّمه به. أمّا ما يروى من الوعيد في ذلك فلا يثبت منه شيء، وفيه حديثان: الأوّل: «عرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثمّ نسيها» (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 189) قال: حدّثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: قال خالد، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، وابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريّا. (¬2) حديث منكر. أخرجه أبو داود (رقم: 461) والتّرمذيّ (رقم: 2916) وابن خزيمة (رقم: 1297) والبيهقيّ في «شعب الإيمان» (رقم: 1966) والخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 83) وابن عبد البرّ في «التّمهيد» (14/ 135 - 136) من طريق عبد الوهّاب بن الحكم الورّاق، قال: حدّثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمّتي حتّى القذاة يخرجها الرّجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمّتي ... » وذكر باقي الحديث. قال التّرمذيّ: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وذاكرت به محمّد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= بن إسماعيل (يعني البخاريّ) فلم يعرفه، واستغربه» ثمّ نقل عن عليّ بن المدينيّ والدّارميّ عدم سماع المطّلب من أنس، ومعناه عن البخاريّ. قلت: لهذا الحديث علل، أولاها: ابن جريج لم يذكر سماعا، وهو قبيح التّدليس، إنّما يدلّس عن المتروكين. وثانيها: ما أورده التّرمذيّ عن الأئمّة من عدم سماع المطّلب من أنس. وثالثها: الاختلاف فيه، فكما رأيت رواه الورّاق عن عبد المجيد، ورواه محمّد بن يزيد الأدميّ، قال: حدّثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، قال حدّثنا ابن جريج، عن الزّهريّ، عن أنس، به مرفوعا. أخرجه أبو الشّيخ في «طبقات الأصبهانيين» (رقم: 635) والطّبرانيّ في «الصّغير» (رقم: 538) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 11 - 12) من طريقين عن الأدميّ. قال الطّبرانيّ: «لم يروه عن ابن جريج عن الزّهريّ عن أنس إلّا عبد المجيد، تفرّد به محمّد بن يزيد الأدميّ، وروى هذا الحديث غير محمّد عن عبد المجيد عن ابن جريج عن المطلّب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس بن مالك». للآدميّ موافق على هذا الإسناد، لكنّ الطّريق إليه واه. أخرجه الخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 84) من طريق محمّد بن إبراهيم بن زياد، قال: حدّثنا محمّد بن رباح، قال: حدّثنا عبد المجيد، به. ابن زياد هذا هو الطّيالسيّ الرّازيّ متروك الحديث ليس بثقة. قلت: لا مؤاخذة فيه على الأدميّ، ولا على الورّاق، فكلاهما ثقتان، وإنّما هذا من اضطراب عبد المجيد، فإنّه كان يخطئ في حديثه. وخالفه من هو أتقن منه: فأخرج الحديث عبد الرّزّاق (رقم: 5977) - ومن طريقه: الخطيب (رقم: 82) - عن ابن جريج، عن رجل، عن أنس. وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 201): حدّثنا حجّاج (هو ابن محمّد الأعور)، عن ابن جريج، قال: حدّثت عن أنس، به. قلت: وعبد الرّزّاق وحجّاج ثقتان حافظان، وهما أولى من عبد المجيد، وزادا الإسناد علّة. =

والثّاني: «ما من امرئ يقرأ القرآن ثمّ ينساه، إلّا لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة أجذم» (¬1). ¬

= وزاد حجّاج في روايته: قال ابن جريج: وحدّثت عن سلمان الفارسيّ أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكبر ذنب توافي به أمّتي يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم فنسيها». قلت: وإسناده معضل. ورواه بعض من لا يعرف، بإسناد آخر عجيب لا يشكّ من الحديث صناعته أنّه مركّب موضوع، وذلك من طريق حاجب بن سليمان المنبجيّ، حدّثنا وكيع بن الجرّاح، حدّثنا سفيان، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، به مرفوعا. أخرجه أبو الفضل الرّازيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 5). فهذا إسناد بالقدر الّذي ذكرناه منه: حاجب ثقة، ومن فوقه شرط الصّحيح، ولكن تسلسل إسناد الرّازيّ إلى حاجب برواة لا يعرفون. فهذه جميع طرق هذا الحديث، وقد بدا لك منها العور. وقال ابن عبد البرّ بعد حديث أنس: «ليس هذا الحديث ممّا يحتجّ به لضعفه». وروى ابن أبي شيبة (رقم: 29989) قال: حدّثنا وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ الذّنوب، فلم أر فيها شيئا أعظم من حامل القرآن وتاركه». قلت: وهذا معناه فيه بعض اختلاف عن الحديث السّابق، وهو ضعيف جدّا، إبراهيم بن يزيد هو المعروف ب (الخوزيّ) متروك الحديث، والوليد من أتباع التّابعين وقد رفع الحديث، وهذا إعضال. (¬1) حديث منكر. رواه يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. =

وهذان الحديثان لو ثبتا لكان معنى النّسيان فيهما الإعراض عن العمل لا نسيان الحفظ؛ لما شرحناه قبل؛ ولأنّ حفظ الآية أو السّورة عن ظهر قلب ليس بواجب، فكيف يكون فواتها بالنّسيان الّذي لا ينفكّ عنه البشر أعظم الذّنوب؟ فأين النّفاق والموبقات وسائر الكبائر، وكلّها توجد في الأمّة؟ هذا ممّا لا يجري على الأصول، ولا ينضبط مع صريح المعقول. ولم يجعل الله العصمة من نسيان بعض حفظ القرآن حتّى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف بسائر أمّته؟ كما قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ* [الأعلى: 6 - 7]، هذا مع ما آتاه الله من جمع القرآن له في صدره، كما قال: ¬

= أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 5989) وأبو داود (رقم: 1474) والخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 85) وابن عبد البرّ في «التّمهيد» (14/ 131 - 132). وقال مرّة: عيسى بن فائد عن رجل عن سعد، ومرّة: عيسى عمّن سمع سعدا. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29986) وسعيد بن منصور في «فضائل القرآن» من «سننه» (رقم: 18) وأحمد (5/ 284، 285) والدّارميّ (رقم: 3219) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 202) و «غريب الحديث» (3/ 48) وعبد بن حميد (رقم: 306) والحربيّ في «غريب الحديث» (2/ 428) والبزّار (رقم: 1642 - كشف) وابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 162) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 5390، 5391، 5392) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 1969، 1970) وأبو الفضل الرّازيّ في «الفضائل» (رقم: 1) والخطيب في «أخلاق الرّاوي» (رقم: 86). قلت: وإسناد هذا الحديث ضعيف جدّا تسلسل بعلل ثلاث: يزيد بن أبي زياد ضعيف الحديث، وعيسى قيل فيه: ابن فائد، وقيل: ابن لقيط، مجهول، وواسطته إلى سعد مجهولة.

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 19 [القيامة: 16 - 19]، فدلّ بطريق الأولى على أنّ الواحد من أمّته صلى الله عليه وسلم معذور بما يقع له من تفلّت الحفظ؛ لكون ذلك ممّا طبع عليه الإنسان فلا طاقة له إلى التّحرّز منه، ومن فضل الله على هذه الأمّة أن وضع عنها الإثم بالنّسيان. وبيّن الإمام سفيان بن عيينة المراد بالنّسيان في ذينك الحديثين أنّه التّرك، كما قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية: 34]، قال: «وليس من اشتهى حفظه وتفلّت منه بناس له، إذا كان يحلّ حلاله، ويحرّم حرامه؛ لأنّ هذا ليس بناس له، ولو كان كذلك ما نسّى النّبيّ عليه السّلام منه شيئا، وقد نسّى، وقال: ذكّرني هذا آية نسّيتها (¬1)، وقال الله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6 - 7]، فلم يكن الله لينسي نبيّه عليه السّلام والنّاسي كما يقول هؤلاء الجهّال!» (¬2). فإن قيل: المراد بالذّمّ والوعيد ترك تعاهد الحفظ. قلنا: بيّنّا أنّ ذلك التّعاهد مندوب، إذ الحفظ في أصله مندوب إلّا لما ¬

(¬1) يريد حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة باللّيل، فقال: «يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا». متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 2512، 4750، 4751، 4755، 5976) ومسلم (رقم: 788). (¬2) أخرجه ابن عبد البرّ في «التّمهيد» (14/ 132 - 133).

تصحّ به الصّلاة، فلا تنتقل مذاكرته إلى الوجوب، وإنّما كرهنا أن يفرّط فيما حفظ، لكثرة ما يفوته من الفضل بفواته. وقد وجدت طائفة من أفاضل العلماء يوردون الحرج على كثير من عامّة المسلمين بهذين الحديثين، وربّما حال ذلك دون إقبال بعض النّاس على حفظ القرآن؛ خوفا من الوعيد الوارد فيهما، ففاتهم بسببه خير عظيم. والّذي نحثّ عليه كلّ مسلم أن يهتدي بهدي أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حفظهم للقرآن، كمّا وكيفا، استظهارا لألفاظه وفهما لمعانيه وعملا بأحكامه وشرائعه، وأن يقدّم الاعتناء بالتّدبّر والعمل على مجرّد استظهار حفظه، فذلك الغرض الّذي لأجله أنزل القرآن، وإنّما يراد الحفظ ليستعان به على هذا الغرض، لا للاستكثار والمباهاة وأن يقول النّاس: (فلان حافظ)، نسأل الله العافية في الدّنيا والآخرة. تذييل: وتثبيت حفظ القرآن يكون بامتثال الأمر النّبويّ بتعاهده، وسؤال الله تعالى التّوفيق والعون على ذلك. أمّا ما يروى ممّا يسمّى ب (صلاة حفظ القرآن) فهو بدعة غير مشروعة، إذ الرّواية فيها ساقطة موضوعة، وهي أربع ركعات تؤدّى ليلة الجمعة، وتقرأ فيها سور معيّنة، ويقال فيها دعاء مخصوص، وتكرّر في أسابيع (¬1). ... ¬

(¬1) وردت هذه الصّلاة في حديث طويل، روي من حديث عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بيّنت وهاءه في «علل الحديث».

الفصل الثالث: أدب تلاوة القرآن

الفصل الثالث: أدب تلاوة القرآن المبحث الأول: آداب قارئ القرآن على قارئ القرآن أن يلتزم معه من الأحوال والآداب أمورا، منها: إخلاص النّيّة في قراءته لله تعالى، لا يقصد به دنيا من ذكر أو جاه أو مال، كما هو الشّأن في كلّ عمل صالح الأصل أن تبتغى به الآخرة. فعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا فيه قوم يقرءون القرآن، قال: «اقرءوا القرآن وابتغوا به الله عزّ وجلّ، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجّلونه ولا يتأجّلونه» (¬1). وهذا الحديث يوجب أن تكون النّيّة في قراءة القرآن لوجه الله تعالى، ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 14855) وأبو يعلى (رقم: 2197) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2643، 2644) من طرق عن أسامة بن زيد اللّيثيّ، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر، به. قلت: وإسناده حسن، أسامة بن زيد صدوق حديثه حسن، والحديث تقدّم ذكره بإسناد صحيح عن جابر، (ص: 442).

ويحذّر من حال من يجتهد في إتقان تلاوته وضبطها ولكنّه يريد بذلك أجرا عاجلا، ودنيا زائلة، وجاها فاسدا، فهذا من أخسر النّاس صفقة. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه ثمّ ألقي في النّار» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 8277) ومسلم (رقم: 1905) والنّسائيّ (رقم: 3137) و «فضائل القرآن» (رقم: 108) من طرق عن ابن جريج، حدّثني يونس بن يوسف، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، به. ورواه غيره عن أبي هريرة كذلك.

هل يجوز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن؟

ويتخرّج على هذا من المسائل: هل يجوز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن؟ جواب ذلك: حكمها معلّق بالمقاصد، فإن كان قصد التّالي التّأكّل بالقرآن وتعجيل أجره عليه حرمت عليه الأجرة، وإن قصد التّعليم ونفع النّاس وتفرّغ له جاز أن يأخذها بدل تفرّغه لذلك، وهذا القول يجمع- إن شاء الله- بين مذاهب العلماء المختلفة. والدّليل عليه من وجوه ثلاثة: الأوّل: ثبوت النّصّ بجواز أخذ الأجرة على منفعة القراءة. فعن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما: أنّ نفرا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّوا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إنّ في الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشّاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا! حتّى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 5405). وبمعناه في «الصّحيحين» من حديث أبي سعيد الخدريّ: أخرجه البخاريّ (رقم: 2156، 4721، 5404، 5417) ومسلم (رقم: 2201). والشّاء: جمع شاة.

الثّاني: السّلامة من المعارض الثّابت الّذي لا يقبل التّأويل. وما روي: «من أخذ قوسا على تعليم القرآن قلّده الله قوسا من نار» فهو حديث ضعيف (¬1). ولو ثبت فمحمول على خلوّ صاحبه من إرادة وجه الله بذلك العمل. الثّالث: أنّ تعليم القرآن واجب على الكفاية، فلو ترك لتطوّع من شاء لقصّر النّاس فيه؛ لانشغالهم بطلب المعاش وسعيهم في مصالح حياتهم، فلزمهم أن يوجدوا من بينهم من يكفيهم ذلك الواجب، وهذا لا يكون إلّا بتهيئة الأسباب للقيام به، وأهمّ تلك الأسباب تفريغ المعلّمين والمقرئين والقيام بأسباب معاشهم بما لا يكونون به أدنى من أمثالهم من أهل مجتمعهم وبيئتهم. ومثل ذلك سائر العلوم الدّينيّة. وعلى قارئ القرآن أن يقرأه قراءة متدبّر؛ لينتفع بتلاوته من جهتين: فهم القرآن، وهو أعظم الغايتين، واحتساب الأجر بالتّلاوة. ¬

(¬1) أخرجه البيهقيّ في «الكبرى» (6/ 126) وابن عساكر في «تاريخه» (7/ 271 و 8/ 437، 438) من حديث أبي الدّرداء. وإسناده مدلّس واه. وروي بمعناه من حديث عبادة بن الصّامت، وأبيّ بن كعب، والطّفيل بن عمرو الدّوسيّ، وعوف بن مالك، ولا يثبت منها شيء، بل ليس فيها ما يقوّي بعضه بعضا، كما شرحت علله في «علل الحديث».

وهذا يقتضي أن تكون قراءته بتأنّ وترسّل، وهو التّرتيل، على المعنى الّذي بيّنته في الفصل الأوّل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما يقتضي أن لا يكون همّه آخر السّورة، أو أن يكثر من الختمات، فهذا خلاف هدي السّلف من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقال: إنّي لأقرأ المفصّل في ركعة، فقال عبد الله: «هذّا كهذّ الشّعر؟ إنّ أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» (¬1). وعن أبي جمرة (نصر بن عمران) الضّبعيّ قال: قلت لابن عبّاس: إنّي سريع القراءة، وإنّي أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبّرها وأرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ كما تقول». وفي لفظ: «أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة» (¬2). وفي سياق آخر، قال أبو جمرة: قلت لابن عبّاس: إنّي رجل سريع القراءة، فربّما قرأت القرآن في ليلة مرّة أو مرّتين، فقال ابن عبّاس: «لأن ¬

(¬1) أثر صحيح. متّفق عليه، واللّفظ لمسلم، سبق تخريجه (ص: 133 - 134). (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 157، 158) و «غريب الحديث» (4/ 220) وابن الضّريس في «الفضائل» (رقم: 32) والآجرّيّ في «أخلاق حملة القرآن» (ص: 222) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 396) و «الشّعب» (رقم: 2040، 2158) من طرق عن أبي جمرة، به. وإسناده صحيح. والهذرمة: السّرعة في القراءة.

أقرأ بسورة واحدة أعجب إليّ من أن أفعل مثل الّذي تفعل، فإن كنت فاعلا بعد فاقرأه قراءة تسمع أذنيك ويعيه قلبك» (¬1). وأحسن ما يصار إليه في أدنى مدّة يختم فيها القرآن وأقصاها، هو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه. وأبين ما ورد في ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أنّه كان يختم في كلّ ليلة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في كلّ شهر» قال: قلت: يا نبيّ الله، إنّي أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ عشرين» قال: قلت: يا نبيّ الله، إنّي أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ عشر» قال: قلت: يا نبيّ الله، إنّي أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ سبع، ولا تزد على ذلك» (¬2). وفي رواية: بدأ بشهر، فخمس وعشرين، فعشرين، فخمس عشرة، فسبع (¬3). وفي رواية أخرى: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأه في أربعين، ثمّ في شهر، ثمّ ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2159) من طريق شبابة بن سوّار، حدّثنا أبو جمرة، به. وإسناده صحيح. (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه، واللّفظ لمسلم: أخرجه البخاريّ (رقم: 4766، 4767) ومسلم (رقم: 1159). (¬3) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 6546) من طريق همّام بن يحيى، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشّخّير، عن عبد الله بن عمرو، به. وإسناده صحيح.

في عشرين، ثمّ في خمس عشرة، ثمّ في سبع (¬1). وهذا غير متعارض، وإنّما يزيد الرّاوي على غيره ما ليس عنده من العلم، وهذه المدد المذكورة حسن اتّباعها والوقوف عندها، فينبغي للتّالي أن يجعل ورده في يومه وليلته على اختيار مدّة منها يقسم عليها ختمته. وكان كثير من السّلف يختارون السّبع كأدنى مدّة للختم، لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «فاقرأه في كلّ سبع، ولا تزد على ذلك». ومعنى النّهي: لا تنزل إلى ما دون ذلك، وليس هو للتّحريم، وإنّما لبيان الأولى؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو في نفس هذه القصّة: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» (¬2). ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه ابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 138) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 94) من طريق محمّد بن ثور، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن وهب بن منبّه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، به. وإسناده حسن، لحسن سلسلة (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه). ورواه عبد الرّزّاق الصّنعانيّ عن معمر، وفي إسناده سقط، وهذا الطّريق أصحّ، فمحمّد بن ثور ثقة. (¬2) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 8573) وأحمد (رقم: 6535، 6546، 6775، 6810، 6841) وأبو داود (رقم: 1390، 1394) والتّرمذيّ (رقم: 2949) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 92) وابن ماجة (رقم: 1347) والدّارميّ (رقم: 1464) وابن حبّان (رقم: 758) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2168) من طريق قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشّخّير، عن عبد الله بن عمرو، به. قلت: وإسناده صحيح. وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح»

فهذا إذن في الختم فيما دون السّبع، لكنّه انتهى به إلى الثّلاث، ومقتضاه عدم الإذن فيما دون ذلك. فما يروى عن بعض السّلف أنّه كان يختم كلّ ليلة يردّ صنيعه هذا الحديث الصّحيح، والعذر فيه لمن فعله منهم أن يكون لم يبلغه الحديث فيه. وكانت عائشة، رضي الله عنها، تقول: «ولا أعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كلّه في ليلة» (¬1). وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «اقرءوا القرآن في سبع، ولا تقرءوه في أقلّ من ثلاث، وليحافظ الرّجل في يومه وليلته على جزئه» (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 53 - 54) ومسلم (رقم: 746) وأبو داود (رقم: 1342) والنّسائيّ (رقم: 1601، 1641، 2182، 2348) وابن ماجة (رقم: 1348) والدّارميّ (رقم: 1447) من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، به، عند أكثرهم ضمن حديث مطوّل. (¬2) أثر صحيح. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 5948) وسعيد بن منصور في «فضائل القرآن» من «سننه» (رقم: 146) وابن أبي شيبة (رقم: 8585) والفريابيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 130، 131) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 8707، 8708، 8709) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 396) و «الشّعب» (رقم: 2173) من طرق عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، به. قلت: وإسناده صحيح.

ومما يعين قارئ القرآن على التدبر أمور يراعيها حال التلاوة، منها

كما قال رضي الله عنه: «من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث فهو راجز» (¬1). الرّجز: شعر خفيف الوزن خفيف الأداء، وقيل: يشبه الشّعر، قال ابن الأثير: «إنّما سمّاه راجزا؛ لأنّ الرّجز أخفّ على لسان المنشد، واللّسان به أسرع من القصيد» (¬2). وترك الختم إلى ما فوق الأربعين لا ينبغي ما وجد المسلم إليه سبيلا، ولم يشغله عنه ما هو أولى في تقدير الشّرع، أقول هذا مع أنّي لا أرى الأربعين خرجت مخرج التّحديد لأكثر مدّة للختم كمّا بيّنته في الفصل السّابق. وممّا يعين قارئ القرآن على التّدبّر أمور يراعيها حال التّلاوة، منها: 1 - أن يقرأ في موضع سكون، ويجتنب القراءة في مواضع اللّغط وارتفاع الأصوات؛ لما يقع بها من التّشويش عليه فلا يتحقّق له المقصود من التّلاوة على وجهه. وقد أمر الله تعالى من حضر التّلاوة بالإنصات، لتحقيق نفع المستمع والتّالي، فالمستمع لئلّا يشغل عن القرآن بغيره وهو يسمعه، والتّالي لئلّا يرد ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 5946) - ومن طريقه: الطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 8701) - عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، أبو إسحاق هو السّبيعيّ، وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك الجشميّ. (¬2) النّهاية في غريب الحديث (2/ 200).

2 - أن يتهيأ لتلاوته بصفاء الفكر،

عليه من التّشويش ما يفوّت عليه التّدبّر، كما قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 [الأعراف: 204]. ولتحقيق هذا المعنى منع المصلّي من رفع صوته بالقراءة إذا كان مع غيره، كما في حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتكف وخطب النّاس، فقال: «أما إنّ أحدكم إذا قام في الصّلاة فإنّه يناجي ربّه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربّه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصّلاة» (¬1). وفي مراعاة هذا الأدب من الفائدة: عدم إلجاء من لم يتهيّأ للاستماع إلى أن ينصت ويستمع، وهو مأمور بذلك إذا سمع القرآن، كما تقدّم. 2 - أن يتهيّأ لتلاوته بصفاء الفكر، فلا يقرأ وهو يدافع الأخبثين، أو وهو مشغول الفكر بشيء من أمر الدّنيا، فهذا أدعى للخشوع، وآكد في الانتفاع. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 4928) - ومن طريقه: الطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 13572) - قال: حدّثنا إبراهيم بن خالد، حدّثنا رباح، عن معمر، عن صدقة المكّيّ، عن ابن عمر، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، صدقة هو ابن يسار، ومعمر هو ابن راشد، ورباح هو ابن زيد الصّنعانيّ، وإبراهيم هو الصّنعانيّ المؤذّن، وكلّهم ثقات، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يستحسن هذا الحديث (تهذيب الكمال: 13/ 157). ورواه غير معمر عن صدقة، كما رواه غير ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

3 - أن يبدأ قراءته بالاستعاذة بالله من الشيطان، فإنها مطردة له.

ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة الطّعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» (¬1). 3 - أن يبدأ قراءته بالاستعاذة بالله من الشّيطان، فإنّها مطردة له. لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ 100 [النّحل: 98 - 100]. ويتّصل بالاستعاذة مسألتان: الأولى: حكمها: هي مندوبة عند كلّ تلاوة داخل الصّلاة وخارجها، للأمر بها في كتاب الله تعالى، ولما ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم قبل قراءته في الصّلاة (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 42، 54، 73) ومسلم (رقم: 560) وأبو داود (رقم: 89) من طرق عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة، عن عبد الله بن أبي عتيق، عن عائشة، به. والأخبثان: البول والغائط. (¬2) روي ذلك من حديث جماعة من الصّحابة، منهم أبو سعيد الخدريّ، وعبد الله بن مسعود، وجبير بن مطعم، وأبو أمامة الباهليّ، وغيرهم، وجميع أسانيدهم معلّلة، ولكنّ مجموعها يثبت لذلك أصلا، وأدنى ما يقال معه في شأن الاستعاذة: حسن الرّواية بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتفصيل القول في ذلك في «علل الحديث».

فإن قلت: كيف تكون مندوبة لا واجبة مع أمر الله تعالى بها؟ قلت: لما علمناه من هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو البيان للقرآن. فعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر في الصّلاة سكت هنيّة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي، أرأيت سكوتك بين التّكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول: اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهمّ نقّني من خطاياي كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، اللهمّ اغسلني من خطاياي بالثّلج والماء والبرد» (¬1). فلم يذكر الاستعاذة، ولو كانت واجبة لبيّنها من جملة ما يقول في سرّه؛ لأنّه لم يأت في شيء من الأخبار أنّه كان يجهر بها في الصّلاة، فحيث إنّ الجهر بها في الصّلاة ليس من السّنّة، وبيّن لأبي هريرة نصّا ما يقوله بين تكبيرة الإحرام والقراءة وليس فيه ذكر للاستعاذة، فدلّ على أنّها ليست على النّاس بواجبة، وحيث إنّه صلى الله عليه وسلم جاء عنه في غير قصّة أبي هريرة ذكر الاستعاذة قبل القراءة، فدلّ على أنّه كان يفعل ذلك أحيانا ويدعه أحيانا. وكذلك فإنّا نعلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في الأحوال المختلفة، فلم يرد عنه التزام الاستعاذة كلّما قرأ القرآن قليلا منه أو كثيرا، فدلّ أيضا على استحبابها. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 711) ومسلم (رقم: 598).

والثانية: صيغتها

والقول بذلك مذهب جمهور أهل العلم (¬1). وهي مستحبّة لكلّ قارئ، قرأ وحده، أو قرأ في جماعة، لكنّها لا تستحبّ للآية أو الآيات في ثنايا الخطب والمواعظ وأجوبة فتاوى النّاس، فإنّ السّنن قد استفاضت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يذكر استعاذة عند الاستدلال أو الاستشهاد بآية من القرآن، وهذا على خلاف ما يفعله بعض الوعّاظ اليوم. ولو قطع التّالي تلاوته ثمّ عاد بعد طول فصل حسن أن يستعيذ. والثّانية: صيغتها: الاستعاذة جائزة بكلّ ما تحقّق به امتثال الأمر، والّذي عليه اختيار جميع القرّاء من حيث الرّواية: (أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم) وعليه عامّة الفقهاء (¬2). والجهر بالاستعاذة أو الإسرار يتبع القراءة، فإن كانت سرّا أسرّ، وإن كانت جهرا جهر، إلّا في الصّلاة، لما بيّنته من دلالة السّنّة على ترك الجهر بها فيها. 4 - أن يحسّن صوته بقراءته ما استطاع دون تكلّف. على ذلك دلّت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) النّشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 257 - 258). (¬2) النّشر (1/ 243).

«زيّنوا القرآن بأصواتكم» (¬1). وفي لفظ: «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصّوت الحسن يزيد القرآن حسنا» (¬2). والمعنى: حسّنوا أصواتكم وأنتم تتلون القرآن، فذلك ممّا يزيد أثر القرآن في النّفس. والمعنى في حسن الصّوت: التّطريب والتّغنّي. واختلف السّلف فيه، فذهبت طائفة منهم إلى كراهته، لما رأوا من شبه ذلك بأصوات الغناء، وذهب آخرون إلى شرعيّته واستحبابه، والفصل في ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 283، 285، 296، 304) والبخاريّ في «أفعال العباد» (رقم: 250 - 254، 256) وأبو داود (رقم: 1468) والنّسائيّ (رقم: 1015، 1016) وفي «فضائل القرآن» (رقم: 75) وابن ماجة (رقم: 1342) والدّارميّ (رقم: 3372) من طرق عن طلحة بن مصرّف، عن عبد الرّحمن بن عوسجة، عن البراء، به. قلت: وإسناده صحيح. وعلّقه البخاريّ في «الصّحيح» (6/ 2743) بصيغة الجزم، وله طريقان آخران عن البراء، وله شاهد من حديث أبي هريرة، كما شرحته في «علل الحديث». (¬2) حديث حسن. أخرجه الدّارميّ (رقم: 3373) والحاكم (رقم: 2125) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2141) من طريق صدقة بن أبي عمران، عن علقمة بن مرثد، عن زاذان أبي عمر، عن البراء، به مرفوعا. قلت: وإسناده حسن، صدقة صدوق لا بأس به.

ذلك لسنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّها قد بيّنت صحّة مذهب القائلين باستحباب ذلك من أهل العلم، كحديث البراء هذا. كذلك حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يأذن الله لشيء ما أذن للنّبيّ أن يتغنّى بالقرآن» (¬1). والمعنى: لم يستمع الله لشيء استماعه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في تغنّيه بالقرآن. ولا معنى للتّغنّي هنا إلّا تحسين الصّوت؛ لقرينة ذكر الاستماع. وعن أبي موسى الأشعريّ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» (¬2). فشبّه صوت أبي موسى بالقرآن بأصوات المزامير، والجامع بينهما الصّوت المطرب الّذي يأخذ بمجامع القلوب. وفي المسألة من الأحاديث أكثر من هذا، لكنّ هذا أصحّه وأبينه، وهو كاف في إفادة المقصود. وحاصله: أنّ قراءة القرآن بالأصوات المطرّبة مشروع محبوب. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه، أخرجه البخاريّ (رقم: 4735، 4736، 7044، 7105) ومسلم (رقم: 792). (¬2) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4761) ومسلم (1/ 546) واللّفظ له.

قال الشّافعيّ، رحمه الله: «لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصّوت بأيّ وجه ما كان، وأحبّ ما يقرأ إليّ حدرا وتحزينا» (¬1). وليس لحسن الصّوت حدّ ينتهى إليه، وهو بحسب ما آتى الله الإنسان من ذلك، لكن يجب على التّالي بالألحان أن لا يجاوز أحكام التّجويد وقواعد التّلاوة. ويروى هاهنا حديث شائع «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق، فإنّه سيجيء من بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والرّهبانيّة والنّوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الّذين يعجبهم شأنهم». وهذا حديث لا يصحّ (¬2)، ولو صحّ فوجه المنع إنّما هو من التّطريب الّذي يقع معه اللّحن والخروج عن الصّواب في القراءة، كما يوحي إليه ذكر لحون العرب، أمّا التّطريب مع المحافظة على حقّ التّلاوة، فذلك من هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال أبو الحسن الماورديّ: «إذا أخرجت ألفاظ القرآن عن صيغته، ¬

(¬1) مختصر المزنيّ (ص: 311)، الأمّ (6/ 210)، مناقب الشّافعيّ، للبيهقيّ (1/ 280). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 165) والحكيم في «النّوادر» (رقم: 857) والطّبرانيّ في «الأوسط» (رقم: 7219) وغيرهم عن حذيفة، به مرفوعا. وإسناده ضعيف جدّا، بيّنت علّته في كتابي «الغناء والمعازف في الميزان».

بإدخال حركات فيه وإخراج حركات منه، يقصد بها وزن الكلام وانتظام اللّحن، أو مدّ مقصور، أو قصر ممدود، أو مطّط حتّى خفي اللّفظ والتبس المعنى، فهذا محظور يفسق به القارئ، ويأثم به المستمع؛ لأنّه قد عدل به عن نهجه إلى اعوجاجه، والله تعالى يقول: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزّمر: 28]، وإذا لم يخرجه اللّحن عن صيغة لفظه وقراءته على ترتيله، كان مباحا؛ لأنّه قد زاد بألحانه في تحسينه وميل النّفس إلى سماعه» (¬1). 5 - أن يجتهد في الخشوع، ولا بأس بالبكاء، بل هو حسن لمن قدر عليه من غير تكلّف. قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزّمر: 23]. وقال عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 17 [الحديد: 16 - 17]. وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ¬

(¬1) الحاوي الكبير (17/ 198).

يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً 109 [الإسراء: 106 - 109]. كما قال عزّ وجلّ: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 58]. فهذه الآيات البيّنات واضحة الدّلالة على الأمر بالخشوع، وبيان ما يكون من حال الصّفوة من عباد الله من النّبيّين وأولي العلم عند سماع الآيات تتلى عليهم من الخضوع والبكاء من خشية الله. وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ»، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «فإنّي أحبّ أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النّساء، حتّى بلغت: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً 41 قال: «أمسك»، فإذا عيناه تذرفان. وفي لفظ: فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل (¬1). وهذا معنى يشترك فيه التّالي والمستمع. وعلى هذه الصّفة كان أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4306، 4762، 4763، 4768، 4769) ومسلم (رقم: 800) واللّفظ الثّاني له.

فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء» (¬1). وعن عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: سمعت نشيج عمر بن الخطّاب وأنا في آخر الصّفوف في صلاة الصّبح، يقرأ من سورة يوسف، يقول: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] (¬2). فهذا حال إمامي الأمّة بعد نبيّها صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهما، وذلك واقع في صلاة وفي غيرها، وهو أمر يجلبه الخشوع للقرآن، لا يملك الخاشعون ردّه وهم يتلون آيات الله أو تتلى عليهم، ولذا سيق ذلك عنهم مساق المدح. ¬

(¬1) جزء من حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 650) من طريق الزّهريّ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، به ضمن قصّة مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو في «الصّحيحين» بمعناه من حديث عائشة نفسها. (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 3565) ويحيى بن معين في «تاريخه» (رقم: 2213) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2057) من طريق إسماعيل بن محمّد بن سعد، سمع عبد الله بن شدّاد، به. قلت: علّقه البخاريّ في «صحيحه» (1/ 252) بصيغة الجزم، وإسناده صحيح، وصحّح إسناده الحافظ ابن حجر في «تغليق التّعليق» (2/ 330). تابع ابن الهاد عليه: علقمة بن وقّاص، قال: صلّيت خلف عمر بن الخطّاب، فقرأ سورة يوسف، فكان إذا أتى على ذكر يوسف سمعت نشيجه من وراء الصّفوف. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 3566) وابن أبي الدّنيا في «الرّقّة والبكاء» (رقم: 417) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2058) من طريق ابن جريج، قال: حدّثنا ابن أبي مليكة، عن علقمة، به. وإسناده صحيح.

وكذلك حكت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما من حال الصّحابة: فعن عبد الله بن عروة بن الزّبير، قال: قلت لجدّتي أسماء: كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت: «كانوا كما نعتهم الله عزّ وجلّ: تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم»، قلت: فإنّ ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، فقالت: «أعوذ بالله من الشّيطان» (¬1). وفي هذا إنكار من أسماء أن يبلغ الخشوع بصاحبه إلى الغشيان، وإنّما ذلك بالقشعريرة ودمع العين، كذلك كان حال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه، ولا يعرف ذلك الغشيان فيهم، ولا يثبت عن أحد منهم أنّه كان يصعق عند القرآن، إنّما ذكر ذلك عمّن بعدهم، وهدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحسن الهدي وأكمله. وما يروى في تكلّف البكاء فلا يصحّ، كحديث: «إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» (¬2). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه سعيد بن منصور في «فضائل القرآن» من «سننه» (رقم: 95) قال: حدّثنا هشيم، قال: حدّثنا حصين، عن عبد الله بن عروة، به. قلت: إسناده صحيح، هشيم هو ابن بشير، وحصين هو ابن عبد الرّحمن. (¬2) أخرجه ابن ماجة (رقم: 1337، 4196) وأبو يعلى (2/ رقم: 689) والبيهقيّ في «السّنن» (10/ 231) من طرق عن الوليد بن مسلم، حدّثنا أبو رافع، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرّحمن بن السّائب، قال: قدم علينا سعد بن أبي وقّاص وقد كفّ بصره، فسلّمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحبا بابن أخي، بلغني أنّك حسن الصّوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره، وزاد: «وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ به فليس منّا». قلت: إسناده ضعيف، أبو رافع اسمه إسماعيل بن رافع، ضعيف منكر الحديث.

6 - أن يستحضر أنّه مخاطب بما يقرأ، فيتأمّل ذكر التّوحيد والإيمان، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، والقصص والأمثال، ويلاحظ ما يلزمه من ذلك من التّصديق والامتثال والاعتبار، ويراعي الجواب في موضع السّؤال، ولا يفوّت ما تقتضيه الآية من تسبيح أو تحميد أو تكبير أو استغفار أو دعاء، ويغتنم ذكر الجنّة بالرّغبة إلى ربّه وسؤاله الفوز بدخولها، وذكر النّار بالرّهبة وسؤاله ربّه النّجاة منها. عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، قال: فافتتح البقرة، فقرأ حتّى بلغ رأس المائة، فقلت: يركع، ثمّ مضى حتّى بلغ المائتين، فقلت: يركع، ثمّ مضى حتّى ختمها، قال: فقلت: يركع، قال: ثمّ افتتح سورة آل عمران، حتّى ختمها، قال: فقلت: يركع، قال: ثمّ افتتح سورة النّساء، فقرأها، قال: ثمّ ركع، قال: فقال في ركوعه: سبحان ربّي العظيم، قال: وكان ركوعه بمنزلة قيامه، ثمّ سجد، فكان سجوده مثل ركوعه، وقال في سجوده: سبحان ربّي الأعلى، قال: وكان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية فيها عذاب تعوّذ (وفي لفظ: استجار)، وإذا مرّ بآية فيها تنزيه لله عزّ وجلّ سبّح (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 382، 384، 389، 394، 397) ومسلم (رقم: 772) وأبو داود (رقم: 871) والتّرمذيّ (رقم: 262) والنّسائيّ (رقم: 1008، 1009، 1133، 1664) وابن ماجة (رقم: 1351) والدّارميّ (رقم: 1281) من طرق عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن مستورد بن أحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة. السّياق لأحمد واللّفظ الآخر لابن ماجة. قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح». وله شاهد من حديث عوف بن مالك، وآخر من حديث عائشة، بنحوه.

وعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى 1 قال: «سبحان ربّي الأعلى» (¬1). وعن ابن عبّاس، قال: «إذا قرأ أحدكم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى 1 فليقل: سبحان ربّي الأعلى، وإذا قرأ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى 40 [القيامة: 40] فليقل: اللهمّ بلى، أو: اللهمّ سبحان ربّي، بلى» (¬2). وعن عبد الله بن السّائب، رضي الله عنه، قال: أخّر عمر، كرّم الله وجهه، العشاء الآخرة، فصلّيت، ودخل فكان في ظهري، فقرأت: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً 1 حتّى أتيت على قوله: وَفِي السَّماءِ ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 2066) وأبو داود (رقم: 883) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 12335) والبيهقيّ (2/ 310) من طريق وكيع بن الجرّاح، قال: حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده صحيح، وأورد عليه تعليل غير مؤثّر، بيّنته في «علل الحديث». (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن الضّريس في «فضائل القرآن» (رقم: 13) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2100) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، به، والسّياق للبيهقيّ. قلت: إسناده صحيح، وشعبة هو ابن الحجّاج.

رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 22 [22]، فرفع صوته حتّى ملأ المسجد: أشهد (¬1). وعن عائشة، رضي الله عنها، أنّها كانت إذا قرأت فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ 27 [الطّور: 27] قالت: اللهمّ منّ عليّ وقني عذاب السّموم (¬2). ومن ذلك أن يجيب عند مثل قول الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ* [الأعراف: 185، المرسلات: 50] فيقول مثلا: آمنت بالله وكتابه. وعند قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ 8 [التّين: 8]، فيقول: بلى، وأنا على ذلك من الشّاهدين (¬3). وعند قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 13* [الرّحمن: 13]، فيقول: ولا ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 149) قال: حدّثنا حجّاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن السّائب، به. قلت: وهذا إسناد حسن، ابن خثيم حسن الحديث لا بأس به، وحجّاج هو ابن محمّد، وعبد الله بن السّائب هو المخزوميّ من قرّاء الصّحابة. (¬2) أثر صحيح. أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2092) من طريق شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروق، عن عائشة، به. وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 6035) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (كما في «تفسير ابن كثير» 6/ 435) من طريق وكيع، عن الأعمش، به نحوه. وإسناده صحيح. (¬3) روي في هذه والّتي قبلها ما لم يثبت إسناده من الحديث، ولذا أعرضت عنه.

بشيء من نعمة ربّنا نكذّب (¬1). وعند قوله: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ 59 [الواقعة: 59]، وقوله: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 64 [الواقعة: 64]، وقوله: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ 69 [الواقعة: 69]، وقوله: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ 72 [الواقعة: 72]، فيقول عند جميعها: بل أنت يا ربّ (¬2). ولا يجب أن تكون صيغة الجواب توقيفيّة، بل لك أن تجتهد فيه؛ فإنّ عموم الهدي النّبويّ في ذلك يجعل للمتدبّر السّعة في أن يستعمل من الصّيغ ما بدا له ممّا يتحقّق به المقصود، كذلك فهمه السّلف، كما قدّمته عن عمر وعائشة وابن عبّاس، وذلك في صلاة وفي غيرها، غير أنّي أنبّه على أن لا يشغل بذلك عن استماع التّلاوة إذا كان يستمع لغيره ولم يجد فسحة للجواب أو السّؤال أو التّسبيح. 7 - وممّا يعين التّالي على التّدبّر: أن يجتنب ما يقطع تلاوته ممّا لا يتّصل بها، ككلام الآدميّين، إلّا ما لزمه بأمر الشّرع، كردّ سلام أو تشميت عاطس، أو شبه ذلك، أو دعت إليه حاجة واقتضته مصلحة. عن عبد الله بن عون، قال: كان ابن سيرين يكره أن يقرأ الرّجل القرآن ¬

(¬1) فيه حديث مرفوع حسن، تقدّم ذكره في الهامش (ص: 65). (¬2) روي في ذلك أثر بإسناد ليّن عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أخرجه البيهقيّ في «السّنن» (2/ 311).

إلّا كما أنزل، يكره أن يقرأ ثمّ يتكلّم ثمّ يقرأ (¬1). ولو تخلّل تلاوته ما لا يخرج عن موضوعها، كالّذي ذكرته في المسألة السّابقة من إجابة سؤال القرآن، أو تقديس الله تعالى، وشبه ذلك، أو تبيين فائدة لغيره من شرح غريب أو ذكر سبب نزول، فالقطع لمثل ذلك حسن. عن نافع مولى عبد الله بن عمر، قال: كان ابن عمر، رضي الله عنهما، إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة البقرة حتّى انتهى إلى مكان، قال: تدري فيم أنزلت؟ قلت: لا، قال: أنزلت في كذا وكذا، ثمّ مضى (¬2). قال أبو عبيد الهرويّ: «إنّما رخّص ابن عمر في هذا؛ لأنّ الّذي تكلّم به من تأويل القرآن وسببه، ولو كان الكلام من أحاديث النّاس وأخبارهم كان عندي مكروها أن تقطع القراءة به» (¬3). 8 - أن يكفّ التّثاؤب إذا ورد؛ لما ثبت أنّ التّثاؤب من الشّيطان، وأنّ الله تعالى يكرهه. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يحبّ العطاس، ويكره التّثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 190) بإسناد صحيح. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أبو عبيد (ص: 190 - 191) والبخاريّ (رقم: 4253) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2133) من طريق ابن عون، عن نافع، به. (¬3) فضائل القرآن (ص: 191).

كان حقّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وأمّا التّثاؤب فإنّما هو من الشّيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردّه ما استطاع، فإنّ أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشّيطان» (¬1). وعن مجاهد المكّيّ، قال: «إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن، فأمسك عن القراءة حتّى يذهب تثاؤبك» (¬2). وعن عكرمة مولى ابن عبّاس، قال: «إذا تثاءب أحدكم وهو يقرأ القرآن فليسكت، ولا يقل: ها، ها، وهو يقرأ» (¬3). ولو استعاذ بالله من الشّيطان الرّجيم عند ورود التّثاؤب مع الاجتهاد في ردّه لكان حسنا، لقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200 [الأعراف: 200]. 9 - وممّا يعين على التّدبّر: أن يراعي أحكام الوقف والابتداء، على ما بيّنته في الفصل السّابق. وينبغي له أن يجتنب بدء تلاوته في أثناء السّياق، أو قطعها قبل تتمّته، ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 3115، 5869، 5872) ومسلم (رقم: 2994)، واللّفظ للبخاريّ. (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 118) وسعيد بن منصور (رقم: 98) والآجرّيّ في «أخلاق حملة القرآن» (ص: 203) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2125) بإسناد صحيح. (¬3) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد (ص: 119) بإسناد صحيح.

فذلك ممّا يختلّ به المعنى. وهذا ممّا يغفل عنه كثير من النّاس، ويسبّبه أحيانا قسمة الأجزاء والأحزاب والأرباع الموجودة في مصاحف المسلمين، فكثير منها لم يراع فيه هذا الّذي ذكرته، فترى القارئ يقرأ الجزء أو الحزب أو الرّبع في صلاة أو غيرها، فيقف على رأس ذلك ولم يتمّ المعنى بعد، أو يبدأ من وسط الكلام وقد ذهب عليه أوّله. كما ترى في جزء وَالْمُحْصَناتُ* [النّساء: 24]، والحكم فيها متّصل بما قبلها، وجزء قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ [الأعراف: 111] وهذا قطع القصّة، وجزء إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ [التّوبة: 93] وهذه تتمّة لما قبلها، وجزء وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف: 53] وقطعها عمّا قبلها خلل بيّن، وهكذا في أجزاء أخرى، وهو في الأحزاب والأرباع أكثر، فعلى التّالي أن يلاحظ ذلك، ولا ينهى قراءته إلّا في موضع تمّ به المعنى، كما لا يبدأ إلّا من حيث ابتدأ الموضوع. عن ميمون بن مهران، قال: «إنّي لأقشعرّ من قراءة أقوام، يرى أحدهم حتما عليه ألّا يقصر عن العشر، إنّما كانت القرّاء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت، يقرأ أحدهم اليوم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11 [البقرة: 11]، قال: ويقوم في الرّكعة الثّانية فيقرأ أَلا

إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة: 12]» (¬1). وعلى قارئ القرآن أن يتخلّق بأخلاقه ويتأدّب بآدابه، فإنّه قد اشتمل على جميع مكارم الأخلاق ومعاليها، في السّلوك إلى الله عزّ وجلّ في عبادته في الظّاهر والباطن، والسّلوك مع الخلق في معاملتهم ومعايشتهم. والمقصود أن تتحوّل توجيهات القرآن إلى عمل في حياة المسلم، فلا يتقدّم ولا يتأخّر إلّا وفق تبصيره وتعليمه، يمتثل أمره ونهيه، ويحلّ حلاله، ويحرّم حرامه، ويقف عند حدوده، ويؤمن بأخباره ووعده ووعيده، ويعتبر بأمثاله وقصصه. عن سعد بن هشام أنّه سأل عائشة رضي الله عنها، فقال: أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألست تقرأ القرآن؟»، قلت: بلى، قالت: «فإنّ خلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (¬2). والّذي يفسّر هذا الحديث هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّ ما كان عليه من السّيرة والعمل هو معنى التّخلّق بأخلاق القرآن. ¬

(¬1) أخرجه الدّاني في «المكتفى» (ص: 135). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 53 - 54، 94 - 95، 163) ومسلم (رقم: 746) وأبو داود (رقم: 1342) والنّسائيّ (رقم: 1601) والدّارميّ (رقم: 1447) من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، به، ضمن قصّة.

وعلى قارئ القرآن أن يحذر من القول في تفسيره بغير علم.

وعلى قارئ القرآن أن يحذر من القول في تفسيره بغير علم. الطّريق إلى تفسير القرآن هو العلم بآلته مع القدرة على الاستدلال له بالحجج الصّحيحة نقليّة كانت أو عقليّة. أمّا الكلام في معاني القرآن بمجرّد الرّأي فهو ممنوع، ويقود صاحبه إلى القول على الله غير الحقّ، وهذا من أعظم الذّنوب. قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا 36 [الإسراء: 36]. وشدّد الله تعالى في حرمته حتّى قرنها بالشّرك به، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. ومن لم يحصّل من آلة العلم بالتّفسير ما يؤهّله للكلام فيه، رجع إلى أهل العلم به والكتب المصنّفة فيه، على ما بيّنته في (المقدّمة الخامسة). وعلى قارئ القرآن أن يؤمن بمتشابهه على مراد الله منه، ولا يحمل نفسه على الكلام فيه، فإنّ الخوض في المتشابه من أعظم أسباب الضّلال. وما أشكل عليك معناه، فهو نوعان:

أحدهما: ما اشتبه عليك، وعلمه أهل العلم، فيرجع إليهم لكشف المراد به، قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76]، وقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* [النّحل: 43]. والثّاني: ما استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه خلقه، لحكمة أرادها، وهذا هو المتشابه. والعباد في هذا غير مكلّفين بأكثر من الإيمان به كما أخبر الله تعالى، وتفويض المراد به إليه. ومن ذلك نصوص صفات الله عزّ وجلّ، لا من جهة معاني ألفاظها، وإنّما من جهة إدراك كيفيّاتها في حقّ الله تعالى، فإنّه منزّه عن الشّبيه والنّظير، منزّه أن يكون ما أخبر به عن نفسه من جنس ما يخبر به عن المخلوقين، كما قال سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11]. عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين

سمّى الله فاحذروهم» (¬1). وعن أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، قال: «كتاب الله، ما استبان منه فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه» (¬2). ويأتي حديثا أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، في هذا المعنى في الأدب التّالي (¬3). وحاصل هذا: أن ينتهي إلى حكم الله في كتابه، وأن لا يقدّم رأيه عليه، وإن ضعف عقله عن استيعاب المراد، قابل ذلك بالتّسليم والرّضا والانقياد. وعلى قارئ القرآن أن لا يماري أحدا فيه، فإن نازعه في شيء منه منازع تركه، وإن خاض فيه خائض أعرض عنه. ومعنى المراء في القرآن: الجدال والاختلاف فيه وفي نصوصه إلى أن ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4273) ومسلم (رقم: 2665). (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30023) قال: حدّثنا أبو أسامة، حدّثني الثّوريّ، قال: حدّثنا أسلم المنقريّ، عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ، به. قلت: وهذا إسناد جيّد. (¬3) وانظر ل (المتشابه) ما تقدّم (ص: 281 - 284).

يضرب بعضها ببعض، فهذا الكتاب سالم من التّناقض والتّضارب، كما قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النّساء: 82]، وقال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصّلت: 42]، وتصوّر وجود التّضادّ في القرآن تجويز للباطل فيه، فإنّ الضّدّين لا يجتمعان في شيء واحد. وكتاب الله هو المفزع عند الاختلاف، وهو حقّ كلّه، فإذا اختلف النّاس فيه ضلّوا، إذ لم يبق لديهم ما يفزعون إليه عند التّنازع، كما وقع للأمم قبلنا حين اختلفوا في الكتاب. وهذا معنى قد شدّدت النّصوص في إنكاره غاية التّشديد: قال الله عزّ وجلّ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176]. وقال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]. وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف، المراء في القرآن كفر» ثلاث مرّات «فما

عرفتم فاعملوا، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه» (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا، ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرّق بينهم، فجلسنا حجرة (¬2)، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتّى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا قد احمرّ وجهه يرميهم بالتّراب، ويقول: «مهلا يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم: باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه» (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 7989) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 118) وابن جرير في «تفسيره» (1/ 11) من طريق أنس بن عياض، حدّثني أبو حازم، عن أبي سلمة، لا أعلمه إلّا عن أبي هريرة، به. قلت: وإسناده صحيح، واسم أبي حازم سلمة بن دينار. تابع أبا حازم عن أبي سلمة: عمر بن أبي سلمة، ومحمّد بن عمرو، بجملة: «المراء في القرآن كفر». شرحت ذلك في «علل الحديث». (¬2) حجرة: ناحية. (¬3) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 6702) قال: حدّثنا أنس بن عياض، حدّثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، به. قلت: وإسناده حسن، لحسن هذه السّلسلة: عمرو عن أبيه عن جدّه. وله عن عمرو طرق يطول شرحها.

المبحث الثاني: أحكام يحتاج إلى معرفتها القارئ

وفي رواية: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع آية، وهذا ينزع آية، فكأنّما سفي في وجهه حبّ الرّمّان (¬1)، فقال: «ألهذا خلقتم؟ أم بهذا أمرتم؟ لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فاتّبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه» (¬2). والواجب على من جلس مجلسا وقع فيه شيء من ذلك أن يسارع إلى مفارقته، ولا يتمادى في مشاركة الخائضين في آيات الله. فعن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» (¬3). المبحث الثاني: أحكام يحتاج إلى معرفتها القارئ 1 - الطّهارة لقراءة القرآن: مسألة الطّهارة لمسّ المصحف تأتي في (أحكام المصاحف)، وإنّما ¬

(¬1) سفي: ذري، لكن فسّرته الرّواية الأخرى بأحسن من هذا مناسبة، إذ جاء فيها: «فقىء» والمراد: احمرّ وجهه وكأنّما رشّ بماء الرّمّان الأحمر. (¬2) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 6846) وابن أبي عاصم في «السّنّة» (رقم: 406) والهرويّ في «ذمّ الكلام» (1/ 53 - 54 رقم: 46) من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، به. وإسناده حسن. (¬3) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4773، 4774، 6930، 6931) ومسلم (رقم: 2667).

المسألة الأولى: الطهارة من الحدث الأصغر

الكلام هاهنا في الطّهارة من الحدثين: الأصغر، والأكبر، وطهارة المكان والثّوب، والسّواك، لتلاوة القرآن، فهذه أربع مسائل: المسألة الأولى: الطّهارة من الحدث الأصغر: الوضوء لقراءة القرآن مستحبّ وليس بواجب، وتجوز القراءة بدونه. دليل الاستحباب: ما ثبت عن المهاجر بن قنفذ، رضي الله عنه: أنّه سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضّأ، فلم يردّ عليه حتّى توضّأ، فردّ عليه، وقال: «إنّه لم يمنعني أن أردّ عليك إلّا أنّي كرهت أن أذكر الله إلّا على طهارة [وفي لفظ: وضوء]» (¬1). قال قتادة بن دعامة السّدوسيّ: فكان الحسن (يعني البصريّ) من أجل هذا الحديث يكره أن يقرأ أو يذكر الله عزّ وجلّ حتّى يتطهّر (¬2). وأمّا ما دلّ على جواز التّلاوة على غير وضوء، فأحاديث، من أظهرها: 1 - حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 345 و 5/ 80) وأبو داود (رقم: 17) والنّسائيّ (رقم: 38) وابن ماجة (رقم: 350) وغيرهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر، به، واللّفظ الثّاني لأحمد في موضع وابن ماجة. قلت: إسناده صحيح، وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم، وله طرق وشواهد استوفيت شرحها في كتابي (حكم الطّهارة لغير الصّلوات). (¬2) ثبت هذا عند أحمد في الموضع الأول من رواية حديث المهاجر المذكور.

على كلّ أحيانه (¬1). فهذا عموم يندرج تحته حال الطّهارة وعدمها، كما أنّ كلّ ما يسمّى ذكرا لله تعالى فهو مراد هنا، والقرآن أعظم الذّكر، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9]. 2 - ما حدّث به أبو سلّام الحبشيّ، قال: حدّثني من رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بال، ثمّ تلا شيئا من القرآن قبل أن يمسّ ماء (¬2). 3 - حديث ابن عبّاس، رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فقرّب إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء (¬3)؟ قال: «إنّما أمرت ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 70، 153، 278) ومسلم (رقم: 373) وأبو داود (رقم: 18) والتّرمذيّ (رقم: 3384) وابن ماجة (رقم: 302) من طريق زكريّا بن أبي زائدة، عن خالد بن سلمة، عن البهيّ، عن عروة، عن عائشة، به. علّقه البخاريّ في «الصّحيح» بصيغة الجزم في موضعين (1/ 116، 227)، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن غريب». (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 237) وأحمد بن منيع (كما في «المطالب العالية» رقم: 107) قالا: حدّثنا هشيم، أخبرنا داود بن عمرو، قال: حدّثنا أبو سلّام، به. قال الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 213): «حديث صحيح». قلت: إسناده حسن، داود بن عمرو شاميّ صدوق، كان عاملا على واسط، فلذا وقع حديثه لأهلها كهشيم وغيره، وأمّا إبهام الصّحابيّ فلا يضرّه. (¬3) الوضوء- بفتح الواو-: الماء المتّخذ للوضوء- بضمّها-.

بالوضوء إذا قمت إلى الصّلاة» (¬1). قوله: «إنّما» أداة قصر في اللّغة والأصول، فقصر الأمر الواجب على الوضوء عند القيام إلى الصّلاة، فدلّ على أنّ ما سوى الصّلاة لا يجب له الوضوء، وزعم بعضهم أنّ القصر هنا ليس حقيقيّا؛ لما ألجأه إليه القول بوجوب الوضوء للطّواف بالبيت ومسّ المصحف، وليس كذلك، فإنّه ثبت أنّ الطّواف بمنزلة الصّلاة، فيأخذ حكمها في الطّهارة، وأمّا مسّ المصحف فالوضوء له ليس بواجب على التّحقيق، على ما سيأتي ذكره (¬2). وأمّا الآثار عن السّلف في استحباب الوضوء وعدم وجوبه، فكثيرة، عن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبّاس، وسلمان الفارسيّ، وأبي هريرة، ومن التّابعين عن عليّ بن الحسين زين العابدين، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ، وغيرهم (¬3). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 2549، 3381) وأبو داود (رقم: 3760) والتّرمذيّ في «الجامع» (رقم: 1847) و «الشّمائل» (رقم: 176) والنّسائيّ (رقم: 132) من طريق أيّوب السّختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاس، به. قلت: وإسناده صحيح، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن». (¬2) أجبت عن هذا في «الأجوبة المرضيّة عن الأسئلة النّجديّة» (ص: 38 - 39). (¬3) سقت نصوصهم وبيّنت درجاتها في كتاب «حكم الطّهارة لغير الصّلوات». وكذلك جميع ما أذكره في مسألة الطّهارة لقراءة القرآن ومسّ المصحف، فتفصيله في الكتاب المذكور.

المسألة الثانية: الطهارة من الحدث الأكبر

المسألة الثّانية: الطّهارة من الحدث الأكبر: وهو ما يوجب الغسل، كالجنابة، والحيض والنّفاس. مذهب جمهور العلماء حرمة قراءة القرآن للجنب والحائض، وأحسن ما استدلّوا به لذلك حديث يروى عن عليّ، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، ثمّ يخرج فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللّحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وآخر يروى عن ابن عمر، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن». وهذان حديثان لا يصحّان عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والتّحريم لا يجوز القول به إلّا ببرهان صحيح بيّن. وذهبت طائفة من أهل العلم إلى جواز القراءة للجنب والحائض، إبقاء على الأصل في عدم ثبوت المانع، لكنّ بعضهم قصر الرّخصة على القليل من ذلك كالآية والآيتين، خاصّة للجنب. وكأنّ ذلك جاء من جهة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كره ذكر الله على غير وضوء، والجنابة أكبر من الحدث الّذي يوجب الوضوء، فحالها أولى بالكراهة، لكن هذا لا يبلغ التّحريم. والّذي أراه الرّاجح في حقّ الجنب: كراهة قراءة القرآن له حتّى يتطهّر، فإذا قرأ ترك الأولى ولم يأثم.

المسألة الثالثة: طهارة الموضع الذي يقرأ فيه

وصحّ عن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: «لا يقرأ الجنب القرآن»، وعن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، سئل عن الجنب: أيقرأ القرآن؟ قال: «لا، ولا حرفا» (¬1). فهذا وشبهه ممّا يحسن الانتهاء إليه ولا يجب؛ لأنّ الوجوب حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت هنا، وإنّما أقصى ما يفيده المنقول الثّابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو النّدب إلى ذلك. أمّا الحائض، فأمرها أيسر من الجنب؛ لأنّ حيضتها ليست في يدها، وهي تجلس الأيّام لا تصلّي انتهاء عند نهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يصلح أن تحجب فيها عن سائر الأعمال الصّالحة، دون أن يمنعها من ذلك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحيث علمت عدم ثبوت مانع يمنعها من قراءة القرآن، فيبقى حالها على الأصل في الجواز. بل تأكّد لنا ذلك بأكثر من هذا الاستدلال، ومحلّ بيانه غير هذا الموضع. المسألة الثّالثة: طهارة الموضع الّذي يقرأ فيه: ينبغي لقارئ القرآن أن لا يقرأ إلّا في محلّ طاهر، تعظيما للقرآن؛ فإنّه أعظم الذّكر، وقد ثبت من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: ¬

(¬1) أمّا الرّواية عن عمر، فأخرجها ابن أبي شيبة (رقم: 1080) بإسناد صحيح، والرّواية عن عليّ، أخرجها أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 197) بإسناد حسن، وأدرجها بعضهم في حديث مرفوع، وهو خطأ.

أنّ رجلا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهريق الماء (¬1)، فسلّم عليه الرّجل، فردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «إذا رأيتني هكذا فلا تسلّم عليّ، فإنّك إن تفعل لا أردّ عليك السّلام» (¬2). ففي هذا دليل على كراهته صلى الله عليه وسلم ردّ السّلام وهو يقضي حاجته، وإنّما الكراهة لكونه ذكرا لله تعالى، هذا مع أنّ ظاهر الحديث أنّه ردّ عليه تلك المرّة وهو لم يزل يقضي الحاجة، فدلّ على الجواز في الأصل، ولو كان حراما لم يردّ عليه أصلا. ثمّ علّمه ما ينبغي أن يكون عليه الأدب مستقبلا. فإن قيل: لكنّ هذا الحكم في حال الشّخص لا في شأن الموضع. قلنا: نعم، لكنّا نعلم أنّ السّبب عائد إلى الخبث والنّجس، وأنّ ذكر الله لا يصلح في حال مواقعة ذلك، والخبث في موضع الخلاء دائم، فهو أولى بتنزيه ذكر الله أن يكون فيه. وفي قصّة بول الأعرابيّ في المسجد ما يؤكّد هذا المعنى: ¬

(¬1) أراد البول. (¬2) حديث صحيح. أخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (رقم: 37) من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، والخطيب في «تاريخه» (3/ 139) من طريق إبراهيم بن محمّد الفزاريّ، كلاهما عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرّحمن، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، به. قلت: إسناد ابن الجارود حسن، سعيد بن سلمة صدوق حسن الحديث، ومتابعته صالحة للاعتبار. وللحديث شاهد عن جابر بن عبد الله عند ابن ماجة (رقم: 352) بإسناد صالح.

فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه (¬1)، دعوه» فتركوه حتّى بال، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنّما هي لذكر الله عزّ وجلّ، والصّلاة، وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنّه عليه (¬2). فدلّ هذا على أنّ ذكر الله ينبغي أن يتخيّر له الموضع الطّاهر. وجاء عن التّابعيّ الفاضل عامر الشّعبيّ: أنّه كره قراءة القرآن في ثلاثة مواطن: الرّحا، وبيت الخلاء، وبيت الحمّام (¬3). والمراد ب (الرّحا) الموضع الّذي يتّخذ لطحن الحبوب، لما ترتفع به ¬

(¬1) لا تزرموه: لا تقطعوا عليه بوله. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 12984) ومسلم (رقم: 285) وأبو عوانة في «مستخرجه» (1/ 214) وابن خزيمة (رقم: 293) والطّحاويّ في «شرح المعاني» (1/ 13) وابن حبّان (رقم: 1401) وأبو الشّيخ في «أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم» (رقم: 152، 174) وأبو نعيم في «مستخرجه على مسلم» (رقم: 654) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 412، 413) من طرق عن عكرمة بن عمّار، حدّثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدّثني أنس بن مالك، به. وقوله: (فشنّه عليه) أي صبّه صبّا متقطّعا. (¬3) أخرجه ابن الضّريس في «الفضائل» (رقم: 41) بإسناد صالح.

المسألة الرابعة: السواك لقراءة القرآن

المطاحن من الأصوات الّتي لا تتهيّأ معها القراءة بالخشوع، والأصل في (الرّحا) آلة الطّحن، والمعنى في الخلاء والحمّام لأنّهما موضعا إزالة الأذى. المسألة الرّابعة: السّواك لقراءة القرآن: هو مستحبّ لأجل القرآن، لحديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلّي من اللّيل فليستك، فإنّ أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلّا دخل فم الملك» (¬1). فعلّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر بالسّواك بأنّه لأجل القرآن. وهذا الحديث أحسن شيء يروى في استحباب السّواك لذلك. ¬

(¬1) حديث حسن. أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2117) وتمّام الرّازيّ في «الفوائد» (رقم: 157 - الرّوض) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، به. قلت: شريك ثقة في الأصل، لكن ساء حفظه بعد ولاية القضاء، وليس عثمان ممّن روى عنه قبل ذلك، لذا فالإسناد ليّن، لكنّه حسن بشاهده من حديث عليّ بن أبي طالب موقوفا لفظا مرفوعا حكما. أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» (رقم: 1224) والآجرّيّ في «أخلاق حملة القرآن» (ص: 202) والبيهقيّ في «الكبرى» (1/ 38) و «الشّعب» (رقم: 2116) والضّياء في «الأحاديث المختارة» (رقم: 580) بإسناد صحيح.

2 - أحكام متفرقة

2 - أحكام متفرّقة: إذا ذهب من حفظه شيء فلا ينبغي له أن يقول: (نسيت آية كذا) وإنّما يقول: (نسّيت) أو (أنسيت) بصيغة البناء للمجهول. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدكم أن يقول (وفي لفظ: لا يقل أحدكم): نسيت آية كيت وكيت، بل نسّى» (¬1). قال ابن الأثير: «كره نسبة النّسيان إلى النّفس لمعنيين، أحدهما: أنّ الله تعالى هو الّذي أنساه إيّاه؛ لأنّه المقدّر للأشياء كلّها، والثّاني: أنّ أصل النّسيان التّرك، فكره له أن يقول: تركت القرآن، أو قصدت إلى نسيانه؛ ولأنّ ذلك لم يكن باختياره» (¬2). ويحتمل الحديث أن يكون النّهي خاصّا بزمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنّ الله تعالى كان ينسخ الآية أو الآيات فتذهب من صدور النّاس، ولكن لاحتمال أن يراد بذلك أحد المعنيين السّابقين فينبغي لقارئ القرآن أن يحافظ على هذا الأدب. أن يتوقّى استعمال آيات الكتاب للشّيء يعرض من أمر الدّنيا. قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام: «وهذا كالرّجل يريد لقاء صاحبه ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4744، 4745، 4752) ومسلم (رقم: 790) واللّفظ الثّاني له. (¬2) النّهاية في غريب الحديث (5/ 50).

أو يهمّ بالحاجة فتأتيه من غير طلب، فيقول كالمازح: (جئت على قدر يا موسى) وهذا من الاستخفاف بالقرآن» (¬1). ويحكي التّابعيّ الفقيه إبراهيم النّخعيّ هدي السّلف في ذلك، فيقول: «كانوا يكرهون أن يتلو الآية عند الشّيء يعرض من أمر الدّنيا» (¬2). قلت: ومن قبيح ما يجري في استعمال بعض النّاس من ذلك أن يكتب عند مدخل مدينة: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ 46 [الحجر: 46]، وعلى باب دكّان: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ* [الفرقان: 16]، وما يستطرف به بعضهم كقوله: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: 35]، وشبه ذلك. وليس من هذا ما يقتبس من القرآن من الجمل الجوامع في حكاية حال أو وصف أمر يراد بذلك تقريبه للسّامع، كقول القائل وهو يصف حالا صعبة شديدة: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ 58 [النّجم: 58]، فكثير من الجمل القرآنيّة جرى استعمالها عند النّاس بمنزلة الأمثال، فمثل هذا سائغ لا حرج فيه. ¬

(¬1) فضائل القرآن (ص: 123). (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30106) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 123) وسعيد بن منصور (رقم: 92) والحكيم في «النّوادر» (رقم: 876 - تنقيح) من طريق مغيرة الضّبّيّ، عن إبراهيم، به. وإسناده صحيح.

ما يسمى ب (التنكيس) في القراءة وارد على معنيين

ما يسمّى ب (التّنكيس) في القراءة وارد على معنيين: الأوّل: قراءة السّورة معكوسة، وقد يفعل للإبانة عن تمكّن الحفظ، فيبدأ من آخر السّورة إلى أوّلها بعكس الآيات. وهذا الفعل مذموم قبيح، وعليه يتنزّل الذّمّ الوارد عن بعض السّلف في التّنكيس في التّلاوة. فعن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قيل لعبد الله بن مسعود: إنّ فلانا يقرأ القرآن منكوسا، فقال عبد الله: «ذاك منكوس القلب» (¬1). وقبح هذا من جهة أنّ ترتيب السّورة توقيفيّ، كما بيّنّاه قبل؛ فلذا يجب التّرتيب في تلاوة الآيات كما هي في السّورة. قال ابن مفلح المقدسيّ: «وعند شيخنا- يعني ابن تيميّة- ترتيب الآيات واجب؛ لأنّ ترتيبها بالنّصّ» (¬2). والثّاني: التّنكيس في السّور، كأن يقرأ (النّاس) ثمّ (الفلق). فهذا جائز لا يتناوله ذمّ، إلّا فيما بين الفاتحة وغيرها في الصّلاة؛ لأنّه ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30298) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 119) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2312، 2313) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، به. وإسناده صحيح. (¬2) الفروع (1/ 421)، وانظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 214)، «التّبيان» للنّوويّ (ص: 50).

خلاف السّنّة؛ والسّبب في أنّ التّرتيب في القراءة ليس بواجب، يعود إلى كون ترتيب السّور في المصحف إنّما وقع باجتهاد الصّحابة، لكن نبّه بعض العلماء على استحباب ترتيبها على ما هي عليه في المصحف، ولم يوجب ذلك أحد، إنّما ذهب بعضهم إلى كراهة التّنكيس فيها (¬1). ينبغي لصاحب القرآن أن لا يقول: (سورة صغيرة)، إنّما يقول: (سورة قصيرة)، ولا يقول: (سورة خفيفة)، إنّما يقول: (سورة يسيرة)؛ تعظيما للقرآن. فقد كان السّلف يقولون: (قصار السّور). وعن عاصم بن سليمان الأحول، قال: قال خالد الحذّاء لابن سيرين: سورة خفيفة، فقال ابن سيرين: «من أين ¬

(¬1) البيان والتّحصيل، لابن رشد (1/ 241)، التّبيان، للنّوويّ (ص: 49)، فتح الباري، لابن حجر (9/ 40)، الفواكه الدّواني، للنّفراويّ (1/ 184)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 175)، الفروع (1/ 421)، شرح المنتهى، للبهوتيّ (1/ 181). والقول بالجواز والكراهة روايتان عن أحمد، وانظر: «التّمام» لابن أبي يعلى (1/ 160)، والمحقّقون من الحنابلة على الجواز، كما يفيده ما في «الفروع» (1/ 421). تنبيه: أمّا التّنكيس في الكلمات فهذا إن وقع بقصد؛ فهو من اللّعب بآيات الله واتّخاذها هزوا، وحرمته ممّا لا يجوز التّردّد فيه، ونصّ على التّحريم الحنابلة، ذكره ابن مفلح وغيره، ولم يقل بالحلّ أحد.

قراءة البسملة أثناء السورة

تكون خفيفة والله تعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 [المزّمّل: 5]؟ ولكن قل: يسيرة، فإنّ الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 17* [القمر: 17]» (¬1). قراءة البسملة أثناء السّورة: إذا ابتدأ قراءته أثناء السّورة لا من أوّلها، فالأصحّ من مذاهب العلماء أن لا يقرأ البسملة، وإنّما المشروع عند القراءة الاستعاذة. قال ابن مفلح: «وتكره البسملة أوّل بدئه، والفصل بها بين أبعاض السّور، ويحرم إن اعتقده قربة» (¬2). وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: «اقرأ ما في المصحف» (¬3). وهذا يدلّ على أن يقرأ الإنسان البسملة في موضعها حيث يوافقها في المصحف. والقرّاء جوّزوا ذلك، والظّاهر أنّه باجتهاد ممّن قاله وليس رواية. قال الدّانيّ: «فأمّا الابتداء برءوس الأجزاء الّتي في بعض السّور، فأصحابنا يخيّرون القارئ بين التّسمية وتركها في مذهب الجميع» (¬4). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد (ص: 124 - 125) بإسناد صحيح. (¬2) الفروع (1/ 421). (¬3) مسائل أحمد، رواية أبي داود (ص: 286). (¬4) التّيسير (ص: 18)، وانظر: «النّشر» لابن الجزريّ (1/ 265).

الجمع في التلاوة الواحدة بين قراءتين فأكثر من البدع المتأخرة.

الجمع في التّلاوة الواحدة بين قراءتين فأكثر من البدع المتأخّرة. تقدّم أن بيّنّا أنّ اختلاف القرّاء يرجع إلى نزول القرآن على سبعة أحرف تيسيرا على الأمّة في أخذه، لكنّه لم يردنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يجمع لأصحابه الحرفين أو الأكثر في تلاوة واحدة في مجلس واحد؛ ولهذا كان الرّجل من الصّحابة يسمع صحابيّا آخر يقرأ على غير حرفه فيستغرب ذلك، حتّى يعودا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيبيّن لهما أنّه أنزل على الحرفين. من أجل ذلك صرّح بعض أهل العلم بكون هذا من البدع (¬1). كما كرهه بعض العلماء، وقالوا: يستمرّ في تلاوته على الحرف الّذي بدأ عليه (¬2). بل حتّى للتّعلّم وتلقّي القراءة عن الشّيخ، فإنّ القرّاء في الصّدر الأوّل كانوا يقرءون على الشّيخ الواحد العدّة من الرّوايات، والكثير من الختمات، كلّ ختمة برواية، لا يجمعون رواية إلى غيرها. وذكره ابن الجزريّ عن جماعة، وقال: «وهذا الّذي كان عليه الصّدر الأوّل ومن بعدهم إلى أثناء المائة السّادسة ... فمن ذلك الوقت ظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة، واستمرّ إلى زماننا، وكان بعض الأئمّة يكره ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «وأمّا جمعها في الصّلاة أو في التّلاوة فهو بدعة مكروهة» (مجموع الفتاوى: 13/ 218). (¬2) انظر: فتاوى ابن الصّلاح (1/ 230 - 231)، التّبيان، للنّوويّ (ص: 49).

القراءة بالقراءات الشاذة من المنكرات

ذلك من حيث إنّه لم تكن عادة السّلف عليه، ولكنّ الّذي استقرّ عليه العمل هو الأخذ به والتّقرير عليه وتلقّيه بالقبول» (¬1). والتّحقيق جواز فعل ذلك لأجل التّعليم وعرض القراءة على الشّيخ، على ما جرى عليه صنيع المتأخّرين، وعليه يحمل تسهّلهم الّذي حكاه ابن الجزريّ، إذ هذا مقام يتّسع فيه الاجتهاد، بخلاف مجرّد التّلاوة، فإنّما يقصد بها في الأصل التّعبّد (¬2). القراءة بالقراءات الشّاذّة من المنكرات: قال النّوويّ: «نقل الإمام أبو عمر بن عبد البرّ الحافظ إجماع المسلمين على أنّه لا تجوز القراءة بالشّاذّ، وأنّه لا يصلّى خلف من يقرأ بها، قال العلماء: من قرأ بالشّاذّ إن كان جاهلا به أو بتحريمه عرّف بذلك، فإن عاد إليه أو كان عالما به عزّر تعزيرا بليغا إلى أن ينتهي عن ذلك، ويجب على كلّ متمكّن من الإنكار عليه ومنعه الإنكار والمنع» (¬3). وقد عرف في تاريخ القرّاء ما جرى لأبي الحسن محمّد بن أحمد بن أيّوب المعروف ب (ابن شنبوذ)، وكان من كبار القرّاء في العراق، أنّه كان يقرأ في ¬

(¬1) النّشر (2/ 195). (¬2) قال ابن تيميّة: «وأمّا جمعها لأجل الحفظ والدّرس فهو من الاجتهاد الّذي فعله طوائف في القراءة» (مجموع الفتاوى: 13/ 218). (¬3) التّبيان (ص: 48 - 49).

سجود التلاوة

المحراب بحروف تخالف المصحف، ممّا يعزى إلى مصحف أبيّ بن كعب وابن مسعود، فنهي عن ذلك، واستتيب، فتاب (¬1). سجود التّلاوة: هذا باب جليل ينبغي لصاحب القرآن أن يعتني بمعرفته، وهو السّجود عند تلاوة آيات مخصوصة، كان التّالي في صلاة أو خارجها. وتفصيل ذلك لا يحتمله هذا المقام، وقد استوعبته قدر طاقتي في كتابي «تحرير البيان في سجود القرآن»، وأكتفي هنا بذكر جمل يستفاد تفصيلها من هناك: المواضع الّتي يشرع عند تلاوتها السّجود أربعة عشر، كلّها عزائم، وهي: الآية (206) من الأعراف، و (15) من الرّعد، و (49 - 50) من النّحل عند الفراغ من الآية الثّانية، و (107 - 109) من الإسراء، و (58) من مريم، و (18) و (77) من سورة الحجّ، وهي السّورة الّتي فضّلت بسجدتين، و (60) من الفرقان، و (25 - 26) من النّمل، عند الفراغ من الثّانية، و (15) من السّجدة، و (37 - 38) من فصّلت، عند الآية الثّانية، و (62) من النّجم، و (21) من الانشقاق، و (19) من العلق. ¬

(¬1) انظر ذلك في ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب (1/ 280)، «المنتظم» لابن الجوزيّ (13/ 392 - 393)، «معرفة القرّاء» للذّهبيّ (1/ 277 - 279).

يسجد القارئ والمستمع عند الفراغ من تلاوة الآيات المشار إليها. أمّا السّجود في الآية (24) من سورة (ص) فسنّة، لكنّه ليس لأجل التّلاوة، إنّما هي سجدة توبة، فلا يفعل في الصّلاة. وحكم السّجود للتّلاوة أنّه سنّة وليس بواجب، خلافا للحنفيّة، ولو سجد المستمع ولم يسجد القارئ فلا بأس، ولا تشترط له شرائط الصّلاة على التّحقيق، ولا نصّ على إلحاقه بها، والقياس في العبادات ممتنع، ولم يشترط له النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما يشترط للصّلاة من طهارة واستقبال قبلة وستر عورة، ودعوى الاتّفاق على اشتراط ذلك لسجود التّلاوة منتقضة. وممّا جاء في فضله: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد اعتزل الشّيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسّجود فسجد فله الجنّة، وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار» (¬1). وحديث معدان بن أبي طلحة، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنّة، أو قال: قلت: بأحبّ الأعمال إلى الله، فسكت، ثمّ سألته فسكت، ثمّ سألته الثّالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «عليك بكثرة السّجود لله، فإنّك لا ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه مسلم وغيره، تفصيل تخريجه في «تحرير البيان» (رقم: 201).

تسجد لله سجدة إلّا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة». قال معدان: ثمّ لقيت أبا الدّرداء، فسألته؟ فقال لي مثل ما قال لي ثوبان (¬1). فقوله صلى الله عليه وسلم: «سجدة» لفظ نكرة في سياق النّفي، مفاده العموم، فيستغرق كلّ أنواع السّجود. أمّا ما يقول السّاجد للتّلاوة في سجوده من الذّكر فإنّ أثبت شيء فيه ما دلّت عليه عمومات الأحاديث: (سبحان ربّي الأعلى)، فهذا يقال في كلّ سجود، في صلاة أو غيرها، كما يجوز فيه الدّعاء، لما صحّ من كون حال السّجود من مظانّ الإجابة. لا بأس أن يقرأ الإنسان القرآن على أيّ حال كان عليه: قائما وقاعدا ومستلقيا، راكبا وماشيا، كاسيا وعاريا، حيث لم يرد ما يمنع ذلك. والقرآن أعظم الذّكر، وقد قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 276، 280) ومسلم (رقم: 488) والتّرمذيّ (رقم: 388، 389) والنّسائيّ (رقم: 1139) وابن ماجة (رقم: 1423) من طريق الوليد بن مسلم، قال: سمعت الأوزاعيّ قال: حدّثني الوليد بن هشام المعيطيّ، حدّثني معدان، به. وقال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح».

الاجتماع لقراءة القرآن

اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 190 - 191]. كذلك يتلو التّالي دون اعتبار التّوجّه إلى جهة مخصوصة، فليس من سنّة التّلاوة أن تستقبل القبلة، ولا من محذورها أن تستدبر، والشّريعة لم تأت بخصوص ذلك بأمر ولا نهي، فهو على الإباحة. الاجتماع لقراءة القرآن: اجتماع القوم يتلون القرآن جماعة، أو يتلو الواحد منهم ويستمع الحاضرون، مشروع محبوب إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، دلّت عليه نصوص عديدة، منها: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله: يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬1). فهذا ظاهر كالنّصّ في التّرغيب في الاجتماع للقرآن، وأن يكون ذلك على سبيل الجهر، إذ لا يتمّ الاشتراك في التّلاوة مع الإخفات. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 7427) ومسلم (رقم: 2699) وأبو داود (رقم: 1455) والتّرمذيّ (رقم: 2945) وابن ماجة (رقم: 225) من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به.

ومن جهة أخرى فإنّ إطلاق الحديث دلّ على تسويغ كلّ صورة تتمّ عليها القراءة: سواء كانت من جميعهم بصوت واحد، أو يقرأ شخص ويستمع الحاضرون، أو يتابعونه في التّلاوة بصوت واحد أو متفرّقين. والعجب من طائفة قصدت إلى إنكار المحدثات، وذلك منها خير وعمل محمود، لكنّها بالغت فيه حتّى أنكرت المشروعات، فأنكرت بعض مقتضى هذا الحديث من الاجتماع على ذكر الله وتلاوة القرآن، ففوّتوا على أنفسهم وغيرهم ممّن يتّبعهم خيرا عظيما. وقد ذكر النّوويّ عن الإمام مالك أنّه قيل له: أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتّى يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه، وقال: ليس هكذا تصنع النّاس، إنّما كان يقرأ الرّجل على الآخر، يعرضه. ثمّ قال النّوويّ: «هذا الإنكار مخالف لما عليه السّلف والخلف ولما يقتضيه الدّليل، فهو متروك» (¬1). أقول: يحتمل جدّا أن يكون مالك، رحمه الله، إنّما أنكر تلقّي القرآن عن الشّيوخ بهذا الطّريق فيعتمد عليه الشّخص في رواية القراءة، كما يشعر به قوله «يعرضه»، ولم يرد اجتماع النّاس للتّلاوة (¬2). ¬

(¬1) التّبيان (ص: 52). (¬2) وانظر: «البيان والتّحصيل» لابن رشد (18/ 349 - 350).

تكبير الختم

تكبير الختم: المراد به أن يقول القارئ: (الله أكبر) عقب كلّ سورة من قصار المفصّل، ابتداء بسورة الضّحى إلى أن يختم القرآن. وهذا التّكبير روي فيه حديث لا يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم (¬1)، وهو معروف ¬

(¬1) رواه أحمد بن محمّد بن القاسم بن أبي بزّة البزّيّ، قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، فلمّا بلغت وَالضُّحى 1 قال: كبّر عند خاتمة كلّ سورة، فإنّي قرأت على عبد الله بن كثير، فلمّا بلغت وَالضُّحى 1 قال: كبّر حتى تختم، وأخبره ابن كثير أنّه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنّ ابن عبّاس أمره بذلك، وأخبره ابن عبّاس أنّ أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. أخرجه الحاكم (رقم: 5325) وأبو عمرو الدّانيّ في «التّيسير» (ص: 227) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2077، 2079، 2080، 2081) والذّهبيّ في «معرفة القرّاء» (1/ 175 - 176، 177) و «ميزان الاعتدال» (1/ 144 - 145) وابن الجزريّ في «النّشر» (2/ 412، 413، 414) من طرق عن البزّيّ، به. قلت: تفرّد به البزّيّ، قال الحافظ أبو العلاء الهمدانيّ: «لم يرفع التّكبير إلّا البزّيّ، فإنّ الرّوايات قد تظافرت عنه برفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم» قال: «ورواه النّاس فوقفوه على ابن عبّاس ومجاهد» (النّشر: 2/ 413 - 414). قال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد»، فتعقّبه الذّهبيّ في «التّلخيص» بقوله: «البزّيّ قد تكلّم فيه». وقال في «الميزان»: «هذا حديث غريب، وهو ممّا أنكر على البزّيّ»، وقال في «السّير» (12/ 51): «صحّح له الحاكم حديث التّكبير، وهو منكر». قلت: البزّيّ إمام في القراءة، لكنّه ضعيف في الحديث، فكأنّه اشتبه عليه أمر هذا =

عند القرّاء في قراءة عبد الله بن كثير أحد الأئمّة السّبعة، وكذلك عن غيره أنّهم كانوا يفعلونه. قال أبو عمرو الدّانيّ: «كان ابن كثير من طريق القوّاس والبزّيّ (¬1) وغيرهما يكبّر في الصّلاة والعرض (¬2)، من آخر سورة وَالضُّحى 1، مع فراغه من كلّ سورة إلى آخر قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1، فإذا كبّر في (النّاس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أوّل سورة البقرة على عدد الكوفيّين، إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* (¬3)، ثمّ دعا بدعاء الختمة» (¬4). ¬

= الحديث، فوقع إليه من طريق ابن كثير موقوفا أو مقطوعا، فرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن لم يكن الحديث صنعته فهذا وارد عليه، وإن كان ذكيّا في غيره. وممّا يقتضي التّنبيه أنّه وقع في بعض الطّرق عن البزّيّ قال: حدّثت محمّد بن إدريس الشّافعيّ، فقال لي: «إن تركت التّكبير فقد تركت سنّة من سنن نبيّك». ونقل ابن الجزريّ عن ابن كثير المفسّر قوله: «هذا يقتضي تصحيحه لهذا الحديث» (النّشر: 2/ 415). قلت: في ثبوت هذا عن الشّافعيّ الإمام نظر، فإنّ في طريق الرّواية إليه رجلا مكّيّا يقال له (موسى بن هارون) لا يعرف، ووقع في بعض الطّرق: (الشّافعيّ) بالنّسبة فقط دون ذكر الاسم، وفي رواية: (إبراهيم بن محمّد الشّافعيّ)، وإبراهيم هذا هو ابن عمّ الإمام. والمقصود أن تعلم أنّ الّذي قاله ابن كثير لا يفيد في قبول الحديث. (¬1) القوّاس هو: أبو الحسن أحمد بن محمّد بن علقمة المكّيّ، من حملة قراءة ابن كثير المعتمدين. والبزّيّ هو المذكور في التّعليق السّابق، من الضّابطين لقراءة ابن كثير. (¬2) أراد في حال عرض القراءة عليه من قبل الطّلبة. (¬3) هذا المذهب يستلزم عدّ البسملة آية منها. (¬4) النّشر، لابن الجزريّ (2/ 411).

وقال ابن الجزريّ: «صحّ عند أهل مكّة قرّائهم وعلمائهم وأئمّتهم ومن روي عنهم، صحّة استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت حتّى بلغت حدّ التّواتر، وصحّت أيضا عن أبي عمرو من رواية السّوسيّ (¬1)، وعن أبي جعفر من رواية العمريّ (¬2)» (¬3). والمقصود بيان أنّ هذا التّكبير ليس من البدع، لكن ينبغي أن لا يفعله القارئ إلّا أن يكون منقولا له في الرّواية الّتي يقرأ بها، كقراءة ابن كثير. وهذا إن وقع وكان سائغا لأحد في زماننا فهو لقارئ مختصّ؛ لأنّ العامّة اليوم إنّما يقرأ أكثرهم برواية حفص عن عاصم، وأهل المغرب الإسلاميّ يقرءون بقراءة نافع من روايتي ورش وقالون، وهؤلاء لم ينقل تكبير الختم في قراءتهم، فعليه فلا ينبغي العمل به. وسئل شيخ الإسلام ابن تيميّة عن جماعة اجتمعوا في ختمة وهم يقرءون لعاصم وأبي عمرو، فإذا وصلوا إلى سورة (الضّحى) لم يهلّلوا ولم يكبّروا إلى آخر الختمة، ففعلهم ذلك هو الأفضل أم لا؟ فأجاب: «نعم، إذا قرءوا بغير حرف ابن كثير كان تركهم لذلك هو ¬

(¬1) السّوسيّ: هو أبو شعيب صالح بن زياد أحد الثّقات من رواة قراءة أبي عمرو بن العلاء أحد الأئمّة السّبعة. (¬2) العمريّ هذا هو الزّبير بن محمّد، أحد الثّقات راوي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع أحد الأئمّة القرّاء العشرة. (¬3) النّشر (2/ 410).

دعاء الختم

الأفضل، بل المشروع المسنون، فإنّ هؤلاء الأئمّة من القرّاء لم يكونوا يكبّرون لا في أوائل السّور ولا في أواخرها» (¬1). دعاء الختم: لا يثبت فيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم صيغة ولا فضيلة ولا شيء (¬2)، وإنّما ثبت فيه من الأثر: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 226). ونفيه التّكبير عن قراءة أبي عمرو مع ما تقدّم ذكره عن السّوسيّ، وجهه: المشهور المعروف من قراءة أبي عمرو، والّذي ذكره ابن الجزريّ زيادة علم وفائدة. (¬2) أخرج البيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2082) - ومن طريقه: ابن الجزريّ في «النّشر» (2/ 464 - 465) - من طريق عمرو بن شمر (تحرّف إلى: سمرة)، عن جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر، قال: كان عليّ بن حسين يذكر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا ختم القرآن حمد الله بمحامد ... فساق حديثا طويلا. وقال البيهقيّ قبل إيراد هذا الحديث: «وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في دعاء الختم حديث منقطع بإسناد ضعيف، وقد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدّعوات وفضائل الأعمال متى ما لم يكن من رواته من يعرف بوضع الحديث أو الكذب في الرّواية». قلت: وليس الأمر كما قال غفر الله له، فإنّ عمرو بن شمر كذّاب معروف، وجابر الجعفيّ متّهم بالكذب. وفي الباب خبر واه من حديث أبي هريرة، وثان معضل، ذكرهما ابن الجزريّ في «النّشر» (2/ 464).

فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنّه كان إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعا لهم (¬1). والعمل به منقول عن جماعة من السّلف، منهم: مجاهد بن جبر، وعبدة بن أبي لبابة، والحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل (¬2). وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى حسنه، واختار العمل به. قال حنبل بن إسحاق: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: «إذا فرغت ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه سعيد بن منصور (رقم: 27 - فضائل القرآن) والدّارميّ (رقم: 3348) والفريابيّ في «الفضائل» (رقم: 83، 84) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 674) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2070) من طريقين عن ثابت، عن أنس، به. وإسناده صحيح. تابع ثابتا: قتادة عن أنس، بنحوه. أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» (رقم: 809) وابن أبي شيبة (رقم: 30029) - وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 109) وابن الضّريس (رقم: 84) والفريابيّ (رقم: 85، 86) من طريقين عن قتادة. وإسناده صحيح. قال البيهقيّ: «هذا هو الصّحيح موقوف، وقد روي من وجه آخر عن قتادة عن أنس مرفوعا، وليس بشيء» ثمّ أسنده (رقم: 2071) ثمّ قال: «رفعه وهم، وفي إسناده مجاهيل، والصّحيح رواية ابن المبارك عن مسعر موقوفا على أنس بن مالك». (¬2) أخرج ذلك عنهم: ابن أبي شيبة (رقم: 30031) وأبو عبيد (ص: 107) وابن الضّريس (رقم: 49، 81، 86) والفريابيّ (رقم: 88 - 92) وهو صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة (رقم: 30033) والفريابيّ (رقم: 87) بإسناد صحيح عن مجاهد قال: «الرّحمة تنزل عند ختم القرآن»

من قراءتك قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 فارفع يديك في الدّعاء قبل الرّكوع»، قلت: إلى أيّ شيء تذهب في هذا؟ قال: «رأيت أهل مكّة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكّة». قال عبّاس بن عبد العظيم: «وكذلك أدركت النّاس بالبصرة وبمكّة، وروى أهل المدينة في هذا أشياء، وذكر عن عثمان رضي الله عنه». وقال الفضل بن زياد: «سألت أبا عبد الله، يعني أحمد بن حنبل، فقلت: أختم القرآن، أجعله في التّراويح أو في الوتر؟ قال: اجعله في التّراويح، يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصّلاة، وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: فقلت كما أمرني وهو خلفي، يدعو قائما، ويرفع يديه» (¬1). وقال أبو داود السّجستانيّ: «فلمّا فرغ- يعني الإمام- من قراءة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 رفع الإمام يديه في الصّلاة ورفع النّاس، وأحمد معنا، فقام ساعة يدعو، ثمّ ركع» (¬2). فحاصل هذا: أنّ الدّعاء عند ختم القرآن فعل سلفيّ قديم، لا يوصف فاعله بالإحداث؛ للمأثور الّذي ذكرت عن أنس وغيره. ¬

(¬1) النّشر، لابن الجزريّ (2/ 455 - 456)، ونقل أبو داود في «المسائل» (ص: 64) عن أحمد نحو الّذي حكاه حنبل عن أهل مكّة وسفيان. (¬2) مسائل الإمام أحمد بن حنبل- رواية أبي داود (ص: 63 - 64).

ختم التلاوة بالتصديق مما جرت به عادة القراء، وليس بسنة

لكنّه ليس بسنّة، وإنّما يقال فيه: هو حسن جائز، وحسنه من جهة أنّ قراءة الختمة عمل صالح كثير الثّواب على التّلاوة، ومن أسباب إجابة الدّعاء أن يقدّم الإنسان بين يدي دعائه عملا صالحا. ختم التّلاوة بالتّصديق ممّا جرت به عادة القرّاء، وليس بسنّة: قول التّالي عند ختم التّلاوة: (صدق الله العظيم) لم يرد فيه حديث ولا أثر، وأصل ذلك في أقدم ما رأيت ما ذكره الحكيم التّرمذيّ الصّوفيّ من علماء المائة الثّالثة، فإنّه قال في جملة أشياء من الأدب مع القرآن: «وإذا انتهت قراءته أن يصدّق ربّه، ويشهد بالبلاغ للرّسل صلوات الله عليهم، ويشهد على ذلك أنّه حقّ، فيقول: صدقت ربّنا، وبلّغت رسلك، ونحن على ذلك من الشّاهدين، اللهمّ اجعلنا من شهداء الحقّ، القائمين بالقسط، ثمّ يدعو بدعواته» (¬1)، ثمّ رأيت جماعة تابعوه على ذكره، منهم الحليميّ صاحب «شعب الإيمان» (¬2) وعلى أثره البيهقيّ (¬3)، وممّن بعدهم أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر (¬4). وأمّا الصّيغة المستعملة عند القرّاء اليوم (صدق الله العظيم)، فأصلها ¬

(¬1) نوادر الأصول، للحكيم (ص: 333 - الطّبعة المختصرة). (¬2) ذكر ذلك في «المنهاج في شعب الإيمان» (2/ 210). (¬3) في كتابه «شعب الإيمان» (2/ 319) نقلا عن الحليميّ. (¬4) في «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 27 - 28) والتّذكار (ص: 126).

في سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر، من ذلك: حديث بريدة بن الحصيب، رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن والحسين، رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثمّ قال: «صدق الله إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ* [التّغابن: 15]، رأيت هذين فلم أصبر» ثمّ أخذ في الخطبة (¬1). أقول: ولا يدلّ هذا الحديث وشبهه على استحسان صنيع القرّاء فيما يفعلونه عقب كلّ تلاوة، فإنّهم جعلوه كالسّنّة الثّابتة بمنزلة الاستعاذة المأمور بها عند الابتداء، وهذا غلط على الشّرع، صيّر العامّة يظنّون ذلك كالجزء الّذي لا بدّ منه لختم التّلاوة. لكن في الحديث دلالة على حسن ذلك لو وقع أحيانا، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يرد عنه جعله من سنّة التّلاوة، فالواجب الوقوف عند ذلك، فإنّه كان أشدّ الأمّة تعظيما لكلام ربّه تعالى. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 354) وأبو داود (رقم: 1109) والتّرمذيّ (رقم: 3774) والنّسائيّ (رقم: 1413، 1585) وابن ماجة (رقم: 3600) من طرق عن الحسين بن واقد، قال: حدّثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به. قلت: وإسناده صحيح، وقال التّرمذيّ: «حديث حسن غريب».

استماع القرآن

استماع القرآن: مستمع القرآن يشارك القارئ في وجوب إخلاص النيّة، والتّدبّر، والتّخلّق بأخلاق القرآن، والحذر من القول فيه بغير علم، ومن المراء فيه، كما يشاركه في الخشوع عند استماعه، وإجابة الآية، والسّجود عند استماعه آية السّجدة، وغير ذلك من الآداب والأحكام الّتي تدرك ممّا تقدّم. ويختصّ بوجوب الإنصات، لقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 [الأعراف: 204]. وممّا يحسن التّنبيه عليه أنّ النّاس اليوم يستمعون القرآن عن طريق الوسائل السّمعيّة بصوت قارئ مسجّل، فهل لذلك حكم استماعه من القارئ بحضرته؟ الجواب: نعم؛ لأنّ العبرة بالقراءة، وهي حاصلة، فعليه فإنّه يجب الإنصات لها، كما يسجد للتّلاوة إذا استمع آية السّجدة. وأمّا الأجر فيه فقد ثبت عن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: «من استمع آية من كتاب الله كانت له نورا يوم القيامة» (¬1). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 6012) - ومن طريقه: الدّارميّ (رقم: 3244) - قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، وابن جريج عن عطاء متّصل، وهذا عطاء بن أبي رباح، والخبر لا يقال مثله من قبل الرّأي.

المبحث الثالث: أحكام تتعلق بالمصاحف

المبحث الثالث: أحكام تتعلق بالمصاحف تعظيم المصحف شعبة من الإيمان، ذلك لما فيه من كلام الله ربّ العالمين تبارك وتعالى، وقد ترتّب على هذا التّعظيم أحكام ومسائل كثيرة، كردّة المستهين به، وانعقاد اليمين بالحلف به، وغير ذلك. وقصدت في هذا المبحث ذكر طرف من تلك الأحكام، وهو ما تمسّ حاجة التّالي إلى معرفته، فإليك ذلك: 1 - مسّ المصحف مع الحدث: تقدّم في أدب القارئ بيان جواز قراءته للقرآن مع الحدث، أصغر كان أو أكبر، ومثله القول في مسّ المصحف، مع الحثّ على الطّهارة استحبابا. والوجه في الجواز: أنّه الأصل، ولم يثبت ما ينقله عن ذلك. وتقدّم في المبحث السّابق حديث ابن عبّاس، رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فقرّب إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: «إنّما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصّلاة». وفيه دليل على أنّ مسّ المصحف لم يؤمر بالوضوء له. وأكبر ما تعلّق به من منع المحدث من مسّ المصحف آية وحديث، فأمّا الآية فقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 79 [الواقعة: 77 - 79]، فقالوا: دلّت الآية على حرمة مسّ المصحف لمن لم يكن على طهارة.

وهذا التّفسير خطأ في اللّغة، فإنّ فاعل الطّهارة لا يسمّى (مطهّرا) وإنّما يقال فيه: (مطّهّر) و (متطهّر) بصيغة اسم الفاعل، فهذا دليل على أنّ المعنى في ذلك لا يعود إلى المكلّف، ولذا قال من قال من السّلف: الْمُطَهَّرُونَ الملائكة، وهذا التّفسير هو المناسب لعود الضّمير في قوله: يَمَسُّهُ فإنّه في أصل اللّغة إنّما يعود إلى أقرب مذكور في السّياق، وهو هنا الكتاب المكنون، وهو عند الله تعالى في السّماء، كما قال سبحانه: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ 16 [عبس: 13 - 16]. ولو قال قائل: يحسن بالمسلم اكتساب الطّهارة ما استطاع لمسّ المصحف تشبّها بالملائكة في تلك الصّفة، فأقول: نعم، هذا معنى صحيح يستفاد من شرعيّة التّشبّه بالملائكة في صفتهم، وقد جاء النّدب إليه، كما في حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها؟» قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف تصفّ الملائكة عند ربّها؟ قال: «يتمّون الصّفوف الأول، ويتراصّون في الصّفّ» (¬1). لكن غاية ما يفيده مثل هذا الاستدلال هو استحباب التّطهّر لمسّ ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 101، 106) ومسلم (رقم: 430) وأبو داود (رقم: 661) والنّسائيّ (رقم: 816) وابن ماجة (رقم: 992) من طرق عن الأعمش، عن المسيّب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، به.

المصحف، أمّا الوجوب فلا ينهض دليلا عليه. وأمّا الحديث الّذي استدلّوا به على فرض الطّهارة لذلك، فهو حديث: «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر». وهذا على لفظ النّفي ومعناه النّهي، وقد بيّنت وجهه في موضع آخر بما حاصله: أنّ وصف (طاهر) ثابت للمسلم بإسلامه، لا يزيله عنه حدث إلّا الكفر، لما جاء من حديث أبي هريرة: أنّه لقيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب، فانسلّ فذهب فاغتسل، فتفقّده النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا جاءه قال: «أين كنت يا أبا هريرة؟» قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب فكرهت أن أجالسك حتّى أغتسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! إنّ المؤمن (وفي لفظ: المسلم) لا ينجس». وكذلك وقع لحذيفة بن اليمان نحو قصّة أبي هريرة (¬1). فهذا دليل بيّن على أنّ الطّهارة ثابتة للمسلم لا يزيلها عنه جنابة أو ما دونها. وهذا بخلاف الكافر، فإنّ الله تعالى قال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التّوبة: 28]، وبغضّ النّظر عن معنى النّجاسة فيه، فإنّه وصف مانع لنا من تمكينه من مسّ المصحف في الأصل، والاستثناء من ذلك على ما سيأتي واقع بقيد. ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاريّ (رقم: 279، 281) ومسلم (رقم: 371). وانفرد به مسلم (رقم: 372) عن حذيفة.

ويتأيّد هذا الّذي ذكرته في تفسير حديث «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر» أنّ في طرقه ما بيّن سببه، وهو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث به إلى أهل اليمن، وفيهم أهل كتاب، فنبّه بذلك على عدم تمكينهم من المصاحف للمعنى الّذي ذكرت (¬1). وعن الحسن البصريّ، رحمه الله، أنّه كان لا يرى بأسا أن يمسّ المصحف على غير وضوء، ويحمله إن شاء (¬2). والمذاهب المنقولة عن السّلف من الصّحابة والتّابعين ليس فيها ما يعارض هذا في التّحقيق. كالّذي جاء عن سعد بن أبي وقّاص، رضي الله عنه، فعن مصعب ابنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقّاص، فاحتككت، فقال سعد: لعلّك مسست ذكرك؟ قال: فقلت: نعم، فقال: قم فتوضّأ، فقمت فتوضّأت، ثمّ رجعت (¬3). ¬

(¬1) وتفصيل القول في الحديث بيانا لدرجته ومعناه في كتابي «حكم الطّهارة لغير الصّلوات»، وقد ترجّح لي أنّه حديث ضعيف، أحسن طرقه رواية مرسلة، وليس له طريق موصول صالح. وانظر أيضا حول معنى الحديث كتابي «الأجوبة المرضيّة عن الأسئلة النّجديّة» (ص: 35 - 39). (¬2) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 401) قال: حدّثنا يزيد، عن هشام، عن الحسن، به. قلت: وهذا إسناد صحيح، يزيد هو ابن هارون، وهشام هو ابن حسّان. (¬3) أثر صحيح. أخرجه مالك في «الموطّأ» (رقم: 101) عن إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقّاص، عن مصعب بن سعد، به. وإسناده صحيح.

وعن ابن عمر، أنّه كان لا يأخذ المصحف إلّا وهو طاهر (¬1). وروي عن عطاء بن أبي رباح وطاوس اليمانيّ ومجاهد المكّيّ (¬2) وغيرهم نحو ذلك. فهذا وشبهه منهم محمول على استحباب الطّهارة، وإنّما ظهر التّصريح بحرمة مسّ المصحف بغير طهارة فيمن بعدهم. فجملة القول في هذه المسألة: أنّ التّطهّر لمسّ المصحف مستحبّ وليس بواجب (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 122) قال: حدّثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به. وأعاده (ص: 400) بنفس الإسناد، لكن فيه (عبد الله) بدل (عبيد الله)، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله ثقة. (¬2) قال سعيد بن منصور (رقم: 101 - فضائل): حدّثنا شريك، عن ليث، عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، أنّهم قالوا: «لا يمسّ القرآن إلّا وهو طاهر، أو قالوا: المصحف». وإسناده ضعيف، شريك هو القاضي، وليث هو ابن أبي سليم، ضعيفان. (¬3) وممّا يحسن التّنبيه عليه قبل مفارقة هذه المسألة، ما رأيت الاستدلال به عند قليل من متأخّري العلماء، وكثير من العامّة لوجوب التّطهّر لمسّ المصحف، ذلك هو قصّة إسلام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، حين دخل على أخته فرأى صحيفة، قال عمر: فقلت: ما هذه الصّحيفة هاهنا؟ فقالت لي: دعنا عنك يا ابن الخطّاب، فإنّك لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهّر وهذا لا يمسّه إلّا المطهّرون، فما زلت بها حتّى أعطتنيها. والعامّة يزيدون فيه: فذهب فاغتسل. وهذه الزّيادة كذب لا أصل لها في القصّة، ثمّ كيف تصحّ الطّهارة من مشرك؟ فعمر ساعتها لم يكن أسلم بعد. أمّا الرّواية دون الزّيادة العامّيّة فأخرجها البزّار في «مسنده» (رقم: 279) من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنينيّ، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال عمر بن الخطّاب، فذكر ذلك في قصّة فيها طول. قلت: وإسناده واه جدّا، الحنينيّ هذا ضعيف الحديث، وشيخه أسامة هو ابن زيد بن أسلم ضعيف مثله.

2 - السفر بالمصحف إلى أرض الكفار

2 - السّفر بالمصحف إلى أرض الكفّار: أصل هذه المسألة حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن، فإنّي لا آمن أن يناله العدوّ». وفي لفظ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ، مخافة أن يناله العدوّ (¬1). فهذا الحديث صريح في النّهي عن السّفر بالمصحف أو بعض القرآن في صحيفة أو غيرها، لا يحلّ للمسلم أن يمكّن من مسّه كافرا معاديا، وذلك مخافة تعدّيهم عليه بالإهانة. والتّعبير بلفظ (العدوّ) كالقيد، إذ ليس كلّ كافر معاديا للمسلمين، كما قال تعالى في آية كفّارة القتل: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى ¬

(¬1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 2828) ومسلم (رقم: 1869) واللّفظان له. وحول الحديث كلام في ذكر التّعليل فيه، هل هو من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أدرج من بعض الرّواة؟ والصّواب أنّه مرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنته في كتاب «علل الحديث».

ويتفرع عن هذه المسألة: هل يجوز أن يعطى الكافر مصحفا يقرأ فيه بغرض دعوته إلى الإسلام؟

أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النّساء: 92]. ففرّق الله تعالى بين صنفين من الكفّار: العدوّ المحارب، والمسالم الّذي بين المسلمين وبينه عهد وميثاق، ولم يسمّه عدوّا مع كفره، لأجل الميثاق. والّذي يتصوّر منه الاعتداء على القرآن إنّما هو الكافر الحربيّ، لا من بينه وبين المسلمين عهد. وعليه: فحمل المصحف إلى أرض الحرب هو المراد بالحديث، أمّا إلى أرض عهود ومواثيق يكون المسلم آمنا فيها على القرآن وعلى دينه، فلا حرج من أن يكون معه فيها مصحفه، كما يقتضيه واقع النّاس في زماننا. وقد صرّح فقهاء الحنفيّة أنّ المسلم إذا دخل بلاد الكفّار بأمان جاز حمل المصحف معه إذا كانوا يوفون بالعهد (¬1). ويتفرّع عن هذه المسألة: هل يجوز أن يعطى الكافر مصحفا يقرأ فيه بغرض دعوته إلى الإسلام؟ تقدّم في المسألة السّابقة تأويل حديث «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر» على معنى: لا يمكّن من مسّه إلّا مسلم، ولا يختلف في إرادة الكافر بالمنع بمقتضى هذا الحديث، وكلّ من منع المسلم المحدث من مسّ المصحف وهم جمهور العلماء يمنعون الكافر من مسّه، بل لم أجد في أهل العلم أحدا يرخّص للكافر في مسّ المصحف حتّى عند الأمن من تعرّضه له بالإهانة، ¬

(¬1) الدّرّ المختار مع حاشية ابن عابدين (4/ 130).

سوى بعض الأثر المنقول عن بعض السّلف، كما سيأتي ذكره. واستثني تمكين الكافر من بعض القرآن يكون في كتاب بغرض دعوته، استدلالا بحديث ابن عبّاس في قصّة كتابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الرّوم يدعوه إلى الإسلام، وفيه آية من كتاب الله (¬1). والّذي تحرّر لي من النّظر في هذه المسألة هو: أنّا نعلم أنّ الله تعالى أنزل هذا القرآن بلاغا لكلّ النّاس، كما قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً 174 [النّساء: 174]، فكلّ بني آدم مخاطبون به: مسلمهم وكافرهم، وهو يبلّغ تلاوة، كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التّوبة: 6]، ويبلّغ كتابة، كما وقع في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فالتّلاوة والكتابة جميعا وسيلتان للتّبليغ، ولا يذهب أحد إلى منع تمكين الكافر من استماع القرآن، بل الدّعاة إلى الله تعالى مأمورون بإسماع القرآن، فإذا صحّ هذا ساغ أن يبلّغوه كتابة كما يبلّغونه تلاوة، حيث تساويا جميعا بهذا الاعتبار. ثمّ نحن اليوم في زمان تعيّن الكتاب فيه كطريق من أهمّ طرق التّبليغ، كما يحصل بطريق الأشرطة الصّوتيّة المسجّلة، بل الواقع يشهد لاعتبار ¬

(¬1) قصّة هرقل متّفق عليها، أخرجها: البخاريّ (رقم: 7، ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 1773). وهذا المعنى في الكتابة إلى الكافر بالآية والآيتين حكى النّوويّ الاتّفاق على جوازه (انظر: المجموع 2/ 84، فتح الباري 6/ 134).

تقديم الكتاب في التّبليغ، فإذا كان الكافر مقصودا برسالة الإسلام فلا ينبغي أن يحال بينه وبين الأسباب الّتي تمكّنه من الوصول إليها، والّتي تعدّ المصاحف من جملتها. لكنّ الإذن بذلك مشروط بشرطين: الأوّل: أن يغلب على الظّنّ عدم تعرّض الكافر للمصحف بالإهانة. والثّاني: أن يمكّن من المصحف على سبيل الإعارة المؤقّتة بمدّة تكفيه للاطّلاع عليه، لا التّمليك بالإهداء وشبهه. والعلّة في عدم التّمليك: أنّ الرّخصة إنّما وقعت لأجل مصلحة التّبليغ، وهي تتمّ بذلك، ولأنّ إقامته على الكفر لا نضمن معها أن يتعرّض المصحف للإهانة منه أو من غيره. فإن قيل: فكيف نوفّق بين هذا وحديث: «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر»؟ قلت: المعنى فيه ما نخشى أن يتعدّى منه بسبب نجاسة الاعتقاد ممّا ينافي تعظيم القرآن، فحيث اشترطنا الأمن من ذلك فقد زال المحذور. ولا يخرج عن الشّرطين المذكورين ما جاء عن علقمة بن قيس النّخعيّ: أنّه أراد أن يتّخذ مصحفا، فأعطاه نصرانيّا فكتبه له (¬1). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 401) وابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 133) من طرق عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة. قلت: وهذا إسناد صحيح من أصحّ الأسانيد.

3 - بيع المصحف وشراؤه

3 - بيع المصحف وشراؤه: اختلف أهل العلم من السّلف في الإذن في ذلك أو عدمه على مذاهب، تعود إجمالا إلى ثلاثة: الأوّل: كراهة بيعها وشرائها. وهو قول عبيدة السّلمانيّ، وعلقمة بن قيس النّخعيّ، ومحمّد بن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ (¬1). والثّاني: كراهة بيعها دون شرائها. وهذا روي عن عمر بن الخطّاب، ولم يصحّ (¬2)، لكن صحّ عن عبد الله بن عبّاس في إحدى الرّوايتين، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ (¬3). كما صحّ عن عبد الله بن عمر، قال: «وددت أنّ الأيدي تقطع في بيع المصاحف» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 390) عنهم سوى علقمة، وسعيد بن منصور (رقم: 111) عن ابن سيرين وحده، و (رقم: 123) عن عبيدة وحده، وعبد الرّزّاق (رقم: 14523) عن علقمة وحده، وأسانيدهم صحيحة. (¬2) أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 159، 160). (¬3) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 14521) وابن أبي داود (ص: 173) عن ابن عبّاس، وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 389) عن جابر. (¬4) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 14525) وابن أبي داود (ص: 161) بإسناد صحيح.

وعن عبد الله بن شقيق العقيليّ، قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف، وتعليم الغلمان بالأجر، ويعظّمون ذلك» (¬1). كذلك صحّ القول بالكراهة عن شريح القاضي، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيّب، وعبد الله بن يزيد الخطميّ، وسعيد بن جبير، والزّهريّ (¬2). والثّالث: جواز بيعها وشرائها. رويت الرّخصة فيه عن عبد الله بن مسعود (¬3). وصحّ عن عبد الله بن عبّاس: أنّه سئل عن بيع المصاحف؟ فقال: إنّما يأخذون أجور أيديهم (¬4). وصحّ عن عامر الشّعبيّ قال: «إنّما يأخذ ثمن ورقه وأجر كتابته» (¬5). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 14534) وسعيد بن منصور (رقم: 104). (¬2) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 14519، 14520) وسعيد بن منصور (رقم: 110، 112) عن شريح ومسروق والخطميّ، وعبد الرّزّاق (رقم: 14517) عن ابن المسيّب وحده، و (رقم: 14516) عن الزّهريّ وحده، وسعيد بن منصور (رقم: 121، 122) وأبو عبيد (ص: 389) عن سعيد بن جبير وحده. (¬3) أخرجه البيهقيّ في «الكبرى» (6/ 17) وضعّفه، وهو كذلك. (¬4) أخرجه ابن أبي داود (ص: 175) بإسناد صحيح. (¬5) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 14527) وسعيد بن منصور (رقم: 117، 118) بإسناد صحيح.

وذهب إلى الجواز كذلك: الحسن البصريّ، وسعيد بن جبير في الرّواية الأخرى، وأبو الشّعثاء جابر بن زيد (¬1). وأمّا من بعدهم من أهل العلم فلم تخرج مذاهبهم عن هذه الثّلاثة. والوجه في المذهب الأوّل خوف التّأكّل بالقرآن ببيع المصاحف، وعدم الإعانة على ذلك بشرائها. والوجه في الثّاني في الإذن بالشّراء: مسيس الحاجة إلى المصاحف. والوجه في الثّالث البناء على الأصل، إذ المنفعة في البيع حاصلة بسبب ما يبذل في كتابته من جهد، وما يحتاج إليه في إعداده من ورق ومادّة كتابة وجلد وغير ذلك، وتلك أشياء مقوّمة، يجوز بيعها وشراؤها، هذا مع ما ينضمّ إليه من حاجة النّاس إلى المصاحف. وهذا الثّالث هو أصحّ مذاهبهم، إذ لو صحّح أصل المنع لذهبت به على النّاس مصالح عظيمة، فذلك ممّا يقلّ به انتشار المصحف، كما أنّا إذا تركنا كلّ أحد إلى اختياره في كتابة المصاحف لعجز أكثر النّاس، كما أنّه سيكتبه من يحسن ومن لا يحسن، بخلاف أن تختصّ به طائفة تحسن كتابته وطباعته ومراجعته وتغليفه، فتجعله بين أيدي النّاس ميسور الأخذ، محكم الصّنعة، ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد (ص: 391) عن الحسن والشّعبيّ وابن جبير، وعبد الرّزّاق (رقم: 14528) وسعيد بن منصور (رقم: 113، 115) عن أبي الشّعثاء والحسن والشّعبيّ، وسعيد (رقم: 116) عن الحسن وحده بأسانيد صحيحة.

4 - تكريم المصحف

سليما من التّحريف، مضبوطا واضحا في خطّه وإخراجه. وما علّل به ابن عبّاس والشّعبيّ هو الّذي ينبغي أن تكون عليه نيّة البائع، وهو أنّ ما يستفيده من أجر ولو بربح؛ يكون على معاناته في الكتابة والإعداد. وممّا يحسن التّنبيه عليه هنا: أنّ العامّة إذا جاءوا إلى بائع المصاحف قالوا: (كم هديّة هذا المصحف) احترازا من لفظ البيع أو القيمة، وهذا خطأ في صيغ العقود، فإنّ المشتري لم يقصد الاستهداء، ولا بالبائع قصد الإهداء، وإنّما هي عمليّة بيع وشراء، فلا ينبغي أن يحتال عليها بتلك الألفاظ، فذلك تكلّف مذموم، وإن حسنت معه المقاصد. 4 - تكريم المصحف: كلّ فعل لم تنه عنه الشّريعة، ممّا يقصد به تكريم المصحف وتعظيمه، فهو حسن مقبول؛ لأنّ ما كان من الأفعال مباحا في الأصل إذا استعمل للتّوصّل به إلى مشروع فهو مشروع بهذا الاعتبار، ما لم يعتقد صاحبه أنّه سنّة لذاته، أو مطلوب لذاته؛ خشية أن يضيف لدين الإسلام ما ليس منه. ومن هذا ما يتّصل من الأفعال بتعظيم المصحف، فإنّ ذلك من الإيمان كما قدّمناه أوّل هذا المبحث، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحجّ: 32]، وهذا عامّ في كلّ ما أشعر الله به

عباده وأعلمهم، كلّ ذلك تعظيمه من التّقوى. وهذا باب مرجعنا فيه إلى عمومات النّصوص، ولا يطلب له النّصّ الخاصّ من الهدي النّبويّ؛ لأنّ المصاحف لم تكن وجدت يومئذ، فإذا صحّ ذلك كان مقتضى العموم إباحة كلّ فعل يحصل به التّعظيم، غير أنّ من النّاس من قد يصير إلى التّكلّف فيه، لذا وجب أن يضبط بضابط، وأحسن ما نراه ضابطا لذلك هو: أن يكون الفعل الّذي قصد به تعظيم المصحف ممّا أثر عن سلف الأمّة، من الصّحابة والتّابعين، ولسنا نعني بذلك التّخصيص للعامّ بأفعالهم، أو الاحتجاج بها، وإنّما قصدنا إلى منع التّكلّف، وهو مقصود شرعيّ صحيح، وهدي السّلف أبعد عن التّكلّف مع شدّة تعظيمهم للقرآن، والمصاحف كثرت في أزمانهم، فما وجدناه من الأفعال منقولا عنهم، أو وجدنا عنهم نظيره، فهو الّذي ينتهى إليه، وما لم ينقل عنهم ولم نجد له نظيرا في هديهم فيترك. وإنّما دعانا إلى هذا التّنبيه أن وجدنا من النّاس من يتكلّف أمورا يتديّن بها ممّا يعدّها من تعظيم المصحف، والعمل بها من التّنطّع في الدّين، والمشقّة على النّفس وعموم المسلمين، مثل: قيام الشّخص للمصحف إذا أحضر. وإذا كان المصحف في جهة فإنّه لا يستدبره، فإذا كان في موضع فأراد الخروج منه، استقبل المصحف ورجع القهقرى حتّى يفارق الموضع.

أما التعظيم الذي وجدنا له أصلا في النصوص أو فعل السلف، فمثل

ومن ذلك إنكار بعضهم أن توضع المصاحف في خزانات أو على رفوف ترتفع عن الأرض قليلا، ويرون أن يكون المصحف أعلى من هامة الإنسان. إلى غير ذلك. أمّا التّعظيم الّذي وجدنا له أصلا في النّصوص أو فعل السّلف، فمثل: وضع المصحف في محلّ مرتفع عن الأرض، كحامل، أو في حجر القارئ، أو على رفّ، أو شبه ذلك. وممّا يدلّ عليه، حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: أتى نفر من يهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القفّ، فأتاهم في بيت المدراس (¬1)، فقالوا: يا أبا القاسم، إنّ رجلا منّا زنى بامرأة، فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثمّ قال بالتّوراة فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، فوضع التّوراة عليها، ثمّ قال: «آمنت بك وبمن أنزلك» ثمّ قال: «ائتوني بأعلمكم» فأتي بفتى شابّ، فذكر قصّة الرّجم (¬2). موضع الشّاهد منه: وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّوراة على الوسادة تكريما. ¬

(¬1) القفّ: اسم واد من أودية المدينة، والمدراس: موضع دراستهم. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (رقم: 4449) من طريق ابن وهب، حدّثني هشام بن سعد، أنّ زيد بن أسلم حدّثه، عن ابن عمر، به. قلت: وهذا إسناد جيّد، هشام بن سعد صدوق حسن الحديث، لكنّه من أثبت النّاس في زيد بن أسلم خاصّة.

تقبيل المصحف

وليس هذا وما في معناه بواجب، إنّما هو حسن جميل، فلا ينكر على تاركه، ولا يقال فيه: لم يعظّم القرآن. فعن عطاء بن أبي رباح: أنّ رجلا قال لابن عبّاس: أضع المصحف على فراش أجامع عليه وأحتلم فيه وأعرق عليه؟ قال: نعم (¬1). ومن هذا الباب ما ذكره بعض العلماء: أن لا يضع فوق المصحف كتابا أو شيئا، إلّا أن تكون مصاحف فوق بعضها فلا بأس. تقبيل المصحف: عن ابن أبي مليكة، قال: كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف ويضعه على وجهه، ويبكي، ويقول: كتاب ربّي، كتاب ربّي (¬2). في هذا الأثر من الدّلالة: أنّ ما يكون من تقبيل المصحف، أو ما في معناه، فهو سائغ حسن، وليس بسنّة. أن لا يقول: (مصيحف) تصغيرا، فهذا ممّا لا يناسب الاحترام. وفيه عن سعيد بن المسيّب، قال: لا يقول أحدكم: مصيحف، ولا: ¬

(¬1) أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 1331) عن ابن جريج، عن عطاء، وإسناده صحيح. (¬2) أثر صحيح. أخرجه الدّارميّ (رقم: 3228) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2229) من طريق سليمان بن حرب، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن أيّوب، عن ابن أبي مليكة، به. وإسناده صحيح.

5 - ماذا يصنع بأوراق المصحف البالية؟

مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل (¬1). 5 - ماذا يصنع بأوراق المصحف البالية؟ مما يقتضيه احترام القرآن وتعظيمه أنّ ما يبلى من أوراقه بسبب القدم، أو ما شقّ الانتفاع به منه لتشقّق أوراقه وتقطّعها، أو نحو ذلك، فيتوقّى المسلم رميه في نفايات قد تخلطه بقذر، أو تعرّضه لدوس أو شبه ذلك ممّا ينافي الاحترام، وعليه أن يزيل أثره، وأحسن ذلك: إمّا بتقطيعه حتّى تذهب معالمه، بحيث لا يمكن أن يقرأ منه شيء. وإمّا بحرقه، كالّذي أمر به أمير المؤمنين عثمان بن عفّان حين جمع المصحف الإمام، كما ذكرته في محلّه من هذا الكتاب، وأقرّه عليه جمهور الصّحابة، ومن زعم أنّه خلاف احترام القرآن فقد أخطأ على الصّحابة (¬2)، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي داود (ص: 153) بإسناد حسن. ورويت كراهة ذلك عن مجاهد. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30219) وسعيد بن منصور (رقم: 85) وابن أبي داود (ص: 152، 153) بإسناد ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف الحديث. كما روي في النّهي عنه حديث موضوع، انظر: «السّير» للذّهبيّ (14/ 546). (¬2) وذلك من جهة أنّهم كانوا أشدّ النّاس تعظيما للقرآن، ومع ذلك فقد فعلوه، فدلّ صنيعهم على أنّ ذلك لا ينافي الاحترام. وما أخرجه ابن أبي داود (ص: 195) بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعريّ أنّه أتي بكتاب فقال: «لولا أنّي أخاف أن يكون فيه ذكر الله عزّ وجلّ لأحرقته»؛ فهذا رأي له في كراهة ذلك، وفعل الخليفة الرّاشد وموافقة الجماعة له أولى.

6 - فضل التلاوة من المصحف

وهذا أحسن الطّريقين. وذهبت طائفة من العلماء إلى أن يزال أثره بالغسل، أو الدّفن، والواقع أنّ الطّريقين الأخيرين لا يحقّقان المقصود اليوم؛ لأنّ مادّة الخطّ لا تذهب بالرّطوبة والماء (¬1). 6 - فضل التّلاوة من المصحف: ورد في هذا الباب وفضله أحاديث، لكنّها بين ضعيف وموضوع، ولا يصحّ في فضل النّظر في المصحف حديث، وأحسب العلّة فيه من جهة أنّ المصاحف إنّما شاعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) عن إبراهيم النّخعيّ، قال: كانوا يأمرون بورق المصحف إذا بلي أن يدفن. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 397) بإسناد رجاله ثقات، في اتّصاله نظر. وانظر: «البرهان» للزّركشيّ (1/ 477). (¬2) وأحسن شيء يروى مرفوعا في هذا الباب: حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يحبّه الله ورسوله فليقرأ في المصحف». وهذا حديث ضعيف منكر. أخرجه ابن عديّ في «الكامل» (3/ 387) وابن شاهين في «التّرغيب في فضائل الأعمال» (رقم: 190) وأبو نعيم في «الحلية» (رقم: 10367) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2219) من طرق عن إبراهيم بن جابر، قال: حدّثنا الحرّ بن مالك أبو سهل العنبريّ، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، به. تفرّد به الحرّ بن مالك، صرّح بذلك ابن عديّ، وأبو نعيم، والبيهقيّ. وقال ابن عديّ والبيهقيّ: «منكر»، وقال الذّهبيّ في «الميزان» (1/ 471) في ترجمة (الحرّ): «أتى بخبر باطل» فذكر هذا الحديث، وزاد: «وإنّما اتّخذت المصاحف بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم». قلت: وهذا تعليل دقيق، خلافا لابن حجر حين ردّه في «اللّسان» (2/ 225) فقال: «وهذا التّعليل ضعيف، ففي الصّحيحين: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن يناله العدوّ، وما المانع أن يكون الله أطلع نبيّه على أنّ أصحابه سيتّخذون المصاحف؟ لكنّ الحرّ مجهول الحال» فهذا تعقّب متعقّب، والحديث الّذي ذكره عن «الصّحيحين» في أمر يمكن وقوعه للمخاطبين يومئذ، فإنّ القرآن كان يكتب في عهده صلى الله عليه وسلم، بخلاف المصاحف صفة واسما، والمعنى في كلام الذّهبيّ أنّ لفظ المصاحف لم يكن يومئذ للقرآن الّذي بين الدّفّتين فكيف يخاطب به المكلّفون خطابا يقتضي الامتثال؟ وأمّا العلّة في الإسناد فليست جهالة الحرّ، فهو رجل معروف، وإنّما في كونه تفرّد بما لا يعرف من غير طريقه بإسناد مشهور تنشط همم النّقلة لروايته، ومن علامة المنكر أنّ يتفرّد من لم يتميّز بالإتقان برواية الحديث، والحرّ كذلك، وجائز أن يكون أصل ذلك موقوفا على ابن مسعود، فرفعه الحرّ خطأ.

لكن ثبت عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «أديموا النّظر في المصاحف» (¬1). ونقل فعله عن طائفة من السّلف. ¬

(¬1) أثر حسن. أخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 5979) وابن أبي شيبة (رقم: 8558، 30168) وأبو عبيد (ص: 104) والفريابيّ (رقم: 149، 150) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم: 8687، 8696) والبيهقيّ في «الشّعب» (رقم: 2220) من طريق سفيان الثّوريّ، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله، به. وإسناده حسن.

قال يونس بن عبيد (وهو من الثّقات من أصحاب الحسن البصريّ): «كان خلق الأوّلين النّظر في المصاحف» (¬1). وهذا يعود إلى ما في النّظر من الإعانة على زيادة التدبّر للقرآن؛ لاجتماع سببين: النّظر إلى المتلوّ مع النّطق به، كذلك تتحقّق به السّلامة من آفات النّسيان الّذي يعتري الحفظ عادة. ... ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 8561) بإسناد صحيح.

خاتمة

خاتمة وقع الفراغ من مراجعة هذا الكتاب سرر شهر محرم الحرام من سنة 1422 للهجرة. والله وحده أسأل القبول، كما أسأله المغفرة لما زل به فكري أو قلمي، وهو المحمود أولا وآخرا. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه صلاة وسلاما دائمين باقيين إلى يوم لقاه. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. ***

مسرد المراجع

مسرد المراجع 1 - الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1984 م). 2 - الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، نشر: دار إحياء العلوم، بيروت (1987 م). 3 - الأجوبة المرضية عن الأسئلة النجدية، لعبد الله بن يوسف الجديع، نشر: دار الإمام مسلم، الإحساء (1991 م). 4 - الآحاد والمثاني، لأبي بكر بن أبي عاصم، تحقيق: د. باسم فيصل الجوابرة، نشر: دار الراية، الرياض (1991 م). 5 - الأحاديث المختارة، لضياء الدين المقدسي، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، نشر: مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة (1990 - 1993 م). 6 - أحكام العورات في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 7 - إحكام الفصول، لأبي الوليد الباجي، تحقيق: د. عبد الله الجبوري، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1989 م). 8 - أحكام القرآن، عماد الدين ابن الطبري المعروف ب (الكياالهرّاسيّ)، تحقيق: موسى محمد علي، ود. عزت عطية، نشر: دار الكتب الحديثة، مصر (1974 م). 9 - أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، مصورة: دار الكتاب العربي، بيروت. 10 - أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، تحقيق: محمد علي البجاوي، مصورة: دار المعرفة، بيروت. 11 - أحكام القرآن، لأبي عبد الله الشافعي، جمع: أبي بكر البيهقي، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت (1975 م). 12 - الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد بن حزم، نشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت (1980 م). 13 - الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن محمد الآمدي، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، نشر: المكتب الإسلامي، دمشق- بيروت (1402 هـ).

14 - أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، نشر: مطبعة بريل، ليدن (1934 م). 15 - اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرحمن، لضياء الدين المقدسي، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1989 م). 16 - اختلاف الحديث، لأبي عبد الله الشافعي، تحقيق: عامر أحمد حيدر، نشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت (1985 م). 17 - أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: د. صالح بن محمد الونيان، نشر: دار المسلم، الرياض (1998 م). 18 - أخلاق حملة القرآن، لأبي بكر الآجري، تحقيق: د. محمد النقراشي السيد علي، نشر: مكتبة انهضة، القصيم (1987 م). 19 - آداب البحث والمناظرة، لمحمد الأمين الشنقيطي، نشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة- مكتبة العلم، جدة. 20 - آداب الشافعي ومناقبه، لأبي محمد بن أبي حاتم، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، نشر: مكتبة التراث الإسلامي، حلب. 21 - أدب الإملاء والاستملاء، للسمعاني، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1981 م). 22 - الأدب المفرد، لأبي عبد الله البخاري (مع شرحه: فضل الله الصمد)، نشر: المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة (1388 هـ). 23 - إرشاد الفحول، لمحمد بن علي الشوكاني، مصور: دار المعرفة، بيروت. 24 - الإرشاد، لأبي يعلى الخليلي، تحقيق: د. محمد سعيد بن عمر إدريس، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1989 م). 25 - الأسامي والكنى، لأحمد بن حنبل، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، نشر: دار الأقصى، الكويت (1985 م). 26 - أسباب نزول القرآن، لأبي الحسن الواحدي، تحقيق: السيد أحمد صقر، نشر: دار القبلة، جدة- الرياض (1984 م). 27 - الاستيعاب، لأبي عمر بن عبد البر (بهامش: الإصابة)، تحقيق: د. طه محمد الزيني، نشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة (1968 م). 28 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين ابن الأثير، تحقيق: خليل مأمون شيحا، نشر: دار المعرفة، بيروت (1997 م).

29 - أسرار ترتيب القرآن، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، نشر: دار الاعتصام، القاهرة (1976 م). 30 - الأسماء والصفات، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، نشر: مكتبة السوادي، جدة (1993 م). 31 - الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، لعز الدين بن عبد السلام، اعتناء: رمزي دمشقية، نشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت (1987 م). 32 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، مصورة: عالم الكتب، بيروت. 33 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر الحازمي، تحقيق: محمد أحمد عبد العزيز، نشر: مكتبة عاطف، مصر. 34 - إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت. 35 - إعراب القرآن وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، نشر: دار اليمامة- دار ابن كثير، دمشق- بيروت (1999 م). 36 - إعراب القرآن، لأبي جعفر النحّاس، تحقيق: د. زهير غازي زاهد، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة (1985 م). 37 - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد آل سعود، نشر: جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1988 م). 38 - إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، نشر: دار الكتب الحديثة، مصر (1969 م). 39 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، نشر: دار العلم للملايين، بيروت (1984 م). 40 - إقامة البرهان على تحريم المحل المكروه، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 41 - الإكليل في استنباط التنزيل، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: سيف الدين الكاتب، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1981 م). 42 - الأم، لأبي عبد الله الشافعي، تحقيق: د. أحمد بدر الدين حسون، نشر: دار قتيبة، بيروت (1996 م). 43 - الإمام في بيان أدلة الأحكام، لعز الدين بن عبد السلام، تحقيق: رضوان مختار بن غربيّة، نشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت (1987 م).

44 - أمثال الحديث، لأبي محمد الرامهرمزي، تحقيق: أمة الكريم القرشية، نشر: المكتبة الإسلامية، استانبول. 45 - الأمثال في القرآن، لابن قيم الجوزية، تحقيق: سعيد الخطيب، نشر: درا المعرفة، بيروت (1981 م). 46 - إملاء ما منّ به الرحمن، لأبي البقاء العكبري، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت (1979 م). 47 - الأنساب، لأبي سعد السمعاني، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند (1962 - 1982 م). 48 - الإنصاف، لأبي الحسن المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت (1980 م). 49 - الإيمان، لأبي عبد الله بن منده، تحقيق: د. علي ناصر الفقيهي، نشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة (1981 م). 50 - بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، مصورة عن طبعة: إدارة الطباعة المنيرية. 51 - البداية والنهاية، لأبي الفداء بن كثير، تحقيق: عبد الرحمن اللادقي ومحمد غازي بيضون، نشر: دار المعرفة، بيروت (1997 م). 52 - البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، نشر: دار الأنصار، القاهرة (1400 هـ). 53 - البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر: دار المعرفة، بيروت. 54 - بصائر ذوي التمييز، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: محمد علي النجار، نشر: المكتبة العلمية، بيروت. 55 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، مصر (1964 م). 56 - البيان والتحصيل، لأبي الوليد بن رشد، تحقيق: سعيد أعراب وآخرين، نشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت (1988 م). 57 - تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، تحقيق: محمد محيي الدين الأصفر، نشر: المكتب الإسلامي، دار الإشراق، بيروت (1989 م).

58 - تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة الدينوري، تحقيق: السيد أحمد صقر، نشر: المكتبة العلمية، المدينة المنورة (1981 م). 59 - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزّبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج وآخرين، نشر: وزارة الإرشاد (الإعلام)، الكويت (1965 - 1984 م). 60 - تاريخ أبي زرعة، لأبي زرعة الدمشقي، تحقيق: شكر الله بن نعمة الله القوجاني، نشر: مجمع اللغة العربية، دمشق. 61 - تاريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان (الترجمة العربية)، نشر: دار المعارف، مصر (1983 م). 62 - تاريخ الإسلام، لأبي عبد الله الذهبي، (وفيات سنة 631 - 640)، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت (1998 م). 63 - التاريخ الأوسط، لأبي عبد الله البخاري، تحقيق: محمد بن إبراهيم اللحيدان، نشر: دار الصميعي، الرياض (1998 م). 64 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، مصورة: المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 65 - تاريخ دمشق، لأبي القاسم بن عساكر، تحقيق: عمر بن غرامة العمروي، نشر: دار الفكر، بيروت (1995 - 1998 م). 66 - تاريخ المدينة، لعمر بن شبّة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت (دون تسمية ناشر). 67 - تاريخ واسط، لبحشل الواسطي، تحقيق: كوركيس عواد، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة (1986 م). 68 - تاريخ يحيى بن معين، رواية: العباس بن محمد الدوري، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، نشر: جامعة الملك عبد العزيز، كلية الشريعة، مكة المكرمة (1979 م). 69 - التبيان في آداب حملة القرآن، لأبي زكريا النووي، نشر: مؤسسة علوم القرآن، مكتبة دار التراث (1983 م). 70 - التبيان في أقسام القرآن، لابن قيم الجوزية، نشر: دار الطباعة المحمدية، مصر (1968 م). 71 - التبيين لطرق حديث الأربعين، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 72 - تجريد أسماء الصحابة، للذهبي، نشر: دار المعرفة، بيروت. 73 - تحرير البيان في سجود القرآن، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط).

74 - تحرير علوم الحديث، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 75 - تحريم نكاح المتعة، لأبي الفتح نصر المقدسي، تحقيق: حماد الأنصاري، نشر: مكتبة دار التراث، المدينة المنورة (1987 م). 76 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، لأبي الحجاج المزي، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين، نشر: الدار القيمة، بومباي، الهند (1965 - 1982 م). 77 - التذكار في أفضل الأذكار، لأبي عبد الله القرطبي، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت. 78 - الترغيب في فضائل الأعمال، لأبي حفص بن شاهين، تحقيق: صالح أحمد الوعيل، نشر: دار ابن الجوزي، السعودية (1995 م). 79 - التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت (1985 م). 80 - تغليق التعليق، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: سعيد عبد الرحمن القزقي، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دار عمار، الأردن (1985 م). * تفسير ابن جرير جامع البيان * تفسير ابن عطية المحرر الوجيز. * تفسير البغوي معالم التنزيل. 81 - تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية، تونس (1984 م). 82 - تفسير سفيان الثوري، رواية: أبي حذيفة النهدي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1983 م). 83 - تفسير سفيان بن عيينة، جمع وتحقيق: أحمد صالح محايري، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت- مكتبة أسامة، الرياض (1983 م). 84 - تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة الدينوري، تحقيق: السيد أحمد صقر، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت (1978 م). 85 - تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء ابن كثير، دار الفكر، بيروت (1970 م). 86 - تفسير القرآن العظيم، لأبي محمد بن أبي حاتم الرازي، تحقيق: أسعد محمد الطيب، نشر: مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة (1997 م).

87 - تفسير القرآن، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1989 م). * تفسير الماوردي النكت والعيون. 88 - تفسير مجاهد، تحقيق: د. محمد عبد السلام أبو النيل، نشر: دار الفكر الإسلامي الحديثة (1989 م). 89 - تفسير النسائي، (جزء من السنن الكبرى)، تحقيق: سيد الجليمي، وصبري الشافعي، نشر: مكتبة السنة، القاهرة (1990 م). 90 - تقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند (1952 م)، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت. 91 - تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، نشر: دار الرشيد، حلب (1988 م). 92 - تلبيس إبليس، لأبي الفرج ابن الجوزي، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت، عن طبعة: إدارة الطباعة المنيرية المنشور سنة (1368 هـ). 93 - التّلخيص في أصول الفقه، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: د. عبد الله النيبالي، وشبير أحمد العمري، نشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت- دار الباز، مكة (1996 م). 94 - التمام، لابن أبي يعلى الفراء، تحقيق: د. عبد الله الطيار، ود. عبد العزيز المد الله، نشر: دار العاصمة، الرياض (1414 هـ). 95 - التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني، تحقيق: د. مفيد أبو عمشة، نشر: جامعة أم القرى، مكة (1985 م). 96 - التمهيد، لأبي عمر بن عبد البر، تحقيق: مجموعة، نشر: وزارة الأوقاف، المغرب (1967 - 1991 م). 97 - تنقيح النقول من نوادر الأصول للحكيم الترمذي، تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 98 - تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا النووي، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت، عن طبعة إدارة الطباعة المنيرية. 99 - تهذيب الكمال، لأبي الحجاج المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، نشر: مؤسسة

الرسالة، بيروت (1980 - 1992 م). 100 - تيسير علم أصول الفقه، لعبد الله بن يوسف الجديع، نشر: مركز البحوث الإسلامية، ليدز- بريطانيا (1997 م). 101 - التيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني، تحقيق: أوتو برتزل، نشر: جمعية المستشرقين الألمانية، استانبول (1930 م) مصورة: مكتبة المثنى، بغداد. 102 - ثعلبة بن حاطب المفترى عليه، لعداب محمود الحمش، نشر: دار علام الكتب، الرياض (1985 م). 103 - الثقات، لأبي حاتم بن حبان البستي، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند (1973 - 1983 م). 104 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر الطبري، نشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر (1968 م). 105 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، نشر: دار ابن الجوزي، السعودية (1996 م). 106 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي، مصورة: دار إحياء التراث العربي، بيروت (1985 م). 107 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لأبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمود الطحان، نشر: مكتبة المعارف، الرياض (1983 م). 108 - الجامع، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، نشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت (1998 م). 109 - الجرح والتعديل، لأبي محمد بن أبي حاتم الرازي، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، الهند (1952 - 1953 م) مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت. 110 - حاشية ابن عابدين، نشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (1966 م). 111 - الحاوي الكبير، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل عبد الموجود، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1994 م). 112 - حجة القراءات، لأبي زرعة عبد الرحمن بن زنجلة، تحقيق: سعيد الأفغاني، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1979 م).

113 - حكم الطهارة لغير الصلوات، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 114 - حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1997 م). 115 - خلق أفعال العباد، لأبي عبد الله البخاري، تحقيق: بدر البدر، نشر: الدار السلفية، الكويت (1985 م). 116 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، نشر: دار الفكر، بيروت (1983 م). 117 - دلائل النبوة، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1985 م). 118 - ذم الكلام، لأبي إسماعيل الهروي، تحقيق: عبد الرحمن الشبل، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة (1995 م) والعزو إليها بأرقام الأحاديث. والنشرة الأخرى بتحقيق: د. سميح دغيم، نشر: دار الفكر اللبناني، بيروت (1994 م). 119 - الرد على من يقول: (الم) حرف، لأبي القاسم بن منده، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، نشر: دار العاصمة، الرياض (1409 هـ). 120 - الرسالة، لأبي عبد الله الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر (دون ناشر). 121 - الرعاية لتجويد القراءة، لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. أحمد حسن فرحات، نشر: دار عمار، الأردن (1984 م). 122 - الرقة والبكاء، لأبي بكر بن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، نشر: دار ابن حزم، بيروت (1996 م). 123 - الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام، لجاسم الفهيد الدوسري، نشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت (1987 - 1992 م). 124 - روضة المحبين، لابن قيم الجوزية، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت (1983 م). 125 - روضة الناظر، لأبي محمد بن قدامة، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، نشر: مؤسسة الريان، بيروت- والمكتبة التدمرية والمكية، السعودية (1998 م). 126 - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج بن الجوزي، نشر: المكتب الإسلامي، دمشق- بيروت (1964 م). 127 - الزهد والرقائق، لعبد الله بن المبارك، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: دار

الكتب العلمية، بيروت. 128 - الزهد، لهناد بن السّري، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، نشر: دار الخلفاء، الكويت (1985 م). 129 - سؤالات أبي عبد الرحمن السلمي للدارقطني، تحقيق: د. سليمان آتش، نشر: دار العلوم، الرياض (1988 م). 130 - السبعة في القراءات، لأبي بكر بن مجاهد، تحقيق: د. شوقي ضيف، نشر: دار المعارف بمصر (1972 م). 131 - السنة، لأبي بكر بن أبي عاصم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق (1980 م). 132 - السنة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق: سالم بن أحمد، نشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت (1988 م). 133 - السنن الكبرى، لأبي بكر البيهقي، مصورة: دار المعرفة ببيروت عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد (1355 هـ). 134 - السنن الكبرى، لأبي عبد الرحمن النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي حسن، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1991 م). 135 - السنن، لأبي الحسن الدارقطني، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، نشر: دار المحاسن، القاهرة (1966 م) مصورة عنها. 136 - السنن، لأبي داود السجستاني، تحقيق: عزت الدعاس وعادل السيد، نشر: دار الحديث، حمص (1974 م). 137 - السنن، لأبي عبد الرحمن النسائي، اعتناء: عبد الفتاح أبو غدة، نشر: مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب (1986 م). 138 - السنن، لأبي عبد الله الشافعي، تحقيق: د. خليل إبراهيم ملا خاطر، نشر: دار القبلة، جدة- مؤسسة علوم القرآن، دمشق- بيروت (1989 م). 139 - السنن، لأبي عبد الله بن ماجة، تحقيق: د. بشار عواد معروف، نشر: دار الجيل، بيروت (1998 م). 140 - السنن، لسعيد بن منصور، (فضائل القرآن والتفسير)، تحقيق: د. سعد بن عبد الله آل حميد، نشر: دار الصميعي، الرياض (1993 م).

141 - سير أعلام النبلاء، لأبي عبد الله الذهبي، تحقيق: شعيب الأرناءوط وآخرين، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1981 - 1985 م). * شرح صحيح البخاري، للخطابي أعلام الحديث. 142 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرناءوط، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1994 م). 143 - شرح معاني الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق: محمد زهري النجار، مصورة: دار الكتب العلمية، بيروت (1979 م). 144 - شرح المنار، لعز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز ابن الملك، نشر: مطبعة عثمانية (1315 هـ). 145 - شرح منتهى الإرادات، لمنصور بن يونس البهوتي، مصورة: عالم الكتب، بيروت. 146 - شعب الإيمان، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1990 م). 147 - الشكر لله عزّ وجلّ، لأبي بكر بن أبي الدنيا، تحقيق: ياسين السواس، نشر: دار ابن كثير، دمشق- بيروت (1985 م). 148 - الشمائل، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: محمد عفيف الزعبي، نشر (المحقق)، (1983 م). 149 - الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، نشر: دار العلم للملايين، بيروت (1979 م). 150 - الصحيح المسند من أسباب النزول، لمقبل بن هادي الوادعي، نشر: المكتب السلفي، القاهرة (1401 هـ). 151 - الصحيح، لأبي بكر بن خزيمة، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت (1979 م). 152 - الصحيح، لأبي حاتم بن حبان، بترتيبه المسمى الإحسان، لابن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرناءوط، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1988 م). 153 - الصحيح، لأبي عبد الله البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، نشر: دار القلم، دمشق- بيروت (1981 م). 154 - الصحيح، لمسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: المكتبة

الإسلامية، استانبول. 155 - الضعفاء، لأبي جعفر العقيلي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت- دار الباز، مكة المكرمة (1984 م). 156 - طبقات الأصبهانيين، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: عبد الغفور البلوشي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1987 م). 157 - طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: نور الدين شريبة، نشر: مكتبة الخانجي، القاهرة (1969 م). 158 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، نشر: دار صادر، بيروت. 159 - طبقات المفسرين، لمحمد بن علي الداودي، تحقيق: علي محمد عمر، نشر: مكتبة وهبة، مصر (1972 م). 160 - طرق حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 161 - العقيدة السلفية في كلام رب البرية، لعبد الله بن يوسف الجديع، نشر: دار الإمام مالك- دار الصميعي، الرياض (1995 م). 162 - علل الحديث، لعبد الله بن يوسف الجديع (مخطوط). 163 - العلل المتناهية، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، نشر: إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، لاهور (1979 م). 164 - عمل اليوم والليلة، لأبي بكر بن السني، تحقيق: بشير محمد عيون، نشر: مكتبة دار البيان، دمشق- مكتبة المؤيد، الطائف (1987 م). 165 - عمل اليوم والليلة، لأبي عبد الرحمن النسائي، تحقيق: د. فاروق حمادة، نشر: الرئاسة العامة للإفتاء والبحوث في السعودية (1981 م). 166 - غاية النهاية في طبقات القراء، لأبي الخير ابن الجزري، تحقيق: ج. برجستراسر، نشر: مكتبة الخانجي، مصر (1933 م). 167 - غريب الحديث، لأبي إسحاق الحربي، تحقيق: د. سليمان بن إبراهيم العائد، نشر: جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1985 م). 168 - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند (1964 - 1967 م). 169 - فتاوى ومسائل ابن الصلاح، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار المعرفة،

بيروت (1986 م). 170 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، مصورة: دار المعرفة، بيروت عن طبعة محب الدين الخطيب. 171 - فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، نشر: دار الوفاء، المنصورة (1997 م). 172 - الفروع، لابن مفلح المقدسي، مصورة: عالم الكتب، بيروت (1402 هـ). 173 - الفروق في اللغة، لأبي هلال العسكري، نشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت (1980 م). 174 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر، ود. عبد الرحمن عميرة، نشر: شركة مكتبات عكاظ، السعودية (1982 م). 175 - فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، نشر: جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1983 م). 176 - فضائل الصحابة، لأبي عبد الرحمن النسائي، تحقيق: د. فاروق حمادة، نشر: دار الثقافة، الدار البيضاء (1984 م). 177 - فضائل القرآن، لجعفر بن محمد الفريابي، تحقيق: يوسف عثمان فضل الله، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1989 م). 178 - فضائل القرآن، لأبي عبد الرحمن النسائي، تحقيق: فاروق حمادة، نشر: دار الثقافة، الدار البيضاء (1980 م). 179 - فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين، نشر: دار ابن كثير، دمشق- بيروت (1995 م). 180 - فضائل القرآن، لابن الضريس، تحقيق: غزوة بدير، نشر: دار الفكر، دمشق (1987 م). 181 - فضائل القرآن، لابن كثير (في آخر تفسيره)، نشر: دار الفكر، بيروت (1970 م). 182 - فضائل القرآن وتلاوته، لأبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي، تحقيق: د. عامر حسن صبري، نشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت (1994 م). 183 - فقه اللغة وأسرار العربية، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق: د. ياسين الأيوبي، نشر: المكتبة العصرية، بيروت (1999 م).

184 - الفقيه والمتفقه، لأبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، نشر: دار ابن الجوزي، الدمام (1996 م). 185 - فهم القرآن، للحارث بن أسد المحاسبي، تحقيق: حسين القوتلي، نشر: دار الكندي- دار الفكر (1978 م). 186 - فوائد في مشكل القرآن، لعز الدين بن عبد السلام، تحقيق: د. سيد رضوان علي الندوي، نشر: دار الشروق، جدة (1982 م). * الفوائد، لتمام الرازي الروض البسام. 187 - الفوز الكبير في أصول التفسير، لشاه ولي الله الدهلوي، نشر: المكتبة العلمية، لاهور (1970 م). 188 - في ظلال القرآن، لسيد قطب، نشر: دار الشروق، القاهرة- بيروت (1998 م). 189 - قانون التأويل، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق: محمد السليماني، نشر: دار القبلة، جدة- مؤسسة علوم القرآن، بيروت (1986 م). 190 - القراءة خلف الإمام، لأبي عبد الله البخاري، تحقيق: فضل الرحمن الثوري، نشر: المكتبة السلفية، لاهور (1980 م). 191 - القطع والائتناف، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: د. أحمد خطاب العمر، نشر: وزارة الأوقاف، بغداد (1978 م). 192 - قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزّ وجلّ، لعبد الرحمن حبنّكة الميداني، نشر: دار القلم، دمشق (1989 م). 193 - القول المفيد في وجوب التجويد، لمحمد موسى نصر، نشر: الأردن (1985 م). 194 - قيام الليل، لمحمد بن نصر (مختصره)، اختصار: أحمد بن علي المقريزي، نشر: حديث أكادمي، فيصل آباد، باكستان (1982 م). 195 - الكامل في التاريخ، لعز الدين ابن الأثير، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت (1980 م). 196 - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد بن عدي، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي محمد معوض، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1997 م). 197 - الكشاف عن حقائق التنزيل، لجار الله الزمخشري، مصورة: دار المعرفة، بيروت. 198 - كشف الأستار عن زوائد البزار، لنور الدين الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن

الأعظمي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1979 - 1985 م). 199 - كشف الأسرار عن أصول البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، مصورة: دار الكتاب العربي، بيروت (1974 م). 200 - الكشف عن وجوه القراءات السبع، لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. محيي الدين رمضان، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1981 م). 201 - كشف اللثام عن طرق حديث غربة الإسلام، لعبد الله بن يوسف الجديع، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1989 م). 202 - الكليات، لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش، ومحمد المصري، نشر: وزارة الثقافة، دمشق (1982 م). 203 - لباب النقول في أسباب النزول، لجلال الدين السيوطي، نشر: دار إحياء العلوم، بيروت (1979 م). 204 - لسان العرب، لجمال الدين ابن منظور، نشر: دار صادر، بيروت. 205 - لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل عبد الموجود وآخرين، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1996 م). 206 - مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1981 م). 207 - مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: محمد فؤاد سزكين، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1981 م). 208 - مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم النجدي، تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، نشر: دار الوفاء، المنصورة (1997 م). 209 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي، تحقيق: الرحالي الفاروقي وآخرين، نشر: دولة قطر (1977 م). 210 - المحصول في علم الأصول، لفخر الدين الرازي، تحقيق: د. طه جابر العلواني، نشر: جامعة محمد بن سعود الإسلامية (1979 م). 211 - المحكم في نقط المصاحف، لأبي عمرو الداني، تحقيق: د. عزة حسن، نشر: دار الفكر المعاصر، بيروت- دار الفكر، دمشق (1997 م). 212 - المحلى، لأبي محمد بن حزم، نشر: دار الجيل- دار الآفاق الجديدة، بيروت. 213 - مختصر تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، تتمة وتعليق: محمد أحمد كنعان، نشر: المكتب

الإسلامي، دمشق- بيروت (1984 م). 214 - مختصر المزني، نشر: دار المعرفة، بيروت. 215 - المدخل إلى السنن الكبرى، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، نشر: دار الخلفاء، الكويت. 216 - المراسيل، لأبي داود السجستاني، تحقيق: شعيب الأرناءوط، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1988 م). 217 - المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي، تحقيق: طيار آلتي قولاج، نشر: دار صادر، بيروت (1975 م). 218 - مسائل الإمام أحمد، رواية: أبي داود السجستاني، اعتناء: محمد رشيد رضا، مصورة: دار المعرفة، بيروت. 219 - مسائل الإمام أحمد، رواية: إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، تحقيق: زهير الشاويش، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت (1394 - 1400 هـ). 220 - مسائل الإمام أحمد، رواية: ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: د. علي سليمان المهنا، نشر: مكتبة الدار بالمدينة المنورة (1986 م). 221 - المستخرج على صحيح مسلم، لأبي عوانة الأسفراييني، نشر: دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند (1362 هـ- 1386 هـ). 222 - المستخرج على صحيح مسلم، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: محمد حسن الشافعي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1996 م). 223 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1990 م). 224 - المستصفى في الأصول، لأبي حامد الغزّالي، تحقيق: محمد مصطفى أبو العلا، نشر: مكتبة الجندي، القاهرة (1971 م). 225 - المسك الأذفر، لمحمود شكري الآلوسي، نشر: المكتبة العربية، بغداد (1930 م). 226 - المسند، لإسحاق بن راهويه، تحقيق: د. عبد الغفور البلوشي، نشر: مكتبة الإيمان، المدينة المنورة (1990 - 1991 م). 227 - المسند (المسمى: البحر الزخّار)، لأبي بكر البزار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة (1988 - 1996 م).

228 - مسند أبي بكر الصديق، لأبي بكر أحمد بن علي المروزي، تحقيق: شعيب الأرناءوط، نشر: المكتب الإسلامي، دمشق (1393 هـ). 229 - مسند الشاميين، لأبي القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1989 - 1996 م). 230 - مسند الفردوس، للديلمي، ترتيبه المسمى: زهر الفردوس (مخطوط). 231 - المسند، لأبي بكر الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: المجلس العلمي، باكستان- الهند (1963 م). 232 - المسند، لأبي بكر الروياني، تحقيق: أيمن علي أبو يماني، نشر: مؤسسة قرطبة (1995 م). 233 - المسند، لأبي داود الطيالسي، نشر: دار الكتاب اللبناني- دار التوفيق، بيروت، مصورة عن نشرة: دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد، الهند. 234 - المسند، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، مصورة المكتب الإسلامي، بيروت (1978 م)، ونشرة الشيخ أحمد محمد شاكر (أنبه عليها في مواضعها)، ونشرة مؤسسة الرسالة بتحقيق: شعيب الأرناءوط ومجموعته، (والعزو إليها يتميز بأرقام الأحاديث). 235 - المسند، لأبي عبد الله الشافعي، بترتيب: محمد عابد السندي، تحقيق: يوسف الزواوي، وعزت العطار، مصورة: دار الكتب العلمية عن النسخة المنشورة سنة (1951 م). 236 - المسند، لعبد بن حميد (المنتخب منه)، تحقيق: صبحي السامرائي، ومحمود الصعيدي، نشر: عالم الكتاب، بيروت (1988 م). 237 - المسند، لأبي محمد الدارمي، والمسمى خطأ في جميع نشراته (السنن)، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، نشر: دار القلم، دمشق (1991 م). 238 - المسند، لأبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، نشر: دار المأمون للتراث، دمشق (1984 - 1988 م). 239 - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، نشر: مطبعة المدني، القاهرة (1983 م). 240 - مشكل إعراب القرآن، لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: ياسين السواس، نشر: دار المأمون للتراث، دمشق. 241 - المصاحف، لأبي بكر بن أبي داود السجستاني، تحقيق: د. آثر جفري، مصورة عن

نشرة: المطبعة الرحمانية سنة (1936 م). 242 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة، للبوصيري، تحقيق: موسى محمد علي، ود. عزت علي عطية، نشر: دار الكتب الحديثة، القاهرة (1983 م). 243 - المصنف، لأبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق: عبد الخالق الأفغاني وغيره، نشر: الدار السلفية، بومباي، الهند (1979 - 1983 م)، ونشرة: دار الكتب العلمية، بيروت (1995 م)، والعزو للثانية يتميز بأرقام الأحاديث. 244 - المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: المجلس العلمي، باكستان- الهند (1970 - 1972 م). 245 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: أيمن علي أبو يماني، وأشرف صلاح علي، نشر: مؤسسة قرطبة (1997 م). 246 - مع القرآن الكريم، لد. شعبان محمد إسماعيل، نشر: دار الاتحاد العربي، مصر (1978 م). 247 - معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء، لمحمود خليل الحصري، مطابع شركة الشمرلي بمصر. 248 - معالم التنزيل، للحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: محمد النمر وعثمان ضميرية وسليمان الحرش، نشر: دار طيبة، الرياض (1997 م). 249 - معاني القرآن، للأخفش الأوسط، تحقيق: د. فائز فارس، نشر: المطبعة العصرية، الكويت (1979 م). 250 - معاني القرآن، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: محمد علي الصابوني، نشر: جامعة أم القرى، مكة (1988 م). 251 - معاني القرآن، ليحيى بن زياد الفراء، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مصورة: عالم الكتب، بيروت (1980 م). 252 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، مصورة: دار إحياء التراث العربي، بيروت. 253 - المعجم الأوسط، لأبي القاسم الطبراني، تحقيق: د. محمود الطحان، نشر: مكتبة المعارف، الرياض (1985 - 1995 م). 254 - المعجم الصغير، لأبي القاسم الطبراني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، نشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت (1986 م).

255 - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، نشر: وزارة الأوقاف، بغداد (1978 - 1983 م). 256 - معجم المصطلحات النحوية والصرفية، د. محمد سمير اللبدي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت- دار الفرقان، عمّان (1985 م). 257 - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، نشر: مكتبة الخانجي، القاهرة (1981 م). 258 - معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، نشر: دار الوطن، الرياض (1998 م). 259 - معرفة القراء الكبار، لأبي عبد الله الذهبي، تحقيق: بشار عواد معروف وغيره، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1984 م). 260 - المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، نشر: مكتبة الدار، المدينة المنورة (1410 هـ). 261 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مصورة: دار إحياء التراث العربي، بيروت. 262 - المغني، لأبي محمد بن قدامة المقدسي، نشر: مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 263 - المغني في أصول الفقه، لجلال الدين عمر بن محمد الخبازي، تحقيق: د. محمد مظهر بقا، نشر: جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1403 هـ). 264 - المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، لمحمد عبد الرحمن المغراوي، نشر: دار طيبة، الرياض (1985 م). 265 - مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر: مكتبة النهضة المصرية، القاهرة (1950 م). 266 - المقدمة، لعبد الرحمن بن خلدون، نشر: الدار التونسية، تونس (1989 م). 267 - المقنع في علوم الحديث، لابن الملقن، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، نشر: دار فواز، الإحساء (1992 م). 268 - المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، مع كتاب النقط، لأبي عمرو الداني، تحقيق: محمد أحمد دهمان، نشر: مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا. 269 - المكتفى في الوقف والابتداء، لأبي عمرو الداني، تحقيق: د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1984 م).

270 - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد عبد القادر الفاضلي، نشر: المكتبة العصرية، بيروت (2000 م). 271 - مناقب الشافعي، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: السيد أحمد صقر، نشر: مكتبة دار التراث، القاهرة (1971 م). 272 - المنتظم، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1992 م). 273 - المنتقى، لابن الجارود، (مع: غوث المكدود)، تحقيق: أبي إسحاق الحويني، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت (1988 م). 274 - منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، لمحمد الأمين الشنقيطي، (آخر تفسير: أضواء البيان)، مصورة: عالم الكتب، بيروت. 275 - المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي، تحقيق: حلمي محمد فودة، نشر: دار الفكر، بيروت (1979 م). 276 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق: محمد عبد الله دراز، مصورة: دار الباز، عن طبعة المكتبة التجارية الكبرى، مصر. 277 - الموضح لأوهام الجمع والتفريق، لأبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: دار الفكر الإسلامي (1985 م). 278 - الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق: د. نور الدين بن شكري، نشر: أضواء السلف، الرياض (1997 م). 279 - الموطأ، للإمام مالك بن أنس، رواية: يحيى الليثي، تحقيق: بشار عواد معروف، نشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت (1996 م). 280 - ميزان الاعتدال، لأبي عبد الله الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، مصورة: دار المعرفة، بيروت عن الطبعة المصرية سنة (1963 م). 281 - الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحّاس، تحقيق: د. محمد عبد السلام محمد، نشر: مكتبة الفلاح، الكويت (1988 م). 282 - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، نشر: مكتبة الرشد، الرياض (1990 م). 283 - نتائج الأفكار، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، نشر: مكتبة

المثنى، بغداد (1986 م). 284 - نسخة وكيع عن الأعمش، تحقيق: د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، نشر: الدار السلفية، الكويت (1986 م). 285 - النشر في القراءات العشر، لأبي الخير ابن الجزري، تحقيق: علي محمد الضّباع، مصورة: دار الفكر، بيروت. 286 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين البقاعي، نشر: دائرة المعارف العثمانية، الهند (1969 م). 287 - نقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة، وسليمان الصنيع، نشر: مكتبة السنة المحمدية، القاهرة. 288 - نكت الانتصار لنقل القرآن، لأبي بكر الباقلاني، تحقيق: محمد زغلول سلام، نشر: منشأة المعارف، الإسكندرية (1971 م). 289 - النكت والعيون، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق: خضر محمد خضر، نشر: وزارة الأوقاف، الكويت (1982 م). 290 - النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود الطناحي، نشر: المكتبة الإسلامية، مصورة: دار إحياء التراث العربي، بيروت. 291 - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، مصورة: دار صادر، بيروت. 292 - نواسخ القرآن، لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق: محمد أشرف الملباري، نشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة (1984 م). 293 - الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عقيل، تحقيق: د. عبد الله التركي، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت (1999 م). 294 - الوافي بالوفيات، لصلاح الدين الصفدي، سلسلة النشرات الإسلامية، دار النشر فرانز شتايز، بفيسبادن (1981 م). 295 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي الحسن الواحدي، تحقيق: صفوت عدنان داودي، نشر: دار القلم، دمشق- الدار الشامية، بيروت (1995 م). 296 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد، لأبي الحسن الواحدي، تحقيق: عادل عبد الموجود وآخرين، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت (1994 م). 297 - الوقف والابتداء، لأبي بكر بن الأنباري، تحقيق: محيي الدين رمضان، نشر: مجمع اللغة العربية، دمشق (1971 م). ***

§1/1