المقال وتطوره في الأدب المعاصر

السيد مرسي أبو ذكري

مقدمات

مقدمات مقدمة ... مقدمة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن والاه. وبعد: هذه دراسة تتناول "المقال وتطوره" توخيت فيها الدقة والوضوح، حتى تحقق الأمل الذي أرجوه، والغاية التي أنشدها في رسم صورة أمينة توضح خصائصه وتبين سماته وتبرز قسماته في أدبنا المعاصر، بعد أن غدا فنًّا ينافس الفنون الأخرى في التصوير والتعبير. واقتضت طبيعة الدراسة أن أكشف عن ملامح المقال في الأدب العربي القديم وأطواره في الأدب الحديث، وتنوع ألوانه وأثره في إنعاش الفكر؛ لما نشر من أفكار، وقدم من خواطر، كانت حصيلتها كتبا وأشعارا لا تزال -حتى اليوم- روافد فياضة يستفاد منها في البحث والدرس والثقافة. وفرضت الدراسة أن أفصل القول في تنوع الأساليب لدى كتاب المقال مما نجم عنها المقال اللغوي والاصطلاحي والعلمي والفني والسياسي والفلسفي والديني والفكاهي وغيرها. وبسطت الجهود التي بذلها أعلام كل لون، مع إبراز سمات كل منهم وخصائصه الفارقة التي تميزه عن غيره. وختمت الدراسة بدور المقال في معالجة القضايا الفكرية التي شغلت الرأي العربي -وبخاصة المصري- قبل وبعد ثورة 1919، مع بيان الألوان التي نشأت في ظله، ونمت في كنفه، وتألقت بجواره كالخاطرة

والفكرة والكاريكاتير، وتطالعنا صحف اليوم بها تحت عناوين ثابتة لكتاب عديدين. والله أسأل أن ينفع بها، ويحقق الأمل منها، ويثيب عليها بقدر الجهد الذي بذل فيها، إنه سميع قريب مجيب الدعوات. دكتور السيد مرسي أبو ذكري

مفهوم المقال

مفهوم المقال: المقال -مصدر قال يقول قولا وقيلا ومقالة ومقالا- ورد ذكره في الآثار الأدبية التي خلفها أسلافنا على امتداد العصور، وحفظها التاريخ. قال النابغة الذبياني: وأخبرت خير الناس أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع مقالة أن قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع1 وقال كعب بن زهير: مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل2 وقال حسان بن ثابت: ما أن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد وجاء في خطبة الوداع: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل إلى من هو أفقه منه". وقال محمد بن حازم الباهلي أحد شعراء بني العباس: لحا الله قوما ... أعجبتهم مدائحي فقالوا مقالا في ... ملام وفي عتب3 وقال منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة: مقالة كحد السيف وسط المحافل ... فرقت ما بين حق وباطل

_ 1 راجع: ديوانه ص47، 48، تحقيق: شكري فاضل، طبعة بيروت 1968. 2 راجع: الطبع والصنعة ص150 محمد الهيهياوي. 3 راجع: كتاب الهلال ص41، العدد 298 في أكتوبر 1975.

ونصح عبد الله فكره أمينا -وهو صغير- فقال له: وعود مقال الصدق نفسك وارضه ... تصدق ولا تركن إلى قول مفتري1 وقال محمود سامي البارودي مفتخرا: أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله2 وقرظ طه حسين مقالا للطفي السيد فقال: بمثل مقال الأمس يعجب كاتب ... أديب ويرضى عاقل وحكيم حقائق غر يصرع الشك نورها ... كما يصرع الليل البهيم نجوم3 وكان أحمد زكي يردد دائما بيته: ولي كل يوم موقف ومقالة ... أنادي ليوث العرب ويحكمو هبوا4 فقدت وردت كلمة "المقال" في آثار أسلافنا منذ الجاهلية حتى العصر الحاضر، ودارت على ألسنتهم، وترددت في أحاديثهم ومحاوراتهم، وشاعت في مجتمعاتهم العامة والخاصة على السواء. ونعني -كما نرى- الحديث المباشر الذي يناجي القلب، ويخاطب الوجدان؛ رغبة في توضيح موقف أو نهي عما لا يستحسن، وتنبيها على فضل سابق، وأملا في إرشاد ونصح، أو فخر بالآباء والأجداد، أو الإعجاب بموقف مشهود ومقام معلوم.

_ 1 راجع: في الأدب الحديث جـ1 ص143 عمر الدسوقي. 2 راجع: شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص128، عباس محمود العقاد، طبعة 1965. 3 راجع: مجلة الهلال ص81، عدد فبراير 1966 الخاصة بطه حسين. 4 راجع: العدد 29 ص239 من سلسلة أعلام العرب الخاص بأحمد زكي، بقلم أنور الجندي.

والمقال -اليوم- يتناول موضوعات مختلفة، ومشاكل عديدة، ويعالج مفاسد اجتماعية وأمراضًا خلقية، ويحارب سياسة جائرة، وحاكما ظالما، ويؤيد زعيما صالحا ونظاما عادلا، ويكشف عن جوانب الجمال، ومواطن الحسن في كتاب من الكتب، أو أسلوب من الأساليب، ويدعو إلى الأخذ بأسباب التقدم، ونبذ التواكل والتهاون والتخلف، كل ذلك بأسلوب رائق، وفكر واضح، ومعانٍ وافية. وليس للمقال مجال محدد، وإنما يتسع موضوعه لكل ما في الوجود من حقائق وأفكار وآراء، وآمال وآلام، وخير وشر، وحلو ومر، ومعروف ومنكر. ومن ثم تنوع المقال إلى: أدبي وعلمي وسياسي واجتماعي ونقدي، وغير ذلك من الأنواع التي سنقف عليها بعد. ولقد اعتمدت الصحافة -منذ الأربعينات- في تحريرها على المقالات المختلفة، ثم تحولت إلى صحافة خبر، وأصبح دور المقال ثانويا. وفي الوقت الحاضر احتل المقال مكانته في الصحف والمجلات، واهتمت مجلاتنا الأدبية به اهتماما خاصا. ويهدف المقال أول ما يهدف إلى معالجة المشاكل ووضع الحلول لها حتى يرتقي المجتمع دون انحراف أو التواء، ويحرص كاتبه على بث الفضائل، والتنفير من الرذائل، ونشر المثل العليا التي هي: الخير والحق والجمال. وسوف نتعرف في الفصول القادمة على ملامح المقال في النثر العربي منذ القرن الثاني الهجري، ونتتبع مولده ونشأته، ومراحل نموه في ظل الصحافة، ونقف على شتى أنواعه، ودوره في معالجة قضايا المجتمع، ونتعرف على أشهر رجاله الذين أثروا الفكر، بما قدموا من خواطر، وسجلوا من أفكار، ودبجوا من مقالات، فأنعشوا الأدب، حتى أصبح المقال -على أيديهم- فنا أدبيا له قواعده الثابتة، وقسماته الفارقة، وسماته الواضحة، وألوانه المختلفة، وأساليبه المتباينة، فإلى صفحات تلك الفصول.

الباب الأول: المقال وتطوره

الباب الأول: المقال وتطوره الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم مدخل ... الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم بدت ملامح المقال في الأدب العربي منذ القرن الثاني الهجري في رسائل الأدباء وفصول البلغاء التي تناولت أشياء من الفكر والاجتماع والأدب والنقد، وعبرت عن ذاتهم وأفكارهم الشخصية والموضوعية في موضوعات محددة، وصور مركزة. ولو تناول نقاد العرب الرسائل والفصول -التي خلفها أسلافنا- بالدراسة والنقد، لا مدونا بثروة لا تنفذ، ومعين لا ينضب من الأبحاث الخلقية والاجتماعية؛ لأنها مقالات تناولت الناس -إذ ذاك- مكتوبة في كراسات كما نتناول المقالات اليوم في الصحف والمجلات. ولقد حفلت الرسائل الإخواتية بموضوعات انفرد الشعر بها -كالغزل والمديح والوصف والفخر والهجاء- تحمل سمات المقال، وتبدو فيها خصائصه، يجد القارئ فيها متنفسا عن عواطفه الشخصية، وتعبيرا حرا عما يدور بخلده، لا يقيده وزن ولا تحده قافية. ومن هنا كانت أقرب فنون النثر إلى الشعر، ولولا تكلف الأدباء منذ القرن السادس الهجري للمحسنات اللفظية، والصور البديعية، لتطورت الرسالة، وكانت المثل المبكر لفن المقال، كما عرفته الآداب الأوربية الحديثة، وقديما قال مفكرو العرب الأول: "لكل مقام مقال". وإذا تصفحنا كتب الأدب وتعرفنا على آثار أعلامه، لوقفنا على أمثلة شتى في النواحي الأدبية والفكاهية والسياسية والاجتماعية تؤيد رأيي، وتدعم ما أذهب إليه، فإلى بعض الأعلام وآثارهم:

أولا: الحسن البصري: 21- 110هـ

أولا: الحسن البصري 21-110هـ أكبر وعاظ عصره، عرف بالزهد والورع والتقوى والفصاحة والحكمة، ومن عباد الله الصالحين الذين تفقهوا في الدين، حتى قال الإمام الغزالي عنه: "كان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء، وأقربهم هديا من الصحابة"، وقال ثابت بن قرة: "ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس: عمر بن الخطاب في سياسته وعدله، والجاحظ في فصاحته وبيانه، والحسن البصري في عدله وورعه". عاصر الحسن البصري صراع الأمة عقب مقتل عثمان بن عفان، وتأثر بالأحداث التي ألمت بالمجتمع الإسلامي، وجابه القضايا الفكرية التي أثارها علماء الكلام إذ ذاك، وكان لأقواله وحِكَمِه ومواعظه أثر بالغ في ظهور الحركة الصوفية في الإسلام. كان الحسن جريئا لا يخشى لومة لائم، ينقد خلفاء وعمال بني أمية، ويصفهم بالظلم والبغي سوى عمر بن عبد العزيز الذي أتاح الحرية والأمن والأمان للناس خلال حكمه القصير 99-101هـ، فهيأ للحسن وأمثاله جوا صالحا لنشر آرائهم في السياسة والحكم، وهي آراء مستمدة من روح الدين الحنيف الذي يعتمد على الشورى والعدالة، وترددت أصداء هذه الحرية فيما كتب الحسن البصري وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز. دينياته: للحسن البصري رسائل وعظية جليلة، مبثوثة في كتب الأدب؛ كالبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وهي رسائل تذكر بالبعث، وتخوف من الحساب، وتحض على التقوى، وتدعو لصالح الأعمال، وتنفر من الدنيا، وترغب في الآخرة. لعبت رسائل الحسن الوعظية دورا هاما في حياة الناس الاجتماعية والسياسية، اعتمد فيها على الترغيب والترهيب حينا، والوعد الوعيد حينا آخر، وآثر خلالها الأسلوب الذي يخاطب الوجدان، ويناجي القلب،

ويغوص إلى أعماق النفس فيهزها بما يسرد من أمثلة، ويقدم من صور، ويعتمد على السجع، ويؤثر من ترادف، ويحرص عليه من اقتباس. يعرض الحسن ما يعرض في صورة من الخوف الشديد من الجحيم، حتى كان القارئ يرى النار بعينيه، والناس واقفون على شفيرها، ثم يدعو للابتعاد عنها مخالفة أن يهووا فيها دون أن يشعروا، وأثناء ذلك يحثهم على التحلي بالفضائل، فاتحا باب الرجاء، بل أبواب المحبة الإلهية، وخير مقال على هذا اللون الوعظي رسالته التي كتبها إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما جاء فيها: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويزودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر.. والإمام يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده.. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله.. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها الخبائث والفواحش، فكيف إذا آتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلتم من يقتص لهم؟! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر، واعلم أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قصره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. والآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهليين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك". والرسالة طويلة، تتميز بالأسلوب الوعظي الذي يقوم على تبصير الناس بأحوال دينهم وآخرتهم، وتنصح الحكام في رسم مبادئ الحكم كما ينبغي أن تكون. ولقد صرح معظم المؤرخين أن الرسالة وجدت مكانا رحبا لدى عمر بن عبد العزيز، فلم يستعمل سوى الثقة من العمال، واستن سننا جديدة في خلافته، ووضع مبادئ سياسية تقوم على مبدأ جوهري عام: "خطأ الوالي في العفو خير من تعديه إلى العقوبة". وعلى الجملة تعد الرسالة من المقالات الاجتماعية والسياسية التي تهدف إلى بث المثل الأخلاقية الجيدة، وترسم مبادئ الحكم السليمة التي يرتضيها الدين الإسلامي السمح.

ثانيا: عبد الحميد بن يحيى الكاتب 132هـ-750م

ثانيا: عبد الحميد بن يحيى الكاتب 132هـ-750م شخصية رائدة في الأدب العربي على الرغم من أنه فارسي الأصل، لكنه ولد في البيئة العربي الإسلامية، وأخذ من فيض الثقافة العربية حتى علت منزلته، وعظم قدره في السياسة والكتابة؛ لذا كان أبو جعفر المنصور يقول بعد أن أصبح خليفة: "غلبنا بنو مروان بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد بن يحيى والمؤذن البعلبكي"1. تربع عبد الحميد على عرش الكتابة العربية؛ لبلاغته وحلو حديثه وسلامة تعبيره وحواره الذي يجري على لسانه عفو الخاطر، ومن أبلغ ما أوثر عنه من جمل قصار، منها قوله: "العلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة"، ومن ثم أطلق الثعالبي عبارته المشهورة عليه فقال: "بدئت الكتابة بعبد الحميد، وانتهت بابن العميد"2. رسائله: ترك عبد الحميد رسائل في موضوعات مختلفة: سياسية وأدبية. منها رسالته التي كتبها على لسان مولاه مروان بن محمد لولي عهده ابنه

_ 1 راجع: كتاب الوزراء والكتاب ص81 للجهشياري، طبعة الحلبي. 2 راجع: يتيمة الدهر جـ3 ص137.

عبد الله، حين أرسله لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني رأس الخوارج بالجزيرة 127هـ-745م، وهي تدور حول ما يجب أن تكون عليه أخلاقه في سيرته الخاصة، وعلاقاته مع أفراد حاشيته من القواد والموظفين، وتنظيم الجيوش من الناحيتين: المادية والحربية، وبهذا تعتبر مقالة في السياسة وتدبير الحاشية. وله رسالة في الشطرنج، وأخرى في الصيد، دعا فيهما إلى الاقتصاد من ممارستهما والابتعاد عنهما، بعد أن شغلا الناس في بعض الأمصار، فانصرفوا عن القيام بأمور معاشهم، والرسالتان تقتربان من المقال الحديث من حيث: عرض الموضوع، وسهولة الأسلوب، والتنبيه على أمر يشغل الناس عن الكسب والعمل. وله رسالة إلى الكتاب تضمنت مجموعة نظم وقواعد لآداب الكتابة، وتوجيهات تتعلق بأخلاقهم وشرف مهنتهم، وتحقيق رسالتهم النبيلة، وهي تشبه المقال النقدي الحديث لموضعها الحي، وأسلوبها السهل، وخصائصها الفنية، مما يجعلها أقرب إلى المقال منها إلى الرسالة، ومما جاء فيها: "أما بعد، حفظكم الله يأهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين -أصنافا، وإن كانوا في الخِلْقة سواء، وصرفهم1 في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب رزقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات، والعلم والموازنة، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف2 إلا منكم.

_ 1 صرفهم: وجههم. 2 كاف: قادر على الأمر.

فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصاركم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع ما أضفاه1 من الثقة عليكم ... فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف2 ألسنتكم، ثمهم أجيدوا الخط فإنه حلية كتابتكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا في أنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفاسف الأمور ومحاقرها، فإنها مزلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدنايا، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات". فقد وضح عبد الحميد في رسالته ما ينبغي أن يتحلى الكاتب به من صفات شاملة، وحين نمضي في قراءة الرسالة حتى نهايتها نشعر أنها مقال يتناول فكرة واحدة معينة، يرتكز الكاتب عليها، ويمارسها من جوانب عدة، وهذا ما يتطلبه المقال الحديث.

_ 1 أضفاه: أسبغه. 2 الثقاف: ما يقوم به اللسان.

ثالثا: عبد الله بن المقفع

ثالثا: عبد الله بن المقفع 1: كاتب عربي -فارسي الأصل- يعد ثمرة من ثمرات الثقافة الإسلامية، ونتاج الحضارة العربية، ويعتبر من خيرة الكتاب الذين عرفوا بعمق الفكرة ورشاقة الأسلوب، ورقة العبارة، عاش في الدولتين: الأموية والعباسية، وترجم مجموعة من الآثار الأدبية من اللغة الفارسية لغة أهله إلى اللغة العربية لغة وطنه، وفي مقدمتها كليلة ودمنة. اهتم في كتاباته بالنقد السياسي، والإصلاح الاجتماعي، وترك آثارا خالدة من الأدب الرفيع، ممثلة في رسائله العديدة، وكتبه الشهيرة مثل: الأدب الصغير، والأدب الكبير، وكليلة ودمنة، وغيرها. كتاباته: لابن المقفع رسائل عديدة طويلة وقصيرة، تحمل الحكمة والبلاغة في كل كلمة من كلماتها، وتبلغ القمة من الجمال والإمتاع، منها الرسالة اليتيمة لما ضمت من أحكام سياسية جريئة على الحاكم والرعية، وبها يعتبر قمة من قمم الفكر الإسلامي الذي يضع المقاييس للناس والحكام، ومدى ارتباط كل منهما بالآخر. ومن أشهر رسائله ما عرف باسم "رسالة الصحابة" التي كتبها للخليفة أبي جعفر المنصور في أصول الحكم، وأسباب بقائه وعلات ميله وانحرافه. ومن الطريف أن ابن المقفع يضفي على أهل العراق الصفات الطيبة، بعد أن وصفهم الحجاج -والي بني أمية- بأقذع النعوت، يقول: "إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه، فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل هذه الطبقة من الناس، رجونا أن يكون ذلك فيهم موجودا، وقد أزرى بأهل العراق تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرار الولاة، وأن أعوانهم من أهل أمصارهم كذلك، فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول2، وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم3، ثم كانت هذه الدولة، فلم يتعلق من دونكم من الوزراء

_ 1 ولد ابن المقفع حوالي 106 أو 107هـ بقرية "جور" المعروفة الآن "بفيروزآباد"، وكان اسمه "روية بن دانويه" ومعناه: المبارك، فلما أسلم تسمى بعبد الله، وتكنى بأبي محمد. وقتل بين عامي 142، 145هـ. 2 الفسول: جمع فسل بالفتح الذي لا مروءة له. 3 نعوه عليهم: شهروا بهم.

والعمال إلا بالأقرب فالأقرب، مما دنا منهم أو وجوده بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل الفريق حينما وقعوا من حماية خليفة أو ولاية عمل، أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من أهل الفضل أن يقصدوا حيث يلتمسون، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا، وينتفع بهم، وإن كان صاحب السلطان ممن لا يعرف الناس قبل أن يليهم، ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم، ولم يستثبت في استقصائهم، زالت تلك الأمور عن مراكزها، ونزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقونه إلا منصفين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفا للوزراء، وتمحلا لأن يثنى عليهم من وراء وراء، فإذا أثر الوالي أن يستخلص رجلا واحدا ممن ليس ذلك أهلا، دعا نفسه جميع ذلك الشرج1، وطمعوا فيه واجترءوا عليه، وتواردوه وترحموا على ما عنده، وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه، وباعدوا منه، وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم ... ". ويعرض بأهل الشام فيقول: "ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام، فإنهم أشد الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة، ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة، فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة، ممن يرجون عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن يتفضلوا على أصحابهم في الرأي والهدى، ويدخلوا فيما جمل عليه من أمورهم، فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق والذين استدخلهم أهل الشام، ولكن أخذ في أمر أهل الشام على القصاص: حرموا كما كانوا يحرمون الناس، وجعل فيئهم في غيرهم إليهم كما كان فيء غيرهم إليهم، ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والموضع، ومنعت منهم المرافق، كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة ... ". ويتحدث عن أصحاب الخليفة، وكيف يختارون مما يدل على إلمام ابن

_ 1 الشرح: النوع والمثل.

المقفع بشئون الدولة، مبهما السياسة، فيقول: "ولصاحبة أمير المؤمنين -أكرمه الله- مزية وفضل، وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفا لأهلها، وحسيا لأعقابهم حقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلا رجل برر بخصلة من الخصال، أو رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاد، أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلا لمجلس أمير المؤمنين، وحديثه ومشورته، أو صاحب نجدة يعرف بها، ويستعد لها، جمع مع نجدته حسبا وعفافا، فيرفع من الجند إلى الصحابة، أو رجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها. فأما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف، والبر فيما لا يهجن رأيا، ولا يزيل أمرا عن مرتبته، ثم تكون الصحابة المخلصة على منازلها ومداخلها، لا يكون للكاتب فيها أمرا في رفع رزق ولا وضعه، ولا للحاجب في تقديم أذن أو تأخيره. ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر تفيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس، فإن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها، وكانوا عدة لأخرى"1. الرسالة طويلة -كما ترى- تتضمن فكرا سياسيا شديد الخطر في النقد والتوجيه لسكان الأمصار الإسلامية، واختيار الحكام الذين يركن الخليفة إليهم؛ ولذا لا نبالغ إذا قلنا: إن الرسالة مقال يرسم سياسة الدولة، ويدير شئون الرعية، وينقد نظام الحكم، ويبين وجوه الإصلاح، ثم هي تتميز بأسلوب ممتع يخضع للمعنى العميق والهدف الواضح، وهذا ما يجب توفره في المقال الاجتماعي والسياسي اليوم.

_ 1 راجع: جمهرة رسائل العرب جـ3 ص35-43 طبعة الحلبي.

رابعا: الجاحظ: 150-255هـ

رابعًا: الجاحظ: 150-255هـ هو أبو عثمان عمرو بن محبوب، لا يدانيه كاتب في سعة ثقافية ورشاقة أسلوبه وخفة روحه، وسلاسة بيانه، وتنوع معرفته، فقد أحسن فهم كل موضوع في عصره من سياسة واجتماع واقتصاد وحيوان ونبات وشعوب، وغير ذلك من الكتب التي تفوق الحصر كثرة وتنوعا، فخلف للعربية تراثا ضخما على مدى عمره الطويل. قال عنه أحد معاصريه من العلماء: "لم أرَ قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان". رسائله وفصوله: في آثار الجاحظ رسائل وفصول تعد نماذج عليا للمقال في الأدب العربي القديم، وتشبه المقالات في عصرنا الحديث؛ لأنها تتناول موضوعات فردية واجتماعية تناولا أدبيا. يعتمد الجاحظ فيها على إثارة العواطف، وتأجج المشاعر، وتتسم بتدفق الأفكار، وتلوين الصور، وتنويع موسيقى العبارات، مع الانطلاق في التعبير، والتحرر من القيود. تبدأ -غالبا- بتوجيه الحديث للمخاطب والدعاء له، ثم تدخل مباشرة في الموضوع الذي أنشئت له، بحيث لو حذف البدء منها بدت الرسالة مقالا سويا. وصف المسعودي آثار الجاحظ الخالدة فقال: "كتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع، خرج من الجد إلى الهزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة"1. وتعتبر فصول كتابه "البخلاء" مقالات تصويرية رائعة، تصور الحياة في البصرة وبغداد -خلال عصر الجاحظ- أحسن تصوير وأدقه، وتعرض نماذج بارعة من البخل لأشخاص عاصروه، أبدعتهم مخيلته على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به، وأصبح علما عليه. ومن أبرز الرسائل ذات الصلة بما نسميه المقال اليوم رسالة: "الحاسد والمحسود" التي بدأها الجاحظ بقوله: "وهب الله لك السلامة، وأدام

_ 1 راجع: مروج الذهب جـ2 ص471. طبعة كتاب التحرير 1967.

لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ودفع عنك الندامة، كتبت إليَّ -أكرمك الله- تسألني عن الحسد ماهو؟ وأين هو؟ وما دلائله وأفعاله؟ وكيف تفرقت أموره وأحواله؟ وبِمَ يعرف ظاهره ومكنونه؟ ولِمَ صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولِمَ كثر في الأقرباء وقل منه في البعداء؟ وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خص به الجيران من جميع الأوطان"1. افتتح الجاحظ رسالته بعناصر عدة، ناقشها عنصرا تلو عنصر، وعالج خلالها ظاهرة الحسد معالجة أدبية تنفر منه، وتقلل من قيمة الحاسدين، وما يترتب عليه من أضرار تقع بالحاسد والمجتمع. استمع إليه إذ يقول: "الحسد -أبقاك الله- داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يُدارى، وما بطن منه فمداويه في عناء"2. ثم يقول: "وما أتى المحسود من حاسد إلا من قبل فضل الله تعالى إليه، ونعمته عليه، والحسد عقيد3 الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان ... فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنهج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر. ولو لم يدخل -رحمك الله- على الحاسد، بعد تراكم الهموم على قلبه، واستكان للحزن في جوفه، وكثرة مضضه، ووسواس ضميره، وتنقيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه إلا استغفاره لنعمة الله تعالى عنده، وسخطه على سيده بما أفاده الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدا سواه لكان عند ذوي العقول مرحوما، وكان عندهم في القياس مظلوما"4.

_ 1 راجع: مجموعة رسائل الجاحظ ج2. 2 راجع: المصدر السابق. 3 العقيد: المعاهد. 4 راجع: رسائل الأدباء جـ2.

"وقد قال بعض الأعراب: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم"1، ثم يقول: "فإذا أحسست -رحمك الله- من صديق بالحسد، فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شذى2 شره، وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، فتمكن نفسك من سهام مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه3، فإن ذلك من حبائل ثقفه"4. وعلى الرغم مما وقع الجاحظ فيه من هتات مثل: تكرار بعض العناصر وحاجة بعضها الآخر إلى تهذيب، وحسن ترتيب، وجمال تنسيق، فإن للرسالة قيمة كبرى؛ إذ هي من الأدب الهادف الذي يرمي إلى تحقيق غاية خلقية، وندف اجتماعي، وإصلاح ديني. وبهذا أشبهت المقالات التي تتناول الشئون المختلفة للفرد والمجتمع. وللجاحظ فكاهة عذبة وافية، تستقبلها النفس بالارتياح، ويتقبلها الخاطر بالبهجة والانشراح، تتمثل في رسالته "التربيع والتدوير" وهي رسالة طويلة تجمع بين محاسن التفكير الدقيق، والتعبير الأنيق، سخر فيها من معاصره "أحمد بن عبد الوهاب" قصير القامة ويزعم أنه طويلها، قصير الأصابع ويدعي أنه رشيقها، يظهر الكبر على وجهه ويزعم أنه في سن الشباب، جهول ويزعم أنه عالم، وغير ذلك من الصور الطريقة التي تدعو إلى السخرية والضحك، ولنترك الجاحظ يتحدث بنفسه يقول: "كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرط الطول. كان مربعا وتحسبه لسعة جفرنه5 واستفاضة خاصرته مدورا، وكان

_ 1 راجع: رسائل الأدباء جـ3. 2 الشذى: الأذى. 3 ذلق اللسان: حدثه. 4 المثقف بحركات: الحذق والفطامة. 5 الجفرة: جوف الصدر.

جعد1 الأطراف، قصير الأصابع وهو في ذلك يدعي البساطة والرشاقة، وأنه عتيق2 الوجه أخمص3 البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد4، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم البلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب، حديث الميلاد، وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها. وتكلفه للإبانة عنها على قدر رغبته فيها. وكان كثير الاعتراض، لهجا5 بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبته متتابعا في العنود، مؤثر للمقالبة، مع إظلال الحجة، والجهل بموضع الشبهة. والخطرفة عند قصر الزاد، أو العجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغية فساد القلوب ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهود، وما في المعاندة من الإثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في الغلية من فقدان الصواب. وكان قليل السماع غمرا6 وصحفيا غفلا7، لا ينطق عن فكر وثيق بأول خاطر، ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق، يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميل الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب، أطال الله بقاءك وأتم نعمته عليك وكرامته لك، قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين،

_ 1 جعد: ملتو. 2 عتيق: جميل. 3 أخمص: ضامر فارغ. 4 الباد: باطن الفخذ. 5 لهجا بالمراء: ملازما له. 6 غمرا: عديم التجارب. 7 غفلا: مجردا من المزايا، والصحفي: من أخذ علمه من الصحف ولم يلقَ العلماء.

وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنعة المشهورة، وأن هذه الأمور هي من خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. وإنما يحسد -أبقاك الله- المرء شقيقه في النسب، وشقيقه في الصناعة، ونظيره في الجوار على طارف1 قدره أو تالد حظه، أو على كرم في أصل تركيبه، ومجاري أعراقه، وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك، مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك، ولا تحسن إلا فيك، وإن لك الكل، وللناس البعض، وأن لك الصافي، ولهم المشوب، هذا سوى القريب الذي لا تعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، فما هذا الغيظ الذي أنضجك؟! وما هذا الحسد الذي أكمدك؟! وما هذا الإطراق الذي اعتراك؟! وما هذا الهم الذي قد أضناك؟! "2. يحس القارئ أنه أمام فن جديد في الهجاء، وطراز فريد لأدب الفكاهة والتهكم والسخرية؛ لأن رسالة "التربيع والتدوير" ترسم صورة ضاحكة تفوق أصحاب التصوير الكاريكاتوري في العصر الحديث، وبذلك أمكن للجاحظ أن يشوه خصمه من واقع ضروب المفارقات والمناقضات المختلفة في تكوينه الجسمي الذي يجمع بين القصر والسمنة والتكريش، في الوقت الذي يدعي فيه الرشاقة والجمال والعلم والشباب. عالج الجاحظ ذلك كله في رسالته بأسلوب سهل، وقدرة فائقة في التعبير، وتلوين في الصور مع فيض من المعاني، واختيار للألفاظ، هذا ما ينبغي توافره في المقال الأدبي اليوم.

خامسا: ابن قتيبة 213-276هـ

خامسا: ابن قتيبة 213-276هـ هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة. يمثل ثقافة عصره خير تمثيل، فقد ألم بالثقافة العربية، ووقف على بعض الثقافات الأجنبية التي ظهرت في محيط الفكر حينئذ. ترك مؤلفات عديدة في شتى ألوان المعرفة من آداب ونقدولغة ونحو تاريخ وفلك وقراءات وحديث وفقه. وهي مؤلفات تكشف عن عقلية واعية منظمة مصقولة، خطت بالفكر المنسق خطوات واسعات نحو الكمال. والرواة يشيرون إلى ذلك فيقولون عنه أنه: "أحسن العلماء ترصيفا، وأجودهم تصنيفا"1. ولقد وصف بالفضل وغزارة المادة، فقال الأنباري: "كان ابن قتيبة فاضلا في اللغة والنحو والشعر، متفننا في العلوم، وله المصنفات المذكورة، والمؤلفات المشهورة"2. وقال السيوطي: "كان رأسا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة دينا فاضلا"3، وقال القفطي عنه: "هو صاحب التصانيف الحسان في فنون العلم"4، ثم قال بعد ذلك بقليل: "وكان ثقة دينا فاضلا صادقا فيما يرويه، كثير التصانيف والتآليف". آراؤه النقدية: لابن قتيبة كتاب "الشعر والشعراء" وهو من أقوم الكتب وأجداها، ففيه نقد وأدب وتاريخ، وسجل قيم لعدد ضخم من الشعراء وأخبارهم، وشيء من أشعارهم منذ الجاهلية حتى منتصف القرن الثالث الهجري. ويعتبر من أعظم المصادر الأدبية لتراجم الشعراء، ومعرفة ملابسات بعض أشعارهم التي لا يستطيع باحث أن يغفلها. بدأه بمقدمة تضمنت مذهبا جديدا في تقويم الشعر والشعراء دون نظر إلى القائل، فخطا بالنقد خطوات واسعة نحو التحرر من التقاليد النقدية العتيقة، والانطلاق إلى ما له أثر فعال في النقد الأدبي. وتعتبر مقدمة الكتاب -لما حوت من أمثلة حية- لبنة طيبة، وخطوة جريئة في أساس النقد الأدبي، نقلته من حال إلى حال.

_ 1 راجع: مجلة المنار المجلد التاسع ص548 عن كتاب "التحديث بمناقب الحديث". 2 راجع: نزهة الألباب ص272. 3 راجع: بغية الوعاة ص291. 4 راجع: إنباه الرواة جـ2 ص143.

والأمثلة الحية التي تضمنتها مقدمة الكتاب، نماذج طيبة للمقال النقدي. ومما جاء في المقدمة لكتاب ابن قتيبة "الشعر والشعراء": "ولست أسلك فيما ذكرت من شعر كل شاعر، مختارا له سبيل من قلد، إذ استحسن استحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا لمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرت عليه حقه، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله1، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، وكل شريف خارجيا في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء بعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه. ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه". فقد كشف ابن قتيبة النقاب وأماط اللثام عن رأيه الشخصي، ونظرته الذاتية في الشعر والشعراء. ومثل هذا الرأي له قيمته ووزنه وثقله ودوره في المسائل الأدبية والفنية، ومن هنا اقترب في مقدمته من المقال النقدي، ودنا منه إلى حد كبير، لا ينكره إلا حاقد على الفكر العربي.

_ 1 مثل ما روي عن ابن الأعرابي أنه كان يستحسن البيت أو الأبيات، فإذا قيل له: إنه لمحدث، رجع عن رأيه.

سادسا: أبو حيان التوحيدي 310-400هـ

سادسا: أبو حيان التوحيدي 310-400هـ عَلَمٌ من أعلام الفلسفة الأدبية، عبر عن أعمق المعاني الفلسفية بالصور الحسية، والتشبيهات اللفظية، والعبارات الأدبية؛ ولذا اعتبر رائد "الأدباء الفلاسفة" أو "الفلاسفة الأدباء". وصفه ياقوت الرومي بأنه "فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق المتكلمين، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء.. فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة"1. عاش في القرن الرابع الهجري الزاخر بالحياة العقلية، وتقدم العلوم، وتعدد الفنون، وتنوع الثقافات، وبروز الحركات الفكرية. جمع بين التراث اليوناني والثقافة العربية، في عصر كثرت فيه المجالس الأدبية، والندوات الفكرية. وظهر أثر ذلك في كتبه ورسائله حتى اعتبر الناطق بلسان الثقافة الرفيعة، ورسول الفكر الممتاز في كل منتدى من منتديات عصره. أوصافه في "الإمتاع والمؤانسة": كتاب "الإمتاع والمؤانسة" أبرز الآثار الأدبية لأبي حيان التوحيدي، والمطلع عليه يعجب بثقافة الرجل الواسعة، واطلاعه الغزير؛ إذ يضم مسائل في كل علم وفن: أدب وفلسفة وحيوان وأخلاق وطبيعة وبلاغة وتفسير وحديث ولغة وسياسة وفكاهة ومجون وتحليل لشخصيات فلاسفة العصر وأدبائه وعلمائه، وتصوير للعادات وأحاديث المجالس ... إلخ. وبجانب هذا يلقي ضوءا على الحالة الاجتماعية والثقافية للعراق خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري "أي العصر البويهي"، وصفه القفطي فقال: "هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم، فإنه خاض في كل بحر، وغاص كل لجة، وما أحسن ما رأيته على ظهر نسخة من كتاب "الإمتاع" بخط بعض أهل جزيرة صقلية، وهو: ابتدأ أبو حيان كتابه صوفيا، وتوسطه محدثا، وختمه سائلا ملحقا"2.

_ 1 راجع: معجم الأدباء جـ15 ص5 طبعة الدكتور فريد الرفاعي. 2 راجع: أخبار الحكماء ص383 طبعة 1320هـ.

والكتاب ينقسم إلى أربعين ليلة، أشبه بألف ليلة وليلة، لكن لياليه فلسفة وفكر وفن وأدب، لا ليالي غرام وحب ولهو وطرب. "فإن كان ألف ليلة وليلة يصور أبدع تصوير الحياة الشعبية في ملاهيها وفتنتها وعشقها، فكتاب "الإمتاع والمؤانسة" يصور حياة الأرستقراطيين العقلية: كيف يبحثون؟ وفيمَ يفكرون؟ وكلاهما في شكل قصصي مقسم إلى ليالٍ، وإن كان حظ الخيال في الإمتاع والمؤانسة أقل من حظه في ألف ليلة وليلة"1. وينفرد كتاب أبي حيان بالجزالة في العبارة، والإطناب في تصوير الفكرة، والإكثار من الازدواج، مع الاهتمام بالتعمق في سير غور الموضوعات التي يتناولها. وفصول الكتاب الوصفية تشبه المقالات الموضوعية الحديثة، وتقترب من المقالات التأملية الفلسفية. فقد ضم الكتاب صورا "شخصية" بارعة، أصلحها للتمثيل وأقربها إلى المقال وصف الصاحب بن عباد، التزم فيه بالأسلوب الهادئ الخالي من السباب البذيء حتى لا يفوت الغرض الذي رمى إليه، والهدف الذي يريد تحقيقه. ومما جاء في وصف الصاحب بن عباد: "أن الرجل كثيرا لمحظوظ حاضر الجواب، فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كل فن أطرافا. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائفهم، ومناظرته مشوية بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي؛ ويقول الشعر وليس بذاك، وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخواره، وطالعه بالجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشبع لمذهب أبي حنيفة، ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة. والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا "أعني يعطي الكثير القليل" مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب،

_ 1 راجع: الإمتاع والمؤنسة جـ1 طبعة 1939.

بعيد الفيئة1، قريب الطيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده ساير إلى أهل الكفاية. أما الكتاب والمتصرفون فيما فوق سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته. وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمة، نخوة وتفننا وتجبرا وزهوا. وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتي إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا بأن أعار شيئا من كلامه، ورسائل منثورة ومنظومة، فما رحبت الأرض إليه من فرغاته ومصر وتقليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقرة فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العلم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص، فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهي عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائل مع الورق والورق2، ومسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا. ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة امدحني بها في جملة الشعراء ركن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى -وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك- وينشد فيقول له عند سماع شعره في نفسه، ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى والله قد صفا ذهنك، وزادت قرحتك، وتنقحت قوافيك. ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرج الناس، وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عنيفا، والمحمر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية، وعطية هينة، ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم؛ لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا، ولا يزن بيتا، ولا يذوق عروضا"3. وعلى الرغم من طول وصف أبي حيان للصاحب بن عباد، فاته يتضمن صورة بليقة، توحي بالتقليل من شأن الصاحب بن عباد الذي اشتهر بين أعلام عصره، وهي في تصويرها وتحليلها مقال وصغي رائع يقترب من روح المقالات الهجائية الساخرة التي تصطنع أسلوب التهكم الخفيف، والمضحك في الوقت نفسه.

_ 1 بعيد الفيئة: أي يعيد الرجوع إلى الرضا. 2 يريد بأحد الورقين: الدراهم المضروبة، وهو بفتح الراء وكسرها. 3 راجع: الإمتاع والمؤانسة جـ1 ص54-56.

سابعا: أخوان الصفا

سابعا: إخوان الصفا جماعة سرية دينية، وسياسية فلسفية، وشيعية أو إسماعيلية باطنية، تألفت وتضافرت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري منهم: محمد بن مشير البستي، وعلي بن هارون الزنجاوي، ومحمد بن أحمد النهرحوري، والعوضي، وزيد بن رفاعة. اعتقد أفراد الجماعة أن الشريعة الإسلامية دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولن تطهر ويحصل الكمال لها إلا بالفلسفة؛ لاشتمالها على الحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية. اجتمع أفراد هذه الجماعة على القدس والطهارة، ووضعوا مذهبا استخلصوه من كل علم، زاعمين أنه يؤدى إلى الفوز برضى الله؛ ولذا سموا "إخوان الصفا وخلان الوفا". رسائلهم: لإخوان الصفا اثنتان وخمسون رسالة، حوت الكثير من العلم النفيس، وضمت العديد من الخلط الرخيص، وجمعت معارف عصرهم العلمي والفلسفي والديني، حتى أشبهت دائرة المعارف. ضمت الرسائل أربعة أقسام: قسم في الرياضيات، وآخر في الجسمانيات "الطبيعيات"، وثالث في النفسيات "العقليات"، ورابع في الناموسيات "الإلهيات"، بالإضافة إلى الرسالة الجامعة التي توضح كل ما جاء بهذه الرسائل. ظهرت الرسائل في أخريات القرن الرابع الهجري، ولم تنسب لمؤلف ويغلب انتماؤها إلى هذه الجماعة، وهي على أي حال تتميز بالنزعة الكلامية الفلسفية أكثر من تميزها بالصفة الأدبية البيانية. تحكي الرسائل الخصومة الأبدية بين الإنسان والحيوان أمام محكمة

الجن، يروي مؤلفوها أن الحيوانات كانت حرة تركض في الغابات، والإنسان يسكن أعالي الجبال، ثم ما لبث أن تحضر وتجمع في المدن، وانقض على الأنغام والبهائم يستعبدها ويسخرها، ثم تروي الرسائل أن الناس أخضعوا بالإسلام حين ظهر، وخضع فريق من الجن له، وكان "بيراست الحكيم" ملك الجن يحكم جزيرة "صاغون" التي تقع في وسط البحر الأخضر، قريبة من خط الاستواء، وحدث أن استطاب نفر من الآدميين الإقامة بالجزيرة، وأخذوا يتعرضون لحيواناتها التي هربت منهم، وذهبت إلى "بيراست الحكيم" يشكون ظلم الإنسان لهم، فبعث إليهم كي يمثلوا بين يديه. ويحلق خيال مؤلفو الرسائل فيجعلون زعماء الحيوانات يختارون "ابن آوى" يتحدث عنهم، ثم يعتذر عن مهمته لكثرة أعدائه من الكلاب، فيتقدم الذئب معللا عداوة الكلاب للحيوانات وصداقتهم لبني الإنسان فيقول: "إنما دعا الكلاب إلى مجاورة بني آدم ومداخلتهم مشاكلة الطباع ومجانسة الأخلاق، وما حدث عندهم من المرغبات واللذات، ومن المأكلات والمشروبات، وما في طباعها من الحرص واللؤم والبخل، وما في جبلتها من الأخلاق المذمومة في بني آدم مما السباع عنه بمعزل، وذلك أن الكلاب تأكل اللحمين: نيئا وجيفا مذبوحا وحامضا.. وما شاكلها من أصناف مأكولات بني آدم التي أكثر السباع لا يأكلها ولا يعرفها". ويدافع زعيم الإنس عن حقهم في تسخير الحيوانات بآيات من القرآن الكريم مثل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . ويرد البغل على هذه الحجج فيقول: "ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن -أيها الملك- دلالة على ما زعم أنهم أرباب ونحن عبيد لهم، إنما هي آيات تذكار بإنعام الله عليهم وإحسانه، سخرها كما سخر الشمس والقمر والرياح والسحاب، أفترى أيها الملك أننا عبيد وأنهم أرباب؟! ". ويستنطق مؤلفو الرسائل كل فرد من بني الإنس بأسلوب بني جنسه ثقافة وتفكيرا، ويصف سحنتهم وأزياءهم وعاداتهم، فالهندي طويل اللحية، والعبراني يرتدي برداء أصفر، والسرياني والمسيحي يلبس ثيابا من الصوف، والقرشي يلبس ثوبين وإزار وكأنه رجل محرم. والرسائل -كما ترى- مرآة لأفكار إخوان الصفا، تعكس عقائدهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتتميز بسهولة الأسلوب، ووضح الفكرة، واختيار الألفاظ، مما جعلها قريبة من المقال الأدبي الفلسفي في أشياء عديدة. وتدور موضوعات الرسائل -كما هو واضح- حول نقد العقائد الهندية واليهودية والنصرانية والإسلامية، من خلال عقيدة إخوان الصفا الشيعية العلوية، وتهدف إلى محاربة الحاكم الظالم ومن يعملون معه، وتنتهي بدفع الملوك لظلم الملكين: ملك الجن وملك النحل، وهذا ما يهدف المقال إليه اليوم في مفهومه ومضمونه.

ثامنا: ابن خلدون 732-808هـ

ثامنا: ابن خلدون 732-808هـ هو ولي الدين بن عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون، صاحب العقلية المتأملة المتفهمة للحياة، الدارسة للتاريخ الإسلامي وفلسفته دراسة عميقة جديرة، تتناول المجتمعات وخصائصها، والطبائع ووقائعها، والتاريخ وأهدافه وعلله. ترك ابن خلدون آثار عديدة -تدل على عبقريته ومظاهر عظمته- في علم الاجتماع والتاريخ والترجمة الشخصية والكتابة العربية، وعلم النفس التربوي والتعليمي وعلوم الحديث. وأشهر مؤلفاته "المقدمة" التي تضمنت موضوعات اجتماعية لا تزال حتى اليوم نماذج حية، وصورا صادقة تنير الطريق أمام الدارسين، وكأنه كان يكتب بلغة عصرنا، وأسلوب مفكريه. اجتماعياته: تطلق "المقدمة" لابن خلدون على المجلد الأول من المجلدات السبعة التي

تؤلف كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، أنشأ فيها ما نسميه اليوم "علم الاجتماع"، وضمنها ما لم يستطيعه أحد قبله أن يأتي بمثله، بل عجز العديد من بعده أن يصلوا إلى شأوه. وتدل بحوثها على رسوخ قدمه في طائفة كبيرة من العلوم، فلم يترك أي فرع من ضروب المعرفة إلا ألم به حتى في فنون السحر، وأسرار الحروف والزيرجة والطلسمات. ويعتبر موضوع ابن خلدون الذي حلل فيه أسباب شجاعة البدو، وخواص القبيلة والعصبية فيهم، وجبن أهل الحضر، ومظاهر حياتهم من أمثل النماذج على المقال الحديث يقول: "والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألفوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحاملة التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيقة، ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونهم إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرمال فوق الأقعاب، ويتوجسون للنبات والهيقات، وينفرون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البائس خلقا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ، أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم، لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم، وذلك مشاهد بالعِيَان حتى

في معرفة النواحي والجهات وموارد الحياة ومشارع السبل، وسبب ذلك ما شرحناه، وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة، واعتبر ذلك في الآدميين نجده كثيرا صحيحا، والله يخلق ما يشاء"1. النص -كما هو واضح- يدل على عمق ابن خلدون في بحث أحوال المجتمع، ومعرفة البيئة وأثرها على الناس، ويهدف في المقام الأول إلى كشف النقاب عن حقائق تتعلق بحياة البدو والحضر بأسلوب رائق، وعبارات واضحة، وأفكار مترابطة، وصور متآخية، وهذا ما يجب أن يتحقق في المقال الحديث. وبعد فتلك صور أدبية أخاذة رائعة، زخر النثر الفني بها على امتداد عصوره، تناولت أشياء مختلفة من الفكر والاجتماع والسياسة والأدب والنقد، وجاءت تعبيرا عن أفكار الأدباء الشخصية والموضوعية في موضوعات محددة، وصور مركزة، وأفكار واضحة، تشبه المقال في مفهومه الحديث، وتقترب منه إلى حد كبير. وليس باللازم أن يسير الأدب العربي في فنونه وألوانه على نسق الآداب الغربية؛ لأن لكل أدب مميزاته وخصائصه التي تختلف عن غيرها زمانا ومكانا وطبيعة. وفيما قدمنا من نماذج لما يؤكد أن العرب منذ مطلع القرن الثاني الهجري قد قدموا في نطاق تعبيرهم الأدبي رسائل وفصول وكتابات وأوصاف أدت ما أداه المقال في الآداب الأوربية. ولو ابتعد أدباء القرن السادس الهجري عن تكلف البديع، وتركوا العناية بالزينة، وابتعدوا عن البهرجة اللفظية، وانطلقوا في كتاباتهم دون قيد، لكانت الرسالة الأدبية المثل المبكر الحي للمقال الأدبي، وأمدتنا بثروة من الأبحاث الخلقية والاجتماعية؛ لأنها وغيرها تداولها الناس مكتوبة في كراسات، كما نطالع اليوم المقالات في الصحف والمجلات.

_ 1 راجع: المقدمة ص125 طبعة المكتبة التجارية.

ومن الإنصاف لأسلافنا وتراثنا الأدبي، أن ندرج كل ما يدور حول موضوع معروف، ويرمي لغاية تحت الأدب المقالي الهادف الذي يبغي غاية خلقية أو اجتماعية وغيرها حتى ننصف الأدباء السابقين؛ لأنهم دبجوا في شئون الفرد وأحوال المجتمع؛ ولذا قال الدكتور محمد عوض محمد: "المقال قد تطورت أركانه في ذلك العهد، وسما بنيانه، وليس ظهوره إلا عودة الأصول العربية التليدة"1.

_ 1 راجع: محاضرات في المقال الأدبي.

الفصل الثاني: المقال في طوره الحديث

الفصل الثاني: المقال في طوره الحديث مدخل ... الفصل الثاني: المقال في طوره الحديث لعلك أدركت من خلال دراستك للفصل السابق أن النثر العربي عرف الفكر المنظم الهادف منذ القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي" وتألق على مر العصور، وتناول أحوال المجتمع وأمور السياسة وقضايا الأدب في موضوعات هادفة، وصور حية، حتى بلغ في مضمار الكتابة الفنية الجودة والإتقان، وتميز بالجمال والكمال، بينما لم تعرف محاولات الأوربيين في مضمار الكتابة الوعظية إلا في منتصف القرن السادس عشر الميلادي. ومعنى ذلك أن الأوربيين تأخروا ستة قرون عما برز العرب فيه من كتابات في مجالات مختلفة وميادين عديدة، ولقد حفظ الزمن آثارا فكرية لأسلافنا، تكشف عن ثراء عقولهم، وصفاء أذهانهم، وجودة أدائهم، مما يجعلنا نفخر بهم على مر الأيام وتعاقب الأعوام. وعلينا أن نقف على محاولات الأوربيين أولا، والأطوار التي مر بها المقال في أدبنا الحديث ثانيا، وأثر الصحف في المقال ثالثا.

أولا: محاولات الاوربيين

أولًا: محاولات الاوربيين ميشيل دي مونتين 1532-1592 ... أولا: محاولات الأوربيين: لم تعرف كتابات للأوربيين إلا في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، مستوحاة من المواعظ والأخلاق، فكانت أقرب إلى الأمثال والحكم، ولا تعدو أن تكون أفكارا من هنا وهناك، انعدمت فيها التجارب الذاتية والعناصر الشخصية، وظلت هكذا حتى خطا ببعض الكتاب بها خطوات، فتوفر لها من عناصر الأدب الهادف والقول الرفيع مما جعل المقال فنا أدبيا يتناول شئون السياسة وأحوال المجتمع، ما يشغل الناس من أدب وفن واجتماع وفلسفة وأخبار، وسنحاول أن نرسم لك صورة لمحاولات الأوربيين الأولى في مضمار الكتابة والإنشاء. 1- ميشيل دي مونتين 1533-1592: كاتب فرنسي طاف أوربا، وترك "يوميات" شهيرة، أجمع مؤرخو الأدب الأوربيين أنه رائد المقال الحديث لكتاباته التي تناولت مشكلات عصره الفكرية والاجتماعية. استوحى كتاباته من آثار سابقيه ومعاصريه من كتاب المواعظ والدروس الخلقية، وصاغ منها عملا يدور حول المشكلات الخلقية والمعاشية بعبارة جميلة التقطها من هنا وهناك، غير أنه قد خلا تماما من العنصر الشخصي، وانعدمت فيه التجارب الخاصة. وفي 1580 اتجه نحو إيداع فن جديد استوحاه من الظروف التي أحاطت به، ومن تأملاته العميقة ونظرته الفاحصة لمجتمعه، وتأثره بالكتابات الأخلاقية في عصره، ودأب على صقلها وتنقيحها وتجويدها حتى أمدته بالجديد من الصور والأحاسيس والمشاعر. وظهر هذا التحول في كتاباته خاصة، مؤلفاته: "تربية الأولاد" و"حب الآباء للأبناء" و"الكبت" و"القسوة" و"من أشبه الآباء فما ظلم". ومن ثم بدأت مرحلة جديدة تقوم على التأمل العميق، والفكر الواعي في الموضوعات الخلقية والنفسية، معتمدا على الحكم والأمثال وجوامع الكلم التي استمدها من ملاحظاته وتجاربه الشخصية. فغلب العنصر الشخصي في كتاباته، التي امتازت في هذا الطور بأنها أطول من سابقاتها. ثم جمع أربعة وتسعين فصلا كتبها ونشرها في جزأين وسماها "محاولات" وتعهدها بالتهذيب والتشذيب، وضم إليها ثلاثة عشر مقالا، وأخرجها في طبعة منقحة، تتميز بتألق العنصر الشخصي، ويتسم أسلوبها بالحرية والتدفق والسير على أسس معروفة، وقواعد معينة، وأصول مرعية. ومن هنا سجل التاريخ له فضيلة السبق في مضمار هذا الفن الجديد، بعد أن امتلك ناصيته، وتربع على عرشه، وجال قلمه في موضوعات شتى بحرية تامة، وانطلاق وتدفق وحيوية.

فرانسيس بيكون 1561-1626

ب- فرانسيس بيكون 1561-1626: فيلسوف إنجليزي، صرف كل جهوده إلى إحياء وتجديد الفلسفة والعلوم بالطرق الاختيارية. كانت الموضوعات العشر التي كتبها حوالي 1597 أول أثر أدبي في اللغة الانجليزية، وهي أقرب إلى الأمثال والحكم، قل فيها العنصر الشخصي، وصور التجارب الخاصة، وفي 1612 أصدر مجموعة من الموضوعات بلغت ثمانية وثلاثين، تعتبر بداية اتجاه جديد في القالب والمحتوى، اعتمد في القالب على حسن التقسيم وجمال التنسيق، وفي المحتوى انصرف عن الحكم المركزة، والأقوال المأثورة، ومال إلى الحديث المرسل المتميز بالحيوية والألفة. وفي 1625 أصدر المجموعة الثانية في ثمانية وخمسين موضوعا، تضم المقالات السابقة، بدت فيها مظاهر التطور واضحة، وجال النظر فيها من وقت لآخر منقحا ومهذبا حتى أصبحت كتاباته واضحة المعالم، وفنه يتسم بالتنسيق، تتميز بالإطالة في الموضوعات وتحليلها، وظهر أسلوبه في حلة قشيبة، وأصبح أمتن نسجا، وأرق تعبيرا، وأوسع خيالا، وأكثر زخرفة، وأحسن تنسيقا، مع الاعتماد على الآراء الشخصية، والأحداث التاريخية، والتجارب الخاصة في التفسير والتوضيح والاستدلال بشتى البراهين. ويوضح العقاد الفرق بين مقالات "بيكون" في هذين الطورين فيقول: "مقالات بيكون في بواكيرها كانت طرائف من المتفرقات الفكرية تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد، غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه، فهو غني عن تفصيلها؛ لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليها، أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال الفكري التي يفهمها المرتاضون على قراءة هذا الضرب من الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه، ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب، وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه، وطرافة الأمثولة، واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم، وموقعها المنتظر"1. ويرجع تطور فرانسيس بيكون في كتاباته إلى عوامل أهمها: رغبته الصادقة في تعقيد علم الأخلاق؛ ولذلك نراه يكتب رسائل تنفر من الشهوات، وترغب في الفضائل، وتكشف عن النماذج الأخلاقية. ونجح في مقاله "الحسد" و"والتظاهر والرياء" ومنها اقتباسه من الكتابات التي تحمل طابع الأخلاق، ومنها تأثره بمقالات "مونتين" التي عرفها المجتمع الأدبي الإنجليزي. ومن ثم اكتسب أسلوب "بيكون" قيما جمالية لم يعرفها من قبل، وبعد عن الحكم ومال إلى الحديث المباشر المسهب المدعم بتجاربه الذاتية، وشواهد التاريخ، فتوفر له من مقومات الأدب الرفيع ما جعله يأتي بالجديد والطارف في هذا الفن الناشئ.

_ 1 راجع: فرانسيس بيكون ص85، 86.

المقال في القرن الثامن عشر

جـ- المقال في القرن الثامن عشر: أصبح المقال في هذا القرن فنا أدبيا قائما بذاته على يد "ريتشارد ستيل" 1672-1729، و"جوزيف أديسون" 1672-1719؛ لموهبتهما الفذة، واستعدادهما الطيب، وساعدهما في ذلك ظهور المجلات الأدبية، وعناية الناس والكتاب بالشئون السياسية، وما يشغل الناس من أزياء وآداب وأخبار واجتماع. بدأ هذا التطور في فن المقال بظهور "الصحيفة الأثينية" التي أصدرها "جون دنتون" واهتم فيها بنشر الأخبار والمعارف العامة، محلاة بالطرائف والأحاديث الشيقة على طريقة السؤال والجواب، ثم أعقبتها مجلة الكاتب الساخر "دانيال ديفو 1660-1731" باسم "مجلة أسبوعية خاصة بشئون فرنسا" غايتها بث آراءه الخاصة في الأزياء والعادات والأخلاق والذوق العام. وفي 1709 أصدر "ريتشارد ستيل" العدد الأول من مجلة "الثرثار" وجعلها بابين: الأول للأخبار، والثاني للمقالات، وظل صديقه "جوزيف أديسون" يعاونه حتى احتجبت المجلة 1711، وبعد شهرين من احتجابها أصدرا مجلة "المرتقب"، وعلى صفحات هاتين المجلتين ظهر المقال الحديث الذي يختلف كما وكيفا عن المقال القديم في موضوعاته المستمدة من الأحداث اليومية، وما يطرأ على المجتمع من حين لآخر. واتجهت المجلات التي ظهرت في هذا القرن اتجاها إصلاحيا تهذيبيا، مما ساعد على تطور المقال، وساعد في ذلك انتشار المقاهي في كل ناحية، يلتقي جمع من الناس فيها، يتناقشون في مختلف شئون الحياة من اجتماع وأدب وسياسة واقتصاد، فعودتهم تلك المناقشات تكوين آرائهم الخاصة في كل ما يعرض عليهم، وبدأ الكتاب يشاركون في تلك المناقشات، فيتصيدون النماذج الحية، والصور الفكهة، ويعرضونها على القراء في صور ساخرة، وأسلوب لاذع، يبغون من وراء ذلك إصلاح الفاسد، وتقويم المعوج، وتهذيب أخلاق الناس، وإصلاح عاداتهم.

المقال في القرن التاسع عشر

د- المقال في القرن التاسع عشر: حفل هذا القرن في المجتمع الأوربي بنخبة من الكتاب تمردوا على قواعد أسلافهم في المقال، وأحلوا مكانها أسسا جديدة، تختلف في مضمونها ومحتواها عنها، وظلت هذه الأسس قائمة وسائدة حتى اليوم، ومن أشهر هؤلاء: شارلس لام، ولي هنت، وهزلت، ودي كوني. وعلى الرغم من ذلك فقد اختلف المقال عند كتاب هذا القرن لاعتبارات عديدة أهمها ما يلي: 1- تجاوز المقال في موضوعاته حياة المدن وأزياء المجتمع، وعادات الناس وسلوكهم وأخلاقهم إلى مختلف الموضوعات، وأصبح الكاتب يسجل ما يروقه من صور، ويعين له من أفكار، معتمدا على سعة ثقافته، ومدى إدراكه واتصاله بالحياة العامة. 2- بدت شخصية الكاتب جلية واضحة من خلال كتاباته، وانصرف الكتاب عن بعض الأساليب القديمة في صياغة المقال، وعزفوا عن الاستشهاد بالتاريخ القديم وجوامع الكلم. واعتمدوا على شواهدهم التي استمدوها من تجاربهم الخاصة، ومن قراءاتهم بأسلوب بسيط خال من التكلف، فجاءت موضوعاتهم تعبيرا حرا أمينا عن الذات، والاهتمام بتجليتها في الأدب مما ميز أدب القرن التاسع عشر. 3- ازداد طول المقال ازديادا واضحا، مما فسح المجال أمام الكتاب، فعرضوا آراءهم ومشاهداتهم وتجاربهم في إسهاب لم يؤلف خلال القرن الثامن عشر. ولعل مرجع هذا التغيير الذي لحق بالمقال إلى أسباب أهمها: طغيان الرومانتيكية التي عبرت عن مثل الناس وتقاليدهم في الأدب والحياة معا. وغير ذلك من الوسائل الجديدة التي حولت أقلام الكتاب، فطوروا المقال حتى تضمن المثل الجديدة. ومنها ظهور المجلات الأدبية الجديدة، والدور الذي لعبته في احتدام المنافسة بين المجلات التي صدرت في الفترة من 1802-1812. ومنها توالي ظهور المجلات الأدبية التي عبر كتابها عن روح الحياة الجديدة التي شملت الأدب والحياة معا. ومن هنا زاد حجم المقال، واتسع مجال موضوعاته تبعا لذلك. أضف إلى ذلك ما زخر المجتمع الأوربي به من أفكار وآراء وأجناس وألوان، والمقال فن من فنون التصوير والتعبير الذي يحفل بما يدور في مجتمعه.

ثانيا: المقال في الأدب العربي الحديث

ثانيًا: المقال في الأدب العربي الحديث مدخل ... ثالثا: المقال في الأدب العربي الحديث أدركنا أن العرب لم يعرفوا المقال بمفهومه الحديث، وإنما عرفوا قالبا قريبا منه على شكل رسالة، تناولت بعض الموضوعات الأدبية والاجتماعية والسياسية، وخاطبوا بها طبقة من المثقفين في زمانهم. أما المقال في وصفه الفني اليوم، فقد ولد مع الصحافة في القرن التاسع عشر، ونشأ في ظلها، وترعرع في أحضانها، بعد أن فرضته ضرورات الحياة ومتطلبات العصر، يخاطب جموع الأمة دون تعمق، بحيث تبدو فيه البساطة والجمال الفطري، ومن ثم أصبح "المقال يتناول موضوعا يتصل بقضية حية في صورة محددة ومركزة، ويتجه إلى الجماعة، ويخضع في أسلوبه لمقتضيات الصحافة التي نشأ فيها هذا الفن. ولما كان المقال مرتبطا بالصحافة، وعلى صفحاتها تطور، وبأقلام كتابها دبج، كان لزاما علينا أن نقف على الأطوار التي مر بها حتى أصبح فنا أدبيا له جماله وجلاله، وسحره وتأثيره.

الطور الأول

الطور الأول: نعني به الفترة التي نشأ المقال خلالها في ظل الصحف الرسمية التي أصدرتها الدولة، أو أعانت على نشرها منذ عهد محمد علي حتى قيام الثورة العرابية. في هذا الطور سيطر السجع الغث، والتكلف الزائف على أقلام الكتاب، وسادت المحسنات البديعية المقالات: السياسية والاجتماعية والتعليمية والأخبار الداخلية والخارجية. ولذا لم ينجح المقال في علاج المشكلات التي عانى الشعب منها، ولم يلفت نظر الجمهور لما يدور حوله من قضايا وأحداث. وأبرز كتاب هذا الطور: رفاعة رافع الطهطاوي، وعبد الله أبو السعود، وحمد أنس أبو السعود، وميخائيل عبد السيد، وسليم عنموري. نشر هؤلاء مقالاتهم في الوقائع المصرية 1828، ووادي النيل 1869، وروضة الأخبار 1875، والوطن 1877، ومرآة الشرق 1879 على التوالي. ولكي تدرك سيطرة الأسلوب المسجوع على أقلام الكتاب خلال هذا الطور، اقرأ وصفا لحادث داخلي، جاء بأحد أعداد الوقائع 1865: "أن أناسا من اللئام، سفلة الأنام، ارتضوا بالخزي وارتكاب الآثام، فاستبدلوا الاشتغال بأنواع الكسب الحلال بالاشتغال بالحرام والعار، والدوران في القرى والأمصار، وكلما صادفوا أناسا على فطرتهم وحسن نياتهم، تحيلوا على اصطيادهم بتحيلاتهم، وعملوا طرق الخديعة والختل في سلب عقولهم، بإحدى المغيبات المشهورة بين الناس بالتاتورة، فيضعونها في شيء من المأكولات، ويطعمونها أصحاب العقول الناقصة بدون شعور، وبعد الحصول على ما معهم يفرون". وهكذا كان السجع يسيطر على الخبر المترجم سياسيا أو غير سياسي، ولا يخلو من الكلمات الأعجمية.

الطور الثاني

الطور الثاني: نعني به الفترة التي شارك السوريون والمصريون فيها، مع بداية الثورة الاجتماعية والفكرية المتأثرة بدعوة جمال الدين الأفغاني وتلاميذه إلى إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية، وارتبطت بنشأة الحزب الوطني الأول 1879، والأحداث التي مهدت للثورة العرابية، وغير ذلك مما تقل اليقظة العقلية من السياسة إلى المجتمع، وسرت بدورها إلى عالم الفكر والثقافة والعلم والأدب. وأبرز كتاب هذا الطور أديب إسحاق 1885، وعبد الله فكري 1889، وعلي مبارك 1893، وعبد الله النديم 1896، وجمال الدين الأفغاني 1897، وعبد الرحمن الكواكبي 1902، ومحمد عبده 1906، وقاسم أمين 1908، كتب هؤلاء في الأهرام 1875، ومصر 1877، والتجارة 1878، والفلاح والحقوق وغيرها من الصحف التي برزت خلال هذا الطور. عالج كتاب هذا الطور شئون السياسة، وأحوال المجتمع، وإصلاح التعليم، وفي هذا الطور نشأ المقال بألوانه الثلاثة: السياسي على يد أديب إسحاق، والاجتماعي على يد عبد الرحمن الكواكبي، والديني على يد الشيخ محمد عبده. وتناول المقال المشكلات المتصلة بالشعب، وبدأ يتحلل من قيود الأسلوب، وكان لهذا التحول وانتقال الكتابة من الفردية إلى الموضوعية أثره البالغ في تعدد الأغراض وجودة الأساليب. وهذا نموذج من مقالات عبد الله النديم التي اهتم فيها بتثقيف الشعب ومعالجة قضايا وطنه السياسية، ومشاكله الاجتماعية، وتحرر خلاله من السجع ولفائفه، والبديع وزخارفه، يقول النديم في مقاله "عربي تفرنج": "ولد لبعض الفلاحين ولد، فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل، حتى صار يقدر على تسريح الجاموسة، فسرحه مع البهائم إلى الغيط، يسوق الساقية ويحول الماء، وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد كان يقدم اليخني ليمنعه يأكل اللحم بالبصل، وبينما هو يسوق الساقية، وأبوه جالس عنده، مر بهما أحد التجار، فقال لأبيه: لو أرسلت ابنك إلى المدرسة ليتعلم ويصير إنسانا، فأخذه وسلمه إلى المدرسة، فلما أتم العلوم الابتدائية أرسلته الحكومة إلى أوربا، وبعد أربع سنين ركب الوابور، وجاء عائدا إلى بلاده، فمن فرح أبيه حضر إلى الإسكندرية، ووقف بمصيف الجمرك ينتظره. فلما خرج من "الفلوكة" قرب أبوه ليحتضنه ويقبله، شأن الوالد المحب لولده، فدفعه في صدره". يسخر النديم من الفتى الذي ملأه الغرور والكبر، فلم يقبل أن يحتضنه والده، ونسي تقاليد بلاده، كل ذلك بأسلوب ساخر، يسوده الحوار، وتشيع العامية فيه كي يفهم أهل الريف الذين يخاطبهم. وهكذا أثمرت جهود بعض الكتاب في العودة إلى التوفيق بين الأساليب الموروثة، وحاجات العصر الذي أطلوا منه على عالم جديد، فأنشئوا المقالات بلغة أصلح للكتابة الصحفية، مؤثرين بلاغة العبارة، واختيار اللفظ، وسلامة التركيب.

الطور الثالث

الطور الثالث: نعني به الفترة التي واكبت النضج السياسي، والوعي الاجتماعي، خلال الربع الأول من هذا القرن، نتيجة لتأجج الدوافع الوطنية، وغضب الأمة للاحتلال الإنجليزي، وسيطرة الأتراك، ورغبة الجميع في تحرير الوطن من الأجانب، أضف إلى هذا ما وقع من أحداث، وشب من صراعات، وظهر من اتجاهات، واحتدم من معارك بين الكتاب حول الثقافة الأوربية التي سادت البلاد، وحرية المرأة وتثقيفها، وغير ذلك من الموضوعات التي أدت مناقشتها إلى التماس حل لها. وبجانب هذا كله ظهرت أحزاب ثلاثة -مما كان له أثره البالغ في نمو المقال وتطوره- هي: 1- الحزب الوطني 1906 بريادة مصطفى كامل، وصحيفته "اللواء".

2- حزب الأمة 1907 بزعامة أحمد لطفي السيد، وصحيفته "الجريدة". 3- حزب الإصلاح 1907 بإشراف علي يوسف، وصحيفته "المؤيد". وأبرز كتاب هذا الطور: مصطفى كامل 1908، وأحمد مفتاح 1911، وعلي يوسف 1913، وجورجي زيدان 1914، وفتحي زعلوك 1914، وحمزة فتح الله 1918، وملك حفني ناصف 1918، وحفني ناصف 1919، وعدلي يكن 1921، ومصطفى لطفي المنفلوطي 1924، وأحمد لطفي السيد 1963. كان مصطفى كامل يمثل قلب الأمة الخافق. ألهيت مقالاته السياسية النفوس، وأججت المشاعر. جاء في مقال له: "ليقل المصريون للأمة الإنجليزية: إنه إذا كان ساستها قد نسوا أو تناسوا عهودهم ووعودهم، فإننا معاشر المصريين لم ننسها، ليقولوا بحرية وصراحة واستقلال كل ما يعتقدون، وما به يشعرون حتى تعلم الأمة كلها أنها أحياء يناضلون عن حقوقهم، ولا يقبلون الذلة والعار. إن ضياع الاستقلال مصيبة على المصريين، ولكن هناك مصيبة أخرى، وهي وجود أفراد أدنياء، اتجروا بالوطنية حينا، ثم لما يئسوا من نيل الاستقلال العاجل والربح القريب، انقلبوا إلى الاحتلال يعبدونه يتملقونه. هؤلاء هم "المصيبة الكبرى" في مصر، وبهم يستدل أعداؤنا، والمبغضون لأمتنا على موت العواطف فينا ... ". أما أحمد لطفي السيد، فكان يمثل الجانب العملي، فنراه يعمد إلى توضيح الطريق أمام من يريد أن يتخلص من مشكلة الاستعمار فيقول: "يجب علينا أن نثبت -لا لغيرنا فقط بل لأنفسنا- أننا أحرار متحللون من كل عقال يربطنا عن نيل الحرية، بل أسرى السلطة السياسية، أسرى السلطة المالية، فإذا أعوزنا ان نسترد حريتنا السياسية، فما الذي يمنعنا من العمل لاسترداد حريتنا المالية، وهي لا يستهان بها. إن تحريرنا المالي مسألة سهلة التقرير، ولكنها صعبة التحقيق جدا، معقدة الطرائق إلا إذا شفيت نفوسنا من أوهام الأحلام، وصحت عزائمنا في حلها. كل عمل لحلها ينفع، ولكن أين الذين يريدون الكسب الشخصي وكسب الحرية في آن

واحد؟! يعملون أفرادا إذا لم يتفقوا على العمل جماعات للتسلح، للمزاحمة المالية والمعارك التجارية، كل عمل في هذا السبيل نافع، قليله وكثيره. ينفع ذلك تأليف النقابات الزراعية، ينفع لذلك إنشاء بنك زراعي أهلي "بمعنى الكلمة" ينفع في ذلك أن كل امرئ منا ساعدته الظروف، فصار عنده مال احتياطي "وهذا الصنف عند غير قليل" أن يشتري بماله الاحتياطي سهما من أسهم الدين المصري ... ينفع في هذا السبيل أن تعضد المحاصيل المصرية بأن نشتريها تفضيلا لها على سواها". أما الشيخ علي يوسف، فقد كان يمثل عقل الأمة، يحلل في مقالاته كل فكرة، ويقرع الحجة بالأخرى، ويردد على المستر "روزفلت" حين قدم مصر وأيد الاستعمار فيقول: "قد كلف المستر روزفلت نفسه أن يحفظ مثلا عربيا وهو "إن الله مع الصابرين إذا صبروا"1 لينطق بها عربية، ظانا أنه بعد ذلك ينسى له أن يصب الرصاص ذائبا في أدمغة المصريين فيجمد، ولكنه لم يكد ينطق بها حتى ضحك السامعون، وأنا في جملتهم، مصر محتلة بدولة أجنبية يعرف الكولونيل روزفلت أنها قائمة على شئونها قيام الوصي على قاصر غني، فلا الوصي يريد أن يرفع يده عن ذلك القاصر وكل ما يملك، ولا القاصر يستطيع أن يدرك منزلة الرشيد، ما دام الوصي يمنعه من الوصول إليها بمقتضى مصلحته الخصوصية، ألم يكن الأجدر بالكولونيل روزفلت وهو ينصح المصريين أن يصبروا إلى عدة أجيال ليكون الله معهم، أن يوجه لأبناء عمومته المحتلين نصيحة توجه إلى الوصي القوي الطماع، فإذا قيل: إن الخطيب تحاشى ذلك حتى لا يجعل مركز المحتلين حرجا أمام الوطنيين، فكيف سوغ لنفسه وهو يمثل أعظم أمة حرة، أن يجعل مركز الوطنيين حرجا أمام المحتلين". وبجانب هذه المقالات وغيرها كانت المقالات الاجتماعية لمصطفى لطفي المنفلوطي، مما أدى إلى تطور موضوع المقال، وانطلاق أسلوبه حرا، يعبر عن حاجات المجتمع في سهولة ويسر، ودنا الكتاب من أذواق الناس وعقول المواطنين، وبعد المقال عن الألفاظ الغربية، وحمل من المعنى والبساطة قدر ما كان يحمل من زينة وزخرفة في الماضي. ومن ثم بلغ المقال قمته في هذا الطور، وأصبح فنا مستقلا يغزو الحياة والمجتمع، وتحرر من وشي الكلفة، وبها رج الصنعة، وخاض معترك الحياة من جميع وجوهها الاجتماعية والسياسية والقومية والفكرية، وبدا هذا واضحا وجليا في نظرات وعبرات المنفلوطي، مع قدرة في التصوير، وبراعة في التحليل، وصحة في العبارة، وسلامة في الأداء.

_ 1 الصواب أن يقال: "آية قرآنية" هي: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بدون قوله: "إذا صبروا" فليست من الآية.

الطور الرابع

الطور الرابع: نعني به الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وتاثرت بأحداث ثورة الشعب 1919، وامتدت حتى الحرب العالمية الثانية 1939-1945. في هذا الطور بلغ النشاط السياسي، والوعي الفكري، والنضوج الأدبي ذروته، ووقعت أحداث جلية على مسرح الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية، فاتقد النشاط الصحفي بتعدد الأحزاب والصحف اليومية والأسبوعية لا سيما بعد موت سعد زغلول 1927، وانقسام الأمة إلى طبقات. خلال هذا الطور ظهرت صحف عديدة، كان لها تأثير عميق في الحياة بصورة عامة مثل جريدة "السفور" 1915 لعبد الحميد حمدي، و"الوجدانيات" 1921 لمحمد فريد وجدي، ثم صحف الثورة مثل: "الاستقلال" 1921 لمحمود عزمي، و"البلاغ" 1923 لعبد القادر حمزة، و"كوكب الشرق" 1924 لأحمد حافظ عوض، و"الأخبار" 1925 لأمين الرافعي، و"الأسبوع" 1926 لعبد القادر المازني. ثم تلتها صحف أخرى مثل: "وادي النيل" 1929 لمحمد توفيق دياب، و"الشعب" 1930 لسان حال حزب الشعب الذي قاده إسماعيل صدقي، و"المساء" 1930 التي رأس تحريرها أحمد محرم، و"الجهاد" 1931 لمحمد توفيق دياب، و"روزاليوسف" 1934 لفاطمة روزاليوسف، و"المصري" 1936 لمحمود أبو الفتح، وغيرها من الصحف.

حفل هذا الطور بنفر من الكتاب، فيهم الناقد والمؤرخ والمربي والمتفلسف والخطيب والسياسي والقاص وغيرهم ممن شاركوا في تجديد الأدب ودعمه بآثار خالدة من أمثال: يعقوب صروف 1927، وعبد العزيز جاويش 1928، ومحمد إبراهيم المويلحي 1930، وجبران خليل جبران 1931، ومحمد رشيد رضا 1935، ومصطفى صادق الرافعي 1937، وأمين الريحاني 1940، ومي زيادة 1941، وعبد العزيز البشري 1943، وشكيب أرسلان 1949، وإبراهيم عبد القادر المازني 1949، وخليل مطران 1949، وزكي مبارك 1952، وأحمد أمين 1954، ومحمد حسين هيكل 1956، وسلامة موسى 1958، وعباس محمود العقاد 1964، وأحمد حسن الزيات 1968، وطه حسين 1973. تبارى كتاب هذا الطور على صفحات الجرائد المختلفة، حتى شهد المجتمع الأدبي صراعا بين أنصار القديم بقيادة مصطفى صادق الرافعي ودعاة التجديد بزعامة طه حسين، وأسفرت المعركة عن انتعاش الفكر العربي الحديث، وهيأت أدبا عربيا حديثا له شأنه وكيانه. وشاركت المرأة في الحياة الأدبية، فكان لندوة "مي زيادة" أثرا في حياة الأدب والأدباء، وظهرت أقلام بعدها لموهوبات من أمثال: عائشة عبد الرحمن، وسهير القلماوي، وأمينة السعيد، وفدوى طوقان، ووداد السكاكيني، وملك عبد العزيز، ونازك الملائكة. أدت جهود هؤلاء جميعا إلى إذكاء الفكر، وبعث الروح الوطنية، وتطور النثر ورقيه، وأصبح المقال أوضح فكرة، وأشمل موضوعا، وأكثر تفرعا، ودان لما حققته الصحافة من نضج وإتقان، وحذق وكمال، وجلال وجمال. ونسوق إليك نموذجا من كتابات هذا الطور، يصف زكي مبارك أسلوب أحمد حسن الزيات في كتابه "وحي الرسالة" فيقول: "هو أسلوب كاتب يؤمن بأن الكتابة فن من الفنون، فهو لا يكتفي بشرح الغرض الذي يرمي إليه، وإنما يتجه عامدا متعمدا إلى تأدية المعنى تأدية جميلة توحي إلى القارئ فكرة العناية بالأسلوب الأنيق. والزيات يغرب في بعض الأحيان، ومعنى ذلك أنه يوشي كلامه بالألفاظ الغربية من حين إلى

حين ليحول تلك الألفاظ إلى الكلام المأنوس، وفي ذلك منهج مقبول في إحياء المهجور من المفردات اللغوية، فلم تخلق تلك المفردات مهجورة، وإنما عاشت دهورا ثم تناساها الكتاب والشعراء، فأضيفت ظلما إلى القريب. والزيت لم يبتر هذا المنهج بين أدباء العصر الحديث، فقد اختطه المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، والمرحوم السيد توفيق البكري، ودعا إليه استأذنا الشيخ محمد المهدي، ولكن مزية الزيات هي القصد في الإغراب بحيث لا يقع منه في المقال الواحد غير لفظة أو لفظتين، وذلك يزيد ثروة القارئ من الوجهة اللغوية بدون أن يوقعه في التعنت والارتباك. ويستطيع الدارس وهو يراجع "وحي الرسالة" أن يقيد هذا النوع من المفردات؛ لأن إحياء تلك المفردات خصيصة أصيلة من خصائص هذا الكتاب، ولتوضيح هذه المسألة أذكر كلمة "الريازة" بمعنى العمارة، ثم أترك للدارس حرية الاستقصاء ليعرف أنه قرأ واستفاد"1. ويتحدث أحمد أمين عن "عينية" ابن سينا فيقول: "العينية هذه تدور حول حالة النفس قبل اتصالها بالبدن، وبعد اتصالها به، وبعد مفارقتها له، فهو يرى كفلاسفة القرون الوسطى أن النفس كانت قبل البدن بعهد طويل، تتمتع بكل ما تتمتع به العناصر الروحية المجردة، ثم تحل بالأجساد حين يخلق الجسم في الرحم فتحل فيه وهي كارهة، ولكنه إذا طالت مدتها ألفته، ثم إذا هي فارقته بالموت فارقته وهي كارهة. والجسد يجري من النفس مجرى الثوب من البدن، فإن الجسد يحرك الثوب بواسطة أعضائه الظاهرة، والنفس تحرك البدن بواسطة قوى حقيقية مناسبة، فهي التي تحرك العين واليد والرجل وغيرها، فإذا فارقته عدم الحركة. وكلمة "الإنسان" تطلق عليهما معا، وتطلق على النفس حقيقة، وعلى الجسم وحده مجازا، كما يسمى ضوء الشمس شمسا، وهذه النفس لا تتجرأ بذاتها، وإنما تتجزأ بأعراضها، وليست النفس في البدن كالماء في الإناء، إذا فرغ الماء بقي الإناء كما هو حين حلوله به،

_ 1 راجع: زكي مبارك ناقدا ص16 وما بعدها، طبعة الشعب 1978.

والجسم لا يكون كما هو عند مفارقته النفس، ولا النفس كالحلاوة في العسل؛ لأن الحلاوة عرضية، ولأن النفس رئيسة للبدن، والبدن مرءوس. وليست الحلاوة عرضية، ولأن النفس رئيسة للبدن، والبدن مرءوس. وليست الحلاوة رئيسة للعسل، وإنما هي بمنزلة شعاع الشمس -كما قلنا- وهي حية بذاتها، والكون كله مظاهر للنفس، فلكل شيء في الكون نفس وهو مظهرها، وهي مفطورة على صورة الفاطر جل وعلا؛ ولذلك جاء في الحديث: "إن الله خلق آدم على صورته" 1. وبمثل هذه الكتابات أصبح المقال يشبه الكتاب الصغير الذي يضم القديم والجديد في الأدب، ويترجم لأعلام الغرب والشرق، ويقدم دراسات في الفنون حينا، وفي الشعر والشعراء حينا آخر، وفي النظم السياسية حينا ثالثا. وبذلك وصل الكتاب في مقالاتهم إلى درجة الإبداع، وتخصص نفر منهم في مجالات الفكر والأدب، فوضعوا أمام الأجيال منارات تهدي إلى أقوم السبل في الحياة الأدبية. ومن ثم وطدت دعائم المقال الأدبي، ورسخت أصوله حتى أصبح معرضا لكثير من ضروب المعرفة، وحقائق الأدب، وألوان الثقافة، وبذلك أوجد وعيا علميا وأدبيا فنيا، ونهض يعمق شعور القراء، ويساعدهم على تفهم الحقائق حولهم في ضوء غامر من النقد والتحليل والمعرفة. ولا نبالغ إذا قلنا: إن هذا الطور شهد خلق الوعي الاجتماعي، والإبداع الأدبي، وتعدد فنون القول، وأصبح المقال فيه أداة التعبير في التأليف والترجمة والإذاعة والصحافة وشتى ألوان النثر.

_ 1 راجع: فيض الخاطر جـ9 ص178 وما بعدها، الطبعة الأولى 1955.

الطور الخامس

الطور الخامس: نعني به الفترة التي واكبت الحرب العالمية الثانية، وامتدت لثورة 1952، وما وليها من العهد الاشتراكي. ولقد قلنا من قبل: إن الأمة انقسمت إلى أحزاب بعد موت سعد زغلول 1927، وحرص كل حزب على الحكم أكثر من حرصه على مصلحة الأمة، فهال الشباب الوطني مصرع الكرامة، ووأد الفضيلة، وذبح الوطنية في عهد الملك السابق. ولما شاع الاستبداد، وعم الفساد، وثب نفر من صفوة الضباط الأحرار، وقادوا ثورة 1952، وأطاحوا بعرش الفساد، وقضوا على الأحزاب، وحققوا الاستقلال أمل الشعب طوال سبعين عاما خلت قبله. ووقفت مصر من البلاد العربية موقف الريادة، فتحررت شعوب، وثارت أخرى، وانعكس هذا على حياتنا الفكرية. وبدأ الكتاب يستعيدون المفاهيم القديمة في الحرية والعدالة والمساواة، وصاغوا ذلك في ثوب جديد من حياتنا الاشتراكية الحريصة على تحقيق الكفاية والعدل، وتمكن الكتاب خلال هذه التجربة الحية من ممارسة الحرية والشعور بها، وانطلقوا في كتاباتهم دون الوقوف عند حد، فأتوا بالجديد في الأدب والفكر. وحفل هذا الطور بنفر من الكتاب اللامعين من أمثال: محمود أبو الفتح، وأحمد أبو الفتح، وميخائيل نعيمة، وعلي ومصطفى أمين، ومحمد التابعي، ومحمد حسنين هيكل، وزكي نجيب محمود، وأحمد بهاء الدين، وحسين فوزي، ولويس عوض، ومحمد زكي عبد القادر، وأحمد الصاوي محمد، وعلي حمدي الجمال، وغيرهم ممن يعملون في الصحف المصرية والعربية اليوم. ومعظم هؤلاء يعيشون بيننا اليوم، وتتميز أساليبهم بالتأثر بالأدب الغربي، واستلهموا ثقافاتهم من ينابيع شتى، ويعملون بجد ونشاط في حياة الفكر المعاصر، ولا نستطيع أن ندخل كتاباتهم التاريخ حتى تستكمل آثارها، ويصبح لها طابع فني يؤهلها للحكم عليها. كتب محمد حسنين هيكل مقالا بجريدة "الأهرام" بعد نكسة 1967 تحت عنوان "مصر الالتزام والقدر" جاء فيه: "لعل الموقف المصري هو أوضح المواقف على مسرح الصراع الكبير والخطير الدائر الآن على أرض الشرق الأوسط، والموقف المصري سهل بسبب وضوحه، وهو لنفس السبب صعب، والوضوح نهار، والنهار تعرض، وذلك يعكس الغموض الذي يمكن أن يكون ليلا، والليل نهارا. ومن هنا فلعل الحديث عن دور مصر -في صراع الأطراف العشرة على

أرض الشرق الأوسط- أن يكون في بعض نواحيه تحصيل حاصل ... وهو على أحسن الفروض يؤكد أكثر مما يضعف، ويذكر أكثر مما يجدد: أن مصر كانت -وما زالت- على ارتباط وثيق بمجموعة من الالتزامات هي: 1- النضال المستمر لتحقيق حريتها السياسية والاقتصادية والفكرية. 2- اعتبار حرية مصر مفتاحا للحرية الاجتماعية من اليقين العميق بوجوه التاريخ والمصير. 3- نتيجة لذلك يجيء رفض مصر لقيام أي عازل جغرافي أو سياسي أو عسكري بينها وبين شعوب الأمة العربية، خصوصا في الشرق الأوسط؛ حيث الخطر جاثم وعدواني. 4- كان الخطر الذي انتهجته السياسة المصرية في المجال الدولي تعبيرا عن ذلك كله، من حيث عدائه للاستعمار وصداقته مع كل القوى المعادية له في العالم، وانتهاج طريق عدم الانحياز. ... ولم تكن المشكلة الحقيقية للالتزام المصري أنه واجه غزوة من أعتى الغزوات الموجهة إلى الأمة العربية، وهي الغزوة الاستعمارية -الصهيونية- ولكن المشكلة الحقيقية كانت أن الالتزام المصري واجه هذه الغزوة العاتية في ظروف مرهقة؛ لأنها -داخل الأمة العربية- كانت ظروف الحيرة والتمزق على مفارق طرق التطور. 1- هل الإطار الصحيح لنضال هذه الأمة العربية هو الجامعة الإسلامية أو هو الجامعة العربية؟ 2- هل الهدف هو الاستقلال الوطني بحدوده الانعزالية أو هو القومية العربية بأبعادها الشاملة؟ 3- هل يكون العمل العربي داخل الإطار ونحو الهدف على أساس المنهج التقليدي أو أن المنهاج الحتمي هو الثورة لتعويض التخلف وتحقيق النمو؟ 4- لما كان كل تفاعل تاريخي يخلق أنبياؤه، ويخلق أدعياؤه في نفس الوقت، فإن العالم العربي خلال سنوات طويلة دفع كثيرا في معاناته

بحثا عن إجابات على الأسئلة التي واجهت طريق تطوره من هذا كله، فإن مشكلة الالتزام المصري أنه كان يقود عالما عربيا، تتضارب داخله الإرادات في صراع مع عدو أو أعداء، توحدت إرادتهم على قهرها فضلا عما يملكونه من أسباب القوة المادية المتفوقة. إن مصر -إنصافا وليس تعصبا- لم تهرب من قدرها، وإنما واجهته بشجاعة، ووصلت إلى الحزب من أجله على أرضها، وعلى كل أرض عربية: - من 1952 إلى 1956 حاربت مصر على أرضها حتى تحقق انتصار السويس العظيم. - من 1955 ولثلاث سنوات بعدها كانت مصر وحدها تتحمل عبء الثورة الجزائرية، حتى تنبهت الأمة العربية كلها إلى أهمية الحرب من أجل عروبة واستقلال الجزائر. - 1957 انتقلت القوات المصرية إلى سوريا في وجه تهديد بالغزو من حلف بغداد وقتها. - 1958 كانت قوات الجمهورية العربية المتحدة على أهبة الاستعداد لحماية ثورة العراق من أي تدخل أجنبي. - 1962 ذهبت مصر إلى اليمن، وتركت على جبالها أربعة آلاف شهيد. - 1964 كانت هناك قوات مصرية تقطع عرض البحر الأبيض المتوسط لمساندة الجزائر. - 1965 كان هناك لواء مصري مدرع في بغداد، يشارك في حماية الثورة، وعندما سحب هذا اللواء بعد 1967 -وبسبب الحرب- كانت تلك هي الفرصة التي انتهزتها عناصر الانقلاب التي أطاحت بحكم عبد الرحمن عارف، ومهدت لعودة حزب العراق متواطئا مع بريطانيا.

- 1966 كانت مصر تشارك عسكريا في صنع استقلال اليمن الجنوبية. - 1967 كانت تواجه محنتها الكبرى، بحرب شاملة مع إسرائيل، وكانت بداية الحرب بسبب تهديد موجه إلى سوريا. في ذلك الوقت -كما قلت- قدرت مصر موقفها الوطني والقومي تقديرا وضعت فيه كل تجربتها، كان تقديرها أن الموقف يحتاج إلى الفصل، ولا يحتاج إلى الانفصال، وأنه بالفعل يمكن أن تستفيد من كل ما ضاع على الأقل.. وأما بالانفصا فإنها تضيع ما بقي. كان رأيها في الشعارات المطروحة أيام الضياع كما يلي: - وقف إطلاق النار: نعم، ولكن كي نستطيع بعده أن نعود إلى إطلاق النار بكفاءة واقتدار. - الاتحاد السوفيتي: لا يجب أن ننسى أنه إذا كان هناك أمل في سلاح لن يجيء إلا من الاتحاد السوفيتي وحده دون غيره. - الحرب الشعبية: ذلك شعار مشكوك في نتائجه بالنسبة لظروفنا.. وبدلا من أن نقول بالحرب الشعبية، فليكن قولنا له: حرب الشعب في المعركة، والجيوش في الحرب هذه المرة لا يجب أن تكون تقليدا، وإنما عليه أن يبدع، ومع العلم أيضا أنه لا بد أن يكون هناك مجال -بالقطع فإن هناك مجالا- لفصائل شعبية مسلحة، تقوم بدورها في المواجهة المستمرة مع العدو". حلل هيكل في مقاله الأسبوعي وضع مصر بين دول بلاد العروبة، والتزامها القومي بعد نكسة 1967، ودورها في المنطقة العربية وتعد خلاله أوضاعا معينة لا يرضاها عربي غيور على وطنه وعروبته وأصالته. وعلى الجملة، فقد أصبح المقال في هذا الطور فنا يدرس في جامعاتنا وفق أصول وقواعد، لها نظمها وتقاليدها، وبهذا دعمت الصحافة البناء الأدبي، وأعانت على الابتكار في فنون النثر، وألوان القول، وفتحت صفحاتها لكل جديد، وأصبحنا نطالع المقالات الطويلة والقصيرة في مختلف شئون الحياة على صفحات الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية والفصلية.

ثالثا: اثر الصحف في تطور المقال

ثالثا: أثر الصحف في تطور المقال يراد بالصحف الجرائد التي تصدر يوميا، والمجلات التي تظهر من وقت لآخر، وقد شاع منذ نهضتنا الصحفية كلمات: الجريدة والصحيفة والمجلة؛ ولذا يحسن أن نقف على المدلول التاريخي لكل منها، حتى نكون على بينة مما يتداول بيننا من الصحف، ويصدر عن دور الصحافة: 1- الجريدة: الجريدة -في الأصل- سعفة النخل الجافة المقشورة، وإحدى الأدوات التي كتب العرب عليها منذ الجاهلية. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: $"كتب القرآن في جرائد"، ثم أطلقت على الأوراق التي يتداول الناس قراءتها يوميا أو دوريا. وتسمى "الصحيفة" مرة، و"النشرة" أخرى، و"الورقة" ثالثة. وأصبحت "الجريدة" صحيفة حزب الأمة، ولسان حال أعضائه منذ إنشائه 1907 بزعامة أحمد لطفي السيد. 2- الصحيفة: الصحيفة -في الأصل- الشيء المكتوب سواء أكان جلدا أو قماشا أو نباتا أو حجرا أو عظما أو ورقا. وتعني الكتاب بمعنى الرسالة. وصحيفة لقيط بن يعمر الإيادي التي بعث بها إلى قومه ينذرهم بعزم كسرى على قتالهم مشهورة في أدبنا العربي القديم ابتدأها بقوله: سلام في الصحيفة من لغيط إلى من بالجزيرة من إياد وختمها بقوله: هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا1

_ 1 راجع: مختارات ابن الشجري ص702 طبعة 1306هـ، والشعر والشعراء جـ1 ص152 لابن قتبية، والأغاني جـ20 ص24 طبعة "ساسي".

وهي قصيدة تربو على الخمسين بيتا.. والكتاب على أي حال أعم من الصحيفة. وقال درهم بن زيد الأوسي يذكر الخزرج العهود المكتوبة على الصحف بينهم فقال: وأن ما بيننا وبينكم ... حين يقال: الأرحام والصحف1 وقال قيس بن الخطيم: لما بدت غدوة جباههم ... حنت إلينا: الأرحام والصحف2 والمراد بالصحف: العهود والمواثيق والأحلاف المسجلة في الصحائف. ومن أشهر العهود والمواثيق العربية "صحيفة قريش" بين بني هاشم وبني عبد المطلب. ولقد وردت كلمة "الصحف"3 ثماني مرات كلها بصيغة الجمع في القرآن الكريم، ولا حصر لها في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب صحابته رضوان الله عليهم. 3- المجلة: المجلة كلمة عربية فصيحة من جل الشيء إذا عظم قدره وارتفع شأنه. جاء في معجم "لسان العرب": المجلة: الصحيفة فيها الحكمة، يقول النابغة: مجلتهم ذاته الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب يريد بمجلتهم "الصحيفة"، وعني بها "الإنجيل" لأنهم كانوا نصارى. ويروى أن سويد بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال: "وما الذي معك؟ " قال: "مجلة لقمان"4.

_ 1 راجع: الميكروفيلم بمعهد المخطوطات بالقاهرة ورقة 20. 2 راجع: ديوانه ص19. 3 راجع السور التالية: طه133، النجم36، عبس13، التكوير10، الأعلى 18، 19، المدثر 52، البينة 2. 4 راجع: الفائق في غريب الحديث جـ1 ص206 للزمخشري طبعة 1945.

يريد: كل كتاب فيه حكمة لقمان فهو "مجلة"، وأطلقت في أول الأمر على الكتاب والكراسة. قال أبو عبيدة: كل كتاب عند العرب "مجلة". وتحدث ابن الأعرابي عن نفسه فقال: "أنه كان في يده كراسة، فلقي أعرابيا، فسأله: ما المجلة؟ فأجاب: التي في يدك". وفي العصور الوسطى شملت "المجلة" كل ما يتضمن حكمة، فسميت أمثال لقمان الحكيم "مجلة لقمان"، وقيل عن شعر أمية بن أبي الصلت: "مجلة أدبية"؛ لكثرة ما يتضمن من حكم. وانحصرت مهمة "المجلة" في تسجيل ما زخر المجتمع العربي به من صور خلال عصوره المختلفة، وبيئاته المتعددة من مثل: مجالس الأدب والمناظرات والأمالي وتناقل الروايات في الأخبار والأشعار. ولذا قال الراغب: سمي المصحف "مجلة". وظل هذا المعنى شائعا حتى بداية نهضتنا الحديثة. حتى فرق رواد الصحافة وحملة الأقلام بين الصحف اليومية التي تهتم بالخبر والحدث، فسموا الواحدة منها "صحيفة" وبين الصحف الدورية التي تناقش نظرية وتنقد رأيا، وسموا الواحدة منها "مجلة"، وقصروها على الصحف الأدبية والعلمية والإسلامية واليهودية1 والنسائية والسياسية والاقتصادية والفلسفية، والخاصة بالأطفال والفنون الجميلة والموسيقى والتاريخ والآثار، والمجلات المصورة، وغيرها مما يلقي أضواء جديدة على تاريخ الآداب والعلوم والفنون والثقافة في مصر وبلاد العروبة. وأول من استعمل لفظ الصحافة بمعناه المعاصر الشيخ نجيب الحداد 1867-1899 منشئ "لسان العرب" 1894 بالإسكندرية2، وظل الصحفيون لا يفرقون بين الجريدة والمجلة في الاستعمال حتى تولى الشيخ إبراهيم اليازجي 1847-1906 إدارة صحيفة "الطبيب" البيروتية 1884، أشار إلى لفظة "مجلة" فقال: "إنها صحيفة علمية أو دينية أو انتقادية أو ما شاكل ذلك، تصدر تباعا في أوقات معينة"، وتابعته

_ 1 صدرت بمصر الصحف التالية: إسرائيل، الاتحاد الإسرائيلي، صهيون. 2 راجع: تاريخ الصحافة العربية للكونت فيليب أي طرازي.

المجلات التي صدرت بعد مجلته. وبلغت الصحف في مختلف بلاد العروبة ثلاثة آلاف وثلاثا وعشرين صحيفة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، وكان لمصر فضيلة السبق في هذا المجال؛ إذ ظهرت جريدة "التنبيه" 1800 بمدينة الإسكندرية، والوقائع المصرية في 1828 بالقاهرة. وسنحاول أن نتعرف على أشهر المجلات الأدبية التي أثرت في اللغة والأدب وتطور المقال. ففي لبنان كانت مجلات: الجنان والزهرة والمهماز والنحلة 1870، والنجاح 1871، والمقتطف 1876، والمشكاة 1878، والجامعة 1894، والمشرق 1898 للأب لويس شيخو اليسوعي 1859-1927. وفي فترة ما بين الحربين العالميتين ظهرت المجلات الأدبية التالية: المرأة الجديدة 1921، ومنيرفا 1923، والكشاف والمعرض والجمهور والعرفان والمكشوف والأديب واللواء اللبنانية. أما في مصر فقد أنشأ اللبنانيون فيها المجلات الثقافية والعلمية، واهتموا بتطويرها وتهذيب أسلوبها، فكانت مجلة النحلة الحرة 1871 للويس الصابونجي، ومرآة الشرق 1882 لخليل اليازجي، والحضارة 1882 لميخائيل جرجس عورا، وانتقلت المقتطف إلى مصر 1885، وظلت تصدر حتى 1952، والشفاء 1886 لشبلي الشميل، واللطائف 1886 لشاهين مكارنوس، والهلال 1892 لجورجي زيدان، ولا تزال حتى اليوم تواصل رسالتها، والبيان 1897، والضياء 1898، وهما للمرحوم إبراهيم اليازجي، والهداية 1910 لعبد العزيز جاويش، والزهور 1910 لأنطون الجميل، والكنانة لشاكر شقير. وبعد ثورة 1919 قلد المصريون اللبنانيين في إنشاء المجلات وتنسيقها، فكانت المجلات المتخصصة في مجالات العلوم والفنون والصناعات، وظهرت المجلات التي تهتم بالمقال الأدبي مثل: الثورة 1924 لمحمد علي طاهر، والفجر 1925-1929، وكانت تحفة الصحافة الأدبية، والزهراء 1926، والمصور 1926، والسياسة الأسبوعية 1926، والبلاغ الأسبوعي 1926، والمجلة الجديدة 1930 للمرحوم سلامة موسى، وقد مزج فيها بين

العلم والدين والفن، ثم مجلة أبوللو 1932-1934، والرسالة 1933-1952 للمرحوم أحمد حسن الزيات، والشباب 1936 لمحمود عزمي، والشباب 1937-1939 لمحمد علي طاهر، والثقافة 1939-1953 لأحمد أمين، ولا تزال تصدر حتى اليوم تحت إشراف وزارة الثقافة المصرية، والكاتب المصري 1945-1948، والكتاب 1945-1953. على صفحات الصحف -اليومية والدورية- وعلى أيدي كتابها ظهر المقال بخصائصه وسماته، وأصبح فنا أدبيا له رونقه وجماله، وسحره وجلاله وأثره في النفوس، وغدا أكثر رواجا من الأقصوصة؛ لأن الصحافة لم تخلُ من موضوع في فن النقد أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة أو العلم. وفرضت الصحف أن يعبر الكاتب عن حاجات العصر وأحداثه، ويصور ما يحيط به بأسلوب يسهل فهمه ويمكن إدراكه، دون التقييد بنسق معين أو موضوع محدد، فكثرت الموضوعات وأثرت الحياة ثراء طيبا، لما خاض فيه الفكر، وجاشت به الخواطر، ودبجته الأقلام، فنهض المقال بعد أن ظل يتأرجح بين نقطة يدور حولها في الأداء، وبين الانعكاسات الهزيلة في نفس الكاتب. ومنذ مطلع هذا القرن عرف المقال طائفة من الكتاب الذين برزوا في مجال الأدب والسياسة والاجتماع، وتميزوا بسعة الاطلاع والتعمق في الثقافة العربية، والوقوف على فنونها من أدب وفن وفلسفة ونقد، بينهم المتعمق في فكرته كالعقاد، والسهل في أدائه كالمازني، والقادر على معالجة مناص الحياة الأدبية كطه حسين. على أيدي هؤلاء الكتاب كانت محاولات التجديد في الأدب العربي، وتطور المقال في مضمونه وأدائه، وتعدد فنونه. وفي منتصف العشرينات ترددت كلمة "الثقافة" في ظل الصحافة نتيجة لتطور الفكر الصحفي، وظهرت نوعيات من المقالات تجمع بني الأدب والعلم والسياسة عرفت "بالأدب العلمي"، ولما لوحظ التعارض بين الأدب والعلم اتفق الدكتور محمود عزمي والأستاذ سلامة موسى على أن "الثقافة يراد بها الكتابة التي تجمع بين نواحي المعرفة بمفهومها القديم

والحديث. ومن ثم حلت كلمة "الثقافة" التي أصبحت تحيط بكل ما يتصل بالنشاط الفكري في العصر الحديث محل كلمة "معرفة" ذات المفاهيم الواسعة في الأجيال القديمة. وأدى تعدد الصحف الأحزاب إلى ظهور "الهجاء السياسي" وهو لون جديد من أدب المقاقل يصور الحياة تصويرا صحيحا، فاتسعت دائرة المقال وأصبحت أدبية واجتماعية ونقدية. وحملت الصحف دعوات المفكرين لتنشيط الثقافة الأدبية واللغوية مثل: دعوة أحمد لطفي السيد للتقريب بين الفصحى والعامية، التي ترتب عليها تيسير أسلوب الكتابة على الجماهير، ورواج الأدب وتخلصه من الذاتية إلى الموضوعية. واهتمت صحيفة السياسية اليومية بالعديد من النظريات الأدبية، وحرص ناقدها الأدبي طه حسين على تمحيصها بالنقد والإرشاد والتوجيه، كما بسط محمد حسين هيكل على صفحات السياسة الأسبوعية دعوته إلى الأدب القومي الذي يعتمد على التاريخ المصري وطبيعة وادي النيل. وكشفت مجلة "أبوللو" عن مواهب أدبية مطمورة، تربعت على أريكة الشعر والنقد المعاصر. وحرصت مجلة "الرسالة" على الدراسة الأدبية والنقدية وإحياء اللغة، فأسهمت بقسط وافر في نهضة الأدب الحديث، وتبعتها مجلة "الثقافة" ذات الطابع العربي الرصين، ثم كانت مجلة "الكاتب المصري" التي مال كتابها إلى الانطلاق والتحرر. أضف إلى هذا كله أن الصحف كانت معرضا للمساجلات الأدبية بين قادة الفكر وأعلام الكتاب كالرافعي والعقاد وطه حسين وزكي مبارك وغيرهم مما غذى الفكر الحديث ببحوث وآراء ونظريات واتجاهات كانت بداية لمرحلة تحول في الحياة الثقافية والفكرية معا. وهكذا لعبت الصحف وأدى الكتاب دورا كبيرا وفعال في رقي الأسلوب، واتجهت الصحف به نحو الكمال، وأنعشت الفكر، وارتفعت بالعقلية العربية عامة، والمصرية بصورة خاصة، وفتحت آفاقا جديدة في التصوير والتعبير أمام الكتاب والمفكرين، فنهض المقال وتطور، وأصبح أكثر رواجا من فنون الأدب الأخرى.

الفصل الثالث: تنوع المقال

الفصل الثالث: تنوع المقال مدخل ... إتقانه والتبرير فيه، واقتران الموهبة بالممارسة والتجربة، فتلتقي حينئذ في كاتب المقال الصفات العقلية بالمزايا الشخصية؛ لأنه -أي مقال- تعبيرا عن وجهة نظر خاصة"1. تلك أهم تعاريف نقاد الغرب والعرب للمقال التي تحدد عناصره، وتوضح أفكاره، وتكشف عن سماته. وفي الإمكان ان نستخلص من التعاريف السابقة للمقال بأنه "نمط من التعبير الحر المصور لأحداث الحياة، وصور المجتمع، نتعرف به على ملامح كل جديد، وخصائص كل مبتكر، وسمات كل مستحدث من سياسة وأدب واجتماع ونقد وعلم في أقرب وقت، وبأقل جهد". ومن ثم يكون المقال فنا نثريا، يقف بجانب القصة والأقصوصة والمسرحية والرسالة والخطية، ونظرا لأن الفنون الأدبية لا تنحصر في نطاق محدد، فقد أخذ المقال من السيرة والقصص رسم الشخصيات، ومن المسرحية الحوار، ومن القصيدة النفس الشعري. العناصر التي يقوم المقال عليها: يقوم المقال الفني على عناصر تكوِّن إطاره وهيكله العام وهي: أولا: المادة: هي المعارف والأفكار والآراء، وخلجات النفس والعواطف والوجدانيات، والتجارب المستفادة من البيئة أو النابعة من داخل النفس، والمعلومات المختلفة والحقائق المتعددة التي تزخر الحياة بها، وما خلقته الأجيال وسجله الجيل المعاصر في مختلف النواحي السياسية والعلمية والفلسفية. يبعث هذا كله في نفس الأديب الانتباه، وينشأ عن طريق عقله وقلبه تيار متدفق من الصور الذهنية، التي تسترعي النفوس، وتلفت الأنظار.

_ 1 راجع: دراسات في الأدب العربي الحديث ومذاهبه للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

الفصل الثالث: تنوع المقال تعريفات النقاد للمقال: يجد رجل الفكر لذة فائقة ومتعة نادرة، عندما يخلد إلى نفسه، ويقضي ساعات يتأمل خلالها فيما يحيط به، لا يحسها رجل الأعمال؛ لأن هدفه الأول الكسب المادي، أما رجل الفكر فإنه يجد في التجارب التي يتأملها ترويحا للنفس، إذا اجتاز مرحلة التأمل والاستيعاب إلى مرحلة التعمير والتصوير، كانت وسيلته الأولى هي المقال. وعلى الرغم من أن المقال -اليوم- فن من فنون التعبير، لم يتفق النقاد في الغرب أو الشرق على تعريف جامع له. يعرفه "جونسون" فيقول: "نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، أو قطعة لا تجري على نسق معلوم، ولم يتم هضمها في نفس كاتبها"، وليس الإنشاء المنظم في نظره من المقال الأدبي في شيء. ويراه "موري" بأنه: "قطعة إنشائية ذات طول معتدل تدور حول موضوع معين أو حول جزء منه"، ثم مضى قائلا: "وكانت في الأصل تعني موضوعا يحتاج إلى مزيد تهذيب، ولكنها أصبحت الآن تطلق على أية قطعة إنشائية، يختلف أسلوبها بين الإيجاز والإسهاب ضمن مجالها الموضوعي المحدود". ويذهب "آدمون جوس": "أنه قطعة إنشائية ذات طول معتدل، تكتب نثرا، وتلم بالماهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلة سريعة، ولا تُعْنَى إلا بالناحية التي تمس الكاتب عن قرب".

أما نقاد العرب فقد وضعوا تعريفات على قدر فهم كل للمقال. فقال محمد عوض محمد: "إنه قطعة مؤلفة، متوسطة الطول، تكون عادة منثورة في أسلوب يمتاز بالسهولة والاستطراد، وتعالج موضوعا من الموضوعات وكأنها تعالجه -على وجه الخصوص- من ناحية تأثير الكاتب به"1. وجاء في "فنون الأدب": "إنه في صميمه قصيدة وجدانية سيقت نثرا، لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم.. وأن الأسلوب الجيد في المقال يجب أن يكون ذاتيا لا يبنى على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية"2. ويقول محمد يوسف نجم: "إنه قطعة نثرية مدودة الطول والموضوع تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من التكلف والرهق، وشرطه الأول أن يكون تعبيرا صادقا عن شخصية الكاتب"3. ويرى العقاد: "أنه يكتب على نمط المناجاة والأسمار وأحاديث الطرق بين الكاتب وقرائه، وأن يكون فيه لون من ألوان الثرثرة أو الإفضاء بالتجارب الخاصة والأذواق الشخصية"4. وتراه الباحثة نعمات أحمد فؤاد: "أنه كلام ليس المقصود به العمق والتركيز، وهو في مدلوله الحديث ثرثرة بليغة محببة بيد أصحابها، ولا يعرف كيف ينتهي"5، أو "أنه لا يستوفي الحقائق كلها، وإنما يختار كاتب المقال جوانب من الموضوع الذي يطرقه للبحث والنظر، ويسلط عليه أضواء فكره، ويلونها بلون شخصيته، وهو في هذا العرض على مدى قدرته الفنية.. بل يستلزم كذلك القدرة على انتقاء المواد المناسبة، وإنماء الفكرة، وتحديد الهدف.. والمقال قبل كل شيء عمل فني يستدعي

_ 1 راجع: محاضرات في "فن المقالة الأدبية". 2 ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود. 3 راجع: فن المقالة ص95. 4 راجع: فرانسيس بيكون. 5 راجع: أدب المازني.

ويشترط في عرض مادة المقال أن تكون واضحة لا تناقض فيها، بحيث تؤدي إلى نتيجة معقولة، وإفادة كاملة. ثانيا: الأفكار هي الحقائق التي يستخدمها الكاتب في مقاله، ومنها يبني عمله، وبها يلجأ إلى إيقاظ العواطف وتأجج المشاعر. ولذا يلزمه أن يكون ملما بشئون الحياة وأحوال الكون، ونزعات النفس، وخلجات الفؤاد، وطبائع الناس، وما يدور في المجتمع من عادات وتقاليد وقيم. وكلما كان الكاتب واسع التجارب، محيطا بالمعارف العامة، والقضايا الفكرية أو النظريات المعروفة يكون إنتاجه نافعا، وله قوته وتأثيره، ولا سيما إذا توفر فيه الوضوح والدقة، واقترن بوجدان عميق، وخيال مرهف، وأداء حسن، وأسلوب رفيع، ويشترط في الأفكار ترتيبها وتسلسلها، ويجب أن تكون كل فكرة نتيجة لما بعدها، ومقدمة لما بعدها، حتى تنتهي كلها إلى غاية مطلوبة وهدف معلوم. ثالثا: الأسلوب حين يفكر الكاتب في التعبير عن فكرة تعين له، أو رأي يشغله، أو قصد يتجه إليه، يكون أمام تيار متدفق من المعاني أو الحقائق أو الخواطر أو الوجدانيات والعواطف التي تجيش في نفسه، وتسبح جزئياتها في عقله وقلبه. ولا وسيلة له سوى الأسلوب في جمع هذه الجزئيات وتنظيمها ونقلها إلى القارئ أو السامع. وبذلك يكون الأسلوب الغالب الذي يصور الأديب فيه أفكاره وخواطره وعاطفته، والمنهاج الذي يفصح به عما في نفسه، والطابع الذي تطبع به كتابته، ويتسم به إنتاجه. ويشترط فيه أن يكون سهلا ودقيقا في عرض المقال الموضوعي، غنيا بالصور الجذابة، والعبارات العذبة في المقال الذاتي. الخطة التي يتألف المقال منها: يتألف المقال من خطة تحكم عناصره، وتنسق مادته، وتربط أفكاره

بعضها ببعض، وتوائم بين حقائقه في أسلوب رائق، وتعبير فائق. وتعتمد هذه الخطة على أمور ثلاثة هي: أولا: المقدمة تتألف من معارف ومسلمات لا ينكرها القراء أو يعترضون عليها، والغرض منها التمهيد للموضوع الذي يتناول، حتى تتهيأ النفوس لتقبله. ويجب أن تكون موجزة وفيها جدة، وتلائم موضوعها كيفا وكما، وتتصل به اتصالا مباشرا، مع ضرورة أن تصاغ بألفاظ سهلة جذابة، وعبارات فخمة، ومعان واضحة، تشوق القارئ، وتنشط فكره، فلا يلحقه سأم، أو يصيبه فتور قبل أن يأتي الموضوع. ثانيا: العرض يلي المقدمة، ويشتمل على عناصر الموضوع الرئيسية التي يسعى الكاتب إلى شرحها لقرائه، ولا بد فيه من وحدة الموضوع؛ لأن تعدده يشتت جهد الكاتب والقارئ معا، فتضيع فرصة التركيز عليهما، ويضعف الأمل في الاقتناع والتأثير. ويلزم في العرض ترتيب أجزاء الموضوع، بحيث يتصل كل جزء بما قبله، ويمهد لما بعده، مع توفر الدقة والوضوح، ويأتي مقتنعا ومقبولا وواقعيا مؤيدا بالبراهين، ومدعما بالحجج، وبذا يتيح فرصة الفهم، ولذة التتبع لدى السامعين التي تنتهي بتحقيق الغرض المنشود. ثالثا: الخاتمة هي الثمرة المرجوة والنتيجة التي وصل الكاتب إليها بناء على براهينه التي أوردها في موضوعه. وتبدو أهمية الخاتمة حين يطول الكلام في الموضوع، فتكون بمثابة تلخيص له، ولها أهمية أخرى في أنها نهاية قول الكاتب، وآخر ما يطرق آذان القراء، فتكون الفرصة الأخيرة لاجتذاب العواطف، وتعمق المعنى في الأذهان، ولا يتم ذلك إلا بتوفر الدقة والإيجاز، والاكتفاء بأهم ما تناولته، بحيث تكون قصيرة وقوية وصدى لما تقدم في الموضوع.

ويحدثنا أحمد الشايب عن الخطة التي يتألف المقال منها فيقول: "أما خطة المقالة فهي أسلوبها المعنوي من حيث تقسيمه وترتيبه لتكون قضاياه متواصلة، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها، مقدمة لما بعدها، حتى تنتهي إلى الغاية المقصودة. وهذه الخطة تقوم على المقدمة والعرض والختام. فالمقدمة تتألف من معارف مسلم بها لدى القراء، قصيرة متصلة بالموضوع، معينة على ما تعد النفس له، وما تثير فيها من معارف تتصل به، والعرض -أو صلب الموضوع- هو النقط الرئيسية أو الطريقة التي يؤديها الكاتب سواء انتهت إلى نتيجة واحدة، أم إلى عدة نتائج هي في الواقع متصلة معا، وخاصة لفكرة رئيسية واحدة، ويكون العرض منطقيا مقدما الأهم على المهم، مؤيدا بالبراهين، قصير القصص أو الوصف أو الاقتباس، متجها إلى الخاتمة لأنها منارة الذي يقصده. والخاتمة هي ثمرة المقالة وعندها يكون السكوت، فلا بد أن تكون نتيجة طبيعية للمقدمة والعرض، واضحة صريحة، ملخصة للعناصر الرئيسية المراد إثباتها، جازمة تدل على اقتناع ويقين، لا تحتاج إلى شيء آخر لم يرد في المقالة"1. والمثال الحي على الخطة المحكمة والعناصر المترابطة للمقال، ما كتبته "ملك عبد العزيز" عن "قضية الشعر الجديد"، فقد لمحت الكاتبة في المقدمة إلى موقف "شيوخ الأدباء" من الجيل اللاحق بهم، ثم نجدا في العرض تحلل تعصب هؤلاء الأدباء للقديم وتجاهلهم تطورات العصر. ثم أشارت إلى متطلبات العصر التي يجب أن يحس الأدباء بها، وهذا ما أغفله الأدباء المتعصبون للقديم، وتمضي الكاتبة في توضيح الأساليب التي سلكها الشعراء المجددون مستعينة بالأدلة والبراهين، فذكرت أن هناك "النغم العاصف العتي" و"النغم العذب الرقيق" و"النغم الوادع المهموس". وتختم الكاتبة مقالها قائلة: "وأخيرا فللشعر الجديد روائعه وسقطاته،

_ 1 راجع: الأسلوب ص94 وما بعدها، طبعة 1976.

أولا: المقال بالنسبة لموقف الكاتب

أولًا: المقال بالنسبة لموقف الكاتب المقال الذاتي ... أولا: المقال بالنسبة لموقف الكاتب يكون المقال بالنسبة لموقف الكاتب ذاتيا أو موضوعيا، وقد يكون موضوعيا ذاتيا، ويفرق بينهما بأن المقال الذاتي تبدو فيه شخصية الكاتب واضحة، ويفيض أسلوبه بالعاطفة، ويستند إلى الصور الخيالية، الصفة البديعية، ويزخر بالألفاظ القوية، والكلمات الجزلة. أما المقال الموضوعي فالكاتب فيه يجلو موضوعا معينا، ويقوم على تصميم محكم، وتنسيق بديع، ويخلو أسلوبه من الحشو والاستطراد، ويعتمد على المصطلحات مع ضرورة المحافظة على بنائه القائم على المقدمات والعرض والنتائج. أ- المقال الذاتي: هو المعبر عن عواطف الكاتب، والمصدر لانفعالاته الصادقة عن ذات نفسه أمام خاطرة عابرة، أو مشهد مؤثر، أو حدث وقع. وتبرز شخصيته من خلال أفكاره الممزوجة بمشاعره المتأججة، معبرا عنها بأسلوب رائق، ولفظ فائق، وخيال خصب، وبيان رائع، ومعان دقيقة. وأنواعه هي: 1- المقال الشخصي: هو المعبر عن تجارب الكاتب الخاصة، وانعكاسات الحياة في نفسه.

وهو لون من الحديث الشخصي، والمسامرة اللطيفة، ويمتاز بتألق الفكاهة، ووضوح السخرية التي تكشف عن اتجاهات الكاتب وألوان شخصيته. وأبرز كتاب هذا اللون: محمد السباعي، وابراهيم عبد القادر المازني، وأحمد أمين، ومي زيادة، وميخائيل نعيمة. 2- المقال الاجتماعي: يعالج مشكلة من المشاكل الاجتماعية، وينقد العادات السيئة، والتقاليد الضارة، وينفر مما هو ضار، ويرغب في النافع المفيد. ودور الكتاب فيه المشاركة فيما يدور حولهم على طريقة تقوم على الملاحظة الدقيقة، والعمق والتأمل فيما يحيط بهم، والاتزان في الحكم، والبراعة في التهكم والسخرية، من العادات التي تضر بالمجتمع. وأشهر كتابه: جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين، ومصطفى لطفي المنفلوطي. 3- المقال الوصفي: الذي يصور البيئة المكانية التي عاشها الكاتب تصويرا ينم عن إحساس عميق، وبصر نافذ، وإدراك واعٍ، مع دقة الملاحظة والتعاطف مع الطبيعة والوصف الحي الذي ينقل أحاسيس الكاتب ومظاهر الطبيعة، كما تتراءى في نفسه بصدق وأمانة وإخلاص. ويمثل هذا اللون في ادبنا: "وحي البحر" و"بجوار شجرة الورد" و"مع الطير" لأحمد أمين1 و"الصخور" لميخائيل نعيمه2 و"مجال الطبيعة" للعقاد3 و"الربيع" للرافعي4. 4- المقال الانطباعي: هو الذي يصور انطباعات الكاتب عن أناس عاش معهم، أو حيوانات

_ 1 راجع: فيض الخاطر جـ2 ص2، جـ3 ص359. 2 راجع: البيادر ص173. 3 راجع: الفصول ص128. 4 راجع: وحي القلم جـ1 ص22.

وقع نظره عليها، أو مشاهد اكتشفها، أو تأثر بعالم جديد لم يؤلف. وهذا اللون من الكتابة يحتاج لعقل مرن سريع التأثر والتكيف والاستجابة بما يعن له حتى يدرك المعاني التي تكمن وراء ما تقع عينه عليه. وأمثلة هذا اللون عديدة في أدبنا المعاصر مثل: "رحلة" لأحمد أمين1 و"في الزورق" للعقاد2 و"رغيف وإبريق ماء" و"غدا تنتهي الحرب" لميخائيل نعيمة3. 5- مقال السيرة: يترجم الكاتب فيه سيرة إنسان حي، ويعكس مدى تأثره به وانطباعه عنه. والكاتب يه يعتمد على حسن التنسيق، وجلال التعبير حتى تبدو الشخصية الموصوفة كأنها تحدثنا، فتعجب بها إذا راقتنا، وتنفر منها إذا ساءتنا. ومن أمثلة هذا اللون في أدبنا: "شخصية عرفتها" و"الشيخ مصطفى عبد الرازق" لأحمد أمين4 و"حافظ" للبشري5 و"قاسم أمين الفنان" للعقاد6 و"العقاد والمازني" لتيمور7. 6- المقال التأملي: الذي يصور مشكلات الحياة الخفية، ويكشف أسرار الكون الدقيقة، ويعلل فوازع النفس البشرية، بحيث لا يلتزم الكاتب فيه بنهج الفلسفة ونظامها المنطقي. ويمثل هذا اللون في أدبنا "ميخائيل نعيمة" في كتاباته التي تكشف عن روح الشرق، وتنبه إلى خصائصه الروحية والفكرية.

_ 1 راجع فيض الخاطر جـ2 ص100، جـ3 ص178. 2 راجع الفصول ص251. 3 راجع: البيادر ص166، 195. 4 راجع: فيض الخاطر جـ5 ص265، جـ7 ص312. 5 راجع: في المرأة ص113. 6 راجع: بين الكتب والناس ص337. 7 راجع: ملامح وغصون ص54، 99.

ومقالاته في "البيادر" تعكس هذه المعاني1. ومقالات المرحوم أحمد أمين مثل: "فلسفة المصائب" و"نظرة في الكون و"الحظ"2. 7- المقال الساخر: هو الذي يعتمد على التصوير الكاريكاتيري، ويقوم على التحليل والتوليد، ويظل كاتبه يقلب الصور ويخرجها واحدة بعد أخرى في أشكال متباينة، وأوضاع مختلفة حتى تتناول المعاني التي يمكن أن يحتملها المقام. وأبرز كتابه: عبد الله النديم، وحسين شفيق المصري، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد العزيز البشري، وثروت أباظة. 8- المقال الإذاعي: الذي يقوم على تقديم البرامج والمشاهد والأحداث والمواقف. يخاطب به جموع الشعب على اختلاف مستوياته من خلال وسائل الإعلام. عرف هذا اللون بعد ظهور الإذاعة والجهاز الرائي "التليفزيون" إلى الوجود. ويشترط فيه أن يكون قصيرا يحمل من المعاني أكثر ما يحمل من الألفاظ، من غير عمق وإيفال في صياغة المعنى. ويتناول العديد من فنون النثر بعبارة ميسرة، وأسلوب واضح. ويشترك المذيعون على اختلاف أذواقهم وثقافاتهم في تقديم هذا النوع الذي أصبح مادة ضرورية للشعب. وهذا اللون يحتاج إلى قدرة في التعبير ومهارة في التصوير ليجذب المتحدث المستمعين إليه. 9- المقال الإنشائي: هو الذي يصور انطباع الكاتب تجاه حدث معين، أو شعوره إزاء موقف خاص، أو تأثره بسبب مشهد ما. وكاتبه يشبه الشاعر في كثير، ولا يبتعد عنه إلا في موسيقى الشعر المعروفة التي تجعل عمله قصيدة لا مقالا. ويمثل هذا اللون ما تحفل صحف اليوم من مقالات تدور حول أحداث اجتماعية أو طائفية وغيرها مما يحفل المجتمع ويترك بصماته في ذهن الكاتب. وأبرز كتابه: أمين الرافعي، وسلامة موسى، ومحمد توفيق دياب، وغيرهم من رواد الصحافة في القديم، وفي الحاضرين أمثال: إبراهيم سعدة، وموسى صبري، وعبد الله عبد الباري، ومحسن محمد، وعلي حمدي الجمال، وغيرهم.

_ 1 راجع: كتب وشخصيات للمرحوم السيد قطب. 2 راجع: فيض الخاطر جـ2 ص117، جـ3 ص36.

المقال الموضوعي

ب- المقال الموضوعي: الذي يتجرد الكاتب فيه عن شخصيته، وتتوارى فيه عواطفه، ويعالج موضوعه معالجة تقوم على تقصي الأفكار، وتنسيق المادة المدروسة، وإبراز عناصرها، مستخدما الأسلوب المحدد الدقيق الذي يهتم بإبراز الفكرة وتوضيحها، مدعما بالأدلة والبراهين، وأنواعه هي: 1- المقال النقدي: الذي يحلل مذهبا أدبيا تحليلا واعيا، أو ينقحه معتمدا في ذلك على النظريات الأدبية السائدة، وتتوقف قدرة الكاتب على تذوقه للعمل الأدبي، وتعليل الأحكام وتفسيرها. ويشترط فيه أن يكون ذا موضوع واحد، وتأتي أحكامه واضحة، ويتجرد الناقد خلاله من أحقاده، ويتوخى العدالة في أحكامه، وأن يكون عالما بالمثل العليا قبل التعرض لأي فكرة أو عاطفة أو أسلوب. وأبرز رجاله: العقاد، والمازني، وأحمد أمين، وطه حسين، والرافعي. 2- المقال الفلسفي: الذي يعرض شئون الفلسفة، ويحلل قضاياها، ويفسر غامضها بلغة الأدب وأسلوب الأدباء. وعلى الكاتب فيه أن يعرض مادته بكل دقة ووضوح حتى لا يضل القارئ في متاهات الموضوع. ومن أشهر رجاله: أحمد لطفي السيد، وعلي أدهم، وزكي نجيب محمود، وأحمد فؤاد الأهواني، وغيرهم ممن اهتموا بالكتابات الفلسفية في عصرنا الحاضر.

3- المقال السياسي: يتناول مشكلة حزبية، أو فكرة سياسية أو وطنية أو دولية، ويهاجم الاستعمار على اعتدائه على الحريات، ويبصر الجمهور بما يحيط ببلاده، ويستثيره للذود عن مقدساته بأسلوب سهل بعيد عن الزخرفة، ويعتمد فيه على إثارة العواطف. ومن أبرز كتابه: الشيخ علي ييوسف في صحيفة "المؤيد"، ومصطفى كامل في صحيفة "اللواء"، وتقرؤه اليوم في الأهرام لعبد الله عبد الباري وإبراهيم نافع، وفي الأخبار لإبراهيم سعدة، وعبد الحميد الكاتب، وغيرهم من الكتاب. 4- المقال التاريخي: الذي تناول عصرا مضى، أو ثورة سلفت، أو شخصية ولت، بلغة الأدب وطريقة الناثرين، لا بلغة التاريخ وأسلوب المؤرخين، ويعتمد الكاتب فيه على الحقائق والأخبار والروايات. وعلى الكاتب أن يربط بين حلقات الواقع بخياله حتى يخرج منها سلسلة متصلة دائمة. وأبرز كتابه: عبد القادر حمزة، وعبد الرحمن الرافعي، ومحمد أنيس، وغيرهم ممن يهتمون بالكتابات التاريخية على صفحات الصحف التي نطالعها اليوم. 5- مقال العلوم الاجتماعية: الذي يعرض شئون السياسة وأحوال المجتمع، ومشاكل الاقتصاد عرضا موضوعيا، يعتمد على الإحصائيات الدقيقة، والموازنات السليمة، والتحليلات الواعية. وأبرز كتابه: قاسم أمينن وملك حفني ناصف، وهدى شعراوي، ومنصور فهمي، وعلي عبد الواحد وافي، وعبد العزيز عزت، وأحمد زكي، وعبد المحسن صالح، وغيرهم مما تحفل مجلاتنا العربية بكتاباتهم الحية، وأدائهم الطيب، وأساليبهم الواضحة. 6- المقال الصحفي: يتناول الظروف السياسية القائمة، وما تتركه من مشكلات تحتاج لحل سريع ورأي حاسم. وتاريخ الأمة العربية الحديث والمعاصر مر بمشكلات سياسية داخلية وخارجية، تتطلب من رجال الصحافة تحليلها ومناقشتها على بساط البحث للعرض والاسنتناج. والكاتب فيه مقيد بموضوعات معينة لا تتجاوز أنهارا معينة. ويمتاز بالبساطة في التعبير؛ لأنه يمثل اللغة اليومية لعامة المثقفين، ويختلف طولا وقصرا، وتتعدد ألوانه بتعدد فنونه. ومن أبرز كتابه: محمد حسنين هيكل، ومحمد التابعي، وفكري أباظة، وأنيس منصور، ومحمد زكي عبد القادر، وعلي حمدي الجمال، وموسى صبري، وغيرهم ممن يعملون في صحف اليوم.

المقال الموضوعي الذاتي

جـ- المقال الموضوعي الذاتي: قد يجمع الكاتب في مقاله بين "الموضوعية والذاتية" بحيث تبدو فيه دقة العالم وخيال الأديب، كأن يعرض المسائل العلمية في أسلوب أدبي. وخير مثال له المقال الذي كتبه الشيخ عبد العزيز البشري عن "الشيخ سيد درويش" يقول: "وبعد، فإن فن هذا الرجل فوق ما له من المقدرة الفائقة على الاقتباس والابتكار. ويمتاز بخلال أربع؛ أولها: القوة فلا خط في تلحينه للتفكك ولا للانخذال، وثانيها: البراعة في التصرف فهو ينتقل ببساطة من فن إلى فن، ويتحول به من نغم إلى نغم في اتساق وانسجام ... ". إلى أن قال: "أما رابعة هذه الخلال فهي الذوق والذوق البارع النافذ، فما أن لحن سيد درويش حتى يكون المعنى شديدا، وقوي لحنه، ودعم ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمعت له قعقة النبال، إذا استمر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفزت الآساد". فقد جمع البشري في مقاله بين الموضوعية والذاتية، ولم يلجأ إلى العاطفة، أو يعتمد على شعوره فقط، وإنما بسط الفكرة، وعالجها في هدوء واطمئنان، ومشى لغايته في ثقة وأمان بأسلوب منطقي هادئ.

ثانيا: المقال بالنسبة لاسلوب الكاتب

ثانيًا: المقال بالنسبة لاسلوب الكاتب المقال الأدبي ... ثانيا: المقال بالنسبة لأسلوب الكاتب قد يعتمد الكاتب في أسلوبه على جلال التعبير، وجمال التصوير، وعذوبة الألفاظ، وخصوبة الخيال فيما يصور أو يعبر. وقد يؤثر الأسلوب الذي يقوم على سرد الحقائق والتدليل عليها، وتحديد المفاهيم بدقة ووضوح وبعد عن المشاعر والعاطف. ومن ثم جاء المقال بالنسبة لأسلوب الكاتب نوعين: أدبي وعلمي. 1- المقال الأدبي: الذي يدرس شخصية أو ظاهرة أو اتجاها أو أثرا في الأدب والنقد، أو يتناول الفنون الجميلة والنظريات الفلسفية الاجتماعية التي ترسم خطى المثل العليا: الخير والحق والجمال. ويتميز بأسلوب كاتبه وانطباعاته وتجاربه الوجدانية والنفسية، وخلوه من عيوب الأداء اللغوي. وأبرز رجاله: مصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، ومي زيادة، وطه حسين، وغيرهم. يصف محمد إبراهيم المويلحي الأهرام فيقول: "ولما وقفت بنا الركاب في ساحة الأهرام، وقفنا هناك موقف الإجلال والإعظام، قبالة ذلك العام الذي يطاول الروابي والأعلام، والهضبة التي تعلو الهضاب والآكام، والبنية التي تشرف على رضوى وشمام، وتبلى ببقائها جدة الليالي والأيام، وتطوى تحت ظلالها أقوام بعد أقوام، وتفنى بدوامها أعمار السنين والأعوام، خلقت ثياب الدهر وهي لا تزال في ثوبها القشيب، وشابت القرون وأخطأ قرنها وخط المشيب، ما برحت ثانية تناطح مواقع النجوم، وتسخر بثواقب الشهب والرجوم"1. فقد أبرز المويلحي حقائق، وكشف عما فيها من جمال أو عظة أو تأثير، وخلع عليها من ذوب نفسه ما يثير النفوس إعجابا أو سخطا، وهذا قوام أسلوب المقال الأدبي.

_ 1 راجع: حديث ابن هشام ص405 الطبعة الثانية.

المقال العلمي

2- المقال العلمي: الذي يعرض نظرية من نظريات العلم، أو مشكلة من مشكلاته عرضا موضوعيا صرفا، بأسلوب يتميز بالدقة في تحديد المفاهيم، ويعتمد على الأدلة والبراهين والحجج القاطعة، ويدعم في الغالب بالأرقام والإحصائيات والشواهد والتجارب. ويمتاز بالوضوح والاستقصاء، والدخول في الموضوع مباشرة، ووضع المصطلح العلمي في المكان اللائق به. وأبرز رجاله: يعقوب صروف، وفؤاد صروف، وأحمد زكي، وغيرهم ممن برزوا في هذا المجال. واقرأ نصا آخر في وصف الأهرام: "كان القصد من بناء الأهرام إيجاد مكان حصين خفي يوضع فيه تابوت الملك بعد مماته، ولذلك شيدوا الهرم الأكبر، وجعلوا فيه أسرابا خفية زلقة صعبة الولوج لضيقها، وانخفاض سقفها وأقلاسها حتى لا يتسنى لأحد الوصول إلى المخدع الذي به التابوت، ومن أجل ذلك أيضا سد مدخل الهرم بحجر هائل متحرك، ولا يعرف سر تحريكه إلا الكهنة والحراس، ووضعت أمثال هذا الحجر على مسافات متتابعة في الأسراب المذكورة. وبهذه الطريقة بقي المدخل ومنافذ تلك الأسراب مجهولة أجيالا من الزمان. وبعد الهرم الأكبر من عجائب الدنيا، قرر المهندسون والمؤرخون أن بناءه يشمل 2.300.000 حجر متوسط وزن الحجر منها طنان ونصف طن، وكان يشتغل في بناء الهرم مائة ألف رجل يستبدل بهم غيرهم كل ثلاثة أشهر، وقد استغرق بناؤه عشرين عاما. وجميع هذا الهرم شيد من الحجر الجيري الصلب ما عدا المخدع الأكبر فإنه من الصخر المحبب، وكأن الهرم مغطى بطبقة من الجرانيت فوقها أخرى من الحجر الجيري المصقول، ووضع الملاط بين الأحجار في غاية الدقة حتى كان الناظر إلى الهرم يكاد يظنه صخرة واحدة"1. فقد اختار الكاتب الحقائق لأهميتها في الحديث عن الأهرام، ورتبها بطريقة منظمة، فذكر سبب البناء، ثم أخذ يفصل الأفكار التي تتصل بالبناء اتصالا مباشرا، وعبر عن ذلك كله بعبارة سهلة دون طغيان شخصية الكاتب فيه.

_ 1 راجع: تاريخ مصر إلى الفتح الإسلامي ص16، 17.

من هذا يتبين لك أن بين الأسلوبين فرقا واضحا في الصياغة والهدف. وتأمل قول أحمد شوقي في "الأهرام" يقول: "ما أنت يا أهرام؟ أشواهق أجرام، أم شواهد أجرام؟ وأوضاع معالم أم أشياح مظالم؟ وجلائل أبنية وآثار، أم دلائل أنانية واستئثار؟ وتمثال منصب من الجيرية أم مثال صاح من العبقرية؟ يا كليل البصر عن مواضع العبر، قليل من البصر بمواقع الآثار الكبر. قف ناج الأحجار الدوارس، وتعلم فإن الآثار مدارس، هذه الحجارة حجور لعب عليها الأول، وهذه الصفائح صفائح ممالك ودول، وذلك الركام من الرمال غبار أحداج وإهمال، من كل ركب ألم ثم مال. في هذا الحرم درج عيسى صبيا، ووقعت بين يديه الكواكب جثيا، وهاهنا جلال الخلق وثبوته، ونفاذ العقل وجبروته، ومطالع الفن وبيوته. ومن هنا نتعلم أن حسن الثناء مرهون بإحسان البناء"1. فقد عرض أحمد شوقي المعنى الواحد في صور مختلفة، تمثل الجلال والعظمة، ثم نجده يعرض فكرة الضخامة مرة في صورة علم، ومرة في صورة هضبة، وثالثة فوق الجبال والهضاب، كذلك عالج أحمد شوقي فكرة الخلود، فصورها في عدة صور.

_ 1 راجع: أسواق الذهب ص69.

الفصل الرابع: المقال والكتب

الفصل الرابع: المقال والكتب منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، والبلاد تشهد أحداثا جلية في السياسة والفكر، ونمط الحياة ومقاييس الأدب، وقيم الأخلاق، والاتجاه الثوري، وشيوع ما استقر الفكر الغربي عليه من مثل عليا في شئون الشعر والأدب والفلسفة، ومن نظريات عميقة في الكون والحياة. وانطلق الكتاب يسجلون في الصحف اليومية والمجلات الدورية أروع الصفحات وأبلغها في الأدب والتاريخ والدعوة إلى التحرر من الجهل والفقر والمرض، تدفعهم غايات حميدة في العناية بدراسات أدبية شتى، وإنتاج فني رائع في مختلف فنون الأدب. ومن ثم بلغ المقال قمته، وتنوعت ألوانه، نتيجة للتقدم الثقافي والوعي الاجتماعي، والنضوج الصحفي، والازدهار الأدبي، ومنافسة الصحف والمجلات في جذب اللامعين من الكتاب لكسب عدد كبير من القراء. ونظرا لأن معظم الناس لا يقرءون ما تذيعه الصحف، وتنشره المجلات، والذي يقرأ ينسى -لطول العهد وبعد الزمن- لزم نشر ما كتب منجما، وجمع ما أذيع مفرقا حتى تشعر الأجيال الناشئة بوجوده، لا سيما الذين يفتحون عقولهم للعلم، وقلوبهم للأدب، وأفئدتهم للفن، وإلا ظل ما دبجته الأقلام مجهولا من المثقفين، ومطويا عن المستنيرين، وبعيدا عما كانوا في دور الطفولة وقت إذاعته ونشره. وشهدت فترة ما بين الحربين العالميتين ظهور كتب جديدة، تنسب لكبار الأدباء كانت في الأصل مقالات، سنحاول خلال هذا الفصل التعرف عليها

والإشارة إليها، حتى تكون على بينة منها، وها هي أشهر الكتب التي كانت -في الأصل- مقالات، وتتداول اليوم في مجتمع المثقفين في شتى بلاد العروبة. 1- كنز الرغائب في منتخبات الجوائب: مجموعة من مقالات كتبها أحمد فارس الشدياق في "الجوانب"1 منذ إنشائها 1860، تناولت موضوعات مختلفة، وأغراضا متنوعة، ومعانٍ متباينة، ومقاصد شتى. توضح آراء الشدياق في مجالات عديدة. ومقالات الكتاب تمثل الجهد الضخم الذي بذله الرجل في مجال اللغة والأدب والسياسة والاجتماع، وأحوال الممالك الإسلامية من تولية وعزل ووفاة وإنشاء وقوانين. وتقع مقالات الكتاب في أربعة أجزاء تمثل ألوان الفكرة خلال عصره. 2- كنز الرغائب في منتخبات الجوائب: يضم هذا الكتاب تسعة عشر مقالا، نشرت بجريدة "المؤيد" في الفترة من 1895-1898 لقاسم أمين، تحت هذا العنوان. السبع الأولى منها تدور حول المال وعدم مبالاة المصريين بأحوالهم وانصرافهم عن المغامرة والقناعة باليسير حتى حل الفقر ديارهم، وتدعو إلى المغامرة في كل شيء عملا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا". والسبع الثانية تدور حول التربية السليمة، وترد الكسل العقلي لسوء

_ 1 ظهرت هذه الصحيفة بالأستانة ومعناها: الأخبار الطارئة الشائعة. مفردها "جائية" والجائية: الخبر الطارئ الشائع، يقال: هل عندك جائية؟ أي خبر، والجمع "جوائب". نالت هذه الصحيفة شهرة عظيمة في العالم الإسلامي والعربي، ولعبت دورا هاما في النهضة الأدبية واللغوية طيلة ربع قرن، وتركت أثرا واضحا في تطور النثر الحديث وترسل الأسلوب، وظلت تنشر حتى 1884.

معاملة بعض الحكومات للمواطنين حتى قتلوا فيهم ملكة الإقدام على العمل، وتكرار القصص التي وضعها الحكام لتسلية الفقراء حتى خارت قواهم. والخمس الأخيرة قصرها على مشاكل "الموظف والوظيفة والتوظف" في عصر كان التسابق فيه على العمل "الميري" ظاهرة سلبية تحول بين خبرة الشباب، وبين العمل المنتج، وتنفي في الشباب أخلاقيات التواكل والارتزاق. وعن الجملة تعالج مقالات الكتاب عددا من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي تهم دعاة الإصلاح. 3- تحرير المرأة: مجموعة من المقالات، نشرها قاسم أمين بصحيفة "المؤيد"، تضمنت دعوته الجرية لإنصاف المرأة حتى تؤدي وظيفتها الاجتماعية على خير وجه، معتبرا الحجاب أصلا من أصول الأدب بشرط مطابقته لما جاءت الشريعة الإسلامية به، لا ما يتعارف الناس عليه من مغالاة ومبالغة. وتكشف مقالات الكتاب عن انتشار المعارف والشعور بالروابط الوطنية، واستغلال الغرب لثروات البلاد، واستعداد الأمة للنضال في همة وعزيمة، ورصد ما يطرأ على المسلمين من جهل وتأخر، وما وقع من بعض العلماء فيه من جمود في التفكير، وإغراق في التقليد، وانحراف عن مناهج الدرس الصحيح. وتبرز مقالات الكتاب مزايا التربية الاستقلالية في أوربا، وما وصلت المرأة العربية إليه من تقدم في مشاركتها الرجل في كل مناحي الحياة، ومختلف العلوم، وشتى الفنون، كما عالجت شئون الأسرة ونظام تعدد الزوجات في التاريخ، وربطت إصلاح المرأة المصرية بالعادات والمعاملة والتربية الصحيحة. ولقد أحدثت مقالات الكتاب جدلا عنيفا حول حقوق المرأة لا تزال حتى اليوم، ووقف الشعراء منها بين مؤيد ومعارض ومعتدل، وطبعت في كتاب 1898.

4- حديث عيسى بن هشام: هو في الأصل مقالات نشرها محمد إبراهيم المويلحي على صفحات جريدة "مصباح الشرق" اعتبارا من السابع عشر من نوفمبر 1898. تناول فيها أعيان القرن الماضي، والمحامي الشرعي وفساده، ووزارة الأوقاف وتأسيسها، والمحكمة الشرعية ومناقضاتها، والطب والأطباء، وتفشي الأمراض وطرق العلاج منها لدى العامة والخاصة، والأزهر ورجاله، التجار والموظفين وعيوبهم، وأبناء الأسر الحاكمة والفراغ الذي يعيشونه واستقلال الأجانب لهم، وحفلات العرس في قرى ومدن مصر، وما فيها من بدع وتقاليد أجنبية، والمدنية الغربية ومساوئها. ومقالات الكتاب تكشف عن سعة اطلاع صاحبه على الأدب العربي، وتأثره بالأدب القديم، مما جعله يتبع أسلوب المقامات، ثم طوره بما يلائم روح العصر بعد تأثره بالثقافة الفرنسية. 5- علاج النفس: مجموعة من المقالات، نشرها محمد إبراهيم المويلحي في "مصباح الشرق" تمثل نشاطه الصحفي الذي استمر حتى قبيل وفاته بأسابيع. تناول فيها الفلسفة والغضب وسعادة الحياة وكدر النفس، وغير ذلك من المقالات الشائعة الحافلة بالحكمة والنظرة السديدة. ومن أطرف ما تناوله المويلحي موضوع "الغضب" فرآه يفتح أبواب السجون، وينصب أعواد المشانق، ويضرم نار الحرب، ويقهر العقل، ويقطع أواصر الغربي، ويقصم عرى المودة. ويصف مظاهر الغضب في النفوس، فيروي غضب أحد ملوك اليونان من البحر عندما هاج واضطرب وتأخرت سفنه، وأقسم بإلقاء الجبال فيه حتى يصير أرضا، ووقف يهدد الأمواج ويزجرها، وهذا لون طريف، ينشأ من الترف والنعمة. وتدور مقالات الكتاب حول تهذيب النفس ورياضتها، وحثها على الأخذ بالأخلاق الفاضلة، والتربية القويمة، وهي

ثمرة خبرة واسعة بأحوال الحياة، وأخلاق الناس، نتيجة تأملات واطلاع واسع. 6- أم القرى: في الأصل مقالات نشرتها مجلة "المنار" 1902 لعبد الرحمن الكواكبي، ثم جمعت في كتاب تحت هذا العنوان. تناولت أسباب فتور المسلمين في كل قطر، وردتها إلى أسباب دينية وسياسية وخلقية، والغفلة عن شئون الحياة، وعدم توزع الأعمال بالعدل وشيوع التواكل. وخلصت مقالات الكتاب إلى أن الجهل جرثومة التخلف، والقضاء عليه يكون بالتعليم، وتأسيس جمعيات الإصلاح، وتكليف القادرين على العمل، لا سيما السراة والعلماء من الأمة. ومقالات الكتاب في جملتها بحوث مبتكرة، تكشف عن عقل كبير، وقوة التفكير، وسلامة التصوير، وسعة الاطلاع، وصدق الغيرة على العالم الإسلامي. 7- طبائع الاستبداد: مقالات كتبها عبد الرحمن الكواكبي، ونشرتها جريدة "المؤيد" حين وجوده بمصر 1318هـ. دارت مقالات الكتاب حول الحكومة المستبدة، وحصرها الكواكبي في حكومة الحاكم الفرد. ووضح خلال مقالاته طبيعة استبداد الحكومات واستغلال الرعية، والتصرف في شئونهم دون مراعاة لحقوقهم، وأبان أن الحاكم المستبد يخشى العلم، ووضح أثر الاستبداد في فساد الأخلاق والتربية، ثم حصر وسائل التخلص من الاستبداد بالتعليم وإيقاظ الحماس في نفوس المواطنين، وتهيئة النفوس لذلك، ومعرفة الغاية بطريقة واضحة ودقيقة. ومقالات الكتاب في جملتها تعرب عن إخلاص الرجل وغيرته وتلهفه على رفع نير الاستعمار عن الشرق العربي.

8- مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء: يضم هذا الكتاب عشرين مقالا، عدا ثلاث قصائد وخطبتي كرومر في حفل وداعه بالفرنسية والإنجليزية. نشرها الشيخ علي يوسف بصحيفة "المؤيد" تحت هذا العنوان ابتداء من الأربعاء 14 من أكتوبر 1906 حتى 30 إبريل 1907 تناول فيها مزاعم اللورد كرومر، وخلفه السير الدوق غورست. وجاءت بعض عناوينها على ما يلي: الطوب والقلوب، حرية: مراقبة وتقييد، حكومة نيابية، أحوال المستشارين، التعليم ونظارة المعارف، اللورد كرومر، ولماذا اختلفوا في تكريمه؟! السياسة الثانية وكيف تكون؟ اختراعات قصر الدوبارة، الجرائد واللورد كرومر، لو كنت اللورد كرومر، المعتمد الجديد في قصر الدوبارة. وعلى الجملة، مقالات الكتاب جيدة، تكشف عن موضوع السياسة الإنجليزية في مصر، وتمثل صحافة الشيخ علي يوسف التي عرفت بالوطنية والغيرة والحمية والشجاعة. جمعها عبد الله حسين وصالح شكري، وطبعت بالمطبعة السلفية 1913. 9- النظرات: مقالات اجتماعية كتبها مصطفى لطفي المنفلوطي تباعا بجريد "المؤيد" منذ 1908 تحت عنوان "الأسبوعيات" سجل فيا نظراته في الحياة، ورغبته في إصلاح المجتمع، تهذيب النفوس، وغرس الفضائل، وكل ما عن له من أفكار، وجال بذهنه من خواطر، وجاش بقلبه من مشاعر. ثم جمعت في كتاب عنوانه "النظرات" وطبع في ثلاثة أجزاء 1909. عالجت مقالات الكتاب عيوب المجتمع كالقمار والخمر والرقص وسقوط الفتيات والفتيان، وتحدث عن الفتى والفقر، والإسلام والمسلمين. وفي النظرات جولات في النقد لا عمق فيها، ومراث لمجموعة من الأدباء وغيرهم، خيرها مرتبة ولده. وكتابات المنفلوطي يفخر أدبنا الحديث بها لا سيما في مجال المقال الأدبي، لاستيفائها شرائطه بالمفهوم الحديث الدقيق له؛ لأن كل مقال له موضوع محدد، يستهل بجملة استفهامية، ويقسم إلى فقرات.

وتحمل كل فقرة جزءا من الموضوع. وتلك طريقة بناء المقال كفن مستقل حديث العهد في الأدب العالمي بصفة عامة، وفي الأدب العربي بصفة خاصة. 10- المعلوم والمجهول: مجموعة من المقالات، كتبها ولي الدين عدلي يكن، تتضمن خوطره وآراءه في السياسة والإصلاح، وتناولت الحديث عن "سواس" وأهلها وتاريخها ومقامه فيها. جاء في مقدمة الكتاب: "حين تذهب دول الظلم، ويذوق الناس نعيم العدل، يقرءون مثل كتابي هذا بارتياح". وواضح أنه هدف الكاتب العدل فيما كتب؛ لأن دولة الظلم كانت ممثلة في الخليفة عبد الحميد، وجاثمة على "سواس" بأبشع صورها. وجاءت مقالات الكتاب في جزأين. 11- الصحائف السود: مجموعة أخرى من المقالات، تناول فيها ولي الدين عدلي يكن حرية المرأة بأسلوب بعيد عن روح الموضوعية، شديد السخرية من عادات الحجاب، عرفها في المقدمة فقال: "الصحائف السود مقالات نشرت بجريدة "المقطم" الشهيرة متتابعة، أردت أن أنتقد بها بعض ما يقع في معترك هذه الحياة، واخترت حين بدأت نشرها اتخاذ توقيع "زهير" تكتما لكي لا يمنع رجال الأدب من نقدها حق الود. ولكن عرفني إخواني فرجعت عن الإخفاء ... ". ضم الكتاب مقالاته الجريئة في السياسة والاجتماع مثل "خليج البوسفور في إحدى ليالي الشتاء" و"أكذوبة إبريل" و"المرأة"، وطبعت المقالات في كتاب 1910. 12- التجاريب: مجموعة ثالثة من المقالات الاجتماعية الطريفة، كتبا ولي الدين عدلي يكن، وطبعت في كتاب 1913، وجاء في مقدمته: "هذه الأم مصورة، وشكاوى متجسدة، هذه هدية الفؤاد المقروح إلى الأفئدة

المفروجة ... "، تسود مقالات الكتاب نزعة التشائم والغضب والثورة، خصوصا مقالاته "كيف يموت الأدباء في المشرق؟ " و"التكبر وحداثة النعمة" و"بين الوحشين: الأب والزوج" وغيرها من المقالات البارز فيها روح التشاؤم والثورة والتأثر. 13- النسائيات: مجموعة من المقالات، نشرتها صحيفة "الجريدة" لملك حفني ناصف 1886-1918 بتوقيع "باحثة البادية" وطبعت 1928 تناولت الأطوار التي مرت المرأة المصرية فيها، نبهت إلى مواطن النقص في حياتها، والعلل التي تكاد تؤدي بشخصيتها، موضحة أن تعدد الزوجات ظلم واستبداد، لا تبرره الكاتبة إلا بقدر عيش الرجل هنيئا مع زوجته الأولى، ولا تجيز الطلاق إلا إذا كان يخفف شقاء المرأة. وتهدف مقالات الكتاب إلى أعدل الطرق وأقربها لسنة الارتقاء الطبيعي، ولذا قالت ملك حفني عن نفسها: "اللهم إني اتبعت طريقا وسطا بين الدامس الملقى إلى التهلكة، وبين الضوء الشديد الخاطف للأبصار". وعلى الجملة، فإن مقالات الكتاب تضم دروسا أخلاقية وخطة إصلاحية، تحول دون جور الرجل وسقوط المرأة، وتدفعها إلى التصافي والتفاني والتغلب على المصاعب والتعاون من أجل المنفعة والسعادة في ظل حياة كريمة سعيدة، يقودها التفاهم والحب والإخلاص في حياتهما. 14- المنتخبات: مجموعة من المقالات اختارها إسماعيل مظهر من كتابات أحمد لطفي السيد بصحيفة "الجريدة" تتضمن أمورا عديدة؛ كالحديث عن تربية النساء، وعيوب الانتخابات، وأوهام الفلاحين، وصلة مصر بالدولة العثمانية، وأخبار السوريين بمصر، وتصف رحلات الكاتب إلى بعض بلاد الغرب والشرق، وزيارته للمدينة المنورة، وتوديعة لولديه، مع تصوير شعوره الديني تصويرا بلغ الغاية في الروعة والجلال. وتضمنت التعريف بأحمد

عرابي وثورته، وسعد زغلول زعامته، والأسف البالغ لحرمان أهل القاهرة من دخول حديقة الأزبكية. كما حوت المقالات الحديث عن الآباء والأمهات والأبناء والبنات بصورة إصلاحية رائعة. وجاءت المنتخبات في جزأين: طبع الأول 1937، والثاني 1945. وله مجموعة أخرى بعنوان: "تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع" تحمل آراء أحمد لطفي السيد الحرة، وأفكاره الصريحة في الفلسفة والأدب والاجتماع خلال جيلين متعاقبين، يرى القارئ فيها تنقل الأمة في مدارج نهضها وفترات رقيها، وطبعت بدار المعارف 1946، ولأحمد لطفي السيد مجموعة ثالثة بعنوان: "صفحات مطوية" وطبعت 1946 أيضا. 15- التمثيل الفني واللافني: سلسلة من المقالات كتبها محمد تيمور بجريدة "المنبر" التي كان يديرها عبد الحميد حمدي، تتضمن نقد المسرح والممثلين. وضح فيها وجهة نظره في أنواع المسرحيات الفنية وغير الفنية، وأرجع أسباب تدهور التثميل الفني إلى اختفاء الفرق الجدية، برحيل بعضها عن مصر، ونزوح البعض إلى الأقاليم، وعمل نجوم المسرح فيما لا صلة له بالفن الصحيح، وتقديم مسرحيات لا تمثل البيئة أو الواقع، وجهل الجمهور بحقيقة الفن. ووضح محمد تيمور خلال مقالاته ضرورة اعتماد التمثيل الفني على تحليل أخلاق الشخصيات، ومعالجة مشاكل البيئة، وحسن أداء الحركة، وحاول أن يفسر وحدة الزمان والمكان والحدث تفسيرا يزيل المعميات عنها، ويرجع أسباب نجاح التمثيل اللافني إلى إتقان أصحاب هذا التمثيل لعملهم، وإخراجه في صورة رائعة، ومعرفتهم بمتطلبات الجمهور اللاهي، وحصره في أربعة أنواع هي: الميلودرام، والجراند جينول، والفودفيل، والريفو. وطالب بضرورة تغيير الألوان التي تقدمها الفرق، والارتفاع بذوق الجمهور، والحرص على تقديم فن جميل. وتتضمن مقالات الكتاب آراء محمد تيمور في الفن ونظراته النافذة فيه.

16- محاكمة مؤلفي الروايات التمثيلية: طائفة أخرى من المقالات كتبها محمد تيمور بمجلة "البسفور" تحت هذا العنوان في أسلوب قصصي يتسم بالإتقان والعمق والتركيز. تجيء في صورة حلم رآه الكاتب، وتبدأ الأحداث بالتقاء الراوي -محمد تيمور- في شارع عماد الدين بممثلين راحلين هما: محمود حبيب وأحمد أبو العدل، فأخبراه بأنهما جاءا لمحاكمة مؤلفي الروايات التمثيلية في المحكمة التي تعقد في دار الأوبرا السلطانية. تصور مقالات الكتاب قضاة الجلسة وهم: شكسبير وموليير وكورنيل وجوته وراسين ووكيل النائب العام: أدمون روستان. أما المؤلفون المتهمون هم: فرح أنطون، ومحمد لطفي جمعة، وإبراهيم رمزي، وعباس علام، وبديع خيري، ونجيب الريحاني، وخليل مطران، وغيرهم. وتبدأ المحاكمة بفرح أنطون، ويسأل عن اسمه وجنسيته وصناعته، فيجيب عن الأخيرة بأنه صاحب مجلة "الجامعة" من قبل. ومؤلف ومعرب مقتبس اليوم. وبعد أداء اليمين التمثيلية يوجه الرئيس التهم التالية إليه وهي: إدخال إعلانات لمصر أقرب إلى الضحك منها إلى الحقيقة الفنية. والثانية خلط الفصيح المتكلف بالدارج المغرق في الابتذال، والثالثة تأليف الأغاني الشعرية بأسلوب نثرى يأباه الذوق السليم، والرابعة اقتباسه مسرحيات رخيصة ذات أسلوب رخيص. ويجيب عن التهمة الأولى بأن الإعلانات من أمريكا بلد العلم، وعن الثانية ببعده عن الشعر، وعن الثالثة بعمله في فرقة منيرة المهدية ذات الطابع الغنائي، وعن الرابعة بأن الاقتباس يوافق هوى الجمهور، ويعود على صاحبه بالكسب المادي. وينهي محمد تيمور مقالاته بأن تصدر المحكمة حكما يحرم اشتغال فرح أنطون بالاقتباس عشر سنوات حتى ينسى الجمهور هذا اللون العقيم. وتعد مقالات هذا الكتاب عرضا لآراء محمد تيمور في الفن والمسرح والأدب وكتاب المسرح العالميين.

17- مذابح الأعراض: مجموعة من المقالات الجريئة، كتبها المرحوم محمود أبو العيون في الصحف والمجلات التي عاصرها، وجمعت في كتاب 1925. تناول فيها جريمة البغاء، وندد بالقائمين بالأمر، وأوضح خلالها ما يهدد كيان المجتمع إذا استمرت هذه الجريمة، لما يترتب عليها من ضرر من الناحية الصحية، وظلم من الناحية الاجتماعية، وفظاعة من الناحية الأدبية، وجريمة من الناحية القضائية. ودعم الشيخ محمود أبو العيون مقالاته بإحصاء رسمي صدر 1925 يثبت الإصابات من هذه الجريمة التي بلغت ثمانمائة وثلاثين ألفا. 18- خطوات في النقد: مجموعة من المقالات، كتبها يحيى حقي لصحيفة "كوكب الشرق" في العقد الثالث من هذا القرن، وهي تتميز بالطابع العلمي، تتناول مجموعة من القصص العربية بالشرح والتحليل، وتوضيح مواطن الجودة والقصور فيها. مع مقدمة تضمنت طبيعة القصة العربية، والموازنة بين كتاب العرب وكتاب الغرب. خلص الكاتب فيها إلى أن القصة القصيرة أطول في أوربا عنها في مصر، ونسب ذلك لشهرة المؤلف وابتغائه الأجر، كما في قصة "ويلز" و"دنيا وليم كريسوله" في الوقت الذي لا يجد المؤلف مشكلة مصرية تستدعي بحثا طويلا، وعلل ذلك بأن الجرائد اليومية تفضل نشر قصة صغيرة كاملة، مستوعية الموضوع عن أن تنشر قصة طويلة لكاتب غير مشهور. 19- دماء وطين: مجموعة أخرى من المقالات القصصية للكاتب يحيى حقي، نشرتها صحيفة "السياسة" تضم ثلاث قصص تنشر لأول مرة وهي: "حياة لص" و"قهوة ديمتري" نشرت مقالاتهما في الصحيفة المذكورة 1926، أما الثالثة وهي: "من المجنون؟ " فقد نشرت في نفس الصحيفة 1927.

تضم القصص الثلاث كتاب واحد بعنوان "دماء وطين" وقد صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1979. 20- الحياة الجديدة: كتاب لنقولا يوسف، نشرت مقالاته في "المجلة الجديدة" لسلامة موسى 1936. تتضمن أفكاره الشابة، وآراءه الإنسانية في بحوث مركزة، تحمل عناوين محددة مثل: مبادئ جديدة لعصر جديد، فن الحياة الإنسانية بين الحرب والسلم، في الوحدة العالمية، مستقبل العالم في نظر العلم، فلسفة التشاؤم. وكلها تدور حول هدف خاص، ويلحظ عليها التكرار، وتلك طبيعة المقالات التي تجمع بعد تفرقها في المجلات، خاصة إذا كانت تدور حول فكرة إصلاحية تحتاج إلى بسط وشرح، مما يضطر إلى معاودة ما يكتبه كي يفرغ لقارئه كل ما يريد، مقترضا أن يقرأ مقالا دون أن يتتبع ما سبقة من مقالات. ومجموع مقالات الكتاب أبحاث أدبية ونقدية، تطرح مفاهيم جديدة للثقافة المصرية. 21- مدامع العشاق: طائفة من المقالات، كتبها زكي مبارك، ونشرتها مجلة "الصباح" على حلقات 1922. تناولت فيها أخبار المحبين، وأشعار العشاق المتدلهين، ناجى خلالها أرباب الجمال فقال: "يا أرباب الجمال، ما لكم تضنون بما سوف يشبع الدود فيه لثما، ويأكله التراب أكلا؟ أما والله إن أرواحنا لفي حاجة إلى بعض ما تنعم به الوسائد من الخدود، والمراود من الجفون، والمساويك من الثغور، والأمشاط من الشعور، والغلائل من الأعطاف، والزينة من الأطراف، وإن الله ما خلقكم كالأزهار في القفار، تزهر ثم تذيل، ولا ينتفع أحد بشمها، وإنما خلقكم روحا لكل حي، ونعيما لكل موجود، فاجعلوا لنا منكم خطا، ولا أقل من النظر!! ". 22- الحديث ذو شجون: مجموعة أخرى من المقالات، كتبها زكي مبارك تحت هذا العنوان في مجلة الرسالة وجريدة البلاغ اليومية والأسبوعية 1936. تضم اثنين

وستين مقالا، نشرتها ابنته كريمة بمناسبة ذكراه في مطلع 1981. تنقل الكاتب فيها من موضوع لآخر، مسترسلا بلا ضابط دون أن يفقد حيويته ورشاقة أسلوبه، وسخريته اللاذعة ودقة نقده وحدة هجوه. ويعجب القارئ من تنقله من الحديث عن تأبين عبد الحميد الديب إلى الحديث عن توديع طه الراوي الأديب العراقي، إلى الحديث عن الشيخ المراغي، إلى الحديث عن النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة. وأهم ما تضمه مقالات الكتاب حديثه عن الكتب التي قرأها، وقضايا الثقافة والأدب التي ناقشها على طريقته الحية المتميزة، وخلال حديثه عنها يخلطها بنفسه، ويمزجها بتجاربه في الفكر والحياة. والمقالات -في جملتها- تصور المجتمع الثقافي في مصر خلال الأربعينات بكل ألوانه الزاهية والقاتمة، وتصور كثيرا من ملامح الحياة في بيئات متعددة وطوائف مختلفة، كان الكاتب أقدر فيها على تصوير الأشجان والأحزان في حرارة وصدق. 23- ليلى المريضة في العراق: طائفة ثالثة من المقالات الوجدانية، نشرها زكي مبارك بمجلة "الرسالة" في ديسمبر 1937، فأحدثت دويا هائلا في الأوساط الأدبية، تروي قصة غرامه بالعراق، وتأملاته بين ربوعه المختلفة، وتضم المساجلات الطريفة التي دارت بينه وبين الوزير الأديب الدكتور محمد حسنين هيكل. ترسم مقالات الكتاب صورا -حزينة وصريحة وصادقة- لحياته وذكرياته وأحلامه، وتجد فيها صراعا بين العلم والجهل، والرشد والفن، والهدى والضلال. والكتاب في جملته من أعمق الكتب في أدب التراجم الذاتية في أدبنا المعاصر؛ لعنايته بألوان من الصور الشعرية التي تصور عذاب الأرواح والقلوب.

24- بين آدم وحواء: اثنا عشر مقالا، كتبها زكي مبارك، ونشرتها مجلة "الرسالة" من يناير 1942 حتى يونيو من نفس العام تحت هذا العنوان. وهو اسم كتاب لمؤرخ مجهول هو "شيت بن عريانوس" الذي زعم أن أحمد زكي باشا أهداه له في 1932 بعد الصلح بينهما. ومقالات الكتاب خيالية موهومة، تحكي قصة خصومة الكاتب مع الموتورين منه، عرض خلالها أراءه وأفكاره وثورته العارمة على حواء التي أذاقته ألوانا شتى من الصدود، وصنوفا متنوعة من الهجران. صاغ زكي مبارك مقالاته بأسلوب قصصي شيق، وحوار فني بارع، تحس خلالها صرامته وجرأته وجدته وغير ذلك من سمات واضحة، وملامح فارقة، تميز شخصيته الفريدة في دنيا الفكر وعالم الأدب. 25- زكي مبارك ناقدا: كتاب صدر عن دار الشعب 1978، يضم مقالات نادرة لزكي مبارك، نشرت في أول الأربعينات على صفحات مجلة "الرسالة" تناول فيها نقد مجموعة من كتب الأدباء المعاصرين له من أمثال: فيض الخاطر لأحمد أمين، ووحي الرسالة لأحمد حسن الزيات، والإنجليز في بلادهم لحافظ عفيفي، ومعرض الآراء الحديث لمحمد رفعت، وعلى هامش التاريخ المصري لعبد القادر حمزة، والمنتخبات لأحمد لطفي السيد، والأيام والحب الضائع وقادة الفكر لطه حسين، وفي صحراء ليبيا لأحمد حسين، ومطالعات في الكتب والحياة لعباس محمود العقاد، والمختار لعبد العزيز البشري، وإبراهيم المصري، لإبراهيم عبد القادر المازني، ونداء المجهول لمحمود تيمور، والأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وحديث عيسى بن هشام لمحمد ابراهيم المويلحي. والمعروف أن زكي مبارك بطل المعارك الأدبية، ومقالاته تعرب عن فهم دقيق، ووعي عميق، وإدرك تام لكل ما يحيط به، ويدور حوله، وبها يعتبر شاهدا على عصره.

26- الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف: مقالات كتبها أمير البيان شكيب أرسلان، حين رحل إلى الحجاز 1929، نشرتها جريدة "الشورى" تتناول مختلف الموضوعات من سياسة ودين وأدب ونقد واجتماع ومفاكهة وإخوانيات وغيرها. وصف فيها الباخرة والبحر ومناظر الماء، ووازن بين ما يلقاه الحجاج من حر لافج وبرد عاصف خلال رحلة تقطعها الإبل من مكة لِجُدَّة. وتضفي المقالات على مكة ثوبا قشيبا من الجلال والمهابة، وتكشف عن سحر المناسك ومواقف الحج، والوقوف بعرفات في استطراد ينتهي إلى تسجيل خواطر الكاتب وانطباعاته، ونتحدث عن المطوفين وأثرهم في هداية الحجاج، ووسائل تحقيق الوحدة في مواجهة الاستعمار، وتتضمن رغبة السلطان عبد الحميد في إنشاء خط حديد الحجاز، ليقرب بين الأقطار، فيتوحد الشمل، وتجتمع الكلمة، وتنظم الصفوف. وهذا تأكيد على إيمانه بالعروبة والوحدة والعمل من أجلها. ومقالات الكتاب تعرض لآراء الأمير خلال رحلته الحجازية، وتسجل ما رآه بنفسه في الحجاز، وما عليه حاضره، وما يجب أن يكون عليه مستقبله، وقد نشرته مطبعة المنار 1931 في مائتين وأربع وثمانين صفحة. 27- لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ مجموعة أخرى لأمير البيان نشرتها مجلة "المنار" تحت هذا العنوان، تناول فيها أسباب تقدم المسلمين الأول، ولولا خلافات المجتمع العربي لأكمل العرب فتح العالم أجمع، مبينا أن المسلمين اليوم افتقدوا حماس الأبناء والأجداد، ودعاهم إلى اتخاذ شعار النصر {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} موضحا أن المسلمين اعتمدوا على الدعاء الذي لا يغني عن الجهاد، وأن الإسلام ليس صلاة وصياما ودعاء واستغفارا، وإنما هو بذل وفداء وتضحية. تناول فيها حرب الطليان لطرابلس الغرب، ودعم العثمانيين لقوات المسلمين مما كبد الأعداء خسائر في الأرواح والأموال، ونعى قعود

المسلمين عن نصرة المجاهدين، وحملهم مسئولية تأخر المسلمين، بالإضافة إلى الجهل والعلم الناقص وفساد الأخلاق، وسكوت العلماء على ظلم الأمراء وطغيانهم، وترويج نظريات الفرنجة بعدم صلاحية المسلمين لعلم أو صناعة أو حرب أو سلم حتى كأنهم من طينة، والإفرنج من طينة أخرى. وخلص من مقالاته إلى دعوة المسلمين للنهوض والتقدم والجهاد، وبذل المال والنفس حتى يرتقوا كغيرهم، ويحققوا أمجاد أسلافهم. 28- زينب: رواية ألفها محمد حسين هيكل حين أقامته بباريس 1910 وأرسلها حلقات إلى أستاذه أحمد لطفي السيد، فكان ينشرها في صحيفة "الجريدة" تصور القصة طبقات الريف المصري، وما يقوم بينها من عوائق اجتماعية، وتكشف النقاب عن استيعاب طبقة الفلاحين والأجراء، الذين يكدحون في سبيل لقمة العيش، وما يقيم رمقهم، ويسد أودهم. وتعتبر أول قصة طويلة فنية من الأدب التحليلي الواقعي، تتضح فيها دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة. 29- ثورة الأدب: مجموعة من المقالات الأدبية الممتعة، نشرت بالسياسة اليومية لمحمد حسين هيكل. تناولت الثورات التي شهدها نصف القرن الأخير في شئون الكتابة والأدب، وجمود أصحاب المذاهب. ومن هنا تناولت الأدب المصري الخالص، ودعوة صريحة لبعض النقاد إلى تمصير أدبنا والاتجاه به اتجاها قوميا. وتعتبر مقالات الكتاب من أخطر ما كتب هيكل في النقد؛ لأنها "تتحدث عن الثورات التي شهدها نصف القرن الأخير في شئون الكتابة والأدب"، ولذا تعد مقالات الكتاب مرجعا لمن يستطلع الاتجاهات الفنية والنقدية لتلك الفترة، وتضم آراء قيمة في الأدب والفن لها وزنها وخطرها.

30- في أوقات الفراغ: طائفة من المقالات نشرها هيكل كذلك في "السياسة والاستقلال والسفور"، تناولت مباحث في النقد وترجمات لاناتول وقاسم أمين وغيرهما من أدباء الغرب والشرق. دعا فيها الأدب القومي والحياة العصرية، التي تتسم بخصائص تميزها عن غيرها، كما تناولت نقد بعض الشخصيات مثل: أحمد لطفي السيد في كتابه "علم الأخلاق" لأرسطو طاليس، ومحمد فريد وجدي في "دائرة معارف القرن العشرين" ونقد فيها كتبا لجورجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد السباعي، وطه حسين، وغيرهم من رجال العلم، وتضم المقالات قصصا وأحاديث عن أبيس وسمير أميس وغيرهما. 31- تراجم مصرية وغربية: طائفة من المقالات، نشرتها "السياسة الأسبوعية" لمحمد حسين هيكل. تناول فيها بعض أعلام التاريخ والفن والأدب. تحكي صورة صحيحة وصادقة لتاريخ مصر خلال الفترة من عهد إسماعيل حتى 1929، فتحدث عن اسماعيل وتوفيق ومحمد قدري وبطرس غالي ومصطفى كامل وقاسم أمين وإسماعيل صبري وعبد الخالق ثروت وغيرهم. كما تناولت جماعة من الغربيين من أمثال: بيتهوفن، وتين، وشكسبير، وشيلي. وعند طبعها في كتاب أضاف إليها فصلا عن كليوباترا أراد به أن يصحح الصورة التي زيفها مؤرخو الغرب لتاريخ مصر القديمة. سلك هيكل في مقالاته طريقا طريفا، وأسلوبا فريدا، لم يألفه معاصروه من الكتاب، فتراه يعرض شخصياته، ويحللها بطريقة علمية داخل إطار الأسلوب الأدبي. 32- حياة محمد: سلسلة من المقالات، كتبها محمد حسين هيكل في "السياسة الأسبوعية" من وقت لآخر خلال أعداد الأعوام 31/ 32/ 1933.

تناولت حياة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في كل مرحلة من مراحلها، بعد أن تناول بلاد العرب قبل الإسلام، مفصلا سيرة الرسول من ميلاده إلى زواجه، ثم بعثته بأسلوب يجمع بين روعة التحليل ودقة التعليل، مع حسن السرد وجودة العبارة، حتى يصل إلى الفصل الحادي والثلاثين المسمى "دفن الرسول". وعلى هذا دارت مقالات الكتاب حول السيرة النبوية التي تحجب كل ما عداها. وتعد مقالات الكتاب دراسة واعية للإسلام ورسوله ومميزاته في التزام الطريق نحو إيجاد نهضة فكرية وحضارية، لا تتحقق إلا ببعث الماضي الكريم، والحضارة الشريفة التي هي ثمرة لفهم الدين الإسلامي، وغرس من عمل الرسول الكريم. وتجمع مقالات الكتاب بين منطقية العلم ورقة العاطفة. 33- حديث الأربعاء: في الأصل مقالات نشرها طه حسين في "السياسة الأسبوعية" تضم بحوثا مبتكرة في دراسة شعر لبيد وطرفة وزهير في العصر الجاهلي، وشعر الحب والغزل في المدينة خلال عهد بني أمية، موضحا أن ألوان الغزل ثلاثة: العذرى عند جميل بثينة، وكثير عزة، وقيس بن الملوح، وقيس بن ذريح. والإباحي عند عمر بن أبي ربيعة. والعادي الذي يعد امتدادا للغزل المألوف منذ أيام الجاهلية. ويعرج علي أبي نواس وبشار وغيرها في العصر العباسي. وتناول الأدب الحديث وقضاياه، ونقد بعض الدواوين والكتب مثل دواوين: علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وفوزي المعلوف. وتضم مقالات الكتاب التي جمعت في ثلاثة أجزاء آراء طه حسين الجريئة في طبيعة الأدب العربي التي فتحت آفاقا جديدة في عالم الدرس ودنيا البحث. 34- حافظ وشوقي: في الأصل مقالات، نشرها طه حسين في "السياسة" و"المقتطف"

و"الهلال" خلال مناسبات عديدة على امتداد سنوات. تضم آراء الكاتب في التيارات الأدبية المعاصرة، وترجم فيها للشاعرين "يردلير، وسول برودوم"، وضحت دراسة شاملة لشاعري مصر الكبيرين أكد فيها أن حافظ إبراهيم مقلد صريح التقليد، وشوقي مجدد ملتوي التجديد، ويمضي الزمن تحول تقليد حافظ إلى نضج فريد، وتجديد شوقي إلى تقليد. وانتهى إلى أن شوقي أخصب طبيعة وأغنى مادة، وأبرع في تقليد الشعراء القدامى من حافظ الذي كان يقلد في الألفاظ والصور. وخلص إلى أن لشوقي فنونا لم يحسها حافظ كالوصف والشعر التمثيلي. وهكذا التقى الرجلان في كثير، واختلفا في كثير، ولكنهما على أي حال أعظم المحدثين حظا في إقامة صرح الأدب الحديث. 35- الأيام: طائفة من المقالات، نشرها طه حسين في مجلة "الهلال" 1926 أرخ فيها لحياته منذ طفولته حتى افتقد غارب المجد الأدبي، كشف النقاب فيها عن العادات المصرية، وتحكي المصاعب التي واجهته بالأزهر وطبيعة الحياة فيه، والكتب التي درسها والأساتذة الذين أخذوا عنهم، كما تناولت ذكرياته بفرنسا، ولقاءه بالسطان حسين كامل والملك فؤاد والأدبية مي زيادة. طبعت هذه المقالات في ثلاثة أجزاء. وهي في جملتها تصور حياة الرجل ومجتمعه في أسلوب يتسم بالجزالة والسهولة والجمال، تلقاه الأدباء بالغبطة والارتياح؛ لأنه لون حي من الأدب الذاتي في أدبنا المعاصر. 36- المعذبون في الأرض: مقالات قصصية لطه حسين، نشرها بمجلة "الكاتب المصري" تصور الأسر الكادحة، وتعد ثورة نفسية جامحة؛ إذ كان طه حسين أحد المعذبين، فقد تآمرت الدولة عليه، وتنكر الأصدقاء له، فاعتصم بمنزله،

ولاذ بمكتبته، وأخذ يملي آراءه الفلسفية الحرة في الحياة والمجتمع وطباع الناس والأخلاق. اتهم طه حسين بسبب هذه المقالات بميله إلى اليسارية، وجنوحه للشيوعية، ولذا حالت الحكومة دون طبع هذه المقالات فنشرها بلبنان، وأهداها إلى من أرقهم الخوف من العدل، وإلى الذين يجدون ما ينفقون، والذين لا يجدون ما ينفقون. 37- فصول في الأدب والنقد: طائفة من المقالات نشرها طه حسين في مجلتي "الثقافة والكاتب المصري" تكشف عن سعة قراءته، وحب استطلاعه، وعمق تفكيره، تناول فيها نقد الحياة الأدبية التي سبقت عصره، وتضم جولاته مع أئمة الأدب وشيوخه والمحدثين وكبار الشعراء، بعد أن أصبحت الحياة الأدبية راكدة، وآمن الأدباء النقد، ففتر إنتاجهم، بعد أن اطمأنوا أن القراء يقرءون وهم نائمون، وتعودوا القراءة دون دافع ملح من الإفادة او خصومة عنيفة، أو حول رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب. 38- على هامش السيرة: في الأصل مقالات، نشرها طه حسين في مجلة "الرسالة" 1933 تحت هذا العنوان، ثم جمعت في ثلاثة أجزاء، تكشف عن صور رائعة من كتب السيرة العطرة والأحداث التي سبقت مولد رسول الله في صور قصصية أخاذة عن قريش وتبع وبلاد الحجاز واليمن والحبشة وما جاورها. وخلال عرضه لهذه الأحداث ربط بينها، وبين بعض الأساطير التي دارت حول نشأة اليهودية واصطدامها بالوثنية، ونشأة المسيحية واصطدامها بالوثنية واليهودية معا، وخلص من ذلك إلى وحدة الإسلام بعد تصوير بلاد العرب وطبيعتها وقصصها ورجالها تصويرا رائعا، فأضفى على التاريخ طلاوة الأدب. ومقالات الكتاب تصور الإسلام في سماحته وبطولة شخصياته تصويرا

يعرب عن نزعة المؤرخ القاص، والأديب الذي تستهويه الصورة الجميلة، فيضفي عليها من حسه ومشاعره وفنه وأدبه، فتبدو لوحات فنية تبهر النظر، وتسر القلب، وتشرح الخاطر. 39- من بعيد: مجموعة من المقالات الممتعة، كتبها طه حسين حين إقامته بباريس وبلجيكا وفيينا، ونشرت بمجلة "الحديث" الحلبية، تصور الحياة بباريس ولهوها، وتتحدث عن تمثيل سارة برنار، وتصف البحر والسفر، وتعرض قضية الشك واليقين، وكل ما يرتبط بحياة الفكر ونزعات التجديد. ففي مقالة "بين العلم والدين" حكى قصة النضال بين العلم والدين منذ الإغريق حتى اليوم، أراد به ألا يدخل في مهاترات مع خصومه بعد الضجة التي أثاروها حول كتابه "الشعر الجاهلي"، ووضح في مقاله عن "ديكارت" حقيقة الشك واليقين بروح تتسم بالسخرية من شيوخ الأدب القديم والرجعية في مصر. ومقالات الكتاب تجمع بين أدب الرحلة وأدب الفكرة، تشعر القارئ بالمتعة والبهجة؛ لأنها تخاطب النفس والفكر بأصفى ما وعته الفلسفة والحقيقة. 40- وحي القلم: مقالات عديدة كتبها مصطفى صادق الرافعي، ونشرتها "المقتطف والرسالة" جمعت في ثلاثة أجزاء، وطبعت تحت هذا العنوان. تناولت مشاكل الأسرة وأحوال المجتمع وأحكام الإسلام ومظاهر العروبة. وجاءت مقالات الكتاب موحية في عناوينها مثل: الإشراق الإلهي، وفلسفة الإسلام، والإنسانية العليا، والله أكبر، ووحي الهجرة. وعن المرأة كتب عدة مقالات مثل: لحوم البحر، واحذري. وعن البؤساء كانت مقالاته العديدة مثل: أحلام في الشارع. وألحق أن الرافعي كان في مقالاته قمة في تفكيره بحيث يمثل الإسلام والعروبة والوطن خير تمثيل.

41- تحت راية القرآن: طائفة من المقالات في الأدب العربي، كتبها الرافعي لصحيفة "كوكب الشرق" سجل فيها رأيه في التجديد، ودافع عنه في إرادة وتصميم، ورد خلالها على كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي أنكر فيه وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبناءهما للكعبة الشريفة، وشكه في الشعر الجاهلي، وتأكيده أنه من وضع شعراء العصر الإسلامي، ولا صلة له بالشعر الجاهلي. أقامت مقالات الكتاب الدنيا وأقعدتها، ودفعت الحكومة ومجلس النواب إلى إبعاد كتاب طه حسين عن الجامعة ومصادرته في المكاتب، وإخفاء نسخه حتى لا تباع. 42- على السفود: مجموعة من المقالات، نشرها الرافعي في مجلة "العصور" بين سنتي 29/ 1930. تناولت فيها آراء بعض المحافظين في الأدب والنقد، وجعلها في مقابلة آراء أصحاب الاتجاه الغربي الممثل في مدرسة "الديوان". وتصور مقالات الكتاب الصراع الأدبي وضراوته التي بلغت ذروتها في ذلك الحين. وتقلل مقالات "على السفود" من أدب العقاد بأسلوب بعيد عن روح الموضوعية وأسس النقد، وقرب من السباب الخالص والذم المزري. وتمثل المقالات لهجة شديدة، وتحايل غير لائق على العقاد. وعلى الرغم من حدة هجوم الرافعي على العقاد لم ينل منه نائل، بل ظل شامخا في مجال الأدب ونقده. 43- في المرآة: مجموعة من المقالات، نشرها الشيخ عبد العزيز البشري في السياسة الأسبوعية. تناولت زعماء البلاد، وأقطاب الفكر، وأعلام الأدب، ورواد الفن، وعلماء الطب، بالتصوير والتحليل. منهم السياسيون مثل: زيور وعدلي يكن وسعد زغلول وحافظ رمضان وغيرهم. ومنهم الشعراء

مثل: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. ومنهم العلماء مثل: أحمد لطفي السيد. ومنهم الاجتماعيون مثل: محجوب ثابت وعلي إبراهيم وهدى شعراوي. ومنهم الفنانون مثل: مصطفى مختار محرم المثال. حلل البشري هذه الشخصيات تحليلا قويا أخاذا، يتسم بالطرافة والروعة. وراعى عند طبعها ترتيب نشرها، فجاءت المرآة كتابا فريدا في بابه، طريفا في تنسيقه، مبتكرا في تصويره، جديدا في تبويبه. ومن هنا أحدثت دويا هائلا بين الجمهور المتعلق بأدب البشري ويؤثره على غيره. 44- المختار: طائفة كذلك من المقالات للبشري، نشرها بجريدة "الأهرام والسياسة الأسبوعية" طبعت في جزأين. تناولت الأدب والوصف والتراجم، ففي الأدب جاء الحديث عن تطور الأدب العربي، وجدة الأدب المصري، وفوضى النقد الأدبي، وخيال الشاعر بين الطبع والصنعة، والقديم والجديد، والقصص في الأدب العربي، وبعض القصص في الأدب الحديث مثل: كتاب عيسى بن هشام للمويلحي، وحديث موسى بن عصام لوالده إبراهيم المويلحي. وفي باب الوصف أبدع البشري في وصف الطيارة والراديو والطفل الشريد وبنك مصر والروض، وفي باب التراجم تناول حياة الشيخ علي يوسف والسيد درويش ومحمد ندا وغيرهم. والبشري في هذا كله يعبر عما رأى، ويلاحظ ويسجل ويدون لأناس عاصرهم واختلط بهم. ومن هنا كانت براعته في الترجمة وتوفيقه في هذا الباب. 45- قطوف: مقالات شتى للبشري -طبعت بعد وفاته- تصور الحياة المصرية بأسلوب سهل، وفكرة واضحة، منها الإسلامية مثل: حديث الهجرة، ويسر الإسلام، وأعظم يوم في تاريخ العالم، ومنها الاجتماعية مثل: الطفولة المشردة والسباحة، وكيف تمشي في الطريق؟ وأيام في الريف،

وكيف كان الشباب يتزوجون؟ ومنها الفنية مثل: تقاليد الفن في مصر، والموسيقى المصرية بين القديم والحديث، وبلاغة التلحين. ومقالات هذا الكتاب ألوان مختلفة البحوث، متعددة الفنون، متباينة الفروع، متغايرة التقاسيم. 46- ساعات بين الكتب: طائفة من المقالات الأدبية، نشرها عباس محمود العقاد في "البلاغ الأسبوعي" 1929. تناولت تأملاته في الشعر العربي والأوربي، وفي الفنون والفلسفة الشرقية. واهتم خلالها بمفكري الغرب وشعرائه وأدبائه، وبعض ساسته ومصوريه وموسيقيه من أمثال: جوستاف لوبون، وماكيافيلي، وكارليل، وبيتهوفن، وجورج بروفتي، وشكسبير، وهاردي، ولودتبج، والشعر العربي في مصر، والتجميل في الأسلوب والمعاني، والصحيح والزائف في الشعر والنثر. وبجانب هذا مقالات إسلامية، تتصل بالنقد مثل إعجاز القرآن، وأخرى تعبر عن خواطره وانطباعاته ووجهة نظره مثل: حب المرأة والغيرة والنكتة والبطولة والوطنية. 47- مطالعات في الكتب والحياة: مجموعة من المقالات، نشرها العقاد في "البلاغ" تناول فيها بعض الشخصيات والفنون الجميلة، وبعض المذاهب الفلسفية، ونظرات في الطبيعة والآثار المصرية. ومن الشخصيات العربية كان المصري والمتنبي، والأوروبية كان أناتول فرانسي وعما نويل "كانت" كما تناول مباحث جمالية وفنية كعبقرية الجمال والحرية، ودراسات أدبية نقدية مثل: الأدب كما يفهمه الجيل، والشعر ومزاياه، وخواطر عن الطبع والتقليد. وأخيرا كانت مقالاته عن بعض الانطباعات والصور الوصفية مثل: اللذة والألم، والنخيل في مصر، وعلى معبد إيزيس.

48- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي: مجموعة من المقالات، نشرها العقاد في الصحف قبل طباعتها. تناول فيها أثر البيئة في طائفة من الشعراء المصريين الذين برزوا على مسرح الحياة الأدبية منذ عهد إسماعيل حتى نهاية القرن التاسع عشر، صور خلالها منازعهم الأدبية، وأرجعها إلى اختلاف بيئاتهم. بدأ هذه المقالات بالحديث عن حافظ إبراهيم وحفني ناصف وإسماعيل صبري ومحمد عبد المطلب وتوفيق البكري وعبد الله فكري وعبد الله النديم ومحمد عثمان جلال ومحمود سامي البارودي وعائشة التيمورية، وانتهى بالحديث عن أحمد شوقي، وذهب خلال حديثه عن هؤلاء الشعراء على أن الساعاتي حلقة اتصال بين الشعراء القروضيين، والشعراء المحدثين. 49- اليوميات: مقالات متنوعة تضم معارف شتى، نشرها العقاد في صحيفة "الأخبار" تناولت الدين والفلسفة وعلم النفس ونظرات في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ودراسات في العلوم والآداب والفنون، استلهمها العقاد من وحي عصره، وكتب بعضها جوابا عن سؤال وجه إليه. جمعت هذه المقالات في أربعة أجزاء يتناولها القراء اليوم، وهي جامعة لخيرة عملاق الفكر العربي بالناس والأشياء والأذواق. 50- فيض الخاطر: مقالات عديدة للمرحوم أحمد أمين، نشرها في مجلة "الرسالة والثقافة" وغيرهما. جمعت في عشرة أجزاء. تناولت الأدب مثل وصف البحر والشمس، والنقد مثل مقالات أدب القوة والضعف، والتجديد في الأدب عامة، وفي اللفظ والعبارة والموضوع خاصة. وأفرد بابا عرف فيه الشعر بأنه: "الكلام الموزون المقفى، المنبعث عن عاطفة، والمثير لعاطفة"1.

_ 1 راجع: فيض الخاطر جـ1 ص19.

ويرى أن يتقدم الشعر في كل من عنصرية: الوزن والمعنى. وعلى الشعراء أن يطرقوا الشعر الاجتماعي العربي: "الذي يساير نزعات أمم الشرق ومطامعها وآمالها في الحياة"1. ودعا في بعض مقالاته إلى ربط الأدب بشتى الفنون، والإفادة من علم الجمال وفروع الفلسفة، وما يخص علم النفس. وتناول في بعض مقالاته شعراء قبل العصر الحالي مثل أبي نواس، ومحدثين مثل أحمد شوقي، وتمثل المقالات -في جملتها- الصراع بين المثقفين ثقافة غربية خالصة والمثقفين ثقافة عربية خالصة. 51- رسائل النقد: مقالات هذا الكتاب نشرها رمزي عبد الفتاح في مجلة "أبوللو" في 33/ 1934. تناول فيها عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد، مؤكدا أن الأول رائد مدرسة التجديد وأستاذ الثاني. والمقالات تتضمن حشدا من الشتائم، وسيلا من السباب في العقاد، تجاوزته إلى أهله واصله، ذاهبا إلى أنه من أرباب الخلاعة، يعشق المومسات، ويقضي لياليه في بيوت الدعارة، وتصفه المقالات بأنه جاهل مغرور دعي لص. وهكذا قامت مقالات الكتاب على ذم العقاد، والثناء على عبد الرحمن شكري. وفوق ذلك تجعله سارقا من سلامة موسى، وطانيوس عبده، ولطفي جمعة وغيرهم، هذا بالإضافة إلى نقد العقاد نقدا لغويا. 52- يوميات نائب في الريف: في الأصل مقالات، نشرها توفيق الحكيم في مجلة "الرسالة" قبل طبعها في كتاب 1937. تناول فيها عمله كوكيل للنيابة، وحياته في أعمال الريف، ونفرته مما درج الموظفون عليه من تضييع الوقت والاستهانة بالعمل، وتخلف القرية اقتصاديا وفكريا وصحيا، وجمود بعض نظم القضاء واهتمامها بالشكليات أكثر من الاهتمام بإقرار الحق، وأبرز فساد

_ 1 راجع المصدر السابق ص55.

بعض رجال الإدارة لاهتمامهم بمصالحهم الشخصية، وحرصهم على إرضاء رؤسائهم الذين يخضعون لرئيس الوزراء الذي يمثل -في الغالب- حزبا من الأحزاب التي تتنافس على السلطة رجاء المصالح الشخصية. عرض توفيق الحكيم ذلك كله في صور متتابعة، تقوم على الملاحظة الشخصية، وتعتمد على التأمل الذاتي، والتجربة الحقيقية التي من خلال عمله في تلك الظروف. جاءت هذه الأحاديث في شكل يوميات، يبدأ كل حديث بذكر التاريخ، ثم يسرده ويعلق عليه وينقده. واليوميات محدودة تبدأ بالحادي عشر من أغسطس، وتنتهي بالثالث والعشرين منه، لكنها على الرغم من ذلك فإنها حافلة باللوحات الحية، والصور النابضة، والنقد الجريء، والتوجيه الحكيم. 53- وحي الرسالة: مقالات في الأدب والنقد والاجتماع والسياسة، كتبها أحمد حسن الزيات، ونشرت على صفحات "الرسالة" ثم جمعت بعد ذلك في عدة أجزاء. تصور المقالات الثورة على الأوضاع الاجتماعية الفاسدة، والذمم الخربة، والضمائر الفاسدة، مثل مقالة المعنون "لا إله اليوم إلا الهوى" عندما ظهر مرض الكوليرا 1947. وعلى الجملة جاءت مقالات الزيات سياطا حينا، ورحمة حينا آخر، وعاطفة طورا، ونسيما طورا آخر. 54- حصاد الهشيم: مجموعة من المقالات، كتبها إبراهيم عبد القادر المازني في الصحف التي عاصرها، وخاصة الأخبار لأمين الرافعي. تناول فيها الحديث عن ابن الرومي والمتنبي ورباعيات الخيام، كما أفاض فيها في الحديث عن الفن واللغة مثل: معرض الصور والحقيقة والمجاز. وبعض مقالات الكتاب تصور انطباعات الكاتب الخاصة وخواطره ومشاهده مثل الحديث عن الصحراء. وله مجموعة أخرى من المقالات جمعها في كتاب يسمى "قبض الريح"

تناول فيها نقد طائفة من الكتاب مثل طه حسين وكتابه حديث الأربعاء، وبعض الشعراء مثل بشار بن برد، وأبي العلاء المعري، وبعض مقالات الكتاب وجهات نظره الخاصة، وانطباعاته وخواطره مثل: نشأة الشعر، والحديث عن المرأة واللغة والمفعول المطلق. 55- في الميزان الجديد: مجموعة من المقالات، نشرها الدكتور محمد مندور بعد عودته من فرنسا 1939 في مجلة "الثقافة" عرض فيها طائفة من الشعراء والكتاب، وحلل أعمالهم الأدبية في صدق وأمانة، ورد خلالها على أصحاب المنهج النفسي، ودعا فيها إلى العناية بالأسلوب والصياغة والذوق، وأشاد بشعراء المهجر والشعر المهموس، وحط خلالها من شأن الشعر ذي الأسلوب الخطابي، ونادى بأن تكون القصة أكثر مشاكلة للواقع، وندد بالرمز فيها، ودعا إلى التعمق في معرفتنا بالآداب الإنسانية العالمية. 56- تربية سلامة موسى: مجموعة متنوعة من المقالات الاجتماعية والسياسية والأدبية والعلمية، نشرت في مجلة "الكاتب المصري" 1946 للمرحوم سلامة موسى. تناولت الطفولة والصبا، وأحوال القاهرة خلال الفترة من 1903 إلى 1907، ترجم فيها لشخصيات أوربية مثل: كرومر، وجروست، وكنشتر، وفتح الآفاق الأوربية له، وتربيته لنفسه الأدبية والعلمية، وختمها بالحديث عن ذكريات الحرب العالمية الكبرى. والمقالات -كما ترى- لم تجمعها وَحْدَة أو يضمها ترابط، وإن توفر ذلك داخل المقال نفسه. وطبعت في كتاب 1947. 57- بين الفلسفة والأدب: مجموعة من المقالات الأدبية الفلسفية، كتبها المرحوم على أدهم في فترات مختلفة، زاوج فيها بين التفكير الفلسفي والأدبي. وتناول فيها أشياء قيمة عن الحياة والدنيا مثل مقارنته بين أبي العلاء المعري وشوبنهار،

وفلسفة التاريخ عند الروائي الروسي ليون تولستون، وعلاقة السياسة بالأخلاق، وفلسفة الجمال عند الفيلسوف البريطاني المعاصر صمويل الكسندر برويائيف، ووازن بين الجمال وعنصري المثل العليا: الخير والجمال. كما تناولت مقالات الكتاب الفلسفة وارتباطها بالكون والحياة البشرية، والتمرد على العقل، واللاعقلية وعبادة الغريزة والقوة، واللاعقلية في العلوم والحضارة، ودور الفرد في خلق المجتمع من خلال فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع. كما تناولت تبعات الفلسفة في العهد الذري، ومواطن الجمال في الطبيعة، وعرض الكاتب آراء واتجاهات المفكر الروسي برديايف، وعلل أسباب التقصير في البحث عن الحقائق. ومن ثم اتسمت مقالات الكتاب بمسحة من الفلسفة، ونفحة من الأدب، فأسهمت في تزويد الثقافة بطائفة من الأفكار والآراء والنظريات التي تمهد للخلق الأدبي والابتكار الفني. 58- لا هوادة: كتاب يضم مقالات عمر فاخوري السياسية، تناول فيها القضايا التي شغلت العالم في ذلك الحين، ودارت حول مستقبل وطنه لبنان، وسيادة جماهير الشعب اللبناني على السواء. "لا علة أو نحلة أو مذهب دون مذهب"1. تكشف مقالات الكتاب ما وراء السياسة التقليدية من أمور تخدع الناس، وتجعلهم مطايا للمتزعمين والحاكمين، وتجسم كوارث الحرب العالمية الثانية، وجرائم طواغيت النازية على الإنسانية، مما حمل الناس على الإيمان بالدول الديمقراطية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي. ومقالات الكتاب تيسر للقارئ الاطلاع على مختلف الفئات المتفاوتة فهما وعلما، ولذا جاءت صادقة في التعبير والتصوير: وأهم ما يميزها أنها

_ 1 راجع: عمر فاخوري ص59 العدد 89 من سلسلة أعلام العرب فبراير 1970.

لم تخرج عن سجية عمر فاخوري المعهودة، وأسلوبه المعروف بالإيجاز الذي لا يعرف الحشو أو اللغو أو التكرار. 59- الحقيقة اللبنانية: مقالات هذا الكتاب خواطر وأحاديث، تغنى عمر فاخوري فيها برسالة لبنان التي تقوم على الأخذ والإعطاء، وتعبر عن وطنيته وارتباط بلاده بقضايا العرب، وتصور اعتزاز الجماهير باستقلال لبنان وطنا دينيا أو مذهبا، لا يصح أن يكون إلا وطنا لجميع أهله على السواء. ولذا قال: "لبنان منذ كان لا يقف على ساحل هذا الأبيض المتوسط إزاء مدنياته القديمة والحديثة، كما يقف الصياد الذي دهمته العتمة، ولم يعطه البحر سمكة واحدة". ويقول: "ما كان صفر رفعته لينقصه أو يكفه عن أن يعطي العالم أداة التخاطب المثلى، وأساليب العبادة الفضلى، وطرائق التفكير والعمل قوية". 60- غرام الأدباء: مقالات كتبها عباس خضر، ونشرتها مجلة "الرسالة الجديدة" التي كانت تصدر عن دار الجمهورية، تحت هذا العنوان، وصدرت في سلسلة اقرأ عن دار المعارف المصرية 1956. تدور حول عواطف بعض الأدباء في صباهم، وانعكاسها فيما صدر عنهم من نتاج رائع، ومدى صدقها في التصوير والتعبير لما وقع لهم في عهد الشباب. وتناولت من الأدباء: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، ومحمود تيمور، وأحمد حسن الزيات، ومحمد فريد أبو حديدة، ومحمد سعيد العريان، وكامل الشناوي. ومقالات الكتاب تكشف عن خفايا قلوب الأدباء، والغرام الذي دفعهم أو أعانهم أو ألهمهم روائعهم، وتبين أطوار حياة هؤلاء الأدباء، وما خفقت قلوبهم به من حب، وما أضرم فيها من غرام.

61- الذين أحبوا "مي": كتاب صغير يضم المقالات التي كتبها كامل الشناوي في أخبار اليوم 1955 أعداد إبريل، ونشرتها دار المعارف في كتيب 1972. تناولت الذين أحبوا "مي زيادة" ورواد صالونها، ورأيها في الديمقراطية، ومحاولة خطف الأمير المغربي محمد الجزائري لها، والنشرات المنظومة بينها وبين ولي الدين عدلي يكن، وكيف أصيبت "مي" بالجنون، ووصف أسلوبها للدكتور طه حسين. ومقالات الكتاب -في جملتها- تكشف عن مكانة "مي" الأدبية في المجتمع المصري، وبين أدباء وقادة الفكر ومحبي الثقافة. 62- خطوات نحو القدس: مجموعة من المقالات، كتبها الدكتور عبد العزيز كامل، ونشرتها صحف: القاهرة والأهرام والأخبار والجمهورية والمساء خلال الفترة من نوفمبر 1966 حتى ديسمبر 1974، وجمعت هذه المقالات وطبعت في سلسلة اقرأ عن دار المعارف المصرية 1975. تناولت مقالات الكتاب موضوعات مختلفة مثل: جوانب من الحرب النفسية، والمولد النبوي، والبناء والتحرير، وحوار بين رمضانيين، والمعركة والبناء في التطور التاريخي، وأخلاقيات المعركة، وبطاقات عيد من القرآن الكريم، والقرآن والنظرة المتوازية إلى الأحداث، وأربع آيات قرآنية في الحرب والسلم، ورسالة من شهيد في يوم عيد، وشمس العيد على سيناء، وأنهى الكاتب الحديث بمقال عن صلاة الجمعة في مسجد قرطبة. وعلى الرغم من اختلاف موضوع المقالات -كما هو واضح- لكن ينظمها خط فكري واحد، وهو ارتباطها بالقدس الشريف، وفلسطين العربية، وأرضنا السلبية، ارتباطا يراها في منظورها التاريخي، وعطائها الحضاري، وكفاحها في معركة رمضان المجيدة، والإعداد الذي سبقها، وما وراءها من تبعات التحرير والتعمير.

63- لكل مقال أزمة: مجموعة من المقالات، تصور الظلم والطغيان، وتوضح الانحراف والمنحرفين، وتكشف أسرار الحكم في مصر خلال نصف قرن مضى من الزمان، كتبها مصطفى أمين في صحف: الجهاد والأخبار وأخبار اليوم، منذ بداية حياته الصحفية في مختلف العهود والظروف والملابسات. واجه بها المسلطين والمسيطرين، فأثارت مقالاته الأزمات من حوله، وحركت الحاقدين ضده. ومقالات الكتاب تبرز مواقف تاريخية، وتوضح الفروق بين الرجال وأشباه الرجال، والخصومات التي وقعت بينهم، وتزيح النقاب عن التيار الخفي الذي حرك حياتنا السياسية والوطنية والاجتماعية على امتداد نصف قرن من الزمان. وهكذا كان المقال على امتداد قرن ونصف المعرض الحافل بالآراء المبتكرة، والأفكار النيرة، والنظريات الفذة، في الفن والأدب والمسرح والسياسة والفلسفة والاجتماع ووجوه الإصلاح والمساجلات الطريفة بين طوائف الكتاب. كما كان المجال الرحب لألوان الفكر التي تعالج عيوب المجتمع، وتحدد مواطن النقص فيه، وتشير إلى العلل التي تعصف به. واحتوى المقال -كما ترى- الأدب على اختلاف فنونه، وتباين صوره، فقد ضم ترجمة قصة حبنا، وبسط رواية أخرى، وسجل خاطرة حينا ثالثا، ناهيك بما تناول من تراجم وسير ونقد وتاريخ واجتماع وعلوم واقتصاد وطبائع، وغير ذلك من الألوان والأفكار التي أوجدتها الأحداث وفرضتها الظروف. كما كان للمقال دوره البارز في نشر المعارف، وتوثيق الروابط، واستنهاض الأمة، وتنبيه أفرادها إذا طرأ تخلف عليها، أو انحدر بعض أفرادها في التفكير، أو تقليد في الرأي، أو انحراف عن الطريق الجاد. ومن ثم حفل المقال باللوحات الحية، والصور النابضة، والنقد

الجريء، والتوجيه الحكيم على بعضها مسحة من الفلسفة ونفحة من الأدب، جاء ذلك كله في بحوث مركزة، ودراسات جادة، متعددة الفنون، متباينة الفروع، متغايرة التقاسيم، تكشف عن اطلاع واسع، وتحصيل وفير لمواهب فذة تتميز بالتفكير السليم والتصوير الصحيح، وغيرة جامحة على الإسلام والمسلمين، والعروبة وبلادها، والوطن وحماه. فأسهم المقال والمقاليون بتزويد الثقافة والفكر بروافد ثرة، وينابيع فياضة، وطائفة من الآراء المبدعة، والتجارب الفريدة والحقائق المثمرة التي تمهد الطريق للخلق الأدبي والابتكار الفني.

الباب الثاني: المقال وتنوع الأساليب

الباب الثاني: المقال وتنوع الأساليب الفصل الأول: المقال والأسلوب اللغوي مدخل ... الباب الثاني: المقال وتنوع الاساليب الفصل الأول: المقال والأسلوب اللغوي نعني بالأسلوب اللغوي محتويات المقال من مادة الألفاظ التي تناول الكاتب بها موضوعه، وعرض من خلالها أفكاره، وحملها مشاعره، وكشفت عن أحاسيسه، وعبرت عن عواطفه. ولما كانت اللغة وسيلة من وسائل التعبير والتصوير، اختلف الكتاب والأدباء في استغلال طاقتها حسب ظروفهم وإمكاناتهم. ومن ثم تستطيع لغة الأديب أن تعبر عن الروافد الثقافية التي نهل منها، وتوضح موقفه من الأفكار والمعاني، وعنايته بالألفاظ من حيث السلامة اللغوية أو النحوية أو الاشتقاق. وفي القرن الماضي اتجه بعض الكتاب إلى إيثار الألفاظ الغربية في كتاباتهم، وانصرفوا عن المألوف منها، ومالوا إلى كلمات من دفائن المعاجم وخبايا اللغة؛ ليكشفوا عن ثرواتهم اللغوية، ومحصولهم الوفير منها. ومن أبرز كتاب هذا اللون أحمد فارس الشدياق، والشيخ إبراهيم اليازجي، ومحمد إبراهيم المويلحي، وغيرهم ممن عرفوا بتعدد الثقافات، وتنوع التجارب، والتعمق في قراءاتهم، والعناية بالأفكار والمعاني والألفاظ عناية تتسم بالسلامة والإتقان حينا، وإيثار الغريب والبعد عن المحسنات حينا آخر. وسنحاول أن نتعرف على الآثار الأدبية والفكرية التي تشهد بريادة هؤلاء الأعلام في هذا المجال، لنتعرف على الإطار اللغوي في كتابات الأول، ومؤلفات الثاني، وكتاب عيسى بن هشام للثالث.

أولا: أحمد فارس الشدياق: 1805-1887

أولا: أحمد فارس الشدياق 1805-1887 من أوائل من حملوا لواء النهضة الأدبية والفكرية الحديثة، سبق بفكره وقلمه وعلمه أترابه ولداته؛ لكثرة ما قرأ وعرف، وجرب ورأى وسمع، حتى كان من نوادر عصره. اهتم بالأبحاث اللغوية والأدبية، وترك فيهما آثارا خالدة، منها كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق"، ذكر فيه حياته وأحواله، وما عاناه من دهره، خلط فيه الجد بالهزل، والسجع بالترسل، والعلم بالأدب. وأغرب وأطرب، وذهب في صياغته كل مذهب، تجلت فيه عبقريته في اللغة والأدب والتحليل ووصف الخطرات والنوازع والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات، والتهكم برجال الدين. كل ذلك بأسلوب لا عهد للعرب به، وعلى الرغم من قيمته العلمية والأدبية، فقد تضمن مجنونا وفحشا، مما أثار عليه حملة ضارية. وطبع بباريس 1855 ثم توالت طبعاته فيما بعد. أسلوب الشدياق: انفرد الشدياق بأسلوب فريد فيما كتب من مقالات، ودبج من خواطر، وسطر من انطباعات، فكان وحيد عصره، وفريد دهره، لذا اعتبر امتدادا لابن خلدون في حسن الترسل، ودقة التحليل، وبراعة التسلسل المنطقي، والبعد عن الحشو والتكلف مع صحة اللغة، وسلامة التركيب، وجمال العبارة. ومن هنا كان من أوائل من حرروا الكتابة من قيود البديع، وبدعة التقليد. وأهم ما يميز أسلوبه في إطاره اللغوي ما يلي: 1- يضع الألفاظ في مواضعها دون بهرجة ولف ولبس، حتى تؤدي المعاني مدلولاتها في إشراق ووضوح واستقامة ودقة. 2- تجنب ما شاع في عصره من صناعات لفظية، تفسد المعنى، وتشغل القارئ بظاهر اللفظ، لإيمانه بأن المعاني الجياد تستغني عن الطلاء والزخرف، كما تستغني الحسناء عن الحلي والزينة. 3- إيثار المعنى الذي يريده في وضوح ودقة وفهم تام لدلالات الألفاظ على المعاني.

4- لا يكتب إلا ما يمر بباله من أفكار، ويتردد في خاطره من موضوعات، دون أن يستعير عبارة من أديب أو أسلوب من كاتب. 5- دقة الوصف وعمق التحليل، وبراعة التصوير والتمثيل، خاصة حين يصور المعنويات بالمحسوسات. 6- تحري أفصح الأساليب، وأصح العبارات وأسلسها لغة وأداء، مع المزاوجة بين السجع والترسل في رسائله الخاصة. ريادة الشدياق في الكتابة بلبنان: يعد الشدياق رائد المقال الأدبي والسياسي والاجتماعي في لبنان، وكانت صحيفة "الجوائب" المجال الفسيح لمقالاته التي غمرت العالم العربي والإسلامي. آثر في أول كتابات أن يسمى مقاله: "جملة أدبية"1 ثم بدا له أن هذه التسمية لم تحظَ برضا القراء، ولم تلقَ قبولًا لدى الذوق العام، ومن ثم عدل إلى كلمة "المقال" وبدأ مقالاته بعبارة: "من الناس" للدلالة على اتجاهها الاجتماعي، وميلها إلى نقد المجتمع والناس". لهذا جعله كاتب2 مؤسس النهضة الحديثة وزعيمها، وعده آخر3 من رواد النهضة الحديثة في الأدب، وجعله ثالث4 "صاحب يد طولى في النهضة العربية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فمهدت السبيل للتقدم الأدبي العظيم خلال القرن العشرين". هاجم الشدياق أرباب الاستعارات والمحسنات فقال: "ما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة، وينظم الفقر المتماثلة في المعنى، مع أن العالم يتأتى

_ 1 كان الشدياق يسمى فصوله أحيانًا "مقالات" كما فعل في مقاله "بديع الإعجاز". 2 راجع: رواد النهضة الحديثة مارون عبود. 3 راجع: في الأدب الحديث ج1 ص77 عمر الدسوقي. 4 راجع: الفنون الأدبية وأعلامها ص148 أنس المقدسي.

له أن يبدي عمله بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ، بليغة المعنى"1. ويرى أن كثرة السجع تسد مسالك التعبير فيقول: "السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي، فينبغي لي ألا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير؛ لئلا تضيق بي مذاهبه، أو يرميني في ورطة لا مناص منها. ولقد رأيت أن كلفة السجع أشق من كلفة النظم، فإنه لا يشترط في أبيات القصيدة من الارتباط والمناسبة ما يشترط في الفقر المسجوعة، وكثيرًا ما نرى الساجع قد دارت به القافية عن طريقه التي سلك فيها حتى تبلغ إلى ما لم يكن ترتضيه لو كان غير متقيد بها". لذا استعمل السجع بمقدار في مقدمات كتبه يقول: "قد مضت علي برهة من غير تكلف السجع والتجنيس، وأحسبني نسيت ذلك! فلا بد أن أختبر قريحتي في هذا الفصل، فإنه أولى به من غيره"2. وزواج الشدياق بين السجع والترسل في رسائله، فقد كتب إلى أخيه "طنوس" بمالطة 1840 رسالة استرسل في أولها، وسجع في آخرها فقال: "فكيف بالاقتناع، والقلب في التباع، والدمع في تهماع، ومن أين للسلو والبين في علو، والوجه في نمو؟ ". ويميل إلى الاستطراد، وهذا واضح في كتابيه: "رحلة إلى مالطة وأوربا"، تراه يستطرد من موضع الرحلة إلى نقد القاموس المحيط في عدة مواضع3. وهي استطرادات تدل على تزاحم المعلومات والمعارف لديه. ويبلغ القمة في دقة التصوير، وعمق التعبير، وبراعة التحليل عند تصوير المعنويات بالمحسوسات، انظر إلى اللوحة التعبيرية التي تصور مشية نساء مالطة يقول: "للنساء زهو وعجب إذا مشين أكثر من زهو الرجال، فترى المرأة كالعروس المزفوفة إلى بعلها، وهي ممسكة بطرف

_ 1 راجع: الساق على الساق ج2 ص46. 2 راجع: الساق على الساق ص62. 3 الواسطة في أحوال مالطة ص12، 25، 30.

الوشاح باليد اليسرى، ويطرف غطاء رأسها باليمنى، فتكون على هذه الحالة أشغل من ذات النحيين"1. وهكذا يجعلك الشدياق تشعر بقيمة الأشياء الصغيرة وخطرها. اهتم الشدياق منذ طفولته بخدمة القضايا اللغوية، كما كان له ارتياح غريزي من صغره لقراءة الكلام الفصيح، وإمعان النظر فيه، والتقاط الغريبة التي كان يجدها في الكتب. ويعد كتاب "الساق على الساق" معجما للعديد من الألفاظ الغربية التي استعملها الشدياق في الحكاية والمقامة، ويرد الحياة ووصف رحلاته وأشعاره. من غرائب الألفاظ لمسميات في أحوال وأوصاف مختلفة كلمة "البيت" البيت في أصله بيت، ولكن البيت الذي يستظل به كالعرش، غير البيت المسنم من قصد، غير المربأ الذي ينظر منه من عل، غير البيت المقدم أمام البيوت، غير السرادق المضروب، غير البيت من الطين، غير البيت الذي لا باب فيه ولا ستر، غير البيت من الحجر، غير البيت من آدم، غير البيت من الشعر، غير البيت الدنيء، غير البيت المدهور بالجص، فلكل نوع من هذه البيوت لفظ خاص به في اللغة العربية. ودافع الشدياق عن اللغة وأصالتها، فبيت في كتابه اللغوي: "سر الليالي في القلب والإبدال" مشتقات الألفاظ بعضها من بعض، مما أضعف الرأي القائل بأن بعض الألفاظ العربية مأخوذة من لغات الأعاجم، مثل لفظة "كنز" في العربية التي زعم "الخفاجي" أنها معربة لكلمة "كنج" الأعجمية.. وبناء على طريقته في نسق الألفاظ واشتقاقها يتضح أن كلمة "كنز" عربية بأنها من "الكن" وهو الستر، ومنه جن الشيء -بمعنى ستر- وكتبه وكنه النعمة أي كفرها وسترها، وكنس الظبي أي دخل في كناسة، فاستتر فيه. والكنيسة متعبد اليهود. وحقيقة معناها مكان يستتر فيه.

_ 1 راجع: الساق على الساق ص66.

يقول الشدياق: "فأنت ترى أن معنى الستر والجمع دائر في جمع هذه الألفاظ، فإذا ادعى فارسي أن الكنز معرب "كنج" أو سرياني أن الكنيسة معرب "كتشى" بمعنى جماعة، قلنا لهم: بل أنتم قوم لثغ، لم يحسنوا الظن بألفاظنا فبدلتموها وحرفتموها ... ". ويؤكد لك جهوده في تطوير اللغة والأدب، تناوله مادة بعينها ومناقشة ما ورد بشأنها في المراجع اللغوية، ومدلول مرادفها في اللغات الإفرنجية، ويمضي في تحليلها وشرح ما يتصل بها من تصورات، يقول مثلًا في "التمدن": "لا يخفي أن لفظ "التمدن" مأخوذ من المدنية، والمدنية مشتقة من مدن بمعنى أقام على القول الأصح، وإن كان صاحب القاموس قد اضطرب فيها فجعلها مرة من دان، ومرة من مدن، وكيف كان فإن مرادف التمدن في اللغات الإفرنجية من معنى "المدينة" وهو عندهم في الأظهر عبارة عن استجماع كل ما يلزم لأهل المدينة من اللوازم البدنية والعقلية، فقولهم مثلًا: هذا رجل متمدن، ينزل منزلة قولنا: متأدب كيس خبير وما أشبه ذلك"1. وهكذا كان الشدياق يبني حكمه على أصالة الألفاظ العربية على أساس سليم، وملاحظات زكية، ومقارنات واعية من اشتقاق الألفاظ، ونسق الأفعال، وتناسب الحروف بعضها مع بعض، كما كان يعلي من قيمة العقل في الاجتهاد اللغوي، فلا حجر على باحث ما دام العقل رائده، ولا يقف بأمانة اللغة على زمن معين، بل يمضي في تاريخ الفكر العربي ما دام هناك عقل يحسن الاستنتاج، ويجيد الاستدلال. ومن ثم لا نعجب أن نجد الإمام محمد عبده يثني على أحمد فارس الشدياق في مجلسه لاستقامة لغته، وأصالة أسلوبه، مما جعل السيد رشيد رضا يعترض قائلًا: "أين هو من أسلوب العروة الوثقى الرفيع، ووضعكم لفرائد اللغة الطريفة في موضعها منها؟ فكان جواب الإمام: تلك الألفاظ نديرها، أما الشيخ أحمد فارس فهو إمام في اللغة، وأسلوبه في الكتابة فغريب، فلما فطن له الأدباء، ويعجب السيد رشيد رضا من تفضيل الإمام محمد عبده لأحمد فارس على نفسه في الإنشاء مع أنه أبلغ منه! "1. وبهذا وغيره تدرك عبقرية أحمد فارس الشدياق في اللغة والأدب، وريادته في إحياء الألفاظ العربية، واهتمامه بالإطار اللغوي في كتاباته الأدبية والاجتماعية والسياسية، كما كان لصحيفته "الجوائب" دورها البارز في شيوع ألفاظ عربية، بعد أن استخرجها من دفائن المعاجم، وجعلها تدور على الألسنة، وتردد على الأفواه، وتشيع بين العامة والخاصة من الناس.

_ 1 راجع: كنز الرغائب ج1 ص3.

ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906

ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906 نشأ محبا للعلم، ميالًا للبحث، شغوفًا بالدرس، حتى أصبح دائرة معارف لغوية وأدبية وعلمية، كلف باللغة العربية، وانكب على تفهمها بفكر نير، ورأي صائب حتى استوعب ما تضمنته المعاجم والآثار الأدبية، وخلفه فحول اللغة والأدب الأقدمين، ووقف على دفائن اللغة، وتغلغل في مطاوي عبقريتها، يستجلي أسرارها، ويبحث عن كنوزها حتى أعطانا من تراث الماضي ما كان مدفونًا في الخزائن، ومستورًا في مظان المصادر. خلف الشيخ إبراهيم اليازجي آثارًا عديدة في مجالات مختلفة، أبرزها تصحيح الأخطاء التي جاءت في معجم "لسان العرب" لابن منظور المتوفَّى حوالي 1311هـ ومعجم "تاج العروس" لمحب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسني الواسطي المتوفَّى 1791م، ومعظمها لا يزوال مخطوطًا، لا سيما معجمه اللغوي الذي سماه "الفرائد الحسان في قلائد اللسان". حرر العديد من الأبحاث المفيدة، والمقالات المترسلة بجريدة النجاح

_ 1 راجع: تاريخ الأستاذ الإمام ص997 لمحمد رشيد رضا.

1872 جمع فيها بين المتانة والبلاغة وحتى دعاه معاصروه إمام الإنشاء وحجة اللغة، ومقالاته في مجلة "الطبيب" 1884 تثبت علو كعبه في عالم التحرير والتعبير، واستقل بمجلة "الضياء" 1898 واهتم فيها بخدمة اللغة في عصره، ودبج فيها موضوعات حول أخطاء الصحف اللغوية والتعريب، وأغلاط العرب القدماء والمولدين، كما أشار إلى الأخطاء التي وقع فيها، والتي وقع أبوه فيها من قبل. ونبه الكتاب في مقالاته إلى ضرورة انتقاء الكلمات العربية والألفاظ الاصطلاحية للمخترعات الحديثة مثل: الساري لقضيب الصاعقة، والمنطاد للبالون، والبرق للتغراف، والبريد للبوسطة، والبطاقة للكارت، والجريدة للجرنال، وغير ذلك من الألفاظ التي تدور على ألسنة كثير من الأدباء اليوم. أسلوب اليازجي: كان إبراهيم اليازجي صاحب علم واسع، ونظر دقيق، ورسالة آمن بها، يسهر ليله وراء شاردة عنت له، ويقضي نهاره ناشرًا وكاتبًا ومعلمًا، فرفع اللغة بإنشاء لا يعتوره ركاكة، ولا يتخلله تعقيد، فكان في طليعة الذين أسسوا النهضة، ومشوا بها إلى الأمام، وقد ترسم خطاه نفر من الكتاب لتفرده في عالم الكتابة، ودنيا البحث، ومجتمع الثقافة، وحملوا الراية من بعده، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي: 1- صحة التركيب، وسلامة التعبير، وفصاحة العبارة، ومتانة الأسلوب. 2- السجع الخالي من التعقيد والمعاظلة في رسائله ومقاماته وكتبه ومقالاته. 3- تضمنه استعارات غربية إلا أنها جديدة، أفادت اللغة، وخدمت الأدب. 4- تبحر في اللغة، وتعمق في أصول اشتقاقها، مما سهل عليه بعث اللغة كي تجاري العصر.

5- عليه من التقليد روعة القديم، ومن الابتكار قشاية الحدوث. 6- الجمع بين المتانة والسهولة، والأخذ بكل جديد عن عقل وفهم وإدراك. 7- يعبر عن المقصود بأوضح الصور، فتراه يستعمل لكل معنى اللفظ الموضوع له، بحيث ينتقل القارئ من اللفظ إلى المعنى بدون واسطة. للشيخ إبراهيم اليازجي مقال بعنوان: "اللغة والعصر"، كتبه يوم انصرف الأدباء إلى تحصيل ملكة الكتابة العربية الصافية، والتضلع من اللغة بحقيقتها ومجازها فقال: "لم يبقَ في أرباب الأقلام ومنتحلي صناعة الإنشاء من هذه الأمة من لم يشعر بما صارت إليه اللغة لعهدنا الحاضر، من التقصير بخدمة أهلها والعقم بحاجات ذويها، حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعربين، وأصبحت الكتابة في كثير من الأغراض ضربًا من شاق1 التكليف، وبابًا من أبواب العنت. واللغة لا تزداد إلا ضيقًا باتساع مذاهب الحضارة، وتشعب طريق التفنن في المخترعات والمستحدثات إلى أن كادت تنبذ2 في زوايا الإهمال، وتلحق بما سبقها من لغات القرون الخوالي، ومست الضرورة إلى تدارك ما طرأ عليها من التلم قبل تمام العفاء، وقبل أن ينادي عليها مؤذن العصر: سبحان من تفرد بالبقاء، ويختم على معجماتها بقصائد التأبين والرثاء. تلك هي اللغة التي طالما وصفها الواصفون بأنها أغزر3 الألسنة مادة وأوسعها تعبيرًا، وأبعدها للأغراض متناولًا، وأطوعها للمعاني تصويرًا، قد أفضت اليوم إلى حال لو رام الكاتب فيها أن يصف حجرة

_ 1 الشاق: المتعب. 2 تنبذ: تلفظ وتترك جانبًا. 3 أغزر: أوفر.

منامه، لم يكد يجد فيها ما يكفيه هذه المئونة اليسيرة، فضلًا عما وراء ذلك من وصف قصور الملوك والكبراء، ومنازل المترفين والأغنياء، وشوارع المدن الغناء، وما ثم من آنية وأثاث، وملبوس ومفروش، وغير ذلك من أصناف الماعون وأدوات الزينة، مما لا نجد لشيء منه اسمًا في هذه اللغة، ولا يكون حظ العربي من وصفه إلا العي والحصر1، وطي لسانه على معانٍ في قلبه لا ينسى له إبرازها بالنطق، ولا يجد سبيلًا إلى تمثيلها باللفظ، كأن المقاطع التي يعبر بها عن هذه المتخصصات لم يخلق لها موضع بين فكيه، وليست ما يجري بين لهاته2 وشفتيه، فعاد كالأبكم يرى الأشياء ويميزها، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا بالإشارة، ولا يصفها لا بالإيماء، يا ليت شعري، ما يصنع أجدادنا، لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية، ورأى ما ثمة من المسميات العضوية وغير العضوية، من أنواع الحيوان وضروب البيان وصفوف المعادن، وعاين3 ما هناك من الآلات والأدوات، وسائر أجناس المصنوعات، وما تتألف منه القطع وأجزاء، بما لها من الهيئات المختلفة، والمنافع المتباينة، وأراد العبارة عن شيء من هذه المذكورات؟ ثم ما هو فاعل لو أراد الكلام فيما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية والمكتشفات الطبيعية والكيماوية، والفنون العقلية واليدوية، وما لكل ذلك من الأوضاع والحدود والمصطلحات التي لا تغادر جليلًا4 ولا دقيقًا؟ ألا تدل عليه بلفظة المخصوص. لا ريب أن الكثير من ذلك لا يتحرك له به لسان ولا يعهد به بين ألواح معجمات اللغة، ألفاظًا يعبر بها عنه، ولا يغنيه في هذا الموقف ما عنده من ثمانين اسمًا للعسل، ومائتي اسم للخمر، وخمسمائة للأسد، وألف لفظة للسيف، ومثلها للبعير، وأربعة آلاف للداهية، وما يفوت الحصر لشيء آخر، حرص

_ 1 الحصر: العي في النطق وعدم الإفصاح في المعنى. 2 اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق من أعلى الغم. 3 عاين: شاهد. 4 جليلًا: عظيمًا.

مؤلف القاموس على استقصاء ألفاظه، حتى لم يكد يذكر مادة إلا وفيها شيء يشير إليه، ويدل عليه. على أن اللغة مرآة أحوال الأمة وصورة تمدنها ورسم مجتمعها، وتمثال أخلاقها وملكاتها، وسجل مالها من علوم وصنائع وآداب، وإنما نضع منها على قدر ما تقتضيه حاجاتها في الخطاب، وما يتمثل في خواطرها، أو يقع تحت حسها من المعاني، ومعلوم أن العرب واضعي هذه اللغة كانوا قومًا أهل بادية، وبيوتهم الشعر والأديم1، ومفرشهم الباري2 والبلاس3 ولباسهم الكساء والرداء، أثاثهم الرحى والقدر، وآنيتهم القعب والجفنة4، إلى ما شاكل ذلك مما لا يكادون يعدونه في حل ولا ترحال. فأين هم؟ وما نحن فيه لهذا العهد من اتساع مذاهب الحضارة، والاستبحار في الترف واليسار، وكثرة ما بين أيدينا من صنوف المرافق5، وأنواع الأثاث والزخارف، وما نحن فيه من التفنن في أحوال المجتمع والمعاش، فضلًا عما بلغ إليه أهل هذا العصر من التبسط في مناص العلم والصناعة، مما كان أولئك بمعزل عن جميعه، إلا ما حدث بعد ذلك في عهد استفحال الإسلام، مما ذهب عنا أكثره، وما كان فيه لو بلغ إلينا إلا غناء قليل. ومهما يكن من حال أولئك القوم، وضيق مضطرب الحضارة عندهم، وما يجد في ألفاظهم من ألفاظه والتقصير عن حاجات هذا الزمن، فلا يتوهمن متوهم أن ذلك وارد على اللغة من هرم أدركها، فقعد بها عن مجاراة الأحوال المصرية، وأناخ بها في ساقة الألسنة الحالية6، فإن معنى الهرم7 في اللغة أن يحدث عند المتكلمين بها معانٍ قد خلت ألفاظها

_ 1 الأديم: الجلد. 2 الباري: الحصير المنسوج من القصب. 3 البلاس: بساط نسج من شعر الماعز. 4 القصب: القدح الضخم يصنع من الخشب. الجفنة: القصعة الكبيرة. 5 المرافق: الأشياء التي ينتفع بها. 6 ساقة الألسنة: أي مؤخرة اللغات. 7 الهرم: الشيخوخة.

عنها، ثم تضيق أوضاعها من إحداث1 ألفاظ تؤدي بها تلك المعاني، فيطرأ على اللغة النقض حينا بعد حين، إلى أن تعجز عن أداء أغراض أهلها، ولا تبقى صالحة للاستعمال، وحينئذ فلا ينبغي ألا إن يلقى حبلها على غازبها2، أو يستعان بغيرها على سد ما عرض فيها من الخلل، بما يغير من ديباجتها، وينكر أسلوب وضعها حتى تتبدل هيئاتها على الزمن، وتصير على الجملة لغة أخرى. وليس بمنكر أن ما وصفناه من هذه الحال يشبه في بادئ الرأي ما تشاهده من حال لغتنا اليوم، وما لم نزل ننعاه عليها منذ حين من تقصيرها عن الوفاء بمطالبنا العصرية، إلا أن ذلك إذا استغربت أوجهه وأسبابه، وسبرت غور اللغة في نفسها، وقست مبلغ استعدادها، علمت أنه ليس منها في شيء، وأيقنت أنها لا تزال في ريعان شبابها وطور ترعرها، وأن فيها بقية صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة، ولكن ما أدركها من ذلك وارد من قبل الأمة، وتخلفها في حلبة الحضارة والمدنية؛ إذ اللغة بأهلها تشب بشبابهم، وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم. وبدهي أن اللغة توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها، وقد اختصت هذه اللغة بمزية عز أن توجد في غيرها، وهي أن أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي، بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعًا، إلا أنها من أكثرهن صيغًا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب، فضلًا عما فيه من تشعب طرق المجاز. واعتبر ما ذكرناه من ذلك بالرجوع إلى ما كان عليه من اللغة زمن

_ 1 إحداث: وضع. 2 يلقى حبلها على غارمها: أي تترك وشأنها، تذهب حيث شاءت، والغارب: رقبة الجمل، وهو تعبير صحراوي.

الجاهلية وفي صدر الإسلام، ومقابلتها بما بلغت إليه على عهد الخلفاء من بني العباس، بعد سكوت الغارات واستتباب الفتوح، وتنبه الأمة لطلب العلوم، وتبسطها في فنون الحضارة، بحيث خرجوا بها من حال الخشونة اليدوية إلى أبعد مذاهب المدنية الشائقة لعهدها إذ ذاك، ولم يكادون يدخلون فيها لفظًا أعجميًّا1، وإلا اضطروا فيها إلى وضع جديد، ولكنها خدمتهم بنفس أوضاعها التي وضعها العرب، فاشتقوا منها ما لا عهد به للعرب على وجهه الذي نقلوه إليه، ولا نتكلم به أصلًا، حتى أحاطوا بصناعة الفرس وعلوم اليونان، وأدخلوا كثيرًا من مصطلحات الأمم التي اجتاحوها2 شرقًا وغربًا، وزادوا على ذلك كله ما استنبطوه3 بأنفسهم. واللغة شايعة لهم في كل ما أخذوا فيه، لم تنضب مواردها دونهم، ولا رأينا من شكا منهم عجزًا ولا تقصيرًا، إلى أن أدركهم من تبدل الأطوار، وغارات الأقدار، ما وقف بهم عند ذلك الحد، فوقفت اللغة عندما نراه فيما وصل إلينا من كتبهم. وتوالى الاجتياح بعد ذلك على الأمة، وتتابعت دواعي الدمار، حتى اندرست أعلام حضارتها، وذهبت علومها أدراج الرياح، فزال أكثر اللغة من ألسنتها بزوال معانيها، حتى صار الموجود منها اليوم لا يقوم بخدمة أمة متمدنة، ولا هو أهل لأن يبلغ به ما منزلته تلك، ولذلك فإن كان ثمة هرم فإنما هو في اللغة لا في اللغة؛ لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاحق بها، ولا ملحق بها وهنًا ولا عجزًا4، وإنما هو عجز في ألسنة الأمة ومداركها، وتأخر في أحوالها واستعدادها. ولو صادفت من أهلها البقاء على عهد أسلافهم من السعي في سبل الحضارة وتوسيع نطاق العلم، لم تقصر عن مشايعتهم في كل ما فاتهم من الأطوار، حتى تبلغ بهم إلى مجاراة العصر الحاضر.

_ 1 يستثنى من ذلك كتب الطب. 2 اجتاحوها: دخلوها بعامل الفتح. 3 استنبطوه: اخترعوه بأنفسهم. 4 الوهن: الضعف والتعب.

ولقد أتى على اللغة مئات من السنين بعد ذلك لم يزد فيها حرف بل لم يكد يحفظ منها ما يزيد على الحوائج البيئية والسوقية، وعلى تناقض وتراجع عددها يومًا بعد يوم، بما طرأ1 على أهلها من الضغط والفاقة2، وما اتصل بذلك من استيلاء الجهل، وتقلص العمران، وذهاب الحضارة من بينهم، حتى عادت حوائج كثير من أهل المدن الحافلة لا تكاد تتعدى حوائج البدوي والأَكَّار3. وما دامت المعاني التي يعبر عنها باللغة معدومة، فلا سبيل إلى الألفاظ الدالة عليها؛ إذ اللفظ إنما يتخذ للعبارة عن الخواطر التي في التنفس، فلا يكون إلا على قدرها بالضرورة، وزاد على ذلك كله ذهاب ما كتب المتقدمون، بعضه بالإحراق كما تم في مكتبة قرطبة، وكان هذا في مقابلة ما وقع من مثله بالإسكندرية وفارس4، وبعضه بالاجتياح5 والنهب، فلا بقي في مكانه ينتفع به المتأخر، ولا احتفظ به الذي نهبه لجهله قيمته. وبقي الشيء اليسير نجده اليوم في مكاتب الأعاجم، وأكثره مما اشترى من أيدينا بالذهب. فلا غرو أن نشأ عن تلك أحوال كلها ذهاب هذه الأمة من ألسنة الأعقاب حتى لو رام أحدنا إثارة دفائنها وتعهدها بالتجديد والإحياء، لما وجد منها في البلاد إلا الشيء النزر6 لا يعدو في الغالب علوم الدين، وما يتصل بها مما لم يكد أهل بلادنا، يحافظون على سواه"7. يؤكد اليازجي في مقاله أن اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما توالدت ألفاظها حسب الحاجة؛ كي تؤدي ما يحتاجه الناس عملًا بسنة الاشتقاق والوضع والارتجال، فكشف النقاب عن إمكانيات اللغة العربية على استيعاب جميع المدنيات. والمقال يبرز قدرة اليازجي على توضيح ما يدور بخلده دون اللجوء إلى المترادفات في إبراز فكرته، وتصوير خواطره.

_ 1 طرأ على أهلها: أصاب أهلها. 2 الفاقة: الحاجة والفقر. 3 الأَكَّار: الْحَرَّاث. 4 فارس: بلاد إيران "العجم". 5 الاجتياح: فتح الجيوش للبلاد، والدخول إليها عَنْوَةً. 6 النزر: القليل اليسير. 7 راجع إبراهيم اليازجي ص81- 87 العدد 14 من سلسلة نوابغ الفكر.

ثالثا: محمد إبراهيم المويلحي 1858-1930

ثالثًا: محمد إبراهيم المويلحي 1858-1930 كانت من الطراز الأول، وفي طليعة الأدباء الذين عرفهم الأدب العربي، ومن أعلام البيان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أتيح له من عوامل الوراثة والثقافة، ما جعل الأدب يترقب منه عملًا مجيدًا. فوالده إبراهيم المويلحي المتوفَّى 1906، قال الإمام محمد عبده عنه: إنه حافظ العصر؛ لتمكنه من فنون الأدب، وسعة اطلاعه، وقدرته الإنشائية. ولد محمد المويلحي بالقاهرة، ونشأ في بيت ثراء وأدب، ولم ينل من التعليم سوى الابتدائية، ثم جلب والداه الأساتذه له -كأبناء العلبة- حتى شغف بالمعرفة، واستظهر عيون الأدب، واستفاد من تلمذته على يد جمال الدين الأفغاني، وصحب كبار أدباء عصره، وكان يجيد اللغة الفرنسية والإيطالية، بجانب إلمامه بالإنجليزية واللاتينية. ومن ثم جمع بين الثقافتين العربية العميقة، والثقافة الغربية الحديثة، فجاء أدبه مزيجًا من الثقافتين، كما هو واضح في كتابه "عيسى بن هشام". أسلوب المويلحي من خلال كتابه عيسى بن هشام: ترسم المويلحي فيه خطى المجددين في رسم المواقف، وتصوير الشخصيات، وإجراء الحوار الطويل، فاحتل الصدارة في باب الأدب، أو القصة الاجتماعية أو الرحلات، أو صور الحياة أو وصف المجتمع سميه كما نشاء. والكتاب لوحات مختلفة من المقالات المسجوعة حينًا، والمرسلة حينًا آخر، تعطي صورة جامعة عن مصر خلال القرن التاسع عشر بأهلها

وعاداتها، وموضوعاتها، ومجتمعها، وكل لون من ألوان الحياة فيها، فلم يترك عظيمًا ولا حقيرًا، ولا تاجرًا ولا عمدة، ولا خليمًا ولا محاميًا ولا شرطيًّا إلا صورة أدق تصوير. يتسم الكتاب بروح مصرية خالصة، تتميز بصدقها ودعابتها، ويجمع بين الترسل والسعي دون تكلف ألوان البديع، وبهرجة الألفاظ وزخرفة الكلام، ولا يعتبر الكتاب قصة بالمعنى الفني الحديث لخلوه من العقدة وترابط الأحداث، وإنما هو شبه قصة لظهور شخصية "الباشا" و"عيسى بن هشام" في كل فصل من فصوله، وينفرد المويلحي بإنشائه الرفيع، وتعبيره الصادق، وأسلوبه الأدبي الجميل، ودقته وملاحظته، ونظرته الفاحصة في أصول المجتمع، وأهم ما يميز أسلوبه في إطاره اللغوي: 1- اللجوء إلى الأسلوب القصصي المسجوع في الوصف الخالص، وإلى الأسلوب المرسل في الحوادث والحوار. 2- تمتاز سجعته بالمتانة، وآراؤه بالبراعة، وتعبيره بالقوة، وتصويره بالجمال، فيأتي أسلوبه محكم الأسر، متين الحبكة. 3- السهولة والوضوح -أحيانًا- حتى يقترب إلى حد كبير من الحديث الصحفي المباشر. 4- يتسم بروح نقدية بناءة، دون التعرض لحرمات أي شخص، بجرأة فائقة، وحرية تامة، وبصيرة نافذة. 5- استخدام بعض الكلمات الدخيلة إذا اقتضتها ضرورة، أو فرضتها ظروف، أو حين التندر. 6- يتميز بقوة الملاحظة، وشدة التغلغل في صميم الحياة خاصة ما يتعلق بمصالح الجماهير، ويرتبط بها ارتباطًا قويًّا. 7- كثرة الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري. برسم المويلحي في كتابه "عيسى بن هشام" صورًا بارعة، ومن بديع رسوم صورة "المحامي الشرعي" الذي قصده "المنيكلي" مع

"عيسى بن هشام" للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى بن هشام على هذه الصورة الفريدة. المحامي: قولا لي: ما حقكم في الوقف؟ وما شرط الواقف؟ وكم يقدر ثمن العين؟ لتقدر الأتعاب بحسبه. عيسى بن هشام: إن لصحابي هذا وقفًا، عاقته عنه العوائق. فوضع سواه عليه يده، ويريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد. المحامي: سألتك: ما قيمة العين؟ عيسى بن هشام: لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف. المحامي: لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات. عيسى بن هشام: لا تشطط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق. غلام المحامي: وهل ينفع في رفع دعوى اعتذار بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا شغل له اشتراكات، ولكتبته والمحضرين "تطلعات" وأنى لكما بمثل مولانا الشيخ، يضمن ربح الدعوى، وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه، وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية، ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واسجلاب عناية القضاة. عيسى بن هشام: دونك هذه الدراهم التي معنا. فخذها الآن وتكتب لفا صكا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمون لديك على كل حال. المحامي: بعد أن استلم الدراهم يعدها، أنا أقبل منك هذا العدد القليل ابتغاء ما ادخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل"1.

_ 1 راجع: حديث عيسى بن هشام ص58، 59 طبعة 1969.

ويتوالى الحوار على هذه الصورة، فتقف على طباع المحامين الشرعيين، وطرق احتيالهم، لم يسجع المويلحي في هذه القطعة على طريقة المقامات، ومضى في وصف المحكمة الشرعية حين وصلها "عيسى بن هشام" مع صاحبه على هذا النمط فيقول: "ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سرج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب العلماء والأمراء في بعض مواكب الزينة والبهاء وسألنا: لمن هذه الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكتاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب، ونحونا نحو الباب في تلك الرحاب، فوجدنا شيخًا حنت ظهره السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه القمش والصمم، ولحج به الخوف، وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء، ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابون ويتشاتمون ويتلاكمون ويتلاطمون، ويبرقون ويرعدون, ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان، ويتساقطون على الأرض، وما زلنا نزاحم على الصعود في الدرج والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى من الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج في وسط الجمع المتلاحق، والمأزق المتضايق"1. وأوضح في الوصف -كما ترى- محاولة الإغراب باللفظ الفصيح، والسجع الرائق، وكأن المويلحي يعرض مهارته البيانية، وله في ذلك طرائف حين يصف روضًا أو هرمًا أو صبحًا، اسمعه يقول: "جلسنا نتجاذب أطراف الحديث من قديم الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في قودها، وبان أثره الواضح في جلدها، فبعثت بالعقود والقلائد

_ 1 راجع: المصدر السابق ص67 وما بعدها.

من الجواهر والفرائد، ونزعت عن صدرها كل منثور ومنظوم، من أزر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يدها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها، وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء، ترتعد متوكلة على عصا الجوزاء، وتردد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في خوف الفضاء، وقامت على بنات هزيل نائحة بالتشنج والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال إلى عرس اجتلاء، وتبدل النحيب بالغناء لأشرق عروس النهار وأسفار مليكة البدور والأقمار". حاول المويلحي في هذا الوصف أن يضع قطعة أدبية على غرار الطريقة القديمة التي يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصنعون، وكأنه يصف كل صباح وتأثيره في نفسه تأثيرًا خامسًا، فأفرده بالوصف الدقيق، والتصوير الرائع، والتعبير البليغ. "ومن الحق أنه وسع جنيات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع، فأثر فيه طريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور، والشخصيات تصور نزعاتها النفسية في المواقف المختلفة، ومن حين لآخر تشاهد ضروبًا من الصراع، كما تشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات، ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها، يستمده من الواقع المحلي، ونظم البيئة المصرية إلا أن ذلك كله وضع في إطار المقامة الضيق بسجعه"1. وهكذا عني نفر من الكتاب في مطلع هذه النهضة بالألفاظ العربية الفصيحة التي لا تدور على الألسنة كثيرًا، ولم تألفها الأسماع إلا قليلًا، واتخذوا إطارًا لغويًّا في كتاباتهم، وما فاضت به خواطرهم، ودبجه

_ 1 راجع: الأدب العربي المعاصر في مصر ص 241 د. شوقي ضيف، الطبعة الثالثة.

أقلامهم، وجادت به قرائحهم، ولا ينكر باحث دورهم في العناية باللغة والمحافظة عليها، وإزالة العقبات في طريق نموها وارتقائها والنهوض بها، حتى تواكب اللغات الحية في جميع العلوم العصرية. وبهذا تدرك حرص هؤلاء الرواد وغيرهم على إثراء اللغة العربية ببعث دفائنها، ووضع المصطلحات لمستحدثاتها، حتى تنمو عن طريق استعمال الألفاظ والأساليب الفصيحة التي لم يألفها معاصروهم من الكتاب.

الفصل الثاني: المقال وأسلوب الاصلاح الاجتماعي

الفصل الثاني: المقال وأسلوب الاصلاح الاجتماعي مدخل ... الفصل الثاني: المقال وأسلوب الإصلاح الاجتماعي بداية الدعوة إلى الإصلاح: استهدفت الدعوات الفكرية والدينية التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي التحرر من الاستبداد والنفوذ الأجنبي. وبدأت الدعوة إلى الإصلاح بظهور جمال الدين الأفغاني بالمشرق وإقامته في مصر 1871-1879، والتفات الشباب المتفتح حوله، مما أتاح له بعث الوعي القومي في النفوس، ونشر الدعوة إلى الإصلاح في مختلف ميادين الفكر والصحافة والوطنية والتعليم، ومن هنا برز التفكير في رد التيار الأوربي، والتف الناس حول القادة والمصلحين على رأسهم جمال الدين ذي الطبع الثوري، ومحمد عبده ذي الطبع الهادئ، وبذا برز اتجاهان في الدعوة إلى الإصلاح العام: الأول: يرى الثورة وسيلة للإصلاح السياسي والحكم الديمقراطي؛ إذ بهما تتطور الحياة كلها، وأيد هذا الاتجاه جمال الدين، وعبد الرحمن الكواكبي، وأديب إسحاق، ومصطفى كامل، وغيرهم. الثاني: يرى أن الترقي في الإصلاح أفضل من الطفرة، والإصلاح الاجتماعي والثقافي يحققان الإصلاح العام، بعد أن يدرك الشعب الواعي حقوقه، وأيد هذا الاتجاه الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم وعلي مبارك وأحمد لطفي السيد وعبد العزيز جاويش وغيرهم. ولم تلبث دعوة الإصلاح أن حمل لواءها العديد من المنتمين إلى المدارس

والأحزاب والجماعات في الوطن العربي كله، وسار تيار ينادي بالحرية والتخلص من النفوذ الأجنبي، والتحرر من الاستبداد السياسي. وانطبعت دعوة الإصلاح في مصر بطابع إسلامي واضح، وبرز في ظلها التيار القومي متميزًا بملامحه في كتابات مصطفى كامل في الصحف ودعوته لحضور المؤتمرات في أوربا 1893، وإنشاء جريدة "اللواء" 1900، وإعلان قيام الحزب الوطني رسميًّا 1907. وأخذ يثير حماس الجماهير بعباراته الوطنية التي تؤجج العواطف مثل: "بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وحياتي، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر". وفي الشام -سوريا ولبنان- بدأت حركة كيان الأمة والوطن التي تطورت 1914 في قرارات المؤتمر العربي الأول الذي عقد بباريس إلى قيام "الحكومة المركزية" التي تعطي للوطن السوري مقدراته السياسية دون الانفصال عن كيان الدولة العثمانية، ولعل السر في ذلك أن علاقة مصر والشام بالدولة العثمانية لم تكن علاقة الدولة المستعمرة بدولة محتلة. وحرص المصلحون في دعواتهم على دعم الروابط مع الدولة العثمانية -رغم أخطائها- من أجل القضاء على مؤامرة النفوذ الأجنبي وخطته في تقسيم ميراث الدولة العثمانية الذي تحقق قبيل الحرب العالمية الأولى، حيث وقعت العراق في قبضة بريطانيا، وسوريا ولبنان في قبضة فرنسا، ومنح اليهود وعد بلفور لإقامة دول فلسطين، وقبل ذلك سقطت مصر والسودان 1882، كما استولى الفرنسيون على الجزائر 1830 وتونس 1882 والمغرب 1912، واحتل الإيطاليون ليبيا. وهكذا امتلأ العصر بالأحداث، وعج بالثورات، وترددت فيه أسماء العديد من المصلحين من أمثال جمال الدين الأفغاني المصلح السياسي والاجتماعي، ومحمد عبده المصلح الديني، وعبد الله النديم المصلح السياسي الاجتماعي، وأديب إسحاق صاحب الدعوة إلى مجانية التعليم، وعاشق الحرية، وقاسم أمين محرر المرأة 1898، وعبد العزيز جاويش من رواد الإصلاح الاجتماعي، وغيرهم.

أولا: عبد الرحمن الكواكبي 1848-1902

أولًا: عبد الرحمن الكواكبي 1848-1902 مصلح اجتماعي وداعية من دعاة الإسلام، لعب دورًا هامًّا في يقظة الأمة العربية بكتاباته الإصلاحية التي تحمل مبادئه، وتعبر عن عروبته ووعيه، وتعرب عن مشاعره وأحاسيسه. أدرك الناس عبقريته، وعرفوا منزلته في عالم الأدب ودنيا السياسة منذ دبج يراعه مقالات اجتماعية وبحوث تتناول وجوه الإصلاح المختلفة في صحيفة "الشهباء" 1878 و"الاعتدال" 1879. ركز فيها على مواطن الداء في الوطن العربي، واستقصى العلاج الحاسم للانحطاط الذي ران على الأمة العربية. كانت صيحة الكواكبي الإصلاحية بداية صرخة كبرى في وجه الظلم والطغيان والاستقلال والرشوة وواد الحريات، مما أشاع جوًّا قائمًا ومناخًا كافيًا في ربوع الشام وشتى بلاد العروبة والإسلام. ومنذ استقر بمصر، أخذ ينشر مقالاته عن الاستبداد الذي شهدته البلاد العربية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909، وهاجم العثمانيين وسياستهم في الحكم على صفحات جريدة "المؤيد" يوقعها باسم اتخذه رمزًا لنفسه "الرحالة كاف" وهي التي سميت -فيما بعد- طبائع الاستبداد. جاءت كتابات الكواكبي نبراسًا يستضاء به في مرحلة حاسمة، نفرض تجمع أسباب القوة والعزة والتخلص من كل دعوة يأس وهمسة شك في مقدراتنا العربية وقدراتنا الإسلامية، مما دفع شباب العرب إلى الإقبال عليها إقبال الصدى على الماء القراح. أسلوب الكواكبي: جمعت المقالات والبحوث التي نشرها الكواكبي في الجرائد والمجالات في كتابين: أحدهما يسمى أم القرى -مكة المكرمة- تضمنت مقالاته نقدًا للشعوب الإسلامية، وكتبت قبل مجيئه إلى مصر. والآخر يسمى "طبائع الاستبداد" وتناولت مقالاته نقد الحكومات الإسلامية. وصف كامل الغزي أسلوب الكواكبي في مقالاته هذه فقال: "كان يختار للمعنى لفظًا على قدر

المعنى لا يضيق ولا يتسع لغيره، وهذه هي البراعة في اللغة وما تؤلفه مفرداتها من المركبات الإسنادية، وكان لا يعبأ بزخرفة الألفاظ، ولا يكثر من الاستعارة"1. وأهم ما يميز أسلوب الكواكبي في كتاباته ما يلي: 1- قوة التفكير، وسلامة التصوير، وسعة الاطلاع، وابتكار المعاني، وصدق الغيرة على العالم الإسلامي. 2- القدرة على النقد والتمحيص، وإقامة البراهين والحجج، فيما يريد إثباته أو يحاول نفيه. 3- السهولة في الألفاظ، والدقة في اختيار الكلمات، والجودة في التعبير مع البعد عن الغريب. 4- الترسل في عباراته دون الالتزام بالمحسنات التي ميزت كتاب عصره. 5- استعمال الأسلوب العلمي المتأدب، حين يوضح ظواهر اجتماعية أو مشاكل عصرية. تحدث الكواكبي عن "الاستبداد" وأثره في ضعف الأمة الإسلامية فقال: "من أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب إرادة، وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد به، ويعيش كالريش يهب حيث تهب الريح بلا نظام ولا إرادة، وما هي الإرادة؟ هي ناموس الأخلاق. هي ما قيل فيها تعظيمًا لشأنها، لو جازت عبادة غير الله لاختيار العقلاء عبادة الإرادة هي تلك الصفة التي تفضل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك الإرادة، وأسير الاستبداد النافذ الإرادة، مسلوب حق الحيوانية فضلًا عن الإنسانية. الاستبداد مفسد للدين وذلك في أهم قسيمه -أي الأخلاق- وأما العبادات فإنه لا يمسها؛ لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم

_ 1 راجع: مجلة الحديث ص404 وما بعدها، العدد السادس 1929.

المأسورة عبادة من عبادات مجردة صارت عادات، فلا تفيد تطهير النفوس شيئًا، ولا تنهى عن فحشاء ولا عن منكر، وذلك لفقد الإخلاص فيها تبعًا لفقدها في النفوس. والاستبداد مفسد للتربية والأخلاق؛ لأنه يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتخيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس وأمانة التنفس ... إلخ. وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد سلاسل من حديد يرتبط بها الأدباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق، فالتوالد زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف.. وغالب الإسراء لا يدفعهم للتوالد قصد الإخصاب، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم، وأنهم محرمون من كل الملذات الحقيقية كلذة العلم، ولذة المجد، ولذة الإثراء، ولذة البذل. والاستبداد يفسد الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، ويقلب الحقائق في الأذهان, وينزل بالإنسان إلى مستوى البهائم". ثم قال: "والاستبداد مفسد لدولاب العمل نفسه في الحكومات، فالحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار دولته. إن العقل والتاريخ والعيان: كل يشهد بأن الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه من الوزراء يكون دونه لؤمًا، وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات.. والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الدولة، كما هو الحال في الحكومات الدستورية". ثم يقول الكواكبي بعد هذا كله: "ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرًا، وأوزتاده عملًا، فهم رباط المستبد، يذلهم فيثنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يكثر الذل بين الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتجنب إليهم بعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغتصب قلوبهم التي يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافون خوف دناءة ونذالة، فهم لا يخسرون على الافتكار فضلًا عن الأفكار، وكأنهم يتوهمون أن في داخل رءوسهم جواسيس عليهم"1. وهكذا وضع الكواكبي أن الاستبداد قتل مواهب الأمة الإسلامية، وأفسد كل شيء فيها، وفي مقدمتها الحرية، حتى ضعفت وهان شأنها، وهبطت مرتبتها إلى الحد الذي أزرى بها بين الأمم، وأشار إلى طريق الخلاص من الاستبداد في الأمة فقال: "إن الوسيلة الوحيدة لقطع داء الاستبداد هي ترقية الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم". وبذا كان الكواكبي زعيمًا من زعماء الإصلاح الاجتماعي والدين، حرص في كل كتاباته أن يركز على وصف العلة، ويدور حديثها حولها حتى يوضح آثارها السيئة على الفرد والجماعة والمجتمع، فينتبه المواطن لخطرها، فيبتعد عنها ويتخلص منها، وحينئذ يصبح المجتمع نقيًّا نظيفًا.

_ 1 راجع: طبائع الاستبداد ص93 وما بعدها.

ثانيأ: قاسم أمين 1863-1908

ثانيًا: قاسم أمين 1863-1908 كاتب صنعته أحداث عصره، ومصلح واعٍ لمشاكل مجتمعه، عمقته ثقافته الواسعة، وتجاربه العديدة، واطلاعه على الحياة الاجتماعية في بيئات مختلفة، بدت بواكير نزعاته الإصلاحية منذ رد على مفتريات "الدوق داركوه" الفرنسي الذي زعم انصراف المصريين عن حب المغامرة وحجاب المرأة المصرية. كشف النقاب عن عيوب مجتمعه بسلسلة من المقالات، نشرها بجريدة "المؤيد" متتابعة حتى 1898. ودارت حول المال والوجوه التي ينبغي أن يصرف فيها، وأسس التربية السليمة، وأنانية موظفي الدولة التي أعمتهم عن كل حب إلا حبهم لأنفسهم، وهي التي جمعت -فيما بعد- في كتابه "أسباب ونتائج، وأخلاق ومواعظ".

اتجه إلى تحرير المرأة التي تكون نصف الأمة، فبدأ يهيئ الأفكار للإصلاح الاجتماعي بسلسلة من المقالات بجريدة "المؤيد" 1898، دعا فيها إلى تعليم الفتاة حتى تتمكن من العمل في وظيفة تحول دون ترديها في الرذيلة، وربط عملها بالضرورة كان يموت زوجها أن يكون فقيرًا، أو لم تتزوج وليس لها من يعلوها، واستهدف من دعوته رفع قيمة المرأة وصون كرامتها؛ لأن المرأة المتعلمة تخشى عواقب الأمور من الجاهلة. واهتم بموضوع يمس جوهر الحياة الاجتماعية الإسلامية، وهو الحجاب، واعتبره أصلًا من أصول الأدب بشرط مطابقته لما جاءت الشريعة الإسلامية به، لا ما يتعارف الناس عليه من مغالاة مبالغة، ثم انتقل بعد ذلك إلى موضوع المرأة والأمة، رد فيه ضعف الأمة الإسلامية إلى ضعف العقل والانصراف عن العلوم العصرية، ورأى أن نجاة الأمة يكمن في استجماع قواها، لا سيما قوة العقل والعلم التي هي أساس كل قوة، ولن تحقق النهضة العلمية الشاملة إلا بتربية المرأة تربية سليمة حتى تشرق الشمس علينا مرة أخرى. أسلوب قاسم أمين: كان قاسم أمين مرهف الإحساس، يتأثر بما حوله، ويخترن ما يتلقفه خاطره، ثم يصوغه تجارب أدبية في أسلوب مشرق، خالٍ من قيود الصنعة، متحرر من كل قيد، ولقد عبر عن موقعه من أسلوب الكتاب في عصره فقال: "الكاتب الحقيقي يجتنب استعمال المترادفات، فلا يأتي باسمين مختلفين لمعنى واحد في مكان واحد؛ لأن ذلك يكون حشوًا في الكلام مستهجنًا، ودليلًا على فقر الفكر والخيال، ولكن إذا كان المقال يستدعي ذكر عدة معانٍ متقاربة يجمعها معنى واحد، فاستعمال المترادفات الموضوعية لها حسن، وقد يكون مطلوبًا إذا كان لازمًا لتسهيل فهمها أو إظهار الفروق التي بينها". ويتميز أسلوب قاسم أمين بما يلي: 1- التحلل من قيود الصنعة، والتحرر من كل قيد، فجاء سلسًا متدفقًا في حرية وانطلاق، لا تكلف يقيده، ولا زخارف تعوقه.

2- يعرب عن شخصية أدبية مرهفة، تتأثر وتنفعل بما تراه، وتعبر عنه في إطار عربي سليم يكشف عن ثقافة عريضة وعقل كبير. 3- الاهتمام بوصف الأجزاء الصغيرة، والدقة في رسم معالم الصورة التي يشخصها، والشخصية التي يتحدث عنها كأنها أمامنا. 4- استعمال كلمات دارجة مثل: "غيط ونكش" وإن كانت عربية صحيحة، واستخدام كلمات عربية في تركيب دارج مثل: "آه يا عيني". 5- يسوده الجدل المنطقي في مقالات تحرير المرأة والمرأة الجديدة، فتراه يذكر القضية، ويناقش جزئياتها، ويدعمها بالحجج والبراهين، حتى يقنع المعارضين بما يراه. 6- يستوعب جلائل الأعمال ودقائق الأمور، ويقسم الفكرة إلى جزئيات ثم يناقش كل وحدة على حدة حتى تتجمع الصورة الكلية في الإطار العام. 7- يتضمن حِكَمًا فلسفية هي خلاصة تجارب عاناها في حياته، تركزت في كلمات تدل على عميق إحساسه، وقربها من النفوس؛ لأنها مستمدة من البيئة المصرية الحديثة مثل: "النفس الضعيفة تنحني للقوى، وتنكمش أمام الظالم، وتهاب كل مصاحب سلطة". 8- كثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم في مواقف عديدة، نظرًا لثقافته الدينية وطبيعة الموضوع الذي يعالجه، كما هو واضح في مقالات "أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ". نسوق إليك فقرات من كتاباته الصحفية التي ضمها كتابه "تحرير المرأة" يقول عن مساواة المرأة بالرجل في التعليم: "يجب أن تتعلم كل ما ينبغي أن يتعلم الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوتها منها

وإنقانه بالاشتغال به متى شاءت"1. وتشتعل حماسته حين يتصور المرأة زوجة فيقول: "ترى نساءنا يمدحن رجالًا لا يقبل رجل شريف أن يمد يده لهم ليصافحهم، ويكرهن آخرين ممن نعتبر وجودهم شرفًا لنا؛ ذلك لأن المرأة الجاهلة تحكم على الرجل بقدر عقلها. فأحسن رجل عندها هو من يلاعبها طول النهار وطول الليل ويكون عنده ما لا يفنى لقضاء ما تشتهيه من الملابس والحلي والحلوى، وأبغض الرجال عندها من يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه"2. ويرى أن التعليم يرد إلى المرأة شخصيتها، ويسمح له بالتفكير السليم ويصون كرامتها فيقول: "والمعول في كل ذلك على الأخلاق التي نشأت عليها المرأة في تربيتها الابتدائية. فإن اعتادت على أن تشغل أوقاتها بالمطالعة ومزاولة الأعمال المنزلية، وتربت بين أهل وعشيرة رأت فيهم أسوة الجد والاستقامة، وغاب من بينهم كل ما يؤثر في مشاعرهم أثرًا غير صالح أو يهيج حسها إلى أمر غير لائق، وتعودت على أن تقيم من عقلها حاكمًا على قواها الحسية، كان النادر أن تحيد عن الطريق المستقيم وأن تلقي بنفسها في غمرات الشهوات التي لا تسلم مهما كانت من الخطر والعذاب والندم، وبالجملة فإنا نرى أن تربية العقل والأخلاق تصون المرأة ولا يصونها الجهل، بل هي الوسيلة العظمى لأن يكون في الأمة نساء يعرفن قيمة الشرف وطرق المحافظة عليه، وأرى أن من يعتمد على جهل امراته مثله كمثل أعمى يقود أعمى مصيرهما أن يترديا في أول حفرة تصادفهما في الطريق"3. ويرى أن الحجاب أصل من أصول الأدب، ومن مفاهيمه قصر المرأة في البيت وبعد الرجال عنها، وعلى الرغم من أن نساء النبي مأمورات بالاستقرار في بيوتهن فإنه يشير إلى عدم: "المساواة في هذا الحكم، وينبهنا إلى أن في

_ 1 راجع: تحرير المرأة ص18. 2 راجع: تحرير المرأة ص34. 3 نفس المرجع السابق ص51.

عدم الحجاب حكمًا ينبغي لنا اعتبارها واحترامها، وليس من الصواب تعطيل تلك الحكم لاتباع الأسوة، وكما يحسن التوسع فيما فيه تيسير أو تخفيف، كذلك لا يجمل الغلو فيما فيه تشديد وتضييق أو تعطيل لشيء من مصالح الحياة"1. ويستثير النخوة ويستحث المشاعر فيقول: "أليس من الغريب ألا يوجد رجل فينا يثق بامرأة أبدا مهما اختبرها، ومهما عاشت معه؟! أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟! متى خرج أحدنا من منزله أو سمح لامراته أن تخرج بسبب من الأسباب؟ فعلامَ يتكل أن لم يكن على صيانتها وحفظها نفسها بنفسها؟ ثم ماذا يفيد الرجل أن يملك جسم امرأته وحده إذا غاب عنه قلبها"2. وينذر من لم يقتنعوا بكتاباته في تحرير المرأة، حتى يشتد وقع كلماته وكأنها دقات طبول في ساعة الخطر فيقول: "طرقت ديارنا حوادث وداخلنا حرب من الاختلاط مع أمم كثيرة من الغربيين، ووجدت علائق بيننا وبينهم، علمتنا أنهم أرقى منا وأشد قوة، ومال ذلك بالجمهور الأغلب منا إلى تقليدهم في ظواهر عوائدهم خصوصًا إن كان ذلك إرضاء لشهوة أو إطلاقًا من قيد. فكان من ذلك أن كثيرًا من أعليائنا تساهلوا لزوجاتهم ومن يتصل بهم من النساء، وتسامحوا لهن في الخروج إلى المنتزهات وحضور التياترات ونحو ذلك، وقلدهن في ذلك كثير من يليهن، وعرض من هذه الحالة بعض فساد من الأخلاق"3. ويشير إلى تطور الحجاب من مرحلة إلى أخرى فيقول: "إني لا أقصد الآن رفع الحجاب دفعة واحدة، والنساء على ما هن عليه اليوم. فإن هذا الانقلاب ربما ينشأ عنه مفاسد جمة، لا يتأتى معها الوصول إلى الغرض المطلوب كما هو الشأن في كل انقلاب فجائي، وإنما الذي أميل إليه هو

_ 1 راجع: تحرير المرأة ص67. 2 المرجع السابق: ص80. 3 راجع: تحرير المرأة ص83.

إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير"1. وبعد مناقشته لمسألة الحجاب انتقل إلى موضوع المرأة والأمة، وهو أخطر الموضوعات وأكثرها أهمية، ورأى أنه السبيل لنهوض الأمة الإسلامية، فيقول: "لا سبيل إلى النجاة من الاضمحلال والفناء إلا طريق واحد لا مندوحة عنها، وهي أن تستعد الأمة لهذا القتال، وتأخذ له أهبتها، وتستجمع من القوى ما يساوي القوة التي تهاجمها من أي نوع كانت، خصوصًا تلك القوى المعنوية، وهي قوة العقل والعلم التي هي أساس كل قوة سواها. فإذا تعلمت الأمة كما يتعلم مزاحموها، وسلكت في التربية مسالكهم، وأخذت الأعمال مآخذهم، وتدرعت للكفاح بمثل ما تدرعوا به، أمكنها أن تعيش بجانبهم، بل تيسر لها أن تسابقهم فتسبقهم فتستأثر بالخير دونهم؛ لأن البلاد بلادها، وأرضها أبر بها منها بالغريب عنها، وأبناءها أقدر على المعيشة فيها"2. كان قاسم أمين صاحب نزعات إصلاحية منذ بدأ يعي ما حوله، ويدرك ما يدور في مجتمعه، فاهتم بكشف النقاب عن العيوب التي تعوق إصلاحه، وتقف أمام تقدمه، فكتب عدة مقالات هيأت النفوس للإصلاح الاجتماعي الذي دعا إليه، وركز عليه، وهو تحرير المرأة من قيود الجهل وعوامل التخلف ودواعي المغالاة في الحجاب، ودعا إلى تعليم الفتاة، ورمى من وراء ذلك رفع قيمة المرأة والحفاظ عليها، على اعتبار أن التعليم يكفل لها التفكير السليم، ويصون كرامتها، ويحميها من التردي في مهاوي الرذيلة.

_ 1 راجع: المرجع السابق ص92. 2 راجع: المرجع السابق ص95. 3 "يكن" كلمة تركية تعني "ابن الأخت" لقب بها ولي الدين؛ لأن جده ابن أخت محمد علي الذي حكم مصر في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، وأصبح اللقب اسمًا للعائلة.

ثالثا: ولي الدين عدلي يكن 873-1921 3

ثالثًا: ولي الدين عدلي يكن 873-1921 3 ولد بالأستانة وتربَّى بمصر، فحذق العربية، وأتقن التركية والعربية والفرنسية، ولم بالإنجليزية واليونانية، تمرس على الكتابة في الصحف، وشرع يكتب في السياسة والأدب والاجتماع في بعض الصحف مثل: القاهرة والنيل والمقياس، وعمد إلى متابعة كتاباته في جرائد أخرى مثل: المقطم والمشير وغيرهما محاربًا الظلم بأشكاله المختلفة، داعيًا إلى الإصلاح مما جعل السلطات تنفيه إلى "سيواس" بالأناضول، وظل بها حتى ظهور حركة المتحررين ضد سياسة عبد الحميد وإعلان الدستور 1908، ثم عاد إلى مصر. بعد عودته لمصر انصرف إلى تحرير مقالات في الأهرام والمؤيد والرائد المصري، ثم تولى تحرير "الإقدام" التي كانت تصدر في الإسكندرية، وكتب في مجلة "الزهور" زهاء أربع سنوات، ثم أصدر جريدة "الاستقامة" عرض فيها آراءه الإصلاحية، ونقد سياسة الحكام الظالمين؛ ولذا لم تعمر طويلًا. ترك ولي الدين يكن عددًا من الكتب معظمها مقالات نشرت في الصحف من مثل: المعلوم والمجهول، والصحائف السود، والتجاريب، وديوان شعر، قدم له صديقه أنطون الجميل، وله مؤلفات أخرى بين موضوع ومنقول، وتضافرت آراؤه في السياسة والأدب والاجتماع حتى أنها تؤلف أدبًا اجتماعيًّا هدفه المجتمع الحر الإنساني العادل الشريف، ففي السياسة يهدف إلى القضاء على الظلم المجسد في عبد الحميد وأعوانه، وفي أدبياته يدعو الشرق إلى الاهتمام بالأدب الحي اهتمام الغرب به، وهو في اجتماعياته يدعو إلى التحرر من الرجعية والتزمت. أسلوب ولي الدين يكن: آراء ولي الدين الجريئة في مقالاته، وعواطفه التي بثها في أبحاثه ترفعه إلى مراتب كبار الأدباء الاجتماعيين الداعيين إلى الإصلاح، وتجعله أساليبه التي وشى أدبه بها، وهو التركي، من حملة لواء البلاغة العربية؛ ولذا انفرد أسلوبه بالسمات التالية:

1- اتسامه بالشاعرية في كل خاطرة سجلها، أو فكرة نفث أدبه بها، ومن ثم وضحت في نثره أكثر منها في بعض شعره. 2- إيثار لوازم معينة في مواقف خاصة مثل قوله: "عندما يرى جهل الناس فيما يتعلق بهم" و"اسمعي يا أمم الشرق، واعجبي يا أمم الغرب" و"ميدي يا رواسي الأرض وأعلامها، وفيضي يا بحارها ويا أنهارها" ويصبح عندما يذكر نفي الجلادين له بالبوسفور فيقول: "يا حكماء الموت، هذا عجب الحلي من الشجي، ولعل لكم في ذمة الدهر مواقف مثل التي أنتم لها شاهدون". 3- الصراحة في إبداء الرأي، والجرأة في محاربة أعدائه، والثورة على الباطل في كل ما سطره من أدبيات وسياسات واجتماعيات. 4- تبدو بعض الصور الساخرة الدالة على ذهن حاد، وذكاء نقاد، مثل قوله للمتكبر الذي انشق بنطلونه من فرط مجلسه: " ... حتى انشق بنطلونه وأفتر عن بياض قميصه، فكان عابسًا من فوق، وباسمًا من تحت ... "، وقوله عن حديث النعمة: " ... كالخضاب على رأس الأصلع". 5- جزالة كلماته، وإحكام جمله، وأسر صوره، وصحة تراكيبه، وسلامة عباراته، وخفة وقعه. 6- يحمل نفسًا هائمة، وروحًا إنسانية، تطاول السماء، وتعانق الجوزاء. وتأمل ما جاء في مقاله عن "المرأة" لتدرك بنفسك مزايا أسلوبه يقول: "شهدت مصارع ثلاث نسوة، إحداهن قتلها الاستبداد، والثانية أرادها الجهل، والثالثة أودى بها الحجاب، قفل في ثلاثة أنجم طلقت بأفق الصيام ثم احتوائها الأفول، شباب تمضي أذوي ريب المنون بهاره1.

_ 1 البهار: الجمال.

وأنس قريب أبعدته وحشة القدر. فأما الذي قتلها الاستبداد فامرأة جركسية كانت مقيمة مع أهلها بقرية من قرى "العزيزية" التابعة لولاية "سيواس" اشتراها أحد رجال "س ... باشا" من أبيها بخمسة وعشرين جنيهًا، فلما قدم بها الأستانة على سيده أهداه إياها، فأسكنها حرمه وكساها وحلاها، حتى إذا خطرت لديه، رأى في مواطئ قدميها مواضع لحياة العاشقين، فخطب ودها، فنظرت إليه بعينين نجلاوتين1. وقالت: - مكاني في خدمة الأمير أحب إلي مما عداه. فما زاده ذلك إلا حبًّا لها، واستهتارًا بهواها، وما زادها إلا نفورًا منه وبغضًا، فتمكنت ذات يوم من إنفاد كتاب لأبيها، تشكو له ما تجد من اشتياقها إلى أمها وأخواتها، وتعلمه بما تحس به من اضمحلال قواها. فأصابت شكايتها موضع الرحمة من فؤاد أبيها، وأقام أيامًا يتزود للسفر إليها ... فلما عاد من سفرته، قالت له امرأته: "كيف حال من بعتها؟ " فقال: "رحمة الله عليها". وأما التي أرداها الجهل فغانية كتمثال فينوس، استصحبها أبوها إلى بيروت وهي في الخامسة من عمرها، وأدخلها هناك إحدى مدارس الراهبات أخذًا برأي صديق له. فلما أتمت علومها التي في مدرستها أخرجها أبوها، وقد بلغت الثالثة عشرة، وأوجب عليها الحجاب، ومجاورة البيت، ومتعها مطالعة الكتب الإفرنجية. وقد قالت له: "إذن لِمَ علمتني ما لا تريد أن أعمل به؟ " فقال لها: لي الأمر، وعليك السمع والطاعة. فبينما هي ذات يوم في غرفتها، إذا بأمها داخلة عليها، فما تقابل النظران إلا بادرت الأم إلى ابنتها قائلة: "جاء أبوك خاطب يخطبك منه"، فقالت الفتاة: "لا أريد الزواج" قالت الأم: "لكنه فتى جميل كأنه أحد أبناء الملوك" قالت الفتاة: "ما لي وجماله وغناه ومشابهته أبناء الملوك،

_ 1 نجلاوتين: واسعتين.

أنا لا أعرفه فلا أريده". ثم مضى شهران، وفي أول الثالث زفت المجهولة على المجهول، ثم مضى شهران، فدخل عليها زوجها يومًا، وفي يدها صورة رجل مكشوف الرأس، عليه ثياب قواد الجنود، وفي يده قبعة، فغار دم زوجها، وثار غضبه، وأدركته غيرة الزوج، فعمد إلى خنجر كان يحمله فشق به بطن امرأته، فإذا هي جسد بلا روح. ولما تأمل الناس ورجال القضاء الصورة التي أغضبت الزوج، إذا هي صورة واشنطن الشهير محيي مجد أمريكا. وأما التي قتلها الحجاب فلقد تزوجها رجل من أهل "أدنة" شديد الغيرة، دخلت بيته ليلة زفت إليه، ولم تخرج منه أبدًا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض، واشتد الألم، دعا زوجها طبيبًا وأخذ يصف له ما تشكوه، فقال: "أنا لا أداوي على السماع، ولا بد من رؤية المريضة، وفحص موضع العلة، فأبَى الزوج الأبي ذلك، وما مضت أيام قلائل إلا وقد أزروها في أكفانها، وشيعوها إلى منزلها الأبدي من ضريح إلى ضريح. وأعرف نوادر غير هذه لا أكلف نفسي ألم ذكرها، ولا أهب القراء كمد العلم بها. هذا فؤادي كالبركان، له أيام يثور فيها، وله أيام يسكن فيها، وكم لي عند الأيام من ثارات، ولكن ضعف الطالب وعز المطلوب. على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا على ولا ليا فواعجبا! الله يخلق هذه الصورة فيمسح عليها من الجمال ما يستخف لب الحكيم ويودع تلك الأرواح لطف الإلهام ونور اليقين، فإذا هي تكاملت في أشكالها، تخاطفتها أيدي المتغلبين فقالوا: "هذا متاع حسن ولهو، ومسكن لذة، ومستقر هوى! "ظلال في ظلال". أما لو كان في الغانيات مثل جورج ساند، ومثل مدام ذونو أي1 لتقاعست هم المستبدين. رأيت رجالًا يبذرون المال تبذيرًا، فإذا أقاموا

_ 1 أديبتان فرنسيتان شهيرتان.

الأفراح نصبوا السرادقات1، ورفعوا الأعلام، وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات، واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأة يعرفونها، خطبوها لأنها خلقت لتخطب، فإذا صارت في أيديهم أيامًا ملوا حديثها، وسئموا قربها، وراحوا يفتشون عن غيرها. فمثلهم كمثل الطفل المدلل يرى اللعبة، فيبكي لأبيه وأمه حتى يبتاعاها له. ثم لا يلبث أن يحطمها ويطرحها جانبًا، لياتيا له بغيرها. هذا عصر غارة شعواء، يشنها المجددون على شيعة الرأي القديم، وما ضرني، وقد اشتعل الرأس شيبًا، أن أتقدم صفوف الشباب، فإن لم أكن صاحب أمرهم، فما عليَّ أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب "تحرير المرأة"2 أن ينفض عنه تراب القبر، ويخرج إلى الأحياء ليرى مبلغ استفادتهم من رأيه، أما إنه لو فعل، ولن يفعل، وقرأ ما يكتبه قوم في إبقاء حجاب والتحكم على أمهات الأجيال الآتية، لكر راجعًا إلى مرقده، وأغمض عينيه حتى لا يرى، وأذنيه لكي لا يسمع، وأنشد قول الحكيم3: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد"4. عدلي يكن من كبار الأدباء الداعين إلى الإصلاح -رغم تركيته- ففي مجال الإصلاح السياسي، دعا إلى القضاء على الخليفة عبد الحميد وأعوانه، وفي مجال الإصلاح الاجتماعي، دعا إلى التحرر من الرجعية والتزمت.

_ 1 السرادقات: جمع سرادق وهو الخيمة. 2 تحرير المرأة: كتاب قاسم أمين. 3 هو أبو العلاء المعري. 4 راجع الصحائف السود ص10 وما بعدها.

رابعا: عبد العزيز جاويش 1876- 1929

رابعًا: عبد العزيز جاويش 1876- 1929 من رواد التربية والصحافة والاجتماع، استمد من ثقافة الإسلام والغرب تكاملًا عميقًا في مفاهيم النهضة، مما فتح أمامه آفاق العلم في مجال إنشاء الكنايات وبناء الأفراد. جمع في إهابه سمات شخصيات كبيرة، فقد ترسم خطى السابقين من المصلحين من أمثال: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وتخلق بخلق أحمد بن حنبل في احتمال المحنة، والغزالي في المزج بين الشكل والمضمون. دينه من خلق عمر من عبارته: "إن قول الحق لم يدع لي صديقًا"، وفيه من كلمات الأبرار: "إن سجني خلوة، وتغريبي سياحة، وقتلي شهادة". تألق نجمه في مجال الصحافة والسياسة والإصلاح منذ تولى تحرير جريدة "اللواء" 1908، فشغل الناس بآرائه الجريئة، وحملاته على الاحتلال والاستبداد الداخلي والمستوزرين، ولما ضاق الإنجليز بكتاباته، وأزعجهم أسلوبه قدموه إلى المحاكمة، وزجوه في غياهب السجن فظل به أربع سنوات من مايو 1908 إلى فبراير 1912، ومع ذلك ظل أخصب فكرًا، وأثرى إنتاجًا، حتى خلق مدرسة صحفية ذات إيمان صادق، مشى في ركابها أمين الرافعي، وصادق عنبر، وأحمد وفيق. ومن أروع ما دبجه براعه، وسال على شباة قلمه، وفاض به خاطره سلسلة من المقالات تحت عنوان "خير أنواع الحكومات" كشف فيها عن رأيه في نوع الحكومة التي تحتاجه مصر وبلاد الشرق والعالم الإسلامي. أسلوب جاويش: وصفه تلميذه طه حسين فقال: "كان عذب الروح، حلو الحديث في حذق واحتشام، شديد الحياء حتى ما يكاد يرفع بصره عن محدثه، وكان مع هذا حاد المزاج، يثور لأقل ما يتوهم فيه الفض من كرامته أو تهاون دينه، بل مخالفة رأيه، على أنه كان من صفاء النفس وطيبة القلب وخلوص النية بالمكان الرفع، سمحًا كريمًا يجود بقوته، ولو لم يكن سواه سبيل"1، وأهم ما يميز أسلوبه ويوضح طريقته في كتاباته الإصلاحية ما يلي:

_ 1 راجع ص212 من عبد العزيز جاويش، العدد 44 من سلسلة أعلام العرب، فقد نقل الأستاذ أنور الجندي النص من كتاب المفصل في الأدب طبعة 1934.

1- يعبر عن رأيه في القضايا الداخلية والخارجية بأسلوب رائع بليغ، يحمل طابع العصر. 2- يعرب عن شخصية إصلاحية باهرة، وكفاية علمية وروحية، وثقافة واسعة، وخبرة وتجربة نتيجة لرحالاته العديدة إلى أوربا وأمريكا. 3- عباراته واضحة وصريحة إلى أبعد حد وأوسع مدى، بحيث لا تغيب عن الأذهان، أو تبعد عن الوجدان. 4- تبدو فيه شدة العاطفة الدينية، والغيرة الوطنية، حتى تكاد تكون شهبًا وصواعق. 5- يجمع بين السماحة والصراحة، ويمزج بين الجاد والعنف، لكل موقعه وموضعه. 6- يبدو فيه إقدامه وإيمانه بما يكتب، وصلابته فيما يعالج، وصبره على المكاره والتضحية. هاجم الشيخ عبد العزيز جاويش التزوج بالأجنبيات، وصور الخلاف بين الأب والأم حول الثقافة والدين ومفاهيم الحياة فقال: "إن الكتابيات اللائي يجلبن من البلاد الأجنبية كفرنسا وإنجلترا نحوها ينشأن على ما نعلم من حب دينهن وبلادهن وجنسيتهن، وشدة تمسكهن بمبادئ أقوامهن، فهل يرجى أن ينشئن أولادهم من أزواجهن المصريين على المبادئ الوطنية الصحيحة؟! التي لا أراني في حاجة إلى الاستدلال على أنه لا يكون شيء سليم في بيت رئيسته أجنبية تحتقر البلاد وأهلها ولو كان منهم زوجها"1. ويشير إلى أن "المرأة المسلمة" هي المرأة الطبيعية الفطرية التي ضمن الإسلام لها نفقاتها وأسباب حياتها حتى تتمكن من أداء رسالتها الاجتماعية المطابقة لحالتها الطبيعية، ويرى أن الذين وضعوا برامج مدارس البنات لم يوفقوا في تقديم أنواع التربية السليمة؛ لأن الفتيات يخرجن من هذه المدارس: "معقودات اللسان، مغلولات اليد، مبغضات لكل ما له علاقة

_ 1 راجع: مجلة الهداية 1911.

بتدبير المنزل، ولا بد من أن نثقف الفتاة في أمور تدبير نفسها ومنزلها وولدها، وليست التربية الصحيحة هو حشو الأدمغة بمختلف المسائل ولكنها كما قال علماء التربية أن يثقف العقل حتى يمكن أن يتجه إلى المعلومات فيزنها بميزان الاعتبار، ويمعن فيها حتى لا يخفى عليه دقائقها وأن تهذب النفس بالأدب وجميل الحلال. إن الخبيرين بطرق التربية في مدارس الحكومة وغيرها لا يستطيعون أن ينكروا علينا أنه لا أثر فيها للتربية إنما هي ترويض وتذليل للنفوس بتعويدها الخوف والخنوع ولو بالباطل والتسليم بما يقال ولو كان كاذبًا، وبذلك تؤخذ البنات في مدارس الحكومة"1. ويشير إلى الغاية من تربية الفتاة فيقول: "ليس ذلك لأننا نريد أن نستخدمها طاهية أو خادمًا، ولكننا نقصد أن يكون منها رقيب يحاسب الخادمات والطاهيات إذا قصرن في أداء وظيفتهن ... "2. ولقد أولى الشيخ عبد العزيز جاويش اهتمامه بالمرأة المثقفة، وأنشأ فصلًا من كتاب "النسائيات" لباحثة البادية -ملك حفني ناصف- دعا فيه: "إلى ترجمة آثارها إلى اللغات الأجنبية ليقرأها الأوربيون ولا سيما نساؤهم، الذين يعتقدون أننا اليوم على ما كانت عليه جاهلينا"، وبذلك ضمت مجلة "الهداية" فصولًا عن الإصلاح الاجتماعي والعديد من قضايا علم النفس الحديث، ومسائل العمران. وكتب الشيخ جاويش مقالًا بجريدة "اللواء" الصادرة في 8 ديسمبر 1908 عنوانه: "مدرسو اللغة العربية المصريون في بلاد الإنجليز" جاء فيه: "نصح إليَّ مستر "دنلوب" أيام سافرت إلى أكسفورد، أن أقتدي بها أراه من الأخلاق الفاضلة في تلك الأمة العظيمة، فماذا جرى؟ ذهبت إلى تلك الديار فوجدت الناس متمسكين بدينهم، فزادوني تمسكًا بديني،

_ 1 المصدر السابق. 2 راجع: المصدر اللسابق.

رأيتهم شديدي الحرص على لغتهم، فزادوني حرصًا على لغتي، أبصرتهم يتفانون في الدفاع عن بلادهم، ويحرمون الأجانب من الاستيلاء على بعض شئونهم أو التصرف في أموالهم ورقابهم، فأخذت أحاكيهم في هذه البلاد السيئة الحظ بالاحتلال وأشياعه. رأيتهم يحبون الصراحة ولا يخشون معتبة ولا يتهيبون معتبة ما دام الحق لهم، فأخذت أحكايهم في تلك الفضائل التي نصح بها عمادهم بنظارة المعارف العمومية. أبصرتهم يحبون العمل ويكرهون الكسل ويحضون على الفضيلة، فعدت إلى بلادي ثم صرت أشتغل بهمة لا تعرف الملل ولا الانقطاع، فكان حقًّا على الإنجليز أن يرفعوا عقيرتهم. ويقوم خطباؤهم وشعراؤهم بالإفاضة والإسهاب في مدح من نجح في تقليدهم ومحاكاتهم في فضائلهم، ممن يرحلون إلى بلادهم من المصريين". الشيخ عبد العزيز جاويش شخصية إصلاحية باهرة، ذات كفاية علمية وثقافية عريضة، وخيرات عديدة، وتجارب متعددة، اكتسبها خلال رحلاته خارج وطنه بأوربا وأمريكا، ترسم الرجل خطى المصلحين من قبله، فجاء مذهبه الإصلاحي في التربية والاجتماع والسياسة خلاصة وافية لآرائهم الحرة، وأفكارهم النيرة، وحملاتهم المخلصة، ومن ثم كان اتجاهه في القضاء على الفساد والظلم، واهتمامه بضروب الإصلاح ووجوه التقويم، وتأليب النفوس على الاستعمار وأعوانه من المستوزرين وغيرهم ممن عاشوا في ركاب المستعمر. والذي يرجع إلى كتابات الشيخ عبد العزيز جاويش في مجال التربية والاجتماع والسياسة، يحس بإخلاصه في حملاته الإصلاحية التي تحمل غيرته ووطنيته وسلامة دينه. كما ضمت مجلته "الهداية" فصولًا فريدة في مجال الإصلاح الاجتماعي، كما عرض فيها قضايا عديدة في الاجتماع وعلم النفس ومسائل العمران، مما جعله مصلحًا اجتماعيًّا كبيرًا، وإماما دينيًّا عظيمًا، ورائدًا فريدًا عرفته نهضتنا العربية الحديثة.

الفصل الثالث: المقال والأسلوب الديني

الفصل الثالث: المقال والأسلوب الديني مدخل ... الفصل الثالث: المقال والأسلوب الديني دور الصحافة الدينية: لم يكن للصحافة الدينية أثر قبل الثورة العرابية، لكن وجود الشيخ محمد عبده على رأس تحرير "الوقائع المصرية" إبان الثورة يسر نشر خطب الخطباء في المساجد والمحافل التي تحث المصريين على الصبر والبذل في سبيل الدفاع عن الدين والأعراض، كما لم تطبع الصحف التي أنشئت في عهد إسماعيل بطابع إسلامي؛ نظرًا لما ران على القلوب والأبصار من غشاوة الجهل. وبدت الصحافة الدينية تنمو بوضوح الفكرة الإسلامية، وبث الوعي الإسلامي، وبرزت "العروة الوثقى" كوكبًا يبدد دياجير الظلام في سماء الصحافة الإسلامية، واهتمت بنشر الوعي بين المسلمين. وتعد الأعداد الثمانية عشر التي صدرت منها دستورًا لكل من يحاول إصلاح شأن الأمم الإسلامية، وجاء عددها الأول في 13 مارس 1884، والثامن عشر في 16 أكتوبر 1884، وتولت جماعة الشعوب الإسلامية إصدارها من مايو 1981. وبرز الاتجاه الديني في الصحافة المصرية بريادة الشيخ علي يوسف، فأنشأ جريدة "المؤيد" في أول ديسمبر 1889 وأستمرت حتى 1913. وعلى الرغم من أنها سياسية يومية تجارية، فقد اهتمت بنشر مقالات الشيخ محمد عبده في الرد على "هانوتو" وهاجمت مزاعم "كرومر" في

تقريره عن الإسلام، كما عنيت بدحض المفتريات على الدين، ودعت إلى التمسك بالخلافة العثمانية، وروجت لفكرة الجامعة الإسلامية. ثم كانت كبرى الصحف الدينية "المنار" التي أنشأها السيد محمد رشيد رضا 1898، وأخذت تبرز مزايا الدين، وتحض على بعث ماضي المسلمين المجيد، وتنشر آراء الحكيمين: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وردت على كل متطاول على الإسلام وأعلامه، واستمرت حتى 1936. وفي 1901 أنشأ مصطفى كامل صحيفة "اللواء" سياسة في مجموعها، وهدفها الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، والدفاع عن الإسلام. وتلمس أثر صحيفتي "المؤيد واللواء" فيما كتبه "أدمس" عن مدرسة الإمام محمد عبده: "وكان بمصر صحيفتان كبيرتان إسلاميتان تقودان لواء المعارضة1، أحدهما جريدة اللواء التي كان يصدرها مصطفى كامل، والثانية جريدة المؤيد وكان صاحبها الشيخ علي يوسف الذي كان يمثل الرأي الإسلامي المحافظ، ومن العجب أن مصطفى كامل مع إعجابه بالمدنية الأوربية إعجابا تكرر ذكره في كتبه ورسائله، لم يكن في دعوته الاجتماعية محافظًا، بل كان واحدًا من أولئك الرجعيين"2. وخلال الفترة من 1882-1920 ظهرت اثنتا عشرة صحيفة، منها الأربع السابقة، أما الأخرى فهي: نور الإسلام التي أصدرها السيد أمين يوسف الدمياطي بالزقازيق، والعالم الإسلامي 1905 لمصطفى كامل، والحرمين 1906 لحسين برادة، ونشيد الإسلام 1906 للسيد محمد طلعت، ولم يصدر سوى عدد واحد منها، والجمعية الشرعية 1913 للشيخ محمود خطاب السبكي، والسعادة الأبدية 1914 لعلي عبد الرحمن الحسيني،

_ 1 يعني بالمعارضة: الوقوف في وجه المدنية الأوربية. 2 راجع: الإسلام والتجديد في الإسلام ص216 لتشارلي أدمس، ترجمة العقاد طبعة 1935.

والعالم الإسلامي 1916 للشيخ عبد العزيز جاويش، والحكمة 1918 للسيد عبد العزيز جاب الله. وبعد ثورة 1919 كثرت الصحافة الدينية، واهتمت بتفسير كتاب الله وسنة نبيه، وإبراز دور عظماء التاريخ الإسلامي، كما فتحت باب "الأسئلة والفتاوى" لتبصير الناس في أمور دينهم، ودحض مفتريات الطاغين في الإسلام، والوقوف أمام حركات التبشير. وترتب على ذلك كشف مزايا الدين، وأمجاد الإسلام، وتنوير المسلمين. ولقد صدرت بعد 1920 حتى اليوم أكثر من خمس وأربعين صحيفة دينية من مثل: الحديقة 1922 للسيد محب الدين الخطيب، والتقوى 1924 لجماعة الوعظ الإسلامي، وبشائر الإسلام 1926 لزكي الدين عطية المحمدي، والهداية الإسلامية 1928 للشيخ محمد الخضر حسين، والشباب المسلمون 1929 لجمعية الشبان المسلمين، ولا تزال حتى اليوم، ونور الإسلام 1930 عن مشيخة الأزهر الشريف، والإسلام 1932 لأمين عبد الرحمن، والأزهر 1934 للسيد حسين الصيرفي، ولا تزال حتى اليوم تصدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ونور الإسلام 1936 لمحمد علي حمودة، والاعتصام 1939 لأحمد عيسى عاشور ولا تزال حتى اليوم، وجريدة الإخوان اليومية 1946 لجماعة الإخوان المسلمين، والشرق العربي 1946 لمحمد أمين عبد الرحمن، ولواء الإسلام 1947 لأحمد حمزة ولا تزال حتى اليوم، ومنبر الإسلام 1948 عن قسم المساجد التابع لوزارة الأوقاف المصرية، ولا تزال حتى اليوم، والإسلام والتصوف 1958 لمحمد علوان، ومجلة التصوف الإسلامي 1979، والمختار الإسلامي 1979، واتخذت شعارًا لها يدل على الذكاء والمعية "مجلة كل المسلمين". ويلاحظ أن إحدى وعشرين صحيفة ظهرت خلال السنوات العشرة 1925-1935 وهي أشد الفترات لحملات المبشرين، وموجات الملحدين، وأقوى فترة للحماسة في سبيل إحياء الإسلام. ولم يقتصر حديث الصحافة الدينية عن أمجاد الإسلام، بل عرضت الصور المشرقة من التاريخ الإسلامي، وكشفت النقاب عن الشخصيات الإسلامية، واهتمت بالمواسم والأعياد الدينية، تصدر فيها أعدادًا خاصة، تتضمن مقالات وقصائد وبحوثًا قيمة، تضيف إلى تراثنا قيمًا جديدة، فأثرت الأدب الديني ثراء بعثه بعثًا جديدًا. وعلى الجملة، فقد ظهرت الصحافة الإسلامية بعيدة عن الشكل الفني المتطور للصحافة المعاصرة؛ لأنها ولدت في ظل صحافة المقال بتقاليدها المحافظة، لكنها على حال ظهرت قوية في مضمونها، وإن صيغت بأسلوب الصحافة المعاصرة المتطلب للسرعة والسهولة، ولم تركن إلى المقالات التي درجت عليها الصحافة الحديثة، وأهم من ذلك كله تعدي جمود التقليد في الشكل والمضمون.

أولا: الشيخ محمد عبده: 1848-1905

أولًا: الشيخ محمد عبده 1848-1905 من أعلام النهضة الإسلامية، وقادة الفكر العربي، وزعماء الإصلاح المصري، وفوق ذلك كله فيلسوف إنساني، ومجدد ديني، وباحث اجتماعي، اهتم بنشر العدالة الاجتماعية بين الطبقات، وشيوع الثقافة بين الفقراء، ورأى أن الإصلاح الأخلاقي يجب أن يسبق الإصلاخ السياسي، وقد يغني عنه في أكثر الأحيان. اتجه إلى إنشاء المقالات للصحف المصرية منذ اتصاله بجمال الدين الأفغاني، خاصة بعد انضمامه للثورة العرابية، فأخذ يندد بأعوان الاستعمار الغربي وأذنابه من الخائنين لأوطانهم، له مقالات عديدة دبجها براعه، وفاض بها خاطره، وتضمنتها الوقائع المصرية والعروة الوثقى، لكنها تختلف عن بعضها، ففي الوقائع دعا إلى الإصلاح الاجتماعي في مصر بإتزان وتحفظ وتدرج. وفي العروة الوثقى نظر إلى العالم الإسلامي على أنه وحده، ودعا إلى التضامن، وتوثيق الروابط، وإعداد العدة لمناهضة الاحتلال في شتى صوره، مبينًا أن الإسلام تقدم ووصول، وحضارة ومدنية، لا ضعف ولا تواكل. وصف المؤرخ عبد الرحمن الرافعي مقالات "العروة الوثقى" فقال هي: "جامعة بين روح جمال الدين وقلم الأستاذ الإمام، فجاءت آيات

بينات في سمو المعاني، وقوة الروح، وبلاغة العبارة، وهي أشبه ما تكون بالخطب النارية، تستثير الشجاعة في نفوس قارئها، وتدني في روحها وقوة تأثيرها أسلوب الإمام علي -كرم الله وجهه- في خطبه الحماسية المنشورة في نهج البلاغة"1. أسلوب الشيخ محمد عبده: كان للشيخ محمد عبده أثر عظيم في النثر العربي، وجاء أسلوبه فيه مثالًا يُحتذى في التجديد والصياغة، واتسم بسمات واضحة أهمها وأبرزها ما يلي: 1- تأثر في أول حياته الصحفية بالطريقة الأزهرية، من حيث الموضوع وطريقة معالجته، مع تكلف السجع والمقدمات الطويلة، مما يجهد القارئ. 2- يكرر الفكرة ويقلبها على شتى وجوهها، مع قوة الحجة، وسلامة البرهان، وحرارة الوجدان، وصدق العاطفة، وبساطة التركيب، وسهولة الألفاظ. 3- يتوقد حماسة وثقة وصدقا، يزكيه وجدان حي، وتشبع الألفاظ الجياشة في الموضوعات الاجتماعية والسياسية. 4- مرتب ترتيبًا منطقيًّا مع استعمال الأقيسة والبراهين أولًا، ثم أقلع عنها أخيرًا. 5- يستعمل -أحيانًا- كلمات عامية أو دخيلة للتعبير عما يريد، إذا لم تسعفه الكلمات العربية. تحدث الإمام محمد عبده عن نظام الشورى في الحكم، ووجوبه على الحاكم والمحكوم سواء، فقال في مقال: "مما يدل على وجوب التشاور

_ 1 راجع: عصر إسماعيل ص163 عبد الرحمن الرافعي.

على الحاكم، وهو طلب عمر بن الخطاب تقويم اعوجاجه، ومما يدل على وجوبه على المحكوم، هو إجابة الصحابي بقوله: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، فإنه لا يجوز استعمال القوة إلا بعد الأعذار بالإرشاد والهدى.. وإن الشورى لا تنجح إلا بين من كان لهم رأي عام يجمعهم في دائرة واحدة، كأن يكونوا جميعًا طالبين تعزيز مصالح بلادهم فيطلبونها من وجوهها وأبوابها. فما داموا طالبين هذه الوجوه فهم طلاب الحق ونصرائه، فلا يلتبس عليهم بالباطل، ولا لوم عليهم إذا لم يأت مطلوبهم على غاية ما يمكن من الكمال. وإن استعداد الناس لأن ينهجوا المنهج الشوري غير متوقف على أن يكونوا مندوبين في البحث والنظر على أصول الجدل المقررة لدى أهله، بل يكفي كونهم نصبوا أنفسهم، وطمحت أبصارهم للحق، وضبط المصالح على نظام مرافق لمصالح البلاد وأحوال العباد.. إن شأن الحكومة ليس إلا أن تطلق للناس عنان العمل فيعملون لأنفسهم ما يعلمونه خيرًا، فإن أية حكومة قيل أنها عادلة حرة، لم يكن لها أن أباحت للناس أن يدخلوا في أي باب من أبواب المنافع، ويطلبوا الخير الحقيقي بكل وسيلة"1. من فقرات المقال يتضح لك أسلوب الإمام الذي يقلب الفكرة على وجوهها مع قوة الحجة وسلامة التعبير وسهولة الألفاظ وجمال العبارة وحرارة الإيمان فيما يُسطر من خواطر وأفكار.

_ 1 راجع: تاريخ الإمام ج2 ص196 وما بعدها.

ثانيا: الشيخ علي يوسف 1863-1913

ثانيًا: الشيخ علي يوسف 1863-1913 عصامي بلغ من الجاه والشهرة والنفوذ ما لم يبلغه صحفي في بلاد المشرق العربي، وصفه أحد معاصريه فقال: "كان رجلًا استعصب نفسه الكبيرة على الزمان فقهرته، وكبرت همته على الحوادث فأخضعها، واستقبل الشدائد بعزم وثبات يخدمها فكر صحيح ونظر ثاقب ورأي سديد، فصيرها من عوامل مجده، وأحالها خادمة لمراميه، شب بنفسه، واختط في الحياة طريقه بذاته، لا معين له من طارف أو تليد، ولا ناصر من أب أو قريب أو نسيب"1. كتب في الصحف ولم يزل -إذ ذاك- طالبًا بالأزهر، وهيأ له طموحه أن يكون صاحب مجلة أدبية، وتحقق أمله في إصدار مجلة "الآداب" التي صدر العدد الأول منها في 3 فبراير 1887، واستمرت حولين كاملين، حققت له فيهما ما يصبو إليه من جاه وشهرة. كان الشيخ علي يوسف ذا قلم مطواع، تغذيه عبارة صحيحة وفكر ثاقب، فاكتسب صداقة ذوي الأقلام القوية، والنفوذ الواسع، ومهدت له الظهور في ميدان أوسع، وعلى رأس صحيفة كبرى هي "المؤيد" التي طلعت على الناس في ديسمبر 1889، والاحتلال في عنوانه. يتحدث جورجي زيدان عن مواهب الشيخ علي يوسف الصحفية فيقول: "جمع إلى حدة الذهن ذكاء القريحة ورباطة الجأش وسعة الصدر، وكان عصبي المزاج، وكان هذا المزاج من أكبر أسباب فوزه؛ لأنه لم يكن يغضب، وإذا غضب كظم غيظه، فلا يؤثر غضبه في قريحته، فيكتب ويجيب، أو يفكر ويدير، وهو في أشد المواقف قلقًا، وكان حاضر الذهن، لا يكاد يخطر الموضوع بباله حتى يتناول القلم، ويكتب فيه بسهولة وبلاغة. وكان قوي الحجة في مناظراته وانتقاداته، قادرًا على استنباط الأدلة، ومعرفة أماكن الضعف من مناظره". كتب المقالات تلو المقالات، ناقش فيها حقوق مصر، ورد خلالها على مزاعم الطاغين في أهل مصر، وتوخى فيها السخرية اللاذعة، والاستهزاء بالاحتلال وأعوانه، وأثبت فيها للعالم أجمع أن دعوى الإنجليز بالتمسك بالشرف كذب ومحض ادعاء. أسلوب الشيخ علي يوسف: إذا صح أن "الأسلوب هو الرجل" فإن أسلوب الشيخ علي يوسف

_ 1 هو المرحوم أحمد فتحي زغلول، من كلمة قالها في حفل تأبين المرحوم الشيخ علي يوسف.

أدل عليه وأوثق به. جاءت كتابته لذعا وسخرية في وقت كانت مصر فيه تحت الاحتلال الإنجليزي الذي أصر على إماتة الشعور الوطني، وقتل الروح المعنوية، ووأد الحياة المصرية نفسها. في هذا الجو القائم والمناخ الخانق، ظهر الشيخ علي يوسف بكتاباته التي تفيض سخرية من أعداء الأمة والدين، وعلى الرغم من ذلك كله فإن أسلوبه يتميز بالسمات التالية: 1- اعتماده على المقدمات والنتائج، وإيثاره التقسيمات والتفريقات والتلخيصات، وإيراد الحجج القوية، والأدلة الواضحة. 2- يشيع الاستفهام في كتاباته، عند مناقشة رأي، أو استكمال حجة، لحمل خصومه علي الإتقان معه. 3- يعتمد على الواقع المحسوس من الأحداث اليومية، لإقناع القارئ بوجهة نظره. 4- الحرص على مساواة اللفظ بالمعنى؛ إذ لا حاجة -في رأيه- إلى المبالغة في القول، أو الإسراف في اللفظ، والإطالة في الكلام، أو الإسهاب في العبارة. 5- البعد عن المحسنات البديعية، والحرص على تساوي أكثر العبارات، وإيثار نغم يريح أذن القارئ. 6- تبدو فيه روح العصر، من عبارات يتداولها الناس، وألفاظ تجري على ألسنتهم، ومعان تدور في أذهانهم دون إسفاف أو هبوط لمستوى العامة. كتب الشيخ علي يوسف يدافع عن حقوق وطنه، وينفي بقوة التعصب الديني الذميم عن نفسه وعن المصريين فيقول: "قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبًا دينيًّا، ومعنى هذا أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهة عمياء، يعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية كلما سنحت لهم فرصة الافتراس، أو استفزهم صائج.. في البلاد من قديم الزمان أديان مختلفة يتجاوز أهلوها في المنازل، ويتشاركون في المرافق، ويتنافسون في الأعمال،

فلم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة، ولو كانت في فطرة المسلمين أو فطرة الفريقين لتلاشت الأكثرية الأقلية في عصور مضت، وخصوصًا في عصور كانت الجهالة فيها سائدة.. وقدم على القطر المصري منذ أول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير وفود من كل الطوائف المسيحية شرقية وغربية، فلقي الكل في مصر صدرًا رحبًا. كان منهم الموظفون في كل مصلحة حتى تولى نوبار باشا رئاسة النظار. وهو أرمني وكان قائمقام الخديوي ورئيس الاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية مثل هذا التساهل فيرأس احتفالًا دينيًّا مسيحيًّا مسلم أو غير مسيحي؟ وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمكتشفون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي الأساتذة من غير دينها تعد متعصبة؟ وظل يدلل على تساهل الأمة المصرية، والتسامح الذي شاع بين أبنائها في قوة ومنطق، وختم مقاله الطويل بقوله: "أيها المدعون، راقبوا الله في أمة رزئت بالإهمال في شئونها حتى انحلت عرى الجامعة بين أفرادها، وذهبت منها ريح العصبية في كل شيء، فحرام عليكم مع هذا الانحلال أن تتهموها بالتعصب في أشد حالاتها"1. عالج الشيخ علي يوسف في كتاباته جميع المشكلات السياسية والاجتماعية والدينية التي أوقدها الاحتلال، لا سيما الخصومة الدينية التي أثارها المحتل ضد أقباط مصر، اهتم الشيخ علي بها، وعالجها من الناحية الواقعية، ودعا إلى التمسك بالوحدة القومية التي تقوم على مبدأ الوحدة الوطنية التي لا انفصام لها، كما حذر من الفتن وطالب بوأدها، حتى يظهر المواطنون -مسلمون وأقباط- صفًّا واحدًا وجبهة واحدة أمام مؤمرات المحتل ودسائس أعوانه.

_ 1 راجع: دراسات أدبية ص222 وما بعدها لعمر الدسوقي طبعة نهضة مصر.

ثالثا: شكيب أرسلان 1869-1946

ثالثًا: شكيب أرسلان 1869-1946 داعية من دعاة العروبة والإسلام، اهتم بتوثيق الروابط بينهما، وعفى بقضايا الإسلام والمسلمين بروح المسلم الذي منح يقظة الجنان وبراعة اللسان، سئل: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فكتب مقالات -كتابًا بعد- تفيض بالغيرة على الإسلام والمسلمين، والحسرة على ما أصاب الدين من ضعف وعسف، حتى فقد المسلمون عزهم في حياتهم. خلف آثارا ضخمة من المؤلفات، وتراثًا قيمًا من المقالات في موضوعات مختلفة، ومحاولات شتى بين جليل وضئيل، وقريب وبعيد، تنقل فيها بين مسائل السياسة والقومية والدين والأدب والنقد والاجتماع والمفاكهة والإخوانيات وغيرها. أسلوب شكيب: قلد شكيب أرباب النشر الفني، ونافس كبار الفحول، وجارى المشهورين في عصور الأدب، فاقترب منهم في الميدان، وتسنم ذرى الفصاحة، واستولى على عرش البيان، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي: 1- يتسم بجمال السياق، وحسن البادرة، ولذة الموسيقى، وسحر الألوان، مما لا يقع إلا لأديب وصاف، وكاتب كبير. 2- يبلغ الجودة في التعبير، والحسن في التصوير، والقوة في السبك، ولا يهبط عن المستوى الرفيع للفحول والمجيدين. 3- يشتمل في سلاسة وعذوبة على ألفاظ وصور وتراكيب وأخيلة في وصف المشاهد ورسم الشخصيات. 4- تسيطر عليه نزعة التأليف، ولذا تشابه أدبه الصحفي بأدبه التأليفي في كثير من الأحيان. 5- يعبر عن واسع فهمه، ويجري في موضوعات مختلفة من أدب وتاريخ وفلسفة واجتماع.

6- لا يقع فيه القارئ على تعقيد واضطراب، فعلا في الأفهام والجودة وارتفع لمنازل العباقرة من الكتاب. وهذا نموذج لكتاباته يقول: "لم يبقَ من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنيم به، دون العمل بأوامره ونواهيه.. واليوم فقد المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وإنما تخلق بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فنجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقا، وتلتقي الأسنة والحراب عتاقًا"1. ويتحدث عن التضحية في خدمة الوطن والأمم الإسلامية فيقول: "تريد حفظ استقلالها بدون مغاداة ولا تضحية، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر، فإن الله سبحانه يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ويقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} "2. ويتحدث عن غزو الطليان لطرابلس الغرب بليبيا، ونشيد الشباب الإيطالي غداة الحرب: "يا أماه أتممي صلاتك ولا تبكي بل اضحكى وتأملي، ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحًا مسرورًا لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن، ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليا حقًّا"3. وعن قعود المسلمين عن نصرة المجاهدين بالأموال والأرواح يقول: "وأما خيانة المسلمين بعضهم لبعض وخذلان إخوانهم والتزلف للأجنبي،

_ 1 راجع: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ ص16 طبعة 1939. 2 راجع: المصدر السابق ص18. 3 راجع: المصدر السابق ص32.

فقد بسط من أمره في الريف وفي فلسطين كجنود شرق الأردن ما يؤلم ويوجع. وسبب استئساد الأجنبي هو تبرع ابن الملة في مظاهرته وتحكمه". ويجعل الموت لأجل الحياة بطولة وفداء فيقول: "وأما الموت الثاني فهو الموت لأجل استمرار الموت، وهو الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم. وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها، كما يموت المغربي مثلًا حتى تنتصر فرنسا على ألمانيا مثلًا، ويموت الهندي حتى تتغلب إنجلترا على أي عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسية، والحال أنه انتصار فرنسا على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم"1. ويرى أن سبب تأخر المسلمين هو الجهل والعلم الناقص وفساد الأخلاق وسكوت العلماء على الضلال والطغيان فيقول: "هذا والعامة المساكين مخدوعين بعظمة عمائم هؤلاء العلماء وعلمونا صبهم، يظنون فتياهم صحيحة وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتميز.. حتى يجدون في كثير من المنعمين وسيلة إلى الخديعة والفساد"، وهو يقول: "فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد". ويوضح أسباب انحطاط المسلمين -في نظره- فقدهم الثقة بأنفسهم فيقول: "وكأن المسلمين لم يوجدوا في الدنيا إلا عملة أو أكراة يشتغلون بأيديهم ولا يشتغلون بعقولهم"2. ويلخص الكاتب علاء فارس جهاد شكيب أرسلان في سبيل الإسلام والمسلمين فيقول: "وحينئذ تتجلى عظمة شكيب، فقد جعل من نفسه علمًا تتجه إليه أنظار المسلمين في كل أنحاء الأرض، لقد أصبح مكتب التنفيذ لمؤتمر إسلامي غير موجود، ورئيس الديوان لخليفة إسلامي معدوم، ومكتب الاستعلام والإعلام عن كل قضية، وكل بلد للعرب والمسلمين فيها حق أو نصيب، ولكن جهاده الإسلامي العام لم ينسه أبدًا وطنه الخاص الذي هو بلاد الشام بكل أجزائها، بل إنه كان يخدم سوريا الكبرى بخدمته لقضايا المسلمين؛ إذ كان يكفي أن تتوجه منه رسائل وبرقيات لدنيا المسلمين، لكي تثور ضد فرنسا وبريطانيا والصهيونية، وتتوالى الاحتجاجات من كل جهة على أعمال الاستعمار والصهيونية في أراضي الشام1. اهتم شكيب أرسلان في كتاباته بقضايا الإسلام والمسلمين واللغة والعروبة، وكلها تفيض غيرة على الدين وحسرة على ما حل بالمسلمين من تخلف وفتور، نتيجة للجهل وفساد الأخلاق، وسكوت العلماء على الطغيان، وقعود المسلمين عن نصرة المجاهدين، والتزلف للأجانب.

_ 1 راجع المصدر السابق ص37. 2 راجع: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ ص145 طبعة 1939.

رابعا: أحمد أمين 1886-1954

رابعًا: أحمد أمين 1886-1954 قمة من قمم الفكر المصري المعاصر في مجالات الثقافة الإسلامية، تراه أدبيًّا ولغويًّا وفقيهًا ومحدثًا ومؤرخًا ومحققًا وفيلسوفًا ومتصوفًا. خلف آثارًا قيمة، وتراثًا ضخمًا من الفكر بلغت تسعة وعشرين بين مؤلفة ومترجمة، أو اشترك في تأليفها أو أسهم في تحقيقها، فأعاد للتراث الإسلامي رونقه البديع، وبهاءه النضير، لا سيما بعد ظهور كتبه الشهيرة: فجر الإسلام وضحاه وظهره.. حتى آخر كتاب له في هذا العقد الذهبي وهو يوم الإسلام. عرض في هذه الكتب تطور الحياة العقلية للإسلام خلال القرون الثلاثة الأولى عرضًا يلائم العقل الحديث، وحلل عناصرها تحليلًا دقيقًا، ردها إلى أصولها العربية والأجنبية من فارسية ويونانية وهندية، وظل يناقشها حتى استخرج لنفسه رأيًا جديدًا، استمده من نظرة عادلة وفهم صحيح. بهذه الدراسة الواعية وضع أسس مدرسة الفكر الإسلامي، وظفر بإعجاب المواطنين والأجانب من العلماء، ونال ثقة العالم العربي والإسلامي، ومحيي الدراسات الإسلامية في كل أقطار الأرض كلها.

_ 1 راجع: محاضرة عن "شكيب والقومية" تتضمن أيادي الأمير على المغرب.

أسلوب أحمد أمين: اتخذ أحمد أمين شعارًا له: "أكتب وفكر بلغة العصر وروحه" لذا جاء أسلوبه رائقًا، ومعانيه أخاذة، وعبارته واضحة، وشخصيته فيه قوية، ومع ذلك فإنه يعرف بالسمات التالية: 1- التفكير المنطقي الهادئ الدقيق، والقدرة على النفاذ إلى لباب الفكرة، في كل ما يطرقه من موضوعات، أو يتناوله من أحاديث. 2- الاهتمام بتقرير الفكرة والإقناع بها أكثر من اهتمامه بالتأثير والاتباع. 3- معانيه مبتكرة طريفة، وآراؤه صريحة وجريئة، وشخصيته قوية واضحة تفرض نفسها فرضًا. 4- يخضع اللغة للفكر، ويؤثر الوضوح على تنميق العبارة، مع السهولة واليسر والبساطة الخالية من زخرف القول. 5- تؤدي عباراته ما يريده في جلاء، ودون تصنع أو تكلف، وتشيع فيه الروح الهادئة الوادعة المتواضعة. وهذا جزء من مقاله "أسس الأخلاق في الإسلام" جاء فيه: "في القرآن الكريم آية تعد من أهم الآيات التي تبين أسس الأخلاق الإسلامية.. وكان عبد الله بن مسعود يقول فيها: "إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر" تلك هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لقد أمرنا الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير؛ فأولها العدل، وهو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه، فالمدين يجب أن يؤدى دينه، وهذا هو العدل.. وهناك نوع آخر من العدل، وهو عدل الحكومة مع شعبها، فعليها أن تؤدي للشعب حقه عليها، فتجلب له السعادة، وتبعد عنه أسباب الشقاء، وتوفر لكل طائفة من الشعب رقيها. أما الخصلة الثانية بعد العدل فهي الإحسان، فإن كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه، فالإحسان إعطاؤه ما فوق حقه، فمن الحق أن تأخذ

دينك من المدين، فإذا رأيته معسرًا فعفوت له دينك، فهذا إحسان.. وخص الله في الخصلة الثالثة الأقرباء بالإحسان، فالإحسان للناس عامة واجب، وهو لذوي القربى أوجب، فواجب أن يترابط أفراد الأسرة، ومن ارتباط الأسر ترتبط الأمة. هذه هي الخصال الثلاث التي شددت الآية في التزامها والعمل بها، أما المنهيات الثلاثة التي وردت في الآية، فبالتأمل فيها نراها شاملة أيضًا شمولًا عجيبًا، وذلك أن علماء الاجتماع والقانون يقسمون الرذائل أو الجرائم إلى أنواع ثلاثة: جرائم يأتيها الأفراد نحو أنفسهم، وهي الجرائم الخلقية التي لا تدخل في نطاق القانون، كالكذب والحسد والنفاق والرياء ونحو ذلك. وجرائم تقع على أفراد الأمة ويعاقب عليها القانون كالسرقة والقتل، وكل ما فيه تعد على أنفس الناس وأموالهم. وجرائم تقع على السلطات الحاكمة كالسعي في هدم الحكومات. وهذه الأنواع الثلاثة تقابل الرذائل الثلاث في الآية، فالفحشاء الأعمال القبيحة تصدر من الشخص وتؤذيه؛ ولذلك سمي البخيل فاحشًا. والمنكر ما يصدر عن الناس من جرائم تضر بهم ويستنكرونها إذا حدثت. وقد اعتاد القرآن أن يسمي الفضائل الاجتماعية معروفًا، والرذائل الاجتماعية منكرًا، وجعل من أصول الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .. أما البغي فمعناه الخروج على السلطة الحاكمة بوسائل العنف، ومن ذلك قولهم: "الفئة الباغية" أي: التي تخرج على الإمام العادل؛ ذلك لأن الإسلام يريد استقرار الأموار واستقرار السلطة الحاكمة مع صلاحيتها؛ لأنها المشرفة على النظام العام، فإن حادت عن العدل أو الحق وجههًا أولو الأمر إلى الجهة الصالحة، فالوسيلة للإصلاح هي النقد الصريح الجريء، وهذا يدخل -أيضًا- ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد، فإن الأمة التي تتبع هذه الأصول الثلاثة، وتتجنب هذه الأشياء الثلاثة أمة مثالية، فلنتصور جماعة من الناس، أو أمة من الأمم، عدل

أفرادها فأدوا لكل ذي حق حقه، وعدلت حكومتها فأدت واجبها، ثم تعاطفوا فيما بينهم، فساد بينهم الإحسان وخاصة على ذوي قرباهم، ثم تجنبت هذه الجماعة الجرائم الفردية الشخصية، والجرائم الاجتماعية، والثورات الانقلابية، فأي جماعة أسعد من هذه الجماعة؟! وأي أمة أرقى من هذه الأمة؟! "1. المقال -كما ترى- سيكشف عن الثقافة الإسلامية لدى المرحوم أحمد أمين، ويوضح غيرته الدينية، وحرصه على بث عوامل الخير، ونبذ عوامل الشر، حتى يتحقق العدل في ربوع الأمة وبين أفرادها، في أسلوب ديني يقنعك بما تضمنه من طرق الإقناع، دون تزمت أو تهور، ويحمل روح العصر ولغته في وضوح وسهولة، ويسر وجلاء.

_ 1 راجع: فيض الخاطر ج9 ص310-313، طبعة 1955.

الفصل الرابع: المقال والاسلوب العلمي

الفصل الرابع: المقال والاسلوب العلمي مدخل ... الفصل الرابع: المقال والأسلوب العلمي الأسلوب العلمي في التراث العربي: يخضع أسلوب الكتابة العلمية لمنطق فكري قويم، ومنهج علمي منظم، حتى تجيء الأفكار مرتبة ترتيبًا دقيقًا، توصل المقدمات فيها إلى النتائج، سواء أكانت علمية بحتة، أو علمية تساق في صورة أدبية، وليس بشرط أن تصاغ في صورة علمية جافة، خلية من التصوير الفني، بل قد تساق في صورة أدبية، وهذا ما يعنيه الدارسون بالأسلوب العلمي المتأدب، الذي يحاول الكاتب فيه تطويع المواد العلمية في صورة أدبية مستساغة. وحين نستعرض النثر العلمي في تراثنا العربي، نلتقي بكتابات علمية في شتى فنون المعرفة, دبجها نفر من علماء العرب في العصر الإسلامي على أحسن نهج، وأفضل طريقة، وتميزت أساليبهم بالدقة في التفكير، والوضوح في العرض، والسلامة في الاستقراء، والصحة في الاستنتاج من أمثال: ابن الهيثم والجاحظ وابن مسكويه وابن الصوري والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي والرازي وابن سينا، وغيرهم ممن كتبوا في الرياضيات والفلك والطب والنبات والحيوان والتشريح والبصريات، وترجمت مؤلفاتهم -بعد- إلى اللاتينية واللغات الأوروبية، وظلت مراجع معتمدة، ومصادر موثقة لدى أهل الصناعات في جامعات أوروبا قرونًا عديدة، وكانت الأساس الذي قامت النهضة العلمية الأوروبية عليه. ويعتبر الجاحظ من العلماء المعدودين في تاريخ العلم البشري، يقول

المستشرق "هارتمان" عن كتاب الجاحظ في هذا المضمار: "أنه حفل بنظريات علمية مبتكرة في دور التكوين مثل: التطور والتأقلم وعلم النفس الحيواني التي اكتملت بعد عصر الجاحظ بأحد عشر قرنًا. أوجز الجاحظ أسس أسلوبه العلمي في كتاب "الحيوان" فقال: "جمع معرفة السماع وعلم التجربة, وإشراك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة" ويعبر عن استعانته بالعقل والحواس والتجربة فيقول: "ليس يشفيني إلا المعاينة وكل قول يكذبه العيان هو أفحش خطأ، وأسخف مذهبًا، وأدل على معاندة شديدة أو غفلة مفرطة, وأن الخير لا يصدق إلا إذا أثبته العيان، وحققته التجربة". ونية الجاحظ إلى اتخاذ الشك وسيلة إلى اليقين فقال: "أعرف مواضع الشك والحالات الموحية له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموحية له" وبذلك سبق "يبكون" و"ديكارت" الذين ظهرا في القرن السابع عشر الميلادي، وتفوق عليهما، وأدرك -بفطرته- ما غاب عنهما من عناصر. وفي العصر الحديث برز النثر العلمي على يد رجال الفكر عبد إنشاء الجامعة المصرية 1908 ونشاط الصحافة، واهتمام الباحثين بتطبيق منطق أرسطو، ومنهج بيكون، وفلسفة ديكارت في أبحاثهم، مما بعث نشاط الكتابة العلمية في مجالات: العلوم الطبيعية والفلسفية والاجتماعية والإنسانية، وعلوم الدين واللغة والأدب. بدأ علماؤنا المحدثون يحذون حذو أسلافهم في نشر الثقافة العلمية الرفيعة في ربوع الوطن العربي بلغة عربية فصيحة، وأسلوب سهل خال من العجمة، برئ من الرطانة من أمثال: يعقوب صروف وفؤاد صروف وأحمد زكي وسلامة موسى ومصطفى نظيف، وعلي شرفة وغيرهم ممن أضاءوا الطريق أمام أجيال الكتاب والباحثين، ونجحوا في نقل المسائل العلمية المستعصية -لجمهور القراء- بلغة سهلة، وعبارات شيقة، وأسلوب خال من التعقيد والالتواء.

ساير هؤلاء روح العصر، وتمشوا مع أحدث النظريات والآراء العلمية، وتابعوا التطورات العلمية التي تطالعنا يومًا بعد يوم. وسنحاول أن نقف على جهود بعضهم في مجال المقال العلمي، وبسط الحقائق، في أسلوب رصين، يمكن تناوله في سهولة ويسر. بلغ إنتاج هؤلاء الأعلام في مجال الصحف والمجلات العلمية قدرًا يحتاج لدراسة متأنية واعية، تقوم أعمالهم تقويمًا دقيقًا حتى نضعهم في مكانهم الصحيح، وتنزلهم منازلهم التي تليق بهم. ولا غرابة في ذلك فهم أحفاد أعلام العصر العربي الإسلامي, الذين حددوا مفهوم الأسلوب العلمي بدقة ووضوح، وسلامة في العرض والاستقراء والاستنتاج قبل أن يعرف العالم الأوروبي المؤرخ والعالم "فرانسيس بيكون". ويمتاز الأسلوب العلمي عند علمائنا المحدثين بما يلي: 1- الدقة والوضوح، والتحديد والاستقصاء. 2- الدخول في الموضوع مباشرة دون مداراة أو مقدمات. 3- وضع المصطلح العلمي في المكان اللائق به، حتى لا يحدث في الأسلوب قلق أو اضطراب. 4- سهولة اللفظ، وبساطة العبارة، مع متانة التركيب. وسنخص في الصفحات التالية ثلاثة من العلماء الأدباء أو الآباء العلماء -بالحديث- ممن نشروا الثقافة العلمية في ربوع وطننا العربي بأسلوب ساير روح العصر، واستجاب لمتطلبات المجتمع، وحاجات جيلهم.

أولا: يعقوب صروف 1852-1927

أولًا: يعقوب صروف 1852-1927 من أعلام النهضة ورجالات العلم والأدب والفلسفة، والرياضات في لبنان، بذل جهودًا لا تنكر في ميدان الثقافة العلمية، والأدبية: وصفًا وترجمة وتلخيصًا. فبر بها أقرانه، وسما على أترابه، وزاعت شهرته، وتردد ذكره، لحبه للبحث، ورغبته في التحقيق والتنقيب عن قضية علمية أو نظرية فكرية. دبج في مجلته "المقتطف" مقالات حافلة بالأبحاث العلمية والأدبية والفلسفية والتاريخية والاقتصادية والزراعية، وكذلك السحر والتنويم المغناطيسي -منزهًا عن كشف البخت والتنجيم- ومناجاة الأرواح، ومذهب النشوء والارتقاء، وكلها تكشف عن حقائق كاتب -إذ ذاك- في مجال الطبيعة، وتسفر عن أراء معيبة. ظهرت براعة يعقوب صروف في الترجمة العربية الصحيحة العلمية الحديثة، فقد وضع كلمات عربية لمسميات علمية: إنجليزية وفرنسية مثل الأحافير، وعلم النفس، والمثل الأعلى، ومناجاة الأرواح، وتنازع البقاء، وغير ذلك من المسميات, وأخذ يلاحق تعريبها أولًا بأول، حتى يقف القراء على أحدث النظريات العلمية، وفي الوقت نفسه يحافظ على قواعد العربية. يقول مصطفى صادق الرافعي: "انتهى شيخنا "صروف" في العهد الأخير إلى أن صار بعد وحده حجة اللغة العربية في دهر من دهورها العاتية، لا في الأصول والأقيسة والشواذ، وما يكون من جهة الحفظ والضبط والإتقان، بل فيما هو أبعد من ذلك، وأراد بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها، بل في ما لا تنتهي إليه مطمعة أحد من علمائها وأدبائها، إذ وقع الإجماع على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سعة العربية وتصرفها وحسن انقيادها وكنايتها، وأنها تؤاتي كل ذي فن على فنه، وتماد كل عصر بمادته، وأنها في دقة التركيب ومطاوعته مع تمام الآلات والأدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات الكثيرة في اللغات الأخرى كأنها آخر ما انتهت إليه الحضارة قبل أن تبدأ الحضارة"1. ويتضمن باب "الأسئلة والأجوبة" بمجلدات المقتطف أجوبة مفيدة في مختلف العلوم والفنون والحوادث، تدهش العقول لما وعى صدره من حقائق، واستقر في ذهنه من معلومات، وما انتهى إليه من نتائج وأحكام،

_ 1 راجع: المقتطف المجلد 72 ص23.

وتكشف عن سعة علمه وأصالة فكره، وتعد مرجعًا موثقًا يرجع الباحثون إليها. أسلوب صروف: تكشف مقالات يعقوب صروف عن أسلوب الأديب والمأدب والعالم الذي: "أغنى لغتنا المبينة ألفاظًا وتعابيرًا، أو أفكارًا وتصانيف لم تكن معهودة في سابق العهد، وكل ذلك بقدر واف لا ينكر" ويتميز أسلوبه بسمات أهمها: 1- استقامة اللغة، ووضوح البيان، وصفاء العبارة، مع غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وصدق نتائجه وأحكامه. 2- يتم عن عقل واع، وفكر نير، يسجل ما يراه دون مراوغة أو التواء أو غموض. 3- البعد عن المجازات، وعدم اللجوء إلى الكتابات، ومن هنا جاء واضحًا لا لبس فيه ولا غموض. 4- يتناول صلب الموضوع دون مقدمات في عبارة سهلة، لا تلجئ القارئ إلى البحث عنها في المعاجم. 5- تحري الصدق والأمانة، وتخير الألفاظ والعبارات دون تأويل أو تعمية، مع البعد عن أي صناعة لفظية. 6- إبراز المعاني في بيان عربي، يجمع بين وضوح المعنى، وسلامة اللغة، وسهولة الأداء. 7- يكشف عن سعة العلم، وأصالة المعرفة، وغزارة المادة، وسلامة الفكرة. وهذا جزء من مقاله "الرأي القديم في الفلك" جاء فيه: "أدرك الذين راقبوا الفلك من القدماء أن القمر بعيد جدا عن الأرض وأن الشمس أبعد منه، وأن نوره ليس أصليا بل مستمد منها، كما أن نور الأرض مستمد منها أيضًا، وأن خسوف القمر ناتج عن وقوع ظل الأرض

عليه. فهي كرة؛ لأن ظلها مستدير والشمس أكبر منها؛ لأنها تجعل لها ظلا طويلا صنوبريا، وهو الذي يخسف القمر بالمرور فيه, وقد استغربوا كما يستغرب العامة الآن كيف تغيب الشمس في الماء عند الأفق الغربي، ثم تظهر في الصباح عند الأفق الشرقي، وأغرب من ذلك أن القمر يغيب مثلها ويطلع مثلها، ولكنه يخالفها في أزمنة شروقه وغروبه، وفي تغير وجهه، وكذلك النجوم تشرق وتغرب، ولكنها لا تكتفي بهذه الدورة اليومية حول الأرض، بل تدور حولها دورة سنوية أيضًا، كأن السنة الأرضية وهي 365 يومًا ونحو ربع يوم حاكمة على الشمس والقمر والنجوم. والكواكب السيارة مشمولة بهذا الحكم، ولكن كل واحد منها خاضع لسير آخر خاص به، رأوا كل ذلك فأخذوا يبحثون عن أسبابه أي عن القوانين الطبيعية المتسلطة على الشمس والقمر والنجوم من حيث علاقتها بالأرض وعلاقتها بعضها ببعض، وأول حقيقة اكتشفوها وتحققوها هي أن الأرض كرة قائمة في الفضاء على لا شيء، وبذلك فسروا كيفية دوران الشمس والقمر والنجوم حولها أي فوقها في النهار، وتحتها في الليل". "وأن القمر أقرب الأجرام السماوية إليها ففلكه أو مداره أقرب من كل الأفلاك إلى الأرض، وفوقه فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس ثم فلك المريخ، ثم فلك المشترى ثم فلك زحل ثم فلك النجوم. وينسب هذا الرأي إلى "بطليموس" العالم اليوناني الذي نشأ في الأسكندرية بين سنة 100- 170 للميلاد، وهو الرأي الذي جرى عليه الغرب لما تعلموا الفلك من كتب اليونان، ونقلوا كتاب بطليموس المعروف "بالمحبسطي" إلى العربية، وزادوا عليه تحقيقًا واكتشافًا، لكنهم لم يخالفوا رأيه من حيث دوران الشمس وسائر السيارات حول الأرض ولو قالوا إن الشمس أكبر من الأرض". وقد جمع الشيخ ناصيف اليازجي أسماء هذه السيارات حسب ترتيبها من الأبعد إلى الأقرب في بيتين هما: تلك الدراري زحل فالمشترى ... وبعده مريخها في الأثر شمس فزهرة عطارد قمر ... وكلها سائرة على قدر أما كيف عللوا حركات هذه الكواكب على اختلاف أنواعها، فمما يطول شرحه، وبقي رأي "بطليموس" شائعًا معمولًا به 1400 سنة بعد وفاته. ومن يطالع "الزيج الصابي" الذي وضعه أبو عبد الله محمد بن سنان بن جابر الحراني المعروف "بالبتاني" المتوفى 929 للميلاد، أي: منذ نحو ألف سنة يعجب مما كان القدماء يبذلون من الجهد والعناء في تعليل حركات الشمس والقمر والكواكب والنجوم والفلك كله بحسب هذا الرأي مع قلة وسائلهم. هذا هو مذهب "بطليموس" في هيئة الفلك وخلاصته أن كرة الأرض قائمة في مركز الكون، وأن الشمس والقمر والنجوم السيارة وغير السيارة تدور حولها دورة كاملة كل يوم من الشرق إلى الغرب، كما يظهر لعين الناظر"1. وهكذا كان يعقوب صروف يهتم بنشر العلم على لسان الصحافة، فخلف وراءه من مجلدات المقتطف ما يزيد عن ثلاثة وسبعين مجلدًا، جمعت علوم العصر وآدابه ومخترعاته واكتشافاته، بأسلوب سهل ولغة سليمة وتراكيب صحيحة، فبعثت نهضة فكرية أنارت الطريق أمام الباحثين.

_ 1 راجع: بسائط علم الفلك ص4-6 من مقال في الفصل الثاني.

ثانيا: أحمد 2زكي 1867-1934

ثانيًا: أحمد 1 زكي 1867-93421: الرائد المصري الأول في إحياء الآداب العربية1، وتحقيق عشرات القضايا

_ 1 يشترك أكثر من عالم في اسم "أحمد زكي" لكن صاحبنا الذي نتحدث عنه تميزه عبارتان "باشا" و"شيخ العروبة" وهناك أحمد زكي المترجم الأول من مدرسة رفاعة الطهطاوي وأحمد زكي العدوي المحقق بدار الكتب المصرية، وأحمد زكي "الدكتور" رئيس تحرير مجلة العربي، وأحمد زكي "الدكتور" وزير البحث العلمي.

والمواقع والمواقف والأعلام وأسماء البلدان وكلمات اللغة، وإدخال علامات الترقيم على الكتابة العربية وفق نسق الكتابة في اللغات الأوروبية. قضى الرجل في ميدان الحياة الفكرية والسياسية نيفًا وأربعين عامًا نشر خلالها كتاباته وأبحاثه في الصحف اليومية حتى آخر حياته 1892-1934. تضمنت أراءه ونظرياته في الحياة، على نحو واسع وشامل، وتناولتها: المؤيد واللواء والأهرام والمقطم والوطن وكوكب الشرق والبلاغ والدنيا المصورة، وكل شيء ومصر الحديثة والمقتطف والهلال والمجمع العلمي العربي وغيرها من صحف العالم العربي والإسلامي. تؤلف مقالات أحمد زكي التي تربو على الألف موسوعة ضخمة في تحقيقات التاريخ والجغرافيا والآثار والأعلام واللغة. وبذلك أغنى الفكر المعاصر، وذلل كثيرًا من الصعوبات التي تعترض الباحثين، وكشف طريقًا كان مطمورًا، فعبده لمن جاء بعده من الباحثين والدارسين والمحققين وطلاب العلم والمعرفة. أسلوب أحمد زكي: يجمع أحمد زكي في أسلوبه بين العلم والأدب، والفكاهة والسخرية، وعلى الرغم من نشأته في بيئة السجع المتكلف والزخرف الممقوت في أخريات القرن التاسع عشر إلا أنه لم يكن عبدًا للزينة اللفظية، أعانه على ذلك ثقافته الفرنسية على التحرر منها، واتخذ طابعًا خاصا به يميزه عن غيره، ويتسم بالسمات التالية:

_ يشترك أكثر من عالم في سم "أحمد زكي" لكن صاحبنا الذي تتحدث عنه تميزه عبارتان "باشا" و"شيخ العروبة". وهناك أحمد زكي المترجم الأول من مدرسة رفاعة الطهطاوي، وأحمد زكي العدوي المحقق بدار الكتب المصرية، وأحمد زكي "الدكتور" رئيس تحرير مجلة العربي، وأحمد زكي "الدكتور" وزير البحث العلمي.

1- تطور من السجع إلى الترسل، ومن الجد المطلق إلى الجد المختلط بالهزل، ومن المقدمات الطويلة إلى الموضوع مباشرة. 2- غلبة السجع على عناوين مقالاته على الرغم من رصانة اللغة، والأخيلة الطريفة، والتعبيرات الجديدة. 3- يمزج التحقيق العلمي الجاف بالفكاهة والسخرية والانطلاق في أضواء جديدة، ليخفف على القارئ، ويغريه بالمضي معه. 4- على الرغم من شيوع المرح في كتاباته لا يتعدى نطاق العلم، أو يؤثر في منطق الحقائق العلمية ذاتها. 5- وجود لوازم معينة في كتاباته مثل: "قل لي بعيشك" و"يمينًا بالله وكتبه واليوم الآخر" و"يا غارة الله" و"أعرني سمعك رعاك الله" و"سقى الله عهده" و"هذا العاجز" و"هذه دويرتي". ومن مقال له في "الرد على شبهات اليهود" يرد على الدكتور "هوبارك" من البنجاب الذي أعلن عند مروره بالقدس أن في أفغانستان وبلوخستان والهند ما يقرب من ميلوني مسلم يعدون أنفسهم يهودًا في الجنسية، ويدعون أنهم من بني إسرائيل على اعتبار انحدارهم من إسماعيل بن إبراهيم، وأن أسلافهم جاءوا إلى البلاد المذكورة منذ اثني عشر قرنًا، وهم يعدون التوراه من كتبهم المقدسة. رد أحمد زكي بعنف وبأسلوب ساخر على هذه الأكذوبة فقال: "هل نظرت إلى هذا الحديث عن نصراني، عن يهودي، عن هندوكي، وقد يكون هذا الهندوكي بوذيا أو برهمانيا، إن لم يكن صهيونيا، أو جشرًا إنجيليا أو إنجليزيا، وأنا أحمد زكي باشا لا أصدق هذه الرواية التي جاءتني اليوم من هندوكي وعن يهودي عن نصراني، فهل من فتى صديق يوافيني بكأس ... ولكنه من ذياك الرحيق!. لذلك رأيت من الواجب أن أكاشف قومي بما عندي في هذا الباب، أما أول القصيدة فهو دلالة على الكذب والبهتان، ولا أقول غير ذلك، فإن كان

لليهود جنس فلا ريب ولا جدال بأنهم إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم ليس لهم جنسية، فكيف يكون بعض الأجيال مسلمين دينًا، ويهودًا جنسية، هذا محال بل ظلال. وبعد فهل هناك مسلمون هم يهود؟ ليس الدكتور "بارك" هو أول من يكاشفنا بهذه الخرافة، ولكن فريقًا من العلماء قبله قد غرتهم أقوال أولئك الأقوام، فقالوا بها أيضًا مثل: بللو وبول وهولدشى، ومثل: رافزتي "ببعض تحفظ من هذا الأخير". والناس مجبولون على التولع بكل ما هو غريب أو غير مألوف، ولكن هذه النظرية الواهية قد درسها المحققون من علماء الإفرنج، فنقضوها من أساسها، بحيث لا يصلح لعاقل أن يرجع إليها. أما عكس ذلك فقد أثبته التاريخ الصادق إلى الأمس، فإن جماعة من اليهود تستروا برداء الإسلام ظاهرًا وإلى حين، ذلك أن الإسبانيين حينما طردوهم من "الفردوس الإسلامي المفقود" بعد تقلص ظل العرب من جزيرة الأندلس، ذهب جماعة منهم إلى أرض الترك، وتوطنوا على الخصوص في مدينة "سلانيك" وأجوارها، وقد دعاهم حب الكسب في الغنيمة إلى التظاهر بالإسلام، وهم المعروفون عند الأتراك بلفظ تركي هو "طونة" وينطقونه "دونمة" بدال معجمة مثل دال "دوطية" أولئك اليهود المسلمانيون ما لبثوا بمجرد صدور الدستور العثماني في أواخر حكم عبد الحميد أن عادوا إلى خلع ذلك الثوب الشفاف فصاروا يهودًا كما كانوا لا يزالون. أما القول بأن توجد على وجه الأرض جماعة هم مسلمون دينًا، بينما هم يهود جنسية فحديث خرافة يا أم عمرو، وكفى الإسلام ما أصابه من جرثومة الفساد "كعب الأحبار" ومن شجرة الظلال "وهب بن منبه" ومن ينبوع الخرافات "عبد الله بن سلام" ومن رابعهم "عبد الله بن سبأ" وقد نالوا منه كل المراد وأصابوه بالدواهي العظام، وأهله غافلون ولا يزالون، أما القول بأن المسلمين في بلاد الأفغال يعتبرون التوراة من كتبهم المقدسة فذلك كلام ليس له برهان، ومصدره الدعاية الصهيونية، والنزعات الاستعمارية"1. وعلى الجملة فإن أحمد زكي من أعلام الفكر المعاصر، ترك ثروة من التوصيات والتحقيقات في مجال التاريخ والجعفرافيا والأعلام واللغة فكان رائد في هذا المجال، آل على نفسه أن يكون له بين قومه كل يوم موقف، وفي كل مجال مجال مقال، كما قال: وقفت على أحياء قومي براعتي ... وقلبي وهل إلا البراعة والقلب ولي كل يوم موقف ومقالة ... أنادي بيوت العرب ويحكموا هبوا فأما حياة تبعث الشرق ناهضًا ... وأما فناء وهو ما يرقب القرب

ثالثا: سلامة موسى 1888-1958

ثالثًا: سلامة موسى 1888-1958 قمة من قمم الثقافة، دبج العديد من المقالات السياسية والعلمية والاجتماعية والأدبية. جمع فيها بين عقلية العالم والأديب، نشر الأسلوب العلمي المهذب في مجلاتنا المصرية وصحفنا اليومية، سبق بأفكاره جيله بعشرات السنين، ونشط في ميادين الثقافة والصحافة والسياسة، فلفت الأنظار إليه لأرائه العلمية الجريئة. اشتغل في تحرير مجلة الهلال 1923، وكتب في جريدة البلاغ معقل أقطاب الفكر والأدب إذ ذاك، وعمل بجريدة الجهاد التي كان يصدرها محمد توفيق دياب ثم أصدر "المجلة الجديدة" 1930 مزج فيها بين العلم والأدب والفن. تأثر بالعديد من مفكري الغرب من أمثال العالم النفساني "سيجموند فرويد" و"دارون" صاحب نظرية النشوء والارتقاء، و"كارل ماركس" حامل لواء الاشتراكية، واتصل بكتاب العربية من أمثال: جورجي زيدان، وفرج أنطون، وساهم مع يعقوب صروف في تحرير صحيفة "اللواء"، وفيها تعرف على أمين المعلوف، ونشأت صداقة بينهما. وحضر مجالس

"مي زيادة" الأدبية، وله معها مساجلات أدبية رائعة، ومداعبات فكرية عذبة، كما اتصل بعبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة "البيان" وشارك في تحريرها زمنًا، وعمل مع أحمد لطفي السيد وطه حسين في جريدة "الجريدة". أسلوب سلامة موسى: منذ تولي تحرير مجلة "كل شيء الأسبوعية" خصها بمقالات افتتاحية في حجم الكارت بوستال، وعلق على كل مقال تعليقًا علميا، حتى عرف بأنه "الأديب العلمي" يمثل أسلوبه لون الثقافة الحقيقية التي يسهل هضمها على الجميع، مما جذب نحوه حوالي عشرة آلاف طالب ينتمون إلى مختلف الأحزاب، وعلى الرغم من ذلك فقد تميز أسلوبه بما يلي: 1- مثال الأسلوب العلمي السليم، الذي يعرض المصطلحات العسيرة عرضًا واضحًا، لا لبس فيه، ولا غموض. 2- يجمع أمانة المؤرخ وروعة أسلوب الأدب، في سهولة ويسر، ووضوح وجلاء, رغم إيثارة العبارة الموجزة، والأسلوب التلغرافي. 3- مطعم بأراء جديدة، ودعوات تجديدية كبرى، تمتع العقول، وتجذب القلوب. 4- يكشف عن وفرة محصوله، وخصوبة تفكيره، نتيجة لقراءاته العديدة، واطلاعاته العريضة على الكتب والمصادر القديمة والحديثة. 5- تبرز من خلاله شخصيته، في كل ما سطر من خواطر، أو سجل من أفكار، أو دبج من مقالات. 6- أثر اشتغاله بالصحافة، وقراءاته العلمية في أسلوبه، فذهب جماله، وهبطت قوة تعبيره إلى حد بعيد. كتب سلامه موسى عن "الأدب للشعب" حدد فيه معنى الفن ورسالة الأديب؛ لأن المد الثوري الديمقراطي بلغ 1956 مرحلة هامة من التقدم فقال:

"حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين 1947-1957 أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها، فالنصف الأول إلى العام 1952 كان انحداريا كاد يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم, وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلقين يرغبون في الوصول إلى القمم، وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون أي حساب للشعب، بل تجاوزت هذه الحال من تسميتهم أدباء وصحفيين ومؤلفين ويكتبون كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف. أما النصف الثاني أي: من بداية الثورة في 23 يوليو 1952 إلى 1957 فيمثل نهضة الشعب، وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق، ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخر. وأنا كذلك كبير التفائل بالمستقبل، وخاصة بعد هذا الاتفاق بيننا وبين الاتحاد السوفياتي في نوفمبر من 1957 على تصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي أمضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أنادي به، ومتى انتشرت المصانع بيننا، فإن كثيرًا من أزماننا سيحل، بل هذه الأزمات تحل نفسها عندئذ بلا عمل إرادي من الحكومة, فإن التعطل سيزول، وخاصة تعطل المتعلمين, وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاه الأدبي، وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعب والثقافة العلمية ستكون النتيجة للحضارة الصناعية، ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة ويستمر التفاءل بينهما"1. ويتحدث عن تطوير الكائن الإنساني دون قتل للضعفاء والمرضى -كما نادى نيتشه- فقال: "إن الفلسفة الحديثة ترمي إلى تفسير الحياة بحب القوة وكره الضعف وتحسين الإنسانية بطريقة عملية خالية من كل سفسطة أساسها علم البيولوجية الحديث, الذي يوضح لنا العوامل التي رقت الحيوانات ويبين إمكان تطبيقها على الإنسان, فبهذه الفلسفة الجديدة نحسن الإنسانية الآتية بمنع كل ما فينا من العناصر الرديئة من الوصول إلى نسلنا. وأهم هذه العوامل هو تحررنا الاقتصادي بشكل

_ 1 راجع: تربية سلامة موسى ص263.

يساوي فرصة العمل بين الأفراد، وهذه هي السوشيالية -أي: الاشتراكية- وتحريرنا الأدبي بشكل ينقرض فيه الدنيء الذي يعيش الآن بسلطة الواجبات الأدبية، ويبقى العالي الذي يرى في نفسه قانونًا لسلوكه, ولنذكر دائمًا أن الرحمة التي نحسن بها على الضعيف والمريض هي قسوة هائلة وجريمة فظيعة على الإنسانية القادمة؛ لأنها تخلد الصفات الرديئة في الشعوب، يجب أن تتقوى فينا غريزة الحياة إلى حد نكره فيه الضعف والمرض وكل منحط حتى في نفوسنا، صحيح أننا قتلنا الهنا ولكن لنحيي الإنسان"1. كان سلامة موسى رائدًا متقدمًا في الكتابة، تناولت كتاباته مختلف مجالات المعرفة العديدة لحضارتنا القديمة والحديثة بالتسجيل والتحليل في بناء منطقي متناسق دائم التطور، ولقد حاول نفر من الدارسين ليكشفوا عن أفكار سلامة موسى فبذلوا جهودًا في سبيل الوقوف عليها من أمثال: فتحي خليل في "سلامة موسى وعصر القلق"، ومحمود الشرقاوي في كتابه "سلامة موسى المفكر والإنسان" وغالي شكري في كتابه "سلامة موسى وأزمة الضمير العربي" وهذا يدل على عطاء سلامة موسى للخصب، وأنه مفكر عملاق يخوض غمار الأفكار الصعبة وتسود نظرته الحياة والكون فيلفت الأنظار إليه.

_ 1 راجع: مقدمة السوبر مان ص29.

الفصل الخامس: المقال والأسلوب الفني

الفصل الخامس: المقال والأسلوب الفني مدخل ... الفصل الخامس: المقال والأسلوب الفني ارتبطت أسماء الأدباء المبدعين منذ القديم بأساليبهم، ولم ينفصلوا عنها أو تنفصل عنهم، فقالوا: أسلوب جاحظي نسبة إلى الجاحظ معلم العقل والأدب، وآخر بديعي نسبة إلى بديع الزمان الهمزاني الذي أشرق ذكره وأغرب في إبداع فن المقامات، وثالث توحيدي نسبة إلى أبي حيان التوحيدي الفيلسوف الأديب، ورابع فاضلي نسبة إلى القاضي الفاضل صاحب الطريقة المعروفة، وغيرهم من أصحاب الأساليب الذين اشتهروا بطرائق معينة، وسمات بارزة، تميزهم عن غيرهم في التعبير والتصوير، وتدل على قدرتهم، مما جعل غيرهم يتأثرون بهم، وينسجون على منوالهم. ومنذ مطلع هذا القرن جذبت الصحف طائفة من الكتاب، ازدهرت أساليبهم في ظلها، وكان منهم المبدع والناقد والقاص والناثر. وتمثلت في كتاباتهم قوالب معينة، وأطر واضحة، وخصائص معروفة، تمكن القارئ أن يفرق بين كتابة وأخرى، وبين كاتب وآخر، بحيث يتميز بعضهم عن بعض فيما يجود الخاطر به. وكان أكثرهم شهرة، وأبعدهم صيتًا من المصريين أمثال: مصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومن نوابغ لبنان أمثال: جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وعمر فاخوري، ومي زيادة، وميخائيل نعيمه. هؤلاء وغيرهم من كتاب بلاد العروبة أثروا المقال، وطوروا في أسلوبه وأبرزوا خصائصه، وأصبح لكل منهم طريقته المميزة، وطابعه الذي يحمل سماته، ويكشف عن ذاته، وتبدو فيه سجاياه، وسنخص نفرًا منهم بشيء من التفصيل، كي نقف على الجهد الذي بذلوه، والآثار التي خلقوها، والنهج الذي سلكه كل منهم في عالم الكتابة الصحفية, فإلى صفحات هذا الفصل.

أولا: مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924

أولًا: مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924 رائد من رواد النهضة الحديثة، وصاحب رسالة وفكر، يحمل أدبه سمات المجتمع، وتتوفر فيه خلال البيئة وصفات صاحبه، وهذا لا يتوفر لدى الكثير من أترابه ولداته، علت منزلته، وارتقت مكانته بين أدباء عصره لكثرة ما كتب قلمه، ودبج براعه، وفاض به خاطره، فترسم الناشئة خطاه، وساروا على هداه، ونسجوا على منواله. كان المنفلوطي كلفًا بالقراءة، يجد سلوة في الكتاب مما وثق المحبة بينه وبين الثقافة، لذا فقد ترك أعمالًا أدبية كبيرة، تعرب عن موهبة أصيلة، وتشهد له بالفطنة والخلود, أشهرها "النظرات" التي جاءت حصيلة كتاباته في صحيفة "المؤيد" وكان لها من الأثر ما كان، بفضل حسن العرض، وسلامة التراكيب، وإيحاء الجمل، وجمال التعبير، وجلال التصوير. أسلوب المنفلوطي: المنفلوطي من أشهر كتاب المقال منذ راد الكتابة الشيخ محمد عبده، نالت مقالاته رضا القراء، وتقدير الجمهور لتصويرها ما يلائم العصر، مع إشراق الديباجة، وسلامة الأسلوب, وصف أحمد حسن الزيات أسلوب المنفلوطي وديباجته فقال: "أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه "المؤيد" إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين القلم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ، وسبحات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة، وركاكة الترجمة"1.

_ 1 راجع: وحي الرسالة جـ1 ص386.

وعرف المنفلوطي بميله إلى المبالغة في إيراد الصفات المؤكدة التي تكسب الكلام قوة وتأثيرًا، والاهتمام بجمال العبارة، والعناية بالصياغة، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي: 1- إيثار الجمل القصيرة الموجبة التي تمتاز بالسلامة، وتخلو من كل ما يشين التعبير، ويصم الأسلوب. 2- الاهتمام بحسن الصياغة، وجمال الإيقاع، والاعتماد على الألفاظ العربية، والعبارات الفصيحة، والأساليب الصحيحة. 3- البعد عن التكلف والتقليد والقصد إلى الصدق والأصالة، والجمع بين الجدة والطرافة، والتفوق على الأساليب التي عاصرها. 4- يتسم بالرقة والدقة، والروعة والقوة، ويميل إلى السهولة والترسل، مع الخلو مما يعيب التراكيب والصياغة، بطريقة بيانية أخاذة. 5- رعاية جمال الأسلوب دون الاعتماد على المحسنات، باستثناء السجع المطبوع للإسهام في موسيقى الصياغة، والعناية بتحرك العاطفة وهزها بمختلف الأساليب. وهذا نموذج من مقالاته عنوانه "أيها المحزون" يقول المنفلوطي فيه: "إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شئونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي, لجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطلب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها وعطائها ومنحها، وأنها لا تنام من منحة تمنحها، حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها، وتلك خلتها في جميع أبناء آدم، سواء في ذلك ساكن القصر، وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزراء، ومن ينام على بساط الغبراء، فخفض من حزنك، وكفف من دمعك، فما أنا أول عرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان". "أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كره الطرف أن افتقدته فما وجدته, ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك، لرأيت برقًا خاطفًا، ما نظنه نجمًا زاهرًا، وهناك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله. أسعد الناس في هذه الحياة من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظر المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في بدء فذاك، وإلا فقد أعد لفراقها عدته من قبل لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى، ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاقي، ما كانت ترحة الفراق". من ثم يتبين لك أن الأسلوب المنفلوطي يتميز بأنه ذاتي مستقل، أنشأه بقوة طبعه، وسلامة فطرته، وحسن ذوقه على أحسن مثال. وإذا كان الأدب الفرنسي يعتبر "ميشيل دي مونتين" رائد المقال الأدبي الحديث، والأدب الإنجليزي يفخر بفرانسيس يبكون في هذا المجال، فإن المنفلوطي رائد المقال الأدبي في العصر الحديث.

ثانيا: مصطفى صادق الرافعي 1880-1937

ثانيًا: مصطفى صادق الرافعي 1880-1937 كاتب بأدق معاني الكلمة وأوسع مدلولاتها، عاش فترة الجدل الأدبي، وتحويل النقد إلى طعن وتجريح، ولوم وتفريع، وأصبح وسيلة للشهرة, وتحطيم الأصنام، وبلوغ الرفعة، وهدم الكيان، ومن هنا أغمط حقه، وغدا أدبه موضع شك وارتياب، ومع ذلك لا يختلف اثنان أنه من الكتاب السلفيين، نقرأ له فيخيل لك أنك تقرأ لكاتب عباسي. يقول سعيد العريان -تلميذه- عنه: "تقرأ له فتحسبه رجلًا من التاريخ، قد فر من ماضيه البعيد، وطوى الزمان القهقرى، ليعيش في هذا العصر، ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في عصر بعيد ... "1.

_ 1 راجع: مصطفى صادق الرافعي ص84 للدكتور كمال نشأت. العدد 81 من سلسلة أعلام العرب.

أسلوب الرافعي: تحقق في أسلوب الرافعي خصائص الأسلوب الأدبي العالي من حيث جمال الإيقاع، وسلامة الجرس، وعروبة اللفظ. يتحدث سعيد الرافعي عن الإيقاع في أسلوب أستاذه الرافعي فيقول: "كانت له عناية واحتفالها بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائها برهة طويلة، ويحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطني، ثم لا يجد لها وقعا من نفسه، فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينًا وموسيقى، وكان له ذوقه الخاص في اختيار كلماته، يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشأته، وكنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة، وهو يملي على هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن، ويعرف سر إعجازه في كل آية، وكل كلمة من آية، وكل حرف من كلمة, وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} ليرى نموذجًا من هذا الذوق الفني العجيب، في فهم اللفظ، ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء1. ومن أروع آثار الرافعي -وهي عديدة- المقالات والقصص والأحاديث الدينية التي نشرها في الصحف والمجلات، وضمها كتابه "وحي القلم" وفيها بدت طريقته في الاهتمام بالناحية البيانية وجمال الصياغة، وروعة الديباجة، وتحس خلالها بجمال وجمال، ومتعة وفن. وأهم سمات أسلوبه ما يلي: 1- يزدحم أسلوبه بالاستعارات والمجازات والكتابات في جدة وطرافة، وإتقان وإبداع. 2- استلهام لفظة أو عبارة من القرآن الكريم، أو جملة من الحديث النبوي الشريف، أو مثل مشهور، أو بيت شعر مأثور.

_ 1 راجع: المرجع السابق.

3- الاقتصاد في استخدام بعض ألوان البديع الذي يخدم الجانب المعنوي في توكيد الأفكار كالمقابلة والتورية، والجانب البياني في روعة الصياغة كالسجع والجناس. 4- تشيع فيه الخواطر النفسية، والمشاعر الإنسانية، والمواقف الإسلامية، والصور الوصفية، والنظرات الإصلاحية، ممزوجة بالطابع العربي الإسلامي. وهذا جزء من مقال له بعنوان "حقيقة الإسلام" يظهر من خلاله خصائص أسلوبه، يقول فيه: "لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تصب المادة في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها، فما تبرح الإنسانية تنمو به وتتحول, كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية، كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد, بدأت به الدنيا تطورها الأعلى, من حيث يرتفع الإنسان عن ذاته, كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته، فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح له طريق المجيء من الجنة والثاني فتح الله لها طريق العودة إليها، كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان محمد سر كمالها". "ولذا سمي الدين "بالإسلام" لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي: إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية، كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها، فلاحظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية به الحظ". "وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ، مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها، وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي، وهو أبدًا بروضها على هذه الحركة ما دام حيا، فينزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية، يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماه.

في اللغة خمس صلوات، لا يكون بالإسلام إسلامًا بغيرها، فلا غر وكانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: هي عماد الدين بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي: إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار لمعانيها الذاتية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز من الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه، إذ كانت أعمال الدنيا في جملتها طرفًا تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه، فتنكرها ولا تعرفها". "وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء بها الإسلام، ليهدي الإنسانية إليها، حالة السلام الروحاني الذي يحمل حرب الدنيا المهلكة حربًا خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدورة بما يعامل الله والإنسانية عليه، فلا يكون ذهبه وفضته مما كتب عليه: "ضرب في مملكة كذا" ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي" ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ فحسب، بل للعطاء أيضًا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل"1. أسلوب الرافعي -كما ترى- مغرق في المحافظة على القديم، وعلى الرغم من تشبثه به فقد تحرر من الحلى اللفظية أو الزخارف البديعية، وجاءت ألفاظه محكمة، ومعانيه دقيقة، وأفكاره طريفه، مما يدل على قدرته وتمكنه من اللغة ووقوفه على أسرارها، ولا عجب في ذلك فقد تمرس بأساليب أمراء البيان في العصور الأولى للأدب.

_ 1 راجع: مجلة الرسالة عدد 15 إبريل 1935.

ثالثا: جبران خليل جبران 1883-1931

ثالثًا: جبران خليل جبران 1883-1931 شاعر وناثر ورسام وفيلسوف، لبناني الأصل، انصهرت في نفسه ثقافات شتى، فنطقت روحه بمعاني الإنسانية الشاملة، وتضافرت في ذاته سلسلة من التأثيرات صادفت روحًا مرهفة، وإنسانية متدفقة فأنتج أدبًا رائعًا هو أدب الحرية والثورة والتمرد والحزن والألم. بلغت شهرته في الغرب مداها بعد ظهور كتابه "النبي" الذي رسم صوره بنفسه وبدت شهرته في الشرق بعد نشر كتابه "الروح الثائرة" الذي آثار سخط الكنيسة والدولة العثمانية. كان يعشق الطبيعة فيقول: "لو أن في العالم شجرة واحدة لحج إليها الناس من جميع الأمم". نشر مقالات عديدة بجريدة "المهاجر" التي أسسها أمين الغريب في مدينة "بوسطن" الأمريكية، وأقام المعارض للوحاته، ونشر الكثير من كتبه، وغذى الصداقات في دنيا الفن والأدب، كما كتب في مجلة "الفنون" وجريدة "السائح" وغيرهما من الجرائد العربية في بلاد المهجر. خلف جيران مؤلفات عديدة باللغتين: العربية والإنجليزية، يعنينا منها مجموعتين ضمتا العديد من مقالاته هما: "دمعة وابتسامة" و"العواصف" التي تعد مجموعة من المقالات الثائرة الجامحة، هزت -حين صدورها- الأوساط الأدبية في العالم العربي، ويكفي أن تقرأ مقالات "حفار القبور" و"العبودية" و"المليك المسجون" و"مات أهلي" لتدرك مدى تلك العواصف الهوجاء التي كانت تدور في رأس جبران، وتكاد تؤدي بطمأنينيته وسكينته. أسلوب جبران: لجبران أسلوب جديد وطريف ومبتكر في الكتابة العربية، يخالف المألوف مما جعل البعض يتهمونه بالغموض، ويعتمد على صور خيالية، ويجسد المعاني أشكالًا حية متحركة في أسلوب مجنح. وصفته "مي زيادة" فقالت: "يلخص الجملة والمعنى رسمًا على هامش القرطاس، أو يشرحه في صورة عجيبة" ويقول عنه صلاح لبكي: "تنكب عن المألوف من الجناس والمجاز، ومحاولة لتحميل الكلمات فوق ما تعودت جملة من المعاني، ولتجريدها من التفاهة والفضول" وأهم ما يميز أسلوب جبران ما يلي:

1- يحلق في أجواء عليا من الخيال، تسمو به إلى الشعر المنثور. 2- معرض زاخر بمقاطع مختلفة لا حد لها مثل ما جاء بمقاله "مساء العيد" "قلت ومن أنت؟ قال وفي صوته هدير مياه غزيرة: أنا الثورة التي تقيم ما أقعدته الأمم, أنا العاصفة التي تقتلع الأنصاب التي أثبتها الخيال, أنا الذي جاء ليلقي في الأرض سيفًا لا سلامًا". 3- يعتمد على العاطفة المتأججة، والمشاعر الملتهبة، كأنه يتقلب على جمرات نار. 4- لا يقف عند لون واحد، فتراه متهكمًا وساخرًا حينًا، ولاذعًا ومتمردًا حينًا آخر، وجريئًا وصريحًا ومتجددًا حينًا ثالثًا. 5- تتوفر فيه عناصر الجمال، وأسباب الجاذبية، وقد لخصها في كتابه "رمل وزبد": "إذا وجدت في نفسك ميلا للكتابة -ولا يعلم سر هذا الميل إلا القديسون- فلتكن فيك المعرفة والفن والسحر معرفة موسيقى الألفاظ، وفن البساطة والسذاجة، وسحر محقيه قرائك". ونسوق إليك صورة بيانية من صور جبران المنبثة في كتبه التي أربت على العشرين، لكي تقف على أسلوبه في نثره المجنح. وصف مدينة "نيويورك" عندما يطلع الصباح فقال: "قد جاء الصباح وانبسطت فوق المنازل المكردسة أكف النهار الثقيلة، فأزيحت الستائر عن النوافذ، وانفتحت مصاريع الأبواب، فأتت الوجوه الكالحة والعيون المعروكة، وذهب التعساء إلى المعامل، وداخل أجسامهم يقطن الموت بجوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان ظل القنوط والخوف، كأنهم منقادون قهرًا إلى عراك هائل مهلك, ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين، وامتلأ الفضاء من تلقلة الحديد، ودوي الدواليب، وعويل البخار، وأصبحت المدينة ساحة قتال، يصرع فيها القوي الضعيف، ويستأثر الفتى المظلوم بأتعاب الفقير المسكين". وحسب جبران أن معظم أبناء العالم العربي احتذوا أسلوبه، وحاكوا عبارته على الرغم من بعده عنهم في مهجره البعيد، كا اجتذب أسلوبه الأنجليزية الناطقين بها، فأصبح علما في الادبيين: العربي والانجليزي، ويتمتع بمكان مميز ملحوظ.

رابعا: أحمد حسن الزيات 1885-1968

رابعًا: أحمد حسن الزيات 1885-1968 عملاق من عمالقة الأدب المعاصرين، وصاحب مدرسة نهل الأدباء والمتأديون من معينها بعد منتصف القرن الحالي. سطر العديد من المقالات في الدعوة إلى التحرير من قيود الماضي، والاهتمام بدراسة الأدب بطريقة منهجية منظمة، دون إهدار تراثنا الإسلامي العظيم، له مقالات ممتعة في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع، عامرة بألوان الفكر النير، والرأي السديد، تفيض بإحساس دافق، وشعور متألق، وحماس هادر. أسلوب الزيات: يقوم أسلوب الزيات على البيان المنسق القائم على هندسة كلامية فريدة: الجملة تعادل الجملة، والكلمة تقابل الكلمة، والفقرة توازي الفقرة حتى يأتي الأسلوب لوحة بيانية تتقابل خطوطها، وتتعادل مساحاتها، وتتوازن ألوانها، وصف محمد يوسف نجم أسلوب الزيات فقال: "أسلوب الزيات يعتمد على الصنعة المحكمة ... فهو ضفيرة منسقة من الألفاظ الموسيقية المجلجلة، أو قطعة من الفسيفساء أبدعتها يد فنان صناع، أو هو قالب جاهز يلبسها لكل فكرة، ويلقيها على كل موضوع، دون أن يحاول الخروج عن النسق المعتاد، أو السنة المقررة، ودون أن يعنى بتحوير القوالب وتهذيبه بحيث يلائم الشكل المطلوب1". وعلى الرغم من اطلاع الزيات على روائع الغرب، فلم يفقد طابعه العربي، ونسق الأسلوب العالي الذي عرف به، ويتميز بالسمات التالية: 1- الاهتمام ببعض المحسنات لتحقيق التناسق الصوتي كالسجع والجناس، وبعضها لتحقيق التناسق المعنوي كالمقابلة والطباق.

_ 1 راجع: فن المقالة ص84-85 طبعة بيروت 1966.

2- العناية بالحرف والكلمة، والمقطع عنايته بالجملة والعبارة والفقرة مما يجعل القارئ يحسن تنسيق عمله. 3- الموازنة بين الكلمات والعبارات، فلا مكان لجزء دون مقابل له، فتكون عملًا جماليا، يقوم على التناسق والتعادل. 4- العناية بالإطار العام، ورعاية جانب الشكل، حتى يتضاءل الزاد الفكري، ويتبعه المضمون في أكثر الأحيان، لكنها تبقى رغم ذلك باهرة بإشراق صياغتها، أخاذة بروعة بيانها. وهذا جزء من مقاله "أوروبا والإسلام" نتعرف من خلاله على أهم سمات طريقة الزيات في الكتابة، وفيه يقول: "شيع الناس بالأمس عاما قالوا إنه نهاية حرب، واستقبلوا اليوم عامًا يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت إلا ظلمة أعقبتها عمى، وإلا ظلا ما سيعقبه دمار, حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض والتعصب للجنس، والتطلع إلى السعادة أنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل، ثم أكدوها هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه "الأطلس". حتى وهم ضحايا القوة، وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح ينزلون في كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين وأن الله قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرءوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو. ثم تمت المعجزة وصرع الجبارون، ووقف الأنبياء الثلاثة على رءوس الشياطين الثلاثة يضربون الأستار على العالم الموعود، وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الحي في الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقورن تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنهتك، وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتقرير، وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد، وهو استعمار الشرق، واستعباد أهله! إذن برح الخفاء، وافتضح الرياء، وعادت أوروبا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام1". وأعم الزيات في أسلوبه بين الفكرة والصورة، فلا يطغى أحدهما على الآخر، وجمع في طريقته بين الصفات الأساسية للأسلوب الفني التي هي: الأصالة والوجازة والتلاؤم. ولا يختلف اثنان في أن الرجل رائد مدرسة وطريقه ينهل من معينها المتأديون، ويحاكيها الناشئون كي ترتقي أساليبهم وتسلم طرائقهم في التعبير والتصوير، وحينئذ يبلغون الجودة، ويصلون إلى حد الحذق والمهارة والإبداع.

_ 1 انظر: مجلة الرسالة عدد 7 إبريل 1946.

خامسا: عباس محمود العقاد 1889-1964

خامسًا: عباس محمود العقاد 1889-1964 مفكر وأديب وشاعر وناقد ذو طبيعة جدية، حلق في آفاق سامية نبيلة، لا يتدنى إلى مشكلات الحياة اليومية العادية، تضم مقالاته كل رصيد من الموضوعات التي توحي بكتاباته الجادة. خالط الأوروبيين -عن طريق القراءة- في أدبهم وفنونهم وعلومهم وفلسفاتهم وشاعت هذه المخالطة في جميع كتاباته، حتى برز دوره الأصيل في نهضتنا الفكرية، وهو دور يقوم على نقل الفكر الغربي إلى أوعية لغتنا مع فحصه وطرح ما لا يلائمنا منه. أغزر كتاب مصر إنتاجًا، فقد كتب حوالي أحد عشر ألف مقال خلال نصف قرن، بدأ الكتابة 1907 وظل من 1922 حى 1935 يكتب مقالًا صحفيا يوميا عدا يوم واحد في الأسبوع، والأشهر التسعة التي قضاها في السجن بحجة العيب في الذات الملكية ومن 1937 إلى 1952 كان يكتب ما بين ثلاثة وأربعة مقالات صحفية في الأسبوع، هذا إلى جانب مئات المقالات غير الصحفية التي نشرت في الصحف والمجلات, ويتميز العقاد بكثرة الصحف والمجلات التي عمل بها وهي على سبيل المثال: الدستور والمؤيد والبيان والأفكار والبلاغ والأساس والأهرام. ويقول شوقي ضيف عن العقاد: "وقد ظل منذ باكورة حياته الأدبية

يعكف على الفلسفات والأدب والفنون الغربية، وتمثلها جميعًا تمثلًا رائعًا، وهو تمثل أخضعها فيه لسلطان عقله، فإذا هو يحللها وينقدها، مكونًا لنفسه فيها صورًا ظل ينشرها تارة في مقالات، وتارة في مؤلفات1". أسلوب العقاد: تناول العقاد أكثر من لون من ألوان المقالة: سياسية وأدبية واجتماعية ووصفية. اعتمد أسلوبه فيها على التعبير المحكم الذي يؤثر الألفاظ الموحية والجمل المحكمة التي تقوم على الدقة في التصوير، والقصد في التعبير، والتركيز في كتاباته، ورغم ذلك كله فإن أسلوبه يتميز بما يلي: 1- عدم الإفراط في المقدمات، أو اللجوء إلى التكرار، أو اللف أو التوكيد بالكلمة أو الجملة. 2- العناية بوفرة المعاني وغزارة المادة. وحسب الكلمة والعبارة أن تؤدي المعنى، وتنقل الخاطرة، وتفصح عن الشعور، لتزيد المعنى وتضيف إلى الفكرة جديدًا. 3- طول بعض الجمل أكثر من المألوف، مما يجعل شيئًا من الغموض أو الجفاف أو الالتواء في الأسلوب، مما يتطلب من القارئ تنبيها عظيمًا. 4- الإبانة والإفصاح مع الجمال الطبيعي الذي قد يصل أحيانًا إلى حد الشاعرية. 5- استخدام التديلات الضابطة والاحتراسات المتحفظة، حتى يضمن إحكام التعبير، ويصون دقة المعنى. 6- يتسم بالجدل المنطقي، والحجاج العقلي، والتحليل الدقيق، واختيار الألفاظ المتشامخة ذات الجرس والطنين. 7- البعد عن زخرفة اللفظ سوى السجع الذي تحتاجه المواقف كالسخرية والتحدي والدعاية حتى يفزع رنينه الأسماع.

_ 1 راجع مع العقاد ص82 العدد 259 من سلسلة اقرأ دار المعارف.

وفي النص التالي سمات أسلوب العقاد، وهو جزء من مقال العقاد في "الألم واللذة" وفيه يقول: "أما أن الألم موجود في هذه الدنيا، فمما لا يختلف فيه اثنان، وأما أنه كثير فوق ما تقبله النفوس، فمما لا يختلف فيه إلا القليل، وأما أنه نافع أو غير نافع، ومقدم للحياة أو مثبط لها فذلك ما يختلف فيه الكثيرون. ورأيت في هذا الخلاف أن الألم ضرورة من ضرورات الحياة، وحسنة من حسناتها في بعض الأحيان، وحالة لا تتخيل الإنسانية بدونها على وجه من الوجوه. أما تفضيل هذا الرأي فهو أن الشعور يستلزم الشعور بغير النفس، فهذه أل "أنا" التي تقولها وتحمل فيها خصائص حياتك، ومميزات وجودك، وتعرف بها نفسك، مستقلا عما حولك، منفردًا بإحساسك. هي نصيبك من الحياة الذي لا نصيب لك غيره، وهي تلك "الذات" التي لا تشعر بها إلا إذا شعرت بشيء مخالف في هذا العالم الذي يحيط بها. فأنت لا تكون شيئًا له حياة ولذات وآلام ومحاب ومكاره إلا إذا كانت في هذا العالم أشياء أخرى، ولا تكون هذه الأشياء الأخرى معك إلا إذا كان منها ما يلائمك وما لا يلائمك، أو ما يسرك وما يؤلمك1". يكشف لك هذا المقال وغيره عن قدرة العقاد في هضم الفلسفات والآداب الغربية، وإخضاع ما يقرؤه لعقله وفكره العربي، واستنباط صور ضمنها مقالاته وكتاباته في الصحف التي عمل بها.

_ 1 راجع: مطالعات في الكتب والحياة ص254 وما بعدها.

سادسا: طه حسين 1889-1973

سادسًا: طه حسين 1889-1973 كاتب من الطراز الأول، جمع في أسلوبه بين موضوعية العلم وذاتية الفن. ويمتاز بتلون العبارة، وتنويع الصور والأفكار، مما ينفي الملل عن القارئ. برز نشاطه الأدبي منذ تولي تحرير الصفحة الأدبية بجريدة "السياسة" الأسبوعية فكان ينشر مقالًا ممتعًا في الشعر كل يوم أربعاء، ويلخص قصة من أدب الغرب كل يوم أحد، ويناقشها مناقشة أدبية, وكان محصول ذلك بحوثًا مبتكرة في طبيعة الأدب العربي، فثار أعلام الكتابة عليه، وبدأ احتدام الصراع بين زعماء القديم بقيادة الرافعي، وأنصار الجديد بزعامته، فكان بداية بعث أدبي جديد. أسلوب طه حسين: غلبت عليه العناية بالألفاظ والجمل، وتقديم المشاهد والصور المتعاقبة. "لا يهجم عليك برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاك صديقًا لطيفًا، ثم يأخذ بيدك أو بعقلك وشعورك، ويدور معك مستقصيًا المقدمات، محللًا ناقدًا، يشركك معه في البحث حتى يسلمك الرأي ناضجًا ويلزمك به في حيطة واحتياط، ثم يتركك ويقف غير بعيد متحديًا لك أو ضاحكًا منك, وذلك في عبارات رقيقة عذبة أو قوية جزلة، فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه، فإذا قص أو وصف أخذ عليك أقطار الحوادث والأشياء، ودخل في أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققًا مقتضيًا، يخشى أن يفوته كل شيء ولا يخشى الملال من شيء، دقيق الشعور، صاف النفس، نبيل الجدل حاده، يسير مع خصمه بعقله حتى إذا أنس منه الغضب أو التوى تركه وانصرف1" أو هو كما قال محمد مندور: "أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدًا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره، أسلوب واضح الموسيقى، يكشف في سهولة عن أصالته2". لهذا كله سمى بعض الدارسين3 أسلوب طه حسين بأسلوب التصوير المتتابع وأهم ما يميزه عن غيره ما يلي: 1- الاعتماد على الجمل القصار، وإيرادها فيما يشبه التكرار أو الإعادة للمعنى الواحد دون أن يحس القارئ بشيء من الملل أو الضيق أو السآمة، لامتلاكه ثروة لغوية عريضة.

_ 1 راجع: الأسلوب ص 128, 129 أحمد الشايب الطبعة السادسة 1976. 2 راجع: في الميزان الجديد ص21 - طبعة 1973. 3 راجع: تطور الأدب الحديث في مصر ص422 د. أحمد هيكل طبعة 1968.

2- يكثر من صيغ الاستنكار والنفي والتعليل والاستطراد الخفيف مما يخفف على القارئ عند قراءة موضوع واسع أو مقال طويل. 3- يتوجه بالحديث إلى المخاطب، حتى يبدو كأنه يحدث قارئه ولا يكتب إليه، مع الترفع عن الابتذال والإسفاف مهما كان الموضوع الذي يتناول، والابتعاد عن استعمال الألفاظ الغربية، والأساليب العامية. 4- يؤثر لوازم معينة عند البدء والانتقال والتفصيل لم تؤلف في كتابات غيره مثل: مهما يكن من شيء، تستطيع أن تسميه كذا، وإنما هو شيء آخر غير كذا، ومما لا شك فيه, ومثل: الرغم والسخط والرضى والإسراف والبراعة، وغير ذلك من الألفاظ التي يلحظها القارئ، ويتميز بها عن غيره. 5- تبدو فيه شخصيته الأدبية فيما يكتب -قصة أو مقالًا أو كتابًا- فتراه يؤدب العلم والمنطق والتاريخ، مع إشراق الديباجة، ووضوح العبارة، وسهولة الألفاظ، وتوقيع موسيقى وجرس خفيف على الأذان، ومن هنا عجز الجميع عن محاكاته أو تقليده. 6- يحتفظ بصورة بديعية واحدة -رغم تحرره من صور البديع- هي فن المطابقة، ويؤثر السجع عند الحاجة، ويأتي به بين كلمتين متجاورتين في الجملة الواحدة، وقد يتجاور مع سجع بين نهاية جملتين مثل: "كان الشيخ مهيبًا رهيبًا، وكان فخمًا ضخمًا، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء1" وهذا جزء من مقال له عن: "الحب في شعر عمر بن أبي ربيعة" يقول فيه: "وكان كل شيء في حياة عمر وسيلة إلى الاتصال بالمرأة وذكرها، والتحدث إليها ولا سيما الحج، فلم يكن ابن أبي ربيعة يفهم من موسم الحج إلا أنه معرض إسلامي للجمال، كان إذا قرب الموسم اتخذ أجمل ما كان

_ 1 راجع: على هامش السيرة ج1 ص3 طه حسين.

يستطيع من زينة, وظهر في مظهر الفتوة والقوة وفارق مكة، فتعرض للحجيج في طريق المدينة والشام والعراق، يتلمس نساءهم، ويتبين هوادجهن، ويعرض منها لمن تظهر عليها آثار النعمة والترف، فإذا وافى الحجيج مكة وغيرها من مواضع المناسك كان عمر قد أحصى النساء اللاتي يجب أن يكون بينه وبينهن لقاء أو حديث أو مكاتبة، وكان له رسل تعمل في ذلك فتأتيه المواعيد في مكة حينا, وفي منى حينًا آخر، وكان أحب ساعات الدهر إليه أوائل الليل من أيام الموسم حيث ينتهز النساء فرصة الليل فيخرجن للطواف, هناك كان عمر بن أبي ربيعة يترصدهن، ومنهم من كانت تترصده، وهنالك كانت تبتدي الأحاديث لتتم بعيدًا عن البيت، حتى إذا انتهى الموسم، وأزمع الحجيج العودة إلى بلادهم". "رأيت عمر مقسمًا بين نساء المدينة ونساء الشام ونساء العراق، يشيع هذه ثم يعود، فيشيع تلك، ثم يترك هاتين ليشيع امرأة أخرى, وهو لا يفرغ من تشييع امرأة إلا قال الشعر الجيد يسبقها إلى موطنها، ولا يلبث أن يسقط بين أيدي المغنيين، فإذا هو مصدر للهو والطرب لهذه الاستقراطية المترفة من أبناء قريش والأمصار، فكان موسم الحج موسم شعر وغناء في الحجاز1". على الرغم من أن أسلوب طه حسين يحفل برنين الألفاظ، وجرس العبارات أكثر من الفكرة المدروسة، والمعنى العميق فقد كان شيئًا جديدًا، متميزًا في الكتابة العربية الحديثة، فيه من لغة العرب البيان والإشراق واللمح، ومن الفرنسية الوضوح والإبانة والدقة.

_ 1 راجع: حديث الأربعاء: جـ1 ص209 وما بعدها.

سابعا: عمر فاخوري 1895-1946

سابعًا: عمر فاخوري 1895-1946 كاتب مبدع، فيه روح شاعر ملهم، وأديب لبناني موسوعي الثقافة والفكر، ألم بفنون العربية، وتجاوزها إلى الأدب الغربي وبخاصة فرنسا، فألف بين تراث الشرق والغرب تأليفًا، تلمح فيه دقة الملاحظة، وتدرك منه مواضع الربط بين لغات الفكر، واهتمامه بآثار الفكر واللغة والتحقيق. ترك آثارًا مطبوعة في كتب خفيفة، ضمت مقالاته وخطبه وأحاديثه التي نشرتها الصحف والمجلات، وضم كل طائفة ذات موضوع واحد في كتاب، وحملت كتبه عناوين طريفة تدل على محتوياتها، وتمثل مرحلة من مراحل التطور والتحول في حياة عمر فاخوري هي: كيف ينهض العرب؟ 1913، وأراء غربية في مسائل شرقية 1925، والباب الموصود 1938، والفصول الأربعة 1941، ولا هوادة 1942، وأديب في السوق 1944، والحقيقة اللبنانية 1944 وحجر الزاوية 1946. وترجع أهمية هذه الآثار لما تضمنته من أراء تحررية وسطور تشع بالفكر المتجدد، وتعبر عن الشخصية العربية الحرة، وتسخر ممن تكلفوا الأدب، فجاء أجوف الفكرة، لا تنبض فيه الحياة. أسلوب عمر فاخوري: سطر عمر فاخوري مقالات نقدية وفكرية بأسلوب ساخر حينًا، ولاذع حينًا آخر، فنبه الأذهان على أدب حديث تناول قضايا الحياة والإبداع، وأدرك المثقفون من خلاله أنهم أمام مثقف كبير، ارتوى من ينابيع شتى، وسكبها في أفكاره التحررية، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي: 1- الجمع بين الإيجاز والدساسة. 2- التعبير عن صميم الموضوع، بحيث يحس القارئ بمتعة، وينتهي منه إلى مكتسب فكري وذوقي، فتدخل في محتواه النفس والشعور. 3- موضوعاته طريفة، وتعبيره بليغ، بعد عن الركاكة، وسلم من العجمة ويتسم بالجدة والابتكار، على الرغم من ترادف الموضوعات وتعددها. 4- يمثل النموذج الفني والفكري، المتأثر بأدب المغرب وثقافته، مع المقارنة والموازنة والاقتباس. 5- يحتوي على صور العصر، ويمثل أدب صاحبه ومجتمعه الذي عاش فيه خير تمثيل، أو قل يستمد المعاني والصور من ينابيع الحياة.

6- يتسم بالإبداع الفني، ويتم عن شخصية صاحبه بكل مقوماتها وخصائصها، ويعبر عن أهدافه ومراميه، ومطبوعًا بطابع السخرية والتوثب. 7- يجد القارئ في عبارته جلجلة غير مؤذية، وروعة لا يشاركه فيها أديب. 8- يتميز برهافة الإحساس، وسحر التأثير، والانفراد بطريقة لاذعة في النقد. 9- يعتمد على تحليل الشعور والأفكار تحليلا يوصله إلى الحقيقة. وهذا جزء من مقال له بعنوان "ربيعي الأول" جاء فيه: "منذ أغريت نفسي بأن تتحدث عن الربيع فأجابت بعد لأي، وأنا اكتشف أشياء وأشياء، وكأني لا عهد لي بها من قبل، ففي جنة البيت أبصرت فجأة شجيرة مشمش "يزعمون أنها حضرت مولدي" أعجبني منها أول وهلة، هذا الزهر الأحمر الضارب إلى صفرة، عالقًا بأغصانها قناديل صغيرة مضاءة في رائعة النهار، لأطفال في عيد، لكن ما لبث أن عرفت سر القناديل، فإذا كل واحد منهما لحظة عتب ساخر، ترمقني به الزهراء شذرًا، وهي تقول: "الآن رأيتني؟ " "الآن رأيتني؟ " تقولها وهي تتعمد شدى، كأنما يسوؤها أن أتقدم، فأشارك الأطفال أفراح عيدهم". وخطر ببالي أن أذكر الشجرة أمسها القريب حين لم تكن سوى عيدان جرداء ممتدة في الأفق القاسي، أبدى تبسطها الفاقة في السؤال، لا لحم عليها ولا دم فغاظني أنها صدفت عني غير مبالية، وطفقت ترفل في خيلائها، كالصبية الحسناء ليلة عرسها، ترسل أخطر نظرة صادقة على حلتها متهادية ذات اليمين وذات الشمال، وودعتني بنفخة من أرج ساطع خيل إلي أنها تقهقه به ضاحكة". "وسولت لي نفسي أن أثأر لها، فخرجت إلى الجنينة وأخذت بجصر الشجرة السعيدة فهصرته وهزهزته، فتساقطت المسكينة على رأسي وفوق كتفي وبين أقدامي، زهرات يتامى، وفيما أنا واقف أرجو أن أراها مجهشة

بالبكاء، إذا بها تتلملم بأسرع من لمح البصر، كأن لم يك شيء فتصلح زيها الذي تشعث قليلًا، ثم تعود في خيلائها، مضاءة بأنوار الربيع". "قلت لنفسي وأنا أتكلف سرورًا ظاهرًا: "هلمي بنا في هذا اليوم المشرق من أيام البعث.. لنطرح الكتاب جانبًا، ولنمضي إلى الضاحية فنستقبل بشائر الربيع" فتبعتني نفسي كالمرغمة، وكنت أتلفت ورائي، حينًا بعد حين، لا أنظر إلي أين هي, ومشيت على مهل، وأنا أسرح الطرف معجبًا، كأني أفتح على الكون عينين جديدتين، لم يسبق أن استعملهما أحد كمثل نافذتين في دار مهجورة أقفلتا زمنًا طويلًا، فلما آت إلى الدار أهلها؛ وفتحت النافذتان أخذتا تنظران، وكأن الأرض بدلت والسماء غير السماء". "وفيما نحن في الضاحية نبحث عن موكب الربيع تدق فيه البشائر، إذ تجهم وجه الدنيا وتريد بالسحاب، ثم أنزل المطر علينا مدرارًا, وهكذا عدنا من حيث أتينا، ونحن نقص على الناس أننا رأينا الربيع يدخل البلد متنكرًا في ثوب الشتاء، مشمرًا أذياله بين الوحل والماء". - ذهب ربيع وجاء ربيع. قالت ماري: ماري قرطيا التي لا تعرف شيئًا عن البروج لأختها. - تعالى ... انظري إلى هذه الشجرة الزاهرة في جنينة الجيران ... سألني: "ما هذه الشجرة يا ماري؟ " أجبت شجرة مشمش. يا معلمي، قال: أواثقة أنت؟ نعم. وأعاد على السؤال ثم أخذ في الكتابة ليلة بطولها ... فمزق كثيرًا من الورق، قبل أن يملأ صفحة واحدة1". وهكذا كان عمر فاخوري كاتبًا مبدعًا في روح شاعر ملهم، عبر في مقالاته عن الأدب والحياة في ذاتية عميقة، وموهبة فنية طاوعته في معاناة الفكر والبيان، تجلى فيها إخلاصه للأدب، وتجافيه عن التكلف والتقليد.

_ 1 راجع: عمر فاخوري ص115-116 العدد 89 من سلسلة أعلام العرب فبراير 1970.

ثامنا: مي زيادة 1897-1941

ثامنًا: مي زيادة 1897-1941 كاتبة تتمتع بعقلية نادرة، وقدرة فائقة، وطريقة فاذة في الكتابة والخطابة، لقبها أدباء عصرها بالنابغة، أحدثت في الصحافة نشاطًا لم تسبق فيه، فقد ابتكرت في السياسة الأسبوعية -عند إنشائها- 1926بابًا أطلقت عليه "خلية النحل" يتضمن أسئلة القارئات والقارئين, ويتولى غيرهم الرد عليها, واهتمت باختيار الأسئلة والأجوبة، وصاغتها صياغة لائقة، جذبت القراء في الإقبال على هذا الباب، مما روج الصحيفة. جذب صالونها الأدبي منذ العشرينات حتى الأربعينات الأدباء والمفكرين من مصر وبلاد العروبة، وكانت "مي" فيه البلبل المغرد، وكعية الخيال لكل رواده الذين أحبوها جميعًا. صنفت حب الرجال لها بأنه حب تختلط فيه مشاعر الأبوة بالأخوة، والصداقة العقلية بالصداقة النفسية، وكانت تكسب عواطفهم دون أن يكسبوا شيئًا منها، فهام الجميع يتغزلون فيها دون أن يجعل أحدهم غزله فيها عاريًا أو جارحًا. ومن هنا لم يتمكن محلل لحياة "مي" أن يحدد أفضل الرجال عندها، وتلك إحدى عبقرياتها التي جعلتها وضوحًا في صداقتها، وأكثر ما تكون عوضًا في أحاسيس الصداقة من جانبها. أرخ الرجال الكتاب عنها من أمثال: عباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وجبران خليل جبران، ومنصور فهمي، وكامل الشناوي، وطاهر الطناحي وغيرهم ممن اهتموا بحياتها بعد وفاتها. أسلوب مي زيادة: مي زيادة أديبة مقال تكتبه من وحي إحساسها الفني وبصيرتها الناقدة، وتأملاتها الذاتية والجباتية، ولذا يشف أسلوبها عن ثقافتها الفكرية والروحية, ويدل عليها، ويحتفل بتنسيق الأداء والإتقان والجودة وينساب حسب أفكارها، وينم عن الرصانة وسعة الثقافة، وصفت "مي"

زيادة" الكاتب الحق في حديثها عن صاحبتها "باحثة البادية" فقالت: "ليس بكاتب من كان ينقصه ما يسميه الإفرنج "قماش الكاتب" أي: السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة، ويعرف صياغة الجملة الملائمة1". وعلى أي حال فأسلوب مي زيادة يتميز عن غيره بما يلي: 1- اختيار الألفاظ ذات الجرس المؤثر الملائمة، والعبارات الأنيقة الرشيقة الموائمة، والجمل الواضحة -التي لا لبس فيها- المناسبة. 2- يحفل بتوازن العبارات في موسيقى عذبة هادئة، وتنسيق الجمل في وحدات مترادفة متساوية دون ملل أو رتابة. 3- تتراوح نغماته بين الشدة واللين، والقوة والضعف، تبعًا لتغير الموضوعات واختلافها، ومع ذلك تجده مشرق أخاذ لتعبيراته رنين عذب وجرس خلاب. 4- يتسم بالوضوح والسلاسة، وينم عن عناية فائقة بالصقل والتهذيب, وحرص على الجودة والإتقان. 5- أقرب إلى المحسوس الداني منه إلى الخيال البعيد في لوحة مصورة وملحنة ومقسمة الكلام على تقاسيم شعر خفي تتحرك به النفس. وهذا جزء من مقال لها عنوانه "كلمات في الصداقة" جاء فيه: "قد تبدو هذه الكلمات غريرة للذين لا يرون في الصداقة إلا وسيلة نفعية تعود على كل المرتبطين بها بفائدة محسوسة كالظهور بمظهر العظمة، أو التمكن من دحر منافس أو التعاون على الإساءة إلى شخص أو أشخاص، أو جني ثمرة ملموسة، وتحقق غرض مالي أو اجتماعي". "ونخطئ إذا نسبنا إلى أهل هذا العصر وحدهم الصداقة المغرضة؛ لأن تلك كانت شيمة الكثيرين في جميع العصور، وعند جميع الأقوام،

_ 1 راجع: باحثة البادية لمي زيادة.

قد تكون في هذا العصر أكثر شيوعًا، وإنما نحن أشد شعورا بها؛ لأننا نعيش في وسطها، ويجبهنا وجهها المخادع أنى توجهنا، فإذا أنت طلبت من الصداقة شيئًا غير تلك الفوائد المتداولة، إذا طلبت العاطفة الخالصة، والفائدة الأدبية المجردة، وتلك اللذة البريئة التي تجدها في محادثة الصديق بالكلام أو بالسكوت، وشعرت باحتياج ملح إلى ذلك، كاحتياج الدم إلى النور وإلى الهواء، إذا أنت طلبت هذا من الصداقة وعند الصديق فما أنت في نظر تلك الفصيلة من الناس إلا من أهل الشذوذ والغباوة ... على الأقل". "وعلى رغم كل ذلك فموضوع الصداقة من الموضوعات التي نقبل عليها في اهتمام ولهفة، ولو جاز لي أن أشير إلى خلو خالص في قلت: إني أشعر بشيء غير قليل من الأسف كلما انتهى إلي أن صديقين كريمين تجافيا بعد التصافي، وقد يكون أسفي ناجمًا عن نوع خاص من الأثرة لا أدركه تمام الإدراك، قد يكون ذلك, إن انفصام عرى الصداقة بين الآخرين، كأنما ينال من إيماني بالصداقة ويزعزع من رجائي فيها, لسنا في حاجة إلى دهور نعيشها لتدرك كم في هذه الحياة البشرية من خبث ومراوغة ونفاق، اختيارات قليلة تكفي لتدلنا على أن بعض المثل العليا تخذلنا وتصرعنا بلا رحمة ثم تنقلب مسوخًا ساخرة مزرية، لا تلبث أن تكثر عن أنيابها -مهددة متوعدة- وهي التي تجلب في نفوسنا من قبل جلباب القدسية والعبادة". "اختيارات قليلة في أحوال معينة وأحوال مفاجئة، تكفي لتظهر لنا أن من الناس من يتاجر بكل عاطفة صالحة لتنفيذ أغراض غير صالحة، ومن يستغل كل استعداد كريم لنتيجة غير كريمة، ومن لا يكتفي بالظلم والإجحاف، بل لا يتورع عن إيذاء الذين أخلصوا النية في معاملته، ولم ينله منهم إلا الخير، وكم من مذيع أنباء الصداقة لا لسبب آخر سوى التوغل في الإيذاء باسم الصداقة في أساليب سلبية أو إيجابية لا يعلم إلا هو كم هي خبيثة وكم هي مغالة"1.

_ 1 راجع: الرسالة في 22 فبراير 1935 السنة الثالثة، نتعرف 84.

من هذا يتبين لك أن مي زيادة كانت تجمع في كتاباتها بين الموضوعية والذاتية، فتستهوي القارئ بأسلوبها المطبوع بذوقها وأصالتها، وفي الوقت نفسه يكشف عن ثقافتها العريضة، ومحصولها الوفير، وقدرتها على التعبير والتصوير في رقة ودقة وفخامة وضخامة عرفت بها في كتاباتها وشتى أحاديثها.

الفصل السادس: المقال والأسلوب الفلسفي

الفصل السادس: المقال والأسلوب الفلسفي مدخل ... الفصل السادس: المقال والأسلوب الفلسفي يخضع الأسلوب الفلسفي لمنطق قويم، ومنهج منظم، وترتيب جيد. بحيث تسلم المقدمات فيه إلى النتائج، ويساق في صورة رائعة تظهر فيها آيات الفن. برز هذا اللون من الكتابة الصحفية على يد نفر من رجال الفكر أخذوا يطبقونه في أبحاثهم منطق أرسطو، وفلسفة ديكارت، ومنهج بيكون؛ لأنه لا غنى عن متابعة تطور وتقدم الأمم، ولا سبيل إلى النهوض والارتقاء إلا بترجمة آثار الأمم المتقدمة، كي نقف على ما وصلت إليه من ارتقاء علمي وفني وفكري، رجاء أن يبرز في الشرق مثل ما برز في الغرب، فكان هذا مفتاح التفكير العصري الذي أخرج كثير من المذاهب الفلسفية الحديثة. واعتمدت الكتابات الفلسفية في أول أمرها على النقل والاقتباس لإيمان البعض أن ذلك أجدى من الخلق والابتكار، ويحول دون عثرات الأمم الناشئة، وفي الترجمة ما يسد حاجة الأمة إلى نوع من المعرفة يهديها إلى سبيل الرشاد. وبرز في مجال الكتابة الفلسفية العديد من الكتاب، ففي مجال الفلسفة اليونانية يوسف كرم، وأحمد لطفي السيد، وزكي نجيب محمود وعلي أدهم. وفي مجال الفلسفة الإسلامية الشيخ مصطفى عبد الرازق، وإبراهيم مدكور، وأبو العلاء عفيفي, وفي مجال التراجم والمترجمات أحمد فؤاد الأهواني، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة. وفي مجال الثقافة الموسوعية محمد فريد وجدي وإسماعيل مظهر وغيرهما. وسنحاول أن نوضح دور ثلاثة من الكتاب في هذا المضمار، نتعرف من خلال أثارهم على جمهودهم في مجال الكتابة الفلسفية، فالي صفحات هذا الفصل.

أولا: أحمد لطفي السيد 1872-1962

أولًا: أحمد لطفي السيد 1872-1962 أستاذ جيل وصاحب فكر، ورائد أسهم في هضة مصر الفكرية والسياسية والاجتماعية، اتخذ من "الجريدة" منبرًا لأفكاره وتقاليده واتجاهاته وفلسفته في النظر إلى الأشياء، تبوأ على صفحاتها مقعد المعلم والأستاذ الذي جلت مكانته بين تلاميذه، فكان أستاذ جيل، وأصل ما انقطع من رسالة الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي. كتب آلاف المقالات في صحيفة "الجريدة" منذ صدورها 1907 حتى قبيل احتجابها 1915، نشر المرحوم إسماعيل مظهر مختارات منها في جزأين بعنوان "المنتخبات" وثالث بعنوان "تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع" ومجموعة أخرى بعنوان "صفحات مطوية". استمد أحمد لطفي السيد كتاباته من منابع ثلاثة -تميل إلى العلوم المنطقية والفلسفية- من الفلسفة العربية، تأثر بفلسفة ابن رشد وابن سينا وابن حزم، ومن الفلسفة اليونانية تأثر بفلسفة أرسطو. ومن الفلسفة الأوروبية تأثر بالفلاسفة المحدثين مثل "كانت" الألماني، ثم فولتير وروسو من المفكرين الفرنسيين، وجون ستيوارت الفيلسوف الإنجليزي، فانطبع تفكيره بآثار هؤلاء المفكرين حتى لم يحل مقال كتبه من تأثيرهم. توفر على ترجمة آثار "أرسطو" بعد أن هجر الصحافة إلى دار الكتب لإيمانه أن حركة الترجمة تسبق حركة التأليف وتمهد لها، كما حدث في عصر النهضة الأوروبية، وإدراكه أن "أرسطو" أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، وقصد بذلك أن يعرف الناس مبادئ المعلم الأول في السياسة؛ لأنها -عند أرسطو- أشرف العلوم، وبها يتم تدبير المدينة ليكون سكانها فضلاء، واستهدف من وراء ذلك نشر

مبادئ الحرية بين أفراد الأمة حتى يتخذها الجميع المثل الأعلى في أمالهم الوطنية. أسلوب أحمد لطفي: لم يختلف اثنان على أستاذيته لجيله، وامتدت أستاذيته عبر الأجيال بعده حتى لحق بربه. وصفه صديق عمره المرحوم عبد العزيز فهمي فقال: "ديمقراطي الرأي والعقيدة، لكنه طول حياته ارستقراطي مع الأرستقراطيين1" وأهم ما يميز أسلوبه السمات التالية: 1- الجمع بين مأثورات بيئته وأفكار عصره. 2- مزج الفكرة الفلسفية والاتجاه الفلسفي في نظرة موضوعية مجردة. 3- وضوح التأثير العربي واليوناني والغربي في تفكيره وكتاباته. 4- يتسم بالإيمان العميق بقداسة الحرية الفردية، ويشيع فيه احترامها. 5- يصدر عن فلسفة سياسية واجتماعية متكاملة، تقوم من الناحية السياسية على الدولة والحكم ومن الناحية الاجتماعية على مضمون واحد هو الارتقاء الذي تحققه الأمة وتعمل الدولة له. تحدث عن عيوب المجمع المصري "الرياء" فقال: "أرأيت الذي يقول رأيه في مسألة بعينها، ولا يلبث أن يغيره من غيره سبب إلا شغفه بإرضاء عظيم ينتظر نفعه ويخشى غضبه، أو اتقاء لأن يعلن عنه أنه غير محب لوطنه، وبالجملة نعني ذلك الذي يتخذ رأيه قميصًا وقتيًا يلبسه كلما كان متفقًا مع "المودة" ويخلفه متى جاءت "مودة جديدة" يكره معًا لبس ذلك القميص القديم ... ثم قال: "لست أنتزع من الخيال صورة هذا الذي أصفه كما يصنع الشعراء، ولكني ناقل من الطبيعة صورة قد شاعت في الناس شيوعًا، لا أظن

_ 1 راجع: أحمد لطفي السيد، العدد 39 من سلسلة أعلام العرب.

السكوت على محاربتها إلا ضربًا من السكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس، هذه الرذيلة -رذيلة الرياء- يستخدمها بعض الناس وسيلة للنجاح في الحياة". "وهي وسيلة نافعة في البلاد الاستبدادية التي يتوقف نجاح الفرد فيها -مهما كان كفوءًا- على رضا السلطان وأعوانه، ولا شيء يرضي السلطان غير العبادة. والذي يرضى بأنه يبيع نفسه عبدًا ليشتري بثمنها قوتًا يعيش به أستبعد كثيرًا أن يكون حافظًا للصورة التي خلقها الله عليها، صورة الإنسان ذي الشخصية صورة الحرية. وما مثل هذا الناجح بريائة إلا كمثل الذي ينجح في الحصول على الثروة عن طريق السرقة، فيئست الوسيلة ويئست الغاية". "قال أرسطو: خلق بعض الناس ليكون حاكمًا، وخلق بعض الناس ليكون محكومًا، ولكنا نظنه قد أخذ هذه القاعدة من ملاحظته الشخصية لبعض قومه، ولأخلاق جيرانهم من الأسيويين. وهذه الملاحظة لا تكفي وحدها لتقرير قاعدة عامة مثل هذه القاعدة، لذلك نقول: إن الله فطر الناس على فطرة واحدة أو متقاربة الفروق جدا، إنهم جميعًا نظروا على الحرية الشخصية"1. وفي مقال آخر تحدث عن "انتشار البغي" بين طبقات المجتمع المصري فقال: "أساس البغي في نفس الباغي قوة تخدعه، غير أن الأمثلة في هذا العالم قد يدل ظاهرها على خلاف هذه القاعدة، وأن النظر السطحي في هذه الأمثلة الكثيرة الوقوع بين ظهرانينا هو على ما أظن الهادم الأعظم لسياج الأخلاق الفاضلة، والقوض لدعائم الثقة في مبادئ الخير، بل المزعزع في بعض القلوب لقواعد الإيمان بالله الواحد القهار".

_ 1 راجع: الجريدة أول فبراير 1908.

"ومتى اعتقد القاضي ذلك رأى استقلاله الذاتي خطرًا عليه، فيضحي به على مذبح القوة القاهرة، ويصبح لا يفكر إلا كما يفكر الحاكم، ولا يرى إلا بعين الحاكم، ولا يسمع إلا بإذن الحاكم، يطيعه الطاعة العمياء -لا في حدود القانون المكتوب- بل فيما يخرج به عن حدود القانون والمصلحة أيضًا. ولا شك أن هذا النظر هو الذي جعل الحكومات الاستبدادية خطرًا على أخلاق المحكومين؛ لأنها تورثهم دائمًا طبائع الاستبداد". "ولو أمعنا النظر لوجدنا أن جزاء البغي يقع على الباغي أولًا؛ لأن أول عمل من أعمال البغي هو بعينه أول سبب من أسباب سقوط الباغي وتحلل قوته. فإذا رأيت امرأ بغى على آخر، فاحكم بأن قوته بدأت تتحلل وسلطانه أخذ يتقلص، فإن أسباب قوة القوي رضى النفوس به، واجتماع القلوب إلى نصرته، فما يقيه إلا هدم لقوته، لذلك قالوا: "على الباغي تدور الدوائر"1. ومن خلال كتابات أحمد لطفي السيد تدرك أنه اتخذ من الصحافة والسياسة، وسيلة للخدمة العامة، التي يفرضها واجب الوطن على المواطن، وحقق بهما دعوته، وعلى الرغم من أن الفكرة الفلسفية كانت تحكمه، إلا أنه لم يقف عند حدود النظرية، بل كانت تنزع به إلى العمل والتنفيذ، فإذا كانت الصحافة وسيلة لنشر الفكرة، فإن السياسة وسيلة لتنفيذها.

_ 1 راجع: الجريدة في 30/ 12/ 1911.

ثانيا: علي آدهم 1897-1981

ثانيًا: علي آدهم 1897-1981 من أعلام الأدب والثقافة العربية، أثرى الكتابة العربية بالعديد من الكتب والمقالات في الأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والاجتماع والتراجم. ألف حوالي اثنين وعشرين كتابًا، وترجم تسعة كتب عالمية، وراجع ستين كتابًا, ومن هنا كان علي أدهم موسوعي الثقافة، تقرأ له في التارخي وفلسفته، وفي المؤرخين العرب ومذاهبهم ومناهجهم، وفي الأدب الروسي بوجه عام وله دراسات وترجمات للأدب الغربي ذات ذوق واختيار بديع. عرف القراء علي أدهم من خلال كتبه التي ألفها، ومقالاته وخاصة على صفحات مجلة "الكتاب العربي" التي رأس تحريرها في الستينات، ترجم للأعلام الأماثل في الشرق والغرب من أمثال عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وأبي جعفر المنصور، والمعتمد بن عباد، كشف حديثه عنهم مدى التطور الداخلي لشخصياتهم وعلاقاتهم بتطور أحداث عصورهم. ويعتبر كتاب "صقر قريش" الذي نشر بجريدة "السياسة" 1923، وجمع في كتاب 1938 من أهم التراجم التي نبهت العديد من الأدباء إلى ترجمة عظماء الإسلام، كما يعد كتابه "محاورات رينان" الذي ترجمه في الثلاثينات من أسبق الكتب الفلسفية المترجمة التي لفت الأنظار فيما بعد إلى ترجمة الكتب الفلسفية1. يكشف هذا كله عن علم غزير، ومحصول وفير، وذوق رفيع، واختيار بديع، وهذا جوهر ما دار حوله النشاط الفكري والأدبي في الجيل الماضي. أسلوب علي أدهم: أثرى علي أدهم وجدان القارئ العربي بكتاباته العميقة، ومقالاته المثمرة التي تعد نموذجًا رفيعًا للأديب العالم في عالم عزت فيه النماذج المثلى في الأدب والفكر والحياة, وصف العقاد وضوح أسلوب علي أدهم في ترجمته لكتاب "مستقبل روسيا" فقال: "إنه استطاع أن يجعل هذا البحث السياسي قطعة أدبية ترضي ذوق الأديب، كما ترضي فكر الباحث المنقب عن تاريخ العالم في عصره الحديث2" وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:

_ 1 من المجموعة القصيصة التي اختارها من عيون الأدب العالمي: فيرانا، والخطايا السبع، وصديق الشدة. 2 راجع: الأهرام، العدد 34371،الصادر في 19/ 1/ 1981.

1- السلاسة والسهولة والصفاء دون صخب أو ضجيج. 2- البعد عن التكلف أو الاصطناع أو التعصب أو التحزب. 3- شمولية النظرة، وإنسانية المذهب، وحرية الفكرة. 4- علو الذوق، وحسن الاختيار، والتمكن من اللغة التي يترجم عنها أو إليها. مما وفر له إبراز مواطن القوة والمجد فيما تحدث عنهم من شخصيات أجنبية. 5- الاهتمام الملحوظ بأحداث التاريخ، مع النضوج في تقدير النتائج الأدبية والفنية والغوص في أعماق الشخصيات، والوقوف على نزعاتها، وتقليل ذلك وتفسيره. 1- الجدة والطرافة على الرغم من كثرة ما كتب، وتنوع ما سطر، وتعدد ما دبج بحيث يقدم مادة أدبية خصبة ملهمة ومثيرة. وهذا جزء من مقاله "بين الفن والفلسفة" جاء فيه: "بحث العلاقة بين الفن والفلسفة يعني الفيلسوف أكثر مما يعني الفنان؛ لأنه داخل في دائرة اختصاصه، فإن كل نظام فلسفي مطالب بتفسير كل حقيقة وأن يتسع لكل مظهر من مظاهر النشاط العقلي، ولعل هذا هو السبب في أن كثيرًا من الفلاسفة قد أفسحوا للفن مكانًا في فلسفتهم, وخصوه بعناية ملحوظة في بحوثهم، وقد جعل ممثلو نهضة الفكر الألماني في أوائل القرن التاسع عشر كل من يطرق هذه البحوث مدينًا لهم وضيفًا على موائدهم الحافلة، ولا سيما كانت وهجل وشوبنهاور، واشتهر في العصر الحديث مذهب كروتشه أبعد فلاسفة إيطاليا المعاصرين شهرة، وقد أثر مذهبه في الحياة الفكرية برغم ما وجه إليه من نقد". "الفيلسوف يثير السؤال ويصف المشكل، ويروقه أن يتعاون مع الفنان في استجلاء غوامض الفن، والاهتداء إلى أسراره، ومن الاعتبارات التي تجنح بالفيلسوف إلى الوقوف على تاريخ الفن أنه في كل عصر من العصور ينعكس التصور السائد للحياة الدنيا في الإنتاجات الفنية, فالفن إذن من بعض الوجوه تعبير جميل عن فلسفة العصر".

"ولقد كان بعض الفلاسفة الألمان يرى أن الاستمتاع بالفن رياضة نفسية هامة، وأنه من أقوى وسائل التهذيب ومن أحسن الذرائع إلى التوجيه العلمي والسمو الأخلاقي، وذلك لأن تأمل الجمال يطأ من غلواء الحس، ويجرده من الخشونة والجفوة, ويعلمنا كيف نرقب الأشياء رقابة تأملية هادئة دون أن تغلي نفوسنا حرارة الرغبات، وهذا مما يطلق النفس من أسر المطالب واللبانات ويجعلها قابلة لإدراك القيم السامية: قيم الحق والخير والجمال". "والمتحضر المثقف لا يكتفي بمشاهدة الحقائق سواء في العالم المادي المتطور أو في عالم الوعي المحجب، ووفقًا لذلك نشأت من ناحية العلوم الطبيعية ومن ناحية أخرى نشأت مذاهب الأخلاق والسلوك والآراء الدينية ونظريات الفن والجمال, والباعث إليها جميعها تلك الضرورة الملحة التي ترغمنا على تفهم الحوادث ودراسة حركات الوعي، وقد روع الباحث كثرة مذاهب الفلاسفة في الفن والجمال، ويرى في عدم انتهائها إلى نتيجة حاسمة دليلًا على قلة جدواها، ولكن يندر أن يستعرض مفكر تلك الفلسفات ولا يقدر ما بها من خواطر مضيئة وأفكار لامعة، وقد لا يخلو من صواب قول ولتر باتر "قيمة فلسفة الفنون كانت في الغالب في الأفكار الموحية النافذة التي وردت خلالها عرضًا" وليست فلسفة الفن ساحة جميلة في أقطار مطروقة وبلاد مأهولة, وإنما هي أشبه برحلة استكشاف يرود فيها الباحثون مجاهل خفية وأقاليم غير معروفة، والتفكير الفلسفي لا يرمي من وراء ذلك إلى تحسين الفن وخلق مقاييس له وإقامة حواجز تحد من حريته، وإنما غرضه إجادة التفكير في الإنتاجات الفنية والوقوف على سر الإعجاب بها والإحساس بجمالها، وربما كانت هذه المحاولة النزيهة أنفس نتائجه وأشهى ثمراته، والذي يقبل على الفلسفة وفي حسبانه أنها ستقدم له المفتاح لكل مستغلق من الأمور وتلقنه كلمة السر التي يعلم بها جيئية مجهول، لا شك واقع تحت تأثير وهم باذخ سرعان ما تتجلى عنه غشاوته ويستفيق من تأثره عند مواجهتها ومعالجة مشكلاتها". "وقد أصبحت مناطق العلوم بارزة المعالم، والفلسفة تتناول المسائل

للشيء يتركها كل علم وهذا يضفي على الفلسفة أهمية خاصة وينزلها منزلة سامية ويفرض عليها واجبًا خطيرًا، وهي تستمد أهميتها من مختلف العلوم, وتستورد منها الحقائق المقررة والمعلومات الممحصة لتستعين بها في أبنيتها الفكرية وتكوين نظرياتها، فهي إلى حد ما تعيش عالة على العلوم وإن كانت لها وظيفتها الشاقة المستقلة، وتاريخها أبعد أعراقًا في التقدم من تاريخ العلوم وإن لم يكن أقدم من تاريخ الفنون". "واتجاه الفلسفة إلى معالجة المسائل الخاصة بطبيعة الجمال والفن كان باعثه في بعض الأوقات ارتباطها بمسائل ما وراء الطبيعة، وفي أوقات أخرى ما كان يلاحظ من تأثير الذوق الفني في حياة الفرد وتقدم الحضارة، وقد كثر الالتفات إليها منذ منتصف القرن الثامن عشر، وذلك أن بومجارتن أحد تلامذة الفيلسوف كريستان ولف لاحظ وجود ثغرة في نظام العلوم السائدة، فقد كانت جميع العلوم النظرية يتقدمها بحث ضاف عن استعمال العقل في ضروب المعرفة العلمية، وكان يطلق على هذا البحث اسم المنطق، ولكن إلى جانب هذه المعرفة السامية القائمة على الفهم والنظر فإن للإنسان ملكة أقل شأنًا وأنزل منزلة وهي الإدراك الحسي، وهذه الملكة هي التي تجتلب الحقائق اللازمة لفرع آخر من فروع العلوم وهي العلوم التي قوامها التجربة, فمن الواجب إذن محافظة على الإنسان الفلسفي أن تسبق البحث في هذه العلوم التجريبية فحص محكم دقيق لهذه الملكة، وحاول بومجارتن أن يتعهد هذا العلم ويكفله وينشئه أخًا صغيرًا للمنطق، وقد استرشد في ذلك بأراء الفيلسوف لينبتز؛ لأنه كان يرى أن الجمال هو كمال التصوير الحسي، كما أن الحق هو كمال التفكير النظري، على أن هذا العلم الذي أحاطه بومجارتن لم يقتصر على مسألة الإدراك الحسي بل أصبح شاملًا لنظرية الجمال والاستمتاع به". وأهم ما يشغل الفلاسفة ويستغرق أكثر جهدهم في المسائل المتعلقة بالفنون هو البحث عن حقيقة الجمال سواء في الفن أو الطبيعة والاهتداء إلى تعريف له، والبحث عن الصلة بين الجمال الذي يطالعنا عند مشاهدة صور جميلة أو رؤية بناء أنيق البنيان أو منظر طبيعي فاتن والجمال الذي ندركه عنه سماعنا منظومة من الشعر الجيد أو قطعة من الموسيقى الشجية، وهل

هناك شيء واحد يبدو من وراء الألوان والخطوط والألفاظ والأصوات؟ وهل الجمال كامن في الأشياء أو أنه متوقف على شعورنا إزاءها؟ وليس غرض الفلسفة تمييز معالم الجمال وتعيين مواقعه وإنما غرضها أشمل من ذلك وهو تحليل صفة الجمال ذاته ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، ويرى البعض أن الجمال غير قابل للتحليل وأنه صفة ملازمة للأشياء الجميلة لا يسبر عمقها ولا يدرك مداها، والذي يجعل قيمة لمثل هذا الرأي هو أن بعض الحقائق العلمية أو التاريخية قد تكون من التعقيد والغموض بحيث تتشعب فيها الآراء ويطول حولها الجدل، وعندما تتوافر المعلومات تتقارب وجهات النظر ويبطل الخلاف، ولكننا نحارب كيف نثبت لإنسان جمال الزهرة أو نقنعه بروعة النجوم ورغم ذلك فإننا نعتقد أنه لا بد أن يكون هناك فيصل بين الحق والباطل في هذه المسائل، والفلسفة لا تكتفي بإرجاع الأمر إلى الذوق وإنما تحاول أن تعلل وتفسر"1. وبهذا وغيره كان المرحوم علي أدهم رائدًا من رواد الفكر المتنوع والثقافة الموسوعية الشاملة، قرب منابع الثقافة الأوروبية لأبناء العربية. ومن ثم قال العقاد عنه في المقدمة التي كتبها لكتابه "صقر قريش" إنه "رجل يدرس التاريخ ينظر الفيلسوف، ورؤية العالم، وحماسة الأديب، ويعرف مذاهب الفلاسفة العظام في أسرار التاريخ ما ليس يعرفه عندنا غير أفراد معدودين".

_ 1 راجع: بين الفلسفة والأدب ص97-102 طبعة دار المعارف.

ثالثا: زكي نجيب محمود 1905؟

ثالثًا: زكي نجيب محمود 1905؟ من أكبر الوجوه التي لعبت دورًا رئيسيا في حياتنا الجماعية والثقافية وخاصة في الفكر العربي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. شارك في العمل الثقافي من خلال لجنة التأليف والترجمة والنشر التي قدمت عددًا كبيرًا من الكتب الجادة في الفلسفة والأدب والاجتماع إلى اللغة العربية، فحقق معنى التعاون الفكري مما أكسبه ثقة الجميع. اهتم منذ الستينات بتعريف المذاهب الفلسفية المعاصرة وتعميق المفاهيم العامة، فتخطى الحواجز الجغرافية والإقليمية. حاول من خلال اتجاهه أن يوجد صلات بين الفكر العربي والفكر الغربي في منهج عقلي، دون نظر إلى العصبيات الإقليمية أو العرفية, وبرز هذا الاتجاه في كتبه: تجديد الفكر العربي، وثقافتنا في مواجهة العصر، والمعقول واللا معقول في تراثنا الفكري. يقاس فكر زكي نجيب محمود بالكم الضخم من الإنتاج، وبالتأثير الشامل الذي أحدثته أراؤه وإضافاته إلى عالمنا بوضعيته الحقيقية القائمة من حولنا. وتعد كتب هذا المفكر من الأدب العالمي لتناولها الشخصيات العالمية الفلسفية، وتقريب الوضعية والتجريبية والتحليلية، والمذاهب الغربية والعربية. وجهوده في الإشراف على الترجمات والموسوعات وأمهات الكتب لا تحتاج إلى تعريف. أسلوب زكي نجيب محمود: جمع زكي نجيب محمود مقالاته في كتب منها: الثورة على الأبواب، وقشور ولباب وجنة العبيط، وفلسفة وفن، أكد في كتابه الأخير مذهبه الوصفي العلمي في الفلسفة، وعمقه خلال فكرته عن الأدب والفن باعتبارهما من ضروب الخلق المبتكر الجديد. وليست مقالاته سردًا لغويا، أو صورًا بيانية، ولكنها فنون أدبية تعبر عن أهم التصورات التي تسيطر على العقل الإنساني في إحدى الفترات، وتناولت مقالاته مجال التطور التاريخي الاجتماعي للمنطقة العربية، وقضايا المعرفة، وطبيعة العقل ومنهجه في التفكير، وجاء أسلوبه فيها أجمل ما عرفته العربية في هذا المجال، ولا زال حتى اليوم أنفذ الأساليب وأقربها إلى قلب القارئ في أدبنا المعاصر، وأهم سماته ما يلي: 1- دسامة الموضوع، وخصوبة التفكير، وسهولة التعبير، مما يكشف عن سعة اطلاعه، وكثرة قراءته. 2- تغلب عليه نزعة الفكرة، لطول معالجته للفلسفة، وعكوفه على دراستها، وتفهم قضاياها.

الحياة إلى التطور. ولكن فليقولوا في الأمر ما يقولون؛ لأن النتيجة في النهاية هي اختلاف في التصور، لا اختلاف في أساس الاعتقاد بوجود الله". "إننا إذا تأملنا صفة الحياة عندما نقول الله هو الحي، أو صفة العلم عندما نقول الله هو العليم، أو صفة الإرادة عندما نقول عن الله "فعال لما يريد" أو صفة الرحمة عندما نقول الله هو الرحيم أو صفة العدل عندما نجد أن العدل اسم من أسماء الله تعالى وهكذا إلى آخر تلك الأسماء المباركة، فإننا إنما نشير ضمنًا إلى الأهداف العليا التي يجب أن يتغياها الإنسان بسلوكه ... ونقف عند صفة الحياة وحدها لنتأمل ماذا يجب على الإنسان أن يفعله ليكون "حيا" بالمعنى المطلوب والمتضمن في ذلك الاسم من أسماء الله الحسنى، بالطبع ليس المقصود هو حياة الطعام والشراب والنسل ولا هو حياة الزراعة والصناعة والتجارة, ولا هو أي وجه من أوجه الحياة التي ينشط بها الإنسان ويكاد ينشط بمثلها الحيوان أيضًا، لكننا نعني بالحياة هنا، حياة الوعي والإدراك والتعقل، وما إلى ذلك من صفات؛ لأنها هي الصفات المتضمنة عندما نقول: إن الله هو الحي، أي: إنه هو المحيط بكل شيء علمًا وإدراكًا ونورًا إلى آخره". "فإذا وجدنا إنسانًا لا يجعل اهتمامه الأول هو حياته العقلية الواعية المدركة عرفنا أنه قد انحرف عن الخطة السلوكية المثلى، التي رسمها له أسماء الله الحسنى، وألخص هذا الذي قتله أخيرًا في عبارة موجزة فأقول: إن الاعتقاد في الله من جانب صفاته هو في الوقت نفسه اعتقاد في الإنسان من جانب سلوكه إذا اتخذ ذلك السلوك صورة مثلى. وأما الاعتقاد في وجود الذات الإلهية الموصوفة بتلك الصفات، فهو اعتقاد ينعكس بدوره على حياة الإنسان, وليست المسألة مقصورة على مجرد الاعتقاد وكفى، وإلا لما كان هناك فرق كبير في الحياة العملية بين المعتقد وغير المعتقد". "وانعكاس ذلك الاعتقاد على الحياة العملية هو الذي يتمثل في وجود هدف أمام الإنسان, ولعل الأزمة الحادة التي يعانيها عصرنا هي أنه لما غاب الاعتقاد الحقيقي بوجود الله من صدور الناس، غاب في الوقت نفسه وجود هدف أسمى تتجه نحوه الحياة. وغياب الهدف على هذا النحو،

أفرغ الحياة من مبررها، فأصبح لسان الحال عند الناس يصيح قائلًا: إن الحياة عبث في عبث، وإلا فأين هو الهدف الذي يبرر وجودها, وهو قول لا يمكن أن ينبثق من إنسان يؤمن بوجود الذات الإلهية". "وهكذا نرى مما سبق رؤية جلية واضحة أولًا: بأن وجود الله والاعتقاد فيه، أمر مقرر ثابت لا عن طريق الديانات وحدها، بل عن طريق الفلسفة متمثلة في رجالها ومذاهبها، وإذا قلنا الفلسفة فقد قلنا العقل. وثانيًا: رأينا أن الاعتقاد في الله ووجوده ليس مجرد اعتقاد يخلو من التأثير على توجيه السلوك البشري في الحياة العملية، بل هو اعتقاد كما أسلفنا يعطي هدفًا للحياة من جهة، ويعطي خطة للسلوك البشري من جهة أخرى. ولو تحقق هذان الجانبان، أعني الهدف والسلوك الأمثل، لعالجنا ما يعاني منه عصرنا، وخصوصًا الشباب من هذا العصر، من قلق وشعور بالاغتراب، وشعور بالعبث إلى آخر تلك السمات التي يتميز بها إنسان عصرنا1". لا يختلف اثنان أن زكي نجيب محمود من كتاب المقال البارزين، ويمثل لونا جديدًا من ألوان كتابة المقال عامة والفلسفي بصورة خاصة في أدبنا المعاصر.

_ 1 راجع: مجلة الهلال ص18-21 عدد إبريل 1979.

الفصل السابع: المقال والأسلوب السياسي

الفصل السابع: المقال والأسلوب السياسي مدخل ... الفصل السابع: المقال والأسلوب السياسي حال العصر: اقترنت اليقظة في مصر بظهور جمال الدين الأفغاني 1871-1879 الذي حرك الأحداث بدعوته إلى تحرير الشعوب، وفهم الدين الصحيح، وفتح باب الاجتهاد، وتنقية الإسلام من البدع والخرافات فاستيقظت المشاعر، ونما شعور بالرابطة الإسلامية بعد أن نضج الوعي وتفجر في ثورة عرابي التي وقفت في وجه الخديوي توفيق 1879-1892 تطالب بالدستور والقضاء على الفساد، لكن سرعان ما أخفقت الثورة، وعاد توفيق إلى الحكم في ظل احتلال نفى الزعماء، وكمم الأفواه وتجاوز معتمده اللورد كرومر حده خلال وجوده بمصر من 1883-1907. يصور الكواكبي -في أم القرى- مؤتمرا بمكة لممثلي الأقطار الإسلامية، يبحثون سبل الإصلاح وعبر فيه عن أماني الأمة الإسلامية وأملها في وجود هذا المؤتمر. كما أوضح -في طبائع الاستبداد- أثر الاستبداد في فساد الأخلاق والدين، وأن الأغنياء دعائم المستبد، والفقراء يخافونهم، كما تخاف الطيور الصغيرة من النسر, ورأى أن التخلص منه يكون بالتوعية الفكرية وحب الحق والعدالة. وجاء عباس حلمي 1892-1914، وفي نفسه ألم من الإنجليز وأعوانهم، ولوم على تبذير جده إسماعيل، وضعف والده توفيق، وذل رجال الحاشية والحكومة من أمثال مصطفى فهمي ومصطى رياض ونوبار وبطرس غالي. فالتف الشباب حوله، وشجعته جموع الأمة بعد أن ساند

عبد الله النديم في إصدار جريدة "الأستاذ" وشجع -الطالب- مصطفى على مواقفه الوطنية وحماسته وشجاعته. وارتفع صوت الوطن والوطنية في صحيفة "المؤيد" على يد الأقلام الملتهبة من أمثال سعد زغلول وإبراهيم اللقاني وإبراهيم المويلحي وعبد الكريم سلمان ومحمد عبده وتوفيق البكري وفتحي زغلول وغيرهم من قادة الحركة الوطنية. وبدأت الفكرة الوطنية تأخذ شكلين: الأول -الحزب الوطني- يدعو إلى جامعة إسلامية دون التنكر للرابطة العثمانية، والآخر يدعو إلى جامعة مصر ولا يعترف بالجامعة الإسلامية؛ لأنها وهم لا يمكن تحقيقه، واختلطت الوطنية بالدين حتى كانت الحرب العالمية الأولى فاصلًا بين عهدين متباينين في مفهوم الوطنية. في هذه المرحلة أدرك العقلاء أن النهضة تكون بإصلاح عيوب الشعوب، وأخذوا يكشفون عن مواطن الضعف في حياتنا في لين ورفق حينًا، وفي عنف وشدة حينًا آخر، وبرزت طائفتان: الأولى تدعو إلى الأخذ بأسباب الحضارة الغربية ونبذ التقاليد الشرقية، واستخفت بعاداتنا ومثلنا الروحية. كتب عدلي يكن مقالات في "المقطم" وجمعها في كتاب "الصحائف السود" طالب فيه بالحرية المطلقة, وسخر من عادات الحجاب، وجاهر بالإفطار في رمضان، ونشر مقالًا عنوانه "أكذوبة إبريل، وأكذوبة رمضان" والأخرى دعت إلى الاحتفاظ بتقاليدنا الشرقية وقيمنا الإسلامية ونادى أفراد هذه الطائفة بأن تقوم النهضة على التمسك بقيمنا والحضارة الإسلامية، وحذروا من التقليد الذي لا يستند إلى واقع حياتنا، فكتب عبد الله النديم في "التنكيت والتبكيت" مجموعة من القصص مثل: مجلس طبي ... لمصاب بالإفرنجي، و"عربي تفرنج" تصور مدى اندفاع البعض في تقليد الأوروبيين. ويصور محمد المويلحي الخلاف بين الطائفتين في "حديث عيسى بن هشام" الذي صدر 1907 أوضح فيه الجيلين: الجيل الذي عاش في النصف الأول من القرن الماضي، وتركز السلطة فيه في يد الوالي، وأن للباشوات حقوقًا ليست لغيرهم، وعليهم واجبات أقل من غيرهم, أما الجيل الذي عاش في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، فقد أخذ بالمفاهيم الغربية، وعرف المساواة والحرية أمام القانون، مما جعل الباشا -بطل الجيل الماضي- يصطدم بالحياة الجديدة التي لا تفرق بينه وبين غيره من الناس. وينتقل إلى الجانب الثاني حيث سيئات المدنية, وإقبال الموسرين على اللهو والمجون بلا رادع ولا حساب لما ينفقون في فنون الخلاعة, ويدعو في نهاية كتابه بأن يقتدي الشرق بالغرب في التقدم الصناعي والتطور العلمي مع التمسك بفضائله التي تنبع من روحانيته الخصبة. تلك هي الحالة السياسية للعصر الذي عاش المقال فيه، يحمل دعوات الإصلاح الاجتماعي على أساس إسلامي، أو يدعو إلى الإصلاح السياسي في نطاق الجامعة الإسلامية. وسنقصر الحديث في هذا الفصل على كتاب المقال السياسي فإلى صفحاته لنتعرف على أعلامه وجهودهم في هذا السبيل:

أولا: عبد القادر حمزة 1880-1941

أولًا: عبد القادر حمزة 1880-1941 كاتب حلو الحديث، يستحوذ على قارئه ويستولي على مشاعره، شديد الاعتزاز برأيه حتى لو أغضب أصدقاءه، بدأ حياته محاميًا، ثم انصرف إلى الصحافة، فأنشأ جريدة "الأهالي" 1910-1921 بالأسكندرية، تعبر عن أرائه وأفكاره, تضمنت مقالاته بها هجومًا عنيفًا على الأوضاع الشاذة في البلاد، وأدلى برأيه خلالها في جميع الأمور بصراحة واعتدال وواقعية ونزاهة في مجال السياسة، ولما شبت ثورة 1919 تحول من اعتداله إلى ثورة عارمة ضد الاحتلال، ونقل "الأهالي" إلى القاهرة قلب المعركة ومصدر الثورة، والتزم بمبادئ الثورة حتى عصف الطغيان بجريدته. ثم أنشأ "البلاغ" 1923-1930، وجعل شعارها قول سعد زغلول "الحق فوق القوة"، "والقوة فوق الحكومة". ودارت

مقالاته حول هذا المعنى، ولما رحل سعد ووقع خلفاءه معاهدة 1936 مع الإنجليز، كان أول صحفي يهاجم المعاهدة، فخسر صداقة الوفديين خلفاء سعد. رغم عمله الصحفي فقد أرخ في التاريخ المصري بعد زيارته للأقصر 1923 لمشاهدة قبر توت عنخ آمون الذي اكتشفه الأثريان "كارتر" و"كارنارفون" ووقوفه على قبور وادي الملوك ومعبد الكرنك, منذ ذلك التاريخ وهو يهتم بدراسة التاريخ المصري القديم واللغة المصرية، فكان كتابه "على هامش التاريخ المصري" وصدره بمقدمة تدعو المصريين لتوثيق الصلات بين مصر القديمة والحديثة، ودافع عن الحضارة المصرية القديمة، وعالج قضايا هامة مثل: تاريخ المدنية المصرية، واهتداء المصريين إلى التقديم، وعقيدة الحساب والموت، فكان لكتابه ثقل ووزن في هذا المجال، مما حدا بحافظ محمود أن ينقل رأي محمد حسين هيكل عنه فيقول: "هذا جهد رجل لم يجلس على كراسي الأستاذية في الجامعة، لكني أتمنى أن يكون للذين يجلسون فوق الكرسي جهدًا مثله1". أسلوب عبد القادر حمزة: كتب عبد القادر حمزة مقالات عديدة تعكس نشاطه في مجال المجتمع والسياسة، لا سيما في الصحف التي انفرد بتحريرها وهي: الأهالي. والبلاغ والبلاغ الجديدة، وهو في جميع كتاباته عف اللسان، نزيه اللفظ، معتدل النقد, بعيد عن التعالي على القارئ، تميزه الصفات التالية: 1- الإيجاز والتركيز -في أول حياته- فتراه يعالج أصول الموضوعات بأقل الكلمات، ولم يتجاوز مقاله عمودًا وبضعة أسطر، والميل إلى الإطناب -فيما بعد- عندما يناقش مسائل السياسة، وقضايا المجتمع. 2- يختار كلماته اختيارًا يتفق مع أسلوبه الذي يتميز بالموضوعية والواقعية في المجالين: السياسي والاجتماعي.

_ 1 راجع: مقالة بجريدة المساء بتاريخ 17/ 6/ 1961.

3- يتسم بالهدوء والاتزان في إبداء الرأي، والاعتدال الذي يصل إلى حد الحذر الشديد، مع الحد في الكتابة، والنزاهة في اللفظ، والبعد عن الفحش في القول. 4- الاستغناء -أحيانًا- عن المقدمات بسؤال يلفت نظر القارئ، مع التفكير المنطقي الذي لا يتقيد بألفاظ المناطقة. 5- الاعتدال في استخدام الألفاظ الساخرة في عصر بلغت السخرية فيه غايتها في الأدب. 6- السهولة والبعد عن الغرابة، مع التحرر من قيود الزينة البديعية. 7- الإطالة في عناوين بعض المقالات، حتى ليخيل للقارئ أن عبارة كاملة من المقال تغني عنه. ولقد جاء في مقاله "آفة المحسوبية" ما يلي: "نعت علينا إحدى الزميلات أننا نذكر المحسوبية والمحاسيب، ونمثل لذلك ونعقب عليه. وزعمت أن هذا لصغار وإسفاف في النقد، وإهمال للمسائل الكبيرة والسياسة العامة، والشئون الحيوية والمشروعات الخطيرة, وأننا نمعن في هذا الوجه السقيم من النقد والمعارضة إمعانًا يجعلهما مرزولين وجديرين بالإعراض والاشمئزار والنفور". "وكلام الزميلة كله من هذا القبيل, ولكنا لا نظن بها إلا أن تدرك أن الوظائف أساس الحكم في البلاد، وأن مراعاة الحق والعدل والمساواة فيها يجب أن تقدم على كل أمر سواها، وأن الموظفين هم الآلة الحكومية وهم الذين يكون بهم العمل وعليهم المعول في هذه الشئون الخطيرة التي تذكرها الزميلة، وتطالبنا بقصر العناية عليها. ولكن الزميلة من شيعة الوزارة, فهي ترى أن واجبها نحوها، وأن حق الوزارة عليها أن تنصرها وتدافع عنها ظالمة أو مظلومة, أما نحن فمستقلون لا نعرف إلا حق الوطن، ولا نبالي بمن غضب أو بمن رضي إذا كان ما نقوله حقا، وما ندعو إليه هو الواجب: وهذا الفرق بيننا وبين الزميلة كان الله في عونها". "ومن دواعي الأسف أن نحتاج في هذا الزمن أن نبين أن الوظائف

هي أساس الحكم في البلاد، وأن العناية بها ليست اشتغالًا بالتوافه بل بالأصل، وأن العمل على وقايتها من تغلغل الفساد فيها وقاية للدولة كلها في حاضرها ومستقبلها كذلك. وقد كنا نظن أن هذه من البداهة التي لا يحتاج المرء أن يكلف نفسه عناء شرحها وبيانها وإثباتها, ومع ذلك تحرينا في كلامنا عن هذه الأمور كلها الرفق الشديد والتلطف الشديد, فلم يجر قلمنا بما يثقل على النفس ويستنكره في السمع أو ينبو عن الذوق؛ لأن غايتنا هي الإصلاح لا الإيلام، وطريقتنا هي الإقناع لا الإيجاع، وليس في أسلوب التناول الذي نتوخاه ما يمكن أن يشكو منه أدق الناس إحساسًا وأرقهم شعورًا، إذ لا جفوة في العبارة، ولا عنف في اللفظ، ولا إغلاظ في القول، ولا شيء إلا الموضوع. ووجهة نظرنا فيه مبسوطة ومؤيدة بالحجج والبراهين, فأين سوء النية إذن، وفساد الطوية، وحب المعارضة للمعارضة1". وعلى الجملة فإن عبد القادر حمزة كاتب سياسي من الطراز الأول، وصحفي موهوب ملك القدرة على الإثارة وحسن اختيار الخبر الذي يثير اهتمام الناس، ويشد اهتمامات الجماهير إلى ما جاد به خاطره، ودبجه يراعه، وسال على شبا قلمه، وصوره بيانه. ومن ثم تدرك السر في رواج صحيفة الأهالي -التي كان يحررها- رواجًا لم تعرفه صحيفة أخرى إذ ذاك.

_ 1 راجع: البلاغ، العدد 4418 بتاريخ 15/ 1/ 1937.

3- وضوح فكرته وتبسيطها حتى تصبح جذوة متوهجة من نور، يتلقاها القارئ في رضا وارتياح. 4- اتسامه بالعالمية فيما يعالج من موضوعات، دون أثر للعصبية أو الإقليمية، أو العرفية. 5- يذيب التصورات العامة، ويخضعها للأفهام في وضوح الفكرة وشفافيتها ونغمة العبارة. 6- سلامة الأداء، وسهولة العرض، وحسن الترتيب، مما يترتب عليه صحة النتائج، والوصول إلى الحقائق. وهذا جزء من مقال له عن "الله وحياة الإنسان في فكره وسلوكه" جاء فيه: "إذا استثنينا عددًا من الرجال قد لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة، منذ عرفت الدنيا فكرًا ومفكرين، فتستطيع القول على سبيل اليقين، لا على سبيل الظن بأن صحائف الفكر البشري، لم تشهد إنسانًا بغير عقيدة في إله, وكل ما حدث من أوجه الاختلاف في هذا الصدد، فهو منحصر في الصورة التي تصور بها هذا الإنسان أو ذاك الله كيف يكون, وإلا فما الذي فعله شيخ الفلاسفة أفلاطون، إذا لم يكن قد أخذ يقيم بناءه الفكري على شكل هرمي، أعني أنه أخذ يصعد بالأفكار الدنيا إلى طبقة أعلى، فأعلى فأعلى حتى بلغ ذروة الهرم، وإذا بهذه الذروة هي الله كما تصوره وهي "فكرة الخير الخالص". فالله هو ذلك الخير المجرد الذي رأى أفلاطون أنه ما من كائن على وجه الأرض، إلا وقد يسعى نحو تحقيق ذلك الخير". "فلو وضعنا هذا التصور الأفلاطوني، في لغة قريبة من اللغة التي نستخدمها نحن اليوم، في إطار عقيدتنا، لقلنا: إن ذلك التصور إن هو إلا تصوير يوضح معنى الآية الكريمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي: إن كل من في السماء والأرض وما في السماء والأرض إنما ينحو نحو غاية عليا، هي الله سبحانه وتعالى: "بلغتنا نحن" وهي الخير الأسمى بلغة أفلاطون، ثم ماذا فعل أرسطو من بعد أفلاطون إذا لم يكن قد كرس أهم ما في فلسفته لكي يصور فكرته الأساسية التي تجعل هذا العالم مسيرة تظل ترتقي إلى ما هو أعلى ثم أعلى ثم أعلى، بحيث يكون طرف الابتداء هو

مادة غير ذات خصائص تميزها، وهو ما يسمونه اصطلاحًا "الهيولا" ويكون الطرف النهائي لشوط تلك المسيرة صورة غير مختلطة بمادة أعني كمالًا، لا تشوبه نواقص المادة، تلك الصورة هي بمثابة الغاية المثلى التي تجذب إليها: العالم بكل من فيه وما فيه، وهي الله سبحانه وتعالى. فإذا تركنا العصر اليوناني القديم، ونظرنا إلى خمسة عشر قرنًا تمتد من القرن الأول للميلاد إلى القرن الخامس عشر فلا نكاد نقع على مفكر واحد، أو على فكرة واحدة من الأفكار الكبرى، خلال تلك الفترة الطويلة إلا ونجد أن الموضوع الأساسي المطروح للنظر، إنما هو حقيقة الخالق جل وعلا كما وردت في الكتب المنزلة، سواء كان ذلك كتبًا منزلة على الرسل قبل الإسلام، أو كان ذلك الكتاب هو القرآن الكريم الذي آمن به المسلمون، وذلك هو أن محور التفكير خلال تلك القرون هو بصفة أساسية محاولة النظر في الكتاب المنزل عند المسلمين أو عند غيرهم إما لشرحه ومحاولة فهمه الفهم الصحيح، وإما للنظر فيما يربطه بالفكر العقلي كما ورد عند الفلاسفة الأقدمين بمعنى أن يسأل المفكر نفسه قائلًا: هل في هذا الكتاب المنزل، ما يتعارض مع ما أملاه العقل والعرف على رجال العقل؟!. ومعنى ذلك كله هو أن فكرة الخالق جل وعلا، كانت مشغلة الفكر البشري في تلك الفترة، سواء كان ذلك بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة". "ثم جاء العصر الحديث بادئًا بما يسمى بالنهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر ... فماذا نجد عند مستهل تلك الفترة الأخيرة! نجد عند الباب عملاقًا في دنيا الفلسفة هو "ديكارت" ولعلنا نعلم أن الفلسفة "الديكارتية" ركزت على الاعتقاد بوجود الله؛ لأنه اعتقاد لا يمكن فهم الوجود الإنساني بفكرة من الداخل، ويجسمه من الخارج إلا إذا كان الوجود الإلهي متضمنًا. وحتى الفلاسفة المعاصرون الذين تغلب عليهم النزعة الطبيعية التي ملخصها أنه ليس وراء هذه الطبيعة شيء، فلا يفوتهم أن يتصوروا الله على هذه الخلفية نفسها بصورة ملائمة لمذهبهم كأن يقولوا مثلًا: إنه هو بمثابة القوانين الخافية عن البصر، والتي تنبث في الكون فتنظمه، أو أن يقولوا إنه بمثابة الدفعة الباطنية التي تدفع

ثانيا: أمين الرافعي 1886- 1927

ثانيًا: أمين الرافعي 1886- 1927 كاتب مصري ذو سليقة صحفية بارعة، اشتغل بالصحافة عقب تخرجه من مدرسة الحقوق 1907 بجريدة "اللواء" واستمر جهاده الوطني وعمله السياسي مستفيدًا من ثقافته القانونية في معارضة المشروعات التي تستغل الشعب وتبدد ثرواته مثل مد امتياز قناة السويس 1910 هاجم الفساد والمفسدين منذ أول مقال كتبه بعنوان "سياسة الاعتدال" وأعقبه بمقال 1910 خاطب الأجيال فيه فقال: "برهنوا للملأ أن الأمم الخليقة بالحرية في استطاعتها أن تتحمل الآلالم والأهوال والخطوب حتى تصل إلى استقلالها، واعلموا أن الأمم التي تريد الحياة كبيرة يجب أن تربيها المصائب وتهذبها النائبات". ومن ثم اتجهت الأنظار إليه؛ لأنه نذير جهاد ورفيق كفاح في أمة وشعب يتمرد على الظلم ويضيق بالضيم. ولما سقطت "اللواء" أنشأ جريدة "الشعب" 1913. وحين أوقفها قانون الأحكام العرفية إبان الحرب العالمية الأولى، أعلن احتجاجه، وشهر قلمه في وجه الاحتلال دون خوف أو وجل، ولما قامت ثورة 1919 أصدر جريدة "الأخبار" تضمنت مقالاته السياسية، وحملت دعوته 1925 لرجال السياسة وأعضاء البرلمان أن يعقدوا اجتماعهم ولا يعبئوا بموقف الحكومة المخالف للدستور، فاستجابوا له، فكان له دوي عظيم في الداخل والخارج، مما فرض على الحكومة والقصر إعادة الحياة النيابية. أسلوب أمين الرافعي: كان أمين الرافعي كاتبا صحفيا شهيرًا، كتب العديد من المقالات ناقش فيها الأحداث السياسية والاجتماعية بصراحة وجرآة وإخلاص. دعم أراءه فيها بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والوثائق المحققة، والإحصائيات الدقيقة، والبيانات الوافية وتميز أسلوبه فيها بسمات عامة. تجعله فريدًا في دنيا الصحافة السياسية، وأهم خصائصه ما يلي: 1- معظم مقالاته مصدرة بآية قرآنية، وختمت بأخرى. 2- مقال على شرف الكلمة، ونزاهة الغرض، وسلامة القصد، وعفة اللسان، مما حبب فيه جموع السياسيين والصحافيين. 3- كان نذير جهاد، وبعث ثورة، حرص خلاله على تعبئه المشاعر. وتأجيج العواطف حتى حقق ما أراد. 4- حسن الترتيب، وجمال التنسيق، وسلامة العرض، وتسلسل الأفكار، مما يفضي بنتائج مقنعة.

ثالثا: محمد حسين هيكل 1888-1956

ثالثًا: محمد حسين هيكل 1888-1956 كاتب وأديب، وباحث ومؤرخ، ترك مجموعة من الكتب الأدبية والدراسات الإسلامية، استهلها بقصته المشهورة "زينب". كتب أول ما كتب بصحيفة "الجريدة" التي أنشأها أحمد لطفي السيد 1907، ثم تضاعف نشاطه الكتابي بعد ثورة 1919، ولاسيما بعد أن اختير لرياسة تحرير جريدة "السياسة" واشترط عدلي يكن أن تكون المقالات هادئة، ولكن هيكل لم يقابل الأحداث بأسلوب هادئ فغضب عدلي منه فاستقال. وعلق قائلًا: فلنسر في طريقنا ندافع عن الحرية، والعدل والقانون ولهذا قام الحزب، ولهذا يجب أن يبقى ... دون نظر إلى الأشخاص الذين ينضمون إليه أو الذين يتركونه". أسلوب هيكل: من خلال مقالاته العديدة تبدو ملامح أسلوبه السياسي العنيف في الدفاع من الحرية والعدل والقانون، وهو أسلوب مرتب ترتيبًا دقيقًا، نظرًا لدراسته وثقافته القانونية، وأهم ما يميزه السمات التالية: 1- كثرة المقدمات بشكل يلفت النظر في المقال الأدبي والسياسي على حد سواء نتيجة لدراسة القانون، وممارسة البحث العلمي. 2- صب الأفكار في قالب موضوعي، يعتمد على تحليل الجزئيات، حتى ينتهي لنتيجة حتمية دون إحساس بفتور أو ملل. 3- يخضع للتقسيم والتحليل والتعليل، وتقديم المقدمات، واستخلاص النتائج. 4- يجمع بين موضوعية العلم وذاتية الفن، ولذا يحس القارئ بلذة العقل والذوق معًا.

5- الجنوح إلى التنظيم والتنسيق الفكري، ما يكشف عن شخصيته. 6- شيوع الاستطراد في معظم كتاباته، واتخاذه وسيلة لتوضيح الأفكار والتدليل على صحتها، ما يعرب عن اتساع ثقافته. وهذا جزء من مقال له بعنوان "بعد قرار العلماء" يخاطب فيه الشيخ علي عبد الرازق، ويسخر من الحملات ضد كتابه "الإسلام وأصول الحكم" يقول: "تعال نضحك ... فقد كان كتابك مصدرًا لتنفير الأرثوذكسية في الإسلام1، ولست أنت الذي غيرها أيها الصديق المسكين، وإنما غيرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر نعم. كان أهل السنة وما زالوا يرون أن الخلافة ليست ركنًا من أركان الدين، وأن الشيعة فسقوا حين عدوها كذلك، فلما قلت للناس في كتابك ما أجمع عليه أهل السنة غضب عليك أهل الأزهر، ورموك بالابتداع والإلحاد. وأخذوا يقولون: إن الخلافة أصل من أصول الدين. وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة، ويستقر الأرثوذكسية الإسلام، فسبحان من يغير ولا يتغير! ". أصبحت "القاهرة" "كطهران" مركز الشيعة، وأنها بناء صلاح الدين! ولم لا؟! الشيعة هم الذين بنوا الأزهر وشيدوه, أليس الفاطميون هم الذين بنوا المدينة ومسجدها الجامع؟! فأي عجب أن تعود مدينة القاهرة شيعية كما كانت يوم أسسها الفاطميون؟! وأي عجب في أن يعود الأزهر شيعيا كما كان يوم بناه الفاطميون؟! 2. وبهذا المقال وغيره من المقالات أخذ هيكل يدافع عن حرية الرأي، ويبلور مفهوم حرية الفكر بأسلوب موضوعي، يتسم بجمال التنظيم وروعة التنسيق، ويتخذ من الوسائل ما يكفي لتوضيح أفكاره.

_ 1 يعني "المذهب السني" المحافظ. 2 راجع: السياسة الصادرة في 14 أغسطس 1925.

رابعا: محمد التابعي 1895-1976

رابعًا: محمد التابعي 1895-1976 كاتب سياسي فذ، امتاز بحسن الدعاية وخفة الظل، يعتبر أستاذ الجيل الصحفي المعاصر. استهوته الصحافة وهو طالب بالحقوق. ترجم الروايات المسرحية التي مثلها يوسف وهبي, عرف منذ صغره بحب الابتكار. فجاء توقيعه -حندس- على مقالاته شيئا جديدا، مما لفت الأنظار إليه في الأوساط الصحفية والفنية. أنشأ مع عبد المجيد حلمي مجلة "المسرح" وكانت جديدة في الأسلوب والخبر والتعليق، ونحت منحى الأسلوب الكاريكاتوري الذي يحمل رسم الشخصية التي يرسمها. وهو نفس الأسلوب الذي أدار به مجلة "روز اليوسف" منذ إنشائها 1926 مع أنها مجلة فنية تهتم بأدب المسرح، وتعنى بقضايا الأدب، وتولى رياسة تحريرها 1928، فانتقل بها من فن النقد المسرحي إلى فن النقد السياسي. وبذا ظهر أسلوب سياسي جديد في صحافة مصر في مواجهة صحف المعارضة، وظل بها حتى 1934 ثم تركها حيث أنشأ مجلة "آخر ساعة" مع علي ومصطفى أمين، شارك محمود أبو الفتح 1885-1985 وكريم ثابت في إنشاء جريدة "المصري" 1936. نقد التابعي في كتاباته الساسة والوزراء، ووصفهم بأوصاف لاذعة مثل وصفه لأحد الوزراء "وزير الفاصوليا" وآخر بأنه "وزير الأذية وقطع العيش" وثالث بأنه "وزير الإسبرين" وأطلق على إسماعيل صدقي بأنه "وزير الكليشيه" وعلى مصطفى النحاس بأنه "حامل عمامة التقى والورع". أسلوب التابعي: كتب التابعي العديد من المقالات السياسية منذ انخرط في سلك الصحافة، وعلى الرغم من مرضه 1965 ظل يتابع الكتابة حتى أقعده المرض تماما 1971. وحملت مقالات نقد لاذعة للساسة والوزراء. وتضمنت لمحات كاريكاتورية بارعة تعين أي رسام أن يفرغها في رسوم لماحة وأشكال موحية، في أسلوب سهل ممتع متجدد، يعتبر الأسلوب المتطور

للكتابة الصحفية المصرية والعربية الحديثة، وأهم ما ينفرد به من سمات ما يلي: 1- البساطة والبعد عن التعقيد، قريب من الحديث العادي، مما جعل له جاذبية خاصة. 2- تتسم مقالاته وكتاباته وخواطره بأسلوب متجدد. 3- حول أسلوب النقد المسرحي إلى نقد سياسي. 4- تميزه بعبارات يصف بها الساسة الذين كان ينقدهم أكثر من اشتهارهم بصفاتهم الأصلية. كتب التابعي عن "الخلاف بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد" فقال: "حسنين السياسي الداهية يزعم أنه سعى لدى فاروق حتى أقنعه بالموافقة على مقابلة مكرم عبيد رغبة منه في "تصفية الجو وتحسين العلاقات بين الوفد وفارق. هذا ما قاله أو زعمه حسنين غفر الله له. والحقيقة أن غرض حسنين كان أبعد ما يكون عن الصفاء والوئام والسلام. لقد كان غرض رئيس الديوان -في تنفيذ أو تحقيق سياسة الانتقام من مصطفى النحاس- كان غرضه أن يوقع بين النحاس ومكرم، وبين النحاس وأمين عثمان، أو بعبارة أخرى أن ينزع من رئيس الوفد ذراعيه الاثنتين يستند إليهما في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية. ويا له من انتصار يمحو على هزيمة 4 فبراير، يوم ينجح حسنين في ضم مكرم وأمين عثمان إلى جانب القصر ضد الوفد ومصطفى النحاس, أو على أقل القليل، يوم يستطيع أن يستغل نفوذ مكرم عند النحاس في تحقيق أغراض السراي الموافقة على طلباتها, ويوم يستطيع أن يستغل حظوة أمين عثمان عند الإنجليز في إقناعهم بتعديل سياستهم الجافة أو موقفهم المتعنت المتشدد من القصر". "كان هذا هو الغرض الحقيقي من هذه الخطوة التي خطاها حسنين وجمع فيها بين فاروق ومكرم, وبينه وبين أمين عثمان. ولقد نجح فوق ما كان يأمل, ويوم عرف مصطفى النحاس أن السراي قد حددت موعدًا

يتشرف فيه معالي وزير المالية مكرم عبيد باشا بمقابلة جلال الملك فاروق, قال النحاس باشا لجلسائه: "أنا عارف إنهم عايزين يفرقوا بيني وبين مكرم، ثم عاد وقالها لمكرم نفسه قال: "يا مكرم خذ بالك.. عاوزين يفرقوا بيننا". "ومشت الحوادث سريعة تلتهب، خرج مكرم باشا من مقابلة فاروق مغتبطًا مسرورًا، واتصل به زميل له يعمل في "الأهرام" وسأله عن المقابلة وما دار فيها وأثرها في نفس "معاليه" وكان اتصاله بناء على إيحاء من حسنين باشا، وكان مكرم كما قلت مغتبطًا مسرورًا، ومن هنا أفاض في وصف العطف السامي الكريم الذي لقيه إلى آخره ... وقال مكرم باشا: إنه سيملي الجريدة تصريحًا مكتوبًا، وكان هذا هو الفصل الثاني في المؤامرة أو الشباك التي نصبها أحمد حسنين لمصطفى النحاس، ومكرم عبيد، ولم تكن العادة قد جرت بأن يخرج الوزير -أي وزير من مقابلة الملك أي ملك في أي بلد- ويصف المقابلة مقال ينشر في الصحف. ولكن هذا هو ما حدث، فقد طالعت جريدة "الأهرام" في عددها الصادر بتاريخ يوم الجمعة 13 مارس 1942 وفيها الكلمة أو المقال التالي: وزير المالية ... في الحضرة الملكية: "تشرف معالي الأستاذ مكرم عبيد وزير المالية بمقابلة صاحب الجلالة الملك بعد ظهر أمس، فعرض على المسامع الملكية بعض الشئون المالية والاقتصادية، فلقى من لدن جلالته كل عطف ورعاية، وقد أفضى معاليه إلى مندوب الأهرام بالتصريح التالي: "تشرفت مساء أمس بمقابلة جلالة الملك المحبوب، وعرضت على مسامعه الكريمة أهم شئون التموين والسياسة التي ندرسها الآن تمهيدًا لإقرارها وتطبيقها على محصول القمح الجديد، كا عرضت على جلالته بعض التعديلات في الميزانية التي أعتزم عرضها على الوزراء، وفي مقدمتها المشروع الذي يرمي إلى تخفيف الأعباء المالية عن صغار الفلاحين والمزارعين ورفع مستوى معيشتهم وغير ذلك من المشاريع التي تؤدي أو أرجو أن

تؤدي إلى موازنة الميزانية موازنة حقيقية لا حسابية، بحيث لا تمهل المشاريع الحيوية وتكون جباية المال وإنفاقه في حدود العدالة الاجتماعية, ثم تشرفت بعرض ما تم في مسألة القطن والحبوب ومبلغ ما وفقت إليه حكومة جلالته في هذا الصدد, بالتعاون مع الدولة الحليفة. "وأطلعت جلالته على نموذج من أوراق النقد الجديدة التي لوحظت في طبعها وإعدادها تعذر تزييفها، فنالت رضائه السامي.. وقصارى القول فقد تناول حديثي في حضرة جلالته حالة البلاد المالية من مختلف وجوهها -وهي حالة بفضل الله مرضية- ولقيت من جلالته لا مجرد عطف فحسب أو تشجيع فحسب -مما ألهج لساني بالشكر والحمد- بل لقيت ما هو أعظم من ذلك وأهم، فقد لقيت اطلاعًا واسعًا وإرشادًا، نافعًا ونظرة دقيقة وعميقة إلى جوهر المسائل المعروضة رغم تباينها وبعد نواحيها، فلم ألبث طويلًا حتى أدركت أن ملكنا الشاب، قد ملك زمام الأمور، بفضل ما أدى من رجولة مبكرة، وخبرة منوعة نادرة قلما أتيحت لملك من الملوك". "ولذلك لم يلبث طويلًا حتى انتقلت دفته إلى يديه الكريمتين، فكان ينتقل من موضوع إلى آخر ومن نصح إلى عطف ووداعة وصراحة أخاذة ونفاذة معًا. وغاية القول أنه قد أتيح لي في هذه المقابلة الملكية السامية أن أعرف الرجل الملك، فكان الرجل في رجولته لا يقل جلالة عن الملك في مملكته، وقد تفضل جلالته فأكد لي في بساطة وديمقراطية أنه ملك الجميع، لا يفرق بين طوائف أو أحزاب أو طبقات في شعبه الوافي، وقد خرجت من لدنه وهذا اعتقادي بل يقيني1". وقاوم التابعي طغيان "فاروق" وهو ملك وحاكم بأمره في مقال عنوانه "يحيا الظلم" جاء فيه: "نعم "يحيا الظلم" ... ظلم كل جبار عاتية مغتر بسلطانه وسطوته، يدوس القوانين ولا يبالي، وظلم كل كبير

_ 1 راجع: من أسرار الساسة والسياسة ص261-264 كتاب الهلال رقم 228 فبراير 1970.

فاسق وكل عظيم فاجر يسرق ولا يبالي، ويختلس ولا يبالي, ويثلم الأعراض ولا يبالي, ويهدد الكرامات ودم الوطن، ويجعل من مصر أمثولة السوء وبصفة كريهة في فم الزمان". "نعم "يحيا الظلم" ظلم كل مطالب باحترام القائمون ولا يحترمه, وكل قادر على حماية القانون لا يحميه, وظلم كل عابث ماجن إباحي مستهتر يضرب للناس أسوأ الأمثال". "نعم "يحيا الظلم" لأنه خير مربي للنفوس, ونفوس المصريين تجيش اليوم بمعنى واحد: لقد صبرنا، ولن نصبر بعد اليوم, وتحملنا كثيرًا، ولن نتحمل بعد اليوم"1. يعتبر التابعي من أبرز الكتاب المعاصرين في فن النقد السياسي عرفته الصحافة المعاصرة. وقد اهتم منذ بداية كتاباته الصحفية بأسلوب جديد برسم السياسيين والوزراء في صور تعبر عما هم عليه، ويصفهم -كما قلنا- بأوصاف لاذعة، ظلت تلازمهم طوال حياتهم.

_ 1 راجع: مجلة آخر ساعة، العدد الصادر في 11 أكتوبر 1950.

خامسا: فكري أباظة 1897-1979

خامسًا: فكري أباظة 1897-1979 وطني غيور، وصحافي مبدع، وسياسي لامع، ابتدع ولم يتبع، وابتكر ولم يقلد, كان له أسلوب فريد فرض نفسه على أهل القلم، وسما به بين جهابذة الكتابة وأئمة الفكر والسياسية من كتاب الصفحة الأولى, بدأ العمل الصحفي خلال دراسته بكلية الحقوق في جريدة "المؤيد" والأهرام، موقعًا على ما يكتب "عابر سبيل". تجلت مواهبه الصحفية في المقالات التي كتبها بمجلة "الهلال" وصور فيها الملامح الشخصية لرجال السياسة حينذاك من أمثال: مصطفى النحاس وإسماعيل صدقي ومحمد محمود، وأحمد حسنين وغيرهم. وتناولهم بقلمه اللاذع في عفة ودقة، ونزاهة واعتدال, ومنذ انتقل من الأهرام إلى مجلة "المصور" عند إنشائها 1926 لم يتخلف عن مقاله الأسبوعي، يحلل فيه السياسة الدولية وآثارها على مصر وقضيتها الوطنية، ويؤكد من خلاله أن مصر لم تحل قضيتها إلا بالاعتماد على نفسها؛ لأن الدول الكبرى تساوم من أجل مصالحها الخاصة. أسلوب فكري أباظة: جاءت مقالات فكري أباظة مفاجأة لأصحاب الأساليب السياسية؛ لأنه قاد بها مدرسة صحفية لا تتحزب في التفكير، على الرغم من أنه من الحزب الوطني، ومع ذلك فله ملامحه المميزة، وسماته الواضحة كما يلي: 1- يتسم بالعفة والرقة والمرح والسخرية التي شاعت فيه للبناء لا للهدم، والتقويم لا للتجريح. 2- يتميز بالبساطة المدعمة بالحقائق والوقائع والأرقام، وبروح سمح جميل. 3- له شكل ومضمون مميز، ففي الشكل عني بالنقط وعلامات التعجب والاستفهام، وفي المضمون اهتم بتقديم الموضوع السياسي في إطار حينًا، وعاطفي حينًا آخر. 4- يفيض صدقًا وعذوبة وحيوية، ويكشف عن خصوبة فكره، وتبدو من خلاله شخصيته النقادة الواعية. 5- ضاحك حينًا، وباك حينًا آخر، يجذب النفوس، ويثير فيها أصداء بعيدة المدى كأنه وقع موسيقي يصغي إليه من يسمعه. وهذا جزء من مقاله الحماسي الذي رد فيه على مقال بجريدة: "التيمس" اللندنية، أكبر الصحف الإنجليزية، التي زعمت فيه أن ثورة 1919 ثورة أفندية يريدون الوظائف، فأثبت العكس، موضحًا السيطرة الأجنبية قبيل الثورة، وأن طلاب الوظائف بمصرهم شباب الإنجليز لا المصريين فقال:

"خيل إلي أن التيمس تقترض ضمنًا أن عدد الإنجليز في الوظائف الكبيرة بمصر ضئيل، أو على الأقل لا يذكر بجانب المصريين, بحثت وبحثت حتى وصلت إلى نتيجة وقفت أمامها مذهولًا متحيرًا ... في مكتبات الوزارة كتيب صغير، غير الكتيب الأصفر، حصرت فيه أسماء الموظفين المصريين والأجانب، حدقت في كتيب منهما، وأخذت أجمع وأطرح، 150 مصريون ... أي: إن عدد الإنجليز ثلاثة أضعاف المصريين, وقد وفد علينا في هذين ليومين جيش جرار من شباب إنجليز زاحمنا حتى في أصغر وظائف مصرنا العزيزة". "وصارت حكومتنا مع الوافدين على النصف الثاني من المبدأ المشهور: "أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا" فألحقتهم بالوظائف الفنية وغير الفنية ... وترتب على ذلك خروج عدد من الموظفين المصريين, التجئوا للمحاكم طالبين العدل، وكان دفاع الحكومة، ولا يزال يتلخص في كلمتين "رفتناه للاستغناء" ولو أنصفت لقالت: "رفتناه للاستبدال""1. وجاء المقال مفاجأة لأصحاب الأساليب الصحفية السياسية، وأخذ يتردد في الأوساط والأندية، مما جعل "تقلا باشا" صاحب الأهرام، يبرق إليه، ويضمه لأسرة التحرير في يناير 1920، وأخذ يزود الأهرام بمقال أسبوعي متتابع. بهذا المقال وغيره جعل فكري أباظة من قضية الوطن قضيته الأولى الذي يهتم بها فوقف في البرلمان المصري -مجلس الشعب- يدافع عن الحرية والاستقلال، وهاجم في كتاباته الانحراف الحزبي والاستغلال للجامعة المصرية، وتبنى مشاكل العمال والفلاحين، فاستحق أن يكون -بحق- فارس المعارضة في البرلمان المصري، وفارس القلم النبيل في عالم الصحافة في جو تسوده الجهامة والجو المضطرب الصاخب في كل مظهر من مظاهر الحياة اليومية إذ ذاك.

_ 1 راجع: الأهرام، العدد الصادر في 5/ 12/ 1919.

الفصل الثامن: المقال والأسلوب الساخر

الفصل الثامن: المقال والأسلوب الساخر مدخل ... الفصل الثامن: المقال والأسلوب الساخر الأسلوب الساخر وخصائصه: يراد بالأسلوب الساخر الذي يعتمد على التحليل والتصوير، ويبرز المعاني التي يريدها الكاتب دون التعرض لعقاب أو لوم. وهو -بلا شك- له تأثيره العميق في التوجيه والتقويم وخلق القدرة على الكفاح في معركة الحياة، وبذا يكون أبلغ أثرًا، وأقوى تأثيرًا من الأسلوب الجاد. برز هذا اللون في ظل الصحافة الهزلية منذ عهد إسماعيل، فقد أنشأ يعقوب صنوع 1839-1912 أول صحيفة هزلية "أبو نضارة" 1877، وأعقبه عبد الله النديم في "التنكيت والتبكيت" 1881، ثم "الأستاذ" في 1892. وبعدها كانت مجلة "الأرغول" للزجال الأزهري محمد النجار، و"حمارة منيتي" 1908 لمحمد توفيق، وأصدر أحمد عباس "المسامير" 1908 وحسين علي "الشجاعة" 1908 واستمرت حتى 1910، ثم استبدلها بصحيفة "السيف". وأنشأ مصطفى القشاشي مجلة "أبو الهول" 1918، وأصدر بيرم التونسي مجلة "المسلة" 1919. عبرت هذه الصحف -خلال هذه الفترة- عن روح الشعب بالأسلوب الضاحك، وشغلت الناس عن همومهم بالدعايات الساخرة, والفكاهات الاجتماعية الموحية، والانتقادات اللاذعة، وأخذت تخاطب الجماهير بالرسم والخبر والمقال، وتتعرض لفساد الحكام والساسة

وغطرسة الإنجليز وتصرفات مندوبيها، وتناولت الجانب الخلقي والاجتماعي بالنقد والتحليل والسخرية كما اهتمت بنقد بعض الشخصيات البارزة. وخلال الفترة من 1920-1940 وسعت الصحف اليومية بعض الفكاهات السياسية -في صحف الأحزاب- اللاذعة المتقنة تحريرًا وإعدادًا على يد نفر من كبار الأدباء وأمراء الفكاهة في مصر من أمثال: سليمان فوزي، ومحمد إبراهيم جلال، وعبد العزيز البشري، ومحمد الههياوي، وحسن شفيق المصري، وحافظ إبراهيم، وأحمد فؤاد، وإمام العبد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومحمد السباعي، وفكري أباظة، وغيرهم من فرسان الفكاهة، وأصحاب الأقلام الساخرة، والأسلوب الضاحك. وأهم الصحف الفكاهية التي ظهرت في هذه الفترة، وكانت وعاء الأسلوب الساخر هي مجلة "الكشكول" التي أصدرها سليمان فوزي في 1921، و"خيال الظل" 1924 لأحمد حافظ عوض، ومجلة "الفكاهة" 1926 عن دار الهلال برياسة حسين شفيق المصري، ثم مجلة "ألف صنف والبغبغان" و"السيف والناس والمسامير" ثم أدمجت السيف مع الناس، وصدرًا باسم "السيف والناس" ولم تعمر طويلًا، ثم مجلة "الراديو والبعكوكة" 1934 لمحمد عزت المفتي، كذلك كانت مجلتا "الصرخة والمطرقة" من المجلات الفكاهية التي لقيت رواجًا كبيرًا بين القراء لفترة طويلة. عبرت الصحف الفكاهية عن حياة الشعب المصري، ونقدت تقاليده البالية نقدًا لاذعًا، واتخذت الأسلوب الساخر السياسي وغير السياسي، واستهدفت من ورائه التنديد بالأغنياء والبخلاء والحكام المنحرفين، والساسة الذين يعملون لمصالحهم، واعتمد أصحاب الأسلوب الساخر -كتابًا ورسامين- على عدة أساليب أهمها: 1- المبالغة في القول عن طريق المعر أو الفشر أو النتش. 2- المغالطة التي تقوم على تصوير الأشياء على غير حقيقتها، إما جملًا أو تجاهلًا لها. 3- المفاجأة وتكون بحدوث ما لم يكن في حسبان المخاطب. 4- التلاعب بالألفاظ، أي: استخدام التورية، وهو الإتيان بكلمة لها معنيان: أحدهما ظاهر غير مراد، وآخر خفي وهو المراد. ومن ثم كانت الصحافة الفكاهية مجال الأسلوب الساخر حينًا، والضاحك حينًا آخر، ونافذة تطل منها أوضاع المجتمع المضطربة، وتقدم النكتة الضاحكة، تفرج عن مكبوتات الشعب الذي يرى -أفراده- صورًا متفاوته بين غنى مسرف وفقر مدقع, وكان رجال الفكاهة وأصحاب الأقلام الساخرة فقراء غلبهم الفقر، فسخروا من الأغنياء، أو أذكياء أعماهم تفوق الأغبياء عليهم. وعلى الجملة فقد سيطر الأسلوب الضاحك الساخر على صحافتنا خلال الثلاثينات، وما أحوجنا إليه اليوم بعد إطلاق الحريات، لنعالج به ظواهر التسيب وعدم الالتزام بعاداتنا وتقاليدنا الحسنة لدى بعض الأفراد والجماعات في وطننا الغالي.

أولا: محمد السباعي 1881-1931

أولًا: محمد السباعي 1881-1931 أديب متعدد المواهب، كان كاتبًا وشاعرًا ومترجمًا وقاصا، اتخذ من السخرية والفكاهة فلسفة له في الحياة، تهون العسير، وتجلو صدأ العيش، وتذلل الصعب، كان يفيض من فكاهاته على كل من يقع عينه عليه حتى في مواقف الأسى، ومواقع الأسف، ومواضع النكباء، وأماكن الهول, ولذا انفرد بالظرف وطيب المعاشرة وحسن المراضاة، ولم يؤثر من الأصدقاء إلا الظريف القادر على النكتة. ترك أثارًا عديدة قيمة، منها كتاب "أسمر" و"الصور" وقد تضمنا وصفًا لصور مختلفة من الحياة بأسلوب تهكمي لاذع، وكتاب "خواطر في الحياة والأدب" ترجم فيه مختارت من روائع الأدب العالمية، وقصة "الفيلسوف" وغيرها من آثاره الخالدة التي تبدو فيها روحه الفكهة وخياله الخصب.

أسلوب السباعي: قال الدكتور طه حسين عنه في مقدمة روايته "الفيلسوف": "ما أعرف أحدًا صور حياة القاهريين من أوساط الناس بين الحربين في لغة عربية كأفصح ما تكون اللغة العربية، عامية أحيانًا كأشد ما تكون العامية إيغالًا في الشعبية، في غير تكلف ولا جهد كما صورها أديبنا الكبير, وما أعرف أحدًا سخر من وزارة المعارف وأساتذتها وطلابها ودكاترتها الذين يعودون من أوروبا دون أن يتعملوا شيئًا إلا الرقص والعبث والتملق والتهويش، وأخذ المرتبات الضخمة آخر الشهر على هذا كله, ما أعرف أحدا سخر من وزارة المعارف والمثقفين في تلك الأيام في هذه اللغة الرائعة المضطربة مع ذلك بين الفصحى والعامية، كما سخر أديبنا الكبير"1. ومع ذلك فأهم ما يميز أسلوب محمد السباعي ما يلي: 1- يتسم بالمرح مما يحبب المثقف العادي فيه، ويجذب المتخصص إليه. 2- متأصل في فكره، ناصع في بيانه، جزل في كلماته، رقيع في تراكيبه. 3- لا يخرج عن الأسلوب الساخر المعروف مع قوة ونصاعة، واستساغة وبيان. 4- بعيد عن التكلف، ويعرب عن محصول وفير، ومع قدرة واقتدار، وجمال وجلال. 5- الاهتمام بالموضوعات الحيوية المرتبطة باهتمامات المواطن اليومية. 6- الصدق وعدم المبالغة، وتجنب الالتواء أو اللف أو الدوران. 7- يتجسد بشكل واضح في القضايا الاجتماعية التي تتطلب اتخاذ الموقف الحاسم. وهذا جزء من مقالة جاء فيه: "أيها البراع.. إني أتعلق بك كما يتعلق الغريق في كسر من حطام السفين، أنت ملجاي في ذلك العباب

_ 1 راجع: قصة "الفيلسوف" جـ7 طبعة 1957.

الأحم، وعصمتي من ذلك التلف المحيط، أنت ضئيل، ولكنك صلب القناة فاحملني على متنك، ونجني من الغرق". "إن لمصائب الدهر آفاعي أنيابها في الأحشاء، ولكن أذنابها تحت قدمي فلا جعلتك أيها اليراع سكينًا أعض به أذناب المصائب، كلما عضت في كبدي الأنياب ... ليس في الكون ما يذلل أنوفنا ولا القضاء والقدر, أنا ليضربنا القضاء بصرفه، فنضربه باحتقارنا, وتأكل فينا النوائب، فلا نلقاها إلا بإعراض المزدري أو سورة المصاول, لقد كانت لنا جلسات لهو فبادت، ولو عادت لنا لبادت مرة أخرى فما قيمة متاع هو أخدع من وميض المومس، وأسرع زوالًا، لقد رأينا النعيم عارية، سريعة المسترد، ورأينا المقيم الدائم هو البلاء، فأصبحنا مع كرهنا للشفاء نحترم منه الثبات والمصارحة، وأصبحنا مع ميلنا للنعيم نزدري منه التلون". ولخير للعاقل أن يصارحه البلاء من أن يبيت سخرته وضحكته. فأطرفينا يا نائيات الليالي، ستجدين عندنا فراك من الحمية والشعب الجاهلي، وزلزلي بنا ما استطعت، ولتثر فينا عواطفك حتى يحلها الوهن، ويميتها الكد, إنك ستقطعين قواك على جانبنا الوعر، كما تتفتت الأمواج الطاغية على الساحل الصخري". "سنصبر على الدهر, إنما الصبر ظهر، سيركبه الإنسان طوعًا أو قسرًا. من لم يسل حسبة واصطبارا، سلا غما واضطرارا. الوجود عبء لا مناص من حمله ... والحياة تدفع جذرها سواء في النفس الغنية الخصبة، وفي النفس اليابسة التربة، والعيش مرحلة يسكلها المرء، وأن أضحت خلاء قواه ... وهل للعطشان في البلد القفر إلا العزاء والتجمل"1. لمحمد السباعي فلسفة فريدة في الضحك والمرح والسخرية، عبر المازني عنها بقوله: "كان فيه فكاهة حلوة تهون العسير، وتذلك الصعب، وتجلو صدأ العيش، وهي التي يسرت له أن يكون ذلك الرجل العارف بالحياة الذي لا يعدله أحد في الظرف وحسن المراضاة وطيب المعاشرة فقد كان ضحوكًا أبدا"2.

_ 1 راجع: السمر ص100-101. 2 المصدر السابق.

ثانيا: عبد العزيز البشري: 1886-1943

ثانيًا: عبد العزيز البشري: 1886-1943 من رواد السخرية والتهكم ونقد المجتمع في أدبنا الحديث، ويعتبر من أرق الأدباء أسلوبًا، وأحلاهم دعاية، وألطفهم مجالسة، وأظرفهم نكتة, له قدرة على التصوير والتخيل والتعبير باللسان، والعلم بأحوال الهيئة والأشخاص والأزمان. عاش في بيئة أدبية، تتسم بالظرف، ويسيطر عليها سلطان الفكاهة، وتفتحت عينيه على العديد من الصحف الفكاهية، وعاصر زعماء النوادر، ورواد الفكاهة في مصر من أمثال: حفني ناصف، وحسين الترزي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإمام العبد، وغيرهم من أرباب الفكاهات، وفرسان النكات، وأصحاب القفشات التي ترج ضحكاتها وقهقهاتها أرجاء المكان، لما تمتاز به من مرح وظرف ودعاية وسخرية. يصف شوقي في كتابه "الفكاهة في مصر" فيقول: "الحق أن البشري أديب معروف، يحسن صناعة الفكاهة قولًا وكتابة, ولا نبالغ إذا قلنا إنه ترك لنا بكتبه متحفًا للضحك من كل شيء، ومن كل لون لذعًا ومرحًا ودعاية". أسلوب البشري: وصف جمال الدين الرمادي أسلوب البشري فقال: "رائق الأسلوب، ساحر العبارة، ساخر المعنى، يمثل الروح المرحة في أرق صورها وأرقى مظاهرها" و"الكتب التي ألفها البشري أو المقالات التي جمعها كانت فريدة في بابها. فكتابه "في المرآة" كان فتحًا جديدًا في هذا اللون من

الكتب في تصوير وتحليل الشخصيات, وكتابه "المختار" طريف يضم بحوثًا خصبة في الأدب، وتراجم ممتعة لأدباء اتصل بهم وتأثر بهم ونقل عنهم, أما كتابه "قطوف" ففريد في بابه؛ لأنه يضم دراسات إسلامية ممتعة، وانتقادات اجتماعية طريفة، وآراء فنية رائعة، لا تصل إلى ما وصلت إليه من روعة لو كتبها غير البشري من الكتاب أو الأدباء" وأهم ما يميز أسلوب البشري ما يلي: 1- اعتماده على التصوير والتحليل والتعليل والتفصيل. 2- يتسم بالعذوبة والسحر حينًا، والسخرية والضحك أحيانًا. 3- تأتي سخريته من باب العطف والإعلاء، لا من ناحية التقرير والازدراء. 4- يجمع إلى عذوبة الروح عذوبة الحديث، على الرغم من طرافته وروعة عبارته. 5- ينقد الأوضاع الاجتماعية والتقاليد البالية، بروح مرحة، ودعاية حلوة، وحديث فكه. 6- يتحلى -أحيانًا- بعبارات علمية، لا تشوه جماله، ولا تفض من قيمته. يرسم البشري في مقال فريد بأسلوب ضاحك، ما كان يجري في المجتمع، ويشيع بين نوابه، ويهيمن على الباشوات وأصحاب الإقطاع فيه, ويدور حول كبير يطلب الشهرة، ويرغب في حديث الصحف عنه, وفي حوار لطيف وطريف سجل البشري ما دار بين الكبير وأحد محرري الصحف فقال: - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وأزكى تحياته. - محسوبك فلان ناظر زراعة سعادة فلان باشا. - تشرفنا. - بس من فضلك.

- من فضلك إيه. - من فضلك يعني. - من فضلك. أنت عايز من فضلي إيه؟ - بس تسمح تنشرني في الجرنال. - أنشرك بمناسبة إيه؟ - يعني تقول فلان؟ - أقول فلان ما له؟ - يعني تكتب فلان. - يا سيدي فلان ده مبتدأ، وكل مبتدأ لا بد له من خبر، فلا بد أن نكتب فلان جرى له حاجة. - نقول فلان جه عندنا في الإدراة. - كل يوم بيجي في الإدارة خمسمائة واحد، ولا جرتش العادة بكتابة واحد منهم في الجرنال. - أمال إيه الطريقة عشان تكتب. - ذكر الأشخاص في الجرائد إنما يكون لمناسبة كالقيام بعمل عام أو خاص من إقامة حل عرس، أو لا سمح الله مأتم ونحو ذلك، فهل عزمتم على الزواج؟ - أنا متزوج. - أعندك ولد قدمت على تزويجه، فتنشر لك نبأ عرسه؟ - ولدي ما زال صغيرًا. - إذن فاختنه، واحتفل بختانه. - سبق أن ختنته منذ مدة طويلة. - لم يبق يا صاحبي إلا أن تمرض وننشر خبر مرضك وإبلائك. - وحياة ابني، باين إن أشيتي عيانه. - عيان بإيه؟ - يعني ما فيش مرض زي زمان! - أنا لا أريد المرض الذي يلزم الفراش، ويستدعي الطبيب، وقلق الأهل والأصدقاء. - طيب وأعمل إزاي في الحكاية دي؟ - قلت لي تعمل إزاي، وما عليك إلا أنك تروح من هنا على البلد، وتخليهم يحمو لك الفرن، وتفضل قدامه حتى يسيل عرقك، ثم تقوم فتستحم بماء بارد، ونحن ولله الحمد في صميم الشتاء، فتعيا بالحمى يومين أو ثلاثة، وتطيب بعدها، فنسوق خبر مرضك، ونزف للقراء بشرى شفائك. - الله يخليك! الله يعمر بيتك؟ 1. وهكذا صور البشري في مقاله الساخر قصة ناظر العزبة في براعة فائقة، وحوار شائق، وأسلوب أخاذ، وختمها -كما ترى- بدعاء الرجل للمحرر, ومن هنا جاءت كتابات البشري مزيجًا من الجد والفكاهة، تلتقي البساطة والرصانة في أسلوبه وكتاباته.

_ 1 راجع: المقال في ص153 وما بعدها في العدد 24 من سلسلة أعلام العرب، الخاص بالمرحوم عبد العزيز البشري للدكتور جمال الدين الرمادي.

ثالثا: حسين شفيق المصري المتوفى 1948

ثالثًا: حسين شفيق المصري المتوفى 1948 فنان أصيل متدفق الحيوية، وأديب مجدد غزير الإنتاج، وشخصية فريدة متعددة الجوانب والمواهب، قادرة على تقليد اللهجات العربية والمحلية، ومحاكاة المشاهير من الناثرين والناظمين في مواضع هزلية، فأجادها إجادة تامة, على الرغم من تركية والده ويونانية أمه، فقد نشأ وعاش بالقاهرة، يضرب في أعمال المجتمع المصري خلال النصف الأول من هذا القرن، فاكتسب معارف عصره واستلهم تجارب أيامه ولياليه، وتقلب في أعمال مختلفة، ومهن كثيرة حتى تفرغ للعمل في الصحافة محررًا لمجلة "الفكاهة" التي أصدرتها دار الهلال 1926. تعد كتاباته المبدعة، وخواطره الشائعة، وأفكاره الرائعة، فتحًا جديدًا في عالم الأدب الضاحك، والفكر الساخر، وأبواب الصحافة

السياسية والفكاهية، فقد ابتكر الشخصيات الفكهة مثل شخصية الشاويش شعلان عبد الموجود، والأبواب الممتعة مثل: "محكمتنا العرفية" وما كان يكتبه كل أسبوع بعنوان "نظرات" و"ما قولكم" وغيرها من الكتابات التي تفيض بالصور المرحة، والفكاهة النادرة، والنقد الاجتماعي اللاذع، وبذا أخرج الفكاهة والسخرية من الدوائر الشخصية إلى المسائل العامة، فأضحك قراء العربية على مدى أربعين عامًا بأسلوب مضحك حينًا، وساخر أحيانًا. أسلوب المصري: خلف حسين شفيق المصري كنوزًا باهرة، ودررًا لامعة من فنون الشعر والزجل والفكاهة وأساليب الأدب الضاحك التي تتسم بطابع السخرية والنقد والإفحام. وأهم ما يميز أسلوب المصري في هذا اللون الساخر من الكتابة ما يلي: 1- الفكاهة الممتعة اللاذعة، والطريقة المثيرة المقنعة، مع توهج المشاعر، والنبض الدافق بالحيوية. 2- يجمع بين الجد والهزل، والدعابة والسخرية، ولا يخلو من عبرة التجربة والنصيحة الواعية. 3- يستخدم الفكاهة والنكتة -كسلاح خطير- في معارك السياسة والفن والأدب بطريقة مبتكرة في الضحك والسخرية. 4- يعبر عن الشوارع المزدحمة، والحواري الضيقة، والمقاهي الغاصة، وأسواق الدرب الأحمر العامرة في حيوية نابضة. 5- يتميز بمرحه ودعاباته ولذعه وسخريته، وفيض إنتاجه، وتدفق معانيه، فجاء مدرسة وحدة لخصائصه الفريدة، وسماته المميزة, وقسماته الفارقة. ومما يميز أسلوبه بكل خصائصه ومميزاته التحقيق الذي كتبه على الشاويش "شعلان" الشخصية التي ابتكرها، يقول في محضر التحقيق:

"في تاريخه أدناه وأعلاه.. أنا الشاويش شعلان عبد الموجود في الساعة كذا، وأنا قاعد في القسم، حضر قدامى جدع طويل عريض زي الشحط، متهم في جناية خطف فرخة, وبدأنا نعمل المحضر اللازم، آه يا ناري..! ". فهذا نموذج حافل بالصور المرحة، والفكاهة اللاذعة، والنقد الاجتماعي. وتناول حسين شفيق المصري قضية "الشعر الحر" بأسلوب نافذ مفحم، نال من دعاتها وسخر منهم دون أن ندرك تأييده لهم أو معارضته. كتب تحت عنوان "ما وراء الغيب" من قصائد الشعر المنثور فقال: ها هي الأبدية فاتحة ذراعيها لاحتضان الأجيال ... وها هي أمواج الحياة تنكسر على شاطئ الكينونة الدائمة ... وفي هذا المحيط الأثيري يسبح كل شيء ... وكل شيء يرسب ويطفو في هذا الأوقيانوس اللا نهائي ... والذين يصلون إلى الشاطئ تحتضنهم الأبدية، وتأخذهم إلى العالم اللا معروف ... وهناك وراء الغيب تقابلهم الطبيعة مبتسمة. ويجلس الكل على يسارها، إلا المحبين ... فإنهم يجلسون على اليمين ... وقصيدة أخرى عنوانها "ليلة الزفاف". الحياة تبتسم بشفتيها القرمزيتين. والسعادة مقبلة تجرجر أذيال الفخر السندسية. ذات النقوش البديعية والهناء واقف باسط ذراعيه يريد احتضان الفتاة البللورية الجبين ... ما أجمل هذه النجمة المتفردة في الشمال الشرقي. فوق منزل حبيبتي. ما اسمك أيتها النجمة البراقة؟ إني أطير إليك بروحي لا قبل فملك الضيائي: تلألئي أيتها النجمة كالوجه الجميل عند ابتسامة الفوز والغبطة, وليدم صفاؤك في السماء. وسواء تعمد حسين شفيق المصري أن يهاجم الشعر الحر وينال من شعرائه أم لا, فإن كتاباته في هذا المجال فيض متدفق متجدد، بطريقة عملية، وأسلوب ساحر ساخر، فقدم لخصوم الجديد سلاحًا نافذًا في الصميم. ومن هنا جمع المصري في أسلوبه بين الجد والهزل، والدعابة وخفة الروح ولا يخلو من عبرة التجربة، وتقديم النصيحة الواعية في أسلوب فني ساخر، يمنع ويثير ويقنع.

رابعا: إبراهيم عبد القادر المازني 1890- 1949

رابعًا: إبراهيم عبد القادر المازني 1890- 1949 من أعلام الشعر والفكر والأدب المعاصر، نظم وألف وترجم وكتب في الوطنيات والسياسة والقصة، ومشكلات المجتمع والمرأة والحب والزواج أو العاطفة على مدى ثلاثين عامًا كاملة. بدأت كتاباته منذ اشتعال الثورة المصرية 1919. وشارك الثائرين في كتابة المنشورات التي تؤجج أوارها حتى هددته السلطات بالنفي والتشريد، ومع ذلك ظل مشتغلًا بالسياسة والصحافة حتى آخر لحظات حياته. في حياة المازني أحداث ثلاثة، لها أثرها في شخصيته وأعمال فكره وأدبه هي: موت أمه، وإصابه ساقه، وموت زوجته. فعن موت أمه يقول: "إن موتها هدني، فقد كانت أما وأبا وأخا وصديقًا" وعن ساقه يقول: "كان هذا في 1914 فتغيرت الدنيا في عيني، وزاد عمري عشر سنوات في لحظة، وأدركتني الشيخوخة في عنفوان شبابي، فاحتشمت وصدفت مضطرًا عن مناعم الحياة، وملاهي العيش، وغمرت نفسي مرارة كان يخيل إلي أني أحسها على لساني. وعن زوجته يقول: "وها أنا

الآن بين الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني غير متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي". وتحدثنا الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن شخصية المازني رغم هذه الأحداث التي نزلت به فتقول: "إنما تستمد قوتها وأسرها من روحه الأدبية وثقافته الممتازة، لا من مظهره الجسماني أو هيئته، لهذا كله لم تخلف العلة في نفسه المرارة التي خلفتها في نفس "بيرون" وأثارت نقمته على الحياة والناس, بل لعل ساقه التي هيضت في شبابه، كان من أسباب انزوائه واعتزاله وتفرغه للقراءة، مما أتاح له أن يظفر بقدر ضخم من الثقافة وإعمال الفكر والتأمل، وأن يكون واحدًا من الرواد الذين مهدوا لنهضة أدبنا المعاصر، يتميز إنتاجه الضخم بالأصالة والدقة والعمق"1. أسلوب المازني: تكشف آثار المازني عن أسلوب مشرق فكه ساحر وساخر، محبب إلى النفس، نابع من ثقافة عريضة، وموهبة قادرة على إذابة العامية في الفصحى، وينفرد بسخرية ناعمة، تجلوها روح الفكاهة المصرية العذبة الخالصة، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي: 1- البساطة في التعبير، واستخدام المألوف من الألفاظ، والمشهور من العبارات، وإظهار الألفاظ الدارجة في ثوب فصيح. 2- العناية بالأمثال الشعبية، ورسم صورة للبيئة المصرية عامة, والقاهرية بصورة خاصة، وإيثار الدعابة المساخرة التي تمثل روحه. 3- جمله قصيرة متلاحقة، وعباراته سلسلة شائقة. 4- إيثار الألفاظ الغربية في معارض السخرية، أو إظهار المفارقة، أو الإضحاك، فنراه يخاطب المتعالي قائلًا: "أيها الفطحل" ويتحدث عن المتحذلق فيقول إنه من "الجهابزة" وعند امتلاء البطن يقول: "إنه شعر الكظة".

_ 1 راجع: أدب المازني.

5- تشبيهاته جديدة دقيقة وطريفة فتراه يقول: "أقدم من هرم خوفو" و"معدتي طاعنة في السن كمخلاة قديمة" و"الزواج يشبه لبس الحذاء" و"الأعزب كالذي اعتاد الحفا" و"كانت لا تريد أن تتزوج، وصدقت فما تزوجت لأنها ماتت" و"كان شديد السكر حتى إنه كان يمشي متزنًا" وغيرها كثيرة وعديدة. 6- المحافظة على الإطار اللغوي في قواعده وتراكيبه ومفرداته. وهذا جزء من مقاله "بين القراءة والكتابة" جاء فيه: "مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب؛ لأني كنت أقرأ والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت -وما زلت- امرءًا يتعذر عليه ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة, ولكم أطلت الفكر في ذلك فلا يفتح الله علي بتعليل يستريح إليه العقل، ويأنس له القلب. وما أظن بي إلا أن الله جلت قدرته قد خلقني على طراز "عربات الرش" التي تتخذها مصلحة التنظيم، وخزان ضخم يمتلئ ليفرغ، ويفرغ ليمتلئ، وكذلك أنا فيما أرى أحس الفراغ في رأس, وما أكثر ما أحس ذلك فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي هذا الذي خلقه الله خلقة عربات الرش كما قلت, حتى إذا شعرت بالكظة وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء، وقمت عنه متثاقلًا متثائبًا من التخمة، فلا يعجبني إلا أن أفتح الثقوب وأسح وهكذا دواليك, وأمري مع الكتب أغرب، كنت في أول عهدي بها أي منذ عشرين سنة، أو نحو ذلك أذهب في أول كل شهر إلى أحد باعتها، فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له وعلى شفته -دون عينيه- ابتسامة جهل وغباء ويهز لي رأسه أسفًا، فأنحيه عن الطريق، وأمضي إلى الوقوف، وأجيل عيني فيها، وآخذ منها ما يروقني، وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار، وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين، أن كان فوقها شيء يستحق الذكر. ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب "كما يقول المثل العامي" وللعادة حكم لا يقوى المرء كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا ما يريدها عليه الجمود والتبلد، وقد يزعج نفسه يقضي أيامه بطين الجسد وحده، أو بموتها على الأصح، فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد، لا ينقصها إلا الرمى، وما لا يصلح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، ويسير على

من تعود أنه يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد، ويخلد إلى الركود، فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينًا بعد حين1". وبذا وغيره كان المازني في فكاهاته وسخرياته فنانا رائدًا خلاقًا، عميق الغور، واسع الأفق، انطبعت مختلف مظاهر الحياة المصرية في نفسه، فعبر عن صورها في قوة ووضوح. وبعد فلعلك أدركت من خلال فصول هذا الباب أن بلاد العروبة حفلت منذ الثلث الأخير من القرن الماضي ينفر من الرواد والمصلحين والأدباء، أثروا الفكر العربي بما بذلوا من جهود، وقدموا من أراء في إصلاح اللغة والدين والسياسة والمجتمع، وترخوا البساطة في التعبير عنها حتى تؤدي الغرض المنشود منها. ومن الطبيعي أن تتنوع الأساليب وتختلف طرائق التعبير والتصوير، نظرًا لتنوع العلوم التي نهلوا منها، وتعدد الثقافات التي تأثروا بها، وتختلف في نفوس الأدباء، وتطورت تبعًا لها عقولهم، فكان فيهم العالم والأديب والناقد والقاص والمؤرخ والسياسي والمبدع. ومن هنا برز في المجتمع الثقافي في شتى بلاد العروبة طوائف عديدة في التصوير والتعبير، وكان للغوي أسلوبه، وللمصلح اتجاهاته، ولرجل الدين منحاه، وللعلمي منهجه، وللفني طريقته، وللفلسفي نظرياته، وللساخر تعبيره؛ لأن كل واحد منهم له خطه من الثقافة، وله أسلوبه الذي يميزه عن غيره، وتتضح فيه سماته وقسماته الفارقة، ومميزاته الواضحة.

_ 1 راجع: قبض الريح ص5 وما بعدها.

الباب الثالث: المقال في الصحف المعاصرة

الباب الثالث: المقال في الصحف المعاصرة الفصل الأول: المقال وقضايا الفكر مدخل ... الباب الثالث: المقال في الصحف المعاصرة الفصل الأول: المقال وقضايا الفكر بوادر حرية الرأي: جرت الأحداث بسرعة بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ففي السودان ثورة المهدي، وفي الحجاز ثورة الوهابيين، وفي ليبيا ثورة السنوسى، وفي مصر الثورة العرابية، وكلها تحمل طابع الدعوات الفكرية، وتستهدف التحرر من الاستبداد, وبرز دور الرواد، فكان مجلس الإمام محمد عبده في مصر يضم المصريين والشاميين والعراقيين وغيرهم من أمثال: عبد العزيز جاويش، وولي الدين يكن، ورفيق العظمة، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، وطاهر الجزائري وعبد المحسن الكاظمي يتذاكرون أحاديث الإمام في الشورى1. وفي الشام كانت مدرسة حسين الجسر، وطاهر الجزائري، وفي العراق كانت مدرسة محمود شكري الألوسي، وكلها مدارس حرة للفكر. وكانت مبادئ الثورة الفرنسية تسود المشرق العربي، يقول أنيس المقدسي: "فليس بغريب أن بعض الشباب المثقفين حتى في أواخر القرن الماضي، وفي إبان العهد الحميدي يندفعون إلى الجهر بحب الحرية والمساواة كما فعل إلياس صالح2". ولعل في تفسير أديب إسحاق للحرية والمساواة ما يؤكد

_ 1 راجع: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده جـ2 ص192 رشيد رضا طبعة 25/ 1931. 2 راجع: الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث ص33-43.

تأثره بالثورة الفرنسية وآراء الفرنسيين، إذ اقتبس تعاريف "مونتين" و"منتسكو" و"جان جاك روسو1". وأعنف كتاب نادى بالحرية هو "طبائع الاستبداد" للكواكبي، فقد وضح فيه أثر الاستبداد في فساد الأخلاق والدين والتربية، مبينًا طريق التخلص منه فيقول: "إن الأمة التي ضربت عليها الذلة والمسكنة حتى صارت كالبهائم لا تسأل قط عن الحرية، وقد تنقم على المستبد، ولكن طلبًا للانتقام من شخصه، لا طلبًا للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئًا، إنما تستبدل مرضًا بمرض كمغص بصداع, إذا كانت الغاية مبهمة في الأول، فلا بد أن يقع الخلاف في الآخر، فيفسد العمل أيضًا، وينقلب إلى فتن صماء، وانقسام مهلك، ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص، وإشهارها بين الناس، والسعي في إقناعهم، واستخلاص رضاهم بها، بل حملهم على النداء بها، وطلبها من عند أنفسهم2". وارتبطت مصر -حسب منطق الأحداث- بأوروبا صاحبة أكبر قدر من أسهم قناة السويس، مما ترتب عليه ظهور تيارات اجتماعية، وظواهر أدبية وسياسة في المجتمع المصري بواسطة من يذهبون لأوروبا أو يأتون منها, وشغلت الفكر -لأول مرة- مسائل مثل: رأى الدين في شرب الخمر ومشاهد الرقص والتمثيل، ولبس الزي الأوروبي، وحرية العقيدة والفكر، ومكانة المرأة في المجتمع، وموقف الدين من تعلم العلوم التطبيقية وغيرها، مما لا يستطيع الكثير إذ ذاك أن ينظر إليها نظرة بعيدة عن الدين، ودار حولها جدل ونقاش بين الكتاب والمفكرين وأصحاب المسارح، كانت ثمرته مقالات "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي التي وضحت ما يجب أخذه أو تركه من الحضارة الأوروبية الوافدة. ومع بوادر الحرب العالمية الأولى 1914 دخلت مصر مرحلة جديدة في صراعها مع الاحتلال وبدت واضحة في ثورة الشعب 1919 التي اقترنت بثورة

_ 1 راجع: الدرر ص3-5 طبعة الإسكندرية 1886. 2 راجع: طبائع الاستبداد ص 172-177 الطبعة الأولى.

فكرية ازدهرت في ظل الدستور الذي كفل حرية التفكير باعتباره العنوان الصحيح على حضارة أي أمة من الأمم. والمعروف أن مصر شهدت -خلال هذه الفترة- أحزابًا ثلاثة. الحزب الوطني المحافظ الذي يحترم الدين ويتمسك بمبادئه، والحزب الوفدي الذي لم يصل إلى درجة الحزب الوطني في المحافظة، وحزب الأحرار الدستوريين الذي مال إلى التجديد والتحررح؛ لأن معظم أعضائه تعلموا في فرنسا، وأشربوا معاني الحرية التي جاءت بها ثورتها. وخرجت بعض الصحف -السياسة- من نطاق الحزبية الضيق إلى آفاق أرحب من التجديد والتثقيف بمدرسة الشعب، وعمل فيها معظم محرري "الجريدة" من أمثال: الشيخ مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من أشربوا روح الحرية، على أن أحمد لطفي السيد جعلها قاعدة لكل إنتاج فكري وإصلاح عام, ومن ثم بدت صحيفة "السياسة" مدرسة فكرية، لها اتجاهاتها ومثلها، تجمع الرواد والأنصار والمؤيدين، مما دفع صحف المعارضة إلى مهاجمة هذا الاتجاه مثل "الأخبار" لأمين الرافعي، و"المنار" للشيخ رشيد رضا، و"البلاغ" لعبد القادر حمزة. وقادت "السياسة" النضال بين القديم والحديث في اللغة والأدب والدين، وصلته بالعلم والحكم على نظم البحث الحديثة التي تبدأ بالشك: وتنتهي باختيار المذهب الرائق، مما أحدث تطورًا في التيارات الفكرية والأدبية، ومفهوم الحرية والحياة الدستورية، مما حقق ثورة فكرية شاملة، تجلت في قضايا عدة أهمها: 1- قضية المرأة. التي أثارها المرحوم قاسم أمين. 2- كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق. 3- كتاب "الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين. 4- قضية "التبشير" وبطلها الدكتور محمد حسين هيكل. فالي هذه القضايا، نقف على أسبابها، ونوضح جوانبها، وتبرر موقف الصحف والكتاب منها، ودور المقال فيها.

أولا: قضية المرأة

أولًا: قضية المرأة ظلت المرأة العربية قعيدة البيت، بعيدة عن التعليم حتى منتصف القرن الماضي، تحتم تقاليد المجتمع عليها أن تستتر بالحجاب عن أعين الرجال، وفي الثلث الأخير من القرن بدأ الحديث عن تعليم الفتاة يتردد في البيئة العربية على لسان رفاعة الطهطاوي المتوفى 1873 في كتابه "المرشد الأمين إلى تعليم البنات والبنين" ومما جاء فيه: "فإن ذلك مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن بالمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم، ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش، مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لمرأة مثلها" وطبع هذا الكتاب في 1872. وترتب على دعوته أقامة مدرسة للبنات 1873، ضمت مائة فتاة، وبعد عام استقبلت أربعمائة يتعلمن القراءة والكتابة والقرآن والحساب وشيئا من الجغرافيا والتاريخ والتطريز1". ورأى الشيخ محمد عبده: "أن من محاسن الإسلام مساواة المرأة بالرجل في الأمور الجوهرية. وأما تعدد الزوجات فإن الإسلام لم يجوزه إلا لضرورات حقيقية، ولذلك ينبغي إصلاح الحياة الاجتماعية فيما يحسن حياة المرأة"2. وتناول الموضوع نفسه عبد الله النديم على صفحات "الأستاذ"، وعلي مبارك في الجزء الثاني من كتابه "طريق الهجاء والتمرين على القراءة في اللغة العربية". وفي الشام شارك بطرس البستاني 1819-1883 الاهتمام بتعليم المرأة. ومن ثم بدأ الحديث عن تعليم المرأة ومساواتها بالرجل يتردد في الصحف والمجلات3.

_ 1 راجع: عصر إسماعيل جـ1 ص210 للرافعي. 2 راجع: الإسلام والتجديد ص221-222. 3 راجع: المقتطف أعداد 1886.

وانحصرت الدعوة في تعليم الفتاة مبادئ القراءة حتى يمكنها الاطلاع على كتب الأخلاق، يقول الكاتب الحلبي فرنسيس فتح الله المراش: "ولا عجيب من جعل تربية النساء مقصورة على أبسط العلوم؛ لأن توغلهن في عباب العلوم، ينتهي إلى عكس المطلوب, بحيث تحذو حذو الرجال، وتصبح غير مكترثة لالتزاماتها نحو البيت والعيال، وربما عنّ لها أن تضع نفسها فوق الرجال1. ويقول أحمد فارس الشدياق: "فأما تعليم نساء بلادنا القراءة والكتابة فعندي أنها محمدة، بشرط استعماله على شروطه، وهو مطالعة الكتب التي تهذب الأخلاق، وتحسن الإملاء2". وهكذا بدأت دعوة تعليم الفتاة تشيع في مصر والشام في أواخر القرن الماضي، ومن أجلها فتحت المدارس، ومن ثم أخذت الدعوة تشق طريقها في الشرق العربي حتى تلقفها المرحوم قاسم أمين، وتبين الدعوة لها، وضمنها مقالاته التي جمعت -فيما بعد- في كتابيه "تحرير المرأة" الصادر في 1899 و"المرأة الجديدة" الذي ظهر بعده بعام. أثارت كتابات قاسم أمين عن المرأة وحقوقها جدلًا عنيفًا، شغل الرأي العام العربي خاصة في مصر والشام والعراق, لاصطدامها بالتقاليد الموروثة في بلاد العروبة إذ ذاك، ووقف الناس من دعوة قاسم أمين بين معارض ومؤيد. "رمى المعارضون قاسم أمين على صفحات "اللواء" بأنه ممن تخطف زخاف التمدن بصائرهم، يرى المحاسن ولا يبصر المساوئ، ويقنع بأراء الدوق دراكور، ولا يقنع بمن هم أكثر شهرة وأوسع ثقافة وأوضح عقلًا من كتاب الغرب، مثل: جول سيمون وموليير ولامنس وزولا وهوجو وأمثالهم ممن هاجموا المرأة الأوروبية في حريتها التي عبثت بها3". "وتساءل البعض على صفحات الجرائد كيف أمكن لليابان أن تصبح

_ 1 راجع: الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث جـ1 ص59. 2 راجع: الساق على الساق جـ1 ص50. 3 راجع: اللواء الصادر في 24/ 1/ 1908.

إحدى الدول العظمى، والنساء فيها لم ينلن شيئًا من الحرية العربية؟ وأية امرأة مثقفة أوروبية اخترعت القطار أو اكتشفت الكهرباء"1. "وفسحت صحيفة "المؤيد" المجال للمعارضين والمؤيدين معًا، فنشرت لمحمد فريد وجدي -كما نشرت اللواء له- بضع مقالات بدأها متسائلًا: هل المرأة مساوية للرجل في سائر الحيثيات؟ ويجيب متسائلًا: وهل لدينا دليل حسي على هذا الجواب السلبي أصدق منذ وجود المرأة من ابتداء الخليقة للآن تحت سيطرة الرجل يوجهها كيف شاء، ويحكم عليها بما تقتضي أمياله، إذا كانت المرأة مساوية للرجل من الجهتين الجسمية والعقلية، فلماذا خضعت كل هذه الألوف من الأعلام لسلطان الرجل وجبروته2". "ويتهكم أحد الكتاب بدعوة قاسم أمين، ويصور خروج المرأة إلى معترك الحياة، فإذا البيوت مقفرة، والشوارع مزدحمة بالرجال والنساء، والمحال التجارية وقف بها المتحككون بالنساء البائعات، أما الزي فخليط عجيب امرأة بقبعة وامرأة بغيرها، والمقصى قد تحيف الجيوب والذيول والأكمام، والتصقت الملابس بالمرأة حتى صارت كبعض جسمها، أهذا ما تريده؟ إن ما تريده حقا هو تربية المرأة قبل كل شيء". تلك صورة موجزة للثورة التي دارت بين الكتاب في مصر عقب كتابات المرحوم قاسم أمين حول تحرير المرأة من التقاليد التي فرضت عليها أن تعيش بعيدة عن التعليم، مكبلة بقيود الحجاب. "ورأى أهل الشام أن دعوة قاسم أمين اقتداء بالغربية لا يقوم على حجة مقبولة؛ لأنها لم تناد بخروج المرأة إلى العمل والحرية المطلقة، وإنما الرجال هم الذين دفعوا المرأة إلى العمل للانتفاع بها، فكانت النتيجة أن هوت، وفقدت بيتها وأنوثتها، وإذا كان التاريخ استفظع وأد بعض رعاع العرب لبناتهم دفعًا للعار، فكم يكون استفظاعه لحياة كثيرات من الفتيات في هذه المدينة التي يريد البعض أن يقتدي بها".

_ 1 راجع: اللواء الصادر في 27/ 2/ 1908. 2 راجع: المؤيد الصادر في 30/ 9/ 1899.

"ومع ذلك فقد طالب أهل الشام بثقافة محدودة للفتاة ولا حاجة لها بالثقافة العريضة لمركزها في الأسرة كأم، واعتبروا مساواتها بالرجل خدعة كبرى، للاختلاف الطبيعي بينها وبين الرجل، والعلم نفسه أثبت ضعف المرأة1". أما أهل العراق فقد رموا قاسم أمين بالفساد والخروج عن سنن الدين، محتجين بأن السفور يقود إلى المجون وهدم القيم، مما يترتب عليه تفكك الروابط الاجتماعية2 ولما كان شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي شغوفًا بالاطلاع على كل ما يدعو إلى التحرر الفكري والاجتماعي، فقد وجد في دعوة قاسم أمين نصرة المرأة والدفاع عنها، فلم تمض أربع سنوات على تلك الدعوة حتى بعث بمقال جريء إلى جريدة "المؤيد الأسبوعي" القاهرية، ونشر في 17 أغسطس 1910 بعنوان "المرأة والدفاع عنها" ناقش فيه موضوع الطلاق فقال: "أجاز المسلمون أن يقسو الرجل فيطلق المرأة، ويستبدلها بغيرها كسقط المتاع" ثم يتساءل قائلًا: "لماذا لم يجز المسلمون أن تطلقه لتنجو من شراسته، وقد قال تعالى في كتابه المبين بعد آية الطلاق {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} ؟ لماذا لا يكون لها هذا الطلاق مثلما هو عليها، لتعم المساواة، وتسود العدالة، كما هو مدلول الآية؟! ". ثم ناقش "حقوق المرأة المهضومة" مناقشة صريحة فقال: "ليست المرأة المسلمة مهضومة من جهة واحدة، بل هي مهضومة من جهات عديدة: فهي مهضومة؛ لأن "عقدة الطلاق" بيد الرجل يحلها وحده، ولا أدري لماذا يجب رضاء المرأة في الاقتران، ولا يجب رضاها في الفراق الذي يعود تبعته عليها وحدها؟! وهي مهضومة؛ لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه الرجل، وهي مهضومة؛ لأنها تعد نصف إنسان، وشهادتها نصف شهادة، وهي مهضومة؛ لأن الرجل يتزوج عليها بثلاث أخر، وهي لا تتزوج إلا به. وهي مهضومة؛ لأنها وهي في الحياة مقبورة في حجاب كثيف، يمنعها من شم الهواء ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها". وختم مقاله ببيان "مضار الحجاب" فيما يسببه من مشاق ومتاعب في المجتمع، وختم مقاله بقوله: "أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات! " فثار رجال الدين عليه ثورة عارمة، مما جعله يختفي في بيته خوفًا على حياته، واعتبره الشيخ سعيد النقشبندي -من كبار علماء بغداد- كافرًا زنديقًا، وألف رسالة في الرد عليه سماها "السيف البارق، في عنق المارق" وطالب البعض بعزله من وظيفته من والي بغداد "ناظم باشا" مما دفع جميل صدقي الزهاوي أن يتراجع عن رأيه وينكر كتابته للمقال. ويلاحظ أن نقاش أهل الشام لقضية المرأة أهدأ من نقاش أهل العراق؛ لأن المرأة عندهم أكثر حرية من المرأة العراقية، لأثر الجاليات الأجنبية في الحياة الشامية. أضافت المعركة التي أثيرت حول "قضية المرأة" إلى تراثنا العربي المعاصر مقالات عديدة، وكتب متنوعة، وبحوث مختلفة أهمها ما يلي:

_ 1 جمع جميل صليب في كتابه "الاتجهات الفكرية في بلاد الشام" بعض هذه المقالات ص140 وما بعدها. 2 راجع: تنوير الأفكار، السنة الأولى 1328، ابتداء من العدد الثالث.

وهي مهضومة؛ لأن الرجل يتزوج عليها بثلاث أخر، وهي لا تتزوج إلا به. وهي مهضومة؛ لأنها وهي في الحياة مقبورة في حجاب كثيف، يمنعها من شم الهواء ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها". وختم مقاله ببيان "مضار الحجاب" فيما يسببه من مشاق ومتاعب في المجتمع، وختم مقاله بقوله: "أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات! " فثار رجال الدين عليه ثورة عارمة، مما جعله يختفي في بيته خوفًا على حياته، واعتبره الشيخ سعيد النقشبندي -من كبار علماء بغداد- كافرًا زنديقًا، وألف رسالة في الرد عليه سماها "السيف البارق، في عنق المارق" وطالب البعض بعزله من وظيفته من والي بغداد "ناظم باشا" مما دفع جميل صدقي الزهاوي أن يتراجع عن رأيه وينكر كتابته للمقال. ويلاحظ أن نقاش أهل الشام لقضية المرأة أهدأ من نقاش أهل العراق؛ لأن المرأة عندهم أكثر حرية من المرأة العراقية، لأثر الجاليات الأجنبية في الحياة الشامية. أضافت المعركة التي أثيرت حول "قضية المرأة" إلى تراثنا العربي المعاصر مقالات عديدة، وكتب متنوعة، وبحوث مختلفة أهمها ما يلي: أولًا: كتب المعارضين 1- تربية المرأة والحجاب لمحمد طلعت حرب. 2- السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب لمحمد إبراهيم الغاياتي. 3- الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس لمحمد أحمد حسنين البولاقي. 4- خلاصة الأدب لحسين الرفاعي. 5- نظرات السفور والحجاب لمصطفى الفلايني. 6- قولي في المرأة لمصطفى صبري. 7- رسالة "مشروعية الحجاب" لمصطفى نجا. 8- رسالة "الفتى والفتاة" لعبد الرحمن الحمصي.

وغيرها من الكتب التي عارضت دعوة قاسم أمين في تحرير المرأة, وأهم هذه الكتب وأكثرها عنفا الكتاب الأول، ولذا سنقف عنده قليلًا, بدأ المرحوم محمد طلعت حرب كتابه -تربية المرأة والحجاب- بالحديث عن مستوى المرأة ووظيفتها خلص منه إلى أن الطبيعة فرقت بين عمل المرأة وعمل الرجل فقال: "إن للمرأة أعمالًا غير ما للرجل، ليست بأقل أهمية من أعماله ولا بالأدنى منها فائدة، وهي تستغرق معظم زمن المرأة إن لم تقل كلمة: رجل يسعى ويكد ويشقي ويتعب ويشتغل ليحصل على رزقه ورزق عياله، وامرأته ترتيب له بيته وتنظف له فرشه، وتجهز له أكله، وتربي له أولاده، وتلاحظ له خدمه، وتحفظ عينه عن المحارم، وهو يسكن إليها1". وفي الباب الثاني يتناول "تربية المرأة" وما يكاد يبسط القول فيه حتى يسلم برأي قاسم أمين فيقول: "على أن لا شيء يمنع المرأة من التوسع في العلوم والمعارف إذا وجدت عندها قابلية من نفسها, وكان وقتها يسمح لها به كما أنه لا شيء يمنعها عند اقتضاء الحاجة من أن تتعاطى من الأعمال بعض ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقاتها2". ويختم المؤلف كتابه بعد مناقشة موضوعية هادئة حول "مشروعية الحجاب" متمسكًا برأي قاسم أمين نفسه حين قال: "الحجاب أصل من أصول الأدب، إلا أن المطلوب أن يكون منطقيا على ما جاء به الشرع3". ثانيًا: كتب المؤيدون 1- المرأة في الشرائع والتاريخ - لمحمد جميل بهيم. 2- تحرير المرأة في الإسلام - لمجدي الدين ناصف. 3- رسالة نهضة المرأة المصرية والمرأة العربية - عبد الفتاح عبادة.

_ 1 راجع: تربية المرأة والحجاب ص17. 2 راجع: المصدر السابق ص59. 3 راجع: المصدر السابق ص105.

4- أكليل غار على رأس المرأة - لجورجي نقولا باز. 5- النسائيات - لملك حفن ناصف. وغيرها من الكتب التي ألفها النساء بعد ذلك في الدفاع عن قضية المرأة. وكان أنصار قاسم أمين يقابلون تهكم المعارضين بتهكم أشد، وهجوم أعنف، مثل قول ولي الدين يكن: "قالوا إن تعليم البنات مهبع إلى إفسادهن وما القائلين بذلك من تعلمت أمة وعرفت فسادها، إن هو إلا لجاج مبين، أبى القدماء مزايلة عاداتهم فضلوا وأضلوا، وحسبوا عصر أبنائهم مثل عصرهم فشقوا وأشقوا، حتى إذا كانت العاقبة فإذا هم في أجدائهم راقدون لا يسمعون فنقص عليهم قصص من خلفوا، ولا يتعظ بمصارعهم من عاش بعدهم, ورأى خطأهم، ومن لم تعظه العبر لا تؤالمه وقعات الصروف1". ولم تمض سنوات على دعوة قاسم أمين لتعليم الفتاة وخروجها للعمل حتى سارت بعده خطوات واسعة، ووجدت أعوانًا وأنصارًا: "لم يعد ذلك الذي دعا إليه قاسم أمين هو شغل الناس بعد الحرب، فقد أخذت الأمور تتطور تطورًا سريعًا حتى أصبحت دعوة قاسم أمين وقد استنفدت في وقت وجيز كل أغراضها، واندفع الناس إلى ما وراءها في سرعة غير منظمة، فقد خلعت المرأة النقاب، ثم استبدلت المعطف الأسود بالحبرة، ثم لم تلبث أن نبذت المعطف وخرجت بالثياب الملونة، ثم أخذ المقص يتحيف هذه الثياب في الديول وفي الأكمام وفي الجيوب، ولم يزل يجور عليها فيضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها, ثم إنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئًا. ولم تعد عصمة النساء في أيدي أزواجهن، ولكنها أصبحت في أيدي صانعي الأزياء في باريس من اليهود ومشيعي الفجور، وقطعت المرأة مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي، واقتحمت الجامعة مزاحمة فيما يلائمها وفيما لا يلائمها من ثقافات وصناعات،

_ 1 راجع: الصحائف السود ص9 وكانت صحيفة "المنار" لمحمد رشيد رضا تؤيد قاسم أمين راجع العدد الصادر في 15/ 7/ 1899.

وشاركت في وظائف الحكومة، ثم لم تقف مطالبتها عند حد في الجري وراء ما سماه أنصارها "حقوق المرأة أو مساواتها بالرجل" وكأنما كان عبثًا أن خلق الله سبحانه الذكر والأنثى، وأقام كلا منهما فيما أراد، وامتلأت المصانع والمتاجر بالعاملات والبائعات، وحطم النساء الحواجز التي كانت تقوم بينهن وبين الرجال في المسارح وفي الترام وفي كل مكان, فاختفت المقاعد التي جرت العادة على تخصيصها للسيدات، بعد أن أصبحن يفضلن مشاركة الرجال1". لعبت الصحف دورها في معركة تحرير المرأة بما كانت تنشره من استفسارات تبغي من ورائها الأنظار ومشاركة أنصار التحرر مثل رد الدكتور "فيليب متى" فيما تستبقيه المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية وما تقتبسه من المرأة الغربية يقول: "للمرأة كما للرجل سواء كانت المرأة شرقية أم غربية، الحق المطلق في الاستمتاع بكل الوسائل الضرورية لحفظ حياتها التامة ولنموها المستمر وتقدمها المطرد جسديا وعقليا وروحيا, وكل ما وقف في سبيل ذلك هو شر يجب إزالته, هنا تأتي مشاكل البرنيطة والحجاب والمشد وقص شعر الرأس والرقص والغناء والتياترات. ولعب الورق إلى آخر ما هنالك, من المسائل التي تشغل في هذه الأيام أفكارنا, كل هذه المشاكل -في نظري- يجب أن تقرر بموجب هذا المبدأ الأخير, هل هذه الأمور تساعد المرأة على النمو الجسدي والعقلي والأدبي، أو تعوقها عنه، لكل امرأة -ولكل رجل- أن تحكم نفسها أو يحكم نفسه, فإن كان لعب الورق مثلًا لا يقف عثرة في سبيل تقدم الفرد بل يساعده على النمو فهو جائز حلال وإلا فهو خطيئة، ولا نستطيع في أحوال كهذة أن نضع أحكامًا عامة تتناول الجميع، بل يجب الحكم في كل حادثة لنفسها، وعلى كل فرد لنفسه2". تلك هي قضية تعليم المرأة التي أثارها المرحوم قاسم أمين، ولم تكن كما قال المرحوم شكيب أرسلان1 مسألة شعور وحجاب وتعليم وجهل. وإنما سلسلة متصلة دفع دعاة المدنية الغربية المجتمع إليها دفعًا حتى لا يكونوا في مجتمع يختلف تقاليده عن تقاليدهم التي اكتسبوها من معايشتهم لغيرهم من أبناء المجتمعات الأوروبية.

_ 1 راجع: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر جـ2 ص225- 233 محمد محمد حسنين. 2 راجع: الهلال ص428 أعداد 1925.

ثانيا: كتاب "الأسلام وأصول الحكم"

ثانيًا: كتاب "الإسلام وأصول الحكم" مؤلف هذا الكتاب الشيخ علي عبد الرازق 1888-1966 تلميذ الإمام محمد عبده، والحائز على العالمية من الأزهر الشريف 1911.التحق بجامعة "اكسفورد" للحصول على درجة علمية في الاقتصاد والعلوم السياسية، لكن الحرب العالمية حالت دون تحقيق رغبته فعاد لمصر، وأقام زمنًا بالأسكندرية ألقى خلالها دروسًا في الأدب العربي وتاريخ الإسلام بالمعهد الأسكندري, وعمل بالقضاء الشرعي 1915، وظل به حتى فصل 1925 بعد نشر كتابه هذا, وتولى وزارة الأوقاف مرتين: الأولى في وزارة النقراشي والثانية في وزارة إبراهيم عبد الهادي 1947. كانت تربطه صداقة وطيدة بالدكتور محمد حسين هيكل، دعمها انتماؤهما لمدرسة التجديد التي ضمت أكثر المنادين بالتجديد والتحرر في الفكر الغربي الإسلامي. أثار الكتاب منذ نشر 1925 معركة دينية وفكرية وسياسية؛ لأنه هاجم الخلافة الإسلامية والنظام الملكي في صراحة وجرأة، ومما جاء فيه: "والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة وعزة وقوة, والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية, كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة, وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نص عليها, إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة" واستند في هدم الخلافة على الأدلة التالية:

_ 1 راجع: المنار ص206 الصادر في 21 يوليو 1925.

أولًا: الخلافة هي الرياسة العامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده مع الالتزام بحدود الشرع، مؤكدًا أن الأدلة في تأييد الخلافة لا تكفي لفرض هذا الحكم أو تأييده على الأقل1. ثانيًا: خلو القرآن والسنة من العبارات التي تؤيد الخلافة تأييدًا صريحًا، بحيث يلتزم المسلمون، ويقرر أن الخلافة لم توجد بالإجماع، ولم تقم بعد أبي بكر وعمر وعثمان على الاختيار الحر، وإنما قامت على السيف "فلذلك الذي يسمى عرشًا لا يرتفع إلا على رءوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم, وذلك الذي يسمى تاجًا لا حياة له إلا بما يأخذه من حياة البشر، ولا قوة إلا بما يغتال من قوتهم2". ثالثًا: يرى أن الرأي القائل بتنصيب الإمام أو الخليفة، يتوقف على إظهار الشرائع الدينية وصلاح الرعية فيقول: "معاذ الله ... لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء أن يجعل عزه وذله مرتبطين بنوع من الحكومة، ولا يصنف من الأمراء! ولا يريد الله جل شأنه بعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن لخلافة ولا تحت رحمة الخلفاء3". ويذهب إلى أن القرآن الكريم لم يحدد شكلًا معينًا من أشكال الحكومة. رابعًا: الأنظمة والقواعد التي شرعها الإسلام ليست من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وإنما هو شرع ديني خاص لمصلحة البشر الدينية، فلا حاجة لنا في الخلافة في أمور الدين أو الدنيا؛ لأن الخلافة كانت وما زالت نكبة على الإسلام والمسلمين.

_ 1 راجع: الإسلام وأصول الحكم ص65-66. 2 راجع: المصدر الساق. 3 راجع: الإسلام وأصول الحكم ص65-66.

خامسًا: لا حاجة لزعيم يخلف محمدًا في زعامة إسلامية؛ لأنه رسول نبي فقط، واستدل من القرآن بخمس وأربعين آية منها: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 1 وأكد من السنة النبوية أن محمدًا -كالرسل- ليس ملكًا ولا مؤسس دولة، وخلص إلى الأسباب التي أدت إلى تسمية أبي بكر ومن جاء بعده بلقب "الخليفة" ثم استغل من جاء بعدهم كلمة "الخلافة" لما يحيط بها من قداسة، فتمسكوا باللقب ليحموا مقاصدهم من الثائرين. وختم المؤلف كتابه قائلًا: "وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين أضلوهم عن الهدى، وعموا عليهم وجوه الخير، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا"2. أثارت هذه الآراء عاصفة هوجاء، واشتد الجدل حولها، وهاجمت قوى عديدة الكتاب وصاحبه. وكانت بداية لكثير من الدراسات والمؤلفات عن مبادئ السياسة ونظام الحكم في الإسلام، ونشط رجال الدين فألفوا الكتب، ونشروا المقالات من أمثال: 1- كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم لشيخ محمد الخضر حسين. 2- كتاب "نقض علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم لمحمد طاهر بن عاشور مفتي المالكية في تونس". 3- كتاب "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" للشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية.

_ 1 راجع: المصدر السابق ص85-103. 2 راجع: المصدر السابق ص85-103.

4- كتاب "نظام الحكم في الإسلام" لمحمد يوسف موسى. 5- كتاب "النظريات الإسلامية السياسية" لضياء الدين الريس. 6- كتاب "الحكومة الإسلامية" لمحمد حسين هيكل. 7- كتاب "الإسلام والسياسة" لحسين فوزي النجار. 8- كتاب "الدولة والإسلام" لخالد محمد خالد. 9- كتاب "ثلاث معارك فكرية" لمختار التهامي. وتدور موضوعات هذا الكتاب حول كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق. ومما أضعف موقف هؤلاء العلماء حرصهم على إرضاء الملك فؤاد. أهدى الشيخ محمد الخضر حسين كتابه على النحو التالي: "إلى خزانة حاضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم, راجيًا أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرص ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد" في الوقت الذي صدر علي عبد الرازق كتابه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدا سواه". وانتهى الأمر بمحاكمة علي عبد الرازق أمام هيئة من كبار العلماء بالأزهر، وإخراجه من زمرتهم، وإقصائه عن القضاء، وتجريده من العالمية التي تؤهله للوظائف الحكومية، ولعب المقال دوره في هذه المعركة الفكرية التي خاض غمارها نفر من الكتاب بين ميؤدين ومعارضين، كتب طه حسين مقالًا ساخرًا يهنئ الشيخ بخروجه من زمرة الأزهريين ونشرته صحيفة "السياسة" يقول فيه: "إيه أيها الطريد من الأزهر، تعال إلي نتحدث ضاحكين من هذه القضية المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق، فقد كان يلذنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام "باب المزينين" -اسم حارة في حي الأزهر- أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها ولا يصل إليها المنكر ولا يسمى الأخيار والأبرار، ثم تضرم فيها النار ... ودعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا، فقد أخرجت من الأزهر، ثم تعالى نجد،

فقد آن لنا أن نجد, ما هذه الهيئة التي أخرجتك من الأزهر؟ وما سلطتها الدينية على أي آية من كتاب الله، أركن هي من أركان الإسلام كالإمامة، كلا إنما هي بدعة لا يعرفها القرآن الكريم، ولا تعرفها السنة المطهرة ولا النظم الإسلامية, وهي بدعة فليس تحكمها صفة دينية، ومن قال غير ذلك فهو آثم؛ لأن هذا النظام يشبه أن يكون من نظم النصارى لا من نظم المسلمين, للنصارى مجلس للأساقفة، ومجلس للكرادلة ولهم باب، أما نحن فليس لنا من هذا كل شيء، فسلام عليك أيها الطريد, وإلى اللقاء"1. وكتب الشيخ علي عبد الرازق عقب حكم هيئة كبار العلماء عليه بصحيفة "السياسة" فقال: "لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذى قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا"2. ودافع محمد حسين هيكل عن الكتاب وصاحبه فقال: "وماذا نقول في عالم من علماء الإسلام يريد ألا يكون للمسلمين خليفة في وقت يطمع فيه كل ملك من ملوك المسلمين، وكل أمير من أمرائهم في أن يكون خليفة؟ ثم ماذا تقول في عالم مسلم مصري يقول بوجوب ارتباط مصر وإنجلترا برباط الصداقة، ويذهب في ذلك مذهب المتطرفين ثم يقف في وجه إقامة خليفة، وأن يكون هذا الخليفة واحدًا من الملوك والأمراء الواقعين تحت نفوذها؟! أو لم يكن الأولى له والأجدر به أن يترك الخلق للخالق حتى ينام الخليفة فيرضى أمير، وأن غضب أمراء! وترضى إنجلترا. وقد يكون في رضاها ما يقرب المسائل المعلقة بيننا وبينها؟! ما أظن واحدًا من أصدقاء الشيخ علي عبد الرازق، بل ما أظن الشيخ نفسه إلا يرى أمام هذه الاعتبارات. أن الشيخ قد أخطأ خطأ بينا يستحق عليه المحاكمة؟! "3.

_ 1 راجع: أخبار اليوم العدد 1825 الصادر في 3 مايو 1980. 2 راجع: المصدر السابق. 3 راجع: السياسة العدد الصادر في 23 يوليو 1925.

وأدرك الناس أن القضية سياسية في المقام الأول، ولكنها ليست ثوبًا دينيا، يقول المرحوم عبد الرحمن الرافعي في كتابه "في أعقاب ثورة 1919" "أن كتاب الإسلام وأصول الحكم كان في ظاهره يعارض الخلافة الإسلامية، أما في حقيقته فإنه يعارض النظام الملكي, وقد هاجمه الملك والحكومة بأساليب تستثير العواطف الدينية, ولكن الرأي العام كان أنضج من أن يتأثر بالدعاية الدينية التي كثيرًا ما يستخدمها دعاة الحكم المطلق وسيلة للتضليل بالشعب، فلم يكترث لهذه الدعاية التي ليست من الدين في شيء، وذلك على تقدمه في الوعي السياسي والديني معًا، وظل منكرًا متهاونًا لهذا النظام الذي أهدر حقوقه السياسية". وبلور الدكتور محمد حسين هيكل -في تلك الفترة- مفهوم "حرية الفكر" من خلال مقالاته التي نشرتها صحيفة "السياسة", وأروع مقالاته المقال الذي كتبه بعد صدور الحكم على الشيخ علي عبد الرازق بعنوان "بعد قرار العلماء" خاطبه فيه في أسلوب ساخر فقال: "تعال نضحك فقد كان كتابك مصدرًا لتغير الأرثوذكسية في الإسلام1، ولست أنت الذي غيرها أيها الطريد المسكين، وإنما غيرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر نعم كان أهل السنة، وما زالوا يرون أن الخلافة ليست ركنًا من أركان الدين، وأن الشيعة فسقوا حين عدوها كذلك, فلما قلت للناس في كتابك ما أجمع عليه أهل السنة، غضب عليك أهل الأزهر، ورموك بالابتداع والإلحاد، وأخذوا يقولون: إن الخلافة أصل من أصول الدين، وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوذكسية الإسلامية، فسبحان من يغير ولا يتغير: أصبحت "القاهرة" "كطهران" مركز الشيعة، وإنها بناء صلاح الدين؟! ولم لا؟ ... الشيعة هم الذين بنوا القاهرة وهم الذين بنوا الأزهر وشيدوه، أليس الفاطميون هم الذين أنشئوا المدينة ومسجدها الجامع؟ فأي عجب أن تعود مدينة القاهرة شيعية كما كانت يوم أسسها الفاطميون؟! وأي عجب في أن يعود الأزهر شيعيا كما كان يوم بناه الفاطميون؟! "2. واستمر هيكل يدافع عن حرية الرأي اعتمادًا على ما قرره الدستور، حتى تسود البلاد وتستقيم الأمور. وعلى أي حال فقد كان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" نقطة تحول في البحث عن الإسلام والسياسة بعد أن انقطع الحديث عنهما قرونًا منذ ابن تيمية وابن حزم وابن خلدون وغيرهم، وبدأت المكتبة المصرية تحفل بالكتب القيمة التي بسطت المبادئ والقواعد المتعلقة بشئون الدولة الإسلامية، كما كان الكتاب نقطة انطلاق شارك فيها علماء الدين وكبار الساسة وأصحاب الفكر بمقالاتهم، فاتسعت دائرة الجدل، ولم يعد الموضوع الأساسي هو الخلافة الإسلامية، وإنما أصبح موضوع الدولة في نظر الإسلام دينا وشريعة وتاريخًا.

_ 1 يعني "المذهب السني" المحافظ. 2 راجع، السياسة الصادرة في 14 من أغسطس 1925.

ثالثا: كتاب "في الشعر الجاهلي"

ثالثًا: كتاب "في الشعر الجاهلي" مؤلف هذا الكتاب الدكتور طه حسين 1889-1973 أستاذ اللغة العربية بالجامعة المصرية بعد أن تحولت حكومية في 1924. كان متفتحًا للأراء المجددة في الأدب والحياة على الرغم من تنشئته في بيئة الأزهر المحافظة, ارتبط بعد عودته من باريس بأحمد لطفي السيد والمثقفين من حزب الأحرار الدستوريين، وبدأ ينشر في "السياسة" دراسات في شكل مقالات أسبوعية، جمعت -فيما بعد- في كتاب "حديث الأربعاء" منذ تولى التدريس بالجامعة، بدأ يدرس الشعر الجاهلي مطبقًا موازين النقد الأوروبي, مختارًا منهج "ديكارت" الفلسفي الذي يقوم على الشك حتى يصل الباحث به إلى اليقين، وانتهى من دراسته إلى نظرية انتحال الشعر الجاهلي، وأنه يمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر من حياة الجاهليين، وأن ما ينسب من شعر إلى امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم وغيرهم، إنما هو من انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صفة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين وعلماء الجدل، أو جاء لنشر دعوة سياسية أو إرضاء للعصبيات. أثار كتاب "الشعر الجاهلي" حين نشر 1926 عاصفة سياسية،

انعكست على البرلمان الوفدي برياسة سعد زغلول ضد صاحبه، وكادت تعصف بوزارة عدلي يكن، وانتهى الأمر بمصادرة الكتاب، وتقديم مؤلفه إلى القضاء للنظر في هذه القضية. اتهم طه حسين بالطعن في الدين الإسلامي دين الدولة، وأنه أنكر وجود إبراهيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه وإسماعيل لم يبنيا الكعبة، لكن طه حسينا أنكر ما وجه إليه من تهم، وأنه مسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل، وما يتصل بهما مما جاء في القرآن الكريم، لكنه كباحث مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث العلمي الذي لا يسلم بالوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل إلا إذا أثبت وجودهما بالدليل الذي يقبله العلم. وشرح طه حسين رأيه في صحيفة "السياسة الأسبوعية" فقال: "كل امرئ منا يستطيع لو فكر أن يجد نفسه شخصيتين متميزتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل، وتغير اليوم ما ذهب إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس, والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب وترهب، كل ذلك في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذي يمنع من أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة، وأن تكون الشخصية الثانية ممتعة مطمئنة وطامحة إلى المثل الأعلى"1. رد كثير من الكتاب على كتاب طه حسين في الصحف باعتدال تارة، وعنف أخرى. جمعت مقالات الردود في كتب نشرت فيما بعد، فكان منها "الشهاب الراصد" لمحمد لطفي جمعة، وكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد الخضر حسين، وكتاب "نقد كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد فريد وجدي، ونشرت مقالات هذه الكتب في صحف المعارضة للأحرار الدستوريين. وعلى الرغم من إعادة طبع الكتاب بعد حذف أشياء منه، وأضافت

_ 1 راجع: السياسة الأسبوعية الصادرة في 17 يوليو 1926.

أخرى عليه، وخرج باسم "في الأدب الجاهلي" فقد ظلت الثورة قائمة عليه نحو ما عرف عن أحمد الغمراوي في كتاب "النقد التحليلي في الأدب الجاهلي" ومصطفى صادق الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن". ناقش هؤلاء الكتاب طه حسين في تطبيقه لمنهج "ديكارت" على الشعر الجاهلي، وهل يجعل الشك وسيلة للشك نفسه، أم هو وسيلة لليقين، وراجعوه في بعض الفروض والنتائج والأدلة والبراهين؛ لأن طه حسين عدد دوافع الشك في الشعر الجاهلي فيما يلي: 1- عدم تمثيله الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية. 2- عدم تمثيله ما أشيع في الجنوب من اللغة الحمرية. 3- لا يحتوي على ما يجري في لغة العدنانيين الشماليين من لهجات متفاوتة. 4- رد أسباب الانتحال إلى السياسة والدين والقصص والشعوبية واختلاف الرواة الوضاعين. وحملت صحيفة "السياسة" اليومية والأسبوعية أمانة الفكر، ودافعت عن الكتاب ومؤلفه، وردت على مزاعم مهاجميه في الصحف الأخرى. ويؤيد محمد حسين هيكل طه حسين في حرية رأيه بعد تقديمه إلى النيابة للتحقيق، فيقول: "ما يميز البحث العلمي عن سائر البحوث إمكان تحقيقه، كما يكون التحقيق في العلوم الطبيعية بالتجربة أو الملاحظة فهو في العلوم النظرية وفي التاريخ بالرجوع إلى المصادر ودقة تفسيرها ومقارنتها بغيرها، وقد يستغنى عن هذا التثبت في بعض الآحايين بما يقتضيه البحث العلمي من الإشارة في هامش الكتاب1". ويأخذ على المؤلف إهماله التثبت والإشارة في الهوامش فيقول هيكل: "والبحث العلمي يقضي إمكان تحقيقه علميا بتحقيق مراجعه والمقارنة بينها، ولهذا نرى العلماء لا يكتفون أكثر الأحيان بالإشارة في هوامش كتبهم

_ 1 راجع: السياسة الأسبوعية الصادرة في 25 يونيو 1927.

إلى المراجع التي أخذوا عنها والتي يناقشوها بل يذكرون لك كذلك أسماء المراجع الأخرى التي قد تتفق في الرأي معهم، كما يذكرون المراجع التي تخالفهم1". والخلاصة أن قضية الشعر الجاهلي أسفرت عن وضع أصول جديدة للبحث الأدبي، ترجع إلى جانب علمي يقوم على فحص النصوص الأدبية وتحقيقها واستنباط دلالاتها مع الدقة في التفسير، والتعليل في الأحكام، والتحليل السليم، ومعرفة ما يحيط بها من ظروف ومؤثرات, والجانب الآخر فني يتصل بنقد النصوص وتصوير شخصيات أصحابها، حتى يحيل التاريخ الأدبي إلى عمل ممتع يلذ العقل والشعور معًا. ويمكن القول بأن قضية الشعر الجاهلي قد أسفرت عن طبيعة الخلاف بين رجال الدين ورجال العلم، يؤكد هذا هيكل ويوجزه في أنه "خلاف على السلطة ونظام الحكم، وقد انتصر رجال العلم ونظموا الحكم واستأثر أنصارهم به في كل أنحاء العالم المتمدن، وبقي لرجال الدين الإشراف على قيام جوهر الدين في النفوس إشراف نصيحة وإرشاد لا إشراف حكم وسلطان2".

_ 1 راجع: السياسة الأسبوعية، الصادرة في 25 يونيو 1927. 2 راجع: السياسة الأسبوعية، الصادرة في 24 يوليو 1926.

رابعا: قضية التبشير

رابعًا: قضية التبشير ترتبط هذه القضية بالفترة من 1930-1933 التي تولي إسماعيل صدقي الوزارة فيها، ضاقت البلاد خلالها من أساليب الفساد والتعسف والقهر والبطش والقوة وتعطيل الدستور وكبت الحريات وتكبيل الأفكار. ناهيك بالأزمة المالية التي اجتاحت البلاد، وكادت تعصف بجموع الأمة. وترتب على سياسة وزارة إسماعيل صدقي أن "اضطرب الجو وحفل ببواعث القلق ودواعي الخوف من المستقبل -القريب فضلًا عن البعيد- واكفهر الأفق، واكتظ بالاحتمالات المخيفة، فقبض أصحاب الأموال أيديهم،

وركدت الأسواق، ووقفت حركة التجارة، وبدت الوزارة أعجز ما تكون حتى عن علاح حالتها هي فضلًا عن حالة البلاد، وضعفت الثقة واشتد الخطب بما لجأت إليه الوزارة وانصرفت له من إنشاء حزبها وجمع المال له ومطاردة خصومها واضطهادهم1". في هذه الأجواء المخيفة شهدت مصر الحملة التبشيرية، فارتاع الناس، وأخذوا ينظرون إلى موقف الحكومة منها، تألفت جمعية لمقاومة هذا التبشير، واتخذت دار الشبان المسلمين مقرا لها، وكان من أعضائها الشيخ محمد مصطفى المراغي، والدكتور محمد حسين هيكل وغيرهما. اشتركت الصحف المصرية في مقاومة هذه الحملة، والوقوف في وجهها مهما كلفها ذلك سوى صحيفتي "الشعب والاتحاد2. قالت صحيفة "البلاغ" عن حوادث التبشير: "لقد كثرت حوادث المبشرين، ولم ينس الناس بعد حادث صمويل زوعر في الأزهر، ولا حادث خطف الفتاة من شبين القناطر، ولا نظن حكومة مهما ضعفت ترضى لنفسها ولشعبها هذا الهوان بدعوى الامتيازات الأجنبية، ولكن كيف يطمع أحد في أن تقف الوزارة الحاضرة موقفًا جادا إزاء هذه الحوادث, وهؤلاء المبشرون يلقون -باعتراف صحف الوزارة- في دور الحكومة كل مجاملة وكل مساعدة3". وقالت صحيفة "الجهاد": "الواقع أن التبشير حركة استعمارية وليست حركة هداية إلى دين إلهي أيا كان الذي تدعو إليه، فإننا لا نعرف دينًا من الأديان يوصي بالفن والخيانة، إنها أحاييل للعيش ينصبها المستعمرون لخدمة المطامع السياسية، ويتوسلون إليها بإناس يرتزقون من هذه المواد4".

_ 1 راجع: السياسة المصرية والانقلاب الدستوري ص 62 هيكل وآخرون. 2 راجع: الصحافة السياسية ص 606 أنور الجندي. 3 راجع: البلاغ العدد الصادر في 25 فبراير 1932. 4 راجع: الجهاد العدد الصادر في يونيو 1932.

واهتمت الصحف بكشف ما تستهدفه حركة التبشير من إضعاف معنويات الشعب، وزعزعة عقيدته، وتطالب الحكومة بحماية الناس من خطورتها لا سيما على السذج والصغار منهم. يقول هيكل: "إغراء الناس بالوسائل المادية لحملهم على تغيير مذهبهم أو عقيدتهم أو رأيهم، هو محاربة دنيئة لهذه الحرية، وهو استغلال للضعف الإنساني كاستغلال المرابي حاجة مدينه ليقرضه بالربا الفاحش, والتبشير فضلًا عن هذا مناف لقواعد الخلق، ما دام يتم في الظلام، ولا يصارح القائم به الناس برأيه ليناقشوه هذا الرأي، وليبينوا ما فيه من زيف أو إفساد1". ووقفت صحيفة "السياسة" من حركة التبشير موقفًا عنيفًا، ففتحت صفحاتها لنفر من رجال الفكر والدين معًا، فنشرت عشرات المقالات التي دبجت في هذه الحملة مثل المحاضرة التي ألقاها الشيخ علي عبد الرازق عن الدين، تعرض فيها لحملة التبشير في جرأة بالغة، وقال فيها إن الإسلام قوي ولا يؤثر فيه التبشير2 وجاءت مقالاتها على النحو التالي: - التبشير والسياسة التي تؤازره. 3 - حديث المراغي عن التبشير. 4 - التبشير بالتعذيب. 5 - حديث عن التبشير. 6 - حول التبشير. 7 - تصريح الحكومة عن التبشير. 8

_ 1 راجع: مذكرات هيكل ص329. 2 السياسة في 13 يونيو 1933. 3 راجع: السياسة في 12 يونيو 1933. 4 راجع: السياسة في 13 يونيو 1933. 5 راجع: السياسة في 13 يونيو 1933. 6 راجع: السياسة في 15 يونيو 1933. 7 راجع: السياسة في 16 يونيو 1933. 8 راجع: السياسة في 18 يونيو 1933.

- انتشار مآسي التبشير.1 - رجال الدين والأزهر وموقفهم من التبشير.2 - تغريب الشرق والتبشير.3 - حوادث التبشير في مصر حلقة من سلسلة الغارات على العالم الإسلامي4. - حركة التبشير، حملة على المبشرين ومؤيديهم.5 - غزو العقيدة الإسلامية غاية التبشير.6 - العذاب في سبيل العقيدة: حديث الأستاذ الأكبر عن التبشير.7 - خطر الحركة التبشيرية وعقد مؤتمر إسلامي.8 - تبعاتنا كمصريين عما يقع من التبشير. 9 - حديث عن التبشير مع إبراهيم الهلباوي.10 - مسئولية الوزارة الحاضرة عن حوادث التبشير.11 - ملايين الجنيهات للهيئات التبشيرية.12 - التبشير والأقليات ... إلخ.13

_ 1 راجع: السياسة في 19 يونيو 1933. 2 راجع: السياسة في 19 يونيو 1933. 3 راجع: السياسة في 20 يونيو 1933. 4 راجع: السياسة الصادرة في 21 يونيو 1933. 5 راجع: السياسة الصادرة في 22 يونيو 1933. 6 راجع: السياسة الصادرة في 23 يونيو 1933. 7 راجع: السياسة الصادرة في 26 يونيو 1933. 8 راجع: السياسة الصادرة في 26 يونيو 1933. 9 راجع: السياسة الصادرة في 27 يونيو 1933. 10 راجع: السياسة الصادرة في 27 يونيو 1933. 11 راجع: السياسة الصادرة في 28 يونيو 1933. 12 راجع: السياسة الصادرة في 29 يونيو 1933. 13 راجع: السياسة الصادرة في 30 يونيو 1933.

وكان من أثر حركة التبشير أن اندفع هيكل إلى مقاومتها بطريقة مثلى فرضت عليه أن يبحث حياة محمد ومبادئه بحثًا علميا, ويعرضه على الناس في صورة رائعة، وثوب قشيب، يرضي المسلم وغيره، فبدأ يقرأ كتاب الكاتب الفرنسي "أميل درمنجم" عن حياة محمد، ونشر عنه بحثًا في السياسة الأسبوعية1 فأقبل الناس عليه إقبالًا لا نظير له. استمر محمد حسين هيكل أربعة أعوام يمحص حياة محمد وتعاليمه، فأزكى الثورة الأدبية والصحفية والدينية يقول هيكل: "ليقتحم أدبنا إذن ماضينا، وليقتحم هذا الماضي بأدوات البحث الأدبي وبأساليب الكتابة الحاضرة وليقتحم هذه الميادين غير هياب ولا متردد، وليقتحمها بروح الثورة التي اقتحم الأدب العربي تراث اليونان، وليقلب في هذا الماضي ما شاء له التقلب والتنقيب بروح البحث والتمحيص والحرص على الحق لوجه الحق وحده, الحق في أسمى صوره التي تلتمسه الإنسانية على الأجيال، فتكاد تلمسه أحيانًا حين يكشف عنه أنبياء الإنسانية وشعراؤها وكتابها، ثم لا يلبث أن يفلت من يدها لأول ما تقر بها المادة وتلهبها عن جادة هذا الحق الصحيح". وقال: "الحق الذي تقوم الحضارات على أساسه والذي يدعمه الأدب أسنة أقلام كبار الموهوبين من كتاب، هو الحق في صلة الإنسان بالوجود كله، بهذه الأقلام التي ترى، وبهذه السموات التي تغمرها، وبالروح الفياض بالضياء فالذي يحيط بذلك كله ويبعث إليه الحياة والنور، هذا الروح الذي لا نور ولا حياة ولا وجود من دونه، وصلة الإنسان بالوجود وبهذا الروح الذي ينتظم الوجود جميعًا، هي الحقيقة العليا التي يجب أن تكون مطمح كل باحث وكل كاتب2". بهذا الأسلوب العلمي مضى هيكل يدافع عن الإسلام، ويرد حملات

_ 1 راجع: ملحق السياسة في 10 يونيو 1931، 16 فبراير، 19 مارس، 18، 19 إبريل و23 مايو 1933. سلسلة من المقالات بعنوان "حياة محمد" عرض ونقد لكتاب "درمنجم". 2 راجع: السياسة الأسبوعية الصادرة في 11 مايو 1929. وثورة الأدب ص218.

التبشير عنه في سلسلة من المقالات في ملاحق "السياسة" تدور في فلك الدفاع عن الإسلام، وتكشف عن روحه الخالدة. من هذه المقالات: - حول حياة محمد.1 - كيف ولماذا أكتب عن محمد.2 - أثر المستشرقين في البحث الإسلامي.3 - بين مصر وبلاد الشرق العربي.4 - الاجتهاد والتقليد ... إلخ.5 كما كتب سلسلة من المقالات عن كتاب "وجهة الإسلام" الذي ألفه المستشرقون "جب، ماسينيون، كاسفاير، فرار6" وغيرهم من كبار المستشرقين بأوروبا. وهكذا وقفت الصحافة وكتابها تدافع عن الإسلام ورجاله، وشغلت الرأي العام بما نشرت من مقالات ترتبط بالدعامات والأصول التي تستند إليها الشخصية المصرية عامة والإسلامية بصورة خاصة، وفي الوقت نفسه تدافع عن مكونات الأدب والفكر والثقافة، والعقيدة المرتبطة ببلاد العروبة والإسلام. من هنا سخرت الصحافة الأقلام وحفلت بالمقالات في الدفاع عن كل ما يمس الشخصية الإسلامية، فاستيقظت المشاعر، والتهبت العواطف

_ 1 راجع: ملحق السياسة الصادر في 13 مايو 1932. 2 راجع: ملحق السياسة الصادر في 23 مايو 1932. 3 راجع: ملحق السياسة الصادر في 17 مايو 1933. 4 راجع: ملحق السياسة الصادر في 7 يناير 1933. 5 راجع: ملحق السياسة الصادر في 14 أكتوبر 1933. 6 راجع: نفس المصدر السابق.

لدى الشباب الحائر، ودفعته إلى النهج القويم والطريق المستقيم الذي دعا رجال العالم الإسلامي إليه. وعلى الجملة فقد شغلت هذه القضايا وغيرها الصحافة، وأطلقت الأقلام من عقالها، وأفسحت المجال أمام الكتاب الذين وقفوا من بعض هذه القضايا مؤيدين ومعارضيين مما أحدث نشاطًا فكريا, ساعد على تأججة حرية الفكر التي كفلها الدستور، ودور السياسة الحزبية في مثل هذا المجال.

الفصل الثاني: المقال المعاصر

الفصل الثاني: المقال المعاصر مدخل ... الفصل الثاني: المقال المعاصر عرفنا من قبل أن الذين يخلدون إلى أنفسهم ويتأملون فيما يحيط بهم يحسون بمتعة فائقة، فغذا اجتازوا مرحلة التأمل والاستيعاب، انتقلوا إلى مرحلة التعبير والتصوير، وسبيلهم في ذلك المقال الذي لا يعدو أن يكون فكرة تصيدها من البيئة التي تحيط به، ثم انفعل بها وعبر عنها. وإذا تأملنا الكتابات في بداية نهضتنا الصحفية الأولى نجد أن قالب المقال طغى على معظم المواد التي تؤلف الجريدة، فجاءت كل من المادة العلمية والأدبية على أنها مقال، ونشر الخبر الداخلي والخارجي على شكل مقال، كما برز الإعلان عن كتاب أو استقبال صحيفة جيدة على أنه مقال. وبذا اختلطت المواد التي تؤلف الصحيفة خلطًا لم يعرف التنظيم والتنسيق، ومرجع ذلك إلى أن رجال الصحافة الأول لم يدركوا المراد بالمقال الصحفي، ولم يفرقوا بين مادة المقال الصحفي ومادة الأخبار والإعلانات وغير ذلك من المواد التي تتألف الصحيفة منها. ولما كان المقال تعبيرا عن وجدانيات غيرية أكثر منه تعبيرًا عن وجدانيات ذاتية، صعب على الباحث أن يخضعه لنظم معينة أو أسس ثابتة، يلتزم الكاتب بها، وليس بشرط أن يتضمن مقدمة وعرضًا وخاتمة، ولا يعني هذا أن المقال موضوعي إنشائي أو فصل من كتاب أو غير ذلك من الكتابات التي لا تخضع لضوابط تعين عليه وتحقق الغاية منه, وسيظل المقال "لمحة عقلية" كما قال جونسون الإنجليزي: "لا ينبغي أن يكون لها ضابط من

نظام، أو قطعة لا تجري على نسق معين، ولم يتم هضمها في نفس كاتبها, وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء1". ومع ذلك فيمكن مراعاة أمور عند كتابة المقال من مثل: القدرة على مشاركة من يتحدث عنهم، والعناية بأمورهم الصغيرة والكبيرة، والانفعال والتأثر بما يشعرون به من أمل وألم ورضا وغضب، والتعبير عنه بحيث يساق المقال كالحديث العادي في سهولة لفظه، وقرب معناه، وحسن عرضه، مع ضرورة إقناع القارئ بوجهة نظره، حتى يتخيل أنها وجهة نظر الرأي العام كله في الموضوع الذي يعرض، وعلى الرغم من أن الصحيفة لا تدع للكتاب مجالًا يلاحظ وينفعل ثم يكتب، لكن طول الممارسة يجعل الكتابة الصحفية حرفة لديه، وفنا يملك عليه نفسه، ويستأثر بمحبته. وعلى الرغم من أن كاتب المقال يشارك الأديب في التأمل والاستيعاب، والانفعال والتأثير، إلا أن بينهما فرقًا كبيرًا، فإذا تأثر الأول بفكرة سجلها مقالًا صحفيا، يخاطب الجماهير به من خلال صحيفة لا تهمله لوحي يأتيه, وبجانب ذلك إلحاح مطبعة الصحيفة عليه ليقدم ما فاض به طبعه، وجاءت به قريحته، ولذا فهو مضطر -دائمًا- أن يظل قرطاسه بين يديه حتى يمد المطبعة والصحيفة بما لا غنى عنه من المادة الصحفية اللازمة. أما الأديب فيطلق العنان لخياله وشعوره وقلمه فيما يكتب لعنايته بنفسه أكثر من غيره، ويمكنه -دون غيره- أن يكتب متى شاء، ويستوحي عاطفته أو عقله متى أراد، ويعاود ما كتبه إذا شاء. لذا يطلب من الصحفي غير ما يطلب من الشاعر؛ لأنه يخاطب الوجدان ويؤجج المشاعر، والخطيب الذي يلهب الحماس أو يعين برأي في قضايا المجتمع أو مشاكل السياسة، وكذلك الأديب الذي لا يحترف الصحافة؛ لأنه أقرب إلى الشاعر، وإنما يطلب منه أن يتحدث في هدوء ورزانة حديثًا يشعر

_ 1 راجع: جنة العبيط ص6 زكي نجيب محمود.

القارئ بلذة، ويشركه معه في المسائل التي ترتبط بالحياة العامة، وبعرضها عرضًا يحس القارئ خلاله برضاه أو سخطه، ومن هنا اعتبر مؤرخو الأدب أن الصحافة وسط بين الأدب الخالص والحديث العادي، أو هي "أدب غير خالد" لأن قارئ الصحيفة اليومية يتركها دون رجعة، بينما قارئ الفصل الأدبي أو العلمي يعاوده مرة بعد أخرى، من وقت لآخر. ويعنى المقال المعاصر بالألفاظ والأسلوب، وعلى كاتبه أن يكون سلس العبارة، عذب الحديث، واضح الفكرة، وأن يبتعد عما يجهد ذهن القارئ، أو يلوي عنان فكره. ويلاحظ على كتاب المقال في الصحف التي برزت بعد ثورة الشعب 1919 أنهم أدركوا واقع الحياة الزاخرة بالحركة الذاتية، والسرعة الفائقة، وتنوع الأعمال فيها، فلم يفرطوا في طول ما يكتبون، إذ لم يعد وقت لدى المحامي والطبيب والمدرس والمهندس والعامل والتاجر حتى يتصفحوا المقالات المسهبة في الطول. ومن ثم بدأ الكتاب يسايرون أحداث العصر وتطوره، فمالوا إلى المقالات المركزة التي تناسب فئات الشعب ومعظم طبقاته؛ لأن الصحافة "تحدثنا عن أمور تتصل بحياتنا العامة، وتصف لنا وقائعها، وتنقل إلينا صدى ذلك كله في الناس على اختلاف طبقاتهم، وهي بهذا كله لسان "الرأي العام" وترجمان "الوعي القومي" فإذا أقبلنا على قراءة عدد من أعداد صحيفة من الصحف لم تلبث أن تترك هذا العدد إلى غير رجعة1". ولقد حفلت فترة ما بين الحربين العالميتين بنفر من الكتاب اهتموا بمجالات الفكر والأدب، عني بعضهم بالمضمون والصورة مثل مصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وغيرهما، واهتم آخرون بالتحليل في كتاباتهم أكثر من الصورة واللفظ من مثل: عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني وغيرهما، وأثرت مجموعة ثالثة الصورة الفنية على المضمون من مثل: محمد حسين هيكل، وطه حسين وغيرهما. كما برزت جماعة تعتبر أساتذة الجيل الصحفي المعاصر من أمثال: محمود أبو الفتح 1885-1958، ومحمود عزمي 1889-1954 الذي أسس معهد الصحافة بكلية الأداب، ومحمد التابعي 1895-1976، وفكري أباظة 1897-1979 شيخ الصحفيين المصريين، وعلي أمين 1914- 1977 صاحب "فكرة" في الأخبار وأخبار اليوم، وحافظ محمود المولود في 1917ولا زال يواصل عطاءه الصحفي حتى اليوم، وقد أمد تاريخ الصحافة والإعلام بمؤلفات عدة أهمها: أسرار الصحافة المصرية، وذكريات صحفية، وأسرار الماضي في السياسة والصحافة، ومعارك صحفية. ويغلب على المقال منذ مطلع هذا القرن أن يكون عرضيا أو نقديا أو نزاليا، وسنضع أمام ناظريك تعريفا ومثالًا لكل لون من هذه الألوان.

_ 1 راجع: أدب المقالة الصحفية جـ1 ص215 عبد اللطيف حمزة طبعة 1964.

أولا: المقال العرضي

أولًا: المقال العرضي الذي يعرض الكاتب فيه فكرة عرضت له، ويحاول من خلال صحيفته أن يحللها بطريقته الخاصة، ويقدمها لقراءة بأسلوبه المعروف. خصت صحيفة "الأهالي" 1910-1921 التعليم بسلسلة من المقالات، وجاء في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة عن التعليم ما يلي: "أربع وعشرون سنة حوربت فيها اللغة العربية فانهزمت وحلت محلها اللغة الإنجليزية, وشعرت الأمة بخطر هذه الهزيمة لا على اللغة وحدها بل على وجودها نفسها, فتحركت تريد أن تدفع عوادي السوء, وتردد صدى حركتها في الوزارة فارتاح لها الأحرار، فتأهبت الوزارة الحرة لأن تصغي إليه, ولكن لورد كرومر ظن أن في طوقه أن يقطع على هذه الحركة كل سبيل إذا هو سخر الجمعية العمومية لغايته, وكانت الجمعية إذا ذاك منعقدة, وكان من بين الاقتراحات المقدمة إليها اقتراح من سعادة الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد طلب فيه جعل التعليم باللغة العربية, فطمع اللورد أن ترفض الجمعية هذا الاقتراح لتقتل به كل ما تردد من أنفاس ذلك الصدى في الوزارة, بيد أن الجمعية العمومية قبلت الاقتراح، وعلمت بقبوله وزارة الأحرار، فالتوى على اللود قصده وخابت أمنيته". "وجيء على أثر ذلك بغورست فانقلبت الحال, وبعد أن كانت

القاعدة المضطردة أن تحل اللغة الإنجليزية محل العربية رأينا لأول مرة علومًا أصبحت تدرس بالعربية، ثم سمعنا غورست يقول: في أول تقرير له: "أن أقصى المرغوب هو أن يكون التدريس على قدر الطاقة العربية، وهو المطلب الذي يجب على نظارة المعارف أن تسعى إليه والذي نسعى إليه أيضًا". "كانت العلوم كلها ما عدا العربية تدرس بالإنجليزية, وفي 1907 -على أثر تبديل عميد بعميد- بدئ بتدريس الجغرافيا للسنتين الثالثة والرابعة بالمدارس الابتدائية باللغة العربية, وفي مفتتح 1908 أصبحت كل العلوم في المدارس الابتدائية وعلما الحساب والهندسة في المدارس الثانوية تدرس بالعربية, وفي السنة الثالثة بالمدارس الثانوية أصبحت العلوم الرياضية تدرس كذلك بالعربية، وقيل في تقرير تلك السنة إن المراد أن يتصل تعليم سائر العلوم على هذا النحو بالعربية شيئًا فشيئًا". "كان من الطبيعي أن تقوم في وجه هذا العمل عقبتان كانتا في الأربع والعشرين سنة الماضية لا يمكن اجتيازهما، فصارتا بعد ذلك مما يسهل تذليله واجتيازه: أحدهما: قلة المعلمين الأكفاء. والثانية: عدم وجود الكتب. فأما الأول فقد اهتمت نظارة المعارف بها منذ 1907 وزيدت ميزانيتها لهذا الغرض, وأما العقبة الثانية -وهي الكتب- فلأجلها أنشئ في النظارة قلم الترجمة، ظفرت الجمعية العمومية إذن بغايتها وأصبح التعليم كما طلبته وطنيا فتطلعت إلى غاية أخرى هي أن تعرض على مجلس شورى القوانين كل لوائح التعليم ليكون له أن يراقبها ويبدى رأيه فيها, ففازت الأمة بهذه الأمنية أيضًا وهكذا أصبحت للأمة رقابة على سير التعليم، وإن تكن كلمتها في هذه الرقابة لا تزال استشارية, وبينما هذا الإصلاح في التعليم يتم تدريجيا كانت مجالس المدريات تعطي ضريبة الخمسة في المائة، وتعطي الحق المطلق في إنفاقها على التعليم بجميع أنواعه، بعد أن كان يراد أن تضم الضريبة إلى ميزانيتها السنوية لتدخل في سلطة نظارة الداخلية بحيث لا يكون لمجالس المدريات من أنواع التعليم إلا تعليم الكتاتيب1. غلب هذا اللون من الكتابة الصحفية على نفر من الكتاب في اهتمامهم بمشاكل الأمة ورصد قضاياها، وانطلقوا يحللونها موضحين محاسنها أو مساوئها، وبذلك يقبل المواطنون على ما يعود عليهم بالنفع، وينصرفوا عما يلحق الضرر بهم أو يحول دون تقدمهم.

_ 1 راجع الأهالي العدد 232 في 25/ 7/ 1911.

ثانيا: المقال النقدي

ثانيًا: المقال النقدي الذي يعمد الكاتب فيه إلى نقد فكرة معينة أو موضوع معروف، أو يتناول اتجاهًا خاصا في السياسة والاجتماع والأدب. نشرت صحيفة "البلاغ" 1923-1930 طائفة من المقالات نقدت فيها معاهدة 1936، منها مقال بعنوان "يطلبون الاحتلال ويدعون أنهم يعقدون معاهدة الاستقلال" جاء فيه: "أصبح من الواضح الآن أن الإنجليز يطلبون بقاء الاحتلال في نقط اختاروها، منها القاهرة والأسكندرية والقناة والعامرية ومرسى مطروح، كما يطلبون إنشاء سكة حديدة تخترق شمال الدلتا من القناة إلى الأسكندرية مباشرة بدون لف أو تعريج على بنها, وحجة الإنجليز أن الحالة التي أوجدتها الأزمة الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط تستوجب ذلك، وأن تقدم فن الطيران الحربي وما أفضى إليه من الانقلاب في أساليب الحرب يحتمان هذا الاحتلال، ولو أن الطيران يرتقي ولم نجد هذه الحالة في البحر الأبيض المتوسط لما عدم الإنجليز حجة يبسطونها ويتعللون بها ويسوغون ما يرون من بقاء الاحتلال في مصر, ذلك أن طلبهم هذا قديم فليس داعية أن إيطاليا أحدثت حدثًا في البحر الأبيض، ولا أن الطيارات أصبحت سلاحًا قويا يجب أن يحسب حسابه في هذا الزمان". فقد طلبوا بقاء الاحتلال على قريب من هذا النحو في المعارضات

الرسمية السابقة جميعًا، طلبوه من عدلي باشا 1921 وسعد زغلول 1924، وثروت باشا 1927، وطلبوه من دولة النحاس باشا 1930، ورفضته مصر على كل حال وعلى هذا فإن الباعث على هذا الذي يطلبه الإنجليز وهو أنهم يريدون البقاء في مصر لا يبرحونها -لأنهم على ما صرح به المغفور له اللورد ملز- كانوا يدبرون أمر الاستيلاء على مصر منذ مائة عام، فلا معنى إذن لما تبدي فيه الصحف البريطانية وتعيد من أن الجانب المصري لا يظهر استعداده للاعتراف بأن الحالة تغيرت في البحر الأبيض تغيرًا تاما منذ 1930 فإن الجانب المصري معذور إذا رفض الاعتراف بذلك". "وهل كانت الحالة في هذا البحر قد نغيرت في 1921 أو إلى 1924 أو 1927، 1930؟ بقاء الاحتلال إذن هو المقصود بالذات، لا دواعي الحالة التي جدت في البحر الأبيض المتوسط, وجوهر القضية هو أن الإنجليز يطلبون الاعتراف بالاحتلال تحت اسم من الأسماء الكثيرة التي لا يعجزون عن إطلاقها وابتكارها، فإنهم قوم عمليون وينظرون إلى حقائق الأمور لا إلى أسمائها، والمصريون يرفضونه في جميع المفاوضات التي آخرها مفاوضة 1930 وهي المفاوضة التي حبطت بسبب السودان لا بسبب المسألة العسكرية التي يحق لنا أن نعدها أمرًا مفروغًا منه منذ تلك السنة, فنحن نذكر أن المستر هندرسون وزير الخارجية الإنجليزية في حكومة العمال، والذي كان على رأس المفاوضين البريطانيين في 1930 أعلن في مجلس العموم بعد فشل المفاوضات أن المشروع ما يزال قائمًا، وأن في وسع الوفد المصري أن يوقعه في أي وقت يشاء، وكان كلامه باسم الحكومة البريطانية بلاغًا لا حاجة بنا إلى التنبيه إليه، ومعنى هذا أن ما فعلته بريطانا في هذا المشروع يعتبر من جانبها مقبولًا منها ومتفقًا عليه, ولو أن المفاوضات انقطعت فليس يجوز للحكومة البريطانية بعد هذا التصريح الرسمي أن ترجع بنا إلى ما قبل 1930 وإلا كانت الاتفاقات نفسها قصاصات ورق لا قيمة لها". ولو كان الاتفاق تم في 1930 أفكان يسعى الإنجليز الآن في مطالبة مصر بدعوى تغير الحالة في البحر الأبيض بالانتقاص منه وبالرجوع بالبلاد إلى ما قبله؟ إن هذا غير معقول, وعلى أنهم ما كانوا يحتاجون إلى ذلك، لأن مشروع 1930 يسمح لهم أن ينتظروا من مصر في حالة الحرب أو خطر الحرب أن يستخدموا موانيها ومطاراتها ومواصلاتها، وأن يعدوا عدتهم لنجدة مصر، والتهيؤ للدفاع عنها وعن الإمبراطورية البريطانية، والذي يطلبونه الآن شطط وعنت لا ترى مصر أن تجيبهم إليه، وأن طبيعة المحالفة تغني عنه؛ ولأن الاستقلال ينافي الاحتلال، ويجعل حق الدفاع وواجبه منوطين بأهل البلاد1". هو لون من الكتابة يهتم برصد الأحداث والوقوف على مجريات الأمور، وما يزخر المجتمع به من أشياء، يحاول الكاتب خلالها أن يقوم المعوج، أو على الأقل ينقد الفاسد منها، مشيرًا إلى مواطن الضعف، ومواضع القبح حتى يقلع الناس عنها، فتستقيم الأمور وتصلح الأحوال.

_ 1 راجع: البلاغ العدد رقم 4146 الصادر في 5/ 4/ 1936.

ثالثا: المقال النزالي

ثالثًا: المقال النزالي هو الذي ينازل الكاتب فيه خصيمه في الرأي, ويناوئه في عقيدة أو اتجاه، ويصارعه من خلال مقاله بطريقة تدل على قدرته الصحفية، ومهارته السياسية ودهائه العقلي. كثيرًا ما ينازل صحفي خصيمه دون مبادلته رأيًا برأي، وإنما يوجه ضرباته حى يعني صاحبه، وهذا ما يطلق الصحفيون اليوم عليه "الحملة الصحفية" وتعد مقالات الشيخ علي يوسف التي كتبها بصحيفة "المؤيد" تحت عنوان "قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء" من هذا النوع، فقد حمل على اللورد "كرومر" ووجه إليه ضربات متوالية حتى شفى نفسه، وانتقم للوطن من سياسته الخرقاء التي فرضها على جموع الأمة، فنال منه كل منال، ومن أدب المقال النزالي المعركة التي دارت بين طه حسين والعقاد حول الأدب اللاتيني والأدب السكسوني. وتعد مقالات محمد حسين هيكل التي واجه الوفد بها تحت عنوان "حديث اليوم" من المقالات النزالية التي ترسم حدة الصراع الذي شهدته

مصر نتيجة لتعدد الأحزاب, كتب بعنوان "الملك، الدستور، الوفد، سعد زغلول" فقال: "نحن نرى ونجهر بما نرى أن هذا الدستور في جملته خير يحقق سلطة الأمة, وأن تنفيذه وحده هو الذي سيمكن من ظهور ما فيه من عيوب يمكن تعديلها، هذا رأينا في الدستور فنحن لا ننكره, ولا نطالب بتعديله الآن، ولكن سعدًا ينكر الدستور ويطالب بتعديل الدستور، ونسيم يصفق لهذا الإنكار وهذا التعديل, ولكن الناس لا يقرءون الضمائر، وإنما يأخذون رجال السياسة بما يكتبون وما يخبطون1". ويوضح موقفه من الصراع الحزبي واتهام الوفديين له بالخيانة وبالمروق من الوطنية2 فيقول: "نكيل لهم الصاع صاعين، من غير أن ندفع تهمة بتهمة أو باطلًا بباطل، كنا نصيح بهم: أن من اتهم مصريا بالخيانة فهو الخائن؛ لأنه يزعزع عقيدة الأمة في أكرم بنيها، فيفشي فيها أسباب العنف والهزيمة3". ومن هذا اللون مقال المرحوم عباس محمود العقاد المسرف في الطول الذي عنوانه: "مطالب الشطط ومقالب الخطط، أو جوانب العبط في مخالب القطط" رد فيه على طائفة من مقالات محمد نجيب الهلالي التي نشرها بجريدة "المصري" تحت عنوان "مخالب القط" نكتفي بهذا القدر منه. قالت الببغاء الخضراء وهي تكثر من الهراء، وتلتفت إلى الوراء "يعني بالببغاء نجيب الهلالي" عندئذ ألقى عليهم الوزير الأكبر درسًا بل دروسًا في الرسم والهندسة والهيئة والفلك, فعلمهم أن الخط المنحني خير من الخط المستقيم، وأن الزاوية المنفرجة الكبرى أضيق من الزاوية الحادة أو الصغرى، وأن القطع خير من الوصل وأن أجمل الدوائر هي الدائرة المخروطة: إما عرض من غير طول وإما طول من غير عرض، ولا بأس من

_ 1 راجع: السياسة الصادرة في 2/ 10/ 1923. 2 راجع: مذكرات هيكل جـ1 ص175. 3 راجع: المصدر السابق.

من أن تبتدئ الدائرة من مسطح مستدير، ثم تستدق حتى تبقى إلى نقطة إلى آخر ما قالت الببغاء يحرف نظامها ونص نظامها، فالتفت إليها الراوي يقول وهو يسأل الله حسن القبول لك الله يا ببغاء من حكيمة وعناء، إنك لا تنسين ما تصبحين فيه وتمسين من دوائر وخطوط وزاوية ومخروط، فهل خرجت من هذه الطفولة إلى حد الرجولة قبل أن تنكشف الفولة؟ قالت الببغاء: أن قول الحق لم يدع لي صديقًا، فهل تركتم من المقال طريقًا؟. قال الراوي: بل لعل الباطل -لا قول الحق- هو الذي جنبك الأصدقاء، وأكسبك عداوة الأعداء، وإليك حقيقة الأنباء: قالت الببغاء: وما حقيقة الأنباء؟ ". "قال الراوي: حقيقة الأنباء يا صاحبتي الببغاء هي أنك حمقاء وإن حسبوك من الأذكياء. فقد كنت في وظيفة غير صغيرة، فأعرضت عنها لتصبحي وزيرة, وتلك حماقة منك أيتها الببغاء فيها من خلل الحساب وما فيها من قبح الرياء. قالت الببغاء: أيها الراوي الذي هو للتاريخ حاوي، إن كان ما زعمت خللا في حساب وقبيحًا في رياء، فلماذا رضي عنهم زعيم الزعماء، ودخلت من أجله في زمرة الأولياء؟ قال الراوي: لأن زعيم الزعماء صغير السن صغير الزكاء، صغير الهمة، صغير الرجاء، نسي جنايتك على الدستور؛ لأنك أسأت إلى "وفدي مشهور" كل ذنبه أنه صديق النقراشي وماهر، وتلك عند الزعيم كبيرة الكبائر، وآفة البواطن والظواهر, وهكذا يكون الجزاء عند زعيم الزعماء إذا كان صغير النفس صغير الزكاء". "قالت الببغاء: ثم ماذا من مثل هذا، يا من لا يزال للعقل ملاذًا, وللباطل نباذًا؟ قال الراوي: الذي هو للعقل ملاذ، وللباطل نباذ: ثم فاتك الدخول في المنصب المأمول، فملأت الأرض والسماء بالقدح والبذاء -أيتها الببغاء الرعناء- وجعلت تخرجين من قهوة إلى قهوة، ومن ندوة إلى ندوة، ولا حديث لك إلا الطعن المقصود في الزعيم المعبود والمجاهد المحسود، حتى انفصل النقراشي من تلك الزعامة, وقامت على رأسها القيامة، فعاد الزعيم كما كان في الابتداء صغير النفس صغير الزكاء، ولجأ إلى كيد الأطفال، ودق الكف وإخراج اللسان وحك الأنف وتلقيح المقال، وظني أن دخولك الوزارة يغيظ العدا، ويدل على الشطارة, وما درى أنها نكبة جناها عليك، ونقمة ساقها إليك, ولا تزالين فيهما ولم تزالي، ولو أنفقت في السجع الليالي والحديث الخيالي، والجنون القمري الهلالي1. شاع هذا اللون من الكتابة بين كتاب الأحزاب السياسية، وأججته العداوة الشخصية بينهم وسلك الكتاب طرقًا متغايرة تقوم على التهكم حينًا، والسخرية حينًا آخر.

_ 1 راجع: البلاغ، العدد رقم 4789 بتاريخ 7/ 2/ 1938.

المقال في صحف اليوم

المقال في صحف اليوم مدخل ... المقال في صحف اليوم: أصبح للمقال الصحفي أصول ثابتة وقواعد مرعية بعد إنشاء قسم الصحافة بجامعات مصر، وبرز أساتذة متخصصون في مجال الصحافة، وبذلك تحولت الصحافة من الممارسة المكتسبة بالتلقي، إلى الممارسة القائمة على النظم والتقاليد الجامعية. ومن ثم أصبحت صحف اليوم من أقوى وسائل الإعلام، وأقدرها على تكوين الرأي العام لتأثرها به وتأثيرها فيه. وتهتم صحف اليوم في المقام الأول بالأعمدة الافتتاحية والأخبار والتعليق عليها، ونشر الصور الهزلية والرسوم الكاريكاتورية, ويصوغ كتابها موادها في شكل طرائف أو أحاديث أو تحقيقات أو تقريرات أو مقالات في استطلاعات ذات ألوان شتى بقصد التوجيه والإرشاد والتثقيف كما أنها تضم أركانًا عديدة مثل: ركن المرأة والطلبة والأطفال والعمال والرياضة وغيرها مما يمثل بعض قطاعات الأمة, وبذا احتلت الصحف مكانًا مرموقًا في المجتمع، واعتمد الجمهور عليها في حل مشاكله، واستعانت الحكومة بها في سياستها الداخلية والخارجية. وظلت الصحف ملكًا للأفراد حى صدر قرار في مايو 1960 بتنظيم الصحافة، بحيث تئول إلى الاتحاد القومي -وألا تصدر صحيفة إلا بترخيص منه- وهو الذي تطور إلى الاتحاد الاشتراكي حينًا، ثم حزب مصر حينًا آخر ثم الحزب الوطني القائم اليوم, واقتضى هذا التعبير اختلاف

في مفهوم الصحافة، فلم تعد أداة للدعاية الفردية أو الحزبية أو التحريض أو الإثارة، وإنما أصبحت تنظيمًا جماعيا، يهدف في موضوعية إلى تزويد القارئ بالأخبار العامة، وخدمة الجماهير ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وصحيا ونفسيا حتى تخلق الجو الذي تنمو فيه الشخصيات القيادية التي يحتاجها الوطن في مراحله الحاسمة. ومن الطبيعي أن تنهج كل صحيفة سياسة خاصة، وتلتزم بطريقة معينة تجذب القراء بها عن طريق الافتتاحيات التي تميزها في معالجة المشكلات الهامة بالعنف والشدة حينًا، والاعتدال واللين حينًا آخر، أو تمزج بين السياستين حينًا ثالثًا، فتؤثر الطريق الأول في بعض القضايا التي تشغل الجمهور أو تكف يدها عن بعض القضايا الأخرى، أو تعالجها برفق ولين وهكذا. ولما كان بعض الناس يصلح لمهنة الأدب دون الصحافة أو العكس، والبعض الآخر يأبى الجمع بين شخصية الأديب وشخصية الصحفي في وقت واحد. كما أن بعض الصحف ترقى في بعض صفحاتها إلى صفة الأدب الخالص، لزم أن تضم أسرة الصحيفة الواحدة إخباريين ومعلقين صحفيين على الأخبار ومسئولين عن نظام الصحيفة الواحدة, ومن بين أفراد الأسرة أدباء تغلب عليهم نزعة الأدب أكثر من نزعة الصحافة، وأوضح ما يكون ذلك في المجالات الأدبية الأسبوعية أو النصف شهرية أو الشهرية أو الفصلية؛ لأنها تتيح للكاتب فرصة أطول في التفكير والكتابة وتجويدها، وتلك طبقة من الكتاب يميزون بين ما يقدم للمطبعة على أنه كتاب أو مقال صحفي. وبجانب الصحف اليومية التي تنقل الأخبار بصفة موضوعية، تهتم الحكومة بالصحف المتخصصة التي تعالج فنا واحدًا لا يتعداه إلى غيره، وتخاطب من خلاله فئة معينة من أفراد المجتمع، لهم ثقافاتهم الخاصة، وطموحهم نحو التعمق في البحوث الخاصة بهم وهم بذلك يشبعون رغباتهم بالقدر الذي تتسع به الصحف المتخصصة في أغلب الأحيان. لهذا كله لزم أن نقف على أشهر الصحف التي نطالعها اليوم حتى نكون على بصيرة مما تضم من مواد وطرائف في شكل مقالات أو دراسات أو أعمدة وغيرها مما تزخر صحف اليوم بها. وسنقصر الحديث على أهم الصحف اليومية الثلاث: الأهرام, الأخبار, الجمهورية.

الأهرام

1- الأهرام: صحيفة عاصرت الأحداث الجسام التي مرت مصر بها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، ولا تزال حتى اليوم تؤدي رسالتها في وفاء ودقة وأمانة وحذق والتزام. تأسست 1875 بمدينة الأسكندرية بجهود سليم تقلا 1849-1892 وأخوه بشار تقلا 1852-1901 وكانت أسبوعية في أول أمرها, ثم أصبحت يومية، ولما توفي سليم تقلا استقل أخوه بشارة بها ثم نقلها إلى القاهرة، ولما توفي بشارة تقلا 1901 آلت إلى ابنه جبرائيل, وبعد تنظيم الصحافة في 1960 أصبحت مؤسسة صحافية أشرفت الدولة عليها، ولا تزال -كعهدها- تؤدي رسالتها على الوجه الأكمل. تولى شيخ الصحافة داود بركات المتوفى 1933 رياسة تحرير الأهرام فترة، حرص خلالها على كتابة مقال افتتاحي يومي عنوانه: "السياسة في العالم العربي" ولما لحق بربه خلفه -فيما بين الثلاثينات والأربعينات- أنطون الجميل 1887-1948، فأحل مكان سلفه موضوعًا إخباريا، يظهر من أسبوع لآخر يشير فيه إلى شيء سياسي هام، يوهم قارئه أن وراء الأفق حدثا ما، وكان من طبيعة الرجل ألا يتجاوز الثلاثين سطرًا في مقالاته، وبذا كان يفرض على القارئ أن يقف طويلًا أمام كل سطر، مما زاد من شأن الأهرام وزيادة توزيعه فوق المائة ألف نسخة, وهذا رقم أسطوري في مجال توزيع الصحف خلال تلك الفترة, وأجمع رجال الصحافة -حينئذ- على أن أنطون الجميل أنسى الناس اسم داود بركات، بعد أن ملأ فراغه من الأدب والسياسة والكياسة. وحرص أنطون الجميل على عقد ندوات أدبية بدار الأهرام، ولا غرابة

في ذلك فهو أديب كان يحرر منذ 1910 مجلة "الزهور" المتخصصة في الشعر، وفنون الأدب العربي الجديد الذي ظهرت طلائعه عقب الحركات الوطنية التي سادت العالم العربي، وفي إحدى ندواتها ناقش عباس العقاد أستاذ جامعيا في الزراعة، انتهت الندوة بتبرم الأستاذ الجامعي من معارضة أديب لا صلة له بالزراعة، مما دفع العقاد إلى الانصراف، وعاد بعد أسبوعين يحمل رسالة من تأليفه في المادة الزراعية موضوع المناقشة، وأجمع نفر من أساتذة الجامعة المختصين على صواب العقاد، كما كان كامل الشناوي يحرص على حضور ندوات الأهرام الأدبية وغيرهما من رجال الفكر والثقافة والأدب بمصر. استقطبت الأهرام العديد من كبار الأدباء والمفكرين في مصر وغيرها من أمثال الدكتور أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة 1867-1934، فقد نشر مقالات عديدة عن رحلاته إلى أوروبا والأندلس خلال سنوات حياته "1892-1934" وظلت الأهرام مجاله الواسع، وميدانه الطليق في نشر مقالاته وتعليقاته وتحقيقاته في أي وقت. وكتب فيها كذلك محمد توفيق دياب 1887-1967 بعد توقف جريدته "الجهاد" 1939 وظل ينشر مقالاته الوطنية على صفحات الأهرام حتى قامت ثورة يوليو 1952. وعمل الدكتور محمود عزمي 1889-1954 مستشارًا للشئون الخارجية بها, ونجح خلال عمله بها من تطوير الصحافة العربية ونقلها إلى الأسلوب البسيط السهل. وعمل كذلك بها محمود أبو الفتح 1885- 1958 محررًا، وحقق واثنين من الصحافيين العالميين أكبر نصر صحفي في أول رحلة جوية للمنطاد الألماني "زيان" في وقت لم يؤلف الطيران العادي في مصر أو خارجها. ولما اختلف مع جبرائيل تقلا لحياد الأهرام في بعض المواقف السياسية، قرر محمود أبو الفتح إنشاء صحيفة يومية تواجه الأهرام، فكانت جريدة المصري 1936، وفي الحرب العالمية الثانية كان محمود أبو الفتح أحد ثلاثة من الصحفيين العالميين سمح لهم بدخول خط "ماجينو" في فرنسا، فحقق عن طريق هذه الرحلة النجاح الفني والسياسي والمادي لصحيفة "المصري" وأصبحت ذات خطر على الأهرام أكثر الصحف العربية انتشارًا إذ ذاك.

ونشرت "مي زيادة" 1890-1941 مقالات لها في الأهرام في مقابل شقة فسيحة في عمارتها التي كانت إلى عهد قريب تشغل أقسام إدارة الأهرام، وحاول القائمون في الأهرام جذب "مي" إليها لتكون عضوًا في أسرة تحريرها، لكنها آثرت أن تحكون صلتها بالأهرام صلة الكاتبة الحرة التي لا تختلط بأي من في الجريدة التي تنشر مقالاتها بها، كما حررت منيرة ثابت المتوفية 1974 المقالات النسوية بجريدة الأهرام، وشاركت في شئون التحرير على الرغم من أنها لم تكن من هيئة التحرير. وعمل الشاعر كامل الشناوي مندوبًا بالأهرام في البرلمان يصف جلسات المجلس ولم تمض شهور حتى أصبح كل شيء في الصفحة البرلمانية بالأهرام، وتدرج في المناصب حى أصبح أحد رؤساء التحرير بها. وحرر الأديب أسعد داغر المتوفى 1958 بالأهرام ركنًا خاصا بالقضايا العربية، قبل أن تعرفه الصحف الأخرى، وظل يعمل بها حتى نقل مستشارًا إعلاميا للجامعة العربية عند إنشائها 1945. وبرز أزهري يسمى "محمد خالد" في صحيفة الأهرام، وأخذ يعقد الصداقات بينه وبين الدبلوماسيين العرب، ويستقي منهم معلومات تعد جديدة في الصحافة إذ ذاك، ثم طاف بالبلاد العربية وعاد منها بحصيلة وافرة من الأخبار والتعليقات مما رفع مقامه في الأهرام، فأفرد له غرفة خاصة حتى يتمكن من استقبال مصادر أخباره. ومنذ 1961 تولى مجلس إدارتها نفر يتحملون تبعة تحريرها كان منهم محمد حسنين هيكل، وعلي أمين، وعلي حمدي الجمال وعبد الله عبد الباري. وها هي نماذج من مقالاتها العديدة. أولًا: كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد بعد أحداث الزاوية الحمراء مقالًا عنوانه: "مصريون قبل الأديان ومصريون بعد الأديان ومصريون إلى آخر الزمان" جاء فيه: "شاءت قدرة الله أن يخلق الناس أمما شتى وألوانًا شتى, وألسنة شتى دليلًا على قدرته, وسبيلًا إلى إدراك حكمته من وراء هذا التباين في الأشكال والطباع والمواهب والعقول, وما دام الناس مختلفين في التكوين، فهم مختلفون أيضًا في التصرف والسلوك. يحدث

هذا الخلاف في البيت الواحد, ويحدث في المدينة الواحدة، يحدث هذا على مستوى الأشقاء، ويحدث هذا على مستوى الزوجين، بل يحدث هذا بين الأبناء والآباء حتى بين الرسل منذ اختلف نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه, لماذا هذه الظاهرة الجديدة علينا, والجديدة بيننا, كلما اختلف مصريان تحول الخلاف إلى دينين سمحين ليست في طبيعتهما الصافية النقية ما يحصل عليهما حملًا أو يلصق بهما إلصاقا؟ وفي مصر خاصة تعانق الدينان منذ البداية، فنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أصهر إلى مسيحي مصر وأنجب من المصرية الرقيقة مارية القبطية ابنه إبراهيم فصرنا لها أصهارًا ولابنه أخوالًا, والإسلام من دون الأديان جميعًا جعل الإيمان برسالات السماء جميعًا شرطًا للإيمان به, وحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم بلال الحبشي، وسليمان الفارسي، وأبو رافع القبطي المصري، وأشهر وأيسر قراءة في القرآن الكريم قراءة "ورش" وهو مصري قبطي". "وحين تكلمت مصر العربية ووقفت وراءها بالعطاء العلمي والفني، كانت لها وللإسلام بيئة حضارية قام عليها بناؤه، فجمعت مصر الحديث الشريف، وفسرت القرآن الكريم، ورتلت الأذان، وكتبت الموسوعات، وكيفت المذاهب الفقهية كمذهب الإمام الشافعي والإمام مالك، وأعملت رأيها في كل شيء، ووضعت بصمتها على كل شيء, بل وضعت قاموس العربية الأكبر: "لسان العرب" من 24 جزءًا وضعه ابن منظور المصري, حين فعلت مصر هذا من خلال الرجال العلماء كان من بين هؤلاء من المسلمين: علي بن منجب الصيرفي الذي نقل عنه صاحب خريدة القصر, ومنهم القفطي والسخاوي والبوصيري صاحب البردة والإمام الليث بن سعد ومنهم من المسيحيين ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين وملوي وأول من ألف بالعربية من الأقباط، وكتابة "تاريخ البطارقة" موسوعة استمد منها المقريزي الكثير من خططه كما نقل عنه القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى". ومن رجال مصر من الأقباط الذين أسهموا في التأليف في علوم العربية وأدابها سعيد بن بطريق، وبنو العسال، وجرجس بن العميد المعروف بابن المكين صاحب كتاب "تاريخ المسلمين" والمفضل بن أبي المفضال، وبطرس أبو شاكر ويعرف بابن الراهب، وابن كير وهو شمس الرياسة أبو البركات

وأسعد بن مماني الشاعر الأديب صاحب الخطوة في الدولة الأيوبية". "وحين نهضت مصر بالفن الإسلامي كانت تستمد إبداعها فيه من وراثاتها في الفن المصري القديم، والفن المصري القبطي، بل إن الأقباط في أول عهد الإسلام بمصر هم الذين نهضوا بزخرفة الكتب، وزخرفة الخشب بل استعان بهم الوليد بن عبد الملك في بناء مسجد دمشق والمسجد الأقصى وقصر أمير المؤمنين, بل يضيف "البلاذري" في "فتوح البلدان" مسجد المدينة فيما أعانوا عليه, ونهض المصريون أقباطًا ومسلمين في العصر الفاطمي أي: في العصر الذي تم فيه إسلام مصر وتعريبها بالفن المصري الإسلامي نهضة فيها من إحساس مصر ووجدانها وذوقها الحضاري، ما أضفى على فن مصر الإسلامية طابعًا مميزًا، وشخصية فذة. يقول الأستاذ محمد شفيق غبريال في كتابه "تكوين مصر": "إن طرائق الفن القبطي وأساليبه كانت عاملًا من العوامل المؤثرة في فنون مصر الإسلامية وصناعاتها. وهذا دليل على أهمية العنصر المسيحي في تكوين مصر". "هل يعلم هذا ضحايا عتاة الانشقاق وهواة الصيد في الماء العكر؟. جاءت المسيحية من بيت لحم بفلسطين وبعد تفكير وتمحيص للدين الوافد ولموقفها هي من الرومان، اختارت مصر المسيحية ودافعت عنها بالرأي والروح, وبما تمثل المسيحية من وقفة مصر وموقفها، نعتز بالمسيحية مسلمين وأقباط لأننا مصريون, وجاء الإسلام من الجزيرة العربية ولم يكن غربيا عن طبيعة مصر ولا عن مسيحيتها. ولهذا لم يكن إسلامها تسليمًا بل كان إسلامها موقفًا واستجابة وإيجابًا فدافعت عنه بالرأي والروح، وبما يمثل الإسلام من سماحة مصر وتفتحها، نعتز بالإسلام أقباطًا ومسلمين لأننا مصريون". "آمنت مصر بالدينين؛ لأنها اهتدت منذ ألوف السنين بالفطرة السليمة والدافع الحضاري معًا، إلى عقيدة البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، بل اهتدت إلى التوحيد وابتهلت وتبتلت وشكرت وأفضلت, اهتدت مصر إلى هذا كله, ولهذا وقفت بوجدانها الدين وراء الأديان، وفعلت للمسيحية والإسلام ما لم يفعله أتباعهما في أي مكان, لم تعرف مصر

الحروب التي دارت بين المدن اليونانية, ولم تعرف مصر محاكم التفتيش أو ديوان التحقيق وما وقع في إسبانيا عقب خروج العرب من الأندلس، ولم يحدث في مصر ما حدث في محاكمة الليدي جان جراي في إنجلترا التي كان الدافع القوي على إعدامها كونها بروتستانتية حين كانت الملكة ماري التي حاكمتها كاثوليكية". "لقد عرفت مصر حياة التدين ولكنها لم تعرف التعصب في الدين أو الضغينة بسببه، فسلم الدين فيها كما يقول الأستاذ العقاد في كتابه عن "سعد زغلول": "من لوثة العصبية العمياء وقسوة الهمجية الرعناء سلم تاريخ مصر كله من المذابح الطائفية إلا ما يتسلل إليها من طائفة غريبة أو نحلة دخيلة". وكم عانت مصر من المتسللين مثل "جورست" خلفه "كرومر وكتشنر" وكاتب استعماري مثل "جون بورنج" في القرن التاسع عشرن وشايعه "إدوارد وكين" في الستينات من القرن العشرين في كتابه "أقلية متوحدة" وإن لم يستطع أمثال هؤلاء أن ينكروا التماثل بين الأقباط والمسلمين حتى "كرومر" في كتابه "مصر الحديثة" لم يستطع الفكاك من هذه الحقيقة حيث يقول في الفصل السادس والثلاثين من كتابه، وأنا هنا أترجم حرفيا "القبطي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه في السلوك واللغة والروح مسلم وإن لم يدر كيف فالقبطيات يتشبهن بالمسلمات، والأطفال تكيفوا عامة، وعادات الزواج والجنائز تشبه ما عند المسلمين". "وقد لاحظ عبد الله النديم في "الأستاذ" -الجزء الرابع من السنة الأولى- أن الحروب الصليبية أو الثورة العرابية لم تشب إحداهما ما بين المسلمين والأقباط من صفاء أو ترابط, لقد كنا غداة الفتح نتبادل قناديل المساجد والكنائس في الاحتفالات الدينية في الجانبين. ونحن اليوم تجمعنا عادات واحدة وأعياد مشتركة مثل عيد الربيع ووفاء النيل وليلة النفطة وكلها أعياد مصرية قديمة صاحبتنا مع الزمن وصاحبناها إلى يومنا هذا؛ لأننا مصريون, مصريون قبل الأديان ومصريون بعد الأديان ومصريون إلى آخر الزمان1".

_ 1 راجع: الأهرام في 22/ 6/ 1981.

ثانيًا: كتب الدكتور الدكتور محمد نصر منها عن "لقاء الأوروبية بالعربية في فكر الطهطاوي السياسي" فقال: "تعتبر تجربة رفاعة رافع الطهطاوي تجربة ثرية في التقاء الحضارة الغربية بالحضارة المصرية الإسلامية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد اتسمت هذه الفترة بثراء الترجمة من علوم الغرب وأدابه ونظمه في معالجة الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي الفترة التالية لعام 1805 كان محمد علي يحث أعضاء البعثات على تعريب الكتب الأجنبية، وكانت الحكومة تعلق على أعمال الترجمة أهمية كبرى لكي تظفر بأكبر عدد من الكتب المترجمة في أقل زمن". وقد قضى رفاعة الفترة 1825-1831 في باريس التي أوفد إليها في بعثة تعليمية للعلم وعاش في باريس, وقد أخذ على نفسه أن ينقل إلى اللغة العربية تجربة الحياة الفرنسية وفيما يتعلق بالسياسة وأصولها، فإن رفاعة قرأ كتبا للمفكرين السياسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية كمونتسكيو وجان جاك روسو, وانعكس جهد رفاعة في هذا الخصوص على تأليف كتابي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" و"مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية" وقد نشر رفاعة فيها آراءه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهناك أيضًا كتابا "المرشد الأمين للبنات والبنين" و"أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل" الذي يبين فيهما موقفه من الحكم على ضوء التجربة الفرنسية، ويمكن أن نتبين آراءه السياسية فيما يلي: كان رفاعة ذا ميل فطري إلى النظم الحرة، والحياة السياسية المقيدة بالقوانين، ويدلنا على ذلك أنه ترجم دستور فرنسا الذي كان معمولًا به عندما كان في باريس وما أدخل عليه من تعديلات، وكان بترجمته لهذا الدستور يرفع أمام بني وطنه مثلًا يقتدى به في الحياه السياسية المثالية، ولا سيما أنه ترجم هذا الدستور مبديًا رأيه فيه إذ قال: "ومن ذلك يتضح لك أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين". "ويبدو هذا الإعجاب من تعليقه على مواد هذا الدستور، فعلق على المادة الأولى منه وهي التي تنص على أن سائر الفرنسيين يتساوون أمام

الشريعة بقول معناه أن سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع أو وضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون, حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره" وعلق على المادة الثانية الخاصة بالمساواة في الضرائب بقوله: "وأما المادة الثانية فإنها محض سياسة ويمكن أن يقول إن المساواة في الضرائب ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس ومن الحكم المقررة عند قدماء الحكماء الخراج عمود الملك". "وعلق على المادة الثالثة من الدستور الفرنسي التي تنص على أن كل واحد من الفرنسيين متأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت فقال: "وأما المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدًا بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم ولم يقف تمدنهم على حالة واحدة". وعلق على المادة الثامنة الخاصة بحرية الرأي والنشر فقال: "وأما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان أن سائر ما في نفس صاحبه". "وهكذا يمكن فهم فكر رفاعة السياسي من ثنايا وصفه السابق وتعليقاته على الدستور الفرنسي وعناصره الملكية والأورستقراطية وإثاره الثورة الفرنسية، وهو في وصفه للنظام القائم في فرنسا في ظل ميثاق لويس الثامن عشر وفي وصفه للثورة الفرنسية عندما نقض شارل العاشر ذاك الميثاق. إنما يصدر دائمًا عن منهج مقارن بين الحكم في فرنسا والحكم في مصر، وعن استهداف أن يكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر في بلاده فهو تسجيله للقيود على الحكم المطلق وللضمانات والحقوق التي كفلها الدستور الفرنسي للفرد, إنما ينقل إلى بلاده الطابع التحرري الذي تشرب به بين الفرنسيين والمثال الواقعي الذي اتخذته التحررية في السياسة الفرنسية". "وقد يبدو أن ما يثير العجب أن يلتفت رفاعة إلى الجانب السياسي التحرري من السياسة الفرنسية وأن يأخذ به ويتأثر به, ولكن طبيعته

وثقافته الإسلامية جعلته يدرك بعمق تفوق الفرنسيين في نظم الحكم. فالإسلام قد درج منذ البدء على أن يكون الحكم جانبًا هاما من جوانب الدين, ولقن هذا الدرس في مراكز الثقافة الإسلامية علماء المسلمين على مر العصور، ولقنوه لأجيالهم المعاصرة والمتعاقبة جيلًا بعد جيل, ويعد رفاعة الطهطاوي من هذه الناحية وارثًا للتراث الإسلامي وداعيًا لدروسه ومجتهدًا في المزاوجة بينه وبين التجربة العقلية على أسس من المنهج العلمي التاريخي المقارن, وهو في هذا إنما يسير على المنهج الذي سار عليه مفكرو العرب منذ البدء حين عملوا على بناء الحضارة العربية الجديدة من مزج بين تراث العرب وبين ما نقلوه من عناصر الحضارة المتعددة الجوانب والأصول1". ثانيًا: كتب الباحث يوسف ميخائيل أسعد مقالًا عنوانه: "لماذا تراجع الفن والأدب" وضح خلاله أسباب هذا التراجع فقال: "وقع هذا التراجع بالفعل من جانب الفن والأدب أمام تطورات العلم وتطبيقاته التكنولوجية، ولنضرب خمسة أمثلة فقط لتراجع الأدب أمام التيار العلمي التكنولوجي, والأمثلة التي نسوقها لنؤكد بها تراجع الفن أمام العلم والتكنولوجيا هي: أولًا: اختراع التصوير الفوتوغرافي، وكيف أنه ضرب التصوير الفني في الصميم لدرجة أن الفنانين من أصحاب الفرش والألوان قد هربوا من أمام هذا الطغيان الفوتوغرافي إلى معقل جديد هو التصوير الإبداعي التشكيلي. ثانيًا: اختراع الآلات الموسيقية ذاتية التشغيل بدءًا بالفونوغراف وانتهاء إلى الراديو وأجهزة التسجيل والكاست, لقد عملت هذه المخترعات على إحجام معظم الناس العاديين عن محاولة تعلم العزف الموسيقي، بل أنها ضربت معظم الناس بالسلبية. فصاروا يتلقون دون أن يقدموا. فكبار الموسيقيين احتلوا مكان الصدارة وصاروا هم الذين يعزفون فحسب، والجموع الغفيرة تستمع إلى ما يقومون بعزفه.

_ 1 راجع: الأهرام في يوم الجمعة 26/ 6/ 1981.

ثالثًا: لقد دخل الكومبيوتر حديثًا في مجال التأليف الموسيقي فصرنا نستمع إلى موسيقى لم يقم أحد الموسيقيين بوضع ألحانها، بل إن الكمبيوتر هو الذي دبج أنغامها. ولسوف تشيع بعد وقت قريب أو بعيد آلات موسيقية إلكترونية تضغط أنت على أزرارها لكي تقوم هي بتقديم الأنغام الجديدة المبتكرة إليك، فأنت سوف تصنع الألحان بنفسك، ولكن ليس بفنك في التلحين وليس اعتمادًا على موهبتك الموسيقية، بل بمجرد معرفتك طريقة تشغيل ذلك الجهاز الإلكتروني وبمجرد الضغط على أزراره البسيطة غير المعقدة التي تسمح بتشغيله فيقوم هو بالمهمة، وذلك بالتوفيق والتبادل بين أنغامه التي سبق له استيعابها. رابعًا: لقد قضت الآلة الكاتبة والمطبعة بكافة أنواعها على فنون الخط العربي, لقد كان الخط من الفنون التي لا تقل إبداعًا وعمقًا عن فنون التصوير المتباينة, ولكنك الآن تستطيع أن تدق على حروف الآلة الكاتبة بغير أن تتعلم فنون الخط فتخرج كتابتك مقننة على المستوى العالمي، أو قل إن خطك يكون نموذجيا بحيث لا تكون بحاجة إلى مزيد من تعلم فنون الخط, لقد صار الخط الكوفي والخط النسخ وخط الرقعة وغيرها في خبر كان, وسارت القاعدة هي أن تكتب بأي خط يتسنى لسكرتيرك أن تقرأه لتحيله إلى خط جميل مقنن على الآلة الكاتبة. خامسًا: لقد صارت الآلات المستخدمة في صناعات البلاستيك كفيلة بأن تقدم إليك التماثيل الجميلة التي تريدها لتزيين بيتك أو مكتبك بغير ما حاجة إلى التماس التماثيل الرائعة التي كان يقوم أحد مشاهير فناني النحت بصنعتها. أما الأمثلة التي نسوقها للبرهنة على تراجع الأدب أمام التدفقات العلمية والتكنولوجية فإنها تتلخص فيما يلي: أولًا: الترجمة وهذا الفن قد بدأ ينسلخ وينسحب ويهرب من أيدي الأدباء والمترجمين بعد أن بدأت أجهزة الكومبيوتر في تولي زمامه والسيطرة على مقاليده, صحيح أن هناك بعض التعديلات يجب أن تدخل

على الأجهزة الإلكترونية التي تعمل الآن بالفعل في هذا المضمار، ولكنها تعديلات بسيطة على كل حال. ثانيًا: هناك نوع من الطغيان العلمي على أقلام الأدباء من شعراء وناثرين, فلقد انتحى كثير من الأدباء إلى العلوم المتباينة يكتبون فيها, وبخاصة علم النفس، وبتعبير آخر صار العلم المتأدب يحتل مكانة رئيسية في المجالات الأدبية, وهذا معناه أن الرومانسية والتعبير عن الذات قد اأنزويا أو كاد أمام تيارات العلم المتأدب. ثالثًا: لا شك أيضًا أن التذرع بالعلم والتكنولوجيا أكسب ماديا ويبشر بالمستقبل الباسم لمن يقضي وقته فيهما, ومن ثم فإن الكثير من الشباب من ذوي الاستعدادات الأدبية النادرة، قد اختاروا طريق العلم والتكنولوجيا، وقد أشاحوا تمامًا عن طريق الأدب الذي لا يبشر بكسب أو بمستقبل, وهكذا نجد أن قياس النجاح في هذا العصر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاشتغال بالعلم والتكنولوجيا. وها أنت ترى أن الكليات العلمية والتطبيقية وقد غصت بالطلاب والدارسين، بينما خف الضغط نسبيا عن كليات الآداب. رابعًا: يظن البعض أن التليفزيون والسينما يشجعان الأعمال الأدبية القصصية التي يعرضانها, والواقع في رأينا أنهما يقومان بقتل تلك الأعمال واغتيالها وإفراغها من مضمونها الأدبي, فإذا أنت قارنت بين العمل الأدبي كما ألفه صاحبه، وبين نفس ذلك العمل الأدبي بعد إخضاعه للسيناريو ثم للإخراج والتمثيل، فإنك ستجد أن الأصل كان عملًا أدبيا رائعًا، أما العمل المعروض على الشاشة فإنه عمل تجاري أو جماهيري. ذلك أن القائمين على الأعمال السينمائية والتليفزيونية لهم قواعدهم التي يخضعون لها عندما يقومون بإعادة صياغته لعرضه على الشاشة، فما يصلح للإبقاء عليه للسينما والتليفزيون هي القشور لا الجوهر, أو قل هي الفكرة العامة وليس الدقائق التي تعطي العمل الأدبي أو القصة الروعة والحلاوة الأدبية. وهذه شهادة الكثيرين من أصحاب الأعمال القصصية أنفسهم التي عرضت على الشاشتين الكبيرة والصغيرة. خامسًا: لا شك أن وسائل الأعلام المسموعة والمرئية -وهي نتاجات علمية وتكنولوجية بالدرجة الأولى- قد استولت على أسماع وأنظار الغالبية العظمى من المواطنين، فهي بذلك تكون قد نبهت غالبية وقت فراغ الناس, وهو الوقت الذي كانوا يقضون جله في القراءة الأدبية وفي الإبداع الأدبي, ناهيك عن أن مجالات النشر قد سدت أمام شباب الأدباء الذين يرغبون في نشر ما يبدعون، وذلك لأن الإقبال على شراء المواد المطبوعة -وبخاصة المواد الجادة منها- قد قل بدرجة خطيرة مما يهدد الأدب والإنتاج الأدبي بالاضمحلال. وهكذا نجد أن الفن والأدب قد تراجعا ويتراجعان أمام تيار العلم والتكنولوجيا, والله وحده يعلم ما سيكون مصيرهما بعد أن تستولي الأجهزة الإلكترونية على مقاليد الإنتاج الفني والأدبي استيلاء تاما1.

_ 1 راجع: الأهرام الصادر في 8/ 7/ 1981.

الأخبار

ب- الأخبار: صحيفة فرضتها الأحداث، ارتبطت بكفاح الأمة المصرية وشعبها المناضل من أجل حريته وكرامته واستقلاله. أصدرها في البداية الشيخ يوسف الخازن أحد كبار الأدباء اللبنانيين، وتنازل عنها لدى عودته لبلاده لعبد الحميد حمدي صاحب جريدة "السفور" الذي أصدرها في أخريات 1918 وشاركه فيها حسن الشيخة أحد مدرسي مدرية الغربية. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كانت ثورة 1919، وجاءت "الأخبار" ثمرة من ثمارها في فبراير 1920 -وشغلت المدرسة اليونانية الموجودة بميدان الفلكي- وجعلها صاحبها المرحوم أمين الرافعي 1886- 1927 لسان صدق للحركة الوطنية، وصحيفة الحق والمسئولية. وقادت "الأخبار" الرأي العام، واهتمت بأفكار الوفد وخططه، وعنيت بنشاط رئيسه وأحاديثه, ثم أدمجت في صحيفة "اللواء" بسبب الظروف المالية -في اسم واحد هو "اللواء والأخبار" في 10 من مايو 1925، وبعد العدد الصادر في 22 من أغسطس 1925 عادت كل صحيفة إلى استقلالها.

وظلت "الأخبار" تواصل رسالتها وتواكب الأحداث حتى تعرضت لأزمة مالية توقفت على أثرها في فبراير 1926 ثم عادت إلى الظهور في 12 من مارس 1926، واحتلت مكانتها بين الصحف المصرية، تولى أمين الرافعي كتابة مقال فيها كل يوم، وأحيانًا أكثر من مقال في اليوم، وبجانب هذا كانت له دراسات وافية عن المفاوضات وسياسة الإنجليز في مصر، وخص الدستور بمقالات تعد من أروع ما كتب عن حق الشعب في حكم نفسه. وحملت "الأخبار" دعوته 1925 للساسة وأعضاء البرلمان أن يعقد اجتماعاته دون الالتفات إلى رأي الحكومة المخالف للدستور، فاستجابوا له، وفرضت مقالاته على القصر والحكومة إعادة الحياة النيابية في مصر. استكتبت "الأخبار" الشخصيات البارزة من أمثال حسين رشدي، وعبد الخالق ثروت، وعبد الرحمن الرافعي وغيرهم، وجاءت مقالاتهم في مفاوضات "ملز" والمشروع الذي قدمته اللجنة مرجعًا سياسيا في ذلك المشروع الذي كان له أثره في تطور الأحداث في مصر. وظلت "الأخبار" محتجبة عن الجماهير بعد رحيل أمين الرافعي 1927 حتى تنازل شقيقه المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي عن ممتلكاتها للمرحوم علي أمين 1914- 1977 وشقيقه مصطفى أمين الذي لا زال يواصل عطاءه الصحفي حتى اليوم, ومن ثم عادت إلى الظهور باسم "أخبار اليوم" 1944 الأسبوعية و"الأخبار" اليومية 1952. ولقد أحدثت سلسلة مقالات مصطفى أمين في "أخبار اليوم" دويا هائلًا، وسببت له أزمات عديدة مثل: سلسلة مقالات قصة فاروق التي وافق الزعيم الراحل جمال عبد الناصر على نشرها، ثم عاد وأمر بوقف نشرها، وسلسلة مقالات "قصة التسعة" التي تحكي تفاصيل ثورة يوليو 1952 وأسرارها وأسماء التسعة الذين يؤلفون مجلس الثورة، ثم توقفت بناء على أوامر عبد الناصر الذي ألح -بواسطة جمال سالم- ألا يعرف إنسان أن عبد الناصر مصدر هذه المعلومات؛ لأن المقالات أحدثت فتنة بين أفراد القوات المسلحة إذ ذاك وهذه نماذج من المقالات التي حفلت الأخبار.

أولًا: كتب الأستاذ موسى صبري رئيس تحرير الأخبار مقالًا عنوانه: "الرفيق المفاضل حافظ الأسد" جاء فيه: "هل يمكن لنزوة معارضة عند المشتغل بالسياسة، أن تحجب عينيه عن النظرة العادلة، وأن توقف عقله عن التفكير الطبيعي, وهل يمكن لهذه النزوة أن تنطق لسانه، بما يجب أن يثير الضحك، حيث كان يريد أن يبعث على الجد. سألت نفسي هذا السؤال وأنا أقرأ خطابًا لخالد محيي الدين رئيس حزب التجمع الماركسي، أذاعه راديو دمشق والخطاب كان في حضرة الرئيس حافظ الأسد, والخطاب كان موجهًا من خالد محيي الدين إلى حافظ الأسد، وموضوع الخطاب إهداء جائزة سلام إلى رجل السلام حافظ الأسد. الذي يهديه خالد محيي الدين جائزة سلام باسم "مجلس السلام العالمي". نعرف أن مجلس السلام العالمي هو إحدى المنظمات الشيوعية، التي اتخذت هذا الاسم الخادع, بل نعرف أن رجال الدين في أوروبا وغيرها، قد جذبهم الشعار وتصوره صدقًا وأصبحوا أعضاء في هذا المجلس الشيوعي, وهم ليسوا بشيوعيين, وقد مررت بنفسي بهذه التجربة". "ولكننا نعرف أيضًا أن خالد محيي الدين وهو عضو مبرز في هذا المجلس، يعرف تمامًا، كيف تحصد الأرواح في مدن سوريا, وكيف تقتحم الدبابات بيوت السكان الآمنين, ويخرجون الرجال والشباب الذين يقفون تحت رهبة السلاح ووجوههم إلى الحيطان، لكي ينطلق الرصاص -رصاص السلام في عرف خالد محيي الدين- إلى ظهورهم, وتقع الضحايا بالمئات وينتقل الغزو البربري من مدينة إلى أخرى!. ولكننا نعرف أيضًا أن خالد محيي الدين يعرف تمامًا، قصة الوجود السوري المسلح على أرض لبنان من بدايتها, ومن التكرار الممل أن تعيد أن قوات حافظ الأسد -رجل السلام في عرف خالد محيي الدين- دخلت بحجة الدفاع عن الفلسطينيين، وعادت فقتلت الفلسطينيين نساء وأطفال في تل الزعتر, ثم رفعت حجة الدفاع عن المسلمين وقتلت المسلمين, ثم زعمت دفاعًا عن المسيحيين فقتلت المسيحيين, ثم ادعت دفاعًا عن التقدميين فقتلت زعيم التقدميين كمال جمبلاط! ".

"كل هذا الدم العربي الذي خضب أرض لبنان، من قوات حافظ الأسد استحق جائزة سلام يهديها إليه خالد محيي الدين باسم مجلس السلام الشيوعي! ولأنه سلام شيوعي فلا بد أن يتميز عن السلام الذي يؤمن به كل البشر، ويسعى إليه الإنسان في كل مكان, إنه سلام من يعارضون السلام.. إنه سلام من يحصدون الأرواح في أفغانستان, وهذا السلام في أفغانستان قد حظي بتأييد رجل السلام حافظ الأسد, وأما السلام الذي ينادي بأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب, فهو سلام يرفضه خالد محيي الدين "والرفيق المناضل" حافظ الأسد -وهذا تعبير خالد عنه- وهو يقول عنه أمام الأسد: إنه ليس سلامًا ولكنه مؤامرة! لقد ضحكت وأنا أقرأ هذه المسرحية, ولكنني لا أنكر أنني تساءلت, إذا كان هذا -في عرف المعارضة "الوطنية الشريفة"- هو المستباح فهل أستطيع في تعليقي إلا أن أخرج باللفظ عن حدود المباح!! أحمد الله أنني استطعت1". ثانيًا: وكتب الدكتور حسن شلبي عن "إعجاز القرآن من الروماني إلى الشعراوي" فقال: "يأتي رمضان يدق الأبواب، وينزل على الأحباب، ويتخير من المنازل أسخاها كرمًا، ومن القلوب أصفاها ودا، ومن النفوس أعلاها هوى ورضا، ويهتم فيه الجميع بالقرآن؛ لأنه شهر القرآن أنزله الله فيه بينات من الهدى والفرقان, وأرجع بخاطري إلى العلماء الأفذاذ الذين اهتموا بإعجاز القرآن في عصور ماضيه وفي عصرنا الحديث أيضًا, أما العصور الماضية فيلفتني من بينهم علي بن عيسى الروماني المتوفى 386هـ ألف: "النكت في إعجاز القرآن" نجده يرجع وجوه إعجاز القرآن إلى سبعة مواضع: ترك المعارضة مع توافر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياس القرآن بكل معجزة، فكلام الله كلام يتلى فيستقر في القلب، وهو معجز ومغمم للخاصة والعامة أيضًا. وأبو سليمان حمدين محمد الخطابي المتوفى 388هـ في رسالته عنه: "إعجاز

_ 1 راجع: الأخبار الصادر في يوم الخميس 2/ 7/ 1981.

القرآن" يعرض فيها أراء القائلين في إعجاز القرآن مثل الجمع بين القصص وغيرها في سورة واحدة، وصرف الله قلوب المشركين عن معارضتها، وإخباره عن الأحداث المستقبلة, ثم يثبت رأيه في إعجاز القرآن، فيبين أن الكلام الفاصل ثلاثة أقسام: بديع رصين جزل، فصيح قريب، سهل جائز مطلق، ومن هنا: إعجاز القرآن؛ لأنه أخذ من كل قسم، وجمع ذلك في قوة واحدة، فكان إعجازه وبلاغته". "وأبو بكر محمد الطيب البقلاني المتوفى 403هـ ألف كتابه: "إعجاز القرآن" تكلم فيه عن سبل البلاغة، وبلاغة الرسول، وإعجاز القرآن، ولا يوافق من قال بالصرفة؛ لأن التحدي لا يتفق معها، ثم يرد إعجاز القرآن إلى ثلاثة: ما تضمنته الأخبار عن الغيب، وما فيه من قصص الأنبياء مع أمية الرسول وبلاغته, فلما جاء أمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني المتوفى 471هـ فقد ألف رسالة وكتابة: أ- رسالة الشافية في الإعجاز مضمونها أن القرآن أعجز العرب ولكنه لم يتعرض لتفصيل سبب الإعجاز الذي بسطه في: ب- كتابه "دلائل الإعجاز" عني فيه بنظم القرآن، مرجعًا إعجاز القرآن إليه، ويقصد أن القرآن في حروفه وألفاظه وتراكيبه، وما ضم ذلك من معان، وجاء على أحسن صورة، لا يستطيع أحد معها أن يأتي بمثلها، فكل ما جاء في القرآن معلق بعضه على بعض، مبني بعضه على بعض، وذلكم سر الإعجاز في النظم القرآني الذي وضع الكلام الذي يقتضيه علم النحو". "أما في عصرنا الحديث فقد كتب العديد من العلماء المصريين في إعجاز القرآن كالرافعي ومتولي الشعراوي، أما رأي مصطفى صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" فيوجزه في ثلاث نقاط: فالقرآن معجز لاستقرار القرآن وثباته على الزمان، وهو شريعة وأخبار وآداب، ولدفعه النسيان عن اللغة العربية، فهو وجود لغوي ركب كل ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية: يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيء؛ ولأن معانيه تتوالد وتتكاثر، وتتجدد حسب قدرته على كل عصر في استخلاص معانيه". "أما رأي الشيخ محمد متولي الشعراوي فمنثور في كتابه القيم "معجزة القرآن" موجز في خمس نقاط، فالقرآن معجز لعطائه الذي يتجدد مع كل

جيل من الأجيال بمعنى أن أسرار الوجود وضعت في القرآن، لذلك يعطينا جديدًا في كل عصر حسب قدرة كل جيل في تناوله وفهم أسراره، ولتأثيره القوي في الناس على اختلافهم، وتباين بيئاتهم، وتعدد ثقافاتهم، وتنوع اتجاهاتهم، ويعني هذا تقديمه لكل عقل ما يرضيه، ولبلاغته التي مثل لها بدقة التعبير المعجز في كثير من آيات القرآن ولتحديه العرب يلقنه عندما نزل وتحدى البشر جميعًا، والعالم أجمع بالمغيبات مثل إننا لن نخلق ذبابة، لن نخلق نهرًا مع أن مكونات الماء بين أيديكم، والإخبار عن المغيبات مثل تمزيقه حواجز الغيب: المكان والزمان ماضيًا أو مستقبلًا، فأخبرنا من ذلكم بما لم نكن نعرفه، ولاستوائه وعدم تناقضه في ذاته، وعدم تصادمه مع الحقائق الكونية والعلمية، فالتقدم العلمي -مثلًا- غير كثيرًا من مفاهيم الكون، لكنه لم يستطع تغيير مفاهيم معنى الآيات الكريمة, إأن الإعجاز في القرآن إعجاز دائم، وأسراره لا تتناهى، إنه معجزة يوم أنزل، وفي هذا العصر، وفي العصور القادمة إلى أن تقوم الساعة ستظل أرواحنا خاشعة أمام جلال القرآن وبهائه وقدرته وهيمنته وسلطانه1". ثالثًا: كتب الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف مقالًا تناول فيه الحديث عن كتاب "محاكمة عرابي" للصحفي إسماعيل يونس، وحلقات "فواكه الشعراء التي قدمتها للتليفزيون الأستاذة أمينة الصاوي فقال عن الكتاب: "لذيذة هي قراءة التاريخ الحق، وألذ ما يكون هذا التاريخ إذا كان إنصافًا لبطل مظلوم، أو إثباتًا لحق مهضوم، أو تصحيحًا لحكم طاش به الهوى، وصدر عن غرض لئيم, لهذا سعدت كثيرًا بقراءة كتاب "محاكمة عرابي" الذي كتبه زميلنا الأستاذ إسماعيل يونس إنصافًا للزعيم الوطني الثائر أحمد عرابي، وعاش من أجله خمسة عشر عامًا يفتش في دهاليز الوثائق، ويحقق الوقائع، ويمحص الروايات، وكان لا بد أن يكتب شيئًا، فكتب هذا الكتاب إنصافًا لذلك الذي خلق الثورة في وجدان هذا الشعب". "لقد قام الزعيم أحمد عرابي بثورته الوطنية على أساسين: أولهما

_ 1 راجع: الأخبار الصادر في يوم الجمعة 3/ 7/ 1981.

مصر للمصريين, وثانيهما أننا أحرار ولسنا عبيدًا نورث بعد اليوم، وإذا كان الحكم على الأشياء بأسبابها ونتائجها فلا شك أن عرابي قد نجح نجاحًا باهرًا في دعم هذين الأساسين وتأصلهما في كيان الشعب المصري. ومن هنا كانت الثورة العرابية هي الأصل في كل ثوارتنا الوطنية، وهي الطريق الذي سار عليه الشعب في معارك الكفاح والنضال الوطني. ولكن الخيانة غدرت بالزعيم البطل وهو في حومة المعركة، ومكنت الاستعمار من أن يحيط به بعد أن عجز عن أن ينال منه في موقف البطولة والشجاعة، وفوجئ بالهزيمة التي دخلت عليه من باب الغدر والخيانة فاستسلم، وصنع له الاستعمار والوخونة الذين جاءوا بالاستعمار محكمة ومحاكمة، واتهموه بالخيانة، وحكموا عليه بالإعدام، ثم قذفوا به في مهاوي النفي تسعة عشر عامًا، وعاشوا يلوثون شخصه وتاريخه بالافتراءات والأكاذيب". "ولقد كانوا يلقون في أذهاننا الغضة ونحن على مقاعد الدرس روايات مزورة يتهمون فيها البطل عرابي بالخيانة لوطنه، ويزعمون أن الخونة من الخديويين ومن بعدهم من الأمناء على هذا الوطن، وأن الاستعمار هو الذي نهض بمصر، وحرر المصريين، ومما يدعو إلى الأسى والألم أن المؤرخين المصريين الذين كتبوا تاريخنا المعاصر كانوا يتملقون الأسرة الحاكمة أو يرهبون بأسها كانوا يسكتون على هذا الافتراء على عرابي، وفي يوم استقدم الملك فؤاد مؤرخًا أجنبيا ليكتب كتابًا سماه "إسماعيل المفترى عليه" ودفعتنا الغيرة الوطنية، وكنا مجموعة من الشباب في مجلة الرسالة التي كان يصدرها الأستاذ الزيات إلى أن نرد الافتراء على عرابي، وبدأ المرحوم الأستاذ "محمود الخفيف" ينشر فصوله المتتابعة في الرسالة تحت عنوان: "عرابي المفترى عليه" وقامت قيامة السراي أو القصر الملكي على هذا الكتاب الذي بدأ يكشف عن مواقع الخيانة، وطلبوا وقف نشر هذه الفصول وهي التي جمعها وأضاف إليها كل ما كتبه في كتابه "عرابي المفترى عليه"". "لقد عرض الزميل الأستاذ إسماعيل يونس قضية عرابي مع الخونة والاستعماريين في معرض التاريخ الحق، فرد إلى الرجل اعتباره في البطولة والشرف والنزاهة والوطنية، وكشف الحقيقة في تلك المحاكمة المزيفة التي

صنعها الاستعمار والخونة على هواهم، وحاولوا أن يستروا بها أغراضهم المريبة، والحق أن المؤلف الفاضل قد وفق توفيقًا كبيرًا في أن يقدم صورة صادقة نقية عن الزعيم العظيم، لا تشرف عرابي فحسب بل إنها تشرف وطنه وأبناء شعبه على امتداد التاريخ". وعن حلقات "فواكه الشعراء" قال: "تراثنا من الأدب العربي حافل بألوان ممتعة من الفكاهات والمسامرات والقصص والنوادر الأدبية والشعرية التي تعتبر مادة خصبة لأدب روائي رائع، وعروض تمثيلية تملأ النفلس بالبهجة والبشاشة، وتقدم إلى العقل زاد من العلم والفهم لأسرار النفس الإنسانية، وقد اهتم القدماء بهذه الألوان التي شاعت وملأت المجالس والمحافل في العصر العباسي الزاهر، فجمعوا منها مادة وفيرة في مؤلفات كثيرة مثل "فاكهة الظرفاء" و"محاضرات الأصبهاني" و"نوادر الحصري" إلى آخر ما هناك. أحوج ما يحتاج إليه هذا التراث هو العرض في أسلوب يلائم روح العصر، وتصوير تمثيلي يكشف أسراره وما فيه من نزعات إنسانية، وقد كانت هذه القضية موضع مناقشة من قبل، وبدأ الأستاذ توفيق الحكيم التجربة في ذلك، فكتب صورًا تمثيلية من أدب الجاحظ، وجمع نسقًا من النوادر فسر به حياة "أشعب" الطماع في كتاب سماه "حياة معدة" وبقي الأمل مرتبطًا بهذا العمل حتى طال به الأمد، ولهذا شدني التليفزيون العربي ببرنامج جديد يعرضه بعنوان "فواكه الشعراء" إذا رأيت فيه بعثًا لذلك الأمل الذي انتظرنا تحقيقه". "وفواكه الشعراء" حلقات تتناول قصص ونوادر أبي الأسود الدؤلي واضع علم النحو، والشاعر زند بن الجون الذي اشتهر في الأدب العربي باسم أبو دلامة، ومطيع بن إياس الشاعر الفكه الذي نادم الأمراء وعاش مع الخلفاء ونال صلاتهم الجزيلة إلى آخر من هناك من الشعراء وأصحاب الفكاهة والظرف الذين ملئوا المجالس والمحافل بنوادرهم وسمرهم في العصرين الأموي والعباسي, أما التي تولت هذه العروض في كتابة القصة والسيناريو والحوار فهي أستاذة تمرست بهذا الفن، ولها فيه خبرة وثقافة وهي الأستاذة "أمينة الصاوي" والحق أنها كانت بارعة في حبكة القصة، وتسلسل الحوار، أمينة في تصوير الموقف وتوضيح مدلوله، كما كانت موفقة إذ حرصت على تجرد هذه القصص والمسامرات من حديث الخمر، ومن العبارات المبتذلة، والكلمات التي يمكن أن تقال على بساط الشراب، وليس من الجائز أن تعرض على الأنظار، وأن تخدش الأنظار, إنه في الحقيقة عمل أدبي رائع، وعرض جديد لبعث هذا الجانب من تراثنا الأدبي إلى الحياة من جديد، وهو أقرب ما يكون إلى الروح العربية والذوق العربي من تلك الألوان التي نستوردها من الخارج. وأنا أرجو الأديبة أمينة أن تثابر على تقديم هذه العروض فقد كان والدها يدرس لنا الأدب العربي، وأنا أعرف أنها أخذت عن والدها الكثير, وإنها تشبعت بهذا اللون الطريف من فواكه الشعراء ومسامرات الأدباء، وأن يحرص التليفزيون العربي على أن يقدم إلى المشاهدين هذا الزاد الشهي من الفكاهة والثقافة والفن1".

_ 1 راجع الأخبار الصادرة يوم الأربعاء أول يوليو 1981.

الجمهورية

جـ- الجمهورية: جاءت هذه الصحيفة ثمرة من ثمار ثورة يوليو 1952 التي قضت على الملكية والملك والفساد، وأعلنت الجمهورية في ربوع البلاد، وأشركت العمال والفلاحين في مؤسسات الدولة، وكان لا بد من صحيفة تعبر عن هذا التغيير في جلاء ووضوح، فكانت "الجمهورية" 1953، وتولى الإشراف عليها المرحوم صلاح سالم أحد ضباط مجلس قيادة الثورة. تولى الكتابة في هذه الصحيفة نفر من رجال الفكر والأدب والثقافة من أمثال: محمد توفيق دياب 1887-1967 العديد من المقالات على صفحاتها منذ إنشائها، وظل يواصل الكتابة فيها بدافع من وطنيته حتى أقعده المرض عن الكتابة فيها 1960 كما كتب فيها الشاعر العاطفي كامل الشناوي واحتل مكانًا مرموقًا بين العاملين فيها حتى أمر المشرف -صلاح سالم- على الصحيفة أن يوضع اسمه فوق أسماء رؤساء التحرير باعتباره أبرز الصحفيين تفهما لإدارة التغيير الثوري في البلاد. ولا زال يكتب العديد

فيها من الكتاب اللامعين والعلماء النابهين من أمثال حافظ محمود، ومحسن محمد، وإبراهيم الورداني، وعبد المنعم الصاوي، وعبد الرحمن فهمي، ومختار الوكيل، وعواطف عبد الجليل وغيرهم من قادة الفكر والثقافة، وسنضع أمام ناظريك بعض المقالات التي حفلت صحيفة "الجمهورية" بها في أوقات مختلفة: أولًا: كتب شيخ الصحفيين حافظ محمود مقالًا عنوانه: "ما وراء 18 يونيو" فقال: "ينبغي أن تذكر اليوم -18 يونيو- كما تذكر سلسلة الأيام التاريخية التي غيرت مجرى الحياة في مصر, وهذه الأيام في تاريخنا الحديث هي: يوم قيام الثورة في 23 يوليو 1952 يوم إعلان الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر 1952 يوم إعلان النظام الجمهوري وسقوط النظام الملكي في 18 يونيو 1953. ومن هذه الأيام يبرز يوم الثامن عشر من شهر يونيو، وهو يحمل قيمتين ضخمتين من قيم التاريخ المعاصر. فيوم أعلنا النظام الجمهوري في الثامن عشر من يوليو 1953 كان هذا الإعلان تحولًا عن أسلوب الحكم الذي ساير الحياة السياسية في مصر آلاف السنين, ويوم أتممنا جلاء القوات المحتلة عن مصر في الثامن عشر من يوليو 1956 كان نقطة تحول ليس في تاريخنا فحسب، بل في تاريخ العالم كله؛ لأن جلاء هذه القوات كان البداية الحقيقية لتصفية الاستعمار القديم، ذلك الاستعمار الذي لم يستطع أن يسترد مكانته القديمة بعد هذا التاريخ؛ لأن ما تم يومئذ كان من معقباته أن عقلية الدولة الغربية الكبرى قد تغيرت، ولم تعد ترى أن هناك جدوى من تحقيق مصالحها بأسلوب الاستعمار". "جدير بنا في هذا اليوم أن نتدبر عبر التاريخ، كيف تم التحول الكبير في تاريخنا, ففي بداية القرن التاسع عشر اجتمع أولو الرأي من المصريين ليولوا عليهم حاكمًا غير مصري, وفي ثورة الشعب المصري في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر كانت كل الظروف مهيأة لتغيير نظام الحكم، لكن الزعماء الوطنيين أنفسهم تهيبوا عند هذا التغيير، وفي ثورة 1919 كان الشعب ينادي أحيانًا بالثورة على العرش، لكن الزعماء الوطنيين أنفسهم تهيبوا من اتخاذ هذه الخطوة, وهكذا نستطيع أن نقول أن إسقاط الحكم الملكي وإعلان الحكم الجمهوري في الثامن عشر من يونيو 1953 كان تغييرًا

جذريًا في عقلية القيادة السياسية الحديثة في مصر, وبتغيير هذه العقلية تغيرت ملامح وجه السياسة المصرية تغيرًا كاملًا". "لقد عمل الشعب المصري كل ما يمكن عمله لإخراج قوات الاحتلال, وترجم الساسة إرادة الشعب في مفاوضات بدأت منذ 1920 وتكررت هذه المفاوضات مرات ومرات إلى أن جاءت بمعاهدة 1936 التي نص فيها على الجلاء بعد عشرين سنة من هذا التاريخ، لكن هذه السنوات العشرين لم تكن تخلو من أسباب صنعها الاستعمار للبقاء على وجوده, وهنا لا بد أن نذكر أن شعب مصر كان في مكافحة إرادة الاستعمار وحيدًا لا تمتد إليه يد العون من أحد لدرجة أننا حين ذهبنا إلى مجلس الأمن في 1947 كي ينتصف لنا من الدولة المحتلة، أحالنا مجلس الأمن إلى مائدة التفاوض معها من جديد، وظلت هذه المفاوضات تتعثر إلى أن بلغت الغاية باتفاقية أكتوبر 1954 وهي الاتفاقية الوحيدة التي نفذت فعلًا في يونيو 1956 نتيجة للمتغيرات التي طرأت على السياسية المصرية وما كان لها من أثر في المحيط الدولي وصدى في السياسة البريطانية ذاتها. "من هذا كله يتعين لنا مبلغ أهمية الثامن عشر من شهر يونيو 1956 ولقد أرادت القوى المضادة أن تفقد مصر مزية هذا اليوم، فدبرت العدوان الثلاثي على مصر في آخر أكتوبر من نفس السنة، لكن التغيير الذي كان قد طرأ على الإرادة المصرية بدد هذا التدبير، ثم جاءت إسرائيل في يونيو 1967 لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وكان التدبير المضاد هذه المرة أكثر إحكامًا حتى خيل للعالم أننا قد رجعنا إلى الوراء أجيالًا، لكن الإرادة المصرية الجديدة قد استردت قوتها في أكتوبر 1973 فحولت الهزيمة إلى نصر، واستردت مصر مكانتها مضاعفة، وأصبحت ضلعًا من الأضلاع المرموقة في السياسة الدولية. فمن الناحية العسكرية أصبحت الخطط المصرية من الدروس العسكرية في العالم كله, ومن الناحية السياسية أصبح الأسلوب الذي استثمرنا به النصر مضرب الأمثال على الصعيد العالمي، وأصبح الذين يتكلمون الآن عن حلول المشاكل الدولية يحاولون أن يتمثلوا بما صنعته مصر على طريق السلام بعد نصر أكتوبر".

"إذن فيوم الثامن عشر من يونيو الذي نحتفل به اليوم كان من أيام المقدمات المجيدة في التاريخ المعاصر، وشاء الله ألا تكون هذه المقدمات لمصر وحدها، بل والعالم الثاني وهذه المنطقة, وتلك حقائق تاريخية ينبغي أن نسجلها وأن ننشرها وأن نعلنها لأبنائنا وأبناء الشعوب المحيطة بنا ليعلموا ماذا صنع شعب مصر لحركة التحرير داخل مصر وخارجها"1. ثانيًا: كتب الدكتور كمال جعفر أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم عقب أحداث الزاوية الحمراء بين المسلمين والمسيحيين مقالًا عنوانه: "هذا الخلاف افتراء على الإسلام والمسيحية" جاء فيه: "لا يجوز أن يقال أبدًا ما حدث في حي الزاوية الحمراء بالقاهرة أخيرًا جاء عن مشاعر دينية، فهذا القول أبعد ما يكون عن تعاليم الدين أي دين فضلًا عن أن يكون الإسلام أو المسيحية. والبشر دائمًا يختلفون ويتفقون فهذه سنة الحياة ما دامت مصالح الناس يطرأ عليها التعارض أو تتوفر لأحدهما عوامل الترجيح تجاه الآخر, لكن أصحاب المشاعر الدينية المتمسكين بتعاليم السماء يرفضون العدو عند الاختلاف أو الخصومة، فأخلاق الأديان السماوية جميعًا السماحة والتسامح والعفو عند المقدرة. ولسنا في حاجة إلى ضرب الأمثال من حياة نبي الله عيسى أو نبي الله محمد عليهما الصلاة والسلام، فالأول واجه من عناد قومه وآذاهم الكثير والكثير، فلم يرفع عصا في وجه أحد، ولم يقذف بحجر، والثاني حيثما اشتد به أذى قومه وعجزت منه الوسائل لم يفعل إلا أن توجه إلى الله قائلًا: $"اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". بل إن المسيحية ذهبت في التسامح إلى الحد الذي اشتهر معه مقولتها بأن"من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر" والإسلام عندما شرع القصاص ورد الاعتداء حبب في العفو، وجاء في كتابه الكريم {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} و {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في يوم الخميس 18/ 6/ 1981.

"ويحفظ لنا التاريخ حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نصارى "نجران" حينما جاءوا إليه في المدينة في عام الوفود لمناقشته ما جاء به، لقد سمح لهم بالصلاة في مسجده، وطال النقاش بين الطرفين, هو يشرح لهم رسالته الخاتمة، وهم يرفضون، فلم يؤذهم ولم يحرض عليهم، وإنما دعاهم في النهاية إلى "المباهلة" وهي صلاة مشتركة يدعو فيها الطرفان الله على الكاذب منهما، ويحكيها القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فاعتذر وفد نصارى نجران عن الاشتراك في هذه "المباهلة" ورضوا لأنفسهم البقاء على عقيدتهم، فتركهم النبي وما أرادوا، وكفوا هم أيديهم عنه، وزاد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على ذلك بأن أعطاهم الأمان على أنفسهم وديارهم وأموالهم. أمام هذا التسامح الديني والمنطق التشريعي لا يحل لمختلفين دينا أن يتشاجرا ويتقاتلا، وإذا لم يستطيعا قضى خلافهما بالتسامح أو الحسنى فإن القانون كفيل بأن يعطي كل ذي حق حقه". "هكذا يعرف المسلمون الإسلام، ويعرف المسيحيون المسيحية، ويعرف كل منهما الآخر بحقائق دينه، ولم يستطع شعب من شعوب الأرض على مدى تاريخه أن يترجم هذه المعرفة إلى حياة عملية وواقعية مثالية أكثر من شعب مصر، فعلى الرغم مما حدث في الزاوية الحمراء فإن المسلمين والمسيحيين يتعايشون ويتعاملون ويتزاورون في الصحة والمرض, ويتحابون في كل حي في القاهرة وفي غيرها من المدن والقرى، يعلنون أسفهم لما حدث ويطلبون التحاكم إلى القانون والضرب على أيدي المذنبين وأنصار الفتنة، ومن هنا فإن إلصاق ما حدث أخيرا بنزاع بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية هو محض افتراء1". ثالثًا: كتب الأستاذ أبو الحجاج حافظ مقالا، تضمن قصة قصيرة

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في يوم الجمعة 26/ 6/ 1981.

عنوانها: "المركب.... والبلاليص!! " جاء فيه: "يجلس الفقي أمام منزل شقيقته في الساحل المطل على النيل، تتعلق عيناه بهذا المراكب التي لا ينقطع انسيابها فوق صفحة الماء الهادئ المتلألئ بشمس الصعيد الحارة الواضحة القريبة جدا من الناس، ويسرح طرفه بعيدًا بعيدًا مع تلك الموجات المتحدية القادمة من الجنوب إلى الشمال تحمل الري والنماء. وكانت المراكب تتزود بالزاد قبل أن تطلق الشراع لرحلة الشمال تحمل معها هذه الأواني التي لا ينقطع سيلها أبدًا, البلاليص فهي تارة تحمل عسلًا أسود, وتارة تحمل مشّا أبيض, وتارة ملوحة حمراء, والعسل الأسود من قصب السكر, وكانت عملية ملء هذه المراكب بهذه البلاليص تشكل مهرجانًا في المركب بطريقة رائعة وبسيطة وسط أغان لا جدال أن ألحانها قديمة قدم هذا الشط وهذا الإنسان". "وكان يحلو للفتى أن يقض كل وقته في هذا المكان يتصيد من فوق صفحة النيل نسماته المنعشة، وتتعلق عيناه بكل ما يرى وتدور في رأسه الذكريات والآمال تلو الآمال، فوالده الشيخ يذكر له أنه سافر القاهرة بحرًا على هذه المراكب ليدرس في الأزهر الشريف ويعود عالمًا من علماء الدين قبل أن تسير القطارات إلى هذه البلاد, وكثير من القصص عما رأى بابنه هذه المراكب في رحلاتهم إلى الشمال, وحديثهم عن البحر الكبير أكبر من النيل, الذي هو في نظر الفتى كبير كبير أكبر بكثير من القنوات والترع". "وكان الفتى يأمل أن تحمله إحدى هذه المراكب يومًا معها ليرى حقيقة كل ما سمع ويشاهد بنفسه ما لم تصدقه أذنه من قبل، ومرت أيامه في أقصى الصعيد وجاء يوم الرحيل لاستكمال دراسته وسط معارضة قوية تخاف على الابن الوحيد وتراث والده والمندرة والتقاليد, وبقدرة سعادة الفتى بقرار استكمال تعليمه بقدر خيبة أمله في عدم السفر على ظهر إحدى هذه المراكب فالقطارات الآن كثيرة متعددة، وتقطع المسافة إلى القاهرة في يوم واحد بدلًا من أسبوعين أو ثلاثة بالمراكب والبلاليص". "وفي القاهرة كان يحلو له أن يتوجه إلى روض الفرج حيث تصل مراكب الصعيد. وقد فوجئ بمرساة وميناء خاص لهذه المراكب، وكان

يتطلع إلى الوجوه السمراء على هذه المراكب عليه يرى "بلدياته" فيدعوهم إلى مقهى صغير في روض الفرج، ويقضي معهم ساعات يستمع فيها إلى أخبار الصعيد والساحل. وتمر الأيام والفتى يكبر ويتعلم وتتسع مداركه وهو يحاول البحث عن الحقيقة في المدينة الكبيرة وفي دراسته في كلية الحقوق واتصالاته بأبناء بلدته في القاهرة, ومنهم من كان يحلو له أن يسميهم دائمًا "بناة الحضارة" ويقول: جنت عليهم الحضارة وهم عمال التراحيل, بناة العمارات والمعاهد ودور العلم والمعرفة والثقافة, كل مبنى دليل حضارة, وهم بناة حضارة, بنوها منذ الفراعنة هناك في الأقصر والعرابة المدفونة، وبنوها الآن في القاهرة والأسكندرية والمدن الحديثة". "وتمر الأيام وتقل مراكب البلاليص وتتحول البلاليص إلى صفائح معدنية لامعة عليها كتابات وإشارات تدل على ما تحمله. ويعود الفتى إلى الساحل ويجلس مع بناة المراكب ويستمع إلى القصة, لقد عدل التجار عن استعمال البلاليص، لقد كانت البلاليص تحمل الملوحة الحمراء والعسل الأسود, ولم يعد أحد يجد لماء النيل طعمًا مقبولًا ... ربما خافوا أن تحمل تياراته هذا الطعم إلى الشمال أو إلى حيث يشرب الزائر أو السائح فلا يعود ليشرب مرة أخرى, ويرد الفتى ساخرًا: لو كانت القنبلة أصابت بلاليص العسل فقط ربما كنتم قد تركتموها, فماء النيل سيكون حلو المذاق لذيذ الطعم, أم أن ضرورة التطور وحركة الحياة هي التي أحالت ما تحمله المراكب من فخار إلى صفيح؟؟ "1.

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في يوم الخميس 9/ 7/ 1981.

الفصل الثالث: الوان من المقال في صحف اليوم

الفصل الثالث: الوان من المقال في صحف اليوم مدخل ... الفصل الثالث: ألوان من المقال في صحف اليوم تطالعنا الصحف اليومية بمقالات شتى، وخواطر متنوعة، وأفكار عديدة، وصور موحية في موضوعات مختلفة، وبأساليب متباينة لكتاب عديدين، يعرضون خلالها أفكارهم وانطباعاتهم، ويتناولون فيها أوضاع المجتمع وأحوال الناس بالتوجيه تارة، والنقد أخرى، أو يحاولون بث المثل الفاضلة والصفات الحسنة، ويعمدون في كتاباتهم إلى الوضوح، ولا سيما إذا كانوا يصورون عاطفة وطنية، أو وجدانًا دينيا. ويعنى المقال الصحفي اليوم أول ما يعنى بأخبار العالم وأهم الحوادث اليومية: داخلية أو خارجية أو رسمية أو شعبية؛ لذا كان لا بد أن ينزل الكاتب لمستوى الجمهور في الفهم والإدراك، بحيث لا يتكلف في ألفاظه فتأتي أفكاره واضحة، ومعانيه سهلة أثناء قراءتها. ولم تعد الصحف اليوم تفتتح بمقال يومي -كما كان الحال منذ مطلع هذا القرن- لكاتب مشهور أو رئيس تحرير. وإنما حل مكانه "الريبورتاج" والتعليق على الأخبار وما أشبه ذلك. وأهم ما يميز صحف اليوم اشتمالها على العمود الصحفي الذي يقوم على الخاطرة التي هي بداية الأفكار والحقائق. العمود الصحفي: أبرز ما يميز الصحف المعاصرة العمود الصحفي الذي ظهر خلال الفترة 1922-1942 موزعًا على أبواب شتى بعناوين ثابتة تتضمن سياسة وأدبًا واجتماعًا وعلومًا واقتصادًا وزراعة وصناعة ورياضة، وتساق في شكل قصة قصيرة تدور حول مسائل تشغل أفراد المجتمع كله

أو طائفة منه. ويعنى كتاب الأعمدة -في المقام الأول- بالموضوعات الإنسانية التي تحتاج إلى غزارة العواطف، والقدرة على التأمل في سلوك الناس، وتحليل هذا السلوك تحليلًا يقوم على قواعد علم النفس الحديث, ومن ثم أشبه كاتب العمود بالأديب في الأول -التأمل- والفيلسوف في الثاني -التحليل- وهو في الحالين يحتاج إلى قوة البيان وجمال الأسلوب وحلاوة التعبير والقدرة على ربط الأحاسيس وإدماج التأملات، حتى يستخرج منها مادة إنسانية تمتع العقول، وتريح المشاعر. وتغذي الوجدان. ومن هنا كانت الأعمدة ذات الموضوعات الإنسانية أقرب المواد الصحفية إلى الأدب الخالص؛ لأنها تضم القيم الفنية الثلاث: عمق التفكير وغزارة الشعور، وجمال التعبير، ولذا لزم أن يتمتع الكاتب بتجارب ذاتية ومعارف إنسانية، واطلاع واسع وثقافة عريضة، وقدرة على التأمل حتى يحقق إسعاد الآخرين. ويحتل العمود الصحفي مكانًا مرموقًا في صحفنا اليوم، ويأتي متطرفًا في أقصى الصحيفة على اليسار، أو في أعلى الصفحة الأخيرة من اليمين، وقد يحتل مكانًا واسعًا من الصحيفة. المهم في العمود الصحفي أن يكون مكانه وعنوانه وكاتبه ثابتًا, ولما كان العمود الصحفي لا يعدو أن يكون خاطرة عابرة أو فكرة طارئة أو رأيًا محددًا في مشكلة من مشكلات القراء في سطور قليلة لا استطراد فيها. لذا لزم أن نقف على العنصرين الأساسيين للعمود الصحفي وهما: الخاطرة والفكرة، ونضيف إليهما فن الصور والكاريكاتير. تلك هي الألوان التي تحمل مشاعر الكاتب وعواطفه إزاء صور الحياة ومشاكلها، ونطالعها في الصحف كل يوم.

أولا: الخاطرة

أولًا: الخاطرة مدخل ... أولا: الخاطرة هي لمحة ذهنية خاطفة لحادث عرض، تحمل مشاعر الكاتب ازاءه، وتخلو من الاسانيد، ولا تحتاج الى حجج على صدقها، ولا تتجاوز - غالبًا- عمودًا في الصحيفة. ويحتاج هذا اللون من الكتابة الصحفية إلى ذكاء الكاتب، وقوة ملاحظته، ويقظة وجدانه، ومجاراة الطابع الصحفي الذي يهتم بالأشياء القصيرة ذات الدلالة الكبيرة، ويؤثرها على الكتابة المطولة التي تتسم بالإسهاب والإفاضة. عالج هذا اللون من الكتابة المرحوم أحمد أمين، فكتب أربع عشرة خاطرة، ونشرها بمجلة "الثقافة" تباعًا 1952 تحت عنوان "مدرسة جديدة"1. ويعد -كذلك- المرحوم زكي مبارك صاحب خطرات، إذ كان يتحدث عن خاطرة، ثم يستطرد منها إلى أخرى، ثم يعود إلى ما كان بصدد الحديث عنه. والخاطرة من الألوان النثرية التي نشأت في ظل الصحافة المعاصرة، وجاءت تحت عناوين ثابتة، لا تتغير من يوم لآخر على النحو الذي سنوضحه بعد. ومن كتاب هذا اللون في الصحف المصرية اليوم: أحمد الصاوي محمد وأنيس منصور، ومحمد زكي عبد القادر، وإبراهيم الورداني، ونعمان عاشور، ومختار الوكيل، ومحسن محمد، وعبد الرحمن فهمي، وصلاح منتصر، وعبد السلام داود، وإبراهيم سعدة، وعلي شحاته، وعبد العاطي حامد، ومحمد الطنطاوي، وعواطف عبد الجليل وغيرهم من رجال الصحافة المعاصرين. وسنحاول أن تقف على الخواطر التي تضمها صحفنا اليومية الشهيرة: الأهرام, الأخبار, الجمهورية.

_ 1 راجع: فيض الخاطر جـ9 ص249-276، الطبعة الأولى 1955.

في الأهرام

في الأهرام: تطالعنا صحيفة "الأهرام" بالعناوين الثابتة كل يوم: صندوق الدنيا لأحمد بهجت، ومجرد رأي لصلاح منتصر، ورأي الأهرام، وموقف لأنيس منصور. تحت هذه العناوين يكتب الكتاب ما يدور بخلدهم، أو يقع حولهم من أمور الدين والسياسة والاجتماع والأدب، وها هي نماذج من هذه العناوين: أ- صندور الدنيا: يحرره الأستاذ أحمد بهجت، ويتناول فيه أشياء عديدة، تحدث عن البنوك الإسلامية فقال: "نشرت الصحف صورة للمؤسسين في المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، وتفاءل الناس خيرًا بميلاد بنك إسلامي جديد, وتأكد ذلك بتقديم طلب لهيئة الاستثمار لإصدار القرار القاضي بإنشاء البنك, ثم اختلفت أقلية من المؤسسين نسبتهم 4.6% أي: أقل من 5% حول انتخاب مجلس الإدارة, قدمت شكوى لهيئة الاستثمار كان المفروض ألا يؤثر هذا الخلاف في الإجراءات القانونية لإنشاء البنك، لكن الإدارة القانونية لهيئة الاستثمار اعتبرت أن هذا العائق يحول دون المضي في إمضاء إجراءات الإنشاء، وللآن لم يصدر القرار بإنشاء البنك". "وتصور أن واجب الدولة هو التدخل لحل الخلافات التي تنشأ بين مؤسسي البنوك الإسلامية، وتشجيع هذه البنوك على الميلاد والعمل، لا الوقوف منها موقف المتفرج، ولا ريب أن المساعدة في إنشاء البنوك الإسلامية هو الطريق الجاد لإنشاء المجتمع الإسلامي والمساهمة في تحقيق الشريعة الإسلامية, والمعروف أن الشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ بمعنى أنها ليست أجزاء يمكن الأخذ ببعضها أو طرح البعض الآخر، وإنما هو جوهر حياة عام يبدأ من الاقتصاد، وينتهي بالسلوك اليومي في البيع والشراء والعمل والحب والزواج". "ولكن القاعدة العريضة لهذا كله هي الاقتصاد. والأصل أن الإسلام يقوم على نظام ينكر الربا ولا يتعامل به, ومن ثم فإن المساعدة في إنشاء البنوك الإسلامية يعتبر إسهامًا حقيقيا في تحقيق الشريعة، ولو لاحظنا الاتجاه العام سواء على المستوى الشعبي أو المستوى الرسمي فسوف ندرك أن هناك اتجاهًا لتطبيق الشريعة الإسلامية, إن المادة الثانية من الدستور، وهي المادة التي ستعرض على مجلس الشعب لتعديلها تقضي بأن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" وكان الأصل أنها مصدر من مصادر لا المصدر الرئيسي؛ لتشجيع قيام البنوك الإسلامية

إذن ولتتدخل لحل الخلافات التي تنشأ بين موسيسها، وأخيرًا تريد من الإدارة القانونية لهيئة الاستثمار أن تتعاون من أجل هذا الهدف العام"1. ب- مجرد رأي: يتابع كتابة خواطر هذا الباب الأستاذ صلاح منتصر، ويتناول أشياء في مناسبات مختلفة، فقد تحدث عن لعبة السفارات فقال: "الذين شاهدوا سفارة السويد في قلب القاهرة. قالوا إنها ليست سفارة ولكنها قلعة تعمل أبوابها الحديدية أوتوماتيكيا، ويجتاز الداخل إليها نقط مراجعة عديدة, ولم تكن القاهرة هي المقصودة ببناء هذه القلعة الدبلوماسية، ولكنه قرار للحكومة السويدية اتخذ منذ سنوات مضت يقضي بأن تقام كل سفارة جديدة للسويد في أي بلد بصورة تمكن هذه السفارة من مواجهة احتمال هجوم عليها, وتصادف أن كانت سفارتهم في القاهرة هي أول سفارة ينطبق عليها القرار، ولذلك تم بناؤها بهذا الشكل". "ويبدو أن السويد كانت على حق في تفكيرها بالنسبة للسفارات, ففي السنتين الأخيرتين تحولت السفارات في عدد كبير من دول العالم إلى أسهل مكان لممارسة الإرهاب, وبعد أن كانت هذه السفارات تعيش في أذهان البشر كدور العبادة المحرم انتهاكها أصبح من السهل أن يقتحم أي مسلح أي سفارة ويشد انتباه العالم إليه، ويعلن مطالبه ويفرض بالبندقية التي يحملها لغة جديدة من عالم معروف أنه وصل إلى قمة النظم في العدالة وتطبيق القوانين وحماية المجتمع من الخارجين على هذا القانون". "وقبل موضة السفارات الجديدة كانت الموضة من قبل "خطف الطائرات" وبعد أن كان لا يخطف الطائرات إلا المحترفون، دخل الهواة اللعبة ووصل الهزار السخيف إلى استخدام بعض المختطفين بنادق اللعب لتخويف الطيارين وإرغامهم على تغيير مسارهم. وقد دفع ملايين الركاب الأبرياء الذين يستقلون الطائرات ثمن هذه العمليات، وأصبحت إجراءات

_ 1 راجع: الأهرام الصادر في 21/ 4/ 1980.

التفتيش في المطارات عذابًا لهم, وأصبح الراكب في نظر المطار "مختطفا" إلى أن يثبت العكس. ومع زيادة حوادث السفارات الجديدة أتوقع أن تتحول السفارات إلى قلاع وموظفوها إلى فتوات وأن يدفع زوارها ثمنًا جديدًا من العذاب والتفتيش والمراجعة وسوء المعاملة, ففي مجتمع حائر لا يعرف كيف يحمي نفسه, يرتكب المجرمون الجرائم, ويدفع الأبرياء الثمن"1. جـ- رأي الأهرام: عنوان ثابت في الأهرام، يضم أشتاتًا مختلفة في مناسبات عديدة، ولا ينسب لكاتب معين، فقد تناول قضية الرهائن الأمريكيين في إيران، فجاء فيه ما يلي: "الخطأ لا يؤدي إلا إلى خطأ آخر, ولا شك أن القيادات الإيرانية قد ارتكبت خطأ جسيمًا ضد المجتمع الدولي وقوانينه وقواميسه الدبلوماسية عندما باركت ذلك الاعتداء الذي قامت به مجموعة من الطلاب على السفارة الأمريكية, كان تصرف تلك المجموعة الطلابية منذ البداية خطأ كبير, وكان أبسط مسئوليات القيادات الإيرانية هو تصحيح هذا الخطأ فورًا، واستنكار هذا العمل والتصدي له. لكن هذا الخطأ من جانب الطلاب قابله خطأ أكبر من جانب القيادة الإيرانية عندما خرجت لا تستنكر هذا العمل، وإنما لتباركه وتؤيده وتربطه بقضية إنسانية هي قضية المطالبة بالشاة السابق الذي ذهب إلى أمريكا للعلاج من مرض حقيقي ثبت بالقطع أنه مرض خطير". "وتتابعت الأخطاء بعد ذلك من جانب السلطة الإيرانية المتنازعة، وبدا واضحًا أنه لم يكن هناك مسئول يملك اتخاذ القرار في إيران وهو الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى المصادمات العنيفة التي جرت بعد ذلك في الشارع الإيراني والجامعة الإيرانية, وكان من الطبيعي بل ومن الضروري أن

_ 1 راجع: الأهرام الصادر في 5/ 5/ 1980.

تدافع أمريكا عن سياسيتها المعتدى عليها في سفارتها ودبلوماسيها المقبوض عليهم، ومن ثم كان التفكير في تلك العملية التي لم يكتب لها التنفيذ لأسباب لا تزال غامضة، وإن كان من المؤكد أن الإيرانيين أنفسهم لم يكن لهم دخل فيها, وإذا كان العالم يواجه اليوم قضية هذا العمل العسكري، فمن الطبيعي أن يبدأ بالبحث عن الأساس، ويسأل: من الذي بدأ الخطأ وتتابعت على يديه الأخطاء, هذا هو جوهر القضية"1. د- مواقف: عمود يحرره الأستاذ أنيس منصور في الصفحة الأخيرة من صحيفة الأهرام يتناول فيه مواضع عديدة وأحداثًا شتى وانطباعات مختلفة، وقد تحدث فيه عن طيبة المصريين فقال: "كثيرًا ما أشعر أننا نحن المصريين "عبطاء" أي، طيبون أكثر من اللازم، وليس لذلك علاج، فمن مظاهر عبط المصريين التسامح مع من شتمهم وأهانهم، وليس أسهل عليك من أن تعانق من أهانك -أنت الذي تعانقه- وتقول: صافية كاللبن. مع أن المفروض هو أن تنتظر من أهانك حتى يعتذر لك ويطلب منك الصفح عنه، ولكنا نبادر بالصفح والسماح عملًا بالمثل الشعبي الذي يقول: أقصر الش, الباب الذي يجيء منه الريح أقفله لتستريح, ويا بخت من بات مظلومًا لا ظالمًا, العفو من شيم الكرام, ويا بخت من قدر وعفا, مثلًا في مصر الآن فنانون عرب, انفتح لهم التليفزيون والحفلات العامة، ومن المؤكد أنهم قد أهانوا مصر في مناسبات معروفة بالصوت والصورة، وينسى المصريون ذلك لا لأن المصريين ضعاف الذاكرة، ولكن لأنهم أكبر من هؤلاء الانتهازيين من النساء والرجال؛ ولأن وجودهم في مصر يكفي عقابًا لهم ولهن, فلو كانت بلادهم كريمة عليهم لعاشوا فيها، ولكنهم ضاقوا ببلادهم وضاقت بهم، واتسعت لهم صدور المصريين وموائدهم ومحلاتهم". "أما الشيء المدهش حقا فهو أن يتصور هؤلاء السفلة أن وجودهم

_ 1 راجع: الأهرام الصادر في 27/ 9/ 1980.

هنا ضعف مصري؛ لأنهم ضرورة فنية, ولأنه لو كان في مصر من هو أحسن منهم ما سمحت لهم بالبقاء والتعالي على أمثالهم من المصريين, ولكنهم لا يعرفون الحقيقة السياسية والأخلاقية, نحن بلد اللاجئين السياسيين من كل لون ودين ولأسباب إنسانية من ناحية ولأسباب سياسية أيضًا، فإذا كان قد لجأ الشاه إلينا، فمن الممكن أن نستقبل الخميني والقذافي وحافظ الأسد والملك حسين ولنفس السبب لا تسامحا ولا عفوًا، وإنما رحمة بالضعيف الذي هو "عزيز قوم ذل" ولن يقول أحد من المصريين -أدبا وحياء وأصالة- أيها الشاتمون لمصر عودًا إلى بلادكم"1. تلك نماذج من الخواطر التي جاءت بصحيفة الأهرام تحت عناوين ثابتة، لكتاب عديدين، وتناولت مختلف أسباب الحياة وقضايا المجتمع وأحداث العالم، فقد دعا أحمد بهجت في صندوق الدنيا إلى إنشاء البنوك الإسلامية؛ لأن الإسلام ينكر نظام الربا والتعامل به, ووصف صلاح منتصر في مجرد رأي الأبوب الحديدية الضخمة بسفارة السويد بالقاهرة حتى أصبحت قلعة حصينة بعد أن أصبحت السفارات في معظم دول العالم مكانًا لممارسة الإرهاب, وتابع محرر رأي الأهرام قضية الرهائن الأمريكيين بإيران، والأخطاء التي ارتكبتها القيادة الإيرانية ضد المجتمع الدولي وقوانينه الدبلوماسية، لمباركتها اعتداء بعض الطلاب على السفارة الأمريكية بإيران, وتحدث أنيس منصور في مواقف عن طيبة المصريين وتسامحهم حتى لمن شتمهم وأهانهم، مما جعل مصر بلد اللاجئين السياسيين من كل لون ودين.

_ 1 راجع: الأهرام الصادر في 28/ 4/ 1980.

في الأخبار وأخبار اليوم: تطالعنا صحيفة الأخبار كل يوم بالخواطر ذات العناوين الثابتة التالية: كلمة اليوم, ما قل ودل للأستاذ أحمد الصاوي محمد، ونحو النور لمحمد زكي عبد القادر، وعلامة استفهام لعبد السلام داود. وتزيد أخبار اليوم التي تصدر صبيحة كل يوم سبت الخواطر التالية تحت العناوين الثابتة الآتية: آخر عمود لإبراهيم سعدة, العزف على الهواء لعلي شحاته، مواجهة لعبد العاطي حامد، رأي بالعربي لمحمد الطنطاوي، جولة الفكر لنعمان عاشور، نحو الغد لحسين فهمي. وهي خواطر تدور حول الأحداث التي تقع في المجتمع سواء كانت سياسية أو اجتماعية، أو هي انطباعات ذاتية حول موقف من المواقف، وها هي نماذج منها. أ- كلمة اليوم: لا يُنسب هذا العنوان الثابت لقائل معروف، ويتناول الأحداث التي تشهدها الساحة العربية أو ترتبط بها، ويضم موضوعات مختلفة. وقد جاء فيه عن المراحلة الجديدة بعد خطاب الرئيس أنور السادات في مجلس الشعب يوم الأربعاء 14/ 5/ 1980 ما يلي: "ليس من الصواب أن نصف العمل الذي نقوم به الآن في نطاق التحرك الوطني بأنه تغيير، فإننا لم نغير مسيرتنا الديمقراطية ولم نتحول عنها أبدًا، وليس القصد في تنظيم أجهزة الحكم وتوزيع مسئوليات العمل بأسلوب جديد هو تغيير أشخاص بأشخاص، وإنما نحن بصدد مرحلة جديدة تمضي فيها مسيرتنا الديمقراطية وعملنا للبناء الوطني إلى الأمام, وهكذا بدأنا حياتنا في العمل الوطني من الصفر أو ما تحت الصفر، وكان لا بد أن نمضي في هذا البناء بأسلوب التطور، وأن نقطع طريق البناء على مراحل، كل مرحلة لها ما يلائمها من أسلوب العمل وتحديد الأهداف وتركيز الاتجاه، وعلى هذا الأساس قطعنا طريقنا مرحلة بعد مرحلة، وكل مرحلة حققت أهدافها وأغراضها، وبهذا أخذت مسيرتنا طريقها إلى الأمام". "فالمرحلة التي نعمل لمواجهتا اليوم بداية من فراغ، ولا يمكن أن نقول إننا فشلنا، ونريد أن نصحح هذا الفشل بتنظيم جديد في شكله وفي أشخاصه، وإنما هو عمل متصل متطور، وبهذا التطور ننتقل إلى مرحلة تتسع فيها أبعاد العمل، وتزيد فيها المسئوليات والإيجابيات، وتلك هي سنة التطور، فإذا كنا نستقبل مرحلتنا الجديدة بكل ما فينا من عزيمة وثقة وإيمان، فنحن لا ننسى أبدًا تلك المرحلة التي قطعناها من قبل، ولن ننسى ما قامت به وزارة الدكتور مصطفى خليل من عمل بناء، وما بذلت من جهد

وجدان العالم الإسلامي، وما تلك المعاهد الدينية التي انتشرت في عهده المبارك إلا أثارًا لجهاده العظيم, والتي تزخر اليوم بالآف التلاميذ المؤمنين بالحياة الأخلاقية والتربية القرآنية". "رحم الله الإمام كان مثالًا للجهاد والنشاط، فلم يثنه كبر السن عن نظم الدعوة في المحافظات وفي خارج البلاد وافتتاح بيوت الله في كل مكان, والتشجيع على تشييدها والحث على عمارتها، وكان داعيًا مخلصًا يدعو إلى الله على بصيرة ويحبب في التوبة النصوح، والعودة إلى حياة الإيمان بأسلوبه الروحي الجميل، فتحمل هذه النسمات العاطرة ذلك الأسلوب الروحي إلى كل القلوب التي هي في حاجة ماسة إلى مثل هذا الغذاء الروحي {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1. جـ- نحو النور: يحرره الأستاذ محمد زكي عبد القادر، وهو كغيره يتناول فيه أشياء شتى من السياسة والدين والاجتماع والمشاكل التي تعاني مصر والأمم منها، فقد كتب عن مشكلة "العقول المهاجرة" فقال: "تستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من مهارات ما يقرب من نصف المغتربين من أبناء العالم الثالث، ويقدر عددهم بنحو نصف مليون شخص، كانوا إضافة لثروة أمريكا من العقول المهاجرة، وفي الوقت نفسه أنشئوا ما أطلق عليه مشكلة "استنزاف العقول" وهي مشكلة تعاني منها الأمم المتقدمة والأمم النامية، إذ لا تقتصر هجرة هذه العقول على الأمم النامية فحسب، ولكنها تتناول أيضًا الأمم المتقدمة". "وقد بدأت هجرة العقول في أعقاب الحرب العالمية الأولى بأعداد قليلة لم تكن تشكل ظاهرة ذات أثر إلا أنها أخذت تنمو وتتزايد حتى أصبحت في الخمسينات والستينات من هذا القرن خطرًا حقيقيا لافتًا للنظر. وكانت منطقة الجذب الكبرى لهذه العقول هي الولايات المتحدة الأمريكية

_ 1 راجع الأخبار الصادرة في 11/ 5/ 1980.

بما أفسحت من صدرها، وطوعت من قوانينها في الهجرة والإقامة واكتساب الجنسية، فضلًا عن تراثها الذي ساعد على دفع مرتبات ومزايا مغرية مع ارتفاع مستوى المعيشة ومستوى الكسب وانفتاح الأمل في مستقبل باهر، ليس من الناحية المادية فحسب، ولكن أيضًا من الناحية العلمية والفنية بتوافر الأجهزة العلمية والتكنولوجية، وتوافر الحرية وانطلاقها في البحث وبلوغ أية نتائج مهما تكن, وشعرت الدول والشعوب نامية ومتقدمة، بأن هذا النزوح المستمر للعقول سيجردها من بعض أسباب التقدم والتفوق، بينما يتيح للدول التي تنزع إليها هذه العقول مزيدًا من التقديم والتفوق". "ومن هنا كان تفكير بعضها وسعيها إلى الحد من هجرة هذه العقول وأخذت تسعة من البلدان النامية تسعى إلى مقاومة نزوح الأدمغة بدعوى ذوي الكتابة من أبنائها المغتربين من علماء ومهندسين ومتخصصين في الفروع الأخرى إلى العودة إلى أوطانهم لأداء مهام استشارية قصيرة الأجل وهذه البلاد هي تركيا وباكستان ومصر والهند واليونان وسريلانكا والصين والفلبين. وهناك برنامج يعرف اختصارًا باسم "توكتن" والكلمة مؤلفة من الأحرف الأولى لعبارة معناها "نقل المعرفة عن طريق المواطنين المغتربين" وهذا البرنامج أقل كلفة من الناحية المالية، وأكثر إغراء للمغتربين أن يعودوا إلى أوطانهم الأصلية لأداء خدمات وخبرات يسعدهم أن يؤدوها، ولكن تظل المشكلة الأساسية بغير حل جذري"1. د- علامة استفهام: الخواطر التي تأتي تحت هذا العنوان يحررها عبد السلام داود، يضمنها ملاحظاته أو انطباعاته تجاه موقف أو حدث أو مشاركة في رأي وغير ذلك يقع تحت عينه، ويتأثر به. وقد تناول "موقف المواطن من قصور أجهزة الدولة" فقال: "المواطن الذي يشكو من قصور أو تعقيد مس مصالحه بأحد الأجهزة

_ 1 راجع: الأخبار الصادرة في 26/ 4/ 1980.

الحكومية، لا يختصم السلطة التنفيذية بأسرها، ولا يقصد اتهام الجهة المسئولة بصفة عامة، ولكنه عادة يوجه اتهامًا محددًا لموقف معين، وهو إذ يتظلم إنما يتوقع أن تنظر الرئاسة الأعلى التي تظلمه نظرة حيادية, فلا يدفعها شعورها بالمسئولية إلى اتخاذ موقف الدفاع تلقائيا". "أقول قولي هذا بمناسبة الرد الذي تلقيته من الدكتور منير شريف وكيل وزارة الصحة بشأن ما نشر في هذا المكان من اعتداء ممرضتين بمستشقى بولاق العام على مواطنة إثر شكواها من فقد سوارها الذهبي في حجرة العمليات، وطردها من المستشفى عقب إجراء العملية لها مباشرة". "يقول رد وكيل الوزارة أنه كان ينبغي على المواطنة أن تضع حليها في الأمانات، ويستدل على عدم صحة ادعائها بأن إحدى قريباتها كانت ترافقها, ويقول إن الجراحة التي أجريت لها عملية بسيطة لا تتطلب إقامتها في المستشفى أكثر من بضع ساعات, وأنها لم تخرج إلا بعد التأكد من أن حالتها الصحية تسمح بذلك، والحق أني لم أسترح لهذا الرد -الذي وصلني بعد 48 ساعة فقط من نشر الشكوى- إذ بدا لي أنه لا يحمل دفاع المستشفى فحسب، بل يتضمن دفاعًا -تلقائيا- من الوزارة أيضًا. "ولا أحسب أحدًا يستريح للقول بأنه ينبغي على المريض -حتى وهو في طريقه لغرفة العمليات- أن يضع ما يحمله في الأمانات، وإلا فهو الملوم إذا لفقده, فليس هذا مبررًا مقنعًا لضياع ما يحمله المريض، كما أنه ليس مقنعًا القول بأن مرافقًا كان معها، إذ يعلم كل إنسان أن المرافق لا يدخل غرفة العمليات! لماذا -بحق السماء- يشكو المريض طبيبه بدلًا من أن يشكره إلا إذا كان هناك ما يستوجب الشكوى والاتهام"1.

_ 1 راجع: الأخبار الصادرة في 13/ 5/ 1980.

هـ- آخر عمود: يحرره الكاتب إبراهيم سعدة في "أخبار اليوم" ويضمنه ملاحظاته على موقف أو شخص أو حدث أو رحلة أو اتجاه, فقد كتب عن مغرور يعمل رئيسًا لمجلس إدارة أحد البنوك في القاهرة فقال: "المغرور إياه الذي يراس مجلس إدارة أحد البنوك في القاهرة توهم أنه نجح في إسكات ما يثار حوله من انحرافات ارتكبها، وهدد بها الاقتصاد المصري، فهذا المغرور الذي يقيم بيننا، ويحمل جنسية أخرى -دول الخليج- بلغت به التفاهة فيعلن أنه نجح في استصدار قرار يمنعني من مواصلة الكتابة عنه وعن مهازله وعن انحرافاته! وكنت أتصور أن هذا المغرور قد عاد إليه صوابه بعد أن كتبت عنه في هذا المكان ثلاث مرات متواصلة، ولكن اتضح أنه لا يزال واهما مغرورًا". "فلم يحدث أن اتصل بي أي مسئول, وطلب التوقف من كشف مهازل هذا المغرور الكبير, فلدى جهاتنا العليا مهام أكبر من إضاعة ثانية واحدة للتفكير في حماية هذا المخلوق الذي يفكر بعقلية بدائية على الرغم من الملابس الأوروبية التي يرتديها، والرحلات العديدة التي طاف بها حول الكرة الأرضية على حساب البنك الذي شاء سوء حظ المتعاملين معه أن يرأس مجلس إدارته". "وفي نهاية مقالي الثالث عن هذا المغرور توقفت أربع أسابيع عن الكتابة في هذا الموضوع, وكنت أعتقد أن تحقيقًا واسعًا قد بدأ حول المخالفات والانحرافات التي ارتكبها هذا المغرور ويهدد بها سلامة البنك الذي تساهم مصر بجانب كبير في رأسماله, ولكن صاحبنا تصور أنني توقفت نتيجة لأمر قادم من الجهات العليا, ولا يهمني ما يقوله المغرور لمن حوله, كل ما يهمني -اليوم- هو ماذا فعل الدكتور حامد السايح وزير الاقتصاد المصري في تقرير الرقابة الإدارية الذي يتضمن عشرات المخالفات التي ارتكبها رئيس مجلس إدارة البنك عن جهل مرة، وعن عمد واستهتار بكل القيم مرات ومرات, كنت أتمنى لو أن الدكتور حامد السايح اهتم بما كتبته عن هذا الموضوع الهام ثلاث مرات".

"إن الدكتور على لطفي -وزير المالية- يهتم بكل كلمة تنشر في الصحف، ويرى أنها تتعلق بأي موظف أو مصلحة تحت إشرافه وسلطة وزارة المالية, وهو عمل مشكور من وزير المالية, أكسبه احترام وتقدير الصحافة, وكنت أتصور أن الدكتو حامد السايح سوف يأمر بالتحقيق في الموضوع وأنا أعلم أن صورة من تقرير الرقابة الإدارية قد رفع إلى مكتبه والمفروض أن يأمر وزير الاقتصاد بالرد عليها والتحقيق فيها في حالة ثبوت وقوعها". "هذا ما كنت أنتظره من الرجل المسئول عن اقتصاد بلادنا, إن هذا المنطق غير مقبول أما المعقول فهو أن تتصل وزارة الاقتصاد المصرية بالمسئولين في البلد العربي، وتشرح لهم ما فعله رئيس البنك من مخالفات وانحرافات خطيرة، وتقترح عليهم سحب هذا الرجل وترشيح آخر بدلًا منه هذا ما أنتظره من وزارة الاقتصاد, وحتى لا يكون الهدف مما نكتبه هو مجرد التسلية؛ لأن القضية قضية كرامة مصر التي توهم هذا المغرور أنه يستطيع النيل منها عن طريق ما توهمه أنه اتصالات وصداقات"1. ل- العزف على الهواء: يحرص على الكتابة فيه "علي شحاته" في أخبار اليوم، ويتناول فيه ملاحظاته من مواقف وانطباعات سياسية أو اجتماعية، ترتبط بالمجتمع المصري أو العالم العربي أو العالم الخارجي يبرز خلالها خواطره عنها في سهولة ويسر, فقد كتب عن "مظاهرات الإسرائيليين ضد بيجن رئيس الوزارة الإسرائيلية" فقال: "الإسرائيليون غاضبون، إنهم يتظاهرون في عز النهار، ويصرخون بأعلى أصواتهم: لا يا بيجين! إنهم يحتجون على سياسة حكومتهم، ويعلنون رفضهم للاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزة وإبعاد عمد وقضاة الضفة، إنهم يتحدون حكومتهم ورجال البوليس الذي يقبض على عشرات

_ 1 راجع أخبار اليوم الصادرة في 10/ 5/ 1980.

منهم، وتحرك الشارع الإسرائيل الغاضب ضد حكومته ليس جديدًا. ولقد ارتفعت أصوات الاستنكار بالآلاف وعشرات الآلاف -ضد سياسة بيجن- منذ أن تحركت مصر تجاه السلام الشامل, ولا ينس أحد مواقف "حركة السلام الآن" ولا أصوات المعارضة القوية داخل إسرائيل -في الشارع وفي المؤسسات وفي البرلمان- لاستمرار الاحتلال للأرض العربية وبناء المستوطنات". "لقد ضاق الآلاف في إسرائيل من مواقف حكومتهم المترددة التي تعرقل عملية السلام. وهؤلاء الإسرائيليون الذين تطاردهم قوى الأمن، وتعتقل الكثيرين منهم يعكسون النبض الجديد الذي يسري داخل إسرائيل وخارجها تجاه أول فرصة حقيقية تلوح بعد سنوات الحرب والقطيعة والدمار". "وإذا كان بيجين وجماعته يحاولون أن يصموا أذانهم ويغمضوا عيونهم عن الحق العربي, أفلا يسمعون الأصوات القادمة من عندهم، المتصاعدة من مدنهم وقراهم, الأصوات التي ترى -كما يرى العالم- أن فرصة السلام قد لاحت, ولا يجب أن تعفيها نكسة, وفي نفس الوقت الذي كان الشارع الإسرائيلي يموج فيه بالغضب, ورجال الأمن يطاردون مواطنيهم لإسكات أصواتهم المعارضة, كان الوفد المصري المفاوض في "هرتزيليا" يصطدم بالمواقف السياسية المتعنة, كان يطلب موقفًا إسرائيليا واضحًا محددًا بالنسبة لموضوع الأمن وتحديد سلطة الحكم الذاتي, ولم يجد الرد المقنع؛ لأن "الجماعة" ما زالوا يناورون ويفكرون بأسلوب المذعور، ويكررون مطالبهم المرفوضة تمامًا بأن "يبقى الأمن الداخلي للفلسطينيين في قبضة السلطات الإسرائيلية، وأن يكون دور قوة البوليس المحامي الفلسطيني محددًا للغاية". "وعاد الوفد المصري إلى القاهرة دون أن يعتقد اجتماعًا رسميا واحدًا طول أسبوع كامل أمضاه هناك، ورحل الوفد الأمريكي المشارك في مفاوضات السلام, ولكن بقيت الأصوات المعارضة داخل إسرائيل تقوى

وتشتد؛ لأنها أصوات حق تبزع كخيوط الضوء، وتتسلل وسط جحافل ظلام الواقع المرفوض"1. م- مواجهة: يتولى كتابة خواطر هذا العمود الصحفي في "أخبار اليوم" الصحفي عبد العاطي حامد، يتناول فيه مظاهر الاستهتار، ويستقصى فيه أسباب الانحراف في أي مرفق من مرافق الدولة أو خروج عن المألوف, وقد تحدث عن ظاهرة تعطل التليفونات في أنحاء بلاد الجمهورية فقال: "اتصل بي أحد الزملاء وقال لي: "إن تليفوننا في المنزل- وهو يتبع منطقة الزمالك -معطل منذ عام، ولقد شكوت لكل المسئولين ومع ذلك لم تفلح جهودي، وأن ألجأ إليك اليوم؛ لأن والدتي مريضة بالسرطان في الدم، وتحتاج إلى نقل دم مستمر، ووجود التليفون ضرورة هامة, واتصلت بالمهندس علي فهمي الدغستاني وزير النقل والمواصلات فقال: إن الوزارة وزارة تتعامل مع الجمهور, وأنا أومن دائمًا بأن الجمهور على حق ومعذور, ورغم أنني أعلم أن كبار المهندسين والموظفين يعملون في مكاتبهم حتى الساعة الواحدة من صباح كل يوم. إلا أنني في نفس الوقت أطالب بالمعاملة الكريمة، ولا بد أن نسارع بتصليح الأعمال مهما كانت وخصوصًا في الحالات الإنسانية, ورغم الأعطال الموجودة فالهيئة والتليفونات ستتحسن كثيرًا. ونحن نقوم حاليًا بتدعيم كل الشبكات وإصلاحها, ولا يمكن أن يتم إصلاح التليفونات في يوم وليلة, ولكن أنا معك لا بد أن تكون المعاملة حسنة وخصوصًا أننا جميعًا نكمل بعضنا, الصحافة والإعلام والتليفونات والمواصلات وغيرها, وأقول إن مكتبي مستعد لتلقي شكاوي المشتركين, فنحن جميعًا في خدمة الجمهور. إن كلام الوزير أكد لي حكمة وبعد نظر أجدادنا, كذلك فلسفة وفطنة ناس أيام زمان في طريقة حل المشاكل، فقد كانوا يقولون: إذا أردت حل مشكلة أو إنجاز شيء فكلم الوزير ولا تكلم الخفير"2.

_ 1 راجع: أخبار اليوم الصادرة في 10/ 5/ 1980. 2 راجع: أخبار اليوم الصادرة في 10/ 5/ 1980.

ن- رأي بالعربي: يحرره بأخبار اليوم الكاتب محمد الطنطاوي، ويعالج قضايا تهم المجتمع المصري كأن يلفت النظر إلى أمر خطير أو شيء جليل، وقد كتب عن "سرقة الآثار المصرية" فقال: "آثارنا تسرق كنوزنا الوطنية تدمرها أيد أثمة, هل المسئول هو هيئة الآثار؟ هل حماية الآثار من السرقة هي مسئولية بعض الخفراء الذين يتبعون هيئة الآثار؟ هل هي مسئولية شرطة السياحة؟ أم أن المسئولية تقع على عاتق رجال الشرطة العاديين؟ أو أنها مسئولية هذه الأجهزة كلها. الأمر الثابت أنه على رغم تعدد الجهات التي يمكن أن تكون مسئولة عن حماية كنوزنا الوطنية، فإن عمليات نهب هذه الآثار مستمرة! آخر ما قرأناه من هذه الحوادث هو ما حدث في مقبرة رئيس شرطة مدينة طيبة القديمة، لقد قام اللصوص بسرقة لوحتين من مبقرة "قب آمون" رئيس الشرطة منذ أكثر من ثلاث آلاف سنة, وكأنهم يتحدون أحفادهم من رجال الشرطة الحاليين, سرقة اللوحات تستدعي عمليات تقطيع دقيقة تتم داخل جدران المقبرة. اللص أو اللصوص الذين يقومون بهذه العمليات لا بد أن يكون وراءهم عقل مدبر أو عصابة دولية تضع عيونها على القطع الأثرية التي تريد سرقتها ثم تخطط وتنفذ". "لقد عانت مصر قديمًا من لصوص الآثار الذين نهبوا الكثير من تراثنا القومي، وعندما بدأت آثارنا تنتقل إلى ملكية أبناء مصر بعد حصول مصر على استقلالها، وجدنا أن كثيرًا منها قد تم تهريبه إلى خارج البلاد، وليس مجهولًا أن في متاحف العالم أجنحة ضخمة تضم تحفًا وآثارًا مصرية قديمة بعضها لا نظير له في أرض مصر الآن. وأشهر مثال على ذلك رأس الملكة نفرتيتي الموجود في متحف برلين, ولكن كيف يمكن أن نوقف هذا النزيف؟ الحل يكمن في إنشاء قوة شرطة خاصة لحماية الآثار, قوة تستخدم أحدث أجهزة الرقابة, علينا أن تزود كل مقبرة من مقابرنا بأجهزوة الإنذار الإلكترونية الحديثة, علينا أن ندخل نصوصًا في قانون العقوبات تشدد من عقوبة سرقة الآثار بحيث تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. فليس من

المعقول أن تتساوى عقوبة من يسرق تراث أمة وكنوزها الوطنية على عقوبة "حرامي الحلة"1. ط- جولة الفكر: يتولى تحريرها الكاتب الشهير نعمان عاشور في أخبار اليوم, يتناول قضية أدبية أو شخصية تاريخية، أو يشير إلى ندوة أدبية أو علمية وأثرها في مجال الفكر والثقافة والأدب، وقد تحدث عن "صراع الأجيال الأدبية" فقال: "كتبت من أسابيع أرفض ما يقال عن صراع الأجيال الأدبية ومعركة القديم والجديد, إن الأدب والفن نتاج فردي ذاتي يقوم على التمايز والتكامل والتفرد، وبالتالي فهو رغم وجود مجموعات متقاربة في السن من الأجيال الأدبية والفنية التي قد تظهر مع بعضها في جيل واحد، ويطغى على وجودهم اتجاه واحد, رغم ذلك فلا وجود حقيقي لما يسمى الصراع بينهم وبين الجيل الآخر الذي قد يتلوهم؛ لأن طبيعة وخاصية الإنتاج الأدبي والفن تختلف عن طبيعة أي إنتاج بشري آخر يخضع لما استطعنا أن نسميه بالتطور أو ما يعني الإضافة والاستكمال كما هو الشأن في منجزات العلم التي يعتبر تأليفها إضافة أو استكمالًا لما سبقه". "وهذا الكلام لم يعجب أكثر من قارئ، فانهالت الردود المتحدية وكلها من شبان يتوجون خطاباتهم بإمضاء الجيل الجديد, وتتلخص ردودهم جميعًا في دفع واحد أساسه أنهم كجيل جديد يتعرضون لصراع أو بالأحرى مقاومة متصلة من جانب الجيل القديم الذي يحاول سيطرته على الحياة الأدبية والفنية، ويحول بينهم وبين الظهور, والقضية على حقيقتها ليست قضية نشر وظهور الإنتاج لجيل بأسرة، وإنما تنحصر المشكلة فيما ينتجه بعض الأدباء والفنانين الجدد، ولا يجد له صداه المرجو في الحياة الأدبية التي تنطبق على كلا الجيلين معًا: القديم والجديد". "ولعل أهمها وأبرزها هبوط المستوى الثقافي أمام الحياة الأدبية والفنية التي لم تعد تروج فيها إلا الأعمال التي تستند إلى وجود رأي عام

_ 1 راجع: أخبار اليوم الصادرة في 26/ 4/ 1980.

مثقف, ولهذا تتهاوى كافة مزاعم الصراع بين القديم والجديد، والجيل المسيطر والجيل الوليد الذي ينشد الظهور أمام هذا الطود الشامخ الذي يقف في وجه الإنتاج الأدبي والفني الحقيقي الجدير بالنشر من جانب كل المبدعين من أي جيل ومن كل لون من ألوان الأدب والفن". "من هنا نادينا بحتمية وضرورة الالتمام بين مختلف الأجيال؛ لأنها في الحياة الثقافية والعمل على رفع المستوى الثقافي العام الذي يكفل وجود حياة أدبية تتيح كافة الفرص والإمكانيات أمام الجيل الجديد قبل القديم لنشر إنتاجه, إن هذا هو ما يطمس القيمة الحقيقية للأعمال الأدبية والفنية، وبالتالي يفرض على الجيل الجديد قبل القديم أن يظل إنتاجه خابيًا ضامرًا منكورًا ومستعصيًا على النشر والظهور. ودليلنا ماثل شاخص في عشرات الكتب والأقلام والأشعار والمسرحيات والألحان والأغنيات التي تمتهن عقولنا، وتضيء أبصارنا وتؤذي أسماعنا، وتهبط بأذواقنا إلى الحضيض مع كل نهار جديد"1. و نحو الغد: يوالي الكاتب حسين فهمي تسجيل خواطره تحت هذا العنوان في صحيفة أخبار اليوم، يدور فيه حول ظاهرة يشكو المواطنون منها أو تمس مصالح الجماهير وغير ذلك مما تحمله ظروف الحياة ومشاكل المجتمع, وقد تحدث عن ارتفاع سعر الطماطم فقال: "ارتفع سعر الطماطم فبلغ خمسين وستين قرشًا! ولم تستطع الكميات المحدودة منه والمعروضة في الجمعيات التعاونية بخمسة وعشرين قرشًا، أن تخفف من حدة الأزمة. والمعاناة!! وليس غريبًا أن يرتفع سعر الطماطم. فالطماطم كما يقول الزراع في كل بلاد العالم مجنونة, وفي كل مكان يرتفع يسعر الطماطم بسبب الظروف الجوية, ولكن العجيب

_ 1 راجع: أخبار اليوم الصادرة في 10/ 5/ 1980.

حقا أن يبلغ السعر هذا المدى في مصر!! ولماذا؟! لأن علبة صلصة الطماطم تستطيع أن تغني عن الطماطم، وتستطيع بالتالي أن تقضم أظافر ارتفاع الأسعار، وتضع له حدودًا وقيودًا!! ". "يحدث هذا في جميع البلدان!! ولكن تجار السوق السوداء في مصر والمتاجرين في أقوات الشعب من الرأسماليين الطفوليين يسدون الأبواب أمام المواطنين، ويفرضون عليهم ما شاءوا من أسعار!! لك الله أيها المواطن!! فتجار السوق الزراعية السوداء يستغلون المنتج والمستهلك فيفرضون عليهما الأسعار, وفي ركابهم شلة من الوسطاء الذين يعيشون بالضرورة على حساب المنتج والمستهلك. أما تجار السوق التموينية السوداء فإنهم يخزنون السلع ويخفونها, حتى يرفعوا الأسعار؟! ومعنى هذا أن المواطن أصبح كالمستجير من أسعار الطماطم المرتفعة, فإلى أسعار علب الصلصة المرتفعة أيضًا, فهي المختفية أو النادرة التي يضيع البحث عنها وقت المواطن كما يختلس جيبه!! ". "هذا هو بيت الداء. فما هو إذن الدواء؟! إحكام الرقابة التموينية والبوليسية، وتشديد العقوبات على المضاربة في أقوات الشعب، وإسهام مؤسسات القطاع العام الزراعية والصناعية في توفير المواد التموينية!! وإذا كان ما نشر أخيرًا ينبئ بهذا الإسهام صحيحًا وجادا ومخططًا، فإن أحكام الرقابة يحتاج إلى أجهزة وقوى بشرية، كما يحتاج تشديد العقوبة إلى إعادة النظر في القوانين الخاصة بمعاقبة المتاجرين في أقوات الشعب"1. هذه نماذج عديدة من الخواطر التي ضمتها صحيفتي الأخبار وأخبار اليوم. وهي كما ترى تحمل عناوين ثابتة لكتاب عديدين، تناولت قضايا عديدة ومسائل متنوعة ومشاكل عديدة واتجاهات مختلفة, ففي كلمة اليوم نطالع حديث المحرر عن المرحلة الجديدة التي طالب الرئيس السادات خلال خطابه في 14/ 5/ 1980 بتحقيقها، وفي ما قل ودل حدثنا أحمد الصاوي محمد عن ذكرى الإمام عبد الحليم محمود وأثره في تربية النفوس بما قدم من مؤلفات ونشر من وعي ديني. وتحدث محمد زكي عبد القادر في نحو النور عن العقول المهاجرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي علامة استفهام وضح عبد السلام داود موقف المواطن من قصور أجهزة الدولة، وتحدث إبراهيم سعدة عن المغرور الذي يعمل رئيسًا لمجلس إدارة أحد البنوك في القاهرة, وكتب علي شحاته في العزف على الهواء عن مظاهرات الإسرائليين ضد بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي, ويحدثنا عبد العاطي حامد في مواجهة عن ظاهرة تعطل التليفونات في أنحاء بلاد الجمهورية. وكتب محمد الطنطاوي في رأي بالعربي عن سرقة الآثار المصرية، وتحدث نعمان عاشور في جولة الفكر عن صراع الأجيال الأدبية وآثار حسين فهمي في نحو الغد ظاهرة ارتفاع الطماطم.

_ 1 راجع: أخبار اليوم الصادرة في 26/ 4/ 1980.

في الأخبار وأخبار اليوم

في الأخبار وأخبار اليوم ... صادق خلال تلك المرحلة التي أحاطت بها ظروف بالغة الدقة والأهمية. إنها في الواقع مرحلة تاريخية سواء على مستوى العمل الداخلي أو العمل الخارجي، ولقد كان العمل الشريف والنظيف هو عنوان المهمة التي اضطلع بها الدكتور مصطفى خليل والزملاء الذين اختارهم للعمل معه في الوزارة, إننا نبدأ المرحلة الجديدة ونحن على اطمئنان كامل، فقد حققنا الأهداف التي حددناها لأنفسنا في كل مرحلة، وكانت خطواتنا على الطريق من نجاح إلى نجاح، واليوم نواجه مرحلة جديدة تعتبر مرحلة جني الثمار لكل ما غرسنا من قبل, وهي على أية حال مرحلة ليست المسئولية فيها مسئولية الحكومة وحدها, أو مسئولية المؤسسات الدستورية والأجهزة التي تعمل في نطاق الحكم, ولكنها مسئولية الشعب كله, وهذا هو ما قصد إليه الرئيس أنور السادات حين ربط التعاون في العمل بين أجهزة الحكم وأجهزة الشعب في نطاق الحزب حتى يكون مسيرة واحدة في العمل الوطني على طريق الرخاء في المرحلة الجديدة زيادة في المسئوليات تقابلها زيادة في الحقوق, إننا تجاه مرحلة جادة لا مكان فيها للتخاذل ولا الكسب غير المشروع"1. ب- ما قل ودل: يحرره أحمد الصاوي محمد ردا على رسالة أو تعليقًا على موقف أو اتجاه، أو إحياء لذكرى, فقد كتب عن ذكرى الإمام عبد الحليم محمود فقال: "في ذكرى الإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -طيب الله ثراه- يقول الأخ المهندس أحمد زين العابدين السماك رئيس جمعية مسجد سيدي علي السماك: تحية طيبة من عند الله، وبعد: تمر الأعوام بعد رحيل العالم الهمام الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، ولا تزال مؤلفاته في التراث الديني تقوم بدورها في تربية النفوس، ورعاية القلوب، ولم تطمس الأيام ثمار جهود الإمام والآثار الروحية التي تمت في

_ 1 راجع: الأخبار الصادرة في 13/ 5/ 1980.

في الجمهورية

في الجمهورية: تطالعنا صحيفة "الجمهورية" بالعناوين الثابتة التالية وتتضمن خواطر شتى مثل: صواريخ لإبراهيم الورداني، وقطر الندى لعبد المنعم الصاوي، والجمهورية تقول: والعلم والحياة لعواطف عبد الجليل، وخواطر سريعة لعبد الرحمن فهمي، ومن الذاكرة لمختار الوكيل، ومن القلب لمحسن محمد, وها هي نماذج للخواطر التي تحمل العناوين السابقة لهؤلاء الكتاب. 1- صواريخ: يتابع الكتابة تحت هذا العنوان إبراهيم الورداني، يتناول فيه انطباعاته الذاتية تجاه شخص أو حدث أو موقف أو فترة مرت، وقد تحدث عن مقابلة بعض الصحفيين لعلي صبري رئيس الوزراء قبيل ثورة التصحيح في 15/ 5/ 1971 جاء فيه: "ذات يوم أبلغونا أن علي صبري حدد لنا ميعادًا، وهرولنا نحو دار التحرير -30 كاتبًا وصحفيا- وصلت الحلقوم, أمر النقل هذا وله شكل الإعدام ولا أحد يسأل أو يأبه. وميعاد علي صبري الذي نلناه بعد جهد هو الأمل الذي تفتح, هكذا هرولنا مستبشرين وكنا قد وزعنا الأدوار

على من يتكلم أولًا ومن يشرح ثانيًا, ومن يستعطف ثالثًا, يا شدة الذل والقهر., فهذا الذي حدث، وهكذا مصر كانت تعيش!! مكتب علي صبري هو فندق هليوبوليس القديم, عند كشك البوابة استوقفونا لمدة نصف ساعة, عشرات من العساكر والمخبرين، يفحصون البطاقات، ويتحسسون الجيوب، ويسجلون المعلومات والتوقيعات". "صعدنا السلالم إلى غرفة يجلس فيها "بلوكامين" له شكل المصارع، قضينا في حضرته ساعة انتظار, ثم نقلونا إلى غرفة يجلس فيها مساعد السكرتير العام، وهو يتباهى بالتليفون والأجراس آمرًا وزاجرًا وملبيًا ومتزلفًا ودلوعة أحيانًا, وعندما بدأنا التملل نقلونا لنقف أمام مكتب سعادة السكرتير العام!! وبعد ربع ساعة وقوف انفتح الباب مواربا ليطل منه شاب متغطرس له شارب ودباره -ظل بنصفه في الداخل ونصفه في الخارج- قلنا له عن الميعاد ولنا ساعات، فقال: إن السيد علي صبري طرأت لديه مواعيد أهم، وأنه سوف يحدد لنا ميعادًا قريبًا!!.. استوقفناه استحلفناه, ولكنه سخر وتثنى ثم أغلق في وجوهنا الباب يومها -رغم أن المنظر الغليظ تم بلا عذاب بدني إلا أننا- خرجنا منه والله مذبوحين وننزف الدم. تأكدنا أننا بلا قيمة وبلا كرامة, 15 مايو, شكرًا لك, شكرًا أنور السادات"1. ب- قطر الندى: يتولى الكتابة فيه عبد المنعم الصاوي، ويدور حول الأحداث القومية والمصرية والعربية والمشروعات التي تنجزها الدولة من وقت لآخر, وقد تحدث عن اتصال جانبي قناة السويس بعد افتتاح نفق الشهيد أحمد حمدي فقال: "اتصل جانبا القناة، وجرت الحياة بين الشاطئين عبر واحد من أضخم مشروعات العصر، وشهد الرئيس السادات الذي وجه إلى تنفيذ المشروع اتصال جانبي قناة السويس تتويجًا لنضاله الطويل في هذا السبيل، فقد أعلن الرئيس حرب أكتوبر العظيمة، ليتم لقاء هذين الجانبين

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في 14/ 5/ 1980.

من جوانب القناة. وبدأ أحدث الاستراتيجيات الدولية، ليتأكد هذا اللقاء ولا ينفصم أبدًا. وسياسة تصفية الخلافات العربية الإسرائيلية ليست إلا تأمينًا لسلامة هذه المنطقة من العالم، كما أنها ليست إلا سعيًا وراء سلامة الأرض العربية بعد تحريرها". "ولقد نجحت هذه السياسة حتى الآن، فأعادت أكثر من ثلاثة أرباع شبه جزيرة سيناء إلى السيادة المصرية بكل ما فيها من معادن وبترول وخبرات لا تحصى, وبهذا تعود سيناء الحبيبة إلى الأم الرءوم التي لم تنسها أبدًا, ويؤكد الرئيس حبه لسيناء بإقامة احتفال العمال هذا العام في العريش عاصمة هذه المنطقة التاريخية العريقة. ولعل الاحتفال في العريش هذا العام يعتبر إشارة لكل القوى العاملة في بلادنا أن تعطى أسبقية العمل والتعمير لهذا الجزء العزيز في بلادنا". "وهكذا يصبح الأمل حقيقة يا سيناء وتتصلين، وأنه ليس من قبيل الشعر أن نحس بأنفاسك تمر على كل الخدود في وادينا الأخضر، وليس كذلك من باب المبالغة الفنية أن يشعر كل مصري اليوم بدفء ما يسري بين جنباته من حب للغاية سيناء التي عادت وعلى شفتيها بسمات الحب وسمات النصر"1. جـ- الجمهورية تقول: خواطر هذا العنوان لا تنسب إلى قائل، وهي كغيرها تعالج مسائل مصرية أو عربية أو قومية أو وجه نظر خاصة تجاه مشكلة من المشاكل, وقد جاء فيه عن "حقيقة الصمود والتصدي": "بعد مرور أسبوع واحد على انتهاء مؤتمر قمة جبهة الصمود والتصدي في طرابلس، سقط واحد من زعماء الجبهة هو عبد الفتاح إسماعيل رئيس اليمن الجنوبي، وأعلن مسئول كبير بمنظمة التحرير الفلسطينية أن هناك تزوير حدث في قرارات المؤتمر، وأن القرار الخاص

_ 1 راجع الجمهورية الصادرة في 1/ 5/ 1980.

بالاعتراف بالجمهورية الصحراوية قد أضيف بعد مغادرة الرؤساء المشتركين في المؤتمر بطرابلس, وهكذا لم تصمد جبهة الصمود للأحداث, ولم تتصد لما يواجهها من أزمات وصراعات، بل استسلمت للتمزق والانقسام الذي بدأت عملية في الدوران، وأغلب الظن أنها لن تتوقف في عدن أو منظمة التحرير فقط، إن الذين لا يملكون الاستقرار لأنفسهم وداخل بلادهم لا يمكن أن يوحوا بالأمان لغيرهم، والذين يتبادلون الاتهامات بالتزوير وفقدان الثقة بعد أن كانت تضمهم قبل أسبوع واحد مائدة واحدة لا يمكن أن يحصلوا على ثقة عربي واحد شريف أو في قراراتهم"1. د- العلم والحياة: تحرر خواطر هذا العمود الصحفي الكاتبة عواطف عبد الجليل. تتناول فيه الجديد في العلم والمفيد في ضروب الحياة وأحوال المجتمع. فقد تحدثت فيه عن "أمراض الخبز الأبيض" فقالت: "هل سمعت عن أمراض الخبز الأبيض, هل جال بخاطرك أن الخبز الأبيض قد يسبب الإصابة بسرطان القولون، أو سرطان المستقيم، وأنه يسبب مجموعة من مشاكل الجهاز الهضمي، وبعض أمراض سوء التغذية مثل الإنيميا أو فقر الدم, أن الرجل الفقير والبدوي الذي كان وما زال يدش الحب بين فكي الرحا ويصنع خبزًا طازجًا يأكله بجبنة، أو يكتفي بخلط الدشيش بلبن العنزة، ويصنع طبقًا ساخنًا يسكت به عواء معدته الخاوية. كان وما زال يتمتع بصحة طيبة، وينعم بحياة خالية من عقد عصر الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة". "إن الخبز الأبيض المصنوع من الدقيق الفاخر هو شر ما يمكن أن يبتلى به إنسان، وهذه حقيقة يؤكدها العلماء اليوم, إن الله سبحانه وتعالى أخرج للناس الحب والبقل لتكونا مصدر غذاء متكامل فيهما كل العناصر الضرورية لسلامة صحته, لقد أثبت العلماء في ذلك الجزء من حبات القمح الذي نعرفه باسم "الردة" هذا الغطاء الذهبي الذي يغلف حبة القمح، ويضمه

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في 25/ 4/ 1980.

مع حاجته من الغذاء، وفي نفس الوقت يكون منظفًا طبيعيا لأمعاء الإنسان، ومنشطًا لحركة الأمعاء، وماصا للمواد الضارة والماء الزائد حيث يتحول إلى ما يشبه المكنسة الحديثة جدا، المزودة بالمنظف الصناعي". "وهو في هذه الحالة الإفراز الصفراوي الصادر من الكبد، والذي تضر به مركبات "الردة" الكيماوية بالنشاط، فإذا بعملية الصرف الحيوي لمخلفات الغذاء تتم أولًا بأول، بفعل هذا الغلاف الذهبي لحبة القمح. لا تعجب يا صديقي عندما يشير عليك الطبيب بتناول ملعقة من الردة ثلاث مرات في اليوم. كعلاج ودواء. ولك الصحة والشفاء"1. هـ- خواطر سريعة: يحرر هذه الخواطر الكاتب عبد الرحمن فهمي في العدد الأسبوعي للجمهورية الذي يصدر يوم الخميس من كل أسبوع، ويتضمن خواطره عن الشخصيات الفنية أو الأدبية، والأحداث المصرية أو العربية, وقد تحدث عن الفنان الكوميدي أمين الهنيدي فقال: "أمين الهنيدي الطاقة الكوميدية عاد من كندا هذا الأسبوع بعد عرض مسرحية "غراميات عفيفي" على الجالية المصرية, سألت الطاقة الكوميدية عن عدم تفجيرها لضحكات الناس كل ليلة وكل يوم كما كان يحدث زمان فقال لي: "أين النص الجيد" المؤلف الآن يفضل كتابة اثنا عشرة حلقة تليفزيونية بطريقة سريعة ليتقاضى أتعابًا خيالية, لماذا إذن السهر ووجع القلب من أجل كوميديا متعبة يدفع أجرها بالتقسيط من الشباك". "يقول أمين الهنيدي عندنا نصوص تكفينا لسنة، لكن التليفزيون في بداية عهده استهلكها كلها بسرعة, كنا في الستينات نعرض المسريحة عدة أيام وأسابيع ثم تصور للتليفزيون ليحل محلها أخرى لمدة أسابيع قليلة وتنتهي، وهكذا على مدى مائة مسرحية كل واحدة أحسن من الأخرى، ولما توقفت هذه العملية أصبحت المسرحيات تمكث أربع أو خمس سنوات مثل

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في 25/ 4/ 1980.

مدرسة المشاغبين، وشاهد ما شفش حاجة. رغم أن: أنا وهو وهي، وغراميات عفيفي، ولوكاندة الفردوس وغيرها كل واحدة من هذه المسرحيات كانت كفيلة بأن تمكث على المسرح خمس سنوات على أقل تقدير". "وما الحل أيتها الطاقة الكوميدية النادرة. الحل هو إعانة الدولة للمسرح، لك أن تتصور أن نجيب الريحاني القمة كان يأخذ إعانة شهرية من وزارة الشئون الاجتماعية, وعندما ينتقل إلى الأسكندرية تتكفل الدولة بمصاريفه1". و من الذاكرة: يحررها الشاعر الشهير مختار الوكيل، يتناول في هذا العمود خواطره تجاه ماضي عزيز وعهد سلف وفترة ولت، ويحاول خلالها أن يستعيد ذكرياته ويعتمد على ما اختزن في فكره. تحدث عن "أمسية ساخرة عند سفح الأهرام مع بعض الألمان" فقال: "عند سفح الأهرام وأمام "أبي الهول" الرابض في الرمال قضيت أمسية ساحرة، مع لفيف من ضيوف مصر الألمان, وعجبت لنفسي أنا المصري الأمين المحب لوطنه والعاشق الولهان المتيم بأمجاد الأجداد، كيف لا يتسنى لي أن أختلس قبل هذه الليلة ساعة من الزمان لكي أستمتع ببرنامج "الصوت والضوء" ذلك البرنامج الرشيق المشبع بالوطنية والباعث على الافتخار, وحمدت الله أن أنالني من هذه المتعة السامية الفذة، وأنعم علي سبحانه بها مع هؤلاء الضيوف القادمين من ألمانيا الغربية". "وكان البرنامج ذلك المساء يذاع باللغة العربية، وليس باللغة الألمانية أو الإنجليزية، والضيوف لم يتعلموا بعد لغتنا الجميلة، ولقد قمت بواجب المترجم لضيوفنا القادمين من ألمانيا، واستحبوا أن يقفوا على المعاني التي

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في 24/ 4/ 1980.

اشتمل عليها ذلك البرنامج الفريد الذي سيطر على ألبابهم وعقولهم عندما وقفوا على معنى الكلام الشاعري الوطني الذي بدأ مثوها بتلك الوحدة العظيمة العتيدة التي قامت في مصر منذ آلاف السنين على يد "مينا" العظيم موحد شطري الوطن في الوجهين البحري والقبلي أو مصر السفلى ومصر العليا, وخرجت من الساحة المقدسة عند قدمي أبي الهول والأهرامات الخالدة على الدهر، وأصغيت لثناء الألمان على هذه المثالية، وقلت لنفسي: من يستطيع تحطيم الوحدة الوطنية الصلبة الخالدة, وجاء الرد تحمله أصداء برنامج "الصوت والضوء" مؤكدًا: لا أحد يقوى على تحطيم هذه الوحدة المقدسة، ثم تذكرت ما كنا نصنعه ونحن صغار في بلدتنا الريفية باركها الله وحياها، من التوجه إلى الكنيسة كل يوم لكي نقوم بدق جرسها داعين إخواننا المسيحين الصغار للصلاة1". ي- من القلب: يحرر خواطر هذا العمود محسن محمد رئيس مجلس إدارة صحيفة الجمهورية ويتناول كغيره أمورًا تتعلق بالأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية. وقد كتب عن "ضباط الحرب العالمية الأولى" فقال: "الأب ضابط في الحرب العالمية الأولى، والابن طفل صغير يستمع إلى حكايات أبيه عن الحرب، وكيف غيرت حياة الناس وحطمت النظام الطبقي القديم، وأعطت المرأة فرصة للقيام بعمل الرجل، وكانت بداية حركة تحرير المرأة أو مساواتها, واستقرت الذكريات في نفس الابن -حديث مختار الوكيل عن أمسية ساحرة عند سفح الأهرام مع بعض الألمان بعد وفاة الأب- ورواها بدوره لابنته التي لم تر الجد أبدًا". "وظلت حكايات الجد تتفاعل في نفس الحفيدة "سارة هاريسون" بعد أن تزوجت وأصبحت أما لطفلين.. وأخيرًا أمسكت سارة بالقلم ونسجت من هذه الأحداث قصة حب رفضها الناشر فورًا، كما رفض أيضًا

_ 1 الجمهورية الصادرة في 25/ 4/ 1980.

الرواية الثانية. ولكن الرواية الثالثة حققت لسارة ما لم تحلم به زوجة عادية تعد الطعام للزوج عند عودته ولطفليها بعد رجوعهما من المدرسة". "ووافقت دور النشر في بريطانيا وأمريكا على طبع رواية "زهور الحفل" واشترت مجلتان أسبوعيتان في أوروبا وأمريكا حقوق نشر الرواية -666 صفحة- سلسلة. والرواية تجري وقائعها لفتاة بريطانية تسافر إلى النمسا قبل الحرب فتقع في غرام شاب وتفرقهما الظروف حتى يلتقيا في فرنسا. هي ممرضة وهو من جنود الأعداء وإصابته قاتلة, ومن خلال قصة الحب تطفو ذكريات الجد, إن حديث الجد والجدة قد يغير مصير الأحفاد بشرط ألا يكون عن "أمنا الغولة1". تلك هي نماذج من الخواطر التي تضمنتها صحيفة الجمهورية المصرية، وتحمل العناوين الثابتة لكتاب كثيرين. وهي -كغيرها- تتناول الحياة والعيش والانطباعات الذاتية والأحداث القومية والقضايا المصرية أو العربية وتصور الشخصيات أو الذكريات والأمور التي تتعلق بأحداث السياسة والكون والأدب والاجتماع, وطالعنا في صواريخ لإبراهيم الورداني عن مقابلة بعض الصحفيين لعلي صبري رئيس الوزراء قبيل ثورة التصحيح في 15/ 5/ 1971. وكتب عند المنعم الصاوي في قطر الندى عن اتصال جانبي قناة السويس بعد افتتاح نفق الشهيد أحمد حمدي. وتحدث المحرر في الجمهورية تقول عن حقيقة الصمود والتصدي وسقوط بعض زعماء هذه الجبهة المزعومة, وتحدثت الكاتبة عواطف عبد الجليل في العلم والحياة عن أمراض الخبر الأبيض، موضحة أن قشر القمح يمتص المواد الضارة والمياه الزائدة في الجهاز الهضمي. وكتب عبد الرحمن فهي في خواطر سريعة التي يكتبها في العدد الأسبوعي من الجمهورية كل يوم خميس عن طاقة الفنان الكوميدي أمين الهنيدي، وتضمنت من الذاكرة حديث مختار الوكيل عن أمسية ساحرة عند سفح الأهرام مع بعض الألمان، وتحدث محسن محمد في من القلب عن ضباط الحرب العالمية الأولى وحكايات الأبناء والأحفاد عنهم، وموقف بعض دور النشر من هذه الروايات. وعلى الجملة فقد كثرت الأعمدة الصحفية في صحفنا الثلاث: الأهرام والأخبار والجمهورية وكلها تدور حول موضوعات إنسانية ذات عمق وغزارة وجمال, وفيها جلال ودقة، وروعة وإيحاء. لا تتجاوز الفكرة في أي صحيفة عمودًا، ويكون دائمًا في مكان ثابت ولكاتب معروف، ويقع في أسفل الصحيفة أو أعلاها، أو على اليمين أو اليسار منها، وقد يوضع في وسط الصحيفة. المهم مكانه الثابت وكاتبه الذي لا يتغير.

_ 1 راجع: الجمهورية الصادرة في 27/ 4/ 1980.

ثانيا: الفكرة

ثانيًا: الفكرة هي نبت التأمل، وحصيلة التجربة، وثمرة المعرفة، وحصاد الأيام من الحكمة والخبرة يرسلها كاتب، وينطق بها ناصح، وتجري على لسان مصلح، ويرددها حكيم, وتعد من دعائم الحياة وبناء الإنسانية، ونبراس الحياة الذي يهدي إلى الحق والخير والجمال، ودليل يرشد إلى الحب والصفاء. نأتي الفكرة تعبيرًا عن رؤيا تاريخية، أو تسجيلًا لعاطفة وطنية، أو تصويرًا لوجدان ديني، أو عرضًا لمثل إنساني، أو نقد لعادات المجتمع أو توجيها لأعمال الناس، أو نصحًا في رأي جرى وحدث وقع. وتعد الفكرة النواة التي يقيم الكاتب موضوعه عليها، بعد أن يتصيدها من البيئة التي تحيط به، ويستمدها من واقع الحياة وتمرسه بها، ثم تنمو من ملاحظاته الدقيقة، وقراءاته المتعددة، وخبراته الشخصية، ثم ينفعل بها ويعبر عنها مجلوة بأمثلة من واقعه المحسوس. ولقد كان المرحوم أحمد أمين كثيرًا ما تخطر له فكرة خاطفة -حين حديثه- فيعلن عنها قائلًا: "هذه فكرة تصلح مقالًا في مجلة الثقافة". ويعد زكي نجيب محمود من كتاب الفكرة لطول معالجته للفلسفة، وعكوفه على دراستها، وتفهم قضاياها. والفكرة أشهر عمود ظهر في الصحف المصرية 1956 بصحيفتي الأخبار وأخبار اليوم على يد الأخوين: علي أمين ومصطفى أمين، واستمرت في الظهور منذ ذلك التاريخ على الرغم من المحن والأحداث التي زجت بمصطفى

أمين في غياهب السجن، وفرضت على أخيه على أن يرحل إلى لندن. والمعروف أن علي ومصطفى أمين كانا يتبادلان كتابة "فكرة" وظل علي يوقعها حتى لقي ربه، ثم انفرد مصطفى أمين بها. وتلتقي أفكار الرجلين في دلالتها على المعنى الإنساني الذي يعتمد عليه بناء الفرد والمجتمع، ويحقق سيرة الشعب على طريق الحياة. ويعد هذا اللون من الكتابة الصحفية جولة فكرية وثقافية وتاريخية وروحية ممتعة، مما جعل القراء يقبلون عليها، ويتطلعون إليها غداة كل يوم, ولعل السر في ذلك أن أفكار علي ومصطفى أمين كانت تدعو إلى الحب والأمل والعرق والكفاح، وتحمل النفوس على الصفاء والمودة. وكانت حصيلة هذا اللون الممتع كتابين: الأول أفكار للبيع للمرحوم علي أمين، والثاني: الـ 200 فكرة للأستاذ مصطفى أمين. مما نشرته الصحف المصرية والعربية لهما. ويلاحظ على الكتابين أن الأفكار والموضوعات فيهما متشابهة في الاتجاه والمشاعر والعواطف, يعلل الأستاذ مصطفى أمين هذا التشابهة فيقول: كان علي إذا بدأ يكتب مقالًا أستطيع أن أتمه, دون أن أسأله ماذا كان يريد أن يقول, وكان هو يفعل نفسي الشيء!! 1. وسنضع أمامك نموذجين للأخوين علي ومصطفى أمين في هذا الجال الكتابي الرائع. علي أمين 1914-1977 وريادته في كتابة الفكرة: مهندس الصحافة المصرية بإجماع الجميع, عمل خلال دراسته بإنجلترا مراسلًا لمجلة "روز اليوسف" وبعد عودته لمصر عمل في مجلة آخر ساعة 1936، ثم انتقل إلى مجلة "الاثنين" أسس وشقيقه مصطفى أمين أخبار اليوم 1944، وتولى إصدار عدد من الصحف والمجلات مثل: آخر لحظة والجيل الجديد وهي وكتاب اليوم، ثم أصدر بعد ذلك "الأخبار" 1952. وفي 1965 فرضت مراكز القوى عليه أن يغادر مصر

_ 1 راجع: الـ 200 فكرة ص157 مصطفى أمين الطبعة الأولى 1979.

إلى لندن، وظل بها تسع سنوات لم ينصرف خلالها عن الكتابة، ثم عاد لمصر بعد نصر أكتوبر العظيم، وتولى مجلس إدارة الأهرام ومجلس إدارة أخبار اليوم 1974. وهذه أول فكرة كتبها المرحوم علي أمين بصحيفة الأخبار تناول فيها أهم مائة في العالم فقال: "أصدر المؤرخ الأمريكي "دونالدرونسون" كتابًا بعنوان "أهم مائة في العالم" وسجل فيه أسماء المائة الذين يعتقد أنهم بقوتهم أو بأعمالهم أو بشخصياتهم أثروا في العالم في الخمس عشرة سنة الأخيرة. وأول رجل في كتاب المؤرخ الأمريكي هو "ستالين" وآخر رجل هو "شارلي شابلن" الممثل الهزلي". وقال "روبنسون" في كتابه إن مثل "ستالين" هو أقسى عقل في العالم ووضع معه في القائمة الرفيق "مولوتوف" ثم الرفيق "بيريا" رئيس الجواسيس في روسيا, أما جروميكو وفيشتكي فقد وضعهما المؤلف في مرتبة السعاة والخدم، وسجل بين المائة أرملة الرئيس "روزفلت" و"إيفا" زوجة "بيرون" دكتاتور الأرجنتين". "ولقد خطر لي وأنا أقرأ هذا الكتاب أن أتساءل ... من هم أهم مائة في مصر؟ فوجدت أكثر من ألف رجل مهم في مصر، ولكني لم أجد عشرة أثروا على مصر بقوتهم أو بأعمالهم أو بشخصياتهم في الخمس عشرة سنة الأخيرة. لقد وجدت بعض النساء ولكن لم أجد هذا العدد الضخم من الرجال..! فما رأيك أنت؟ 1". وكتب الأستاذ مصطفى أمين في "فكرة" عن الشاعر كامل الشناوي فقال: "لو عاش الشاعر كامل الشناوي في عهد آلة التسجيل لكان من أصحاب الملايين! وكنت أقول له لو أنه سجل كل كلمة يقولها خلال الأربع

_ 1 راجع: أخبار اليوم في 23/ 2/ 1980 فقد تضمنت صفحة "أخبار الكتب وحكايات الأدب" التي يقدمها نبيل أباظة أول فكرة سجلها المرحوم علي أمين في الأخبار.

والعشرين ساعة لاستطاع أن يؤلف كتابًا ممتعًا مرة كل أسبوع, كان كامل يحب أن يتكلم ويكره أن يكتب, إذا حضر مجلسًا ملأه مرحًا وضحكًا, وإذا انفرد بنفسه بكى! فقد كان يحب الناس ولا يحب نفسه، يعشق أن يتطلع في وجوه الناس ويمقت أن ينظر إلى وجهه في المرآة، كان بدينًا جدا، ولم يكن جميلًا، ولكنك تنسى بدانته لخفة ظله، ويخفي روحه الجميل عن الناس عدم جمال وجهه! ". "كان خطيبًا ممتازًا ولكنه يخشى مواجهة الجماهير، وكان شاعرًا رائعًا ولكنه لم يتم سوى ديوان واحد! وكان عضوًا في مجلس النواب لمدة خمس سنوات ولم يسمعه النواب يتكلم سوى مرة واحدة فقد كان خجولًا، وكان لا يثق في قدرته على إقناع الجماهير، مع أنه كان من أقوى الرجال الذين عرفتهم فصاحة وبلاغة وفخامة أسلوب! وكان بطيئًا في الكتابة، كنت أقفل عليه باب مكتبه عدة ساعات ثم أفتح الباب فأجده كتب ثلاثة أو أربعة أسطر! فهو ينحت الكلمات لا يكتب حتى يشطب ما كتب، ويمزق الورقة ويبدأ الكتابة من جديد، يتردد في كل كلمة, ويتوقف أمام كل معنى، ويختار الجملة كأنه تاجر مجوهرات يختار فصوص الماس، والياقوت! وكان ينام النهار ويسهر الليل، يمقت أن ينام في فراشه كسائر الناس، هوايته أن ينام في سيارة تطوف به أنحاء المدينة عدة ساعات، وعندئذ فقط ينام نومًا عميقًا، لا يستيقظ إلا عندما تقف السيارة". "ولم يتزوج أبدًا، ولا فكر في الزواج، ولكن ما من ملكة جمال إلا وأحبها، وما من نجمة سينمائية إلا وعشقها، وما من فاتنة إلا ونظم فيها قصيدة غزل! ولكنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة أكثر من شهر، فهو يغير ويبدل وكأنه يختار الكلمات والمعاني في مقال يكتبه أو قصيدة ينظمها! عندما كان شابا صغيرًا أحب مجالس الرجال الكبار، وعندما أصبح رجلًا كبيرًا عشق مجالس الشباب الصغار! عندما كان فقيرًا معدمًا كانت هوايته معرفة أصحاب الملايين، وعندما أصبح يتقاضى مرتبا ضخمًا من الصحافة أصبحت هوايته مصاحبة الفقراء والبؤساء والمعدومين! وكان قبل كل هذا إنسانًا1".

_ 1 راجع: الـ 200 فكرة ص47 مصطفى أمين الطبعة الأولى.

وعلى الجملة تتميز الأفكار التي كتبها الأخوان علي ومصطفى أمين بحيوية دافئة، وقوة واضحة في التعبير والتصوير، وأسلوب رائع جذاب، وجمل موسيقية مركزة، وعبارات رشيقة ممتعة, وهي أولًا وأخيرًا ثروة ثرثرة، وذخيرة حية، تزود القارئ بحصيلة من المعرفة، وتجربة الحياة، وحكمة اليوم بجانب الوقوف على طبائع الناس، وأسرار الإنسان في معترك الحياة. خصائص العمود الصحفي: يتميز العمود الصحفي -سواء تضمن خاطرة أو فكرة أو رأيًا- بسمات معينة وخصائص بارزة أهمها: 1- جمال الأسلوب: يشبه العمود الصحفي المقال الأدبي في العناية باختيار الألفاظ، وجودة التعبير، وقوة التصوير وحلاوة الأساليب. وهو مجال النبوغ والإبداع الأدبي وغيرها من الأشياء التي يمتاز المقال الأدبي به. 2- وضوح السخرية: يسود عنصر السخرية المقال والعمود الصحفي معًا، إلا أن السخرية في المقال أوسع منها في العمود. ومن الطبيعي ضياع السخرية في طيات التوسع والنبوغ, لذا نجد تأثر القراء بسخرية العمود أكثر من المقال؛ لأنهم يدركونها في العمود من أقصر طريق، بينما يضلون الوصول إليها في المقال لكثرة المسالك التي تؤدى بها. 3- عنصر الذات: العمود الصحفي أقرب إلى الأدب الخالص، والفرق بين الأدب والصحافة، أن الأول ذاتي، والثاني موضوعي، ومن ثم تقوى الرابطة بين محرر العمود وقرائه، لذا لزم اهتمامه بمشكلات الأفراد ومعالجتها، وعلى هذا يتوفر لكتاب الأعمدة جذب القراء إليهم، والتأثير في نفوسهم، بواسطة السطور القليلة التي يدبجونها.

4- التشابه في الصياغة: يشبه العمود الصحفي المقال في صياغته؛ لأن كلا منهما يبدأ بفكرة يدور الكاتب حولها، ويدلل عليها بالأمثلة والشواهد والبراهين، حتى ينتهي إلى النتيجة التي يريد الوصول إليها, وقد يأتي العمود على هيئة رسالة تحمل شكوى من أمر، أو تناول وضعًا معينًا، ومن ثم لزم أن يرد كاتب العمود على صاحب الشكوى، ثم يوجه خطابه إلى ولاة الأمر، ليزيلوا أسباب الشكوى، أو يزيد من ثقة الفائدة ومضمونها. 5- الإيجاز في العبارة: تفرض المساحة المحددة للعموم على الكاتب أن يوجز في عبارته، ولا يلجأ إلى الإسهاب؛ لأن العمود الصحفي لا يتسع لأكثر من فكرة أو خاطرة أو رأي، وإلا خرج عن حجمة إذا تجاوز الكاتب ذلك. هذا ويلاحظ أنه إذا طلب من كاتب العمود الصحفي أن يكتب مادة أخرى كالقصة أو المقال أو التحقيق أو الحديث، فعليه أن يصطنع أسلوبًا آخر يخالف أسلوبه في كتابة العمود. ويبدو هذا واضحًا لدى الكتاب الذين يتناولون أكثر من مادة من مواد الصحيفة.

ثالثا: في الكاريكاتير

ثالثًا: في الكاريكاتير ... ثالثًا: فن الكاريكاتير لون من التعبير الساخر بالصورة الموحية عن خبر أو حدث أو موقف أو فكرة أو موضوع. اشتق من الكلمة "كاريكاتير" -لاتينية أو إيطالية- التي تعني الرسم الساخر الذي يبرز العيوب, تقول المعاجم عنه بأنه: "عبارة عن صورة يراعى فيها التهويل في إبراز السمات الواضحة أو الشاذة بنية إحداث أثر ضاحك أو ساخر". للكاريكاتير فلسفة خاصة ذات طابع اجتماعي تجعله فنا إنسانيا مؤثرًا، يعالج مظاهر الحمق، وضروب الظلم، وألوان الانحراف، ويشيع البسمات في قلوب الملايين, واستخدام التعبير بالصورة عرفه المصريون القدماء، كما عرفه اليونانيون منذ العصر الهيلنستي، وسجله الشعراء العرب في صور ضاحكة، فهذا ابن الرومي يصور الفقر فيقول: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد ولو يستطيع بتقتيره ... تنفس من منخر واحد ساد فن الكاريكاتير خلال عصر النهضة -الخامس عشر والسادس عشر الميلادي- لتأكيد أهمية الفرد نحو إظهار شخصيته بمختلف الأساليب. وأول من رسم صورًا مضحكة الفنان الإيطالي "أنيبال كاراكش" 1560-1609ثم "جيوفاني لوثر لوزتر دنيتي" 1598-1680 واستخدمه "جورج تاوتسهند" الإنجليزي في الهجوم على خصومه السياسيين، وتبعه "وليم هوجاريت" فمنحه حيوية جديدة. وعرفته فرنسا على يد الفنان "شارل فيليبيون" في مجلة أسبوعية أطلق عليها: "الكاريكاتير" ثم في صحيفة يومية تسمى "الشار يفاري" أصدها 1932. ومن ثم انتشر الكاريكاتير في معظم أقطار العالم، واتسعت لوحاته الساخرة، وشملت مضامين الحياة المختلفة، وأصبح من أدوات النقد السياسي والأخلاقي. اقتبسته -في البداية- معظم الصحف اليومية من صحف الغرب، وعالجت من خلاله فساد المجتمع وعيوب الحكم بالصورة الساخرة، واللقطات الضاحكة. وفي 1925 برزت الفكاهة الكاريكاتيرية على يد الفنان العالمي "سانتس" والفنان الأرمني "صاروخان" الذي كون مدرسة من أبرز تلاميذها: عبد السميع ورخا وصلاح جاهين وغيرهم مما نرى رسوماتهم الضاحكة وصورهم الساخرة في الصحف التي نقرؤها صباح كل يوم, وبلغ الكاريكاتير قمته عندما توسعت صحف الأحزاب في استخدامه بين عامي 37/ 1938، ووقف الكتاب منه بين معارض مثل محمد حسين هيكل، ومؤيد مثل طه حسين الذي لم يجد بأسًا في استخدامه. ولم يصور الكاريكاتير -في أول أمره- فكرة أو حدثًا أو موضوعًا، وإنما انحصر في الرسم المجرد، والتعليق الذي يكتب تحته هو الأصل في النكتة، وبه يتمكن الفنان من ذبح خصومه بالفكاهة المصورة، وهدم

معارضيه باللوحات الضاحكة، والفتك بالأشخاص والآراء والنزعات بواسطة الرسوم المتتابعة والصور المضحكة التي تحمل معنى التهكم اللاذع والنقد الصاخب، وبذلك جرى الكاريكاتير مجرى المقالات الصحفية، وزاد عليها في السخرية من الأفراد والجماعات. وهذه أهم الصحف الفكاهية التي خاطبت الجماهير رسمًا وخبرًا ومقالًا منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي حتى الربع الأول من القرن الحالي: أبو نضارة أول جريدة هزلية صدرت 1877 ليعقوب صنوع 1839- 1912 نقدت سياسة إسماعيل بالرسم الكاريكاتيري والصور الهزلية، ثم "التنكيت والتبكيت" 1881 لعبد الله النديم 1845، 1896 واسمها يكشف عن مضمونها وغرضها وأسلوبها، ثم "الأستاذ" 1892 تناول النديم فيها الجانب الخلقي والاجتماعي بالنقد والسخرية والتحليل. وفي 1900 أصدر محمد توفيق مجلة "حمارة منيتي" سخر فيها من غطرسة الإنجليز وتصرفات مندوبيها في مصر, ثم صدرت مجلة "سركيس" 1905-1926 لسليم سركيس 1868-1926 تناولت الفكاهة السياسية بأسلوب ساخر وطريقة لاذعة وسنخصها بشيء من التفصيل فيما بعد, ثم كانت "المسامير" 1908 لأحمد عباس، وفي نفس العام أصدر حسين علي صحيفة "الشجاعة" التي استمرت حتى 1910، ثم استبدلها بصحيفة "السيف". واهتمت الصحف الثلاث بنقد السياسة والحكم والمجتمع وبعض الشخصيات بالصور المضحكة، والقفشات الساخرة، والكلمات اللاذعة. ثم جاءت صحيفة "أبو الهول" 1918 لمصطفى القشاشي، واهتمت بالنكتة الاجتماعية والأشعار الشعبية والنقد اللاذع, وأصدر بيرم التونسي 1893-1961 مجلة "المسلة" 1919، ضمنها العديد من دعاباته وسخرياته وانتقاداته، وبعد عودته من منفاه أصدر مجلة "يا هوه" معتمدة على فنه الساخر، وكاريكاتير الرسام "سانتس" ولقد وفرت هذه الصحف مادة وفيرة للرسامين الذين استعانوا بها في الرسم والتصوير خلال الأحداث والمواقف.

وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين وسعت الصحف في الفكاهات السياسية اللاذعة المتقنة تحريرًا وإعدادًا على يد نفر من كبار الأدباء وأمراء الفكاهة في مصر من أمثال: سليمان فوزي وحافظ إبراهيم وعبد العزيز البشري ومحمد الههياوي وحسين شفيق المصري وإبراهيم عبد القادر المازني وفكري أباظة وغيرهم من فرسان الفكاهة وأصحاب الأقلام الساخرة والأسلوب الضاحك، وأخذ الرسامون يلجون الأماكن التي تعج بالفكاهات عن طريق التبادل أو التحاور على نحو يحرك الأحداث السياسية والاجتماعية، ويعبرون عنها في أشكال موحية، ورسوم معبرة، وصور ساخرة. وأهم الصحف التي اهتمت بالكاريكاتير في هذ الفترة مجلة "الكشكول" التي أصدرها سليمان فوزي 1921 وهاجم فيها الوفد وسياسته بالصور الكاريكاتيرية، وضم إليها رسام الكاريكاتير العالمي "سانتس" وبعض الرسامين المصريين، ثم كانت "خيال الظل" 1924 تولى أحمد حافظ عرض فيها نقد الحكومة والحكام بالصور الهزلية، والنكات الفكاهية، والرسوم الكاريكاتيرية. وأصدرت فاطمة اليوسف 1898-1958 مجلة "روز اليوسف" وعلى صفحاتها دارت الرسوم المضحكة الموحية, ثم ظهرت مجلة "الفكاهة" 1926 عن دار الهلال, جمعت في مادتها بين الجد والفكاهة، ورأس تحريرها حسين شفيق المصري المتوفى 1948 الذي عرف بالشعر الفكاهي المعروف بالحلمنتيشي، كما عرف بإصدار أربع صحف في طبعة واحدة تحمل أسماء "البغبغان والسيف والناس والمسامير" ثم أدمج السيف مع الناس تحت اسم "السيف والناس". ثم كانت مجلة "المطرقة" التي ضمت نخبة من الأقلام طرقت اللون الضاحك من أمثال: محمد مصطفى حمام وعبد السلام شهاب ومحمد عثمان خليفة وأبي عبيدة عبد الفتاح شلبي مع الرائد حسين شفيق المصري، فكونوا قوة صحفية فكاهية ضارية استقطبت قرابة ثلاثين ألف قارئ. ثم جاءت مجلة "ألف صنف" 1928 الشعبية الفكاهية لبديع خيري, وصدرت مجلة "الراديو والبعكوكة" لمحمود عزت المفتي، صدرت أول ما صدرت باسم "الراديو" 1934، وبعد صدور أعداد منها حملت اسم "الراديو

والبعكوكة" ثم سقط الاسم الأول، وانفردت باسم "البعكوكة" واهتمت بالأدب والفن والمواد العامة، وانتقدت المجتمع المصري بالرسم والفكاهة، وتوقفت عن الصدور بعد ثورة 1952. لقيت هذه الصحف وغيرها رواجًا كبيرًا بين القراء فترة طويلة، عبرت خلالها عن حياة الشعب، ونقدت تقاليده البالية بالرسم الضاحك، والصور الهزلية، واتخذت الأسلوب الساخر عدة وعتادًا في التعليق على ما يرسم ويصور, وقدمت الفكاهة في شكلين: الأول: مرسوم وأعني به الصور الهزلية التي تعرض الإطار الظاهر من الأشخاص بطريقة تعين نقائصهم، وتبرز عيوبهم، وبكلمات قليلة تحت هذه الرسوم يفطن القارئ إلى مغزى الصورة فيضحك. الثاني: مكتوب يتمثل في النكت اللاذعة، والتعليقات الساخرة، والكتابات التي ترمز إلى أوجه النقص في السلوك، وتوضح بعض حقائق النفوس ودقائق القلوب في أسلوب يستهدف هجاء الأهواء المتقلبة والطبائع المتغيرة. وسنضع أمام ناظريك سيرة رجل ودور مجلته في مجال الفن الكاريكاتيري المعبر بالصورة والكلمة هو: سليم سركيس 1868-1926: من رواد الصحافة الذين تحرروا من الطابع التقليدي لصحافة عصرهم، أثار قضايا اجتماعية وأدبية لها أهميتها في ماهية الثقافة المعاصرة, وكان أقدر الناس على النفاذ إلى جوهر الأشياء، فيلفت الأنظار لما خفي عن العقول، وغاب عن الأذهان، فيظهر النافع والممتع، وينبه على الأشياء المقتبسة والمبتكرة، أعانه على ذلك كثرة محفوظه وغزارة علمه، وتمكنه من التراث، وإحاطته بأجناس الكلام، وقدرته على التقويم وإصدار الأحكام. اكتسب خبرة واسعة في مجال الصحافة السياسية والأدبية، نظرًا

لرحلاته العديدة لدول الشرق والغرب، وإجادته للغات عدة في طليعتها الإنجليزية والفرنسية، وسعة معارفه مما جذب انتباه الناس إليه، هذا بجانب علاقاته واتصالاته برجال عصره على مختلف أوضاعهم في المجتمع. نشأ سليم في أسرة نبغ فيها أعلام في مجال الثقافة والصحافة، فأبوه "شاهين" مؤلف وشاعر، وضع مع شقيقه "خليل" 1842-1915 تحفة الأخوين إلى طلبة اللغتين "الإنجليزية والعربية" وعمه "خليل" هذا صاحب مجلتي "لسان الحال والمشكاة" وكتاب "تاريخ القدس الشريف" وكتاب "معجم اللسان". أما عمه "إبراهيم" فقد كان محررًا في "كوكب الصبح المنير والنشرة الشهرية" وغيرهما، ومن مؤلفاته "الدر النظيم في التاريخ القديم" و"الدرة اليتيمة في الأمثال القديمة" و"الأجوبة الوفية في العلوم الصرفية" وغير ذلك من المؤلفات. في هذه الأسرة نشأ سليم مما حبب إليه العمل بالصحافة منذ صغره، فقد أصدر جريدة مدرسية تسمى "الأرز" وهو في السادسة عشر من عمره، وشجعه عمه خليل على إتقان الترجمة والكتابة، فأخذ يكتب في "لسان الحال" متفننًا في أساليبه. رحل إلى فرنسا 1892، وفيها أصدر جريدة "كشف النقاب" بالاشتراك مع صديقه الأمير أمين رسلان، ولم يلبث أن تركها إلى إنجلترا في 1893 وبقي عامين فيها أصدر فيهما جريدة "رجع الصدى" وعنى بعنوانها صراخ الشرقيين في بلادهم. ثم قدم مصر في 1894 وأخذ يتعرف على رجال الصحافة السوريين، وأخذ يكتب مقالاته في "لسان العرب" عن الصحافة السورية. وفي الأسكندرية أنشأ مجلة "المشير" 1894، ثم انتقل بها إلى القاهرة، واستمرت ثماني سنوات، حرر فيها العديد من المقالات حمل فيها على الدولة العثمانية، واستخدم خلال كتاباته الصور الهزلية في تصوير الحوادث المحلية والعمومية. وفي 1896 أصدر مجلة "مرآة الحسناء" ووقع مقالاتها باسم "مارشال" وجعل امتيازها لسيدة تدعى "مريم مزهر" وهو اسم وهمي حتى لا تمنع السلطات العثمانية دخول صحفه ممالك الخلافة، لما تتضمنه من طعن في الباب العالي، كما استهدف من وراء ذلك تشجيع المرأة الشرقية

على الكتابة في المجالات؛ لأن حياء الشرقيات حال دون ظهورهن على صفحات الجرائد. وفي 1899 غادر مصر إلى الولايات المتحدة، تنقل فيها بين بوسطن ونيويورك وغيرها. وفي بوسطن حرر مقالات لجريدة "البستان" وأعاد إصدار المشير, وفي نيويورك أنشأ مجلة "الراوي" فكانت مسرحًا لرجال الأدب في المهجر من أمثال ميخائيل نعيمة، وأمين خير الله، وأسعد رستم، وإيليا أبي ماضي، وجبران خليل جبران الذي نشر العديد من قصص "الأرواح المتمردة" ومقالات كتابه "العواصف" ولما عفت السلطات عنه عاد لمصر وعمل بجريدة "المؤيد" 1904 وظل يعمل فيها حتى نوفمبر 1908. واستمدت خلال كتاباته فيها "المقالات الصغيرة" وتقطيع المقالات والعبارات، كما أدخل طريقة العناوين الواضحة وهي أمور تجعل الصحيفة أغزر مادة وأكثر حيوية، وأحسن إخراجا وتنسيقًا وكان له باب ثابت في "المؤيد" عنوانه "الشيء بالشيء يذكر" تناول فيه موضوعات طريفة، وأحداث حقيقية وقعت له، فاستحسنها القراء. ونختم القول فيه بما قيل عنه، فقد قال العارفون به أنه: "حلو الصداقة، لطيف المجالسة، فكه اللسان، حر الضمير" وقال عنه إسكندر شاهين: "يرضي الناس في كل جمعية ولا يغضب أحد من الحاضرين.. وفيه ميزة جميلة هي أنه لا يبخس الناس أشياءهم فلطالما سمعته يمدح أفرادًا ويذكر لهم الحسنات على حين أنه لم يكن على وداد معهم، وهو أيضًا واسع الصدر ولحديثه طلاوة وحلاوة مثل صديقه مطران1". تلك هي سيرة سليم سركيس في خطوط عريضة، تكشف عن حياته الحافلة بالنشاط الدائب، والحركة الدائمة، والكفاح المستمر، مما وصفه معاصروه بأنه ذا عقل راجح، وصاحب أفانين في كل ما كتب وسجل وأذاع.

_ 1 راجع: مجلة الثقافة ص45 العدد 87 الصادر في ديسمبر 1980.

أسلوب سليم سركيس: سجل سليم سركيس ملاحظاته، ودون خواطره في أسلوب فكاهي موجز يعد من أروع الأساليب في سرد الأخبار، وتصوير المواقف، وينشرها في سلسلة من الأحاديث بعناوين مختلفة يدل كل عنوان منها على مضمونه مثل: "يغيظني" و"مطبخ العقول" و"حديث العصفورة" و"الشيء بالشيء يذكر" و"جعبة المحرر" و"حديث القهوات" الذي تناول المناقشات التي دارت بين الأدباء في الصالونات المنزلية، والأبنية الأدبية أو في القهوات، وتضمن مادة أدبية غزيرة مؤثرة, ورغم هذا فلأسلوب سركيس مميزات أخرى، نجملها فيما يلي: 1- يعتمد على أسهل الألفاظ وأكثرها استعمالًا، بحيث لا تحتاج معانيها إلى عناء. 2- شيوع روح الفكاهة والإيجاز مع الإفادة. 3- الجمع بين الحس الصحفي والذوق الأدبي، مما جعل له طابع خاص وأدب مميز. 4- يستميل القراء على اختلاف أذواقهم وثقافاتهم ومعارفهم ونزعاتهم مما أكسبه حب الجميع. 5- يعدل عن استخدام الكلمات الضخمة الفخمة حينًا، ويؤثر حينًا آخر لفظًا غير فصيح -مع علمه به- فيقول "ثار الغبار" بدلًا من "ثار العثير" ويقول عن حسناء إنها "استحلانة" بدلًا من قوله إنها "طويلة الشعر" ويقول عن تلميذ إنه "فاز" بدلًا من أن يقول "أحرز قصب السبق" لأن الأولى تؤدي المعنى مع الاقتصاد في اللفظ1". ولقد جرى حوار بين إبراهيم اليازجي وسركيس 1897 على النحو التالي: قال اليازجي: أتعرف يا سركيس أنك بالنسبة إلي لا تزال طفلًا في اللغة العربية؟ قال سركيس: بل أنا جنين بالنسبة إلى معارفك. قال اليازجي: إذا كان الأمر كما تقول فما بال جريدتك تدرك في نصف ساعة ما لم تدركه جريدتي في سنتين.

_ 1 راجع: مجلة سركيس ص686 السنة السابعة.

قال سركيس: السبب ظاهر أنك تكتب في الضياء لأبناء القرن الرابع عشر، فلا تجد من يقرأ وأنا أكتب لأبناء القرن التاسع عشر بلغة "أبناء القرن الحادي والعشرين فهم يفهمونه ويجدون في كتابتي فكاهة ولذة1. ومعنى ذلك أن سليم سركيس جرى على طريقة الصحفي الذي يسطر ما يفهمه الناس، أما اليازجي فإنه يؤثر ألفاظًا لغوية تحتاج إلى فهم، ومن هنا لم تحتاج كتابات سركيس إلى عناء في تفسيرها. مجلة سركيس 1905-1936: تعد مجلة سركيس جزءًا من صحافتنا الأدبية، ومع ذلك اهتمت بالفن والاجتماع والسياسة والعلوم. كتب فيها أعلام العصر من أمثال خليل مطران، وحافظ إبراهيم، وأحمد شوقي، وعبد المحسن الكاظمي، وولي الدين يكن، وإمام العبد، وأمين الحداد ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومن الشباب أمثال: أحمد نسيم، وأحمد الكاشف، ومي زيادة وغيرهم. قربت المجلة بين الأدباء العرب في المهاجر الأمريكية وبلادهم في الشرق, وكانت ترافق مقالات الكتاب وقصائد الشعراء صور فوتغرافية ورسوم فنية، مما أضفى على المجلة بهاء، وزادها رونقًا، وأعطى للقارئ فرصة للتأمل تجعله ينقل النظر من المقروء إلى المنظور. قال الشيخ إبراهيم اليازجي 1847-1906 عنها: "برزت مجلة سركيس في أحسن حلة من الرونق والقبول" وقال محمد إبراهيم المويلحي 1858-1930 عنها: "مجلة سركيس تذكرني في الشرق بحسن التفنن في جرائد الغرب" وقال الشيخ علي يوسف 1863- 1913: "أكثر القراء يعرفون من هو سليم سركيس وما هو اقتداره في صناعة الصحافة، ولقد ضمن مجلته من فوائد الفكر واليراع ما يستفيد به القارئ ويلذه السامع" وقال شاعر العراق عبد المحسن الكاظمي 1865-1935 عنها:

_ 1 راجع: المصدر السابق ص709 السنة الثانية.

آية سركيس ما نظرناك إلا ... ورأيناك للكمال مثالًا حبذا أنت هازلًا ومجدا ... حبذا أنت قائلًا فعالًا حبذا أنت حافظ الود تسدي ... حافظ الشعر ما يسود النوالا وفه حقه وحق القوافي ... احتفاء بقدره واحتفالا1 ويقول خليل مطران: 1871-1949: "تقع العين على مجلة سركيس فتطمح إلى قراءتها، فإذا ابتدأت سارت إلى نهايتها، وإذا انتهيت منها وددت لو أنها تطول والفكر يريد المزيد" ويقول مصطفى صادق الرافعي 1880-1937: "أقول في نفسي ماذا يكون حال الأدب في مصر لولا وجود سليم سركيس. لا أقول إنه أعلم العلماء أو أفضل الفضلاء، ولكنه روح متحركة لا يقر لها قرار في خدمة الأدب والأدباء" وقال أنطون الجميل 1887-1948: "ياما أكثر حيلتك في إكرام رجال الأدب والفن ومساعدة البائس منهم.... سمعت كلماتك الجامعة على اقتضابها، ثم عطفت على اللوج بجانبي فقرصت أذن ولدك الصغير وقلت له: متعت طويلًا بأبيك مواسي اليتيم2". كانت المجلة تصدر أعدادًا خاصة في المناسبات الأدبية والاجتماعية قبل أن تعرف صحافتنا الأعداد الخاصة. واهتمت بالنكات والفكاهات حتى أصبحت الدعايات و"القفشات" سمة مميزة لها. وبعد الباب الذي كان يكتبه سليم سركيس تحت عنوان: "يغيظني" أو "يغيظني وأخواتها" نقدًا! اجتماعيا في أسلوب فكاهي. يقول: "يغيظني أن نكتب كل تحريرك بخط واضح، ثم تكتب إمضاءك بشكل لا يقرأ" ويقول: "يغيظني أن تجد الباب مقفلًا فتدخل، وتزيد غلاظتك بكلمة عدم المؤاخذة إذا كنت مشغولًا3".

_ 1 راجع: المجموعة الثانية من ديوان الكاظمي ص120 طبعة 1948. في هذه الأبيات يشير الكاظمي إلى مشروع مجلة سركيس للاحتفال بإكرام حافظ شاعر النيل. 2 راجع: مجلة الثقافة ص87 العدد 91 الصادر في إبريل 1981. 3 راجع: المصدر السابق ص26 العدد 88 الصادر في يناير 1981.

وكانت المجلة -أحيانًا- تدعو إلى مسابقة في مادة فكاهية، فقد دعت -مرة- إلى الكتابة في فضل الحمار على الإنسان، وسرعان ما تحول الأمر إلى مادة يمتزج الجد فيها بالهزل، فكتب فؤاد خليل سليم -نائل الجائزة- أن الحمار "يأكل خبزه بعرق جبينه ومن ثم يطعم صاحبه ويتفضل عليه وعلى أهل بيته، أما البشر فقد رأينا منهم غير قليل ممن لا يرى العالم منهم غير الشر" وأخذ الكاتب يعدد مزايا الحمار وسجل في مقالته البيت القائل: وتشبهوا إن لم تكونوا مثله ... إن الشبه بالحمار فلاح ولقد استهوى الموضوع بعض الكتاب، فنشرت المجلة في عدد سبتمبر 1907 بتوقيع مستعار. "عريضة إلى الحمار" وضح فيها فضل الحمار على الإنسان؛ لأن طعام غده مضمون لا تؤثر فيه أحداث الزمان، ولا يخيفه ارتفاع أسعار الغذاء، ولا يهمه زيادة أجور الموظفين، ويخاطب الحمار قائلًا: "أنت لا تشعر بحاجة إلى مرآة تنظر فيها هيئة آذانك الطويلة الجميلة" ثم اتجه إلى تصوير عيوب المجتمع، وتعدد سقطاته بلهجة ساخرة وروح ساخطة، ويوجه كلامه إلى الحمار قائلًا: "أنت لا تفهم ما العدالة فترتج رعبًا إذ تراها مشوشة الأركان بين شرع وقانون وامتياز، ولا تفهم ما هي الذمة والإخلاص فتذوب حسرة إذ ترى الأرواح تطلق عبثًا، والأمهات تدخلنها سمات في أسرة غير أمهات أولادهن والحرائر تقتضي الرذائل أثرهن في الطرق والأزقة ناثرة أبدًا الكلام, ولا أنت تدرك حرمة وقداسة العقل الرفيع فينفعك كيدًا أن تراه قد وضع لخدمة الضار والمشين واستخدم لمدح الممقوت والمهين واستعمل لقيادة الغير سبيل التقهقر. ولوضع الأمة تحت رقبة المستبدين ولتجيب لها عار السكينة إلى التجرد من الشعور الوطني الحقيقي والمزايا المدنية الحقة". المقالة من الأدب الرمزي، اتخذ الكاتب الحمار فيها وسيلة للتعبير عما في نفسه تجاه أوضاع فاسدة، وانتهز الفرصة فهاجم الذين انصرفوا عن

مقاومة المحتلين، وهكذا مزج الفكاهة بالنقد، والجد بالهزل، فتبتسم حينًا، وتتألم حينًا آخر. وكانت المجلة تهتم بالنكت التي تثير الضحك والسخرية, من ذلك ما دار بين حكيم عيون وآخر: - أرى أنك تضع ثلاث نظارات دائمًا في جيبك يا دكتور. ويقول الآخر: - نعم لأني استعمل الأولى عند القراءة، والثانية عندما أريد نظر شيء على بعد، والثالثة لأفتش بها على الاثنين. مثل هذه المادة الفكاهية وغيرها تقلل من تجهم الحياة، وتخفف من القتامة التي تسيطر على المواطنين نتيجة لأعبائها الثقيلة، وتهدئ من مرارة الواقع وصعوبته، فتيسر للقارئ -وقتًا- من الجدية والصرامة، وبمرور الوقت يتعود عليهما في تعاملها مع الحياة ومعطياتها. ولعلك أدركت أن فن الصور الهزلية والرسوم الكاريكاتورية فن جديد برز منذ أوائل هذا القرن، وتنافست الصحف في التعبير به، وتبارى الرسامون في أبحاثه، حتى يبرزوا تكوين الرأي العام؛ لأن الصورة الواحدة تغني عن عشرة آلاف كلمة، والكاريكاتير الواحد يشيع السخط على شيء، أو السخرية منه والرضا به أو الانحياز إليه، أو نقد شخص أو فكرة أو رأي أو سياسة. وحين تعمد الصحف إلى رسم الصور الهزلية في أشكال كاريكاتورية، تستهدف إبراز الحقيقة، ومساندة الضعفاء، ومعاونة المظلومين، ورد الحقوق للطبقات العاجزة، عن طريق النكات أو الفكاهات، فيطمئن الناس على حياتهم، ويشيع الشعور بالعدل في شتى طبقات المجتمع لإحساسهم بمشاركة غيرهم معهم.

خاتمة

خاتمة: جاءت هذه الدراسة -كما ترى- في مقدمة وثلاثة أبواب تضم خمسة عشر فصلًا وخاتمة، لا أدعي أني أتيت بالجديد الخارق، فحسبي أن وضحت مفهوم المقال ومعالم تطوره، وكشفت النقاب عن غوامضه، ومهدت السبيل لمن يريد الوقوف على قواعده وخصائصه واتجاهاته وأعلامه. حاولت خلال الباب الأول أن أتعرف على المقال وتطوره, فعرضت في الفصل الأول ملامح المقال في كتابات الأدباء والبلغاء منذ القرن الثاني الهجري مثل: دينيات الحسن البصري، ورسائل عبد الحميد الكاتب، وكتابات ابن المقفع، وفصول الجاحظ، وآراء ابن قتيبة النقدية، وأوصاف أبي حيان التوحيدي، ورسائل إخوان الصفا، واجتماعيات ابن خلدون. ورأينا أنها أدت ما أداه المقال الحديث في جمال وجلال وقوة واقتدار. وفي الفصل الثاني تناولت المقال في طوره الحديث منذ محاولات الأوروبيين في الكتابة, التي تضم أفكارًا متناثرة عن المشكلات الخلقية والمعاشية، التي ظهرت عند ميشيل دي مونتين الفرنسي، وفرانسيس بيكون الإنجليزي وغيرهما ممن اهتموا بما يشغل الناس من سياسة وأدب واجتماع وأخبار، ثم تتبعت المقال منذ نشأته في القرن التاسع عشر، والمراحل التي مر بها، ومعارك الحياة التي خاضها من شتى وجوهها، وختمت الفصل بأثر الصحف في تطور المقال وإثراء اللغة والأدب، بعد أن أشرت إلى معاني كلمات: الجريدة والصحيفة والمجلة. وجاء الحديث في الفصل الثالث عن المقال وتنوعه، مبينًا الأسس والضوابط التي يعتمد نقاد الغرب والعرب معًا عليها من مادة تكون واضحة متأخية، وقالب يتسم بالدقة والتألق، وأفكار تأتي مرتبة ومرتبطة. وفصلت

القول في تنوع المقال بالنسبة لموقف الكاتب وأسلوبه، موضحًا الفرق بين المقالين: الأدبي والعملي. وختمت الباب بفصل رابع تناولت فيه الكتب التي نشرت مقالات متفرقة في صحف عديدة منذ نشأة الصحف حتى اليوم. وجاء الباب الثاني في ثمانية أبواب عرضت فيها تنوع أساليب المقال، ففي الفصل الأول أبرزت المقال في إطاره اللغوي الذي عرف في كتابات أحمد فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي ومحمد إبراهيم المويلحي الذين آثروا الألفاظ اللغوية التي لم ترددها الأفواه، واستخرجوا من دفائن المعاجم وغرائب اللغة ما ميزهم عن غيرهم من معاصريهم في التعبير والتصوير والأداء والعرض. وفي الفصل الثاني جاء الحديث عن أصحاب أسلوب الإصلاح الاجتماعي من أمثال عبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين، وولي الدين يكن وغيرهم ممن دعوا إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني ومجانية التعليم وعشق الحرية في كل ما جادت به قرائحهم وفاضت به طبائعهم في مضمار الإصلاح العام. وتناول الفصل الثالث المقال الديني وأبرز رواده، ودورهم في تنوير الأمة وحثها على التمسك بالدين والأخذ بيدها إلى طرق الخير والحق والصدق والكمال من أمثال: الشيخ محمد عبده، والشيخ علي يوسف والأمير شكيب أرسلان والدكتور أحمد أمين. وتحدثت في الفصل الرابع عن دور المقال العلمي، وأثره في إحياء التراث العلمي العربي على يد يعقوب صروف وأحمد زكي وسلامة موسى وغيرهم ممن نهضوا به، وتألقوا في سمائه وعرفه أدبنا المعاصر على أيديهم. وفي الفصل الخامس تناولت أصحاب الأساليب الفنية التي تقوم على أسس فارقة، وقسمات مميزة من أمثال مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي، وجبران خليل جبران، وأحمد حسن الزيات وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وعمر فاخوري، ومي زيادة. وتناول الفصل السادس المقال الذي غلب عليه الأسلوب الفلسفي, وأبرزت دور

رواد هذا المجال من أمثال: أحمد لطفي السيد، وعلي أدهم، وزكي نجيب محمود. وأبرزت في الفصل السابع دور المقال السياسي في رفع صوت الوطن والوطنية، وإيمان نابهي الأمة في الكشف عن مواطن الضعف من أمثال عبد القادر حمزة، وأمين الرافعي، ومحمد حسين هيكل، ومحمد التابعي، وفكري أباظة, وختمت الباب بفصل عرضت فيه المقال الساخر الذي يعتمد على التحليل، ويبرز ما يريده الكاتب ويعبر فيه عن هموم الناس ومشاكلهم، ويخاطبهم بالرسم حينًا، والعبارة حينًا آخر، والخبر حينًا ثالثًا، ينتقد الحكام والشخصيات، واخترت من رواد هذا اللون محمد السباعي، وعبد العزيز البشري، وحسين شفيق المصري، وإبراهيم عبد القادر المازني. وتناول الباب الثالث المقال في الصحف المعاصرة، وقد تضمن ثلاثة فصول، أبرزت في الفصل الأول دور المقال في القضايا الفكرية التي شغلت الرأي العام العربي والإسلامي، وأشرت في بداية الفصل إلى دواعي ظهور حرية الرأي، وعرضت قضية تحرير المرأة التي أثارها المرحوم قاسم أمين في كتاباته العديدة، وقضية "الإسلام وأصول الحكم" التي قادها الشيخ علي عبد الرازق، وقضية "الشعر الجاهلي" التي أثارها الدكتور طه حسين، وقضية التبشير التي حاول المستشرقون أن يشيعوها في المجتمع الإسلامي، وخلال ذلك كله وضحت جهود الكتاب ودور المقال في الدفاع عن الشخصية الإسلامية مما أيقظ المشاعر، وأجج العواطف أمام موجات الإلحاد، وأخذوا بيد الشباب الحائر إلى الطريق القويم. وعالج الفصل الثاني المقال المعاصر الذي عبر عن الأحداث بلغة الجميع فجاء لسان "الرأي العام" وترجمان "الوعي القومي" وعرفته الصحف منذ مطلع هذا القرن بألوانه الثلاثة: العرض الذي يعرض فكرة، ويحللها بطريقة خاصة، وآخر ينقد فكرة أو موضوعًا أو اتجاهًا في السياسة أو الأدب أو الاجتماع، وثالث ينازل الكاتب فيه خصيمًا له في الرأي أو العقيدة، ويحاول من خلاله أن يبرز قدرته الصحفية ومهارته في العرض

والرد. وأبرزت دور المقال في الصحف التي نطالعها كل يوم حتى يصبح المطالع لها على بصيرة مما يطالع، وبينة مما يقرأ. وفي الفصل الثالث بسطت القول في ألوان المقال التي نطالعها في صحف اليوم من خاطرة عابرة، وفكرة طارئة، وكاريكاتير معبر. وجاءت هذه الألوان تحت عناوين ثابتة لكتاب عديدين، وتعالج أشياء كثيرة بطريقة تختلف عن المقال من حيث الأدلة والبراهين، والطول والقصر، وغيرها من الأشياء التي يتميز المقال بها. ثم جاءت الخاتمة شيئًا طبيعيا، تحمل الخطوط الرئيسية، وتعطي صورة جلية للدراسة في تخطيطها وتبويبها وتنسيقها وعرضها. ونحن إذ نصل إلى الخاتمة -التي آمل حسنها- نحمد الله على ما وفق وهدى، ونسأله أن يحقق لأبنائنا الآمال العراض، حتى يقتعدوا غارب المجد., ويتبوؤا المكانة السامية والمنزلة العليا في دنيا الفكر وعالم الثقافة. ويكونوا خير الأبناء لوطنهم ودينهم ولغتهم، والحمد لله أولًا وأخيرًا. دكتور السيد مرسي أبو ذكري

أهم المصادر

أهم المصادر: 1- الأدب العربي المعاصر في مصر دكتور شوقي ضيف دار المعارف 1957. 2- الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث أنيس المقدسي طبعة بيروت 1952. 3- الإسلام وأصول الحكم الشيخ عبد الرازق طبعة 1926 4- الإسلام والتجديد في الإسلام شارلي أدميس ترجمة العقاد طبعة 1935. 5- الأسلوب, أحمد الشايب, الطبعة السادسة 1976 6- أدب المازني, دكتورة نعمات أحمد فؤاد طبعة 1954. 7- أدب المقالة الصحفية دكتور عبد اللطيف حمزة الجزء الأول طبعة 1964. 8- البيادر ميخائيل نعيمة طبعة دار المعارف 1945. 9- بين الكتب, عباس محمود العقاد طبعة 1952. 10- تاريخ الأستاذ الإمام محمد رشيد رضا طبعة 25/ 1931. 11- تطور الأدب الحديث في مصر دكتور أحمد هيكل طبعة 1968. 12- جمهرة رسائل العرب ج3 تحقيق محمد زكي صفوت طبعة الحلبي. 13- حديث عيسى بن هشام, محمد إبراهيم المويلحي طبعة 1969. 14- حديث الأربعاء ج3 دكتور طه حسين طبعة دار المعارف 15- دراسات في الأدب والنقد, دكتور محمد عبد المنعم خفاجة 1956. 16- الديوان ج2 العقاد والمازني طبعة 1921. 17- الدرر, أديب إسحاق, طبعة الأسكندرية 1886. 18- رواد النهضة الحديثة, مارون عبود, طبعة بيروت 1952 19- زكي مبارك ناقدا, مجموعة مقالات, طبعة الشعب 1978.

20- ساعات بين الكتب, عباس محمود العقاد, الطبعة الثانية 1945. 21- الساق على الساق, أحمد فارس الشدياق طبعة 1919. 22- الصحافة والأدب, عبد اللطيف حمزة, طبعة القاهرة 1955. 23- طبائع الاستبداد, عبد الرحمن الكواكبي الطبعة الأولى. 24- عبد العزيز البشري, دكتور جمال الرمادي، العدد 24 من سلسلة أعلام العرب. 25- عمر فاخوري للسيدة وداد السكاكيني، العدد 89 من سلسلة أعلام العرب. 26- على هامش السيرة ج3 دكتور طه حسين طبعة دار المعارف 27- عصر إسماعيل, عبد الرحمن الرافعي طبعة 1932. 28- فرانسيس بيكون, ترجمة عباس محمود العقاد طبعة 1945. 29- فنون الأدب, ترجمة زكي نجيب محمود طبعة 1945. 30- فن المقالة, محمد يوسف نجم, طبعة بيروت 1966. 31- الفصول, عباس محمود العقاد طبعة 1922. 32- في المرآة, عبد العزيز البشري طبعة 1927. 33- في الأدب الحديث, عمر الدسوقي طبعة 1961. 34- الفنون الأدبية وأعلامها, أنيس المقدسي, طبعة بيروت 1936. 35- في الميزان الجديد, دكتور محمد مندور طبعة 1944. 36- فيض الخاطر ج9 دكتور أحمد أمين طبعة 1955. 37- قبض الريح, إبراهيم عبد القادر المازني طبعة 1971. 38- قصة الفيلسوف, محمد السباعي طبعة 1957. 39- كتب وشخصيات, السيد قطب طبعة 1946. 40- لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ شكيب أرسلان طبعة 1939. 41- معجم الأدباء ج15 طبعة الدكتور أحمد فريد الرفاعي القاهرة 1936.

42- مقدمة ابن خلدون, طبعة المكتبة التجارية 43- محاضرات في المقال الأدبي, دكتور محمد عوض محمد. 44- مروج الذهب ج2 للمسعودي طبعة الشعب 1968. 45- رسائل الجاحظ, جمع ونشر حسن السندوبي الطبعة الأولى 1933. 46- مطالعات في الكتب والحياة, عباس محمود العقاد طبعة 1952. 47- مع العقاد, دكتور شوقي ضيف العدد 259 من سلسلة أقرأ. 48- ملامح وغصون, محمود تيمور طبعة 1950. 49- الوزراء والكتاب, الجهشياري طبعة الحلبي 1938. 50- وحي القلم, مصطفى صادق الرافعي طبعة 1941. 51- وحي الرسالة, أحمد حسن الزيات طبعة 1949. 52- الواسطة في أحوال مالطة, أحمد فارس الشدياق طبعة 1881.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: الصفحة الموضوع 8 المقدمة 9 مفهوم المقال 15 الباب الأول: المقال وتطوره 17 الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم 18 أولًا: الحسن البصري ودينياته 20 ثانيًا: عبد الحميد الكاتب ورسائله 22 ثالثا: عبد الله بن المقفع وكتاباته 25 رابعًا: الجاحظ ورسائله وفصوله 30 خامسًا: ابن قتيبة وأراؤه النقدية 33 سادسًا: أبو حيان التوحيدي وأوصافه 36 سابعًا: إخوان الصفا ورسائلهم 38 ثامنًا: ابن خلدون واجتماعياته 42 الفصل الثاني: المقال في طوره الحديث 42 أولًا: محاولات الأوروبيين 43 أ- ميشيل دي مونتين 44 ب- فرانسيس بيكون 45 جـ- المقال في القرن الثامن عشر 46 د- المقال في القرن التاسع عشر

الصفحة الموضوع 47 ثانيًا: المقال في الأدب العربي الحديث 48 الطور الأول 49 الطور الثاني 50 الطور الثالث 53 الطور الرابع 56 الطور الخامس 61 ثالثًا: أثر الصحف في تطور المقال 67 الفصل الثالث: تنوع المقال 67 تعريفات النقاد للمقال 69 العناصر التي يقوم المقال عليها 70 الخطة التي يتألف المقال منها 73 أنواع المقال 73 أولًا: المقال بالنسبة لموقف الكاتب 73 أ- المقال الذاتي 1- المقال الشخصي 73 2- المقال الاجتماعي 74 3- المقال الوصفي 74 4- المقال الإنطباعي 74 5- مقال السيرة 75 6- المقال التأملي 75 7- المقال الساخر 76 8- المقال الإذاعي 76 9- المقال الإنشائي 76 77 ب- المقال الموضوعي

الصفحة الموضوع 1- المقال النقدي 77 2- المقال الفلسفي 77 3- المقال السياسي 78 4- المقال التاريخي 78 5- مقال العلوم الاجتماعية 78 6- المقال الصحفي 78 جـ- المقال الموضوعي الذاتي 79 79 ثانيًا: المقال بالنسبة لأسلوب الكاتب 1- المقال الأدبي 80 2- المقال العلمي 80 82 الفرق بين أسلوب المقال الأدبي والعلمي 84 الفصل الرابع: المقال والكتب 1- كنز الرغائب في منتخبات الجوائب 85 2- أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ 85 3- تحرير المرأة 86 4- حديث عيسى بن هشام 87 5- علاج النفس 87 6- أم القرى 88 7- طبائع الاستبداد 88 8- مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء 9- النظرات 89 10- المعلوم والمجهول 90 11- الصحائف السود 90

الصفحة الموضوع 12- التجاريب 90 13- النسائيات 91 14- المنتخبات 91 15- التمثيل الفني واللا فني 92 16- محاكمة مؤلفي الروايات التمثيلية 93 17- مذابح الأعراض 94 18- خطوات في النقد 94 19- دماء وطين 94 20- الحياة الجديدة 95 21- مدامع العشاق 95 22- الحديث ذو شجون 95 23- ليلى المريضة في العراق 96 24- بين آدم وحواء 97 25- زكي مبارك ناقدًا 97 26- الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقداس مطاف 98 27- لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ 98 28- زينب 99 29- ثورة الأدب 99 30- في أوقات الفراغ 100 31- تراجم مصرية وغربية 100 32- حياة محمد 100

الصفحة الموضوع 33- حديث الأربعاء 101 34- حافظ وشوقي 101 35- الأيام 102 36- المعذبون في الأرض 102 37- فصول في الأدب والنقد 103 38- على هامش السيرة 103 39- من بعيد 104 40- وحي القلم 104 41- تحت راية القرآن 104 42- على السفود 105 43- في المرآة 105 44- المختار 106 45- قطوف 106 46- ساعات بين الكتب 107 47- مطالعات في الكتب والحياة 107 48- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 108 49- اليوميات 108 50- فيض الخاطر 108 51- رسائل النقد 109 52- يوميات نائب في الريف 109 53- وحي الرسالة 110 54- حصاد الهشيم 110 55- في الميزان الجديد 111

الصفحة الموضوع 56- تربية سلامة موسى 111 57- بين الفلسفة والأدب 111 58- لا هوادة 112 59- الحقيقية اللبنانية 113 60- غرام الأدباء 113 61- الذين أحبوا "مي" 114 62- خطوات نحو القدس 114 63- لكل مقال أزمة 115 117 الباب الثاني: المقال وتنوع الأساليب 119 الفصل الأول: المقال والأسلوب اللغوي 120 أولًا: أحمد فارس الشدياق وأسلوبه 121 ريادة الشدياق في الكتابة بلبنان 125 ثانيًا: الشيخ إبراهيم اليازجي وأسلوبه 133 ثالثًا: محمد إبراهيم المويلحي وأسلوبه من خلال كتابه عيسى بن هشام 139 الفصل الثاني: المقال وأسلوب الإصلاح الاجتماعي 139 بداية الدعوة إلى الإصلاح 141 أولًا: عبد الرحمن الكواكبي وأسلوبه 144 ثانيًا: قاسم أمين وأسلوبه 149 ثالثًا: ولي الدين عدلي يكن وأسلوبه 154 رابعًا: عبد العزيز جاويش وأسلوبه 159 الفصل الثالث: المقال والأسلوب الديني 159 دور الصحافة الدينية 162 أولًا: الشيخ محمد عبده وأسلوبه

الصفة الموضوع 164 ثانيًا: الشيخ علي يوسف وأسلوبه 168 ثالثا: شكيب أرسلان وأسلوبه 171 رابعًا: أحمد أمين وأسلوبه 175 الفصل الرابع: المقال والأسلوب العلمي 175 الأسلوب العلمي في التراث العربي 177 أولًا: يعقوب صروف وأسلوبه 181 ثانيًا: أحمد زكي وأسلوبه 185 ثالثًا: سلامة موسى وأسلوبه 189 الفصل الخامس: المقال والأسلوب الفني تمهيد 190 أولًا: مصطفى لطفي المنفلوطي وأسلوبه 192 ثانيًا: مصطفى صادق الرافعي وأسلوبه 195 ثالثا: جبران خليل جبران وأسلوبه 198 رابعًا: أحمد حسن الزيات وأسلوبه 200 خامسًا: عباس محمود العقاد وأسلوبه 202 سادسًا: طه حسين وأسلوبه 205 سابعًا: عمر فاخوري وأسلوبه 209 ثامنًا: مي زيادة وأسلوبها 213 الفصل السادس: المقال والأسلوب الفلسفي تمهيد 214 أولًا: أحمد لطفي السيد وأسلوبه 217 ثانيًا: علي أدهم وأسلوبه

الصفحة الموضوع 222 ثالثًا: زكي نجيب محمود وأسلوبه 228 الفصل السابع: المقال والأسلوب السياسي 228 حال العصر 230 أولًا: عبد القادر حمزة وأسلوبه 233 ثانيًا: أمين الرافعي وأسلوبه 238 ثالثًا: محمد حسين هيكل وأسلوبه 240 رابعًا: محمد التابعي وأسلوبه 244 خامسًا: فكري أباظة وأسلوبه 247 الفصل الثامن: المقال والأسلوب الساخر 247 الأسلوب الساخر وخصائصه 249 أولًا: محمد السباعي وأسلوبه 252 ثانيًا: عبد العزيز البشري وأسلوبه 255 ثالثًا: حسين شفيق المصري وأسلوبه 258 رابعًا: إبراهيم عبد القادر المازني وأسلوبه 263 الباب الثالث: المقال في الصحف المعاصرة 265 الفصل الأول: المقال وقضايا الفكر 265 بوادر حرية الرأي 268 أولًا: قضية المرأة 276 ثانيًا: كتاب "الإسلام وأصول الحكم" 282 ثالثًا: كتاب "في الشعر الجاهلي" 285 رابعًا: قضية التبشير 291 الفصل الثاني: المقال المعاصر تمهيد

الصفحة الموضوع 295 أولًا: المقال العرضي. 297 ثانيًا: المقال النقدي 299 ثالثًا: المقال النزالي 302 المقال في صحف اليوم 304 أ- الأهرام 315 ب- الأخبار 323 جـ- الجمهورية 330 الفصل الثالث: ألوان من المقال في صحف اليوم 330 العمود الصحفي 331 أولًا: الخاطرة 332 في الأهرام 333 أ- صندوق الدنيا 334 ب- مجرد رأي 335 جـ- رأي الأهرام 336 د- مواقف 337 في الأخبار وأخبار اليوم 338 أ- كلمة اليوم 339 ب- ما قل ودل 340 جـ- نحو النور د- علامة استفهام 341

الصفحة الموضوع 343 هـ- آخر عمود 344 ل- العزف على الهواء 346 م- مواجهة 347 ن- رأي بالعربي 348 ط- جولة الفكر 349 و نحو الغد 351 في الجمهورية 351 أ- صواريخ 352 ب- قطر الندى 354 د- العلم والحياة 355 هـ- خواطر سريعة 356 و من الذاكرة 357 ي- من القلب 359 ثانيًا: الفكرة بداية الفكرة في الصحف المصرية 360 علي أمين وريادته في كتابة الفكرة مثال للأستاذ مصطفى أمين 363 خصائص العمود الصحفي 364 ثالثًا: فن الكاريكاتير نشأة الكاريكاتير 368 سليم سركيس

الصفحة الموضوع 371 أسلوب سليم سركيس 372 مجلة سركيس 377 الخاتمة 381 أهم المصادر 385 الفهرست تم الفهرست والحمد لله أولًا وأخيرًا..

§1/1