المقالات المسفرة عن دلائل المغفرة

السمهودي

الفصل الأول: الصلوات الخمس كفارة لما بينها

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام العالم العلامة والبحر الفهامة نور الدين علي بن الشيخ الإمام العلامة القاضي جمال الدين عبد الله الحسيني السمهودي، نفع الله به وبعلومه آمين: أما بعد: حمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، فهذه ثلاثة فصول هي للمغفرة، إن شاء الله، قواعد وأصول. الفصل الأول: في تحقيق معنى قوله (صلى الله عليه وسلم): الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنب الكبائر، ونحوه من الأحاديث، مع ما تقرر من أن اجتناب الكبائر فقط، ليس بسبب لتكفير الصغائر، وتحقيق الرد على من خالف ذلك. الفصل الثاني: في الكلام على ما ورد من إطلاق غفر جميع الذنوب من غير تقييد بالتوبة عند فعل بعض الطاعات على ما ذكره القرافي. من الفروق بين مكفرات الذنوب وأسباب المثوبات. وبيان أنّ من الأعمال ما يكفر الذنوب السابقات واللاحقات. الفصل الثالث: في سرد الخصال المكفرة للسيئات المتقدمة والمتأخرة، ولقد لخصت في هذا الفصل الكتاب الجليل المسمى: بمعرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة. والمتأخرة لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، وقد أزيد بعض القواعد في الأثناء، فأقول في أولها، وفي آخرها: والله أعلم، وسميت ذلك: بالمقالات المسفرة عن دلائل المغفرة والله أسأل أن يغفر لنا به جميع الذنوب وينيلنا به المطلوب. الفصل الأول أعلم وفقني الله وإياك أن الإمامين البخاري ومسلم رويا حديث: الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وزاد مسلم: ما اجتنبت الكبائر، فاستشكلت ذلك، لأنَّ اجتناب الكبائر وحده مكفر للصغائر، لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، ثم رأيت الإشكال المذكور في مختصر صحيح

البخاري للحافظ ابن حجر، فإنه قال في الكلام على رواية البخاري: قال القرطبي: صاحب المفهم: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل، زاد مسلم من رواية العلاء: ما اجتنبت الكبائر، فعلى هذا المقيد يحمل على ما أطلق في غيره، وقال ابن بزيزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء إشكال، وهو أن الصغائر، بنص القرآن، مكفرة باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات الخمس، نقل الحافظ ابن حجر عن شيخه البلقيني أنه قال: السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله إن تجتنبوا الكبائر في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في حديث العلاء أن الصلوات الخمس تكفر ما بينهما، أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فلا عارض بينهما. ولك أن تقول التعليق على الكبائر جميع العمر إلا الإتيان بالصلوات الخمس في كل يوم، فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث، فما الفائدة بالاجتناب المذكور في الآية مع أن هذه الزيادة ألحقت بالأصل، فاجتناب الكبائر مطلق في الآية والحديث، فمن له هذا التفريق، وكأنه أخذه من لفظة ما المذكورة في الحديث، وجعلها مصدرية ظرفية، أي مدة اجتناب الكبائر، ولكن ورد ذلك كما اقتضته الروايات المختلفة بلفظ: إذا بدل ما وهي تبين أن المراد اشترط ذلك، كما اقتضته الآية، ولا تسلم أن المراد، فمن الآية ما ذكره، بل المراد أن ثواب اجتناب الكبائر في وقت يكفر الصغائر فيه، فقال: قال

البيضاوي في تفسيره: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه: كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها، قرئ على إرادة الجنس، نكفر عنكم سيئاتكم: نغفر صغائركم ونمحها عنكم. واختلف في الكبائر: والأقرب أن الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه حداً، وصرح بالوعيد فيه، وقيل ما حرمته بقاطع، وقيل صغر الذنوب وكبرها، إضافة إلى ما فوقها وما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك، وأصغر الصغائر حديث النفس، وبينهما وسائط، يصدق عليها الأمران، فمن عن له الأمران، ودعت النفس إليهما، بحيث لا تمالك، فغلبها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكب لما استحق من اجتناب الكبائر. وجعله حديث النفس من الصغائر مراده حيث حصلت المؤاخذة به، وذلك حيث يقارنه فعل ما حدث به نفسه لحديث الشيخين: إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به، وحديث مسلم: من هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وفي رواية: كتبها الله عنده حسنة فما تركها من جراي أي من أجلي، فقضية ذلك أنه إذا تكلم بما همَّ به كالغيبة أو شرب المسكر أنضم إلى المؤاخذ بذلك المؤاخذة بالهم وهو المراد بحديث النفس، أما التصميم على فعل المعصية وهو العزم، فالعمل مؤاخذ به، وإن لم يفعل على الصحيح كما ذكره النووي، وأصرح مما ذكره البيضاوي في الدلالة على المقصود قول الإمام الغزالي في الكلام على التوبة إنَّ حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها، وإن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، بموجب قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ}، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة، إذا

اجتنبها مع القدرة والإرادة كما يتمكن من امرأة ومواقعتها، فكفّ نفسه عن الوقاع، ويقتصر على النظر والمس؛ فإنَّ مجاهدته نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه [من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره. فإن كان عِنّينًا] (*)، ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً، ولكن امتنع لخوف أمر آخر، فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه لو قدم له لما شربه، فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار، وهذا ظاهر يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا اقترن به القصد حسنة، وإنما قيد بذلك، وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه، أنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب على الإشكال المتقدم أن يُقال: قوله في الحديث: ما اجتنبت الكبائر ليس قيداً لأصل التكفير، بل لشمول التكفير سائر الذنوب، وكأنه قال: الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها، وتكفيرها للجميع كائن في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر، ومقيداً باجتناب الكبائر، وإلا فليست الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير، لكن قرينة الآية اقتضت العدول عنه إلى ذلك جمعاً بين الأدلة. فإن قيل: فإذا اجتنبت الصغائر باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ قلنا هذا حينئذ من قبيل من فعل أموراً، كل واحد منها مكفر، فإن المكفرات لا تنحصر فيما ذكر [وحكمها أنّها إن ترتبت فالمكفّر السّابق، وإن وقعت معًا فالمكفّر واحد منها يشاؤه الله تعالى وأمّا البقيّة فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصّغائر لو وجدت على ما تقدّم، كما لو فعل واحدًا من الأمور المكفّرة ولم يكن قد ارتكب ذنبًا. وسيأتي مزيد كلام يتعلق بهذا في الفصل الثّاني في الكلام على صوم عرفة. هذا ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم بعد التأمّل. ثم رأيت في كلام البغوي ما يقتضي أنّ الحديث بيان للمراد من الآية فإنه قال: " {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي من الصّلاة إلى الصّلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان". ثمّ ساق الحديث المتقدّم من رواية مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ: "الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" فعلى ما اقتضاه كلامه لا يحصل التّكفير إلاّ بفعل كلّ من هذه الأمور واجتناب الكبائر، وكأنّه اكتفى في الآية بذكر اجتناب الكبائر عن فعل هذه الأمور لأنّ التّارك لها لم يجتنب الكبائر لأن ترك هذه الأمور من جملة الكبائر. ثم رأيت ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم وما اقتضاه كلام البغوي مصرّحًا به،] (*)، قال الزركشي، في قواعده: قال المحب الطبري، في أحكامه: اختلفت العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما: نعم، وهو ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم): ما اجتنبت الكبائر ظاهره الشرطية، فإذا اجتنبت الكبائر كانت فكفرات لها، وإلا فلا. قال: وقد ذكره ابن عطية، في تفسيره: أن هذا قول الجمهور. وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث الاستثناء، والتقدير مكفرات لما بينهن إلا الكبائر.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف

قال الطبري: هذا ظاهر بالإطلاق، وحديث خروج الخطايا من أعضاء الوضوء مع قطر الماء. ثم قال الزركشي: واختلفوا في أن التكفير هل يشترط في التوبة؟. قال: ولعلّ الخلاف مبني على التأويلين، فمن جعل اجتناب الكبائر شرطاً في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة، ومن جعل هذه الخصوصية لمجتنب الكبائر، ومن لم يشترط التوبة وعدم الإصرار، ويدل عليه الذي قبل امرأة ثم ندم. فأخبره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن صلاة العصر كفّرت عنه، وكان الندم قد تقدم منه، والندم توبة، لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة، فإنَّ التوبة بمجردها تجب ما قبلها، ولو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات، فسقط اعتبار التوبة معها. والحاصل أن قوله: ما اجتنبت الكبائر هو قيد في التكفير، حتى ولو كان مصراً على الكبائر لم يغفر له شيء من الصغائر، أو هو قيد في تعميم المغفرة، فعلى هذا تغفر الصغائر، وإن ارتكبت الكبائر. والأقرب الثاني، وإلا لم يكن بذلك تأثير في التفكير؛ لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، بدليل قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . . .}، وهذا ما ذكره الزركشي. فمن اجتنب الكبائر لا يقع تعذيبه على الصغائر باتفاق القولين إلا على رأي من شرط التوبة أيضاً. وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي، وصدر الشريعة، وغيرهما من علماء الحنفية ما حاصلة: أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع، سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا، لدخولها تحت قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .}، ولقوله تعالى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .}، والإحصاء إنما يكون للسؤال أو المجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. قالوا: وخالف في ذلك المعتزلة

فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر للأدلة عن السمعية قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، ثم أجابوا عن ذلك بأن الكبيرة مطلقة حتى الكفر: لأنه الكامل، وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، وإن كان الكل ملّة واحدة في الحكم، وإلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من القواعد أن مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد كقولنا: ركب القوم دوابهم. قالوا: ويدل على أن المراد بالكبائر الكفر. قراءة: كبائر ما تنهون عنه، ثم أوردوا على أنفسهم أن مقتضى الآية السابقة أن من اجتنب الكفر كفرت ذنوبه كلها، لوجوب تحقق الجزاء عند تحقق الشرط، وهذا أبلغ مما قاله الخصم؛ لأنه يخصه بالصغائر لإبقائه لفظ الكفر على ظاهره من العموم. ثم أجابوا بأن المراد إن تجتنبوا الكفر يجعلكم محلاً لتكفير سيئاتكم صالحاً؛ لأنه علق في الآية السابقة مغفرة ما دون الشرط على المشيئة، فلو قلنا: إن ذنوب من اجتنب الشرك تكفر من غير تعليق بمشيئة الله تعالى لزم التناقض فوجب التأويل. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ} للكفار. وإن كان ما قبله في المؤمنين، والمراد: {سَيِّئَاتِكُمْ}، التي اكتسبها في خلال الكفر تكفر بالإسلام. انتهى كلامهم، وهو موافق لمن اشترط في التكفير التوبة مطلقاً، ولكنه ضعيف على ما تقدم. والجواب كما ذكروه أنه كمال التوبة تجب ما قبلها مع أن ما قبله داخل تحت قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . . .}، وقوله أيضاً: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . . .}، ولم يلزم منه تناقض لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده تعالى بذلك، فكذلك الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وإن كانت داخله، فما ذكر لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده أيضاً، ويكون المراد من قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} الذنوب المستمرة التي لم تسقطها التوبة، ولم يكفرها فعل شيء من المكفرات في الدنيا جمعاً بين الأدلّة. أو تقول من اجتنب الكبائر فهو ممن شاء الله أن يغفر له بعض ذنوبه التي هي مما دون الشرك بمقتضى الوعد الكريم؛ لأنها إذا كفرت فقد غفرت، ولا يضر كون هذه المشيئة قد شرط لوجودها أمر آخر مقدور لله تعالى، وهو الاجتناب، لأنه لا يكون إلا بخلفه تعالى والله أعلم. وأما حمل الكبائر على الكفر، فهو خلاف الظاهر، والذي يحمل على الكامل إنما هو المطلق، وأما العام فيشمل جميع أفراده على أنه إذا كان الحمل على الكامل يقتضي تعارض الأدلة المؤدي إلى إخراج لفظ أحدهما عن ظاهره، فيتعيّن عدم المصير إليه. وأيضاً فالقاعدة في كلام الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) على ما صرح به الفخر الرازي أنه متى تردد بين حملة على ما هو أقل فائدة، وما هو أكثر فائدة، فحمله على ما هو أكثر فائدة أولى وأما جعل الخطاب في الآية للمشركين مع كونه خلاف الظاهر مردود بالأحاديث الواردة في ذاك والله أعلم. وقد اقتضى ما قدمناه عنهم أن المخالف لهم في ذلك إنما هم المعتزلة وبه صرح صاحب الانتصاف من الكشاف، فقال في الرد على الزمخشري: إن القول بأن اجتناب الكبائر يوجب تمحيص الذنوب

وتكفيرها عن المؤمنين مردود عند أهل السنة، فإن الصغائر عندهم حكمها في التفكير حكم الكبائر، يكون بأحد الأمرين: إما التوبة النصوح المقبولة، وإما بالمشيئة لا غير. وأما اجتناب الكبيرة عندهم فلا يوجب تكفير الصغيرة. ولعل مراده بنفي الوجوب عند أهل السنة: عدم جزم الإنسان بتكفيرها عنه بمجرد الاجتناب لعدم تحققه للاضطراب في بيان الكبيرة، وغير ذلك، أو بقي الوجوب على الله كما تطلقه المعتزلة، وأما نفي الوجوب بمعنى أن هذا الأمر محقق الوقوع إذا وجد شرطه بمقتضى إخبار الله تعالى فمردود لدلالة السمع عليه، ولما قدمناه من كلام الأئمة من أهل السنة وكلام أصحابنا في الشهادات صريح فيه، ولهذا قال الفاكهاني في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني عقب إرادة كلام الانتصاف وهذا فيه نظر؛ لأن أهل السنة لا ينكرون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، الآية، ولا يخالف في ذلك المعتزلة، ولا نخالفهم، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في هذه الآية هل التكفير قطعي أم ظني؟ وهم يقولون قطعي فلا ينبغي أن ينقل عن أهل السنة أنهم لا يعتقدون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، قال ابن عطية عند قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: اختلف العلماء في هذه المسألة: فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض كفرت صغائره قطعاً بظاهر الآية، وظاهر الحديث، وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة الثابتة، ودلّ ذلك على أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً، لكانت لهم في حكم المباح الذي يقطع بأن لا تبعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم ترد إليها هذه المطلقات كلها، وهي قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. .}، ما ذكره الفاكهاني، وما ذكره من أن هذا حكم المظنون ينبغي أن يكون هو الراجح لما سيأتي

في التنبيه الآتي، لكن لك أن تقول إن أراد به ما سيأتي في كلام الغزالي من أنه لا طريق للمكلف إلى علم، فمسلم أو غيره فممنوع، لتظاهر الآيات والأحاديث على ذلك، ولهذا قال القرطبي في تفسيره {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن أشياء هي كبائر على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة في التنبيه الآتي، لكن لك أن تقول إن أراد به ما سيأتي في كلام الغزالي من أنه لا طريق للمكلف إلى علم، فمسلم أو غيره فممنوع، لتظاهر الآيات والأحاديث على ذلك، ولهذا قال القرطبي في تفسيره {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن أشياء هي كبائر على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن المسّة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعاً بوعده الصدق وقوله الحق أنه يجب عليه ذلك. ونظير هذا الكلام في قبول التوبة فالله يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى، وهي إقامة الفرائض للأحاديث، فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعاً. وقول ابن عطية: لو قطعنا لمن اتصف بهذا الوصف بحصول التكفير عنه القطع بفعله المعصية، ولا يتحقق اجتناب للكبائر وخلوصه عن عهدة الفرائض، بل لا يقطع بأن ما ارتكبه ليس من الكبائر للاضطراب فيها على ما سيأتي. ثم لو سلم وجود طريق إلى العلم بذلك فلا نسلم أن الصغائر حينئذ تكون في حكم المباح؛ لأنه عند الإقدام على الصغائر يتحقق الإقدام على معصية، ولا يتحقق وجود اجتناب الكبائر وامتثال الفرائض منه بعد ذلك، وهو سبب التكفير؛ لأن الشخص لو قطع بأن الإسلام والتوبة تكفر الذنوب فلا يلزم منه ما ذكر لعدم تحقق وجود الإسلام والتوبة أو التوبة بعد الذنب حالة تعاطيه، على أنه قد سلم هذا الحكم المظنون، فلو لزم ما ذكره على قدر القطع لربما قبل بلزوم مثله على تقدير الظن؛ لأنه مكلف به في الخروج عن العهدة , وأيضاً قال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفه العباد، بل أخفاها الله تعالى ليجتهدوا في اجتناب المنهي خشية الوقوع فيها كإخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر حينئذ فلا سبيل للعبد إلى القطع بتكفير بعض ذنوبه بهذه الطريقة، بل قد يظن ذلك، وأن القطع بأن حكم تكفير الصغائر باجتناب الكبائر وامتثال الفرائض في كلام الغزالي ما يدل على ذلك، فإنه قال بعد كلام طويل على الكبيرة ما لفظه: فإذا يرجع حاصل الأمر أنا نعني بالكبائر ما لا تكفره الصلوات الخمس بحكم الشرع، وذلك مما انقسم إلى ما علم أنها لا تكفره قطعاً، وإلى ما ينبغي التوقف فيه، والمتوقف فيه بعضه مظنون بالنفي والإثبات، وبعضه

مشكوك فيه ومرسل، لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة، فلا مطمع فيهما خطاب رفع الشك فيه محال، ثم قال: فأن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفته، قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة في المشيئة، ثم ذكر نحو ما قدمناه عن الحنفية من الاستدلال بهذا يقتضي أن خلافهم ليس بلفظي والله أعلم. فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حدّه، فأعلم أن كل مالا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام؛ لأن دار التكيف هي دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث أنها كبيرة بل موجبات الحدود معلومة بأسبابها (كالسرقة والزنا وغيرها)، وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها، وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرؤون على الصغائر اعتماداً على الصلوات الخمس، وكذلك اجتناب الكبائر. كلام الغزالي. وأما ما وقع للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والقاضي أبي بكر والإمام ابن القشيري من أن كل ذنب كبيرة، وتقسيمهم الصغائر نظراُ إلى عظمة من عُصي بالذنب، فقد قالوا كما صرح الزركشي أن الخلاف بينهم وبين الجمهور لفظي. قال القرافي: وكأنهم كرهوا تسمية معصية الله صغيرة إجلالاً له عز وجل مع أنهم وافقوا في الجرح على أنه لا يكون بمطلق معصية، وأن من الذنوب ما يكون قادحاً في العدالة وما لا يقدح، وهذا مجمع عليه، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق، والصحيح التغاير لورود القرآن والأحاديث به، لأن ما عظم مفسدته أحق باسم الكبيرة، بل قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ. . .}، الآية صريحة في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فلذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بينهما، وقد عرف من مدارك الشرع. أ. هـ. قال القرطبي عقب ما قرضا عنه: وأما الأصوليون، فقالوا لا يجب على القطع تكفير الصغائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ولا صغيرة عندنا. وقال القشيري: الصحيح أنها كبائر، ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض، فإذا نظرت أن نفس المخالفة لمن عصيت كانت الذنوب كلها كبائر، وعلى هذا يخرج كلام القاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والله أعلم.

تنبيه: قال السبكي: قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضيلاً، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، وقد نحمل في كلامهم الخلاف في وجوب ذلك، وليس المراد ما قالته المعتزلة، إنما مراده القطع بوقوع ذلك تفضيلاً كما ذكرناه، وأن ذلك ثابت بأدلة سمعية مقطوع بها على أحد القولين، ومظنونة على الثاني وهو الأصح، وعبارة ابن عطية في وجوبها لأهل السنة قولان، وهو محمول على ما قلناه. أ. هـ. وما ذكره أنه هو الأصح هو ما اختاره إمام الحرمين، فقال: والمختار أن تكفير التوبة للذنب مظنون. وقال النووي: إنه الأصح، قال الأبياري في شرح البرهان: الصحيح عند القطع بالمحو، وسندنا الإجماع عليه، وإن اختلفوا في القطع والظن، فمن قال إنها غير ماحية فقد خرق الإجماع، فإن قبل فبعض الأئمة جازم بالظن فكيف يصح القطع؟ قلنا: الأئمة إذا اجتمعت على حكم مظنون يكون حجة، وظن جميعهم يزيد على ظن بعضهم. أ. هـ.

وكأنه يشير إلى تخريج ذلك على أن الإجماع وإن أستند إلى ظلني يكون قطعياً. وقال الحليمي: لا يجب على الله قبول التوبة. لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده. لم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه لا يرد التوبة الصحيحة فضلاً منه. أ. هـ. وأعلم أن وقوع الاختلاف في أن محو الذنوب بالتوبة قطعي أو ظني يرجح ما تقدم عن ابن عطية من أن تكفيره باجتناب الكبائر ونحوه ظني، والله أعلم بالصواب وإليه المآب.

الفصل الثاني: ورد غفران جميع الذنوب من غير تقييد بالتوبة

الفصل الثاني أعلم، وفقني الله وإياك، أنه قد ورد إطلاق غفران جميع الذنوب عند فعل [بعض] الطاعات من [غير] تقييد بالتوبة، كأحاديث الوضوء تكفر ذنوب، من توضأ، هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه. وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له، ما تقدم من ذنبه. من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ونحوها. قال الزركشي: وقد حملوا على ذلك الصغائر، فإن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة، ونازع في ذلك صاحب الذخيرة، وقال: فضل الله أوسع من ذلك، وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف في كتاب الاعتكاف في قوله (صلى الله عليه وسلم): من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له من تقدم من ذنبه، قال: يغفر ذنوبه صغيرها وكبيرها، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له، قيل: يريد به أبا محمد الأصيلي المحدث، فقال: يقول إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث، قال: وهو جهل بين، موافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعموا لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع أنها فرضت لقوله (صلى الله عليه وسلم): كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. أ. هـ. قوله (صلى الله عليه وسلم): كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. أ. هـ. قوله وهو جمل إلى الآخر ليس بالخالي عن الإفراط؛ إذ الفرق بين القول بعموم التكفير وبين ما ذهب إليه المرجئة في غاية الوضوح، ولو صحَّ ذلك ذهاباً إلى قول المرجئة كلزوم مثله بالنسبة إلى التوبة، فإنه يسلم أن التوبة تكفر الصغائر والكبائر، وهي من جملة أعمال العبد، وكما جاز أن يجعل الله تعالى هذا العمل الذي هو التوبة سبباً لتكفير جميع الذنوب، يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك. وقوله: ولو كان كما زعموا إلى آخره مردوداً؛ لأنه لا يلزمن تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة، وكونها فرضاً إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يتناولها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلاً، ألا ترى أن

التوبة من الصغائر واجبة على ما ذكره الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه، ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب منها، على ما تقدم، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور، ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة المتسعة لها كما صرخ به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى لذنوب عبده، بمعنى مغفرتها، سقوط شيء أوجبه الله عليه وهو مطالب به حالة المغفرة، فلا يلزم من كون الشيء مكفراً جميع الذنوب سقوط التكليف بالشرط الذي كلف بها تكليفاً مستمراً. وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخر الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، لكن قد توقف السبكي في وجوب التوبة من الصغائر عيناً، وقال: لعل وقوعها يكفر بالصلاة واجتناب الكبائر بمقتضى أن الواجب إما التوبة أو فعل ما يكفرها، قال: وبتقدير الوجوب فيحتمل أنها لا تجب على الفور، وقال الزركشي عقب نقل ذلك: فيجتمع له في المسألة ثلاثة احتمالات: وجوب التوبة عيناً على الفور كالكبيرة، وهو مذهب الأشعري، ووجوبها لكن لا على الفور بخلاف الكبيرة، ووجوب أحد الأمرين التوبة أو فعل المكفر، قال: وكأن يرد الخلاف بين الأشعري وأبي هاشم إلى هذا، ونقول: ليس مراد الأشعري تعين التوبة، بل محو الذنب، وخالفه ولده تاج الدين، قال: والذي أراه وجوب التوبة عيناً، وعلى الفور من كل ذنب، نعم إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة، ثم جاءت مكفرة كفرت الصغيرتين، وهما ترك الصغيرة وعدم التوبة منها. أ. هـ. وينبغي أن يكون مراده بتكفير عدم التوبة تأخيرها إلا أنّ التوبة تسقط بالمكفرات تصريحه بوجوبها عيناً، فهي كالصلاة وغيرها من الأفعال الواجبة، والمراد بالتوبة الندم على المعصية من

حيث أنها معصية، وإنما يتحقق بالإقلاع، وإن لم يكن قد انتهت، وعزم ألا يعود إليها، وذلك تدارك ما يمكنه تداركه حيث يوجد المكفر، وأما الاستدلال بحديث ما اجتنبت الكبائر فممنوع؛ لأنه ورد في فعل خاص فلا يتعداه؛ إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه، وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك، بل ورد في بعض الأحاديث ما يدل على غفران الكبائر أيضاً، فلا يليق نسبة قائل ذلك إلى الجهل، نعم تكفير الكبائر إنما هو مظنون؛ لأنه أدلته ظنيّة، فيقوى بذلك الرجاء في كرم الله تعالى، وقد قال فيما حكاه عنه (صلى الله عليه وسلم) أنا عند ظنّ عبدي بي. . . الحديث. وأعلم أنه قد ورد في بعض الخصال بسبب تكفير الذنوب وحصول الثواب، وبعضها سبب لحصول أحدهما فقط، ومن المهم تحقيق القول في ذلك، وقد ذكره القرافي في قواعده، فقال: وأعلم أن كثيراً من الناس يعتقد أنّ المصائب سبب في حصول المثوبات، وليس كذلك، وتحقيق الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات أن المثوبة لها شرطان: أحدهما: أن يكون من كسب العبد ومقدوره، فما لا كسب له فيه، ومالا هو في قدرته، أو هو من جنس مقدوره إلا أنه لم يقع مقدوره كجناية على عضو من أعضائه لا مثوبة له فيه، وأصل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، فحصر ما له فيما له من سعته وكسبه، وقوله عز وجل: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فحصر الجزاء فيما هو معمول لنا ومفعول. وثانيهما: أن يكون ذلك المكتسب مأموراً به، فما لا أمر فيه كالأفعال قبل البعثة، وكأفعال الحيوانات العجاوات، فإنها مكتسبة مرادة لها، واقعة باختيارها، ولا ثواب لها فيها لعدم الأمر به، وكذلك الموتى يسمعون في قبورهم المواعظ والقرآن والذكر والتسبيح والتهليل ولا ثواب لهم على الصحيح، لأنهم غير مأمورين بعد الموت ولا منهيين، هذا حديث أسباب المثوبات. أما الكفارات فلا يشترط فيها شيء من ذلك، بل قد تكون كذلك مكتسبة مقدورة من باب الحسنات، لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وقد لا تكون كذلك كما تكفر التوبة والعقوبات السيئات وتمحو آثارها، ومن ذلك المصائب المؤلمات لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، ولقوله (صلى الله عليه وسلم): لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من ذنوبه؛ فالمصيبة كفارة للذنوب جزماً سواء اقترن بها السخط أو السخط والرضى، فالسخط معصية أخرى، ونعني بالسخط عدم الرضا بالقضاء لا التألم بالمصائب المقضيات، والصبر فيه قربة من القرب

الجميلة، فإذا سخط حصلت سيئة، ثم تكون هذه السيئة قدر السيئة التي كفرتها المصيبة أو أقل أو أعظم بحسب كثرة السخط وقلته، وعظم المصيبة وصغرها، فإن المصيبة العظيمة تكفر من السيئات أكثر من المصيبة اليسيرة. فالتكفير واقع قطعاً سخط المصاب أو صبر، غير أنه إن صبر اجتمع التكفير، وإن سخط فقد يعود الذي كفر بالمصيبة كما جناه من السخط أو أقل منه أو أكثر، وعلى هذا يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيب المثوبات على المصائب؛ أي إذا صبر ليس إلا، فالمصيبة لا ثواب فيها قطعاً من جهة أنها مصيبة؛ لأنها غير مكتسبة، والتكفير يقع على المكتسب وغير المكتسب، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) في صحيح مسلم وغيره: لا يموتن لأحدكم ثلاثة من الولد إلا كن له حجاباً من النار، قال قلت: يا رسول الله واثنان قال: واثنان. . الحديث. فالحجاب راجع إلى معنى التكفير؛ أي تكفير مصيبة فقد الولد ذنوباً، كان شأنها أن يدخل بها النار، فلما كفرت تلك الذنوب بطل دخول النار. والتكفير في موت الأولاد ونحوهم، إنما هو سبب الآلام الداخلة على القلب من فقد المحبوب، فإنّ كثر كثر التكفير، وإنّ قل قل التكفير، ولا جرم يكون التكفير على قدر نفاسة الولد في صفاته، (ونفاسته في بره وأحواله)، فإن كان الولد مكروهاً يسر فقده فلا كفارة بفقده (ألبتة) وإنما أطلق صلى الله عليه وسلم التكفير بموت الأولاد بناءً على الغالب أنه يؤلم، فظهر لك الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات، فهذه مباحث، وعلى هذا لا يجوز أن يقال للمصاب بمرض، أو فقد محبوب، أو غير ذلك: جعل الله لك هذه المصيبة كفارة؛ لأنها كفارة قطعاً، والدعاء بتحصيل الحاصل لا يجوز؛ لأنه قلة أدب مع الله تعالى، وقد بسطت هذا في كتاب المنجيات والموبقات في الأدعية، بل يقال: اللهم عظم له الكفارة، فإن تعظيمها لم يعلم بمثوبة بخلاف أصل التكفير، فإنه معلوم لنا بالنصوص الواردة في كتاب الله والسنة، فلا يجوز طلبه، فعلم ذلك ونظائره، قلت وفيه نظر من وجوه. الأول ما ذكره أن المصائب لا تكون سبباً في حصول المثوبة، أخذه من شيخه عز الدين بن عبد السلام؛ فإنه قال: ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح؛ فإنَّ الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصاب ليس منها بل الأجر على الصبر والرضى. وهذا منظور فيه؛ لأنَّ الثواب والعقاب الخاص بكسب العبد هو الذي يريد وجه الله مجازاته على عمله، وإلا يجوز أن ينيله بمحض الله تعالى المصائب سبباً لإنالته المثوبات لعبده بمحض فضله، لأنه من قبيل المجازاة على المصيبة؛ لأنها ليست من عملهم، والجزاء إنما يكون من العمل، وقد عدّ (صلى الله عليه وسلم) من الشهداء الغريق والميت هدماً ونحو ذلك، وليس المراد سوى إنالتهم الثواب عند المصيبة، وأما الصبر والرضى فأمر زائد كما قرره القرافي لا حاجة تدعو إلى صرف الأحاديث عن ظواهرها، لما تقدم من جواز ذلك [، نعم لا يسمى ذلك أجرًا بمعنى ما يقابل العمل. هكذا ظهر لي، ثمّ رأيت نحو ذلك] (*) في كلام الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر، فإنه ذكر حديث: ما من مصيبة تصيب المسلم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله تعالى بها عنه، ثم قال في رواية مسلم: ما من مصيبة يصاب بها المسلم، ولأحمد: ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن. ولابن حبان ما من مسلم

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف

يشاك شوكة فما فوقها وفي رواية أحمد إلا كانت كفارة لذنبه، ووقع في رواية ابن حبان المذكورة إلا رفعه الله درجة، وحط عنه بها خطيئة، ومثله لمسلم في بعض طرقه، وهذا يقتضي حصول الأمرين معاً، حصول الثواب ورفع العقاب، وشاهده ما أخرجه الطبراني في الأوسط، من وجه آخر، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: ما ضرب على مؤمن عِرق قط إلا حط الله تعالى عنه خطيئة وكتب له حسنة، ورفع له درجة وسنده جيد. وأما ما أخرجه مسلم من طريق عمرة عنها إلا كتب الله تعالى له بها حسنة أو حطَّ عنه بها، فكذا وقع فيه بلفظ، فيحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل التنويع وهو أوجه، ويكون بمعنى إلا كتب الله بها حسنة، أو لم يكن عليه خطايا، أو حط عنه خطيئة، أو كانت له خطايا، ووقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه ابن عوانة، والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن شيبة العبدري: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طرقه وجع، فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي، فقالت له رضي الله عنها: لو صنع هذا بعضنُا لوجدت عليه، فقال: إنَّ الصالحين شدد عليهم، وإنه لا يصيب المؤمن. . . الحديث، ثم قال في هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال: ظن بعض الجهلة أنَّ المصاب مأجور وهو خطأ صريح، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد دخول المصيبة، ثم رأيت الأسنوي قد قال إن الشافعي رضي الله عنه قد نصّ في الأم على ما يرد مقاله ابن عبد السلام السابقة، فإنه قال في باب طلاق السكران: فإن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله، والمريض والمجنون مغلوب على عقله، قيل المريض مأجور مكفر عنه بالمرض، مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله. وهذا إثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب. أ. هـ. قال الأسنوي: وهذا حكم بأجر المريض مع زوال عقله، ومن المعلوم انتفاء الصبر والرضى في تلك الحالة. وقد يقال الذي أنكره الشيخ عز الدين، وشنع في الرد على قائله إنما هو تسمية ما وعد به الشارع على ذلك أجراً، يعني ما يقال به العمل، فإنَّ تعليله يرشد لذلك، وإلا فبعيد أن ينكر ما قدمناه، ويلزم عليه أن حال المذنب الخطأ أكثر فائدة وانتفاعاً بحصول المصائب به ممن ليس عليه ذنب إذا اشتركا في الصبر وعدمه، وأنّ حال الأول أكمل، وهو بعيد من الحكمة الإلهية. وقد رأيت بعد سنين من جمع هذا الكتاب في التمهيد لابن عبد البر. . .

حكاية الإجماع على أن الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، ثم روى بسنده إلى أن معمر بن عبد الله بن مسعود أن الوجع لا يكتب به الأجر، قال: وكان إذا حدثنا شيئاً لم نسأله حتى يعبر لنا. قال: فكبر ذلك علينا؟. قال: ولكن تكفر به الخطيئة. أ. هـ. فكان هذا هو أصل مأخذ ابن عبد السلام، والله تعالى أعلم. الثاني قوله: وكذلك الموتى يسمعون في قبورهم المواعظ والقرآن والذكر والتسبيح والتهليل، ولا ثواب لهم على الصحيح؛ لأنهم غير مأمورين بعد الموت ولا منهيين، منظور فيه، بل سماع الميت هذا الأمر سبب في إثابة الله تعالى له بمنزل الرحمة عليه فضلاً منه تعالى؛ لأنه في مقابلة عمل له حتى يحتاج إلى الأمر في ذلك، ولهذا نقل الرافعي والنووي عن القاضي أبي الطيب وأقرانه: أنه سأل عن قراءة القرآن في المقابر، فقال: ثواب القراءة للقارئ، ويكون الميت كالحاضر ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر. ولهذا أيضاً رجح النووي ما أفتى به القاضي حسين من صحة استئجار من يقرأ القرآن على رأس القبر مدة، مع أن شرط صحة الإجارة حصول المنفعة لمن عقدته الإجارة، قال فإنَّ موضع القرآن موضع بركة وتنزل كالمطر، فينعم القارئ ومن حوله، على أنه قد استشكل ما ورد من صلاة موسى عليه الصلاة والسلام في قبره، ومن صفة حج الأنبياء بعد وفاتهم مع أنهم ليسوا في دار عمل. قال القاضي عياض: للمشايخ عن هذا أجوبة، ثم ذكر أن منها أنهم كانوا قد توفوا، فهم في مدة الدنيا التي هي دار عمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبتها الآخرة، التي هي دار الجزاء انقطع العمل، وأوضح ذلك السبكي، فقال: الجواب عن ذلك أحد الجوابين، ثم ذكر أنَّ ما حاصلة أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في الاستكثار من الأعمال وزيادة الأجور، وهو جواب المتقدم نقله عن القاضي عياض. وقد نقلنا جوابه الثاني وبقية كلام العلماء في ذلك في كتاب الوفاء بما يجب بحضرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم). الثالث: ما ذكره في حديث موت أحد الأولاد رجوعه إلى التكفير الخ. منظور فيه بحديث: ما من

مسلمين يقدمان ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله تعالى الجنة بفضل رحمته إياهم. . . الحديث، الحديث رواه الحاكم وغيره وصححه، وظاهره أنَّ البالغ ليس كذلك، وأنَّ الأمر فيه كسائر المصائب. الرابع: قوله لا يجوز أن يقال للمصاب بمرض أو فقد محبوب أو غير ذلك جعل الله تعالى هذه المصيبة كفارة - الخ - منظور فيه؛ لأن طلب ما تحقق حصوله من العظيم يشمل إظهار الفاقة والافتقار إليه، وهنا ما فهمه العارفون من أمر الله تعالى الطلب منه، ولهذا قال سيدي تاج العارفين ابن عطاء الله: لا يكُن طلبك تسبباً إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار عبوديته، وقياماً بحقوق العبودية، كيف يكون طلبك اللاحق سبباً في عطائك السابق. أ. هـ. وقال أبو نصر السراج: سألت بعض المشايخ عن الدعاء ما وجهه لأهل التسليم، فقال تدعو ائتماراً بأوامر الله تعالى، وتنزيها للجوارح الظاهرة بخدمته؛ لأنه ضرب من الخدمة. أ. هـ. ولهذا كان أشرف الخلائق وأعظمهم أدباً مع ربه تعالى المصوم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يسأل الله تعالى مع ذلك المغفرة والرضوان، ويستعيذه من النار. فإن قيل ذلك من أجل التشريع. قلنا: فيكون تشريعاً لذلك، ولو بالصفة الواقعة منه ((صلى الله عليه وسلم))، وهي سبق المغفرة، وقدمنا أن النووي في شرح مسلم قال: قوله (صلى الله عليه وسلم): اغفر لي ذنبي كله من باب العبودية والإذعان والافتقار إلى الله تعالى. وقد روى الحاكم وصححه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: توفي قي صفر، وأوصى بثلثه إليك يا رسول الله، وأوصى أن يوجه للقبلة لما احتضر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أصاب الفطرة، وقد رددت ثلث ماله على أولاده، ثم ذهب فصلى عليه، وقال اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك، فقوله: وقد فعلت، يفهم أنه قد طلب ذلك منه وقد فعله. وقد روى الطبراني بإسناد رواته يحتج بهم في الصحيح كما ذكره الحافظ عبد العظيم المنذري في ترغيبه عن سلمى أم رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها قالت: أخبرني بكلمات، ولا تكثر علي، فقال: قولي الله أكبر عشر مرات، يقول الله هذا لي، وقولي سبحان الله عشر مرات، يقول الله هذا لي، وقولي اللهم اغفر لي، يقول الله قد فعلت. فقد اشتمل هذا الحديث على سؤال المغفرة بعد الإعلام بوجودها مكرراً، وقد أورد القرافي على نفسه أمراً بالدعاء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فقد اشتمل هذا الحديث على سؤال المغفرة بعد الإعلام بوجودها مكرراً، وقد أورد القرافي على نفسه أمراً بالدعاء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود مع اختباره (صلى الله عليه وسلم) أنه أعطيها، ثم أجاب بأنَّ العلماء ذكروا أنه (صلى الله عليه وسلم) أعطي هذه الأمور مرتبة على دعائنا، وأنه سبب لها، وأعلم بحصول ذلك السبب، وقال: والمحرم إنما هو الدعاء بما علم حصوله من غير دعاء. وما نقله عن العلماء، هو قول بعضهم، وقال بعضهم: إنَّ الأمر بذلك إنما هو لإنالتنا الثواب فقط. قال شيخ الإسلام ابن حجر: وقد تعقب ما ذكره القرافي بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وسؤال الوسيلة، ثم قال: وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء، وأما ما ورد فهو مشروع ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك. أ. هـ. وقد يُقال ما أورده من الاستدلال من ذلك أن الأمور العقلية، فلو صح لزم أطراده وعدم الاستثناء منه، ومطلق الدعاء مأمور به، يثاب على امتثاله.

فيقاس ذلك على ما أذن فيه، وقد رد السبكي على ابن تيمية؛ لأنه لا يتجرأ على الجناب الرفيع إلا بما أذن فيه، وما لم يأذن إلا الصلاة عليه، وسؤال الوسيلة بأن عمر رضي الله عنه كان يعتمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عمراً بعد موته من غير وصية، وحكى في الإحياء عن علي بن الموفق في طبقة الجنيد أنه حج عن النبي (صلى الله عليه وسلم) حججاً، وعدها القضاعي سبعين حجة، وعن محمد بن إسحاق النيسابوري أنه ختم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر من عشرة آلاف ختمة، وضحى عنه مثل ذلك. أ. هـ. فالظاهر أن مستند هؤلاء إنما هو القياس على ما ورد، وقد تمسك بعض الناس أيضاً بكلام ابن تيمية السابق في أنه لا يجوز أن يقال في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) زاده الله شرفاً، وقد وقع في كلام النووي، حيث قال: في خطبة كتابته المنهاج وزاده فضلاً وشرفاً لديه، ومواهب الله لا تتناهى فيسأل له ذلك فيقاس على ما أذن له فيه. وفي خطبة الرسالة لإمامنا الشافعي رضي الله عنه ما نصهُّ: محمد عبده ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ورحم وكرم. وفي. . . حديث لا تنساني يا أخي من دعائك، وقول بعضهم: إنه لا يجوز سؤال الرحمة له (صلى الله عليه وسلم) إلا مقرونة بالصلاة والسلام عليه، نسبه القاضي عياض في الإكمال للجمهور، ويعارضه إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) للأعرابي على قوله كما في الصحيحين: اللهم ارحمني ومحمداً، والله تعالى أعلم. ويقال في جواب القرافي: تكفير ليس بقطعي، عاماً تقدم عن الحنفية وابن عطية، فمراد هذا الداعي تحقيق هذا الأمر المضنون، أو يقال: قد قرر القرافي أن المصاب إذا سخط فقد يعود الذي كفر بالمعصية بما أخف من السخط، فمعنى قول الداعي: جعل الله هذه المصيبة كفارة؛ أي محققة لا يقارنها ما يكون سبباً في عود ما ذكر بأن يغفر لك؛ أو كفارة لما يقع منك بعد ذلك؛ لأنّ قدرة الله صالحة لذلك، فيجوز سؤاله إياه، أو يقال المراد من التكفير في قوله كفارة التعظيم والتكثير، فإنَّ المقام يرشد إليه فليس ذلك من الدعاء بتحصيل حاصل على ما قررناه ضعف ما ذكره القرافي في آخر قواعده من أنه لا يجوز أن يقال: اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم؛ لأنهم لابد من دخول طائفة منهم النار، وأما قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن

فِي الْأَرْضِ}، وكونه من أدب الداعي أن يقول: اغفر لي ولجميع المسلمين، فليس في ذلك عموم لجميع ذنوبهم. أ. هـ. وقد يقال يحتمل أن تلك الطائفة التي بدا من دخولها النار من قوم سيوجدهم الله تعالى بعد ذلك لا ممن اتصف بالوجود أو من اتصف به حالة الدعاء، والله تعالى أعلم بالصواب. وأعلم أنه قد ورد في بعض الأحاديث ما يقتضي أن من الأعمال ما يرفع الذنب السابق، ولا يرفع الذنب اللاحق، وهو كثير، ومنها ما يرفع السابق واللاحق جميعاً، قال الزركشي: ويسمى رافعاً وكاشفاً كصوم عرفة، فإنه رافع لذنوب السنة الماضية، ورافع لذنوب السنة المستقبلة، كما ثبت به الحديث الصحيح. ويقع السؤال كثيراً عن هذا التكفير هل هو في حق من هو عليه ذنب فقط أم يعم؟ وأجبت أن من صامه إما أن يكون عليه ذنوب أو لا؟ وإن كان فإن الصوم يكفر القدر المذكور وإلا فيعطي من الثواب ما يكفر ذلك القدر. ولو كان عليه. أ. هـ. وقال النووي في شرح مسلم بعد إيراد أحاديث كثيرة بخصال مكفرة، قد يقال إذا كفر الوضوء، فماذا تكفر الصلاة، وإذا كفرت الصلاة فما تكفر الجمعات، وكذلك رمضان، وكذا صوم يوم عاشوراء كفارة سنة وإذا وافق تأمينه نحو تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. والجواب ما أجاب به العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح، فإن وجد ما يكفر به الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب به حسنات ورفع به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف الكبائر. أ. هـ. ثم قال الزركشي عقب ما تقدم: وقال الروياني في البحر: ليس لنا عبادة تكفر ما بعدها غير صوم عرفة، وليس كما قال في حديث: الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام، وصدقة الفطر طهارة للصائم من لغوه ورفثه الواقع في رمضان كما جاء في الحديث، ويجوز تقديمها من أول رمضان وإن تأخرت كانت واقعة. أ. هـ. قلت حديث الجمعة إلى الجمعة ليس فيه تصريح بأن ذلك في المستقبل لكن روى ابن ماجه حديث تكفير يوم عاشوراء بلفظ: صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده، وروى البيهقي عن أبي ذر أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: إنّ صليت الضحى عشراً لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب الحديث. وقال: في إسناده نظر، وفي حديث مسلم: ما من مسلم تحضره الصلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تُؤت كبيرة، وفي رواية: إلا غفر له ما بينه وما بين الصلاة. التي قبلها، وروى ابن أبي الدنيا في فضائل شهر رمضان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

شهر رمضان يكفر ما بين يديه إلى شهر رمضان المقبل. وقد وردت أحاديث كثيرة بخصال تكفير الذنوب المتقدمة والمتأخرة من غير تقييد بزمان، وقد جمع ذلك شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في جزء، وسيأتي تلخيصه، وهو أنه ذكر في أوله مقدمة في جواز وقوع ذلك فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وفي رواية الله أطلع فقيل الأمر في قوله اعملوا للتكريم، وأن المراد كل عمل عمله البدري لا يؤاخذ به، وقيل أن أعمالهم تقع مغفورة، كأنها لم تقع، وقيل: حفظوا فلم تقع منهم سيئة. ويضعف الأخير وورد النقل بخلافه، فقد شهد مسطح بدراً وقد وقع منه في حق عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح، وقصة نعمان أيضاً مشهورة، والمراد من عدم المؤاخذة على الأول عدمها في أحكام الآخرة، أما في الدنيا فتترتب عليهم أحكاماً إجماعاً، ولهذا أقيم الحد على مسطح رضي الله عنه وغيره. ويستفاد من هذه المقدمة الرد على ما نقله الأسنوي في خطبة رسالة الشافعي، لأبي الوليد النيسابوري أحد أصحاب ابن ريج أنه نقل عن الأصحاب: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت من الذنوب، والاستغفار قبل الذنب محال. أ. هـ. قال الأسنوي عقبه: ولقائل أن يقول: المحال هو طلب المغفرة للذنب قبل وقوعه أن يغفر إذا وقع، فلا استحالة فيه. أ. هـ. والله أعلم. ثم قال الحافظ ابن حجر: يدخل في هذا المعنى صوم يوم عرفة وإنه يكفر ذنوب سنتين الماضية والمستقبلة، فهو دال على وجود التكفي قبل وقوع الذنب، ومن ذلك دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) لبعض الصحابة بأن يغفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما ورد في حق عثمان بن عفان، وعائشة رضي الله عنها، فدعاء المعصوم بذلك لبعض أمته دال على جواز وقوع ذلك، وسيأتي في حديث العباس بن مرداس أنه قال (صلى الله عليه وسلم): طلب ذلك في موقف عرفة، فأجيب إلى ذلك، واستثنى التبعات، ثم أجيت مطلقاً صبيحة المزدلفة. قلت: هذا الكلام يقتضي أنه أورد بعد ذلك حديث العباس بن مرداس، ولم أره في كتابه، غير أنه قال في آخر ترجمة الحج، عقب حديث العباس بن مرداس في دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) بعرفة ثم بمزدلفة؛ فإنه يدخل في ما نحن فيه. أ. هـ. وسنورده معنا إن شاء الله تعالى. ثم قال الحافظ ابن حجر: وأعلم أن الله تعالى مالك كل شيء، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولم يمتنع أن يعطي من شاء ما يشاء، وقد ثبت أن ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد يقع عمل العبد في بعض ليالي السنة لبعض الناس أكثر مما يعمل فيها، مع ذلك فالعمل فيها أفضل من غيرها بثلاثين ألف ضعف، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الفصل الثالث: الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة

الفصل الثالث أعلم وفقني الله وإياك أن من المهمات الوقوف على ما جمعه الحافظ ابن حجر العسقلاني في معرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، فأقول: الطهارة: ابن أبي شيبة في مصنفه، وفي مسنده من رواية حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: دعاني عثمان بوضوء وهو يريد الخروج إلى الصلاة في ليلة باردة، فجئته بماء فغسل وجهه ويديه، فقلت حسبك قد أسبغت الوضوء والليلة شديدة البرد، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأصل الحديث في الصحيحين، وليس في شيء منها، وما تأخر، وقد تكلم الحافظ ابن حجر على إسناده بما يفهم صحة الاحتجاج به. سماع الآذان: مستخرج ابن أبي عوانة على صحيح مسلم، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا ألله، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً، وفي رواية: رسولا، غفر ذنوبه، فقال له رجل: يا سعد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: لا هكذا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه، وليس عندهم فيه: وما تأخر ولا السؤال المذكور في آخره، ثم أنَّ له علّة، وقد أورده أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده إلى أن قال: غفر له ذنوبه، فقال له رجل: يا سعد ما تقدم وما تأخر؟. فقال: لا، هكذا سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فتبين أن ذكر ما تأخر وقع من السائل، وأن سعداً نفى ذلك. قلت هاهنا تنبيهان، أحدهما: إن كان الراوي عن سعد واحد فقد اضطربت روايته بالنفي والإثبات، وإن تعدد فقد تعارضا، وحذف للزيادة من رواية الجماعة للمذكر ترجح النفي، الثاني: قوله في إحدى الروايتين: نبياً: وفي الأخرى: رسولاً، قال النووي والحافظ المنذري: طريق التحقيق الإتيان بالوارد في ذلك ونحوه من الأذكار جمع بينهما، فيقول وبمحمد نبياً ورسولاً؛ أي فإن كان الأول وارداً فلا يضر إردافه بالثاني، وإن كان الوارد الثاني فلا يضر تخلل الأول في الإتيان بما ورد، وبهذا يعلم أن من زاد لفظ سيدنا في الصلاة لم يخل بما ورد بل امتثله، وزاد أدباً، فلا يقال على أن امتثال الأمر أولى من سلوك الأدب وعكسه، والله أعلم. صلاة التسبيح: روى أبو داود من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: للعباس: يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيرة وكبيرة سره وعلانيته، عشر خصال أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشر مرة ثم تركع فتقولها وأنت

راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون، في كل ركعة تفعل ذلك، في أربع ركعات إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فأفعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة، ورواه ابن ماجه، وأشار إليه الترمذي، ورجال الإسناد لا بأس بهم، وله شواهد تقويه، فهو من الحسن. وقد أساء ابن الجوزي بذكره إياه في الموضوعات، وقول أحمد: ما يصح عندي في صلاة التسابيح لا يلزم منه ثبوت الضعف لاحتمال الواسطة، وهو الحسن، وقد قال أحمد بعد ذلك: لما قيل له المستمر بن ريان رواه، فقال: هو شيخ ثقة وكأنه أعجبه، وله طرق أخرى ذكرها الطبراني بنحوه، وزاد في آخر دعاء طويلاً، وفيه: غفر الله ذنوبك كلها صغيرها وكبيرها وقديمها وحديثها وسرها وعلانيتها وعندها وخطأها، وفي إسناده متروك، قلت: أورد النووي هذا الحديث في أذكاره من طريق الترمذي وابن ماجه، ثم ذكر تضعيفه عن جماعة، ثم قال: الدارقطني أصح شيء في فضل الصلوات صلاة التسابيح، ثم قال يعني النووي: ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديث صلاة التسابيح صحيحاً، فإنهم يقولون: أصح ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفاً، ومرادهم أرجحه وأقله ضعفاً، قد نص على استحباب هذه الصلاة جماعة من أثمة أصحابنا منهم القاضي حسين والبغوي ولا يتغافل عنها، هكذا قاله عبد الله بن المبارك وجماعة العلماء، وقال في شرح المهذب في استحباب صلاة التسابيح نظراً لأن حديثها ضعيف، وفيه تغيير لنظم الصلاة المعروفة، فينبغي أن لا تفعل؛ لأن حديثها ليس ثابتاً. أ. هـ. وخالف في ذلك في تهذيب الأسماء واللغات، فقال: فيها حديث حسن، وكذا قال ابن صلاح إن حديثها حسن وإن منكرها غير مصيب، وقال السبكي: صلاة التسابيح من مهمات الدين، ولا يغتر بما فهم عن النووي في الأذكار من ردّها، فإنه اقتصر على رواية الترمذي وابن ماجه، ورأى قول العقيلي ليس فيها حديث صحيح ولا حسن، والظن به لو استحضر تخريج أبي داود لحديثها، وتصحيح ابن خزيمة والحاكم لما قال ذلك، وقد كان عبد الله بن المبارك يواظب عليها غير أنه كان يسبح عند رفع الرأس من السجدتين خمس عشرة مرة، ثم بعد القراءة عشرا، ولا يسبح عند ربع الرأس من السجدتين، وهذا يغاير حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإن فيه الخمسة عشرة بعد القراءة، والعشرة بعد الرفع من السجدتين، وأنا أحب العمل بما تضمنه، ولا ينبغي الفصل بين الرفع والقيام، فإن جلسة الاستراحة مشروعة ح، وينبغي للمتعبد أن يعمل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما تارة، وبما عمله ابن المبارك تارة أخرى، وأن يفعلها بعد الزوال قبل صلاة العصر، وأن يقرأ فيها من طوال المفصل، وتارة الزلزلة والعاديات والفتح والإخلاص، وأن يكون دعاؤه بعد التشهد، وقبل السلام،

التأمين في الصلاة

وما ورد في رواية الطبراني: ثم يسلم ويدعو بحاجته ففي كل وردت السنة. وأجاب بعضهم على ما ذكر النووي من اشتمالها على تغيير نظم الصلاة بأن الجويني استثناها من الاختلافات في تطويل الاعتدال والجلوس، وبعضهم بأن النافلة يجوز فيها القيام والقعود، وبعضهم بأنه قد ثبتت مشروعيتها كذلك، وأما الدعاء الوارد في رواية الطبراني: فهو اللهم إني أسألك توفيق أهل الهدى، وأعمال أهل اليقين، ومناصحة أهل التوبة، وعزم أهل الصبر، وجد أهل الحسبة، وطلب أهل الرغبة، وتعبد أهل الورع، وعرفان أهل العلم حتى أخافك، اللهم أسألك مخافة تحجزني عن معاصيك حتى أعمل بطاعتك عملاً أستحق به رضاك، وحتى أناصحك في التوبة خوفاً منك، وحتى أخلص لك النصيحة حباً لك، وحتى أتوكل عليك في الأمور حسن ظن بك، سبحان خالق النور البهي. التأمين في الصلاة: ابن وهب في مصنفه عن أبي هريرة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ثم إذا أمن لإمام فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وأخرجه مسلم وابن ماجه بغير هذا اللفظ، وليس فيهما تأخر، وهذه الزيادة أنفرد بها بحر بن نصر، وهو من الثقات، ولكن أخرجه ابن الجارود في المنتقى عن محمد بن نصر بدونها، والله أعلم. صلاة الضحى: آدم بن أبي إياس في كتاب الثواب عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وكرم وجهه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من صلى سبحة الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً كتب له مائتي حسنة، ومحي عنه مائتي سيئة ورفع له مائتي درجة، وغفر له ذنوبه كلها، ما تقدم منها وما تأخر وإسناده ضعيف. القراءة بعد الجمعة: أبو عبد الرحمن السلمي عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من قرأ إذا سلم الإمام يوم الجمعة قبل أن يثني رجليه فاتحه الكتاب وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس سبعاً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هكذا رواه الأسعد القشيري عن السلمي، وإسناده ضعيف شديد جداً، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها: من قرأ بعد الجمعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس حفظ ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وذكر أبو عبيد في محله من غير ذكر الفاتحة، وقل حُفظ وكُفي من مجلسه ذلك إلى مثله. قيام رمضان وصيامه وإحياء ليلة القدر: مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرغب في قيام رمضان أن يأمرهم بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له

ما تقدم من ذنبه وما تأخر، رواه مسلم وغيره من طرق كثيرة عمن رواه أحمد بواسطة ودونهما دون قوله: وما تأخر. طريق أخرى للإمام أحمد أيضاً عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ورواه الترمذي من هذه الطريق، وليس فيه وما تأخر. السنن الكبرى للنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قام رمضان، وفي رواية شهر رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي رواية وما تأخر ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية وما تأخر. وتابع النسائي حامد بن يحيى، وقال ابن عبد البر: خطئه فيه، وبين الحافظ الأصل عدم خطأه. مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً. عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ثم ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله تبارك وتعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة. طريق آخر عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ليلة القدر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتر في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة، فمن أقامها ابتغاءها إيماناً واحتساباً. ثم وفقت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفي معجم الكبير للطبراني، ومن هذه الطريق ونحوه، ولم يقل في أواخره. ثم وقعت له هكذا هو في رواية أخرى للإمام أحمد أيضاً عن عبادة بن الصامت، قلت: وفي حديث مسلم بمعنى ما نقله عنه الدميري وغيره ليلة القدر لا ينال فضلها إلا من أطلعه الله عليها، فلو أقامها إنسان ولم يعرفها لم ينل فضلها، لكن قال الأذرعي: كلام المتولي ينازع حيث استحب التعبد في كل ليالي العشر، حتى يحوز الفضيلة على اليقين، ويعضده قول ابن مسعود (رضي الله عنه): من يقوم الحول يصبها، نعم يكون حال المطلع أكمل إذا قام بوظائفها، وقال أبو شبل اليمني: كلامهم يدل على أن فضيلتها تحصل لمن عمل فيها، وإن لم يشاهد تلك العجائب. أ. هـ. وقد تتبعت ما نسب للإمام النووي في صحيح مسلم فلم أره، غير أنه قال ما لفظه: قوله من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. هذا مع الحديث المتقدم من قام رمضان قد يقال إن أحدهما يغني عن الآخر، وجوابه أن يقال قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر فيوافقها معناه أن يعلم ليلة القدر. ذكر

صيام يوم عرفة

ذلك كله في باب الترغيب في صيام رمضان، وهذا لا ينقضي أن يطلق فضل ليلة القدر لا يناله إلا من علمها، بل تلك الفضيلة الحاصلة المذكورة في الحديث، وهي غفران، هكذا ظهر لي، ثم رأيت الزركشي في الخادم حكى ما تقدم أنه نقل عن النووي في شرح مسلم بصيغة قيل، ثم قال: ولم أر لها ذكراً في شرح مسلم هنا، لكنه في أبواب الصلاة ذكر قوله (صلى الله عليه وسلم): من قام ليلة القدر فوافقها قال: معناه بحيث يعلم أنها ليلة القدر، وهذا لا يقتضي ما نقل عنه، بل معناه أنه يقوم العشر حتى يصادفها بيقين، كما قالوا في تعليق الطلاق عليها، ولم يرد الحقيقي بالعين، فليس ذلك بشرط في نيل المقصد عنده، ولا يطلع عليه إلا قليل أ. هـ. والله أعلم. صيام يوم عرفة: أمالي أبي سعيد النقاش عن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من صام يوم عرفة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، في سنده ضعيف، وقد ثبت في صحيح مسلم أنه يكفر السنة الماضية والمستقبلة، فلعل ذلك المراد من قوله: ما تقدم من ذنب وما تأخر. إن صح الإهلال من المسجد الأقصى: سنن أبي داوود عن أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة، أحد رواته، ورواه البيهقي ولفظه: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة، ورواه أيضاً من طريق آخر ولفظه: من أهل. . . المقدس كان كفارة لما قبلها من الذنوب، وكذا رواه ابن ماجه. [قلت: وذكر الحافظ المنذري في ترغيبه أن في رواية أخرى لابن ماجه] (*) بإسناد صحيح:: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له الله تعالى، والله أعلم. ورواه البخاري في التاريخ الكبير، بطريق بعضها أضبط من إسناد ابن ماجه، ولم يذكر فيه ما تأخر، وكذا غيره، وقال البخاري في بعض روايته: لا يتابع في هذا الحديث؛ لأنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) وقت المواقيت، وأهل ذي الحليفة أ. هـ. قلت الجمع بين الإحرام والميقات لفعله (صلى الله عليه وسلم) ما ورد في الإهلال من المسجد الأقصى ممكن باستثنائه من مطلق تفصيل الميقات، لما ورد بخصوصه، وفي كلام بعضهم إشارة إلى ذلك والله أعلم.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف

الحج الخالص

الحج الخالص: روى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله قال سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول من خرج حاجاً يريد وجه الله، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفع فيمن دعا له، وفي سنده متروك. ابن منده في أماليه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إذا خرج الحاج من بيته كان في حرز الله تعالى، فإن مات قبل أن يقضي نسكه فقد وقع أجره على الله تعالى، وإن بقي حتى يقضي نسكه غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنفاقه الدرهم الواحد في ذلك الوجه يعدل إلى أربعين ألف درهم فيما سواه في سبيل الله تعالى، وفي إسناده من لا يعرف، وفيه ألفاظ منكرة جداً، وأخرجه أبو جعفر ابن شاهين في ترغيبه. أحمد بن منيع في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، في سنده ضعيف القاضي عياض في الشفاء من غير إسناد ولا عزو إلى النبي (صلى الله عليه وسلم): قال من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وحشر يوم القيامة من الآمنين، قلت قدمنا أن الحافظ شيخ الإسلام وعد بحديث العباس بن مرداس، وذكره هنا أنه ينبغي ذكره في هذا المحل، ولم يذكره، وهو ما رواه ابن ماجه، وغيره، واللفظ له: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه، قال: إي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو قال: تبسم، فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك، قال: إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب، فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه، ورواه أبو داود مختصراً من الوجه الذي رواه ابن ماجه، ولم يضعفه، وقد جاء في بعض الروايات عن العباس ما يدل أن المراد من الرواية من وقف بعرفة، ولم أر شيئاً من طرق الحديث المذكور ذكر: ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال الطبراني: إنه محمول بالنسبة للظالم على من تاب وعجز عن وفائها، وقد رواه البيهقي بنحو وراية ابن ماجه، ثم قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح شواهده ففيه الحجة، وإن لم تصح، فقد قال الله

القراءة والأذكار

تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وظلم بعضهم بعضاً دون الشرك أ. هـ. وقال الزيدي في الحديث الصحيح: من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله، خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق نفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة أو نحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما تأخيرها بنفس التأخير يسقط الحج لا هي، فلو أخرها بعد تجدد إثم فالحج مبرور، ويسقط إثم المخالفة لا الحقوق. قال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما عليه من حقوق كالصلاة يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعاً، والله أعلم. القراءة والأذكار: الثعلبي في تفسيره عن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، وعن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيه راو ضعيف، وآخر فيه كلام كثير. الطبراني في معجمه وأبو بكر الخلال في مكارم الأخلاق عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من علم ابنه القرآن نظراً غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن علمه إياه ظاهرا بعثه الله يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر، ويقال لابنه اقرأ فكلما قرأ آية رفع بها الأب درجة حتى ينتهي إلى آخر ما معه من القرآن. وفي إسناده من لا يعرف. وأبو الشيخ وابن حبان في فوائد الأصبهانيين عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها: كانت تكثر الصيام والصلاة والصدقة، فدخل عليها (صلى الله عليه وسلم) فشكت إليه ضعفها، فقال: سأخبرك ما هو عوض ذلك: تسبحين الله مائة مرة، فتلك مثل مائة رقبة تعتقينها متقبلة، وتحمدين الله مائة مرة، فتلك مثل مائة بدنة مجللة تهدينها متقبلة، وتكبرين الله مائة مرة، وهناك يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وفي سنده مشهور بالضعف.

فضائل الرباط بعكا

أبو الحسن الربعي في فضائل الشام، قال: روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من عدّ في البحر أربعين موجة، وهو يكبر غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإن الأمواج لتحت الذنوب حتاً. فضائل الرباط بعكا: أبو الحسن الربعي في فضائل الشام أيضاً عن أنس بن مالك (رضي الله عنه): قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مدينة بين جبلين على البحر يقال لها عكا من دخلها رغبة فيها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن خرج عنها لم يبارك في خروجه، وفيها عين تسمى عين البقر، من شرب منها ملأ الله باطنه نوراً، ومن أفاض عليه منها كان طاهراً إلى يوم القيامة، وهو منكر جداً، وفي إسناده غير واحد من المجهولين. قود الأعمى: ابن منده في أماليه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من قاد مكفوفاً أربعين خطوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفيه مختلف فيه، وآخر كذبه أحمد، فهو الآفة في هذا الخبر. فضل السعي في حاجة المسلم: أبو أحمد الناصح في فوائده عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من سعى لأخيه المسلم في حاجة قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان من النار، وبراءة من النفاق، ورجاله ثقات سوى أحمد بن بكار، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مجلي، وضعفه ابن عدي، وقال يروي المناكير عن الثقات، واتهمه أبو الفتح الأزدي بوضع الحديث، قال الدارقطني غيره أثبت منه. فضائل المصافحة: الحسين بن سفيان وأبو يعلى في مسنديهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أما ما من عبدين متحابين في الله يستقبل أحدهما صاحبه، وفي رواية: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، ويصليان على النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يفترقا حتى يغفر لهما ذنوبهما ما تقدم منها وما تأخر وفي إسناده ضعيف. فضل حمد لله بعد الأكل واللبس: أبو داود في السنن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من أكل طعاماً، ثم قال الحمد الله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن لبس ثوباً فقال: الحمد الله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد انفرد أبو داود بقوله وما تأخر وهو ثقة.

فضل التعمير في الإسلام

فضل التعمير في الإسلام: البغوي وأبو بكر بن قانع في معجميهما عن عبد الله بن أبي بكر الصديق قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: قال الله عز وجل: إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنة صرف الله تعالى عنه ثلاثة من الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة خفف الله تعالى عنه ذنوبه، فإذا بلغ ستين رزقه الله تعالى الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين سنة ملك ملائكة السماء. في رواية للبغوي: أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين سنة أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في أرضه، وشفع في أهله، وفي رواية البغوي: وشفع الله تعالى في أهل بيته يوم القيامة، وهو منقطع لأن الراوي عن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لم يدركه، وله طريق أخرى بإسناد مجهول. الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من رواية عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: قال الله عز وجل: إذا بلغ عبدي أربعين سنة عافيته من البلايا الثلاث من الجنوب والبرص والجذام، فإذا بلغ خمسين سنة حاسبته حساباً يسيراً، وإذا بلغ ستين سنة حببت إليه الإنابة، وإذا بلغ سبعين سنة أحبته الملائكة، وإذا بلغ ثمانين سنة كتب حسناته وألقيت سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة قالت الملائكة أسير الله في أرضه، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفع في أهله، هذا من جيد الحديث، وقد ورد من طرق أخرى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقط بسند لم يقل فيه عن الله عز وجل. وقد ذكر شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر لحديث عثمان هذا ثلاث طرق، ولم يذكر طريقين، لابن مردويه في تفسيره، والثالثة لأبي يعلى والبغوي، ولم يتكلم على أسانيدهما، وأورد ابن حيان في كتابه الضعفاء عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فذكر نحوه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنة من العمر أمنه الله تعالى من الخصال الثلاث البلاء الجنون والجذام والبرص؛ فإذا بلغ ستين سنة فهو في إدبار من قنوته، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحبه. فإذا بلغ سبعين سنة وهو الحقب أحبه أهل السماء؛ فإذا بلغ الثمانين سنة وهو الخرف أثبتت حسناته ومحيت سيئاته؛ فإذا بلغ تسعين سنة، وهو القيد، وقد ذهب العقل غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع لأهل بيته وسمي أسير الله في الأرض، وحق على الله ألا يعذب حبيبه، ورواه ابن مردويه في تفسيره بنحوه، لكنه زاد في أوله، أخرجه أبو موسى من طريق ابن مردويه، وقال: هذا الحديث له طرق غرائب وهذا أغربها، وله طريق أخرى ذكرها الدارقطني في غرائب مالك، ثم قال الدارقطني: لم يثبت هذا الحديث عن مالك. الحاكم النيسابوري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يثغر الغلام لسبع سنين، ويحتلم في أربع عشرة سنة، ويتم طوله لإحدى وعشرين سنة، ويجتمع عقله لثمان وعشرين سنة، ولا يزداد عقلاً بعد ذلك إلا بالتجارب، فإذا بلغ أربعين سنة عافاه الله من أنواع البلايا من الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ ستين سنة حببه الله تعالى إلى أهل سمائه وأهل أرضه فإذا

بلغ سبعين سنة أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، فإذا بلغ ثمانين سنة استحيا الله أن يعذبه، فإذا بلغ تسعين سنة كان أسير الله في أرضه، ولم يخط عليه القلم، بحرف. أبو يعلى في مسنده الكبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا رفع الله تعالى عنه أنواعاً من البلايا الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة هون عليه الحساب، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين سنة أحبه الله وأحبه أهل السماء والأرض، فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله ما قدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في أرضه وشفع لأهل بيته، وللحديث هذا طرق كثيرة، أورد شيخ الإسلام منها طريقاً ذكرها البيهقي في كتاب الزهد له بنحو ما تقدم، قال شيخ الإسلام: هذا أمثل طريق في هذا الحديث، فإن رجاله ثقات، ومنها طريق أبي نعيم في تاريخ أصفهان، وقال: رواته مرثوقون إلا الصباح، فإني لا أعرف فيه جرحاً ولا تعديلاً، وأملى الحافظ في أماليه وأخرجه. . . في. . . من البخاري، وقال ابنه: روي من طرق، وهذا الطريق أمثلها، قال شيخ الإسلام: والذي يظهر لي أن أمثلها ما قدمته، وكلام الحافظ العراقي مقبول بالنسبة إلى الطرق التي ذكرها هو، فإنه لم يذكر الطريق الذي قدمتها إما سهواً، وإما غفلاً، ومنها طريق ذكرها أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً، عن أنس بن مالك رفع الحديث، قال: [المولود حتى يبلغ الحِنْثَ ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا] (*) بلغ الحنث جرى عليه القلم وأمر المكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا؛ فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاثة الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفف الله من حسابه، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء والأرض، فإذا بلغ الثمانين كتب الله له حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما قدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في أهل بيته كان أسير الله في أرضه؛ فإذا بلغ أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير؛ فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه , وفي إسناده مجهولان، ويشهد لبعضه ما أخرجه ابن حبان في الضعفاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من بلغ الثمانين من هذه الأمة؛ فإذا يعرض ولا يحاسب، وقيل أدخل؟ ومن شواهده، ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، قال: في أحسن تقويم يعني أعدل خلق ثم رددناه أسفل السافلين يعين إلى أرذل العمر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، يعني غير منقوص؛ فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر، وكان يعلم في شبابه عملاً صالحاً، كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكبت عليه الخطايا التي يعمل بعد ما بلغ أرذل العمر إسناده صحيح، وفيه إشارة إلى أن المراد في ذكر الأحاديث السابقة من كان يعمل في شبابه عملاً صالحاً.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين استدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف، وكان في المطبوع، بدلا منه عبارة [الولد حتى] (كذا)

ومما يدل على شهرة هذا الحديث في المتقدمين ما ذكره الصولي في نوادره، قال الحسن بن الضحاك: أنا في الثمانين وفيتها ... وعندي قبول ولم أعتذر وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن الثمانين دون البشر وإني من أسراء الله في الأ ... رض نصب حروف القدر فإن يقض لي عملاً صالحاً ... أثاب، وإن يقض شراً غفر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وقد وقع الفراغ من العناية لهذا التصنيف العشر من ذي الحجة من سنة ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين والحمد الله رب العالمين.

§1/1