المفيد في مهمات التوحيد

عبد القادر عطا صوفي

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71] . "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 1، "وكل ضلالة في النار"2. ثم أما بعد: فإن الله عز وجل بعث نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. أرسله ربه عز وجل على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، وقلة من العلم؛ حين حرف الكلم، وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أهوائهم وآرائهم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. فأشرقت الأرض برسالته -صلى الله عليه وسلم- بعد ظلمتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها وتفرقها، وفتح الله بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، والمعروف والمنكر، وطريق أولياء الله السعداء، وأعداء الله الأشقياء.

_ 1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة. 2 هذه الزيادة أخرجها البيهقي في السنن الكبرى 3/ 214.

ولم يمت رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حتى بين للناس جميع ما يحتاجون إليه، فتركهم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ بعده عنها إلا هالك. وقد اعتصم أصحابه من بعده بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ودعوا الناس إليهما بالحكمة والموعظة الحسنة. ومن بعدهم قام علماء أمته -صلى الله عليه وسلم- بمهمة الدعوة إلى الله عز وجل خير قيام؛ فوضحوا للناس أمور دينهم، وكان من أجل ما وضحوه العقيدة، التي أولوها قدرا كبيرا من جهودهم، وجهادهم، وتعليمهم، وتأليفهم. ورغبة مني في التشبه بهم -رغم قصر الباع، وقلة البضاعة- كتبت هذه الورقات المقتبسة من كتبهم1، سائلا الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أبها في 29/ 9/ 1422هـ

_ 1 أصل هذا الكتاب: محاضرات ألقيتها على طلبة كلية المعلمين، في مادة العقيدة الإسلامية "101س" "الإعداد العام".

تمهيد

تمهيد المبحث الأول: تعريف ببعض المصطلحات المسألة الأولى: في بيان معنى العقيدة ... المبحث الأول: تعريف بعض المصطلحات المسألة الأولى: في بيان معنى العقيدة في اللغة والاصطلاح قبل الحديث عن مصادر العقيدة، وذكر بعض خصائصها، لا بد من وقفتين: الوقفة الأولى: في معنى العقيدة لغة مادة "عقد" تدور بين عدة معان، منها: الربط والشد، والعهد، والملامة، والتأكيد1. 1- الربط والشد بقوة. يقال: عقد الحبل، يعقده عقدا، إذا ربطه وشده بقوة. 2- العهد. يقال: بين هذه القبيلة وتلك عقد أي: عهد. وجمعه عقود. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة: من الآية 1] ؛ أي: أوفوا بالعهود التي أكدتموها. 3- الملازمة. يقال: عقد قلبه على الشيء، أو عقد قلبه الشيء، إذا لزمه. ومن هذا الباب قوله -صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 2؛ فمعقود في نواصيها أي: ملازم لها، حتى لكأنه عقد عليها. 4- التأكيد. يقال: عقد البيع، إذا أكده. ومنه العقد المكتوب في البيع؛ إذ هو لم يكتب إلا بعد إيقاع البيع وتأكيده. الوقفة الثانية: في بيان معنى العقيدة اصطلاحا بعد أن عرفنا بعض معاني العقيدة في اللغة، لنا أن نتساءل: ما هو معنى العقيدة الذي تعارف عليه أهل العلم؛ إذ من المعلوم أن لكل علم مصطلحاته الخاصة به، والتي تعد جزءا من منهجيته؟.

_ 1 انظر من كتب اللغة: الصحاح للجوهري 2/ 510. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص383. وأساس البلاغة للزمخشري 2/ 131-132. والكشاف له 1/ 466. ولسان العرب لابن منظور 3/ 295-300. 2 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.

فنجيب: العقيدة اصطلاحا هي: 1- التصديق الجازم فيما يجب لله عز وجل من الوحدانية، والربوبية، والإفراد بالعبادة، والإيمان بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا1. 2- تصميم القلب، والاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه شك في المطالب الإلهية، والنبوات، وأمور المعاد، وغيرها مما يجب الإيمان به2. والمطالب الإلهية: الإيمان بالله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته. 3- ما عقد الإنسان قلبه عليه، ودان لله عز وجل به3. س: ما هو الرابط بين المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي؟ ج: الارتباط بينهما ظاهر؛ لأن هذا الذي جزم بالشيء، وصمم عليه، قد ألزمه قلبه، وربطه عليه، وشده بقوة، بحيث لا يتفلت منه أبدا.

_ 1 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص7. 2 انظر العقيدة الإسلامية وتاريخها للدكتور محمد أمان الجامي ص5. 3 انظر الأسئلة والأجوبة الأصولية للسلمان ص23.

المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التى أطلقت على العقيدة الإسلامية

المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التى أطلقت على العقيدة الإسلامية مدخل ... المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على العقيدة الإسلامية الملاحظ أن العقيدة لم ترد بلفظها في الكتاب والسنة، وإن كانت قد وردت مادتها، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89] ؛ أي: يؤاخذكم إذا حنثتم في الأيمان التي وثقتموها وأكدتموها. وكما في قوله -صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1؛ أي: ملازم لها إلى يوم القيامة.

_ 1 تقدم تخريجه ص8.

كذلك، لم يستخدم علماء الأمة في القرون المفضلة مصطلح "عقيدة"، وإنما استخدموا مصطلحات أخرى. وأول من استخدم هذا المصطلح -فيما أعلم- هو الإمام أبو حاتم الرازي "ت327هـ" فقي كتابه الذي وسمع بـ"أصل السنة واعتقاد الدين"، وتلاه الإمام أبو بكر الإسماعيلي "ت371هـ" الذي وسم كتابه بـ"اعتقاد أئمة الحديث"، وتبعه الأئمة؛ كأبي القاسم اللالكائي "ت418هـ" في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، وأبي عثمان الصابوني "ت449هـ" في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وأبي بكر البيهقي "ت458هـ" في كتابه "الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة"، وقوام السنة الأصبهاني "ت535هـ" في كتابه "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، وغيرهم. ولنا وقفات مع المصطلحات الأخرى التي استخدما العلماء بدلا من مصطلح "العقيدة"، "ومن ثمرة الوقوف على أسماء هذا العلم: معرفة مصادره الأصيلة"1.

_ 1 أصول الدين عند الأئمة الأربعة للدكتور ناصر القفاري ص14.

الوقفة الأولى: مع مسمى التوحيد

الوقفة الأولى: مع مسمى "التوحيد" تعريف التوحيد لغة واصطلاحا: هو في اللغة مصدر من: وحد يوحد توحيدا؛ إذا أفرده وجعله واحدا1. وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات؛ نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له. فنقول مثلا في توحيد الألوهية: لا يتم للإنسان التوحيد، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فينفي الألوهية عما سوى الله، ويثبتها لله وحده2.

_ 1 انظر لسان العرب لابن منظور 3/ 448. 2 انظر المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 7.

فعلى هذا: يطلق الواحد على المنفرد بخصائصه عما سواه. يقول ابن فارس: "وحد: الواو والحاء والدال: أصل واحد يدل على الانفراد. من ذلك: الوحدة، وهو واحد قبيلته: إذا لم يكن فيهم مثله. قال الشاعر: يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير ولقيت القوم موحد موحد، ولقيت الرجل وحده. ولا يضاف إلا في قوله: نسيج وحده"1. والتوحيد في الاصطلاح: إفراد الله بما تفرد به، وبما أمر أن يفرد به؛ فنفرده في ملكه وأفعاله فلا رب سواه ولا شريك له، ونفرده في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو، ونفرده في أسمائه وصفاته فلا مثيل له في كماله ولا نظير له2. مدى المطابقة بين التوحيد والعقيدة: حين المقارنة بين "العقيدة"، و"التوحيد" كمصطلحين، نجد أن العقيدة ليست مقصورة على توحيد الله تعالى فحسب، بل هي تشمل التوحيد وزيادة، فيدخل فيها مباحث شتى؛ كالرسل ورسالاتهم، والملائكة وأعمالهم، والكتب السماوية، واليوم الآخر وما فيه، والقضاء والقدر وما يتعلق به، والإمامة، والصحابة. بل يدخل فيها أيضا: موقف المسلمين من الفرق الضالة، وغير ذلك. فهذا العلم الواسع بما يتضمنه من مباحث، وما يحويه من جزئيات يسمى "التوحيد" أيضا، كما سماه بذلك علماء المسلمين. ولو تأملنا مدى المطابقة بين كلمة "توحيد"، وبين مفردات العقيدة، لوجدناها جزئية. وهذا يثير تساؤلا مفاده: إذاكانت المطابقة بين كلمة "توحيد" ومصطلح "عقيدة" بما يحويه من مباحث جزئية، فلماذا سمي علم العقيدة بـ"التوحيد"؟ ولم أطلق العلماء في القرون الماضية على ما صنفوه من كتب في علم العقيدة اسم "التوحيد"؟

_ 1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/ 90-91. 2 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 56. والأسئلة والأجوبة الأصولية للسلمان ص41.

والجواب: إن تسمية العقيدة بالتوحيد من باب تسمية الشيء بأشرف أجزائه؛ لأن توحيد الله عز وجل هو أشرف مباحث علم العقيدة. أما المباحث الأخرى؛ من إيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، ومباحث الإمامة، والصحابة، وغيرها، فهي تعتمد عليه، وتستند إليه؛ إذ هو أساسها وجوهرها، فهي تدخل فيه بالاستلزام. الفرق بين العقيدة والتوحيد: والآن، وقد فرغنا من بيان معنى العقيدة والتوحيد، نتساءل: ما الفرق بين المعنيين؟ فنقول: العقيدة أعم من جهة موضوعها؛ إذ هي تشمل التوحيد، وغيره من المباحث؛ فيدخل فيها أركان الإيمان الستة، ويدخل فيها ردود علماء الإسلام على الديانات الأخرى، والفرق، والتيارات المعاصرة، وغيرها. بخلاف التوحيد الذي يقتصر على توحيد الله عز وجل، وهو أشرف أجزاء العقيدة. ويلاحظ أيضا أن مباحث الإيمان بالكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر يدخل في إطار العقيدة بالمطابقة. أما في التوحيد فيدخل فيه بالاستلزام؛ إذ يلزم من إيمانك بالله عز وجل أن تؤمن بملائكته، وكتبه، ورسله، والمغيبات التي أخبر الله عنها، وأخبرت عنها رسله، وبالقدر الذي يجريه الله في عباده وفق إرادته ومشيئته. مؤلفات في العقيدة تحت مسمى التوحيد: 1- استخدم الإمام البخاري؛ محمد بن إسماعيل "ت256هـ" هذا المصطلح، حين سمى الكتاب الذي خرج فيه أحاديث العقيدة -في الجامع الصحيح- بـ"كتاب التوحيد". 2- وأبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي "ت306هـ" سمى الكتاب الذي صنفه في العقيدة بـ"كتاب التوحيد". 3- وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري "ت311هـ" ألف كتابا في العقيدة وسمه بـ"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل". 4- وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده "ت395هـ" ألف كتابه الموسوم بـ"كتاب التوحيد ومعرفة اسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد". ثم تتابعت الكتب المؤلفة تحت هذا الاسم.

الوقفة الثانية: مع مسمى أصول الدين

الوقفة الثانية: مع مسمى "أصول الدين" من مسميات هذا العلم: أصول الدين. المراد بأصول الدين: نلاحظ أن مصطلح "أصول الدين" مركب من مضاف، ومضاف إليه. فهو إذًا مركب إضافي. ولا يمكن التوصل إلى معنى المركب إلا بتحليل أجزائه المركب منها، وهي "أصول"، و"دين". أما الأصول: فمفردها أصل. ومعناه لغة: أساس الشيء1. أو ما يبتنى عليه غيره؛ كأساس المنزل، وأصل الشجرة، ونحو ذلك2. والأصل اصطلاحا: ما له فرع؛ لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل3. والدين في اللغة: الذل والخضوع. والمراد به دين الإسلام، وطاعة الله، وعبادته وتوحيده، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، وكل ما يتعبد الله عز وجل به4. فتكون أصول الدين -على هذا: القواعد والأسس التي تصح بها العبادة، وتتحقق بها طاعة الله ورسوله بامتثال المأمور، واجتناب المحظور؛ لأن الاعتقاد هو الأصل الذي ينبني عليه قبول الأعمال وصحتها. فأصول الدين: هي ما يقوم وينبني عليه الدين. والدين الإسلامي يقوم على عقيدة التوحيد. ومن هنا سمي علم التوحيد أو علم العقيدة بـ"علم أصول الدين".

_ 1 انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 109. والمعجم الوسيط لمجموعة من المؤلفين ص20. 2 انظر كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1/ 122-123. 3 انظر شرح الكوكب المنير لابن النجار 1/ 38. 4 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1546.

الحقيقة الشرعية لأصول الدين: المفهوم الحق لمصطلح أصول الدين، هو أصول الإيمان الستة المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: من الآية 177] ، وفي قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وهي التي أجاب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل حين سأله عن الإيمان، فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 1. فهذه الأصول الستة هي التي يقوم عليها إيمان العبد، وتصح بها عبادته. مؤلفات في العقيدة تحت مسمى "أصول الدين": لعل أول من استخدم هذا المصطلح لعلم العقيدة -وإن لم يشتهر وقتها- هو الإمام الشافعي رحمه الله "ت204هـ"؛ حيث قال في مفتتح كتابه "الفقه الأكبر": "هذا كتاب ذكرنا فيه ظواهر المسائل في أصول الدين، التي لا بد للمكلف من معرفتها، والوقوف عليها. 1- وهذه التسمية استخدمها أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري "ت329هـ"، حين وسم كتابه الذي أبان فيه عن عقيدة أهل السنة والجماعة بـ"الإبانة عن أصول الديانة". 2- وكذا استخدمها أبو حاتم الرازي "ت327هـ" في كتابه "أصل السنة والاعتقاد الدين". 3- ومن بعدهما عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري "ت387هـ" في كتابه: "الشرح والإبانة عن أصول الديانة"، وهو الكتاب الذي يعرف بـ"الإبانة الصغرى". 4- وعبد القاهر البغدادي "ت429هـ" في كتابه "أصول الدين". وغيرهم. ملاحظة: يلاحظ أن العقيدة -ههنا- سميت بـ"أصول الدين" تمييزا لها عن الفروع. وينبغي أن لا يرد على بالك أن الأصول هي التي تؤخذ ويعمل بها فحسب، ويمكن الاستغناء عن الفروع. فهذا الفهم خطأ؛ لأن الدين كل لا يتجزأ. وقد عاب الله على أهل الكتاب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعضه الآخر، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: من الآية 85] .

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.

الوقفة الثالثة: مع مسمى السنة

الوقفة الثالثة: مع مسمى "السنة" من مسميات العقيدة: السنة. تعريف السنة لغة واصطلاحا: السنة لغة من سن يسن ويسن سنا، فهو مسنون. وسن الأمر: بينه. وهي تأني لعدة معان1، منها: 1- الطريقة المسلوكة، سواء أكانت محمود أم مذمومة. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 2. 2- السيرة، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: سيرته التي كان يتحراها. فما ثبت عنه من قول، أو فعل، أو وصف، أو تقرير، قيل له سنة. يقول ابن الأثير: "وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها. والأصل منها: السيرة والطريقة"3.

_ 1 انظر من كتب اللغة: الصحاح للجوهري 5/ 1238-1240. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/ 60-61. ولسان العرب لابن منظور 13/ 220-228. والتعريفات للجرجاني ص161. ومختار الصحاح للرازي ص317. 2 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة. 3 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 409.

3- العادة. ومنه قوله عز وجل: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] ؛ أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم، بخروج الرسول من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب1. أما السنة عند الأصوليين: فهي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو قرر عليه2. المناسبة بين مسمى السنة، ومسمى العقيدة: لأهمية وخطورة مسائل الاعتقاد التي هي أصل الدين، وعليها يبنى غيرها من أعمال الإسلام، أطلق العلماء لفظ "السنة" على ما وافق الكتاب والسنة من قضايا الاعتقاد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات. وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات"3. ولما كانت السنة مصدرا من مصادر العقيدة -كما سيأتي، وطريقة من طرق إثبات العقيدة الصحيحة، اعتبر العلماء معنى السنة: اتباع العقيدة الصحيحة، وأطلقوا على عقيدة السلف الصالح اسم السنة، بسبب اتباعهم لطريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم في ذلك. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "السنة: طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان عليها هو وأصحابه، وغيرهم، السنة: عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وكذلك مسائل القدر، وفضائل الصحابة. وصنفوا في هذا العلم تصانيف، وسموها كتب السنة"4.

_ 1 انظر تفسير ابن كثير 3/ 54. 2 انظر مذكرة في أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص95. 3 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص77. 4 كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ص11-12. وانظر السنة لابن أبي عاصم 2/ 645-647.

فإطلاق اسم السنة على مباحث الاعتقاد، يشعر بأهمية العقيدة؛ إذ هي أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم1. مؤلفات في العقيدة تحت مسمى "السنة": ساد اصطلاح السنة في القرن الثالث الهجري، في عصر إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، حين ظهرت الفرق، وراجت عقائد المبتدعة. فأخذ العلماء يطلقون على أصول الدين ومسائل العقيدة اسم "السنة" تمييزا لها عن مقولات الفرق. وأذكر فيما يلي بعضا من المصنفات التي كتبوها تحت مسمى السنة: 1- السنة لابن أبي شيبة "ت235هـ". 2- السنة لأحمد بن حنبل "ت241هـ". 3- السنة للأثرم؛ أبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي "ت273هـ". 4- السنة لأبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال "ت273هـ". 5- السنة لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني "ت275هـ".

_ 1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص249. والوصية الكبرى لابن تيمية ص60.

الوقفة الرابعة: مع مسمى الفقه الأكبر

الوقفة الرابعة: مع مسمى "الفقه الأكبر" من المسميات التي أطلقت على العقيدة: الفقه الأكبر. تعريف الفقه لغة واصطلاحا: الفقه في اللغة: الفهم. يقول ابن فارس: "فقه: الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به. تقول: فقهت الحديث أفقهه. وكل علم بشيء فهو فقه. ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه"1.

_ 1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/ 242. وانظر: لسان العرب لابن منظور 13/ 522. والمفردات للراغب الأصفهاني 384.

ولقد كان الفقه يطلق في القرون الأولى على العلم بأحكام الشريعة كلها. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1. وكذا دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- لابن عمه ابن عباس -رضي الله عنهما- كان عاما في الدين كله، لا في مسائل الحلال والحرام فحسب، في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"2. والملاحظ أن المتأخرين خصوا اسم "الفقه" بمعرفة مسائل الحلال والحرام، وغيرها. سبب تسمية العقيدة بالفقه الأكبر: سمى العلماء العقيدة بالفقه الأكبر مقارنة بفقه الفروع. فقولنا "الفقه الأكبر" يشعر بأن هناك فقها آخر ليس بأكبر، وهو فقه ما أطلق عليه اسم الفروع. مؤلفات في القعيدة تحت مسمى "الفقه الأكبر": أول من استخدم مصطلح "الفقه الأكبر" هو الإمام أبو حنيفة؛ النعمان بن ثابت "ت150هـ"؛ فقد روي عنه كتاب بهذا الاسم، وهو مشهور عند أصحابه3، بحث فيه رحمه الله بعض مسائل الاعتقاد. وكذلك ينسب للإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس "ت204هـ" كتاب باسم "الفقه الأكبر"، عرض فيه مسائل الاعتقاد بالتفصيل4. ملاحظة: يرد على هذه التسمية ما ورد على تسمية "أصول الدين"؛ فقد يظن البعض أن تسمية العقيدة بالفقه الأكبر، يعني إهمال الفقه الآخر -مسائل الأحكام، والحلال والحرام-؛ لأنه أصغر مقارنة بالأكبر. وهذا الفهم غير صحيح؛ لأن تسمية العقيدة بالفقه الأكبر يعني الاهتمام بها، والبدء بتصحيحها قبل القيام بأداء الأعمال، ولا يعني -بحال- إهمال أداء الأعمال، ومعرفة أدلتها التفصيلية؛ لأن دين الإسلام كل لا يتجزأ، ولا يمكن الاستغناء عن بعضه، والاكتفاء بالبعض الآخر.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. 2 ذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 331، وعزاه إلى معجم البغوي. 3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 46. 4 انظر كشف الظنون لحاجي خليفة 2/ 1278.

المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية

المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية الوقفة الأولى: أهل السنة والجماعة ... المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية: عرفنا بعض المسميات التي أطلقت على علم العقيدة الإسلامية. وثمة مسميات أطلقت على أهل العقيدة الصحيحة وحملتها. سأذكر بعضها في الوقفات التالية: الوقفة الأولى: أهل السنة والجماعة من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: أهل السنة والجماعة. التعريف بأهل السنة والجماعة: هذا المسمى يجمع وصفين اثنين لأصحابه، وهما السنة، والجماعة. والسنة قد تقدم معناها اللغوي، وذكرنا أن العلماء يعرفونها اصطلاحا بأنها: ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو وصف أو تقرير1. والسنة قد تطلق على ما يقابل البدعة، كقولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا، وفلان على سنة -إذا وافق التنزيل والأثر في القول والفعل-، وفلان على بدعة -إذا عمل خلاف ذلك-2. وهاتان الكلمتان -السنة والبدعة- تستعملان دائما ككلمتين متضادتين؛ لأن السنة هي الطريق التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم، والبدعة هي ترك تلك الطريق والانحراف عنها. وقد ورد في الأثر ذكر السنة مقابل البدعة؛ من ذلك ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أحدث قوم بدعة، إلا رفع مثلها من السنة" 3. وما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما:

_ 1 انظر ص15، 16. 2 انظر مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص29. 3 مسند أحمد 4/ 105، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/ 253.

"ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيى البدع، وتموت السنن"1. فالسنة بهذا المعنى، تشمل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال. أما الجماعة في اللغة: فهي مأخوذة من الجمع؛ وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض؛ يقال: جمعته فاجتمع. قال ابن فارس: "الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء"2. والجماعة: العدد الكثير من الناس، أو القوم المجتمعون على أمر ما، أو طائفة يجمعهم غرض واحد3. والجماعة شرعا هم: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، والتابعون، وتابعوهم بإحسان4. وأهل الشيء هم: أخص الناس به. يقول أهل اللغة: أهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكانه، وأهل الإسلام: من يدين به، وأهل المذهب: من يدين به5. وبإمكاننا بعدما علمنا معنى أهل، والسنة، والجماعة، أن نعرف أهل السنة والجماعة بأنهم المتبعون لمنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الأصول والفروع6. وقيل: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اعتقادا وقولا وفعلا؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الفرقة الناجية، فأجاب مرة بأنها ما كان عليه هو وأصحابه، وأخرى قال: هي الجماعة7.

_ 1 أخرجه ابن وضاح القرطبي في كتابه: البدع والنهي عنها ص45. 2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 479. 3 انظر لسان العرب لابن نظور 8/ 53-60. 4 انظر مفهوم أهل السنة والجماعة للعقل ص54. 5 انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 150. 6 انظر: الاعتصام للشاطبي 1/ 28. وشرح العقيدة الواسطية للهراس ص16-17. 7 الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب شرح السنة. وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم. وابن أبي عاصم في السنة 1/ 32-33، تحت الأرقام 63، 64، 65. وقال الألباني في تعليقه على الحديث: "والحديث صحيح قطعا؛ لأن له ست طرق أخرى عن أنس، وشواهد عن جمع من الصحابة" "1/ 42".

وقيل: "هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها ظاهرا وباطنا في القول والعمل والاعتقاد"1. ملاحظة: لا يقصد بالجماعة هنا مجموع الناس وعامتهم، ولا أغلبهم، ولا سوادهم، ما لم يجتمعوا على الحق؛ لأن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة، ولو كنت وحدك، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت وحدك"2. يقول عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة "ت665هـ: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف كثيرا؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم, ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم"3.

_ 1 انظر: رسائل في العقيدة ص53، والمجموع الثمين 3/ 3، وكلاهما لفضيلة الشيخ ابن عثيمين. 2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 109. 3 الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص34.

الوقفة الثانية: السلف

الوقفة الثانية: السلف من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: السلف. التعريف بهم: السلف في اللغة: جمع سالف، والسالف: المتقدم. والسلف: الجماعة المتقدمون1. قال ابن فارس: "سلف: السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق. من ذلك: السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون"2. فالسلف -إذًا- من سلف يسلف سلفا وسلوفا أي: تقدم3.

_ 1 انظر لسان العرب لابن منظور 6/ 158. 2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/ 95. 3 انظر: المفردات للراغب الأصفهاني ص239. والوجوه والنظائر لألفاظ القرآن للدامغاني ص243.

وسلف كل إنسان: من تقدمه من آبائه وذوي قرابته الذين هم فوقه في السن والفضل، وأحدهم سالف1. وقيل: من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته. ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين بالسلف الصالح2. هذا عن السلف في اللغة. أما السلف في الاصطلاح: فقد اختلف العلماء في تحديد المراد بهم، نتيجة اختلافهم في تحديد الزمن الذي ينسبون إليه، إلى عدة أقوال: 1- القول الأول: أنهم الصحابة رضي الله عنهم فقط، وهو قول عدد من شراح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني3. 2- القول الثاني: أنهم الصحابة والتابعون. وممن ذهب إلى هذا أبو حامد الغزالي، حين قال: "اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر، هو مذهب السلف؛ أعني مذهب الصحابة والتابعين"4. 3- القول الثالث: أنهم الصحابة، والتابعون، وتابعوا التابعين؛ أي: القرون الثلاثة التي أثبت لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخيرية بقوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 5. وإلى هذا القول ذهب عدد كبير من أهل العلم؛ كالإمام الشوكاني، والإمام السفاريني، وغيرهما5. ملاحظة: يلاحظ على هذه الأقوال جميعها أنها تدخل من كان في القرون الأولى في مسمى السلف. ولكن ليس كل من كان في ذلك الزمن يسمى سلفيا، إذ المعروف أن الفرق ظهرت

_ 1 انظر معالم التنزيل للبغوي 4/ 142. 2 انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 390. 3 انظر وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور محمد باكريم ص97، 98. 4 إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص53. 5 صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

في القرون الأولى، فـ"ليس السبق الزمني كافيا في تعيين السلف، بل لا بد أن يضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسنة نصا وروحا. فمن خالف رأيه الكتاب والسنة، فليس بسلفي، وإن عاش بين ظهراني الصحابة والتابعين"1. ويصح أن يضاف إلى أهل القرون المفضلة الموافقين للكتاب والسنة، من وافق الكتاب والسنة، ونهج نهج أولئك الكرام، واتبع آثارهم ومروياتهم الصحيحة التي أبانوا بها الحق. فلا شك أنه داخل في مفهوم هذه الكلمة "السلف". ولقد وفق الإمام السفاريني رحمه الله حين حدد مذهب السلف بأنه "ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفا عن سلف، دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي؛ مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء"2. إذًا: ليس المراد بالسلف أهل القرون المفضلة فحسب، بل يدخل فيهم كل من وافق الكتاب والسنة، ونهج منهج الصحابة رضي الله عنهم. مفهوم الخلف عند علماء السلف: الخلف في اللغة هو من جاء خلف المتقدم، سواء أكان تأخره في الزمن، أو في الرتبة3. وإذا أطلقت كلمة "الخلف" في مقابل كلمة "السلف" يراد بها: "من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي"1، كما تقدمت عبارة الإمام السفاريني في ذلك. فمن انحرف عن الكتاب والسنة، ومال عن طريقة الصحابة رضي الله عنهم، فلم يتخذها منهجا له، فهو خلفي، وإن عاش بين ظهراني الصحابة.

_ 1 بتصرف من كتاب: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل للدكتور الجليند ص52. 2 لوامع الأنوار للسفاريني 1/ 20. 3 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1042-1043.

الوقفة الثالثة: أهل الحديث

الوقفة الثالثة: أهل الحديث من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: أهل الحديث. التعريف بهم: الحديث في اللغة: ضد القديم. ويستعمل في كثير الكلام وقليله1. وهو في الاصطلاح: ما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة2. وأهل الحديث: هم المنسوبون إليه بسبب اتباعهم له؛ فهم كل من جعل كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدرا من مصادر التلقي، يستفيدون منه عقائد الإسلام الصحيحة، ويبنون عليه، سواء أكانوا علماء حديث، أو فقه، أو أصول، أو سوى ذلك. يقول الإمام الصابوني "ت449هـ": "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة، حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم"3. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية "ت728هـ": "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته، أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته، وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا. وكذا أهل القرآن"4. فأهل الحديث هم الذين اتبعوا آثار الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وكان لهم عناية خاصة بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: جمعا، وحفظا، ورواية، وفهما، وعملا في الظاهر والباطن.

_ 1 انظر المصدر نفسه ص214. 2 انظر الحديث النبوي للدكتور محمد الصباغ ص140. 3 عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص3-4. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 95.

المبحث الثاني: مصادر العقيدة الإسلامية

المبحث الثاني: مصادر العقيدة الإسلامية العقيدة الإسلامية لها مصدران فقط، هما: كتاب الله عز وجل، وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس للعقيدة مصدر ثالث؛ لأن إجماع السلف الصالح لا يكون إلا على الكتاب والسنة1. يقول الإمام البيهقي "ت458هـ": "فأما أهل السنة، فمعولهم فيما يعتقدون: الكتاب والسنة"2. ويقول العلامة صديق حسن خان رحمه الله: "للإسلام أصلان فقط؛ القرآن، والسنة الصحيحة"3. ويعقب على ذلك بقوله: "وإنما حصرنا الأصول في كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مأمورة بهما"3. وما على الأمة إلا الاعتصام بما أمرت بالاعتصام به؛ كتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ إذ الاعتصام بهما سبب للعصمة من الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب للعصمة من الوقوع في الاضطراب في فهم العقيدة، ولأنه يجمع الأمة ولا يفرقها. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه من آية 123] . ولا ريب أن الاعتصام بالكتاب والسنة من أعظم ما من الله به على هذه الأمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن السلف الصالح: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم: اعتصامهم بالكتاب والسنة"4.

_ 1 انظر الاعتصام للشاطبي 2/ 252. 2 مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ص462. 3 الدين الخالص لصديق حسن خان 3/ 36. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 13/ 28.

منزلة العقل ومجالاته في الإسلام: الله عز وجل امتن على الإنسان بنعمة العقل الذي ميزه به عن سائر الحيوانات. وهذه النعمة هي التي ترفع صاحبها إلى مستوى التكاليف الشرعية الإلهية، وتؤهله لإدراكها وفهمها1. وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني، وتكريمه، والاعتماد عليه في فهم النصوص كالعقيدة الإسلامية، ويبدو هذا واضحا في آيات كثيرة من كتاب الله، مدح الله عز وجل فيها العقل، ورفع من شأنه، من خلال توجيهه إلى النظر، والتفكر، والتدبر، والتأمل2. ولكن لما كان للعقول في إدراكها حد تنتهي إليه لا تتعداه، لم يجعل الله لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب3؛ فلم يجعل لها سبيلا لإدراك أغلب مسائل الاعتقاد؛ إذ لا يمكن للعقول أن تستقل بمعرفتها لولا مجيء الوحي بها وبأدلتها العقلية. وما على العقول إلا فهمها وتدبرها. وأيضا، فإن كثيرا من مسائل الاعتقاد لا تدرك العقول حقيقتها وكيفياتها، ولو فهمت أدلتها وتدبرتها؛ كالروح التي في أجسادنا: عسر على الناس التعبير عن حقيقتها لما لم يشهدوا لها نظيرا4. وكذا صفات ربنا عز وجل، رغم أننا فهمنا معانيها بعقولنا من اعتبار الغائب بالشاهد، إلا أن حقيقتها وكيفياتها لا تدركه عقولنا؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف. والموصوف عز وجل ليس كمثله شيء؛ فهو متصف بصفات الكمال التي لا يماثله فيها شيء5. وكذا ما أخبر الله جل جلاله عنه من أمور الآخرة؛ كالجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، وغير ذلك من المغيبات، ليست من مدارك العقل، ولا في متناوله، مع أن العقل يقر بها، ولا يحيلها6.

_ 1 انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 150. 2 انظر النبوات لابن تيمي ص189. 3 انظر الاعتصام للشاطبي 2/ 318. 4 انظر تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص202. 5 انظر الرسالة التدمرية لابن تيمية ص44-45. 6 انظر المصدر نفسه ص46.

وإذا كان كذلك، فالعقل مطالب بالتسليم للنصوص الشرعية الصريحة، ولولم يفهمها أو يدرك الحكمة التي فيها؛ فالأمر ورد بقبولها والإيمان بها. فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فمن الله التوفيق، وله الحمد والشكر على ذلك. ومالم ندركه أو نفهمه، آمنا به وصدقناه1. درء تعارض العقل الصحيح والنقل الصريح: بقي أن نتساءل: هل يتعارض العقل الصحيح -السليم من الشبهات والأهواء- مع النص الصحيح الصريح؟ والجواب: تعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح غير متصور أصلا، بل هو مستحيل. فإذا توهم التعارض بسبب عدم فهم للنقل، أو فساد في العقل، فإن الوحي مقدم ومحكم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فيأخذ المسلمون جميع دينهم -من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك- من كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وليس ذلك مخالفا للعقل الصريح؛ فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل. وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل. ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم، لا من الكتاب والسنة"2.

_ 1 انظر صون المنطق والكلام للسيوطي ص182. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 490.

المبحث الثالث: ذكر بعض خصائص العقيدة الإسلامية

المبحث الثالث: ذكر بعض خصائص العقيدة الإسلامية المسالة الأولى: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها توقيفية ... المبحث الثالث: من خصائص العقيدة الإسلامية التعريف بـ"خصائص": الخصائص جمع خصيصه. يقال: خصه بالشيء خصا وخصوصا وخصوصية، وخصيصي. واختصه بكذا؛ أي: خصه به، فاختص، وتخصص، أي: تفرد1. والخصيصة: هي الصفة البارزة المميزة. فإذا قلنا: خصائص العقيدة، فمرادنا: صفاتها البارزة التي تنفرد بها، وتميزها عن بقية العقائد. وللعقيدة الإسلامية سمات بارزة تميزها عن بقية العقائد، سأقتصر على ذكر بعضها. ولبيان هذه الخصائص، قسمت هذا المبحث إلى أربع مسائل: المسألة الأولى: أنها توقيفية. المسألة الثانية: أنها غيبية. المسألة الثالثة: التكامل والشمول. المسألة الرابعة: أنها وسطية. المسألة الأولى: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها توقيفية معنى التوقيف في اللغة: التوقيف لغة مأخوذة من الوقف. يقال: وقف الدار، إذا حبسها. والتوقيف في الحج: وقوف الناس في المواقف. وموقف الرجل: وقوفه في أي مكان حيث كان2.

_ 1 انظر: الصحاح للجوهري 3/ 1037. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص796. 2 انظر المصدران السابقان 4/ 1445، ص1112-1113.

المراد من كون العقيدة الإسلامية توقيفية: المراد من كون العقيدة توقيفية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوقف أمته على مباحث العقيدة، فلم يترك لهم شيئا إلا بينه1. فيجب على الأمة أن تقف عند الحدود التي حدها وبينها2. ما الذي يلزم من كون العقيدة توقيفية: لقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقيدة بالقرآن والسنة، فما ترك منها شيئا إلا بينه. ويلزم من هذا: 1- أن نحدد مصادر العقيدة، بأنها الكتاب والسنة فقط. 2- أن نلتزم بما جاء في الكتاب والسنة فقط. فليس لأحد أن يحدث أمرا من أمور الدين، زاعما أن هذا الأمر يجب التزامه أو اعتقاده؛ فإن الله عز وجل أكمل الدين، وانقطع الوحي، وختمت النبوة، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3] ، ويقول -صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 3. وهذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وأصل من أصول العقيدة4. 3- أن نلتزم بألفاظ العقيدة الواردة في الكتاب والسنة، ونتجنب الألفاظ المحدثة التي أحدثها المبتدعة؛ إذ العقيدة توقيفية، فهي مما لا يعلمه إلا الله5.

_ 1 انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة للعقل ص38. والمدخل لدراسة العقيدة للبريكان ص62. 2 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص383. 3 صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود. 4 انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للعقل ص39. 5 انظر المرجع نفسه.

المسألة الثانية: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها غيبية

المسألة الثانية: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها غيبية معنى الغيب في اللغة: الغيب لغة: من غاب غيبا، وغيبة، وغيبوبة، وغيابا، خلاف شهد وحضر. يقال: غابت الشمس، إذا غربت واستترت عن العين. والغيب: كل ما غاب عنك، وهو خلاف الشهادة1. المراد من كون العقيدة الإسلامية غيبية2: 1- أنها تبحث في قضايا غيبية لا مجال للعقل في إدراكها، ومبناها على التسليم والتصديق المطلق بما جاء عن الله عز وجل، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ظاهرا وباطنا. "بعض قضايا العقيدة غيب". 2- أن أهلها يقفون في أمرها على ما جاء عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يؤمنون بالغيب. وقد وصفهم الله عز وجل بذلك في قوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1-3] . ما الذي يلزم من كون العقيدة الإسلامية غيبية: لما كانت أغلب قضايا العقيدة غيب بالنسبة لنا، لزمنا كمؤمنين بالغيب: 1- أن نسلم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والتسليم لله ولرسوله يتمثل في التسليم بما في الكتاب والسنة. 2- أن لا نخوض ولا نجادل في العقيدة ونصوصها -لأنها غيب- إلا بقدر البيان، وإقامة الحجة, مع التزام منهج السلف في ذلك3. 3- أن لا نؤول نصوص العقيدة، ولا نصرفها عن ظاهرها بغير دليل شرعي ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص155. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص167. 2 انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للعقل ص30، 39. 3 انظر: الشرح والإبانة لابن بطة العكبري ص123-127. والشريعة للآجري ص54-67.

المسألة الثالثة: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها شمولية

المسألة الثالثة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها شمولية معنى الشمول في اللغة: يقال: شمل الأمر القوم شملا، إذا شملهم. واشتمل بالثوب، إذا أداره على جسده كله، حتى لا تخرج منه يده. واشتمل على كذا، أي: احتواه وتضمنه1. المراد من كون العقيدة شمولية: أنها لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أتت بإيضاحها، ووضعت لها نظاما بأروع إحكام، وأتقن بيان؛ فقد أحاطت وهيمنت على الأعمال، والأقوال، والسلوك، وكل أمور الحياة. ولا يتم إيمان العبد إلا عندما يخضع كل أمور حياته لهذا الدين. مظاهر شمولية العقيدة 2: لم تغفل العقيدة الإسلامية أمرا من أمور الدين والدنيا إلا أتت عليه بالبيان والإيضاح التامين؛ فالله عز وجل ما فرط في الكتاب من شيء، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بين لأمته جميع ما يحتاجون إليه. ومن مظاهر هذه الشمولية: 1- أنها أعطت الإنسان تصورا كاملا عن الكون الذي يحيا فيه. 2- أنها تناولت كل القضايا التي بها تستقيم حياة الإنسان. 3- أنها أحاطت بالإنسان كله من حين ولادته، حتى وفاته. بل قبل ولادته، وبعد وفاته؛ قبل أن يتزوج أبوه أمه، وحتى يستقر في الجنة، أو يدخل النار -عياذا بالله.

_ 1 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1319. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص494-495. 2 انظر تفصيل ذلك في كتاب: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص69-72.

المسألة الرابعة: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها وسطية

المسألة الرابعة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها وسطية معنى الوسط في اللغة: يأتي الوسط لغة لعدة معان: 1- ما كان بين طرفي الشيء، وهو منه. كقولك: كسرت وسط الرمح، جلست وسط الدار، جئت وسط النهار1. ومنه قول سوار بن المضرب: إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط الناس عريانا 2- يأتي صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود. فأوسط الشيء: أفضله وخياره. والفردوس أفضل الجنة، وهو أعلاها، ووسطها. ومرعى وسط أي: خيار. ومنه قالت العرب: "وسط المرعى خير من طرفيه". وواسطة القلادة: هي الجوهرة التي تكون في وسطها، وهي أجودها2. 3- ويأتي وسط بمعنى عدل. فالوسط من كل شيء: أعدله3. والملاحظ على الوسط أنه في كل معانيه اللغوية لا يخرج عن العدل، والفضل، والخيرية. المراد من كون العقيدة وسطية: يراد من قولنا عن العقيدة: إنها وسطية: أنها: 1- أفضل العقائد، وخيارها. 2- أعدل العقائد. 3- لا إفراط ولا تفريط فيها.

_ 1 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 5/ 210. ولسان العرب لابن منظور 7/ 426-428. 2 انظر الصحاح للجوهري 3/ 1167. 3 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 5/ 209. وتاج العروس للزبيدي 5/ 238.

من مظاهر وسطية العقيدة الإسلامية: لا يستطيع الإنسان أن يتحدث في صفحات محدودة، بل ولا مجلدات عن مظاهر وسطية العقيدة الإسلامية؛ لأن ذلك أكثر من أن يحصر؛ فالأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس، ورسولها -صلى الله عليه وسلم- أفضل رسول، وكتابها القرآن الكريم أفضل الكتب، وآخرها، والمهيمن عليها. فهي خيار في خيار. ولي وقفتان، أتحدث من خلالهما عن مظاهر وسطية عقيدة هذه الأمة الوسط. الوقفة الأولى: وسطية أمة الإسلام بين الأمم الأخرى: بدت وسطية أمة الإسلام بين الأمم الأخرى في الأمور التالية: 1- في توحيد الله عز وجل، وصفاته: فهي وسط بين اليهود والنصارى؛ بين اليهود الذين وصفوا الرب سبحانه وتعالى بصفات النقص التي يختص بها المخلوق، وشبهوه به؛ فقالوا: إنه بخيل، وفقير، وأنه يتعب فيستريح، وأنه يتمثل في صورة البشر، وغير ذلك1. وبين النصارى الذين وصفوا المخلوق بصفات الخالق عز وجل؛ فشبهوه به، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن المسيح ابن الله، وإنه يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ويثيب، ويعاقب، إلخ2. وبينهما ظهرت وسطية المسلمين الذين وحدوا الله عز وجل، فوصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، وعن مماثلته لشيء من المخلوقات في شيء من الصفات، وقالوا: إن الله ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله3.

_ 1 انظر تفصيل ذلك في كتاب: وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص238، 244-249. 2 انظر المرجع نفسه ص238، 249-257. 3 انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/ 168-169.

2- في أنبياء الله عز وجل، ورسله: فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ بين اليهد الذين قتلوا الأنبياء، ورموهم بكل شين ونقيصة، وجفوهم، واستكبروا عن اتباعهم. وبين النصارى الذين غلوا في بعضهم، فاتخذوهم أربابا من دون الله، واتخذوا المسيح عليه السلام إلها1. وبينهما ظهرت وسطية المسلمين الذين أنزلوا الأنبياء منازلهم، وعزروهم، ووقروهم، وصدقوهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، وآمنوا بهم جميعا عبيدا لله عزوجل، ورسلا مبشرين ومنذرين. ولم يعبدوهم، أو يتخذوهم أربابا من دون الله؛ فهم لا يملكون ضرا ولا نفعا، ولا يعلمون الغيب2. 3- في الشرائع: فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ فاليهود منعوا أن يبعث الخالق عز وجل رسولا بغير شريعة موسى عليه السلام، وقالوا: لا يجوز أن ينسخ الله ما شرعه، أو يمحو ما يشاء، أو يثبت ما يشاء. والنصارى جوزوا لأحبارهم ورهبانهم أن يغيروا دين الله؛ فيحلوا ما حرم سبحانه وتعالى، ويحرموا ما أحل3. أما المسلمون، فقالوا: لله الخلق والأمر؛ يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، والنسخ جائز في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فليس لمخلوق أن يبدل أمر الخالق سبحانه وتعالى مهما بلغت منزلته، أو عظم قدره. 4- في أمر الحلال والحرام، فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ فاليهود حرم عليهم كثير من الطيبات، منها4:

_ 1 انظر تفصيل ذلك في كتاب: وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص238، 260-277. 2 انظر المرجع نفسه ص238، 277-284. وانظر في معنى التعزير: الصارم المسلول لابن تيمية ص422. 3 انظر المرجع السابق ص239. 4 انظر وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص240.

أ- ما حرمه إسرائيل؛ يعقوب عليه السلام على نفسه، كما حكى تعالى ذلك عنه بقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: من الآية 93] . ب- ما حرمه الله عز وجل عليهم جزاء بغيهم وظلمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] . والنصارى أسرفوا في إباحة المحرمات؛ فأحلوا ما نصت التوراة على تحريمه، ولم يأت المسيح عليه السلام بإباحته؛ فاستحلوا الخبائث، وجميع المحرمات؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير1. أما المسلمون: فقد أحلوا ما أحل الله لهم في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الطيبات، وحرموا ما حرم عليهم من الخبائث؛ كما قال الله عنهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف آية 157] . 5- في العبادة، فهي وسط بين اليهود والنصارى أيضا؛ فاليهود علموا، ولم يعملوا، فهم المغضوب عليهم؛ أعرضوا عن العبادات، واستكبروا عن طاعة الله، واتبعوا الشهوات، وعبدوا أنفسهم للمادة، فاشتغلوا بدنياهم عن دينهم وآخرتهم2. والنصارى لم يعلموا، وعبدوا الله على جهالة، فهم الضالون؛ غلوا في الرهبنة، وتعبدوا ببدع ما أنزل الله بها من سلطان؛ فاعتزلوا الناس في الصوامع، وانقطع رهبانهم للعبادة في الأديرة، وألزموا أنفسهم بما لم يلزمهم به الله، مما يشق على النفس والجسد، ويغالب الفطرة البشرية ويضادها، فلم يستطيعوا الوفاء بذلك، كما حكى الله عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: من الآية 27] .

_ 1 انظر كتاب الصفدية لابن تيمية 2/ 313. 2 انظر وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص240.

أما الأمة الوسط: فقد علموا، وعملوا، فهم الذين أنعم الله عليهم؛ عبدوا الله وحده بما شرع، لم يعبدوه بالأهواء والبدع1، ولم ينسوا نصيبهم وحظوظهم في الدنيا2، وقدوتهم في ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم. الوقفة الثانية: وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق الضالة: تقدم الحديث عن جوانب من وسطية أمة الإسلام بين الأمم. ولقد كان أسعد هذه الأمة بهذه الخيرية، أسعدها باتباع الكتاب والسنة، وأحرصها على هديهما قولا وعملا واعتقادا، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية في قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 3. فهؤلاء هم خيار الأمة، ثم يلحق بهم من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بالكتاب والسنة في كل زمان ومكان، من أخبر عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث الافتراق بأنهم الفرقة الناجية، وأنهم الجماعة4. وهؤلاء -أعني المتمسكين بالكتاب والسنة، والمتبعين لمنهج الصحابة وسلف الأمة- أصبحوا في هذه الأمة كهذه الأمم بالنسبة للأمم؛ فهم وسط بين فرق هذه الأمة، كما كانت هذه الأمة وسطا بين سائر الأمم. وكل دارس متفحص لأقوال الفرق في مسائل العقيدة وأصول الدين، يدرك أن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في ذلك. ومن مظاهر هذه الوسطية:

_ 1 انظر الوسطية في الإسلام -تعريف وتطبيق- للدكتور زيد الزيد ص46-51. 2 فصاموا وأفطروا، وقاموا بالليل وناموا، وتزوجوا النساء، وقدوتهم في ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم. "انظر صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. وصحيح مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح". 3 تقدم تخريجه في ص22. 4 انظر ص20، حاشية "4" من هذا الكتاب.

1- في أسماء الله وصفاته، فهم وسط بين أهل النفي والتعطيل، وأهل التشبيه والتمثيل؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، وبجميع أسمائه الحسنى من غير تحريف لمعناها، ولا نفي لها أو تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فهم يثبتون جميع الأسماء والصفات مع تحقيقها لله عز وجل، وتنزيهه سبحانه عن مماثلة مخلوقاته، تصديقا بخبره عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى من آية 11] . وهم وسط في ذلك بين أهل التعطيل وأهل التشبيه والتمثيل. فأهل التعطيل الذين أنكروا ما يجب لله من الأسماء والصفات، أو أنكروا بعضه، فهم نوعان: أهل التعطيل الكلي؛ كالجهمية والمعتزلة؛ وأهل التعطيل الجزئي؛ كالأشعرية والماتريدية1. وأهل التشبيه الذين شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات مخلوقاته؛ كما فعل الكرامية، والهشامية -أتباع هشام بن سالم الجواليقي-، وكصنيع داود الجواربي، ومن نحا نحوه2. 2- في باب القدر، فهم وسط بين الجبرية والقدرية؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله قدر الأشياء في الأزل، وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع وفق ما قدره الله عز وجل3. وهم بذلك يؤمنون بركن من أركان الإيمان، أشار إليه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" 4.

_ 1 انظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ ابن عثيمين ص18-19. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور صالح الفوزان ص157. 2 انظر الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور صالح الفوزان ص156-157. 3 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 154. 4 انظر تخريج هذا الحديث في ص14 من هذا الكتاب.

ولا يعد المرء مؤمنا بالقدر حتى يؤمن بمراتبه الأربع التي هي بمثابة الأركان فيه، وهي: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابة كل ما هو كائن قبل أن يكون، ومشيئة الله للأشياء قبل وقوعها، وخلقه للأشياء وإيجادها. فهذه أركان أربعة تشهد لها نصوص الكتاب والسنة1. أما المنحرفون عن الكتاب والسنة في هذا الباب، فقد أفرطوا وفرطو؛ فالقدرية -ويمثلهم المعتزلة- جفوا في إثبات القدر؛ فنفوا قدرة الله عز وجل وخلقه لأفعال عباده، وقالوا: إن الله لا يقدر على عين مفعول العباد. وعليه فأفعال العباد -عندهم- ليست مخلوقة لله، وإنما العبد هو الذي يخلق فعله2، فأنكروا خلق الله لأفعال عباده، وهي المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر. والجبرية -ومنهم الجهمية- غلوا في إثبات القدر، ونفوا مسئولية العبد عن أفعاله؛ فهو لا يريد فعلها ولا عدمه، ولا يقدر عليه، وقالوا: "لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز؛ كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس. وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه"3، وهو الذي يخلق الأفعال في الإنسان، على حسب ما يخلق في سائر الجمادات4. فأنكروا فعل العبد لأفعاله، ونسبوا ذلك إلى الله. فالقدرية نفوا القدر وقالوا: الخلق خلق العبد، والجبرية غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: الفعل فعل الرب. وبرزت وسطية أهل السنة في هذا الباب حين أثبتوا للعبد مسئولية عن أفعاله، وإرادة

_ 1 من الكتب التي فصلت في ذلك: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص124-141. ووسطة أهل السنة بين الفرق لمحمد باكريم ص363-366. والثمرات الزكية في العقائد السلفية لأحمد فريد ص222-250. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني ص323. والمغني في أبواب العدل والتوحيد له 8/ 3. 3 مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري 1/ 338. 4 انظر شفاء العليل لابن القيم ص51.

ترجع له الفعل، ومشيئة واختيارا، وقدرة على الأفعال؛ كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء من الآية 36] . والذي قام بالعبد هو فعله، وكسبه، وحركاته، وسكناته؛ فهو المصلي، القائم، القاعد حقيقة. والذي قام بالله عز وجل هو علمه، وقدرته، ومشيئته، وخلقه؛ كما أخبر عز وجل عن نفسه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ؛ فالله كما خلق العباد، يخلق أفعالهم، والعبد فاعل لفعله حقيقة، وقادر عليه بإقدار الله له، والخلق خلق الله؛ لأن العباد خلق له، وأفعال المخلوقين مخلوقة، ولأن الله خالق كل شيء، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد كونا وقدرا1. وأهل السنة بوسطيتهم هذه يجمعون بين النصوص، ويؤلفون بينها2. 3- في نصوص الوعد والوعيد، فهم وسط بين الوعيدية والمرجئة: "جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كثير من الآيات والأحاديث التي تدل على وعد الله عز وجل للمؤمنين والمطيعين بالثواب الجزيل، وأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ووعدهم بألوان من الأجر والجزاء، ومغفرة الذنوب فيما دون الشرك، وتكفير السيئات، وإبدالها حسنات، ونحو ذلك"3. ومن هذه النصوص: قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر الغفاري -رضي الله عنه: "ما من عبد قال: لاإله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" 4. وهذه يقال لها: نصوص الوعد.

_ 1 انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص75. وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 3/ 534. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/ 459-460، 2/ 298. وشفاء العليل لابن القيم ص493. 2 انظر وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور باكريم ص381-383. 3 وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق للدكتور محمد باكريم ص353. 4 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

وجاء كذلك في الكتاب والسنة "آيات وأحاديث كثيرة، تتضمن الوعيد الشديد بالعذاب الأليم، والخلود في النار لأهل الفسق والمعاصي وأصحاب الكبائر، ووصفهم بالكفر والفسق والضلال ونحو ذلك"1.ومن هذه النصوص: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 2. وهذه تسمى نصوص الوعيد. والناس قد افترقوا في هذه النصوص إلى طرفين، ووسط. فالمرجئة أخذوا بنصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد، وقالوا: كل ذنب سوى الشرك فهو مغفور؛ فالإيمان لا تضر معه معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة3. وإنما ضلوا في هذا الباب بسبب عبادتهم الله بالرجاء وحده، وإهمال جانب الخوف. والوعيدية -من الخوارج والمعتزلة- أخذوا بنصوص الوعد والوعيد، وغلوا في نصوص الوعيد، وقالوا: لا بد أن ينجز الله وعده ووعيده، ولا يصح أن يخلف أيا منهما4. وسبب ضلالهم في هذا الباب: عبادتهم الله بالخوف وحده، وإهمال جانب الرجاء. وأهل السنة في هذا الباب وسط بين غلاة المرجئة، وبين الوعيدية -من الخوارج والمعتزلة-، وهم يأخذون بنصوص الوعد والوعيد؛ فيجمعون بين الخوف والرجاء، ولا يفرطون في نصوص الوعيد كالمرجئة الخالصة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا يغلون غلو الخوارج والمعتزلة في نصوص الوعيد، ويقولون في الوعيد: يجوز أن يعفو الله عن المذنب، وأن يخرج أهل الكبائر من النار، فلا يخلد فيها أحدا من أهل

_ 1 وسطية أهل السنة والجماعة للدكتور محمد باكريم ص354. 2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله. 3 انظر وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور باكريم ص355. 4 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص135-136. والموجز لعبد الكافي الأباضي -من الخوارج- ضمن كتاب آراء الخوارج الكلامية، للدكتور عمار طالبي 2/ 105.

التوحيد1، ويقولون في الوعد: إن الله لا يخلف وعده، فـ"إذا وعد عباده بشيء، كان وقوعه واجبا بحكم وعده؛ فإن الصادق في خبره، الذي لا يخلف الميعاد"2. الرجاء والخوف عند أهل السنة والجماعة: الرجاء والخوف عند أهل السنة والجماعة من أركان العبادة3،وهما متلازمان، كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عنهما: "فاعلم أنهما متلازمان؛ فمن كان يرجو ما عند الله من الخير، فهو يخاف ما لديه من الشر، كالعكس"4، وعلى تلازمهما دلت النصوص الشرعية. والرجاء والخوف عند العبد كجناحي طائر، قد يميل بأحد جناحيه لمصلحة، شريطة أن لا يفقد التوازن، وعلماء أهل السنة والجماعة يقولون: "ينبغي للإنسان وهو في أيام صحته أن يغلب الخوف دائما على الرجاء، وأن يكون خوفه أغلب من رجائه. فإذا حضره الموت غلب الرجاء في ذلك ليطغى على الخوف، فلا ينبغي للمؤمن أن يموت إلا وهو يحسن الظن بالله جل وعلا"5. ولكن ليس المراد أن ينفرد أحدهما في نفس العبد؛ فإن ذلك يكون سببا في اختلال التوازن في حياته. 4- في باب الأسماء والأحكام، فهم وسط بين الوعيدية والمرجئة: المراد بالأسماء: أسماء الدين، وهي تلك الألفاظ التي رتب الله عز وجل عليها وعدا ووعيدا؛ مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق. والمراد بالأحكام: أحكام أصحاب هذه الأسماء في الدنيا والآخرة6.

_ 1 انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/ 466-467. 2 المصدر نفسه 1/ 448. 3 سيأتي الحديث عنها لاحقا. 4 أضواء البيان للشنقيطي 4/ 200. 5 مدارج السالكين لابن القيم 2/ 51. وانظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص301-302. 6 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 38.

والناس في أحكام عصاة المسلمين وأسمائهم، قد انقسموا إلى طرفين -وعيدية ومرجئة-، ووسط -أهل السنة والجماعة؛ أولا: انقسامهم في أسماء مرتكبي الكبائر: الوعيدية: سلبوا اسم الإيمان عن العاصي في الدنيا، وسموه: إما كافرا كالخوارج1، أو في منزلة بين الإيمان والكفر؛ فلا هو مؤمن ولا كافر، كالمعتزلة2. والمرجئة والجهمية: زعموا أن العاصي مؤمن كامل الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم مجرد ما في القلب، أو المعرفة القلبية. وهم الذين قالوا: "لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة"3. أما أهل السنة والجماعة: فقد أطلقوا على مرتكب الكبيرة اسم: "مؤمن عاص، أو مؤمن فاسق، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته"، فلا يزيلون عنه اسم الإيمان بالكلية بذهاب بعضه، ولا يعطونه اسم الإيمان المطلق4، والله سبحانه وتعالى قد سمى المقتتلين مؤمنين؛ فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9-10] . ثانيا: انقسامهم في أحكام مرتكبي الكبائر في الآخرة: الوعيدية حكموا بخلود أصحاب الكبائر في النار في الآخرة؛ فالخوارج قالوا: إن أهل الكبائر خالدون مخلدون في النار، لا يخرجون منها أبدا5؛ والمعتزلة قالوا: يدخلون

_ 1 انظر مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/ 168. 2 انظر شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص697. 3 انظر وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور محمد باكريم ص335-336. 4 انظر المرجع نفسه ص346. 5 انظر مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/ 168.

النار، ويخلدون فيها أبد الآبدين، ودهر الداهرين1. ويظهر من أقوال الفرقتين تشابه موقفهم في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة. أما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة أنه يخاف عليه العقاب، ويرجى له الرحمة؛ فمن لقي الله "مصرا غير تائب من الذنوب التي استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله عز وجل؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له"2؛ فإن غفر له، وأدخله الجنة دون عذاب ولا عقاب، فبفضله. وإن أدخله النار وعذبه بقدر ذنوبه، فبعد له. ثم إنه لا يخلد في النار كالكفار. وهم في ذلك ينطلقون من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: من الآية 48] . 5- في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم وسط بين الغالي والجافي: الصحابي هو: من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، ومات على الإسلام3. وأهل السنة والجماعة وسط في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الغلاة والجفاة؛ الغلاة الذين يقولون بألوهية أمير المؤمنين وأبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يقولون بعصمته، أو يفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين4. والجفاة الذين جفوا الصحابة حتى كفروهم، ولعنوهم، ورموهم بالعظائم؛ كفعل الخوارج في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يقولون بعصمته، أو يفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين4. والجفاة الذين جفوا الصحابة حتى كفروهم، ولعنوهم، ورموهم بالعظائم؛ كفعل الخوارج في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعض الصحابة5؛ وكفعل المعتزلة

_ 1 انظر شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص666. وانظر أيضا فتح الباري لابن حجر 1/ 73. 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 162. وانظر الشرح والإبانة لابن بطة العكبري ص265. 3 انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/ 7. 4 انظر الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص21-22. 5 انظر المصدر نفسه ص19.

في تفسيقهم لطوائف من الصحابة، وردهم لشهادتهم1؛ وكفعل الرافضة في سب وتكفير الصحابة، سيما الشيخين رضي الله عنهم2. وتوسط أهل السنة بين هؤلاء وهؤلاء؛ فأحبوا الصحابة رضي الله عنهم، وترضوا عنهم، واعتقدوا عدالتهم، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد حفظ بهم دينه، وأقام بهم عقيدة الإيمان صافية نقية3. والأدلة من الكتاب والسنة على فضلهم أكثر من أن يجمعها مكان. منها: قوله سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] . ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي, فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 4.

_ 1 انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 12/ 178. وميزان الاعتدال للذهبي 4/ 329. 2 انظر: الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص23. ووسطية أهل السنة بين الفرق لباكريم ص406-411. 3 انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص86، 90، 93. وأعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص177-179. 4 صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم.

الباب الأول: التوحيد

الباب الأول: التوحيد تمهيد: وفيه مسألتان: المسألة الأولى: تعريف التوحيد. المسألة الثانية: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا، وفطرة، والشرك طارئ. المسألة الأولى: تعريف التوحيد سبق تعريف التوحيد لغة واصطلاحا1. وقلنا في تعريفه اصطلاحا: إفراد الله بما تفرد به، وبما أمر أن يفرد به؛ فنفرده في ملكه وأفعاله فلا رب سواه ولا شريك له، ونفرده في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو، ونفرده في أسمائه وصفاته فلا مثيل له في كماله ولا نظير له. المسألة الثانية: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا وفطرة والشرك طارئ وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا. الفرع الثاني: التوحيد هو الأصل في البشر فطرة. الفرع الثالث: الشرك طارئ.

_ 1 انظر ص10-11 من هذا الكتاب.

الفرع الأول: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا ثمة شبهة أثيرت، مفادها أن الأصل في الإنسان أنه مشرك، وأن التوحيد طارئ عليه. وقد زعم أصحاب هذه المقولة أن الإنسان عرف الشرك وتعدد الآلهة أولا، ولم يعرف عقيدة التوحيد إلا بعد أن تطورت ومرت بعدة مراحل. ويرد عليهم بأن التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا للأدلة التالية: 1- إن الغاية من خلق آدم عليه السلام وذريته هي عبادة الله وحده، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . 2- آدم عليه السلام أبو البشر، وحواء أمهم كانا على التوحيد، وحين أكلا من الشجرة، علما أن لهما ربا يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، فتضرعا إليه قائلين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: من الآية 23] . 3- إن الله اصطفى آدم عليه السلام، وشرفه بذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] ، ولا يكون الاصطفاء لمشرك. وقد أمر ملائكته بالسجود له، يقول عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . 4- إن الله عز وجل قد أخذ العهد والميثاق على بني آدم، وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام أنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم، كما قال مولانا عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173] .

5- إن ذرية آدم عليه السلام من بعده كانوا يدينون بالتوحيد الخالص طيلة عشرة قرون؛ حتى حدث الشرك في قوم نوح عليه السلام، كما سيأتي1؛ فبعث الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده؛ يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] . 6- كلما انحرفت البشرية عن التوحيد، أرسل الله الرسل تدعو إلى عبادته وحده، ونبذ ما يعبد من دونه، كما قال تعالى مخاطبا رسوله -صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . الفرع الثاني: التوحيد هو الأصل في البشر فطرة الفطرة على وزن فعلة، وهي مشتقة من فطر. يقال: انفطر الشيء، إذا انشق. وفطر الأمر، إذا ابتدأه واخترعه وأنشأه. وفطر الله العالم، أوجده ابتداء. وفطر الخلق، خلقهم وبرأهم2. والمراد بها ههنا: أصل الخلقة، وهي ما أوجد الله عليه الناس ابتداء من الإيمان به عز وجل وتوحيده. وكما كان التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا، فهو الأصل في البشر فطرة، للأدلة التالية: 1- إن الله عز وجل منذ أوجد البشر فطرهم على التوحيد والإيمان به سبحانه وتعالى خالقا ومعبودا، وأخذ عليهم العهد والميثاق منذ كانوا في أصلاب آبائهم3. يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [لأعراف: 172-173] .

_ 1 في الفرع الثالث: الشرك طارئ، ص52 من هذا الكتاب. 2 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص587، والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص694. 3 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص16.

2- إن الله عز وجل قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمته داخلة في الخطاب- أن يقيموا وجوههم، ويخلصوا دينهم له؛ لأن ذلك هو مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . 3- قد أخبر مولانا عز وجل أنه خلق عباده حنفاء كلهم، موحدين، مسلمين، مستقيمين، منيبين لقبول الحق؛ لأن ذلك هو مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، حين أخذ عليهم العهد في الذر1. يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" 2؛ فالعباد كلهم مفطورون على الإسلام، والإيمان الصحيح، ولكن للشياطين دور في مسخ الفطرة، وتشويهها، وجعلها تنحرف عن المسار السوي. فإذا طرأ على الفطرة ما يصرفها عن الصواب والحق، فإنها تحتاج إلى ما يصحح لها مسارها، ويردها عن الانحراف، وهذه مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام. 4- أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم "أن كل مولود يولد مهيئا للإسلام" 3، في قوله: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. كما تنتج البيهمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ". ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] 4. والفطرة التي يولد الإنسان عليها كما

_ 1 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 197. 2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار. 3 قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم 16/ 208. 4 صحيح مسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة.

قال الإمام المازري: "هي ما أخذ عليهم في أصلاب آبائهم، وأن الولادة تقع عليها، حتى يحصل التغيير بالأبوين"1؛ فالإنسان لو ترك على أصل خلقته التي خلقه الله عليها؛ "الفطرة"، دون أن تتدخل المؤثرات الأخرى، لكان من المؤمنين المسلمين2. والتحول عن الفطرة أساسا، إنما هو من فعل الشيطان، ووسوسته، وإغوائه. 5- إن كل مولود في العالم يقر بأن الله خالقه وربه، ولو عبد غيره؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] ؛ فالفطرة تدل على توحيد الربوبية. 6- إن الفطرة تدل على توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أيقن أن الله ربه وخالقه، فلا بد أن يصرف العبادة له وحده، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] ؛ فالإنسان إذا آمن بأن الله عز وجل هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المعطي، المانع، الضار، النافع، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فلا بد أن ينتهي به الأمر إلى أنه المعبود بحق وحده، لا شريك له؛ فيخضع قلبه له محبة، وإنابة، وذلا، وخوفا، وخشية، وتوكلا؛ إذ كيف يعبد، أو يخاف، أو يحب محبة عبادة، أو يتوكل على مخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

_ 1 نقله عنه الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم 16/ 208. 2 انظر تفسير البغوي 6/ 270.

الفرع الثالث: الشرك طارئ على البشرية فهمنا مما تقدم أن الشرك نوع من أنواع الانحراف عن جادة الحق والفطرة، وأنه ليس الأصل، كما زعم من زعم. والأدلة على ذلك كثيرة، منها: 1- لقد كانت البشرية الأولى، أو ذرية آدم عليه السلام المولودة على الفطرة -والفطرة هي دين الإسلام الذي رضيه الله عز وجل وارتضاه لعباده1- كانت على الإسلام طيلة عشرة قرون2. 2- يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله الله سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} [البقرة: من الآية 213] : "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام"3. فالتوحيد هو أصل البشرية، منذ خلق الله آدم عليه السلام، حتى وقع الشرك في قوم نوح عليه السلام. 3- أول شرك وقع في الخليقة هو شرك قوم نوح عليه السلام، وسبب كفرهم وتركهم دينهم هو غلوهم في الصالحين؛ فمعبوداتهم التي عكفوا عليها وتعصبوا لها، وقالوا عنها: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ، هي "أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم، عبدت"4، كما قال الحبر ابن عباس رضي الله عنهما. فالشرك طارئ على البشرية، وأول ما وقع في قوم نوح عليه السلام، بعد ألف سنة من آدم عليه السلام. 4- بعث الله عز وجل الرسل تترى؛ كلما ضلت أمة وانحرفت عن التوحيد، بعث إليها رسولا يعيدها إلى الجادة ويبصرها بضلالها، كي ترعوي، وتعود إلى الحق. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية 36] .

_ 1 انظر كلمات في الأخلاق الإسلامية للدكتور كمال محمد عيسى ص83. 2 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/ 678، وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي 1/ 286. 3 أخرجه الطبري في تفسيره 2/ 334, والحاكم في المستدرك 2/ 442، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 4 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: {وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} .

الفصل الأول: أنواع التوحيد

الفصل الأول: أنواع التوحيد تمهيد: اعلم أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أنواع1. وهذه القسمة استقرائية، قد دلت عليها النصوص. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "دل استقراء القرآن العظيم على أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء. الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو: تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي متركبة من نفي وإثبات. الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته"2. فأنواع التوحيد إذًا ثلاثة. وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله عز وجل؛ في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 66] . يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله موضحا ذلك: "فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} هذا توحيد الربوبية. وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} هذا توحيد الألوهية. وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هذا توحيد الأسماء والصفات؛ أي: لا تعلم له سميا؛ أي: مساميا يضاهيه ويماثله عز وجل"3. وبعد ما عرفنا أنواع التوحيد، نتكلم عن كل نوع منها بإيجاز.

_ 1 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 56. 2 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 410-411. 3 الجواب المفيد في بيان أقسام التوحيد لابن عثيمين ص9.

المبحث الأول: توحيد الربوبية

المبحث الأول: توحيد الربوبية توحيد الربوبية أحد أنواع التوحيد الثلاثة. ويمكن الحديث عنه بإيجاز في الوقفات التالية: الوقفة الأولى: معنى الرب لغة الرب لغة يأتي لعدة معان، منها: المربي، والمالك. يقال: رب كل شيء: مالكه، ومستحقه، أو صاحبه1. الوقفة الثانية: توحيد الربوبية شرعا هو الاعتقاد والاعتراف والإقرار الجازم بأن الله وحده رب كل شيء ومالكه، وخالق كل شيء ورازقه، وأنه المحيي والمميت، والنافع والضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ليس له في ذلك شريك2. الوقفة الثالثة: ما الذي يلزم المؤمن بتوحيد الربوبية؟ عندما نقول: على العبد أن يوحد الله في ربوبيته، فإنا نطلب منه أمورا، هي: 1- أن يؤمن بوجوده أولا. 2- أن يؤمن بأفعال الله العامة؛ كالخلق، والرزق، والنفع، والضر، والإعطاء، والمنع، والإحياء، والإماتة، إلخ. 3- أن يؤمن بقضاء الله وقدره؛ لأن ما يجريه الله في كونه، وما يقدره من مقادير هي من أفعاله عز وجل. الوقفة الرابعة: في ذكر بعض الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية القرآن الكريم مليء بذكر الأدلة على ربوبية الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 2] ، وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

_ 1 انظر: الصحاح للجوهري 1/ 130. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص111. 2 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص33.

وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] ، وغير ذلك. الوقفة الخامسة: دلالة الفطرة على توحيد الربوبية 1 هذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء؛ فالله عز وجل فطر خلقه على الإقرار بربوبيته، وأنه الخالق الرازق، المحيي المميت، إلخ. وقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم يقرون بهذا النوع من التوحيد، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] , {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] فهم ينسبون لله سبحانه: الخلق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الأمر؛ من رزق، وإنزال مطر، وغير ذلك. الوقفة السادسة: موقف المشركين من توحيد الربوبية ذكرنا في الوقفة السابقة أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ومع ذلك حكم عليهم الله سبحانه وتعالى بالكفر، ودمغهم بالشرك؛ فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون} [يوسف: 106] . والملاحظ أن الله عز وجل نسب إليهم في هذه الآية إيمانا، مع حكمه عليهم بالشرك، وهذا الإيمان الذي أثبته لهم، قولهم: إن الله خلقنا، ويرزقنا، ويميتنا، فهذا إيمانهم، مع إشراكهم في عبادتهم غيره2. وهذا التوحيد كما أقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أقرت به سائر الأمم، إما ظاهرا وباطنا، أو باطنا فقط. وفرعون الذين أنكره ظاهرا، أقر به باطنا كما حكى الله عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم} [النمل: من الآية 14] 3. الوقفة السابعة: هل يكفي توحيد الربوبية وحده؟ وهل يدخل صاحبه في الإسلام؟ لا يكفي توحيد الربوبية وحده، ولا يدخل صاحبه في الإسلام، ولذلك قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقر به، وصرف العبادة لغير الله.

_ 1 تقدم الحديث عن الفطرة في ص49-51 من هذا الكتاب. 2 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 209. وتوحيد الربوبية لمحمد بن إبراهيم الحمد ص12. 3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 1/ 25-27. وتوحيد الربوبية للحمد ص14-15.

المبحث الثاني: توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثاني: توحيد الأسماء والصفات ... المبحث الثاني: توحيد السماء والصفات توحيد الأسماء والصفات أحد أنواع التوحيد الثلاثة، ويمكن الحديث عنه بإيجاز في الوقفتين التاليتين: الوقفة الأولى: تعريف توحيد الأسماء والصفات يعرف هذا النوع من أنواع التوحيد بأنه: إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه، ووصف به نفسه؛ في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، نفيا وإثباتا؛ فيثبت له ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل1. الوقفة الثانية: في ذكر بعض أصول أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات هذا النوع من أنواع التوحيد ينبني عند أهل السنة والجماعة2 على أصول، منها: 1- تنزيه الله عز وجل عن مشابهة صفات الحوادث؛ فالله عز وجل ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله3؛ كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: من الآية11] . 2- الإيمان بجميع ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازا، على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فكما لايجوز تمثيل صفاته عز وجل بصفات خلقه، كذلك لا يجوز نفي الصفات التي وصف بها نفسه. والملاحظ على الآية المذكورة آنفا أنها ذات شقين؛ أحدهما: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على أهل التشبيه والتمثيل، والآخر: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} رد على أهل النفي والتعطيل. 3- قطع الطمع عن إدراك كيفية صفاته عز وجل؛ إذ العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه؛ لأن عقولهم لا تطيق "كنه معرفته عز وجل، ولا تقدر ألسنتهم على بلوغ صفته"4.

_ 1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 3. والرسالة التدمرية له ص7. ولوامع النوار البهية للسفاريني 1/ 129. والمجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / 12. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص22. 2 انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/ 110. وأضواء البيان للشنقيطي 2/ 312، 3/ 411. وآداب البحث والمناظرة له 2/ 127-128. 3 انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/ 117. والرسالة المدنية له ص31. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 575.

المبحث الثالث: توحيد الألوهية

المبحث الثالث: توحيد الألوهية تمهيد: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من جنس واحد؛ فهما نوعان مفهومهما اعتقادي -ليس عمليا كتوحيد الألوهية- ولذلك أطلق بعض أهل العلم عليهما اسما وحدا، هو: توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي الخبري؛ لأن المطلوب من المؤمن تجاههما: معرفة، وإثبات؛ معرفة أفعال الله، وأسمائه، وصفاته، وإثباتها له عز وجل. أما توحيد الإلهية، أو العبادة: فهو توحيد عملي؛ فيه أمر بفعل يصرف لواحد؛ وهو الله سبحانه وتعالى، أو نهي عن فعل يترك لأجل واحد، هو الله عز وجل؛ فهو توحيد في الطلب والقصد، أو توحيد إرادي طلبي، فيه دعوة إلى عبادة الله وحده، وخلع ما يعبد من دونه1. والكلام عن هذا النوع من أنواع التوحيد يطول؛ إذ المعركة بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، كانت من أجل هذا التوحيد. وسأكتفي هاهنا بذكر مقدما تعريفية بهذا التوحيد، وأترك التفصيل للفصل اللاحق. وهذا الكلام الموجز في هذا المبحث، يستلزم الوقفات التالية: الوقفة الأولى: في تعريف كلمة "إله" لغة يقال في اللغة: أله إلاهة وألوهة وألوهية: أي عبد عبادة. وتوحيد الأولوهية: أي توحيد العبادة، والإله بمعنى مألوه؛ أي معبود. وألهه: اتخذه إلها؛ أي معبودا. وكل ما اتخذ معبودا، فهو إله عند متخذه2. الوقفة الثانية: تعريف توحيد الألوهية عرف العلماء توحيد "الألوهية" بأنه "إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، قولا وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان"3.

_ 1 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص42-43. 2 انظر: الصحاح للجوهري 6/ 2223. والقاموس المحيط للفيروز آبادي ص1603. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص25. 3 أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص51. وانظر المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين / 11.

الوقفة الثالثة: منزلة توحيد الألوهية بين أنواع التوحيد هذا التوحيد هو أول دعوة الرسل1 عليهم الصلاة والسلام؛ فمن أجله أرسلت الرسل؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية 36] . وبهذا التوحيد أنزل الله الكتب2؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الثواب أو العقاب في الدارين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئا، كان موحدا"3. وهذا التوحيد هو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكفار عليه4؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 5. و"لا إله إلا الله" هو معنى توحيد الألوهية، كما سيأتي. الوقفة الرابعة: الأدلة الشرعية على توحيد الألوهية "توحيد الله، وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته، في القرآن كثير جدا"، كما قال ابن تيمية رحمه الله6. ومن هذه الأدلة الكثيرة: قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: من الأية36] ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: من الآية23] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: من الآية5] ، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] .

_ 1 انظر: مدارج الساكلين لابن القيم 3/ 443. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 21. 2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 145. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 52-53. 4 انظر المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 11-12. 5 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله. 6 في مجموع الفتاوى 1/ 70.

والأدلة من السنة كثيرة جدا، أكتفي بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ " قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" 1. الوقفة الخامس: حكم من لم يأت بهذا النوع من التوحيد، وأخذ بالنوعين الباقين لا يدخل في الإسلام من لم يأت بتوحيد الألوهية، ولو كان آخذا بالنوعين الآخرين؛ "فلو أن رجلا من الناس يؤمن بأن الله سبحانه هو الخالث المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه سبحانه المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات؛ لكن يعبد مع الله غيره، لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية، والأسماء والصفات"2، وكذا لو صرف شيا من العبادة لغير الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72] . الوقفة السادسة: العلاقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية يكثر في كلام علماء أهل السنة -رحم الله أمواتهم، وحفظ أحياءهم- ذكر علاقة الاستلزام والتضمن بين نوعي التوحيد هذين. ومن كلامهم في ذلك قول العلامة ابن القيم رحمه الله: "والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها، هي العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به؛ فإنه يلزم من الإقرار بتوحيد الإلهية"3. ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد البوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته، احتج بها عليهم، على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده، لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده"4.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. واللفظ لمسلم. 2 المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 12. 3 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 2/ 153. 4 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 411.

فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أقر بالأول، لزمه الثاني؛ أي: من عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، -وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته- وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده، لزم إفراده بالعبادة1. والله عز وجل كثيرا ما يستدل على المشركين المقرين بتوحيد الربوبية بهذا. من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] . وكما أن كان توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فإن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن توحيد الألوهية: "وهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن كل من عبد الله وحده؛ فإنه لن يعبده حتى يكون مقرا له بالربوبية"2. فتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ أي يدخل ضمنا فيه؛ فمن عبد الله وحده لا شريك له، فلا بد أن يكون معتقدا أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر3. الوقفة السابعة: الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية أعظم الغلط إنما حصل من جهة الانحراف في فهم مدلول كل من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فليس أحدهما هو الآخر، والفروق بينهما كثيرة جدا، وأكتفي بذكر بعضها، فمنها4: 1- فرق في الاشتقاق اللغوي؛ فالربوبية مشتق من اسم "الرب"، والألوهية مشتق من لفظ "الإله".

_ 1 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60. 2 المجموع الثمين لابن عثيمين ص22. 3 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35، وتوحيد الألوهية للحمد ص61. 4 انظر إشارات إلى هذه الفروق في الكتب التالية: الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص15-19. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60-63.

2- فرق في التعريف؛ فتوحيد الربوبية: إفراد الله بأفعاله؛ من خلق، ورزق، وإحياء، وإماتة، وإعطاء، ومنع، وضر، ونفع، إلخ. وتوحيد الألوهية: إفراد الله بأفعال عباده؛ من صلاة وزكاة وصيام وخشية ورجاء ومحبة وخوف وتوكل إلخ. 3- فرق في الكفاية؛ فتوحيد الربوبية لا يكفي وحده في دخول الإسلام، أما توحيد الألوهية فيكفي وحده؛ لأن من أتى بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية، لذلك من قال "لا إله إلا الله"، فقد أى بجميع ألأنواع التوحيد. 4- فرق في الإقرار؛ فتوحيد الربوبية أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية رفضه المشركون ولم يؤمنوا به، وعبدوا آلهة أخرى، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر من الآية3] ، ولما طلب منهم أن يعبدوا الله وحده، قالوا ما حكاه الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . 5- فرق في اللزوم والتضمن؛ فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أتى بتوحيد الربوبية، لزمه أن يأتي بتوحيد الألوهية. أما توحيد الألوهية فإنه متضمن لتوحيد الربوبية؛ فمن جاء بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية. وهذه الفروق التي ذكرتها مع غيرها من الفورق ترد على من زعم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو توحيد الربوبية، ولا يفرق بين هذا التوحيد وتوحيد الألوهية. وثمة وقفات أخرى مع توحيد الألوهية في الفصل التالي؛ حين الحديث عن شهادة "أن لا إله إلا الله" كمعنى لهذا التوحيد، وعن العبادة، وأنواعها، وأركانها.

الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة الإلهية

الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة الإلهية المبحث الأول: شهادة أن لا إله إلا الله المطلب الأول: معنى لا إله إلا الله ... الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة "الإلهية" المبحث الأول: شهادة أن لا إله إلا الله تمهيد: توحيد الألوهية هو معنى شهادة الحق: "أشهد أن لا إله إلا الله". ولما كان جماع التوحيد، وأساسه، وعموده، هو معرفة معنى شهادة الحق، كان من اللازم أن يحرص المسلم على إدراك معناها، وفهم مرماها، والعمل بمقتضاها. ويتضح ذلك في وقفات مع هذه الشهادة، في المطالب التالية: المطلب الأول: معنى لا إله إلا الله توحيد الألوهية، هو معنى لا إله إلا الله1. ومعنى "لا إله إلا الله" أي: لا تعبدوا أحدا إلا الله2. ويزداد هذا المعنى وضوحا إذا قمنا بإعراب شهادة الحق هذه، فـ: لا: نافية للجنس. إله: اسم "لا" مبني على الفتح في محل نصب، والخبر مرفوع مقدر، تقديره حق. إلا: أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرغ. الله: بدل من لفظ "إله"، وهو بدل بعض من كل. والجملة مع خبرها المقدر: لا إله حق إلا الله. وقد تقدم إن معنى "إله": معبود؛ فالجملة على هذا: لا معبود حق إلا الله، أو لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له3. ويتضح هذا المعنى حين التفكر في حال الكفار الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل دماءهم، وسبى نساءهم، وأخذ أموالهم؛ لقد كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ يعلمون أنه لا خالق لهم، ولا رازق، ولا محيي، ولا مميت، ولا مدبر لأمورهم إلا الله. ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام؛ لأنهم لم يشهدوا "أن لا إله إلا الله"؛ فعبدوا آلهة مع الله عز وجل.

_ 1 انظر معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشيخ الشنقيطي ص40. 2 المصدر نفسه ص41. 3 انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص73. وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي 4/ 508.

المطلب الثاني: أركان لا إله إلا الله

المطلب الثاني: أركان "لا إله إلا الله "لا إله إلا الله" لها نوعان من الأركان؛ نوع لفظي، ونوع معنوي. أما النوع اللفظي: وهو ما تضمنه لفظ الشهادة "لا إله إلا الله": فركناه نفي وإثبات؛ "لا إله": نفي، "وإلا الله": إثبات. وأما النوع المعنوي، وهو ما تضمنه معنى الشهادة "لا معبود بحق إلا الله": فركناه نفي وإثبات أيضا؛ فـ "لا معبود بحق": نفي، و"إلا الله": إثبات. يقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين: فلا إله إلا الله" اشتملت على نفي وإثبات؛ فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى؛ فكل ما سواه من الملائكة، والأنبياء، فضلا عن غيرهم؛ فليس بإله، ولا له من العبادة شيء. وأثبتت الإلهية لله وحده؛ بمعنى أن العبد لا يأله غيره؛ أي لا يقصده بشيء من التأله؛ وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة؛ كالدعاء، والذبح، والنذر، وغير ذلك1. فالنفي إذا: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن كل ما سوى الله عز وجل. والإثبات: إثبات الإلهية واستحقاق العبادة عن كل ما سو الله عز وجل. والإثبات: إثبات الإلهية واستحقاق العبادة لله عز وجل وحده، لا شريك له2. وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] .

_ 1 الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص22. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 189. 2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص39

المطلب الثالث: شروط لا إله إلا الله

المطلب الثالث: شروط "لا إله إلا الله" معنى الشروط في اللغة: شروط جمع، مفردها شرط، والشرط: إلزام الشيء، والتزامه؛ يقال: شرط له أمرا: التزمه، وشرط عليه أمرا: ألزمه إياه1. المراد بشروط "لا إله إلا الله": يراد بشروط "لا إله إلا الله": الأمور التي يجب على الإنسان أن يلزمها، حتى يحقق "لا إله إلا الله"، أو: ما لا تصح شهادة "لا إله إلا الله" إلا بوجودها، ويجب اجتماعها. منزلة هذه الشروط من شهادة "لا إله إلا الله": هذه الشروط بمثابة الأسنان للمفتاح، فلا يفتح إلا بوجودها. وقد أشار إلى ذلك عدد من علماء الأمة؛ منهم الإمام الحسن البصري رحمه الله، حين قال للشاعر الفرزدق -وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال الفرزدق: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. فقال الحسن: نعم العدة، إن لـ "لا إله إلا الله شروطا"؛ فإياك وقذف المحصنات2. وقيل لوهب بن منبه رحمه الله: أليس "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ فقال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك3. ذكر شروط "لا إله إلا الله": ذكر العلماء لكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" سبعة شروط، فعظمها بعضهم بقوله4: علم، يقين، وإخلاص، وصدقك مع ... محبة، وانقياد، والقبول لها وزاد بعضهم شرطا ثامنا، ونظمه بقوله: وزيد ثامنها الكفران منك لما ... سوى الإله من الأنداد قد ألها ويمكن بيان هذه الشروط في الوقفات التالية:

_ 1 انظر: القاموس المحيط للفيروز أبادي ص869. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص478. 2 انظر: كتاب التوحيد لابن رجب الحنبلي ص39. والدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 157. 3 أخرجه البخاري تعليقا في صحيحه، كتاب الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. وقد وصله في تاريخ 1/ 95، وأبو نعيم في حيلة الأولياء 1/ 66. 4 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منها للشيخ ابن جبرين ص77.

الوقفة الأولى: مع الشرط الأول: العلم المنافي للجهل: المراد بهذا الشروط: يراد بهذا الشرط: أن نعلم معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ومدلولها، علما منافيا للجهل، في النفي والإثبات؛ فننفي الألوهية عن غير الله عز وجل، ونثبتها له وحده؛ بأن نعلم أنه لا معبود بحق غيره. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عزوجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: من الآية19] . والعلم هنا لا بد فيه من إقرار القلب، ومعرفته بما طلب منه علمه. 2- قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [الزخرف: من الآية86] . أي: إلا من شهد بـ "لا إله إلا الله"، وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم1. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" 2. الوقفة الثانية: مع الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك: المراد بهذا الشرط: حتى يكون العلم كاملا، يجب أن لا يكون فيه شك ولا ريب؛ فمن علم أن معنى "لا إله إلا الله": لا معبود بحق إلا الله، يجب أن لا يرد عل علمه شك ولا ريب، ويجب أن لا يتردد في الإيمان بمدلولها، وعليه أن يعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله تعالى، وبطلان إلهية غير الله عز وجل بأي نوع من التأله. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ؛ فاشترط لصدق إيمانهم بالله ورسوله: كونهم لم يرتابو؛ أي لم يشكو، فعلم أنه لا بد من البعد عن الشك في معنى "لا إله إلا الله".

_ 1 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص40. 2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة.

2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" 1. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: "اذهب بنعلي هاتين، فمن رأيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة" 2. الوقف الثالثة: مع الشرط الثالث: القبول المنافي للرد: المراد بهذا الشرط: يراد من هذا الشرط: قبول ما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان، وتجنب ردها؛ لأن من الناس من يعلم معنى "لا إله إلا الله"، ويوقن بمدلولها؛ ولكنه يردها كبرا وحسدا؛ فالمشركون كانوا يعرفون معنى "لا إله إلا الله"، ولكنهم كانوا يستكبرون عن قبوله، كما حكى عز وجل ذلك عنهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] ، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: من الآية33] 3. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] . 2- قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا؛ فكانت منها طئافة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا. وأصاب

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه، دخل الجنة. 2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه، دخل الجنة. 3 انظر: الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص80-81.

طائفة منها أخرى؛ إنما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله، وشنفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 1. الوقفة الرابعة: مع الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك: المراد بهذا الشرط: الانقياد من مستلزمات القبول. ولعل الفرق بينه وبين القبول: أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال، والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول. ويلزم منهما جميعا الاتباع، ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله2. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان آية22] . 2- قول الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: من الآية125] . 3- قول الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: من الآية54] . 4- قول رسول الله صلى الله علي وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" 3. الوقفة الخامسة: مع الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب: المراد بهذا الشرط: أن يكون صادقا في قول "لا إله إلا الله" واعتقاد مدلولها، صدقا ينافي الكذب ظاهرا، ويمنع من النفاق باطنا؛

_ 1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم. وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي والعلم. واللفظ لمسلم. 2 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص81. 3 انقسم العلماء في هذا الحديث بين مصحح ومضعف؛ لأن آفته كما ذكروا هو نعيم بن حماد. فانظر كلامهم الطويل عن هذا الحديث في: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 393-395. ومشكاة المصابيح للألباني 1/ 59. وظلال الجنة بتخريج السنة له ص12.

فلا يخالف ظاهره باطنه؛ بل يتواطأ ظاهره مع باطنه، وما في داخل قلبه مع ما يقوله بلسانه، ويجري على جوارحه من الأعمال. وهذا هو الصدق الذي يمنع من النفاق باطنا. كذلك لا يظهر على جوارحه ما يناقض ما في قلبه من الاعتقاد بمدلول "لا إله إلا الله" ومقتضاها، واليقين به. وهذا هو الصدق الذي ينافي الكذب ظاهرا. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عز وجل: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] . 2- قول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ؛ فالمنافقون يقولون بألسنتهم؛ لكنهم ينكرون مدلول الشهادة بقلوبهم. لذلك حكم الله عليهم بالكذب، وبأن مجرد القول باللسان لا ينجيهم، بل هم في الدرك الأسفل من النار. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمة الله على النار" 1. 4- حين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي شرائع الإسلام، وقال له الأعرابي: والله لا أزيد عليها، ولا أنقص منها، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" 2. الوقفة السادسة: مع الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك المراد بهذا الشرط: يراد بهذا الشرط: تصفية القلب وتخليصه من كل ما يضاد معنى "لا إله إلا الله"، وتصفية العبادة، وتخليصها من شوائب الشرك والرياء. والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده، دون أن يصرف منها شيء لغير الله عز وجل، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل3.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم. 2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام. 3 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص83-84.

من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: من الآية3] ؛ أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له. 2- قول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] . 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 1. 4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 2. الوقفة السابعة: مع الشرط السابع: الحب المنافي للبغض المحبة هي مواطأة القلب على ما يرضي الله عز وجل؛ فيحب ما أحب الله، ويكره ما كره. المراد بهذا الشرط: أن يحب هذه الكلمة، ويحب العمل بمقتضاها، ويحب أهلها العاملين بها. ومن هنا قيل: "كل من ادعى محبة الله، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطلة"3. و"ليس بصادق من ادعى محبة الله، ولم يحفظ حدوده"4. فالعبد يحب الله عز وجل، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحب كل ما يحبه من الأعمال والأقوال، ويحب أولياءه وأهل طاعته4. ومتى استقرت كلمة "لا إله إلا الله" في القلب؛ فإنه لا يفضل عليها شيء؛ إذ حبها يملأ القلب، فلا يتسع لغيرها، وعندئذ يجد العبد حلاوة الإيمان.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب المساد في البيوت، وكتاب الرقاق، باب العمل الذي أبتغي به وجه الله. 2 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار. 3 ذكره ابن رجب الحنبلي في كتاب التوحيد ص61. 4 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص84.

من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: من الآية165] ، وللمفسرين في أفعل التفضيل "أشد حبا لله" قولان: أحدهما: الذين آمنوا أشد حبا لله من حب المشركين لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة المشركين مشتركة. وثانيهما: الذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين لأندادهم1. 2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: من الآية54] ؛ فالله يحبهم بسبب تمسكهم بدينه وشرعه، وهم يحبونه، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه. 3- قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . يقول الحسن البصري رحمه الله عن هذه الآية: "قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله تعالى هذه الآية"2. 4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"3. واجتماع هذه الشروط يحقق حلاوة الإيمان؛ فيستلذ العبد الطاعات، ويحتمل المشاق، إذا كان ذلك في سبيل رضا الله عز وجل، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 359. 2 ذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 177-178، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر عن الحسن البصر. 3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.

الوقفة الثامنة: مع الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله المراد بهذا الشرط: أن يعتقد بطلان عبادة من سوى الله عز وجل، وأن كل المعبودات سوى الله باطلة، وجدت نتيجة جهل الشمركين وضلالهم؛ فمن أقرهم على شركهم، أو شك ففي بطلان ما هم عليه؛ فليس بموحد، ولو قال لا إله إلا الله، ولو لم يعبد غير الله1. يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الكفر بما يعبد من دون الله: "وهذا من اعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يرحم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه"2. من الأدلة على هذا الشرط: 1- قول الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله"، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" 3. وبعد: فهذه هي شروط "لا إله إلا الله"، ولا بد من اجتماعها، والمداومة عليها كي يختم للعبد بخاتمة حسنة؛ لأن الأعمال بالخواتيم. فمتى حقق المسلم هذه الشروط، كان من أهل "لا إله إلا الله" القائمين بها علما وعملا واستحق محبة الله وثوابه، والتنعم في جنات النعيم4.

_ 1 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص78. 2 كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص33. 3 صحيح مسلم، كتاب افيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله. 4 انظر للاستزادة عن هذه الشروط: تيسير الإله بشرح أدلة شروط لا إله إلا الله لعبيد الجبري.

المطلب الرابع: نواقض لا إله إلا الله

المطلب الرابع: نواقض "لا إله إلا الله" النواقض لغة: النواقض جمع، مفرده ناقض. يقال: نقض الشيء نقضا: أفسده بعد إحكامه. ونقض ما أبرمه فلان: أبطله؛ فالنقض ضد الإبرام، ومنه نقض العهد أواليمين: نكثه، ونقض الحبل أو الغزل: حل طاقاته، ونقض البناء: هدمه1. المراد بنواقض "لا إله إلا الله": يراد بنواقض "لا إله إلا الله" مفسداتها؛ أي الأمور التي إذا فعلها الشخص، فسد توحيده وانتقض2؛ فإذا وجد في العبد ناقض من نواقض "لا إله إلا الله"؛ فإنه لا يكون من المسلمين، ولا يكتسب أحكامهم، بل يعطي أحكام أهل الشرك والكفر. ذكر ناقض "لا إله إلا الله": تنوعت طرائق العلماء في ذكر هذه النواقض، وتقسيماتها، وتفريعاتها. وثمة تقسيمات متعددة، وكلها صحيحة. ولكني سأكتفي بالنواقض التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته الموسومة بـ "نواقض الإسلام"3. وهذه النواقض عشرة، والحديث عنها سيكون في الوقفات التالية:

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص651. والقاموس المحيط للفيروز أبادي ص846. ولسان العرب لابن منظور 7/ 242. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص947. 2 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص9. 3 هذه الرسالة مطبوعة ضمن مؤلفات الشيخ محمد بنعبد الوهاب، قسم العقيدة والآداب، ص385-387.

الوقفة الأولى: مع الناقض الأول: الإشراك بالله 1 المراد بهذا الناقض: يقع هذا الناقض إذا صرف الإنسان شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ من صلاة، أو زكاة، أو ذبح، أو نذر، أو نحو ذلك. يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: "الشرك هو تشريك غير الله مع الله في العبادة؛ كأن يدعو الأصنام أو غيرها، أو يستغيث بها، أو ينذر لها، أو يصلي لها، أو يصوم لها، أو يذبح لها"2. ومن العبادة: النذر؛ فمن صرفه لغير الله فقد أشرك. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله: إن الله تعالى مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة. فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه، فقد اشرك3. من الدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72] ؛ فالله عز وجل قدحرم الجنة على كل مشرك، وجعل النار مأواه الدائم لأنه ترك القيام بعبوديته عز وجل4. 2- قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 116] ؛ فـ "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار" 5، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثاني من هذا الكتاب. 2 مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 4/ 32. 3 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص203. 4 انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص191. 5 صحيح مسلم، كتاب افيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار.

الوقفة الثانية: مع الناقض الثاني: من جعل وسائط وشفعاء بينه وبين الله، يدعوهم مع الله، أو من دون الله، أو يسألهم الشفاعة، أو يتوكل عليهم 1 المراد بهذا الناقض: أن يجعل العبد لنفسه واسطة بينه وبين الله عز وجل، فيما لا يقدر إلا الله، أو فيما لا يشرع ولا يجوز للعبد أن يجعله واسطة؛ كطلب الرحمة والمغرفة، ودخول الجنة، وطلب الشفاء، ولا رزق من غير الله سبحانه وتعالى؛ فهذا من الشرك الأكبر2. يقول شيخ افسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا الناقض: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار؛ مثل أن يسالهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات؛ فهو كافر بإجماع المسلمين3. لأن الثمرة التي يريد أن يصل إليها من يجيز جعل الوسائط بين العبد وربه، هو إثبات الاستغاثة والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذا هو الشرك بعينه4. من الأدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] . 2- قول الله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 3- قول الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40] .

_ 1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. 2 انظر تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد بن محمد القحطاني ص44. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 124. 4 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص37.

الوقفة الثالثة: مع الناقض الثالث: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم. أو تصحيح مذهبهم 1 المراد بهذا الناقض: أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة بالبعد عن الكفار والمشركين، والمخالفة لهم، والبراءة منهم. قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] ، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . ومسألة الحكم بتكفير الكافر مبنية على أصل كبير؛ وهو أن الله تعالى عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم، ممن ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم2. بـ "من لم يكفر المشركين الذين كفرهم وشركهم ظاهر بين، فهو كافر؛ لأن الله تعالى كفرهم في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكم بإسلام المرء حتى يكفر المشركين"3. من الأدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] . 2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: من الآية1] . 3- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: من الآية22] .

_ 1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. 2 شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص51. 3 تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد بن محمد القحطاني ص53.

الوقفة الرابعة: مع الناقض الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه. المراد بهذا الناقض: من اعتقد أن هناك دينا أحسن من الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هديا أكمل من هديه صلى الله عليه وسلم، أو حكما أفضل من الحكم الذي أتى به من عند ربه عز وجل، فقد كفر؛ لأنه كذب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالله عز وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وخير الهدي هدي محمد" 1. يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع؛ إما مطلقا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال؛ فلا ريب أنه كفر؛ لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف نحالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد"2. من الدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ؛ فالله سبحانه وتعالى طلب من عباده الاحتكام إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند وقوع التنازع. 2- قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن الاحتكام إلى غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إضلال من الشيطان، وهو من صنيع المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] . 3- قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ؛ فنفى الإيمان عمن لم يرض بحكم الله عز وجل.

_ 1 تقدم تخريجه ص5. 2 رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم ص14.

الوقفة الخامسة: مع الناقض الخامس من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. المراد بهذا الناقض: بغض وكراهية الحق من صفات الكفار، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُون} [المؤمنون: من الآية70] ، وهو أيضا من صفات المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُون} [التوبة: من الآية 54] . فمن أبغض وكره ما شرعه الله عز وجل، أو أبغض وكره التكاليف الشرعية -من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها- وتمنى أن الله لم يكلف بها؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأن في صنيعه تركا للقبول والانقياد والتسليم التي تقدم الحديث عن أنها من شروط لا إله إلا الله1. ولذلك كفر العلماء من اتصف بهذه الصفة، وقالوا: "تكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع"2. من أدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] ؛ فهؤلاء، كرهوا ما أنزل الله من القرآن -وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم- فلم يقبلوه، بل أبغضوه، ورفضوه فأحبط الله اعمالهم، والأعمال لا تحبط إلا بالكفر الذي يناقض الإيمان. 2- قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: من الآية63] . ولا ريب أن من أبغض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لأمره عليه الصلاة والسلام. 3- قول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: "من ترك السنة كفر"3، وقوله صلى الله عليه وسلم محمول على الترك مع البغض والجحود، أو على ترك منهج النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته التي أوجب على أمته سلوكها4.

_ 1 انظر تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام للقحطاني ص69. 2 الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص522. 3 ذكره ابن بطة العكبري في الشرح والإبانة ص123. 4 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص68-69.

الوقفة السادسة: مع الناقض السادس من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثوابه، أو عقابه. المراد بهذا الناقض: من تجرأ بكلام فيه غض من دين الله، أو تنقص له، أو استهزاء به، أو تنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو استهزاء به، كفر بإجماع علماء المسلمين1. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله-: ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك؛ فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر -ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء- إجماعا2. ويقول الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله: اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه، فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صرح في الاستهزاء3. ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: فإن الاستهزاء بالله ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه، ورسله. والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة"4. من الأدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] .

_ 1 انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص513. 2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص617. وانظر: روضة الطالبين للنووي 10/ 64-65. والروضة الندية شرح الدرر البهية لصديق حسن خان 2/ 293. وفتاوى العقيدة لابن عثيمين ص193. 3 الدرر السنية في الأجوبة النجدية -لعدد من العلماء- 10/ 428. 4 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي 3/ 259.

هاتان الآيتان حكمتا بكفر المستهزئين بالله، أو بدينه، أو بكتابه، أو برسوله، ولنزولهما سبب، أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما، وفيه: "أن رجلا قال في غزوة تبوك، في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب1 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة2، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} "3. فدلت هاتان الآيتان على كفر المستهزئ بالله عز وجل، أو بآياته، أو برسوله صلى الله عليه وسلم. فائدة: سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هل تنطبق الآيتان السابقتان على الذين يسخرون ويستهزئون بالذين يعفون لحاهم، ويلتزمون بدين الله؟ فأجاب رحمه الله: "هؤلاء الذين يسخرون بالذين يلتزمون بدين الله، المنفذين لأوامره، إذا كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر. أما إذا كانايستهزئون بهم، يعنون أشخاصهم -بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة في الثياب واللحية؛ فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه، بغض النظر عن عمله وفعله. لكن يجب على كل إنسان أن يحذر من الاستهزاء بأهل العلم، أو الاستهزاء بأهل الدين الذي يتمسكون بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1 حقب الناقة: الحزام الذي يلي حقو البعير. أو هو حبل تشد به الحقيبة "المعجم الوسيط ص187". 2 أي تدميها "المعجم الوسيط ص950". 3 جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري 6/ 409. وإسناده لا بأس به. وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 272-273. والحذر بمعرفة أن من هزأ بالدين كفر لجمال الدين باش 221-33. 4 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص196. وانظر المرجع نفسه ص197.

الوقفة السابعة: مع الناقض السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف 1. السحر من نواقض "لا إله إلا الله": ومن السحر أدوية وعقاقير وعقد وطلاسم تؤثر على بدن المسحور فتجده ينصرف عن زوجته "الصرف"؛ فيبغضها ويبغض بقاءها معه. أو ينعطف قلبه ويميل نحو زوجته أو امرأة أخرى "العطف"؛ حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء2. والدليل على هذا الناقض، قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] . الوقفةالثامنة: مع الناقض الثامن مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين المراد بهذا الناقض: المقصود من مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين: أن يتخذ البعض الكفار والمشركين أولياء، فيكونوا لهم أنصارا وأعوانا ضد المسلمين، وينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان؛ فهذا كفر يناقض الإسلام. والله عز وجل نهانا في آيات كثيرة أن نتخذ الكفار والمشركين أولياء، ومن معاني هذه الولاية التي نهينا أن نصرفها لهم: المحبة، والمودة الدينية، والنصرة، والتأييد على المسلمين3.

_ 1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض بالتفصيل في الباب الثالث من هذا الكتاب. 2 انظر: شرح نواقض التوحيد لحسن عاجي ص78-87، وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص79-84. 3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 160-161.

من الأدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] ؛ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافونهم على أنفسكم، فتظهوا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العدواة، ولا تشايغوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تيعنوهم على مسلم بفعل1. 2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائد: 51] ؛ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى أولياء، ومن يفعل ذلك منكم فإنه منهم؛ لأن "التوالي التام يوجب الانتقال إلى دينهم والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يكون العد منهم"2. 3- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن -الذي لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما- لا تجده موادا لمن حاد الله ورسوله؛ فإن هذا جمع بين ضدين لا يجمتعان، ومحبوب الله، ومحبوب معادية لا يجتمعان3. 4- قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] ؛ فأخبر عز وجل أن من يفعل ذلك -أي من يتولى الكفار- فإنه ظالم؛ "وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإذا كان توليا تاما، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام"4

_ 1 انظر جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري 3/ 227. 2 تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 2/ 304. 3 انظر قاعدة في المحبة لابن تيمية ص89-90. 4 تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/ 357.

الوقفة التاسعة: مع الناقض التاسع من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر عليه السلام الخروج عن شريعة موسى عليه السلام المراد بهذا الناقض: يعتقد البعض أن بالإمكان الخروج عن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومخالفته، والاستغناء عن متابعته في عموم أحواله أن بعضها، زاعمين أن في قصة الخضر عليه السلام حجة لهم1. ولا ريب أن هذا الاعتقاد كفر مخرج عن الملة. يقول الشيخ موسى بن أحمد المقدسي: من اعتقد أن لأحد طريق إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن له أو لغيره خروجا عن اتباعه وأخذ ما بعث به، أو قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أوقال: إن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريع موسى، أو أنغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، فهو كافر"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من اعتقد أن أحدا من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه"3. وقصة الخضر مع موسى قصها الله علينا4، وفيها: خرق الخضر للسفينة، وقتله للغلام، وإقامته للجدار. وقد زعم المحتجون بها أن الخضر خالف موسى عليه السلام وخرج عن شريعته، وعن الأمر والنهي الشرعيين. قالوا: وكذلك يسوغ لبعض الناس الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى عليه السلام5. ومزاعمهم هذه مردودة عليهم من وجوه6:

_ 1 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 422. 2 الإقناع لطالب الانتفاع لموسى المقدسي 4/ 287-288. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 422. 4 في سورة الكهف، الآيات 60-82. 5 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 420. 6 ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11/ 263.

1- إن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه؛ بل كان مبعوثا إلى قومه خاصة؛ إلى بني إسرائيل، والخضر عليه السلام ليس من بني إسرائيل. وموسى عليه السلام قصد الخضر للعلم منه، والأخذ عنه، وحين لقيه قال له: "أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا" 1. فلا يقاس عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله لجميع الثقلين؛ الجن والإنس، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 2. ولا يعتبر صنيع الخضر عليه السلام خروجا على شريعة موسى عليه السلام، أما من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطعه في كل ما أمر، أو ينته عما نهى عنه وزجر، فهو من أمته، ولا يجوز له مخالفته، فإن فعل، فهو خارج عن شريعته عليه الصلاة والسلام لا محالة. 2- إن قصة الخضر عليه السلام ليس فيها مخالفة للشريعة؛ بل ما فعله عليه السلام يباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر عليه السلام. ولهذا لما بين الخضر لموسى أسبابها، وافقه موسى عليه السلام على ذلك، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه بحال3. أما هذا الذي يريد الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مخالف لشريعة موسى، لما وافقه بحال3. أما هذا الذي يريد الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مخالف لشريعته. ويتضح ذلك في الوجه الثالث. 3- إن ما فعله الخضر عليه السلام كان عن وحي من الله عزوجل، وليس مجرد خيال أو إلهام. وهذا لا يمكن أن يكون لحد بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بموته انقطع الوحي. ومن ادعى حصوله كفر4. إذا: لا يجوز الخروج على شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم بحال، ومن فعل ذلك، فهو كافر مرتد، وهو من اعظم الناس كفرا5.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام. 2 صحيح البخاري، كتاب التميم، باب1، حديث رقم336. 3 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 263. وشرح نواقض التوحيد لحسن عواجي ص100-101. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص100. 4 انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق ص132. 5 انظر إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية 1/ 123.

الوقفة العاشرة: مع الناقض العاشر الإعراض عن دين الله، فلا يتعلمه، ولا يعمل به. المراد بهذا الناقض: الإعراض التام عن دين الله عز وجل، والتولي عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والامتناع عن الاتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة؛ فلا إرادة له في تعلم الدينن ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه1، ويعرض إعراضا كليا عن جنس العمل الظاهر "الطاعة أو الاتباع". والإعراض التام الكلي لا يقع إلا ممن تمكن من العلم ومعرفة الحق، وتمكن من العمل، فأعرض، وفرط، وترك ماأوجبه الله عليه، من غير عذر؛ فهذا وأمثاله مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل، فإنما أتي من تفريطه وإعراضه2. ويجب أن يعلم أن الإعراض ليس كله مما يخرج من الملة؛ بل الذي يكفر بتركه هو الإعراض عن تعلم الإيمان العام المجمل، والإعراض عن جنس العمل الذي يعد شرطا في صحة الإيمان3، فهذا هو الذي يكفر فاعله لأنه لم يتعلم دين الله، ولم يعمل به. يقول العلامة ابن القيم عن الإعراض عن تعلم الإيمان المجمل الذي يدخل صاحبه في دائرة الإسلام: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله، واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وغن لم يكن كافرا معاندا، فهو كافر جاهل4. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإعراض عن العمل: وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة، ولا زكاة، ولا صياما، ولا غير من الواجبات5.

_ 1 انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية ص412-413. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص102. 2 انظر: مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزيه 1/ 43. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 3/ 17. 3 انظر: شرح نواقض الإسلام لحسن عواجي ص105. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص102-103. 4 طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية ص411. 5 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 621.

من الأدلة على هذا الناقض: 1- قول الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 47-48] ؛ "فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول"1. 2- قول الله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] ؛ فدل على أن من تولى عن طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر2. 3- قول الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] ؛ "فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن حكم فهو من المنافقين وليس بمؤمن"3. 4- قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124-126] ؛ فأخبر عز وجل أن المعرضين في معيشة ضنك، وضيق، وأنهم يحشرون يوم القيامة عميا. خاتمة النواقض: ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبحث النواقض بقوله: ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه، وصلى الله على محمد. وكلامه -رحمه الله- بعدم التفريق بين الهازل والجاد في محله، ويمكنك إدراكه إذا تأملت في سبب نزول الآية {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ؛ كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزاح واللعب. نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى إنه سميع مجيب.

_ 1 مجموع فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 142. 2 انظر تفسير ابن كثير 1/ 338. 3 الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص33.

المبحث الثاني: العبادة، وأنواعها، وأركانها

المبحث الثاني: العبادة، وأنواعها، وأركانها المطلب الأول: معنى العبادة في اللغة والاصطلاح العبادة لغة: العبادة في اللغة: الذل والخضوع. يقال: عبده: ذلَّله. وعبد الطريق، وعبد البعير. ويقال: عبد الله عبادة، وعبودية: انقاد له، وخضع، وذل1. يقول الشاعر طرفة بن العبد في معقلته المشهورة، يصف ناقته: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد2 ومور معبد: أي تراب ممهد مذلل3. العبادة اصطلاحا: والعبادة في الاصطلاح: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة4. وهي تتضمن غاية الذل الله تعالى، بغاية المحبة له عز وجل؛ فمن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابد؛ كما قد يحب ولده وصديقه5. فالعبادة -إذًا- تتضمن غاية الحب، مع غاية الذل، كذا عرفها العلامة ابن القيم بقوله: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده، هما قطبان6 فهي في مفهومها العام تعني: "التذلل لله محبة وتعظيما، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه"7. والله عز وجل أحب إلى عبده المؤمن من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء.

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص406. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص579. 2 انظر شرح المعلقات العشر للزوزني ص97. 3 انظر أساس البلاغة للزمخشري ص607. 4 انظر العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص23. 5 انظر المصدر نفسه ص33-34. 6 انظر النونية لابن القيم -بشر الهراس- 1/ 95. 7 المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/ 25.

المطلب الثاني: مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية

المطلب الثاني: مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية سبق أن ذكرنا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للعبادة، بأنها: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والعمال الباطنة والظاهرة". فالعبادة على هذا لا تقتصر على أركان الإسلام فحسب؛ من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. بل إن الإسلام أسبغ على أعمال الإنسان كلها صفة العبادة، إذا تحقق فيها شرطا قبول العمل، وهما1: أولا: الإخلاص؛ بأن يكون العمل خالصا لوجه الله الكريم، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: من الآية5] . فينوي العبد أن يكون عمله، وقوله: وإعطاؤه، ومنعه، وحبه، وبغضه لله وحده، لا شريك له؛ إذا الأعمال لا تقوم إلا بالنيات، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إعمال بالنيات" 2؛ فالنية تتحكم في العمل، وتقلبه إلى عبادة. ثانيا: المتابعة؛ بأن يكون العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه القويم، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية7] . فالأعمال لا اعتبار لها إلا إذا كانت على الوجه الذي رسمه الشرع. روت أم المؤمنين عاشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 3. وكل عمل بلا متابعة، فإنه لا يزيد عامله إلا بعدا من الله؛ فإن الله عز وجل إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء، ولا الآراء. والمسلك الحسن ليس في إخلاص العمل لله عز وجل فحسب، ولا في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل في مجموعهما معا، فإن الله عز وجل ذكر العمل الصالح، فقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية 110] ، والعمل الصالح هو الخالص الصواب، فإذا جمع العمل هذين الشرطين، كان عبادة.

_ 1 انظرهما في كتاب: تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص88-89. 2 صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". 3 صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور، فالصلح مردود. وصحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.

والعبادة تتعدد وتتنوع لتشمل حياة الإنسان المسلم كلها، وفي هذه الأمثلة بيان لذلك: 1- الله عز وجل لم يقصر وصف الصلاح على العبادات المخصوصة، بل جعله شاملا لأعمال أخرى يقول عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120-121] . 2- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول اللهّ! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليها فيها وزر؛ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" 1. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن باب العبادة واسع، يدخل فيه التسبيح، والتحميد، والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى إتيان الرجل امرأته جعل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة؛ لأن في الكف عن المعصية ابتغاء مرضاة الله عز وجل أجر وعبادة، إذ بإتيان الرجل امرأته يعف نفسه عن الحرام، ويعف أهله أيضا. فإن انضم إلى ذلك نية إنجاب الذرية الطيبة، وتربيتها التربية الحسنة، وحسن رعايتهم، ازدادت دارة العبادة بازدياد دائرة النية الصالحة. 3- عن ابن عباس -رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل، قال: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" 2. فبين صلى الله عليه وسلم أن النية الطيبة وحدها، ولو لم يصاحبها عمل، يؤجر الإنسان عليها. فالنية دائما لها أجرها. وهكذا تتسع دائرة العبادة بقدر امتداد النية المقرونة بالعمل، حتى تشمل حياة المسلم كلها، في يقظته ومنامة، وفي صمته وكلامه، وفي سعيه لمعاشه ومعاده، ما دام العمل موافقا لشرع الله صلى الله عليه وسلم وما دامت نيته ابتغاء وجه الله عز وجل.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. 2 صحيح البخاري، كتاب الرقاق باب من هم بحسنة أو بسيئة. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتب.

المطلب الثالث: أنواع العبادة

المطلب الثالث: أنواع العبادة ذكرنا في المطلب السابق أن دائرة العبادة تتسع بقدر امتداد النية لتشمل حياة الإنسان كلها، ما دام العمل موافقا لشرع الله سبحانه وتعالى، وما دامت نية العامل: ابتغاء وجه الله عز وجل. فأعمال الإنسان كلها عبادة إذا جمعت شرطي قبول العمل. وهذه الأعمال التي حملت اسم "العبادة" يمكن تصنيفها ضمن أنواع متعددة: أولا: عبادات اعتقادية: وهي اعتقاد ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه؛ من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وما اشبه ذلك1. ودليل هذا النوع، قول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] . ثانيا: عبادات قلبية: وهي أعمال القلوب؛ كمحبة الله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، ورجائه، وإخلاص الوجه له، والصبر على أوامره ونواهيه وأقداره، والرضا به وله وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنينة به، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله عز وجل2. ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه} [الزمر: 54] ، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . ثالثا: عبادات قولية: ومن أجلها: النطق بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، والدعاء إلى الله والذب عنه، والقيام بذكره عز وجل، وتبليغ دينه، وقراءة القرآن، ونحو ذلك3. ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، وقوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60] .

_ 1 انظر تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص117. 2 انظر المصدر نفسه. 3 انظر المصدر نفسه.

رابعا: عبادات بدنية: وتشمل اعمال الجوارح؛ من صلاة، وجهاد، وحج، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك1. ومن أدلة هذا النوع: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] ، وقوله جل جلاله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بالحج: 29] ، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . خامسا: عبادات مالية: وتشمل إخراج الزكاة من المال، امتثالا لأمر الله، والوفاء بالنذر، والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل. ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] ، وقوله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ، وقول الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] . إذًا العبادة تشمل جميع مجالات الحياة، بل تشمل الحياة بأسرها؛ فالحياة، والمحيا، والممات لله رب العالمين لا شريك له، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] .

_ 1 انظر المصدر نفسه ص118.

المطلب الرابع: أركان العبادة وأصولها

المطلب الرابع: أركان العبادة وأصولها تقوم العبادة على أركان، باجتماعها يحصل كمال العبودية لله عز وجل1. وهذه الأركان هي: المحبة، والرجاء، والخوف، التي يجب اجتماعها، ولا يجوز إهمال واحد منها، كما قال علماؤنا ؤحمهم الله: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد2. ويمكن بيان هذه الأركان في الوقفات التالية: الوقفة الأولى: مع الركن الأول: محبة الله عز وجل: المحبة أصل دين الإسلام، وهي نعمة لا يدركها إلا من تفيأ ظلالها، ولذة لا يعرف حلاوتها إلا من تذوقها. 1- المراد بها: يراد بها محبة المعبود جل جلاله، المتضمنة تقديم مراده عز وجل على كل شيء. 2- مقاماتها: مقامات العبادة ثلاثة؛ التكميل والتفريغ، ودفع الضد. وقد جمعها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 3. فـ "ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان" تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها. فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما4.

_ 1 انظر معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي ص136. 2 انظر: العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص161-162. وتوحيد الألوهية لمحمد الحمد ص37. 3 تقدم تخريجه في ص75 من هذا التاب. 4 العبودية لابن تيمية ص159-160. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 369.

وقد دل على هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 1. وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا الله. ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار2؛ لأن من محبة الله بغض ما يبغضه، وأعظم ذلك الكفر. 3- علاماتها: للمحبة علامتان، هما: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله عز وجل. اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمن كان محبا لله، لزم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل3. وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأمته: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ؛ فليست المحبة مجرد دعوى باللسان؛ بل لا بد أن يصاحبها الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على هداه. الجهاد في سبيل الله عز وجل: فمن كان محبا لله، لزمه أن يجاهد في سبيله؛ "لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"4. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] . فتوعد من كان أهله وماله أب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد5. وحقيقة محبة الله عز وجل لا تتم إلا بموالاته عز وجل؛ أي بموافقته فيما يحب ويكره؛ فيحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله عز وجل.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص160. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 369. 3 المصدر نفسه ص126-127. 4 العبودية لابن تيمية ص127. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 361. 5 العبودية لابن تيمية ص127.

الوقفة الثانية: مع الركن الثاني: الرجاء: 1- ارتباط الرجاء بالمحبة: على حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راج بالضرورة؛ لأن محبته لله عز وجل تحمله على أن يرجو ما عنده سبحانه وتعالى1. 2- المراد بالرجاء: أن يرجو العبد ما عند مولاه عز وجل من الأجر، والثواب، والرحمة، والمغفرة؛ فالعابد والمطيع يرجو الأجر والثواب والقبول، والتائب يرجو الرحمة ومغفرة الذنوب. وهذا الرجاء ينبغي أن يكون بلا بأس من روح الله، ولا قنوط من رحمته عز وجل؛ لأن الله تعالى ذم الأمرين، فقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] ، وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون} [الحجر: 56] . 3- المطلوب فيه: المطلوب في الرجاء كماله وغايته؛ فيرتقي العبد في الرجاء صعدا؛ من رجاء يبعث على الاجتهاد في أداء العبادة طمعا فيما يؤمله من ثواب، إلى رجاء يقدم فيه لزوم الأحكام الدينية على ما تستلذه النفس وتميل إليه، إلى رجاء لقاء الخالق سبحانه وتعالى2، كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] . 4- من أسباب حصول الرجاء: يحصل الرجاء بأمور، منها3. أ- شهود كرم الله تعالى وإنعامه، وإحسانه إلى عبادة. ب- صدق الرغبة فيما عند الله عز وجل من الثواب والنعيم. ج- التسلح بصالح العمل، والمسابقة في الخيرات. 5- من الأدلة على الرجاء: تقدم آنفا دليلان، هما: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] .

_ 1 انظر مدارج السالكين لابن القيم 2/ 44. 2 انظر المصدر نفسه 2/ 54-56. 3 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص140.

وثمة أدلة أخرى، منها: أ- قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] . ب- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي" 1. ج- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" 2. فالله عز وجل عند ظن عبده. وعلى العبد أن يحسن الظن بربه كي لا يصيبه القنوط من رحمة الله، ولا اليأس من روحه عز وجل؛ فيبقى متطلعا لما عند الله من الثواب العظيم، راغبا في نيل ما ادخره لعباده المؤمنين ممن النعيم المقيم. الوقفة الثالثة: مع الركن الثالث: الخوف من الله عز وجل 1- ارتباط الخوف بالرجاء: الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف؛ فكل راج خائف، وكل خائف راج؛ فكل راج خائف من فوات مرجوه، وكل خائف يرجو عفو ربه ومغفرته، والخوف بلا رجاء يعتبر يأسا من روح الله وقنوطا من رحمته3. 2- المراد بالخوف: أن يخاف العبد مولاه عز وجل أن يصيبه بعقاب عاجل، أو آجل، فيصيبه في الدنيا بما يشاء -سبحانه- من مصيبة، أو مرض، أو قتل، أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته. وهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا؛ لأن هذا من لوازم الإلهية؛ فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف، فهو مشرك4؛ لأن الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا الله. ويتبع هذا الخوف: الخوف مما توعد الله به العصاة في الآخرة، من النكال والعذاب يقول تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد} [ابراهيم: من الآية14] . وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان؛ وإنما يكون محمودا إذا لم يوقع في القنوط من رحمة الله، أو اليأس من روحه سبحانه وتعالى5.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} . وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى. 2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت. 3 انظر مدارج الساكلين لابن القيم 2/ 53. 4 انظ تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص484. 5 انظر المرجع نفسه ص486.

والمطلوب في هذا الخوف: ما يحجز العبد عن المعاصي، ويبعده عن مخالفة أوامر الله. يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف الحمود: ما حجزك عن محارم الله1. 3- سبب نقص الخوف من الله في نفس العبد: إذا نقص الخوف من الله عز وجل في نفس العبد؛ فذلك لنقص معرفته بربه عز وجل؛ فإن أعرف الناس بالله أخشاهم له سبحانه. وكلما ازدادت معرفة العبد بربه، كلما ازداد له خشية. يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: من الآية28] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" 2، ويقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" 3، ويقول: "فوالله إني أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية" 4؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله عز وجل، وأشدنا خشية له؛ فكلما ازدادت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، قل الخوف منه5. 4- حكم الخوف من الله عز وجل: الخوف من الله عز وجل من أجل منازل الطريق، وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد6. 5- من الأدلة على هذا الركن: أ- آيات يأمر الله بها عباده بالخوف منه وخشيته عز وجل. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: من الآية44] ؛ فأمر جلالة بالخوف منه، وجعل ذلك شرطا في تحقيق الإيمان.

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 55. 2 صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صحة من طلع عليه الفجر وهو جنب. 3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله". 4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع. 5 لاحظ: أن الخشية أخص من الخوف؛ فإن خشية العلماء لله، هي خوف مقرون بمعرفة. وانظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 549. 6 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 548.

ب- آيات يمدح الله بها عباده ويثني عليهم بسبب عملهم بهذا الركن. يقول الله عز وجل مثنيا على عباده المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون} [المؤمنون: 57] ، إلى أن قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [المؤمنون: 61] . ومدح أنبياء عليهم السلام بهذه العبادة؛ فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: من الآية90] . ومدح ملائكته بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] . ج- آيات يخبر فيها عز وجل عن جزاء من عبده بهذا الركن، يقول الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن: 46] ، ويقول سبحانه: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [ابراهيم: 14] . عبادة الله عز وجل بهذه الأركان مجتمعة: تقدم أن أهل السنة والجماعة يعبدون الله عز وجل بأركان العبادة الثلاثة مجتمعة، ولا يلغون أي ركن منها1. وتقدم أنهم يوازنون بينها، بيحث لا يطغى جانب منها على الآخر2؛ فكما أن المسلم يعبد ربه عز وجل حبا له، وطمعا في جنته، ورجاء لثوابه؛ فإنه كذلك يعبده عز وجل خشية له، وحذرا من ناره، وخوفا من عقابه. وما أجمل كلمات العلامة ابن القيم رحمه الله، التي يخبر فيها عن اجتماع هذه الأركان القلبية، ويتحدث عن منزلة كل واحد منها، فيقول: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر. فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران. ومتى قطع الرأس مات الطائر. ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائد وكاسر" إلى أن قال: "أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب؛ فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه"3.

_ 1 انظر ص97 من هذا الكتاب. 2 انظر ص41 من هذا الكتاب وانظر إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى ص391-392. 3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 554.

الباب الثاني: ما يضاد هذا التوحيد أو ينافي كماله

الباب الثاني: ما يضاد هذا التوحيد أو ينافي كماله تمهيد: بعد أن تحدثنا في الباب الأول عن التوحيد، ناسب أن نتكلم في هذا الباب عن ضده؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. والشرك، والكفر، والنفاق شر كلها، ومعرفتا سبب لتوقيعها، كما قال الشاعر: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وقبله قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني" 1. من أجل ذا كان الحديث في هذا الباب عن أضداد الخير؛ عن الشرك الذي هو ضد التوحيد، وعن الكفر الذي هو ضد الإسلام، وعن النفاق الذي هو ضد الإيمان، كي تحذر وتتقي. فأقول -ومن الله التوفيق: الإنسان خلق على فطرة التوحيد والإسلام2، ولو تركت هذه الفطرة بعيدة عن المؤثرات، لاستمر صاحبها على لزومها. وإذا تدخلت المؤثرات في هذه الفطرة، فإنها قد تنحرف عن الخط المستقيم، وعن الهدي الرباني، إذا تضافر لذلك جملة من عوامل الانحراف. وإذا وجد الانحراف؛ فإنه سيأخذ صورا ثلاثة، هي: 1- الشرك. 2- الكفر. 3- النفاق. ولنا وقفات مع كل واحد من هذه الانحرافات في الفصول القادمة إن شاء الله.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين. 2 انظر ص49-51 من هذا الكتاب.

الفصل الأول: الشرك، وأنواعه

الفصل الأول: الشرك، وأنواعه المبحث الأول: معنى الشرك معنى الشرك لغة: الشرك في اللغة: اسم للشيء الذي يكون بين أكثر من واحد؛ بحيث لا ينفرد به أحدهم. تقول: قد اشترك الرجلان، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وتقول: اشتركنا وتشاركنا في كذا، ورغبنا في شرككم، أي في مشاركتكم، وشركه في الأمر يشركه: إذا دخل معه فيه، وأشرك بالله: جعل له شريكا، فهو مشرك1. معنى الشرك في الشرع: يعرف الشرك شرعا بأنه: "صرف حق من حقوق الله لغيره"2، أو "مساواة غير الله بالله فيما هو حق لله"3. وحق الله: كل ما لا يقدر عليه إلا الله؛ فلا يطلب إلا منه عز وجل. فإذا طلب من غيره، كان صرفا لخصائص الله لغيره4. فمن صرف شيئا من أسماء الله وصفاته -التي تثبت لله على ما يليق به- لغير الله، أو صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله، أو اعتقد أن هناك ربا ومدبرا غير الله، أو صرف شيئا من خصائص الربوبية لغير الله عز وجل فقد جعل ذاك الذي صرف له شريكا لله سبحانه وتعالى5.

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص328. وتهذيب اللغة للأزهري 10/ 16. والقاموس المحيط للفيروزأبادي ص1220. ولسان العرب لابن منظور 10/ 448. وتاج العروس للزبيدي 7/ 148. 2 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 614. 3 شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص13. 4 انظر أضواء البيان للشنقيطي 3/ 614. 5 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص28.

المبحث الثاني: أنواع الشرك

المبحث الثاني: أنواع الشرك مدخل ... المبحث الثاني: أنواع الشرك تمهيد: الشرك قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، وهو ينقسم ثلاثة أقسام، بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه1. يقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: الشرك نوعان: أكبر وأصغر؛ فمن خلص منهما، وجبت له الجنة، ومن مات على الكبر وجبت له النار؛ فالشرك الأكبر: كالسجود، والنذر لغير الله، والأصغر: كالرياء، والحلف بغير الله إذا لم يقصد تعظيم المخلوق كتعظيم الله2. فالشرك -إذًا- نوعان: أكبر، وأصغر. ولكي يكون المسلم على حذر من الوقوع في أي منهما، وحتى لا يحكم بالشرك على من لم يقع فيه؛ فلا بد له من معرفة الفرق بين النوعين، ومن هذه الفروق3: 1- الأكبر كفر، والأصغر أكبر الكبائر بعد الشرك الكبر. 2- الأكبر يخرج صاحبه من الملة، والأصغر لا يخرجه، وهو يتنافى مع كمال التوحيد. 3- الأكبر محبط للأعمال كلها، والأصغر يحبط ما خالط أصله، أو غلب على العمل. 4- الأكبر موجب للخلود في النار؛ فصاحبه إن مات عليه، فهو خالد مخلد في النار أبدا، والأصغر لا يوجب ذلك، فإن دخلها فهو كسائر مرتكبي الكبائر. 5- الأكبر يحل النفوس والأموال، والأصغر لا يحل ذلك. 6- الأكبر لا يغفر لصاحبه إن مات عليه، والأصغر يدخل صاحبه تحت الموازنة؛ فإن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، وإلا دخل النار، ومآله الخروج منها. وبيان نوعي الشرك يمكن في المطلبين التاليين:

_ 1 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص43. 2 تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران لأحمد آل بوطامي ص38-39. 3 انظر هذه الفروق في الكتب التالية: شرح نواقض التوحيد لحسن عواجي ص26. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص30. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 23-33، والإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف ص34-38، وبعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور عواد المعتق ص14-15، والدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 338.

المطلب الأول: الشرك الأكبر

المطلب الأول: الشرك الأكبر أولا: تعريف الشرك الأكبر: يعرف الشرك الأكبر بأنه: إثبات شريك لله عز وجل في خصائصه؛ فيجعل الإنسان ندا لله في ربوبيته، أو في ألوهيته، أو في أسمائه وصفاته1. ثانيا: حكم الشرك الأكبر، مع الدليل: 1- الشرك الأكبر يخرج من الملة، وصاحبه حلال الدم والمال، يقول الله سبحانه عن المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] ، ويقول عنهم: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11] ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" 2. 2- الشرك الأكبر يحبط جميع العمل. يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] ، ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . 3- الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه إن مات عليه، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] . أما إن تاب قبل الموت، فإن الله يتوب عليه، ما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [لأنفال: 38] . 4- صاحب الشرك الأكبر في الآخرة خالد مخلد في النار. يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72] .

_ 1 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/ 483. وفتاوى اللجنة الدائمة 1/ 516-517. 2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. واللفظ للبخاري.

ثالثا: أقسام الشرك الأكبر: ينقسم الشرك الأكبر إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد: 1- شرك في الربوبية. 2- شرك في الأسماء والصفات. 3- شرك في الألوهية. وبيان هذه الأقسام يمكن في المسائل التالية: المسألة الأولى من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الربوبية الشرك في الربوبية أحد أقسام الشرك الأكبر، وهو شرك يتعلق بذات الله عز وجل. أولا: تعريفه هو صرف خصائص الربوبية كلها، أو بعضها لغير الله عز وجل، أو تعطيله عز وجل عنها بالكلية. وخصائص الربوبية هي: التفرد بالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والإعطاء والمنع، والضر، والنفع، وغير ذلك. ثانيا: نوعاه الشرك في الربوبية نوعان؛ شرك تعطيل، وشرك تمثيل. 1- شرك التعطيل: عريفه: هو تعطيل المصنوع عن صانع، وتعطيل الصانع عن أفعاله ويكون ذلك بتعطيل خصائص الربوبية، وإنكار أن يكون الله رب العالمين1. ومن الأمثلة عليه2: شرك فرعون الذي عطل الربوبية ظاهرا؛ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 23] ، وقال لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36-37] . ومن هذا الشرك3: شرك أهل وحدة الوجود؛ كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم الذين يقولون: إن الخالق عين المخلوق؛ فعطلوا لله عز وجل عن أن يكون رب العالمين، ولم يفرقوا بين رب، وعبد.

_ 1 انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص231. 2 انظر تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص69. 3 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 315.

2- شرك التمثيل: عريفه: هو التسوية بين الله وخلقه في شيء من خصائص الربوبية، أو نسبتها إلى غيره عز وجل1. ومن الأمثلة عليه2: شرك النصارى الذين اتخذوا معه أربابا، فجعلوه ثالث ثلاثة؛ وشرك المجوس القائلين بأن للعالم ربين أحدهما خالق للخير، والآخر خالق للشر؛ وشرك الصابئة الذين زعموا أن الكواكب هي المدبرة لأمر العالم؛ وشرك القدرية "مجوس هذه الأمة" القائلين بأن كل إنسان يخلق فعل نفسه؛ وشرك عباد القبور الذين يزعم أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فتقضى الحاجات، وتفرج الكربات، وتنصر من دعاها، وتحفظ من لاذ بحماها. ومثلهم مزاعم غلاة الصوفية في الأولياء: أنهم ينفعون، ويضرون، ويتصرفون في الأكوان إلخ. المسألة الثانية من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الأسماء والصفات أولا: تعريفه هو التسوية بين الله والخلق في شيء من الأسماء والصفات؛ بأن يجعل لله عز وجل ندا في أسمائه وصفاته؛ فيسميه بأسماء الله، أو يصفه بصفاته3. ثانيا: نوعاه الشرك في الأسماء والصفات نوعان؛ شرك تشبيه، وشرك اشتقاق. 1- شرك التشبيه: تعريفه: هو أن يثبت لله تعالى في أسمائه وصفاته من الخصائص، مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك4. ومن الأمثلة عليه: قول القائل: إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين، واستواءه على عرشه كاستوائهم، ونحو ذلك4.

_ 1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص147. 2 انظر: تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص55-57، 70. والجواب الكافي لابن القيم 231-232. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 38. وتوحيد الربوبية لمحمد إبراهيم الحمد ص21-25. 3 انظر: فتاوى اللجنة الدائمة 1/ 516. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص147. 4 انظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ ابن عثيمين ص20-21.

2- شرك الاشتقاق: تعريفه: هو أن يشتق من أسماء الله عز وجل المختصة به اسما، ويسمى به غيره. وهذا من الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى1. ومن الأمثل عليه: ما فعله المشركون من اشتقاق أسماء لآلهتهم الباطلة من أسماء الإله الحق سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ، فـ "يلحدون": أي يشركون2، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله"3. المسألة الثالثة من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الألوهية والتعبد أولا: تعريفه: هو أن يجعل لله ند في العبادة، أو في التشريع؛ فيصرف العبد لغير الله شيئا من أنواع العبادة التي تصرف لله، أو يتخذ غيره مشرعا من دونه، أو شريكا له عز وجل في التشريع4. ثانيا: أنواعه: الشرك في الألوهية والتبعد على أنواع، منها: 1- شرك الدعاء. 2- شرك الشفاعة. 3- شرك النية والإرادة والقصد. 4- شرك الطاعة. 5- شرك المحبة. 6- شرك الخوف.

_ 1 انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/ 516. 2 أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة بن دعامة السدوسي. "انظر الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي 3/ 272". 3 أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. "الدر المنثور 3/ 271". 4 انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/ 516.

من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد: أولا: شرك الدعاء أولا: تعريفه: هو دعاء غير الله؛ من الأنبياء، والأولياء، وغيرهم، فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فمن دعا، أو استغاث1، أو استعان2، أو استعاذ بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ من طلب رزق، أو شفاء مريض، أو إحياء ميت، أو غير ذلك؛ فقد أشرك مع الله غيره، سواء أكان ذلك الغير نبيا، أو وليا، أو جنيا، أو غير ذلك من المخلوقات3. يقول العلامة ابن القيم معددا أنواع الشرك الأكبر: "ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؛ فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته"4. ثانيا: من الأدلة على أن دعاء غير الله شرك: 1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] ؛ فهذا سيقدم على ربه، فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا؛ لأنه كافر5. 2- قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] ؛ فلا يغنيك ما تتمتع به، إذا كان المآل النار6.

_ 1 استغاث: أي طلب الغوث؛ وهو إزالة الشدة. والفرق بينها وبين دعا؛ أن الاستغاثة تكون من المكروب، والدعاء يكون من المكروب وغيره. "انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص214". 2 الاستعانة: طلب العون. وقد تكون في جلب منفعة، أو دفع مضرة. 3 انظر: تيسير ذي الجلال والإكرام للقحطاني ص26، وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة لمحمد بن عبد الرحمن الخميس ص14. 4 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 375. 5 انظر تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 5/ 386. 6 انظر المرجع نفسه 6/ 453.

ثالثا: نوعاه قبل التعرض لنوعي الشرك في الدعاء، يستحسن ذكر نوعي الدعاء؛ لأن الشرك يقع فيهما؛ فالدعاء نوعان: دعاء مسألة وطلب، ودعاء عبادة وثناء1. وفي النوعين طلب التوصل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ سواء أكان على وجه السؤال لله عز وجل، والاستعاذة به، رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وهذا دعاء المسألة والطلب. أم كان على وجه عبادته عز وجل، طاعته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، وهذا دعاء العبادة والثناء2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذين النوعين: "إن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر؛ فهو يدعى للنفع والضر دعاء مسألة، ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان"3؛ فمن صلى، أو صام، أو توجه إلى الله عز وجل وسأله دعاء طلب ومسألة؛ فهو راج له، خائف منه4. والله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ؛ فجعل سبحانه الدعاء عبادة. والآن، وبعد أن عرفنا نعي الدعاء، نقول: إن شرك الدعاء يقع في هذين النوعين؛ إما شرك في المسألة والطلب، أو شرك في العبادة والثناء. رابعا: كيف يقع الشرك في هذين النوعين؟ إذا توجه الإنسان بواحد من هذين النوعين لأحد غير الله عز وجل؛ فقد أشرك. فيقع الشرك في النوع الأول؛ دعاء العبادة؛ إذا صرف العبد شيئا من العبادة لغير الله عز وجل، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد كفر كفرا مخرجا عن الملة؛ فلو ركع

_ 1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 2/ 778. وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص223. 2 انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 778. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 10-11. 4 انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص398.

إنسان، أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركا خارجا عن الإسلام1. ويقول الإمام أحمد بن علي المقريزي: فالشرك به في الأفعال: كالسجود لغيره سبحانه، والطواف بغير البيت المحرم، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره2. لأن ذلك من خصائص الألوهية؛ فمن سجد لغيره عز وجل، أو صرف له لونا من ألوان العبادة فقد جعله لله ندا3، كذا لو ذبح لغير الله تعظيما له، وتقربا إليه، فقد أشرك شركا أكبر؛ لأن الذبح عبادة أمر الله عز وجل بها في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} [الكوثر: 2] 4. ويقع الشرك في النوع الثاني؛ دعاء المسألة والطلب، إذا كان المدعو ميتا، أو كان السؤال في شيء لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فلو "كان المدعو حيا قادرا على ذلك فليس بشرك؛ كقولك: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك5. أما إن كان المدعو ميتا، فإن دعاءه شرك مخرج عن الملة6. على هذا يقال: ليس دعاء المسألة والطلب كله شركا؛ بل دعاء الإنسان لغيره ينقسم إلى ثلاثة أقسام7: الأول: أن يدعو مخلوقا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة؛ كسؤال الفقير. فهذا جائز. والثاني: أن تدعو مخلوقا مطلقا -سواء كان حيا أو ميتا- فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكرا؛ فهذا شرك أكبر؛ لأن هذا من فعل الله عز وجل الذي لا يستطيعه البشر، ولا يقدرون عليه. والثالث: أن تدعو مخلوقا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة؛ كدعاء الأموات؛ فهذا شرك أكبر أيضا؛ لأن هذا لا يقدر عليه المدعو. ولا يقع مثل هذا النوع من الدعاء إلا إذا اعتقد الداعي في المدعو شيئا سريا يدبر به الأمور.

_ 1 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص398. 2 تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص58-59. 3 انظر المصدر نفسه ص73. 4 انظر المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 148-149. 5 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص398. 6 المرجع نفسه ص399. 7 انظر المرجع نفسه ص393.

من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد: ثانيا: شرك الشفاعة تمهيد: هذا اللون من الشرك نتيجة لازمة لشرك العبادة -أحد نوعي شرك الدعاء؛ فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ فهو إنما يفعل ذلك كي يشفع له هذا الغير عند الله عز وجل، في التجاوز عن الذنوب والسيئات، أو في تحقيق الآمال، ونيل الرغبات، ظنا منه أن الأصنام، أو الأولياء، أو غيرهم يملكون الشفاعة. أولا: تعريف الشفاعة تعرف الشفاعة بأنها انضمام شيء إلى آخر، ناصرا له، وسائلا عنه1؛ فهي مأخوذة من شفع الشيء شفعا، إذا ضم مثله إليه، وجعله زوجا2. ثانيا: الشفاعة المعنية هاهنا الشاعة المرادة هنا هي تلك التي تتعلق بالآخرة؛ كطلب الشفيع مغفرة ذنوب المشفوع له، او التجاوز عن سيئاته، أو غير ذلك. ثالثا: كيف يقع شرك الشفاعة؟ يقع هذا الشرك إذا اتخذ العبد من دون الله أندادا، فصرف لهم نوعا من أنواع العبادة، أو كلها، وتوجه بهم، وتقرب بعبادتهم إلى الله، زاعما أن معبوداته هذه تشفع له عند الله، وتقربه منه زلفى. رابعا: من أدلة هذا النوع 1- قول الله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ؛ فحكم الله عز وجل بالشرك على من عبد الشفعاء، أو دعاهم بقصد الشفاعة3. 2- قول الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43-44] ؛ فنفى سبحانه وتعالى أن تشفع لهم هذه الأنداد عند الله، وأخبر أن الشفاعة لله وحده؛ فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. 3- قول الله عز وجل {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] ؛ فكذبهم وكفرهم بذلك4.

_ 1 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 171. 3 انظر المعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين 487. 3 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص276. 4 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 369.

4- قول الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] ؛ فقطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا؛ لأن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه؛ فإن لم يكن مالكا، كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له، كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده؛ فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه؛ فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه1. خامسا: ما هي الشفاعة التي يقبلها الله عز وجل؟ الشفاعة التي تقدمت هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء، وهي التي نفاها الله عز وجل. ولكنه سبحانه لم ينف الشفاعة مطلقا؛ بل أخبر ان هناك شفاعة مقبولة عنده؛ وهي الشفاعة الصادرة عن إذنه، لمن وحده؛ فالشفاعة التي يقبلها عز وجل هي التي جمعت شرطين: أحدهما: إذنه سبحانه وتعالى بالشفاعة؛ لأن الشفاعة كلها له وحده، كما قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ؛ فلا يشفع أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا بإذنه عز وجل. والشرط الثاني: أن يرضى سبحانه وتعالى عن المشفوع فيه، وهذا يتطلب أن يكون من أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ؛ فلا يشفع أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا بإذنه عز وجل، والشرط الثاني: أن يرضى سبحانه وتعالى عن المشفوع فيه. وهذا يتطلب أن يكون من أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، كما قال سبحانه: {ولا يشفعون الا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 2؛ فشفاعته صلى الله عليه وسلم -بعد إذن الله عز وجل له بها- لا ينالها إلا أهل التوحيد الخالص، وهذا عكس ما عند المشركين الذين زعموا أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله3. فالشفاعة المثبتة المقبولة -إذا- هي التي جمعت شرطين؛ إذن الله عز وجل للشافع أن يشفع، ورضاه سبحانه وتعالى عن المشفوع . يقول عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 372. وانظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص285. 2 تقدم تخريجه ص74 من هذا الكتاب. 3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 396-370.

من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد: ثالثا: شرك النية والإرادة والقصد أولا: المراد بهذا النوع هو أن ينوي العبد ويريد ويقصد بعمله جملة وتفصيلا غير الله عز وجل. أو هو العمل الصالح للدنيا فقط. أو هو الذي يعمل العمل من غير إيمان، أو كان غرضه وهدفه الحياة الدنيا فقط1؛ فمن كان غرضه الدنيا لا غير، لا يريد إلا إياها، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجلها، ولا يوالي ولا يعادي إلا عليها؛ فليس له في الدنيا إلا ما قدر لهن وهو في الآخرة من أهل النار. ثانيا: دليل هذا النوع يدل على هذا النوع قول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16] ؛ فهؤلاء لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها فقط؛ فليس لهم في الآخرة ثواب؛ لأنهم لم يريدوا بعملهم الآخرة، وإنما أرادوا الدنيا2. من أنوع الشرك في الألوهية والتعبد: رابعا: شرك الطاعة تمهيد: سبق أن ذكرنا أن توحيد الألوهية يعني: إفراد الله عز وجل بالعبادة3. ومن العبادة: الخضوع له عز وجل في الحكم، وتنفيذ أوامره ظاهرا وباطنا4، كما قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] ؛ فالحكم حق له. ولا يتم الإيمان إلا بتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، كما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

_ 1 انظر: تجريد التوحيد للمقريزي ص67. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص537. وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص14. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله ص535. وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص540. 3 انظر ص59 من هذا الكتاب. 4 أضواء البيان للشنقيطي 1/ 396-397.

أولا: تعريفه يعرف شرك الطاعة بأنه: مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم1. أو طاعة العلماء والأمراء في المعصية، مع استحلال ذلك2؛ فكل من أطاع مخلوقا في تحريم الحلال، أو تحليل الحرام؛ فهو مشرك شرك طاعة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم3. ثانيا: من أدلة هذا النوع يدل لهذا النوع أدلة كثيرة؛ منها: 1- قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ؛ فهؤلاء اتخذوا علماءهم، ومشايخهم وقراءهم سادة لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم، مما قد أحله الله لهم4. 2- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم! قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه"؟ قال عدي: بلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتلك عبادتهم" 5. 3- قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] ؛ فسمى سبحانه الاحتكام إلى غير شرعه تحاكما إلى الطاغوت6.

_ 1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص155. 2 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص553. وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص15. 3 أضواء البيان للشنقيطي 4/ 83-84. 4 انظر جامع البيان للطبري 6/ 354. 5 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة. وحسنه. 6 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص567.

4- قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ؛ فنفى عز وجل الإيمان عن المعرضين عن الاحتكام إلى شرعه، وأقسم بنفسه سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن أحد حتى يحكم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى ينتفي عن صدره الضيق والحرج من ذلك. ثالثا: من الأمثلة على هذا النوع 1- الطاعة في تحكيم القوانين الوضعية بدلا من الشريعة الإسلامية، والاحتكام إليها. 2- الطاعة في تحليل ما علم تحريمه من دين الإسلام بالضرورة؛ مثل الربا، والزنا، والتبرج، والسفور، والقمار، ونحو ذلك من سائر المعاملات المنصوص على تحريمها، ولا مجال للاجتهاد فيها. 3- الطاعة في تحريم ما أحل الله وأباحه؛ مثل أكل اللحوم، وتعدد الزوجات، والملكية الفردية، وغير ذلك. وعن هذه الأمثلة يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله؛ فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله -عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه-، كفر بواح، لا نزاع فيه"1. خاتمة لهذا النوع: علماء الأمة الإسلامية اتفقوا على أن الحكم لله عز وجل وحده؛ لأنه المالك للخلق وحده؛ فله الحكم والأمر فيهم بما شاء. يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "أما استحقاق نفوذ الحكم؛ فليس إلا لمن له الخلق والأمر. فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق عز وجل، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان، والسيد، والأب، والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا، لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم؛ لولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب؛ إذا ليس أحدهما أولى من الآخر. فإذا: الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله طاعته2.

_ 1 أضواء البيان للشنقيطي 7/ 162. 2 المستصفى لأبي حامد الغزالي 1/ 83.

من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد: خامسا: شرك المحبة تمهيد: سبق أن شكرنا أن العبادة تقوم على ثلاثة أركان، أحدها المحبة1. وهي محبة العبودية التي تستلزم الذل لله، والخضوع له، وتعظيمه، ومال طاعته، وإيثاره على غيره عز وجل. وهذه المحبة هي المحبة الواجبة؛ إذ المحبة ثلاثة أنواع: أولا: أنواع المحبة: المحبة ثلاثة أنواع: 1- محبة واجبة: وهي التي سبقت الإشارة إليها؛ محبة طاعة الله، والانقياد له2؛ وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع، وكمال الطاعة، وإيثار المحبوب على غيره؛ فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد3. 2- محبة محرمة، أو شركية: وهي صرف تلك المحبة الواجبة لله عز وجل، إلى غيره؛ فمن أحب غير الله حب ذل وخضوع، فقدم طاعته على طاعة الله، وآثر محابه على محاب الله، فقد جعله ندا لله. وعنها يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر4. وهذه المحبة: قليلها وكثيرها ينافي في محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم5. 3- محبة طبيعية، أو جبلية: وهذه مباحة، ما لم تصل إلى تعظيم المحبوب إلى الحد الذي لا يليق إلا بالله عز وجل. ومن أمثلة هذه المحبة: حب الإنسان لوطنه، والوالد لولده، والزوج لزوجه، وذي المال لماله، وغير ذلك. وعنها يقول مولانا عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . ثانيا: كيف يقع الشرك في المحبة؟ تقدم أن الإنسان إذا صرف المحبة الواجبة لله سبحانه وتعالى، لغير الله عز وجل، فقد اشرك في المحبة.

_ 1 انظر ص97 من هذا الكتاب. 2 انظر: الوسيط في تفسير القرآن للواحدي 1/ 136. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان ص74. 3 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان ص74. 4 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص487. 5 انظر المرجع نفسه ص478.

ثالثا: دليل هذا النوع: من الدلة على هذا النوع: قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: من الآية 165] . وقد تقدم معناها1. شبهة والرد عليها: يعترض بعض الواقعين في هذا النوع من الشرك: بأنهم يحبون الله حبا شديدا، ربما أشد من حبهم لأندادهم، فأين الشرك في ذلك؟. وعلى شبهتهم هذه رد العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله: وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم؛ من إغاثة اللهفان، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده؛ فإنك ترى المشرك يفرح، ويسر، ويحن قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده، وجردت توحيده، لحقته وحشتة، وضيق، وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك2. من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد: سادسا: شرك الخوف تمهيد: سبق أن ذكرنا أن العبادة تقوم على ثلاثة أركان، أحدها الخوف3. وهو عبدية القلب التي لا يجوز تعلقها بغير الله عز وجل؛ فيخاف العبد مولاه سبحانه وتعالى أن يصيبه بما يشاء من العقوبات، والمصائب، والأوصاف؛ ويخاف مما توعد به العصاة في الآخرة من النكال والعذاب. وهذا هو الخوف الواجب صرفه لله عز وجل، ولا يجوز أن يصرف لكائن من كان سوى الله جل جلاله. أنواع الخوف: الخوف أنواعه ثلاثة، كما المحبة: 1- خوف واجب: وقلنا هو الخوف من الله عز وجل أن يصيبك بما يشاء والمطلوب فيه:

_ 1 انظر ص75 من هذا الكتاب. 2 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 371. 3 انظر ص97، 100 من هذا الكتاب.

أن يحملك على فعل المأمورات، واجتناب المنهيات والمحظورات. وهذا الخوف يجب أن يكون مقترنا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله، أو اليأس من روح الله عز وجل؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء؛ بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله ينافيان التوحيد. قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] "1. 2- خوف طبيعي2: وهو الخوف مما يخاف منه طبعا؛ كالخوف من السبع، كالأسد ونحوه، والعدو المبغت، وغير ذلك، مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله وحده. وهذا الخوف مباح، وهو غير مذموم. وقد وقع لموسى عليه السلام، يقول تعالى حاكيا عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] . 3- الخوف المحرم: وهو قسمان: الأول: الخوف السري "الاعتقادي"، وسمي اعتقاديا لأن محله القلب وهو: الخوف من غير الله أن يؤثر فيه، أو يصيبه لما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ من مرض، أو منع رزق، أو إصابة بفقر، أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته، كما قال الله عن قوم هود عليه السلام إنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54] 3. وهذا الخوف هو الخوف الشركي؛ فمن وقع فيه وقع في الشرك الأكبر.

_ 1 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان ص69-70. 2 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص489. والإرشاد للفوزان ص67. 3 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص488. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص39. والإرشاد للشيخ صالح الفوزان ص66.

الثاني: الخوف العملي1: وهو الخوف من الناس المؤدي إلى ترك الواجب، أوالمؤدي إلى عمل المحرم. وهذا الخوف حرام، وينافي كال التوحيد، وهو خوف أصغر. ودليله: قول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ؛ فاخشوهم: أي واتركوا الجهاد، ويشهد لهذا القسم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس؛ فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى" 2. خاتمة: أنواع الشرك في الألوهية كثير تتعلق بعبادته عز وجل ومعاملته؛ فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ فقد وقع في هذا النوع من أنواع الشرك، سواء أكانت العبادة المصروفة لغير الله: نذرا، أو ذبحا، أو سجودا، أو حبا، أو ذلا، أو توكلا، أو رجاء، أو خوفا، أو دعاء، أو غير ذلك.

_ 1 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص489. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص39. والإرشاد للشيخ صالح الفوزان ص66. 2 أخرجهألأحمد في مسنده 3/ 27، 29، 77، وابن ماجه في السنن، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم 1814. وانظر فتح المجيد ص489.

المطلب الثاني: الشرك الأصغر

المطلب الثاني: الشرك الأصغر أولا: تعريف الشرك الأصغر يعرف الشرك الأصغر بأنه: مساواة غير الله بالله في هيئة الفعل وأقوال اللسان. أو: كل ما أطلل عليه الشرع وصف الشرك، لكنه لا يخرج من الملة1. يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وأما الشرك الأصغر؛ فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله، وكيسير الرياء، ونحو ذلك2. ثانيا: حكم الشرك الأصغر، مع دليله 1- الشرك الأصغر من أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، ومعصية من أكبر المعاصي، لما فيه من تسوية غير الله بالله عز وجل. 2- الشرك الأصغر لا ينقض التوحيد، بل يتنافى مع كماله. 3- الشرك الأصغر لا يحبط جميع العمل، بل يحبط العمل المصاحب. 4- الشرك الأصغر إن مات صاحبه عليه؛ فإنه يموت مسلما، ولكن شركه لا يغفر له -على الراجح من قولي العلماء، بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة3. 5- صاحب الشرك الأصغر في الآخرة إن دخل النار لا يخلد فيها. والدليل على الشرك الأصغر: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 4. ثالثا: من أنواع الشرك الأصغر ينقسم الشرك الأصغر إلى أنواع، سأذكر منها بإذن الله:

_ 1 انظر: المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 27. والإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف ص30. 2 انظر القول السديد شرح كتاب التوحيد لابن سعدي ص24. 3 انظر: الرد على البكري لابن تيمية ص146. وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص98. والشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد ص188-189. 4 صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله.

أولا: يسير الرياء من أنواع الشرك الأصغر أولا: تعريف الرياء لغة واصطلاحا: اليراء في اللغة مشتق من الرؤية، يقال: فعله رياء؛ أي ليراه الناس، فيحصل على الصيت والذكر1. والرياء اصطلاحا: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس. أو التصنع للمخلوق؛ كالمسلم الذي يعمل لله، ويصلي لله، ولكنه يحسن صلاته وعمله ليمتدحه الناس2. ووجه المطابقة بين المعنيين: أن المرائي يقصد رؤية الناس لعمله. ثانيا: حكم الرياء، مع الدليل الرياء محرم بنص الكتاب والسنة. فمن الكتاب: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية110] ، ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر؛ الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك" 5. ملاحظة: لاحظنا في الحديث الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركا خفيا، فما وجه التسمية؟ الجواب: لأن صاحبه يظهر أن عمله لله عز وجل، ويخفي في قلبه أنه لغيره. أو: لأن صاحبه يقع فيه، دون أن يلقي له بالا. ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الملة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء" 6.

_ 1 انظر: لسان العرب لابن منظور 2/ 203-204. والدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 379. 2 انظر: الدين الخالص لصديق خان 2/ 379. بيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص18. 3 أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة. وحسنه الألباني في صحيح الجامع ح2607. 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 248، 249. وصححه الألباني في صحيح الجامع ح1555. 5 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 126. والطبراني في الكبير 7/ 337. والحاكم في المستدرك 4/ 329، وصححه، كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. 6 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 291، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصحح أوله الألباني في صحيح الجامع ح3730.

ثانيا: السمعة من أنواع الشرك الأصغر: أولا: تعريف السمعة لغة واصطلاحا السمعة في اللغة مشتقة من السماع والإسماع. وهي ما يسمع به من صيت. يقال: فعل ذلك رياء وسمعة؛ أي ليراه الناس ويسمعوا به1. والسمعة اصطلاحا: إظهار العبادة بقصد سماع الناس. أو تحدث الإنسان بأعماله التي عملها ليمدحه الناس بها. ويدخل فيه: أن يعمل العمل ليلا، ثم يحدث به الناس في النهار2. والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء يتعلق بحاسة البصر والسمعة تتعلق بحاسة السمع3. ثانيا: حكم السمعة، مع الدليل السمعة محرمة بنص الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية110] ، ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به" 4. ثالثا: متى ينقلب حكم الرياء والسمعة من شرك أصغر إلى شرك أكبر يدخل الرياء والسمعة تحت حكم الشرك الأكبر بأحد ثلاثة أمور: 1- أن يرائي الإنسان، أو يسمع بأصل إيمانه؛ يظهر أمام الناس أنه مؤمن ليعصم دمه وماله. 2- أن يغلب الرياء أو السمعة على أعمال الإنسان. 3- أن يغلب على أعماله إرادة الدنيا؛ بحيث لا يريد بها وجه الله. رابعا: حكم العبادة إذا اتصل بها رياء أو سمعة إذا كان قصد العابد بعبادته مراءاة الناس من الأصل؛ فهذا مبطل للعبادة. أما إذا طرأ الرياء أو السمعة أثناء العبادة؛ فلا يخلو حال العبادة من أن يكون أولها مرتبطا بآخرها -كالصلاة مثلا، فتبطل جميع العبادة إذا لم يدافع الرياء أو السمعة وسكن إليهما، أما إذا لم يكن أول العبادة مرتبطا بآخرها -كالصدقة مثلا بمائة ريال؛ خمسون منها دخله الرياء- فيبطل منها ما خالطه الرياء أو السمعة5.

_ 1 انظر: لسان العرب لابن منظور 2/ 203-204. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص450. 2 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 379. 3 انظر فتح الباري لابن حجر 11/ 336. 4 صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب الرياء والسمعة -وهذا لفظه، وكتاب الأحكام، باب: من شاق شق الله عليه. وصحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله. 5 انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص200-201.

ثالثا: إرادة الإنسان بعمله الدنيا من أنواع الشرك الأصغر: أولا: المراد بهذا النوع هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة مما يبتغي بها وجه الله عز وجل، يريد بها وجه الله عز وجل؛ ولكن خالط إرادته ونيته شيئا آخر، كإرادة الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه؛ كالذي يجاهد، أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا؛ أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال1. ثانيا: حكم هذا النوع، مع الدليل: إرادة الإنسان بعمله الدنيا محرم، والدليل 1- من كتاب الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن من كانت الدنيا همه وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء2. 2- ومن السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد، وهو يبتغي عرضا من أعراض الدنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجر له". فأعاد عليه ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أجر له" 3. ثالثا: الفرق بين الرياء والسمعة وبين إرادة الإنسان بعمله الدنيا العامل بهذه الأنواع يعمل العمل الصالح مما يبتغي به وجه الله؛ ولكن المرائي أو المسمع يريد رؤية الناس أو سماعهم، ويقصد من ذلك أن يمدحوه ويعظموه، ويطمع أن ينال الجلالة في أعينهم. أما من كان يريد بعمله الدنيانفهو يعمل لأجل الدراهم، أو لشيء من متاع الدنيا، فهو أعقل من الأول، وإن كان كلاهما خاسرا -والعياذ بالله4.

_ 1 انظر بعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور عواد بن عبد الله المعتق ص31. 2 انظر تفسير ابن كثير 2/ 439. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 290، والحاكم في المستدرك 2/ 85 وصححه، وأبو داود في السنن، كتاب الجهاد، باب في من يغزو ويلتمس الدنيا. وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 478. 4 انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص534-535. وبعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور المعتق ص31.

رابعا: أقسام الناس في العمل، وما يريدون به: ينقسمون إلى أقسام، منها: 1- قسم يريدون بأعمالهم الدنيا فقط، ولا إرادة لديهم له، ولا هم لهم له، ولا طلب للآخرة. وهذا رياء محض، وهو شرك أكبر يقع فيه المنافقون1. 2- قسم يريدون بأعمالهم الله عز وجل، ولكن يخالط إرادتهم ونيتهم شيئا آخر؛ كإرادة الناس -مثل يسير الرياء والسمعة، أو إرادة المال، أو المتاع مثل من يعمل العمل أمام ولي المرأة ليوافق على زواجه منها، أو يحفظ القرآن من أجل أن يعين إماما في المسجد. وهذا من الشرك الأصغر2، وفاعله قد صار بإرادته لهذه الأشياء عبدا لها، وينطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة 3، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض" 4. 3- قسم يعمل بطاعة الله مخلصا له في ذلك؛ ولكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه من الإسلام5. رابعا: الاستسقاء بالأنواء "النجوم" من أنواع الشرك الأصغر أولا: المراد بالاستسقاء بالأنواء: الاستسقاء: طلب السقيا، والمراد نسبة مجيء المطر إلى الأنواء. والأنواء: جمع، مفرده نوء. والأنواء هي منازل النجوم، وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل كل ثلاث عشرة ليلة منزلة منها. وسمي نوءا -من ناء ينوء نوءا، إذا نهض وطلع- لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب -مع طلوع الفجر- ناء -نهض وطلع- أخرى في

_ 1 تقدمت الإشارة إلى هذا النوع ص120 من هذا الكتاب. 2 وهو هذا النوع الذي بين أيدينا. 3 القطيفة هي الخميلة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. والخميصة هي ثوب خز أو صوف معلم. "انظر: فتح الباري لابن حجر 11/ 254. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص539". 4 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال. 5 انظر هذا القسم مع بقية الأقسام في: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص536-538. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص540-541. وبعض أنواع الشرك الأصغر للمعتق ص34.

مقابلها في المشرق، فتنقضي جميعا مع انقضاء السنة؛ "28×13=364"1. وقد كانت العرب في الجاهلية تزعم أنه مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبون نزوله إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا2. ثانيا: حكم هذا النوع، مع الدليل: الاستسقاء بالأنواء محرم، والدليل: 1- من الكتاب: قول الله عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ؛ وتفسيرها: ما رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول: شكركم، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} : تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا"3. 2- من السنة: ما روي عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 4. ثالثا: متى يكون الاستسقاء بالأنواء شركا أكبر، ومتى يكون شركا أصغر؟ المسألة فيها تفصيل: 1- من اعتقد أن للنجم تأثيرا -بدون مشيئة الله، فينسب المطر إلى النجم نسبة إيجاد واختراع؛ فهذا من الشرك الأكبر. 2- من اعتقد أن للنجم تأثيرا -بمشيئة الله، والله جعل هذا النجم سببا لنزول المطر، وأجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم؛ فهذا محرم -على الصحيح، وهو شرك أصغر.

_ 1 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 129. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص452. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص451. 2 انظر المراجع نفسها. 3 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وقال: حسن غريب صحيح. وأحمد في المسند 1/ 108، 131. 4 صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من يقول مطرنا بالنوء.

يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فلا يخلو؛ إما أن يعتقد أن له تاثيرا في نزول المطر، فهذا شرك كفر "أي أكبر"، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية؛ كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعا ويدفع عنهم ضرا. أما إذا قال مطرنا بنوء كذا مثلا، مع اعتقاد أن المؤثر هو الله وحده؛ لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فالصحيح أنه يحرم"1، وهو شرك أصغر2؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل منه عز وجل ورحمة، يحبسه إذا شاء، وينزله إذا شاء3. خامسا: الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر: أولا: الأمثلة عليه: كقول الرجل: وحياتي، والنبي، وأبي، والكعبة، وتربة فلان إلخ. ثانيا: حكمه، مع الأدلة: هو محرم، وهو شرك أصغر -أصغر في مقابل الأكبر؛ وإلا فهو لي بصغير؛ إذا هو أكبر من بقية الكبائر. وقد حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم لسد الطرق الموصلة إلى الشرك، ولحماية جناب التوحيد، فيجب على العبد التسليم والإذعان. وقد دلت الأدلة الكثيرة على تحريمه، وعلى أنه من الشرك، ومن تلك: 1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 4. 2- جاء رجل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، فقال: احلف بالكعبة؛ فقال: أحلف برب الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحلف بأبيك، فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك" 5.

_ 1 الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 12-130، وانظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص455-456. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص454-455. والمجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 139-140. 2 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص455. 3 انظر فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص459. 4 صحيح البخاري، كتاب الأيمان، باب لا تحلفوا بآبائكم. 5 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 69، 86. وأبو داود في السنن، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء. والترمذي في الجامع الصحيح، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وحسنه. والحاكم في المستدرك 1/ 18، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين.

3- قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي اله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا" 1. سؤال: لماذا فضل ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا؟ أجاب الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله عن هذا السؤال بقوله: "لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله، فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك"2. ثالثا: هل تنعقد يمين الحالف بغير الله عز وجل؟ العلماء مجمعون على أن اليمين لا تنعقد إلا إذا حلف الإنسان بالله عز وجل، أو بأسمائه وصفاته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الحلف بغير الله؛ من الملائكة، والأنبياء، والمشايخ، والملوك، وغيرهم، فإنه منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة فمن حلف بشيخه، أو بتربته، أو بحياته، أو بحقه على الله، أو بالملوك، أو بنعمة السلطان، أو بالسيف، أو بالكعبة، أو بأبيه، أو تربة أبيه، أو نحو ذلك، كان منهيا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين3. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق4. رابعا: متى ينقلب الحلف بغير الله إلى شرك أكبر؟ ينقلب الحلف بغير الله إلى شرك أكبر: إذا قام بقلب الحالف تعظيم من حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله عز وجل5. جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: فإن قام بقلبه تعظيم لمن حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله، فهو شرك أكبر؛ فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء، كل منهما يكون مشركا شركا أكبر6.

_ 1 أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف 8/ 469. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 177، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". 2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص594. وذكر أنه نقله من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 506. 4 أضواء البيان للشنقيطي 2/ 123. 5 انظر: الجواب الكافي لابن القيم ص235-236. 6 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث 1/ 224.

سادسا: قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر. تمهيد: من الشرك في الألفاظ: قول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وحسبي الله وأنت، ونحو ذلك من الألفاظ التي تجري على ألسنة الناس، وفيها تسوية بين الخالق والمخلوق. أولا: حكمه، مع الأدلة: هذا الأمر لا يجوز استعماله، ولا التهاون في النطق فيه؛ لأنه نوع من أنوع الشرك الأصغر؛ إذا حرف الواو يقتضي التشريك؛ فحين تقول: جاء أحمد وعلي تكون قد سويت بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم -وهو المجيء؛ لأن الواو وضعت لمطلق الجمع، وهي لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، ووجودها فيه تسوية بين الخالق والمخلوق. ومعلوم أن التسوية بين الخالق والمخلوق شرك، والله عز وجل ذكر أن من أسباب ضلال المشركين كونهم يسوون الأنداد برب العالمين، قال تعالى حاكيا عنهم قولهم في النار: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 96-98] . وقد دلت الأدلة الكثيرة على تحريم هذا النوع، وعلى أنه من الشرك، ومن تلك: 1- قول الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22] . فسرها حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل. وهوأن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك"1. 2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده" 2. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت؛ ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت" 3.

_ 1 رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بإسناد جيد. "انظر فتح القدير للشوكاني 1/ 52. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص587. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 214، وقال أحمد شاكر رحمه الله 3/ 253: إسناده صحيح. 3 أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 362.

4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان؛ ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" 1. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله معلقا على هذا الحديث: هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم} [التكوير: 28] ؛ فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض. فوازن بين هذه الألفاظ وبني قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش! يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل لله ندا بها؛ فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء -بل لعله أن يكون له من أعدائه- ندا لرب العالمين"2. ثانيا: كيف يتقى هذا الشرك؟ أفضل سبيل للوقاية من هذا الشرك، وعدم الوقوع فيه، هو التزام ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من استبدال الواو بـ "ثم"؛ فنعدل عن الواو التي تقتضي تسوية المخلوق بالخالق، إلى"ثم" التي تقتضي الترتيب والتراخي؛ فمثلا: غذا قلنا: ما شاء وشئت -وعطفنا بالواو، اقتضى ذلك التسوية بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق. أما إذا قلنا: ما شاء الله ثم شئت -وعطفنا بـ "ثم"- فإنه يقتضي تقديم مشيئة الله عز وجل، وأنها فوق مشيئة المخلوق3. فإذا عطفنا مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق عز وجل بـ "ثم"، فرقنا بين المشيئتين، وقدمنا مشيئة الخالق سبحانه وتعالى على مشيئة خلقه. كذا الحوادث: نسندها إلى الله عز وجل أولا، ثم إلى المخلوق؛ فمثلا إذا أردنا أن نقول: لولا وجود فلان لحصل كذان نقول: لولا الله، ثم وجود فلان لحصل كذا، مع الاعتقاد بأن الأسباب ليست مستقلة بذاتها في التأثير؛ وإنما يكون تاثيرها بقدرة الله ومشيئته4.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 384، 394، 398. وأبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفسيز وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 940. 2 الجواب الكافي لابن القيم ص239-240. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 312. 3 انظر دعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس ص65، وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ص595. 4 انظر بعض أنواع الشرك الأصغر للمعتق ص50.

سابعا: الرقى من أنواع الشرك الأصغر أولا: تعريف الرقى الرقى لغة جمع رقية، وهي العوذة. أو ما يعرف عند العامة بـ "العزيمة"، أو "التعويذة" التي يرقى بها صاحب الآفة -كالحمى والصرع، وتقرأ على المريض أو اللديغ أملا في شفائه1. ولا يبعد المعنى الشرعي للرقية عن المعنى اللغوي كثيرا؛ فالرقية شرعا: ما يقرأ على المريض من الآيات القرآنية، أو الأدعية المشروعة، أو غيرها من الأدعية المباحة المجربة2. ثانيا: نوعا الرقي الرقى نوعان: شرعية، وبدعية "وتدخل فيها الشركية". وتوضيح هذين النوعين يمكن في الوقفتين التاليتين: الوقفة الأولى: مع الرقى الشرعية الرقى مشروعة بإجماع العلماء إذا تحققت فيها شروط معلومة. شروط الرقية الشرعية: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، وبأسمائه وصفاته. وباللسان العربي، أو بما يعرف عناه من غيره. وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى"3. فالرقية الشرعية لا بد أن تكون: 1- بشيء من كلام الله، أو توسلا بأسمائه عز وجل وصفاته، أو بأدعية مشروعة، أو مباحة. 2- باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من أية لغة أخرى. 3- أن يكون فعلها صادرا عن عقيدة صحيحة بأن الشافي هو الله عز وجل، وأنه هو الضار والنافع سبحانه وتعالى؛ فلا يعتقد أنها تشفي بذاتها، فإذا اعتقد ذلك كان شكا أكبر، وإن اعتقد مقارنتها للشفاء -لا يحصل الشفاء إلا بوجودها- كان شركا أصغر.

_ 1 انظر من كتب اللغة: المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده 6/ 309. ولسان العرب لابن منظور 13/ 332. وتاج العروس للزبيدي 10/ 154. 2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 182، 328، 10/ 195. 3 فتح الباري لابن حجر 10/ 166. وانظر أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي ص36-41.

أدلة الرقية الشرعية: دلت الأدلة الكثيرة على جواز الرقى إذا تحققت فيها الشروط السابقة. ولكثرة هذه الأدلة صنفتها وفق موضوعها، واقتصرت على ذكر مثال أو مثالين لكل موضوع. 1- إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه عرضوا عليه رقاهم؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" 1. وعن جابر ابن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أرى بأسا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل" 2. 2- إقراره صلى الله عليه وسلم لفريق من الصحابة فعلوا الرقية؛ كإقراره صلى الله عليه وسلم للرهط الذين نزلوا بأحد أحياء العرب، فلدغ سيد الحي، فرقاه أحد الصحابة بسورة الفاتحة، وأخذ على ذلك جعلا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا، واضربوا لي بسهم" 3. 3- فعله صلى الله عليه وسلم الرقية بنفسه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات؛ فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها4. قال معمر -أحد رواة هذا الحديث: فسألت الزهري وهو شيخه في هذه الرواية: كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه4. 4- فعله صلى الله عليه وسلم الرقية بغيره؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفه وأنت الشافي،

_ 1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. 2 صحيح مسلم، كتاب السلم، باب استحباب الرقية من العين والحمة والنملة. 3 صحيح البخارين كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية، وكتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، وباب النفث في الرقية. 4 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، وباب النفث في الرقية، وباب المرأة ترقي الرجل.

لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقما" 1. وعنها -رضي الله عنها- أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا" 1. 5- أمره صلى الله عليه وسلم بالرقية؛ فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة2؛ فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة" 3. وعن أفعاله صلى الله عليه وسلم هذه مع الرقية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه، وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه"4. ملاحظة: لا يتنافى التداوي بالرقى؛ من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التوكل؛ لأن الله جل جلاله جعل الرقى سببا لدفع مكروهات كثيرة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تواتر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للرقية بنفسه، وغيره، وأمره بها، وإقراره لصحابته على فعلها5. فالرقية مشروعة وهي من الأدوية الناجعة النافعة بإذن الله، إذا انضم إليها صدق القصد من جهة العليل، وقوة التوجه إلى الله من جهة المداوي، مع قوة القلب بالتقوى والتوكل على من يذهب البأس6. الوقفة الثانية: مع الرقى البدعية: وتدخل فيها الشركية؛ لأن من البدع ما يكون شركا. فالرقية الشركية هي كل رقية اشتملت على شرك؛ كالقسم بالمخلوقات من شمس، أو قمر، أوملائكة، أو جن، أو غير ذلك؛ أو الاستغاثة بالمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى؛ أو المشتملة على دعاء المخلوق من دون الله، ليكشف أمرا لا يكشفه إلا الله عز وجل، هذا كلها شرك، لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعاطاه7.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، وباب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى. 2 السفعة: حمرة في الوجه يعلوها سواد، أو في وجهها موضع على غير لونه الأصلي "فتح الباري 10/ 202". 3 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب رقية العين. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 328. 5 انظر الرقى على ضوء قيدة أهل السنة والجماعة للدكتور علي العلياني ص33. 6 انظر: الجواب الكافي لابن القيم ص35. وفتح الباري لابن حجر 10/ 100. 7 انظر الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة للعلياني ص59-61.

ويدخل في الرقى البدعية: ما فقد شرطا من شروط الرقية الشرعية1، ومن ذلك2: 1- إذا كانت الرقية سحرية؛ لأن الله حرم السحر، وبين أنه كفر، وأن الساحر لا يفلح أبدا قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] . 2- إذا كانت الرقية بعبارات غير واضحة، ومعنى غير مفهوم، فهي رقية بدعية؛ فإن ما لا يعقل معناه، وما لا يفهم مبناه، لا يؤمن أن يكون منه شرك، وما كان مظنة الشرك، فلا يجوز تعاطيه أبدا -من باب سد الذرائع3. 3- ويدخل في هذا: ما كان بعبارات محرمة؛ كالسب، والشتم، واللعن؛ فإن الله لم يجعل دواء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرمه عليها، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكم داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام" 4، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث5. 4- ألا تكون الرقية على هيئة محرم؛ كأن يتقصد فعلها حال كونه جنبا، أو في مقبرة، أو حمام، أو وهو كاشف لعورته، أو غير ذلك. 5- ألا يظن الراقي، أو المرقي أن الرقية تستقل بالشفاء، أو دفع المكروه وحدها. فإذا اعتقد أنها تؤثر بذاتها، فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأن الشافي هو الله وحده.

_ 1 التي تقدم ذكرها في ص137 من هذا الكتاب. 2 انظر في ذلك: الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة للعلياني ص59-73. 3 النظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص168-169. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص166-167. 4 سنن أبي داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة. 5 مسند أحمد 2/ 305. وسنن أبي داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة. وجامع الترمذي، كتاب الطب، باب من قتل نفسه بسم أو غيره. وسنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب النهي عن الدواء الخبيث. وصححه الألباني "انظر صحيح سنن أبي داود 2/ 733. وصحيح سنن ابن ماجه 2/ 255".

ثامنا: التمائم من أنواع الشرك الأصغر أولا: تعريف التمائم التمائم لغة جمع تميمة، وهي خرزات كان الأعراب يعلقونها على أولادهم لدفع العين بزعمهم. أو قطعة من الجلد أو الورق، يكتب عليها أدعية وأوراد، يعلقها بعض الناس على مرضاهم، بغرض دفع شر متوقع، أو الشفاء من مرض حاصل وقع1. ويتضح من تعريف التميمية أنها كانت تتخذ لغرضين: 1- دفع الشرك المتوقع؛ من مرض أو عين، قبل أن يحصل "كالذي يعلق على الصبيان، أو الفرس، أو المساكن، أو السيارات". 2- دفع الشر الذي وقع بالفعل "وهذا الذي يعلق على المريض". ثانيا: حكم تعليق التمائم تعليق التمائم من باب شرك الأسباب، وهذا قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، حسب حال صاحبه، ولذلك ينظر في حال المتعلق، وفي حال المعلق. يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى عن التمائم: قد تكون شركا أكبر إذا اعتقد معلق التميمة أنها تحفظه، أو تكشف عنه المرض، أو تدفع عنه الضرر، دون إذن الله ومشيئته2، ويقول رحمه الله في موضع آخر: والصواب أن تعليق التمائم ليس من الاستهزاء بالدين، بل من الشرك الأصغر، ومن التشبه بالجاهلية، وقد يكون شركا أكبر على حسب ما يقوم بقلب صاحب التعليق من اعتقاد النفع فيها، وأنها تنفع وتضر دون الله عز وجل، وما أشبه هذا الاعتقاد، أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين أو الجن ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الله سبحانه لم يجعلها سببا، بل نهى عنها وحذر، وبين أنها شرك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لما يقوم بقلب صابحها من الالتفات إليها، والتعلق بها3. فتعليق التمائم مع اعتقاد أنها سبب للسلامة من الشر الواقع أو المتوقع: شرك أصغر. وتعليق التمائم مع اعتقاد أنها تنفع وتضر دون إذن الله ومشيئته: شرك أكبر.

_ 1 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 196. ولسان العرب لابن منظور 12/ 69-70. 2 مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 2/ 384. 3 قاله رحمه الله معلقا على حواشي الشيخ حامد الفقي على كتاب "فتح المجيد" حاشية رقم 133.

ثالثا: نوعا التمائم: التمائم نوعان؛ محرمة، ومختلف فيها. النوع الأول: التمائم المحرمة وهي التي جمعت أحد هذه الأمور "واحد يكفي كي تكون محرمة": 1- ليست من الكتاب، ولا من السنة، بل هي من طلاسم اليهود، أو المشركين، أو مستخدمي الجن، ونحوهم. 2- إذا كانت من الخرز، أو الأوتار، أو الحلق من الحديد وغيره كالأساور؛ فإن تعليقها محرم بلا ريب؛ إذ ليست من الأسباب المباحة، ولا الأدوية المعروفة1. 3- إذا كان فيها شرك؛ كالاستغاثة بأحد غير الله عز وجل. 4- إذا كان صاحبها أو حاملها يعتقد أنها تنفع بذاتها، وأنه إن رفعها بقي المرض2. أدلة التمائم المحرمة: جاءت أدلة كثيرة بتحريم التمائم التي فيها أحد هذه الأمور السابقة، ومن هذه الأدلة: 1- قول الله عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] . 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق تميمة فقد أشرك" 3. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتولة 4 شرك" 5. 4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئا وكل إليه" 6.

_ 1 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص152، 154، 156-162. 2 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 1/ 384 والتمائم في ميزان العقيدة للدكتور علي العلياني ص33. 3 أخرجه أحمد في المسند 4/ 156، والحاكم في المستدرك 4/ 219. ورواة أحمد ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الوائد 5/ 103، وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم 492". 4 التولة: شيء تصنع المرأة، تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر. "الدين الخالص 2/ 238". 5 أخرجه أحمد في المسند 1/ 381. والحاكم في المستدرك 4/ 217، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأبو داود وابن ماجه في السنن، كلاهما في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم. وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم331". 6 أخرجه أحمد في المسند 4/ 310-311. والترمذي في الجامع الصحيح، كتاب الطب، باب ما جاء في كراهية التعليق. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 208.

النوع الثاني: التمائم المختلف فيها وهي التي جمعت الشروط التالية 1 1- أن تكون بشيء من القرآن الكريم، أو بالأدعية الصحيحة. 2- أن تكون بلغة عربية مفهومة، أو بلغة أخرى يفهم معناها. 3- أن تكون خالية من الطلاسم، والشركيات. 4- أن يكون صاحبها على عقيدة صافية؛ بأنه لا يجلب النفع ولا يدفع الضر إلا الله. حكم هذا النوع من التمائم: هذا النوع من التمائم قد اختلف العلماء في حكمه، فرأى بعضهم جوازه، وبعضهم تحريمه. يقول الإمام أحمد: "التعليق كله يكره، والرقى ما كان من القرآن، فلا بأس به"2. أدلة من قال بتحريم هذا النوع 3: 1- عموم النهي الوارد في التمائم، دون تخصيص نوع منها؛ فقد جاء المنع من تعليق التمائم دون تفصيل. ولو كان تعليق التمائم مشروعا، لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين الرقية وأذن فيها بقوله: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"4. 2- إن القول بجواز تعليق التمائم المختلف فيها قد يعطل سنة الرقية المتفق عليها. 3- إن القول بتعليق التمائم متردد بين الجواز والتحريم. وما كان كذلك فالأولى اجتنابه درءا للمفاسد، واتقاء للشبهات. 4- تعليق التمائم وسيلة مفضية إلى الشرك؛ فقد يعتقد معلقها أنه لولا التمائم لحصل له كذا وكذا فيحصل فيها تعلق القلب، فيفضي إلى اعتقاد أنها مؤثرة بذاتها. وهذا شرك. وسد الذرائع واجب، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح5.

_ 1 انظر أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي ص243، 253. 2 مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج 2/ 169. 3 انظر التمائم في ميزان العقيدة للدكتور علي العلياني ص46-50. 4 تقدم تخريج هذا الحديث ص138، ح"1". 5 انظر معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 1/ 382.

5- يؤدي تعليقها إلى حمل القرآن ممن لا يفقه معناه، ولا يعرف منزلته، فلا يوقره، وقد يعرض آيات القرآن للامتهان؛ سيما إذا دخل إلى دورات المياه، أو الأماكن القذرة. وقد تبقى عليه وهو جنب، كما أنها قد تعلق على الأطفال مع تلبسهم بالنجاسة. 6- إن غالب من يتعاطاها صناعة واستعمالا لا يعرفون بصحة الإيمان، ولا بصلاح العمل. 7- إن عمل التمائم قد صار نوعا من أنواع الاتجار بكتاب الله ودينه القويم؛ ففي القول بجوازها فتح الباب أما الدجالين والمشعوذين لعمل التمائم الشركية، والاتجار بها بحجة أنها من القرآن الكريم. والقول بالمنع من تعليق التمائم هو الراجح والله أعلم، لما تقدم1. وعلى هذا القول عدد كبير من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين. قال إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي "ت96هـ": كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن2. ومراده من قوله "كانوا": أي أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهم من سادات التابعين3. تاسعا: التطير من أنواع الشرك الأصغر أولا: تعريف التطير التطير والطيرة: هي التشاؤم، وهو مصدر من تطير يتطير تطيرا وطيرة. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير، فيعتمدها؛ فجاء الشرع بالنهي عن ذلك4.

_ 1 انظر المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 1/ 58. 2 المصنف لابن أبي شيبة 7/ 374. 3 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص176-177. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ابن عبد الله ص174. 4 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 212. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424.

وكانوا يسمونه السانح، والبارح؛ فالسانح ما ولاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك إلى يمينك. والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه. وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه. وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله1. ولم يقتصر التطير التطير على الطيور والحيوانات، بل انسحب هذا الاعتقاد على غير الطير؛ فلقد كانوا يتشاءمون ببعض الأشهر؛ كشهر صفر الذي كان يمتنع بعضهم عن الزواج فيه أو السفر. كذلك كانوا يتشاءمون من المرضى، فيمتنعون عن مجالستهم، أو مآكلتهم. وكذا كانوا يتشاءمون بذي العاهة؛ كالأعرج، والأعور، وغيرهما. ثانيا: من الأدلة على تحريم التطير 1- قول الله عز وجل عن آل فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] ؛ فآل فرعون كانوا إذا أصابهم بلاء وقحط تطيروا -تشاءموا- بموسى عليه السلام ومن معه، وقالوا: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصابنا بشؤمهم. فأخبر عز وجل أن ما قضى عليهم وقدر لهم، إنما جاءهم من قبل كفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله2. ففي هذه الآية نهي عن التطير، ووعيد فيه3. 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة" 4.

_ 1 فتح الباري لابن حجر 10/ 212-213. وانظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 142-143. 2 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424. 3 انظر فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424. 4 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الطيرة. وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا عدوى.

3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة، وخيرها الفأل". قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" 1. ما الفرق بين الطيرة وبين الفأل؟ الطيرة سوء ظن بالله عز وجل، وصرف شيء من حقوقه عز وجل لغيره، وتعلق للقلوب بمخلوق لا ينفع ولا يضر. والفأل حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم "إنما كان يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به عز وجل، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال" 2. 4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك، الطيرة شرك. وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" 3، وزيادة: "وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل"، أي: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك؛ ولكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر، أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده4. ثالثا: حكم الطيرة: الطيرة محرمة شرعا، وهي من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد، لما فيها من سوء الظن بالله، وتعلق القلوب بغيره، وصرف شيء من حقوقه لغيره. وتنقلب إلى شرك أكبر إذا اعتقد أن هذه الأشياء التي تطير بها فاعلة بنفسها، أو سبب مؤثر في جلب النفع ودفع الضر. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك". رابعا: حصول التطير عند بعض المؤمنين، وعلاجه: الطيرة التي في الأفعال والأقوال تكون من بعض المؤمنين؛ فقد يقع في نفس الإنسان شيء من التطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل عليه.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الطيرة، وباب الفأل. وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم. 2 فتح الباري لابن حجر 10/ 215. وانظر: حياة الحيوان الكبرى للدميري 2/ 98. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص434-435. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للأطرم ص65. 3 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة، والترمذي في جامعه، كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة- وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، كتاب الطب، باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة. وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم 429". 4 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص440.

فالتطير أمر قد يقع من الإنسان، كما قال ذلك الصحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنا أناس يتطيرون. قال صلى الله عليه وسلم: "ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه؛ فلا يصدنكم" 1؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تأذي الإنسان وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده2. والطيرة هي ما أمضاك، أو ردك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك"، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" 3. وهذا من العلاج؛ فإن الإنسان إذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداءا، لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه4. فعلاج هذا التطير الذي يقع في نفس الإنسان، يكون بصدق التوكل على الله عز وجل، واعتقاد أنه وحده هو النافع والضار. ويضاف إلى صدق الالتجاء: الدعاء الذي علمناه الرؤوف بنا، الحريص علينا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم: "اللهم لا خير إلا خيرك". وكذلك الدعاء الآخر: "فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك"5؛ ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وهودعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا، ولا تدفع ضرا6.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. 2 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص430. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 220. والطبراني في المعجم الكبير 5/ 105. وصححه الألباني السلسلة الصحيحة رقم 1065. 4 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص441. 5 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة. وإسناده ضعيف كما ذكر الألباني في ضعيف الجامع رقم199. 6 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص438.

المبحث الثالث: وسائل الشرك المنافية للتوحيد، أو لكماله

المبحث الثالث: وسائل الشرك المنافية للتوحيد، أو لكماله تمهيد ... المبحث الثالث: وسائل الشرك المنافية للتوحيد، أو لكفاله تمهيد: رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل ما ينقضه، أو ينقصه، وحذر أمته من المساس به، وسد كل طريق يؤدي إلى نقيضه، أو يخدش كماله، وشبه حرصه على أمته بقوله: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يحجزهن، ويغلبنه، فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها " 1؛ فهو الرحيم بأمته صلى الله عليه وسلم، الرؤوف بهم، الحريص على وقايتهم من سبل الغواية، وحمايتهم من كل ما يكون سببا في هلاكهم. ولكن بعض هذه الأمة عصت نبيها بفعل بعض ما نهاها عنه وحذرها منه، واتبعت خطوات الشيطان الذي زين لهم الباطل ودعاهم إليه، وكانت من نتيجة هذا العصيان: الوقوع في نقيض التوحيد2، أو فيما ينقص من كماله3. ولا ريب أن هؤلاء قبل أن يقعوا فيما وقعوا فيه، كانوا قد سلكوا وسائل حذروا من سلوكها، وطرقا كان قد طلب منهم أن لا يطرقوها. ومعرفة هذه الوسائل من الأمور المعينة على تجنبها. ويمكن بيان بعضها في المطالب التالية:

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي. وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيره مما يضرهم. 2 نواقض التوحيد هي: الأمور التي إذا وجدت عند العبد خرج من دين الله بالكلية، وأصبح بسببها كافرا، أو مرتدا عن دين الإسلام. وهي كثيرة، تجتمع في الشرك الأكبرن والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر. "انظر مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص61". 3 منقصات التوحيد هي: الأمور التي تنافي كمال التوحيد، ولا تنقضه بالكلية؛ فإذا وجدت عند المسلم نقص توحيده، ولم يخرج من دين الإسلام. وهي المعاصي التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر. وعلى رأس هذه المعاصي: الشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر. "انظر المرجع السابق".

المطلب الأول: التوسل البدعي، والتوسل الشرعي، وأنواعه

المطلب الأول: التوسل البدعي، والتوسل الشرعي، وأنواعه سبب إدخال التوسل في هذا المبحث: إنما أدخلنا التوسل في الوسائل المنافية للتوحيد أو لكماله، لأن التوسل إلى الله بذات أو جاه أحد مخلوقاته محذور من وجهين: أحدهما أنه أقسم على الله في دعائه بأحد مخلوقاته، ولا يجوز الحلف بغير الله عز وجل كما تقدم1. والمحذور الثاني أنه اعتقد أن لأحد على الله حقا، وليس للعباد حق على الله إلا ما أوجبه عز وجل على نفسه من نصرة المؤمنين، وإنجاء الموحدين، وإثابة المطيعين، واستجابة دعاء الداعين2. معنى التوسل لغة: يقال: وسل فلان يسل إلى الله بالعمل وسلا: رغب وتقرب. ووسل فلان إلى الله، وتوسل وسيلة وتوسيلا: أي عمل عملا تقرب به إليه. وأنا متوسل إليه بكذا، وواسل، ووسلت إليه، وتوسلت إلى الله بالعمل: تقربت3. معنى التوسل شرعا: يعرف التوسل شرعا بأنه: التقرب إلى الله عز وجل بطاعته، وعبادته، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل عمل يحبه ويرضاه4. أو: عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة5. من أدلة التوسل الشرعي: 1- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} [المائد: 35] ؛ أي تقربوا إلى الله بطاعته، والعمل بما يرضيه6. 2- قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] ، والوسيلة: هي القربة7.

_ 1 انظر ص133-134 من هذا الكتاب. 2 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز والحنفي 1/ 294-296. 3 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص675. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص1378. ولسان العرب لابن منظور 11/ 724. والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 185. والمعجم الوسيط ص1032. 4 انظر التوصل إلى حقيقة التوسل لمحمد نسيب الرفاعي ص12. 5 انظر مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين 5/ 279. 6 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 159، وتفسير ابن كثير 2/ 55. 7 انظر: تفسير ابن كثير 2/ 55. وأضواء البيان للشنقيطي 2/ 86.

أقسام التوسل: التوسل ينقسم إلى قسمين: توسل شرعي، وتوسل بدعي. فالتوسل الشرعي: هو ما كان ثابتا بالشرع؛ بأن يدل عليه دليل من الكتاب أو السنة. والتوسل البدعي: هو ما لم يدل عل جوازه دليل، أو وجد الدليل؛ ولكنه لم يثبت، ووجد من الدلة الثابتة ما يناقضه1. أنواع التوسل الشرعي وأدلته: التوسل المشروع هو كل توسل دل على جوازه نص من الكتاب أو السنة، والمراد به هنا: اتخاذ وسيلة لإجابة الدعاء؛ بأن يجعل الداعي في دعائه ما يكون سببا في قبوله2. وهذا التوسل لا يعلم إلا من طريق الشرع. وهو أنواع، منها3: 1- التوسل بالله عز وجل؛ بذاته المقدسة، أو بأسمائه الحسنى، أو صفاته العلى، أو أفعاله، ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" 4. 2- التوسل بالأعمال الصالحة. ودليل ذلك من كتاب الله، قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] ، ومن السنة: قصة النفر الثلاثة الذين توسلوا بأعمالهم الصالحة؛ من بر الوالدين، وترك الفواحش، وأداء الحقوق، فاستجاب الله عز وجل لهم5.

_ 1 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي العواجي ص41. 2 انظر التوسل حكمه وأقسامه لابن عثيمين والألباني ص13. 3 انظر شرح نواقض التوحيد للعواجي ص42-43. 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 391، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند رقم3712: إسناده صحيح. وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم199". 5 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. "صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيرا فترك أجره. وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصاب الغار الثلاثة".

3- التوسل بدعاء الغير: ودليل ذلك قوله عز وج حكاية عن أبناء يعقوب عليه السلام: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] ، ومن السنة دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعكاشة بن محصن رضي الله عنه أن يجعله الله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب -لما سأله ذلك1. والأدلة على أنواع التوسل المشروع من الكتاب والسنة كثيرة جدا، وما ذكرته قليل من كثير. التوسل البدعي: سبق الحديث عن أنواع التوسل المشروع، وذكرنا منها: التوسل بدعاء الغير، ومثلنا له بصنيع الصحابة رضي الله عنه، وتوسلهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا النوع هو الذي أسيء فهمه؛ فظن المخالفون للكتاب والسنة أن المراد التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم. مع أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه -عليه الصلاة والسلام- حال حياته؛ كما فعل ذاك الأعرابي الذي دخل عليه وهو يخطب، فسأله الدعاء2؛ وكذلك الصحابي الذي سأله أن يدعو الله أن يجعله ممن يدخلون الجنة بغير حساب3، وغير ذلك. وهذا التوسل إنما يكون في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد موته، فلا يجوز. من أجل هذا لما أجدب الناس في عهد عمر رضي الله عنه لم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم؛ بل استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما قاله: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" 4. فسقاهم الله عز جل.

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين؛ "صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب". 2 صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة. وصحيح مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء. 3 تقدم تخريجه في ح"1". 4 صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.

وهذا توسل من الصحابة رضي الله عنهم بدعاء العباس رضي الله عنه، لا بذاته حال حياته، وهو شبيه بتوسلهم بدعاء نبيهم صلى الله عليه وسلم في حياته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة رضي الله عنه، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته1. والتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم مقيد بقيدين: أحدهما: أن يكون التوسل حال حياته صلى الله عليه وسلم. وهذا يوضحه توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما التوسل بدعائه وشفاعته -كما قال عمر، فإنه توسل بدعائه لا بذاته. ولهذا عدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل بذاته، لكان هذا أولى من التوسل بالعباس؛ فلما عدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس، علم أن ما كان يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما2. هذا عن القيد الأول. أما الثاني: فهو خاص بالمتوسل به، وهو النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته؛ فلا بد أن يقوم بعمل ما. وهذا يؤكد أن التوسل ليس بذاته، وغنما هو بدعائه وتضرعه إلى الله. ويوضح ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما توسل الأعرابي بدعائه وهو على المنبر: رفع يديه، وقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" 3. فالتوسل المشروع: ما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم حال حياته، لا كما فهم من خالف قوله الكتاب والسنة: أنه توسل بالشخص أو الذات أو الجاه، لا بالدعاء، فأحدثوا عبادة لم ترد في النصوص الشرعية، فسمي ما أحدثوه بدعة، وأطلق على التوسل الذي أحدثوه: "التوسل البدعي". وقد تمسك هؤلاء بأدلة من تأملها وجد أنها حجة عليهم، لا لهم. ومن هذه: حديث استسقاء عمر بالعباس، وقد تقدم أنه نص في أن التوسل بدعاء الشخص، يكون حال حياته، لا بعد مماته، بدليل عدول الصحابة رضي الله عنه، وهم أفضل الأمة عن التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بعمه العباس رضي الله عنه4.

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص80-181. 2 قاعدة جليلة في التوسل والوسييلة لابن تيمية ص82. 3 تقدم تخريجه ص154، ح"2" من هذا الكتاب. 4 انظر ما تقدم في هذه الصفحة والتي قبلها. وانظر كتاب التوسل حكمه وأقسامه ص45-57.

ومنها حديث الأعمى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له أن يعافيه، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به بعد أن يتوضأ ويصلي ركعتين -كوسيلة بين يدي الدعاء1. وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته، ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم بدعائه لهذا الأعمى، رد الله عز وجل عليه بصره، لا بتوسل الأعمى بذاته صلى الله عليه وسلم وجاهه. ولو كان السر في دعاء الأعمى وحده وتوسله بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه دو دعائه؛ لكان كل من دعا بهذا الدعاء من العميان مخلصا، يعافى من وقته أو بعد حين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكذلك لو كان كل أعمى توسل به ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة، أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى. فعدلوهم عن هذا إلى هذا -مع أنهم السابقون الأولون؛ المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ فإنهم أعلم منا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما يشرع من الدعاء وما ينفع، وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت رورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن -دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه2. واستدلال المخالفين بحديث الأعمى على جواز التوسل بالذات أو الجاه مردود لما يلي: 1- إن الأعمى إنما جاء طالبا الدعاء؛ فالمسألة من بدايتها توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. 2 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء، وهو صلى الله عليه وسلم لا يخلف وعده أبدا. وقد دعا له كما وعده. 3- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الأعمى دعاء يدعو به، وفيه قوله: "اللهم فشفعه في، وشفعني فيه". والشفاعة هي الدعاء. "فشفعه في": أي شفع نبيك صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعاءه لي بأن ترد علي بصري. "وشفعني فيه"؛ أي اقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لي3. وثمة أدلة أخرى استدلوا بها، كلها في مصاف الموضوعات، التي لا تنهض بها الحجة4.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 138. والترمذي في جامعه، كتاب الدعوات، باب 119، وقال: حسن صحيح غريب، والحاكم في المستدرك 1/ 519، وقال: صحيح الإسناد. ووافقته الذهبي. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 326. 3 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 287-387. والتوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي ص229-232، والتوسل حكمه وأقسامه ص59-66. 4 انظر: مجمموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 142-368، وكذلك: ما جمعه علي بن حسين أبو لوز من شبهاتهم في كتاب: التوسل حكمه وأقسامه ص79-103.

المطلب الثاني: اتخاذ القبور مساجد، والبناء عليها، والصلاة إليها من الوسائل المفضية إلى الشرك

المطلب الثاني: اتخاذ القبور مساجد، والبناء عليها، والصلاة إليها من الوسائل المفضية إلى الشرك تمهيد: ذكرنا فيما مضى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان حريصا على حماية جناب التوحيد1. ومن مظاهر حرصه صلى الله عليه وسلم، تلك الأحاديث الكثيرة التي قالها يحذر أمته عن سلوك الطرق التي تفضي إلى الشرك من اتخاذ القبور مساجد، أو البناء عليها، أو الصلاة إليها. ويمكن تصنيف هذه الأحاديث وفق الموضوعات التالية: أولا- أحاديث تنهى عن اتخاذ القبور مساجد، أو البناء عليها: ومنها: 1- ما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 2. ويلاحظ الوعيد في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "أولئك شرار الخلق عند الله"، وهذا الوعيد يتناول من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعنى اتخاذها مساجد: أي بناء المساجد عليها3. ومعلوم أن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام، أو أشد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، هي التي أوقعت كثير من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد4. فنهى صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد عليها حسما لمادة الشرك، وسدا للطرق المفضية إليه.

_ 1 انظر ص151 من هذا الكتاب. 2 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 3 انظر فتح الباري لابن حجر 1/ 524. 4 نقل ذلك عنه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص312.

2- ما روته أم المؤمنين عائشة، وابن عباس رضي الله عنه قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه؛ فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبرهن غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا1؛ أي: لولا نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ عليه الحائل. فلعن -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث من كان قبلنا، وأنكر عليهم. وإنكاره صنيعهم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم. والثاني: أنهم يجوزون الصلاة في دافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم النبياء. والأول هو الشرك الجلي، والثاني الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن2. 3- ما رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 3. ولهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم "بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبرة صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وتحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من جهة الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره"4. 4- ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه5.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب 55. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص327. 3 صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 4 المفهم شرح صحيح مسلم للقرطبي 2/ 932. 5 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.

ويلاحظ النهي عن البناء على القبور في هذه الأحاديث، واللعن على ذلك؛ "فهذا التحذير منه صلى الله عليه وسلم، واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا، ودليل على الحذر من جنس أعمالهم؛ حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكن من هذا الجنس، ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة؛ من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم، ملعون فاعله بالمستفيض من السنة"1. 5- ما رواه أبو الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2؛ ففي قوله: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته": الأمر بتغييير صور ذوات الأرواح3. وقوله: "ولا قبرا مشرفا إلا سويته": أي لا يرفع القبر على الأرض رفعا كثيرا، ولا يسنم، بل يرفع نحو شبر، ويسطح4. قال العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله: "اعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها"5. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يجوز البناء على القبور، ولا تجصيصها4، واستدل بالحديثين السابقين. ثانيا: أحاديث تنهى عن الصلاة إلى القبور، أو اتخاذها عيدا: ومنها: الأحاديث التي تقدمت بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، دليل واضح في النهي عن الصلاة إليها؛ لأن من قصد القبور للصلاة عندها، أو إليها، فقد اتخذها مساجد وأعيادا، وارتكب ما نهى الله ورسوله عنه، ووقع في وسيلة من وسائل الشرك الأكبر6.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/ 295. 2 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. 3 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7- 36. 4 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 177-178.5 شرح الصدور بتحريم رفع القبور للشوكاني ص17. 6 انظر الإرشاد إلى توحيد رب العباد للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص97.

وقد دلت أحاديث كثيرة على تحريم الصلاة إلى القبور، أو اتخاذها عيدا، ومن ذلك: 1- ما رواه أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا إليها" 1؛ ففيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر. قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذا الحديث: فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور؛ لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لهذا الحديث الصحيح، ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء. وإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله، فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى3. 2- ما رواه أبو هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 4. فإذا كان هذا في حق قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل قبر على وجه الأرض، فكيف بقبر غيره من البشر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذا الحديث: "ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الرض. وقد نهى عن اتخاذه عيدا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا": أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور. فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور5.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. 2 شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 38. 3 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص294-295. 4 أخرجه افمام أحمد في المسند 2/ 367. وابو داود في السنن، كتاب المناسك، باب زيارة القبور. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 383. 5 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 657.

وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله أن من أعظم المحدثات وأسباب الشرك بالقبور: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه1. ولصحة هذه النصوص وتواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنوع الوعيد الوارد فيها، أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وجميع من سار على نهجهم على تحريم اتخاذ المساجد على القبور، أو البناء عليها، أو الصلاة إليها. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه تحذيرا لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته، قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم2. ملاحظة: لا يجوز الطواف بالقبور، ويعتبر شركا؛ لأن الطواف بالكعبة عبادة لله عز وجل؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ؛ ولا يجوز صرف هذه العبادة لغير الله تعالى. والطواف بالقبور يعتبر تعظيما وعبادة لصاحب القبر، وفيه مضاهاة للطواف بالكعبة. والله عز وجل إنما شرع حج بيته، والطواف به، ولم يشرع الطواف عند غيره؛ فالطواف ببيته سبحانه وتعالى توحيد وعبادة ونفي للشرك؛ لأن المعبود بحق أمرنا أن نصرفه إليه في ذلك المكان. قال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] 3.

_ 1 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص313. 2 انظر المرجع نفسه ص315. 3 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص50.

المطلب الثالث: الغلو في الأنبياء والصالحين، والتبرك بآثارهم من الوسائل المفضية إلى الشرك

المطلب الثالث: الغلو في الأنبياء والصالحين، والتبرك بآثارهم من الوسائل المفضية إلى الشرك تمهيد: أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط، وهي الأمة المجانبة للغلو والإجحاف، فلا إفراط عندها ولا تفريط. وقد نهيت هذه الأمة عن الغلو على لسان رسولها صلى الله عليه وسلم، في قوله: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" 1. والنهي عن الغلو نهي عن الشرك؛ لأن الغلو مطية الشرك باله عز وجل، والشرك بالله أعظم ذنب عصي الله عز وجل به. لذلك يجب على أبناء هذه الأمة الحذر منه، لئلا يهلكوا كما هلك من كان قبلهم، فيخسروا دنياهم، ويوبقوا أخراهم. ومن مظاهر الغلو الذي نهينا عنه: الغلو في الأنبياء والصالحين؛ فإن الشياطين ما اجتالت البشرية عن فطرتها التي فطرها الله عليها، إلا بالغلو في رجال صالحين، حتى قال قائلها: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . وبيان هذا المظهر من مظاهر الغلو الذي نهينا عنه يمكن في المسائل التالية: المسألة الأولى: المبالغة في مدح الأشخاص المخلوق له منزلة لا يتعداها. فإن جاوز الناس فيها حدها؛ فقد غلوا فيه. وإنما حدثت عبادة الأصنام بسبب الغلو في المخلوق، وإنزاله فوق منزلته، حتى جعل فيها حظ من الإلهية، وشبه بالله تعالى. وهذا هو التشبيه الذي أبطله الله عز وجل، وبعث رسله بإنكاره، والرد على أهله2.

_ 1 أخرجه النسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى. وابن ماجه في السنن، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 176-177. 2 الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 445.

ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وأفضل الأنبياء والمرسلين، وأول شافع وأول مشفع قد حذرنا من الغلو فيه، والإسراف في مدحه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني1 كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله رسوله" 2. وحين جاءه ناس فقالوا له: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: "يا أيا الناس! قولو بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وأنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" 3. فإذا كان هذا النهي في حقه صلى الله عليه وسلم: أن لا يزاد في مدحه، فغيره أولى أن لا يزاد في مدحهم. وليست المبالغة في مدحه صلى الله عليه وسلم دليلا على محبته، فإن المحبة إنما تعلم بالاتباع، ولو كان هؤلاء المسرفين في المدح صادقين في حبه صلى الله عليه وسلم، لامتنعوا عن الغلو فيه؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمرنا أن ننتهي عما نهانا عنه. يقول صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 4. ونحن نحبه صلى الله عليه وسلم، وهو أحب إلينا من أنفسنا، وآبائنا، وأبنائنا، وأهلينا، وأموالنا. ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، وفعل ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. فلا نفعل ما نهانا عنه من الغلو فيه، ومجاوزة الحد في شخصه الكريم. المسألة الثانية: تصوير الأنبياء والصالحين، واتخاذ تماثيل لهم: لقد كان سبب وقوع أول شرك في بني آدم، هو الغلو في الأشخاص وتقديسهم، واتخاذ تماثيل لهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-

_ 1 الإطراء: المدح والزيادة في الثناء. "المعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص556". 2 صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 153، 241. 4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع؛ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحي الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت" 1. فـ "أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح عليه السلام، وكانت البناء تبر الآباء، فمات رجل منهم، فجزع عليه، فجعل لا يصبر عنه؛ فاتخذ مثالا على صورته، فكلما اشتاق إليه نظره، ثم مات ففعل به كما فعل، حتى تتابعوا على ذلك. فمات الآباء، فقال الأبناء: ما اتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم. فعبدوها2. فكان تساهلهم في تصوير هؤلاء الصالحين وتعليق صورهم في مجالسهم، من أسباب عبادة ذريتهم لهذه التماثيل من دون الله عز وجل. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "إنما فعل ذلك أوائلهم ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم؛ فمضت لهم بذلك أزمان. ثم إنه خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فعبدوها. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك"3. وقد دلت الأحاديث الكثيرة على تحريم التصوير، خشية أن يؤدي تعليقها، والافتتان بها إلى عبادتها من دون الله عز وجل، ومن هذه الأحاديث:

_ 1 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . 2 فتح الباري لابن حجر 8/ 669. 3 المفهم شرح صحيح مسلم للقرطبي 2/ 931-932. وانظر: الجامع لأحكام القرآن له 18/ 198-199. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 249.

1- ما تقدم عن أبي الهياج الأسدون، من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1. 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 2، وفيه حرمة تصوير الحيوان. قال النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره، فصنعه حرام3. 3- وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: يا أبا عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير؛ فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا" فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه. فقال ابن عباس: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع؛ فعليك بهذا الشجر؛ كل شيء ليس فيه روح4. 4- وقد دخل أبو هريرة رضي الله عنه إلى دار مروان بن الحكم، فرأى فيها تصاوير. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 5.

_ 1 تقدم تخريجه ص159 من هذا الكتاب. 2 صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة. وصحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه. 3 نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 10/ 384. 4 صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح، وما يكره من ذلك. 5 صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب نقض الصور. وصحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان. واللفظ لمسلم.

المسألة الثالثة: التبرك بآثار الأنبياء والصالحين التبرك: طلب البركة، والبركة: كثرة الخير، وزيادته، واستمراره1. والشيء الذي يتبرك بهن قد يكون فيه بركة دينية، وقد يكون فيه بركة دنيوية، وقد يكون فيه بركة دينية ودنيوية معا. فمثال الأول: المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لما فيها من الأجر العظيم لمن صلى فيها، وغير ذلك. ومثال الثاني: الماء واللبن، لما فيهما من المنافع الدنيوية الكثيرة. ومثال الثالث: القرآن؛ ففيه منافع دينية ودنيوية كثيرة. ويكفي أن من تمسك به أفلح في الدنيا والآخرة، وهو شفاء للقلوب والأبدان2. والتبرك المقصود في هذه المسألة، هو التبرك بالأشخاص، وهو ينقسم إلى قسمين: 1- تبرك بذواتهم. 2- وتبرك بآثارهم. وكلا النوعين يكون شركا إذا اعتقد المتبرك أن المتبرك به يهب البركة بنفسه؛ فيبارك في الأشياء استقلالا، أو يطلب منه الخير والنماء فيما لا يقدر عليه إلا الله. وإنما قلنا بأنه شرك لأن الله موجد البركة وواهبها، والعباد سبب، يقول صلى الله عليه وسلم حين تفجر الماء من بين أصابعه: "البركة من الله" 3، ويقول -عليه الصلاة والسلام- مخاطبا مولاه عز وجل: "والخير كله في يديك" 4. أما إذا لم يعتقد المتبرك في المتبرك به أنه واهب البركة، بل نسب ذلك إلى الله عز وجل، فالأمر فيه تفصيل؛ لأن المتربك به قد يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون غيره من الأولياء والصالحين. أولا: المبترك به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان المتبرك به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم مبارك في ذاته وآثاره، كما كان مباركا في أفعاله5.

_ 1 انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 230. وتهذيب اللغة للأزهري 10/ 231. 2 انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع ص43. ومذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص93. 3 صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب البركة، والماء المبارك. 4 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. 5 انظر التبرك: أنواعه وأحكامه للدكتور ناصر الجديع ص243.

ولقد تبرك صحابته رضي الله عنهما بذاته صلى الله عليه وسلم، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم في حياته، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر عليهم. ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا ومن أتى بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، مما يدل على مشروعية هذا التبرك1. فقد تبركت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بيده الشريفة؛ فكانت تقرأ عليه بالمعوذات حين اشتد وجعه، وتمسح عليه بيده نفسه، رجاء بركتها، كما قالت2. وكان الصحابة رضي الله عنهم يمسحون بيديه صلى الله عليه وسلم، ويضعونها على وجوههم رجاء بركتها3. وكانوا يتبركون بشعره صلى الله عليه وسلم، وقد أقرهم على ذلك، بل إنه وزعه عليهم4. وكانوا يتبركون بعرقه5 وبريقه6 صلى الله عليه وسلم، وبنخامته فيدلكون بها وجوههم وجلودهم7. وكتب السنة مليئة بتبرك أولئك الأخيار بسيد المصطفين الأطهار صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته8. ولقد كانت أعظم بركة نالوها: اتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، والسير على منهاجه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه. فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة. بل كل مؤمن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعه حصل له من بركة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله9.

_ 1 انظر المرجع نفسه ص244. 2 تقدم تخريج حديثها في ص138، ح"4" من هذا الكتاب. 3 انظر صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به. 4 انظر صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر: أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق. 5 انظر صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به. 6 انظر صحيح البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه، وصحيح مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته. 7 انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب. 8 انظر تفصيل ذلك في كتاب: التبرك: أحكامه وأنواعه للدكتور ناصر الجديع ص243-26. 9 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 113.

ثانيا: المتبرك به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من الأولياء والصالحين: لم يرد دليل صحيح يجيز التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل التبرك بأجساد الصالحين وآثارهم يدخل في دائرة التبرك البدعي؛ لذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بأحد من الصالحين؛ فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت، ولا غيرهم. ولو كان خيرا لسبقونا إليه؛ لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير1. وقد أمعوا كلهم رضي الله عنهم على ترك التبرك بجسد أو آثار أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم2. فدل ذلك على عدم مشروعية هذا التبرك. ولا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من البشر لوجوه3؛ منها: 1- عدم المقاربة؛ فضلا عن المساوة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة؛ فليس أحد من الأولياء أو الصالحين يقاس برسول الله صلى الله عليه وسلم في فضله أو بركته. 2- عدم تحقق الصلاح؛ فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب. وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص؛ كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين، ومن اشتهر بصلاح ودين، كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأئمة بالصلاح. أما غيرهم؛ فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون، فنرجو لهم. 3- لو ظننا صلاح شخص، فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء. والأعمال بالخواتيم. فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره. 4- أن الصحابة رضي الله عنه لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير رسولنا صلى الله عليه وسلم لا في حياته، ولا بعد موته ولو كان خيرا لسبقونا إليه. إذا ليس لأحد أن يتبرك بجسد أو آثار أحد كائنا من كان، لإجماع الصحابة على ترك التبرك بأجساد أو آثار غيره صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين.

_ 1 مذكرة في العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص95. 2 ممن نقل إجماعهم على ذلكك الإمام الشاطبي في الاعتصام 2/ 8-9. والعلامة صديق حسن خان في الدين الخالص 2/ 249-250، والشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص186. والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد ص188، وغيرهم. 3 انظرها في تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ص186.

المطلب الرابع: الأعياد والاحتفالات البدعية من الوسائل المفضية إلى الشرك

المطلب الرابع: الأعياد والاحتفالات البدعية من الوسائل المفضية إلى الشرك تمهيد: شرع الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيدين سنويين، وعيدا أسبوعيا؛ ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد: عيد يتكرر كل أسبوع، وعيدان يأتيان في كل عام مرة مرة، من غير تكرر في السنة1، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى. فلا يجوز إحداث أعياد أو احتفالات أخرى. بل كل ما أحدث يدخل تحت مسمى البدعة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 2. قول الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأصل هذا أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا، إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيدا، وهو يوم الفطر، ويوم الأضحى وأيام التشريق، وهي أعياد العام، ويوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع. وما عدا ذلك فاتخاذه عيدا وموسما بدعة لا أصل له في الشريعة3. وقد أدث الناس أعيادا لم يشرعها الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فابتدعوا في دين الله، وزادوا فيه ونقصوا، وعارضوا بصنيعهم قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: من الآية3] . وقد قسم الدكتور عبد الله بن جبرين ما أحدثه الناس من الأعياد والاحتفالات إلى ثلاثة أنواع4:

_ 1 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص480. 2 صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة. 3 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص228. 4 انظر مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص161-169.

النوع الأول: أيام لم تعظمها الشريعة أصلا، ولم يحدث فيها حادث له شأن، ومن أمثلة هذا النوع: ما أحدث في شهر رجب من عبادات؛ صلاة، أو صيام، أو زكاة، أو غير ذلك. يقول الحافظ ابن رجب: فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب، وباطل لا تصح. وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء1. وأماالصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنه1. وأما الزكاة فقد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب، ولا أصل له في السنة، ولا عرف عن أحد من السلف2. النوع الثاني: أيام وليالي جاء في الشرع ما يدل على فضلها؛ فهذه يتقييد المسلم بالعبادات المشروعة فيها، ولا يحدث عبادات ليس لها أصل في الشرع، ومن أمثلة هذا النوع ما أحدث في ليلة النصف من شعبان من صلاة الألفية، وغير ذلك. وهذه الصلاة المحدثة -كما ذكر العلامة ابن القيم- وضعت في الإسلام بعد أربعمائة سنة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم3. النوع الثالث: أيام وليالي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها، أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها. ومن أمثلة هذا النوع: 1- حادثة الإسراء والمعراج: فالإسراء والمعراج حادثتان ثابتان في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يرد في تحديد وقتهما حديث صحيح ولا ضعيف. بل ليس هناك ما يعتمد عليه في تحديد الشهر الذي حدثتا فيه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يقم دليل علوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به4.

_ 1 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص228. 2 المصدر نفسه ص231. 3 انظر المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم ص99. 4 نقله عنه تلميذه ابن القيم في كتابه: زاد المعاد 1/ 57. وانظر فتح الباري لابن حجر 7/ 203، فقد ذكر اختلاف الناس الكبير في تحديد وقتها.

ولو ثبت أن هذه الحادثة وقعت في ليلة بعينها، فلا يجوز تخصيصها، أو تفضيلها على غيرها من الليالي بشيء من العبادات، لعدم ورود الشرع بشيء من ذلك. ومن فعل شيئا من ذلك فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه. يقول الشيخ علي محفوظ رحمه الله عن ابتداع أصحاب هذا العصر احتفالات ما أنزل الله بها من سلطان: ومنها ليلة المعراج التي شرف الله تعالى هذه الأمة بما شرع لهم فيها، وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبا كثيرة؛ كالاجتماع في المساجد، وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات، مع الإسراف في ذلك، واجتماعهم للذكر والقراءة، وتلاوة قصة المعراج1. 2- حادثة المولد النبوي: لم يستطع العلماء تحديد ليلة بعينها ولد فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل ولا شهر بعينه، وبينهم في ذلك خلاف مشهور؛ فمنهم من قال إنه ولد في رجب، ومنهم من قال في رمضان، ومنهم من قال في ربيع الأول. حتى من قالوا إنه صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع الأول اختلفوا في تحديد يوم مولده: أهو الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر، أو الثامن عشر، أو الثاني والعشرين2. وأتى العبيديون في القرن الرابع الهجري، فجزموا أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في شهر ربيع الأول؛ في الثاني عشر منه، وأحدثوا الاحتفال فيه3، فخالفوا ما عليه المسلمون طيلة أربعة قرون. على الرغم من عدم وجود ما يرجح قولهم. والذي أجمع عليه العلماء: أن الأمة الإسلامية أصيبت في هذا الشهر بأعظم مصاب، وهو وفاته صلى الله عليه وسلم، والذي عليه جمهورهم أيضا: أنها كانت في الثاني عشر من هذا الشهر4.

_ 1 الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ ص141. 2 انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 100-101. والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 158. وتاريخ الإسلام للذهبي -قسم السيرة ص25-26-. والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 373-380. 3 انظر المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي 1/ 423-433. 4 انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 272-275. وتاريخ الإسلام للذهبي -قسم السيرة ص568-571-. وفتح الباري لابن حجر 8/ 129. ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص212.

فمن احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، وفي الثاني عشر منه، فإنما يحتفل بمصاب الأمة؛ لما تقدم من إجماع العلماء على أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول، وقول جمهورهم أنها في الثاني عشر منه. وليس من محبته أن نقيم احتفالا يوم وفاته. ولو فرض أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في هذا الشهر، وفي الثاني عشر منه، لما جاز لأحد أن يحتفل بهذه المناسبة؛ لعدم ورود دليل شرعي يجيز ذلك؛ ولأن الصحابة رضي الله عنه لم يفعلوه، مع أنهم أشد اتباعا له صلى الله عليه وسلم، وأشد حبا ممن أتى بعدهم. وكذلك لم يفعله أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ فلو كان خيرا لسبقونا إليه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا: فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له، وعدم المانع فيه لو كان خيرا. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وغنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان1. ولا أدل على عدم احتفال السلف الصالح بالمولد النبوي من اختلافهم في تعيين تاريخ ولادته صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان يشرع فيها شيء من العبادات -على سبيل الافتراض- لعينها الصحابة واهتموا بها، ولكانت معلومة مشهورة2. "وبالجملة فإنه ينبغي للمسلم الذي يحب الله تعالى، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وولده، أن يسير على خطى ومنهج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي- وأن يكثر من قراءة وحفظ الكتاب الذي أنزل عليه، ومن حفظ وتدارس سنته وسيته في كل أيام وليالي العام، وأن يكثر من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات، وبالأخص في كل يوم جمعة وليلتها من كل أسبوع3.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 615. 2 التبرك: أنواعه وأحكامه للجديع ص363. 3 مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور ابن جبرين ص168.

الفصل الثاني: الكفر، وأنواعه

الفصل الثاني: الكفر، وأنواعه المبحث الأول: معنى الكفر معنى الكفر لغة: الكفر في اللغة: الجحود. وأصله من الكفر، وهو الستر والتغطية. يقال: كفر الشيء كفرا: ستره وغطاه. ويقال: كفر الزارع البذور بالتراب، غطاها وسترها؛ فهو كافر. وكفر التراب ما تحته: غطاه. وكفر الليل الأشياء بظلامه، غطاها وسترها، فهو كافر، وتكفر بالشيء: تغطى به وتستر. وكفر نعمة الله، وكفر بها كفورا وكفرانا: جحدها وسترها1. معنى الكفر في الشرع: الكفر ضد الإيمان، ويعرف شرعا بأنه: جحد ما لا يتم الإسلام بدونه. أو جحد ما لا يتم كمال الإسلام بدونه2. والصلة بين المعنيين: أن جاحد الحق كأنه ساتر له، مغطية، وجاحد نعم الله: كأنه ساتر لها، مغطيها3. ملاحظة هامة: التكفير من الأحكام الشرعية -التي يطلقها الشارع؛ فلا يجوز لأحد إطلاقه بمجرد الهوى، أو بقياس عقلي، أو نحو ذلكن بل هو حق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق هذا الوصف على أحد إلا بعد استحقاقه له. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم؛ وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله4.

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص547. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 9. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص605-606. ولسان العرب لابن منظور 5/ 144. ومفردات غريب القرآن للأصفهاني ص434. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص791-792. 2 انظر: أعلام السنة المنشورة لحافظ الحكمي ص146. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص181. 3 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص605. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 545.

المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر

المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر تمهيد: الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر؛ فالكفر الأكبر اعتقادي، يخرج من الإيمان بالكلية. والكفر الأصغر عملي، ينافي كمال الإيمان، ولا ينافي مطلقه؛ فهو لا يخرج من الإيمان بالكلية، بل ينقص من كماله1. والحديث في هذا المبحث منصب على الكفر الأكبر، وهو الاعتقادي، الذي ينافي الإيمان، ويضاده من كل وجه، ويخرج صاحبه عن الدين والملة، ويوجب له الخلود في النار، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] . وغنما قلنا عن هذا النوع إنه اعتقادي، لأن مقره القلب. وقلنا إنه ينافي الإيمان ويضاده؛ لأننا عرفنا الإيمان بأنه قول وعمل؛ "قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح"؛ فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بالكلية، وإذا زال تصديق القلب، لم تنفع البقية1. والكافر جاحد غير مصدق كما بينا ذلك آنفا. والكفر الأكبر أنواع متعددة، من لقي الله بنوع منها، لم يغفر له، وقد ذكر بعضها العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله: وأما الكفر الأكبر، فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبارا وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شكن وكفر نفاق2. ومن أنواع الكفر الأكبر أيضا: كفر البغض، والكفر بدعوى علم الغيب. وسأقتصر على ذكر بعض أنواع الكفر الأكبر -بإذن الله- في المطالب التالية:

_ 1 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص147. 2 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366.

المطلب الأول: من أنواع الكفر الأكبر كفر الجحود

المطلب الأول: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الجحود" أولا: تعريفه هو أن يعرف الإنسان الحق بقلبه؛ لكنه لا يقر به ولا يعترف به بلسانه، وبالتالي لا ينقاد بجوارحه، فهو جاحد له ظاهرا، مع معرفته باطنا1. ثانيا: من الأمثلة عليه، مع الأدلة 1- كفر فرعون وقومه؛ حيث جحدوا الله عز وجل بألسنتهم، مع معرفتهم له بقلوبهم. كما قال عز وجل عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] ، وعللوا جحودهم بقولهم -كما حكى الله عنهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] . 2- كفر اليهود؛ حيث جحدوا نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره، وكتموا صفاته الموجودة في كتبهم، على الرغم من معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم، يقول عز وجل عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] ، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية 89] . ثالثا: نوعا كفر الجحود قسم العلامة ابن القيم رحمه الله كفر الجحود إلى نوعين: جحود مطلق عام، وجحود مقيد خاص؛ فالمطلق: أن يجحد جملة: ما أنزل الله، وإرساله الرسول. والخاص المقيد: أن يحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به؛ عمدا، أو تقديما لقول من خالفه عليه، لغرض من الأغراض2. رابعا: أمر يجدر التنبيه إليه من جحد شيئا مما تقدم ذكره -في أمثلة الجحود الخاص المقيد- جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به؛ كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح. ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا2.

_ 1 انظر: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص148. ومدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص337. 2 مدارج الساكين لابن القيم 1/ 176. والحديث في صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ح7508.

المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأكبر كفر الإباء والاستكبار

المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الإباء والاستكبار" أولا: تعريفه هو أن يعرف الإنسان الحق بقلبه، ويعترف به بلسانه، ولكنه يأبى أن يقبله أو يدين به؛ إما أشرا وبطرا، وإما احتقارا له ولأهله، أو لسبب آخر1. ثانيا: من الأمثلة عليه، مع الأدلة 1- كفر إبليس؛ فإنه لم يجحد أمر الله عز وجل، ولا قابله بالإنكار، وغنما تلقاه بالإباء والاستكبارا2؛ كما قال عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . 2- كفر من عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحق من عند الله عز وجل؛ عرف، وأقر بذلك، ولم يشك في صدقه؛ لكنه لم ينقد إليه إباء واستكبارا، أو أخذته الحمية وتعظيم الآباء أن يرغب عن ملتهم، أو يشهد عليهم بالكفر2. وخير من يمثل هذه الحال: أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي عرف صدق ابن أخيه، واعترف بذلك قائلا: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا3 لكن هذه المعرفة والإقرار لم ينفعاه؛ لأنه أبى أن ينقاد ويقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؛ خشية أن يقال: ترك دين آبائه وأجداده. وقد سأل العباس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال أبي طالب في الآخرة، فأجابه: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" 4؛ فهو خالد في النار، لكن عذابه أهون من غيره.

_ 1 انظر: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149. ومدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص338. 2 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366. 3 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 2/ 461. 4 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، والتخفيف عنه بسببه.

المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأكبر الكفر بدعوى علم الغيب

المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأكبر الكفر بدعوى علم الغيب أولا: تعريفه هو اعتقاد أن احدا غير الله تعالى يعلم الغيب. وهو كفر لمعارضته لقوله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] . ثانيا: من الأمثلة عليه الأمثلة على هذا النوع كثيرة، ويمكن بيان بعضها في المسائل التالية. المسألة الأولى: السحر أولا: تعريفه السحر في اللغة: ما خفي ولطف سببه1. وفي الاصطلاح: عزائم ورقى وعقد وكلام يتكلم به، أو يكتب، أو يعمل شيء يؤثر في القلوب والأبدان والعقول؛ فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه2. ثانيا: قسما السحر: السحر قسمان 3 قسم: خيالات ترهب بظاهرها، وتؤثر في القلوب، بيد أنه لا حقيقة لها؛ كسحر سحرة فرعون. قال تعالى عنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: من الآية66] . وقسم: له حقيقة؛ كالذي حدث لر سول الله صلى الله عليه وسلم3، حين سحره اليهودي لبيد بن أعصم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله، حتى أتاه ملكان؛ فقعد أحدهما عند رجليه صلى الله عليه وسلم، والآخر عند رأسه، فأخبراه بصنيع اليهودي، وأنه سحره في مشط ومشاطة؛ جعله في وعاء طلع النخل، ودفنه في بئر ذي أروان، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم4.

_ 1 انظر: الصحاح للجوهري 5/ 678. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص519. 2 انظر المغني لابن قدامة 8/ 150. 3 انظر المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 143. 4 انظر الحديث بطوله في صحيح البخاري، كتاب الطب، باب السحر، وباب: هل يستخرج السحر، وفي صحيح مسلم، كتاب السلام، باب السحر. ملاحظة: هذا الذي وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاصا لشخصه، بل هو كالأمراض التي كانت تعتريه صلى الله عليه وسلم وإصابته به كإصابته بالسم، لا فرق بينهما. "انظر: زاد المعاد لابن القيم 4/ 124".

ثالثا: حكم السحر، مع الدليل: السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع. وهو من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات. ودليل ذلك من كتاب الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] ؛ فدلت هذه الآية الكريمة على أن السحر كفر، وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه، كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا، وإنما يؤثر بغذن الله الكوني والقدري؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر. كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأنه ليس لهم عند الله من خلاق -أي من حظ ونصيب. وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان1. ودليل حرمة السحر من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله، والسحر" 2. فالسحر من الموبقات. يقول الإمام النووي رحمه الله عن السحر: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات. ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا؛ بل معصية كبيرة. فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، فهو كفر، وإلا فلا. وأما تعلمه وتعليمه فحرام3؛ فالسحر قد يكون كفرا إذا كان فيه تعظيم غي الله؛ من الجن والشياطين والكواكب وغيرهم، وإذا كان فيه ادعاء علم الغيب. وأكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله4، وحده -كما في الحديث-: "ضربة بالسيف"5. وسئل الإمام أحمد عن الساحر، فقال: إذا عرف بذلك فأقر؛ يقتل6.

_ 1 رسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ ابن باز ص7. 2 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات. 3 نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 10/ 224. وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن حكم السحر وتعلمه في الموضع نفسه. وانظر: تفسير ابن كثير 1/ 258. وأضواء البيان للشنقيطي 4/ 456. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/ 384. 5 أخرجه مالك في الموطأ 2/ 871. والحاكم في المستدرك 4/ 360 مرفوعا، ولا يصح رفعه، بل هو موقوف. 6 انظر مسائل الإمام أحمد، برواية ولده عبد الله ص247. وأحكام أهل الملل للخلال ص207.

رابعا: علاج السحر: حصل العلاج بأن يقرأ على المسحور: سورة الإخلاص، والمعوذتين، وآية الكرسي، والآيات التي ذكر فيها السحر، وخاصة التي في سورة يونس، في قوله عز وجل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] ، شريطة أن يصدر ذلك عن إخلاص، وصدق، وتوكل، وإيمان جازم بأن النافع والضار هو الله عز وجل وحده. ولو أضاف سبع ورقات من السدر الأخضر، ودقهن، ووضعهن في ماء تقرأ فيه تلك الآيات، ويحسو منها المسحور ثلاث حسوات، ويغتسل بالباقي، لكان ذلك أفضل1. المسألة الثانية: الكهانة أولا: تعريف الكاهن الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب، وهو لفظ يطلق على العراف، والرمال، والذي يضرب بالحصى، والمنجم2؛ فكل من أخبر عن المغيبات في المستقبل، هو كاهن، وكل من ادعى معرفة علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، او مشارك له في المعنى، فيلحق به3. فائدة: سئل الإمام أحمد رحمه الله: الكاهن شرا أو الساحر؟ قال: كل شر4. ثانيا: حكم الكهانة، مع الدليل الكهانة محرمة بالكتاب، والسنة، والإجماع. يقول الله عز وجل مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] . ووجه الدلالة من هذه الآية على تحريم الكهانة: أن الله عز وجل نفي الكهانة عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكهان يدعون علم الغيب. ومجرد ادعاء علم الغيب كفر بواح، فاعتبر الله عز وجل السلامة من الكهانة نعمة. ومفهوم ذلك أن الكهانة تتنافى مع نعمة الإسلام5.

_ 1 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 233-234. وأضواء البيان للشنقيطي 4/ 464. ورسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ ابن باز ص8-13. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 1/ 155. 2 فتح الباري لابن حجر 10/ 216. 3 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص414. 4 انظر أحكام أهل الملل للخلال ص208. 5 انظر أضواء البيان للشنقيطي 7/ 456.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تطير أو تطير لهن أوتكهن أو تكهن لهن أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 1؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "أو تكهن أو تكهن له" إشارة إلى أن من تلقى الكهانة عمن يتعاطها، فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففيه وعيد وتحذير من مجرد إتيان الكهان والعرافين ونحوهم ممن يدعون معرفة الغيب -ولو لم يصدقهم- ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" 2. هذا إذا سأله ولم يصدقه. أما إذا سأله، ودقهن فالوعيد أشد -والعياذ بالله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا، أو أتى امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم" 3. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله معلقا على هذا الحديث: ظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان4. فإذا كان هذا حال من أتى الكاهن، فما هو حال الكاهن نفسه؟! المسألة الثالثة: التنجيم أولا: تعريفه التنجيم -كما يزعم أهله: هو الاستدلال على الحوادث الأرضية قبل حدوثها بالنظر في الأحوال الفلكية5؛ فيخبر أهل هذه الصناعة عما سيقع في العالم مستقبلا، ويزعمون أنهم استفادوا ذلك من النظر في سير الكواكب في مجاريها، واجتماعها واقترانها، زاعمين أن لها تأثير في العالم السفلي6.

_ 1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 117، وقال: "ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقه". وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 33: "رواه البزار بإسناد جيد". 2 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، وإتيان الكهان. 3 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الكاهن. والترمذي في جامعه، كتاب الطهارة، باب ما جاء كراهية إتيان الحائض. وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 739، وفي صحيح سنن الترمذي 1/ 44. 4 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص411. 5 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 192. 6 انظر التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام للدكتور عبد المجيد المشعبي ص31-33.

ثانيا حكم التنجيم، مع الدليل: قبل الحديث عن حكم التنجيم، تجدر الإشارة إلى أن التنجيم نوعان: أحدهما: مباح، وهو ما يعرف بعلم الحساب، أو علم التسيير؛ كمعرفة وقت الكسوف، والخسوف، والرصد، وهبوب الرياح، واتجاهاتها، مع الاعتقاد الجازم أن كل شيء يجري في هذا الكون بقضاء الله وقدره. وعند الإخبار بشيء من ذلك يقيد الكلام بمشيئة الله، وبعبارة التوقع؛ فهذا قال العلماء بجوازه. ولا يدخل تحت هذه المسألة1. أما النوع الثاني: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ فيدعي المنجم أنه من خلال النظر في النجوم يمكن أن يعرف ما سيقع في الأرض؛ من نصر قوم، أو هزيمة آخرين، أو موت أو حياة، أو قيام أو زوال، أو خسارة لرجل، وربح لآخر. فهذا النوع هو المراد بهذه المسألة، وهو محرم، وصاحبه يعتبر كافر كفار بواحا إذا اعتقد أن للنجوم تأثيرا ذاتيا في الحوادث الأرضية. ومن الأدلة على تحريم التنجيم: أن الله عز وجل إنما خلق النجوم زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدي بها. لم يخلقها سبحانه للاستدلال بها على ما يجري على الأرض. يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] . وقد دلت السنة على تحريم التنجيم؛ فمن ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها: النجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف السلطان" 3.

_ 1 انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص448. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 141-142. والتنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام للدكتور عبد المجيد المشعبي ص160-162، 305-320. 2 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الطب، باب في النجوم. وابن ماجه في السنن، كتاب الأدب، باب تعلم النجوم. وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 793، وفي صحيح سنن أبي داود 2/ 739، وفي صحيح سنن ابن 2/ 305. 3 أخرجه الطبراني في المعجم في الكبير، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 203، وقال: "فيه ليث بن أبي سليم، وهو لين، وبقية رجاله وثقوا" وقال الألباني: "الحديث له شواهد كثير يرتقي بها إلى درجة الصحة في نقدي". "السلسلة الصحيحة 3/ 119، رقم 1127".

المبحث الثالث: أنواع الكفر الأصغر

المبحث الثالث: أنواع الكفر الأصغر تمهيد: الكفر الأصغر أحد نوعي الكفر. ومن الفروق بينه وبين الكفر الأكبر1: 1- الكفر الأكبر يحبط العمل؛ كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] . والأصغر لا يحبط العمل، وإن كان ينقصه. 2- الكفر الأكبر كفر اعتقادي، والكفر الأصغر كفر عملي. 3- الكفر الأكبر يخرج من ملة الإسلام، وأما الأصغر فلا يخرج، وصاحبه مؤمن ناقص الإيمان. 4- الكفر الأكبر إذا مات العبد عليه لم يغفر له. والكفر الأصغر إن مات العبد عليه فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه. ولا ينافي ذلك إيجابه للوعيد؛ لأننا نقول إن استحقاقه للوعيد لا يمنع العفو عنه. 5- الكفر الأكبر يوجب الخلود في النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] ، والكفر الأصغر لا يوجب الخلود في النار إن دخلها صاحبه. أولا: تعريف الكفر الأصغر هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر، مع بقاء اسم الإيمان على عاملها2؛ فهو معصية عملية لا تخرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار، دون الخلود فيها. وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر3. ثانيا: من أشهر أنواع الكفر الأصغر للكفر الأصغر أنواع متعددة ضابطها ما تقدم في التعريف: كل معصية أطلق الشارع عليها اسم الكفر، مع بقاء اسم الإيمان على عاملها. وبيان بعض هذه الأنواع يمكن في المطالب التالية:

_ 1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص182-183. 2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149. 3 انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/ 346. فتح الباري لابن حجر 1/ 83-85.

المطلب الأول: من أنواع الكفر الأصغر كفر النعمة

المطلب الأول: من أنواع الكفر الأصغر كفر النعمة أولا: المراد به نسبة النعم التي أنعم الله عز وجل بها علينا إلى غير المنعم عز وجل، أو استعمالها في غير مرضات الله؛ كالإسراف، والتبذير، وشراء المحرمات، أو إعطاء النعم لمن نهانا ربنا عز وجل عن إعطائهم؛ كالسفهاء من الصبيان وغيرهم. قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] . ثانيا: الأدلة عليه، من الأدلة على كفر النعمة: 1- قول الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . 2- قول الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] ؛ فهؤلاء عرفوا نعم الله عز وجل، وعروفا أن الله هو المنعم عليهم بها، ولكنهم جحدوها، وزعموا أنهم ورثوها كابرا عن كابر1. 3- قصة الثلاثة: الأبرص، والأقرع، والأعمى، الذين أنعم الله عليهم بإصلاح حالهم وبالمال، فجحد اثنان منهم نعمة الله، وقالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر. واعترف الأعمى بنعم الله، وقال: قد كنت أعمى، فرد الله إلي بصري. فقال له الملك: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك2. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ معلقا على هذا الحديث: وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر؛ فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله، فحل عليهما السخط، وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله قيامه بشرك النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يجب3.

_ 1 انظر: جامع البيان للطبري 7/ 629. والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 2/ 201-202. وفتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن ص592-594. 2 الحديث بطوله أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع. ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب رقم10. 3 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص636.

المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأصغر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت

المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأصغر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت أولا: المراد بهما عيب النسب، والطعن فيه، ورفع الصوت بندب الميت، وتعداد فضائله. وهما من أنواع الكفر العملي، لما فيهما من مشابهة صنيع الكفار في الجاهلية قبل الإسلام1. ثانيا: من الأدلة عليهما 1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" 2؛ فهاتان الخصلتان بالناس كفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس، ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله عز وجل3. يقول الإمام النووي في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هما بهم كفر": فيه أقوال أصحها أن معناه: هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية4. فلهذا عدهما العلماء من جنس الكفر العملي. 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 5. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأصناف الثلاثة؛ لأنها غالبا ما يفعلها الناس عند نزول المصاءئب، وهي من التسخط المنهي عنه، وفيها إظهار عدم الرضا بقدر الله، أو الصبر على قضائه. ودعوى الجاهلية هي: النياحة، وندبة الميت، والدعاء بالويل وشبهة6. فهذه من أعمال الكفار في الجاهلية قبل الإسلام. من أجل هذا عدها العلماء من جنس الكفر العملي.

_ 1 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص520. 2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة. 3 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لليخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص520. 4 شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 57. 5 صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود. 6 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 110.

المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأصغر قتال المسلم

المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأصغر قتال المسلم أولا: المراد به يراد به: قتال المسلم للمسلم بغير وجه حق، وهو نوع من أنواع الكفر العملي، المنافي لكمال الإيمان. ثانيا: من الأدلة عليه 1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 1؛ فأطلق صلى الله عليه وسلم على قتال المسلم اسم: "الكفر"، تنبيها على عظم حق المسلم، وبيان حكم من قاتله بغير حق. وهذا كفر عملي لأنه شبيه بفعل الكفار؛ فهو كفر أخوة الإسلام، لا كفر الجحود2. 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" 3. فأطلق صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين على قتال المسلمين بعضهم بعضا اسم "كفر"، وسمى من يفعل ذلك "كفارا". وليس المراد بالكفر ههنا الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن الله عز وجل أبقى على المتقاتلين من المؤمنين اسم "الإيمان"، فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، ثم سماهم مؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، فأثبت لهم الإيمان، وأخوة الإيمان، ولم ينف عنهم شيئا من ذلك4؛ فعلم أن الكفر هنا كفر عملي لا يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، وهو من جنس الكفر الأصغر5.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". 2 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 54. 3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ". 4 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص150. 5 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 55.

الفصل الثالث: النفاق، وأنواعه

الفصل الثالث: النفاق، وأنواعه المبحث الأول: معنى النفاق معنى النفاق لغة: النفاق في اللغة: من "النفق"، وهي تدل على الإخفاء وعدم الإظهار. ومنه سمي السرب في الأرض الذي له مخلص إلى مكان نفقا. وقيل لأحد جحري اليربوع: النافقاء والنفقة؛ لأنه يكتمه ويظهر غيره؛ فإذا أتي من جهة القاصعاء، ضرب النافقاء برأسه، فانتفق. يقال: نافق اليربوع، إذا أخذ في نافقائه1. معنى النفاق في الشرع: النفاق شرعا: هو أن يظهر المرء ما يوافق الحق، ويبطن ما يخالفه؛ فمن أظهر أمام الناس ما يدل على الحق، وكان حقيقة أمره أنه على باطل من الاعتقاد، أو الفعل، فهو المنافق، واعتقاده، أو فعله هو النفاق2. الصلة بين المعنيين: يلاحظ أن المنافق قد ستر اعتقاده، أو عمله، وأخفاه، وأضمره، فمثله كثل الضب؛ يدخل من جحر ظاهر، ثم إذا شعر بالخطر خرج من باب آخر تتعذر رؤيته. وكذلك يفعل المنافق: يدخل في الإسلام من باب ظاهر؛ فينطق الشهادتين، ويصلي مع الناس، مع أنه يكتم خلاف الإسلام، ويتربص بالمسلمين الدوائر، وينتظر ظهور الكفر، حتى يتخلى عما أظهره، كما قال الله عن المنافقين: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] . نوعا النفاق: النفاق نوعان: نفاق أكبر "اعتقادي"، ونفاق أصغر "عملي".

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص648-649. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 454-455. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص1195-1196. ولسان العرب لابن منظور 10/ 358-359. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص942. 2 انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص192. والمعجم الوسيط ص942.

المبحث الثاني: النفاق الأكبر "الاعتقادي"

المبحث الثاني: النفاق الأكبر الاعتقادي أولا: تعريف النفاق الأكبر هو أن يظهر الرجل للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذب به1؛ فهو قد أظهر الانقياد والتصديق ظاهرا؛ لكنه أبى ذلك باطنا2. ثانيا: حكم النفاق الأكبر النفاق الأكبر نفاق اعتقادي محله القلب، وصاحبه كافر، خالد مخلد في النار، بل في الدرك الأسفل منها إن لم يتب3، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء: 145] . وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا؛ لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة4. ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أكبر قد كشف الله في كتابه أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، في آيات كثيرة، نزلت تخبر عن أوصافهم، وأهدافهم، ووسائلهم الدنيئة لهدم الدين، أو إضعاف المسلمين. والنفاق الأكبر "الاعتقادي" قد جمع أهله خصالا كثيرة، وصفات عديدة، سأقتصر على ذكر بعضها، كي لا يقع شيء منها في قلب المؤمن، فيخسر الدنيا والآخرة. فمنها: 1- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا لا ظاهرا. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ؛ أي كاذبون فيما أظهروا من شهادتهم، وحلفهم بألسنتهم. فمن قال شيئا، واعتقد خلافه، فهو كاذب5.

_ 1 انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/ 379-377. والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1196. 2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149. 3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 376. 4 انظر المرجع نفسه 1/ 377. 4 انظر المرجع نفسه 1/ 377. 5 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 80.

2- موالاة الكافرين، وإعانتهم في حربهم ضد المسلمين. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] ؛ فهؤلاء المنافقون أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب في نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأقسموا أنهم لن يطيعوا في عدم نصرتهم أحدا يعذلهم أو يخوفهم، وأنهم سينصرونهم ويعينوهم على المسلمين إن قاتلوهم1. 3- تبييت الشر للمسلمين، وتدبير المكائد لهم. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] ؛ فمخافة الخلق عند هؤلاء المنافقين أعظم من مخافة الله عز وجل، لذلك تجدهم يحرصون بالوسائل المباحة والمحرمة على تجنب الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول2. 4- المسرة بانخفاض دين المسلمين، وكراهية انتصاره. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48] ؛ فقد طلب هؤلاء المنافقون الشر من البداية، واحتالوا في تشتيت أمر المسلمين وإبطال دينهم، حتى أظهر الله دينه، وأعز جنده، والمنافقون كارهون لذلك3. ومن الأدلة أيضا قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50] ؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن المنافقين إن أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه نصر وغنيمة ساءهم ذلك، وإن أصابهم قتل وهزيمة، قالوا: عملنا بالحزم فلم نخرج معكم، ثم ينقلبون وهم فرحون بمصابكم وسلامتهم4.

_ 1 انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي 7/ 338. 2 انظر المرجع نفسه 2/ 154. 3 انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3/ 448. 4 انظر المصدر نفسه 3/ 450.

المبحث الثالث: النفاق الأصغر "العملي"

المبحث الثالث: النفاق الأصغر العملي أولا: تعريف النفاق الأصغر: هو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا1. ثانيا: حكم النفاق الأصغر: النفاق الأصغر نفاق عملي؛ فصاحبه يدعي الإيمان بالله عز وجل، والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يعمل أعمالا عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق. وصاحب هذا النوع لا يخرج عن ملة الإسلام في الدنيا، وهو في الآخرة مستحق للوعيد؛ لكنه لا يخلد في النار إن دخلها. ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أصغر: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة علامات ظاهرة، من اتصف بها فقد شابه المنافقين في أعمالهم؛ وإنما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عنها كي نحذر من هذه الصفات الذميمة؛ لأنها من علامات النفاق، ويخشى أن يكون هذا النفاق العملي مؤديا إلى نفاق في الاعتقاد -والعياذ بالله تعالى2. ومن هذه العلامات: 1- الكذب في الحديث. فيحدث الناس بحديث يصدونه فيه، وهو كاذب. 2- إخلاف الوعد. فيعد بوعد، ومن نيته أن لا يفي، أو يعد ثم يبدو له أن يخلفه من غير عذر في الخلف3. 3- خيانة الأمانة؛ فإذا ائتمن أمانة، لم يؤدها. 4- الغدر. فإذا عاهد غدر، ولم يف بعهده. 5- الفجور في الخصومة. فيخرج عن الحق عمدا، حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا4.

_ 1 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامة لعثمان جمعة ضميرية ص348. 2 انظر شرح رياض الصالحين للصديقي 4/ 578. 3 انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 482. 4 انظر المصدر نفسه 2/ 486.

وهذه العلامات الخمس جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" 1، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" 1. تنبيه: النفاق الأصغر "العملي" مقدمة للنفاق الأكبر "الاعتقادي"؛ فمن اتصف بصفات النفاق العملي، فقد أشبه المنافقين "اعتقادا" في أعمالهم، ولكنه ليس على كفرهم أو اعتقادهم. وإن كان يخشى عليه من النفاق الاعتقادي؛ فالواجب على المؤمن أن يتجنب هذه الصفات؛ لأن الإيمان ينهى عنها. وعلينا أن نعلم أن هذه الصفات إذى اجتمعت في شخص، وغلبت على أعماله، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهو المنافق الخالص2 -والعياذ بالله-. نسأل الله أن يجنب المسلمين هذا الداء العضال، إنه جواد كريم.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق. 2 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 47.

الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء

الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء الفصل الأول: نصوص الولاء والبراء في القرآن والسنة أولا: من نصوص الولاء والبراء في القرآن الكريم ... الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء الفصل الأول: نصوص الولاء والبراء في القرآن والسنة القرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالأدلة التي تأمر بموالاة المؤمنين، وتنهى عن موالاة الكفار، وتحض على البراءة منهم. ونظرا لكثرة هذه النصوص، سأقتصر على ذكر بعضها: أولا: من نصوص الولاء والبراء في القرآن الكريم 1- قول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] ؛ فهذه فيها "النهي العظيم عن اتباع أهواء اليهود والنصارى والتشبه بهم فيما يختص به دينهم"1. 2- قول الله سبحانه وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] ؛ فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابا من دون المؤمنين، يعينونهم على المؤمنين، ويدلونهم على عوراتهم، وأخبر عز وجل أن من فعل ذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر2. 3- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] ؛ فأخبر عز وجل أن من يعاضد اليهود والنصارى ويناصرهم على المسلمين، فحكمه كحكمهم في الكفر والجزاء3.

_ 1 تيسير الكريم الرحمن للشيخ ابن سعدي 1/ 133. 2 انظر جامع البيان جرير الطبري 3/ 227. 3 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 141.

4- قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] ؛ فقطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين؛ فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم، ويتعاملون باعتقادهم1. 5- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا ثم تصدر منه موادة لمن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب2. 6- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] ؛ فنهى سبحانه عن موالاة الكفار، أو إلقاء المودة إليهم، وأخبر ان ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو3. 7- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] ؛ فنهى سبحانه وتعالى عن موالاة وموادة ومناصرة الكفار، وأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد حرموا من خير الآخرة؛ فليس لهم منها نصيب، ثم حذر عبادة المؤمنين أن يتولوهم، فيوافقوهم على شرهم وشركهم، فيحرموا خير الآخرة كما حرموا4.

_ 1 انظر المرجع نفسه 8/ 37-38. 2 انظر كتاب الإيمان: أركانه، حقيقته، نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ص186. 3 انظر تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/ 348-349. 4 انظر المرجع نفسه 7/ 348-349.

ثانيا: من نصوص الولاء والبراء في السنة النبوية

ثانيا: من نصوص الولاء والبراء في السنة النبوية 1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام؛ فإذا لقيتم أدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" 1. 2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين" 2. 3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا، أو يفارق المشركين إلى المسلمي ن " 3. 4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 4. 5- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" 5. 6- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأس المنافقين عبد الله بن أبي: "قد كنت أنهاك عن حب يهود" 6. 7- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" 7.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 365. والنسائي في السنن، كتاب البيعة، باب البيعة على فراق المشرك. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 636، وفي صحيح سنن النسائي 3/ 875. 3 أخرجه النسائي في السنن، والحاكم في المستدرك 4/ 600، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 369. 4 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. والترمذي في الجامع الصحيح، أبواب الزهد، باب رقم 32، وقال: حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 917، وفي صحيح سنن الترمذي 2/ 280، وفي السلسلة الصحيحة رقم 927. 5 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، أبواب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن. وأبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 285. وصحيح سنن أبي داود 3/ 917. وصحيح الجامع رقم 7341. 6 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في العيادة. وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 598: ضعيف الإسناد، لكن قصة القميص صحيحة. 7 صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله. وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب.

الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين

الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين المبحث الأول: معنى الولاء والبراء في اللغة والشرع ... الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين بعدما أوردنا في الفصل السابق عددا من النصوص الشرعية التي تحث على موالاة المؤمنين، والبراءة من المشركين والكافرين، وتنهى عن موالاة المشركين والكافرين ومحبتهم، أو البراءة من المؤمنين ومعاداتهم، لزم أن نتعرف على معنى الولاء والبراء، كي يكون السلم على بينة من أمره، ومعرفة واضحة لما طلب منه فعله، أو تركه. وهذا يستدعي أن نتعرف على معنى الولاء والبراء في اللغة، وفي الشرع. المبحث الأول: معنى الولاء والبراء في اللغة والشرع أولا: معنى الولاء لغة الولاء مصدر من والى يوالي ولاء وموالاة، بمعنى: أحب، وقرب، وأدنى، وحابى. والمولى: الحليف، وهو من انضم إليك فعز بعزك، وامتنع بمنعتك. وتولاك الله: أي نصرك. والولي ضد العدو، وهو: المحب، والصديق، والنصير، والتابع1. فالولاء على هذا يعني في اللغة: الحب، والدنو، والقرب، والنصرة. ثانيا: معنى البراء لغة البراء مصدر من برئ يبرأ براء وبراءة بمعنى: أبغض، وتباعد، وتخلص. يقال: بارأت الرجل، إذا فارقته، وبارأت المرأة، إذا صالحتها على الفراق. وبرئت من كذا، إذا تخلصت منه، وتنزهت، وتباعدت عنه، وبرئ المريض برءا وبرءا، إذا شفي وتخلص مما به. وبرئ فلان من فلان، إذا تباعد وتخلى عنه2؛ فالبراء لغة يأتي بمعنى التخلص، والتنزه، والتباعد، والتباغض، والتجافي، والمفارقة.

_ 1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص689. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص1732. ولسان العرب لابن منظور 15/ 406-414. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص1057. 2 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص34. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص42. ولسان العرب لابن منظور 1/ 31-34. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص46.

ثالثا: معنى الولاء شرعا الولاء في الشرع: هو النصرة، والمحبة، والإكرام، والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا1؛ فهو يعني التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه الإنسان وليا. فإن كان هذا التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا مقصودا به الله ورسوله والمؤمنين؛ فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم. وإن كان المقصود بالتقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا هم الكفار على اختلاف أجناسهم؛ فهي موالاة كفر وردة عن الإسلام إذا صدرت ممن يدعي الإسلام. أما الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فبعضهم أولياء بعض، فلا يستغرب منهم ذلك2. رابعا: معنى البراء شرعا البراء في الشرع: هو البعد، والخلاص، والعداوة بعد الأعذار والإنذار3؛ فهو يعني بغض أعداء الله تعالى، ومعاداتهم، ومجافاتهم، والتبري منهم4، والتخلص من قبائحهم وباطلهم، والتنحي عن التشبه بهم5.

_ 1 انظر الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني ص92. 2 كتاب الإيمان: أركانه، حقيقته، نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ص188. 3 انظر الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني ص92. 4 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص33. 5 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص367.

المبحث الثاني: منزلة الولاء والبراء في الدين الإسلامي

المبحث الثاني: منزلة الولاء والبراء في الدين الإسلامي لعقيدة الولاء والبراء منزلة عظيمة في الشرع، تتلخص فيما يأتي1: 1- إن عقيدة الولاء والبراء يرددها المسلم يوميا مرات كثيرة، كلما ردد كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله"؛ لأنها تعني البراء من كل ما يعبد من دون الله. وهذه الكلمة مزقت كل رابطة، وأهدرت كل وشيجة، إلا وشيجة العقيدة.

_ 1 انظر: الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية لمحماس بن عبد الله الجلعود ص187-330. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص225-227.

2- إن الحب في الله والبغض في الله شرط من شروط صحة "لا إله إلا الله"؛ لأن من شروطها: حبها، وحب ما دلت عليه، وحب من نطق بها، ودعا إليها، وبغض ما يضادها1. 3- إن عقيدة الولاء والبراء هي أوثق عرى الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله" 2. 4- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء من مكملات الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" 3. 5- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء تحقيقا تاما سبب لنيل ولاية الله عز وجل. يقول حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك"4. 6- إنها سبب لذوق القلب حلاوة الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 5. 7- إن الاتصاف بصفة الحب في الله، سبب لنيل الأجر العظيم؛ فالمتحابون في الله يظلهم الله في ظله. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" 6. والتحاب في الله سبب لنيل محبة الله عز وجل.

_ 1 انظر ما تقدم في هذا الكتاب ص74-75. 2 أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 497، رقم 2539، وفي السلسلة الصحيحة رقم 1728. 3 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 886، وصحيح الجامع الصغير 2/ 1042، رقم 5965، وفي السلسلة الصحيحة رقم 380. 4 أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء 1/ 312. 5 تقدم تخريجه ص75 من هذا الكتاب. 6 صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب في فضل الحب في الله.

الفصل الثالث: لمن يكون الولاء

الفصل الثالث: لمن يكون الولاء؟ إن المسلم وهو ينشد مرضاة الله عز وجل، يجب عليه معرفة من الذين يجب عليه ولاؤهم وموالاتهم، ومن هم الذين يجب أن يصرف لهم الحب، ويتوجه إليهم بالمحبة، حتى ينال رضى الله تعالى1. ولقد بين الله عز وجل لنا في كتابه لمن يصرف الولاء؛ فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56] ؛ فمن تولى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان تمام ذلك تولي من تولاه، "وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها، وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم، وهم خاضعون لله ذليلون. ومن حقق هذه الولاية فإنه من الحزب المضافين إل الله إضافة عبودية وولاية، وحزبه الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة"2. فعلم من هاتين الآيتين أن التوجه بالولاء يكون: لله -لدينه عز وجل، ولكتابه-، ولرسوله- لسنته، ولهديه وطريقته صلى الله عليه وسلم-، ولعامة المؤمنين. 1- أما موالاة الله عز وجل، فهذه يطلب فيها أشدها وأكملها، كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] . 2- أما موالاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه يطلب فيها تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على كل غال وثمين؛ من ولد، ووالد، وأهل، وعشيرة، وأموال، وغير ذلك، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ

_ 1 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص645. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المناس للشيخ ابن سعدي 2/ 310-311.

تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ؛ فهذه الآية فيها وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، وأن محبة الله ورسوله مقدمة على كل محبوب1. ومحبته صلى الله عليه وسلم سبب لتكميل الإيمان الواجب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 2. وسبب لوجود حلاوة الإيمان في القلب، كما في الحديث: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"3. 3- وأما عامة المؤمنين، فليست موالاتهم بدرجة واحدة، بل هي على درجات. فالمؤمنون الخلص من الأنبياء، والصديقين، والشهداء والصالحين، تجب محبتهم، وفي مقدمتهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تجب محبته محبة أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين، وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والمهاجرين، والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون، والقرون المفضلة، وسلف هذه الأمة، وأئمتها؛ كالأئمة الأربعة"4. أما المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا، فهؤلاء يحبون من وجه، وييبغضون من وجه، فيجتمع فيهم المحبة والعداوة، وهم عصارة المؤمنين: يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك. ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل ينكر عليهم، ويؤمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات؛ حتى يكفوا عن معاصيهم، ويتوبوا من سيئاتهم؛ لكن لا يبغضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم، كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يبون ويوالون حبا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة، بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة5.

_ 1 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 95. 2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس. 3 تقدم تخريجه في ص75. 4 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور صالح الفوزان ص317. 5 المرجع نفسه ص318-319.

الفصل الرابع: ممن يكون البراء

الفصل الرابع: ممن يكون البراء؟ لا بد أن يعرف كل مسلم من هم الذين يجب البراء منهم؛ فيصرف إليهم معاني البراء التي سبق ذكرها، وذلك حتى يحقق الولاء تحقيقا تاما؛ إذ لا ولاء إلا ببراء. ومن قرأ نصوص الولاء والبراء في الكتاب والسنة، والتي سبق ذكر بعضها في الفصل الأول1، واطلع على تفاسيرها تبين له أن الذين يجب البراءة منهم هم: كل من كفر بالله سبحانه وتعالى، وبدينه، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، أو بأحدهم، أو حارب كتاب الله عز وجل، وشرعه الحنيف، أو بيت لدين الله الشر، وأضمر للمسلمين العداوة؛ من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، والملحدين، وأشباههم ممن يحادون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . فدلت الآية الكريمة على عدم محبة ومودة كل من حاد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل وأوجبت بغض هؤلاء، وإظهار العداوة والبغض لهم، موالاة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبراءة من الكافرين، ومن كفرهم2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذه الآية: فأخبر عز وجل أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفسه الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر. فإذا وجد الإيمان انتفى ضده؛ وهو موالاة أعداء الله؛ فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب3. فهؤلاء الكفار، والمشركون، والمنافقون والمرتدون، والملحدون على اختلاف أجنائهم ممن يبغض، ويعادي، بغضا ومعاداة خالصين، لا محبة ولا موالاة معهما4.

_ 1 تقدم ذكرها في 199-201 من هذا الكتاب. 2 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص649. 3 كتاب الإيمان لابن تيمية ص17. 4 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور الفوزان ص318.

الفصل الخامس: حكم الولاء والبراء

الفصل الخامس: حكم الولاء والبراء قد أخبرنا مولانا سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] ، وأخبرنا جل جلاله أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] ، فقطع سبحانه وتعالى بذلك الموالاة بين المؤمنين والكافرين، وبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض. وموالاة المؤمنين تستلزم معاداة الكافرين. ومعاداتهم واجبة، كما أن موالاة المؤمنين واجبة؛ فمن قال أحب المؤممنين، لكني لا أعادي الكافرين، أو أعاديهم ولا أكفرهم، فلم يوال المسلمين حقا؛ لأن من شرط موالاة الله ورسوله والمؤمنين بغض أعدائهم، ومحبة أوليائهم. فمعاداة الكفار -إذا- واجبة على كل مسلم، وموالتهم محرمة على المسلمين: يقول الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق رحمه الله: فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم، وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده1. ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله: يجب أن تعلم: أن الله افترض على المؤمنين عداوة الكفار والمنافقين، وقطع الموالاة بين المؤمنين وبينهم، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم2. ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله3: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهدا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان شرط المحبة أن توافق من تحـ ... ـب على محبته بلا نقصان فإذا ادعيت له المحبة مع خلافـ ... ـك ما يحب فأنت ذو بهتان لو كان حبهم لأجل الله ما ... عادوا أحبته على الإيمان

_ 1 سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن عتيق ص31. 2 أوثق عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله ص26-27. 3 انظر النونية لابن القيم /بشرح الهراس- 2/ 125.

والمؤمن له أعداء يبغضهم في الله، وأولياء يحبهم في الله؛ لأن الأرض لا تخلو من أعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين؛ فما خلت منهم زمن الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فكيف بأوقات الفتنة في آخر الزمان. يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] . تنبيه: لا تعني البراءة من الكفار والمشركين أن نسيء إلى أهل الملة الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، وتحت حمايتها؛ بل لهم من المسلمين حسن المعاملة، والتسامح معهم، وعدم إكراههم على الدخول في دين الإسلام، ووصلهم بقسط من المال على وجه البر والصلة، كما قال مولانا عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ؛ فهذا إحسان وبر ظاهري يندب إليه، شريطة أن لا يصل إلى المودة الباطنية التي نهينا عنها؛ من محبتهم، ونصرتهم، وإعانتهم على المسلمين. والمسلم المؤمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، يستطيع أن يجمع بين ما أمر به، وما نهي عنه؛ فإن برهم والإحسان إليهم مأمور به. وودهم وتوليهم منهي عنه؛ فهما قاعدتان: إحداهما محرمة، والأخرى مأموره بها1. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: إن الله لا ينهى المؤمنين عن بر من لم يقاتلهم وأما موالاتهم ومحبتهم وإكرامهم، فلم يرخص الله تعالى في ذلك2. نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه قريب مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أفضل صلاة وأتم تسليم، والحمد لله رب العالمين. تم بحمد الله

_ 1 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص374. 2 أوثق عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله ص64-65.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع: 1- آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. أشرف على طبعه: الشيخ عطية محمد سالم. طبع بمطابع شركة المدينة للطباعة والنشر، 1388هـ، المدينة- السعودية. 2- آراء الخوارج الكلامية للدكتور عمار طالبي. طبع المكتبة المصرية الحديثة، الإسكندرية- مصر. 3- أحكام أهل الملل لأحمد بن محمد الخلال. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ-1994م، بيروت - لبنان. 4- أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي. نشر مكتبة أضواء السلف، ط1، 1419هـ - 1998م، الرياض - السعودية. 5- أساس البلاغة للزمخشري. طبعة دار الفكر، 1409هـ-1989م، بيروت - لبنان. 6- أصول الدين عند الأئمة الأربعة للدكتور ناصر القفاري. دار الوطن للنشر، ط1، 1414هـ، الرياض - السعودية. 7- أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1417هـ - 1996م، بيروت - لبنان. 8- أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي. نشر مكتبة السوادي، ط2، 1408هـ - 1988م، جدة - السعودية. 9- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان للعلامة ابن قيم الجوزية. طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. 10- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبع على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود. 11- إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي. نشر مكتبة الجندي، القاهرة - مصر. 12- أوثق عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ. نشر دار طيبة، ط1، 1409هـ - 1988م، الرياض - السعودية. 13- إيثار الحق على الخلق للعلامة ابن المرتضى. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. 14- الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ. نشر دار الباز، مكة المكرمة -السعودية. 15- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، ط1، 1387هـ. 16- الإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف. نشر دار الوطن، ط1، 1412هـ، الرياض - السعودية. 17- الإرشاد إلى توحيد رب العباد للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمران. نشر دار العاصمة ط3، 1412هـ، الرياض - السعودية.

18- الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور صالح الفوزان. نشر دار ابن الجوزي، ط1، 1415هـ - 1944م، الدمام - السعودية. 19- الأسئلة والأجوبة الأصولية للشيخ السلمان. نشر دار الإشعاع، ط8، 1402هـ، الرياض. 20- الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم. نشر دار الوطن، ط1، 1413هـ، الرياض. 21- الإصابة في تمييز الصحابة لحافظ ابن حجر العسقلاني. طبع دار الفكر، 1398هـ - 1978م، بيروت - لبنان. 22- الاعتصام للشاطبي. طبعة دار المعرفة، 1402هـ، بيروت - لبنان. 23- الإقناع لطالب الانتفاع لموسى المقدسي. طبع عالم الكتب، بيروت - لبنان. 24- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبع دار الكتاب الجديد، ط1، 1396هـ، بيروت - لبنان. 25- الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ، بيروت - لبنان. 26- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي. طبع المكتبة العلمية، بيروت - لبنان. 27- بعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور عواد المعتق. نشر مكتبة الرشد، ط1، 1420هـ - 1999م الرياض - السعودية. 28- بيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة لمحمد بن عبد الرحمن الخميس. نشر دار الوطن، ط1، 1414هـ، اليراض - السعودية. 29- البداية والنهاية للحافظ ابن كثير. دار نهر النيل للطباعة، القاهرة - مصر. 30- البدع والنهي عنها لمحمد بن وضاح القرطبي. نشر دار الصفا، ط1، 1411هـ - 1990م، القاهرة - مصر. 31- تاج العروس للزبيدي. مطبعة الخيرية الجمالية، ط1، 1306هـ، القاهرة - مصر. 32- تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي. طبع دار الكتاب العربي، ط1، 1410هـ، بيروت - لبنان. 33- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. تصوير دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان. 34- تجريد التوحيد المفيد للمقريزي. دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ط1، 1417هـ، مكة المكرمة - السعودية. 35- تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي. نشر وزارة الأوقاف بقطر. 36- تفسير البغوي = معالم التنزيل. 37- تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية. طبع دار الريا، ط1، 1408هـ - 1987، القاهرة - مصر. 38- تفسير ابن كثير. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة - مصر.

39- تهذيب اللغة للأزهري. المؤسسة المصرية العامة للتأليف، 1384، القاهرة. 40- توحيد الربوبية لمحمد إبراهيم الحمد. نشر دار ابن خزيمة، ط1، 1414هـ - 1994م، الرياض. 41- توحيد الألوهية لمحمد إبراهيم الحمد. نشر دار ابن خزيمة، ط1، 1414هـ، الرياض. 42- تيسير الإله بشرح شروط لا إله إلا الله لعبيد الجابري. نشر مكتبة الغرباء، ط1، 1414هـ المدينة المنور - السعودية. 43- تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد بن محمد القحطاني. نشر دار إشبيليا، ط1 1419هـ - 1998م، الرياض - السعودية. 44- تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط3، 1397، بيروت. 45- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي. المؤسسة السعودية الرياض. 46- التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع. نشر مكتبة الرشد، 1411هـ، الرياض. 47- التعريفات للجرجاني. دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ، بيروت - لبنان. 48- التمائم في ميزان العقيدة للعلياني. نشر دار الوطن، ط1، 1411هـ، الرياض - السعودية. 49- التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام للدكتور عبد المجيد المشعبي. نشر مكتبة الصديق، ط1، 1414هـ - 1994م، الطائف - السعودية. 50- كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب. نشر مركز شئون الدعوة بالجامعة الإسلامية، ط5، 1404هـ، المدينة المنورة - السعودية. 51- التوسل حكمه وأقسامه، من كلام الشيخين: الألباني، وابن عثيمين. نشر دار ابن خزيمة، ط1، 1418هـ - 1997م، الرياض - السعودية. 52- التوصل إلى حقيقة التوسل لمحمد نسيب الرفاعي. مؤسسة الدعوة السلفية، ط2، حلب -سوريا. 53- الثمرات الزكية في العقائد السلفية لأحمد فريد. نشر مكتبة التوعية الإسلامية، ط1، 1409هـ، الجيزة - مصر. 54- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري. نشر دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ بيروت - لبنان. 55- جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب الحنبلي. طبع مؤسسة الرسالة، ط5، 1414هـ - 1994م، بيروت - لبنان. 56- الجامع الصحيح المعروف بسنن الترمذي. طبع مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1398هـ - 1978م، القاهرة - مصر. 57- الجامع لحكام القرآن للقرطبي. طبع دار الكتب العلمية، ط5، 1417هـ، بيروت - لبنان. 58- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للعلامة ابن قيم الجوزية. نشر مكتبة دار التراث، ط3 1410هـ، المدينة المنورة - السعودية.

59- الجواب المفيد في بيان أقسام التوحيد للشيخ ابن عثيمين. نشر دار طويق، ط1ن 1414هـ، الرياض - السعودية. 60- حقيقة الولاء والبراء لسيد سعيد عبد الغني. طبع دار ابن حزم، ط1، 1419هـ، بيروت. 61- حياة الحيوان الكبرى للدميري. دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. 62- الحديث النبوي للدكتور محمد لطفي الصباغ. نشر المكتب الإسلامي، ط4، 1402هـ بيروت - لبنان. 63- الحذر بمعرفة أن من هزأ بالدين كفر. لجمال الدين باشا. نشر دار طيبة، ط1، 1417هـ، الرياض - السعودية. 64- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1399هـ - 1979م، الرياض - السعودية. 65- دعوة التوحيد للشيخ محمد خليل الهراس. مكتبة ابن تيمية. 66- الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعدد من العلماء، ط5، 1413هـ. 67- الدر المنثور للسيوطي. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ بيروت - لبنان. 68- الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد لصالح بن عبد الله العصيمي. نشر دار ابن خزيمة، ط1، 1413هـ، الرياض - السعودية. 69- الدين الخالص للعلامة ديق حسن خان. نشر مكتبة دار التراث، القاهرة - مصر. 70- رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم. نشر دار الوطن، ط3، 1411هـ، الرياض. 71- ر سالة في حكم السحر والكهانة للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. نشر دار الثقافة، ط1، 1415هـ، مكة المكرمة - السعودية. 72- روضة الطالبين للنووي. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ - 1992م، بيروت. 73- الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية. شركة العبيكان للطباعة والنشر، ط1، 1405هـ - 1985، الرياض - السعودية. 74- الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر دار طيبة، ط1، 1408هـ، الرياض. 75- الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة للعلياني. نشر دار الوطن، ط1، 1411هـ، الرياض. 76- الروضة الندية شرح الدرر البهية للعلامة صديق حسن خان. 77- زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي. طبع المكتب الإسلامي، ط4، 1407هـ، بيروت. 78- زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن قيم الجوزية. طب مؤسسة الرسالة، ط15، 1407هـ، بيروت - لبنان. 79- سبيل النجاة والفكاك لمحمد بن علي بن عتيق. نشر دار طيبة، ط1، 1409هـ، الرياض.

80- سنن أبي داود. طبع دار الكتب العلميةن ط1، 1388هـ، بيروت - لبنان. 81- سنن ابن ماجه. طبع دار الفكر، بيروت - لبنان. 82- سنن النسائي. نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1406هـ، جلب - سوريا. 83- السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط4، 1405هـ، بيروت. 84- السنة لابن أبي عاصم. نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ، بيروت. 85- السنن الكبرى للبيهقي. تصوير دار الفكر، ط1، 1405هـ بيروت. 86- السيرة النبوية لابن هشام. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبين ط2، 1375هـ، القاهرة - مصر. 87- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي. نشر دار طيبة، ط1، الرياض - السعودية. 88- شرح رياض الصالحين لمحمد بن علان الصديقي. دار الريان للتراث، ط1، 1407هـ، القاهرة. 89- شرح نواقض التوحيد لحسن العواجي. طبع مكتبة لينة، ط1، 1413هـ، مصر. 90- شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني. مطبعة الاستقلال الكبرى، ط1، 1384هـ، القاهرة. 91- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. طبع مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ، بيروت. 92- شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل الهراس. نشر إدارة البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية. 93- شرح الكوكب المنير لابن النجار. نشر جامعة أم القرى. تحقيق د. محمد الزحيلي، ونزيه حماد. 94- شرح القصائد العشر. طبع دار الكتب العلمية، بيروت. 95- شرح النووي على صحيح مسلم. طبع المكتبة المصرية. 96- شفاء العليل للعلامة ابن القيم. طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. 97- الشرح والإبانة لابن بطة العكبري. نشر المكتبة الفيصلية، 1404هـ، مكة المكرمة. 98- الشريعة للآجري. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ، بيروت. 99- الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين. مطابع دار طيبة، ط1، 1401، الرياض - السعودية. 100- الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد. نشر مكتبة الرشد، ط1، 1411هـ، الرياض - السعودية. 101- صحيح البخاري. المطبعة السلفية، ط1، 1400هـ، القاهرة - مصر. 102- صحيح الجامع الصغير زيادته للألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1406هـ، بيروت. 103- صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1406هـ، بيروت. 104- صحيح سنن ابن ماجه للألباني، نشر مكتب التربية العربقية لدول الخليج، ط1، الرياض. 105- صحيح سنن النسائي للألباني، نشر مكتب التربية العرقبي لدول الخليج، ط1، الرياض.

106- صحيح مسلم. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. 107- صون المنطق والكلام للسيوطي. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. 108- الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبع عالم الكتب، 1402هـ، بيروت. 109- الصحاح للجوهري، 1403هـ - 1983. طبع على نفقة السيد حسن عباس شربتلي. 110- الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر مكتبة ابن تيمية، ط2، 1406هـ، القاهرة. 111- طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ، بيروت - لبنان. 112- الطبقات الكبرى لابن سعد. نشر إحياء التراث الإسلامي، ط1، 1403هـ، بيروت. 113- عقيدة السلف أصحاب الحديث للإمام أبي عثمان الصابوني. نشر الدار السلفية، ط1، 1404، الكويت. 114- العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر دار الأصالة، ط2، 1416هـ، الإسماعيلية - مصر. 115- العقيدة الإسلامية وتاريخها للدكتور محمد أمان الجامي. نشر دار المنار، ط1، 1414، الرياض. 116- فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين. نشر مكتبة السنة، ط1، 1412هـ، القاهرة. 117- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية. نشر دار العاصمة، ط1، 1411هـ، الرياض. 118- فتح الراي للحافظ ابن حجر العسقلاني. طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. 119- فتح رب البرية بتلخيص الحموة للشيخ ابن عثيمين. نشر دار الوطن، 1412هـ، الرياض. 120- فتح القدير للشوكاني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1383هـ، القاهرة. 121- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن. نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، ط3، 1413هـ، الرياض. 122- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن. نشر مؤسسة قرطبة، ط جديدة، القاهرة - مصر. 123- الفرقان بين الحق والباطل لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر مكتبة دار البيان، ط1، 1405هـ، بيروت، دمشق. 124- الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق. نشر مكتبة ابن تيمية، ط3، 1406هـ، الكويت. 125- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية. طبع مكتبة لينه، ط1، 1409هـ، دمنهور - مصر. 126- قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر مكتب التراث العربي، القاهرة - مصر. 127- قضية التأويل، وموقف ابن تيمية منها للدكتور السيد الجليند. نشر الهيئة العامة لشئون الطباعة، 1393هـ، القاهرة - مصر.

128- القاموس المحيط للفيروزآبادي. طبع مؤسسة الرسالة، ط3، 1407هـ - 1987م، بيروت. 129- القول السديد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن سعدي. نشر دار الوطن، ط1، 1412هـ، الرياض - السعودية. 130- كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي. نشر المؤسسة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. 131- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت. 132- كشف الكرب في وصف حال أهل الغربة لابن رجب الحنبلي. نشر المكتبة القيمة، القاهرة. 133- كلمات في الأخلاق الإسلامية للدكتور كمال محمد عيسى. نشر دار المجتمع، ط2، 1413، جدة - السعودية. 134- الكشاف للزمخشري. طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. 135- لسان العرب لابن منظور. طبعة دار صادر، بيروت - لبنان. 136- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي، نشر دار ابن كثير، ط1، 1413هـ، بيروت - لبنان. 137- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للعلاة السفاريني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1405هـ - 1985م، بيروت - لبنان. 138- مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل. نشر دار الوطن، الرياض. 139- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي. طبع دار الكتب العلمية، 1408هـ، بيروت. 140- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. طبع بأمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بنعبد العزيز. 141- مختار الصحا للرازي، طبع دار المعارف، القاهرة - مصر. 142- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. 143- مدخل لدراسة العقيدة لعثمان جمعة ضميرية. نشر دار السنة، ط5، 1418هـ - 1997م، الخبر - السعودية. 144- مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين. مطبوعة على الآلة. 145- مذكرة في أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. طبع المكتبة السلفية، 1391هـ، المدينة المنورة - السعودية. 146- مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية ولده عبد الله. نشر المكتب الإسلامي، ط3، 1408هـ، بيروت - لبنان. 147- مسند الإمام أحمد بن حنبل. طبع دار صادر، بيروت - لبنان. 148- مشكاة المصابيح للتبريزي. قام بتحقيقه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1405هـ، بيروت - لبنان.

149- معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشيخ الشنقيطي. نشر دار المجتمع، ط1، 1408، جدة - السعودية. 150- معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي. نشر الدار البيضاء، القاهرة - مصر. 151- معال التنزيل للبغوي. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ - 1993م، بيروت. 152- معجم مقاييس اللغة لابن فارس. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1389هـ، القاهرة. 153- مفتح دار السعادة لابن قيم الجوزي. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 154- مفهوم أهل السنة والجماعةعند أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل. نشر دار الوطن، الرياض - السعودية. 155- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري. طبع مكتبة النهضة المصية، ط2، 1389هـ - 1969م، القاهرة - مصر. 156- مناقب الإمام الشافعي للبيهقي. طبع دار النصر، ط1، 1391هـ، القاهرة - مصر. 157- مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قسم العقيدة والآداب- طبع جامعة الإمام محمد بن عبد الوهاب -قسم العقيدة والآداب- طبع جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض - السعودية. 158- ميزان الاعتدال للذهبي. طبع دار المعرفة، ط1، 1382هـ، بيروت - لبنان. 159- المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين. نشر دار الوطن، 1411هـ، الرياض - السعودية. 160- المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده. نشر مصطفى البابي الحلبي، ط1، 1377هـ، القاهرة. 161- المستدرك للحاكم النيسابوري. نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، جلب - سوريا. 162- المستصفى في أصول الفقه لأبي حامد الغزالي. طبع دار الكتب العلمية، ط2، 1403هـ، بيروت - لبنان. 163- المصنف لعبد الرزاق الصناعاني. نشر المجلس بكراتشي - باكستان، ط1، 1391هـ. 164- المعجم الكبير للطبراني. طبع وزارة الأوقاف العراقية، ط1، 1399هـ، بغداد - العراق. 165- المعجم الوسيط، لجماعة من لامؤلفين، الطبعة الثانية. 166- المغني في أبواب العدل والتوحيد لعبد الجبار الهمذاني. طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة - مصر. 167- المفردات للراغب الأصفهاني، طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. 168- المفهم شرح صحيح مسلم للقرطبي. 169- المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية. نشر دار البشائر الإسلامية، ط6، 1414، بيروت - لبنان.

170- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، طبع دار صادر، بيروت - لبنان. 171- الموالاة والمعاداة لمحماس الجلعود، ط1، 1407هـ - 1987م، الرياض - السعودية. 172- الموجز في تحصيل السؤال وتخليص المقال في الرد على أهل الخلاف لعبد الكافي الإباضي. طبع دار الجيل، ط1، 1410هـ - 1990م، بيروت - لبنان. 173- الموطأ للإمام مالك. نشر دار إحياء التراث العربي، 1406هـ، بيروت - لبنان. 174- النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع دار الكتب العلمية، 1405هـ، بيروت - لبنان. 175- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير. طبع المكتبة العلمية، بيروت - لبنان. 176- وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور محمد باكريم. نشر دار الراية، ط1، 1415هـ، الرياض - السعودية. 177- الوجوه ولنظائر لألفاظ القرآن للدامغاني، ط بيروت - لبنان. 178- الوسطية في الإسلام: تعريف وتطبيق للدكتور زيد الزيد. نشر دار العاصمة، ط1، 1412هـ، الرياض - السعودية. 179- الوسيط في تفسير القرآن للواحدي. طبع دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ، بيروت - لبنان. 180- الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية. نشر مكتبة ابن الجوزي، ط1، 1407هـ - 1987، الإحساء - السعودية. 181- الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني. نشر دار طيبة، ط2، 1404هـ، الرياض - السعودية. تمت

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات: الصفحة الموضوع 7 تعريف ببعض المصطلحات 8 معنى العقيدة لغة 8 معنى العقيدة اصطلاحا 10 مسمى التوحيد من المسيات التي أطلقت على العقيدة 10 تعريف التوحيد لغة واصطلاحا 11 مدى المطابقة بين التوحيد والعقيدة 12 مؤلفات في العقيدة تحت مسمى التوحيد 13 مسمى أصول الدين من المسميات التي أطلقت على العقيدة 13 المراد بأصول الدين 14 الحقيقة الشرعية لأصول الدين 14 مؤلفات في العقيدة تحت مسمى أصول الدين 15 مسمى السنة من المسيمات التي أطلقت على العقيدة 15 تعريف السنة لغة واصطلاحا 16 السنة عند الأصوليين 16 المناسبة بين مسمى السنة ومسممى العقيدة 17 مؤلفات في العقيدة تحت مسمى السنة 17 مسمى الفقه الكبر من المسميات التي أطلقت على العقيدة 18 سبب تسمية العقيدة بالفقه الكبر 18 مؤلفات في العقيدة تحت مسمى الفقه الأكبر

الصفحة الموضوع 19 التعريف بأهل السنة والجماعة 21 التعريف بالسلف 22المراد بالسلف اصطلاحا 23 مفهوم الخلف عند علماء السلف 24 التعريف بأهل الحديث 24 الحديث في اللغة 24 الحديث في الاصطلاح 25 مصادر العقيدة الإسلامية 26 منزلة العقل ومجالاته في الإسلام 27 درء تعارض العقل الصحيح والنقل الصريح 28 من خصائص العقيدة الإسلامية 28 التعريف بالخصائص 28 من خصائص العقيدة: أنها توقيفية 28 معنى التوقيف لغة 29 المراد من كون العقيدة الإسلامية توقيفية 29 ما الذي يلزم من كون العقيدة توقيفية 30 من خصائص العقيدة: أنها غيبية 30 معنى الغيب في اللغة 30 المراد من كون العقيدة الإسلامية غيبية 30 ما الذي يلزم من كون العقيدة الإسلامية غيبية

الصفحة الموضوع 31 من خصائص العقيدة: أنها شمولية 31 معنى الشمول في اللغة 31 المراد من كون العقيدة الإسلامية شمولية 31 مظاهر شمولية العقيدة 32 من خصائص العقيدة: أنها وسطية 32 معنى الوسط في اللغة 32 المراد من كون العقيدة وسطية 33 من مظاهر وسطية العقيدة الإسلامية 33 وسطية أمة الإسلام بين الأمم الأخرى 33 1- في توحيد الله عز وجل 34 2- في أنبياء الله ورسله 34 3- في الشرائع 34 4- في أمر الحلال والحرام 35 5- في العبادة 36 وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق الضالة 37 1- في أسماء الله وصفاته 38 2- في باب القدر 39 3- في نصوص الوعد والوعيد 41 الرجاء والخوف عند أهل السنة والجماعة 41 4- في باب الأسماء والأحكام

الصفحة الموضوع 43 5- في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 45 الباب الأول: التوحيد 47 تعريف التوحيد 48 التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا 49 التوحيد هو الأصل في البشر فطرة 52 الشرك طارئ على البشرية 53 أنواع التوحيد 56 توحيد الربوبية أحد أنواع التوحيد 56 معنى الرب لغة 56 توحيد الربوبية شرعا 56 الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية 57 دلالة الفطرة على توحيد الربوبية 57 موقف المشركين من توحيد الربوبية 57 هل يكفي توحيد الربوبية وحده؟ 58 توحيد السماء والصفات أحد أنواع التوحيد 58 تعريف توحيد الأسماء والصفات 58 بعض أصول أهل السنة في توحيد السماء والصفات 59 توحيد الأولهيةأحد أنواع التوحيد 59 تعريف توحيد الألوهية 60 منزلة توحيد الألوهية بين أنواع التوحيد

الصفحة الموضوع 60 الدلالة الشرعية على توحيد الألوهية 61 حكم من لم يأت بهذا النوع من التوحيد 61 العلاقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية 62 الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية 65 شهادة أن لا إله إلا الله 67 معنى لا إله إلا الله 68 أركان لا إله إلا الله 69 شروط لا إله إلا الله 65 معنى الشرط في اللغة 69 المراد بشروط لا إله إلا الله 69 منزلة هذه الشروط من شهادة: لا إله إلا الله 70 الشرط الأول: العلم المنافي للجهل 70 المراد به، والأدلة عليه 70 الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك 70 المراد به، والأدلة عليه 71 الشرط الثالث: القبول المنافي للرد 71 المراد به، والأدلة عليه 72 الشراط الرابع: الانقياد المنافي للترك 73 المراد به، والأدلة عليه 72 الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب

الصفحة الموضوع 72 المراد به، والأدلة عليه 73 الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك 73 المراد به، والأدلة عليه 74 الشرط السابع: الحب المنافي للبغض 74 المراد به، والأدلة عليه 76 الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله 76 المراد به، والأدلة عليه 77 نواقض لا إله إلا الله 77 النواقض لغة 77 المراد بنواقض لا إله إلا الله 78 الناقض الأول: الإشراك بالله 79 الناقض الثاني: من جعل وسائط وضفعاء بينه وبين الله 80 الناقض الثالث: عدم تكفير المشركين 81 الناقض الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي أكمل من هديه 82 الناقض الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم 83 الناقض السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم 85 الناقض السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف 85 الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين 87 الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج 88 الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله فلا يتعلم ولا يعمل

الصفحة الموضوع 92 معنى العبادة لغة واصطلاحا 93 مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية 95 أنواع العبادة 95 أركان العبادة وأصولها 97 الركن الأول: محبة الله 99 الركن الثاني: الرجاء 100 الركن الثالث: الخوف 102 عبادة الله بأركان العبادة مجتمعة 107 الشرك وأنواعه 109 معنى الشرك في اللغة والشرع 110 أنواع الشرك 111 تعريف الشرك الأكبر 111 حكم الشرك الأكبر 112 أقسام الشرك الأكبر 112 الشرك في الربوبية: تعريفه، نوعاه 113 الشرك في الأسماء والصفات: تعريفه، نوعاه 114 الشرك في الألوهية والتعبد: تعريفه، وأنواعه 115 1- شرك الدعاء، تعريفه، نوعاه 118 2- شرك الشفاعة، تعريفه، والأدلة عليه 120 3- شرك النية والإرادة والقصد

الصفحة الموضوع 120 4- شرك الطاعة، تعريفه، والأدلة عليه 123 5- شرك المحبة 124 6- شرك الخوف 127 الشرك الأصغر 127 تعريف الشرك الأصغر، وحكمه، والدليل عليه 128 يسير الرياء من أنواع الشرك الأصغر 128 الرياء لغة واصطلاحا 128 حكم الرياء، مع الدليل 129 السمعة من أنواع الشرك الأصغر 129 السمعة لغة واصطلاحا 129 حكم السمعة مع الدليل 129 متى ينقلب حكم الرياء والسمعة إلى شرك أكبر 130 إرادة الإنسان بعمله الدنيا 131 أقسام الناس في العمل وما يراد به 131 الاستسقاء بالأنواء من أنواع الشرك الأصغر 132 حكم هذا النوع، مع الدليل 132 متى يكون الاستسقاء بالأنواء شركا أكبر 133 الحلف بغير الله من أنواع الرك الأًصغر 133 الأمثلة عليه، وحكمه، مع الدليل 134 هل تنعقد يمين الحالف بغير الله عز وجل

الصفحة الموضوع 134 متى ينقلب الحلف بغير الله إلى شرك أكبر 135 قول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت من الشرك الأصغر 136 حكمه، وكيف يتقى 137 الرقى من أنواع الشرك الأصغر 137 تعريف الرقى، ونوعاها 137 الرقى الشرعية، وشروطها 139 الرقى البدعية 141 التمائم من أنواع الشرك الأصغر 141 تعريف التمائم، وحكم تعليقها 142 نوعا التمائم 142 التمائم المحرمة وأدلتها 143 التمائم المختلف فيها، وحكمها، مع الدليل 144 التطير من أنواع الشرك الأصغر 145 تعريف التطير، والأدلة على تحريمه 146 الفرق بين الطيرة والفأل 146 حكم الطيرة 149 وسائل الشرك المنافية للتوحيد أو لكماله 152 معنى التوسل لغة واصطلاحا 153 أنواع التوسل الشرعي، وأدلته 154 التوسل البدعي

الصفحة الموضوع 159 أحاديث تنهى عن اتخاذ القبور مساجد 162 الغلو في الأنبياء والصالحين 162 المبالغة في مدح الأشخاص 163 تصوير الأنبياء والصالحين واتخاذ تماثيل لهم 166 حكم التبرك بآثار الأنبياء والصالحين 166 التبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم 168 حكم التبرك بغير الرسول صلى الله عليه وسلم 168 هل يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من البشر؟ 169 الأعياد والاحتفالات البدعية من الوسائل المفضية إلى الشرك 170 حادثة الإسراء والمعراج 171 حادثة المولد النبوي 173 الكفر وأنواعه 175 معنى الكفر لغة واصطلاحا 176 أنواع الكفر الأكبر 177 من أنواع الكفر الأكبر: كفر الجحود: تعريفه، ونوعاه 178 من أنواع الكفر الأكبر: كفر الإباء والاستكبار 179 من أنواع الكفر الأكبر: الكفر بادعاء علم الغيب 179 السحر، تعريفه، قسماه 180 حكم السحر، مع الدليل 181 علاج السحر

الصفحة الموضوع 181 الكهانة، تعريفها، حكمها، مع الدليل 182- 183 التنجيم، تعريفه، حكمه، مع الدليل 184 أنواع الكفر الأصغر 184 تعريف الكفر الأصغر، وبعض أنواعه 185 كفر النعمة: من أنواع الكفر الأًغر، المراد به، والأدلة عليه 186 الطعن في الأنساب والنياحة على الميت من الكفر الأصغر 187 قتال المسلم: من أنواع الكفر الأصغر، المراد به 189 النفاق وأنواعه 191معنى النفاق لغة وشرعا، ونوعا النفاق 192 النفاق الأكبر "الاعتقادي"، تعريفه، حكمه 192 صفات المنافقين نفاقا اعتقاديا 194 النفاق الأصغر "العملي"، تعريفه، حكمه 194 صفات المنافقين نفاقا أصغر 197 عقيدة الولاء والبراء 199 نصوص الولاء والبراء في الكتاب والسنة 202 مفهوم الولاء والبراء لغة وشرعا 203 منزلة الولاء والبراء من الدين 205 لمن يكون الولاء 207 ممن يكون البراء 208 حكم الولاء والبراء

§1/1