المفاهيم الصحيحة للجهاد في سبيل الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد: فقد كثر الكلام في هذه الأيام عن الجهاد في سبيل الله - عز وجل -؛ ولأهمية الأمر، وخطورته، أحببت أن أذكر لإخواني بعض المفاهيم الصحيحة التي ينبغي معرفتها وفقهها قبل أن يتكلم المسلم عن الجهاد، ولا شك أن باب الجهاد، وأحكامه باب واسع يحتاج إلى عناية فائقة، ولكني أقتصر من ذلك على كلمات مختصرات تُبيِّن الحق إن شاء الله تعالى في الأمور الآتية: مفهوم الجهاد في سبيل الله تعالى، وحكمه، ومراتبه، والحكمة من مشروعيته، وأنواعه، وشروط وجوب الجهاد، ووجوب استئذان الوالدين في الخروج إلى جهاد التطوع في سبيل الله تعالى، وأنَّ أمر الجهاد موكول إلى الإمام المسلم، واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك ما لم يأمر بمعصية، ووجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وخاصة أيام الفتن. والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى

إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر يوم 29/ 10/1422هـ

أولا: مفهوم الجهاد لغة وشرعا:

أولاً: مفهوم الجهاد لغة وشرعاً: لغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل (¬1). شرعاً: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدّين، والبغاة ونحوهم؛ لإعلاء كلمة الله تعالى (¬2). ثانياً: حكم الجهاد في سبيل الله: الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين (¬3)، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬4). قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في فرضية الجهاد: ((لابد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة، فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة؛ ولهذا لم يوجب الله - سبحانه وتعالى - على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة، ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 319 باب الجيم مع الهاء، والمصباح المنير، مادة ((جهد))، 1/ 112. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 6/ 2، ومنتهى الإرادات، لمحمد بن أحمد الفتوحي، 2/ 203، والإقناع لطالب الانتفاع، للحجّاوي، 2/ 61، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 4/ 253، وسبل السلام للصنعاني، 7/ 237، ونيل الأوطار للشوكاني، 5/ 6، والمغني لابن قدامة، 13/ 10، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 10/ 12، والشرح الممتع لابن عثيمين، 8/ 8. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 13/ 6. (¬4) سورة التوبة، الآية: 122.

1 - إذا حضر المسلم المكلف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان

وكوَّنوا الدولة الإسلامية، وصار لهم شوكة أُمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬2)). انتهى كلامه رحمه الله (¬3). ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات (¬4): 1 - إذا حضر المسلم المُكلَّف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (¬5)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬6)، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن التولِّي يوم الزحف من السَّبع الموبقات (¬7). 2 - إذا حضر العدو بلداً من بلدان المسلمين تعيّن على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب (¬8)، قال تعالى: {يَا ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 16. (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 8/ 9، وانظر: المحلى لابن حزم، 7/ 291، وفتح الباري لابن حجر، 6/ 38. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 13/ 18. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 45. (¬6) سورة الأنفال، الآيتان: 15 - 16. (¬7) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ... }، برقم 2766، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم 89. (¬8) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص448.

3 - إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬1). 3 - إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك، قال الله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2)، وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا هجرة بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم فانفِروا)) (¬3)، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (¬4). قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ((ولا يشترط أن يكون إماماً عاماً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي)) (¬5)، فإذا تأمر إنسان على جهة ما صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وابن مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، ومازال أئمة الإسلام يدينون بالولاء ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 123. (¬2) سورة التوبة، الآية: 41. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، برقم2783، ومسلم، في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد، برقم 1353. (¬4) سورة التوبة، الآية: 38. (¬5) أخرجه البخاري، في كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، برقم 693.

والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة، وبهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم فلا بيعة لأحد، نسأل الله العافية، ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟ أم يريدون أن يقال كل إنسان أمير نفسه؟ هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية؛ لأن عمل المسلمين من أزمنة متطاولة: على أن من استولى على ناحية من النواحي وصارت له الكلمة العليا فيها فهو إمام فيها، وقد نصَّ على ذلك العلماء مثل صاحب سبل السلام، وقال: إن هذا لا يمكن الآن تحقيقه؛ ولأن الناس لو تمردوا في هذا الحال على الإمام لحصل الخلل الكبير على الإسلام، إذ إن العدو سوف يقاتل ويتقدم إذا لم يجد من يقاومه، ويدافعه)) (¬1). وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة، والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((جاهدوا المشركين بألسنتكم، وأنفسكم، وأموالكم، وأيديكم)) (¬2). وأضاف العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله حالة رابعة: وهي إذا احتيج إلى المسلم في الجهاد وجب عليه. ¬

(¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 8/ 12. (¬2) أخرجه أبو داود، في كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، برقم 2504، والنسائي، في كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، برقم 3098، وأحمد، في المسند، 3/ 124، 153، 251، والحاكم، 2/ 81 وصححه، وكذا صححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3090.

ثالثا: مراتب الجهاد في سبيل الله:

ثالثاً: مراتب الجهاد في سبيل الله: الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات: المرتبة الأولى: جهاد النفس له أربع مراتب: 1 - جهادها على تعلم أمور الدين والهُدى الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. 2 - جهادها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرّد العلم بلا عمل إن لم يضرّها لم ينفعها. 3 - جهادها على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. 4 - جهادها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وأن يتحمل ذلك كله لله، فمن علم وعمل، وصبر فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السموات. المرتبة الثانية: جهاد الشيطان وله مرتبتان: 1 - جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. 2 - جهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات والإرادات الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين، والثاني بعد الصبر، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا

المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين:

مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1)، والشيطان أخبث الأعداء، قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬2). المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين: وله أربع مراتب: 1 - بالقلب. 2 - اللسان. 3 - المال. 4 - اليد. وجهاد الكفار أخصّ باليد، وجهاد المنافقين أخصّ باللسان. المرتبة الرابعة: جهاد أصحاب الظلم والعدوان، والبدع والمنكرات: وله ثلاث مراتب: 1 - باليد إذا قدر المجاهد على ذلك. 2 - فإن عجز انتقل إلى اللسان. 3 - فإن عجز جاهد بالقلب، فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬3). ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) سورة فاطر، الآية: 6. (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، برقم 49.

فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس عند الله من كمَّل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمّل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده (¬1)، فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار. ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث فضالة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) (¬2): كان جهاد النفس مقدَّماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرها الله به، وتترك ما نهاها الله عنه ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار عليه، وعدوّه الذي بين جنبيه غالب له وقاهر له؟ ولا يمكنه الخروج إلى عدوّه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوّان (¬3)، وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط الإنسان عن جهادهما، ويخوِّفه ويخذله، ولا يزال يُخوِّفُه ما في جهادهما من المشاقّ، وفوات اللذات، ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 10، و12. (¬2) أحمد في المسند، 6/ 21، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 11، قال الألباني في إسناد الإمام أحمد: ((وهذا إسناد صحيح))، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 89 - 90، برقم 549. (¬3) النفس، والعدو في خارجها.

والشهوات، فلا يمكنه أن يجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدو الثالث، وهو الأصل لجهادهما وهو الشيطان (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، 3/ 6.

رابعا: الحكمة من مشروعية الجهاد

رابعاً: الحكمة من مشروعية الجهاد بيَّن الله - عز وجل - الحكمة والغاية من الجهاد في سبيل الله تعالى، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬2). قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله في المقصود من الجهاد: ((الجهاد نوعان: جهاد طلب، وجهاد دفاع، والمقصود منهما جميعاً هو تبليغ دين الله، ودعوة الناس إليه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه، وأن يكون الدين كله لله وحده ... ))، ثم قال رحمه الله تعالى بعد أن أورد الآيتين السابقتين، وقال - عز وجل - في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمرت أن أُقاتل النَّاسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقِّ الإسلام وحسابهم على الله - عز وجل -)) (¬4)، انتهى كلامه ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 39. (¬2) سورة البقرة، الآية: 193. (¬3) سورة التوبة، الآية: 5. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، برقم 25، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم 22.

الأمر الأول: إعلاء كلمة الله تعالى:

رحمه الله (¬1)، فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور الآتية: الأمر الأول: إعلاء كلمة الله تعالى؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجلُ يُقاتل للمغنم، والرجلُ يُقاتل ليُذكر، والرجلُ يُقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) (¬2). الأمر الثاني: نصر المظلومين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (¬3). الأمر الثالث: رَدُّ العُدوان وحفظ الإسلام، قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقال سبحانه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا الله وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 18/ 70، وانظر: 18/ 70 - 86، ومحاضرة له رحمه الله بعنوان: ((ليس الجهاد للدفاع فقط)) في مجموع الفتاوى، 18/ 101 - 144، وانظر: المغني لابن قدامة، 12/ 10، والمقنع مع الشرح الكبير، والإنصاف، 10/ 12. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم 123، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم 1904. (¬3) سورة النساء، الآية: 75. (¬4) سورة البقرة، الآية: 194. (¬5) سورة الحج، الآية: 40.

خامسا: أنواع جهاد الأعداء:

خامساً: أنواع جهاد الأعداء: جهاد الأعداء أنواع؛ منها ما يلي: 1 - جهاد الكفار، والمنافقين والمرتدين (¬1). 2 - جهاد البغاة المعتدين الذين يخرجون على الإمام المسلم ولهم تأويل سائغ وشوكة، وفيهم منعة وقوة (¬2)، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬3)، وعن عرفَجَة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه ستكون هناتٌ وهناتٌ (¬4)، فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان))، وفي لفظ: ((من أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم أو يُفرِّق جماعتكم فاقتلوه)) (¬5). 3 - الدِّفاع عن الدين، والنفس، والأهل، والمال، ويدخل في هذا النوع جهاد قُطّاع الطُّرق (¬6)، وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن ¬

(¬1) انظر: التفصيل في ذلك: زاد المعاد، 3/ 100، و3/ 6 - 11، والمغني لابن قدامة، 12/ 264. (¬2) انظر: المغني 12/ 237. (¬3) سورة الحجرات، الآيتان: 9، 10. (¬4) الهنات: الفتن والأمور الحادثة. (¬5) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، برقم 1852. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 12/ 474، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 34/ 241.

قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد)) (¬1)، وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال لخالد بن العاص: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد)) (¬2). وعن مُخارق - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الرجل يأتيني يُريد مالي؟ قال: ((ذكِّرهُ بالله))، قال فإن لم يذكر؟ قال: ((فاستعن عليه من حولك من المسلمين))، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: ((فاستعن عليه السلطان))، قال: فإن نأى السلطان عني [وعجل عليَّ]، قال: ((قاتل دون مالك حتى تكون من شُهداء الآخرة أو تمنع مالك)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله))، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، برقم 4772، والنسائي، في كتاب المحاربة، باب من قاتل دون أهله، برقم 4091، وفي باب من قاتل دون دينه، برقم 4092، والترمذي، في كتاب الديات، باب من قاتل دون ماله، برقم 1421، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6445. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، برقم 141. (¬3) أخرجه النسائي، في كتاب تحريم الدم، باب ما يفعل من تعرض لماله، برقم 4086، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4293. (¬4) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، برقم 140.

سادسا: شروط وجوب الجهاد:

سادساً: شروط وجوب الجهاد: قد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى شروطاً للجهاد، منها ما ذكره الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى بقوله: ((ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحُرِّيّة، والذُّكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة))، ثم شرح ذلك بالتفصيل والتحقيق رحمه الله تعالى (¬1). سابعاً: استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد: لا شكَّ أن برَّ الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، ورتَّبه بثمَّ التي تعطي الترتيب والمُهلة (¬2)، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لوقتها))، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) (¬3)؛ ولأهمية بر الوالدين، وأنه من أعظم القربات، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن استأذنه في الجهاد: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) (¬4)، أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما (¬5)، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن هذا الرجل استفصل (( ... عن الأفضل في أعمال الطاعات؛ ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد فبادر ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 13/ 8. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 243. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم 527، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم 85. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم 3004، ومسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم 2549. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 140.

إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه، فَدُلَّ على ما هو أفضل منه في حقِّه)) (¬1)، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ففيهما فجاهد))، قال الحافظ ابن حجر أيضاً: ((أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما، والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد)) (¬2)؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد، والوسع، والطاقة في برهما؛ ولأهمية ذلك بيَّن العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية؛ فإن تعيّن الجهاد، وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضاً على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدوِّ على البلاد، أو حضور الصَّفِّ (¬3)، أما إذا كان الجهاد فرض كفاية فلا يجوز الخروج إليه إلا بإذن الوالدين؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((رِضَى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) (¬4)،وجاء في حديث جاهمة أنه جاء إلى - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك من أمٍّ؟))،قال: نعم، قال: ((فالْزَمها فإِنَّ الجنَّة تحت (¬5) رِجْلَيْهَا)) (¬6)، وعن أبي الدرداء ¬

(¬1) المرجع السابق، 6/ 140. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 10/ 403. (¬3) انظر: مشكل الآثار للطحاوي، 5/ 563، ومعالم السنن للخطابي، 3/ 378، والمفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 509. (¬4) أخرجه الترمذي، في كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، برقم 1899، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 4/ 152، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 516،وفي صحيح الأدب المفرد، ص 33،برقم 2. (¬5) تحت رجليها: أي نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلا برضاها، وكأنه لها وهي قاعدة عليه، فلا يصل إليك إلا من جهتها، [حاشية السندي على سنن النسائي، 6/ 11]. (¬6) أخرجه النسائي، في كتاب الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، برقم 3104، وأحمد في المسند، 3/ 429، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/ 151، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 138: ((رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات))، وحسنه عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول، 1/ 403.

- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه)) (¬1)؛ ولهذه الأحاديث لا يجوز الخروج إلى جهاد التَّطوّع، وفرض الكفاية إلا بإذن الوالدين، والبقاء معهما، والإحسان إليهما أفضل من الخروج بإذنهما، أما إذا تعيَّن الجهاد فلا؛ لأنه أصبح فرضاً على الجميع. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، برقم 1900، وقال: ((هذا حديث صحيح))، وقال عبد القادر الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 1/ 404: ((وهو كما قال)).

ثامنا: أمر الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده:

ثامناً: أمر الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده: ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1)؛ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) (¬2)، وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع)) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق)) (¬4). ومن طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه؛ لحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، برقم 7137، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، برقم 1835. (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، برقم 1847/ 52. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 35/ 16 - 17.

والداك))؟ قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله - عز وجل - وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه)) (¬2)، ومما يفسر ذلك قول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك)) (¬3)، وقال الإمام الخرقي رحمه الله: ((وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا: المقلّ منهم والمُكثر، ولا يخرجون إلى العدوِّ إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدوٌّ يخافون كلبَهُ – أي شرّه وأذاه – فلا يُمْكِنهم أن يستأذنوه)) (¬4)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو، وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه؛ لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليه؛ لتعيّن الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (¬5): ((وخير رجَّالتنا سلمة)) فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهم الفارس، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 3004، ومسلم، برقم 2549، وتقدم تخريجه في استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله تعالى. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه أو يتقى به، برقم 1841. (¬3) المغني لابن قدامة، 13/ 16. (¬4) مختصر الخرقي المطبوع مع المغني، 3/ 33. (¬5) المغني لابن قدامة، 13/ 33 - 34.

وسهم الراجل (¬1)، وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة أيضاً أنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يُحدث حدثاً إلا بإذنه (¬2)؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)؛ ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدوِّ فيأخذه ... )) (¬4). ولِما تقدّم لا يجوز لأحد من أفراد رعية الإمام المسلم – وإن كان عاصياً – أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذنه على حسب ما تقدم. قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((ويُغزى مع كلِّ برٍّ وفاجرٍ))، قال ابن قدامة: ((يعني مع كل إمام)) (¬5). ولا يجوز لأحد من رعية الإمام أن يدعو الناس إلى الجهاد بدون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين الذي أمرنا الله بطاعته، وعلى كل مسلم أن يسأل أهل العلم إن لم يعلم؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((والواجب أن يُعتبر في أمور ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، برقم 1807. (¬2) المغني لابن قدامة، 13/ 37. (¬3) سورة النور، الآية: 62. (¬4) المغني لابن قدامة، 13/ 38. (¬5) المرجع السابق، 13/ 14.

الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، في الباطن الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يُؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا)) (¬1). ومما يُؤكد أهمية السمع والطاعة ما حصل لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية حينما اشتد عليهم الكرب بمنعهم من العمرة، وما رأوا من غضاضة على المسلمين في الظاهر، ولكنهم امتثلوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك فتحاً قريباً، وخلاصة ذلك أن سهيل بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: اكتب باسمك اللهم، فوافق معه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم يوافق سهيل على كَتب محمد رسول الله، فتنازل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر أن يكتب محمد بن عبد الله، ومنع سهيل في الصلح أن تكون العمرة في هذا العام، وإنما في العام المقبل، وفي الصلح أن من أسلم من المشركين يردُّه المسلمون، ومن جاء من المسلمين إلى المشركين لا يُردّ، وأول من نُفِّذ عليه الشرط أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فردَّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد محاورة عظيمة، وحينئذٍ غضب الصحابة لذلك حتى قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألست نبيّ الله حقّاً؟ قال: ((بلى))، قال: ألسنا على الحق، وعدوُّنا على الباطل؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((بلى))، قال: فلم نُعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: ((إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري))، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، فلما فرغ الكتاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فشكا ذلك، فقالت: انحر واحلق، ¬

(¬1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص449.

فخرج فنحر، وحلق، فنحر الناس وحلقوا حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً (¬1)، فحصل بهذا الصلح من المصالح ما الله به عليم، ونزلت سورة الفتح، ودخل في السنة السادسة والسابعة في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً بعد الفتح في السنة الثامنة. وهذا ببركة طاعة الله ورسوله؛ ولهذا قال سهيل بن حنيف - رضي الله عنه -: ((اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردّ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرددته)) (¬2)، وهذا يدل على مكانة الصحابة - رضي الله عنهم -، وتحكيمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحصل لهم من الفتح والنصر ما حصل ولله الحمد والمنة. ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، برقم 2731، 2732، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية، برقم 1784. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجزية والموادعة، باب رقم 18، برقم 3181، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم 1785/ 95.

تاسعا: الاعتصام بالكتاب والسنة وخاصة أيام الفتن:

تاسعاً: الاعتصام بالكتاب والسنة وخاصة أيام الفتن: يجب على المسلم أن يعتصم بالكتاب والسنة، وخاصة في أيام الفتن؛ ولهذا حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن واستعاذ منها، وأمر بلزوم جماعة المسلمين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تعوَّذُوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) (¬1)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج))، قالوا: يا رسول الله، أيّما هو؟ قال: ((القتل، القتل))، وفي لفظ: ((يتقارب الزمان، وينقص العلم ... )) (¬2). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرّ منه، فعن الزبير بن عدي - رضي الله عنه - قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحَجَّاج فقال: ((اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشرّ منه حتى تلقوا ربكم))، سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وحثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال الصالحة قبل الانشغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة، فقال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمناً ويُمسِي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2867. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الفتن، باب ظهور الفتن، برقم 7061، ومسلم، في كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، برقم 157/ 12، بعد حديث رقم 2672. (¬3) أخرجه البخاري، في كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم 7068. (¬4) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم 118.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)) (¬1). والمخرج من جميع الفتن المضلَّة التمسك بالكتاب والسُّنَّة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم؛ لأن من خالف ذلك فهو من الضَّالين. قال الله - عز وجل -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬3). وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (¬4)، وقال تعالى فيمن يخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3601، ومسلم، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، برقم 2886. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬3) سورة النساء، الآية: 65. (¬4) سورة طه، الآيات: 124 – 126. (¬5) سورة النور، الآية: 63.

وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وجعل الذُّلّ والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) (¬1)، وجاء في السُّنن والمسانيد ما أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكة (¬2) يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه، ألا وإني أُوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم)) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ((فعلى كل مؤمن أن لا يتكلَّم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعاً لقوله، وعمله تبعاً لأمره، فهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يُعارض النصوص بمعقوله، ولا ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 2/ 50، 92، وعبد بن حميد، برقم 848، والطبراني في مسند الشاميين، برقم 216، وابن الأعرابي في معجمه، برقم 1137، وعلق البخاري الجزء الأول منه في صحيحه بصيغة التمريض في كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح ويذكر عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري))، وأخرج أبو داود آخر الحديث في كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم 4031، وصحح إسناده العلامة أحمد بن محمد شاكر في شرحه وترتيبه للمسند، برقم 5114، 5115، 5667 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح الحديث أيضاً الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم 2831. (¬2) الأريكة: السرير في الحجلة، ولا يسمى منفرداً أريكة، وقيل: هو كل ما اتكئ عليه، وقوله: ((لا ألفين)) يقال: ألفيت الشيء إذا وجدته، وصادفته، جامع الأصول، لابن الأثير، 1/ 282. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب السنة، باب لزوم السنة، برقم 4604، 4605، وابن ماجه، في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتغليظ على من عارضه، برقم 12، وصححه الألباني من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - في صحيح أبي داود، 3/ 318، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 19/ 85.

يُؤسِّس ديناً غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أراد معرفة شيء من الدِّين نظر فيما قاله الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر، وبه يستدلّ، فهذا أصل أهل السنة)) (¬1). ولا شك أن الاختلاف يسبب الشرور الكثيرة، والفرقة، والعذاب؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة))، قيل: من هم يا رسول الله، قال: ((هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي))، وفي لفظ: ((الجماعة)) (¬3)، أي: هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنّون بغير سُنتي، ويهتدون بغير هَديي، ¬

(¬1) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 63. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 105. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، 4597، والترمذي، في كتاب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، برقم 2641، وابن ماجه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992.

تعرف منهم وتُنكر))، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1). قال الإمام النووي – رحمه الله -: ((وفي حديث حذيفة هذا: لزوم جماعة المسلمين، وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق، وعمل المعاصي: من أخذ الأموال، وغير ذلك فتجب طاعته في غير معصية، وفيه معجزات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي هذه الأمور التي أخبر بها وقد وقعت كلها)) (¬2). ولا شك أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تزال فيهم طائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى تقوم الساعة؛ لحديث معاوية - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرّهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس)) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، برقم 7084، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، برقم 1847. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 479، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 37. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب المناقب، باب رقم 28، برقم 3641، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1037/ 174.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1