المفاتيح في شرح المصابيح

مظهر الدين الزَّيْداني

مقدمة إدارة الثقافة الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدَّمَة إدَارة الثَّقَافَةِ الإِسلامِيَّة إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمدُه ونَسْتعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله مِن شُرورِ أنفسِنا، وسَيَّئاتِ أَعمالنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أَجمعين. أمّا بعد: فإنَّ الإمامَ مُظْهِرَ الدِّينِ الحُسينَ بنَ محمود بنِ الحُسينِ الزَّيدانيَّ، الشِّيرازيَّ، الحَنفيَّ، المشهورَ بـ (المُظْهِرِي)، ويُقال له: (المُظْهِر)، والمتوفَّى سنةَ (727 هـ)، كانَ إمامًا فَقيهًا محدَّثًا، قد ألَّفَ المؤلَّفاتِ البديعةَ الشاهِدَةَ على عُلُوِّ كَعبِه في العلوم، وكانت مَرجِعًا للعُلماء والمحقِّقين، وكان مِنْ أكثرِها شُهرةً عند أهلِ العلم ونَقْلًا عنها كتابُه المَوسومُ بـ "المَفَاتيح في شرح المصابيح"، والذي اشتملَ على شَرحِ غَالبِ مَادَّةِ أحاديثِ الكتابِ

التي قارَبَت الخمسةَ آلافِ حديث. عُنِيَ فيه - رحمه الله - ببيانِ مُفرداتِه، وحَلِّ إشكالاته، وجَمْع اختلافاتِه، وإعرابِ ما اسْتَغْلَقَ من ألفاظِه، وبَثَّ فقهَ الأئمةِ الأَربعةِ في كثيرٍ مِنْ أحاديثه. فأتى شَرحًا مُفيدًا محرَّرًا، ليس بالطَّويلِ المُمِلِّ، ولا بالقَصيرِ المُخِلِّ، اعتمدَ في النقل عنه كثيرٌ من الشُّرَّاح المتأخِّرين؛ كالإمامِ الطيْبِيِّ وزَينِ العَرَبِ والكَرمانِّي والبِرماوِيِّ وابنِ حَجَر والعَيني والقَسْطَلاني وغيرهم. وقد وافَت الإمامَ المُظْهِريَّ المَنِيَّةُ قبلَ تمامِ شَرحِه، فوصلَ فيه إلى أُخْرَياتِ كتابِ المصابيح، فأتمَّه أحدُ تلامذته على نَسَقِ منهج المؤلِّف في أُسلوبه ومَصادره، فظهرت التتمةُ وكأنَّها مِن شرحِ الإمامِ المُظْهِريِّ رحمه الله تعالى. هذا، وقد قامت لجنةٌ علميَّةٌ مختصَّةٌ من المحقِّقين في دار النوادر بإشراف الشَّيخ نورِ الدِّين طالب بتحقيق هذا السِّفْر الجليل تحقيقًا عِلميًا مُتميزًا مِنْ عنايةٍ خاصَّةٍ بضبط النَّصِّ، معتمدِينَ في نَشْرِه على أربع نُسَخٍ خَطَّية.

كما حُفَّ إصدارُه بجَودَةِ التَّنضيد والإِخْراج والطَّباعة، مع التَّنْويهِ بجهودِهم المشكورةِ في نَشْرِ شروحِ مصابيحِ السُّنَّة التي تصدُر لأوَّلِ مرَّةٍ إلى عالم المَطْبوعات، فجزاهم اللهُ على حُسْنِ صَنِيعهم خيرَ الجزاء، وأثابهم خيرَ العَطَاء. وإنَّ إدارةَ الثقافةِ الإِسْلامية، إذ يَسُرُّها أنْ تَزُفَّ هذا الكتابَ النَّفِيسَ إلى رُوَّامِ العلمِ ومُحبِّيه، تَأمَلُ مِنَ اللهِ أنْ يكونَ عَملُها مُتقبَّلًا، وتَدعوه سبحانه أنْ يبارِكَ جهودَها في نشرِ الإرثِ الثَّمينِ مِنْ تراثِ الأمَّةِ الإِسلامية، لِما يُسْهِمُ في رِفْعة الأمَّة وعُلُوِّ مَكانتها، وأَنْ يوفِّقَها للكثيرِ الطَّيِّبِ مِنْ ذلك، إنَّه سبحانه نعمَ المَولى ونِعْمَ النَّصير. إدَارَة الثَّقَافَةِ الإسلاميَّة ° ° °

مَوسُوعَةُ شُرُوْحِ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ المُشْرِفُ العَام نُورُ الدَّيْن طَالِب اللَّجْنَةُ العِلْمِيَّةُ الَّتِي شَارَكَتْ في تَحْقِيقِ هَذَا الكتَابِ: - محمد خَلُّوف العبد الله - توفيق محمود تكله - ياسِيْن عَبد الله حمبول - محمَّد عَبد الحلِيم بَعَّاج - عَلاء الدَّين بَدْرَان - جَمال عَبد الرحيم الفارس

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدَّمَة التَّحقِيْق الحمدُ لله منزلِ الشرائعِ والأحكام، وجاعلِ سنَّةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - مبينة للحلال والحرام، والهادي من اتَّبعَ رضوانَه سُبلَ السَّلام. وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، شهادةَ تحقيقٍ على الدوام. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبِه الكرام. أمّا بعد: فإنَّ الله - جلَّ وعلا - قد هيَّأ لهذه الأمَّةِ علماءَ ربَّانيين، حَفِظوا حديثَ نبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - في دواوين ألَّفوها في السُّنن والأحكام، والحلال والحرام، وما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال ونَفَائسِ الأحوال الداعيةِ إلى طُرق الخيرِ وسُبُل الرَّشاد، وما دعا إليه من مكارم الأخلاقِ ومحاسنِ الآداب. وكان كتابُ "مصابيح السُّنَّة" للإمام محيي السنة، شيخِ الإِسلام البَغَويِّ أجمعَ كتابٍ صُنِّف في بابه، وأضبطَ لشواردِ الأحاديث وأَوابِدها (¬1). وهو الكتابُ الذي عكف عليه المتعبِّدون، واشتغل بتدريسه الأئمةُ ¬

_ (¬1) انظر: "مشكاة المصابيح" للتبريزي (1/ 3).

المعتبرون، وأقرَّ بفضله وتقديمه الفقهاءُ المحدثون، وقال بتمييزه الموافقون والمخالفون (¬1). وهو كتابٌ مُبَاركٌ، وفيه عِلم جَمٌّ من سُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ناهزت أحاديثُه الخمسةَ آلاف حديث، أحسنَ الإمامُ في ترتيبها، وفاقَ ترتيبُه للكتب كثيرًا من كتب الحديث المصنَّفة، فإنَّه وضَعَ دلائلَ الأحكام على نَهجٍ يستحسنُه الفقيهُ، فوضع الترغيبَ والترهيب على ما يقتضيه العلم، ولو فكَّر أحدٌ في تغيير بابٍ عن موضعه لم يجدْ له موضعًا أنسبَ مما اقتضى رأيُه (¬3). وقد كثُرت عناية العلماءِ بهذا الكتاب الجليل، وتنوَّعت الشروحُ والتعليقاتُ والتخريجاتُ عليه، وكان من بين تلكَ الشروحِ: - "شرح المصابيح" لعلَم الدين السَّخَاوي (ت 643 هـ). - "الميسَّر في شرح مصابيح السنة" لشهاب الدين فضل الله التوربشتي (ت 661 هـ). - "المفاتيح في شرح المصابيح" للحسين بن محمود الزَّيداني المُظْهِري. - "شرح المصابيح" لابن المَلَك الحنفي. - "التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح" للفيروزأَبادي (ت 817 هـ). - "شرح المصابيح" لابن كمال باشا (ت 940 هـ). ¬

_ (¬1) انظر: "كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" لصدر الدين المناوي (1/ 5). (¬2) انظر: "الميسر في شرح المصابيح" للتوربشتي (1/ 29). (¬3) كما قال محمَّد بن عتيق الغرناطي (ت 646 هـ).

وقد اختصر "المصابيح" غيرُ واحدٍ من الأئمة، كان من أبرزِها: "مشكاة المصابيح" للتَّبْرِيزي، والذي شرح الإمامُ الطَّيبيُّ في كتاب سماه: "الكاشف عن حقائق السُّنن"، وكذا شرحه العلامةُ ملا علي القارِيُّ في "مِرقاة المفاتيح". كما قام بتخريج "المصابيح" الإمامُ صدرُ الدين المَناويُّ (ت 803) في "كشف المناهج والتَّناقيح في تخريج أحاديث المصابيح"، ولخَّصه الحافظُ ابنُ حجر في "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة". إلى غيرِ ذلك من الشروحِ والتَّعاليق القيَّمة، ومِنْ هنا عُنينا بتلك المؤلَّفاتِ عنايةً خاصةً في مشروعنا "موسوعة شروح السنة النبوية" التي نسألُ اللهَ أن يكتبَ لها القَبول والتَّمامَ، وأن يوفِّقنا لإصدارها كما أرادها مؤلِّفوها أنْ تخرجَ لأهل الإِسلام، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه. وقد تناولنا في تحقيقنا جملةً من الشُّروح النفيسةِ التي لم تَرَ النورَ بعد، وألفينا فيها علومًا جَمَّةَ لا يستغني عنها مَنْ تَشَرَّب لِبانَ السنَّةِ النبوية، وحَرَصَ على أخذِها رِوايةً ودِرايةً. وحسبُ المرءِ احتفاءً بجملة الشُّروح المحققَّةِ، والتي نُخرجها إلى عالم المطبوعات لأول مرة، أنَّها تأتي بعد نَشْرِ شَرحٍ واحدٍ يتيمٍ لهذا الكتابِ الجليل، وهو شرحُ الإمام التُّوْرِبِشْتي، فلله الحمدُ على مَنِّه وتوفيقه. ومن تلكَ الشروحِ الحافلةِ، شرحُ الإمامِ مُظْهِرِ الدَّين الحُسين بن محمود الزَّيداني المُظْهِري، الذي نقومُ بإصدارِه لأوَّلِ مَرَّةٍ مُقابَلًا على أربعِ نُسَخٍ خَطَّية. وقد اشتملَ هذا الشَّرحُ على غالبِ مادَّةِ "مصابيح السُّنَّة" للإمام البَغَوِي رحمه الله تعالى. وقد عُني فيه - رحمه الله - ببيانِ مُفْرداتِه، وحَلِّ إشكالاته، وإعرابِ

ما استغلقَ مِنْ ألفاظِه، وجَمْعِ اختلافاته، وبَثَّ فقهَ الأئمَّةِ الأربعةِ في كثيرِ من أحاديثِهِ. فأتى شَرْحًا مُفيدًا مُحَرَّرًا، ليسَ بالطَّويلِ المُمِلِّ، ولا بالقصيرِ المُخِلِّ، اعتمد في النقلِ عنه كثيرٌ من الشُّرَّاحِ المتأخِّرين؛ كالإمامِ الطَّيبيِّ في "شرح المِشْكاة" ورَمَزَ له بـ (مظ)، وكذا نقلَ عنه شُرَّاحُ "المصابيح"؛ كالإمام ابن المَلَك، وزَينِ العَرَب، ومُلَّا علي القَاريِّ، وأَكْثَرَ الكَرْمانيُّ في "شرح البخاري" وتَبِعَه البِرْمَاوِيُّ في "اللامع الصَّبيح بشرح الجامع الصحيح" في النقلِ عنه، ونقلَ عنه الحافظُ ابنُ حجرٍ والعَينيُّ والقَسْطَلاني وغيرُهم من شُرَّاح البُخاريِّ. وقد امتازَ هذا الشرحُ ببساطة ألفاظِه، وسُهولة جُملِه وعِبَاراتِه، ووضوحِ ما المرادُ مِنْ أحاديثِه. وقد وافتِ الإمامَ المُظْهِريَّ المنيةُ قبلَ تَمامِه، فوصلَ فيه إلى أُخريات كتاب "مصابيح السنة" عند (باب المَلاحم) من (كتاب الفتن) (¬1)، فأتمَّه أحدُ تلامذَتِهِ على نَسَقِ مَنْهَجِ المؤلَّفِ - رحمه الله - في أسلوبِه ومَصَادِرِه، فظهرتْ هذه التَّتمَّةُ وكأنَّها مِنْ شَرْحِ الإمام المُظْهِريِّ رحمهما الله تعالى. هذا وقد تمَّ التقديمُ للكتاب بترجمة الإمام البغوي، وترجمة الإمام المظهري - رحمهما الله تعالى - ثم تلاه تعريف بمنهج المؤلِّف في هذا الشرح. وتمَّ تذييلُ الكتابِ بِفِهْرسِ أطرافِ الأحاديث النبوية الشريفة التي شرحها المؤِّلفُ، ثمَّ فِهرسٍ لعناوينِ الكُتب والأبواب. اللهمَّ اجعلنا ممَّنْ يَسْتَنهج كتابَكَ وسنَّةَ نبيِّكَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلْ نيَّتَنا ¬

_ (¬1) عند شرح الحديث رقم (4188)، وهو في مطبوعتنا (5/ 380).

خالصةً لوجهكَ الكريمِ في نَشْرِ السنَّةِ المُطَهَّرة، يدومُ الأجرُ فيها بعد الممات، ونَبْلُغُ بها منزلةً مرضيَّةً عندك، إنَّكَ وليُّ ذلك والقادرُ عليه، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه أجمعين، والحمدُ لله ربِّ العالمين. حَرَّرَهُ نُورُ الدَّيْن طَالِب ذو الحجة/ 1432 هـ ° ° °

الفصل الأول

الفَصْلُ الأَوَّلُ: تَرْجَمَةُ الإِمَامِ البَغَويّ (¬1) صَاحِب "مَصَابِيِح السُّنَّةِ" " هو الشَّيخ الإمام، العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السُّنة، أبو محمَّد الحسين بن مسعود بن محمَّد بن الفَرّاء البَغَوي الشافعي المفسِّر، صاحب التصانيف كـ "شرح السنة"، و"معالم التنزيل"، و"المصابيح"، وكتاب "التهذيب" في المذهب، و"الجمع بين الصَّحيحين"، و"الأربعين حديثًا"، وأشياء. تفقه على شيخ الشَّافعية القاضي حُسين بن محمَّد المَرْورُّوذي صاحب "التعليقة" قبل السِّتين وأربع مئة، وسمع منه، ومن أبي عمرَ عبدِ الواحد بنِ أحمد المَليحي، وأبي الحسن محمَّد بن محمَّد الشِّيرزي، وجمال الإِسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمَّد الدَّاودي، ويعقوب بن أحمد الصَّيرفي، وأبي الحسن على بن يوسف الجُويني، وأبي الفضل زياد بن محمَّد الحنفي، وأحمد بن أبي نصر الكُوفاني، وحسان المَنيعي، وأبي بكر محمَّد بن أبي الهيثم التُّرابي وعدة، وعامَّةُ سماعاته في حدود الستين وأربع مئة، وما علمتُ أنَّه حَجَّ. ¬

_ (¬1) نقلًا عن "سير أعلام النبلاء" للذهبي (19/ 439). وانظر ترجمته في "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 136)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1257)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (7/ 75)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (1/ 311)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (4/ 48)، وغيرها.

حدث عنه أبو منصور محمَّد بن أسعد العَطَّاريُّ عُرِف بحفدة، وأبو الفُتوح محمَّد بن محمَّد الطَّائي، وجماعة. وآخر مَنْ روى عنه بالإجازة أبو المكارم فضل الله بن محمَّد النُّوقاني الذي عاش إلى سنة ست مئة، وأجاز لشيخنا الفخرِ بن علي البُخاريِّ. وكان البَغَوي يلقَّب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيَّدًا إمامًا، عالمًا علامة، زاهدًا قانعًا باليسير، كان يأكل الخبز وحدَه، فَعُذِل في ذلك، فصار يَأْتدم بزيتٍ، وكان أبوه يعمل الفِراءَ ويبيعها. بُورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القَبول التام لحُسن قصده وصدق نيته، وتنافس العلماءُ في تحصيلها، وكان لا يُلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصِدًا في لباسه، له ثوبُ خام، وعمامة صغيرة على منهاج السَّلف حالًا وعَقْدًا، وله القدمُ الراسخ في التفسير، والباع المديد في الفقه، رحمه الله. توفي بمَرْو الرُّوذ مدينةِ من مدائن خراسان، في شوال سنة ست عشرة وخمس مئة، ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعًا وسبعين سنة، رحمه الله. * * *

ترجمة الشارح العلامة المظهري

تَرجَمَة الشَّارِح العَلَّامَة المُظْهرِيِّ (¬1) هو الإمامُ الفقيهُ المحدَّثُ مُظْهِرُ الدِّينِ الحُسينُ بنُ مَحْمودِ بنِ الحُسينِ (¬2) الزَّيْدَانيُّ (¬3) الضَّريرُ الشِّيرازيُّ (¬4)، الحَنَفيُّ (¬5)، المشهورُ بـ "المُظْهِري"، ويقال له: "المُظهِر". ¬

_ (¬1) لم نعثر - بعد طول البحث والتفتيش - عن ترجمة مفصَّلة للإمام المُظهري في المصادر والمراجع المتداولة، ولم نجد له ذكرًا إلا في "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1699، 1776)، و"هدية العارفين" للبغدادي (2/ 108)، و"إيضاح المكنون" له (2/ 536)، و"الأعلام" للزركلي (2/ 259). وقد حاولنا في هذه السطور جمع بعض النُّتف عن اسمه ونسبه ومؤلفاته مما تيسَّر اقتناصه من تلك المصادر وغيرها مما سنح للجهد الوقوف عليه. (¬2) وقال حاجي خليفة والبغدادي في "هدية العارفين" و"الزركلي": "الحسن" بدل "الحسين"، ولعلَّ الصواب ما أثبت؛ لما ورد في النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق "المفاتيح في شرح المصابيح". (¬3) قال الزركلي: نسبته إلى صحراء زيدان بالكوفة. (¬4) كذا نسبه البغدادي في "إيضاح المكنون". (¬5) كذا جاءت نسبته "الحنفي" على غلاف النسختين الخطيتين لدار الكتب المصريه "ق"، والتيمورية "ت" لكتاب "المفاتيح في شرح المصابيح".

له من المؤلِّفات والتَّصانيف: 1 - "المفاتيح في شرح المصابيح" وسيأتي الكلام عنه. 2 - "المُكَمَّل في شَرح المُفَصَّل للزَّمخشري"، قال حاجي خليفة: وأوله: "الحمد لله الذي قَصُر عما يليقُ بكبريائه ... إلخ"، فَرَغَ من تصنيفه في جمادى الآخرة سنة (659 هـ)، وقال: ومن شروح أبياته شرح أوله: الحمدُ لله الذي فَضَّلَ الإنسانَ بفضيلة البيان ... إلخ. وفي ظهره: عدد أبيات "المفصَّل" (424) بيتًا (¬1). ونُسَخُ هذا الكتابِ كثيرةٌ، ولدينا نسخةٌ خطيَّةٌ منه، جاء في نصِّ مقدمتها: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون، الحمدُ لله الذي قَصُر عما يليق بكبريائه ... أما بعد: فقد دعاني فئةُ خُلَصائي وزُمرةُ خِلَّاني أنْ أشرحَ لهم كتابَ "المفصَّل" في النحو، تأليف الإمام فخرِ خَوارِزُم محمود ... ، ورامُوا أن يكونَ شرحًا لا يبقى معه في الفصل إشكال ... ، ولا يكون في الفوائد إخلال، فطلبوا أنْ تكونَ جميعُ ألفاظِ "المفصَّل" بالحُمرة، والشرح بالسَّواد، وليكون في التعليم والتعلُّم أيسر ... ، فأَجبتُهم إلى مُلْتَمَسِهم، ووفرت نفعَ مُقْتَبَسهم، وسميته بكتاب: "المكمَّل في شرح المفصَّل"، واستعنتُ على إتمامه بالله العليِّ الكبير ... ". ¬

_ (¬1) انظر: "كشف الظنون" (2/ 1776)، هذا وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن العثيمين في مقدمة تحقيقه لكتاب "شرح المفصل" للقاسم بن الحسين الخوارزمي (1/ 52) مَنْ شَرَحَ "المفصل" للزمخشري، فعدَّ شرح مظهر الدين محمَّد، واستفهم عنده، ثم قال: من علماء القرن السابع، لم أقف على ترجمته، أتم تأليف شرحه سنة (659)، وسماه "المكمل في شرح المفصل"، نسخه كثيرة، وأغلبها عليها تعليقات مما يدل على أنَّه كان يدرَّس للطلبة في عصر من العصور.

ويظهر من هذه الجمل أنها مكتوبةٌ بالنَّفَس نفسِه الذي كَتَبَ به المؤلَّفُ - رحمه الله - مقدمةَ شرحهِ: "المفاتيح في شرح المصابيح". 3 - "شرح مقامات الحَريري"، وقد ذكره البغدادي في "إيضاح المكنون" (¬1)، وذكر أنه امتلك نسخة منه كتبت سنة (695 هـ). 4 - "معرفة أنواع الحديث"، وهي رسالة مُستَخْرجة من مقدمة كتاب "المفاتيح في شرح المصابيح"، كما ذكر الزِّرِكْلي. 5 - "فوائد في أصول الحديث"، ذكره الزِّركلي. * وقد أرَّخَ حاجَّي خليفة والبغداديُّ والزَّرِكْليُّ وفاةَ الإمام المُظْهِريِّ سنةَ (727 هـ). ° ° ° ¬

_ (¬1) انظر: (2/ 536).

الفصل الثاني

الفَصْلُ الثَّاني: دِرَاسَة الكِتَاب * أولًا: تحقيق اسم الكتاب، وإثبات صحة نسبته إلى المؤلف: - نصَّ المؤلفُ - رحمه الله - في مقدمة شرحه هذا على اسم مؤلَّفه فقال: وسميته بكتاب: "المفاتيح في شرح المصابيح". - وكذا جاء على غلاف النُّسختين الخطَّيتين لمكتبة دار الكتب المصرية المرموز لها بـ "ق" وشستربتي المرموز لها بـ "ش". وقد جاء على غلاف النسخة الخطية للمكتبة التَّيمورية والمرموز لها بـ "ت": "المفاتيح على المصابيح"، وكذا سماه حاجِّي خليفة والزَّرِكليُّ. وجاء في "كشف الظنون" لحاجي خليفة إشارة إلى تسميته بـ "المفاتيح في حَلِّ المصابيح" وتبعه البغداديُّ في "هدية العارفين". وقد تمَّ اعتمادُ ما نصَّ عليه المؤلفُ - رحمه الله - في مقدمته، وما جاء على ظهر النُّسخ الخطية المعتمدة في التحقيق. هذا وقد جاء في نهاية المجلد الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية المرموز لها بـ "ق" تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهو رمضان سنة (657 هـ) (¬1). ¬

_ (¬1) وقد ذكر الزركلي في "الأعلام" أنه أتم تأليفه سنة (720 هـ).

* أما نسبة هذا الشرح إلى الإمام المظهري: فقد جاء على غلاف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق نسبةُ الشرحِ إلى الإمام مُظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسين الزَّيداني المُظْهِري. - وجاء في مقدمة "تتمة المفاتيح" (¬1) أنه متمِّم لشرح المصابيح (لمولانا وسيدنا أفضل عصره، وعلامة دهره، مُظْهِر الملة والدين الحسين بن محمود بن الحسين الزيداني). - كما نسب إليه هذا الشرحَ كلٌّ من حاجِّي خليفة والبغداديُّ والزِّركليُّ. - ونقل عنه جمعٌ كثيرٌ من الشُّرَّاح؛ كالإمامِ الطَّيبيَّ في "شرح مِشْكاة المصابيح" ورمز له بـ "مظ" (¬2)، وابنِ المَلَك وزَينِ العَرَب في شرحيهما على "مصابيح السنة"، ومُلَّا علي القَارِيِّ في "مِرْقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح". - وأَكْثَرَ الكَرمانيُّ في "شرح البخاري" وتبِعه البِرْماويُّ في "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" من النقل عنه. - ونقل منه الحافظُ ابنُ حجر والعَينيُّ والقَسْطلاني في شروحهم على البخاري، وكذا المُنَاوي في "فيض القدير"، وغيرهم من الشُّرَّاح. * "تتمة المفاتيح في شرح المصابيح": وافتِ المؤلفَ - رحمه الله - المنيةُ قبلَ إتمام مُراده في تأليف هذا الكتاب، فوصل فيه إلى (باب الملاحم) من (كتاب الفتن)، الحديث رقم (4187) (¬3). ¬

_ (¬1) (5/ 383). (¬2) كما ذكر في مقدمته (1/ 35). (¬3) انظر: (5/ 380) من مطبوعتنا.

وقد جاءت الإشارة إلى وقوف المؤلَّفِ عند هذا الحديث في النسخ الخطية لدار الكتب المصرية "ق"، وشستربتي "ش"، والنسخة المجهولة المصدر "م". ولم يُذكر اسمٌ صريحٌ لهذه التتمة، ولا صاحبها الذي أتمَّ الشرحَ مبيَّنًا، وإنما جاء في النسخة الخطية مجهولة المصدر والمرموز لها بـ "م": أنَّ المؤلف وصل إلى هنا، وتوفي غفر الله له، وأتم هذا الكتاب المبارك الفقيه العالم البارع الكامل شرف الملة، قال (عثمان) مدَّ الله ظلَّه: ابتدأ شرحه من ههنا. وجاء في النسختين الخطيتين لمكتبة دار الكتب المصرية "ق" وشستربتي "ش" مقدمة لهذه التتمة جاء فيها: "أحمدُ اللهَ حقَّ المحامد والثناء، وأشكره على جميع نَعْمائه وجزيل آلائه ... "، وفيها: "فإنَّ جمعًا كثيرًا من الأصدقاء التمسوا من هذا الضعيف أنْ أتمم "شرح المصابيح" في الحديث لمولانا وسيدنا أفضل عصره وعلامة دهره، مُظْهر الملة والدين الحسين بن محمود بن الحسين الزَّيداني قدس الله روحه، وأدام إليه فتوحه، فأجبت لملتَمسهم، ممتثلًا لأوامرهم، ومشمِّرًا له ذيلَ تقصيري بيُمن نَفَسِهم، واستخرتُ الله تعالى مستعينًا به، ومستمدًا بكرمه جل جلاله أن لا يكلَني إلى نفسي وجهلي، ويعينَني على إتمامه، ويوفِّق لي تحصيلَ ما هممتُ إليه ... ". ثم جاء في نهاية النسخة الخطية "م". "هذا آخر تتمة شرح مولانا وسيدنا الإمام مظهر الدين، قدس الله روحه"، ثم جاء: "تممتُ هذا الكتاب بعون الله تعالى وطلب غفرانه في شهر الله الأصمَّ رجبٍ المرجَّب من سنة اثنتين وستين وسبع مئة الهلالية. كتبه محمَّد بن أحمد بن محمَّد الأبهري حامدًا ومصليًا". فينظرُ فيما جاء في اسم صاحب التتمة في النسخة الخطية "م" وأنَّ اسمه عثمان، وما جاء في آخرها من كتابة هذه التتمة سنة (762 هـ) بيد محمَّد بن أحمد ابن محمَّد الأبهري، وهل هو المتمِّم أو الناسخ؟

* تنبيه مهم: وقع كثيرٌ من الشرَّاح والنَّقلة عن كتاب الإمام المُظهري هذا "المفاتيح في شرح المصابيح" في الخطأ، عندما راحوا يعزُونَ كثيرًا من النُّقول إليه وهي من كلام صاحب التتمة لا من كلام صاحب "المفاتيح". وقد وقفنا على مواضعَ كثيرةٍ في "شرح المِشْكاة" للإمام الطَّيبيِّ، و"مِرْقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح" لملَّا على القَاري في عزوهم نقولًا كثيرةً إلى الإمام مُظْهر الدين، وهي من كلام صاحب التتمة، وذلك بعد الحديث (4187) من (كتاب الفتن) (¬1). كما وقفنا على عزوٍ خطأ للإمام العَينيِّ في "عمدة القاري" (¬2) لهذا الشرح، فذكر عن بعضهم قوله: زعم بعض الشراح أن المراد بأنه لا يبلى، أي: يطول بقاؤه لا أنه لا يبلى أصلًا. وهذا مردود لأنه خلافُ الظاهر بغير دليل، انتهى. ثم قال العَينيُّ: قلت: (بعض الشراح) هذا، هو شارح المصابيح الذي يسمَّى شرحه مظهراً، وليس هو شارح البخاري، انتهى. قلت: وهذا الكلام المنقول الذي عزاه العينيُّ للمُظهري في شرحه إنما هو مِنْ كلام صاحب التتمة كما تجده في مطبوعتنا هذه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مرقاة المفاتيح" لملا علي القاري (10/ 64، 75، 81، 147، 274) و (11/ 8، 32، 103، 218، 314) وغيرها من المواضع في المجلدين العاشر والحادي عشر من المطبوع. (¬2) انظر: (19/ 146). (¬3) انظر: (5/ 467).

ثانيا: منهج المؤلف في الكتاب

* ثانيًا: منهج المؤلف في الكتاب: ذكر الإمامُ المُظْهريُّ في مقدمة هذا الشَّرح أنَّ زُمرة خِلَّانه وثُلَّة خُلَصائه ألحُّوا عليه في أنْ يضعَ لهم شرحًا على كتاب المصابيح، وطلبوا منه أن لا يكون هذا الشرحُ مطوَّلًا مُمِلًا، ولا مُختَصَرًا مُخِلًا، فأجابهم - رحمه الله - إلى ذلك. ثمَّ ذكر أنَّه أوردَ في أوَّلِ الكتاب مقدمةً في اصطلاحات أصحاب الحديث وأنواع علوم الحديث. وأورد فيه كلَّ راوٍ لم يكن مذكورًا في متن المصابيح. وتَرَكَ ذِكْرَ مَنْ هو مذكورٌ فيه. ثمَّ بدأ - رحمه الله - بذكر المقدمةِ التي وَعَدَ في معرفة أنواع علم الحديث، وقسَّمها إلى عشرينَ نوعًا. ثمَّ شَرَعَ بشرح مقدمةِ الإمام البَغَويَّ - رحمه الله - وما انطوت عليه من الإشارات والتنبيهات. ثمَّ أتى على شرح أحاديث الكتاب، شارحًا لها حديثًا حديثًا، على ترتيب الإمام البَغَويَّ، وظهر من ذلك أنَّه لم يُغفِلْ حديثًا من الأحاديث إلا وشَرَحه. وقد تبيَّن من خلال شرحه - رحمه الله - أنَّه عُني ببيان أسماء الرُّواة وضَبْطِهم؛ كقوله في حديث: "المُسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون ... " رواه فَضالة بن عُبيد. قال: وفضالة - بفتح الفاء -: اسم جد نافذ بن قيس بن صُهيب، وكنية فَضَالة أبو محمَّد، وهو الأنصاري (¬1). وكقوله في حديث: "إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جُرمًا ... " رواه ¬

_ (¬1) انظر: (1/ 132).

سعد بن أبي وقاص. قال: وكنية سعد: أبو إسحاق، واسم أبيه مالك بن أُهَيب بن عبد مَنَاف ابن زُهرة بن كِلاب القرشي، وكنية مالك: أبو وقاص. * كما ظهر فيه عنايتُه بنُسخ "مصابيح السنة"، والتنبيهُ إلى ما وقع فيها من الأخطاء والاختلافات. وذلك كقوله في حديثٍ لصفوانَ بن عَسَّال - رضي الله عنه -: "لكانَ له أربعةُ أَعْيُنٍ". قال: وينبغي أن يكون: "كان له أربعُ أعين" بغير هاء؛ لأن العدد من الثلاثة إلى العشرة إذا أُضيف إلى مؤنَّث يكون بغير هاء، والعينُ مؤنثٌ، وهذا اللفظ في "صحيح أبي عيسى" بغير هاء كما هو القياس، وفي نُسخ المصابيح بالهاء، فلعله سهوٌ من الناسخين (¬1). وكقوله في حديث عبد الله بن زيد: أنَّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، وأنه مَسَحَ رأسَه بماءٍ غيرِ فَضْلِ يديه. قال: وهذا الحديثُ منقول في "صحيح مسلم"، فينبغي أن يكون من الصِّحاح، فلعل المصنفَ - رحمه الله - لم يشعر كونَه في "صحيح مسلم"، ووجده في "صحيح الترمذي" فجعله من الحسان. ثمَّ ذكر بعد هذا: واعلم أنَّ عبد الله بن زيد حيث أتى ذكرُه في كتاب المصابيح فهو عبد الله بن زيد بن عاصم، إلا في حديث الأذان فإنَّه عبدُ الله بنُ زيد بن عبدِ ربِّه الأنصاريُّ الخَزْرجيُّ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: (1/ 146). (¬2) انظر: (1/ 402). وانظر أمثلة أخرى: (1/ 277)، (2/ 225، 501)، (4/ 252).

* كما عُني - رحمه الله - ببيان غريب الكلمات والألفاظ معتمدًا على أمَّهات كتبِ اللغة والغريب؛ ككتاب "الصِّحاح" للجوهري، و"الفائق" للزمخشري، وغيرهما، فكان يختصرُ كلامَهم في شرح لفظةٍ ما ويذلِّل سَوقَها بعباراتٍ بسيطةٍ قريبةٍ من أفهام المُطالعين على اختلاف درجاتهم. * كما نَثَرَ - رحمه الله - جملةً من المسائل الفقهية مما لها متعلَّقٌ بالحديث، مقدِّمًا في غالب الأحيان مذهبَي الإمامَين أبي حنيفة والشَّافعي - رحمهما الله - في الذِّكر، وناقلًا أكثرَ كلامَيهما وكلامَ الفقهاء الآخرين من "شرح السنة" و"التهذيب" للإمام البَغَويِّ رحمه الله تعالى. * وظهر في الشرح أنَّ المؤلفَ - رحمه الله - يسيرُ على مذهب الأشاعرة في مباحث الاعتقاد، وذلك في تأويل الصِّفات الفعلية والخبريَّة للباري سبحانه وتعالى؛ كالضَّحك والغَضَب والفَوقيَّة وغيرها. وذلك كقوله في حديث: "لا أحد أحبّ إليه المِدْحة ... "، قال رحمه الله: اعلم أن الحبَّ فينا والغضب والفرح والحزن وما أشبه ذلك: عبارة عن تغيُّر القلب وغَلَيانه، ويزيد قدرُ واحدٍ مِنَّا بأن يمدحه أحدٌ، وربما ينقص قدرُه بترك المدح، والله تعالى منزَّه عن صفات المخلوقات، بل الحبُّ فيه معناه: الرِّضا بالشيء وإيصالُ الرحمةِ والخير إلى مَنْ أحبَّه، والغضبُ فيه إيصالُ العذابِ إلى مَنْ غَضِبَ عليه؛ يعني: مَن مَدَحَه أوصلَ إليه الرحمةَ والخير (¬1). وكقوله في حديث: "لو أنَّ السماواتِ السبع وعامِرُهنَّ غيري"، قال: هذا مشكل على تأويل العامر بالسَّاكن، فإنَّ الله ليس بساكن السماواتِ والأرض، بل ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 114).

لا مكانَ له أصلًا (¬1). - على أنَّه - رحمه الله - في بعض المواضع عَرَض لذِكْر مذهبِ جمهور أهلِ السنَّة في الإثبات من غير تكييف ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ ولا تعطيلٍ لتلك الصفاتِ، وذلك كقوله في حديث: "وكلتا يديه يمينٌ": ما جاء من ذكرِ اليمين واليد والإِصبع وغيرها من صفات الله لا نؤوِّله، بل نؤمنُ به ونقول: هو صفةٌ من صفات الله تعالى، ولا نعلم كيفيتَها (¬2). * وقد سار - رحمه الله - على هذا النَّهج - من الشرح وسوق الاختلاف الواقع في نسخ المصابيح، وتبيين أسماء الرواة والمسائل الفقهية - حتى الحديث رقم (1199)، حيث قلَّ رجوعُه إلى المصادر، وقلَّ تنبيهُه على فروق النسخ، وصار يكتفي بذكر اسمِ الرَّاوي للحديث فقط دون تفصيلٍ في غالب المواضع. وقد ذكر - رحمه الله - سببَ ذلك فقال: "ليعلم زُمرة إخواني، وثُلَّة خُلَصائي أني قد شرطتُ في أولِ الكتاب أَنْ أوردَ كلَّ حديثٍ من أحاديث هذا الكتاب مكتوباً بالحُمرة، ثمَّ أشرح ذلك، ثم إنَّي لما رأيت غَلَبة الكفارِ على المسلمين، وسمعتُ بواقعة أميرِ المؤمنين، تكدَّر زماني، وتحيَّر جناني ... ، فهممتُ أنْ أتركَ التصنيف والتدريس طُرَّاً، وأطوي في البكاء عُمرًا، ولكن خِفْتُ ربَّ العالمين أن أتركَ ما استطعتُ إظهارَ الدين، فإنَّ هذا مما يَفْرحُ به الشيطانُ اللعين. ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 166). وانظر: (4/ 344). (¬2) انظر: (4/ 300 - 301). ويجب التنبيه إلى أن مذهب الجمهور من السلف والخلف إثبات هذه الصفات كما جاءت في القرآن وصحيح السنة النبوية، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل، وقد اكتفينا بالتنبيه هنا من التنبيه في أكثر من موضع من الكتاب؛ لأنَّ هذا كان غالب المنهج الذي سار عليه المؤلف رحمه الله في كتابه.

فحولَقْتُ وردَّدتُ كلمةَ الاسترجاعِ، وأقبلتُ مع امتلاء قلبي من الجراح والأوجاع إلى إتمام الكتاب، واستعنتُ فيه من الله الوهَّاب، سالكًا سبيلَ الاختصار، بأنْ أتركَ كتابةَ لفظِ المصابيح بالحُمرة، وأوردَ منه ما يُحتاجُ إلى الشَّرحِ، من غير أنْ أتركَ من الإشكالاتِ شيئًا، والله الموفِّق والمُرْشد (¬1). * وقد اعتمد - رحمه الله - على أمَّهات المصادر والمراجع في هذا الشَّرح، وهي وإن كانت قليلة، لكنها عُمدةٌ في بابها، وهي: 1 - "معالم السنن" للخطَّابي. 2 - "شرح السنة" للبَغَوي. 3 - "تفسير البغوي" المسمى: "معالم التنزيل". 4 - "الميسَّر في شرح مصابيح السنة" للتُّوْرِبِشْتي. 5 - "تفسير الوسيط" للواحدي. 6 - "الصحاح" للجوهري. 7 - "الغريبين" لأبي عبيد الهَروي. 8 - "المُغيث في غريب الحديث" لأبي موسى المديني. 9 - "الفائق في غريب الحديث" للزَّمخشري. * تتمة المفاتيح في شرح المصابيح: سار متمِّمُ شرحِ الإمامِ المُظْهري في القسم الأخير من الكتاب على نَهجِ شيخه وصاحبِ الأصل من حيث تبيين أسماء الرواة، وفروق النُّسخ، وشرح الألفاظ الغريبة، وحلِّ الإشكالات، وذكر المسائل الفقهية المتعلقة بالحديث. ¬

_ (¬1) انظر: (2/ 444 - 445).

ثالثا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

وكان المتمم يقرِّر في كلامه عن أحاديث الصِّفات مذهبَ الجمهورِ من السَّلَف والخَلَف. وذلك كاعتماده كلامَ الإمام البغوي في معنى حديث: "اهتز عرشُ الرحمن"، قال: والأولى إجراؤه على ظاهره، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحُدٌ يحبُّنا ونحبُّه" (¬1). * وقد اعتمد في إتمام هذا الشَّرح على المصادر نفسِها التي اعتمدها الإمام المُظْهِريُّ في "شرحه"، إلا أنَّه أكثرَ من النَّقل عن "شرح المصابيح" المسمَّى "الميسَّر" للتُّوْرِبِشْتي، و"تفسير ابن الجوزي"، وَنَقَل عن "شرح المفصَّل" لابن الحاجب، و"تفسير أبي الفُتوح العِجْلي" المسمَّى "الموجز". * * * * ثالثًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق: تمَّ الاعتمادُ في تحقيق هذا الكتاب على أربع نسخ خطيَّة، ثنتان منها تامَّتان، واشتملت النسخةُ الثالثة على الجزء الأول من الشرح، والرابعةُ على الجزء الثاني منه، وهذا وصف لكل واحدة منها: * النسخة الأولى: وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (1745)، وتتألف من جزأين، وتقع في (367) ورقة. - جاء على غلافها: وصل الشيخ الشَّارح بشرحه هذا إلى أواسط كتاب الملاحم. - وجاء أيضًا: الحمد لله، والصلاة على رسول الله، ألف مولانا الشارح روَّح الله روحه هذا الشرح البديع، المعوَّل عليه في إظهار كلِّ معنى رفيع، كما شهد به كل عالم نحرير، بل وكلُّ شارح مومئ إليه في التقرير والتحرير سنة (654 هـ)، ¬

_ (¬1) انظر: (6/ 341).

نفعنا الله به، آمين. - وجاء في أول هذه النسخة فهرست للشرح، وفي آخرها: تمت هذه الفهرسة سنة (1158 هـ). - وجاء على غلافها: "كتاب شرح المصابيح المسمى بالمفاتيح" للشيخ الإمام والحَبْر الهُمَام الفقيه المحدث مظهر الدين الحنفي رحمه الله تعالى رحمة واسعة في الدنيا والآخرة. - ثم جاء بخط آخر: اسم هذا الشارح مظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسن الزيداني، أورد في أوله مقدمة في اصطلاح أصحاب الحديث وأنواع علومه، وشرحه أيضًا الشيخ ظهير الدين محمود بن عبد الصمد الفارقي. كما في "كشف الظنون". - ثمَّ جاء على الغلاف أيضًا: فائدة: "اعلم أيها الواقفُ على هذا الشرح أنَّه شرح مفيد محرَّر، وكثيرًا ما ينقل عنه الكَرماني في "شرحه على البخاري"، فإنه يقول: المظهري، أي: قال المظهري، ويسوق كلامه، وحيث قال زين العرب: (قال شارح) فإنه المراد وتارة يعرفه: (قال الشارح)، وكذلك الإمام الطِّيبي أشار إليه في أول شرحه على "المشكاة" بقوله: (وحيث أقول: مظ) فمرادي به: الإمام مظهر الدين رحمه الله تعالى". - وجاء على الغلاف تملُّكٌ باسم طه العقاد بن الحاج عثمان سنة (1335 هـ). - يبدأ الجزء الأول من هذه النسخة بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما يشاء أحد هذه الأشياء ... ". وينتهي بقوله من (باب حرم المدينة)، الحديث رقم (2013): "قوله: أو قنسرين، وهذا بلد بالشام".

وجاء في آخر هذا الجزء: تم شرحُ عباداتِ كتاب المصابيح في شهر الله المعظم رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة. ثمَّ جاء بعدها: تم المجلد الأول من المفاتيح في شهر شوال على يدي أفقر عباد الله محمَّد بن عيسى سنة خمس وستين وألف، وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. - أما الجزء الثاني: فيبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب البيوع، قوله: ما أكل طعامًا قط خيرًا مِنْ أنْ يأكلَ من عمل يديه". وجاء في اللوحة (306) منه خطبة تتمة الشرح: "أحمد الله حق المحامد والثناء ... " (¬1). - وينتهي هذا الجزء بقوله في شرح آخر حديث: "مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطرِ ... ": "لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمانَ الوحي، ولأنه ثَبَتَ فضيلتُهم على القرن الثاني بدلائل كثيرة من الآيات والأخبار". - ثم جاء: "تم بعون الله وحسن توفيقه على يدي أفقر الورى محمَّد بن عيسى في أواخر شهر ربيع الآخر في سلك سنة ست وستين وألف من الهجرة النبوية ... ". وهي نسخة جيدة، قلَّت فيها الأخطاء والأسقاط والتصحيفات. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "ق" * النسخة الثانية: وهي النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة شستربتي بإيرلندا تحت رقم (3752)، وتتألف من (325) ورقة، في كل ورقة وجهان، ¬

_ (¬1) انظر: (5/ 383) من مطبوعتنا.

وفي الوجه (27) سطرًا، وفي السطر (18) كلمة تقريبًا. - جاء على غلافها: كتاب المفاتيح في شرح المصابيح، تأليف الشيخ الإمام مظهر الدين الحسين بن محمود بن حسن الزَّيداني تغمده الله برحمته، آمين. - تبدأ هذه النسخة بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما يشاء بعد هذه الأشياء ... ". - وتنتهي بقوله في شرح آخر حديث: "لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمانَ الوحي ولأنه ثَبَتَ فضيلتُهم على القرن الثاني بدلائل كثيرة من الآيات والأخبار". - وجاء في الورقة (268) منها خطبة تتمة الشرح: "بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله حقَّ المحامد والثناء ... ". - وجاء في آخرها: هذا آخر تتمة شرح مولانا وسيدنا الإمام مظهر الدين قدس الله روحه وبرَّد مضجَعه، وقد وُفِّقت لإتمامها بعون الله، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله أجمعين". - وقد جاء على هوامشها بعض التصويبات، والتعاليق من "شرح مسلم" للنووي، و"شرح المصابيح" للتُّوربشتي، وهي نسخة جيدة قليلة الأخطاء في مجملها، سقط منها بضع ورقات كما أشير في محله (¬1). وتمَّ الرمز لهذه النسخة بالرمز "ش" * النسخة الثالثة: وهي النسخة الخطية المحفوظة بالمكتبة التيمورية بدار الكتب القومية بالقاهرة تحت رقم (339 - حديث)، وتشتمل على الجزء الأول ¬

_ (¬1) انظر: (1/ 250، 301).

من الكتاب، ويقع في (273) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (27) سطرًا، وفي السطر (12) كلمة تقريبًا. - جاء على غلافها: "المفاتيح على المصابيح للشيخ الإمام مظهر الدين الحنفي". - تبدأ بقوله: "أحمد الله ملء السموات وملء الأرض وملء ما يشاء بعد هذه الأشياء ... ". - وتنتهي بقوله في آخر كتاب (حرم المدينة): "ولا يجوز بيعُ النَّقيع ولا بيع شيء من أشجاره كالموقوف. قوله: "قِنَّسرين" هو بلد بالشام". ثم جاء: كتاب البيوع، باب الكسب وطلب الحلال. - وقد جاء على هوامش هذه النسخة كثير من النقول عن "شرح المشكاة" للطيبي، و"شرح البخاري" للسَّفيري، و"شرح المصابيح" لزين العرب. وهي نسخة جيدة في مجملها، قلَّت فيها الأخطاء والأسقاط. وتمَّ الرمز لهذه النسخة بالرمز "ت" * النسخة الرابعة: وهي نسخة خطية مجهولة المصدر، اشتملت على الجزء الثاني من الكتاب، وتتألف من (245) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (25) سطرًا وفي السطر (14) كلمة تقريبًا. - جاء على غلافها فهرس النصف الثاني من شرح المصابيح للعلامة مظهر الدين عليه رحمة رب العالمين، آمين. - وعلى غلافها الآخر تملكات لـ (محمَّد عِلَّان بن عبد الملك بن علي المحدث الصديقي العلوي القرشي)، وتملك آخر انتقل بطريق الهبة من الشيخ عبد الله بن صالح البلخي سنة (1062 هـ).

رابعا: بيان منهج التحقيق

- يبدأ هذا الجزء بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسِّر ولا تعسر، وتمم بالخير، كتاب البيع، قوله: ما أكلَ أحدٌ قط خيرًا مِنْ أنْ يأكلَ من عمل يده". - وينتهي بقوله: "لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمان الوحي، ولأنه ثبت فضيلتهم على القرن الثاني بدلائل كثيرة من الآيات والأخبار". - وجاء في آخرها: هذا آخر تتمة شرح مولانا وسيدنا الإمام مظهر الدين قدس الله روحه وبرَّد ضريحه. - ثمَّ جاء: "تممتُ هذا الكتاب بعون الله تعالى وطلب غفرانه في آخر شهر الله الأصم رجب المرجب من سنة اثنتين وستين وسبع مئة الهلالية، كتبه محمد بن أحمد بن محمَّد الأبهري حامدًا ومصليًا". - ثم جاء من كتب العبد المحتاج إلى رحمة الغني المغني علان بن محمَّد بن عبد الملك بن علي المحدث الصديقي غفر الله عنهم بلطفه وكرمه آمين. - وجاء في آخر هذا الجزء: بلغتِ المقابلةُ على جهة الوسع والطاقة، وكانت نسخةُ أصلِه في غاية السقم. وتمَّ الرمز لهذه النسخة بالرمز "م" * * * * رابعًا: بيان منهج التحقيق: 1 - نسخُ الأصلِ المخطوطِ، بالاعتماد على النُّسخة الخطيَّة للمكتبة التَّيمورية والمرموز لها بـ "ت" والتي تمثِّل الجزءَ الأوَّل من الكتاب، والنسخةِ الخطيَّة المجهولةِ المصدرِ والمرموز لها بـ "م" والتي تمثِّل الجزءَ الثاني، وذلك بحسب رسمِ وقواعد الإملاء الحديثة.

2 - معارضةُ المنسوخ بالمخطوط؛ للتأكُّد من صحة النص وسلامته. 3 - إثباتُ الفروق والأسقاط والزّيادات المهمَّة بين هاتين النسختين الخطَّيتين في جزأيها الأوَّل والثاني، وبين النُّسختين الخطَّيتين لمكتبة شستربتي والمرموز لها بـ "ش"، ونُسخة دارِ الكُتب المِصْرية والمرموز لها بـ "ق"، وذلك بإثبات الصَّواب في النص والإشارة إلى خلافه في حواشي الكتاب، وإهمال الفروق التي لا تؤثر على النص كثيرًا؛ كبعض الأخطاء والتصحيفات، وتكرير بعض الجمل والكلمات. 4 - إدراجُ نصوصِ أحاديث "مصابيح السنة" التي تكلم عنها المؤلف - رحمه الله - في هذا الشرح، وذلك بعد مقابلة النصوص مقابلةً تامةً على نسختين خطيتين هما غايةٌ في الجَوْدة والضبط، إحداهما النسخة الخطية الموقوفة في مدرسة بايزيد خان بتركيا، تحت رقم (835)، وهي منسوخة سنة (673 هـ) بيد محمَّد بن عبد الرحمن بن حبشي بن أحمد. والثانية: النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة كُوبريلي بتركيا، تحت رقم (445)، وهي منسوخة سنة (729 هـ) بيد الحسين بن عبد الله بن النيار الحافظ البغدادي الأسدي وقد تمَّ ضبطُ الأحاديث بالشكل شبهِ التام، وتمَّ ترقيمُها ترقيمًا تسلسليًا، وبَلَغَ عددُها (4931) حديثًا. 5 - ترقيمُ الأحاديثِ التي تكلم عنها الإمام المُظْهري ترقيمًا تسلسليًا. 6 - ضبطُ الأحاديث النبوية والأشعار بالشَّكل شبهِ التام، وضبط ما أشكل من الألفاظ والكلمات الغريبة. 7 - عزوُ الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وإدراجُها برسم المصحف الشريف، وجعلُ العزوِ بين معكوفتين في صلب

الكتاب بذكر اسم السورة ورقم الآية. 8 - التعليقُ الضروري على النص، وعدمُ الإطالةِ فيه. 9 - كتابةُ مقدمة للكتاب مشتملة على ترجمة الإمام البَغَويَّ صاحب "مصابيح السنة"، وعلى ترجمة الشَّارح الإمامِ المُظْهِري، ثمَّ دراسة عامة عن الكتاب. 10 - تذييلُ الكتاب بفِهْرسٍ لأطراف الأحاديث النبوية الشريفة التي شرحها المؤلف - رحمه الله - وفهرس لعناوين الكتب والأبواب. والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات ° ° °

صور المخطوطات

صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية، والمرموز لها بـ "ق"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية، والمرموز لها بـ "ق"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية، والمرموز لها بـ "ق"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية، والمرموز لها بـ "ق"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية لها بـ "ق"

صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة شستربتي بإيرلندا، والمرموز لها بـ "ش"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة شستربتي بإيرلندا، والمرموز لها بـ "ش"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة شستربتي بإيرلندا، والمرموز لها بـ "ش"

صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة التيمورية، والمرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة التيمورية، والمرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة التيمورية، والمرموز لها بـ "ت"

صورة غلاف النسخة الخطية مجهولة المصدر، والمرموز لها بـ "م"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية مجهولة المصدر، والمرموز لها بـ "م"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية مجهولة المصدر، والمرموز لها بـ "م"

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أحمدُ الله مِلْءَ السماوات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما يشاء بعد هذه الأشياء، وأشكر له شكرًا يكون جميعُ المخلوقات حتَّى الهباء بالنسبة إليه كذرَّةٍ بالنسبة إلى كلِّ أجزاء الأرض والسماء، ثم ألتجِئُ من الاستحباءِ إلى حصن: لا أُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك، يا مَنْ آلاؤه عليَّ بلا إحصاء، وأكمل الصَّلاة وأدومها على رسوله محمد قدوة الأنبياء، ومتمَّم مكارم الأخلاق، ومُسدَّد الملة العوجاء، والتحية والرضوان على آله وأصحابه، وأزواجه وأولاده، ومَنِ اقتدى به إلى يوم الفصل والقضاء. أمّا بعد: فقد ألحَّ عليَّ زمرةُ خِلاني وثلة خُلَصائي أن أشرح لهم كتاب "المصابيح" تصنيف الإمامِ الهمامِ وليَّ الإنعام على أهل الإسلام، ركن الشريعة، مُحيي السنة، أبي محمد، الحسين بن مسعود الفرَّاء، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين الخير وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، وطلبوا أن لا يكون مطولاً مُمِلًّا، ولا مختصرًا مُخِلًا، فأجبتهم إلى ذلك، وأوردتُ في أول الكتاب مقدمةً في اصطلاحات أصحابِ الحديث، وأنواع علوم الحديث، وأوردتُ فيه كلَّ راوٍ لم يكن مذكورًا في متن "المصابيح"، وتركتُ ذكر من هو مذكورٌ فيه، وسمَّيته بكتاب:

المَفَاتِيحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ وأستوهبُ من ربي الكريم الوهاب أن يسدِّدَ لساني، ويهديني إلى سبيل الصواب، فإنَّه إن أعانني ربي يتيسَّرُ لي كلُّ مستصعبٍ عسير، وإلا فلا أقدرُ على ما يقدر عليه من الكلام طفلٌ صغير، ولا يأتي مني قليل ولا كثير، ولا نَقيرٌ ولا قِطْميرٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الكبير، ولا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قوةَ على طاعته إلا بإعانته. أما المقدمة في معرفة أنواع علم الحديث: فأنواع علم الحديث عشرون نوعًا: النوع الأول: اشتراط الإسناد، وهو شيءٌ عظيمُ القدرِ عند أصحاب الحديث، والإسناد من الدين. قال عبد الله بن المبارك: لولا الإسنادُ لقال من شاءَ ما شاءَ. ودخل الزهريُّ على إسحاق بن أبي فروة يومًا، فجعل إسحاق يقول: قال رسول الله عليه السلام كذا، قال رسول الله عليه السلام كذا، فقال الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروةَ ما أجرأك على الله! ألا تسند حديثك؟! تحدثنا بأحاديث ليس لها خُطمٌ ولا أزمَّةٌ. يعني: كل حديث ليس له إسناد كجملٍ ليس له زمامٌ وليس له مالك مُعيَّنٌ ضالٍ في البادية، وقد جاء الحديثُ بالنهي عن أخذ الجمل الضالِّ في البادية، فكذلك الحديث إذا لم يكن مرويًا عن رسول الله - عليه السلام - بإسناد صحيح، أو لم يكن مكتوبًا في كتاب صنفه إمامٌ معتبر لم يجز قَبولُ ذلك الحديث، لأن النبي - عليه السلام - قال: "اتقوا الحديثَ منِّي إلا ما علمتُم، فمَنْ كذبَ عليَّ متعمِّدًا، فليتبَّوأْ مقعدَهُ من النارِ".

فقد قيَّد - عليه السلام - رواية الحديث عنه بالعلم، وكلُّ حديث ليس له إسنادٌ، ولا هو منقولٌ في كتاب مصنفه معتبر، لا تُعلَم روايةُ ذلك الحديث عن رسول الله عليه السلام، وإذا لم تُعلَم روايتُهُ عن رسول الله عليه السلام، فلا يجوز قَبولُهُ. وإذا ثبت اشتراطُ الإسناد فمعلومٌ أن كل حديث إسناده أعلى، فهو أقوى، وبالقَبولِ أحرى، وعلُّو الإسناد يكون بقلة العدد، فكلُّ حديثٍ بين راويه وبين رسول الله أقلُّ عددًا، فهو أعلى من حديثٍ بين روايه وبين الرسول أكثرُ عددًا. وقد يكون بشهرة الراوي بعلم الحديث، وكلُّ حديث يُروى عن رجل مشهور بعلم الحديث، فهو أقوى من حديث يُروى عن رجل غير مشهور بعلم الحديث، وإن كان الرجلُ الذي ليس مشهورًا بعلم الحديث أقربَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجل الذي هو مشهورٌ بعلم الحديث. وكذلك الحديثُ الذي يرويه رجلٌ عالمٌ بعلم الحديث أو غيره أعلى من الحديث الذي يرويه رجل ليس بعالم؛ زاهدًا كان، أو غيرَ زاهد. فقد قال وكيعٌ لتلامذته: أيُّ الإسنادين أحبُّ إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقال: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، فقال: يا سبحان الله! الأعمشُ شيخٌ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه، وحديثٌ يتداوله الفقهاء خيرٌ من أن يتداوله الشيوخ. وكذلك كلُّ حديث يرويه اثنان أعلى من حديث يرويه واحد، وما يرويه ثلاثة أعلى مما يرويه اثنان. وكذلك كلُّ حديث يرويه من عُرِف بقوة الحفظ والمواظبة على تتبع الحديث وقراءته وكتبته ومطالعته، أعلى من حديث يرويه من لم يكن بهذه الصفة؛ لأن النسيانَ والغلطَ على من لا يواظب على تتبُّع الحديث أكثرُ احتمالًا

ممن يواظب على تتبُّعِ الحديث. وكان أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا نسي شيئًا ممَّا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سمعه من رجل يحلَّفُ الرجلَ الذي سمع منه ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نسيه، وإنما فعل هذا للاحتياط في صحة الأحاديث. وكلُّ ذلك تصريحٌ منهم بأنه لا يجوز إلا قَبولُ ما صحَّ من الحديث، بل لا ينبغي لمن له ديانة أن يقول قولًا أَو يفعل فعلًا ليس له عليه حجةٌ. وينبغي أن يبحث الرجلُ عن حال من يروي عنه أنه صاحبُ عقيدة مرضية في الشرع، وصاحب تقوى وصدق وديانة، فإن كان كذلك يروي عنه، وإلا فلا. وكذلك يبحث عن سِنِّه هل يحتمل سنه روايةَ من يروي عنه، وسماع الحديث منه؟ فإن لم يحتمل، فلا يروي. النوع الثاني: الحديث الموقوف وهو: ما يكون إسناده متصلًا إلى الصحابي، فلمَّا وصل إلى الصحابي لا يقول الراوي من الصحابي: إنه قال الصحابي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وسمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، بل يقول الراوي: إن فلانًا الصحابي يقول كذا، أو يفعل كذا، أو يأمر بكذا، وما أشبه ذلك. ومن الموقوف ما يقول الصحابي: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون كذا، ويقولون كذا، ويأمرون بكذا. النوع الثالث: الحديث المرسل، وهو: ما يكون إسناده متصلًا إلى التابعي، فلما وصل إلى التابعي يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. واختلف في أن الحديث المرسل هل هو محتج به أم لا؟ وأقوى المراسيلِ مراسيلُ سعيد بن المسيب؛ لأنه كان فقيهًا صاحب فتوى، وأبوه صحابي من أصحاب الشجرة، وقد أدرك سعيدٌ عمر، وعثمان،

وعليًا، وطلحة، والزبير ... إلى آخر العشرة. وقريبٌ من مراسيل سعيد مراسيل عطاء بن رباح، وسعيد بن هلال، ومكحول الدمشقي، وحسن بن أبي الحسن البصري، وإبراهيم النخعي. ولم تكن المراسيلُ حجةً عند الشَّافعي إلَّا مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله. النوع الرابع: المنقطع، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يروي أحدٌ عن شيخ لم يسمع منه، وهذا قبلَ أن يصل الإسناد إلى التابعي. والثاني: أن يكون من الرواة رجلٌ مجهولٌ، مثل أن يقول أحد: حدثني رجل، عن فلان. والثالث: أن يكون أحد الرواة مجهولًا من طريق، ومعروفًا من طريق آخر، مثاله: قال سفيان الثوري: حدثنا داود بن أبي هند قال: حدثنا شيخ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناسِ زمنٌ يُخيَّرُ الرجلُ بين العجز والفجور، فمن أدركَ ذلك الزمانَ فليختر العجزَ على الفجور"، فمن هذا الطريق هذا الحديث منقطع؛ لأن الشيخ الذي يروي داود بن أبي هند عنه هذا الحديث مجهول. وقال علي بن أبي عاصم عن داود بن أبي هند: نزلتُ جديلةَ قيس - وهي اسم قبيلة - فسمعت شيخًا أعمى يقال له: أبو عمرو، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ يخيَّرُ الرجلُ بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمانَ فليختر العجزَ على الفجور". فهذا النوعُ ليس بمنقطع على الحقيقة؛ لأنه قد عُرِف في هذا الطريق الشيخُ الذي كان مجهولًا في الطريق الأول، ومن وصلَ إليه الطريق الأول دون الثاني، فالحديثُ يكون منقطعًا عنده.

النوع الخامس: المعضل، وهو: الحديث الذي يرويه أحدٌ من التابعين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن الصحابي المشهور. وربما يكون الحديث معضلًا ومسندًا، بأن يرويَ الراوي الذي هو من أتباع التابعين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقت حديثًا، وهو يروي ذلك الحديث عن تابعي، ويروي التابعي ذلك الحديث عن صحابي، ويرويه الصحابي عن رسول الله عليه السلام، وربما يروي حديثًا أحدٌ من أتباع التابعين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون معضلًا، ويروي ذلك الحديث رجلٌ آخر، ويكون إسناده متصلًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ظهر اتصال إسناد الحديث المعضل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الراوي ومن راوٍ آخر، خرج ذلك الحديث عن كونه معضلًا، بل يكون متصلًا، فإذا قال أحد من أتباع التابعين: إن فلانًا التابعي يفعل كذا، أو يقول كذا، أو يأمر بكذا، يكون ذلك الفعل أو القول أو الأمر موقوفًا على ذلك الرجل الذي هو من أتباع التابعين. النوع السادس: المدرج، وهو: الحديثُ وقعَ فيه لفظٌ من كلام الصحابي أو التابعي، يظنه السامعُ أنه من جملة الحديث. وإنما يُعرَف تمييزُ كلام الصحابي أو التابعي من كلام النبي بأن يرويَ ذلك الحديث رجلٌ آخرُ عن ذلك الراوي، ويقول: قال لي فلان الذي أروي عنه الحديث: إن هذا الحديث من كلامي. فأما إذا روى أحدٌ حديثًا، وروى آخرُ ذلك الحديث، ووُجِدَ لفظٌ في حديث أحدهما، ولم يوجد ذلك اللفظ في حديث آخر، فذلك اللفظ لا يُعرَف يقينًا: أنه مدرجٌ؛ لإمكان سقوط ذلك اللفظ من حفظ الراوي الذي ليس في حديثه ذلك اللفظ، وقد وقع اختلافٌ بين الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألفاظٍ، فلا يقال: هذا مدرج، إلا بدليل واضح.

النوع السابع: الغريب. والثامن: العزيز. والتاسع: المشهور. وأما الغريب: فهو الحديث الذي يكون إسناده أيضًا متصلًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يرويه راوٍ واحد؛ إما من التابعين، أو من أتباع التابعين، أو من أتباع أتباع التابعين. أما العزيز: فهو الحديث الذي يكون إسناده أيضًا متصلًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يرويه راويان، أو ثلاث. والمشهور: كلُّ حديث يرويه جماعةٌ أكثرُ من ثلاثة. والمستفيضُ بمعنى المشهور. فمن المشهور نحو قوله: "طلبُ العلمِ فريضةٌ على كل مسلم" وقوله عليه السلام: "نضَّر الله امرأ سمعَ مقالتي فوعاها". ومنه: "الخوارجُ كلابُ النار". ومنه: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ". ومنه: "إذا انتصفَ شعبانُ فلا صيامَ حتَّى رمضان". ومنه: "أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ". ومنه: "من سُئِلَ عن علمٍ علمه، فكتمه، أُلجِم بلجامٍ من النَّار". ومنه: "من مسَّ ذكره، فليتوضأ". ومنه: "من كان له إمام، فقراءةُ الإمام كقراءته". ومنه: "الأذنانِ من الرأسِ".

ومنه: "صلاةُ القاعدِ على النصف من صلاة القائم". وقوله عليه السلام: "إنمَّا الأعمالُ بالنياتِ، ولكلِّ امرئ ما نوى". وقوله عليه السلام: "إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس". وقوله: "من أتى الجمعةَ فليغتسلْ". وقوله: "إن خلقَ أحدِكُم يُجمَعُ في بطن أمَّه أربعين يومًا". وقوله عليه السلام: "أُمِرتُ أن أسجد على سبعةِ أعضاء". وقوله: "كلُّ معروفٍ صدقة". وقوله: "إنمَّا جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ به". وقوله: "تقتلُ عمَّارَ الفئةُ الباغية". وقوله: كان رسول الله عليه السلام يرفعُ اليدين في الصَّلاة عند الركوع، ورفع الرأسِ. و: أمره بإفراد الإقامة. وقوله عليه السلام: "المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانِهِ ويدِهِ". وقوله: "لا تَقَاطعوا، ولا تَدَابروا". والطِّوالات من الأحاديث مثل: حديث الإيمان، وحديث الزكاة، وحديث الحج، وحديث الإفك، وحديث التوبة، وحديث المعراج، وحديث الشفاعة، وحديث القبر، وحديث أُمِّ زَرْع. النوع العاشر: السقيم والمريض، وهو: الحديث الذي طَعَنَ في صحته ثقةٌ أو أكثر، وهو ثلاثة أنواع: موضوع، ومقلوب، ومجهول. فالموضوعُ: ما صحَّ عند أهل الحديث: أنه ليس بحديثٍ منقولٍ عن رسول الله عليه السلام، بل موضوعٌ وضعه أحدٌ.

والمقلوبُ: ما قلبه القلاَّبون؛ متنًا وإسنادًا، ومعنى المتن: اللفظ. والمجهولُ: ما يكون مداره على مَن لا يُعرَف في رجال الحديث أصلًا. أما المنكَرُ فالمراد به المقلوب والمجهول. النوع الحادي عشر: المرفوع، وهو: الحديث المنقول عن رسول الله عليه السلام، وهو خلافُ الموقوف؛ فإن الموقوف منقول من الصحابي، كما تقدم ذكره. النوع الثاني عشر: الضعيف، وهو: الحديثُ الذي فيه ضعف، وضعفُهُ يكون تارةً لضعفِ بعضِ الرواة من المردودين؛ من عدمِ العدالة، والروايةِ عمن لم يره، أو سوءِ الحفظ، أو تهمةٍ في العقيدة، أو عدمِ المعرفة بما يُحِّدث به، والإسناد إلى من لا يُعرَف. وتارةً بعلل أُخَرَ مثل: الإرسال والانقطاع والتدليس. والتدليس: أن يقول المحدث: قال فلان: سمعت من فلان، أو: أدرك فلان فلانًا، أو رأى فلان فلانًا؛ ليظن السامع أن المحدث سمع من فلان. مثاله: قال أبو عوانة: حدثني الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر: أنَّ النبي - عليه السلام - قال: "فلانٌ في النار". قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ فقال: لا، حدثني أبو حكيم بن جبير عنه. فظن أبو عوانة أن الأعمش يروي هذا الحديث عن إبراهيم التيمي، فلما سأله قال: لا أروي عن إبراهيم، بل عن حكيم بن جبير عن إبراهيم، وهذا تدليسٌ من الأعمش؛ ليظن أبو عوانة أنه سمع الحديث عن إبراهيم التيمي، هكذا أورده الحاكم النيسابوري في كتابه. ومن جملة تلك الوجوه أيضًا: الاضطرابُ في الإسناد، وهو: أن يرويَ الحديث عن شيخ، ثم يرويه تارة أخرى عمن دونه أو فوقه، أو يرفع الحديث تارة ويوقفه أخرى.

والتعَّويلُ بمعنى: التدليس، يقال: هذا الحديث مُعَوَّل؛ أي: مدلَّس فيه. النوع الثالث عشر: قال الشافعي: ليس الشاذُّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ، إنما الشاذُّ أن يرويَ الثقة حديثًا يخالفُ فيه الناسَ، هذا هو الشاذُّ من الحديث. مثاله: عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر يرفع يديه إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. هذا الحديثُ شاذٌّ؛ لأنه روى هذا الحديث جماعةٌ كثيرة لم يذكروا فيه صلاة الظهر. النوع الرابع عشر: المسنَد، وهو: الحديث الذي إسناده متصلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو جنس يدخل فيه الغريب والعزيز والمشهور، وغير ذلك مما كان إسناده متصلًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمتصلُ مثلُ المسند. والحديث المُعنعَنُ بمعنى: المسند، وقيل: المعنعن ما يكون بلفظ "عن" من المحدث إلى رسول الله عليه السلام، مثل أن يقول المحدث: حدثني فلان، عن فلان، عن فلان ... إلى رسول الله عليه السلام. النوع الخامس عشر: المسلسل، وهو: الحديث الذي يكون من المحدث إلى رسول الله عليه السلام متصلًا عن نسق واحد، مثل أن يقول المحدث: أخبرني فلان، قال: أخبرني فلان، كل شيخ يقول: أخبرني إلى الصحابي، أو يكون جميعها بلفظ: حدثني إلى الصحابي، أو يكون بلفظ: سمعت. فإن فعلَ رسولُ الله - عليه السلام - في وقتِ تحدُّثِهِ بالحديث فعلًا، ينبغي

أن يفعل الصحابي ذلك الفعل إذا تحدَّثَ بذلك الحديث، وكذلك يفعل كلُّ شيخ ذلك الفعل، إلى آخر راوٍ لذلك الحديث. مثاله: قال الحاكم: حدثني الزبير، عن عبد الواحد، قال: حدثني أبو الحسن يوسف بن عبد الأحد القِمَنِيُّ الشافعي بمصر، قال: حدثني سُليم بن شعيب الكسائي، قال: حدثني سعيدٌ الإمام، قال: حدثني شهاب بن خراش الحوشبي قال: سمعت يزيد الرقاشي يحدث عن أنسِ بن مالكٍ قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يجدُ حلاوةَ الإيمانِ حتى يؤمنَ بالقدر خيرِهِ وشرِّه، وحلوِهِ ومرِّهِ". قال: وقبض رسول الله عليه السلام على لحيته، فقال: "آمنتُ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ، وحلوِهِ ومرِّهِ". قال: وقبض أنس على لحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. وأخذ يزيد بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. وأخذ شهاب بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. قال: وأخذ سعيد بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره شره، وحلوه ومره. قال: وأخذ سليمان بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. قال: وأخذ يوسف بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. وأخذ شيخنا الزبير بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره. ومن هذا ذكرُ أنواعِ مصطلحات أصحاب الحديث المتداولة بينهم، ومن اصطلاحات المتأخرين بالأحاديث: الصِّحاح والحِسَان؛ يعنون بالصحاح: ما أخرجه الشيخان إماما أهلِ هذه الصنعة؛ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجُعْفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري في كتابيهما، أو

أحدهما، وشرطهما: أن يرويا الحديث عن الصحابي المشهور بشرط أن يكون لذلك الحديث راويان من التابعين، وعلى هذا لا يجوز أن ينقص عن الراويين إلى أن يصل إلى المحدثين، كلهم ينبغي أن يكونوا ثقاتًا مشهورين. ويعنون بالحسان: ما أخرجه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (¬1) السمرقندي، وأبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني رحمهم الله. وأحاديثُ الحسان كلها منقولةٌ عن الرواة العدول إلا أنه ما رُوِعي فيها الشرطُ المرعي في الصحاح، بل جَوَز أصحاب الحسان بأن يكون للصحابي راوٍ واحد من التابعين، وللتابعي كذلك راوٍ واحد، فكذلك إلى آخرهم. وهذه المصنفاتُ السبعة - أعني: الصحاح، والحسان - معتبرةٌ مشهورة، إلا أن الصحاح أشد اعتبارًا واعتمادًا عليها، ولا يجوز لقائل أن يقول: كل حديث وجدناه في هذه الكتب السبعة قبلناه، وما لم نجد فيها لم نقبله؛ لأن الأحاديث الصحاح المعتبرة غير منحصرة في هذه الكتب السبعة، قد صُنِّفت كتبٌ كثيرة معتبرة معتمدٌ عليها غير هذه السبعة، وطريق قبَولِ الحديث: أن ينظر إلى ناقله، فإن كان ناقله معتبرًا وإسناده متصلًا إلى رسول الله عليه السلام، فهو مقبول. النوع السادس عشر: المختصر، وهو: الحديثُ الذي رُوِي بعضه، وتُرِك بعضه. النوع السابع عشر: المقتصي، ومثله المتقصي، ومثله المستقصي، وهو: الحديث الذي رُوِي جميعه من غير أن يُترَكَ منه شيءٌ. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش": "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الدارمي"، والصواب ما أثبت.

النوع الثامن عشر والتاسع عشر: الناسخ والمنسوخ، وهما الحديثان المتناقضان؛ أحدهما متأخِّرٌ عن الآخر، فالمتأخر ناسخ، والمتقدم منسوخ، والنسخُ: إبطال الحكم المتقدم. النوع العشرون: في اصطلاحاتهم في الإجازة، وهو أنواع: أحدها: أن يسمع من لفظ المحدث يحدثه، وليس مع المستمع أحدٌ فيقول المستمع: حدثني فلان، فإن كان مع المستمع أحد يقول: حدثنا فلان. الثاني: أن يقرأ على المحدث بنفسه فيقول: أخبرني فلان، وإن قُرِئ عليه وهو حاضر فيقول: أخبرنا فلان. وقد اختُلِفَ في أن القراءة على المحدث هل هو إخبار أم إنباء؟ فالجمهورُ على أنه إخبار. النوع الثالث: أن يعرضَ المستفيد كتابًا أو جزءًا على المحدث، وينظرَ فيه المحدث، ويروي المحدث أنه سماعه أو قراءته أو تصنيفه، فيقول المحدث للمستفيد: أجزت لك أن تروي عني ما في الكتاب، فإذا روى المستفيد ذلك الكتاب يقول: أنبأني فلان بهذا. واختُلِفَ في هذا النوع أنه إجازة، أم ليس بإجازة حتى يسمعَ من المحدث، أو يقرأ على المحدث؟ فمذهبُ مالك وسفيان بن عيينة وجمع كثير: أنه إجازة، وعند بعض: ليس بإجازة، والمختار في عصرنا: أنه إجازة. النوع الرابع: أن لا يقول المحدث مشافهة للمستفيد: اروِ عني هذا الكتاب، بل يكتب إليه من مدينة إلى مدينة: أني أجزتُ لفلان يروي عني الكتاب الفلاني، أو يكتب إليه: يا فلان! إروِ عني الكتاب الفلاني، فهذا أيضًا إجازة، ويقول المكتوب إليه إذا روى ذلك الكتاب: كتب إلي فلان وأجازني أن أروي عنه هذا الكتاب.

النوع الخامس: أن يقول المحدث للمستفيد مشافهة: أجرت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، من غير أن يرفعَ ذلك الكتاب بيده إليه، فهذا أضعفُ من النوع الثالث، وأقوى من النوع الرابع. ويقال للنوع الأول: السماع، وللنوع الثاني: الإخبار، وللنوع الثالث: العرض والمناولة، وللرابع: الكتابة، وللخامس: الإجازة. ويقول المستفيد في النوع الخامس: أجازني فلان، ولو قال: أنبأني، جاز. وأقوى هذه الأنواع الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، وقد جوَّز بعض المتأخرين أن يقول المحدث: أجرت لمن أدرك حياتي أن يرويَ عني كلَّ ما صحَّ عنده روايتي عن شيوخي. هذا ذكر اصطلاحات أصحاب الحديث رحمهم الله. ° ° °

مقدمة المصابيح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، والصلاة التامة الدائمة على رسوله المُجْتبى محمدٍ سيدِ الورى، وعلى آله نجوم الهُدى. قال الشيخ الإمام، الأجَلُّ السيدُ، محيي السنَّةِ، ناصرُ الحديث، ركن الإسلام، قُدوة الأمّة، إمام الأئمة، أبو محمد الحسينُ بنُ مسعودٍ الفَرَّاءُ، البَغويُّ، نوَّر الله قبره: أمّا بعد، فهذه ألفاظٌ صدرَتْ عن صدر النُّبوة، وسُنن سارت عن مَعْدِن الرسالة، وأحاديثُ جاءت عن سيدِ المرسلين وخاتَم النَّبيين، هُنَّ مصابيحُ الدُّجى، خرجَتْ عن مِشْكاةِ التقوى التَّقيِّ، ممّا أوردها الأئمةُ في كتبهم، جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة؛ لتكونَ لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن، وعَونًا على ما هم فيه من الطاعة. تركتُ ذكرَ أسانيدها حَذَرًا من الإطالة عليهم، واعتمادًا على نقل الأئمة، وربّما سمِّيتُ في بعضها الصحابيَّ الذي يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعنًى دعا إليه، وتجدُ أحاديثَ كلِّ بابٍ منها تنقسم إلى صِحاح وحِسان. أعني بـ (الصّحاح): ما أخرجه الشيخانِ؛ أبو عبد الله محمدُ بن إسماعيلَ الجعفيُّ البخاريُّ، وأبو الحسينِ مسلمُ بنُ الحجاجِ القُشيري النيسابوريُّ

رحمهما الله، في جامِعيهما، أو أحدهما. وأعني بـ (الحسان): ما أورده أبو داودَ سليمانُ بنُ الأشعثِ السجستانيُّ، وأبو عيسى محمدُ بن عيسى الترمذيُّ، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم - رحمهم الله - مما لم يخرجه الشيخان، وأكثرُها صِحاحٌ بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلُغ غايةَ شرطِ الشيخين في عُلُو الدرجة من صحة الإسناد؛ إذ أكثرُ الأحكامِ ثبوتُها بطريقٍ حسنٍ. وما كانَ فيها من ضَعيف أو غريبٍ أشرتُ إليه، وأعرضتُ عن ذِكْرِ ما كان منكرًا أو موضوعًا، والله المستعان وعليه التُّكلان. روي عن عمرَ بنِ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأعمال بالنَّيَّاتِ، وإنَّما لامرِئٍ ما نوَى، فَمَنْ كانتْ هِجرتُهُ إلى اللهِ ورسولهِ، فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولهِ، ومَنْ كانتْ هِجْرتُه إلى دُنيا يُصِيبُها أو إلى امرأةِ يتزوَّجُها فهِجْرَتُه إلى ما هاجَرَ إليه". * * *

شرح ديباجة الكتاب

(شَرحُ دِيبَاجَةِ الكِتَابِ) قوله: "الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى"، (الحمدُ): يطلق على جميل صفات الموصوف، والشكرُ على إنعامه، والله يحمد نفسه، ولا يشكره، والثناء: ذكر فضائل من أثنيت عليه، وفي هذه الألفاظ اختلاف كثير، ونحن لا نطول بحث اللغة، كي لا يطول الكتاب. و"سلام على عباده الذين اصطفى"؛ أي: سلام من الله تعالى ومنا نازل أو واقع على الذين اصطفاهم الله؛ أي: اختارهم الله من الأنبياء والأولياء والملائكة، وجميع أهل طاعته. و (اصطفى) أصله: اصتفى، وهو افتعل من (صفا يصفو)، وإذا كان فاء فعل افتعل حرفًا من حروف الإطباق، وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء، تُقلَبُ تاء افتعل طاءً؛ ليكون مجانسًا لفاء فعل افتعل في الإطباق. والمصنفُ أورد هذه الألفاظ تيمنًا بقوله تعالى لرسوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. والتنكيرُ في (سلام) بمعنى التعريف في إفادة العموم في كثير من المواضع، كما يقال: والله لا أشرب ماء، ولا أشرب الماء؛ فإن حكمهما واحد. وقيل: التنكير ههنا لأجل أن السلام من الله على عباده لا يكون قليلاً، حتى يتفاوت بين التنكير والتعريف. وعادةُ جميع المصنفين أن يبتدئوا في أول كتبهم بالحمد لله؛ تمسكًا بما رواه أبو هريرة: أن النبي - عليه السلام - قال: "كلُّ خطبة ليس فيها تشهُّدٌ، فهي كاليدِ الجذماء"، وفي رواية: "كلُّ كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد، فهو أجذمُ". الخِطبةُ: طلبُ زوجة وغيرها من الحاجات، والتشهُّدُ: كل ذكر يذكر فيه

كلمتا الشهادة كخطبة النكاح، وخطبة الجمعة، وقراءة التحيات في الصلاة. الجذماء: تأنيث (الأجذم)، وهو المقطوع. "والصلاة التامة الدائمة على رسوله المجتبى، محمد سيد الورى، وعلى آله مصابيح الهدى"، وفي نسخة: "نجوم الهدى". الصلاةُ على النبي من الله: إرادةُ التشريف ورفع الدرجات، ومن الملائكة: الاستغفار والثناء وطلب زيادة الدرجة له، ومن المؤمنين: الدعاء وزيادة رفع الدرجة أيضًا له. وأراد بالتامة: أن تكون أكملَ وأتمَّ ما يُعطى أحدٌ من الأنبياء والملائكة وغيرهم من الفضيلة والكرامة. وأراد بالدائمة: أن يكون نزولُ الصَّلاة عليه متصلًا غيرَ منقطع. (الرَّسول): فَعول بمعنى: المرسل، وهو مفعول، من (أرسل): إذا بعث. والفرقُ بين الرسول والنبي: أن الرسولَ: من بعثه الله إلى قومٍ وأنزل معه كتابًا، أو لم ينزل عليه كتابًا، ولكن أمره بحُكمٍ لم يكن ذلك الحكم في دين الرسول الذي كان قبله. والنبيَّ: من لم يُنزِل عليه كتابًا، ولم يأمره بحكم جديد، بل أمره بأن يدعو الناس إلى دين الرسول الذي كان قبله. وقيل: الرسولُ من نزل عليه جبريل، وأمره بتبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس. والنبي من لم ينزل عليه جبريل، سمع صوتًا أو رأى في المنام: أنك نبي، فبلغْ رسالةَ الله تعالى إلى الناس. والنبيُّ هو الذي ينُبِئ؛ أي: يخبر عن الله تعالى، فعيل بمعنى (مُفعِل)

بكسر العين، وقيل: بمعنى (مفعَل) بفتح العين، فعلى الوجه الأول: مُبلِّغ ومُخبِرٌ عبادَ الله بما أمرهم الله من الأحكام. وعلي الوجه الثاني معناه: أنه رجل أخبره الله وعلمه القرآن والأحكام وغير ذلك مما علمه. ويجوز أن يقال للرسول: مرسل ونبي، كلاهما جاز له، ولا يجوز أن يقال للنبي: مرسل، بل يقال له: نبي. المُجتبَى: مفعول من (اجتبى) بمعنى: اصطفى. (محمد): اسم مفعول من التحميد، وهو مبالغةٌ في الحمد والتكثير في الحمد؛ يعني: هو من حمده الله حمدًا كثيرًا لما فيه من الخصال الحميدة. (الورى): الخلق. (المصابيح): جمع المصباح، وهو معروف، (الهدى): الطريق المستقيم؛ يعني بمصابيح الهدى: أنهم أرشدوا المؤمنين إلى طريق الدين وأظهروا الدين. "أما بعد: فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين". لفظة: (أما)، لتفصيل ما أجمله القائل؛ يعني: حين ابتدأ الكتاب بالحمد لله لا يعلم أحدٌ ما يريد، ففصَّل وبيَّن بعد هذا ما يريد من التصنيف. و (بعد) كان أصله: بعد حمد الله والصلاة على رسوله، فترك ذكر المضاف إليه للعلم به، فلما قطع لفظة (بعد) عن المضاف إليه بنيَ على الضم. فـ (هذه) مبتدأ، و (ألفاظ) خبره. وقوله: (صدرت) جملة صفة الألفاظ، وما بعده مضاف معطوف على هذه الجملة.

ومعنى: صدرت؛ أي: خرجت وجاءت عن (صدر النبوة)؛ أي: عن لسان من له صدر النبوة، وصدر القوم: أجلُّهم وأكبرهم في الرتبة؛ يعني به: عن سيد المرسلين. (السنن): جمع سنة، والسُّنة: السيرة والطريقة وصورة الوجه، والمراد بها ههنا: ما بيَّنه النبيُّ من أمور الدين. (المعدِن) بكسر الدال: الموضعُ الذي يخرج منه الذهب والفضة والياقوت وغير ذلك من الجواهر؛ يعني به ها هنا: عمن هو موضع الرسالة. (الرسالة): ما أرسل الله رسلَهُ به من أحكام الدين؛ يعني: هو الذي ظهر من أحكام الدين. (الأحاديث): جمع أحدوثة، وهي ما يُحدَّثُ به، والحديث مثله، ويجوز أن تكون (الأحاديث) جمع: حديث، فيكون جمعًا على غير قياس. و (الخاتم): اسم فاعل من (ختم يختم): إذا أتمَّ شيئًا وطبع عليه، كطبع صرة الذثهب وغيرها؛ يعني: نبينا محمدًا - عليه السلام - أتم النبيين، وختم عليهم؛ يعني: لا يجيءُ بعده نبي. "هنَّ مصابيحُ خرجت عن مشكاة التقوى"، (هن)؛ أي: الأحاديث كالأنوار يهتدي المسلمون بنورها، ويتخلَّصون من ظلمة الكفر والجهل، ويصلون إلى نور الشريعة وفضاء الطريقة والحقيقة، فمن حفظ حديثًا واحدًا عن اعتقاد صحيح تنوَّر وأضاء ساحاتِ صدره، وارتحلت الظلمةُ الشيطانيةُ عن قلبه، فإن عمل به ازداد نورًا على نوره، فكلما يزيد الرجلُ حفظَ الأحاديث والعملَ بها يزداد نورًا على نوره حتى يظهر نورُ التجلي في فضاء قلبه، ويجلس سلطانُ الحقيقة على كراسي التقوى المصفوفة على فراش قلبه، فحينئذ لا يضرُّه من خذله، ولا من خالفه، ويستغفرُ له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان

في جوف الماء. (خرجت)؛ أي: خرجت المصابيح، عن (مشكاة التقوى)؛ أي: عن صدر النبوة الذي هو معدن التقوى ومبين التقوى. (المشكاة): الكوَّةُ التي تكون في الحائط وغيره، يوضع فيها المصباح، وقيل: المشكاة هي الظرف الذي فيه الدهن والفتيلة، والمصباح هو الضوء. شبَّه المصنف - رحمه الله - الأحاديثَ بالمصابيحِ، وفم النبي أو صدره بالمشكاة، وهي تشبيه على غاية الحسن والفصاحة. "مما أوردها الأئمةُ في كتبهم، جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة؛ لتكون لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن، وعونًا على ما هم فيه من الطاعة". (أوردها)؛ أي: من الأحاديث التي جمعها الأئمة في كتبهم، ورد الرجل: إذا أتى بنفسه، وأورده غيره: إذا أتى به. (الأئمة): جمع الإمام. (للمنقطعين إلى العبادة)؛ أي: لمن انقطع عن جمعِ المال، وأعرضَ عن الدنيا، وتوجَّه إلى العبادة وأمرِ الآخرة، فمن كانت هذه صفته لا بدَّ له من معرفة الأحاديث؛ لأنَّ من أراد أن يسلكَ من مفازة بعيدة، لا يمكنه سلوكها إلا بدليل حاذقٍ يَقتدي به، ويمشي على أثره؛ ليوصله إلى المقصد، فلا سبيلَ أبعدَ وأخوفَ من سبيل الآخرة، فإذن لا بد لسالك هذا السبيل من دليلٍ حاذقٍ، ودليلُ هذا السبيل رسولُ الله عليه السلام، فلا بدَّ لسالكي سبيل الآخرة من الاقتداء بأفعال رسول الله - عليه السلام - وأقواله، ولا سبيلَ إلى معرفة أفعاله وأقواله بعد الصحابة إلا بتتبع الأحاديث، فإن أفعال رسول الله - عليه السلام - وأقواله منقولة فيها، فمن حُرِم الأحاديثَ حُرِم خيرَ الدنيا والآخرة، ومن رُزِقَ منها حظًّا رُزِقَ حظًّا كاملًا من خير الدُّنيا والآخرة.

وأحاديث رسول الله عليه السلام كالمطر النازل، وصدور الناس كالأرض، فكلُّ صدر قبلها مع عقيدة صحيحة، وعظَّم شأنها، يثبت في صدره فنون الرياحين، وأصناف النبات الذي ينتفعُ به الناس ويشفي المريض، ومن تقبلها ولكن لا عن عقيدة صحيحة، ولم يعظم شأنها، تثبت في أرض صدره أنواع الشكوك التي يتأذَّى بها الناس؛ يعني: يتولد منه النفاق والمجادلة والتكبر، ودليلُ ما قلنا قولُهُ تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} [الأعراف: 58] إلى آخر الآية. (ليكون لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن)؛ يعني: يكون لهم حظان: أحدهما: بقراءتهم القرآن والعمل به. والثاني: بقراءتهم الأحاديث والعمل بها، فمن علم القرآن وعمل به ولم يعلم الأحاديث لم يكن حظه تامًا؛ لأن جميعَ أحكام الشريعة من الأمر والنهي، والحلال والحرام، وأحوال الإنسان من الموت إلى دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النَّارِ النَّارَ، وغير ذلك ليس مذكورًا في القرآن، بل بعضُ هذه الأشياء مذكورٌ في القرآن، وبعضُهُ غيرُ مذكور، ودليلُ ما قلناه ما قال رسول الله عليه السلام: "أيحسبُ أحدُكم متكئًا على أريكته، فظنَّ أن الله تعالى لم يحرِّمْ شيئًا إلا ما في القرآنِ، ألا وإني والله قد أمرتُ ووعظت، ونهيت عن أشياءَ، إنها كمثل القرآن وأكثر ... " إلى آخر الحديث. (وعونًا على ما هم فيه من الطاعة)؛ يعني: ليتعلموا كيفية العبادة، وقدر وظائف رسول الله وأوراده من الصوم والصلاة وغير ذلك، فإن العملَ بسنَّةٍ من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتضاعف ثوابه - وإن كانت عبادة قليلة - على عبادة ليست بسنة، وإن كانت عبادة كثيرة. "تركت ذكر أسانيدها حذرًا من الإطالة عليهم، واعتمادًا على نقل الأئمة".

(الأسانيد): جمع إسناد، وهو: رواية واحد عن أصحاب الحديث عن واحد هكذا متصلًا إلى رسول الله عليه السلام. (الحذر): الاحتراز، (حذرًا)؛ أي: للحذر. (الإطالة): أصله إطوال، فنُقِلت فتحة الواو إلى الطاء، وقُلِبت ألفًا، ثم حُذِفت إحدى الألفين، وأدخلت الهاء عوضًا عن الألف المحذوفة، ومعناه: التطويل. (الاعتماد): الاكتفاء بأحدٍ والاتكاء عليه؛ يعني تركت ذكر رواة كلِّ حديثٍ بيني وبين رسول الله عليه السلام لشيئين: أحدهما: كيلا يطولَ الكتاب. والثاني: اكتفاءً بإيراد الأئمة الذين استخرجتُ هذه الأحاديث عن كتبهم. ذكر الرواة؛ يعني: إذا أورد الأئمة رواة الأحاديث بينهم وبين رسول الله عليه السلام وصحَّحوا الأحاديث، فلا حاجةَ لي إلى أن أذكر الرواة. "وربما سميتُ في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله عليه السلام". (ربما): كلمة التقليل، كما أن (كم) كلمة التكثير، فهذا اللفظ يدلُّ على أن أكثرَ أحاديث هذا الكتاب لم يورد المصنف الصحابي الذي يرويها، وأقلَّها أورد الصحابي الذي رواها عن رسول الله عليه السلام، ونحن نجدُ بخلاف ذلك؛ لأنا نجد أكثرَ أحاديثه مذكورًا فيه الصحابي وأقلَّها لم يكن الصحابي فيها مذكورًا، ولعل المصنفَ ذكر قليلًا من الصحابة (¬1) في متن الكتاب، وكتب بعضًا من الرواة عن رسول الله عليه السلام في الحواشي، فكتب النساخون في المتن ما كتبه المصنف ¬

_ (¬1) في "ش" و"ت" و"ق": "الصحابي"، ولعل الصواب ما أثبت.

في الحواشي، فصار الرواة المذكورون في متن الكتاب كثيرًا، والمتروكون ذكرهم قليلًا، فإذا كان كذلك فقد صحَّ قول المصنف: وربما سميت في بعضها الصحابي؛ لأن ما أورده كان قليلًا، فكثَّره النساخون في المتن، والدليل على هذا وِجْداننا نسخَ هذا الكتاب مختلفةً في ذكر الرواة؛ فبعضُ النسخ يكون فيه راوٍ، ولم يكن ذلك الراوي في نسخة أخرى، ولذلك أكثر النسخ متفاوتة. "لمعنى دعا إليه"؛ يعني: لا حاجة إلى أن أذكر الصحابي ولا غيره من الرواة؛ لأن رواة أحاديث كتابي هذا مذكورة في كتب الأئمة، ولكن ذكرت لبعض الأحاديث الصحابي الذي يرويه عن رسول الله - عليه السلام - لما في ذكره [من] احتياج، وذلك الاحتياجُ يكون من وجوه: أحدها: أن يكونَ للحديث رواةٌ كثيرة من الصحابة بألفاظ مختلفة، كلُّ واحد يرويه بلفظ آخر، فإن لم أذكر الصحابي، لم يُعرَف أن هذه العبارة روايةُ أيِّ صحابي من الذين يروون ذلك الحديث، فلأجل أن يُعلم أن ذلك الألفاظ رواية أيهم، ذكرت صحابيَّ ذلك الحديث. والثاني: أن يروي الحديثَ جماعةٌ، وفي رواية بعضهم ضعف أو إنكار؛ إما بجهالة الراوي، أو يكون الحديث مرسلًا أو منقطعًا وغير ذلك، وليس في رواية بعضهم ضعف وخلل، فحينئذ لا بدَّ من ذكر الصحابي حتى يعلمَ المحدثون أن هذا الراوي من الذين في روايتهم ضعف، أم من الذين ليس في روايتهم ضعف. والثالث: أن يكون الحديثُ يعارضه حديثٌ آخر، ويكون أحدُ الحديثين المتعارضين منسوخًا، فلا بد ههنا من ذكر الصحابي حتى يُعلَم كونه متقدمًا في الإسلام أو متأخرًا، مثل أن يروي أحدٌ حديثًا، ومات في السنة الثانية من الهجرة، وأسلم في السنة الثالثة أحدٌ، وروى حديثًا يعارض حديث الصحابي

الذي مات في السنة الثانية، فيُعلَم أن حديثَ الصحابيِّ الذي أسلم في السنة الثالثة ناسخٌ لحديث الصحابي الذي مات في السنة الثانية إذا كان الحديثان متناقضين؛ لأن التناقضَ في الشرع غيرُ جائز. والرابع: أن يروي أحد حديثًا فيه حكمٌ مطلق، ويروي آخر ذلك الحديث، وقد قيَّد في روايته هذا الحكم الذي كان مطلقًا في رواية ذلك، فلا بدَّ من ذكر الصحابي حتى يتميَّز راوي الحديث المقيد من راوي الحديث المطلق، مثاله: عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه السلام: "وكاءُ السهِ العينان، فمن نامَ فليتوضَّأ"، أطلق الحكمَ في هذا الحديث، ولم يبيِّن أن الوضوء على من نام قاعدًا أو مضطجعًا. وروى ابن عباس: أن النبي - عليه السلام - قال: "إن الوضوء على من نام مضطجعًا، فإنه إذا اضطجعَ استرخَتْ مفاصلُهُ"، فقيَّد في هذا الحديث وجوبَ الوضوء على من نام مضطجعًا. "وتجدُ أحاديثَ كلَّ باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان". و (تجد)؛ أي: وتجد أيها المخاطب، (منها)؛ أي: من الأحاديث المجموعة في هذا الكتاب؛ يعني: تجد أحاديث كل باب من الأحاديث المجموعة في هذا الكتاب ينقسم على قسمين: أحدها: صحاح، والآخر: حسان، وقد ذكر الأحاديث الصحاح والحسان قبل هذا في مقدمة الكتاب. "أعني بـ (الصحاح): ما أخرجه الشيخان، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله" أشار بقوله: (أعني) [إلى] أن الصحاح والحسان اصطلاحٌ وضعه هو، وليس شيئًا وضعه المتقدمون؛ لأنه لو كان شيئًا وضعه المتقدمون لقالَ: عنوا، وما قال: أعني.

ومعنى (أعني): أريد، من (عني يعني عناية): إذا أراد، وأكثرُ استعماله في إرادة المعاني من الألفاظ يقال: عنى فلان بما تكلم هذا المعنى. (أخرجه الشيخان)؛ أي: أورده الشيخان، وجمعه الشيخان، والضمير في (أخرجه) راجعٌ إلى صحاح. و (الجعفي): نسبة إلى جُعفة، وهي اسم بلد، ونُسِب البخاريُّ إلى جُعفة وإلى بُخارى؛ لكونهما وطنين له. و (قشيرٌ): اسم قبيلة، نسب مسلم إليه. في "جامعيهما"؛ أي: في كتابيهما (الجامع): الكتاب، سمي الكتاب جامعًا؛ لأنه يجمع أحاديث أو كلمات متفرقة في موضع واحد. يعني: سميت الأحاديث التي أوردها الشيخان في كتابيهما أو أوردها أحدهما في كتابه صِحاحًا. "وأعني بـ (الحسان): ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم"؛ يعني: سميت الأحاديث التي أوردها أصحاب الصحاح السبعة غير البخاري والمسلم حِسانًا. وقد ذكر أسامي أصحاب الصحاح السبعة في مقدمة الكتاب، فكلُّ واحد منسوبٌ إلى بلد إلا القُشيري؛ فإنَّ القشيرَ اسم قبيلة. و (الحسان): جمع حسن كـ (جِمَال). "وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علوِّ الدرجة من صحة الإسناد" و (أكثرها)؛ أي: أكثر الأحاديث الحسان؛ يعني: لا يُظنَّ أن الأحاديث الحسان ليست معتبرة مرضية، بل كلها صحيحة منقولة عن العدول، ولكن لم

تبلغ غاية شرط الشيخين اللذين هما صاحبا الصحاح، وشرط أصحاب الحسان في مقدمة الكتاب. "إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن"؛ يعني: الأحاديث الحسان التي أوردها الأئمة الخمسة المذكورة كلُّها مرتبة على أبواب الأحكام: من الطهارة، والوضوء، والغسل، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والبيع، والنكاح، والجنايات، وغير ذلك من الأحكام، والأحكامُ لا تثبت إلا بحديث منقول عن العدول، وهذا بخلاف من رتَّب أحاديث كتابه بإسناد كل واحد من الصحابة والتابعين؛ فإنه إذا أراد أن يذكر جميع ما يرويه أبو هريرة مثلًا، لا بدَّ أن يذكر كلَّ حديث يرويه أبو هريرة سواء كان راويه من التابعين أو أتباع التابعين أو غيرهم عدلًا أو غير عدل، فمن رتَّب كتابه على هذا الترتيب، لا يمكنه أن يذكر في كتابه الأحاديث المنقولة في الكتب المعتبرة المصنفة قبله. و (إذ) في قوله: (إذ أكثر الأحكام) للعلة؛ يعني: علة قولي: و (أكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل): أن أحاديث هذه الأئمة مرتبة على الأحكام، والأحكام لا تثبت إلا بأحاديث معتبرة. هذا ما قاله أحدٌ في شرح قوله: إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن. ويحتمل أن يكون المراد من قوله: إذ (أكثر الأحكام) أن أحكام الشرع التي أجمع عليها الأئمة مثل الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة وأتباعهم ليس كلها ثابتة بالأحاديث المروية على شرط البخاري والمسلم، بل أكثر الأحكام ثابتة بالأحاديث المروية على شرط أصحاب الحسان. "وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه"؛ يعني: للأحاديث ألقاب كالضعيف، والغريب، والمرسل، والمنقطع، والمنكر، وغير ذلك، فكلُّ واحد من هذه الألقاب قد ذُكِرَ في مقدمة الكتاب.

قوله: (أشرت إليه)؛ يعني: يُثبَتُ كلُّ حديث: أنه مرسل أو ضعيف أو غير ذلك، كلٌّ واحد في موضعه، وكلُّ حديث لم أذكر: أنه ضعيف، أو غريب، أو غير ذلك من ألفاظ، فاعلم أنه متصل الإسناد، وليس فيه ضعف بوجهٍ من الوجوه. فإن قيل: قد قال: إن أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، ونحن نجد في الحسان الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع، فكيف يثبت الحكم بحديث ضعيف أو مرسل أو منقطع؟ قلنا: جوابه من وجهين: أحدهما: أن الحديثَ الضعيف ما يكون ضعيفًا عند واحد، وقويًا عند آخر، فيحكم به الذي كان قويًا عنده، ولا يحكم به الذي كان ضعيفًا عنده، وكذلك المرسل قد يكون مرسلًا بطريق، ومتصلًا بطريق آخر؛ لأن الرواة كثيرة، فإن فرضنا الحديث أنه مرسل البتة، ولم يثبت اتصاله عند أحد، ففي العمل بالحديث المرسل خلاف بين الأئمة؛ فبعضهم يراه حجة، وبعضهم لا يراه حجة، والشافعي يرى مراسيل سعيد بن المسيب حجة فقط. والوجه الثاني: أن قوله: إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، تقديره بالأحاديث الحسان التي ليست بضعيفة. "وأعرضت عن ذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا"؛ يعني: ما أوردتُ في هذا الكتاب حديثًا منكرًا أو موضوعًا. فإن قيل: ذكر المصنف رحمه الله: أني أعرضت عن ذكر ما كان منكرًا، وقد أورد الحديث المنكر! قلنا: ذكر حديثًا هو منكرٌ عند بعض المحدثين وغيرُ منكر عند بعضهم، وأما ما كان منكرًا باتفاق بين المعتبرين من أهل هذه الصنعة فلم يذكر البتة. قوله: "والله المستعانُ، وعليه التكلانُ"، (المستعان): الذي يُطلَب منه

العون، وهو النصرة، و (التكلان): أصله: وكلان، فأُبدلت الواو تاء لقُربِ مخرجهما، كـ (تجاه) و (وجاه)، ومعناه: الاعتماد والاتِّكاء، وهو من (وكل يكل): إذا فوَّض الرجلُ أمَره إلى أحد ليقضيه. قوله: "إنما الأعمال بالنيات ... " إلى آخره. استحبَّ جماعةٌ من أهل العلم أن يُورِدوا هذا الحديث في أول كتبهم، وقال عبد الرحمن بن مَهدي: ينبغي أن يجعل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" رأسَ كلِّ بابٍ. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يدخل في هذا الحديث ثلثُ العلم. وغرضُهم في الابتداء بهذا الحديث الإعلامُ بأن تصنيف الكتاب وقراءته ليكنْ عن الإخلاص وصدق النية ورجاء الثواب من الله الكريم، ولتقوية الدين وإرشاد المسلمين عليه، لا عن الرياء وإظهار الفضل والمفاخرة على الناس. وراوي هذا الحديث: أبو حفص، "عمر بن الخطاب" بن نُفيل ابن عبد العُزَّى بن عبد الله العَدَوي. قوله: "إنما الأعمال بالنيات": (إنمَّا) مرَّكبٌ من كلمة النفي والإثبات، فالإثباتُ (إن)، والنفي (ما)، بحيث تكون (إنما) تعملُ الإثبات والنفي؛ يعني: تثبت المذكورَ وتنفي غيرَ المذكور، وسَّمى الأصوليون هذه الكلمة كلمةَ الحصر؛ يعني: ينحصر الحكمُ في المذكور وينتفي عن غير المذكور، كما تقول: إنما العالمُ زيدًا، أثبتَّ العلمَ لزيد، ونفيت العلم عن غير زيد. (النَّيات): جمع: نِية، وهي: القصد، من (نوى ينوي)؛ إذا قصد أمرًا بقلبه وعزمه يعني: صحة الأعمال الدينية وانعقادها منحصرةٌ بالنية.

والمراد بالأعمال ههنا: العبادات، لأن الأعمال التي ليست بعبادة لا يُفتقَر فيها إلى النية، ألا ترى أنه لو رمى رجلٌ سهمًا إلى هدف، فأصاب إنسانًا، فقتله = تجب عليه الديةُ، ولا يقال: إنه إذا لم يقصده لا تجب عليه الدية، بل لو ضرب نائم أو سكران رِجْلَه على أحد، فقتله، تجب عليه الدية، وكذلك لو غسل أحد ثوبًا نجسًا بالماء المطلق لطهر الثوب، وإن كان الغاسل سكرانًا، أو مجنونًا، أو صبيًا لم يبلغ إلى سن التمييز، وكلُّ غسل هو عبادةٌ لا بد له من نية. واتفق العلماء على أنه لو ترك أحدٌ الأكلَ يومًا أو أكثر قبل الصبح إلى الغروب، ولم يقصد الصوم، لم يحصل له الصوم، وكذلك لو صلى أحد صلاة رياء أو خوفًا، ولم يقصد الثواب والطاعة، لم يحصل له الثوابُ، فقد علمنا أن النيةَ لا بد منها في العبادات. واختلف العلماء في النية؛ فبعضهم يقول: النية على القصد؛ فإذا حضرَ المصلي، وعرف أنه يصلي، وقال: الله أكبر، فقد انعقدت صلاته، وبعضهم يقول: لا بد للمصلي أن يُحضِر صفات الصلوات من تعيين الوقت وتعيين الصلاة في قلبه، ويقارن هذا القصد بالتكبير، وكذلك اختلافهم في كيفية النية في غير الصلاة من العبادات، وشرح هذا مكتوب في كتب الفقه، وليس هذا موضعه. قوله: "وإنما لامرئٍ ما نَوَى"؛ أي: وإنما لكلِّ رجلٍ من عمله ما نوى، وإن كان غرضُه من عمله رضا الله عنه وطاعتَهُ، حصل له الثواب، وإن كان غرضه من ذلك العمل شيئًا آخرَ لا طاعة الله، لا يحصل له ثوابٌ من الله، كما إذا جلس أحد في المسجد لشُغلٍ من الأشغال الدنيوية، فلا يحصل له ثوابٌ من الجلوس في المسجد لشغل من الأشغال، وإن جلس للاعتكاف أو انتظار الصلاة، يحصل له الثواب بقدر جلوسه في المسجد.

قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرتُهُ إلى الله وإلى رسولهِ"، الهجرة في اللغة: المفارقة وترك الوطن والذهاب إلى موضع آخر؛ يعني: فمن ترك وطنه من مكة وذهب إلى المدينة لنصرة دين رسول الله ولموافقته ولرضاء الله، فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه مقبولةٌ، مرضيةٌ، مُثابٌ عليها عن الله ورسوله. قوله: "ومن كان هجرته إلى دُنيا يُصيبها"، (دنيا): وزنه (فُعلى) بضم الفاء، ولا يجوزُ دخولُ التنوين فيها؛ لأنها غيرُ منصرفٍ في المعرفة والنكرة، وهي تأنيث (أدنى)؛ يعني: (دنيا) نعت المؤنث، كما أن (أدنى) المذكر، و (أدنى) أفعل التفضيل من (دنا يدنو دنواً) , وأراد بدنيا ها هنا: متاعًا من متاع الدنيا. (يصيبها)؛ أي: يجدها. يعني: من كانت هجرته من مكّة إلى المدينة لأجل مالٍ يحصل من غنيمة، أو تجارة، أو اقتضاء دين له على رجل في المدينة وغير ذلك، فلا يحصلُ له إلا ما قصده. قوله: "أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: خطب رجل بمكة امرأةً، فأبت أن تتزوج به بمكة، وهاجرت إلى المدينة، فهاجر ذلك الرجل إلى المدينة، وتزوج بتلك المرأة، ويقال لتلك المرأة: أم قيس. قال ابن مسعود: يقال لذلك الرجل: مهاجر أم قيس؛ أي: الذي هاجر لأم قيس، لا لله ورسوله، فحدَّث رسول الله - عليه السلام - بهذا الحديث زجرًا له ولغيره أن يقصد شيئًا ظاهرُهُ طاعةٌ، وفي نيتهم غيرُ طاعة الله ورضاه. ° ° °

1 - كتاب الإيمان

1 - كِتابُ الإيمَانِ

[1] (كِتابُ الإيمَانِ) (كتاب الإيمان) مِنَ الصِّحَاحِ: 1 - قال عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: بينما نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ طلعَ علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ، شديدُ سوادِ الشَّعرِ، لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَرِ، ولا يعرفُهُ منا أحدٌ، حتَّى جلسَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأسندَ رُكبتَيْه إلى رُكبتَيْهِ ووضَعَ يدَيْهِ على فَخِذَيْهِ، فقال: يا محمَّدُ! أخبرني عن الإِيمان، فقال: "الإيمانُ أنْ تُؤمنَ بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرهِ وشرِّه"، فقال: صدقتَ، قال: فأخبِرْني عن الإِسلام، قال: "الإسلامُ أنْ تشهدَ أن لا إلهَ إلاّ الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلاً"، قال: صدقتَ، قال: فأخبِرْني عن الإِحسان، قال: "الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ، فإنَّ لمْ تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ"، قال: فأخبرني عنِ السَّاعة، قال: "ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائلِ"، قال: فأخبِرْني عن أَمَاراتِها، قال: "أنْ تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها, وأنْ ترى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البنيانِ" ثمَّ انطلقَ، فلبِثْتُ مليًّا، ثمَّ قال لي: "يا عمرُ! أتدري مَنِ السَّائلُ؟ "، قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال:

"فإنَّهُ جبريلُ أتاكُمْ يُعلِّمُكُم أَمْرَ دينِكُم". ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، وفي روايته: "وأنْ ترَى الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ البُكمَ مُلوكَ الأرض في خمسٍ لا يَعلمُهُنَّ إلَّا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية". قوله: "بينما ... " إلى آخره، (بين): كلمة معناه: الوسط، يقال: جلس بين القوم؛ أي: في وسطهم، وتُشبَع فتحة النون حتى يتولَّدَ منها ألفٌ، فيقال: (بينا)، ويزاد عليه (ما)، فيقال: (بينما)، ومعنى ثلاثتها واحد، وثلاثتُها ظرفٌ، فقد يكون ظرفَ مكان كقولك: جلس بين القوم وبين الدار، وقد يكون ظرفَ زمان كما ها هنا، وحقيقته: بين الزمان الذي "نحن" كنا "جالسين عند رسول الله عليه السلام، طلع"؛ أي: ظهر ودخل "علينا رجلٌ" ثيابُهُ بيضٌ على غاية البياض، وشعرُهُ أسودُ على غاية السواد، وظهور جبريل - عليه السلام - على هذه الهيئة يدل على أشياء: أحدها: أن الملك ممكنٌ خروجُهُ بصورة البشر بأمر الله تعالى، وليس ذلك باختياره وقوله، بل بتصييره الله إياه على أيِّ شكل شاء الله. فإن قيل: هل يمكن لجميع الملائكة الخروجُ بصورة البشر أم لا؟ قلنا: هذا من علم الغيب، لا يعلمه أحدٌ إلَّا بطريق الوحي، وصاحبُ الوحي نبينا - عليه السلام - أخبر عن نزول الملائكة على صورة البشر راكبين على الأفراس يوم البدر، ويوم حُنين، وفي غزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، فما وجدنا فيه نصًا نعتقده ونتحدث به، وما لم نجدْ فيه نصًا نَكِلُ علمه إلى الله تعالى وإلى الرسول، ولا نتكلم به، ولا عبرة بأقوال الحكماء وأصحاب المعقول، فإن الدينَ سمعيٌّ عن صاحب الشريعة، وليس فيها للعقل استقلالٌ واهتداءٌ بنفسه دون إخبار صاحب الشريعة. والثاني: أن النظافةَ وبياضَ الثوب سنةٌ مرضية لله تعالى؛ لأنه لو لم يكن

مرضيًا لم يصيِّر الله تعالى جبريل على تلك الهيئة. والثالث: زمان طلب العلم هو زمان الشباب؛ لأن سواد الشعر يكون في زمان الشباب؛ فإن الشابَّ إذا صرف مدة من عمره في طلب العلم، تبقى مدة أخرى من عمره إلى زمان الشيخوخة يعمل بذلك العلم ويعلمه الناس. وفي الجملة: طلبُ العلم قدرَ ما يعرف به الرجل صحةَ ما يجب عليه وفسادَه فريضةٌ على كل بالغ عاقل من الرجال والنساء والشبان والشيوخ، وأما قدرُ ما زاد على ما يجبُ عليه فمستحبٌّ أيضًا للشبان والشيوخ، إلا أنه في حق الشبان أكثر استحبابًا. وفي الجملة: طلبُ العلم بقدرِ ما يصير الرجل صاحبَ الإفتاء والاجتهاد والقضاء فرضٌ على الكفاية، ينبغي أن يكون بكلِّ ناحية رجلٌ واحد بهذه الصفة حتَّى يفتيَ ويقضيَ ويقومَ ويحفظَ أمورَ الشرع، وإن لم يكن في ناحية واحدٌ بهذه الصفة، عصى جميعُ أهل تلك الناحية حتى يبلغَ واحدٌ منهم إلى هذه الصفة في العلم. قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد"؛ يعني: تعجَّبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا: أنه ملك، أم من الجنِّ؛ لأنَّه لو كان بشرًا؛ إما إن كان من المدينة أو غريبًا، ولم يكن من المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن آتيًا من بُعدٍ؛ لأنه لم يكن عليه أثرُ السفر من الغبار وغيره. قوله: "حتى جلس"، لفظُهُ: (حتَّى) متعلقٌ بمحذوف، وتقديره: أستأذنَ وأتى حتى جلس عند النبي عليه السلام. و (جلس إليه)؛ أي: وجلس بقربه. "أسند": إذا اتكأ أحدٌ على شيء، أو وصل والتصق شيءٌ إلى شيء. و (أسند ركبتيه)؛ أي: وضع جبريلُ ركبتيه متصلتين بركبتي رسول الله عليه

السلام، وإنَّما جلس جبريل عند النبي عليه السلام هكذا؛ ليتعلم الحاضرون كيفيةَ جلوس السائل عند المسؤول؛ لأن الجلوس على الركبة أقربُ إلى التواضع والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسؤول يكون أبلغَ في استماع كلَّ واحدٍ من السائل والمسؤول كلامَ صاحبه، وأبلغَ في حضور القلب، وألزمَ في الجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة دليلٌ على شدة حاجة السائل إلى المسؤول، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف المسؤولُ هذا الحرصَ والاحتياجَ من السائل يُلزِم على نفسِهِ جوابَهُ، وبالغ في الجواب أكثر وأتم مما سأل السائل. قوله: "ووضع يديه على فخذيه"، الضمير راجعٌ إلى النبي؛ أي: وضع جبريل يديه على فخذي رسول الله عليه السلام، هكذا فَسَّر هذين الضميرين مصنفُ الكتاب في كتابه المسمَّى بـ "الكفاية"، وأورد إسماعيل بن أبي الفضل التيمي هذا الحديث في كتابه المسمى بـ "الترغيب والترهيب"، ولفظه: وضعَ يديه على فخذي رسول الله عليه السلام؛ طلبَ إحضار رسول الله عليه السلام؛ يعني: ليكون أبلغَ في استماع رسول الله إلى كلام جبريل عليه السلام. وقيل: كلا الضميرين راجع إلى جبريل؛ يعني: وضع جبريل يديه على فخذي نفسه، وهذا أقرب إلى التواضع والأدب، وكلُّ ذلك لتعليم الناس هيئة الجلوس والسؤال والجواب عند السادات والعلماء. قوله: "أخبرني"، (الإخبار): الإعلام. "فقال: يا محمد! أخبرني عن الإيمان"؛ يعني: قال جبريل: يا محمد! أخبرني عن الإيمان ما هو؟ فأجابه رسول الله عليه السلام بأن الإيمان صفةٌ للقلب، وجعل القلب ساكنًا مطمئنًا بحقيقتِهِ وصدقِ هذه الأشياء الستة - أي: يؤمن بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره - بحيث لا يخطرُ بقلبه شكُّ وترددٌّ في شيء منها، فمن شكَّ في شيء منها فهو كافر.

و (الإيمان): من الأمن وسكون النفس وزوال الخوف عن القلب، (أَمِنَ زيد): إذا زال عنه الخوف، وزال عن قلبه التحرك والقلق الذي كاد عليه من الخوف، و (آمَنَ زيدٌ عمرًا) على وزن أَفْعل: إذا أزال عنه الخوفَ، وأَسكنَ قلبه عن التحرك من الخوف، و (المؤمن): اسم فاعل منه، وهو: الذي أمِن قلبه؛ أي: جعل قلبه ساكنًا مطمئنًا بما أخبره المخبر من غير أن يجعل للشك أو التردد في قلبه سبيلًا. وإنما يكون الإيمانُ ثابتًا في قلب المؤمن إذا حصل له يقينٌ بما أخبره المُخبِر، واليقينُ ضدُّ الشَّك والظن، فمن كان في قلبه مثقال ذرة من ظنٍّ أو شكٍّ فيما أخبر به المخبر، فليس بمؤمن البتة، ومن ضرورة تصديق المخبر قَبولُهُ جميعَ أوامر الشارع ونواهيه عن الطوع والرغبة، ومن ترك مأمورًا أو فعل منهيًا فانظر، فإن كان تركَهُ المأمورَ وفعلَهُ المنهيَّ عن تكذيبه المُخبِر في ذلك فهو كافر، وإن تركَ المأمورَ تكاسلًا، وهو يعلم أنه حق، فليس بكافر، ولكنه عاصٍ مستحقٌ للعقوبة؛ إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عاقبه، وكذا فعل المنهي. وأما الأشياءُ الستة التي أخبر رسول الله - عليه السلام - جبريل: فأحدها: الإيمانُ بالله، ومعنى الإيمان بالله: أنك تعتقد أن الله تعالى قديمٌ أزليٌّ أبديٌّ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4]، وليس القديم إلَّا ذاته وأسماؤه وصفاته، وما سوى الله وأسمائه وصفاته فهو مخلوقٌ خلقَهُ الله. والثاني: الإيمان بملائكته، وهو: أن يعتقد أن الملائكةَ عبادُ الله، يعبدونه ولا يشركون به شيئًا، ولا يعصونه لحظة، ولا يَفترون عن عبادته لمحة، ومن قال: ليس لله ملائكة، فهو كافر، ومن قال: الملائكة موجودون، ولكنهم بنات الله، فهو كافرٌ أيضًا، بل هم روحانيون مخلوقون، ولا يأكلون ولا يشربون، وهم داخلودن تحت قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فهم يَهلِكون

بأمر الله تعالى، ويعودون إلى ما كانوا قبل الهلاك من الحال، كما أن الإنس والجن وغيرهم يُحشَرون. والثالث: الإيمان بكتبه، وهو: أن يعتقد أن جميعَ ما أنزل على رسله من الكتب كلامُ الله القديم غيرُ مخلوق، وصار جميعُها منسوخًا بحكم الله تعالى إلَّا القرآن، فإنَّه مُحكَمٌ لا يُنسَخ إلى يوم القيامة؛ لأنَّه لا نبيَ بعد محمد عليه السلام. ومن رأى كتابًا من كتب الله غير القرآن فلا يجوز أن ينظر إليه بالحقارة، فإن حقر منها شيئًا صار كافرًا، بل يجب إعزازها وإكرامها؛ لأنها كتب الله، ولكن لا يجوز العمل بها، فهل يجوز إتلافها أم لا؟ فانظر؛ إن كان لحربي، يجوز إتلافها عليه، كما يجوز إتلافُ سائر أمواله وقتلُ نفسه، وإن كان لذمي، لا يجوز إتلافه عليه، كما لا يجوز قتلُ الذمي ولا إتلافُ ماله؛ لأنَّ كتبهم مالٌ كما أن مصحف القرآن عندنا مالٌ؛ يباع ويشترى، وطريقُ إتلاف كتب الحربي بغسلها؛ لأنه ليس فيه تحقير، وأما التحريق بالنار فالأدبُ أن لا يُحرَّق، فإن حَرَّق لم يأثم في أصح القولين. والرابع: الإيمان برسله، وهو: أن يعتقد أن جميع رسل الله مبعوثون إلى الخلق بالحق، والإيمانُ بهم واجب، وهم خير البشر، وأدنى الأنبياء خيرٌ من أكمل الأولياء. وقولنا: (أدنى الأنبياء) أردنا به: أنَّ الأنبياء بينهم تفاوتٌ، فبعضُهُم أفضل من بعض، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ولا يجوز لأحد أن يفضِّلَ نبيًا على نبي من تلقاء نفسه؛ لأن فضل أحد على أحد شيء لا يعلمه أحد إلا أن يُنبئَهُ الله تعالى في كلامه أو يبيَّنَهُ الرسول عليه السلام، فما وجدنا في القرآن والحديث من فضل نبي على نبي نقول به، وما لم نجده

لا نقول به، بل نقول: لا نفرِّق بين أحد من رسله، ولكن يجوز أن نقول: الرسول خير من النبي، ونبينا محمد خير من جميع الرسل والنبيين. والخامس: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان به: أن يعتقد أن الله يبعث الخلق بعد الموت، ويقفهم في عرصات يوم القيامة، ويضع الميزان، ويحاسب الخلق بالحق، ولا يظلم أحدًا؛ فبعضهم يدخلهم الجنةَ بفضله، وبعضهم يدخلهم النارَ بعدله. والسادس: الإيمان بالقدر خيره وشره، ومعنى القدر: ما قدَّر الله تعالى وقضى به، فالمسلِّمون به على طوائف في القدر؛ فطائفة تقول: كلُّ ما يجري في العالم من الأقوال والأفعال والحركات والسكنات كلها بقضاء الله تعالى وقدره، لا اختيارَ للعباد فيه، وسُمِّي هذه الطائفة: جبرية، ومعنى الجبر: القهر والإكراه على الفعل، يقولون: أجرى الله تعالى على عباده أفعالهم وأقوالهم بغير اختيارٍ منهم فيها وهذا المذهب باطل، فإن قالوا هذا القولَ؛ ليسقطوا عن أنفسهم التكليفَ، ويُشبِّهوا أنفسهم بالصبيان والمجانين في عدم جريان الخطاب بهم = فقد كفروا بهذا القول، وهذا القولُ مُفضٍ إلى إبطال الكتب والرسل؛ لأنه إذا لم يكن للعباد اختيارٌ فلا يكونون مكلفين، ومجيءُ الكتب والرسل إلى غير المكلف غيرُ صواب، وإن قالوا هذا القولَ لا عن اعتقاد إبطال الكتب والرسل، بل لتعظيم الله وتحقير أنفسهم وعجزهم عن دفع قضاء الله = فليسوا بكافرين بهذا القول، ولكن صاروا مبتدعين فاسقين؛ لأنهم خالفوا الإجماعَ في الاعتقاد. والطائفة الثانية: القدرية، وهم يقولون: إن ما يجري في العالم من الأفعال والأقوال، من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان = الاختيارية، كلها بأفعال العباد واختيارهم، لا تقديرَ لله تعالى فيها. وهذا المذهب أيضًا باطل؛ فإن قالوا هذا القول عن اعتقادِ جريانِ العجز

وجوازه على الله تعالى، صاروا بهذا القول كافرين؛ لأن العجز على الله تعالى غيرُ جائز البتة، وإن قالوا هذا القول لا عن اعتقاد تجويز عجزٍ على الله تعالى بل، عن خطِأ ظنونهم واجتهاداتهم في هذا القول، ولتنزيهِ الله تعالى عن تقديرِ أفعالهم القبيحة، ولأنهم لا يُجوِّزون أن يخلق الله تعالى فعلًا قبيحًا، فليسوا بكافرين بهذا القول، ولكن صاروا مبتدعين فاسقين؛ لأنهم خالفوا الإجماعَ، ومن هذه الطائفة قوم يقولون: الخير بتقدير الله تعالى، والشر ليس بتقديره، وهذا أيضًا خطأ. والطائفة الثالثة: هم أهل السنة والجماعة، وهم يقولون: جميعُ ما يجري في العالم من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك، كلها بتقدير الله تعالى وقضائه، ولكن للعباد اختيارها، فالتقدير من الله، والكسب من العباد، ويخلق الله تعالى الأفعالَ في العباد كلَّ فعل في الوقت الذي قدَّره في الأزل، والتقدير والفعل يجريان معًا، لا يجري الفعل بدون تقدير الله، ولا التقدير بحصول الأفعال في العباد بدون اختيارهم واكتسابهم، فهم مثابون بالخير ومعاقبون بالشر بسبب أن لهم اختيارًا في الفعل. ومن لم يكن له اختيارٌ كالمجنون والصبي والنائم والمغمى عليه والمكره، فهم كالمُرتَعِشِ في أنه لا مؤاخذة عليهم بأفعالهم فيما هو حقُّ الله تعالى، وأما ما هو حقُّ العباد، كإتلاف المال وقتل النفس، فهم يؤاخذون بالغُرْم. والمُرتَعِشُ: هو الذي تتحرَّك أعضاؤه بغير اختياره من علَّةٍ، والثوابُ والعقابُ يتعلقان بما في العبد من الاختيار. وعلةُ تكريره - عليه الصلاة والسلام - لفظة (تؤمن)، فقال: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" للتأكيد؛ لأن الإيمانَ بالقدر أحوجُ إلى المبالغة فيه؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ظاهرٌ مشهور عند المسلمين، وأمَّا الإيمانُ بالقدر لا يعلمه كلُّ أحد إلَّا حاذقٌ في علوم الدين، فلأجلِ هذا أكَّد وكرَّر لفظة: (تؤمن) عند لفظ (القدر).

وعلة قول جبريل - عليه السلام - للنبي عليه السلام: "صدقت": أنه إذا قال: (صدقت) صار هذا الجوابُ آكدَ وأحكمَ في قلوب السامعين؛ لأنَّه لو لم يقل جبريل عليه السلام: (صدقت) ربمَّا توهَّم واحد أن السائلَ لم يوافقه الجوابُ، ولم يكن عنده صحيحًا حتى لا يصدق المسؤول، فإذا صدَّق المسؤولَ، زال هذا التوهم عن قلوب الحاضرين. ولأنه إذا سمع القوم هذه الأشياء من رسول الله، وسمعوا التصديق من جبريل، فكأنهم سمعوا هذا الحديث من اثنين، ولا شكَّ أن الشاهدين آكد من شاهد واحد. ويحتمل أنه قال جبريل: (صدقت) ليعلم القومُ أن السائل لم يسأل هذه المسألة لأجل نفسه، بل لأجل أن يحفظها الحاضرون؛ لأنه إذا صدَّق السائلُ المسؤولَ عُلِمَ أن السائل يعلم المسألة؛ لأن من لا يعلم المسألة لا يصدِّقُ مُخبِرَه فيه، بل يقبل الجواب، ويسكت. قوله: "فأخبرني عن الإسلام"، (الإسلام): الانقياد والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراضٍ، والإسلامُ في الشرع: اسمٌ لفعلِ هذه الأشياء الخمسة، كما أن الإيمان اسمٌ لتصديق القلب الستة المذكورة، و (المسلم): اسم فاعل من (أسلم). ومن صدَّق بقلبه تلك الستةَ المتقدمة، وقَبِلَ هذه الخمسة، وعمل بها، فهو مؤمن مسلم، ولكن بشرط أن لا ينكر فرضًا، ولا يعتقد ما هو حرامٌ حلالًا، ولا ما هو حلالٌ حرامًا. (الشهادة): الخبر القاطع، شهد بكذا؛ أي: أدَّى ما عنده من الشهادة، وشاهد: إذا رأى معاينة، وشرطُ الشهادةِ: أن يشهد بشيء وقعَ عليه علمه، فقال رسول الله عليه السلام: "إذا علمتَ مثلَ الشمسِ فاشهدْ" وقولُ المسلم: أشهد

أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله = إشارةٌ إلى أني رأيتُ بقلبي وحصلَ لي اليقينُ وعلمٌ قاطعٌ بأن لا إله إلَّا الله، وبأن محمدًا رسول الله. والفاء في قوله: (فأخبرني) للتعقيب، وهو إشارةٌ إلى أن الإيمانَ متقدمٌ على الإسلام؛ لأن من قال بلسانه كلمتي الشهادة، وعمل الصلاة وغيرها من الطاعات، ولم يكن في قلبه الستة المتقدمة، فهو منافق، والمنافقُ أشدُّ عذابًا من الكافر الذي يظهر كفره. "وتقيم" مضارع من (أقام إقامة)، وإقامة الصلاة: عبارةٌ عن أدائها في أوقاتها، والمداومة بها. "وتُؤتي" مضارع من (أتى)، وأصله من (أءتى) بوزن أفعل، فقُلبت الهمزة الثانية ألفًا، ومعناه: أعطى. صام الفرس يصوم صومًا: إذا وقفَ وتركَ السير، وصام النهار: إذا انتصف؛ يعني: وقفت الشمس لحظة عن السير، والمراد من الصوم في الشرع: ترك الأكل والشرب وغير ذلك مما يبطل الصومَ، ولكن بشرط نيةِ الصوم. حج يحج حجًا: إذا قصد، والحجُّ في الشرع: زيارة الكعبة مع وقوف عرفة ومراعاة غيره من أركان الحج. والمراد بالبيت هنا: الكعبة. قوله: "سبيلاً" منصوبٌ على التمييز، وكان في الأصل: إن استطعت إلى سبيله، والضمير عائد إلى البيت، ثم أخَّر السبيل ونكَّر ونصب، فصار: "إن استطعت إليه سبيلاً"؛ يعني: إن استطعت وقدرت على الذهاب إلى الكعبة. واختلفوا في الاستطاعة؛ فمذهب الشافعي: الاستطاعةُ وجدانُ الزاد والراحلة، فإن كان له قوة يحج بنفسه، وإن لم تكن له قوة يعطي المال إلى من يحجُّ عنه.

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: الاستطاعة هي الزاد والراحلة والقوة، فلا يجوزُ عنده أن يحجَّ أحدٌ من أحدٍ ما دام حيًا، وإن كان ضعيفًا. ومذهب مالك: الاستطاعة القوة فقط. (الاستطاعة): استفعالٌ من (طاع يطوع): إذا سهل الأمر. ولكل واحد من هذه الأركان شروط وفروض وسنن، وليس هذا موضع بيان استيفائها؛ لأنه يأتي كل واحد في بابه في هذا الكتاب، ولأنها مذكورة في كتب الفقه. قوله: "فأخبرني عن الإحسان": حَسُنَ الشيء بنفسه: إذا جَمُل، وأحسنه غيره: إذا أجمله وزينه، ومصدره: الإحسان. يعني: قال جبريل للنبي عليهما السلام: أخبرني عن الشيء الذي هو تزيينُ أركانِ الإسلام وإحسانُها وإكمالُها. فقال النبي عليه السلام: "أن تعبد الله كأنك تراه"؛ يعني: الشيء الذي يُكمِل أركانَ الإسلام ويحسنها هو الإخلاص، والإخلاص: أن تقف في عبادة الله تعالى كأنك تراه؛ يعني: تحضر قلبك، ولا تلتفت بقلبك إلى وسوسةٍ مشاغلةٍ لك، ولا يجري بخاطرك: أنك تصلي أو تصوم ليراك أحد، وليقول الناس: إنك رجل صالح متعبد، ولا تنظرْ بعينك إلى يمينك وشمالك، ولا تعبثْ بيدك، ولا تخطو برجليك؛ لأن من يرى مولاه حاضرًا يغلب عليه خوفٌ بحيث لا يقدر على شيء من هذه الأشياء، ومن وقفَ بين يدي سلطان، والسلطانُ ينظر إليه، يتغيَّر وجهه من الخوف، وتقلُّ قوى يديه ورجليه من الخوف، ولا يقدر أن يدفع الذباب من وجهه من الخوف، فإذا كان هذه حال واقفٍ بين يدي مخلوقٍ، فكيف كان حال واقفٍ بين يدي خالق المخلوقات؟ قوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ يعني: لا تقصِّرْ في العبودية،

ولا تعملْ بالرياء من أجل أنك لا تراه بعينك، فإنه إن لم تكن تراه، فإنه يراك، ويرى ما في قلبك من الإخلاص والرياء، فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور. أعلم أنه لا يرى أحدٌ الله تعالى في الدنيا، ومن قال: إن أحدًا يرى الله تعالى، فقد أخطأ، فإن النبي - عليه السلام - قال: "فإنَّه لن يَرَى أحدُكم ربَّه حتَّى يموتَ"، وقال عليه السلام أيضًا: "الموتُ قبلَ لقاءِ الله تعالى"، وهذا إجماعُ أهل العلم، ومن قال بخلاف هذا، فهو جاهل، وتجوز رؤية الله تعالى في النوم. والأصحُّ أن رسول الله - عليه السلام - رأى ليلة المعراج، وهو مخصوصٌ به عليه السلام، لم تكن لأحد قبله، ولا تكون لأحد بعده في الدنيا. فإن قيل: لمَ لمْ يقل جبريل عليه السلام: صدقت؟ قلنا: قد جاء في كثير من الروايات أيضًا ها هنا قول جبريل - عليه السلام - للنبي: صدقت، ولعل الراوي لم يذكر ها هنا اختصارًا أو نسيانًا. قوله: "فأخبرني عن الساعة"، (الساعة): القيامة. الضمير في "عنها" راجع إلى الساعة، وأراد النبي - عليه السلام - بالمسؤول: نفسه، وأراد بالسائل: جبريل عليه السلام، و (ما) في "ما المسؤول" للنفي؛ يعني: لست أنا أعلم منك يا جبريل بعلم القيامة، بل العلم بوقت مجيء القيامة مختصٌّ بالله تعالى. قوله: "فأخبرني عن أماراتها"، الأمارات: جمع أمارة، بفتح الهمزة في الواحد والجمع، وهي العلامة. "تلد" مضارع من ولد يلِد ولادةً. "الرب": السيد، والرب هو الله تعالى، وحيث يكون الرب بغير إضافة لا يطلق إلَّا على الله تعالى، وإطلاقُ الرب على غير الله تعالى لا يجوز إلَّا بالإضافة، يقال: رب البيت، ورب المال؛ أي: مالكه وسيده.

يعني: إذا لم تعلم علمَ القيامة، فأخبرني عن علاماتها، فقال رسول الله عليه السلام: "أن تلد الأمة سيدها"؛ يعني: يطأ الرجل أمته، وتلد تلك الأمة من سيدها ولدًا، فيكون الولد سيدًا لأمه؛ لأن ملكَ الوالد يعود إلى الولد بعد موته، فيكون الولد سيد أمته ومولاها، لا بمعنى: أنَّ أمَّه تكون ملكًا له؛ لأن الأمَّ صارت أمَّ ولد للسيد، وتعتقُ بعد موت السيد، ولكن بمعنى: أنه مولى أمه، وله ولاؤها، فإذا أرادت الأمُّ أن تتزوج وليس لها وليٌّ من النسب، فوليها ولدها بحكم الولاء، فقد ثبت أنها ولدت سيدها. فإن قيل: هذا الشيء قد كان قبل النبي عليه السلام، فإن إبراهيم - عليه السلام - خليلَ الله وَطِئَ أمته هاجر، وولدت إسماعيل صلوات الله عليهم، فكيف يكون هذا من علامات القيامة؟ قلنا: صيرورةُ الجارية التي هذه صفتها أمَّ الولد وعتقَها بعد موت السيد من علامات القيامة، لا مجرد ولادة الأمة من سيدها ولدًا؛ لأنه لم يكن قبل نبينا - عليه السلام - وإلى مدة من أول الإسلام عتقُ أم الولد، بل جاز في أول الإسلام بيعُ أمهات الأولاد، ثم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعتق أمهاتِ الأولاد بعد موت سادتهن، ونهى عن بيعهن. وأما التاء في "ربَّتها" فيها ثلاث احتمالات: أحدها: أن التاء لتأنيثِ لفظٍ، وهو مؤنَّثٌ مقدَّر، تكون (ربتها) صفةً لها، فعلى هذا تقديره: وأن تلد الأمة نفسًا هي ربتها، فتكون (ربتها) صفة للنفس، والنفس مؤنث، أو يكون تقديره: وأن تلد الأمة نسمة هي ربتها، وما أشبه ذلك ممَّا يكون تقديره من الألفاظ المؤنثة، والنسمة: الإنسان، فعلى هذا الاحتمال يتناول لفظُ (ربتها) الابن والبنتَ. والاحتمال الثاني: أن المراد بـ (ربتها): البنت، فيكون الابن داخلًا

بالطريق الأولى؛ لأن البنت أخسُّ وأنقص رتبة من الابن، فإذا كانت الأمة بولادة البنت تصيرُ أمَّ ولد، وتصير بنتها سيدةَ الأم، فالابن أولى بهذا الشيء، وكان ذكرُ البنت مغنيًا عن ذكر الابن. والاحتمال الثالث: أن التاء في (ربتها) إنما كان لتمييز ما يطلق على المخلوقات مما يطلق على الله؛ فإن (الرب) يطلق على الله تعالى، وقد جاء في الحديث: أن العبد لا يقول لسيده: ربي، ولكن ليقل: سيدي، فهذا نَهْي أن يقول أحدٌ لأحد: ربي، ولكن قد جاء: رب المال، ورب الدار، وغير ذلك في الحديث، والأولى أن لا يقال لمخلوق: رب فلان، أو رب ذلك الشيء، بل يقال: صاحب مال، أو مالك ذلك الشيء، فالتاء في (ربتها)؛ لأجل أن لا يقال: (الرب) لمخلوق. فإن قيل: قد جاء في الحديث الصحيح برواية أبي هريرة: "وأن تلد الأمة ربَّها"، فإذا كان كذلك، فلا يصحُّ على ما قلتَ من الاحتمال الثالث. قلنا: إن (ربتها) أصح من (ربها)؛ لأن قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أولى بالقبول؛ لأنه كان قد حضر عند سؤال جبريل النبي - عليهما السلام - في الحديث، ولأن من هو مُقدَّم في الخلافة أولى بقَبولِ قوله من غيره، ولأن النبي - عليه السلام - قال: "اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر"، ولأنا إذ قلنا: ربتها، يكون أولى لأنَّ هذا اللفظ لا يطلق على الله تعالى، ولفظ الرب يطلق على الله تعالى، هذا ما بينا أن رواية (ربتها) أكثر صحة. ومع ذلك نقول: إنا قد قررنا الاحتمالات الثلاث على قول من روى هذا الحديث بالتاء في (ربتها)، أما من رواه (ربها) بغير تاء، فلا يحتاج إلى تقدير شيء من هذه التأويلات. قوله: "وأن ترى الحفاة" (الحُفاة): جمع الحافي، و"العُراة": جمع العاري،

والعراة: المتجردون عن الثياب، والحافي: متجرد القدم عن النعل. "العالة": أصله عَوَلة، فقُلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو جمع: عائل، وهو الفقير، مِنْ عال يعول عولًا: إذا افتقر، وحقيقة العَوْل: الغلبة، وصيرورة الرجل كثير العيال. "الرعاء": جمع الراعي، "الشاء": جمع الشاة، والشاء: اسمُ الجنس، كالغنم. "يتطاولون في البنيان"؛ أي: يتفاخرون في طول بيوتهم ورفعتها، تطاول الرجل: إذا تكبر، وتطاول: إذا مدَّ عنقه إلى جانب شيء؛ لينظر إليه. يعني: من علامات القيامة أنْ ترى أهل البادية ممن ليس لهم لباس جميل ولا مَداسٌ، بل كانوا رعاء الإبل والشاء يتوطَّنون في البلاد، ويتخذون العقار، ويبنون الدور والقصور المرتفعة. وقيل: معناه أن يصير الفقراء ورعاء الشاء والإبل ملوكًا وأمراءً، فتكون همتهم قاصرةً يتفاخرون في رفعة البنيان، وملوكُ العرب لا يلتفتون إلى طول البنيان ولا يتفاخرون به، بل تفاخرهم بالشجاعة والسخاوة والفصاحة، وليس من عادتهم أن يجعلوا من ليس له أصلٌ شريفٌ ملكًا أو أميرًا، بل إنما يجعلون من له استحقاق الإمارة والملك ملكًا وأميرًا، وإذا وقع الملك والإمارة إلى من لم يكن له أصلٌ شريف ولا استحقاقٌ له للإمارة والحكم، فقد يكون هذا من علامات القيامة. قوله: "ثم انطلق"؛ أي: ذهب، "مليًّا" بياء مشددة؛ أي: زمانًا طويلاً، وهو من المَلاوة، وهي المدة، يقال: عشت مع فلان مَلاوةً من الدهر؛ أي: مدة طويلة. يعني: قال عمر: ذهب السائل، فلبثتُ بعد ذهاب السائل زمانًا طويلاً

جالسًا عند النبي عليه السلام، فقال رسول الله - عليه السلام - بعد ذهاب السائل: "أتعلم من كان هذا السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل عليه السلام" آتيكم؛ ليسأل مني ما تحتاجون إليه من أمر دينكم؛ لتسمعوا ما أجيبه وتحفظوه. وفي قول عمر: (الله ورسوله أعلم) فائدةٌ، وهي: أنه إذا قال لك أستاذك أو أحد أعلم منك: أتعلم كذا؟ لا تقل: نعم أعلم؛ لأنك إذا قلت: نعم، فإن لم تكن تعلم ذلك الشيء وقلت: نعم، فقد كذبت، وربما تظن أنك تعلم، ولا يكون ذلك الشيء كما تعلم، فإذا قلت: نعم، فقد كذبت أيضًا، وإن كنت تعلم ذلك الشيء كما ينبغي وقلتَ: نعم أعلم، لم تكن في هذا الجواب كاذبًا، ولكن حُرِمت من بركة لفظ أستاذك، ومن فائدة تفيدك، فإنك إذا لم تقل: نعم، وطلبت منه أن يعلمك ذلك، فربما يصدر من لفظه في البحث أكثر مما تعلم، فتكون فيه فوائدُ: أحدُها: ما سمعتَ من الزيادة. والثانية: يقدر ذلك الشيء في قلبك؛ فإنه تكرار لك، بل ما تسمع من أحد يكون أشد ثباتًا في القلب مما ترى في كتاب وتقرأ. والفائدة الثالثة: بركة صوت أستاذك أو غيره، فإن الفضلاء والصلحاء لهم بركةٌ عظيمة يتشرَّف ويتبرَّك كلُّ واحد بألفاظهم ومجالستهم، وكان عادةُ الصحابة - رضي الله عنهم - إذا قال رسول الله - عليه السلام - لأحد: أتعلم كذا؟ أن يقول: الله ورسوله أعلم. وينبغي لغير الصحابة إذا قال له أستاذه أو أحد أعلم منه أو مثله: أتعلم كذا؟ أن يقول: الله أعلم، أو يقول: الله وأهل العلم أعلم. وتقدير قول عمر: الله ورسوله أعلم؛ أي: أعلم من غيرهما.

وقوله عليه السلام: "أتاكم يعلمكم دينكم" يدُّل على أشياء: أحدها: أن السؤالَ عن مسألة تعلم أن السامعين يحتاجون إليها مستحبٌّ اقتداءً بجبريل عليه السلام. والثاني: أن العالم لا يجب عليه تعليمُ الناس إلا إذا سأله أحدٌ عن مسألة يحتاج إليها، أو رأى أحدًا يعمل أو يقول منهيًا، فيلزمه حينئذ تعليمه ما هو الحقُّ؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يُعلِّم الصحابةَ ما سأل جبريل قبل سؤال جبريل. وهذا إذا ظن العالم أن الحاضرين عنده والمترددين إليه يعلمون ما هو فرضٌ عليهم، أما إذا علم أنهم لا يعلمون ما هو فرضٌ عليهم، فيجب عليه أن يعلمهم الفرائض. والثالث: أن الرجل إذا ظن أنه لم يجب عليه شيءٌ غير ما علم، لم يأثمْ بترك تعلم غير ما علم؛ لأن رسول الله - عليه السلام - ما عاب الصحابة وما نسبهم إلى الإثم بترك سؤالهم عما سأل جبريل قبل سؤال جبريل. قوله: "رواه أبو هريرة"؛ أي: راوي هذا الحديث أبو هريرة أيضًا، كما رواه عمر - رضي الله عنه -، ولكن بينهما اختلاف في الألفاظ يأتي بعد هذا. و (أبو هريرة): اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي. "وفي روايته: وأن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوكَ الأرض". (الصم): جمع أصم، وهو الذي به صمم، وهو ثقل الأذن بحيث لا يسمعُ، أو يسمعُ قليلًا. و (البكم): جمع أبكم وهو الأخرس. والمراد بالصم والبكم ها هنا: أهل البادية الذين ليس لهم فصاحة، وتفهّم كأنهم صم من غاية عدم إدراكهم وتفهم الكلام، وكأنهم بكم من غاية قلة

فصاحتهم ومعرفتهم بالعبادة. يعني: في رواية عمر: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، وفي رواية أبي هريرة: "وأن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض"؛ الألفاظ مختلفة، والمراد واحد. قوله: "في خمس لا يعلمهن إلا الله": هذا من تمام جواب النبي - عليه السلام - لجبريل في سؤاله عن الساعة، ومعنى (في خمس): من جملة خمس، كما يقول في الدعاء: اللهم احشرنا في زمرة الصالحين، واجعلنا من جملتهم. يعني: ما سألتني يا جبريل عن علم الساعة، ذلك من جملة الأشياء الخمسة التي لا يعلمهن إلا الله. قوله: "الآية" هذا لفظ المصنف؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قرأ الآية إلى آخرها، والمصنف ذكر أولها، وقال للاختصار: الآية؛ يعني: إلى آخر الآية، ويجوز أن تكون (الآية) مجرورًا ومنصوبًا؛ فالمجرور على تقدير: إلى آخر الآية، فحذف حرف الجر والمضاف وهو (آخر)، وترك المضاف إليه وهو (الآية)، والمنصوب على أن معناه: اقرأ الآيةَ إلى آخرها. يعني: الخمسة التي لا يعلمهن إلا الله مذكورةٌ في هذه الآية، وهي: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]. وسبب نزول هذه الآية: أن الوارثَ بن عَمرو بن حارثة بن محارب من أهل البادية أتى النبي عليه السلام، فسأله عن الساعة ووقتها، وقال: إن أرضنا قد أجدبت - أي: يبست - فمتى ينزل الغيث؟ وتركتُ امرأتي حُبلى، فماذا تلد؟ وقد علمت أين ولدت، فبأيِّ أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية. قوله: " {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "؛ أي: عنده علم قيام الساعة وظهورها.

قوله: " {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} "، (ينزل): فعل مضارع معروف، من أنزل إنزالًا، (الغيث): المطر؛ يعني: ويعلم متى يرسل المطر؟ ويجوز أن يكون (أن) مقدَّرًا، فيكون تقديره: وأن ينزل الغيث، و (أن) مع ما بعده على تقدير المصدر، فيكون معناه: وعنده علم الساعة وإنزال الغيث أيضًا. قوله: " {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} "، (الأرحام): جمع رحم، وهو موضع الولد في بطن الأم، يعني: ويعلم ما في أرحام النساء من الأولاد أنها ذكور أو إناث، ويعلم وقت ولادتهن؛ لأنه الخالق الآمر، ويجوز أن يُقدَّر (أن) ها هنا أيضًا، فيكون تقديره بعد جعل (أن) وما بعده مصدرًا: وعنده علم ما في الأرحام. قوله: " {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} "، (الدراية): العلم، من (درى يدري). واختلف في (ماذا)؛ فبعضُ النحويين يجعله كلمة واحدة، فيكون معناه: أي شيء؟ وبعضهم يجعل (ذا) بمعنى: الذي، فعلى القول الأول يكون (ماذا) منصوبًا على أنه مفعول (تكسب)، وعلى القول الثاني (ما) مبتدأ، و (ذا) بمعنى الذي، وهو موصول، وصلته (تكسب)، تقديره على هذا القول تكسب، وهو صلة (ذا)، و (ذا) مع صلته خبر (ما). و (غدًا): نصب على الظرف في القولين جميعًا. يعني: لا يعلم أحدٌ ما يفعل في الزمان المستقبل، ولا يعلم حاله في ساعة أخرى؛ أن يصيبَهُ خير أو شر، ويعملَ خيرًا أو شرًا. قوله: " {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} "؛ يعني: لا يعلم أحد أنه يموت في وطنه أو غير وطنه، في البر أو في البحر. قوله: " {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "، (الخبير): العالم، ذكرَ خبيرًا للتأكيد؛

يعني: أن الله عليم بهذه الخمس، ولا يعلم واحدًا منها غيرُ الله تعالى، ومن ادعى علم واحد منها، فهو كافر، إلا أن يقول أحد: علَّمني الله وقتَ ولادة فلانة، أو أنها تلد ذكرًا أو أنثى، أو موت فلان وما أشبه ذلك في النوم، أو هتف بي هاتف، أو قال نبي: أوحى لي ربي بشيء من هذه الأشياء، فإن كلَّ ذلك يجوز؛ لأن النبي - عليه السلام - قد أخبر بكثير من علم الغيب، وجاء عن أولياء الله أنهم أخبروا عن موت أنفسهم، أو موت غيرهم. * * * 2 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بنيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصَوْمِ رمضان". قوله: "بني الإسلام"، (بني) ماض مجهول، من بنى يبني بنيًا وبناء، ومعناه معروف. يعني: جعل هذه الأركان الخمسة أصولًا للإسلام، وما عدا هذه الخمسة من أحكام الشريعة فَرْعًا لها، ومثال الإسلام كقصر، وهذه الأركان الخمسة كالأسطوان لذلك القصر، وما بقي من أحكام الشريعة كجدار سطح ذلك القصر، وكالجُدُرِ التي حواليه، وكتزيينه بأنواع النقوش، فمن حفظ هذه الأركانَ الخمسة وسائرَ أحكام الشريعة يكون قصر إسلامه تامًا كاملًا مزينًا، ومن لم يحفظ هذه الأركان الخمسة، ولم يحفظ سائرَ أركان الشريعة يكون قصر إسلامه بغير جدار سطحه، وبغير جدار حواليه، وأما من ترك ركنًا من هذه الأركان فنبيِّنُ بحثه في الحديث الذي يأتي بعد هذا الحديث، إن شاء الله تعالى. قوله: "شهادة": يجوز بجرِّ (شهادة) وجرِّ الكلمات التي بعدها على أنها بدلٌ من قوله: (على خمس)، ويجوز برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي:

فهي شهادة أن لا إله إلا الله، وقد ذُكِر معنى هذه الكلمات في الحديث المتقدم. فإن قيل: لم قدَّم ذكر الصوم على ذكر الحجِّ في الحديث الأول، وقدَّم ذكرَ الحج على ذكر الصوم في هذا الحديث؟ قلنا: الواو لا توجب الترتيب، فلا يعلم ترتيبُ هذه الأركان من لفظ هذين الحديثين؛ لأن هذه الأركان في هذين الحديثين ذكرت بلفظ الواو، والواو لا توجب الترتيب، وقد عُلِمَ ترتيبُ وجوبِ هذه الأركان مما روى الوَالبِي عن ابن عباس: أنه قال: بعث الله تعالى نبيه - عليه السلام - بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدَّق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا به زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين هكذا. ذكر أبو الحسين عليُّ الواحديُّ في تفسيره المسمى بـ "الوسيط": فحيث ذُكِرت هذه الأركان على هذا الترتيب فلا إشكالَ فيها؛ لأنها ذكرت على ترتيب وجوبها، وان ذكرت على خلاف هذا الترتيب، فيحتاج إلى الجواب. والجواب: أن الواو لا توجب الترتيب، فيكون تقديم الحجِّ على الصوم في هذه الأحاديث كتقديم السجود على الركوع في قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، ومعلوم أن الركوعَ مقدَّمٌ على السجود. * * * 3 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيمانُ بِضعٌ وسبعونَ شُعبةً، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأَذى عن الطَّريق، والحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإِيمانِ".

قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة ... " إلى آخره، وقد جاء في بعض الروايات: بضع وستون، فاختار صاحب الكتاب أتمَّ الروايات. و (البضع) بكسر الباء: اسم لعدد مبهم من الثلاثة إلى التسعة؛ يعني: يقال للثلاثة: بضع، ولأربعة: بضع، وكذلك الخمسة، والستة، وسبعة وثمانية وتسعة، ويذكر البضع مع عقود العشرات إلى ما دون المئة، ولا يذكر مع المئة والألف، ولا يقال: بضع ومئة، أو بضع وألف. ونصب (شعبة) على التمييز، و (الشعبة): غصنُ الشجرة، وفرعُ كلَّ أصل. يعني: الإيمانُ أقلُّ من ثمانين وأكثر من سبعين شعبة، ولكن لم تعلم بالتعيين أنها سبعة وسبعون، أو ستة وسبعون، أو خمسة، أو أربعة، أو ثلاثة، أو اثنان، أو واحد وسبعون، وقد جاء في بعض الروايات: الإيمان سبع وسبعون شعبة، فعلى هذا لا إشكالَ فيه. واختلف العلماءُ في أركان الإيمان؛ فعند الشافعي رحمه الله: الإيمان له ثلاثة أركان: تصديقٌ بالجنان - وهو القلب -، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان؛ يعني بتصديق الجنان: أن يعتقدَ الصدق وحقيقةَ ما أخبر به النبي - عليه السلام - من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. ويعني بالإقرار باللسان: قول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. ويعني بالعمل بالأركان: أن يأتي بأداء الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغير ذلك من الواجبات. وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإيمان: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان فقط، وأما العمل بالأركان فمن حقوقِ الإيمان عنده، لا من الإيمان. ومعنى الأركان: الأعضاء.

فمن أنكر فرضًا من الفروض، أو اعتقد شيئًا حرامًا أنه حلال، أو شيئًا حلالًا أنه حرام، كفر بالإجماع. أما من لم ينكر شيئًا من الواجبات، ولم يعتقد استحلالَ محرَّم، ولا تحريمَ حلال، فانظر؛ فإن لم يقرَّ بلسانه بكلمتي الشهادة، فهو كافر أيضًا بالإجماع، ولو أقر بلسانه بكلمتي الشهادة، واعتقد بقلبه فرضية ما هو فرض عليه، ولم يعمل بالأركان، فهو مؤمن عند أكثر أهل السنة والعلم، ولكنه مؤمنٌ ناقصٌ عند الشافعي - رضي الله عنه -؛ لأن عنده جميعُ شعب الإيمان من الإيمان، فيكون المؤمن ناقصًا بقدر ما ينقص من عمله، والإيمانُ عنده يزيدُ وينقصُ؛ يزيد بالعمل الصالح، وينقص بالمعصية. وعند أبي حنيفة رحمه الله: هو مؤمنٌ من غير أن يكون في إيمانه نقصانٌ، بل هو ناقصُ العمل، لا ناقص الإيمان، والإيمان لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية؛ لأن شعبَ الإيمان عنده ليست من الإيمان، بل هي من حقوق الإيمان. ولكلَّ واحدٍ منهما حججٌ وأدلة كثيرة على قوله، وليس هذا موضع ذكرها. قوله: "فأفضلها قول: لا إله إلا الله"، فها هنا بحثان: أحدهما: أن الضمير راجع إلى (بضع وسبعين شعبة)، وهذا عند الشافعي - رحمه الله - يستقيم، لأنه جعل ما سوى قول: (لا إله إلا الله) من الشعب الباقية من جملة الإيمان، فإذا كان جميعها من الإيمان، فتكون (لا إله إلا الله) منها، فيجوز أن يقال: أفضلها: لا إله إلا الله، كما يقال: أفضل القوم زيد. وبيان أن قول: (لا إله إلا الله) أفضلُ من الشعب الباقية؛ لأن من لم يقل: لا إله إلا الله، فهو كافر، ومن ترك الشعب الباقية لا عن اعتقادٍ، فهو مؤمن ناقص.

وأما عند أبي حنيفة رحمه الله: [فـ]ــلا يستقيم قوله: فأفضلها: لا إله إلا الله؛ لأن الشعب الباقية عنده ليست من الإيمان، فإذا لم تكن الشعب الباقية من الإيمان، لم يكن قول: (لا إله إلا الله) من جنس الشعب، فيكون هذا كقول أحد: أفضل الأنعام زيد (¬1). هذا هو الظاهر من مذهبه، ولكنه هو يقول: ليس تسميةُ الإيمان مختصةً بتصديق الجنان، بل يجوز أن يسمى ما هو من حقوق الإيمان إيمانًا، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيمانًا، فإذا كان كذلك، فقول: (لا إله إلا الله) من جنس شعب الإيمان؛ لأن كل شعبة منها إيمان، كما أن الصلاة سماها الله تعالى إيمانًا، فيجوز أن يقال: أفضلها قول: لا إله إلا الله. البحث الثاني: قوله عليه السلام: "فأفضلها قول: لا إله إلا الله" يريد بها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لأنه قد كان كثير من اليهود والنصارى يقولون: (لا إله إلا الله) في زمن النبي، ولم يحكمْ - عليه الصلاة والسلام - بإسلامهم ما لم يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ذكرُ الشعب البضع والسبعين وبيانُها: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر؛ خيره وشره، وسؤال منكر ونكير، وأحوال القبر من العذاب والراحة، وبعث يوم القيامة، والحساب، والميزان، وشفاعة النبي - عليه السلام - لمن شاء الله من أهل الكبائر، وشفاعة النبيين والمؤمنين لمن شاء الله تعالى، وكذلك الملائكة تشفع لبعض المؤمنين، ولا شفاعةَ لأحد قبل نبينا عليه السلام، والصراط، والجنة، والنار، ورؤية الله تعالى في الجنة للمؤمنين، وقول كلمتي الشهادة، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والحب ¬

_ (¬1) أي فهو كلام غير مستقيم؛ لأنَّ زيدًا ليس من الأنعام.

في الله، والبغض في الله، والخوف من الله، والرجاء من الله، وحب النبي عليه السلام، وتعظيم القرآن، والاعتقاد بقدمه، والتوكل، وأقلُّه: أن يعتقد أن لا دافعَ للبلاء ولا معطيَ للعطاء إلا الله تعالى، وأنواع التوكل كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها. وشحُّ الرجل بدينه، والشحُّ البخل، وهو نوعان: أحدهما: الشحُّ بأصل دينه، وهو: أن لا يترك أن يفوتَ عنه شيء مما يتعلق بأصل دينه. والثاني: الشحُّ بكمال دينه، وهو: أن لا يترك أن يفوتَ عنه مما يتعلق بكمال دينه، وهذا الأصل للكمال لا يقدرُ عليه كلُّ واحد. وطلب العلم، وهو نوعان: أحدهما: طلب ما فرض عليه، والثاني: طلب ما زاد على الفرائض. ونشر العلم، وهو: أن يعلم الناس ما يحتاجون إليه من أحكام الشريعة، كالطهارة، وهو الوضوء، والغسل، وغسل الأعضاء والثياب، والتيمم منها. والاعتكاف، وهو نوعان: فرض وسنة؛ والفرض: إذا نذر، والسنة: في غير النذور. وترك الفرار من الزحف؛ يعني: لا يجوز لمسلم أن يفرَّ من الكافرين عند القتال. والعتق، وهو نوعان: فرض، وغير فرض؛ فالفرض: في الكفارات والنذور، وغير الفرض: فيما عداها. وإخراج خمس الغنيمة، وأداء الكفارات والنذور، والوفاء بالعقود، وهو: العقود بين الناس.

وشكر نعم الله تعالى، وحفظ اللسان عما لا يجوز، وأداء الأمانات، وترك الخيانة، وتحريم النفوس؛ يعني: لا يُقتَل أحدٌ بغير حق. وتحريم الفروج، وقبض اليد عن الحرام، وترك أكل الحرام، وترك الغلَّ والحسد، وتحريم أعراض الناس؛ يعني: لا يغتابُ أحدًا. وإخلاص العمل لله تعالى، والتوبة، وطاعة أولي الأمر؛ يعني: تجب على الرعية طاعة السلطان إذا لم يأمر بمعصية، وإذا أمر بمعصية لا يطيعه، ولكن لا ينكر عليه بالسيف، بل ينكر عليه بالقلب فيما هو معصية، وينصح له إن قدر على نصحه باللطف. والتمسك بالجماعة؛ يعني: يقتدي بما اجتمع عليه أئمة أهل السنة من أحكام الدين، والحكم بين الناس؛ يعني يجب أن يكون في كل ناحية قاضٍ يقضي بين الناس بالعدل. والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصرة المسلمين؛ يعني: بدفع الظالم عن المظلوم. والحياء، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحق المماليك؛ يعني: يجب على السيد أداء ما عليه من حقوق عبده وأمته؛ من الكسوة، والنفقة، وترك إيصال المشقة إليهم. وحق السادة؛ يعني: يجب على العبد والأمة أن يؤدَّيا ما عليهما من خدمة سيدهما. وحقوق الأهلين؛ يعني: يجب على الرجل أداء ما عليه من حقوق زوجته وأولاده وآبائه وأمهاته وإن علوا؛ من نفقتهم وكسوتهم إذا كانوا محتاجين إليه. وحق الزوجة واجب على الزوج، وإن كان لها مالٌ كثير. وإفشاء السلام؛ يعني: يستحب السلام على من عرفه ومن لم يعرفه.

ورد السلام، وعيادة المريض، والصلاة على موتى المسلمين إلا الشهيد في سبيل الله، وتشميت العاطس، ومعاداة الكفَّار، وإكرام الجار، وإكرام الضيف، والستر على الناس، والصبر؛ يعني: يرضى بقضاء الله تعالى فيما أصابه من الفقر والمرض وموت الأقارب وغير ذلك، ويرجو الثواب على صبره من الله تعالى. والغيرة؛ يعني: يكره ما لا يرضاه الله تعالى فيما يجري على نفسه وغيره. والجود؛ يعني: لا يكون بخيلًا في أداء الزكاة، بل يؤديها على الطوع والرغبة، ويعطي أيضًا بقدر وسعه من الصدقات غير الواجبة. ورحم الصغير والكبير؛ يعني: ليكن له شفقة ورحمة على المسلمين من الصغار والكبار. والإصلاح بين الناس، ومحبة الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه، وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه سبع وسبعون شعبة، وهي التي أرادها النبي - عليه السلام - في قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة"، وكلُّ أمر ونهي من أوامر الله ونواهيه غير ما ذكرنا، فهو مندرجٌ في هذه الأعداد. قوله: "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، (الأدنى) أفعل التفضيل من دنا يدنو: إذا قَرُب، ويحتمل أن يكون أصله: (أدنؤها) بالهمزة، فقُلِبت الهمزة ألفًا للتخفيف، من دَنَأ يَدْنَأ دَنَاءةً، إذا فعل فعلًا حقيرًا، وصار حقيرَ القوم، والمراد بأدناها ها هنا: الأقل. (الإماطة): الإبعاد. يعني: أقل شعب الإيمان إبعادُ الأذى من طريق المسلمين، وهو: إبعاد شوك، أو حجر، أو عظم، أو غصن شجر يتأذَّى به من يمشي في الطريق.

ومنه: أن لا يفعل ولا يلقي في الطريق ما يتأذَّى به المارُّ، كحفر حفرةٍ في الطريق، أو إلقاء قشرِ بطيخ، أو التغوط والبول في الطريق، وما أشبهَ ذلك، فإنه لو أمرته نفسه بشيء من هذه الأشياء، ثم لم يفعل ما أمرته نفسه به لله، فيكون هذا من الإيمان أيضًا. ومنه: دفع الظلم والمضرة عن المسلمين؛ لا يؤذي أحدًا، ولا يترك أحدًا، أن يؤذيَ أحدًا إن قدر. قوله: "والحياء شعبة من الإيمان"، (الحياء): انقباض النفس، وتركها الشيء الذي يستحي الرجل منه؛ احترازًا من اللوم وغيره. والحياء نوعان: نفساني، وإيماني. نعني بالنفساني: الجبلي الذي خلقه الله تعالى في جميع النفوس من الكافر والمسلم، نحو: كشف العورة، ومباشرة الرجل المرأة بين الناس؛ فإن كلَّ أحد يستحي من هذين الشيئين وشبههما. ونعني بالإيماني: ما يمنع الإيمانُ الشخصَ من فعله، كترك الرجل الزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك من الأفعال المحرمة؛ استحياء من الله تعالى، وهذا الحياء ليس جِبِلِّيًا، بل إيماني؛ لأن الكفار ومن إيمانه ناقص من المسلمين قلَّما يستحيون من هذه الأشياء، وهذا القسم من الحياء هو الذي ذكر النبي عليه السلام: أنه من الإيمان في قوله: "والحياء شعبة من الإيمان". وقال بعض المشايخ: الحياء على وجوه: أحدها: حياءُ الجناية، كحياء آدم - عليه السلام - لمَّا أكل الشجرة طَفِق - أي: أقبل - يتردَّدُ، ويسعى إلى كلِّ جانب، قال الله تعالى له: أفرارًا مني؟ فقال: لا، بل حياء منك. والثاني: حياء التقصير، كحياء الملائكة حيثُ قالوا: ما عبدناك حق عبادتك.

والثالث: حياء الإجلال، كحياء إسرافيلَ حيثُ تسربلَ بجناحه؛ أي: ستر وجهه بجناحه، لم يرفع رأسه حياء من الله تعالى. والرابع: حياء الكرم، كحياء النبي عليه السلام، كان يستحي من الصحابة إذا دخلوا بيته أن يقول لهم: اخرجوا، فقال الله تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53]؛ أي: ولا تشتغلوا بالحديث بعد الفراغ من الطعام، فتجعلوا النبيَّ ملولًا، بل اخرجوا. ولا (مستأنسين) محله جر بالعطف على (ناظرين)؛ أي: غير ناظرين وغير مستأنسين؛ يعني: إذا دعاكم النبي عليه السلام إلى طعام ادخلوا غير ناظرين إلى جوانب البيت؛ كي لا يقع نظركم على امرأة، وغير مستأنسين بحديث. والخامس: حياء حِشْمة، كحياء علي - رضي الله عنه - حين أمر المقداد - رضي الله عنه - حتى سأل رسول الله - عليه السلام - عن حكم المذي؛ لكون فاطمةَ بنت النبيَّ - عليه السلام - زوجتَهُ. والسادس: حياء الاستغفار، كحياء موسى عليه السلام؛ قال لربه: إنه لتعرض إليَّ الحاجة من الدنيا، فأستحي أن أسألك يا رب؟ فقال الله تعالى: سلني حتى مِلْحَ عجينِكَ، وعلفَ شاتِكَ. والسابع: حياء الربِّ جلَّ جلاله، فإنه يدفع إلى بعض العباد كتابًا مختومًا بعدما عبر الصراط فإذا فيه: فعلتَ ما فعلتَ، ولقد استحييتُ أن أظهر عليك، فاذهب فقد غفرتُ لك. * * * 4 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُسلمُ مَنْ سَلِمَ المُسلمون مِنْ لِسانِهِ ويدِهِ، والمُهاجِرُ مَنْ هجَرَ ما نَهى الله عنه".

قوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"؛ يعني: المسلمُ الكاملُ في إسلامه من لا يؤذي أحدًا بلسانه بالشتم والغيبة والبهتان، ولا يأخذُ مالَ أحد، ولا يضربُ أحدًا بغير حق، ولا يمدُّ يده إلى امرأة ليست منكوحة ولا مملوكة له. وإنما اختص اللسان واليد؛ لأن أكثرَ الإيذاء والضرر يحصلُ بهذين العضوين، وإلا يمكنُ إيذاءُ الناس بالعين والرجل بأن ينظر إلى بيت أجنبي، أو يمشي إلى موضع يتأذَّى أهل ذلك الوضع من دخوله عليهم. ومراد النبي بهذا الحديث: أن مَنْ ترك إيذاء الناس من جميع الوجوه مع أداء الفرائض بصحيح الاعتقاد، فهو مسلم كامل، ومن لم يترك إيذاء الناس، فهو مسلم ناقص. ومن أجرى هذا الحديثَ على نفيِ أصل الإسلام، وقال: من لم يترك إيذاء الناس فليس بمسلم أصلًا، فهو مبتدع. قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، (المهاجرة): ترك الرجل وطنه، والانتقال إلى موضع آخر، وفي الشرع: ترك الرجل وطنه الذي كان بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام لله تعالى ولرسوله عليه السلام. والمهاجر ليس من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط، بل الهجرة باقية إلى يوم القيامة؛ لأن الهجرة هي الانتقال من الكفر إلى الإسلام، ومن ديار الكفر إلى ديار المسلمين، ومن المعصية إلى الطاعة، وهذه الأشياءُ باقيةٌ أبدًا. والمهاجر في هذا الحديث هو المهاجر الكامل؛ لأن من هاجر من دار الكفر، وانتقل إلى دار المسلمين، فهو مهاجر، وإن لم يُهاجرْ ما نهى الله تعالى عنه من الذنوب، ولكنه مهاجر غير كامل، ومن هاجر جميع ما نهى الله تعالى

عنه، فهو مهاجرٌ كامل. راوي هذا الحديث: أبو محمد "عبد الله بن عمرو" بن العاص بن وائل. فإن قيل: لم قدِّم الراوي على الحديث في بعض الأحاديث، وأخَّر الراوي في بعضها؟ قلنا: لا فرقَ بين تقديم الراوي وتأخيره؛ لأنَّ كل حديث أُخِّر الراوي عن الحديث في هذا الكتاب، فقد قُدِّم في كتاب "شرح السنة"، ومصنفهما واحد، ولعل المصنف كتب رواة بعض الأحاديث في حاشية الكتاب، فكتبها الناسخون في المتن؛ بعضها مقدَّمًا، وبعضها مؤخَّرًا. * * * 5 - وقال: "لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى كون أحبَّ إليهِ مِنْ والدِهِ، وولدِهِ، والناس أجمعين"، رواه أنس. قوله: "لا يؤمن أحدكم ... " إلى آخره، (لا) في قوله: لا يؤمن، لنفي أصل الإيمان، لا لنفي الكمال، والهمزة في (أكون) همزة نفس المتكلم، والهمزة في (أحبَّ) همزة أفعل التفضيل؛ يعني: لا يكون أحدكم مؤمنًا حتى أكون أنا أشد حبًا في قلبه من حبه نفسَهُ وآباءَه وأولاده وجميعَ الناس، ومن كان حبُّ شيء في قلبه أكثرَ وأشدَّ من حبي، فهو كافر. وبهذا الحب يريد: الحبَّ الاختياري الحاصل من الإيمان، لا الحبَّ الجبلِّيَّ الطبعي، فإن كل أحد يحب نفسه من حيثُ الطبعُ والبشرية أكثر مما يحب غيره، وكذلك يحب ولده، ومن عشق بها من النساء أكثر من غيرها. والحبُّ الذي هو الطبعيُّ ليس داخلًا تحت اختيار الشخص، فلم يُؤاخذْ به؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

والحبُّ الاختياري الحاصل من الإيمان، وهو: أن يبذلَ نفسه وماله وأولاده وجميع أقاربه في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، مثل أن يأمره الرسول بقتل أبائه وأمهاته وأولاده الكافرين يجب عليه أن يقتلهم، ولو أمره أن يلقي نفسه بين الكفار بالقتال لوجب عليه الطاعة، وإن علم أنه يقتله الكافر. روى هذا الحديث "أنس" بن مالك بن نضر الأنصاري، خادم النبي عليه السلام. * * * 6 - وقال: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وجدَ حَلاوةَ الإيمانِ: مَنْ كانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِواهُما، ومَنْ أحبَّ عبدًا لا يُحبُّهُ إلا لله، ومَنْ يكرهُ أنْ يَعُودَ في الكُفْر بعدَ إذْ أنقذَهُ الله منهُ كما يكرهُ أنْ يُلقى في النَّارِ"، رواه أنس. قوله: "ثلاث من كن ... " إلى آخره، يقال: (ثلاثة) للذكور، و (ثلاث) للإناث بغير الهاء، والمراد ها هنا: الخصال؛ لأنها جمع: خصلة، وهي مؤنثة؛ يعني: ثلاث خصال من اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان. قوله: "من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما"، الحب ها هنا: هو الحب الاختياري، كما ذُكِر. (مما سواهما)؛ أي: مما سوى الله ورسوله، وقد جمع النبيُّ بين الله وبين نفسه بلفظ الضمير في قوله: "مما سواهما"، وكره - عليه السلام - الجمعَ بين الله وبين نفسه بلفظ الضمير في قول الخطيب الذي قرأ خطبة بحضرته عليه السلام، وقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال النبي عليه السلام: "اسكتْ؛ فبئسَ الخطيبُ أنت"، كره له قوله: ومن يعصهما. قيل: علة كراهيته قوله: (ومن يعصهما) أنه جمع بين الله وبين رسوله فيما

هو حقُّ الله تعالى على الحقيقة؛ لأن الطاعة والعصيان حقُّ الله تعالى، فطاعة الرسول طاعة الله، وعصيان الرسول عصيان الله تعالى، فكره - النبي عليه السلام - أن يجمع بينه وبين الله تعالى بلفظ الضمير الذي هو (هما)، وأما ها هنا فقد جمع بين الله وبين نفسه في الحب، والحب شيءٌ يجوزُ أن يكون لله ولغيره. هذا ما قيل في علة هذين الحديثين، والأولى أن لا يَجمَعَ أحدٌ بين الله تعالى وبين رسوله بلفظ الضمير في شيء من المواضع في الحب والطاعة والعصيان وغيرها، بل يقتصِرْ على ما جاء في الحديث. قوله: "ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله"؛ يعني: إذا أحب أحدًا ينبغي أن لا يكون حبك إياه إلا لله تعالى، وإن كان ذلك الشخص هو أباك أو أمك أو ولدك أو غيرهما؛ يعني: تقول في نفسك: إني أحب أبي وأمي؛ لأن الله تعالى أمرني بالإحسان إليهما حيثُ قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15]، وتقول أيضًا في نفسك: إني أحبهما لأنهما كانا سبب وجودي وولادتي، وربَّياني حتى بلغتُ إلى سنٍ أعبد الله تعالى وأطيعه، وتقول: أحب ولدي لأنه يكبر ويعبد الله تعالى ويطيعه، وإن أحببت أجنبيًا، فليكنْ حبك إياه لأجل صلاحه وتعبده، لا لأجل ماله ومنصبه ومعاونته إياك في الأمور الدنيوية. قوله: "ومن يكره ... " إلى آخره: (الإنقاذ): التخليص والتنجية، إنما قال النبيُّ - عليه السلام - هذا تحذيرًا وتخويفًا للصحابة؛ لأنهم كانوا كفارًا فأسلموا، وكان في بعض النفوس حبُّ ما كان فيها في الزمان الماضي، فقال عليه السلام: العود إلى الكفر كإلقاء الرجل نفسه في النار؛ لأن عاقبةَ الكفار دخولُ نار جهنم، ونقض التوبة والرجوع من التوبة إلى المعصية أيضًا كإلقاء الرجل نفسه في نار جهنم.

يعني: من كان فيه هذه الخصال الثلاث، فقد وجد فيه حلاوة الإيمان، وثبت الإيمان في قلبه، وكمل يقينه، ومن لم يكن فيه أحد هذه الخصال الثلاث، فانظر؛ فإن لم يكن حبُّ الله تعالى وحب رسول الله في قلبه أشدَّ وأكثر من حب سوى الله تعالى وسوى رسوله، فهو كافر، ونعني بهذا الحديث: الحب الاختياري. وإن كان فيه ترك الخصلة الثانية، وهي أن لا يحب من أحبه من الناس لله، بل يحبه لخلة أو تعصب أو لمال أو لمنصب، لم يكن بترك هذه الخصلة كافرًا، بل يكون مسلمًا ناقصًا. وأما الخصلة الثالثة، وهي: أن لا يكره العود إلى الكفر؛ فانظر؛ فإن مالت نفسه الشيطانية إلى الأشياء التي كان عليها في حال الكفر، وهو ينقضُ هذا الميل من نفسه، ويستعيذُ بالله من هذه الوسوسة، فلم يكن كافرًا بهذه الوسوسة؛ لأن النبي - عليه السلام - قال: "إن الله تجاوزَ عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلَّم"، وإن عزم على العود إلى الكفر، ورضي به، صار كافرًا. * * * 7 - وقال: "ذاقَ طعْمَ الإيمانِ مَنْ رضيَ بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولًا"، رواه العبَّاس بن عبد المطَّلِب. قوله: "ذاق طعم الإيمان ... " إلى آخره: (ذاق طعم الإيمان)؛ أي: وجد الإيمان. "من رضي بالله ربًا"، يقال: رضيت به مصاحبًا، ورضيت عليه، ورضيت عنه؛ أي: رضيت بمصاحبته، ولا أطلبُ غيره. قوله: (ربًا) منصوب على التمييز، وكذلك (دينًا) و (نبيًا).

يعني: من قال: من الآلهة حسبي الله، ومن الأديان حسبي الإسلام، ومن الأنبياء حسبي محمد عليه السلام. يعني: من اطمأن قلبه بكونِ الله تعالى إلهه وربه، ولم يطلب إلهًا غيره، ولم يجعل له شريكًا في الملك، وكذلك رضي بكون الإسلام دينه، وكون محمد عليه السلام نبيه، ولم يطلبْ دينًا سوى الإسلام، ولم يطلبْ نبيًا سوى محمد عليه السلام، فهو مؤمن، ومن لم يرضَ بواحد من هذه الثلاثة، فهو كافر. روى هذا الحديث "عباس بن عبد المطلب" بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. * * * 8 - وقال: "والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لا يسمعُ بي أحدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يهوديُّ أو نصرانيٌّ، ثمَّ يموتُ ولمْ يُؤمِن بالذي أُرْسِلْتُ بهِ إلاَّ كانَ مِنْ أصحابِ النَّار"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "والذي نفس محمد ... " إلى آخره، الواو في و (الذي) للقسم، وأراد بـ (الذي) الله تعالى. (النفس): الروح والدم والجسد والعين. (بيده)؛ أي: بقدرته وأمره، يقلبها ويصرفها كيف يشاء، سميت القدرة يدًا؛ لأن قوة الإنسان وقدرته وتصرفه باليد، فاُطلِق اسمُ اليد التي هي سبب القدرة والقوة على القوة والقدرة. الباء في "لا يسمع بي" يحتمل أن تكون زائدة، فيكون تقديره: لا يسمعني، كما جاء: سمعته، وسمعتك، وسمعت فلانًا، وهذا كثير.

ويحتمل أن تكون الباء بمعنى (من)، كما يقال: اسمعْ مني، وسمعت هذا الحديث من فلان، فعلى هذا الاحتمال تكون الباء هنا كالباء التي في قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الأنسان: 6]؛ أي: عينًا يشرب منها. وقد جاء الباء بمعنى (عن) أيضًا، كقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}؛ أي: فاسأل عنه خبيرًا، و (من) و (عن) متقاربان في المعنى. "الأمة": الجماعة التي تَؤُمُّ جهة واحدة؛ أي: تقصد، أو تؤم أمرًا واحدًا، ويقال لأهل زمان واحد: أمة، ولجماعة يتبعون نبيًا: أمة. والأمة على قسمين: أمة دعوة، وأمة إجابة؛ فأمة الدعوة: هم الذين بعث عليهم نبي، ويدعوهم إلى الله تعالى، سميت تلك الأمة أمة الدعوة، سواء أجابوا ذلك النبي أو لم يجيبوا، وأمة الإجابة: هم الذين أجابوا ذلك النبي. والمراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الدعوة. وإنما خُصَّت اليهود والنصارى في هذا الحديث بالذكر؛ لأنهما أهلا كتابي التوارة والإنجيل، وهم أشرفُ وأخصُّ ممن لم يكن لهم كتاب من الأمم الباقية، فإذا ذكر أن اليهودَ والنصارى يصيرون كفارًا بترك الإيمان بمحمد - عليه السلام - مع زيادة شرفهم على غيرهم من الأمم، فأَنْ يصيرَ غيرهم من الأمم كفارًا بترك الإيمان بمحمد - عليه السلام - أولى. قوله: "ثم يموت ولم يؤمن" إشارةٌ إلى أن من آمنَ في آخر عمره يكون إيمانُهُ مقبولًا؛ لأنه آمن قبل أن يموت، فلم يمت كافرًا. وقوله عليه السلام: "ولم يؤمن بالذي أرسلت به" إشارةٌ إلى أن الإيمانَ بجميع أحكام الإسلام واجبٌ، ومن قال: آمنت بأن محمدًا رسول الله، ولكن محمدًا رسول الله إلى بعض الناس، فهو كافر؛ لأنه لم يؤمن بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، قيل: تقديره: وما أرسلناك إلا لتكون رسولًا

للناس كافة؛ أي: جميعًا، فعلى هذا التقدير (كافة) حال للناس مقدم عليه، وقيل: بل (كافة) حال عن النبي عليه السلام، والتاء للمبالغة؛ يعني: لتكون مانعًا للناس عن الكفر، والكف: المنع. ومن قال: آمنت أن محمدًا رسول الله على كافة الناس، ولكن أعظمَ أمرَ السبت، أو حرَّم لحم الإبل، كما كان في دين موسى عليه السلام، أو قال ما أشبه ذلك من تحليل حرام أو تحريم حلال، فهو كافر؛ لأنه لم يؤمنْ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، والسلم: الإسلام؛ يعني: اقبلوا جميعَ ما أمركم [به] محمد عليه السلام، واتركوا ما نهاكم عنه محمد عليه السلام. و (كان) في قوله عليه السلام: "إلا كان من أصحاب النار" بمعنى: يكون. فإن قيل: ينبغي أن لا يكون كافرًا من لم يدرك زمن النبي عليه السلام ولم يسمع كلامَهُ بتركِ الإيمانِ به؛ لأن النبي - عليه السلام - قال: "لا يسمع بي"، وهذا الرجلُ لم يسمع منه. قلنا: ليس المراد من قوله: "يسمع بي" أن يسمع هو منه، بل المراد: وصول كلامه إليه ولو كان بواسطة كتاب أو شخص، ألا ترى أن من خالف كتاب سلطان أو رسوله يستوجبُ عقوبةَ ذلك السلطان؟ وتعظيمُ الرسول تعظيمُ الله تعالى وعصيانُهُ عصيانُ الله تعالى، فكذلك تعظيمُ ألفاظ رسول الله عليه السلام، وتعظيمُ العلماء الذين هم نوَّابه وورثته = تعظيمُ الله، وعصيانهمُ عصيانُ الله؛ لأنهم يدعون الخلق إلى الله تعالى، كما أن الرسول يدعو الخلق إلى الله تعالى لا إلى نفسه، ألا ترى أنه - عليه السلام - قال: "ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به"، ولم يقل: ثم يموت ولم يؤمن

بي، وحيث ذكر الإيمان بالرسول فالمراد منه: الإيمان بما جاء به الرسول، ولكنه لا يحصل الإيمان بما جاء به الرسول إلا بتصديق الرسول عليه السلام. * * * 9 - وقال: "ثلاثةٌ لهم أجرانِ: رجلٌ مِنْ أهلِ الكتابِ آمنَ بنبيِّهِ وآمنَ بمحمدٍ، والعبدُ المملوكُ إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مَواليهِ، ورجلٌ كانتْ عندهُ أمَةٌ يَطؤها، فأدَّبها فاحسنَ تأدِيبَها وعلَّمَها فأحسنَ تعليمَها، ثمَّ أعتَقَها فتزوَّجَها، فلهُ أَجران"، رواه أبو موسى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. قوله: "رجلٌ من أهل الكتاب" أراد به: النصارى لا غيرهم من أهل الكتاب؛ لأنَّ عيسى - عليه السلام - نسخَ جميع الأديان التي كانت قبله، فكلُّ مَنْ عمل بدين منسوخٍ كيف يكون له أجر؟ وأراد بقوله: "لهم أجران" أحد الأجرين على العمل بدين نبيه والإيمان به، والأجر الثاني على الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بدينه. وقد قلنا: قد نُسِخت الأديان التي كانت قبل عيسى عليه السلام بعيسى، فلا يُؤجَر من كان على دين غير عيسى، ثم لم يكنْ جميعُ من كان على دين عيسى يؤجر أجرين، بل من كان منهم متبعًا لعيسى عليه السلام، ولم يقل شيئًا كفر به في دينهم، كقول بعضهم: المسيح ابن الله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وما أشبه ذلك، فإن هذه الطائفة كفروا بعيسى عليه السلام بقولهم هذه الأشياء، فلم يؤجروا بالعمل بدين عيسى. وأما من كان على الحقِّ من النصارى، فيحصل له أجرٌ بالإيمان بعيسى والعمل بدينه إلى بعثة نبينا عليه السلام، ثم إذا آمن بنبيَّنا يحصلُ له أجرٌ آخر، ويكون له أجران؛ أجر على اتباع رسوله عليه السلام وأجرٌ على اتباع نبينا محمد عليه السلام.

ثم لا يجوز لأحد التأخيرُ في الإيمان بالنبي إلا بقدر ما يمتحنُ النبيَّ ويعرف صدق كونه نبيًا، فإن أخَّر الإيمان به لأجل طلب الدلائل على نبوته، فهو معذور في هذا التأخير، وله الأجرُ على العمل بدين عيسى عليه السلام في هذا الزمان؛ لأنه لم يكن كافرًا بالتأخير لطلب دلائل النبوة، وإن ثبتت عنده دلائلُ النبوة وأخرَّ الإيمان به عليه السلام، فهو كافر في زمان التأخير، ولم يكن له الأجرُ على العمل بدين عيسى عليه السلام في زمان تأخير الإيمان بنبينا عليه السلام بعد ثبوت دلائل النبوة عنده، فإذا آمنَ فله أجران؛ أحدهما: على العمل بدين عيسى عليه السلام في زمان تأخير الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد ثبوت دلائل النبوة عنده، والأجر الثاني على الإيمان بنبينا عليه السلام واتباعه. قوله: "والعبدُ المملوك إذا أدَّى حقَّ الله وحق مواليه"، قيَّد العبدَ بالمملوك احترازًا عن الحرَّ؛ لأن الحرَّ أيضًا عبدٌ، ولكنه عبد الله تعالى، لا عبدٌ مملوك لمخلوق، ولو قال: والعبد، توهَّم أحدٌ أنه يريد به: عبد الله، فيقع حينئذ على الحر والعبد. والمراد بـ (حق الله): فرائض الله من الصلاةِ والصومِ والتكفيرِ بالصوم إن وجب عليه. يعني: كل مملوك "أدَّى"؛ أي: قضى ما فرض الله تعالى عليه يحصل له أجرٌ، وإذا قضى خدمة سيده يحصل له أجر آخر. ولا يجوز للسيد أن يمنعَ العبد من أداء فرائض الله تعالى، ولا يجوز للعبد أيضًا أن يترك فرائضَ الله تعالى لأجل خدمة السيد. وإذا أدَّى فرائض الله تعالى لا يجوز له أن يتركَ خدمة السيد ويشتغلَ بعبادةٍ غير واجبة إلا أن يأذن له السيد فيها، حتى لو أحرم بالحجِّ يجوز لسيد أن يُخرجَهُ من الإحرام، ويمنعه من إتمام الحج، ولو أحرم بغير إذن السيد وحجَّ وفات عنه خدمته، أثمَ.

وكذلك للسيد أن يمنعه عن صلاة النفل، وصوم النفل، وعن تعلم غير التشهد والفاتحة وفرائض الصلاة والصوم؛ لأن هذه الأشياء واجبة عليه دون غيرها. قوله: "رجل كانت عنده أمة يطأها"؛ أي: يجامعها. "أدَّبها"؛ أي: علمها الأدب، و (الأدب): حسن الأفعال في القيام والقعود، وحسن الأخلاق، واجتماع الخصال الحميدة في الشخص، وأدَّبَ أيضًا: إذا منع أحدًا عن فعل القبيح، وكلا المعنيين حسنٌ في قوله: و"أدَّبها". قوله: "فأحسن تأديبها"؛ أي: أدبها من غير عنف وضرب، بل باللطف والتأني. "وعلمها"؛ أي: علمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، وإن علمها باللطف من أحكام الشريعة أكثر مما يجب عليها فهو خيرٌ له. وقوله: "فأحسن تعليمها"؛ أي: علمها بالرفق وحسن الخلق. فإن قيل: هنا إشكالٌ من وجهين: أحدهما: تقييده بقوله: كانت عنده أمة يطأها؛ يعني لو كان لم يطأها، أو عبد = لم يكن حكمها كذلك؟ والوجه الثاني: أنه ينبغي أن يقول: له أربعة أجور؛ أحدها بتأديبها، والثاني بتعليمها، والثالث بإعتاقها، والرابع بتزويجها، فلمَ قال: فله أجران، ولم يقل: أربعة أجور؟ قلنا: المراد بحصول الأجرين له ها هنا بالإعتاق والتزويج؛ لأن التأديب والتعليم موجبان الأجرَ في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلم يكن مختصًا بالإماء، فإذا كان حصول الأجرين له يكون بالإعتاق والتزويج، فلم يكن العبد داخلًا في هذا الحديث.

وأما تقييده بقوله: "أمة يطؤها" المراد بهذا اللفظ: أمة يريد وطأها، ويحل له وطؤها، سواء كانت الأمة موطؤة له قبل الإعتاق أو لم تكن موطوة له. وإنما قال: "فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها"؛ لأن هذا أفضلُ وأكملُ للأجر، وتزوجُ المرأة التي وجدت التأديب والتعليم أكثرُ بركة وأقرب إلى أن تُعينَ زوجَها على دينه، فلأجل هذا قيَّد بالتأديب والتعليم. روى هذا الحديث "أبو موسى" عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَار "الأشعري". * * * 10 - وقال: "أُمِرتُ أنْ أُقاتلَ النَّاسَ حتَّى يَشهدوا أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصَّلاة، ويُؤْتوا الزَّكاة، فإذا فَعَلوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُم وأموالَهُم إلا بحقَّ الإسلام، وحسابُهم على الله"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -. قوله: "أمرتُ": هذا فعلٌ ماضٍ مجهول، والتاء مفعول ما لم يُسمَّ فاعله، والفاعل غير مذكور، وهو الله تعالى؛ أي: أمرني الله تعالى. "أن أقاتل الناس"؛ أي: أحارب الناس وأقتلهم. "فإذا فعلوا ذلك" إشارةٌ إلى مذكر غائب مقدر، وهو: ما أمرهم به، وما أقاتلهم لأجله، وما أشبه ذلك مما يمكن تقديره؛ يعني: فإذا فعلوا ما آمرهم به وما أقاتلهم لأجله من الإقرار بكلمتي الشهادة وأداء الصلاة وإيتاء الزكاة "عصموا"؛ أي: حفظوا، من (عصَم - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عِصمة): إذا حفظه. "إلا بحق الإسلام"؛ يعني: إذا فعلوا هذه الثلاثة لا أقتلهم ولا آخذ أموالهم إلا بحق الإسلام، مثل أن يقتل مسلمٌ مسلمًا عمدًا عدوانًا فأقتله بالقصاص، أو

يقطع الطريق ويقتل أحدًا فأقتله، أو زنى وهو محصن فأرجمه، وما أشبه ذلك من الأحكام الشرعية. "وحسابهم على الله تعالى"؛ يعني: أنا أحفظ وأراعي أفعالَهم الظاهرة، لا أترك أحدًا أن يترك شيئًا من فرائض الله تعالى، ولا أترك أحدًا أن يظلمَ أحدًا، وأما ما في نياتهم وعقائدهم [التي] ليس لي اطلاع فهو إلى الله، وهذا مثلُ قوله عليه السلام: "أنا أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر"؛ أي: هو الذي يعلم السرَّ وأخفى. فإن قيل: لمَّا لم يذكر الصومَ والحجَ ها هنا، فينبغي أن لا يقاتل أحدًا ممن لا يصوم ولا يحج! قلنا: قيل: لهذا جوابان: أحدهما: أن النبي - عليه السلام - إنما خصَّ هذه الأركان الثلاثة لعظم شأنهما؛ لأن الشهادة أفضلُ شعب الإيمان وأولها، والصلاة واجبة في كل يوم خمس مرات، وهي مجمع جميع العبادات؛ لأن فيها تلاوة القرآن والقيام والركوع والسجود والتسبيح والتكبير وترك الأكل والشرب الذي هو نوع من الصوم وما أشبه ذلك من الخضوع والتذلل، وأما الزكاة فهي حقوق الفقراء وسبب معاشهم وقيامهم بعبادة الله تعالى والقوة على الجهاد، وأيضاً الزكاةُ أشدُّ شيءٍ على النفس؛ لأن النفس؛ مجبولةٌ على حب المال، فأوجب الله تعالى الزكاةَ؛ ليخالف الرجل نفسه، ويختار أمر الله تعالى على ما أحبته نفسه. بخلاف الصوم والحج؛ فإن الحج مؤخَّر إلى آخر عمر الرجل، فإذا كان للرجل التأخير في أداء الحج إلى آخر عمره، فكيف يقاتله أحد على ترك أداء الحج؟ وأما الصوم فمُسقطاتُهُ كثيرة، وهي: المرض والكبر الذي يضعف به عن

الصوم والسفر وإن كان يجب القضاء، وهذه الأشياء ليست بمسقطات الصلاة والزكاة، فإذا كان كذلك، لم يكن الصوم مثل الصلاة والزكاة في التأكيد. ويجوزُ أن يُخصَّصَ ما هو الأكملُ بالذكر (¬1)، وتخصيصُ هذه الأشياء بالذكر لا يدلُّ على نفي وجوب غيرها، بل يعلم وجوب غير هذه من حديث آخر، وإذا ثبت وجوبُ غير هذه الأركان بحديث آخر، فتكون كهذه الأركان في توجُّهِ المطالبة إلى تاركه. * * * 11 - وقال: "مَنْ صَلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قِبلتَنا، وأكلَ ذَبيحتَنا، فذلكَ المسلمُ الذي لهُ ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا الله في ذِمَّتهِ"، رواه أنَسٌ - رضي الله عنه -. قوله: "من صلى صلاتنا"؛ أي: من صلَّى صلاةً، مثل صلاتنا، وهذه الصلاة لا توجد إلا من مسلم؛ لأنَّ أهل الكتاب يصلون، ولكن لا يصلون مثل صلاتنا، وغير أهل الكتاب لا يصلون. "واستقبل قبلتنا"؛ أي: توجَّه إلى الكعبة في الصلاة، وهذا بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، واستقبالُ الكعبة أيضًا علامةُ الإسلام؛ لأنه لم يستقبل الكعبة أهل الكتاب. "وأكل ذبيحتنا"، (الذبيحة): فعيلة بمعنى: المفعول؛ أي: المذبوح، والتاء ليست للتأنيث، بل هي للجنس، كالتاء في (شاة). يعني: من أكل لحم ما ذبحه المسلمون من الشاة والبقر والإبل وغيرها مما يحلُّ أكلُهُ، فهو مسلم. والمراد بهذا: أهل الكتاب؛ لأنهم هم الذين لا يأكلون ذبيحتنا، ويعتقدون ¬

_ (¬1) لعل هذا هو الجواب الثاني.

تحريمَ ما ذبحه المسلمون، فإذا أكلوا ذبيحة المسلمين، واعتقدوا حلَّه، فهو دليلُ إسلامهم. وأما غير أهل الكتاب لم يكن أكلُهم ذبيحةَ المسلمين دليلَ إسلامهم؛ لأنهم لم يعتقدوا تحريمَ ذبيحة المسلمين، ولم يمتنعوا من أكل ذبيحة المسلمين، فلم يكونوا (¬1) تاركين لدينهم بأكلهم ذبيحة المسلمين، بخلاف أهل الكتاب. "فذلك المسلم الذي له ذمةُ الله تعالى وذمةُ رسوله عليه السلام"؛ يعني: من فعل هذه الأشياء المذكورة فهو مسلم، وحصل له عهدُ الله ورسوله، وأمان الله تعالى وأمان رسوله عليه السلام. (الذمة): الأمان والعهد. "فلا تخفروا الله في ذمته"، خفر - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - خَفْرًا وخِفارة: إذا وفَّى بالعهد، وأعطى أحدًا الأمان ومنعه عن القتل والظلم، و (الخُفرة) بضم الخاء: العهد، و (أخفر): إذا نقض العهد، (فلا تخفروا الله تعالى)؛ أي: فلا تنقضوا عهد الله وأمانه، فحذف المضاف ها هنا وهو العهد والأمان، ونصب المضاف إليه - وهو الله تعالى - مكان المضاف، والضمير في (ذمته) راجعٌ إلى المسلم الذي له ذمة الله تعالى وذمة رسوله. يعني: لا تقتلوا، ولا تؤذوا من فعل هذه الخصال؛ فإنكم لو قتلتموه لنقضتم عهد الله وحاربتم الله بسبب قتله. فإن قيل: لم لم يذكر من الأركان غير الصلاة في هذا الحديث؟ قلنا: لأنه معلومٌ أن الكافر لا يصلي صلاتنا، ولا يستقبل قبلتنا، فمن ¬

_ (¬1) في "ق" و"ش" و"ت": "يكن".

صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فقد اعترفَ بنبوة محمد عليه السلام وقبلَ قولَهُ، فإذا صدَّقه على الرسالة، وقبل قوله في الصلاة، واستقبلَ القبلة، فالظاهرُ والغالبُ أنه لا ينكرُ شيئًا مما أمره النبي - عليه السلام - من أحكام الدين، فإذا كان كذلك، فلا حاجةَ إلى ذكر جميع الأركان؛ لأن ذكر ما في هذا الحديث يدلُّ على الباقي. * * * 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى أعرابيٌّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: دُلَّنِي على عَملٍ إذا عملتُهُ دخلتُ الجنّةَ، قال: "تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاةَ المكتوبةَ، وتُؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ، وتصومُ رمضانَ"، فقال: والذي نفسي بيدِهِ، لا أزيدُ على هذا، ولا أنقُصُ منه، فلما ولَّى قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ مِنْ أهلِ الجنَّةِ فلينظُرْ إلى هذا". قوله: "أتى أعرابي"، ففي بعض النسخ: "أتى أعرابي النبي عليه السلام" وفي بعضها: "أتى أعرابي إلى النبي عليه السلام"، وكلاهما بمعنى واحد. "دُلَّ" بضم الدال وفتح اللام: أمرُ مخاطب؛ من دَلَّ يدُل دلالة: إذا أرشد أحدًا إلى صراط مستقيم أو إلى أمر. "قال: تعبد الله"؛ أي: قال رسول الله عليه السلام: العمل الذي إذا عملته دخلت الجنة أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، ولا تقول بوجود إله سوى الله، بل تقول وتعتقد أن لا إله إلا الله، وأن تخلص العبادة له، وتحترزَ عن الرياء؛ فإن الرياءَ شركٌ خفي. فإن قيل: لم لم يكن في الحديث ذكر: محمد رسول الله، ولا يصحُّ الإيمان إلا بالإقرار برسالة محمد عليه السلام؟

قلنا: لأن الرجل كان مسلمًا مقرًا برسالته؛ لأنه لو لم يكن مسلمًا، لم يسأل النبي شيئًا، ولم يصدقه فيما قال، فلما قبل ما قال له النبيُّ - عليه السلام - في هذا الحديث عُلِمَ أنه كان مسلمًا. فإن قيل: لو كان مسلمًا، فلم قال له النبي عليه السلام: "لا تشرك بالله شيئًا"؟ قلنا: إنما قال له النبي عليه السلام هذا إما ليحترزَ عن الرياء في العبادة، أو ليحترز عما قالت اليهود والنصارى من قولهم: عزيرٌ ابن الله، والمسيح ابن الله، وما أشبه ذلك. "وتقيم الصلاة المكتوبة"؛ أي: المفروضة؛ يعني: وتؤدي الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على عباده. "وتؤدي الزكاة المفروضة"، وقيدُ (المفروضة) ها هنا احترازٌ عن صدقة التطوع؛ لأن الزكاة تُطلَق على إعطاء المال على سبيل التبرع. "ولَّى"؛ أي: أدبر وذهب. "سره"؛ أي: فرَّحه؛ أي: من أراد "أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" الرجل، فإنه من أهل الجنة. اعلم أن أصحاب الحديث قالوا: هذا الحديث والحديث الذي يرويه طلحةُ بن عبيد الله واحد، ولكن عبارات الرواة فيه مختلفة، فنذكر هذا الحديث برواية طلحة بن عبيد الله عقيب هذا الحديث، وإن كان في بعضِ نسخ "المصابيح" هو مكتوبٌ بعد حديث سفيان الثقفي، وإنما نذكر حديث طلحة بن عبيد الله عقيبَ هذا؛ لأنا قد قلنا: هما حديث واحد، فنذكر شرح ألفاظ ما في رواية طلحة، ثم نذكر ما في الروايتين من السؤال والجواب. وحديث طلحة: * * *

14 - عن طلْحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرأسِ، نسمعُ دَويَّ صوتِه ولا نفقَهُ ما يقولُ، حتَّى دنا، فإذا هو يسألُ عنِ الإِسلامِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلَواتٍ في اليومِ والليلةِ"، فقال: هلْ عليَّ غيرهُنَّ؟ فقال: "لا، إلَّا أنْ تطوَّعَ"، قال: "وصيامُ شهرِ رمضانَ"، قال: هلْ عليَّ غيرُه؟ قال: "لا، إلاَّ أنْ تَطوَّعِ"، قال: وذكرَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكاةَ، فقالَ: هَلْ عليَّ غيرُها؟ فقال: "لا إلاّ أنْ تَطَوَّعَ". قال: فأدبرَ الرجلُ وهو يقولُ: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلَحَ الرَّجلُ إنْ صدقَ". قوله: "جاء رجل من أهل نجد ثائرَ الرأس"؛ أي: ثائر شعر الرأس، وحذف المضاف؛ أي: متفرق شعر الرأس، من ثار يثور ثورًا وثورانًا: إذا ارتفع الغبار وتفرق عن مكانه، و (ثائر الرأس) نصب على الحال. "الدوي": الصوت الذي لا يُفهَم منه شيءٌ كصوتِ النَّحْل. (فقه) - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - فقهًا: إذا فهم، وأدرك شيئًا. دنا يدنو: إذا قرب. "فإذا هو" (إذا) للمفاجأة؛ يعني: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، نسمعُ من البعدِ صوته، ولا نفهم ما يقول، حتى قَرُبَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قرب سمعنا وفهمنا. قوله: "وهو يسأل عن" أركان "الإسلام" كم هي؟ "فقال رسول الله: الصلوات الخمس، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ "؛ يعني: أحد أركان الإسلام الصلوات الخمس، فقال الرجل: هل عليَّ صلاة مفروضة غير الصلوات الخمس؟ "فقال رسول الله عليه السلام: لا، إلا أن تطوع"؛ يعني: ليس عليك غير الصلوات الخمس إلا أن تصلي تطوعًا.

و (التطوع): ما يفعله الرجل من الصلاة والصوم والصدقة وغيرها عن طوعه ورغبته، من غير أن يُوجِبَ الشرعُ ذلك الفعل. وقوله: "إلا أن تطوع" كان أصله: تتطوع، يجوز حذف إحدى التاءين، ويجوز إدغام التاء الثانية في الطاء، فمن حذَفَ إحدى التاءين يقول: تَطَوَّع بتخفيف الطاء، ومن أدغمها يقول: تَطَّوَّع بتشديد الطاء. "قال: وصيام شهر رمضان"؛ يعني: قال رسول الله عليه السلام: الركن الثاني: صيام شهر رمضان، قال: هل عليَّ صوم فرض سوى شهر رمضان؟ قال: لا إلا أن تطوع. مضى شرح هذا. "قال: وذكر له رسول الله عليه السلام الزكاةَ"؛ أي: قال الراوي: ذكر رسول الله - عليه السلام - للرجل: أن الركن الثالث الزكاة. قال: "فأدبر الرجل"؛ أي: قال الراوي: ذهب الرجل، "وهو" يحلف و"يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ منه". قيل: معناه: لا أزيد على هذا السؤال، بل يكفيني هذا السؤال، ولم يبقَ فيما سألت إشكالٌ وشكٌّ، حتى احتاج إلى زيادة سؤال. "ولا أنقص منه"؛ أي: ولا أترك شيئًا ممَّا أمرني به، بل آتي بجميعه. وقيل: هذا الرجل اسمه ضِمام بن ثعلبة، أرسله قومه بنو سعد بن بكر إلى رسول الله عليه السلام؛ ليسأله عن أركان الإسلام، ويرجع إليهم، ويخبرهم بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا معناه: أُبَلِّغُ قومي ما سمعتُ بحيث لا أزيدُ على ما قال رسول الله عليه السلام، ولا أنقص منه. قيل: معناه: والله لا أزيد على أداء الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة وهذا التأويلُ مستقبحٌ؛ لأن النبي - عليه السلام - كان يأمر الناس بأداء السنن والنوافل من الصلاة والصيام والصدقة، ويحرَّضهم عليها، فكيف

يرضى ويستحسن قول رجل يقول: والله لا أزيد على هذا، ويمدحه عليه بقوله في رواية أبي هريرة: "من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا"، وفي هذا الرواية بقوله: "أفلح الرجل إن صدق"؟! و (الإفلاح): وجدان الفلاح، و (الفلاح): وجدان المراد في الدنيا والآخرة، وقيل: الفلاح أربعة أشياء: بقاءٌ بلا فناء، وغنًى بلا فقر، وعزٌّ بلا ذل، وعلمٌ بلا جهل. فإن قيل: لم لم يذكر الشهادة والحج؟ قلنا: أما الشهادة فلأن الرجل كان مسلمًا، فلم تكن به حاجة إلى عرض الشهادة عليه. وأما الحج فهو مذكور في رواية ابن عباس؛ لأن هذا الحديث يرويه ابن عباس، كما يرويه أبو هريرة وطلحة بن عبيد الله، وبينهم اختلاف في ألفاظ، ولم يسمع أبو هريرة وطلحة لفظ الحج، أو سمعاه ولكنهما نسياه؛ لأن سؤال ضمام هذا السؤال في السنة الخامسة من الهجرة في قول، وفي السابعة في قول، وفي التاسعة في قول، ووجوب الحج كان في السنة الخامسة، فإذا كان كذلك، فترجيحُ رواية ابن عباس أولى؛ لأن كون الحج مذكورًا في حديثه زيادةُ علم، ولزيادةِ الراوي بعلمِ لفظٍ ترجيح وقوةٌ عند أصحاب الحديث. فإن قيل: لمَ قال - عليه السلام - في رواية طلحة: "أفلح الرجل إن صدق"؛ حَكَمَ للرجل بالفلاح بلفظ: إن صدق، وهو للشكِّ في صدقه، وحكم بكونه من أهل الجنة مطلقًا بغير شكًّ في رواية أبي هريرة؟! قلنا: يحتمل أنَّ قوله عليه السلام: "أفلح الرجل إن صدق" كان قبل أن يخبره الله تعالى بحال الرجل، ثم أخبره الله تعالى صدقَ الرجل وإخلاصَ نيته وكونَهُ من أهل الجنة، فقال رسول الله عليه السلام: "من سرَّه أن ينظر إلى رجل

من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا". ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام: "أفلح الرجل إن صدق" بحضورِ الرجل؛ كي لا يغترَّ ويتَّكِلّ على كونه من أهل الجنة، فلما ذهبَ قال عليه السلام: "من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا". وجَدُّ "طلحةَ": عثمانُ بن عمرو بن كعب القرشي. * * * 13 - عن سُفيان بن عبد الله الثَّقَفِي قال: قلتُ: يا رسولَ الله! قُلْ لي في الإِسلامِ قولًا لا أَسألُ عنهُ أحدًا غيركَ، قال: "قُلْ: آمنتُ بالله، ثُمَّ اسْتَقِمْ". قوله: "قل: آمنت بالله ثم استقم"، (استقم): أمر مخاطب من استقام يستقيم استقامة: إذا قام مستويًا وداوم وثبت على الحق. يعني: قلت: يا رسول الله! أخبرني عمَّا هو كمالُ الإسلام بحيث تكون أصول الإسلام وفروعه داخلةٌ فيه بحيث لا أحتاجُ إلى أن أسأل أحدًا غيرَك عنه، فقال له رسول الله عليه السلام: قل: آمنت بوحدانية الله وقدمه، وجميع أمره ونهيه ووعده، ثم اثبتْ على جميع هذه الأشياء بحيث يكون ظاهرك وباطنك فيها موافقين. وقوله عليه السلام: "ثم استقم" لفظٌ جامعٌ للإتيانِ بجميع الأوامر، والانتهاءِ عن جميع المناهي؛ لأنه لو ترك أمرًا لم يكن مستقيمًا على الطريق المستقيم، بل عدل عنه حتى يرجع إليه، ولو فعل منهيًا، فقد عَدَلَ عن الطريق المستقيم أيضًا حتى يتوبَ، ولهذا قال رسول الله عليه السلام: "شيبتني سورة هود" يعني: قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}؛ لأن الاستقامة كما يحبُّ الله

ويرضى شديدةٌ، وقال رسول الله عليه السلام: "استقيموا ولن تحصوا"؛ أي: ولن تطيقوا أن تستقيموا بالكلية، ولكن جاهدوا واجتهدوا في طاعة الله تعالى بقدر ما تطيقون. "وجَدُّ سفيان بن عبد الله": أبو ربيعة بن الحارث الثقفي. * * * 15 - وعن ابن عبَّاس أنَّه قال: إنَّ وفدَ عبدِ القَيْسِ لمَّا أَتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ القومُ - أو: مَنْ الوفدُ -؟ "، قالوا: ربيعةُ، قال: "مرحبًا بالقومِ - أو: بالوفدِ - غيرَ خَزايا ولا نَدامَى"، قالوا: يا رسولَ الله! إنّا لا نستطيعُ أنْ نأتيكَ إلاَّ في الشهر الحرام، وبيننا وبينكَ هذا الحيُّ من كُفارِ مُضَرَ، فَمُرنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخبرُ بهِ مَنْ وراءنَا، وندخُلُ بهِ الجنَّةَ، وسأَلوهُ عنِ الأشربةِ، فأمرهُم بأربعٍ، ونهاهُم عن أربع: أمرهُمْ بالإيمانِ بِالله وحدَه، فقال: "أتدرونَ ما الإِيمانُ بِالله وحده؟ "، قالوا: الله ورسولهُ أعلمُ، قال: "شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصِيامُ رمَضانَ، وأنْ تُعطُوا من المَغْنَم الخُمُس"، ونهاهُمْ عن أربَعٍ: عنِ الحَنْتَمِ، والدُّبَّاءِ، والنَّقيرِ، والمُزفَّت، وقال: "احفظوهنَّ، وأخبِروا بهنَّ مَنْ وَراءَكم". قوله: "إن وفد عبد القيس"، (وفد) - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - وفادةً: إذا أتى إلى الأمير من عند قوم برسالة، واسم الفاعل: وافد، والجمع: وفد، وأوفد زيدٌ عمرًا: إذا أرسله برسالة إلى أحد. و (عبد القيس): اسم قبيلة معروفة عظيمة، وهم يتفرقون قبائل كثيرة، إحدى قبائلهم ربيعة. ومعنى وفد عبد القيس: الجماعة الذين أرسلهم قومهم إلى النبيَّ عليه

السلام؛ ليتعلموا منه الدين، ويرجعوا إليهم، ويعلموهم ما تعلموا من رسول الله عليه السلام. "قال: من القوم؟ أو: من الوفد؟ " يعني: لمَّا أُخبِر رسول الله - عليه السلام - بقدوم وفد عبد القيس قال: "من القوم؟ " يعني: قبائل عبد القيس كثيرة، هؤلاء الذين جاءوني من أي قبائل عبد القيس؟ وأخبره أصحابه: أنهم من قبيلة ربيعة، و (أو) في قوله: "أو من الوفد" للشك؛ يعني: شك الراوي أن رسول الله عليه السلام قال: "من القوم؟ " أو قال: "من الوفد؟ ". وهذا دليلٌ على أنه لا يجوزُ تغييرُ ألفاظ رسول الله عليه السلام، بل يجب مراعاة ألفاظه؛ لأن في ألفاظه بركةً كثيرةً، وتحت كل لفظة من ألفاظه فائدةٌ يفهمهما أهل الحذاقة بالعربية، وأهل الفطنة والمعاني ولو غُيَّرَ لفظ من ألفاظه في حديث تزول منه بركةٌ وفائدةٌ كثيرةٌ من المعاني الداخلة تحت تلك اللفظة. وقال قوم: يجوز رواية الحديث بالمعنى؛ يعني: ينبغي أن يروي الراوي معانيَ حديث النبي عليه السلام بأيَّ لفظ شاء الراوي، وهذا مُستنكَرٌ عند أصحاب الحديث. "مرحبًا" اسم موضع من رَحُبَ - بضم العين في الماضي والغابر - رحبًا ورحابة: إذا اتسعَ المكان، وهو منصوب بإضمار فعل، تقول لمن نزل بك من الأضياف: مرحبًا؛ أي: جئت موضعًا واسعًا، لا ضيقَ عليك في بيتي، ولا حزن، اجلس حيث شئت، وتقول لجماعة أيضًا: مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، ولا تغيَّرُ هذا اللفظ، وتقول: مرحبك الله ومرحبًا بك الله؛ أي: أتى بك مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، وقال لك الله: مرحبًا. والباء في "مرحبًا بالقوم" وما أشبه ذلك يحتمل أن تكون للتعدية؛ أي: أتى الله بالقوم مرحبًا، ويحتمل أن تكون زائدة؛ أي: أتى القوم مرحبًا.

وهذا القول لتأنيس الضعيف وتأليف قلبه وإزالة الحزن والاستحياء عن نفسه. "غير خَزَايا ولا نَدامى"، (الخزايا): جمع الخَزيان بفتح الخاء، وهو نعتٌ؛ من خَزِي يخزَى - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - خزاية؛ أي: استخجل واستحى. و (الندامى): يحتمل أن تكون جمع: ندمان، وهو بمعنى: نادم، فتكون حينئذ جمعًا مستقيمًا على القياس كـ (خزايا) جمع الخزيان، ويحتمل أن يكون جمع: نادم، وعلى هذا يكون على خلاف قياس المجموع؛ لأن جمعَ (نادم) لا يجيء على (ندامى)، ولكن أُجرِي (ندامى) مجرى خزايا اتباعًا وازدواجًا له، وقياسه أن يكون (نادمين). والمراد من قوله عليه السلام: "غير خزايا ولا ندامى": أن هذه القبيلة دخلوا في الإسلام عن طوعهم ورغبتهم من غير أن يلحقهم من رسول الله - عليه السلام - حربٌ وسبيٌ؛ يعني: لم يحاربونا، ولم يقولوا فينا سوء، ولم يحصل بيننا عداوة وحقد، حتى يكونوا مستخجلين مستحيين. ويحتمل أن يكون معناه: ما كنتم بالإتيان إلينا خاسرين خائبين، كبعض الأمراء إذا أتاهم وفدٌ لا يعطونهم حقهم، ولا يقضون حوائجهم، فيرجعون خاسرين خائبين مستخجلين مستحيين إلى قومهم، ونحن لا نفعل كذا، بل نقضي حوائجهم، وينقلبون من عندنا بالأجر والعلم. و (غير خزايا): نصب على الحال. قوله: "من كفار مضر"، (مضر): اسم قبيلة عظيمة، وكانوا أعداء للقبيلة التي هؤلاء الوفد منهم. يعني: قال الوفد: يا رسول الله! لا نستطيع أن نأتيك في وقت من الأوقات غير الأشهر الحرم؛ لأن بيننا وبينك في طريقنا قبيلة مضر نازلون، وهم أعداءُنا،

وهم كفار يقتلوننا لو رأونا في الطريق في غير الأشهر الحرم، فإذا لم نقدر أن نأتيك في كلِّ وقت لنسألك ما نحتاج إليه من العلم، فإذا أتيناك فعلِّمنا علمًا شافيًا كافيًا. وإنما قالوا: "في الشهر الحرام"؛ لأن العرب كلهم يعظَّمون حرمة الأشهر الحرم، لا يقاتلون فيها، ولو رأى أحدٌ عدوَّه في الأشهر الحرم لا يؤذيه. وكذلك كان القتالُ مع الكفار منهيًا في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم صار منسوخًا بقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، ووجه الاستدلال به: أنه تعالى لمَّا أمر بالقتل حيث وجد المسلمون الكفار قد يكون وجدانهم الكفار في الأشهر الحرم. وفي البلد الحرام. ومعنى (ثقف): وجد. قوله: "فمرنا" هذا أمر مخاطب من أمر يأمر "أمرًا فصل" صفة الأمر، وهو مصدر بمعنى الفاعل، من فصل يفصل فصلًا: إذا ميَّز وبيَّن؛ أي: أمرٌ فاصل مبيِّن بين الحق والباطل، والحلال والحرام، ومزيل للإشكالِ عن قلوبنا. قوله: "نخبر به من وراءنا"؛ أي: نعلم قبائلنا وعشائرنا ما حفظناه منك من المسائل. (وراءنا)؛ أي: خلفنا؛ أي: من كان تركناهم في أوطاننا. ويجوز في (نخبر) الجزمُ على أنه جواب الأمر، وهو قوله: (فمرنا)، ويجوز فيه الرفع على أنه صفة (الأمر). قوله: "وندخل، معطوف على (نخبر)، ويجوز فيه الجزم والرفع أيضًا، والباء في "به الجنة" باء السببية؛ أي: ندخل بسببه الجنة؛ أي: بسبب قبول أمرك وتعظيمه والعمل به ندخل الجنة. فاعلم أنه لا يدخل الجنة أحد بعمله، بل بفضل الله تعالى؛ لأنه لا يجب

على الله تعالى شيءٌ، بل ما يعطي أحدًا يعطيه بفضله ولطفه تعالى، ولكنَّ العملَ سببٌ. وهذا مثل حصول الرزق بسبب الكسب؛ فإن الله تعالى يعطي الرزق، ولكن العبد يسعى في طلبه بحرفة وغيرها. وكذلك الشبع يحصل بسبب الطعام، ولكن المشبع في الحقيقة هو الله تعالى، ألا ترى أن الرجل يأكل قليلًا من الطعام ويشبع، وقد يأكل ذلك الرجل في وقت آخر قدرًا كثيرًا ولا يشبع؟ فلو كان المشبع هو الطعام لما اختلف قدر الطعام في الإشباع، وقد يمر على الإنسان أيام ولا يأكل شيئًا فيها ولا يجوع، وقد يأكل في يوم واحد مرارًا ثم يجوع. وكذلك جميعُ الأشياء، لا مؤثر في الإحراق والإشباع والإعطاش والإمراض والقتل وغير ذلك إلا الله تعالى، ولكن هذه الأشياء أسباب وعلامات لحصول الأشياء. قوله: "وسألوه عن الأشربة"، (الأشربة): جمع الشراب، وهو اسمٌ لكلِّ ما يُشرب؛ حذف ها هنا إما المضافُ إلى الأشربة وإما صفة الأشربة؛ أي: عن الأشربة التي تكون في الأنواع المختلفة من الأواني. الفاء في "فأمرهم بأربع": للتعقيب؛ أي: بعد قولهم: "فمُرْنا بأمرٍ" أمرهم بأربع خصالٍ وبعد سؤالهم عن الظروف التي يشرب منها. "نهاهم عن" ظروفِ "أربعة" وهي "الحَنْتَم" إلى آخر الحديث، ويأتي شرحه. قوله: "أمرهم بالإيمان": إلى آخره ففي هذه إشكالٌ؛ لأنه لو قرئ و"إقام الصلاة" وما بعدها بالجر على أنها معطوفةٌ على قوله: (أمرهم بالإيمان) يكون المجموعُ خمسةَ، وهو الإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،

وأن تعطوا من المغنم الخُمس، وإن قرئ و"إقام الصلاة" وما بعدها بالرفع على أنها معطوفةٌ على "شهادة" يكون الجميع من الإيمان، فيكون الجميع واحدًا، فأين الثلاثة الباقية من قوله: "فأمرهم بأربع"؟. قلنا: فسَّر عليه السلام الإيمان بخمسة أشياءَ، وهي الشهادةُ إلى قوله: "وأن تعطوا من المغنم الخمس" ولكن ما أمرهم به من هذه الخمسة أربعةٌ وهي: إقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخُمس من المغنم. وأما الشهادة فليست مما يأمرهم بها؛ لأنهم كانوا مسلمين مُقرِّين بكلمتي الشهادة، فقول الراوي: (أمرهم بأربع) يعني الأربعةَ التي هي: إقامُ الصلاة وما بعدها، وإنما قال: (أمرهم بأربع) وعدَّ خمسًا لأنه عَلِمَ أنه لا يَخْفَى على العلماء أن الشهادة ليست ممَّا يأمرهم النبي بها؛ لأنه قد ذكر في أول الحديث ما يدل على إسلامهم، وهو قولهُ عليه السلام: (مرحبًا) ولم يقل النبي عليه السلام هذا اللفظ إلا للمسلمين، وقوله: (غير خزايا ولا ندامى): يدل على إسلامهم لأن الكفار يكونون خزايا وندامى، والمسلمون هم الذين غيرُ خزايا ولا ندامى محقَّقٌ في حقهم. وقولهم: (يا رسول الله) أيضًا دليلٌ على إسلامهم؛ لأن الكافر لا يقول لمحمدٍ عليه السلام: يا رسول الله، فإذا تقَّدم هذه الأدلة على إسلامهم، لم يَخْفَ أن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالشهادة بل بغيرها ممَّا يذكر بعدها، إلا أن الراوي قال: (أمرهم بأربع) ثم قال: (أمرهم بالإيمان بالله تعالى وحده) وذكر الخَمس في تفسير الإيمان لزوال الخفاء أنَّ الشهادة ليست مما أمرهم به، فلا يجوز في "إقام الصلاة" وما بعدها إلا الرفعُ؛ لأنها معطوفةٌ على قوله عليه السلام: "شهادة أن لا إله إلا الله" هكذا ذكر الخطَّابي. وقوله: "بالله وحده": (وحده) نصبٌ على الحال، وتقديره: الله

واحدًا لا شريك له. "المغنم": الغنيمة، وهو ما يؤخذ من الكفار قهرًا. قوله: "ونهاهم عن أربع": أي: عن ظروفٍ وأوانٍ أربع. "الحَنْتَم" بالحاء غير المعجمة وفتح التاء: الجَرَّة الخضراء. "الدُّبَّاء" بضم الدال وتشديد الباء وبالمد: القرع، واليقطين شجرتُهُ "النقير": فَعيلٌ بمعنى المفعول، من نَقر - بفتح العين في الماضي وضمَّها في الغابر - نقرًا: إذا حفر حفرةً في الخشب والشجر، والنقير: أصلُ الشجر إذا نُقر حتى يصير مثل دنٍّ وخابيةٍ يجعل فيها الماء. و"المزفَّت": ما طلُي بالزفت من سِقاءٍ أو زنبيل فيُجعل فيه الماء ويُشرب، والزِّفْت - بكسر الزاي وتشديد الفاء -: القير. يعني سألوه عن ظروف الأشربة، وعن أن يخبرهم أنَّ أشربةَ أيَّ الأواني حلالٌ وأيِّها حرامٌ، وإنما سألوا عن الأشربة لأنهم كانوا يطرحون التمر والزبيب وغيرَ ذلك من الحلاوة في ظروف الماء ليصير ماؤهم حلوًا، وقد يصير مياه بعض الأواني مُسْكِرًا، وقد يصير بعضها قريبًا إلى المسكر، فما كان مسكرًا فهو حرام، وما قَرُب إلى الإسكار فهو مكروهٌ، وما لم يكن بهاتين الصفتين فهو حلالٌ غيرُ مكروه، فسألوا عنها ليتبيَّن لهم الحرامُ من غيره، فقال لهم رسول الله عليه السلام: اشربوا من الأواني كلها إلا من هذه الأربعة؛ لأن هذه الأربعة تصيَّر الماءَ مسكرًا عن قريبٍ؛ لأنها غليظةٌ لا منفذ للريح فيها، ولا يترشَّش منه الماء، فكلُّ ما كانت هذه صفته يَجعل الماءَ حارًا، وانقلابَ ما هو أشدُّ حرارةً إلى الإسكار أسرع وأقرب ممَّا كان أقلَّ حرارة، وكان النهي عن الشرب من هذه الأواني ثابتًا زمانًا ثم صار منسوخًا بقوله عليه السلام: "نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفًا لا يُحِلُّ شيئًا ولا يحرَّمه، وكلُّ مسكرٍ حرام".

يعني: اشربوا من جميع الظروف ما لم يكن فيها مُسْكرٍ، فإذا صار ما فيها مسكرًا فصبُّوه ولا تشربوه. قوله: "احفظوهن وأخبروا بهنَّ مَن ورائكم"؛ يعني: قال رسول الله عليه السلام: احفظوا هذه المسائل ولا تنسَوهنَّ وعلَّموهن أقاربكم وعشائركم وغيرهم. فإن قيل: يجب أن يكون التعلُّم والتعليم واجبين؛ لأنه عليه السلام قال: "احفظوهن"، وهذا أمرٌ، فظاهر الأمر للوجوب إلا أن يدلَّ دليلٌ على أنه غير واجب، وكذلك قال: (أخبروا بهن من ورائكم)، وهو أمر أيضًا فما قولكم فيه؟. قلنا: التعلُّم والتعليم قد يكونان واجبين وقد يكونان سنَّتين، أما التعلُّم الواجب فهو تعلُّم ما يجب على الرجل من أركان الشريعة وبيانِ الحلال والحرام بقَدْرِ ما يحتاج إليه، وأما التعلُّم الذي هو سنةٌ وفضيلة هو تعلُّم ما زاد على ما يحتاج إليه من الأحكام. وأما التعليم الواجب فهو أن يعلِّم أهله وعياله ومَن يتردد عنده ما يحتاجون إليه من الفرائض؛ لأن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، يعني: احفظوا أنفسكم من النار بإتيان الأوامر والانتهاء عن المناهي، واحفظوا أهليكم بتعليمهم الفرائض والحلال والحرام وما يُنجيهم من النار. وأما تعليم السنة والفضيلة فهو أن يعلِّم الناس من الأقارب والأباعد ما زاد على ما يحتاجون إليه من الأحكام وفي هذا بحث كثير يطول ذكره. وراوي هذا الحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وحيث ذكر الابن من غير اسمه في الصحابة فاعلمْ أن اسمه عبد الله، فإذا قيل: ابن عباس فاعلم أنه عبد الله بن عباس، فإذا قيل: ابن عمر فهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، فإذا قيل: ابن الزبير فهو

عبد الله بن الزبير، وإذا قيل: ابن مسعود فهو عبد الله بن مسعود. * * * 16 - وعن عُبادة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله عِصابةٌ من أصحابهِ: "بايعوني على أنْ لا تُشرِكوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا أَولادَكم، ولا تأْتوا ببُهتانٍ تفترونَهُ بينَ أيديكمْ وأرجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوا في مَعْروفٍ، فمنْ وَفَى منكم فأَجْرُهُ على الله، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئًا فعُوقِبَ في الدُّنيا فهوَ كفَّارةٌ له، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئًا ثمَّ سَتَرهُ الله عليه فهُوَ إلى الله، إنْ شاءَ عَفا عنهُ، وإنْ شاءَ عاقَبَهُ، فبايعْناهُ على ذلك". "وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله عليه السلام وحوله عصابة". الواو في "وحوله" للحال، و (حوله) نصبٌ على الظرف، وهو خبر المبتدأ الذي هو "عصابة". و (العصابة) - بكسر العين -: الجماعة؛ أي: قال رسول الله عليه السلام لأصحابه: بايعوني, وهذا المقال كان في وقتِ اجتماع جمعٍ كثير من أصحابه عنده. وقوله عليه السلام: "بايعوني"؛ أي: اضمنوا وأقبلوا إليَّ وتعاهَدوا على هذه الأشياء، وبايع الرجل السلطان: إذا أوجب على نفسه طاعته، وبايع السلطان الرعية: إذا قبل القيام لمصالحهم، وأوجب على نفسه حفظَ نفوسهم وأموالهم عن أيدي الظالمين، سمي هذا الفعل مبايعةً لأنه كان عادةُ الناس أن يضعوا أيديهم على يد مَن بايعوه، وكان الرجل يمدُّ باعه، والباع: مدُّ اليدين. "على أن لا تشركوا بالله شيئًا"؛ أي: لا تتخذوا إلهًا غيره، ولا تعملوا عملًا إلا خالصًا لله تعالى.

"ولا تسرقوا"؛ أي: لا تأخذوا مال أحدٍ بغير حقٍّ، لا سرًا ولا علانيةً، لا بطريقِ الغصب ولا بطريقِ السرقة والخيانة وغير ذلك. "ولا تزنوا" والزنا في اللغة عبارةٌ عن المُجامعة في الفرج على وجه الحرام، ويدخل في الزنى اللواطةُ وإتيان البهائم. "ولا تقتلوا أولادكم" كان عادةُ بعض العرب أنهم يقتلون أولادهم من خوف الفقر، ربما يكون الرجل كثير العيال فقيرًا يقتل أولاده أو بعض أولاده كي لا ينفق عليهم، وربما يقتل الرجل البنتَ لا من خوف الفقر بل من خوف لحوق العار به بظهور زنًى عليها وغير ذلك، فنهاهم الرسول عن قتلهم. "ولا تأتوا ببهتان" الباء للتعدية، و (البهتان): الكذب. "تفترونه"؛ أي: تَكْذِبونه، وأصله: تفتريونه، فنقلت ضمة الياء إلى الراء، وحذفت لسكونها وسكونِ واو الجمع، وهو من الفَرْي وهو القطعُ، يقال: افترى فلانٌ حديثًا؛ أي: قاله من تلقاء نفسه من غير أن يكون ذلك واقعًا. وقوله: "بين أيديكم وأرجلكم"؛ أي: من عند أنفسكم ومن تلقاء أنفسكم، وذكرُ اليد والرجل عبارةٌ عن الذات والنفس إطلاقًا للبعض عن الكل، ولأن أكثر عمل الإنسان باليد والرجل، كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] أضاف الفعل إلى الأيدي والأرجل وأراد به الأنفس، يعني: لا تقولوا في حق أحدٍ كذبًا، من نسبته إلى الزنى وشرب الخمر والسرقة، وغير ذلك ممَّا يتأذى به. "ولا تعصوا" أصله: ولا تَعْصيوا، فنقلت ضمة الياء إلى الصاد وحذفت؛ أي: ولا تخالفوا أمرَ من يأمركم بالمعروف، والمعروف مفعولٌ من عَرَفَ، يعني ما عُرف أنه من أوامر الشرع وما فيه خيرٌ وثواب. قوله: "فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى"؛ يعني: فمَن وفى منكم

الأشياء ولم ينقص على ما عاهد الله فقد استحقَّ الأجر، وأجرُه على الله لا عليَّ، يعني طاعتي طاعةُ الله، فمَن أطاعني فليطلب الثواب من الله، ومن عمل عملًا صالحًا ليَعْمَل خالصًا لله ولْيَرْجُ الثواب من الله الكريم. قوله: "أصاب"؛ أي: وصل ووجد "من ذلك": من هذه الأشياء المذكورة "عوقب" فعل ماضٍ مجهول، من عاقب معاقبةً: إذا أوصل وألحق عقوبةً وعذابًا إلى أحد، والمراد بالعقوبة في الدنيا: إقامةُ الحد عليه. "الكفَّارة": الخصلةُ التي تكفِّر الذنب؛ أي: تستره وتغسله عن الرَّجل يعني: مَن فعل فعلًا قبيحًا وأقيم عليه حدُّ ذلك الفعل في الدنيا لم يكن له عقوبةٌ لأجل ذلك الفعلِ يوم القيامة. ومثله عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن رسول الله عليه السلام قال: "من أصاب حدًا فعجِّل عقوبتَه في الدنيا فالله أعدلُ من أن يثنِّي على عبده العقوبةَ في الآخرة" قوله: "ثم ستره الله"؛ يعني: مَن فعل شيئًا من ذلك - أي: مما بايع النبيَّ عليه - ثم يستره الله تعالى، ولم يهتك ستره بين الناس في الدنيا، ولم يُقَم عليه حدُّ ذلك الفعل، "فهو إلى الله"؛ أي: فهو راجعٌ وصائر إلى الله يوم القيامة. "إن شاء الله عفا عنه" وغفر له، "وإن شاء عذبه": بقَدْر ذنبه، عفا يعفو عفوًا: إذا ترك العقوبة على الذنب. واعلم أنه لا يجوز أن يُشهد بالجنة بلا عذابٍ لأحدٍ بعينه إلا مَن ثبت كونُهُ من أهل الجنة بالنص، كأصحاب الشجرة الذين نزل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وهم أبو بكر، وعمر, وعثمان، وعلي، وطلحة، وزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وهؤلاء أصحاب الشجرة رضوان الله عليهم أجمعين.

وكذلك مَن شهد النبيُّ له بالجنة نحن نشهد له أيضًا بالجنة، وأما غيرهم من المسلمين فلا نشهد لواحدٍ بعينه أنه من أهل الجنة بلا عذابٍ، بل نقول: المسلمون من أهل الجنة على الإطلاق، ولكن لا نعيِّن واحدًا، بل أمرُ كلِّ واحدٍ في مشيئة الله تعالى: إن شاء أدخله الجنة بشفاعة الشفيع بلا عذاب، وإن شاء غفر له بلا شفاعةِ شفيعٍ، وإن شاء عذَّبه بقَدْرِ ذنوبه، وعاقبةُ كل واحدٍ من المسلمين الجنة، ولم يخلَّد مسلم في النار وإن كان له ذنبٌ عظيم، ولم يخلَّد في النار إلا بسبب الكفر. قوله: "فبايعناه على ذلك"؛ يعني: لمَّا قال لنا رسول الله عليه السلام من قوله: (بايعوني) إلى ها هنا بايعناه إلى ما قال، وقبلنا منه هذه الأشياء. وجَدُّ (عبادة بن الصامت) قيس بن أصرم، وعبادةُ أنصاريٌّ. * * * 17 - وعن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - أنه قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أَضْحَى - أو: فِطْرٍ - إلى المُصلَّى، فمرَّ على النِّساءِ فقال: "يا معشرَ النِّساءِ! تصدَّقْنَ، فإني أُريتُكنَّ أكثرَ أهلِ النارِ"، فقُلْنَ: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: "تُكثِرْنَ اللَّعْنَ، وتكفُرْنَ العَشيرَ، ما رأيتُ مِنْ ناقِصاتِ عقلٍ ودِينٍ أذْهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازِم مِنْ إحداكنَّ"، قُلن: وما نُقصانُ دينِنا وعَقْلنَا يا رسولَ الله؟ قال: "أليسَ شهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرجل؟ "، قُلن: بلى، قال: "فذلك من نُقصان عَقْلِها"، قال: "أليسَ إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ، ولم تَصُمْ؟ "، قُلن: بلى، قال: "فذلك من نُقصانِ دينِها". قوله: "في أضحى أو فطر ... " إلى آخره، (أو) ها هنا للشك، يعني شكَّ الراوي أن رسول الله عليه السلام خرج في عيد الأضحى أو في عيد الفطر.

"إلى المصلى فمر على النساء"، (مر) يقدَّر بعلى وبالباء، يقال: مررتُ عليه، ومررتُ به. يعني صلى رسول الله عليه السلام صلاة العيد وخلفه الرجال، والنساءُ واقفاتٌ في البعد، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة خطب الرجال ووعظهم، ولم تسمع النساء خطبة رسول الله عليه السلام لبُعدهن من موضع رسول الله عليه السلام، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من خطبة الرجال أتى النساء ووقف عندهن ووعظهنَّ، ومِن وعظه إياهن قولُه عليه السلام: "يا معشر النساء تصدقن فإني أُريتكن أكثر أهل النار"، (المعشر): الجماعة، (تصدقن): أمُر مخاطبةِ جماعةٍ من النساء، مِنْ تَصدَّق: إذا أعطى الصدقة. (أريتكن)، (أُري): إذا أُعلم وأُخبر، وله ثلاثةُ مفاعيل، و (النساء) في (أُريتُ) هو المفعولُ الأول أُقيم مُقامَ الفاعل، و (كنَّ) المفعولُ الثاني، و (أكثرَ أهل النار) هو المفعول الثالث يعني: أُخبرت وأُعلمت بأنكنَّ أكثر أهل النار، يعني: النساء أكثر دخولاً في النار من الرجال، ويأتي بعد هذا علَّةُ كثرة دخولهن في النار. واعلم أن قوله عليه السلام: (أريتكن أكثر أهل النار) يريد أنه أراه الله تعالى جهنم ليلة أُسري به، ورأى أكثر أهلها النساءَ، فقال بعض أصحابه: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط". "فقلن: وبم يا رسول الله؟ "، (وبم) أصله: وبما، (ما) للاستفهام، وإذا دخل حرف الجر على الاستفهام يجوز حذفُ ألفها فحذف ألفها ها هنا، والباء باء السببية؛ يعني: قالت النساء: بأيَّ سببٍ نكون أكثر أهل النار؟

فقال رسول الله عليه السلام: "تُكثرن اللعن" وأصل اللعن: الإبعاد من الخير، ويستعمل في الشتم والكلامِ القبيح لأحد، يعني: عادتُكنَّ كثرةُ الشتم وإيذاء الناس باللسان. قوله: "وتكفرن العشير"، كفر يكفر كفرانًا: إذا جحد وأنكر النعمة وتَرَكَ أداءَ شكرها. (العشير): المُعاشر، وهو المخالط، والعشرة: اسم من المعاشرة، وهي المخالطة، والمراد بـ (العشير) هنا: الزوج؛ يعني: تكفرن حقَّ أزواجكن ولا تؤدِّينَ حقَّ إنعامهم عليكن، ومَن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ومن لم يشكر الله تعالى يستحقُّ العذاب. قوله: "أذهبَ لِلُبَّ الرجل الحازم"، (أذهبَ): أفعلُ التفضيل من (ذَهَب)، ولكن معناه: أذهبَ؛ لأنه صار متعدِّيًا باللام في قوله: (لِلُب): فمعناه حينئذ: أكثر إذهابًا. (اللب): العقل. (الحازم): اسمُ فاعلٍ من حَزَم يَحْزِم - بفتح العين في الماضي وكسرِها في الغابر - حزمًا: إذا شدَّ الشيء وضبط أمره واحتاط فيه، ويستعمل في كامل العقل وصاحب الاحتياط في الأمر. يعني: كلُّ واحدةٍ منكن عقلُها ناقصٌ وتزيلُ عقل الرجل الكاملِ العقلِ، وإذهابُهن عقولَ الرجال بأن يعشق الرجل بامرأةٍ ويغلب عليه عشقُها حتى ينقص عقلُه، وربما يزول عقله ويصير مجنونًا، وربما تُغضبه بالتماسِ شيءٍ منه أو بترك الأدب أو بمنازعةٍ، حتى يزول أو يقلَّ عقلُه من الغضب. "وما نقصان ديننا وعقلنا" اعلم أن العقل في الشرع عبارةٌ عن معنًى في الشخص يعقله؛ أي: يمنعه عن الهلاك والخسران في الآخرة، فمَن كان ذا

تجربةٍ في أمور الدنيا واحتياطٍ فيها، ويعرف النفع والضرَّ ودقائقَ الحساب وما أشبه ذلك، ولم ينته عمَّا هو سببُ هلاكه وخسرانه في الآخرة، فليس بعاقلٍ في الحقيقة؛ لأن الاحتراز عمَّا هو سبب الهلاك في الدنيا بالنسبة إلى ما هو سببُ الهلاك في الآخرة شيءٌ قليل، فمَن احترز عن هلاك الدنيا ولم يحترز عن هلاك الآخرة فهو كمَن يحترز عن أن يقع في حفرةٍ قعرُها قَدْرَ ذراعٍ مثلًا، ولا يحترز عن أن يلقي نفسه في بئرٍ قعرُه ألفُ ذراعٍ، فلا يَحكُم بكون هذا الرجل عاقلًا أحدٌ. فإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد بالعقل في هذا الحديث هو العقلُ الديني؛ لأنه عليه السلام علَّل نقصان عقلهن بجعل امرأتين في الشهادة كرجلٍ واحد، والشهادةُ شيءٌ شرعيٌّ وهي عبادةٌ؛ يعني: مَن كان عقله الدينيُّ أكثرَ تكون تقواه أكثر، وإذا كان تقواه أكثر يكون أحفظَ وأوعى للشهادة؛ لأنَّ شهادة الزور تكون سبب الهلاك والخسران في الآخرة، ويحترزُ العاقل عن مثل هذا، ولمَّا كان عقل النساء أقلَّ جعل الشرع امرأتين بمنزلة رجلٍ في الشهادة. ويحتمل أن تكون علةُ جعل امرأتين بمنزلة رجلٍ واحدٍ في الشهادة؛ لأن النسيان عليهن أكثر من الرجال، وإلى هذا أشار قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] (ممَّن ترضون)؛ أي: من العدول والصُّلحاء (أن تضل)؛ أي: أن تنسى إحداهما الشهادة، فتذكرها المرأة الأخرى الشهادة. قوله: "أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم"؛ أي: أليس الحكم أن المرأة تترك الصلاة في أيام حيضها ونفاسها، والرجلُ لا يترك الصلاة، ومَن يترك الصلاة في بعض الأيام يكون دينه أنقصَ من الذي لا يترك الصلاة. واعلم أن الدِّين عبارةٌ عن جميع خصال الخير والانتهاءِ عن جميع المناهي،

فمَن كان خيره أكثر يكون دينه أكمل، ومَن كان خيره أقلَّ يكون دينه أنقص، ولم يختلف أحد أن الدين يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. بل اختلف الشافعي وأبو حنيفة رحمة الله عليهما في أنَّ الإيمان: هل يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، أم لا؟. فقال الشافعي: يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإنما قال هذا لأن الإيمان عنده عبارةٌ عن جميع شعب البضع والسبعين المذكورة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يزيد الإيمان بالطاعة ولا ينقص بالمعصية، وإنما قال هذا لأن الإيمان عنده عبارةٌ عن التصديق بالجَنان والإقرارِ باللسان، وأما الشعبُ فهي من حقوق الإيمان عنده لا من الإيمان. قوله عليه السلام: "فذلك من نقصان عقلها" والكاف في (ذلك) ها هنا ليس للخطاب؛ لأنه لو كان للخطاب لقال: فذلكنَّ، لأن المخاطَبات في هذا الحديث جماعة، والكافُ في (ذاك) و (ذلك) قد تكون للخطاب وقد تكون لغير الخطاب؛ لأن الرجل إذا أراد أن يشير إلى غائبٍ من غير أن يخاطب أحدًا فلا يمكنه الإشارة إلى الغائب بدون الكاف في (ذاك وذلك) وأشباهِهما من (تيك وتلك وأولئك)، وهذا الكافُ ليس كالكاف في (رأيتك) في الخطاب؛ لأنك تقدر أن تقلب الكاف في (رأيتك) هاءً فينقلب (¬1) الكلام من المخاطبة إلى المغايبة، فتقول: رأيته، ولا تقدر أن تقول: ذاه أو ذاها، بدل: ذاك، فقد عُلم أن هذا اللفظ وضع مع الكاف؛ لأنك لا تقدر أن تشير إلى غائب بدون الكاف، فـ (ذلك) في هذا الحديث إشارةٌ إلى الحكم؛ أي: الحكم الذي شهادةُ المرأة جُعلت مثلَ نصفِ شهادة الرجل لأجل نقصان عقلها. ¬

_ (¬1) في "ت": "فينقل".

واسم أبي سعيد: سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الله بن ثعلبة الخُدْريُّ الأنصاري. * * * 18 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: كذَّبني ابن آدمَ، ولم يكنْ له ذلك، وشَتمني، ولمْ يكنْ له ذلك، فأمَّا تكذيبُهُ إيَّايَ فقوله: لن يُعبدَني كما بدأَني، وليسَ أولُ الخلق بأهونَ عليَّ من إعادتهِ، وأما شَتْمُهُ إيايَ فقوله: اتَّخذَ الله ولدًا، وأنا الأَحدُ الصَّمدُ، لم ألِدْ ولم أُولَد، ولم يَكُنْ لي كُفُوًا أحدٌ". وفي رواية: "فسُبحاني أن أتَّخذَ صاحبةً أو ولدًا"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. قوله: "كذبني ابن آدم ... " إلخ؛ أي: خالفَ في القول والاعتقاد ما قلت وأرسلتُ به رسلي من الأخبار بإحياء الخلق بعد الموت للحساب والجزاء. "ولم يكن له ذلك"؛ أي: ولم يكن ذلك التكذيب حقًا وصدقًا وصوابًا له، بل كان خطأً وعصيانًا منه؛ لأن الله تعالى أنعم أنواع الأنعام والفضل على العباد، فتكذيبُ العباد ربهَّم وخالقهم ووليَّ نعمِهم وحافظَهم من الآفات يكون على غاية القبح، بل لو خالف عبدٌ سيدَه من المخلوقات أو خادمٌ مخدومَه يكون ذلك قبيحًا على غاية القبح عند الناس، فكيف لا تكون مخالفةُ العبد الرب قبيحًا. "الشتم" رمي أحدٍ أحدًا بكلام قبيح. قوله: "لن يعيدني"؛ يعني: مَن قال: لن يُحييني بعد موتي كما خلقني. وقوله: "وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته"، (الخلق) ها هنا بمعنى المخلوق، والتقدير: ليس أولُ خَلْقِ الخلق؛ أي: خَلْقِ المخلوق، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مُقامه، فالخلق الأول المحذوفُ مصدرٌ، والثاني

بمعنى المخلوق، والباء في (بأهون) زائدةٌ للتأكيد، ومعنى (أهون) أسهل، من (هان يهون هونًا): إذا سهل الأمر. و (الإعادة) مصدرُ أعاد يُعيد: إذا ردَّ شيئًا إلى أوله، والضمير في (إعادته) يرجع إلى (الخلق)؛ يعني: ليس أولُ الخلق أسهلَ من إعادته، بل الإعادةُ أسهل من أول الخلق، فإذا كنتُ قادرًا على خَلْقِ الخَلْقِ من غيرِ أن كان منهم أثرٌ ومثالٌ، فكيف لا أكون قادرًا على خلقهم بعد أن يكون منهم أثرٌ من العظام أو اللحم أو ترابهم، فقال تعالى حجة عليهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] الآية. والمراد بـ (أهون): هين، أو أراد: أهون عندكم وفيما بينكم. قوله: "اتخذ الله ولدًا": أراد به ما قالت اليهود والنصارى في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وقول بعض الكفار: الملائكة بناتُ الله، وقولِ بعضهم: الأصنام بناتُ الله. والمراد بقوله: "كذبني ابن آدم وشتمني" هم الكفار؛ لأن المسلمين لا يقولون مثلَ هذا. والواو في قوله: "وأنا الأحد الصمد" واوُ الحال. (الأحد): هو المتفرَّدُ بالصفات؛ يعني: صفة القِدَم، والبقاءِ، والتنزُّهِ عن المكان والزمان والاحتياجِ إلى الزوج والشريك والعونِ، وغير ذلك من صفاتِ الله تعالى، هو تعالى متفردٌ بها، ولم يكن لغيره شيءٌ من هذه الصفات. (الصمد): هو السيد الذي ليس فوقه أحد بحيث يَصْمُدُه كلُّ أحدٍ؛ أي: يقصده لقضاء الحوائج. يعني: المخلوقاتُ يحتاجون إليه ويقصدونه للتعبُّد وقضاءِ حوائجهم، وهو لا يحتاج إلى أحدكم.

قوله: "لم ألد" أصله: أَوْلِد؛ من وَلَد يَلِد، فحُذفت الواو؛ يعني: لم ألد ولدًا قط لأني منزَّهٌ ومقدَّسٌ عن الاحتياج إلى الزوج والولد. "ولم أولد" الهمزة لنفس المتكلَّم، وهو مضارعٌ مجهولٌ؛ يعني: ليس لي أبٌ ولا أم؛ لأنه لو كان لي أبٌ وأمٌّ لكنت خَلْقًا مثلكم، وإذا كنت خلقًا مثلكم لم يكن لي قدرةٌ على الخلق، والإيجادِ والإفناء، وإيصالِ الرزق إلى كلِّ مرزوق، والعلمِ بالسرِّ والعلانية، وغيرِ ذلك من صفاتي. "الكفؤ": الشَّبْه والمِثْل، والتقدير: ولم يكن أحدٌ كفوًا لي؛ أي: ليس لي شبهٌ ومثلٌ، فقال تعالى حجة عليهم: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} الآية [الأنعام: 101]. "وفي رواية ... " إلى آخره، يعني: روَىَ هذا الحديثَ بعض الرواة وقال بعد قوله: (فقوله: اتخذ الله ولدًا): "فسبحاني أن أتخذ صاحبةً أو ولدًا"، (فسبحاني)؛ أي: تنزيهًا وتطهيرًا وتعظيمًا لي عن صفات المخلوقات، ولفظة (سبحان الله) اسمٌ أقيم مقام المصدر، ويكون أبدًا منصوبًا، وهو مضاف، تقول: سبحان الله، وسبحانك يا الله، وسبحانه وتعالى، وما أشبه ذلك، وتقدير (سبحان الله): نسبح الله تسبيحًا، ثم حُذف الفعل والمصدر وأُقيم (سبحان) مقام المصدر وأضيف إلى الله تعالى، فقالوا: سبحان الله، وكذلك التقدير في: سبحانك، وسبحانهُ وتعالى. والتقدير في (سبحاني): أنزَّه وأُبْعِدُ نفسي عن صفات المخلوقات، ومعنى التنزيه: الإبعاد والتطهير. (الصاحبة): الزوجة. فإن قيل: هذه الأحاديثُ وغيرها مما حكاه النبي عليه السلام عن الله تعالى ينبغي أن يكون كلامَ الله، وإذا كان كلام الله فأيُّ فرق بينه وبين القرآن؟.

قلنا: القرآن هو اللفظ الذي أنزله جبريل عليه السلام عن الله تعالى إلى نبيِّنا عليه السلام، وأمره أن يقرأه على هذا اللفظ ويَحْفَظَ ويعلِّمَ أمته، فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يعني: إذا أنزلنا عليك القرآن وقرأه جبريل عليك فاحفظ لفظه واقرأه وعلِّمه الناس واعمل بأحكامه، والقرآن هو الذي يُعجز جميع المخلوقات عن أن يأتوا بشيء مثله، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. (الظهير): العون. وأما الأحاديث التي حكاها النبي عليه السلام عن الله تعالى فليست بألفاظٍ أمر الله تعالى نبيه أن يحفظها ويقرأها، بل يحتمل أن يخبره الله تعالى بهذه المعاني ليلةَ المعراج، أو في المنام، أو بطريق الإلهام وغير ذلك، فأخبر النبيُّ عليه السلام أمته بهذه المعاني بعبارةِ نفسه وألفاظه عليه السلام. ألا ترى أن حكم ألفاظ هذه الأحاديث ليست بمعجزةٍ، بل تشبه ألفاظُها ألفاظَ سائر أحاديث النبي عليه السلام، فإذا كان كذلك فحكمُ هذه الأحاديث حكمُ سائر الأحاديث لرسول الله عليه السلام. فإن قيل: إذا كانت هذه الأحاديثَ أيضًا أحاديث رسول الله عليه السلام، وكلُّ أحاديثه عليه السلام من قِبَلِ الله تعالى وإلهامِه، فقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] يعني لم يتلفَّظ بلفظٍ من القرآن أو الحديث من تلقاء نفسه بل من عنده تعالى، فإذا كان كذلك فِبمَ يُعرف الفرقُ بين الأحاديث التي يرويها عن الله تعالى وبين غيرها من أحاديثه؟. قلنا: أما الأحاديث التي أضافها إلى الله تعالى مثلَ قوله: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم"، وقوله: "قال الله: يؤذيني ابن آدم"، وما أشبهَ ذلك، فهي الأحاديث التي رواها عن الله تعالى.

وأما الأحاديث التي لم يُضفها إلى الله (¬1) تعالى كسائر أحاديثه، فليس يرويه عن الله تعالى، وإن كان من عند الله تعالى وحُكْمَ الله تعالى. * * * 19 - وقال: "قال الله تعالى: يُؤْذيني ابن آدمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهرُ، أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "وقال: قال الله تعالى"؛ أي: قال رسول الله: قال الله تعالى: "يؤذني ابن آدم"، (الإيذاء): إيصالُ شيء يكرهه من القول أو الفعل سواءٌ أثَّر فيه أو لم يؤثِّر فيه، وإيذاء بني آدم ربَّهم تعالى لم يؤثِّر فيه ولم يضره بل يضرُّ القائلين، فإذا كان كذلك يكون معنى (يؤذيني ابن آدم): يقول لي ابن آدم ما أكرهه وأُبغضه، ولا يليقُ بحضرتي. "يسب الدهر" يروى: "بسبِّ الدهرِ" بالباء الجارَّة وبعدها المصدرُ المجرور بالباء، ويُروى: "يسب الدهرَ" على أنه فعلٌ مضارع، و (الدهرَ) منصوبٌ على أنه مفعوله. و (السب): الشتم، وذُكر معناه في الحديث الذي قبل هذا. و (الدهر): هو الزمان من أول خَلْقِ الله تعالى العالمَ إلى آخر الدنيا، ويقال: بعض الزمان دهرٌ أيضًا. "وأنا الدهر" يروى برفع الراء ونصبها: فإن نُصب يكون ظرفًا مقدَّمًا على الفعل، فيكون التقدير: وأنا أقلب الليل والنهار في الدهر. وان رُفع يكون (الدهر) مضافًا إليه أُقيم مقام المضاف، والتقدير: وأنا خالق ¬

_ (¬1) في "ق": "وما لم يضفه إلى الله".

الدهر، أو مصرَّف الدهر - فحذف (خالق) أو (مصرف) وما أشبه ذلك، وأقيم (الدهر) مقامه - يؤذيني ابن آدم بشتمه الدهر بسبب فقرٍ وقحطٍ ومرضٍ وما أشبه ذلك من مكروهاتٍ تصيبه، وأنا خالقُ الدهر ومقلِّبُ الليلِ والنهار، فما أصابه أصاب مني لا من الدهر؛ لأن الدهر مخلوقٌ ومسخَّرٌ لا يقدر على إيصال نفعٍ وضر، بل النفعُ والضرُّ والغنى والفقر والصحة والمرض والحياة والممات كلُّها بقضائي وقدري، فمَن شتم الدهر فقد شتمني؛ لأنَّ مَن عاب مصنوعًا عاب صانعه. فإن قيل: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يحدث فعلٌ ولا قولٌ ولا نفعٌ ولا ضرٌّ ولا غيرُ ذلك مما يحدث إلا بقضاء الله تعالى وقَدَرِه، وإذا كان كذلك فلمَ يَعيبون الكفار على كفرهم والعصاةَ على عصيانهم؟ قلنا: ليس الأمر كما يُظن، بل ما يجري في العالم قسمان: أحدهما: ما يجري على شيءٍ ليس له اختيارٌ فيما يصدرُ منه، كمرور الليل والنهار، ونزول المطر، والنفع والضر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والخسران والبرودة، والريح الطيبة وغير الطيبة، وتحرك الشجر، وغير ذلك مما لا اختيار له، فلا يجوز أن يعيب أحدٌ شيئًا من هذه الأشياء. والقسم الثاني: ما يصدر ممن له اختيارٌ وكسبٌ، كالجن والإنس وغيرِهم ممَّن له اختيارٌ، فهؤلاء مثابون بخيرٍ يصدر منهم ويعاقبون بشرٍّ يصدر منهم؛ لأن لهم اختيارًا واكتسابًا، فيجوز أن يعيب أحدَ هؤلاء أحدٌ على فعلهم القبيح ومخالفتهم الأنبياء والكتب، إلا أن القضاء والقدر من الله تعالى والفعل من العباد ولهم اختيارٌ، وبحث هذه المسألة طويلٌ ليس هذا موضعه. * * * 20 - وقال: "قال الله تعالى: أَنا أغنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّرْكِ، مَنْ عمِلَ عَملًا أشركَ فيه معِي غيْري؛ تركتُهُ وشِرْكَهُ"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -.

قوله: "أنا أغنى الشركاء"، (أغنى): أفعل التفضيل. الشرك والشركة والمشاركة: أن يكون الشيء ملكًا أو حقًا لاثنين أو أكثر، ويقال لكل واحد من المالكين: شريك، وللجمع: شركاء. يعني: أنا أكثر الشركاء استغناءً، لا حاجة لي إلى شريك، فأفعل التفضيل قد يضاف إلى جمعٍ يكون في المضاف إليهم الشيءُ الذي يكون في المضاف، ولكن يكون في المضاف أكثر، مثل أن تقول: زيدٌ أفضلُ القوم؛ يعني: الفضل في زيدٍ وفي القوم موجودٌ ولكنْ في زيد أكثر، وقد يضاف ولا يكون في المضاف إليهم شيءٌ مما يكون في المضاف، نحو قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] مع أنه لا خيريةَ ولا حُسنَ لأصحاب النار. يعني: قد يكون بعض الناس غنيًا عن الشريك، ولكن لم يكن استغناؤه عن الشريك في جميع الأوقات، وقد يكون مستغنيًا في بعض الأوقات ومحتاجًا في بعضها، وأنا غنيٌّ عن الشركاء والضِّدِّ والند والظهير أبدًا؛ لأن الحاجة والعجز والفقر وغيرها من أوصاف المخلوقات لا سبيل لشيء منها إليَّ، فمَن عَمِلَ عملًا لا يكون خالصًا لي - بل عملُه للرياء والسمعة - لا أقبلُ ذلك العمل منه. قوله: "تركته وشركه": الضمير راجعٌ إلى الذي يعمل، والمراد بـ (شركه): عمله الذي أشرك فيه غيرَ الله تعالى؛ يعني: أجعلُ ذلك الشخصَ وعملَه مردودًا من حضرتي ما دام في الشرك والرياء، وإذا ترك الشرك والرياء وأخلص لي (¬1) العمل قبِلتُه. * * * 21 - وقال: "قال الله تعالى: الكِبرياءُ ردائي، والعظَمةُ إزاري، فمنْ ¬

_ (¬1) في "ش": "في".

نازَعَني واحدًا منهما أدخلتُهُ النَّار"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "الكبرياء ردائي"، (الكبرياء): غاية العظمة والترفُّع عن أن ينقاد أحدًا أو يحتاج إلى أحد أو إلى شيء بوجهٍ من الوجوه، وهذه الصفات لا تكون إلا لله تعالى. (الرداء والإزار) متشابهان، إلا أن الرداء ما يلبس به الرجل رأسه وكتفه وأسفل من ذلك، والإزار: ما يلبس به الرجل من وسطه إلى قدميه. و (الكبرياء والعظمة) صفتان لله تعالى لا يجوز أن يُوصف مخلوقٌ بواحدٍ منهما، بخلاف الرحيم والكريم، فإنه يقال: فلانٌ كريم ورحيم، وقد قال رسول الله عليه السلام: "الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام". ومعنى هذا الحديث أن الكبرياء والعظمة لا يستحقُهما غيري، بل هما صفتان مختصتان بي لا يشاركُني فيهما غيري كما لا يشارك أحدٌ الرجلَ في ردائه وإزاره اللَّذَين هما لباسان له. قوله: "فمن نازعني واحدًا منهما أدخلته النار"، (نازع): إذا جذب أحدٌ شيئًا من واحد وجذب ذلك الواحدُ من صاحبه ذلك الشيء، ويقول كل واحد منهما: هذا ملكي وحقِّي. يعني: قال الله تعالى: الكبرياء والعظمة حقي، ولا يستحق واحدًا منهما غيري، فمَن ادَّعى الكبرياء أو العظمة فقد خاصمني، ومن خاصمني صار كافرًا، ومن صار كافرًا، أدخلْته النار. واعلم أن التكبُّر على نوعين: أحدهما: التكبر على الله تعالى.

والثاني: التكبر على الخلق. فالتكبُّر على الله كفرٌ، وهو أن لا يطيعه ولا يقبلَ أمره، فمَن ترك أمرًا من أوامره أو أتى منهيًا من مناهيه على اعتقادِ الاستخفاف بالله تعالى وجحودِ أمره فهو كافرٌ، وأما مَن ترك أمرًا لا على سبيل الجحود، بل اعتقد كونه حقًا، فهو عاصٍ وليس بكافرٍ. وأما التكبر على الخلق، وهو أن يكون الخلق في خاطره حقيرًا ويعتقدَ فضلًا لنفسه على الناس، فهذا أيضًا عصيانٌ وليس بكفرٍ إن لم يكن فيه استخفافٌ للشرع، فإن كان فيه استخفاف للشرع، مثل أن يَحْقِرَ نبيًا من الأنبياء أو مَلَكًا من الملائكة، أو حقر العلماء عن اعتقادِ عدمِ عزة العلم وحُرمته، فهو كافر. * * * 22 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَحَدٌ أصبَرُ على أذًى يسمعه مِنَ الله تعالى، يَدَّعونَ له الولَد، ثم يُعافيهم ويرزُقهم"، رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -. قوله: "ما أحدٌ أصبرَ على أذى ... " إلى آخره، (أصبر): أفعل التفضيل من الصبر، وهو حبسُ النفس ومنعُها عمَّا تشتهيه وإمساكُ النفس وحبسها عن الجزع. والصبر في صفة الله تعالى معناه: تأخير إرسال العذاب على مستحقِّي العذاب على أذًى يسمعه؛ أي: على كلام الكفار القبيح. قوله: "يدَّعون له الولد": هذا شرحُ (أذًى)؛ يعني: يقول لي الكفار: إن لله الولد، ومَن قال مثلَ هذا فهو يستحق أن يعجَّل له العذاب في الدنيا، فالله تعالى لا يعجَّل تعذيبه بل يرزقه العافية من العذاب في الدنيا ويرزقُه المالَ وأنواع النعم، وهذه الصفةُ ليست لأحد من المخلوقات؛ لأن المخلوق إذا آذاه أحد

لا يعطيه العطاءَ بل يُوْصِلُ بقَدْرِ ما يقدِرُ عليه من أنواع العذاب والضرر. (عافاه الله تعالى)؛ أي: أعطاه الله العافية، وهي أن يدفع الله عنه ما يكره، ومعنى (يعافيهم) هنا: أنه تعالى يدفع عنهم البلاء والضرر في الدنيا. * * * 23 - وعن مُعاذ - رضي الله عنه - قال: كنت رِدْفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على حمارٍ، ليس بيني وبينه إلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فقال: "يا معاذُ! هلْ تدري ما حقُّ الله على عبادِه؟ وما حقُّ العِبادِ على الله؟ "، قلتُ: الله ورسولهُ أعلم، قال: "فإنَّ حَقَّ الله على العباد أنْ يعبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحقُّ العبادِ على الله أنْ لا يُعذِّبَ مَنْ لا يُشركُ بهِ شيئًا"، فقلت: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّرُ به الناسَ؟ قال: "لا، فَيتَّكِلُوا". قوله: "كنت ردت النبي عليه السلام"، (الردف): بكسر الراء وسكون الدال: إذا ركب خلف الراكب من الفرس وغيره، وكلُّ شيء يتبع شيئًا فهو رِدْفُه؛ يعني: كنت راكبًا خلف رسول الله عليه السلام "على حمار". وقوله: (كنت ردف النبي عليه السلام على حمار) يدل على أشياء: أحدها: جواز ركوب اثنين على دابةٍ واحدة، وقد جاء في الحديث أنه ركب اثنان مع النبي على بعيرٍ واحد. والثاني: أن ركوب الحمار سنةٌ؛ لموافقة رسول الله عليه السلام، ولأنه أقرب إلى التواضع. والثالث: أن عرق الحمار طاهرٌ، وما على ظهره من الغبار معفوٌّ عنه؛ لأن الغالب وصولُ بعض أعضاء رسول الله عليه السلام ومعاذ أو بعضِ ثيابهما إلى الحمار. والرابع: أن صدر ظهر الدابة أولى بالأشرف والأفضل؛ لأن النبي عليه

السلام كان جالسًا على صدر ظهر ذلك الحمار ومعاذ خلفه. والخامس: بيان منزلة معاذ وعزَّته عند النبي عليه السلام. وفي بعض الروايات بعد قوله: (على حمار): وليس بيني وبينه إلا مُؤْخرةُ الرحل، وكذلك في بعض نسخ "المصابيح". "المؤخرة": بسكون الهمزة بعد الميم: آخر الرحل، وهي الخشباتُ التي تكون على آخر الرحل ليستند ويتكأ عليها الراكب. "الحق": نقيض الباطل، و (الحق): الموافقة، و (الحق): النصيب والملك، يقال: هذا الفرس حقي؛ أي: مِلكي، و (الحقُّ)، الواجب، يقال: في ذمتي حقُّ الله تعالى؛ أي: في ذمتي لازمُ فريضة الله تعالى، و (الحق): الجدير واللائق، والحقيق مثلُه. والمراد ها هنا بقوله: "ما حق الله تعالى على عباده"؛ أي: ما يجب لله على عباده؟ و (ما) استفهامية. وقوله: "وما حق العباد على الله"؛ أي: أيُّ شيء حقيقٌ وجديرٌ ولائقٌ أن يفعل الله تعالى بعباده إذا أطاعوه ولم يشركوا به شيئًا؟ قوله: "فإن حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ... " إلى آخره، يعني: الواجبُ لله تعالى على عباده أن يعبدوه وحده من غير أن يعبدوا غيره، ومن غير أن تكون عبادتهم للرياء؛ لأن الله تعالى هو الخالق الرزاق النافع الدافع عن عباده الآفاتِ والمؤذياتِ، ليلًا ونهارًا، سرًا وعلانيةً، وهو يشفيهم إذا مرضوا، ويسقيهم إذا عطشوا، ويُطعمهم إذا جاعوا، ويكسوهم إذا صاروا عُراةً، وله تعالى عليهم أنواعُ النعم الجسيمةِ والألطافِ العميمة، فإذا كان كذلك وجب عليهم أن يوحِّدوه ويُخْلِصوا له الطاعةَ، هذا حقُ الله تعالى على عباده. وأما حق العباد على الله: فاعلم أن أهل السنة اتفقوا على أنه لا يجب

على الله شيء، بل ما يعطي عباده من الرزق والثواب على الطاعة تفضُّلٌ منه، وقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] معناه: ألزم على نفسه تفضُّلًا ولطفًا أنه لا يُضيع أجر المحسنين، ويقبلُ طاعة المطيعين، ويقبل توبةَ العاصين، وكلُّ إنعامٍ وفضلٍ منه على عباده تفضُّلٌ ورحمةٌ منه عليهم، فإن الكريم إذا كان عادتُهُ الإنعامَ والفضل على مَن ليس يخدمه، فإذا خدمه أحدٌ يرى جزاءَ عمله كالواجب عليه. فإذا علمت هذا فاعلم أن معنى "حق العباد على الله تعالى أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا": بشرط الإتيان بأوامره والانتهاءِ عن مناهيه، فإنَّ كل ذلك من عبادته، ولا ينبغي أن يعتقد أحد أن مَن قال: لا إله إلا الله، ولم يتخذ إلهًا سواه، فقد وجبت له الجنة وخرج عن أن يستحق العذاب، فإن هذا الاعتقاد ناقضٌ لكثيرٍ من آيات القرآن وللأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة، ويتضمَّن هذا الاعتقاد إراقةَ دماءِ المسلمين وإذهابَ أموالهم، ومدَّ الأيدي على النساء الأجنبيات، والشتم والغيبة والبهتان في حق المسلمين، ولأنه إذا اعتقد أنه نجا من العذاب بقول: لا إله إلا الله، فلا يخاف ولا يحترز عن هذه الأشياء، ولا يدل هذا الحديث على هذا؛ لأنه قال عليه السلام: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا). قوله عليه السلام: (وحق العباد على الله أن لا يعذِّب مَن لا يشرك به) تقديره: أن لا يعذَّب مَن يعبده ولا يشركُ به، فقد قيَّد ترك العذاب بالعبادة. والعبادة: الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي (¬1). "فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس قال: لا فيتكلوا"، (التبشير): إيصالُ خبرٍ وحديث إلى أحدٍ يظهر أثرٌ من ذلك الخبر على بشرته، وقد يكون ¬

_ (¬1) في "ش": "النواهي".

سرورًا، وقد يكون حزنًا، وقد جاء القرآن بهما في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] الآية فهذه بشارةٌ فيها السرور، وقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] فهذه بشارةٌ فيها الحزن. (يتكل) أصله: يَوْتَكِل؛ لأنه مضارعٌ من الافتعال، من وَكَل يَكِلُ: إذا فوَّض الأمر إلى أحد، واتكل: إذا اعتمد واتكأ بأحد أو بشيء، واتكل أصله: اوتكل، قلبت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء. يعني: قال معاذ: يا رسول الله! أفتأذنُ لي أن أخبر الناس بأن لهم حقًّا على الله تعالى، وأن لا يعذب الله من لا يشرك به شيئًا؟ قال: لا, فإنهم لو سمعوا هذه البشارة لاعتمدوا عليها وتركوا الاجتهاد في العبادة. فإن قيل: إذا لم يأذن رسول الله عليه السلام لمعاذٍ أن يخبر الناس بهذا الحديث، فكيف أخبر به الناس؟ قلنا: علمُ معاذٍ - رضي الله عنه - أن النبي عليه السلام نهاه عن الإخبار بهذا الحديث لأجل أن لا يعتمد بعضُ الناس على هذا الحديث، ويتركوا العمل، وهذا يكون في بدء الإسلام، أما إذا صار الرجل صاحبَ ذوقٍ من الإسلام، وغَلَبَ على قلبه حقيقةُ الإيمان، وعلم أن عبادة الله تعالى تزيد له من الله تعالى قربًا، فكيف يترك مثلُ هذا الرجل العبادةَ بمثل ذلك الحديث؟ فإذًا علم معاذُ بن جبل أن الإسلام قوي، وحرص الصحابة على العبادة أشد، فحينئذٍ أخبرهم. وجدُّ معاذٍ: عمرو بن أوس بن عائذ، وكنية معاذ: أبو عبد الرحمن، وهو أنصاري. * * * 24 - وقال: "ما مِنْ أحدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله،

صِدْقًا مِنْ قلبهِ، إلاَّ حرَّمهُ الله على النَّارِ"، رواه مُعاذٌ. قوله: "إلا حرَّمه الله على النار": اعلم أن رسول الله قال هذا الحديث في أول الإسلام، في وقتٍ لم يجب شيءٌ من الأركان، ومَن قال في ذلك الوقت كلمتي الشهادة ومات في ذلك الوقت حرَّمه الله تعالى على النار؛ لأنه أتى بما وجب عليه ولم يترك شيئًا من الأركان؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شيءٌ من الأركان واجبًا، وأما بعد وجوب الأركان من الصلاة وغيرها لم يكن قوله كلمتي الشهادة كافيًا في الخلاص من النار، بل يجب عليه الإتيان بجميع الواجبات، والانتهاءُ عن جميع المناهي. ويحتمل أن يريد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث أن كل كافر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ومات عن قريبٍ قبل أن يتمكن من الإتيان بفرضٍ آخر، حرَّمه الله تعالى على النار؛ لأنه مات في الحال قبل أن يقدر على أداء فرضٍ آخر، وإذا قلنا: المراد هذا بهذا الحديث، فيكون في جميع الأوقات والأزمان هكذا الحكم، ولم يكن مخصوصًا بأول الإسلام على هذا الاحتمال. وقوله: "صدقًا من قلبه": احترازٌ عن النفاق؛ لأن كلمتي الشهادة لا تنفعان المنافق يوم القيامة؛ لأنه لم يقلهما صدقًا من قلبه. واعلم أنه حيث جاء في الحديث اسمُ معاذٍ مطلقًا من غير أن يذكر اسمُ أبيه فهو معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. * * * 25 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبٌ أبيضُ وهو نائمٌ، ثم أتيتهُ وقد استيقظَ، فقال: "ما مِنْ عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثمَّ ماتَ على ذلك، إلاَّ دخلَ الجنَّة"، قلتُ: وإنْ زَنى، وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ

سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق، على رَغْم أنْفِ أبي ذر"، وكان أبو ذر إذا حدَّث بهذا الحديث قال: وإن رَغِمَ أَنْفُ أبي ذَرٍّ. قوله: "وعليه ثوبٌ أبيض" فائدته: أنَّ لبس الثوب الأبيض سنَّةٌ؛ لأنه لبسه رسول الله عليه السلام، وأيضًا فيه إثباتُ حصول علم أبي ذر - رضي الله عنه - على كون النبي نائمًا؛ يعني لم يقل أبو ذر - رضي الله عنه - هذا عن ظنًّ أو قول أحدٍ بل رآه بعينه. وقوله: "ثم أتيته وقد استيقظ"؛ أي: فلمَّا رأيته نائمًا رجعتُ، ثم أتيته بعد زمان وقد استيقظ؛ أي: فلما أتيته ثانيًا وجدتُه منتهيًا من النوم. وقوله عليه السلام: "ما من عبد قال لا إله إلا الله" تقديره: قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن قول لا إله إلا الله بلا إقرارٍ بمحمدٍ رسول الله لا ينفع بعد أن يبعث الله تعالى محمدًا رسول الله بالرسالة على الخلق. قوله: "ثم مات على ذلك": إشارةٌ إلى الثبات على الإيمان إلى الموت، احترازًا عمَّن يرتد عن دينه ومات على الارتداد، فإنه إذا مات على الارتداد لا ينفعه إيمانه في الزمان الماضي. وقوله: "دخل الجنة": إشارة إلى أن عاقبته دخولُ الجنة وإن كان له ذنوبٌ كثيرة أو ترك من الأركان شيئًا، إلا أنَّ مَن كان هذه صفته فأمرُه إلى الله: إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بلا عذاب، وإن شاء عذَّبه بقَدْرِ ذنوبه ثم أدخله الجنة بفضله. وقول أبي ذر - رضي الله عنه -: "وإن زنى، وإن سرق؟ " تسمَّى هذه الواوُ: واوَ المبالغة، وتعجب أبي ذر من هذا الحديث إنما كان لأجل أن الزنى والسرقة وغيرهما من الذنوب موجبةٌ للعقوبة، فكيف يدخل الجنة مع استحقاق العقوبة؟ ولم يَدْرِ أن المذنب تكون عاقبته الجنةَ - إمَّا قبل العذاب بأن عفا الله عنه، وإما

بعد العذاب - حتى بيَّن له رسول الله عليه السلام بقوله: "وإن زنى وإن سرق". وتكرار أبي ذر لفظةَ: (وإن زنا وإن سرق؟) ليس عنادًا وإنكارًا منه قولَ رسول الله عليه السلام، بل ظنَّ أنه لو كرر لأجابه رسول الله عليه السلام بجوابٍ آخر فيجد فائدةً أخرى، فلمَّا كرَّر ثلاثَ مرات فلم يتغير جوابُ النبي عليه السلام، سكت واستسلم. وقوله عليه السلام: "وإن رغِم أنف أبي ذر"، (رَغِم) بكسر الغين في الماضي وفتحِها في الغابر (رَغْمًا ورُغْمًا): إذا وصل الأنفُ إلى التراب، وهو عبارةٌ عن الإذلال، يقال: فعلتُ هذا على رغمِ فلان؛ أي: على خلاف مراده، ولأجل مَذلَّته، والمراد ها هنا: وإن كره أبو ذرٍّ ذلك؛ يعني: أتبخل يا أبا ذر برحمة الله تعالى؟ فرحمةُ الله واسعةٌ على خلقه وإن كرهْتَ يا أبا ذر، فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53]. ففرح أبو ذر بهذا، وعدَّ قول النبي عليه السلام له: (وإن رغِم أنف أبي ذر) شرفًا وكرامةً، فكان إذا حدَّث بهذا الحديث قال تفاخرًا: (وإن رغم أنف أبي ذر). واسم أبي ذر: جُنْدُب بن السَّكَن، وقيل: جندب بن جُنَادةَ الغفاري. * * * 26 - وعن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهدَ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وابن أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، والجنةَ حقٌّ، والنارَ حقٌّ = أدخلَهُ الله الجنةَ على ما كانَ منَ العمل". قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله": احترازٌ عمَّا قالت النصارى: إن عيسى

ابن الله، وقال بعضهم: إن عيسى شريكُ الله، وقال بعضهم: الله هو عيسى ظهر في هذه الصورة، وكلُّ ذلك كفرٌ، بل ليعتقد الناس أن عيسى عبد الله ورسوله. "وابن أمته"؛ أي: أمُّ عيسى ابن مريم أَمَةُ الله تعالى كسائر النساء، إلا أن لها شرفًا وفضلًا على سائر النساء. وقوله: "وكلمته": سمِّي عيسى كلمةَ الله؛ لأنه حَصَلَ من كلمةٍ واحدةٍ وهو أمره تعالى: (كن)، فلما أمر الله لصورة عيسى: (كن)، فكان من غيرِ واسطةِ أبٍ، والتقدير: عيسى الموجود بكلمةٍ. وقيل: سمَّي كلمةَ الله لأنه كان يتكلم في المهد، وزمانُ المهد ليس زمانًا يتكلم فيه الصبي، فإذا تكلَّم يكون ذلك معجزةً وإنطاقًا من الله تعالى إياه بما تكلم. وقيل غيرُ هذا ويطولُ ذكره. "ألقاها إلى مريم"؛ أي: ألقى الكلمة - يعني صورة عيسى عليه السلام - في رحم مريم من غير أبٍ. "وروح منه": (الروح) عيسى عليه السلام، و (منه): أي: من الله؛ يعني: عيسى روحٌ مخلوقٌ كسائر المخلوقات، إلا أن له شرفَ النبوة، وإنما قال: (روح منه)؛ لأنه حصل بأمر من الله لا بواسطةِ أبٍ. وقيل: سمِّي عيسى روحًا؛ لأنه تحصلُ الروحُ في الأجساد الميتة بدعائه. واعلم أن الله تعالى لمَّا أخذ من ظهر آدم عليه السلام ذريته أخرجهم من ظهره مثلَ الذر، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فلمَّا أقروا بكون الله تعالى ربَّهم واعترفوا بأنهم عباد الله، ردَّهم إلى ظهر آدم عليه السلام كما كانوا، إلا روحَ عيسى فإنه ما ردَّه في ظهره بل حفظه إلى أن قدَّر الله تعالى أن تحمل مريم، فأرسل جبريل بروح عيسى عليه السلام إلى مريم، فأخذ جبريل

جيبَ قميص مريم ونفخ فيه بروح عيسى، فحملت مريم بعيسى عليه السلام بأمر الله تعالى هكذا ذكر في "تفسير الوسيط"، و"اللباب" وغيرهما. وقد قيل فيه أقوالٌ غيرُ هذا، ولكن يطول ذكرها. قوله "على ما كان من العمل"؛ أي: على أيَّ عملٍ كان ذلك الرجل من الذنوب؛ يعني: إذا كان اعتقاد الرجل صحيحًا حتى يموت، أدخله الجنة وإن كان له ذنوبٌ كثيرة، ولكن قبل العذاب أو بعده، هذا في مشيئة الله تعالى كما قلنا في مواضع كثيرة. * * * 27 - وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: ابسُطْ يمينكَ فلأَبايعْكَ، فبسطَ يمينَهُ، فقبضْتُ يدي، فقال: "ما لَكَ يا عمرو؟ "، قلت: أردتُ أنْ أشترطَ، قال: "تشترطُ ماذا؟ "، قلت: أنْ يُغفرَ لي، قال: "أما علمتَ يا عمرو! أنَّ الإِسلامَ يهدِمُ ما كانَ قبلَهُ، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كانَ قبلَها، وأنَّ الحجَّ يهدمُ ما كان قبلَهُ؟ "، فبايعتُه. قوله: "ابسط يمينك فلأبايعك"؛ أي: امدد يدك اليمنى حتى أضع يدي على يدك وأبايعك على الإسلام. "فبسط يمينه فقبضت يدي"؛ يعني: فلمَّا بسط يده رسول الله عليه السلام قبضت يدي إلى نفسي ولم أضع يدي على يده عليه السلام، فقال: "ما لك يا عمرو؟ " يعني: قال لي رسول الله: ما لك يا عمرو؟ و (ما) للاستفهام، ومعناه: أيُّ شيء ظهر في خاطرك حتى امتنعت وندمت عن وضع يدك على يدي، وعن المبايعة؟ "قلت: أردت أن أشترط": يعني: أردتُ شرطًا، فإن قبلتَ شرطي

ووفيت بشرطي أسلمت. "قال: تشترط ماذا؟ ": أي: أيَّ شيء تشترط، (تشترط) فعلٌ مضارع مرفوعٌ فاعلُه فيه مضمرٌ، و (ماذا) مفعولُه، وحقُّ (ماذا) أن يكون مقدَّمًا على (تشترط) لأنه استفهامٌ، إلا أنه حُذف (ماذا) قبل (تشترط) وأُعيد بعده تفسيرًا للمحذوف. "قلت: أشترط أن يغفر لي ربي" يعني قلت: أشترط أن يغفر لي ذنوبي وكفري إن أسلمت. "قال: أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ "، (الهدم): تخريبُ البناء؛ يعني: أمَا علمت وأمَا سمعتَ أن الإسلام يزيل ويمحو الكفر والذنوب من الرجل، سواءٌ كان الذنوبُ مظلمةَ إنسانٍ من الدم والمال والقذف والغيبة وغير ذلك، أو كان شيئًا يكون بين العبد وبين الله تعالى من الزنى وشرب الخمر وغير ذلك من كبائر الذنوب، فمَن أسلم فكأنه وُلد من أمه في ذلك الوقت؟؛ يعني: كما أنه لا ذنبَ لطفلٍ صغيرٍ فكذلك لا ذنب لكافرٍ وقتَ إسلامه، هذا بحث الإسلام. وأما الهجرةُ من مكة إلى المدينة لله تعالى ورسوله قبل فتح مكة، والحجُّ، لا يزيلان ويمحوان حقوق العباد، بل تبقى المَظْلمة في ذمة الرجل وإن هاجر وحجَّ حتى يؤديها إلى أصحابها، أو يستحلَّ منهم. وأما الذنوب التي تكون بين الرجل وبين الله تعالى، فما كان من الصغائر يزولُ ويعفى بالهجرة والحج قطعًا، وما كان من الكبائر فهو في مشيئة الله تعالى، ولا يجوز القطع بأنها تزولُ وتعفى بالهجرة والحج، بل ترجو أن تعفى بالهجرة والحج ولكن لا تقطع به. فهذه الأشياء التي قلناها في بحث الإسلام والهجرة والحج متفِقٌ عليها

جميعُ أهل السنة، ومن قال بخلافه فهو إما جاهلٌ أو مبتدع، والله أعلم. وجدُّ عمرو بن العاص: الوائل بن هاشم بن سُعَيْدَ بن سهم. * * * مِنَ الحِسَان: 28 - عن مُعاذ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبِرني بعملٍ يُدخلُني الجنَّة، ويُباعدُني من النار، قال: "لقد سأَلتَ عن عظيمٍ، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يسَّره الله عليه: تعبُدُ الله ولا تشركُ بهِ شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ"، ثم قال: "ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخير؟ الصَّومُ جُنَّة، والصَّدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجلِ في جوفِ الليلِ"، ثمَّ تلا: " {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} "، ثم قال: "ألا أُخبرك برأْسِ الأمرِ وعَمودِهِ وذِرْوةِ سَنامِهِ؟ "، قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعَمودُهُ الصلاةُ، وذِرْوةُ سَنامِهِ الجهادُ"، ثم قال: "ألا أُخبركَ بمِلاكِ ذلك كلِّه؟ "، قلت: بلى يا نبيَّ الله! فأخذَ بلِسانِه وقال: "كُفَّ عليكَ هذا"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! إنَّا لَمُؤاخذون بما نتكلَّمُ به؟ قال: "ثكلتْكَ أُمُّك يا مُعاذُ! وهلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجُوهِهِمْ - أو: على مَنَاخِرِهم - إلاَّ حصائدُ أَلْسنتهِمِ؟ ". قوله: "يدخلني": هذا فعلٌ مضارع مرفوعٌ وفاعلُه فيه مضمَرٌ، وهو ضمير "عملٍ"، والفعل والفاعل والمفعول محلُّها جر؛ لأنها صفةُ "عملٍ"، "ويباعدني من النار"؛ كذلك؛ لأنه معطوفٌ على (يدخلني)، ولا يجوز الجزمُ فيه لأنه لم يُرْوَ، ولأنه لم يستقم معناه؛ لأنه لو جزم يكون جوابًا لأمر، وحينئذ يبقى قوله: (بعمل) غيرَ موصوفِ، والنكرة غيرُ الموصوفة لا تفيد.

"قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على مَن يسر الله تعالى عليه" يعني: قال رسول الله عليه السلام لمعاذ: لقد سألت عن شيءٍ عظيم مُشْكِلٍ فيتعسَّرُ الجواب، ولكنه "يسير"؛ أي: سهل "على من يسره الله تعالى عليه" الجواب؛ أي: سهَّل الله تعالى عليه الجواب. وإنما قال رسول الله عليه السلام: (سألت عن عظيم) لأن معرفة العمل الذي يدخل الرجلَ الجنةَ مِن عِلْم الغيب، وعلمُ الغيب لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى ومَن علَّمه الله تعالى، كقوله تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]. قوله: "تعبد الله" يتناول الإتيانَ بجميع أوامر الله تعالى، والانتهاءَ عن جميع مناهيه؛ لأن العبادة معناها: الطاعة والإتيانُ بجميع الأوامر، وكذا الانتهاءُ عن جميع المناهي، والمقصود ها هنا بقوله: (تعبد الله): توحيد الله تعالى والإقرارُ بكون الله واحدًا لا شريك له في ملكه وألوهيته، وكل مَن سواه وسوى أسمائه وصفاته مخلوقٌ؛ يعني: الإتيان بهذه الأركان الخمسة - أعني الإقرار بوحدانية الله تعالى وإقام الصلاة وما بعده - هو العمل الذي يدخل الرجل الجنة، وقد ذكرنا قبل هذا عفو الذنوب بمشيئة الله تعالى. قوله: "ألا أدلك" الهمزة في (ألا) للاستفهام، و (لا) للنفي، وتقديره: ثم قال: ألا أدلك "على أبواب الخير؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، فلعله كان: قلت بلى، موجودًا هنا فنسيه الرواة؛ لأنه قال معاذٌ بعد هذا في هذا الحديث موضعين: قلت: بلى يا رسول الله. وقوله عليه السلام في تفسير أبواب الخير: الصوم والصدقة والصلاة في جوف الليل، جَعَل هذه الأشياءَ أبوابَ الخير؛ لأن الصوم شديدٌ على النفس، وكذا إخراج المال في الصدقة، وكذا الصلاة في جوف الليل، فمَن اعتاد هذه

العبادات يسهُل عليه كلُّ خير، ويأتي منه كلُّ خير؛ لأن المشقة في دخول الدار يكون بفتح الباب المغلق، فإذا فتح الرجل الباب يسهل دخول الدار، فكذلك هذه العبادات الثلاث متعسِّرة شديدةٌ على النفس، فإذا اعتادت النفس بها اعتادت بجمع العبادات. وقوله: "الصوم جنة" بضم الجيم وتشديد النون: الشيء الذي يجنُّ؛ أي: يَستر الرجلَ عن سهام العدو، وسمِّي الصومُ جنةً؛ لأن الصوم مانعٌ للرجل عن الأكل والشرب وقضاء الشهوة والشتم والغيبة والكذب والبهتان، وهذه الأشياء من حظوظ النفس، ومنعُ حظوظ النفس منع النار عنه؛ يعني: كما أن الصوم مَنَعَ الرجل عن حظوظ نفسه مَنَعَ النار عنه أيضًا يوم القيامة؛ لتكون راحةُ دفع النار في مقابَلةِ ما فات عنه من راحة الأكل والشرب في الدنيا بسبب الصوم. قوله: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار"، (الصدقة) ها هنا هي صدقةُ التطوع لا الصدقة التي بمعنى الزكاة؛ لأن الزكاة قد ذكرت قبل هذا. (الخطيئة): الذنب؛ يعني: الصدقة تمحو وتُزيل الذنوب كما تطفئ الماء النار، وهذا مثل قوله عليه السلام لأبي ذر - رضي الله عنه -: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها"، ومثلُ هذا قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. (الإطفاء): إخماد النار. فإن قيل: كيف تزيل الحسنة السيئةَ؟. قلنا: لا تخلو السيئة: إما أن تكون بين العبد وبين الله تعالى، أو بين العبد وبين إنسان كالمظلمة: فإن كانت بين الرجل وبين الله تعالى فإن الرجل إذا عمل سيئةً يَغضب الربُّ عليه، وإذا عمل حسنةً يرضى عنه الربُّ جل جلاله، والرضا والغضبُ لا يجتمعان في قضية واحدة، بل إذا رضي الله تعالى عن العبد يترك غضبه ويعفو عن سيئاته؛

لأن رحمته تعالى سبقت غضبه. وإن كانت السيئة بين العبد وبين الإنسان فإنه إذا عمل حسنةً تَدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضًا من مظلمةٍ يومَ القيامة، وتسقط المظلمةُ عن رقبته، فإذا كان كذلك فقد أزالت الحسنة مظلمة خصمه عنه. "وصلاة الرجل في جوف الليل" - أي: في وسط الليل - لها فضيلةٌ كثيرةٌ يأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} " يعني قال معاذ: قرأ رسول الله عليه السلام: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] يعني: للمصلِّين فضيلةٌ ودرجةٌ رفيعة، ومن جملتها أنهم استحقُّوا بسبب صلاة الليل أن يمدحهم الله تعالى في كتابه القديم في قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} الآية. {تَتَجَافَى}: فعلٌ مضارعٌ، ومعناه: تتباعد وتتفارق جنوبهم عن مواضع نومهم وفُرشهم، ويتركون لذة النوم، ويقومون ويتوضؤون ويصلون في جوف الليل ويَدْعون ربَّهم ويتضرعون إليه من خوف عذابه والطمع في مرضاته ولقائه وحبه. {الْمَضَاجِعِ}: جمع مَضْجَع بفتح الجيم، وهو موضع الضجع وهو النوم. قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: يعني لا يبخلون بما آتيناهم من الأموال، بل يؤتون الزكاة ويعطون الصدقة ويضيفون الأضياف. {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} (أخفي): فعل ماضٍ مجهول، من أخفى إخفاء: إذا ستر شيئًا. {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (القرة): التفريجُ والإنعام، و (الأعين): جمع العين، و (قرة العين) معناه: جَعْلُ العين بصيرًا، والمراد به حيث استعمل هذا اللفظ إيصالُ

الفرح إلى أحدٍ والإنعامُ عليه. يعني قال الله تعالى: أعددت وهيَّأْت لعبادي الصالحين في الجنة من الحُور والقصور والغلمان وأنواع الثمار والأطعمة ما لم يعلم قَدْرَه أحدٌ ولا يَقْدِرُ على وصفه لسان. وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: جعلتُ هذه الأشياء إليهم للجزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة. قوله: "وذروة سنامه"، (الذروة) بكسر الذال وضمها: أعلى الشيء، وذروة الجبل: أعلاه. (السنام) بفتح السين: ما ارتفع من ظهر الجمل والبعير، وهو من سَنِم - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - سَنَمًا: إذا ارتفع الشيء. والمراد بـ (الإسلام) في قوله: "رأس الأمر الإسلام": كلمتا الشهادة، وأراد بـ (الأمر) ها هنا؛ أمر الدين؛ يعني ما لم يُقرَّ العبد بكلمتي الشهادة لم يكن له من الدين شيءٌ أصلًا، وإذا أقرَّ بكلمتي الشهادة حصل له أصلُ الدين، إلا أنه ليس له قوةٌ وكمال، كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلَّى وداوم على الصلاة قَوِيَ دينُه، ولكن لم تكن له رفعةٌ وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه الرفعة. فإن قيل: لمَ لمْ يذكر الزكاة والصوم والحج مع أن النبي عليه السلام حدَّث بهذا الحديث؟. قلنا: له جوابان: أحدهما: أنه عليه السلام ذكر الأركان الخمسة في أول هذا الحديث، وأعاد ها هنا ذكرَ ما هو الأقوى منها وهي الشهادةُ والصلاةُ تعظيمًا لشأنهما؛ لأنهما مكرَّران في كل يومٍ وليلة مرارًا كثيرة، بخلاف الزكاة والصوم فإنهما واجبان في كلِّ سنةٍ مرةً واحدة، وبخلاف الحج فإنه واجبٌ في جميع عمر

الرجل مرةً واحدة، وزاد الجهادَ وبيَّن أن به رفعةُ الدين؛ لتكون هذه الفضيلة في بعض الأحوال محرِّضًا للناس على الجهاد. والجواب الثاني: أن المجاهد قلما يترك الزكاة والصوم والحج؛ لأن الجهاد فضيلةٌ في بعض الأحوال وفرضُ كفاية في بعض الأحوال، ومَن أتى بالجهاد الذي هو فضيلة أو فرضُ كفاية فكيف يترك الزكاة والصوم والحج مع أن كلَّ واحد من هذه الأشياء فرضُ عينٍ؟ ولأن الجهاد أشقُّ على النفس من هذه الأشياء، ومَن أتى بما هو الأشق فكيف يترك بما هو الأخف والأيسر على النفس؟ قوله: "بملاك ذلك"، (الملاك) بكسر الميم: ما به إحكامُ الشيء وتقوِيَتهُ وإكماله، من مَلَك - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - مَلْكًا بفتح الميم: إذا أَحسن عَجْنَ الدقيق وبالغ فيه، وذلك إشارةٌ إلى ما ذكر من أول الحديث إلى ها هنا من العبادات، يعني: أُخبرك بشيء يَكْمُل ويتمُّ به لك ثوابُ هذه العبادات. قوله: "فأخذ بلسانه" الباء زائدة، والضمير راجعٌ إلى النبي عليه السلام؛ يعني: أخذ رسول الله عليه السلام لسانَ نفسه وقال لمعاذ: "كفَّ عليك هذا" بضمِّ الكاف وفتح الفاء أمر مخاطب، مِن (كفَّ) بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر (كفًا): إذا منع. قوله: "عليك هذا" (هذا): إشارة إلى اللسان، والتقدير: كُفَّ اللسان عليك؛ أي: احفظ لسانك من أن يوقع عليك ضررًا وهلاكًا وخسارًا في الدنيا أو في الآخرة؛ يعني: لا تتكلم بكلام يكون لك به إثمٌ. قوله: "إنا لمؤاخذون بما نتكلم به"، (المؤاخذة): أن يأخذ أحدٌ أحدًا بذنبٍ، والفعل منه (آخَذَ يؤاخِذُ) واسم الفاعل: (مؤاخِذ) بكسر الخاء، والمفعول: (مؤاخَذ) بفتح الخاء، وقوله: (لمؤاخذون) مفعولٌ منه، يعني: هل

يؤاخذنا ربنا تعالى (بما نتكلم به) من الكلام. قوله: "ثكلتك أمك يا معاذ"، (ثكل) بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر (ثكلًا): إذا فقدت المرأة ولدها؛ أي: فَقَدتْكَ أمك وعَدِمتْك بأن تموت يا معاذ، و (ثكلتك أمك) دعاءٌ على أحدٍ من غير أن يراد وقوعُهُ، بل يقال لتأديب الرجل وتنبيهه من الغفلة وتيقُّظه في الأمر، ومثله كثيرٌ: قاتله الله وما أشبه ذلك. قوله: "هل يكب الناس"، كب - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - كبًا: إذا ألقَى فأسقط أحدًا على وجهه، هذا متعدٍّ، وإذا نقلته إلى باب أَفْعَلَ وقلت: أَكَبَّ زيدٌ، صار لازمًا، ومعناه: سقط على وجهه، وهذا من نوادر اللغة؛ لأن الغالب أن ينقل الفعل اللازم الثلاثيُّ إلى (أَفْعَلَ) حتى يصير متعدِّيًا، نحو: خرج وأخرج. و (أو) ها هنا للشك، يعني شكَّ في أن رسول الله عليه السلام قال: "على وجوههم، أو" قال: "على مناخرهم". (المناخر): جمع مَنْخِرٍ بفتح الميم وكسر الخاء، ويجوز فتح الخاء، وهو ثقبة الأنف. (الحصائد): جمعُ حصيدة، وهي فعيلةٌ بمعنى مفعولة، من (حصد): إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، كقولك: هذا مضروبُ زيدٍ؛ أي: الذي ضربه زيدٌ، وها هنا (اللسان) فاعلٌ و (الحصائد) بمعنى المحصود؛ أي: محصود اللسان، يعني الكلام الذي تكلم به اللسان، شبَّه ما تكلم به اللسان بالزرع المحصود، أو بالحشيش المقطوع بالمنجل، فكما أن المنجل يقطع الحشيش ولا يتميز بين الرطب واليابس، والجيد والرديء، فكذلك لسانُ بعض الناس يتكلَّم بكلِّ نوعٍ من الكلام القبيح والحسن.

(يكب) بفتح الياء: فعل مضارع معروفٌ، و (الناس) مفعوله، و (الحصائد) فاعلُه؛ يعني: لا يُلقي أحدًا في النار إلا ما يجري على لسانه من الكلام القبيح، من الكفر والقذف والشتم والغيبة والبهتان، والحديث مع المرأة الأجنبية بالشهوة وغيرِ الشهوة. فإن قيل: قوله عليه السلام: "هل يكب الناس؟ " استفهامٌ بعده كلمةُ (إلا)، والاستفهام إذا كان بعده لفظة (إلا) يكون بمعنى النفي، فيكون معنى هذا الكلام نفيُ دخول النار عمَّن حفظ لسانه عمَّا به إثم، فما تقولون فيمَن حفظ لسانه عن السوء وترك ركنًا من الأركان، أو فعل فعلًا قبيحًا، من غير أن يتكلم باللسان شيئًا قبيحًا، فهل يدخل النار أم لا؟. قلنا: لم يقل النبي عليه السلام هذا الكلام لنفي دخول النار عمَّن حفظ لسانه عن السوء وإثباتِ دخول النار لمن لم يحفظ لسانه عن السوء ونفي دخول الجنة عنه، بل إنما قال رسول الله عليه السلام هذا الكلام؛ لأن أكثر الناس دخولًا النار يكون بسبب اللسان، وإذا فكرت وجربت الناس لم تجد أحدًا حفظ لسانه عن السوء ويصدر منه شيء يوجب دخوله النار إلا نادرًا، فإذا كان كذلك فيكون حكم رسول الله بهذا الحكم على الأغلب والأكثر. * * * 29 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكملَ الإِيمانَ"، رواه أبو أُمامة - رضي الله عنه -. قوله: "فقد استكمل الإيمان"، (استكمل) بمعنى: كمل، يعني: "من أحب" أحدًا يحبه "لله" لا لحظَّ نفسه، "و" من "أبغض": أحدًا يبغضه "لله" بأن يكون فيه كفر أو معصية وهو لا يقبل النصيحة، ولا يبغض أحدًا لأجل نفسه بأن يؤذيه ذلك الأحد، "وأعطى لله"؛ يعني: يعطي ما يعطيها لرضا الله وطلبِ ثوابه،

ولا يعطي لميل نفسه والرياء، "ومنع لله"؛ يعني: لو منع إعطاء المال إلى أحدٍ، ينبغي أن يمنعه بأمر الله تعالى، بأن يكون ذلك الشخص ممَّن لم يأمر الله تعالى بإعطاء المال إياه، مثل أن لا يجوز صرف الزكاة إلى كافرٍ لخسَّته، ولا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب لعزَّتهم، ولا يجوز الوقف على المرتدِّين وقطاع الطريق والكفار المحاربين، ويحرم بيع السلاح من هؤلاء، ويحرم بيع العنب ممن يتخذ الخمر، فإن باع فالبيعُ صحيح. وبحث هذا الحديث طويلٌ، وبناء التصوُّف على هذا الحديث؛ يعني: مَن حصل فيه هذه الأربعةُ فقد زالت منه الخصال النفسانية، وظهرت فيه الخصال الرحمانية؛ أي: المُرْضيةُ للرحمن، فمن كان بهذه فقد أكمل إيمانه. واسم أبي أمامة: صُدَي بن عجلان بن وهب الباهلي. * * * 30 - وقال: "أَفْضَلُ الأَعمالِ الحُبُّ في الله، والبُغضُ في الله"، رواه أبو ذَرٍّ. وقال: "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله" رواه أبو ذر. بحثُ هذا الحديث ما ذكر في الحديث المتقدم، والتقدير: أفضل الأعمال الحبُّ في طريق الله؛ يعني: حب أوامره وعباده لرضاه. * * * 31 - وقال: "المُسلمُ من سَلِمَ المُسلمونَ من لِسانِه ويَدِه، والمُؤمن من أَمِنَه الناسُ على دِمائهم وأَموالهم، والمُجاهد من جاهد نفسَه في طاعة الله، والمُهاجر من هجَر الخَطايا والذنوب"، رواه فَضالة بن عُبيد - رضي الله عنه -. وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه

الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" رواه فَضَالة بن عبيد. وبحث هذا الحديث مضى في الحديث الرابع من أول هذا الكتاب، إلا أنه ثَمَّ لفظ الحديث: "والمهاجر مَن هَجر ما نهى الله تعالى عنه"، وهنا "من هجر الخطايا والذنوب" ومعناهما واحد. وأما معنى قوله عليه السلام: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" يقال: أمنتُ زيدًا على هذا الأمر وائتمنته؛ أي: جعلته أمينًا، والأمين: حافظُ الأمانة؛ أي: تارك الخيانة، يعني: المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس بإذهاب مالهم وقتلهم ومدِّ اليد على نسائهم، ومن لم يكن بهذه الصفة فهو مؤمنٌ ناقص. واختلف العلماء في المسلم والمؤمن، فقال بعضهم: المسلم والمؤمن واحدٌ؛ لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، (فيها) راجع إلى قرى قوم لوط؛ يعني: أخرجنا وأنجينا في قرى قوم لوط لوطًا ومن آمن، به فما وجدنا في تلك القرى غير بيتٍ من المسلمين، و (المسلمين) و (المؤمنين) هنا واحد لأن المراد باللفظين لوطٌ عليه السلام ومَن آمن به، وإنما قال: (من المسلمين) ولم يقل: من المؤمنين، كي لا يتكرر لفظُ المؤمنين. وقال الآخرون: المؤمن غير المسلم لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أنزلت هذه الآية في أعرابٍ من بني أسد ابن خزيمة؛ جاؤوا إلى النبي عليه السلام في سنة قحطٍ وأظهروا الشهادة، وقالوا: آمنا بك بالطوع والرغبة ولم نقاتلك كما قاتلك قبيلة فلان فأعطنا من الصدقة، قالوا هذا القولَ ولم يكن في قلوبهم الإيمان بل كانوا منافقين، فأنزل

الله تعالى فيهم هذه الآية؛ يعني: قلتم كلمة الشهادة ولم توافق قلوبُكم ألسنتَكم، فقد بيَّن أن الإيمان تصديقُ القلب ولم يكن لهم هذا، وبيَّن أن الإسلام الإقرارُ باللسان بكلمتي الشهادة. والمختار هذا القول، كما أجاب رسول الله عليه السلام جبريلَ عليه السلام في أول هذا الباب، فذكر أن الإيمان تصديقُ القلب واعترافهُ بالإيمان بالله تعالى وملائكتِه ... إلى آخر الكلمات، وذكر أن الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة ... إلى آخر الكلمات، وقد مر بحثُ الإيمان والإسلام في ذلك الحديث على الاستقصاء. قوله: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى" يعني: المجاهد ليس مَن قاتل الكفار فقط، بل المجاهدُ مَن حارب نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشدُّ عداوةً معه من الكفار؛ لأن الكفار أعداؤه ونفسَه عدوُّه، ولكن الكفار أبعد منه ولا يتفق تلاحُقُهم وتَقَابلهم به إلا حينًا بعد حين، وأما نفسُه أبدًا تلازمه وتقاتله وتمنعُه عن الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلازم الرجل أهمُّ من القتال مع العدوِّ الذي هو بعيدٌ منه، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، و (يلونكم): أصله: يليونكم: من (ولي) نُقلت ضمة الياء إلى اللام وحذفت الياء لسكونها وسكون واو الجمع، ومعنى (يلونكم): يقربونكم؛ يعني: ابدؤوا بقتالِ مَن كان بلده أقربَ منكم من الكفار، فإذا فرغتم من الأقرب فقاتلوا الأبعد. و (فضالة) بفتح الفاء: اسم جد نافذ بن قيس بن صهيب، وكنيةُ فضالة: أبو محمد، وهو الأنصاري. * * *

2 - باب الكبائر وعلامات النفاق

32 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قلَّما خَطَبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ قال: "لا إيمانَ لمنْ لا أَمانةَ له، ولا دينَ لمنْ لا عَهْدَ لهُ". قوله: "قلما"، (ما) في (قلما) مصدرية؛ أي: قلَّ خطبةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيانا، ومعنى الخطبة: الوعظ والتذكير. قوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"؛ أي: لا إيمان كاملًا لمَن لم يكن له أمانةٌ؛ يعني: من كان في نفسه خيانةٌ يخون في مال أحدٍ أو نفسه أو أهله إيمانهُ ناقص، وكذلك السارق والغاصب وأصحاب المعاصي. كذلك تأويل: "لا دين لمن لا عهد له" أي: لا دينَ كاملَ لمَن لا عهد له؛ يعني: مَن جرى بينه وبين أحدٍ عهدٌ وميثاقٌ، ثم غدر ونقض العهد من غير عذر شرعيٍّ، فدينه ناقص، فإن كان له عذرٌ شرعيٌّ في نقض العهد، مثل أن عهد الإمام مع أهل الحرب من الكفار، ثم رأى المصلحة في نقض العهد، جاز أن ينقض العهد. وأنس بن مالك جدُّه: النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام. * * * 2 - باب الكبائر وعلامات النِّفاق (باب الكبائر وعلامات النفاق) الكبائر: جمع كبيرة، وهي السيئة العظيمة التي إثمها كبير وعقوبة فاعلها عظيمةٌ بالنسبة إلى ذنبٍ ليس بكبيرة، ويأتي بحثُ الكبائر في أثناء هذا الباب إن شاء الله تعالى.

33 - قال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: قال رجلٌ: يا رسولَ الله! أيُّ الذنبِ أكبرُ عند الله؟ قال: "أنْ تدعُوَ لله ندًّا وهو خلَقكَ"، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: "ثم أنْ تقتُلَ ولدكَ خشيةَ أنْ يَطعمَ معكَ"، قال: ثم أيٌّ؟ قال: "ثم أنْ تُزانيَ حَلِيلَةَ جارِكَ"، فأنْزلَ الله تَصْدِيقَها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية. قوله: "أي الذنب أكبر؟ "، (الذنب): الفعل الذي يستحق فاعلهُ المَلامةَ والتعذيب، ويطلق على الكفر وعلى غير الكفر من المعاصي؛ لأن فاعل الكفر والعصيان يستحقُّ التعذيب، و (أي) في (أي الذنب أكبر) للاستفهام. قوله عليه السلام: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك"، (الند): المِثْل، والواو في (وهو خلقك) للحال؛ يعني: أكبر الذنب الشركُ بالله، وهو أن تعدل لله شريكًا وتعبد أحدًا غير الله مع علمك بأنه لم يخلقك أحدٌ غير الله ولم يقدر أحد على أن يخلق شيئًا، ولم يرزقك ولم يدفع عنك المرض والسوء والفقر والجوع والعطش غير الله، ولم يعطك الأعضاء الصحيحة والمال والقوة وغير ذلك من أنواع النعم غير الله، بل لله الإنعامُ عليك ما لا تقدر على عدِّه من النعم، وليس لصنمٍ ووثنٍ نعمةٌ، فلا شك أن عبادة أحدٍ مع الله تعالى - مع أنه لا يستحقُّ الألوهية - وعبادةَ غيرِ الله كفرٌ، والكفر أكبر الذنوب؛ لأنه لا يخلِّص صاحبه من النار أبدًا، وصاحبُ المعاصي غيرِ الكفر يخلص من النار وإن طال مكثه في النار. قوله: "ثم أيٌّ": التنوين في (أي) عوضٌ عن المضاف إليه، وأصله: ثم أيُّ شيء من الذنوب أكبر بعد الكفر؟ فقال رسول الله عليه السلام: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" يعني: لا خلاف في أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتلُ نفسٍ مسلمةٍ بغير الحق.

قوله: خشية أن يطعم معك؛ يعني: قتلُ الولد أكبرُ من سائر الذنوب، وقتلُه من خوف أن يطعم طعامك أيضًا ذنبٌ؛ لأنك لا ترى الرزق من الله تعالى؛ لأنك لو رأيت أن الرازق هو الله يرزق كلَّ واحد، لم تقتل ولدك. "ثم أي"؛ أي: قال الرجل: ثم أيُّ الذنب أكبر بعد القتل؟ قال رسول الله عليه السلام: "أن تزاني حليلة جارك". (الحليلة): المرأة، يعني: الزنا ذنبٌ كبيرٌ وخاصةً مع مَن سكن جوارك والتجأ بأمانتك وثبت بينك وبينه حق الجوار، وقد قال رسول الله عليه السلام في حديث آخر: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه" فالزنا بزوجة جاره يكون زنًا، وإبطالُ حق الجوار والخيانةُ معه يكون أقبحَ، وإذا كان الذنب أقبحَ يكون الإثم أعظم. قوله: "فأنزل الله تصديقها" - الضمير راجع إلى هذه المسألة، أو الأحكام، أو الواقعة وما أشبه ذلك، (التصديق): جعلُ أحدٍ صادقًا، أو جعلُ حديثٍ صادقًا - قولَه تعالى: " {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ": الواو في (والذين) للعطف على قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ومعنى (لا يدعون): لا يعبدون إلهًا غير الله، وهذه الآية نزلت عند سؤال هذا الرجل رسولَ الله عليه السلام عن هذا الحديث. وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} تصديقُ قول رسول الله عليه السلام في جواب الرجل: (أن تدعو لله ندًا)، قوله: " {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} "، (النفس التي حرم الله): نفس المسلم والذمي والمعاهد، وقوله: (إلا بالحق) يعني: إلا أن يأذن الله في قتله، ومَن أذن الله في قتلهم أربعة: أحدهم: غير الذمي والمعاهد من الكفار.

والثاني: الزاني المحصن. والثالث: مَن قتل مَن يَحْرمُ قتله، فيجب عليه القصاص. والرابع: قطاع الطريق، فيطلبهم الإمام ويحاربهم، فإن لم يقدر على أخذهم وإبعادهم إلا بالقتل فيقتلهم، جاز وإن لم يقتلوا أحدًا ولم يأخذوا المال، أما إذا أخذهم فانظر فإن كانوا أخذوا المال ولم يقتلوا أحدًا قُطعتْ من كلِّ واحدٍ اليد اليمنى والرجلُ اليسرى، وإن أخذوا المال وقتلوا أحدًا قُتلوا وصُلِّبوا، وإن قتلوا أحدًا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلَّبوا، وإن لم يأخذوا المال ولم يقتلوا أحدًا عزِّروا، وكذلك مَن قصد أحدًا أن يأخذ ماله أو ليقتله أو ليمد اليد على زوجته وعوراته، جاز له أن يدفعه وليبدأ في الدفع بالأسهل، فإن لم يُدفع إلا بالقتل فقتله لا شيء عليه. قوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}: تصديقٌ لقوله عليه السلام: "أن تقتل ولدك". قوله: " {وَلَا يَزْنُونَ} " هذا تصديقُ قوله عليه السلام: "أن تزاني". قوله "الآية" هذا قول المصنف، وتمام الآية: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]، (ذلك) إشارةٌ إلى ما تقدم من الكفر والقتل والزنا، (يلق أثامًا) أصله: يَلْقىَ، فسقطت الياء للجزم لأنه جواب الشرط، و (الأثام) بفتح الهمزة: جزاء (الإثم) بكسر الهمزة؛ يعني: من يفعل هذه الذنوب يرى جزاءها يوم القيامة. وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} أي: يزاد له العذاب على عذاب الدنيا، أو على عذابِ ذنبِ غيرِ هذه الذنوب أكبر. وذكر في أكثر التفاسير أن معنى {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} أي: لا ينقطع عنهم العذاب لحظة.

وقوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ} الخلود في حق الكافر متحقِّقٌ، وأما في حق المسلم لا يتحقق خلوده في النار لسبب الذنوب، بل معنى الخلود في حقه: اللبثُ الطويل، وقوله: (فيه) الضمير راجع إلى (العذاب). وقوله: {مُهَانًا} منصوب على الحال، والمهان: الذليل. وكنية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أبو عبد الرحمن، واسم جده: عاقل بن حبيب، وقيل: الحارث بن شمخ. * * * 34 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكبائرُ: الإِشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَيْنِ، وقتْلُ النَّفْسِ، واليمينُ الغَمُوسُ"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. وفي رواية أنَسٍ: "وشَهادةُ الزُّورِ" بدل: "اليَمينُ الغَمُوسُ". قوله: "الكبائر: الإشراك بالله"، و (الإشراك): جعلُ أحدٍ شريكًا بأحد، والمراد ها هنا: اتخاذ إلهٍ غيرِ الله. "العقوق": مخالفة مَن حقُّه واجبٌ، "الوالدين": الأب والأم، و"عقوق الوالدين": عصيان أمرهما وتركُ خدمتهما، فكلُّ أمرٍ يأمر به الأب أو الأم الولدَ واجبٌ على الولد الإتيانُ بذلك الأمر إن لم يكن فيه إثمٌ، مثل أن يأمر الأب أو الأم الولد بالسرقة أو قتلِ أحدٍ أو شتمه وما أشبه ذلك، فلا يجوز الإتيان بهذا الأمر؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ويجب على الولد خدمةُ الوالدين بقَدْر ما يُطيق، ويجب عليه نفقتهما وكسوتهما إن كانا فقيرين، إن كان يقدر على نفقتهما وكسوتهما. "واليمين الغموس": هو أن يحلف الرجل على الماضي متعمِّدًا بالكذب، بان يقول: والله ما فعلت كذا، وهو يعلم أنه فعله، أو يقول: والله فعلت كذا وهو يعلم أنه ما فعله.

وقيل: (اليمين الغموس): أن يحلف الرجل كاذبًا ليذهب بمال أحدٍ يدَّعي عليه صاحبه. والكفارة واجبةٌ على حالفها عند الشافعي، وفي رواية عن أحمد بن حنبل، ولا كفارة عليه عند أبي حنيفة ومالكٍ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسمَّى هذا اليمين غموسًا؛ لأنه يغمس صاحبه في النار، أو في الكفارة، أو في الإثم، ومعنى (يغمس): يُدْخل. فإن قيل: قوله عليه السلام: "الكبائر: الإشراك" يدل على أن الكبائر منحصرةٌ في هذه الأربعة؛ لأنَّ الألف واللام للاستغراق في هذا الكلام، وجاءت الكبائر أكثر من هذه في الحديث؟ قلت: بيان الكبائر كبيان سائر أحكام الشرع، وبيانُ أحكام الشرع لم تكن مذكورةً في حديثٍ ولا آيةٍ واحدة من القرآن، بل جاءت متفرقةً كي لا يَثقُلَ على الناس حفظُها والعملُ بها، فكذلك الذنوب والمحرَّمات، وقد جاء بيانُها من رسول الله عليه السلام أو من القرآن متعاقبًا متفرِّقًا على حسب السؤال والحاجة. وأما الألف واللام لا يلزم أن يكون لاستغراق الجنس، وقد جاء لمعانٍ كثيرة. واختلف في الكبائر في أنه: كم عددها؟ روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: كلُّ ذنبٍ يأتي بعده في جزائه لعنةٌ أو غضب أو عذاب أو نارٌ فهي كبيرةٌ، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، (يرمون)؛ أي: يقذفون المحصنات العفائف الغافلات عمَّا قُذفن به من الزنا، والقذفُ كبيرةٌ؛ لأنه ذكر في جزائه اللعنة، وكذلك كلُّ ذنبٍ يأتي بعده تهديد. وقيل: الكبائر سبعٌ، وهي المذكورة في الحديث الذي يأتي بعد هذا.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لأَنْ تكون الكبائر سبع مئةٍ أقربُ من أن تكون سبعةً، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار. وقال بعض الفقهاء: الكبائر ثمانية عشر ذنبًا هي: الشرك، والقتل المحرَّم، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، والسَّحر، وأكلُ مال اليتيم، وأكل الربا، وقذفُ المحصنات، والفرارُ من الزحف؛ أي: من الكفار، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، والمقامرة - يعني اللعب بالنرد وما أشبه ذلك من أنواع القمار -، وقطع الرَّحِم، والأمن من عذاب الله تعالى، واليأس من رحمة الله تعالى، وإيذاء المسلمين بأخذ أموالهم، والشتم، والغيبة، وغير ذلك، واختلف في الكبائر اختلافٌ كثير يطول ذكره. وقوله في هذا الحديث: في رواية أنس - رضي الله عنه -: "وشهادة الزور" بدلَ "اليمين الغموس" - وهو نصبٌ على الظرف - يعني: روى أنس هذا الحديث كما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، إلا أن حديث عبد الله: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وحديثَ أنس: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور". * * * 35 - وقال: "اجتنِبُوا السَّبْعَ المُوبقات: الشِّركُ بالله، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ الله إلاَّ بالحقّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذْفُ المُحصناتِ المُؤمناتِ الغافِلاتِ"، رواه أبو هريرة. قوله: "اجتنبوا"؛ أي: احترزوا وابعُدوا عن فعل ذنوبٍ سبعة؛ لأنها مهلكةٌ لفاعلها ومدخلةٌ له النار. و"الموبقات": جمع موبقة وهي المهلكة، من (أوبق): إذا أهلك، و (وبق)

بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر و (بوقًا): إذا هلك. قوله: "والتولي يوم الزحف"، (التولي): الإعراض عن الحرب والفرار منه. (الزحف): الجيش الذين يزحفون إلى العدو؛ أي: يمشون. يعني: الفرارُ من الكفار إذا كان بإزاء كلِّ مسلمٍ كافران من الكبائر، وإن كان بإزاء كلِّ مسلمٍ أكثر من كافرين يجوز الفرار. قوله: "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات"، (القذف): نسبة أحد إلى الزنا، (المحصنات): جمع محصَنةٍ، و (المحصنة) بفتح الصاد وكسرها كلاهما جائز، وكلاهما من (أَحْصَنَ): إذا حفظ، فالمحصَنة - بفتح الصاد - مفعولة؛ أي: التي أحصنها الله تعالى؛ أي: حفظها الله من الزنا، والمحصِنة: - بكسر الصاد - اسم فاعِلة؛ أي: التي أَحصَنت - أي: حفظت - فرجها من الزنا. أراد بـ (الغافلات): اللاتي يغفلن ويبعدن عما قُذفن به من الزنا. قوله: "المؤمنات": احترازٌ عن قذف الكافرات، فإن قذف الكافرات ليس من الكبائر، فإن كانت الكافرة ذميةً فلا يجوز قذفها، ولكن يكون قذفها من الصغائر؛ لأنه ليس موجبًا للحدِّ. يعني: قذف البريات من الزنا من الكبائر. والفرق بين الحرة والأمة ثابت في الحد، فإن الواجب في قذف الحرة المسلمة الحدُّ، وهو ثمانون جلدةً إن كان القاذف حرًا أو حرةً، وأربعون إن كان القاذف عبدًا أو أمةً، وفي قذف الأمة المسلمة التعزيرُ دون الحد، والتعزير يتعلق باجتهاد الإمام ولا يبلغ عشرين جلدةً. وإذا كان المقذوف رجلًا يكون القذف أيضًا من الكبائر ويجب الحد أيضًا.

والفرق بين الحر والعبد كالفرق بين الحرة والأمة. * * * 36 - وقال: "لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمنٌ، ولا يَشْربُ الخَمرَ حينَ يشربُ وهو مؤمنٌ، ولا يَسرِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مؤمنٌ، ولا ينتهبُ نُهبةً يَرفعُ الناسُ إليهِ فيها أبصارَهم حينَ يَنتهبُها وهو مؤمنٌ، ولا يَغُلُّ أحدُكُمْ حينَ يَغُلُّ وهو مؤمنٌ، فإياكُمْ وإياكُمْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" هذا وأشباهه لنفي الكمال؛ أي: لا يكون كاملًا في الإيمان حالةَ كونه زانيًا، والواو في (وهو مؤمن) للحال. ويحتمل أن يكون اللفظ لفظَ الخبر ومعناه النهي، وقد اختار هذا التأويلَ - أعني التأويل الذي يكون بمعنى النهي - بعضُ العلماء، والتأويل الأول أولى؛ لأنَّا لو قلنا: إن معناه النهي، يبقى قوله: (حين يزني) بلا فائدةٍ، وكذلك قوله: (وهو مؤمن) يبقى على هذا التأويل بلا فائدة؛ لأن الزنا منهيٌّ عنه في جميع الأديان وليس مختصًا بالمؤمنين. قوله: "ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن". انتَهَب ونَهَب - بفتح العين في الماضي والغابر - نَهْبًا: إذا غار على أحد وأخذ ماله قهرًا. (النَّهبة) بفتح النون: المصدر، نحو: خربة، و (النُّهبة) بضم النون: المال الذي انتهبه الجيش. (يرفع الناس إليه)؛ أي: إلى الرجل الذي ينتهب، (فيها)؛ أي: في تلك النهبة، (أبصارهم) مفعول (يرفع الناس).

يعني: أخذُ الرجل مال قومٍ قهرًا وظلمًا وهم ينظرون إليه ويتضرعون ويبكون ولا يقدرون على دفعه فهذا ظلمٌ عظيمٌ لا يليق بحال المؤمن، وتأويل قوله: (وهو مؤمن) أي: وهو مؤمنٌ كاملٌ، وقد ذكرناه "غل" - بفتح العين في الماضي وضمِّها في الغابر - غلولًا: إذا سرق شيئًا من الغنيمة أو خان في أمانة. (إياك): كلمة التحذير، إياك وأن تفعل كذا؛ أي: أحذِّرك وأنهاك أن تفعل كذا، ومفعول قوله: (فإياكم) محذوف؛ أي: فإياكم فعلَ هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث؛ يعني: أحذركم وأنهاكم عن فعل هذه الأشياء. قوله: "وإياكم" تكرار للتأكيد والمبالغة في التحذير والتخويف. * * * 37 - وفي رواية ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "ولا يقتُلُ حينَ يقتُلُ وهو مؤمنٌ". وفي رواية ابن عباس: "ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن" يعني: يروي هذا الحديثَ ابن عباس كما يرويه أبو هريرة، إلا أن ابن عباس يزيد قوله: (ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن) يعني: ولا يقتل أحدٌ أحدًا ظلمًا حين يقتل وهو مؤمن. * * * 38 - وقال: "آيةُ المُنافق ثلاثٌ وإنْ صامَ وصلَّى وزعمَ أنَّهُ مسلمٌ: إذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "آية المنافق ثلاث"، (الآية): العلامة، (المنافق): الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر. ومَن أظهر الأعمال الصالحة بين الناس ويفعل في الخلوة الأفعال القبيحة، أو

يُظهر محبةً باللسان ويكون في قلبه في الخلوة على خلاف محبته، سمي ذلك الشخص منافقًا وكان مسلمًا، ولكن الفرق بين هذا المنافق وبين الذي تقدم ذكره ظاهرٌ؛ لأن هذا المنافق مذنبٌ عاصٍ وذلك المنافق كافرٌ. والواو في "وإن صام" للمبالغة. "زعم": أي: ادَّعى؛ يعني مَن به هذه الخصال الثلاث فهو منافق وإن كان يصوم ويصلي ويدعي "أنه مسلم"، فإن كانت هذه الخصال في منافق يُظهر الإسلام ويعتقد الكفر فهو منافقٌ خالص لا شك فيه، ويخلد في النار، ولا ينفعه صومُه ولا صلاته يوم القيامة. وإن كانت هذه الخصال في مسلم: فإن كان يعتقد استحلالَها، فهو كافرٌ ما دام على هذه الاعتقاد، وأما إذا اعتقد تحريم هذه الخصائل ويفعلُها، فهو مسلمٌ مذنبٌ، وهو في الفعل منافق لا في الاعتقاد والإيمان، وعلَّةُ تشبيهه بالمنافق: أنَّا قد قلنا أن المنافق هو الذي يُظهر بخلاف ما يُبطن ويُسِرُّ، وهذا المسلم يعتقد الإيمان وحقيقةَ الإسلام، وهو يفعلُ أفعال المسلمين من الصوم والصلاة وغيرها من العبادات عن الاعتقاد والإيمان، ولكن يفعل في بعض الأزمان ما يخالف أمر الشرع، فمِن أجل هذه المخالفة سمِّي منافقًا، وشبِّه بالمنافقين في الفعل لا في الاعتقاد والإيمان. قوله: "وإذا اؤتمن خان": على بناء ماضٍ مجهولٍ، إذا جُعل أمينًا ووُضع عنده أمانة. * * * 39 - وقال: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كان مُنافِقًا خالصًا، ومَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنَّ كانتْ فيهِ خَصلة مِنَ النفاقِ حتى يدَعَها: إذا ائتُمِنَ خانَ، وإذا حدَّثَ كذبَ، وإذا عاهدَ غدرَ، وإذا خاصم فجَرَ"، رواه عبد الله بن عمْرو - رضي الله عنهما -

قوله: "أربع من كن فيه"؛ أي: أربعُ خصالٍ مَن اجتمعت هذه الخصال فيه "كان منافقًا خالصًا"؛ يعني: مَن كان فيه هذه الخصال عن اعتقادِ استحلالها فهو منافقٌ كالمنافق الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر في قلبه، ومَن كانت هذه الخصال أو بعضُها لا عن اعتقادِ استحلالها بل يعتقد تحريمها، فلا يكون منافقًا كالمنافق الذي يخفي الكفر، بل يكون مسلمًا مذنبًا، ولكنه يشبَّه بالمنافقين في الأفعال، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل لأنَّا علمنا من أصول الدين أن المؤمن لا يصير كافرًا بفعل الذنوبُ وبالمُداومة على فعل الذنوب إذا اعتقد تحريمها، وإن اجتمعت فيه جميع الذنوب، وإن دام على الذنوب في جميع عمره. "حتى يدعها": أي: حتى يتركها، وَدَعَ يَدَعُ وَدْعًا: إذا ترك. قوله: "وإذا عاهد غدر"؛ أي: إذا جرى بينه وبين أحد عهدٌ وأمانٌ وميثاقٌ نقَضَ ذلك العهد. غدر - بفتح العين في الماضي، وكسرها في الغابر - غدرًا: إذا ترك الوفاء بالعهد. قوله: "وإذا خاصم فجر"؛ أي: إذا كان بينه وبين أحدٍ مخاصمةٌ وعداوةٌ يشتمه ويقذفه بالكلام القبيح. وفجر - بفتح العين في الماضي وضمَّها في الغابر - فجورًا: إذا فسق وكذب، وأصل الفجور: الميل من الحق إلى الباطل، والفاجر: المائل. * * * 40 - وقال: "مَثَلُ المنافِقِ كمثَلِ الشَّاةِ العائرةِ بينَ الغَنميْنِ، تَعِيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - قوله: "مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين": (الشاة) والغنم كلاهما اسم الجنس للمَعْز والضَّأْن، ويستعمل في الواحد والتثنية والجمع؛ لأن ما هو

اسم الجنس يتناول الواحد والأكثر، والمراد بـ (الشاة) ها هنا الواحد، والمراد بـ (الغنمين): الجماعتان والقطيعتان من الضأن أو المعز. (العائرة): اسم فاعلة من عار يعير عيرًا: إذا نفر وشرد الغنم وغيره، يعني: المنافق لا يستقر بالمسلمين بالكلية ولا بالكافرين، يجيء إلى الكافرين ويقول: إنا منكم، ويجيء إلى المسلمين ويقول: إنا منكم، كما قال الله تعالى في صفتهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، (لقوا) أصله: لَقِيوا - بكسر القاف - فنقلت ضمة الياء إلى القاف وحُذفت؛ أي: إذا أبصروا المؤمنين قالوا: نحن المؤمنون، وإذا أبصروا الكفار قالوا: إنا معكم في الحقيقة ولكن نستهزئ بالمؤمنين بقولنا لهم: إنا مؤمنون لندفع عنَّا سيوفهم، والمراد بشياطينهم: رؤساؤهم وكبراؤهم. وهذا المَثَلُ كمَثَلِ شاةٍ ترى قطيعتين من الغنم، تسير إلى هذه القطيعة تارةً، وإلى الأخرى تارةً، ولا تسكن بواحدة منهما؛ لأنها غريبة ليست منهما. * * * من الحسان: 41 - عن صَفوان بن عسَّالٍ - رضي الله عنه - قال: قال يهوديٌ لصاحبِهِ: اذْهَبْ بنا إلى هذا النبيِّ، فقال له صاحبهُ: لا تقُل: نبيٌّ، إنَّه لو سمعكَ لكان له أربعة أعيُنٍ، فأَتَيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألاه عن تِسْعِ آياتٍ بيِّناتٍ، فقال لهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشرِكُوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقَّ، ولا تمشُوا ببريءٍ إلى ذِي سُلطانٍ ليقتُلَهُ، ولا تَسْحَرُوا، ولا تَأْكُلوا الرِّبَا، ولا تَقْذِفُوا مُحصَنَةً، ولا تَوَلَّوْا للفِرار يومَ الزَّحْفِ، وعليكُمْ خاصَّةً اليهود أنْ: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} "، قال: فقبَّلًا يديْهِ ورِجْلَيْهِ، وقالا: نشهدُ أنَّكَ نَبيٌّ، قال: "فما يمنعُكُمْ أنْ تتَّبعوني؟ "، قالا: إنَّ داودَ دعا ربَّهُ أنْ لا يزالَ من ذُرِّيَّتهِ نبَيٌّ، وإنَّا

نخافُ إنِ تَبِعْناكَ أنْ تَقْتُلَنَا اليهودُ. قوله: "اذهب بنا" الباء في (بنا) بمعنى (مع) والمصاحبة؛ أي: كن رفيقي وصاحبي لنأتي إلى محمد ونسأل عنه المسائل. قوله: "لا تقل نبي"، يعني: لا تقل لمحمد إنه نبي؛ لأنه لو سمع أنَّا نقول له نبيٌّ يفرح باعترافنا بنبوته. قوله: "إنه لو سمعك": تقديره: إنه لو سمعك أنك تقول له نبي. قوله: "كان له أربعة أعين" هذا الكلام عبارة عن شدة الفرح والسرور، فإنَّ مَن فَرِح تزيد قوة بصره ويزيد نور بصره، فيكون في كثرة نور البصر من الفرح كمن له أربعة أعين؛ يعني: لو سمع محمدٌ أنك تقول له نبي يزيد سروره باعترافنا بنبوته. وينبغي أن يكون: كان له أربعُ أعينٍ، بغير هاءٍ لأن العدد من الثلاثة إلى العشرة إذا أضيف إلى مؤنثٍ يكون بغير هاء، والعينُ مؤنثٌ، وهذا اللفظ في "صحيح أبي عيسى" بغير هاء كما هو القياس، وفي نسخ "المصابيح" بالهاء، فلعله سهو من الناسخين. قوله: "فسألاه عن تسع آيات بينات"، (الآية البينة): العلامة الواضحة، وقد تكون مما يُرى بالعين كعلامة الطريق وغيرها، وقد تكون مما يُرى بالقلب والفِكْر والعقل كالحكم الواضح، والمسألة الواضحة، و (البينات): جمع بينة، وهي الظاهرة. يعني: سألوا رسول الله عليه السلام عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] أن تلك التسع ما هن؟ اعلم أن (تسع آيات) في قصة موسى عليه السلام جاء في القرآن في موضعين:

أحدهما: في سورة (النمل)، وهو قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12]، وهذا بعد قصة عصًا؛ أي اجعل يدك في قميصك لتخرج يدك بيضاء من النور؛ ليكون ذلك معجزةً لك بعد أن جعلنا عصاك حية، وقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: أي لا يكون بياض يدك من البرص بل من النور، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}: أي لتكون العصا واليد من جملة تسع آيات التي بعثناك بها إلى فرعون وقومه، وهذه التسع هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمَّل، والضفادع، والدم، والسنون، وهو القحط، ونقص ثمراتهم، وهذه التسع معجزات. والموضع الثاني: في (بني إسرائيل)، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} هي التي سأل اليهوديان رسول الله عليه السلام عنها، وهي أحكامٌ بدليلِ أن رسول الله عليه السلام أجابهما بتسعٍ من أحكام، وبدليلِ أن أبا عيسى أورد هذا الحديث في "صحيحه" على هذا النمط، ثم قال: وفي رواية: فسألا عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، فلما جاء في بعض الروايات منصوصًا أن اليهوديين سألا رسول الله عليه السلام عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وأجابهما رسول الله عليه السلام بتسعٍ هنَّ أحكامٌ، علمنا أنهما لم يسألاه عن التسع التي هي معجزات. قوله: "لا تشركوا بالله ... " إلى آخره، فإن قيل: إن اليهوديين سألا عن تسع آيات، والمذكورُ فيما أجابهما رسول الله عليه السلام عشر، فكيف يكون هذا؟. قلنا: روى هذا الحديث أبو داود، عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلام، عن صفوان بن عسال، ولم يذكر يحيى: "ولا تقذفوا محصنة"، وذكر أكثر أصحاب شعبة أن شعبة شك في

أنه قال عليه السلام: "ولا تقذفوا محصنة" أو قال: "ولا تولُّوا الفرار يوم الزحف" يعني لم يقل رسول الله عليه السلام كلا اللفظين بل قال أحدهما، وشك شعبة في أنه قال عليه السلام أيهما قال، فإذا كان كذلك فلا يعدُّ من هذين اللفظين إلا أحدهما، فإذا عُدَّ من هذين اللفظين واحدٌ يكون الجواب تسعَ خصالٍ لا عشرة، فعلى هذا كأن النسَّاخين (¬1) تركوا (أو) من قوله: "أو لا تولوا الفرار". وروى هذا الحديث أبو عبد الرحمن النَّسائي، وعدَّ عشرة كما في "المصابيح" من غير (أو) فعلى هذا نقول: أجابهما رسول الله عليه السلام بتسعٍ وزاد واحدًا؛ لأن المجيب يجوز له أن يزيد على السؤال شيئًا لزيادة الفائدة، والله أعلم. قوله عليه السلام: "ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله": الباء في (ببريء) للتعدية، و (السلطان) ها هنا السلطنة والقدرة. (إلى ذي سلطان)؛ أي: إلى مَن له حكمٌ وسلطنة، يعني: لا تقولوا سوءَ مَن ليس له ذنبٌ عند السلطان، ولا تنسبونه إلى ذنبٍ كي لا يقتله أو يؤذيه. قوله: "ولا تولوا الفرار يوم الزحف"، (تولوا) بضم التاء: مضارعٌ من (ولى تولية): إذا أدبر وأعرض، (الفرار): نصبٌ على أنه مفعول له؛ أي: للفرار، (يوم الزحف)؛ أي: يوم الحرب مع الأعداء. قوله عليه السلام: "وعليكم خاصةً اليهودَ أن لا تعتدوا في السبت"، (عليكم) كلمة الإغراء؛ أي: الزموا أو احفظوا هذا الحكم، وهو تركُ الاعتداء في السبت. و (خاصةً): نصبٌ منوَّنٌ على أنه حال، والخاصة ضدُّ العامة، يعني: ما مضى ¬

_ (¬1) في "ق": "فعلى هذا يكون النساخون".

من الأحكام مشترِكٌ فيها جميع الناس، وأما هذا الأخير فخطابٌ لليهود خاصة. (اليهود): نصبٌ على التفسير؛ أي: أعني اليهود، وجاء في بعض الروايات: يهودُ بالرفع من غير تنوين، ومن غير الألف واللام، وتقديره: يا يهود، فحذف حرف النداء، والمعنى وفرض عليكم يا يهود. (الاعتداء): مجاوزةُ الحد، و (أن لا تعتدوا) مفعولُ (عليكم)، والمراد بقوله: (لا تعتدوا في السبت): لا تصيدوا السمك في يوم السبت، ولا تُجاوِزوا أمر الله تعالى فيه. قوله: "فقبلا يديه ورجليه"؛ أي قال الراوي: فقبل اليهوديان يدي رسول الله عليه السلام ورجليه لمَّا أجابهما بما سألاه. قوله عليه السلام: "فما يمنعكم أن تتبعوني"؛ يعني: أيُّ شيء يمنعكم يا معشر اليهود عن الإسلام، واتِّباعي في هذا الدين؟ "قالا: إن داود دعا ربه أن لا يزال من ذريته"؛ أي: دعا داود النبيُّ عليه السلام أن لا تنقطع النبوة في ذريته إلى يوم القيامة، وإذا دعا داود يكون دعاؤه مستجابًا البتة؛ لأنه لا يردُّ الله تعالى دعاء نبي، فإذا كان كذلك فسيكون نبيٌّ من ذريته وتتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك تقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة. هذا معنى قولهم: (إن داود دعا ربه)، وهذا كذبٌ منهم، وافتراءٌ على داود عليه السلام؛ لأن داود عليه السلام لم يَدْعُ بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا الدعاء؛ لأن داود قرأ في التوراة والزبور نَعْتَ محمد رسول الله عليه السلام أنه خاتم النبيين، وأنه ينسخ جميع الأديان والكتب، فإذا أخبر الله تعالى داود بنعت رسول الله عليه السلام على هذه الصفة فكيف يدعو على خلافِ ما أخبره الله تعالى من شأن محمد عليه السلام؟

ولم يَصِرِ اليهوديان مسلمين بقولهما: "نشهد أنك نبي" لأنهما لم يقولا هذا اللفظ عن الاعتقاد أنه نبيٌّ إلى كافة الخلق، بل اعتقدا أنه نبي العرب فقط، والدليل على أنهما لم يعتقداه نبيَّ كافة الخلق أنهما لم يتَّبعاه في أحكام الإسلام، بدليل قوله عليه السلام: (فما يمنعكم أن تتبعوني)، وهذا الخطاب لهما ولغيرهما من اليهود، وكذلك قولهما: "وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود" يدلُّ على أنهما لم يتَّبعا رسول الله عليه السلام في أحكام الإسلام. واسم جدِّ صفوان: ربض بن زاهر المرادي. * * * 42 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ من أصلِ الإيمانِ: الكفُّ عمَّنْ قال: لا إله إلاَّ الله، لا تُكفِّرْهُ بذنبٍ، ولا تُخرجْه من الإسلامِ بعمَلٍ، والجهادُ ماضٍ مُذْ بعثَني الله إلى أن يُقاتِلَ آخرُ أُمتي الدجَّالَ، لا يُبطلهُ جوْرُ جائرٍ، ولا عَدلُ عادلٍ، والإِيمانُ بالأَقْدارِ". قوله: "ثلاثٌ من أصل الإيمان"؛ أي: ثلاثُ خصال من أصل الإيمان، أحدها: "الكف عمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله" لا يجوز إيذاؤه بالقتل وأخذِ المال وغيرِ ذلك؛ لأنه مسلم. قوله: "لا تكفره" فيه روايتان: التاء وجزمُ الراء، والنونُ ورفعُ الراء، ومعنى التكفير: نسبةُ أحدٍ إلى الكفر، وكذلك: "تخرجه" جاء بالتاء والجزم، وبالنون والرفع، يعني: لا يصير كافرًا بعد الإقرار بكلمتي الشهادة بأن يذنب ذنوبًا سوى الكفر. قوله: "والجهاد ماض"؛ يعني: الخصلة الثانية: اعتقاد كون الجهاد ماضيًا؛ أي: باقيًا، والتقدير [في] قوله: "مذ بعثني الله": مذ فرض الجهاد وأُمرت بالجهاد إلى خروج الدجال يكون الجهاد باقيًا، وبعد قتل الدجال

لا يكون الجهاد باقيًا، لأن بعد الدجال يكون خروج يأجوج ومأجوج ولا يقدر أحد أن يقاتلهم، وبعد هلاكهم لم يبق في الدنيا كافر ما دام عيسى عليه السلام في الأرض حيًا، فإذا مات يكفر بعض المسلمين، وحينئذ لا يقدر أحد على القتال، بل يموت المسلمون كلُّهم عن قريب بريح طيبة وبقي الكفار. قوله: "لا يبطله جور جائر"؛ يعني لا يجوز ترك الجهاد بأن يكون الإمام ظالمًا، بل يجب على الناس موافقة الإمام في الجهاد وإن كان ظالمًا؛ لقوله عليه السلام: "الجهاد واجب عليكم مع كلِّ أميرٍ بَرًا كان أو فاجرًا". قوله: "ولا عدل عادل"؛ يعني: لو كان الإمام عادلًا بحيث يحصل سكون المؤمنين وتَقْوِيْتهم وغناؤهم ولم يفتقروا إلى الغنيمة، فلا يجوز مع هذا ترك الجهاد. قوله: "والإيمان بالأقدار"؛ يعني: الخصلة الثالثة الإيمان بأن كلَّ ما يجري في العالم فهو بقضاء الله تعالى وقدره. * * * 43 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنى العبدُ خرج منه الإيمانُ، فكان فوقَ رأسِهِ كالظُّلَّةِ، فإذا خرج منْ ذلكَ العمَلِ رجعَ إليهَ الإِيمانُ". قوله: "كالظلة"، (الظلة): أول سحابةٍ تظهر ويكون لها ظل، قيل في شرح هذا الحديث: إن هذا زجرٌ ووعيدٌ للزاني وتقبيحُ فعله، يعني: الزنا من فعل الكفار، فإذا فعله المسلم فقد شابَهَ الكفار في هذا الفعل، ولم يُرِدْ به حقيقة خروج الإيمان منه، بدليل أنه لو قتله أحدٌ في تلك الحالة يجب عليه القصاص، ولو كان الإيمان منه خارجًا في وقت الزنا لَمَا وجب على قاتله القصاص، وبدليل أنه لو مات في تلك الحالة صلِّي عليه، ولو خرج منه الإيمان لم يصلَّ

فصل في الوسوسة

عليه كالمرتد، ولم يرثه ورثتُه المسلمون كما لا يرثون من المرتد، فقد ثبت بهذه الأدلة أنه لم يخرج منه أصل الإيمان، بل خرج كمال الإيمان، ولم يفارقه كمالُ الإيمان أيضًا بالكلية بل وقف فوق رأسه حتى يعود إليه بعد فراغه من ذلك الفعل القبيح، وهذا مثل قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ومثله قوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا"، ومثلُ هذا كثير. * * * فصل في الوَسْوَسةِ (فصل في الوسوسة) مِنَ الصَّحَاحِ: 44 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله تَجاوَزَ عنْ أُمَّتي ما وَسوستْ به صُدورُهَا ما لمْ تعمَلْ به أو تتكلَّم". قوله: "تجاوز": أي عفا وغفر "عن أمتي": احترازٌ عن غير أمته عليه السلام من الأمم. وسوس يوسوس وسوسة: إذا خطر وظهر في القلب خاطر قبيح، فما يظهر بالقلب من الخواطر الدنيَّة المذمومة يسمَّى وسوسة، وما كان من الخواطر المَرْضِية الحسنة يسمى إلهامًا. الضمير في "صدورها" راجعٌ إلى (أمتي)، "ما لم تعمل"، (ما) للدوام. يعني: ما جرى في خاطر الإنسان من قصد المعاصي لا يؤاخذه الله تعالى به إن لم يفعله ولم يقله، فإذا فعله أو تلفظ به أُخذ به. اعلم أن الوسوسة ضروريةٌ واختيارية:

فالضرورية: ما يجري في القلب من الخواطر ابتداءً من غير أن يقدر الإنسان على دفعه، فهذا معفوٌّ عن أمة محمد عليه السلام وعن جميع الأمم؛ لأن الله تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، (الوسع): الطاقة والقدرة. والاختيارية: الدوام والإصرار على ما يجري في الخاطر بأن يردِّد ما يجري في القلب من الخواطر، ويقصد أن يعمل به ويتلذَّذ منه، بأن يجري في قلبه حب امرأة ويدوم على ذلك الحب، ويقصد الوصول إلى تلك المرأة، أو يجري في قلبه قتل مَن يحرم قتله، أو يعزم على سرقةٍ أو شربِ خمر، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع اختياريٌّ، لأن الإصرار بما يجري في الخاطر والعزمَ على العمل به باختياره فهذا النوع هو الذي عفا الله عنه من هذه الأمة دون سائر الأمم، تشريفًا وتكريمًا لنبينا عليه السلام وأمته. اعلم أن اعتقاد الكفر والبدعة والشرك وظن السوء في حق المسلمين، فإذا ظهر في قلبه شيء من هذه الأشياء وتركه وندم عليه لم يؤخذ به، وإن أصر على شيء من هذه الأشياء يكون مأخوذًا به. * * * 45 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاءَ ناسٌ منْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسألُوه: إنَّا نجدُ في أنفُسِنَا ما يتعاظَمُ أحدُنَا أنْ يتكلَّمَ بِهِ، قال: "أَوَقَدْ وجدتُمُوهُ؟ "، قالوا: نعم، قال: "ذاكَ صريحُ الإِيمانِ". قوله: "جاء أناس"؛ أي: جماعة فسألوه: "إنا نجد في أنفسنا"؛ أي: إنَّا نجد في قلوبنا أشياء قبيحةً دنية؛ أي: يجري في قلوبنا: من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومِن أيِّ شيء هو؟ وما أشبه ذلك ممَّا نعلم أنه قبيحٌ لا يليق بنا أن نعتقده؛ لأنَّا نعلم أن الله قديم خالق الأشياء، وليس بمخلوقٍ وليس بجوهرٍ ولا عَرَضٍ

حتى يكون من شيء، أو يصفه ويعلم كيفيته أحدٌ، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟ تعاظَمَ زيدًا هذا الأمر؛ أي: عَظُمَ وشقَّ عليه، فـ (زيدًا) مفعول، و (هذا الأمر) فاعلٌ، وتعاظم زيدٌ عَمرًا؛ أي: وجده عظيمًا، وكلا المعنيين ها هنا حسنٌ، وإذا قرأتَ "أحدنا" برفع الدال، يكون (أحدنا) هو الفاعل، و"أن يتكلم به" هو المفعول؛ أي: يجد أحدُنا التكلُّم به عظيمًا؛ أي: ذنبًا عظيمًا، وإذا قرأتَ (أحدَنا) بنصب الدال يكون (أحدنا) مفعولًا، و (أن يتكلم) به فاعل؛ أي: يعظم ويشقُّ التكلُّم به على أحدنا من غاية قبحه ورداءته، هذا جائزٌ من حيث المعنى، ولكن المسموع والمرويَّ: (أحدُنا) برفع الدال. "قال: أوقد وجدتموه؟ ": أي: قال لهم رسول الله عليه السلام: أوقد وجدتم ذلك الخاطر قبيحًا، وعلمتم أنه مذمومٌ وأنه غير مَرْضيٍّ لله تعالى؟ الهمزة في (أوقد) للاستفهام. قوله عليه السلام: "ذلك صريح الإيمان"، (ذلك) إشارةٌ إلى مصدرٍ مقدرٍ، وهو: وجدان قبح ذلك الخاطر، ويحتمل أن يكون المصدر المقدَّر هو التعاظم؛ أي: تعاظُمُكم التكلُّمَ بذلك الخاطرِ من غاية قبحه هو صريحُ الإيمان. (الصريح): الخالص. يعني: مَن جرى في قلبه خاطرٌ قبيحٌ وعلم قبحَه، وترك ذلك الخاطر وأنكره، لا إثم عليه؛ لأن إنكاره ذلك الخاطر وعِلْمَه أنه قبيحٌ لا يكون إلا من إيمانٍ خالص، لأن الكافر يصر على ما في قلبه من تشبيه الله تعالى بالمخلوقات ويعتقدُه حسنًا.

46 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأْتي الشَّيطانُ أحدَكُمْ فيقول: مَنْ خلقَ كذا؟ من خلَق كذا؟ حتى يقول: مَنْ خلَقَ رَبَّك؟ فإذا بلغَهُ فليَسْتَعِذْ بالله، وَلْيَنْتَهِ". قوله: "يأتي الشيطان أحدكم"؛ أي: يوسوس في قلبه، ويقول له: مَن خلق السماء؟ ومَن خلق الأرض؟ ومَن خلق الإنس؟ وعلى هذا يسأله حتى يبلغ إلى أن يقول: من خلق الله، وغرضُه أن يوقع الرجل في الغلط والكفر، لأن الرجل لو فكَّر في كون الله تعالى مخلوقًا، ويعتقده، يكفر به، ولو فكَّر فيه ولم يعتقد كونَه مخلوقًا فلا يكفر، ولكن ربما يحصل في قلبه شكٌّ وتعجُّبٌ في كيفية كونه تعالى غير مخلوق، فيتسلط عليه الشيطان ويوسوس في قلبه إلى أن يوقعه في الكفر، والطريق أن يَسُدَّ الرجل ويغلقَ باب الوسوسة في هذا على وجه قلبه، ويطرد الشيطان بالتعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم. قوله: "فإذا بلغه": الضمير راجع إلى مصدرٍ مقدر، والتقدير: فإذا بلغ، قوله: "من خلق ربك" فليستعذ بالله، "ولينته"، (الانتهاء): ترك الشيء، يعني فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليترك التفكُّر والشروع في هذه الوسوسة، وإن لم يقدر أن يزيل التفكر في هذه الوسوسة بالتعوذ فليَقُمْ عن مجلسه ذلك، وليشتغل بشيءٍ آخر، من تلاوة القرآن والحكايات وغير ذلك. * * * 47 - وقال: "لا يزالُ الناسُ يتَساءَلونَ حتى يُقالَ: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خلَقَ الله؟ فمنْ وجدَ مِنْ ذلكَ شيئًا فليقُلْ: آمنتُ بالله ورُسُلِهِ"، رواهما أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا يزال الناس يتساءلون": التساؤل: جريان السؤال بين اثنين أو

أكثر، يعني: أبدًا يسأل بعض الناس بعضًا، ويجري بينهما السؤال في كلِّ نوعٍ، حتى يبلغ سؤالهم إلى أن يقال. وقوله: "هذا خلق الله الخلق" يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يكون (هذا) مفعولًا، وعطفُ بيانه محذوفٌ وهو: القول، والتقدير: حتى يقال هذا القولَ: (خلق الله الخلق، فمَن خلق الله؟) فـ (هذا) القول مفعولُ (حتى يقال) أُقيم مقام الفاعل، و (خلق الله الخلق) مفعول (هذا القول). والوجه الثاني: أن (هذا) مبتدأ، وما هو عطفُ بيانه محذوفٌ؛ أي: هذا الشيءُ أو هذا القولُ الذي أنه (خَلَق الله الخلق) معلومٌ مشهور، فـ (خلق الله الخلق) خبرُ (أنه)، و (أنه) مع خبره صلة (الذي)، و (الذي) مع صلته صفة (القول)، و (القول) مع صفته عطفُ بيانِ (هذا)، و (هذا) مع عطف بيانه مبتدأٌ وخبره (معلوم أو مشهور)، يعني: حتى يقول الناس: معلومٌ مشهورٌ عندنا أن الله خلق الأشياء، ولكن لا نعلم مَن خلق الله، فيسأل بعضهم بعضًا أن يخبره: "فمن خلق الله". قوله: "فمن وجد من ذلك شيئًا"؛ يعني: فمَن سمع هذا السؤال من أحدٍ فليعلم أن سائل هذا السؤال شيطان، فليدفعه عن نفسه بالزجر والتعوذ، وبأيِّ طريقٍ يقدر عليه، وإن وجد هذا السؤال في قلبه فليعلم أنه وسوسة الشيطان فليخرجْه عن قلبه. قوله: "فليقل آمنت بالله ورسله"؛ يعني: آمنت بما قال الله تعالى ورسله، وصدَّقت الله ورسله بما قالوا، وقد قال الله تعالى في وصف (¬1) نفسه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا ¬

_ (¬1) في "ت": "وصفه".

أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] والنصُّ واردٌ بأن الله تعالى خالق الأشياء غيرُ مخلوقٍ، وهو قديمٌ أبدي ليس له شريكٌ ولا نظير، وغيرُ ذلك من الأوصاف التي تفرَّد بها الله تعالى وأُورد في القرآن والأحاديث، فآمنت بما قال الله تعالى ورسولُهُ، ولم أقل: إن الله خلقه أحدٌ، أو موصوفٌ بصفةٍ من أوصاف المخلوقات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. * * * 48 - وقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ إلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قرينُهُ مِنَ الجِنَّ"، قالوا: وإيَّاكَ يا رسولَ الله! قال: "وإيَّايَ، إلاَّ أنَّ الله أَعَانَنِي عليه فأَسْلَم، فلا يأْمُرُني إلاَّ بخيْرٍ"، رواه ابن مسعود. قوله: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه"، (القرين): الصاحب. "الجن": اسمٌ لمن يستتر ويختفي عن عيون الناس من الجن المعروف والشياطين والملائكة، والمراد بالجن ها هنا الشياطين، وهم أولاد إبليس، ولم يُولد ولدٌ من بني آدم إلا وُلد له ولدٌ يوكله على ذلك المولود من بني آدم، هكذا ذكر في التفسير. وذكر في بعض التفاسير في قوله: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أن أولاد إبليس تخرج من دبره. يعني: كلُّ إنسان يصحبه شيطانٌ يوسوسه ويأمره بالشر، ويشترك في هذا جميع البشر من الأنبياء وغيرهم حتى سيد الرسل محمد عليه السلام. قوله: "أعانني عليه فأسلم": روي (فأسلم) برفع الميم وفتحها، فالرفع على أنه فعلٌ مضارع، والهمزة للمتكلَّم، من سَلِمَ يَسْلَمُ سلامةً: إذا خلص من المكروه، يعني: أعانني الله تعالى فغلبتُ عليه وصار مقهورًا عاجزًا، فسَلِمْتُ من شره.

واختار قومٌ هذه الرواية؛ لأن (أسلمَ) بفتح الميم، يكون ماضيًا من الإسلام، والشيطان لا يقبل الإسلام؛ لأن الشياطين كلها مجبولةٌ على الكفر فلا يقبلون الإسلام. وقولُ هؤلاء ليس بقويٍّ؛ لأن قوله: "فلا يأمرني إلا بخير" يدل على إسلامه؛ لأنه لو لم يُسْلِمْ فكيف يأمره بالخير؟ بل المختار والأصح روايةُ مَن يرويه: (أسلمَ) بفتح الميم، وإذا كان مفتوح الميم فله معنيان: أحدهما: (أَسلَمَ) الذي هو ضد كفر، والثاني (أسلمَ) بمعنى: انقاد وأطاع، وكِلاَ المعنيين مستقيمٌ هنا؛ لأن الله تعالى قادر على أن يرزق هذا الشيطان الإسلام ببركة نبينا عليه السلام، فإنه نبي الرحمة، والهادي من الضلالة. وإن قلنا: معنى (أسلم): انقادَ، فمستقيمٌ أيضًا؛ لأنه لا عجب أن يصير شيطانه منقادًا أو مطيعًا له وعاجزًا عن أن يأمره بشرٍّ، فإن الله تعالى قد أعطاه من المعجزة والكرامة ما لا يُحصى، فيكون هذا كرامةً له، كما أخبر عليه السلام في حديثٍ آخر أنه أخذ (¬1) شيطانًا وأراد أن يربطه على عمود من عُمُد المسجد، ثم ذكَّره دعوة أخيه سليمان عليه السلام فخلاَّه، ويأتي شرحُ هذا الحديث في موضعه إن شاء الله تعالى. * * * 49 - وقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري مِنَ الإِنسانِ مَجْرَى الدَّمِ". "وقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم"، (مجرى): مصدرٌ ميميٌّ أو مكانٌ، من جرى يجري جريانًا، يعني: إن كيد الشيطان ووساوسه ¬

_ (¬1) في "ش": "أمسك".

تجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم، يعني في جميع عروقه وظواهره وبواطنه، هذا إذا كان معنى (مجرى الدم): مكانَ الدم، وأما إذا كان معناه المصدر، فيكون معناه: إن كيد الشيطان ووساوسه تجري في الإنسان جريانًا مثل جريان الدم فيه، يعني: كما يجري الدم في أعضاء الإنسان وليس له إحساسٌ بجريانه، فكذلك يجري وسواس الشيطان في أعضاء الإنسان، وليس له إحساسٌ وعلمٌ بذلك، وجريانُ الشيطان في الإنسان شيءٌ (¬1) أعطاه الله تعالى الشيطان لشيئين: أحدهما: لجزائه على الطاعات التي كان عَمِلَها، فأعطاه أجر عمله في الدنيا بتحصيل مطلوبه، وهو وسوسة الإنسان. والثاني: لإظهار رحمته وقدرته ومغفرته وغضبه بإدخال الشيطان ومَن يتبعه النار وإدخالِ مَن خالفه الجنة، وإظهارِ رحمته بأن يعفو ويغفر لمَن تبع الشيطان ثم تاب واستغفر الله روت هذا الحديث أمُّ المؤمنين صفيةُ رضي الله عنها. * * * 50 - وقال: "ما مِنْ بني آدَمَ [مِنْ] مَوْلُودٍ إلاَّ يَمسُّهُ الشيطانُ حين يولد، فيَستهلُّ صارخًا من مسَّ الشيطانِ، غيرَ مريمَ وابنها"، رواه أبو هريرة. قوله: "ما من بني آدم مولود" تقديره: ما مولود من بني آدم "يمسه الشيطان"؛ أي: يوسوسُه، ويوقعُ في صدره الغفلةَ وحبَّ الأشياء، وغيرَ ذلك مما يكون من اتِّباع الشيطان، ويريد أن يجعله مطيعًا منقادًا لنفسه، فيجد الطفل من تلك الوسوسة شيئًا لم يأنس به، ولم يكن معتادًا له قبل ذلك، فيتأذى منه ¬

_ (¬1) في "ش": "شيء عظيم".

كما يتأذى الإنسان من الضرب وغيره، فيصيح ويرفع صوته بالبكاء، وليس معنى المسِّ هنا مسَّ البشرة بالضرب، ومسَّ اليد وغير ذلك؛ لأن الشيطان لا يمسُّ بشرة الكبير بالضرب وغيره، بل ليس له سبيل إلى الإنسان سوى الوسوسة، فكذلك الصغير. "استهل": إذا بكى الصبي، "صارخًا" نصبٌ على الحال؛ أي: في حال كونه صارخًا؛ أي: رافعًا صوته، وصرخ - بفتح العين في الماضي وضمِّها في الغابر - صراخًا: إذا رفع صوته. قوله: "غير مريم وابنها": يعني يمسُّ الشيطان كلَّ مولودِ وقتَ ولادته من الأنبياء وغيرهم، إلا مريم وعيسى عليهما السلام، فإن الله تعالى حفظهما من مسِّ الشيطان؛ لقبول دعاء حَنَّةَ أمِّ مريم حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] (¬1)، ولبيانِ كذب ما قالت اليهود في حق مريم من نسبتها إلى الزنا، لأن الله تعالى لمَّا حفظها من مسِّ الشيطان وقتَ الولادة - مع أنه لم يَخلص منه أحدٌ - فكيف لم يحفظها من الزنا؟ فإن قيل: ينبغي من هذا أن يكون عيسى أفضل من نبينا عليهما السلام - لأنه لم يمسَّه الشيطان حين ولد، وقد مسَّ نبيَّنا عليه السلام حين ولد - بمفهوم الحديث؛ لأنه لم يستثن من بني آدم غير مريم وابنها. قلنا: تفرُّدُ عيسى بهذه الفضيلة لا يدل على كونه أفضل من نبينا عليه السلام؛ لأن لنبينا فضائلَ ومعجزاتٍ كثيرةً لم تكن لعيسى ولا لغيره من الأنبياء، فلا يلزم أن يكون في الفاضل جميعَ خصال المفضول، بل يجوز أن يكون في ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ق" ما نصه: "قوله: لقبول دعاء حنة أم مريم، فيه أن دعاء حنة لمريم كان بعد ولادتها، وتمكُّنُ الشيطان من مسِّها كان قبل الولادة، فبقي الإشكال على حاله".

المفضول شيءٌ لم يكن في الفاضل، ألا ترى أنه كان لعيسى عليه السلام معجزةَ إحياء الموتى وخَلْقِ هيئة الطير من الطين، وينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ولم يكن ذلك لنبيٍّ غيره، وكان لموسى عليه السلام العصاة واليدُ البيضاء، وفَلْقُ البحر، وغيرُ ذلك من المعجزات، وكذلك كلُّ نبيًّ اختص بصفةٍ أو معجزة، وهذا لا يدلُّ على التفضيل، بل لا يجوز التفضيل بين الأنبياء عليهم السلام إلا بإذن الشرع، وقد اجتمعت الأمة على فضل نبينا عليه السلام على غيره؛ للآيات والمعجزات الدالة على كونه أفضل من غيره. * * * 51 - وقال: "صِياحُ المولودِ حينَ يقَعُ نَزْغةٌ مِنَ الشَّيطانِ"، رواه أبو هريرة. قوله: "صياح المولود"، (الصياح): الصيحة، وهي التصويت ورفع الصوت. "يقع"؛ أي: يسقط وينفصل من أمه، و (يقع) أصله: يَوْقَعُ، فحذفت الواو. "نزغة"؛ أي: وسوسة. ومعنى هذا الحديث كمعنى الحديث الذي قبله. * * * 52 - وقال: "إنَّ إبْلِيْسَ يضَعُ عرْشَهُ على الماءَ، ثم يبعثُ سَراياهُ يفتِنُونَ النَّاسَ، فأَدناهُمْ منه منزلةً أعظمُهُمْ فِتْنةً، يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شيئًا، قال: ثم يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: ما تركتُهُ حتى فرَّقْتُ بينَهُ وبينَ امرأَتِهِ، فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنتَ؟ "، قال الأعمشُ:

أُراهُ قال: "فيلتزِمُهُ". قوله: "يضع عرشه على الماء"، (العرش): سرير الملك. "السرايا": جمع سرية، وهي الجيش. "يفتنون الناس"؛ أي: يُضلُّون الناسَ ويأمرونهم بالمعاصي. "فأدناهم": أي: أقربهم "منه"؛ أي: من إبليس "منزلةً"؛ أي: قربةً ودرجةً وعزةً، وهو منصوبٌ على التمييز. يعني: يضع إبليس سريره على وجه ماء البحر، ويبعث الشياطين ويأمرهم بإضلال الناس وحَمْلِهم على المعاصي، فمَن كان منهم أشدَّ إضلالًا للناس فهو عند إبليس أعز وأكرم، ووضعُ العرش على الماء إشارة إلى العظمة والقدرة على الماء؛ يعني: يشير إلى أن لي القدرة على البحر والبر، فيذهب كل شيطان إلى أمرٍ من المعاصي، فيأمر أحدهم الناس بشرب الخمر، ويأمر أحدهم الناس بالسرقة، والآخر بالزنا، والآخر يُوقِع الخصومة والعداوة بين الزوج والزوجة حتى يطلِّقها، وكذلك جميع المعاصي. "فيجيء" إليه أحدهم ويقول: أمرتُ الناس بشرب الخمر، فيقول له: ما فعلت شيئًا، يعني: أريد ذنبًا عظيمًا، وكذلك يجيء كلُّ واحد ويقول: أنا أمرت الناس بكذا وكذا من المعاصي، فيقول: ليس لهذا عندي قَدْرٌ، حتى يجيء أحدهم فيقول: أوقعت بين الزوج والزوجة الفتنةَ والخصومة والعداوة حتى طلَّقها. "فيدنيه"؛ أي: يقرِّبه إبليس إلى نفسه "ويقول: نعم أنت" وما قصَّرتَ في أمري. "قال الأعمش" وهو من أصحاب الحديث "أراه"؛ أي: أظن أن رسول الله عليه السلام قال: "فيلتزمه" ذلك الشيطان؛ أي: يعانقه ويعزِّزه من غاية حبه

التفريق بين الزوج والزوجة، وإنما يحبُّ التفريق بينهما لأن النكاح شيءٌ عقده الشرع، فيحب هو حَلَّ ما عقده الشرع وإزالتَه؛ لمخالفة الشرع، ولحبه الزنا وحصول أولاد الزنا. * * * 53 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ من أنْ يعبُدَهُ المُصلُّونَ في جزيرةِ العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينهُم"، رواهما جابرٌ - رضي الله عنه -. قوله: "المصلون"؛ أي: المسلمون. "الجزيرة": اسم كلِّ أرضٍ حولها الماء، وهي فَعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: أرض جزر عنها الماء؛ أي: ذهب ونقص حتى بقيت يابسةً بلا ماء، وسِّميت جزيرة العرب بهذا الاسم لأنها أرضٌ أكثر جوانبها البحر، وأضيفت إلى العرب لأنها مسكن العرب. وقال أبو عبيدة: جزيرة العرب هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل تَبْرِين إلى منقطع السَّماوة، والسماوةُ اسمُ باديةِ في طريق الشام. وقيل: ما وقع في جوانبه بحر نحو البصرة والدجلة والفرات وعُمان وعدن، وبحر الشام، والنيل، والعراق وبحرين، وجانب آخر منها متصلٌ بالبرية التي فيها الرمال بحيث لا تكون فيها عمارةٌ ولا يسكنها أحد. قوله: "في التحريش بينهم"، (التحريش): الإغراء بين الناس أو الكلاب، يعني أَيِسَ إبليس من أن يرتدَّ أهل جزيرة العرب بعد الإسلام إلى الكفر، وليس له سبيل إلى ردهم إلى الكفر؛ لأن الإسلام قد ثبت في قلوبهم، ولكنْ أبدًا يوقع الفتنة والعداوة بينهم، ويأمرهم بالخصومة وقتل بعضهم بعضًا.

فإن قيل: قد ارتد جماعةٌ من جزيرة العرب إلى الكفر، فكيف يكون وجه استقامة هذا الحديث؟. قلنا: لم يقل رسول الله عليه السلام إنهم لم يرتدوا إلى الكفر، بل قد أيس الشيطان أن يرتد أهل جزيرة العرب إلى الكفر، فيجوز أن ييأس إبليس عن ارتدادهم، ويرتد بعضهم بعد ذلك؛ لأن إبليس لا يعلم ما يحدث في المستقبل، ويحتمل أن يريد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث حكمَ أكثر؛ لأن مَن ارتد منهم قليلٌ، والحكم للكثير، ويحتمل أن يريد بالمصلين: الدائمين على الصلاة عن اعتقادٍ صادقٍ ونيةٍ خالصة، ومَن ارتد من أهل جزيرة العرب لم يكن بهذه الصفة. فإن قيل: لمَ خَصَّ رسول الله عليه السلام جزيرة العرب بأنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون، مع أن المسلمين الثابتين على الإسلام المخلصين في الطاعات كثيرةٌ في سائر البلاد؟ قلنا: لأن الإسلام لم يصل في زمن رسول الله عليه السلام إلى بلدٍ آخر غيرِ جزيرة العرب. و"جابر" اسم أبيه: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي. * * * من الحِسَان: 54 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءَهُ رجلٌ فقال: إنَّي أُحَدِّثُ نفْسي بالشيء، لأَنْ أكون حُمَمَةً أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتكلَّمَ بِهِ، قال: "الحمدُ لله الذي رَدَّ أمرَهُ إلى الوَسْوَسة". قوله: "أحدِّثُ نفسي"، (أحدث): فعلٌ فاعلُه فيه مضمرٌ؛ أي: أنا،

و (نفسي) مفعوله. "الحممة" بضم الحاء: الفحم، يعني يجري في قلبي من الأشياء لأَن احترقت وصرت فحمًا أحبُّ إليَّ من أن أتلفظ بما يجري في قلبي من الوسواس، من غاية قبحه، وهذا مِثْلُ ما تقدم من الأحاديث، نحو قوله: مَن خلق الله؟ ونحو وسوسة الشيطان في القلب بأن يطلب الرجلُ معرفةَ كيفية الله، وأنه محتاجٌ إلى المكان أو الطعام، وغير ذلك، فهذا الوسواس من فعل الشيطان، فكان هذا الرجل يجري في خاطره شيءٌ من هذا الوسواس من فعل الشيطان، فخاف أن يكون له بذلك إثم، فقال له رسول الله عليه السلام: "الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"، الضمير في (أمره) راجعٌ إلى الشيطان، يعني: كان الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا أو عبادةِ الأوثان، وأما الآن لا يقدر أن يأمر المسلمين بالكفر، فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة، ولا باس بالوسوسة إذا علم الرجل أنه قبيح، ويندم عليه ويتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم. * * * 55 - وقال: "إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن آدمَ، وللملَك لَمَّةً، فأمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإِيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ، فمنْ وجدَ ذلك فلْيَعْلَمْ أنَّه مِنَ الله، فليحمَدِ الله، ومَنْ وجدَ الأُخرى فليتعوذْ بالله من الشَّيطان"، ثم قرأ: " {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "، غريب. قوله: "إن للشيطان لمة"، (اللمة): نزولُ الوسوسة في القلب، وهي من (ألمَّ): إذا نزل. "إن للشيطان لمة بابن آدم"؛ أي: نزولًا في قلبه ووسوسةً. "وللملك لمة"؛ أي: وإن للملك نزولًا في قلب بني آدم أيضًا وإلهامًا.

قوله: "فأما لمة الشيطان فإيعادٌ بالشر وتكذيب بالحق"، (فإيعاد) في كلا الموضعين بهمزةٍ مكسورة بعدها ياءٌ منقوطةٌ تحتها بنقطتين، وهو مصدرُ (أوعد): إذا وَعَدَ أحدًا وَعْدَ شرٍّ، ووَعَد وَعْدًا وعِدَةً: إذا وَعَد وَعْدَ خيرٍ. وفي أصل اللغة: الوعد يستعمل في الخير والشر، إلا أن المستعمل في الوعد في الخير، وفي الإيعاد في الشر، والوعيد أيضًا يستعمل في وَعْد الشر. يعني: نزولُ الشيطان في القلب لا يكون إلا ليأمر الرجلَ بالشر، مثل الكفر واعتقاد السوء والفسق، وليامر الرجلَ أن يكذَّب ما هو حقٌّ، ككتب الله تعالى ورسله عليهم السلام، وأحوالِ القبر والحشر، وأحوال القيامة. "وأما لمة الملك": تكون على عكس ذلك؛ لأن الملك يأمر الرجل بما هو خيرٌ كفعل الصلاة والصوم وأداء الزكاة والصدقات، وغيرِ ذلك من الخيرات، ويأمره بأن يصدق كتب الله ورسله وأحوال القبر والقيامة. قوله: "فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله تعالى"؛ يعني: فمَن وجد في نفسه لمةَ الملك، فليعلم أن ذلك فضلٌ من الله عليه، فليحمد الله تعالى على هذه النعمة، فإن لله عليه رحمةً وفضلًا، وإرادة الخير بأن أرسل عليه ملكًا يأمره بالخير ويهديه إلى الحق. قوله: "ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله تعالى"؛ يعني: فمَن وجد في نفسه لمَّةَ الشيطان، فليتعوذ من وسوسة الشيطان، وليخالفه فيما يأمره من فعل السوء. قوله: "ثم قرأ"؛ أي: قرأ رسول الله عليه السلام هذه الآية استشهادًا لِمَا قال: " {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} "؛ يعني: الشيطانُ يقول لكم: لا تنفقوا أموالكم في الزكاة والصدقات، فإنكم تصيرون فقراء، " {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "؛ أي: بالبخل وسائر المعاصي " {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} "؛ يعني: والله

يقول لكم: أنفقوا أموالكم أُعطكم أضعافَ ما تنفقون في الدنيا، وأُعطكم بالآخرة كلَّ حسنةٍ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ، " {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} "؛ أي: كثير الفضل والرحمة عليكم في الدنيا والآخرة " {عَلِيمٌ} ": بما تنفقون وتعملون من الخير، فلا يُضيع أعمالكم. واعلم أن في بعض النسخ "فاتِّعاد بالشر" بالتاء، وكذلك "فاتِّعاد بالخير" وهو افتعالٌ من (وَعَد)، والاتِّعاد يُستعمل في الشر، يقال: اتَّعد القوم؛ أي: وعد بعضهم بعضًا شرًا، والتواعُدُ يستعمل في الخير، يقال: تَواعَدَ القوم: إذا وعد بعضُهم بعضًا خيرًا، (اتَّعد) أيضًا إذا قبل الوعد. فمَن قرأ: (فإتِّعاد بالشر) في هذا الحديث: أو (فاتِّعاد بالخير)، فقد قرأ: شيئًا لم يكن مرويًا، ولم يكن له معنًى في هذا الموضع؛ لأن (اتَّعد) يكون من اثنين فصاعدًا، لا يقال: اتَّعد زيدٌ عَمْرًا، بل يقال: اتَّعد القومُ، أو: اتَّعد الرجلان؛ أي: وعد بعضهم بعضًا شرًا، وهنا ليس بين اثنين، بل إنما يكَون وعد الشيطان الرجلَ، وليس وعدُ الرجلِ الشيطان، وكذلك وعدُ الملكِ الرجلَ، وليس وعدُ الرجل الملك. فقد ثبت بما قلنا أنه يتعيَّن هنا: (فإيعاد بالشر) بالياء المنقوطة من تحتها بنقطتين، وكذلك: (فإيعاد بالخير). فإن قيل: قد قلتم: إن الإيعاد لا يكون إلا بالشر، فينبغي أن لا يكون في لمة الملك إيعادٌ لأن الإيعاد هنا ليس بشر. قلنا: الإيعاد إذا لم يكن بعده تفسيره يكون بالشر، أما إذا كان بعده تفسيره وهو قوله: (فإيعاد بالخير)، فلا بأس بلفظ الإيعاد، بل الفصاحةُ أن يتلفظ بالإيعاد لازدواج الكلام، فقد تقدم بحثه في الحديث الرابع من هذا. * * * 56 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزال الناسُ

يتَساءَلون حتَّى يُقال: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: {اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثمَّ ليَتفُلَ عنْ يسارِهِ ثلاثًا، وليستَعِذْ بالله من الشَّيطان". قوله: "فقولوا: {اللَّهُ أَحَدٌ} "؛ يعني: قولوا عند هذه الوسوسةِ: الله تعالى ليس مخلوقًا بل هو أحدٌ، و (الأحد) هو الذي لا ثاني له ولا مِثْلَ له في الذات والصفة، والله تعالى لا ثاني له ولا مثلَ له لا في الذات ولا في الصفات. وسبب نزول هذه السورة في قول قتادة ومقاتلٍ والضحاك أن أناسًا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: صِفْ لنا ربك فأخبرنا من أي شيء هو، ومن أي جنس: أمِن ذهبٍ هو أم من نحاسٍ أم من فضة؟ وما يأكل وما يشرب؟ فأنزل الله هذه السورة؛ يعني: قل لهم يا محمد: الله تعالى ليس بجوهرٍ ولا جسمٍ ولا عَرَضٍ، ليس له مكانٌ، ولا حاجةَ له، إلى شيءٍ ولا إلى أحدٍ، بل يحتاج إليه المخلوقاتُ، ولم يلد أحدًا ولم يولد من أحدٍ، ولم يكن له مثلٌ وشبهٌ. قوله عليه السلام: "ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا"، (التفل): إسقاطُ البزاق من الفم، يعني: ليُلْقِ البزاق من فمه ثلاثَ مرات، وإلقاءُ البزاق عبارةٌ عن كراهية الرجل الشيء وتقذُّرُه ونفورُ طبعه عنه، كمن وجد جيفةً منتنةً كره ريحها وتفل من نتنها، يعني: ليتفل هذا الرجلُ ثلاثَ مراتٍ ليعلم الشيطانُ أنه كره هذه الوسوسة، ووجده قبيحًا؛ ليفرَّ الشيطان منه، ويعلمَ أنه ليس بمطيعٍ له. "وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم"؛ أي: ليطلب المعاونة من الله الكريم على دفع الشيطان الرجيم. * * *

57 - عن عَمْرو بن الأَحْوَص - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في حَجَّة الودَاع: "ألا لا يجني جانٍ على نفسِهِ، ألا لا يجني جانٍ على ولدهِ، ولا مَولودٌ على والِدهِ، ألا إنَّ الشيطانَ قَدْ أيسَ أنْ يُعبَدَ في بلادِكُمْ هذِهِ أبدًا، ولكنْ ستكونُ له طاعةٌ فيما تحتَقِرُونَ مِنْ أعمالكُمْ، فسيرضى بهِ". قوله: "سمعت رسول الله عليه السلام في حجة الوداع" سُمِّي الحج الذي قال فيه رسول الله عليه السلام هذا الحديث بحجة الوداع لأن رسول الله عليه السلام لمَّا خطب الناس في هذه الحجة طفق يودِّع الناس، ويقول للناس: "لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا"، فقالت الصحابة حينئذ: هذه حجة الوداع. قوله: "ألا لا يجني جان على نفسه"، ألا؛ أي: اعلم، يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، والواحدُ والتثنية والجمع. (لا يجني) لفظه النفي، ومعناه النهي؛ يعني: لا يجوز أن يجني أحدٌ على نفسه بأن يقتل نفسَه، أو يقطع عضوَ نفسه، ويحتمل أن يكون معناه: أنه لا يقتلْ أحدٌ أحدًا ليُقتل بالقصاص، فيكون حينئذ كمَن قتل نفسَه. وجاء في بعض الروايات: "ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه"، فمعناه على هذه الرواية أنه لا يؤخَذ ولا يُقتل أحدٌ بفعل أحدٍ. قوله: "ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولودٌ على والده"؛ يعني: كان عادةُ العرب إذا قتل أحدٌ أحدًا يقتلون مَن وجدوا مِن أقارب القاتل، فقال رسول الله عليه السلام: لا يجوز هذا، بل لا يُقتل والدٌ بأن يَقتل ولده أحدًا، ولا يقتل الولدُ أيضًا بأن يقتل والدُه أحدًا، وإنما ذكر الوالد والمولود ولم يذكر سائر الأقارب؛ لأنه إذا لم يقتل الوالد بجناية الولد على أحد، ولا الولدُ بجناية الوالد على أحد، مع شدة اتحادهما، فأنْ لا يقتل غيرهما بجناية واحدة على أحد - مع

أنه ليس بينهما هذا الاتحاد - أَوْلَى. قوله: (لا يجني جان على ولده) معناه: لا يؤخذ ولا يقتل ولده بفعله؛ لأنه لو قتل ولده بفعله فكأنه لم يَقتل ولدَه إلا هو. ويحتمل أن يريد بقوله: (لا يجني جان على ولده، ولا مولودٌ على والده) أنه لا يجوز للوالد أن يقتل أو يجرح ولده، ولا للولد أن يقتل أو يجرح والده ولا يجوز لأحد أن يقول: لي الحكم في ولدي فيجوز لي أن أفعل به ما أشاء، بل هذا الظن خطأٌ؛ لأن الإنسان عباد الله تعالى، فمَن قتل أو جرح أو آذى أحدًا فقد عصى الله تعالى؛ لأنه تصرَّف في ملكه بغير إذنه، ألا ترى: أن مَن قتل مسلمًا بغير حق، فإن كان القتل عمدًا وجب عليه القصاص، وإن كان خطأً وجبت عليه الدية لحق المقتول، ووجبت عليه الكفارة بتحرير رقبة لحق الله تعالى؛ لأنه أزال الروح ممن يعبد الله تعالى، فأمر الله تعالى بتحرير رقبةٍ مؤمنة ليقوم مقام المقتول في عبادة الله تعالى. ويجيء بحثُ الاقتصاص من الولد بقتل الوالد، وعدم القصاص بقتل الوالد الولد، ووجوب الدية، في (كتاب القصاص). قوله: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد" مضى شرحه في الحديث الذي قبل حسان هذا الفصل. قوله: "ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به"؛ يعني: لا تطيعونه في الكفر، ولكن تطيعونه في الصغائر من الذنوب، فسيرضى بها الشيطان، ويوسوسكم فيها، ويأمركمُ بها ولا يأمركم بالكفر؛ لأنه يعلم أنكم لا تطيعونه في الكفر. وأراد بقوله: (فيما تحتقرون)؛ أي: فيما لا تطيعون ولا تعظِّمون قَدْرَه من الذنوب. فإن قيل: قوله: (فيما تحتقرون) يدل على الصغائر، ونحن نعلم أن

3 - باب الإيمان بالقدر

الكبائر قد صدرت من بعض الصحابة، مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة، فإذا حصل منهم الصغائر والكبائر فلِمَ اختصَّ الصغائر بالذكر، ولم يقل: مطلق الذنوب حتى، يدخل فيه الصغائر والكبائر؟. قلنا: صدور الكبائر من الصحابة نادر، وإن كان ممكنًا وواقعًا، فإذا كان صدور الكبائر من الصحابة وغيرهم من المؤمنين قليلًا بالإضافة إلى الصغائر فتسمية الصغائر التي هي أكثر أولى وأليقُ، خصوصًا برسول الله عليه السلام فإنه لا ينسب أحدًا إلى كبيرة. واسم جد "عمرو بن الأحوص": جعفر بن كلاب الجُشَمي الكلابي. * * * 3 - باب الإِيمان بالقَدَرِ (باب الإيمان بالقدر) مِنَ الصَّحَاحِ: 58 - عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كتَبَ الله مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السَّماواتِ والأَرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنَةٍ، قال: وكان عرشُهُ على الماءِ". قوله: "مقادير الخلائق"، (المقادير): جمع مقدار، والمقدار: الشيء الذي يعرف به قَدْرُ شيء كالميزان، وهو الآلة التي يعرف بها وزن الشيء، وكذا المكيال: الآلة التي يعرف بها قَدْرُ ما يكال، ويُستعمل المقدار بمعنى القدر. اعلم أن جميع ما كان وما يكون من الكليات والجزئيات حاصل في علم الله تعالى، وهو يعلمه بعلمه القديم الأزلي الأبدي لا يزيد شيء في علمه

ولا ينقص منه شيء، لأن الزيادة والنقصان من صفات المخلوقات، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، فإذا علمت أنه تعالى يعلم الأشياءَ علمًا قديمًا فاعلَمْ أنه تعالى أَمرَ بكتابة ما كانَ وما هو كائنٌ إلى الأبد في اللوح المحفوظ "قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، ثم يُخلَق كلُّ شيءٍ ويُوجَد في الوقت الذي قَدَّر أن يُخلَق ذلك الشيءُ فيه من الجواهر والأعراض والأجسام والأفعال والأقوال. قوله: "قال: وكان عرشه على الماء"؛ أي: قال الراوي: قال رسول الله عليه السلام: وكان عرشُ الله تعالى على وجه الماء في ذلك الوقت؛ يعني: كان العرشُ قبلَ أن يخلقَ السماواتِ والأرضَ فوقَ الماء، والماءُ على متن الريح. * * * 59 - وقال: "كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتى العجْزُ والكَيْسُ"، رواه عبد الله بن عَمْرو. قوله: "حتى العجز والكَيس"، (الكَيْس والكَيَاسة): كمال العقل، وشدة معرفة الرجل الأمور، وتمييز ما فيه النفع مما فيه الضر، و (العجز) ضده؛ يعني: مَن كان عاجزًا أو ضعيفًا في الجثة أو الرأي والتمييز أو ناقص الخلقة لا تعيبوه؛ فإن ذلك بتقديرِ الله تعالى وخلقِه تعالى إياه على هذه الصفة، ومَن كان كاملَ العقل بصيرًا بالأمور تامَّ الجثة، وهو أيضًا بتقديرِ الله وخلقِه تعالى إياه على هذه الصفة، وليس ذلك بقوته وقدرته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ويجوز: (حتى الكَيسِ والعجزِ) بالجر، و (حتى العجزُ والكَيسُ) بالرفع؛ فالجر على أن (حتى) بمعنى (إلى) التي لانتهاء الغاية؛ أي: حصول جميع الأشياء بقَدَر الله تعالى حتى ينتهي إلى العجزِ والكَيسِ، والرفع على أن (حتى) بمعنى الواو العاطفة؛ أي: كل شيء بقَدَر، والعجزُ والكَيسُ كذلك، ويجوز أن تكون (حتى) ها هنا هي التي

يُبتدأ بعدها الكلام، فيكون (العجزُ) مبتدأ و (الكَيس) معطوفًا عليه، وخبرهما محذوف؛ أي: حتى العجزُ والكَيسُ كائنان مقدَّران بقَدَر الله. * * * 60 - وقال: "احتجَّ آدمُ وموسى عند ربِّهِمَا، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدمُ الذي خلقكَ الله بيَدِهِ، ونفخَ فيكَ مِنْ روحِهِ، وأسجدَ لكَ ملائكتَهُ، وأسكنَكَ في جنَّتِهِ، ثمَّ أَهبَطْتَ النَّاسَ بخطيئَتِكَ إلى الأرضِ؟ فقال آدمُ: أنتَ موسى الذي اصطفاكَ الله برسالَتِهِ وبكلامِهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبْيَانُ كُلِّ شيءٍ، وقرَّبَكَ نَجيًّا فَبِكَمْ وجدتَ الله كتبَ التوراةَ قبلَ أنْ أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدمُ: فهلْ وجدْتَ فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: نعم، قال: أَفَتلُومُني على أنْ عَمِلْتُ عمَلًا كتبَهُ الله علَيَّ أَنْ أَعملهُ قبلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟ "، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فحجَّ أدمُ مُوسَى"، رواه أبو هريرة. قوله: "احتج": إذا أجرى الخصومة والمناظرة بين الاثنين، وأصله: أن يطلب كل واحد منهما الحُجَّةَ من صاحبه على ما فعل، (الحُجَّة): البرهان. "عند ربهما"؛ أي: في سماء ربِّهما؛ لأن ذلك كان في السماء عند ملتقى الأرواح، وكان هذه الملاقاة والمكالمة من آدم وموسى عليهما السلام كملاقاة ومكالمة نبينا محمد سيد الأنبياء - عليه السلام - ليلةَ المعراج. قوله: "فحجَّ آدمُ موسى عليهما السلام": (حجَّ) بمعنى: غَلَبَ في الحُجة على الخصم، بمعنى: غَلَبَ آدمُ عليه السلام على موسى في المناظرة. قوله: "خلقَك الله بيده"؛ أي: خلقَك الله بقدرته من غير أن يأمر به أحدًا، ومن غير واسطة أب وأم.

قوله: "ونفخ فيك من روحه"؛ أي: نفخَ فيك روحًا صرتَ به حيًّا، أضاف (الروح) إلى نفسه في قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] تخصيصًا وتشريفًا؛ أي: من الروح الذي هو مخلوقي، ولا عملَ ولا يدَ لأحدٍ فيه، وقيل: الروح ها هنا بمعنى: الوحي والرسالة. قوله: "وأَسجَدَ لك ملائكتَه": (أسجَدَ): إذا أمر بالسجود؛ يعني: أَمرَ الله تعالى ملائكتَه بأن تَسجدَ لك تعظيمًا لك. واختُلف في كيفية سجود الملائكة لآدم عليه السلام؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان ذلك انحناءً، ولم يكن الخُرورَ على الذقن، وقال ابن مسعود: أُمروا أن يأتمُّوا بآدمَ فسجدَ وسجدوا لله تعالى، وقال أُبي بن كعب: خضعوا له وأَقرُّوا له بالفضل. قوله: "ثم أَهبطتَ الناس بخطيئتك إلى الأرضِ": (أَهبَطَ): إذا سَقطَ وأُنزلَ. "بخطيئتك"؛ أي: بعصيانك الله تعالى في أكل الشجرة؛ يعني: أَنعَمَ الله عليك هذه النِّعَمَ ثم عصيتهَ حتى أُخرجتَ بسبب ذَنْبك من الجنة، وبقي أولادُك في الدنيا في المشقة من الفقر والمرض، وغير ذلك من أنواع البلايا. قوله: "وأعطاك الألواحَ فيها تِبيانُ كلَّ شيءٍ"، والتِّبيان والبيان والتبيين: الإظهار؛ يعني: أعطاك الله التوراةَ فيها بيانُ كلِّ شيءٍ من الحرام والحلال والقصص والمواعظ وغير ذلك. قوله: "وقرَّبَك نَجِيًّا"، (نجيًا): نُصب على الحال، والنَّجِيُّ والمُناجِي: مَن يجري بينك وبينه كلامٌ في السِّرِّ؛ يعني: وكلَّمَك الله تعالى من غير واسطة مَلَك. قوله: "فبكَمْ وجدتَ الله تعالى كتبَ التوراةَ": مميز (كم) محذوف، وهو

منصوب لأن مميز (كم) الاستفهامية منصوب، وتقديره: فبكم زمانًا وجدتَ الله أَمرَ بكتابة التوراة قبل أن يَخلقَني. قوله: "فهل وجدتَ فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} "؛ يعني: قال آدمُ عليه السلام لموسى: هل وجدتَ في التوراة مكتوبًا أن آدمَ يعصي ربَّه بأكل الشجرة؟ قال موسى: نعم، فإن قيل: القرآنُ عربيٌّ والتوراةُ عِبرانيٌّ، فكيف يكون فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قلنا: ليس المراد بهذا أن ألفاظَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} بهذا التركيب مكتوبٌ في التوراة، بل المراد بهذا: أن هذا المعنى بذلك اللسان مكتوبٌ في التوراة. قوله: "قال: أفتَلُومُني"؛ يعني: قال آدم لموسى عليه السلام: أفتَلُومُني على أن عملتُ عملًا قدَّرَه الله تعالى عليَّ أن أعملهَ؛ يعني: فلا ينبغي لك أن تَلُومَني على هذا الفعل لعِلَلٍ يأتي ذكرها في المسألة التي بعد هذا. قوله عليه السلام: "فحجَّ آدم"؛ أي: غَلَبَ آدمُ على موسى - عليهما السلام - في الحُجة. واعلم أن حكمَ رسولِ الله - عليه السلام - بأن آدمَ - عليه السلام - غلبَ على موسى - عليه السلام - في الحُجة ليس بسبب أن آدمَ لم يكن مستحقًا اللَّومَ بهذه الخطيئة، بل كان مستحقًا اللَّومَ؛ لأنا لو قلنا: لم يكن مستحقًا اللَّومَ على تلك الخطيئة لم يكن غيرُ آدمَ - عليه السلام - أيضًا مُستوجِبًا اللَّومَ على الخطيئة، وحينَئذٍ تبطل أحكامُ الشرع وتُرفَع فائدةُ مجيءِ الرُّسلِ على الخلق وإنزالِ الكتب بين جميع المكلَّفين من الأنبياء، وغيرُهم مُستوجِبُون اللَّومَ على الخطيئة، وإنما كان حجَّ آدمُ موسى لعِلَلٍ: أحدها: أن لومَ موسى آدمَ بعد أن عفا الله تعالى عن آدمَ خطيئتَه، واللَّومُ فيه غيرُ متوجِّه.

الثانية: أن لومَ موسى آدمَ - عليه السلام - كان بعد زوال التكليف، وذلك أن هذه المحاجَّةَ كانت في السماء بعد أن خَرجتْ روحُ كلِّ واحدٍ منهما من جسده في الأرض ثم صعد السماءَ، وفي هذه الحالة لم يبقَ تكليفٌ على أحدٍ حتى يُلامَ أحدٌ. الثالثة: أنه ليس لموسى لومُ آدمَ عليهما السلام؛ لأنه لم يكن مأمورًا بلَومِ آدمَ - عليه السلام - مِن قِبَلِ الله تعالى، وهذا الحديث يتعلق بالقَدَر، ويأتي بحث مسألة القدر بعد هذا. * * * 61 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجمعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعينَ يومًا نطفةً، ثمَّ يكونُ علَقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضْغةً مثْلَ ذلك، ثمَّ يَبعثُ الله إليهِ ملَكًا بأربعِ كلماتٍ، فيكتُبُ عملَهُ، وأجلَهُ، ورزْقَهُ، وشَقيٌّ أو سعيد، ثم يُنفخُ فيهِ الرُّوحُ، وإنَّ الرجلُ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ حتى ما يكونُ بينهُ وبينها إلَّا ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّة، فيدخل الجنة، وإنَّ الرجلَ ليعمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتى ما يكونُ بينهُ وبينها إلاَّ ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ، فيدخُلُ النارَ"، رواه ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -. قوله: "إن خلقَ أحدِكم"؛ أي: إن صورةَ أحدِكم، أو جسمَ أحدِكم "يُجمَع في بطن أمِّه أربعين يومًا نُطفةً"، (النُّطفة): المَنِي، قال عبد الله بن مسعود: إن النُّطفةَ إذا وقعت في الرَّحِم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارتْ في بشرة المرأة تحت كل ظفرة وشعرة، ثم يمكث أربعين ليلةً، ثم ينزل دمًا في الرَّحِم، فذلك جمعُها. قوله: "ثم يكون علقةً مثل ذلك"، (العَلَقة): الدم الغليظ الجامد؛ يعني: ثم يكون خَلْقُ أحدِكم بعد النطفة عَلَقةً أربعين يومًا، ولفظة (ذلك) إشارة إلى

محذوف؛ أي: مثل ذلك الزمان، وذلك الزمان هو أربعون يومًا. قوله: "ثم يكون مُضغةً مثل ذلك"، (المُضغة): قطعة من اللحم؛ يعني: يصير بعد العَلَقة لحمًا أربعين يومًا، ويظهر في آخر هذه الأربعين فيه العَظمُ، وصورتُه وأعضاؤُه وذُكورتُه وأُنوثتُه. قوله: "ثم يبعث الله مَلَكًا بأربع كلمات"، فيكتبها بعد أن كانت تلك الكلماتُ مكتوبةَ في اللوح، قال مجاهد: يكتبُ هذه الكلماتِ في ورقةٍ، وتُعلَّق تلك الورقةُ بعنقه بحيث لا يراه الناس؛ إحدى الكلمات: عملُه؛ يعني: يُكتب أنه يعمل الخير والشر، يعملُ يومَ كذا يعمل كذا، والكلمة الثانية: أجله؛ يعني: يُكتب أنه كم يعيش في الدنيا، والثالثة: رزقُه؛ يعني: يُكتب أنه قليلُ الرزق أو كثيرُ الرزق، وأنه يحصل له يوم كذا كذا من الرزق، والرابعة: شقاوتُه إن كان شقيًا، وسعادتُه إن كان سعيدًا، ثم بعد ذلك يُنفَخ فيه الروح. اعلم أن الله تعالى يُحول جسم الإنسان في بطن أمه حالةً بعد حالةٍ، مع أنه قادرٌ على أن يخلقَه في لحظةٍ واحدةٍ؛ وذلك لِمَا في تحويل صورة الإنسان في البطن من الفوائد والعِبَر. أحدها: أنه لو خلق الإنسانَ في بطن أمه في دفعةٍ واحدةٍ يشقُّ ذلك على الأم وتخاف؛ لأنها لم تكن معتادةً بذلك، فلا تعلم أن ما ظهر في بطنها ولدٌ أو عِلَّةٌ، فاقتضت حكمة الله تعالى أن يجعلَه أولًا نطفةً مدةً لتعتادَ أمُّه بذلك، ثم ينقلب عَلَقةً مدةً لتعتادَ أيضًا بالعَلَقة مدةً، وكذلك تعتاد وتأنسَ بما في بطنها ساعةً فساعةً إلى وقت الولادة. والفائدة الثانية: إظهارُ نعمتهِ وقدرتهِ لكم لتعلموا أنه قادرٌ على كل شيء من جعل النطفةِ علقةً، والعلقةِ مُضغةً، وغير ذلك من الأحوال؛ لتشكروا نعمتَه عليكم بأن خلقَكم من نطفةٍ ثم جعلكم عَلَقةً ثم مُضغةً، ثم إنسانًا حسنَ

الصورةِ، مزَّينًا بالعقلِ والفِطنةِ. والفائدة الثالثة: إظهارُ قدرتهِ على البعث؛ لأن مَن قَدَرَ على خلق الإنسان من ماءٍ، ونفخَ الروحَ فيه؛ يَقدِرُ على خلقهِ بعد صيرورته في القبر ترابًا، ونفخِ الروحِ فيه، وحشرِه في القيامة للحساب والجزاء. قوله: "فإن الرجلَ لَيعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنةَ"، و (ما) في قوله: (حتى ما يكون) للنفي، ويكون نصبًا بـ (حتى)، ولا يمنع (حتى) من العمل؛ يعني: قدَّر الله تعالى في الأزل ما يكون، ثم أَمر بأن يُكتب في اللوح ذلك، ثم أَمر المَلَك ليكتب في جبهة كل واحد ما قَدَّرَ له، وإذا كان كذلك لا يكون عاقبةُ الرجل ولا أجلُه إلا على ما قُدِّرَ له في الأزل، فإذا قُدَّرَ في الأزل لأحدٍ أنه من أهل الجنة تكون عاقبتُه الجنةَ، وإن كان مشغولًا بعمل أهل النار في مدة من عمره، بل يقلبه الله تعالى من أعمال أهل النار إلى أعمال أهل الجنة حتى يموتَ على عمل أهل الجنة؛ فيدخل الجنةَ. قوله: "حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع": هذا مَثَلٌ لمقاربته دخولَ النار من كثرة المعاصي والكفر، وكذلك إذا قُدِّرَ لأحدٍ أن يكونَ من أهل النار تكون عاقبتهُ وموتهُ على عمل أهل النار؛ فيدخل النارَ، وإن كان مشغولًا بعمل أهل الجنة في مدة من عمره. * * * 62 - وقال: "إنَّ العَبْدَ ليعمَلُ عمَلَ أهلِ النارِ وانَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ويعملُ عملَ أهلِ الجَنَّةِ وإنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّما الأعمالُ بالخَواتيم"، رواه سَهْل بن سَعْد الساعدي.

قوله عليه السلام: "إن العبدَ لَيعملُ عملَ أهل النار ... " إلى آخره؛ يعني: رُبَّ شخصٍ يعمل عملَ أهل النار من الكفر والمعاصي، وفي تقدير الله أنه من أهل الجنة، فيصرفه الله تعالى في آخر عمره من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة، فيموت على الإيمان والطاعة؛ فيدخل الجنةَ، ورُبَّ شخصِ يعمل بعمل أهل الجنة من الإسلام والطاعة، وفي تقدير الله تعالى أنه من أهل النار، فينصرف ويتحوَّل في آخر عمره من الإيمان والطاعة إلى الكفر والمعصية؛ فيدخل النارَ. قوله: "وإنما الأعمال بالخواتيم"؛ أي: إنما الأعمالُ متعلقةٌ ومقيَّدةٌ في السعادة والشقاوة بآخر العمل (¬1)، فإن ماتَ على الإيمان والطاعة عُلِمَ أن أعماله الصالحةَ كانت مفيدةً له، فكانت سببَ نجاته من النار، وإن ماتَ - نعوذ بالله - على الكفر والمعاصي تبيَّن أن أعماله الصالحةَ صارت ضائعةً غيرَ مفيدةٍ له، ولهذا لا يجوز لأحدٍ أن يَشهد بكون أحدٍ من أهل الجنة أو من أهل النار إلا مَن جاء النصُّ بأنه من أهل الجنة، ولكن مَن رأيناه مشتغلًا بالأعمال الصالحة نرجو له السعادةَ من غير أن نَقطعَ، ومَن رأيناه مشتغلًا بالأعمال القبيحة نَخافُ عليه الشقاوةَ من غير أن نَقطعَ. واعلم أن جميعَ ما يجري في العالم من الإيمان والكفر، والطاعة والعصيان، والخير والشر، والسعادة والشقاوة، وغير ذلك من الكليات والجزئيات بتقدير الله تعالى وقضائه، ولا يندفع منه شيء. وفي هذه المسألة ثلاثُ مذاهبَ: أحدها: مذهب أهل الجَبْر، والجَبْر: القهر، وهؤلاء يقولون: إن الإنسانَ ليس له اختيارٌ في فعله، بل يجري عليه فعلهُ بتقدير الله تعالى أراد أو أَبَى، وهو ¬

_ (¬1) في "ش": "العمر".

كالشجر إذا حرَّكتْه الريحُ وكاليد المُرتعِشة؛ فإن الشجرَ واليدَ المُرتعِشةَ لا اختيارَ لهما في تحرُّكهما، وهذا المذهب على خطأ عظيمٍ؛ لأنه إذا لم يكن للإنسان اختيارٌ فلا يكون مكلَّفًا كالمجنون، وإذا لم يكن الإنسان مكلَّفًا فيكون بعثهُ الأنبياءَ - عليهم السلام - وإنزالُ الكتبِ عبثًا، ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد. والمذهب الثاني: مذهب المعتزلة والقدرية، وهؤلاء يقولون: إن الإنسانَ خالقٌ لفعلِه قادرٌ على فعل ما يريد، من غير أن يكونَ شيءٌ من أفعاله مخلوقًا لله تعالى، وهذا المذهب أيضًا على خطأ عظيمٍ؛ لأنه إذا اعتَقدَ أن الإنسانَ خالقٌ لأفعاله فقد جَعَلَ الإنسانَ شريكًا لله تعالى في كونه خالقا. وفسادُ هذَين المذهبَين ظاهرٌ، فلا نُضيع زمانَنا بالاشتغال بإقامة الأدلة على فساد هذَين المذهبَين. وأما المذهب الثالث: فهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة - كثَّرَهم الله تعالى -، وهؤلاء يقولون: إن الخلقَ والقدرةَ من صفات الله تعالى، فلا يجوز أن يكون للعباد، والعبوديةُ صفةُ العباد، وما هو صفةٌ للعباد لا يجوز أن يكونَ لله تعالى؛ يعني: جميعُ أفعال العباد من الخير والشر مخلوقةٌ لله تعالى ومكتسبةٌ للعباد، يخلق الله تعالى أفعالَهم كلَّ فعلٍ في وقتٍ مقدَّرٍ، وللعباد اختيارٌ في فعلهم، واختيارُهم في الفعل بمشيئة الله تعالى، وهم مكلَّفون ومُثابون ومُعاقَبُون بأفعالهم؛ لأن صدورَ الفعل منهم باختيارهم. فإن قيل: إذا كان للعباد اختيار في أفعالهم واختيارهم بمشيئة الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]؛ فلو لم يشأ الله للعبد اختيارَ الخير فكيف يفعل الخير؟ وكذلك لو لم يشأ الله للعبد اختيارَ الشر فكيف يفعل الشر؟ قلنا: حاصل هذا: أن القَدَرَ سرُّ الله تعالى، لا يطَّلع عليه نبيٌّ مُرسَلٌ

ولا مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولو أَدخلَ الله تعالى جميعَ الصالحين النارَ - مع كثرة صلاحهم - لم يكن منه ظلمٌ؛ لأن الظلمَ التصرُّف في مُلك الغير بغير إذنه، وجميعُ المخلوقات ملكُه تعالى، فكيف يكون التصرُّفُ فيهم ظلمًا؟! فإذا كان كذلك فلو شاء لأحدٍ فعلَ الخير يكون منه ذلك فضلًا، ولو شاء لأحدٍ فعلَ الشر بكون ذلك منه عدلًا، ولا اعتراضَ لأحدٍ عليه؛ لأنه مالكٌ ونحن مملوكون، واعتراضُ المملوك على المالك قبيحٌ مُوجِبٌ للتعذيب، قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]؛ يعني: لا يجوز لأحدٍ أن يسألَ الله عما يفعل بعباده، وهو تعالى يسأل عبادَه عما يفعلون، ويُعاقبهم بعصيانهم إياه إن شاء. وقد جاء النهي عن الخوض في مسألة القَدَر وطلب معرفة كيفيته؛ لأن البحثَ في القدر اعتراضٌ على الله تعالى، والاعتراضُ على الله مُوجِبٌ للعقوبة، ونحن عَبيدٌ مأمورون بالسمع والطاعة وقَبول أوامر الشرع من غير السؤال عن (كيفَ) و (لِمَ)؛ يعني: كيف أَمر بهذا الأمر؟ ولِمَ أَمر بهذا الأمر؟ ولمَّا نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]؛ يعني: ما خَطَرَ في قلوبكم من الخير والشر يحاسبكم به الله، سواءٌ أظهرتُمُوه أو كتَمْتُمُوه = اشتد ذلك على المؤمنين، وقالوا: يا رسول الله! كيف نُطيق دفعَ ما يجري في قلوبنا؟ وكيف نفعل بذلك؟ فقال رسول الله عليه السلام: "فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سَمِعْنا وعَصَيْنا؟! " قالوا: سمعنا وأطعنا، واشتد ذلك عليهم، ومكثوا حَولًا، فأنزل الله تعالى فَرَجًا بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، فلمَّا علَّمهم رسولُ الله - عليه السلام - أن يُسلِّموا الأمرَ لله، فأسلَمُوا سَهَّلَ الله عليهم الأمرَ؛ فلا طريقَ لخلاصِ العبدِ إلا التسليمُ بقَدَرِ الله وحكمِه، والامتثالُ بأوامره من غير اعتراضٍ عليه، والله أعلم.

وكنية "سهل بن سعد": أبو العباس، واسم جدَّه: مالك بن خالد بن ثعلبة الساعدي. * * * 63 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: دُعِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جَنازةِ صبيٍّ من الأَنْصارِ، فقلتُ: طُوبى لهذا! عُصفورٌ من عصافيرِ الجنَّةِ، لمْ يعمَل سُوءًا، قال: "أَوْ غيرُ ذلك يا عائشةُ! إن الله خلقَ الجنَّةَ وخلقَ النَّار، فخلقَ لهذه أهلًا، ولهذه أهلًا، خلقَهم لهما وهم في أَصلابِ آبائِهم". قوله "طُوبى لهذا" وزنه: فُعلَى، من طابَ يَطِيب؛ أي: الراحةُ وطِيبُ العيشِ حاصلٌ لهذا الصبي. وقولها: "عصفورٌ من عصافير الجنة"، (العصفور): الطير المعروف، سمَّتْه عصفور لعلَّتَين: أحدهما: كونه صغيرًا، كما أن العصفورَ صغيرٌ بالنسبة إلى ما هو أكبرُ منه من الطير (¬1). والعلة الثانية: كونه خاليًا من الذنوب من عدم كونه مكلَّفًا، كما أن العصفورَ ليس له ذنبٌ لكونه غيرَ مكلَّف. وقولها: (عصفور) تقديره: هو عصفور؛ أي: هو بمنزلة العصفور في كونه خاليًا من الذنوب. قولها: "لم يعمل سوءًا"؛ أي: لم يعمل ذَنْبًا، وإنْ عَمِلَ الصبيُّ ذنبًا لم يُكتَب عليه قبل البلوغ، هذا إذا كان الذنبُ من حقوق الله تعالى، أما إذا كان ¬

_ (¬1) في "ش": "الطيور".

إتلافَ مالِ أحدٍ يُؤخَذ به الغُرم، وإنْ قَتَلَ أحدًا لم يُقتصَّ منه، ولكن يُؤخَذ منه الديةُ، وإنْ سَرَقَ مالًا يُؤخَذ منه المال ولم تُقطَع يدُه؛ لأن قطعَ يدِ السارق من حقوق الله تعالى. قوله لها: "أو غير ذلك": بسكون الواو؛ يعني: قال رسول الله عليه السلام: يا عائشة! بأيَّ شيءٍ علمتِ أن هذا الصبيَّ من أهل الجنة؟ فلعله لم يكن كذلك، حكمُ الله تعالى ما قلتِ أو غيرُ ذلك. قوله عليه السلام: "إن الله تعالى خلقَ الجنةَ"؛ يعني: خلقَ الجنةَ والنارَ، وخلقَ لكلَّ واحدٍ منهما أهلًا، فبأيِّ شيءٍ علمتِ يا عائشةُ أن هذا الصبيَّ من أهل الجنة؟ قوله: "خلقَهم لهما"؛ أي: للجنة أو (¬1) للنار "وهم في أصلاب آبائهم"، (الأصلاب) جمع: صُلب، وهو وسط الظَّهر؛ يعني: قَدَّرَ لهم السعادةَ والشقاوةَ في الأزل، ثم كُتِبَ في اللوح، ثم أَخرجَ الذُّرَّيَّةَ من صُلبِ آدمَ عليه السلام، وحكم لبعضهم بالجنة ولبعضهم بالنار، ثم أَمر مَلَكَ الأرحام ليكتبَ السعادةَ والشقاوةَ على جبهة الولد في الرحم قبلَ أن ينفخَ فيه الرُّوح، فيحتمل أن يشير بقوله: (وهم في أصلاب آبائهم) إلى استخراج الله تعالى الذُّرِّيَّةَ من ظهر آدم عليه السلام، ويحتمل أن يشيرَ إلى صُلب أبِ كلَّ مولودٍ، والتقدير: قد جرى في الأزل. وأشار رسول الله - عليه السلام - إلى وقت كون النُّطَفِ في أصلاب الآباء للتفهيم، ولأن هذا الأوانَ أقربُ إلى الناس. ¬

_ (¬1) في "ت": "و".

فإن قيل: أطفال المسلمين من أهل الجنة، فلِمَ قال رسولُ الله لعائشة: (أو غير ذلك)؟ قلنا: أولادُ المسلمين أتباعٌ لآبائهم، فكما أنا نقول: المؤمنون من أهل الجنة، ولا يجوز لنا أن نشيَر إلى واحدٍ بعينه ونقول: هذا من أهل الجنة؛ إلا من جاء النصُّ بكونه من أهل الجنة، فكذلك يجوز لنا أن نقول: أطفال المؤمنين من أهل الجنة، ولا يجوز لنا أن نشير إلى طفل معين أنه من أهل الجنة، فنَهَى رسولُ الله - عليه السلام - عائشةَ رضي الله عنها لأجل أنها أشارت إلى طفل معين. * * * 64 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحدٍ إلاَّ وقد كُتِبَ مَقْعدُهُ مِنَ النارِ ومَقْعدُهُ منَ الجنَّةِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أفلا نتَّكِلُ على كتابنا وندعُ العملَ؟ فقال: "اعملوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له، أَمَّا مَن كان من أهلِ السعادة فسَيُيسَّر لعمَل السَّعادة، وأمَّا مَن كان من أهل الشَّقاوة فسيُيسَّر لعملِ الشَّقاوةِ"، ثمَّ قرأَ: " {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيةَ"، رواه علي بن أبي طالب. قوله: "إلا وقد كُتِبَ مقعدهُ من النار ومقعدهُ من الجنة": الواو هنا بمعنى (أو)؛ أي: مقعدهُ من النار أو مقعدهُ من الجنة. وقد ورد هذا الحديث بلفظ: (أو) في بعض الروايات، وفي "شرح السُّنة" ليس إلا بلفظ (أو)؛ يعني: ما من أحدٍ إلا وقُدِّر له أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. قوله: "أفلا نتَّكلُ على كِتَابنا ونَدَعُ العملَ؟ "، اتَّكل يتَّكل: إذا اعتمد على شيء، (على كتابنا)؛ أي؛ على ما كُتِبَ في الأزل، وَدَعَ يَدَعُ: إذا ترك؛ يعني: إذا سبقَ القضاءُ لكل واحد منهما بالجنة أو بالنار فأيُّ فائدة في العمل الصالح؟

فإن العملَ الصالحَ لا يُغير قضاءَ الله تعالى، وكذا العمل القبيح. قوله عليه السلام: "اعملوا؛ فكلُّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ": فالتنوين في (كلٌّ) يدل على المضاف إليه؛ أي: فكلُّ واحدٍ يجري عليه من الأفعال ما قُدِّرَ له من الخير والشر، كما أن الأرزاقَ تأتي عليهم بَقْدرِ ما قُدِّرَ لهم؛ يعني: أنتم عَبيدٌ، ولا بد لكم من العبودية، فلا تتركوا العبودية؛ فإن الله تعالى إذا رزقَكم الإسلامَ يرزقكم العملَ الصالحَ ويُيسِّره عليكم. قوله: "فسيُيَسَّر"، السين: للاستقبال، (ويُيَسَّر): مضارع مجهول، من التيسير. الشقاء والشقاوة: كلاهما بفتح الشين، والشَّقوة - بكسر الشين - كلها مصادر، ومعناها واحد، وهو ضد السعادة. قوله: " {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى آخر الآية"؛ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: نَزلت هذه الآيةُ في أبي بكر الصدَّيق - رضي الله عنه -، وأمية بن خلف وأُبي بن خلف حين عذَّبَا بلالًا على إسلامه، فاشتراه منهما أبو بكر الصدَّيق - رضي الله عنه - ببُردٍ وعشرِ أواقٍ من ذهبٍ، فأعتقَه، و (الأواقي) جمع: أُوقية، وهي أربعون درهمًا. قوله: " {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} "؛ أي: أعطى الزكاةَ، والصدقاتِ, " {وَاتَّقَى} "؛ أي: اجتَنبَ الشركَ. " {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} "؛ أي: بكلمة الشهادة، وقيل: بالجنة: وقيل: بالثواب؛ يعني: أَيقَنَ أن الله تعالى سيعطيه ثوابَ عتقِ بلال، وما يعطي من الزكاة والصدقات. " {فَسَنُيَسِّرُهُ} "؛ أي: فسوف نُسهِّل عليه " {لِلْيُسْرَى} "؛ أي: للعمل الصالح، وسوف نُوفَّقه للخيرات؛ يعني به: أبا بكر " {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} " بالزكاة والصدقات والإعتاق ودخول الناس في الإسلام، " {وَاسْتَغْنَى} "؛ أي: علمَ نفسَه مستغنيًا عن

الله تعالى، حيث لم يَرغب في رحمة بالاشتغال بالخيرات، " {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} "؛ أي: كذَّب بكلمةِ الشهادةِ والنبيِّ والجنةِ والحسابِ " {فَسَنُيَسِّرُهُ} "؛ أي: فسوف نجري عليه " {لِلْعُسْرَى} "؛ أي: للكفر والشرك، ومراد النبي - عليه السلام - من إيراد هذه الآية في هذا الحديث: قولُ الله تعالى لأبي بكر: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، ولأُبي بن خلف وأخيه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. فإن قيل: إذا أراد بقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أُبي بن خلف وأخاه لِمَ لَمْ يقل: بَخِلَا؟ قلنا: وحَّد الضمير في (بخل) وما بعده للفظة (مَن)؛ لأن (مَن) لفظٌ يجوز إجراؤُه على الواحد والتثنية والجمع، ولفظه واحد. روى هذا الحديثَ عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. * * * 65 - وقال: "إنَّ الله - تعالى - كتبَ على ابن آدمَ حظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا محالةَ، فزِنا العين النَّظر، وزِنا اللِّسان المَنْطقُ، والنَّفسُ تتمنَّى وتشتَهي، والفَرْج يُصدِّقُ ذلك أو يُكَذِّبُه". وفي روايةٍ: "الأُذُنَانِ زِناهُما الاستماعُ، واليدُ زِناها البَطْشُ، والرِّجلُ زِناها الخُطا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "كتبَ على ابن آدم"، هذا يحتمل أمَرين: أحدهما: أن يكون معنى (كتب)؛ أي: أَثبتَ فيه الشهوةَ، وركَّب فيه الميلَ إلى النساء، وخلق فيه الأعضاءَ التي تجد لذةَ الزِّنا، كالعين والأذن وغير ذلك. والأمر الثاني: أن يكون معناه: قَدَّرَ في الأزل أن يجريَ على ابن آدم الزِّنا،

فإذا قَدَّرَ عليه في الأزل "أدركَ ذلك لا محالة"؛ يعني: يصل إليه ما قُدِّرَ له. واعلم أن هذا الحكم ليس لجميع بني آدم؛ فإن مِن الناس مَن هو معصومٌ من الزِّنا ومقدمات الزِّنا، كالأنبياء عليهم السلام، وقد يكون غيرُ الأنبياء مَن لم يجرِ عليه الزِّنا أصلًا، فإذا كان كذلك فالمراد بقوله: (على ابن آدم): بعضهم؛ يعني: لم يكن جميعُ بني آدم معصومين من الزِّنا، بل يجري على بعضهم ذلك. قوله: "فزِنا العين النظرُ"؛ يعني: مَن نَظَرَ إلى امرأةٍ أجنبيةٍ بالشهوة كُتِبَ عليه ذلك النظرُ بالزنا، فإن وقع نظرُه على امرأةٍ بغيرِ قصدٍ منه وحفظَ بصرَه بعد ذلك، ولم ينظر إليها مرةً أخرى لم يكن عليه إثمٌ بذلك النظر؛ لأنه لم يكن باختياره، وإن أدامَ النظرَ إليها يَأثَمُ، وكذلك إنْ سمعَ ذِكرَ امرأةٍ بغير اختياره وفرَّ منه ولم يستمع بعد ذلك لم يَأثَمْ، وإن تعمَّد الاستماعَ والإصغاءَ إلى ذلك الكلام يَأثَمُ، وكذلك إن تكلَّم بذِكرِ امرأةٍ أجنبيةٍ أو أخذَها بيده أو مشَى إليها يكون كلُّ ذلك زِنا. قوله: "والنفسُ تتمنَّى وتشتهي"؛ يعني: زنا النفسِ الميلُ والاشتهاءُ إلى ما رأتْه العينُ وتكلَّم به اللسانُ. قوله: "والفَرْجُ يصدِّق ذلك أو يكذِّبه": ذلك إشارةٌ إلى ما تشتهيه النفس ورأتْه العَين وتكلَّم به اللسان؛ يعني: إن رآها بالعين؛ واشتهتْها النفس، وتكلَّم بذكرها اللسان؛ وعمل بها فعلًا بالفَرْج؛ فقد صار الفَرْجُ مُصدِّقًا لتلك الأعضاء، وصار الزِّنا الصغيرُ كبيرًا، وإن لم يعمل شيئًا بالفَرْج فقد كذَّب الفرجُ تلك الأعضاءَ، ولم يَعُدِ الزِّنا الصغيرُ كبيرًا، بل هو صغيرٌ، ويرتفع بالاستغفار والوضوء والصلاة. "البطش": الأخذ. "الخُطَى" جمع: خطوة، وهي ما بين القَدَمَين. قوله: "والرِّجل زناها الخُطَى"؛ أي: المشي إلى ما فيه الزِّنا. * * *

66 - وعن عِمْران بن حُصَيْن: أنَّ رجلَيْنِ من مُزَيْنَةَ قالا: يا رسول الله! أرأيتَ ما يعملُ الناسُ، ويكْدَحُونَ فيهِ، أشيءٌ قُضيَ عليهم ومضَى فيهِم مِنْ قَدَرٍ سبَقَ، أمْ فيما يستقبلُونَ؟ فقال: "لا، بل شيءٌ قُضيَ عليهم، وتصديقُ ذلكَ في كتابِ الله - عز وجل -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ". قوله: "أن رجلَين من مُزَينة": اسم قبيلة. "أرأيت": الهمزة للاستفهام، ومعناه: هل رأيتَ؟ وقيل: معناه: أَخبِرنْا "ما يعمل الناس"؛ أي: ما يعمله الناس من الخير والشر، "ويَكدَحون فيه"، (كَدَحَ) إذا سَعَى في أمرٍ، و (يكدحون)؛ أي: يَسعَون ويكسبونه، والضميرُ راجعٌ إلى ما يسعى الناس فيه من الأفعال والأقوال؛ يعني: أَخبِرْنا يا رسولَ الله أن ما يعمله الناس من الخير والشر أشيءٌ قُضِي عليهم في الأزل ويجري عليهم كل فعل في وقت معلوم، أو شيءٌ لم يُقضَ عليهم في الأزل بل يجري عليهم كل فعل في وقت فعله؟ قوله: "أم فيما يستقبلون"؛ يعني: أم يجري عليهم كل فعل في الوقت الذي يستقبله الرجل ويتوجه إليه، ويقصده من غير أن يجريَ عليه تقديرٌ قبل ذلك؟ "وتصديق ذلك"؛ أي: وتصديق ما قلتُ من أن "قُضِي عليهم" في الأزل. قوله: " {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} ": الواو للعطف على {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، والواو في {وَالشَّمْسِ} للقَسَم، وإذا أَقسَمَ الله تعالى بمخلوقِ يريد تشريفَ ذلك الشيء، وتعريفَ عظم قَدْرِ ذلك الشيء، وإظهارَ قدرته تعالى على ذلك. {وَنَفْسٍ}: قيل: المراد بها نفس آدم عليه السلام؛ لأنه الأصلُ وبنوه فرعُه، وقيل: المراد به: نفسُ بنيه.

{وَمَا سَوَّاهَا}؛ أي: ومَن خلقَها؛ يعني به ذاته تعالى، {سَوَّاهَا}؛ أي: خلقَها على أحسن صورة، وزيَّنها بالعقل والتمييز. " {فَأَلْهَمَهَا} "؛ أي: فأعلَمَها وركَّب فيها " {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} "؛ أي: المعصيةَ والطاعةَ، وقيل: الشقاوةَ والسعادةَ، ووجه استدلال النبي - عليه السلام - بهذه الآية: أنه تعالى ذكر {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بلفظ الماضي، فيدلُّ هذا على أن التقديرَ جرى في الأزل. وكنية "عمران بن الحصين": أبو نُجَيد، واسم جدِّه: عبيد بن الخلف الخُزَاعي. * * * 67 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرةَ! جَفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ، فاختَصِ على ذلكَ أو ذَرْ". قوله: "جَفَّ القلمُ"، جَفَّ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - جُفُوفًا وجَفَافًا: إذا يبسَ، وجفوف القلم: عبارةٌ عن الفراغ من الكتابة؛ لأن الكاتبَ ما دام يكتبُ يكون قلمُه رطبًا بالمِدَاد، وإذا ترك الكتابةَ يجفُّ قلمُه، وهنا المراد بقوله: (جف القلم): أن ما كان وما يكون قُدِّرَ وقُضِيَ في الأزل. قوله: "بما أنتَ لاقٍ"؛ أي: (جفَّ القلمُ) بعد كتابته (ما أنتَ لاقٍ)؛ أي: ما أنتَ تفعلُه وتقولُه ويجري عليك، (لاقٍ): اسم فاعل، من: (لَقِيَ) إذا رأى ووصل إلى الشيء. قوله: "فاختَصِ": هذا اللفظ جاء في جميع الروايات على لفظ: (فاختَصِ) بصاد مكسورة من غير راء بعدها، وهو أمر مخاطب؛ أي: مِن اختَصَى: إذا جعل نفسه خَصِيًّا، وهو أن يقطع خصيتَهَ وذكره أو خصيتهَ دون ذَكَرِه.

وفي بعض نسخ "المصابيح": "فاختَصِرْ" بالراء بعد الصاد، ولعل هذا سهوٌ من النسَّاخين. وسببُ صدورِ هذا الحديث من رسول الله عليه السلام: ما رواه الزُّهري، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة قال: أتيتُ رسولَ الله عليه السلام فقلت: يا رسولَ الله! إني رجلٌ شابٌّ، وإني أخافُ العَنَتَ، ولستُ أجدُ طَولًا أتزوجُ به النساءَ، فَأْذَنْ لي أن أختصيَ، قال: فقال رسول الله عليه السلام: "يا أبا هريرة! جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ؛ فاختصِ على ذلك أو دَعْ"، (العَنَت): الزنا. قوله: "فاختَصِ على ذلك أو ذَرْ"، وفي رواية: "أو دَعْ"، ومعناهما: اتركْ؛ يعني: إذا علمتَ أن جميعَ الكائنات مقدَّرةٌ في الأزل، ولا تكون بخلاف ما قُدِّرَ فلا فائدةَ في الاختصاء؛ فإنه لو قُضِي عليك العَنَتُ لا تَقدِرُ على دفعه بالاختصاء، فإذا لم يكن الاختصاءُ دافعًا عنك ما قُدِّرَ لك فلا فائدةَ فيه، فإن شئتَ فاختصِ، وإن شئتَ فاتركِ الاختصاءَ. (فاختص): ليس ذلك إذنًا منه - عليه السلام - لأبي هريرة في الاختصاء؛ بل قال ذلك على وجه اللوم والتوبيخ على قطع عضو عن نفسه من غير فائدة، وهذأ كقوله تعالى: " {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "؛ يُسمَّى هذا الأمرُ: تهديدًا ووعيدًا. * * * 68 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ قُلوبَ بني آدمَ كلَّهَا بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ، كقلْبٍ واحدٍ يُصرِّفُه كيفَ يشاءُ"، ثمّ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبنا على طاعَتِكَ"، رواهُ عبد الله بن عمرو. قوله: "بين إصبعَين من أصابع الرحمن": اعلم أن ما جاء من صفات الله تعالى مما يشبه صفات المخلوقات في الظاهر كالأصبع واليد وغير ذلك اختلف

العلماء في تأويلها؛ فبعضُهم لا يُجوَّز تأويلَها أصلًا، بل يَكِلُ إلى الله تعالى علمَها؛ كيلا يقعَ في التشبيه، وبعضُهم يؤوِّلها على وجهٍ يكون فيه تعظيمُ الله تعالى ولا يكون التشبيهُ لمخلوقٍ، وبعضُهم يسكت لا يُؤوِّلها، ولكن لا يُنكر [على] مَن أوَّلها على وجهٍ لا يكون فيه تشبيه بمخلوقٍ، ويقول بعضهم: هذه الصفات قسمان: أحدهما: يَسُوغُ فيه المجاز، يَعْنُونَ بالمجاز: ما يكون مَثَلًا في الناس في سرعة الأمر، كقلبِ شيءٍ باليد أو الأصبع؛ فإن هذا عبارةٌ عن سرعة الأمر وكمال القدرة، يقال: فلان يقلب أمورَ المُلك بأصبعٍ أو بأصبعَين؛ أي: هو قادرٌ على ذلك، وذلك يسيرٌ عنده، فما كان من هذا القِسم يجوز أن يُؤوَّلَ في حق الله تعالى؛ لأنه لا تشبيهَ فيه للخالق بالمخلوق بما يكون فيه نقصٌ للخالق. والقسم الثاني: ما لا يَسُوغُ فيه المجاز، كالنفس والمجيء، نحو قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] {وَجَاءَ رَبُّكَ} وما أشبه ذلك؛ فإن هذا وأشباهَه يتعذَّر تأويلُه على وجهٍ ظاهرٍ لا يشبه المخلوقَ إلا بعد تكلُّفٍ وتعسُّفٍ في التأويل، فما كان من هذا القِسم لا يجوز تأويلُه؛ بل نؤمن بكونه حقًا، ونَكِلُ تأويلَه إلى الله تعالى، وهو قول الطائفة الأخيرة، وهو المختار عند أكثر المتأخرين والمتقدمين. فإذا عرفتَ هذه القاعدةَ فاعلم أن المرادَ بقوله: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن): أن تقليبَ القلوبِ في قدرته يسيرٌ, وهو قادرٌ على أن يُقلِّبَ القلوبَ من حالٍ إلى حالٍ من الإيمان والكفر، والطاعة والعصيان، والغلظ واللِّين، وغير ذلك. قوله: "كقلبٍ واحدٍ"؛ يعني: كما أن أحدَكم يَقدِرُ على شيءٍ واحدٍ، هو الله تعالى يقدر على جميع الأشياء في دفعةٍ واحدةٍ، ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.

قوله: "يُصرِّفه كيف يشاء"، الضمير في (يصرفه) راجع إلى (كقلبٍ واحدٍ). قوله: "اللهم" كان أصله: يا الله! فحُذفت (يا) من أوله وأُدخلت ميمٌ مشدودةٌ في آخره عوضًا عن المحذوف. "مُصرِّف القلوب" بنصب الفاء: صفة (اللهم) عند المبرد والأخفش، وهو منادى بـ (يا) عند سيبويه، وقد حُذف منه حرف النداء، وهو منصوب في كلا القولَين، و (اللهم): منادى مفرد، وصفة المنادى المفرد إذا كانت مضافةً تُنصَبُ، وإذا كانت مفردةً يجوز فيها الرفعُ والنصبُ، نحو: (يا زيدُ الظريف) برفع الفاء ونصبها، وإنما قال رسول الله عليه السلام: (اللهم مُصرِّفَ القلوب) لتعليم الأمَّة التعوُّذَ بالله تعالى في جميع أحوالهم، من تحوُّلِ النعمة إلى النقمة، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى العصيان؛ يعني: اطلبوا من الله تعالى التوفيقَ للإيمان والطاعة، والثباتَ والدوامَ على الخيرات، ولا تَأمَنُوا من مكر الله تعالى؛ أي: من عذابه وغضبه. * * * 69 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مَولودٍ إلاَّ يُولَدُ على الفِطرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أو يُنصِّرانِهِ أو يُمَجَّسانِه، كما تُنْتَجُ البَهيمَةُ بَهيمةً جَمْعاءَ, هل تُحِسُّونَ فيها مِنْ جَدْعاءَ حتَّى تكونُوا أنتمْ تَجدعونَها؟ "، ثم يقول: " {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ". قوله: "يُولَد على الفِطرة"، (الفِطرة): ذُكر في معناها أقوالٌ من القَدَرية والجَبْرية وغيرهما، ونحن نذكر ما هو المختار عند أهل السُّنة: وهو استعدادُ قَبولِ الإيمان الذي خلقه الله تعالى في الإنسان من العقل، والتمييزُ بين الحق والباطل والخير والشر بواسطة الشريعة.

(هَوَّدَ يُهوِّد تهويدًا): إذا جَعَلَ أحدًا يهوديًّا وعلَّمَه اليهودية، نَصَّرَ يُنصِّرُ تنصيرًا: إذا جَعَلَ أحدًا نصرانيًّا، ومَجَّسَ يُمجِّسُ تمجيسًا: إذا جعل أحدًا مجوسيًّا. يعني: خَلَقَ الله تعالى في كل مولودٍ استعدادَ قَبول الإسلام، وأهمية الطاعة والخير، ثم أبَوَاه أَمَرَاه وعلَّمَاه اليهوديةَ إن كانا يهوديَّين، والنصرانيةَ والمجوسيةَ إن كانا نصرانيَّين ومجوسيَّين، وغير ذلك من الأديان في مذاهب البِدعة؛ يعني: نفسُ الإنسان مخلوقةٌ على قَبول ما عُرِضَ عليها من الاعتقاد والأفعال والأقوال، فمَن عَرَضَ على أحدٍ الخيرَ يكون له الثوابُ كمن أَنبتَ شجرًا ذا ثمرٍ طيبٍ، ومَن عَرَضَ عليه الشرَّ يكون له الوِزرُ، كمَن أنبتَ شجرًا ذا شوكٍ في طريقِ مسلمٍ، أو حَفَرَ بئرًا في طريقِه فوقعَ فيه. قوله: "كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاءَ"، رُوي (تُنتج) بضم التاء الأولى وفتح الثانية، وبضم الأولى وكسر الثانية. فإن قلت: بضم التاء الأولى وفتح الثانية فهو مضارعُ مجهولٍ من الثلاثي، والثلاثي بهذا اللفظ يُستعمل على بناء المجهول، يقال: نُتِجَتِ البهيمةُ؛ أي: وُلِدَتْ، وتُنْتَجُ؛ أي: تُولَد فهي منتوجةٌ، كما يقال: حُصِرَ بطن فلان يُحصَر فهو محصورٌ، فعلى هذا تكون البهيمةُ الأولى مفعولةً أُقيمت مقامَ الفاعل، و (بهيمةً جمعاءَ) نُصب على الحال، ومعنى (الجمعاء): سليمة جميع الأعضاء؛ يعني: وُلدت في حال كونها بهيمةً سليمةَ الأعضاءِ. وإن قلت: (تُنتِج) بضم التاء الأولى وكسر الثانية يكون مضارعَ معروفٍ، من (أَنتَجَ): إذا أَوْلَدَ، و (أَنْتَجَ): إذا قَرُبَ وقتُ النِّتاج، فعلى هذا تكون البهيمةُ الأولى فاعلةً، والثانيةُ مفعولةً. (أَحسَّ): إذا أَدركَ وعلمَ ووجدَ.

(هل تحسون)؛ أي: هل تجدون وتُبصرون. (فيها)؛ أي: في تلك البهيمة. (الجدعاء): البهيمة التي قُطعت أذنُها من (جدع): إذا قطع الأنف أو الأذن أو الشَّفة؛ يعني: وُلد الإنسان على استعداد قَبول الإسلام، فجعله أبواه يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، كما أن البهيمةَ تُولَد وليس بها عيبٌ، فقَطَعَ صاحبُها أذَنها، و (ما) في (كما): مصدرية؛ أي: كنِتاج البهيمة. قوله: "ثم يقول"، و (يقول) ها هنا بمعنى: (قال)، و (قال) بمعنى: (قرأ)؛ أي: قرأ رسولُ الله عليه السلام: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، و (فطرة الله)؛ أي: عهد الله الذي أخذه من الناس يومَ الميثاق، حين كانوا ذريةً في ظهر آدم. وقيل: استعداد قَبول الدِّين كما ذُكر؛ وهذا القولُ هو الأصحُّ. (فطرةَ): منصوبة على الإغراء؛ أي: الزموا فطرةَ الله تعالى وداوِمُوا عليها ولا تُغيِّرُوها. قوله: "لا تبديلَ لخلق الله": هذا النفي بمعنى النهي؛ أي: لا تُبدِّلوا ولا تُغيِّروا ما خلق الله تعالى فيكم من استعداد قَبول الإسلام، ولا تَنقُضُوا عهدَ الله بأن تَقبَلُوا دِينًا غيرَ دِينِ الإسلام، أو تَأمُرُوا أحدًا بدِينٍ غيرِ دِينِ الإسلام. * * * 70 - وعن أبي مُوسَى الأَشْعَري - رضي الله عنه - قال: قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ كلِماتٍ، فقال: "إنَّ الله تعالى لا يَنامُ، ولا ينبغي له أَنْ يَنامَ، يخفِضُ القِسْطَ ويرفعُهُ، يُرْفَعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ عملِ الليلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".

قوله: "قام فينا"؛ أي: خطَبنا ووَعَظَنا، وعبَّر بالقيام عن الخُطبة والموعظة، وإن لم يكن قائمًا في تلك الحالة؛ لأن الغالبَ في الخُطبة أن يكونَ الخطيبُ قائمًا. قوله: "بخمس كلمات"، (الكلمات) جمع: كلمة، والمراد بالكلمة ها هنا: الكلام المفيد المستقل، لا الكلمة الواحدة؛ لأن الكلمةَ الواحدةَ لا تفيد. إحدى الكلمات: قوله: "إن الله لا ينام": هذا مِثلُ قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، (السِّنَةُ): النوم الخفيف، والنومُ أشدُّ من ذلك، والسِّنَةُ والنومُ من صفات المخلوقات، ولأن النومَ والسِّنَةَ غفلةٌ، وهي لا تجوز على الله تعالى. والكلمة الثانية: "ولا ينبغي له أن يَنامَ"، (ولا ينبغي له)؛ أي: ولا يَليقُ به النومُ؛ لأنه لو أخذه النومُ لَغَفلَ، ولو غَفلَ لَسقطتِ السماواتُ والأرضُ، ولَهَلكتِ المخلوقاتُ؛ لأن هذه الأشياءَ قائمةٌ بحفظ الله تعالى إياها، ولو غفلَ لَزَالَ الحفظُ. والكلمة الثالثة: "يخفضُ القِسطَ ويرفعُهُ"، (يخفض) ضد (يرفع)، (القِسط) قيل: الأرزاق والنصيب؛ يعني: نصيب كل واحد من الرزق والعمر والسعادة والشقاوة؛ يعني: يُضيِّق الرزقَ على بعض المخلوقات، ويُوسِّعه على بعض، ويُطوِّل عُمُرَ بعضٍ. وقيل: القسط: الميزان؛ سُمي الميزانُ قسطًا لِمَا في الميزان من العدل، وخفضُ الميزانِ ورفعُه عبارةٌ عن قسمة الأرزاق والأعمار وغير ذلك بين الناس بالعدل. والكلمة الرابعة: "يُرفَع إليه عملُ الليل قبلَ عمل النهار، وعملُ النهارِ قبلَ عمل الليل"؛ يعني: وَكَّلَ الله تعالى على الناس ملائكةً بالليل وملائكة بالنهار ليكتبوا أعمالهم؛ فملائكةُ الليل إذا انتهى الليل إلى آخره يصعدون إلى

السماء في لحظة، بل في طَرفة عينٍ قبلَ أن يَشرَعَ الناسُ في عمل النهار، وكذلك يصعد ملائكةُ النهار إلى السماء قبل أن يَشرَعَ الناسُ في عمل الليل، ويأتي بحث هذا في موضعه. والكلمة الخامسة: "حجابه النور ... " إلى آخر الحديث؛ يعني: الحجابُ الذي بينه وبين خلقه حتى لا يراه خلقُه، هو النُّورُ. "لو كشفه"؛ أي: لو رفعَ ذلك الحجابَ "لأَحرقَتْ سُبُحاتُ وجهِه"، (السُّبُحات) جمع: سُبْحة، وهي العَظَمة، وقيل: النور التي إذا رأته الملائكةُ سبَّحوا الله، (وجهه)؛ أي: ذاته. "ما انتهى إليه بصره من خلقه"، (انتهى): إذا وصلَ إليه، الضميرُ في (إليه) راجعٌ إلى (وجهه)، و (ما) بمعنى (من)، وهو موصول، و (انتهى): فعلٌ ماضٍ، و (بصره): فاعله، والفعل والفاعل صلة (ما)، والموصول وصلته مفعول. "أحرقت"؛ يعني: لو رفعَ حجابَه لاحترقَ خلقُه؛ لأنه لا طاقةَ لهم أن ينظروا إلى ذاته، بل هو الله تعالى أعظمُ وأجلُّ من أن يراه أحدٌ في الدنيا، كما قال تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي}، وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة يراه أهلُ الجنة إذا أراهم نفسَه، وأما رؤيةُ نبيِّنا - عليه السلام - إياه ليلةَ المعراج يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. * * * 71 - وقال: "يَدُ الله مَلأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتُمْ ما أنفقَ منذ خَلَقَ السماءَ والأرضَ؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يديه، وكانَ عرشُهُ على الماءِ، وبيدهِ الميزانُ، يَخفِضُ ويَرْفَعُ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -.

وفي روايةٍ أُخرى: "يمينُ الرَّحمنِ مَلأَى سَحَّاءُ". قوله: "يد الله تعالى مَلأى": هذه صفة (اليد)، وهي نعت مؤنث، مذكرها: مَلآن، وأراد بـ (يد الله): خزائنه وكرمه وجوده؛ يعني: خزائنه مَلآى لا تنقص أبدًا بأن يصبَّ الرزقَ على عباده دائمًا، وإنما لا تنقص لأن له القدرةَ على إيجاد المعدوم. قوله: "لا تَغِيضُها"؛ أي: لا تُنقصها "نفقةٌ"؛ أي إعطاؤُه الرزقَ لمخلوقاته. "سحَّاء": صفة لـ (يد الله)، وهي نعت مؤنث، قياس مذكره أن يكون: (أَسحُّ)، كـ (حمراء وأحمر)، إلا أنه لا يُستعمل: أَسَحُّ. قيل: لم يأت فعلاء من باب (فَعَلَ) - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - إلا هذا اللفظ، وهي من (سَحَّ) إذا صبَّ الماءَ من علوٍ إلى سفلٍ. "سحَّاءُ الليلَ والنهارَ"؛ أي: يصبُّ الرزقَ على عباده في الليل والنهار، ونصب (الليلَ) و (النهارَ) على الظرف. قوله: "أرأيتم ما أَنفقَ"؛ أي: أتعلمون وتبصرون أنه تعالى يُنفق؛ أي: يرزقُ عبادَه. "فإنه لم يَغِضْ"؛ أي: لم ينقص ما في خزائنه، غاض يغيض غيضًا: إذا نَقَصَ وأَنْقَصَ، وهو لازمٌ ومتعدٍّ، و (ما) في (ما أنفق): مصدرية؛ أي: رأيتم إنفاقَه على عباده؟ قوله: "وكان عَرْشُه على الماء"؛ يعني: وكان عَرشُه على الماء قبلَ خلقِ السماوات والأرض. "وبيده الميزانُ يخفض ويرفع"؛ أي: الأرزاقَ والأعمارَ والسعادةَ والشقاوةَ بقدرته، يُعزُّ قومًا ويُذلُّ قومًا، وَيبسُطُ رزقَ قوم ويَقبِضُ رزقَ قومٍ. قوله: "وفي رواية: يمين الرحمن مَلأى سحَّاء"؛ يعني: وفي رواية: قال

رسول الله عليه السلام: (يمينُ الرحمن مَلأى سحَّاء) بدل قوله: (يد الله مَلأى). * * * 72 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذَرَارِي المشركينَ فقال: "الله أعلمُ بما كانوا عامِلين". قوله: "عن ذراري المشركين"، (الذراري) جمع: ذُرِّيَّة, وهي نسل الجن والإنس، وتقع على الصَّغَار والكِبَار، والمراد ها هنا: أطفال الكفَّار؛ يعني: سُئل رسولُ الله عليه السلام عن حُكم أطفال الكفار أنهم من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فقال رسول الله عليه السلام: "الله أعلمُ بما كانوا عاملين"؛ أي: بما كانوا عاملين من الكفر والإيمان إن عاشُوا وبلَغُوا؛ يعني: من علم الله تعالى أنه إنْ عاشَ وبَلَغَ يصدرُ منه الكفر يُدخله النارَ، ومِن علمِه أنه لو عاشَ وبَلَغَ يصدرُ منه الإيمان يُدخله الجنةَ. فالحاصل: أن رسولَ الله عليه السلام لم يقطع بكونهم من أهل الجنة، ولا بكونهم من أهل النار، بل وقَّف أمرَهم، والاعتقاد الذي عليه أكثرُ أهل السُّنة: أن يُوقفَ أمرُهم، لا يُقطَع بكونهم من أهل الجنة ولا بكونهم من أهل النار. * * * مِنَ الحِسَان: 73 - عن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أوَّلَ ما خلَقَ الله تعالى القلَمُ، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكَتبُ؟ قال: القَدَر، ما كانَ

وما هو كائنٌ إلى الأَبَدِ"، غريب. قوله: "أول ما خلق الله تعالى القلم" يحتاج إلى بيان إعرابه، (أول): مبتدأ مضاف، و (ما): موصولة، و (خلق الله): صلة، وتقديره: خلقَه الله، والموصولُ والصلةُ مضافٌ إليه، و (القلم): خبر المبتدأ. قوله: "ما أكتب"، (ما): استفهامية، وهو مفعول مقدَّم على الفعل والفاعل، وهو (أكتب)، والهمزة في (أكتب) لنفس المتكلم. قوله: "قال: القَدَرَ"، (القَدَرَ): منصوب على تقدير: اكتُبِ القَدَرَ. قوله: "ما كان": بدل (القدر)، أو عطف بيان له؛ يعني: أول ما خلق الله من جنس الأقلام كان ذلك القلم، وليس معناه: أول ما خلق الله تعالى من جميع الأشياء. وكذلك تأويل قوله عليه السلام في حديث آخر: "أولُ ما خَلَقَ الله تعالى نُوري": أي: أولُ ما خلقَ الله تعالى من الأنوار كان نُورِي، وباقي بحث هذا الحديث قد ذُكر في بحث (القَدَر) أكثر من مرة ومرتين. * * * 74 - وسُئلَ عمرُ بن الخطَّاب عنْ هذِهِ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأَلُ عنها، فقال: "إنَّ الله خلقَ آدمَ، ثمَّ مسحَ ظهرَهُ بيمينِهِ، فاستخرَجَ منهُ ذُرَّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاءِ للجنّةِ، وبعملِ أهل الجنةِ يعملون، ثم مَسَحَ ظهرَهُ، فاستخرجَ منه ذُرَّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاءِ للنَّارِ، وبعملِ أهلِ النارِ يعملونَ"، فقالَ رجلٌ: ففيمَ العملُ يا رسولَ الله؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله إذا خَلَقَ العَبْدَ للجنَّةِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ حتى يموتَ على عمَلٍ مِنْ أَعمالِ أهلِ الجنَّةِ، فيُدخِلُهُ بِهِ الجنَّة، واذا خلقَ العبدَ للنَّارِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ النَّارِ، حتى يموتَ على عمَلٍ

مِنْ أَعْمالِ أهلِ النَّارِ، فيُدخِلُهُ بِهِ النَّارَ". قوله: "سُئل عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - عن هذه الآية"؛ يعني: عن كيفيةِ أخذِ الله ذُريةَ بني آدم من ظهورهم المذكورِ في هذه الآية. واعلم أن كل المفسِّرين قالوا: إن الله تعالى أَخرجَ ذُريةَ آدم من ظهر آدم، فأولاده أَخرجَهم من ظهره، ثم أَخرجَ من ظهورِ أولادِه أولادَهم واحدًا بعد واحدٍ على ما يكونون عليه إلى يوم القيامة. قيل: كان ذلك قبلَ الدخول في الجنة بين مكة والطائف، وقيل: ببطن نعمان؛ وادٍ بجنب عرفة، وقيل: أخرجهم من ظهره في الجنة، وقيل: بعد نزوله من الجنة بدهيا، وهي أرض بهند. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}؛ أي: واذكر يا محمدُ إذ أَخذَ ربُّك من ظهورهم، بدلٌ من (بني آدم) بدلَ البعض من الكل؛ أي: وإذ أَخذَ ربُّك من ظهور بني آدم ذُريتَهم، ومعنى (أَخذ): أَخرجَ. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: أَشهَدَ بعضَهم على بعضٍ على هذا الإقرار وعلى هذه الحالة. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}: هذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: قال الله تعالى للذُّرِّيَّة: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}؛ أي: قالت الذُّرِّيَّة: بلى أنتَ ربنا، و (بلى): كلمة إثبات، سواءٌ كان قبلها نفي أو إثبات، ولو قالوا: (نعم) بدل (بلى) قيل: لَكان كفرًا؛ لأن (نعم) تصديقٌ لِمَا قبله، إن كان نفيًا يكون نفيًا، وإن كان إثباتًا يكون أيضًا إثباتًا، وقيل: لا فرق بين (نعم) وبين (بلى) في هذا الموضع. {شَهِدْنَا}؛ يعني: قالت الملائكة: شهدنا على إقراركم؛ لئلا تقولوا يومَ القيامة: لم نُقِرَّ هذا الإقرارَ، وقيل: هذا من قول الذُّرَّيَّة؛ أي: قال فريقٌ من الذُّرَّيَّة لفريقٍ: شهدنا على هذا الإقرار؛ كيلا تقولوا: لم نُقِرَّ إقرارًا.

قوله عليه السلام: "ثم مسح ظهره بيمينه"؛ أي: بقدرته، ونَكِلُ علمَ كيفية هذا المسح إلى الله تعالى، ونحيل ذلك إلى قدرته تعالى كيف يشاء يفعل ما يشاء. وقيل: أخرجَهم كأمثال الذَّرَّ نَثَرَهم بين يدَيه وجعلَهم على هيئة الرجال والنساء، وجعلَ فيهم العقول ثم كلَّمهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وباقي الحديثِ ظاهرٌ. قوله: "ففِيمَ العملُ يا رسولَ الله" عليه السلام؟ أي: في أيَّ شيءٍ يُفيد العملُ أو بأيَّ شيءٍ يتعلق العملُ إذا كان كونُ الرجلِ من أهل الجنة أو من أهل النار مُقدَّرًا قبل هذا؟ فقال رسول الله عليه السلام: "إن الله تعالى إذا خلقَ العبدَ للجنة استعملَه بعمل أهل الجنة"، (استَعمَلَ): إذا أَلزَمَ العملَ على أحدِ وأَمرَه بالعمل؛ يعني: اعملوا الأعمالَ الصالحةَ؛ فإن تيسيرَ الله الأعمالَ الصالحةَ والإسلامَ لكم علامةٌ لسعادتكم، وعلامةٌ لكونكم مخلوقين للجنة. * * * 75 - وقال عبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديهِ كتابانِ، فقال للذي في يدهِ اليُمنى: "هذا كتابٌ مِنْ رَبِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ وأسماءُ آبائهمْ وقبائلهِمْ، ثمَّ أُجْمِلَ على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمّ قال للذي في شِمالِهِ: "هذا كتاب من ربِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ النَّارِ وأسماءُ آبائِهِمْ وأسماء قبائِلِهِمْ، ثمّ أُجْمِلَ على آخِرِهِمْ، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنْقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمَّ قال بيدَيْهِ فنبذَهُمَا، ثمّ قال: "فرغَ ربُّكُمْ مِنَ العِباد، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ".

قوله: "وفي يده كتابانِ": الواو للحال؛ أي: في حالِ أنْ أخذَ كتابًا في يده اليمنى وكتابًا في يده اليسرى، وإنما أَخذَ كتابَين في يديه لضربِ المَثَل وتفهيمِ الحاضرين كلامَه وتقريرَه. قوله: "هذا كتابٌ من ربِّ العالمين"؛ يعني: افرِضُوا وقدِّرُوا أن هذا الكتابَ كتابٌ مُنزلٌ من ربِّ العالمين، وليس مرادهُ أن ذلك الكتابَ مُنزلٌ من ربَّ العالمين على الحقيقة؛ لأنه لو كان من ربِّ العالمين على الحقيقة لم يَنبِذْه، وقد ذَكر بعد هذا أنه عليه السلام نبذَهما، بل كان أَخذَ قطعةً من قرطاسٍ بيده اليمنى وقطعةً بيده اليسرى؛ ليراهما المُخاطَبون؛ ليكونَ ذلك أقربَ إلى التفهيم، ويحتمل ألا يكون بيد رسول الله عليه السلام كتابٌ ظاهرٌ بحيث يراه الحاضرون، قال هذا لضرب المَثَل؛ يعني: قدِّرُوا أن في يده اليمنى كتابًا فيه أسماءُ أهلِ الجنة، وفي يده اليسرى كتابًا فيه أسماءُ أهلِ النار، ومِثْلُ هذا المجازِ كثيرٌ بين الناس. قوله: "ثم أُجمل على آخرهم"، (الإجمال): خلاف التفصيل، وهو جعلُ الحسابِ مُجمَلاً بعد أن كان مُفصَّلًا، مثل أن يكتب المُحاسِب: حصل من المزرعة الفلانية كذا جريب، ومن المزرعة الثانية كذا، إلى أن يعدَّ جميعَ مزارع القرية التي يُحاسب دخلَها، ثم يكتب في آخر ذلك الحساب: والجملة كذا، والمراد ها هنا: أنه كُتِبَ في ذلك الكتاب أن زيدَ بن عمرٍو الذي هو من قبيلة فلان أو من القرية الفلانية أو المعروفَ بفلانٍ من أهل الجنة، وكذلك اسمُ كلِّ واحدٍ على هذه الصفة مكتوبٌ فيه، حتى يكون جميعُ أسماءِ أهلِ الجنة مكتوبًا بهذه الصفة، ثم كُتِبَ في آخر ذلك الكتاب أن جميعَ المذكورين في هذا الكتاب من أهل الجنة. وقوله: جميع هؤلاء المذكورين في هذا الكتاب من أهل الجنة، هو الإجمالُ، فإذا كُتِبَ وقُدِّرَ مَن هو من أهل الجنة فلا شك أن لا يزيدَ ولا ينقصَ؛

لأن حُكمَ الله تعالى لا يتغيَّر، وكذلك بحث قوله: "ثم قال للذي في شماله ... " إلى آخره. قوله "ثم قالَ بيده فنَبَذَهما"؛ معنى (قال بيده): أشار بيده، يقال: قالَ فلانٌ برأسه: أشار برأسه؛ يعني: فلمَّا فَرَغَ رسولُ الله عليه السلام عما قالَ أشارَ بيده ونبذَهما خلفَ ظهره، والغرضُ من الإشارةِ بيدِه خلفَ ظهره ونبذِ الكتابَين: تنبيهُ الحاضرين على أن الله تعالى قدَّر ما قدَّر، فجعلَ عبادَه فريقَين؛ فريقًا للجنة، وفريقًا للنار، فلا يتغير تقديرُه أبدًا. فإن قيل: قد قلتُم: إن حكمَ الله تعالى لا يتغير، فما تقولون في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؟ قلنا: اختلف في هذا أقوالُ العلماء؛ قيل: المرادُ من قوله: {يَمْحُو اللَّهُ} المنسوخُ من الأحكام، ومن قوله: {وَيُثْبِتُ} الناسخُ، وقيل: يمحو السيئاتِ من التائب، ويُثبت مكانَها الحسناتِ، وقيل: يمحو من كتاب الحَفَظَة ما كتبوه من المباحات مما لا يتعلق به عقابٌ ولا ثوابٌ، ويثبت ما هو متعلق به الثواب والعقاب؛ أي: يتركه مكتوبًا في كتابهم ولا يمحوه، وقيل: يمحو مَن قد جاء أَجَلُه، ويثبت مَن لم يأتِ أَجَلُه، وقيل: يغفر ذنوبَ مَن يشاء ويترك ذنوبَ مَن لم يُغفَر له، وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبتُ الآخرةَ، وقد قيل غير هذه الأقوالِ أقوالٌ كثيرةٌ، وهذه الأقوالُ على المختار؛ لأنه ليس فيها تغييرُ حكمِ الله تعالى وتقديرِه في الأزل؛ لأنه قَدَّرَ في الأزل كلَّ شيءٍ على حسب ما يقع ويحصل، ولكن لم يطلَّع أحدٌ على ما قُدِّرَ في الأزل، ولأجل أن الناسَ لم يعلموا ما هو المقدَّر في الأزل وكيفيتَه تحيَّروا في كيفية حدوث الأشياء، واختلف أحوالهم في معاني هذه الآيات والأحاديث التي تتعلق بالقَدَر، والصواب من الأقوال: ما لم يكن فيها الحُكمُ والقولُ بتغييرِ تقديرِ الله تعالى. * * *

76 - عن أبي خِزامَةَ، عنْ أبيه قال: "قلت: يا رسول الله! أرأيتَ رُقًى نَسترقيهَا، ودواءً نتَداوَى بهِ، وتُقاةً نتَّقيها، هلْ تَرُدُّ مِنْ قدَرِ الله شيئًا؟ قال: هيَ مِنْ قَدَرِ الله". قوله: "أرأيت رُقًى"، (رُقى) بضم الراء وبفتح القاف، جمع: رُقية، وأصل "رقى" على وزن ظُلْمَة وظُلَم، فقُلبت الياءُ ألفًا وحُذفت لسكونها وسكون التنوين، والرُّقية: ما يُقرأ من الدعاء وآيات القرآن لطلب الشفاء، والاسترقاء: طلب الرُّقية. "نَستَرقِيها"؛ أي: نَطلب تلك الرُّقى أن يَقرأَها علينا أحدٌ لطلب الشفاء. (التداوي): استعمال الدواء في الأعضاء. (التُّقاة) أصله: الوُقاة، فقُلبت الواوُ تاءً، وهو الشيء الذي التجأ إليه الناسُ ليُحفَظوا من الأعداء، مثل القلعة والجبل وغيرهما، وهو من وَقَى يَقِي وقايةً: إذا حفظَ. قوله: "نتَّقيها"؛ أي: نَلتجِئ بها ونحذر بسببها من شر الأعداء، ويجوز أن تكون (تقاة) هنا مصدرًا بمعنى: الاتقاء، فعلى هذا قوله: (نتقيها) يكون معناه: نتَّقي تُقاةً، بمعنى: نتقي اتقاءً؛ يعني: هذه الأسباب التي نستعملها "هل تَرُدُّ من قَدَرِ الله شيئاً؟ " يعني إنْ قُدَّرَ بلاءٌ علينا هل نخلصُ من الهلاك باستعمال شيء من هذه الأسباب أم لا؟ قوله عليه السلام: "هي مِن قَدَرِ الله تعالى أيضًا"؛ أي: هذه الأسباب من قَدَر الله أيضًا؛ يعني: كما أن الله تعالى قدَّر الداءَ قدَّر زوالَ الداء بالدواء أو بالرقية، وكما أنه تعالى خَلَقَ في العدوِّ قصدَ عدوِّه بالإيذاء خَلَقَ في الذي يقصده العدُّو أن يَلتجِئَ إلى قلعةٍ، وأنْ يدفعَه بشيءٍ من الأسباب، فكلُّ من أصابه داءٌ، فتَدَاوَى وبَرِئ فاعلم أنه قدَّر هذا الدواءَ نافعًا في ذلك الداء، ومَن تَدَاوَى ولم يَبْرَأ فاعلم أنه لم يُقدَّر أن يكونَ التداوي نافعًا في ذلك الدواء، وإذا لم يُقدِّر لداءٍ

أن يُنفع بالتداوي لم تنفع مداواةُ جميع أطباء العالم، وعلى هذا فقِسْ جميعَ الأسباب. وروى هذا الحديثَ "أبو خِزامة"، بخاء معجمة مكسورة وبزاي معجمة، واسم أبيه مَعمَر، وقيل أبو خِزامة أحدُ بني الحارث بن سعد، وقيل: راوي الحديث ابن أبي خِزامة، وذُكر أن اسمه الحارث بن أبي خِزامة، وهذا غيرُ مشهورٍ بين أصحاب الحديث. * * * 77 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحنُ نتنازعُ في القَدَرِ، فغضِبَ حتَّى احمرَّ وجهُهُ، فقال: "أبهذا أُمِرتُمْ، أَمْ بهذا أُرْسِلْتُ إليكُمْ، إنَّما هلكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حينَ تنازَعُوا في هذا الأمرِ، عَزَمْتُ عليكُمْ أنْ لا تتنازَعُوا فيهِ"، غريب. قوله: "نتنازع"؛ أي: نتخاصم ونتناظر "في القَدَر"، والتنازُع في القَدَر: أن يقول أحد: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقَدَر الله تعالى فلِمَ يُعذَّب المذنبون؛ ولم يَنسِبِ الفعلَ إلى العباد وإلى الشيطان، فقال: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] وقال: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، وغير ذلك؟ ويقول آخر: فما الحكمةُ في تقدير بعض العباد للجنة وبعضهم للنار؟ وما أشبه ذلك، فغضبَ رسولُ الله - عليه السلام - عليهم حتى احمرَّ وجهه من الغضب، ولم يرضَ منهم التنازُعَ في القَدَر؛ لأن القَدَرَ سرٌّ من أسرار الله تعالى، وطلبُ سر الله مَنهيٌّ عنه، وكذلك مَن بَحَثَ في القَدَرِ لم يُؤمَنْ أن يَصيرَ جَبْريًا أو قَدَريًا؛ بل العبادُ مأمورون بقَبول ما أمرَهم الشرع من غير أن يطلبوا سرَّ ما لا يجوز طلبُ سرِّه. قوله: "أبهذا أُمرتم؟ "؛ يعني: لم يأمركم الله تعالى ورسوله بالتنازع في

القَدَر، فإذا لم يأمركم الله ورسولهُ - عليه السلام - بهذا فلمَ تتنازعون في القَدَر؟ قوله: "إنما هلك مَن كان قبلكم"؛ يعني: هلكت اليهودُ والنصارى وغيرُهم حينَ تنازعوا في شيءٍ لم يأمرهم الله تعالى ورسوله به، من البحث في القَدَر وتفضيل بعض الرسل على بعض من تلقاء أنفسهم. قوله: "عَزمتُ عليكم"؛ أي: أَقسمتُ عليكم، وكان أصله: عزمت بإلقاء اليمين وإلزام اليمين عليكم ألا تبحثوا ولا تنازعوا في القَدَر بعد هذا. * * * 78 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله تعالى خلقَ آدمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جميعِ الأرضِ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ، منهمُ الأحمرُ، والأبيض، والأسودُ، وبَيْنَ ذلكَ، والسَّهلُ، والحَزْنُ، والخَبيثُ، والطَّيِّبُ". قوله: (القبضة): ملْء الكفِّ من كل شيء، والمراد ها هنا: من التراب. قوله: "من جميع الأرض"؛ أي: من جميع ما قدَّر الله تعالى إلى أن يسكنَه بنو آدم من الأرض، وليس مراده: من جميع الأرض؛ لأن مِن الأرض ما لم يصل إليه قدم آدمي؛ يعني: أَمرَ الله عزرائيلَ - عليه السلام - بأن يأخذ قبضةً من وجه الأرض، وخلقَ منها آدمَ عليه السلام، وقدَّر أن يسكنَ بنو آدم الأرضَ التي خُلِقُوا من ترابها. "فجاء بنو آدم على قَدْرِ الأرض"؛ أي: على لون الأرض وطبعها، وكلُّ موضعٍ ترابُها أحمرُ كان أهلُ ذلك الموضع ألوانُهم أحمر، وكذلك الأسود والأبيض. قوله: "وبين ذلك"؛ أي: بين الأحمر والأسود والأبيض.

قوله: "والسَّهْل والحَزْن"، (الحزن): الغليظ والخَشِن، و (السهل): الليَّن؛ يعني: كلُّ موضعٍ كان ليَّنًا كان أهلُ ذلك الموضع طباعهم ليَّنةً، وكلُّ موضعٍ كان خَشِنًا كان أهلهُ طباعُهم خَشِنةً، وكذلك الخبيث والطيب، ومعنى "الخبيث": خبيث الخِصَال والأخلاق، ومعنى"الطيِّب" كذلك، وكلُّ ذلك بتقدير الله تعالى؛ قدَّر لكل شخص لونًا وطبعًا وخلقًا ومسكنًا كما شاء، لا مَرَدَّ لقضائه، ولا مانعَ لحكمه. * * * 79 - وعن عبد الله بن عَمْرو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله تعالى خلَقَ خلقَهُ في ظُلْمَةٍ، فألقَى عليهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصابَهُ مِن ذلكَ النُّورِ اهتَدَى، ومَنْ أخطأهُ ضَلَّ، فلذلكَ أقولُ: جفَّ القلمُ على عِلمِ الله". "إن الله خلق خلقه في ظُلمةٍ"، والمراد بـ (خلقه) هنا: الجنُّ والإنسُ؛ لأن الملائكةَ لم يُخلَقوا في الظلمة، بل خُلِقُوا في النور. قوله: "في ظلمة"؛ أي: كائنين في ظلمة، والظلمة ها هنا: ما كان في الشخص من الصفات النفسانية كالشهوة والتكبُّر والحرص، وغير ذلك مما يُبعد الشخصَ عن الله تعالى. قوله: "من نوره"؛ أي: من تقدير الإيمان والطاعات، فمَن قدر له نورَ الإيمان وتوفيق الطاعات وقَبول الشريعة يكون مَهدِيًّا مهتديًا إلى طريق الحق، ويخرج من ظلمة الهواء النفسانية، ومَن لم يُقدَّر له الإيمانَ وتوفيقَ الطاعاتِ يبقى في ظلمة الأهواء النفسانية والجهل والتكبُّر وغير ذلك من الخصال المذمومة ولم يهتدِ إلى الحق. قوله: "ومَن أخطأه ضَلَّ"، (أخطأه)؛ أي: جاوزَه ولم يَصِلْ إليه؛ يعني: مَن لم يجد نورَ الإيمان المقدَّر في الأزل لم يهتدِ، بل يَضِلُّ. قوله عليه السلام: "فلذلك أقولُ: جفَّ القلمُ على علم الله تعالى"؛

يعني: من أجل أن تقديرَ الإيمان والكفر والطاعة والعصيان قد جرى في الأزل. أقول: لا يتغير تقدير الله تعالى؛ فمَن كان في الأزل قدَّر له الإيمانَ يكون مؤمنًا، ومَن قدَّر له الكفرَ يكون كافرًا، و (جفاف القلم): عبارة عن عدم تغير ما جرى تقديره في الأزل. * * * 80 - قال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أنْ يقول: "يا مُقلِّبَ القُلوبِ! ثَبِّتْ قلبي على دينِكَ"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! آمنَّا بِكَ، وبما جئتَ بهِ، فهلْ تخاف علينا؟ قال: "نعمْ، إنَّ القُلوبَ بين أَصْبُعَيْنِ مِنْ أصابعِ الله يُقَلَّبُهَا كيفَ يشاءُ". قوله: "يا نبي الله آمنا بك ... " إلى آخره؛ يعني: يا رسولَ الله! ليس قولُك: ثبَّت قلبي على دينك لأجل نفسك؛ لأنك معصومٌ عن الخطأ والزَّلَّة، خصوصًا عن تقلُّب قلبك عن الدين، وإنما تقول هذا ومرادُك أمَّتُك؛ لتعلم أمَّتُك هذا الدعاءَ، ولا يَأمَنُوا من زوال نعمة الإيمان، "فهل تخاف علينا" من أن نَرتدَّ عن الدين بعد أن آمنَّا بك وبما جئت به من الدين؟ فقال عليه السلام: "نعم"؛ يعني: أخاف عليكم؛ فإن القلوبَ بمشيئة الله تعالى يقلبها كيف يشاء من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الطاعة إلى العصيان، ومن العصيان إلى الطاعة؛ فلا ينبغي لأحدٍ أن يَأمَنَ زوالَ نعمة الله التي أنعمها عليه، بل ينبغي أن يخافَ ويتضرَّعَ ويسألَ إثباتَ نعمة الإيمان والإسلام والطاعة، وغير ذلك من نِعَمِ الله عليه. * * * 81 - وقال: "مَثَلُ القلْبِ كرِيشةٍ بأرضٍ فَلاةٍ تُقَلَّبُها الرياحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ"،

رواه أبو موسى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. قوله: "مَثَلُ القلب كريشةٍ"، (الرَّيشة): رِيش الطير، والرِّيش جمع، واحدتها: ريشة. (الفلاة): المَفَازة الخالية من النبات والشجر، و"فلاة" هنا صفة "أرض"، وكلتاهما مكسورتين مُنوَّنتَين. قوله: "ظهرًا لبطنٍ": اللام هنا بمعنى (إلى)، كقوله تعالى: {مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193]؛ أي: إلى الإيمان؛ أي: تُقلب الرياحُ تلك الريشةَ ظهرًا إلى بطنٍ، و (ظهرًا) بدل عن الضمير في (يقلبها)، وهو بدل البعض؛ يعني كما أن الريشةَ الساقطةَ في مفازةٍ تقلبها الرياح ظهرًا لبطنٍ وبطنًا لظهرٍ كلَّ ساعةٍ تقلبها على صفةٍ؛ فكذلك القلوبُ تنقلبُ ساعةً من الخير إلى الشر، وساعةً من الشر إلى الخير، فإذا كان كذلك فاسألوا الله ثباتَ القلوب على الدين والطاعة، وتعوَّذوا بالله تعالى من أن تنقلبَ من الخير إلى الشر. * * * 82 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤمنُ عبدٌ حتَّى يُؤمنَ بأربعٍ: يشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وأنِّي رسولُ الله بعثَني بالحقَّ، ويؤمنَ بالموتِ، وبالبعْثِ بعدَ الموتِ، ويؤمنَ بالقَدَرِ". قوله: "ولا يؤمن عبد": هذا نفي أصل الإيمان، لا نفي الكمال؛ فمَن لم يؤمن بواحدٍ من هذه الأربعة لم يكن مؤمنًا أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، بعثَه بالحق على كافة الإنس والجن. والثاني: أن يؤمنَ بالموت؛ يعني: يعتقد أن الدنيا وأهلَها تَفنَى، كما

قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88]، وهذا احترازٌ عن مذهب الدَّهْرِية؛ فإنه تقول: العالمُ قديمٌ باقٍ. ويحتمل أن يريد بالإيمان بالموت: أن يعتقدَ الرجلُ أن الموتَ يحصل بأمر الله تعالى لا بالطبيعة، وخلافًا للطبيعي؛ فإنه يقول: يحصل الموتُ بفساد المزاج. الثالث: أن يؤمنَ بالبعث بعد الموت؛ يعني: يعتقد أن الله يَحشُرُ الناسَ بعد الموت، ويجعلهم في العَرَصات للحساب. والرابع: أن يؤمنَ بالقَدَر؛ يعني: يعتقد أن جميعَ ما يجري في العالم بقضاء الله تعالى وقدرته، كما ذُكر قبلَ هذا. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن القَدَريَّ ليس بمؤمنٍ فما تقولون في القَدَري؟ قلنا: إن كان القَدَريُّ يعتقد أنه ليس شيءٌ من الأفعال والأقوال بقَدَر الله تعالى، بل العبادُ يخلقون أفعالَهم، فإن قال هذا أو اعتقد هذا لنسبة عجزٍ إلى الله تعالى فهو كافرٌ، وإن قال هذا واعتقد هذا لتنزيه الله تعالى عن أفعال العباد القبيحة، وفي قلبه تعظيمُ الله تعالى في هذا الاعتقاد فليس بكافرٍ، بل هو مُبتدِعٌ. * * * 83 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتي ليسَ لهما في الإِسلامِ نَصيبٌ: المُرْجِئَةُ والقَدَرِيَّةُ"، غريب. قوله: "صِنفانِ من أُمتي"، (الصَّنف): النوع. "المرجئة": يجوز بالهمزة وبالياء، وأصله الهمز، ومعنى الإرجاء: التأخير، والتاء في (المرجئة) للتأنيث؛ أي: الطائفة المرجئة، واختُلف في المرجئة؛ قيل:

هم الذين يقولون: الإيمانُ الإقرارُ باللسان من غير عملٍ، سُمُّوا بذلك لأنهم يُؤخِّرون ويُبْعدون الأعمالَ من الإيمان ويقولون: الأعمالُ ليست من الإيمان كما قال الشافعي رحمه الله، ولا من حقوق الإيمان كما قال أبو حنيفة رحمة الله عليه. وقيل: المرجئة هم الجَبْرية، وهم الذين يقولون: الأفعالُ والأقوالُ كلُّها بتقدير الله تعالى، وليس للعباد فيها اختيارٌ؛ والأصحُّ أن المرجئةَ هم الجَبريةُ، وذُكر بحث الجَبْرية والقَدَرية في بحث شرح الحديث الخامس من أول هذا الباب. والقَدَر والتقدير واحد، نُسبت هذه الطائفة إلي القَدَر؛ لأنهم يقولون: الأشياءُ بتقدير الله تعالى، بل لأنهم يبحثون في القَدَر كثيرًا، ويقولون: كلُّ شخصٍ خالقُ أفعالِه، ويجوز (جَبرية) بسكون الباء وفتحها، و (القَدَرية) بسكون الدال وفتحها. قوله: "وليس لهما في الإسلام نصيب": ولم يقل النبيُّ - عليه السلام - هذا لنفي أصل الإيمان عنهم؛ لأنه - عليه السلام - أضافهم إلى نفسه وقال: (صنفان من أمتي)، وإنما قال: (ليس لهما في الإسلام نصيب) لقلة نصيبهم في الإسلام، كما يقال: ليس للبخيل حظٌّ من ماله؛ أي: ليس له حظٌّ كاملٌ. واختلف أهلُ السُّنة في الحكم بكفر أهل البدعة؛ فبعضُهم يقول: جميعُ المُبتدِعين كفَّارٌ، وبعضُهم يقول: جميعُ المُبتدِعين مسلمون، وبعضهم يقول: إنْ ظهرَ منهم قول يكون كفرًا يُحكَم بكفرهم، وإن لم يكن منهم كفرٌ لم يُحكَم بكفرهم، بل نقول: إنهم مُبتدِعون لا كفَّارٌ؛ وهذا القولُ هو المختارُ. * * * 84 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكونُ في أُمَّتي خَسْفٌ ومَسْخٌ، وذلكَ في المكذِّبينَ بالقَدَرِ". قوله: "في أُمتي خَسْفٌ"، (الخَسف): أن يُدخل الله أحدًا في الأرض

كافرًا، و (المَسخ): أن يُغير الله تعالى صورةَ إنسانٍ فيجعلَه صورةَ غيرِ صورةِ الإنسانِ، كما فعل بقومٍ من بني إسرائيل، فجعلهم قردةً وخنازيرَ. "وذلك في المكذِّبين بالقَدَر"؛ أي: يكون ذلك الخَسفُ والمَسخُ في قومٍ يقولون: ليس ما يجري في العالم بتقدير الله، تعالى بل يقولون كلُّ شخصٍ خالقُ أفعالِه. وجاء في حديث: "أنه يكون بالبصرة خَسفٌ وقَذفٌ ورَجفٌ، وقومٌ يَبِيتُونَ ويُصبِحُون قِرَدةً وخنازيرَ"؛ وإنما تكون هذه الأشياء في البصرة لأن أكثرَ أهلِها قَدَريةٌ. (القَذْف): الرمي بالحجارة من السماء، (الرجف): الزلزلة وتحرُّك الأرض بحيث تخرب الديار منها. * * * 85 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القَدَرِيَّة مَجُوسُ هذهِ الأُمَّة، إِنْ مَرِضُوا فلا تعودُوهم، وإنْ ماتُوا فلا تشهدُوهم". قوله: "وعنه"؛ أي: وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال الخطابي رحمه الله: سُميت "القَدَرية مجوس هذه الأُمة"؛ لأن قولَهم يشبه قولَ المجوس؛ لأن المجوسَ يقولون: الخيرُ من فعل النور، والشرُّ من فعل الظُّلمة، وكذلك القَدَرية تقول: الخيرُ من الله، والشر من الشيطان أو من النفس، هذا قول بعض القَدَرية، وبعضهم يقولون: جميع ما نعمل من الخير والشر يخلقه الشخص. قوله: "إن مَرِضُوا فلا تَعُودُهم"، عادَ يَعُودُ عيادة: إذا أتى الرجلَ المريضَ وسأله كيف هو في مرضه؛ يعني: لا تُجالسوهم في حالة الصحة، ولا تعودوهم في حال المرض؛ فإنه ظهر بينكم وبينهم عداوة ومخالفةٌ

في الاعتقاد، ومَن كان اعتقادُه مخالفًا لِمَا عليه رسولُ الله - عليه السلام - وأصحابُه - رضي الله عنهم - فلا يجوز مقاربتُه ومجالستُه، والصلاة عليهم مَبنيَّةٌ على أقوال تكفيرهم، فَمَن حَكَمَ بكفرهم لم يُجوِّز الصلاةَ عليهم، ومَن لم يحكم عليهم بكفرهم يُجوِّز الصلاةَ عليهم، بل تكون الصلاة عليهم - على قوله - فرضًا على الكفاية. وتأويل قوله: "فلا تشهدوهم": أن هذا لقبيح اعتقادهم وزجرهم عن هذا الاعتقاد، وليس لنهي الصلاة عليهم، بل الصلاةُ عليهم كالصلاة على الفُسَّاق. (فلا تشهدوهم)، شهدَ: إذا حضرَ؛ أي: فلا تحضروا جنائزَهم للصلاة. * * * 86 - وعن عمر - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُجالسوا أهلَ القدَرِ، ولا تفاتحوهم". قوله: "لا تفاتحوهم"؛ أي: لا تبتدئوهم بالكلام ولا تُناظروهم، ولا تبحثوا معهم عن الاعتقاد؛ فإنهم يوقعونكم في الشك ويُشوِّشون عليكم مذهبَكم في الاعتقاد. * * * 87 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستةٌ لعنتُهُمْ، لعنَهُمُ الله، وكلُّ نبيًّ مُجابٍ: الزائدُ في كتابِ الله، والمكذَّبُ بقدَرِ الله، والمُتسلِّطُ بالجَبَروتِ ليُعزَّ مَنْ أَذَلَّ الله ويُذلَّ مَنْ أَعَزَّ الله، والمستحِلُّ لحُرَمِ الله، والمستحِلُّ منْ عِترتي ما حرَّمَ الله، والتاركُ لسُنَّتي". قوله: "ستةٌ لعنتُهم"، (ستة)؛ أي: ستةُ أشخاصٍ لعنتُهم؛ أي: دعوتُ عليهم بدعاءِ سوءٍ، ولعن - بفتح العين في الماضي والغابر - لعنًا: إذا دعا

على أحدٍ بسوءٍ، فقوله: "لعنَهم الله" هذا إخبارٌ وليس بدعاءٍ؛ يعني: إذا لعنتُهم لعنَهم الله. قوله "كلُّ نبيًّ يُجاب"، فـ (كل): مبتدأ، و (يجاب): فعل مضارع لم يُسمَّ فاعلهُ، وهو خبر المبتدأ، والواو واو الابتداء. وفي بعض النسخ: "وكلُّ نبيًّ مُجَابٌ" بالميم، فـ (كل) مبتدأ أيضًا، و (مجاب) خبره، والرواية الأولى هي الأصح؛ يعني: كلُّ نبيًّ مجابُ الدعوة فإذا كان كلُّ نبيًّ مُجابَ الدعوة فدعائي البتةَ مقبولٌ، وإذا كان دعائي مقبولاً تكون اللعنةُ على هؤلاء الستة واقعةً، ولا يجوز (مُجابِ الدعوة) بالجر على أن يكون صفةً لـ (كل نبي)؛ لأنه لو كان (مجاب) صفةً ليبقى يكون بعضُ الأنبياء مجابَ الدعوة، وبعضُهم غيرَ مجاب الدعوة، وهذا خطأ؛ بل كلُّهم مجابُ الدعوة، ولا يجوز أن يُعطف و (كل نبي) على التاء في (لعنتهم)؛ لأنه حينَئذٍ يكون معناه: لعنتُهم أنا وكلُّ نبي، فحينَئذٍ يكون (يجاب) أو (مجاب) صفةً لـ (كل نبي)، فقد قلنا: إنه لا يجوز أن تكون صفةً. أحد الستة: "الزائد في كتاب الله تعالى"؛ يعني: الذي يزيد في القرآن في لفظه أو في حكمه، وكذلك في التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى، فمَن زاد في لفظها أو حكمها فهو كافرٌ؛ لأنه كان متعمدًا عالمًا بأنه لم يأمر الله تعالى به. الثاني: "المكذِّب بقَدَر الله تعالى"؛ وقد مر ذكره. الثالث: "المتسلِّط بالجَبَرُوت"، (المتسلط): المستولي والغالب، والحاكمُ (بالجَبَرُوت)؛ أي: بالتكبُّر والعظمة ليعزَّ؛ أي: لأجل أن يعزَّ؛ يعني: مَن هو قائمٌ ومُستولٍ على الناس؛ لإعزاز مَن أذلَّه الله تعالى كالكفار، وإذلالِ مَن أعزَّه الله كالمسلمين، فمَن كانت هذه صفتُه فهو ملعونٌ.

الرابع: "المُستحِلُّ لحَرَمِ الله تعالى" بفتح الحاء والراء، والمراد بـ (حَرَم الله تعالى): حَرَم مكة؛ يعني: مَن فعلَ في حَرَم مكة ما لا يجوز فعلُه؛ فإن اعتقدَ تحليلَه فهو كافرٌ، وإن اعتقد تحريمَه فليس بكافرٍ، ولكن ذنبَه يكون أعظمَ من ذنبه في غير الحَرَم؛ لأن الموضعَ إذا كان أكثرَ شرفًا وتعظيمًا يكون الذنبُ فيه أعظمَ، والأشياءُ التي تختص بحَرَم مكة: تحريم الاصطياد، وقطع الشجر، وتحريم دخولها إلا بالإحرام، ولو قَتَلَ فيه مسلمًا أُغلظ عليه الديةُ، ولو وَجدَ فيه لقطةً لم يملكها بعد التعريف، ولا يدخله مُشرِك، ولا يجب دمُ التمتُّع على مَن كان دارُه في الحَرَم، أو كان مَن دارُه إلى مكة دونَ مسافة القصر، ولا يجوز نحرُ الهَدْي إلا فيه، ولو نذر المشيَ إليه لزمَه، ولا يتحلل من الإحرام إلا فيه؛ إلا أن يكون مُحصرًا. الخامس: "المُستحِلُّ من عِتْرَتِي ما حرَّم الله تعالى"، (العِتْرة) بكسر العين: القرابة القريبة؛ يعني: مَن فَعَلَ بأقاربِ رسول الله - عليه السلام - ما لا يجوز فعلهُ، من إيذائهم وترك تعظيمهم. فإن قيل: مَن استحلَّ ما حرَّم الله تعالى فهو كافرٌ، ومَن فعل مُحرَّمًا - وهو يعلم تحريمَه - فهو مذنبٌ، سواءٌ في حَرَمِ الله وعِتْرَةِ رسول الله - عليه السلام - وغير حَرَم الله تعالى وعِتْرَةِ رسولِ الله، فأيُّ فائدةٍ في تخصيص حَرَم الله وعِتْرَة رسوله؟ قلنا: حَرَمُ الله تعالى صار مُشرَّفًا مُعظَّمًا بإضافته إلى الله تعالى، وعِتْرَةُ رسولِ الله عليه السلام صار مُشرَّفًا مُعظَّمًا لإضافته إلى رسول الله، ولم يكن لعيرهما هذا الشرفُ، ولأجل هذا أكَّد حقَّهما وعظَّم قَدْرَهما؛ بأن لَعَنَ مَن هتكَ حرمتَهما، ونقصَ حقَّهما، وترك تعظيمَهما. السادس: "التارك لسُنَّتي"؛ يعني: مَن ترك شيئًا مما بيَّنتُه من أحكام

الدَّين، فمَن تركَ من الفرائض شيئًا على اعتقاد أنه ليس بفرضٍ، أو تركَ سُنةً عن استخفافٍ بالنبي - عليه السلام - وعدمِ تعظيمه فهو كافرٌ، وإن تركَ فرضًا وهو يعتقد فرضيتَه فهو عاصٍ، ومن تركَ سُنةً لا عن استخفافٍ بالنبي - عليه السلام - فلا إثمَ عليه، لكن لا ينبغي أن يتركَ سُنةً مؤكدةً على الدوام؛ فإنَّ تَرْكَ السُّنةِ المؤكدةِ على الدوام يدل على قلة صلاح الرجل، واستخفافه بالشرع. فإن قيل: قد ذكر في هذا الحديث مَن هو مسلمٌ، فكيف تجوز اللعنةُ على المسلم؟ قلنا: اللعنةُ الإبعادُ عن الخير والرحمة، ولا شك أن الرجلَ ما دام في المعصية يكون مُبعَدًا عن الخير والرحمة وإن كان مسلمًا، فإذا رجع عن المعصية وتابَ تابَ الله عليه، وخرج مِن أن يكون مُبعَدًا عن الرحمة. * * * 88 - عن مَطَرَ بن عُكامِس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قضَى الله لِعبْدٍ أنْ يموتَ بأرضٍ جعَلَ لَهُ إليها حاجةً". قوله: "عن مطر بن عُكَامِس قال: قال رسول الله عليه السلام: إذا قضى الله لعبد أن يموتَ بأرضٍ جعلَ له إليها حاجةً"؛ يعني: إذا كان الرجلُ في بلدةٍ، وقدَّر أن يموتَ في بلدٍ آخرَ أوقعَ الله تعالى في قلبه ميلاً إلى قصد ذلك البلد، أو أَظهرَ له إليه حاجةً من تجارةٍ أو زيارةٍ أو ما أشبه ذلك؛ ليأتيَ ذلك البلدَ ليموتَ فيه؛ يعني: كل شيء يكون كما قدَّره الله تعالى، لا يقدر أحدٌ أن يغيرَه. "مطر بن عُكَامِس": المعروف بالسُّلَمي، من بني سُلَيم بن منصور. * * *

89 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! ذَرَارِيُّ المؤمنين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، فقلتُ: يا رسول الله! بلا عملٍ؟ قال: "الله أعلَم بما كانوا عاملين"، فقلتُ: فذراري المشركين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، قلتُ: بلا عمَلٍ؟ قال: "الله أَعلَمُ بما كانوا عامِلين". قولها: "ذراري المؤمنين"؛ يعني: قلت: يا رسولَ الله! ما حكمُ أطفال المؤمنين؟ فقال رسول الله عليه السلام: "مِن آبائهم"؛ أي: هم بعض آبائهم؛ يعني: أتباع لآبائهم، كما أن آباءَهم مسلمون فكذلك هم مسلمون؛ فإذا ماتوا يُصلَّى عليهم، ويثبت الميراثُ بينهم وبين آبائهم، وكذلك أطفالُ المشركين أتباعٌ لآبائهم؛ إذا ماتوا لا يُصلَّى عليهم، ويثبت للمسلمين حكمُ الاسترقاق عليهم كآبائهم، ولا يثبت الإرثُ بين المسلمين وبينهم، كما لا يثبت بين المسلمين وبين آبائهم؛ يعني: إذا كان كافرًا، أو له ابن مسلمٌ وابن كافرٌ، والابن الكافرُ طفلٌ، ومات الطفلُ؛ لا يثبت بين هذا الطفل الميت وبين أخيه المسلم إرثٌ، وكذلك لو ماتَ الأخُ المسلم وترك أخاه الكافرَ وهو طفلٌ لم يثبت بينهما الإرثُ، هذه أحكامهم في الدنيا. وأما في الآخرة فنقول: أطفالُ المؤمنين من أهل الجنة من غير أن نشيرَ إلى واحدٍ بعينه، وأما أطفالُ الكفار لا نقول: إنهم من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هم في مشيئة الله تعالى، ونَكِلُ أمرَهم إلى الله تعالى يفعل بهم ما يشاء، وهذا اعتقادُ أكثرِ أهل السُّنة، وقال بعضهم: من أهل النار تبعًا لآبائهم، وقال بعضهم: من أهل الجنة؛ لأنهم لم يَصدُرْ منهم كفرٌ، وقال بعضهم: يدخلون الجنة، ولكن لخدمة المسلمين، وقال بعضهم: بين الجنة والنار لم يكن لهم لذةٌ ولا عذابٌ. * * *

4 - باب إثبات عذاب القبر

90 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوائدةُ والمَوؤدةُ في النَّارِ". قال: "الوائدة والمَوؤدة في النار"، وَأَدَ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - وَأْدًا: إذا جعلَ الولدَ في القبر في حال كونه حيًّا. وقصة هذا الحديث أن ابني مُلَيْكَةَ أتَيَا رسولَ الله عليه السلام وقالا: إنَّ أُمَّنا وأدتْ بنتًا لها، فقال رسول الله عليه السلام: (الوائدة والموؤدة في النار)؛ يعني: الأُمُّ والبنتُ كلتاهما في النار؛ أما الأمُّ فلأنها كانت كافرةً، وأما البنتُ فيحتمل أنها كانت بالغةً، فيثبت لها حكمُ الكفر، فتكون من أهل النار، ويحتمل أن تكون غيرَ بالغةٍ، ولكن علمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة كونَها من أهل النار، ولا يجوز الحكمُ على أطفال الكفار بأن يكونوا من أهل النار بهذا الحديث؛ لأن هذه الواقعة كانت في شخصٍ معينٍ، ولا يجوز إجراءُ حكمِ شخصٍ معينٍ على جميع أطفال الكفار، بل حكمُهم موقوفٌ. ومُلَيكة هذه يقال لها: مُلَيكة بنت مالك. * * * 4 - باب إِثْبات عَذَاب القَبْر (باب إثبات عذاب القبر) مِنَ الصِّحَاحِ: 91 - عن البَرَاء بن عازِب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُسلم إذا سُئِلَ في القَبْر، يشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، فذلكَ قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ".

وفي روايةٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}: نزلَتْ في عذابِ القَبْرِ، إذا قيلَ له: مَنْ رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نبيُّكَ؟؛ فيقول: ربِّيَ الله، وديني الإسلامُ، ونبيَّي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "المسلمُ إذا سئل في القبر ... " إلى آخره. اعلم أن الميتَ إذا وُضع في القبر تُنفَخ فيه الروح، ويُقعد حيًّا كما كان في الدنيا قاعدًا، وأتاه مَلَكانِ من عند الله تعالى، فيَسألانِه عن ربَّه وعن نبيَّه وعن دِينه، فإن كان مسلمًا أزالَ الله تعالى الخوفَ عنه، وأثبتَ لسانَه في جوابهما، فيجيبهما عما يسألانه، وأما الكافرُ فغلبَ عليه الخوفُ، ولا يقدر على جوابهما فيكون مُعذَّبًا في القبر. قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ}؛ أي: يُجري الله تعالى لسانَ المسلمين {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}: وهو كلمة الشهادة، ويديمهم على الحق ما داموا في الدنيا. قوله: {وَفِي الْآخِرَةِ}؛ يعني: في القبر أيضًا يُجري لسانَهم بكلمة الشهادة ليُجيبوا المَلَكَينِ، وليس المراد من (الآخرة) ها هنا: يوم القيامة؛ لأن قولَ كلمة الشهادة لا ينفع يومَ القيامة، بل المراد منه: القبر. كنية "البراء": أبو عُمارة، واسم جده: حارثة بن عدي بن جُشَم بن مجدعة، وهو أنصاري. قوله: "يثبت الله ... " إلى آخره؛ يعني: نَزلت هذه الآيةُ في حق المؤمنين، في جوابِهم المُنكَرَ والنكيرَ في القبر؛ يعني: يسَّرَ الله تعالى عليهم جوابَ المُنكَرِ والنكيرِ في القبر كما يسَّرَ عليهم قولَ كلمتَي الشهادة في الدنيا والعملَ الصالحَ. * * * 92 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ العبْدَ إذا وُضِعَ في قَبْرِه،

وتولَّى عنه أصحابُهُ، وإنَّه ليسمَعُ قَرْعَ نِعالِهِم= أتاهُ مَلَكانِ، فيُقعدانه، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ - لمحمدٍ -، فأمَّا المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنَّه عَبدُ الله ورسولهُ، فيقال له: انظُرْ إلى مَقْعدِكَ مِنَ النَّارِ، قد أبدلَكَ الله بهِ مَقْعدًا من الجنَّةِ، فيراهُمَا جميعًا، وأما المُنافِقُ والكافِرُ فيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقول: لا أَدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيُقالُ له: لا دَرَيتَ ولا تَلَيتَ، ويُضربُ بمِطْرقةٍ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صَيْحةً يسمعُها مَنْ يليهِ غيرَ الثقلَيْنِ". قوله: "تولَّى"؛ أي: أَدبَرَ وأَعرَضَ. (القَرع): الدَّقُّ؛ يعني: إذا رجعَ أصحابُه عن المَقبرة وتوجَّهوا إلى أوطانهم دخلَ المَلَكانِ عليه في تلك الساعة قبل أن يمضيَ زمانٌ بعيدٌ، بل يسمع الميتُ صوتَ نعالِ أصحابه في رجوعهم على رأس قبره حين أتاه المَلَكانِ. "يُقْعِدانه" بضم الياء وكسر العين: مضارع معروف من أَقعَدَ: إذا أَجلَسَ أحدًا عن الاضطجاع. قوله: "ما كنت تقول" - (ما): للاستفهام - "في هذا الرجل": الذي بُعِثَ عليكم بالنبوَّة، هل كنت اعتقدتَ وأقررتَ بأنه نبي أم لا؟ قوله: "لمحمد": عطفُ بيانٍ للرجل، أو بدل منه. قوله: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار فقد أَبدلَك الله ... " إلى آخره؛ يعني: لكلَّ واحدٍ من المؤمنين والكافرين مَنزلانِ؛ منزلٌ في الجنة ومنزلٌ في النار، أما المؤمنُ فيرى أولاً منزله من النار، فيقال له: هذا منزلُك لو لم تكن مؤمنًا ولم تُجِبِ المُنكَرَ والنكيرَ، فإذا كنتَ مؤمنًا وأجبتَهما فقد بدلَّ الله لك المَنزلَ من النار إلى منزلِ من الجنة، فيراهما جميعًا؛ ليزدادَ فرحُه، ويعرفَ نعمةَ الله عليه بتخليصه من النار وإعطائه الجنةَ، وأما الكافر فيقال له: هذا منزلُك

من الجنة لو كنتَ مسلمًا، فلما كنتَ كافرًا أبدلَك الله تعالى مَنزلَك من الجنة إلى منزلك من النار، فيراهما جميعًا؛ لتزدادَ حسرتُهُ وغَمُّه على فَوت الجنة منه وحصولِ النار له. قوله: "فيقول: لا أدري"؛ يعني: لا أدري على الحقيقة أنه نبي أم لا، كنتُ أقولُ في الدنيا كما يقولُ الناسُ، هذا قولُ المنافق؛ لأن المنافقَ يقول في الدنيا: محمد رسول الله؛ دفعًا للسيف عنه لا عن الاعتقاد، فيقول هذا اللفظ في القبر، وأما الكافر لا يقول في القبر شيئًا في حق النبي عليه السلام؛ لأنه لم يقل في الدنيا: محمد رسول الله، ويحتمل أن يقول الكافر أيضًا؛ دفعًا للعذاب عن نفسه في القبر: كنتُ أقولُ في الدنيا كما يقول الناس، والمراد بـ (الناس) ها هنا: المؤمنون. قوله: "فيقال: لا دَريتَ ولا تَليتَ"، (لا دريت)؛ أي: لا علمتَ ما هو الحق، والصواب: (ولا تليت) أصله: ولا تلوت، من تَلاَ يَتلُو: إذا قرأ، فقُلبت الواو ياءً للازدواج، (دريت)؛ يعني: لا تقدر أن تقرأ وتقول ما هو الحق والصواب في القبر؛ لأنك لستَ اتبعتَ الحقَّ في الدنيا، ومَن لم يتبع الحقَّ في الدنيا لم يَجْرِ لسانُه بالحق والصواب، وقد قيل في (ولا تليت): إنه تصحيف، وقيل: مكان هذا ألفاظ أُخَر، وأعرضنا عن ذكرها لأن في أكثر الروايات وفي جميع نسخ "المصابيح": و (لا تليت)، فاختصرنا بهذا. (المِطْرَقة): الشيء الذي يُضرَب به الحديد، الطَّرق: الضرب، والمِطْرَقة: آلة الضرب. "فيصيح"؛ أي: يُصوِّت ويرفع صوته بالبكاء من تلك الضربة. "يسمعها"؛ أي: يسمع تلك الصيحةَ والبكاءَ "مَن يليه"؛ أي: مَن يَقرَبُه من الحيوانات "غيرَ الثقلَينِ"؛ أي: غيرَ الجن والإنس فإنهم لا يسمعون صوتَه؛ لأنهم

مكلَّفون بالإيمان بالغيب، والغيبُ ما لم يَرَوه من أحوال القبر والقيامة، ولو سمعوا صوتَ الميت المعذَّب في القبر لصارَ سماعُهم ذلك الصوتَ بمنزلة المعاينة، وحينئذٍ لم يكن الإيمانُ بعذاب القبر إيمانًا بالغيب، بل يكون إيمانًا بالمَرْئِيِّ والمُشاهَد، والإيمانُ بالمَرْئِيِّ ضروريٌّ، والإيمانُ الضروريُّ ليس مُوجِبًا للثواب، وكذلك الإيمانُ عند طلوع الشمس من المغرب غيرُ مقبولٍ، وكذلك إيمانُ الكفارِ في القبر والقيامة غيرُ مقبولٍ. * * * 93 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أحدَكم إذا ماتَ عُرِضَ عليهِ مَقْعدُهُ بالغَداةِ والعَشيِّ، إنْ كان مِنْ أهلِ الجَنَّةِ فمنْ أهلِ الجنَّةِ، وإنْ كان مِنْ أهلِ النَّارِ فمنْ أهلْ النارِ، فيُقالُ: هذا مَقْعدُكَ حتى يبعثَكَ الله يومَ القيامَةِ". قوله: "إن كان مِن أهل الجنة فمِن أهل الجنة"؛ يعني: إذا كان الميتُ من أهل الجنة فيُعرَض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة؛ حتى يفرحَ ويجدَ لذةً منه. قوله: "فمن أهل الجنة": تقدير هذا الكلام: فيُعرَض عليه مقعدُه من مقاعد أهل الجنة، وان كان من أهل النار فيُعرَض عليه مقعدُه من مقاعد أهل النار بالغداة والعشي؛ ليزدادَ حسرتُه وحزنُه، وليصيبَه حَرُّه وسمومُه. * * * 94 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ يهوديةً دخلتْ عليها، فقالت: أعاذكِ الله مِنْ عذابِ القبرِ، فسأَلتْ عائشةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ عذابِ القَبْرِ، فقال: "نعَمْ، عذابُ القبْرِ حقٌّ"، قالت عائشةُ: فما رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدُ

صلَّى صلاةً إلاَّ تعوَّذَ مِنْ عذابِ القبرِ. قولها: "أعاذَكِ الله"؛ أي: حفظَكِ الله من عذاب القبر، وإنما علمت اليهوديةُ كونَ العذاب في القبر؛ لأنها قرأتْ ذلك في التوراة، أو سمعتْ ذلك ممن قرأ في التوراة. قوله: "فسألت عائشةُ - رضي الله عنها - رسولَ الله - عليه السلام - عن عذاب القبر"؛ يعني: لم تعلم ولم تسمع عائشةُ أن العذابَ يكون لأحدٍ في القبر، ولم تعلم أن اليهوديةَ هل هي صادقةٌ في ذلك أم لا، فسألتْ رسولَ الله عليه السلام عن قول اليهودية ذلك: هل هو حق أم لا؟ ومعنى (الحق) هنا: الصدق. وقول عائشة رضي الله عنها: "فما رأيتُ رسولَ الله - عليه السلام - بعدُ صلَّى صلاةً إلا تعوَّذَ من عذاب القبر"، (بعدُ) بضم الدال، تقديره: بعدما سألتُه عن عذاب القبر، حُذف المضاف إليه وبني (بعد) على الضم؛ يعني: عائشة رضي الله عنها لم تسمع رسولَ الله عليه السلام تعوَّذ من عذاب القبر قبل أن سمعتْ عائشة قولَ اليهودية، وبعدما سألتْ رسولَ الله - عليه السلام - تعوَّذَ من عذاب القبر كانت تسمعُ رسولَ الله عليه السلام يتعوَّذ من عذاب القبر خلفَ كلِّ صلاةٍ؛ ليثبتَ في قلب عائشة - رضي الله عنها - وغيرها أن عذابَ القبرِ حقٌّ، وليخبرَ بعضُ الصحابة بذلك بعضًا، وليشتهرَ ذلك بين الأُمَّة، فيحتمل أن النبي - عليه السلام - لم يُوحَ إليه شيءٌ في عذاب القبر قبل أن تسألَه عائشةُ ذلك، فلأجل هذا لم يتعوَّذ من عذاب القبر قبلَ ذلك، فلمَّا سألتْه عائشةُ ذلك أَوحى الله إليه، وأُمر بالتعوُّذ جهرًا ليتعلمَ الناسُ التعوُّذَ من عذاب القبر، ويحتمل أن يكون رسولُ الله - عليه السلام - يتعوَّذ من عذاب القبر قبلَ أن تسألَه عائشة ذلك، ولكن يتعوَّذ سرًّا، وما سمعتْه عائشةُ، فلما سألتْه عائشةُ ذلك كان - عليه السلام - يتعوَّذ من عذاب القبر جهرًا؛ لإعلام الناس ذلك، وهذا الاحتمالُ أصوبُ. * * *

95 - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أنْ لا تَدافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسمِعَكُمْ مِنْ عذابِ القَبْرِ"، ثم قال: "تَعَوَّذوا بالله مِنْ عذابِ النّار"، فقالوا: نعوذُ بالله مِنْ عذابِ النَّار، ثم قال: "تَعوَّذُوا بالله مِنْ عذابِ القبرِ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنْ عذابِ القَبْرِ، قال: "تعوَّذُوا بالله مِنْ الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بطَنَ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنَ الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، قال: "تعوَّذُوا بالله مِنْ فتْنَةِ الدَّجَّالِ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنْ فتنَةِ الدَّجالِ. قوله: "لولا أن لا تَدَافَنُوا" أصله: أن لا تتَدَافَنُوا، فحُذفت التاءُ الأولى التي هي حرفُ المضارعة لثقلِ اجتماعِ التاءَين، والتدافُن: أن يدفنَ بعضُ القوم بعضًا. قوله: "لَدعوتُ الله أن يسمعَكم من عذاب القبر"، (يُسمعكم) بضم الياء وكسر الميم: مضارع معروف؛ من أسمع: إذا حَمَلَ أحدًا على السماع، وأوصل كلامًا في سمع أحد؛ يعني: إن دعوتُ الله أن يُوصلَ إلى آذانكم أصواتَ المعذَّبين في القبر لَخفتُم من أن يصيبَكم من العذاب ما أصاب الميتَ، ودهشتُم حتى لم تقدروا على دفن الميت من غاية الخوف والدهشة، وتَركتُم الميتَ غيرَ مدفونٍ من عدم قدرتكم على الدفن من الخوف؛ يعني: لولا أني أخافُ أن يلحقَكم هذا الخوفُ والدهشةُ لَدعوتُ الله تعالى أن يُسمعَكم أصواتَ المعذَّبين في القبر، ويحتمل أن يكون معناه: إن سمعتُم صوتَ المعذَّب في القبر لم يدفن واحدٌ منكم أقاربَه؛ من خوف أن يسمعَ الناسُ أصواتَ أقاربه المعذَّبين في القبر، فيلحقه عارٌ وخجلٌ وفضيحةٌ، بل يُلقي مَن مات من أقاربه في الصحاري البعيدة من البلاد؛ وكيلا يسمعَ الناسُ صوتَ عذابه، فيصير مستخجلاً، فلولا أني أخافُ أن تفعلوا بموتاكم هذا الفعلَ لَدعوت الله تعالى أن يُسمعَكم أصواتَ المعذَّبين في القبر.

فإن قيل: معناه: لولا أنكم لو سمعتُم صوتَ المعذَّب في القبر لم تدفنوا أحداً، كيلا يلحقه العذاب في القبر، لأن العذابَ يلحق في القبر، فلولا أنكم ظننتُم كونَ العذاب في القبر وتركتُم الدفنَ لَدعوتُ الله تعالى أن يُسمعَكم عذابَ القبر. قلنا: هذا التأويل خطأٌ عظيمٌ وظنُّ سوءٍ في حق الصحابة؛ لأن الصحابةَ يعلمون أن الله تعالى قادرٌ على أن يُعذَّبَ الميتَ في القبر وفي وجه الأرض، وكذلك لو غرقَ أحدٌ في الماء أو أكلَه سَبُعٌ لَعذَّبَه الله إن كان مُستحقًا للعذاب في جوف البحر وبطن السَّبعُ وهكذا؛ ليعتقدَ كلُّ مسلمٍ ويعلمَ أن عذابَ الميت بعدَ الموت وقبلَ القيامة - سواءٌ كان في القبر أو غيره - يكون لجميع الكفار وبعض العُصَاة من المسلمين تكفيرًا لِذنوبِ مَن عُذَّبَ من المسلمين. قوله عليه السلام: "تعوَّذُوا بالله من عذاب النار"، (التعوُّذ): طلب الدفع، (تعوَّذُوا)؛ أي: اطلبوا من الله تعالى أن يدفعَ عنكم عذابَ النار، ويدل هذا على أن لا يجوز لأحدٍ أن يَأمَنَ من عذاب الله، بل يكون كلُّ واحدٍ خائفًا من العذاب باكيًا على الذنوب سائلاً من الله العفوَ والعافيةَ. قوله: "تعوَّذُوا بالله من الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ"، (الفتن) جمع: فتنة، وهي الامتحان، ويُستعمل في البلاء والمكروه، و (ما ظهر منها وما بطن)؛ أي: الجَهر والسَّرُّ، وقيل: (ما ظهر): ما يجري على ظاهر الإنسان، و (ما بطن): ما يكون في القلب من الشرك والرياء والحسد وغير ذلك من مذمومات الخواطر، و (بطن) ضد (ظهر). واسم جدِّ "زيد": الضحَّاك بن زيد بن لَوْذان، وهو أنصاري. * * * مِنَ الحِسَان: 96 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قُبِرَ الميِّتُ أتاهُ

ملَكَانِ أسودانِ أزرقان، يُقالُ لأحدهِما: المُنْكَرُ، وللآخرُ: النَّكيرُ، فيقولانِ: ما كُنْتَ تقولُ في هذا الرَّجُلِ؟ فيقولُ: هوَ عبدُ الله ورسولُهُ، أشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فيقولان: قَدْ كنَّا نعلمُ أنَّكَ تقولُ هذا، ثمَّ يُفْسَحُ لهُ في قبْرِه سبعونَ ذِراعًا في سَبعين ذِراعًا، ثمّ يُنَوَّرُ لهُ فيهِ، ثمَّ يقال له: نَمْ، فيقول: أَرجِعُ إلى أهلي فأُخْبِرهُمْ؟ فيقولان: نَمْ كنومة العَرُوسِ الذي لا يُوقِظُهُ إلاَّ أحبُّ أهلِهِ إليه، حتى يبعثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلك، وإنْ كانَ مُنافِقًا قال: سمعتُ الناسَ يقولونَ فقلتُ مِثْلَهُ، لا أَدري، فيقولان: قَدْ كُنَّا نعلمُ أنَّك تقولُ ذلك، فيقولان للأرض: التئِمي عليه، فتلتئمُ عليه، فتختَلِفُ أَضلاعُهُ، فلا يَزالُ فيها مُعذَّبًا حتى يبعَثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلك". قوله: "إذا قُبِرَ الميتُ أتاه مَلَكان ... " إلى آخره، (قُبِرَ): ماضٍ مجهول، معناه: وُضِعَ في القبر. قوله: "أسودانِ أزرقانِ"؛ يعني: لونهما أسود وهما أزرقا العين، ومَن كانت هذه صفتَه يكون خوفُه في قلوب الناس أشدَّ، وإنما يبعثُهما الله تعالى على هذه الصورة ليكونَ خوفُهما على الكفار أشدَّ؛ ليتحيَّروا في الجواب، وأما المؤمنون فلا يخافون منهما مع أن صوتَهما مخوفةٌ، بل يثبت الله ألسنةَ المؤمنين بجوابهما؛ لأن مَن خاف الله تعالى في الدنيا وآمَنَ به وبما أَنزلَ على أنبيائه لم يَخَفْ في القبر منهما. وهذا الحديث يدل على أنهما بهذه الصورة يأتيانِ الكفارَ والمسلمين والصالحَ والفاسقَ. "المُنكَر ... والنكير": كلاهما ضد المعروف، تقول لمَن تعرفه: معروف، ولمن لا تعرفه: مُنكَر ونكير؛ سُمَّيَا بهذا الاسم لأن الميتَ لم يَعرِفْهما ولم يَرَ مثلَ صورتهما.

و (النكير) فعيل بمعنى مفعول، من نَكِرَ - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - نَكَرًا: إذا لم يَعرِف أحدًا، و (المُنكَر) مفعول من (أُنكِر) بمعنى: نكير. قوله: "في هذا الرجل"؛ أي: في هذا الرجل الذي بُعِثَ عليكم بالنبوَّة. "قد كنا نعلم أنك تقول هذا"؛ يعني: قد علِمْنا فيك السعادةَ وجوابنا على وجهٍ يحبُّه الله؛ لأنَّا رأينا في وجهك أثرَ السعادة وشعاعَ نور الإيمان. ويحتمل أن يخبرَهما الله بكونه سعيدًا. "يُفسَح" بضم الياء وفتح السين؛ أي: يُوسَّع قبرُه، طوله "سبعودن ذراعًا"، وعرضه سبعون ذراعًا. "ثم يُنوَّر" بضم الياء وفتح الواو؛ أي: يُجعَل في قبره الضياء والنور. "ثم يُقال: نَمْ"، (نَمْ): أمر مخاطب من: نام ينام نومًا. قوله: "فيقول: أَرجِعُ إلى أهلي"؛ يعني: فيقول الميت: أُريد أن أرجعَ إلى أهلي و"أخبرهم" بأن حالي طيِّبٌ لا حزنَ لي؛ ليفرحوا بكون عَيشي طيِّبًا. قوله: "العَرُوس": الزوج والزوجة في أول اجتماعهما، يستوي في لفظة (عروس) الرجل والمرأة، وإنما قال: (كنومة العروس)؛ لأن العَرُوسَ تكون في أطيب العيش ونيل المراد، ويُحبُّه ويُعزِّزُه أقاربُه وأحبَّاؤُه في ذلك الوقت؛ يعني: يقال لذلك الشخص: نَمْ في القبر على أحسنِ حالٍ وأطيبِ عيشٍ؛ فإنه لا رجوعَ من القبر إلى الدنيا. قوله: "الذي لا يُوقظُه إلا أحبُّ أهله إليه"، أَيقَظَ يُوقِظُ: إذا نبَّه أحدًا من النوم، (الذي): موصول، وما بعده صلته، والموصول والصلة صفة للعروس، والمراد بالعروس ها هنا: الرجل؛ لأنه قال: (الذي لا يُوقِظُه)؛ ولم يقل: التي لا يُوقِظُها.

قوله: (لا يُوقظُه إلا أحبُّ أهله إليه): عبارةٌ عن عزَّته وتعظيمه عند أهله، يأتيه غداةَ ليلةِ زفافهِ أمُّه أو أبوه، ويُوقِظُه من النوم على الرِّفق واللُّطف. قوله: "حتى يبعثَه الله تعالى من مَضجَعِه ذلك"، (حتى): متعلق بمحذوف؛ يعني: يَنامُ طيبَ العيش حتى يبعثَه الله تعالى يومَ القيامة، (البعث): الإحياء بعد الموت (¬1). المَضجَع بفتح الجيم: موضع الضجع، وهو النوم، من ضَجَعَ - بفتح العين في الماضي والغابر -: إذا نامَ. قول النبي عليه السلام: "وإن كان منافقًا قال: سمعتُ الناسَ"؛ يعني: إذا سأل المَلَكانِ المنافقَ عن النبي - عليه السلام - قال في جوابهما: (سمعت الناس يقولون)؛ أي: سمعتُ المسلمين يقولون: إنه نبيٌّ، "فقلتُ" مثل قولهم، ولا أعلم أنه نبيٌّ في الحقيقة أم لا. قوله: "فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك"؛ يعني: يقولان له: إنا رأينا في وجهك أثرَ الشقاوة وظُلمةَ الكفر، فعلمنا أنك لا تجيبنا على وجه الصواب. قوله: "فيقال للأرض: التَئِمِي عليه"، (التَأمَ): إذا اجتمع، وهو افتعل من (لأَمَ): إذا جمع، والياء في (التئمي) ضمير مؤنث مخاطب؛ لأن (الأرض) مؤنث، (الاختلاف): إدخال شيء في شيء. (الأضلاع) جمع: ضلع، وهو عظم الجنب؛ يعني: يُؤمَر قبرُه حتى يَقرُبَ كلُّ جانب منه إلى الجانب الآخر ويُضمَّه ويعصرَه، فينضمَّ القبرُ ويعصرَه حتى ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "ويجوز أن تكون (حتى) في قوله: (حتى يبعثه) متعلقة بـ (نم) على الالتفات؛ أي: نَمْ كما ينام العروس حتى يبعثَك، فالتفت وقال: (يبعثه) ".

يَدخلَ عظمُ جانبه الأيمن في جانبه الأيسر، وعظمُ جانبه الأيسر في جانبه الأيمن. * * * 97 - ورواه البَراء بن عازِب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتيه مَلَكَانِ فَيُجْلِسانِهِ فيقولان له: مَنْ رَبُّكَ؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دِينُكَ؟ فيقول: دِيني الإِسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما يُدريك؟ فيقول: قرأْتُ كتابَ الله، فآمنتُ بهِ وصدَّقْتُ، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، قال: فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفرِشوهُ مِنَ الجنَّةِ، وأَلبِسوهُ مِنَ الجنَّةِ، وافتحُوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأْتيه من رَوْحِها وطِيْبها، ويفتح لها فيها مَدَّ بصَرِهِ، وأمَّا الكافرُ"، فذكر موتَه، قال: "ويُعادُ رُوحه في جسَده، ويأْتيه مَلَكَانِ، فيُجلِسانِهِ، فيقولان: من ربُّكَ؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أَدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أدري، فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ كذَب، فأَفرِشُوه من النَّار، وأَلبِسُوه من النَّار، وافتحوا له بابًا إلى النَّار"، قال: "فيأْتيه من حَرِّها وَسَمُومِها"، قال: "ويُضَيَّقُ عليهِ قبْرُهُ حتَّى تختلفَ فيهِ أضلاعُه، ثُمَّ يُقَيَّضُ لهُ أَعمى أصمُّ، معه مِرْزَبَّةٌ من حديدٍ لو ضُرِبَ بها جبلٌ لصار تُرابًا، فيضربه بها ضَربةً يسمعها ما بين المَشرق والمَغرب إلا الثَّقلَيْنِ، فيَصير تُرابًا، ثم يُعادُ فيه الرُّوح". قوله: "ورواه"؛ أي: روى هذا الحديثَ المتقدمَ البراءُ كما رواه أبو هريرة، إلا أن ألفاظَهما مختلفةٌ.

قوله: "يأتيه"؛ أي: يأتي المؤمنَ. "وما يدريك": (ما) للاستفهام. و (يُدْرِي) بضم الياء وكسر الراء: مضارع معروف، من أَدْرَى: إذا أَعلَمَ؛ يعني: أيُّ شيءٍ أَعلَمَك وأَخبَرَك بما تقول من قولك "ربي الله" ... إلى آخر ما تقول؟ قوله: "قرأت كتاب الله"؛ يعني: قرأتُ القرآنَ و"آمنتُ به" أنه حقٌّ، وصدَّقته على ما فيه، فوجدتُ فيه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] و {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] وغير ذلك من الآيات الدالة على أن ربَّي وربِّ المخلوقات هو الله تعالى. ووجدتُ أيضًا فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وكذلك: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وكذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]؛ فعلمتُ أنه لا دينَ مَرضيًّا بعد مجيء محمد - عليه السلام - إلا الإسلامُ، فوجدتُ فيه أيضًا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] و {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وغير ذلك من الآيات الدالة على أن محمدًا رسولُ الله على كافة الخلق، فعلمتُ أن محمدًا رسولُ الله. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن الرجلَ يَعرف صدقَ الرسول من القرآن، وهذا لا يستقيم؛ لأن الرجلَ ما لم يعرف صدقَ الرسولِ لا يعرف أن القرآنَ كلامُ الله. الجواب: أن النبي - عليه السلام - يُعرَف صدقُه بالمعجزة، بل لا طريقَ إلى معرفة النبي - عليه السلام - إلا بالمعجزة؛ فإن النبي - عليه السلام - إذا أَظهرَ المعجزةَ عَرفَ الناسُ أنه لو لم يكن نبيًا لم يَقدِر على إظهار المعجزة التي ليست

بمقدورِ البشر؛ لأنه لو كانت في قدرة البشر لَقَدرَ عليها كلُّ مَن كان مثلَ النبي - عليه السلام - في القوة والعقل والفصاحة، فإذا رأى الرجلُ في نفسه ما كان في النبي - عليه السلام - من أوصاف البشرية ولم يَقدِر على مثل ما أتى به النبي - عليه السلام - من المعجزة عَلِمَ أنها ليست إلا من الله تعالى، والقرآن أكبرُ معجزةٍ من معجزات النبي عليه السلام؛ فإن الرجلَ إذا تفكَّر في القرآن يعلم أنه لا يشبه كلامَ البشر، فيعلم أنه كلامُ الله تعالى، والله تعالى لا يُنزل كلامَه إلا على رسوله، فعَلِمَ الرجلُ أنَّ مَن أُنزِلَ عليه هذا الكلامَ رسولُ الله عليه السلام. "فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} "، (فذلك) إشارة إلى جريان لسان المؤمن (¬1) بجواب المَلَكين؛ يعني: إنما جرى على لسانه الصدقُ والصوابُ في جواب المَلَكينِ؛ لأن الله تعالى أَخبَرَ أنه يُثبِّت المؤمنين بكلمة الشهادة في الدنيا وفي القبر، وكلُّ ما أَخبَرَ به الله تعالى لا يكون إلا كذلك. قوله: "أنْ صَدَقَ عبدي"؛ يعني إنْ صَدَقَ بما يقول فإنه كان في الدنيا على هذا الاعتقاد عن الإخلاص والصدق لا عن النفاق والرياء، فإذا كان له هذا الاعتقادُ عن الإخلاص فهو مستحقٌّ للإكرام؛ فأَكَرِمُوه. قوله: "فأَفرِشُوه من الجنة"، (فأَفْرِشُوه): بفتح الهمزة مَرويٌّ، وهذه همزة قطع، وهو أمر مُخاطَبين من أَفْرَشَ: إذا أَمرَ أحدًا أو حَمَلَ أحدًا بفرش بساط، واللام مقدَّر في (فأفرشوه)؛ أي: فأَفرِشُوا له؛ يعني: فأمروا بفَرشِ بساطٍ مِن بُسطِ الجنة. قوله: "وأَلبِسُوه"، (أَلبِسُوه) بفتح الهمزة وكسر الباء: أمر مُخاطَبين، من (أَلْبَسَ): إذا كَسَا أحدًا لباسًا وأعطاه لباسًا، يقال: لَبِسَ زيدٌ بنفسه وأَلْبَستُه أنا؛ يعني: (أَلْبِسُوه) "من" ثياب "الجنة" والضمير في (أَفرِشُوه) وما بعده للملائكة ¬

_ (¬1) قال في حاشية "ت": "في نسخة: المؤمنين".

أو لخَزَنَة الجنة. قوله: "مِن رَوحها"؛ أي: من رائحة الجنة ولذتها. قوله: "ويُفسَح له فيها"؛ أي: في الجنة "مَدَّ بَصَرِه"، (المَدُّ): البَسط والتوسيع، والمراد منه ها هنا: إلى حيث ينتهي إليه بصره. فإن قيل: قال قبلَ هذا: (يُفتَح له سبعون ذراعًا في سبعين)، وقال ها هنا: (يُفتَح له فيها مَدَّ بَصَرِه)، كيف التوفيقُ بينهما؟ قلنا: (سبعون ذراعًا في سبعين) عبارةٌ عن توسُّع قبره، و (مَدّ البصر) هنا عبارةٌ عن ما يُعرَض عليه من الجنة، فبينهما فرقٌ، ويحتمل أن يكون ذلك لمن درجتُه أقلُّ ممن له هذا؛ لأن مَدَّ البَصَر أكثرُ من سبعين ذراعًا. قوله: "فذَكرَ موتَه"؛ أي: فذَكَرَ حالَ موته وشدةَ صوتِه، والسؤال منه في القبر، فإن قيل: لِمَ ذكر هنا "ويُعاد روحُه في جسده"، ولم يقل في قصة المؤمن: إنه يُعاد روحُه في جسده؟ قلنا: لأنه ذَكَرَ ثَمَّ ما يدل على أن روحَه يُعاد في جسده، وهو قوله عليه السلام: "فيُجلِسانه فيقولان له: مَن ربُّك؟ " والإجلاسُ والسؤالُ عنه إنما يكون بعدَ أن يُعادَ روحُه في جسده. قوله: "هَاهْ هَاهْ" بسكون الهاء بعد الألف، هذه الكلمة يقولها المُتحيَّر في الكلام من الخوف أو من عدم الفصاحة، وليس لها معنًى، ولكن إذا صَدَرَتْ هذه الكلمةُ من شخصٍ عُلِمَ أنه لا يَقدِرُ على جواب السائل، بل هو متحيَّر في جوابه؛ يعني: هذا الكافرُ يتحيَّر في جواب المَلَكَين. "فينادي منادٍ من السماء: أنْ كَذَبَ"؛ يعني: كَذَبَ أنه لا يدري مَن ربُّه وما دِينهُ ومَن هذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيهم؛ لأن الكفارَ يعلمون أن ربَّهم هو الله تعالى، ويعلمون أن دِينَهم هو الإسلامُ وأن نبيَّهم محمد رسولُ الله عليه السلام،

ولكن لا يؤمنون حسدًا وبغضًا. فإن قيل: لِمَ قال في قصة المؤمن: (أنْ صَدَقَ عبدي) ولم يقل ها هنا: (عبدي)؟ قلنا: لأن إضافةَ الله تعالى العبدَ إلى نفسِه تشريفٌ له، والمؤمنُ مستحقٌّ التشريفَ، بخلاف الكافر. قوله: "فيأتيه مِن حَرِّها وسمومِها"، والضميران يرجعان إلى "النار"، و (الحَرُّ) هنا: تأثير النار إليه، و (السموم): الريح الحارَّة؛ يعني: يَلحَقُه أثرُ حَرَّ النار والريح الحارَّة. قوله: "ثم يُقيَّضُ له أعمى أصمُّ"، (ثم يُقيَّض) بضم الياء الأولى وفتح الثانية وتشديدها؛ أي: يُقدَّر له ويُوَكَّل عليه زبانيةٌ لا عين له؛ حتى لا يرى عجزَه وجريانَ دمعِه؛ كيلا يرحمَ عليه ولا يسمعَ صوتَ بكائه واستغاثته. قوله: "معه مِرْزَبَّةٌ من حديد"، المسموع في الحديث: (مِرْزَبَّة) بتشديد الباء، ولكن في اللغة: مِرْزَبَة بتخفيف الباء، وهو الشيء الذي يُكسَر به المَدَر، والإرْزَبَّة مثله، ولكن الباء من الإرْزَبَّة مشددة، بخلاف المِرْزَبَة. * * * 98 - عن عُثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -: أنه كان إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتَّى يبُلَّ لِحيتَهُ، فقيل له: تذكرُ الجنَّة والنَّار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ القبْرَ أوَّلُ منزلٍ مِنْ منازِلِ الآخرة، فإنْ نجَا منهُ فما بعدَهُ أيسَرُ منهُ، وإنْ لمْ ينجُ منهُ فما بعدَهُ أشدُّ منهُ". قال: وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأَيتُ مَنْظَرًا قط إلا والقبْرُ أفظَعُ منهُ"، غريب. قوله: "أنه كان"؛ أي: كان عثمانُ "إذا وَقَفَ على قبرٍ"؛ أي: على رأسِ

قبرٍ، أو عندَ قبرٍ "يبكي حتى يبلَّ لحيتَه" من الدمع، "فقيل له: تذكرُ الجنةَ والنارَ ولا تبكي"؛ يعني: تسمع ذكرَ الجنة والنار ولا تبكي من خوف النار واشتياق الجنة، "وتبكي من" خوف القبر؟ قوله: "أولُ منزلٍ من منازل الآخرة"؛ يعني: للآخرة منازلُ، أولُها القبرُ، ومنها عَرْصَةُ القيامة عند العرض، ومنها الوقوفُ عند الميزان، ومنها المرورُ على الصراط، ومنها الجنةُ والنارُ. "فإن نجا"؛ أي: فإن نجا الرجلُ في القبر من العذاب تكون نجاتُه علامةَ السعادة. "فما بعده"؛ أي: فما بعدَ القبرِ من أحوال القيامة تكون أيسرَ وأسهلَ عليه. "وإن لم ينجُ" من العذاب في القبر يكون عذابُه في القبر علامةَ الشقاوة، فيكون ما بعد القبر من أحوال القيامة أشدَّ وأشقَّ عليه؛ يعني: قال عثمان: لأجل هذا أبكي من خوف القبر، فما أدري: أَنْجُو من عذاب القبر حتى يكونَ ما بعدَه أيسرَ عليَّ أم لا أَنْجُو منه حتى يكونَ ما بعدَه أشدَّ عليَّ. وحيث ذُكِرَ (عثمانُ) مطلقًا فاعلم أنه عثمانُ بن عفَّانَ بن العاص بن أميةَ بن عبدِ شمسِ بن عبدِ مَناف، وكنية "عثمان": أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله؛ والأول أشهر. "قال: قال رسول الله عليه السلام: ما رأيتُ منظرًا قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ منه"، الضمير في (قال) لعثمان - رضي الله عنه -، (المنظر): الموضع الذي ينظر إليه، (أفظع): أفعل التفضيل من فَظُعَ - بضم العين في الماضي والغابر - فظاعةً: إذا صار الشيءُ هولاً مُنكَرًا شديدًا؛ يعني: قال عثمان - رضي الله عنه -: قال رسول الله عليه السلام: ما رأيتُ شيئًا إلا والقبرُ أشدُّ وأفزعُ وأنكرُ منه. * * *

99 - وعن عُثمان - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا فرَغَ منْ دَفْنِ الميِّتِ وقفَ عليه فقال: "استَغْفِرُوا لأخيكم، ثمَّ سَلُوا له بالتثبيت، فإنه الآنَ يُسْأَل". قوله: "وقف عليه"؛ أي: وَقَفَ على رأس القبر. "استَغْفِرُوا لأخيكم"؛ أي: اطلُبُوا المغفرةَ من الله تعالى لهذا الميت، "ثم سَلُوا"؛ أي: اسألوا واطلبوا من الله تعالى أن يُثبَّتَ لسانَه بجواب المُنكَر والنكير؛ فإنهما يَسألانِه في هذه الساعة. وهذا الحديثُ يدل على أن دعاءَ الحيَّ ينفع الميتَ، وعلى أنه يُستحبُّ للأحياء أن يدعوا للأموات، وعلى أن سائرَ المسلمين بعضُهم أخو بعضٍ. وهذا الحديث لا يدل على تلقين الميت عند الدفن كما هو عادة الناس؛ لأنه ليس في هذا الحديث لفظٌ يدل عليه (¬1)، ولم نجد أيضًا حديثًا مشهورًا فيه. وأورد الغزالي في كتاب "إحياء العلوم" والإمام الطبري في كتابه المُسمَّى بـ "كتاب الأدعية" حديثًا في تلقين الميت عند الدفن؛ ولم يُصحِّحه بعضُ المحدَّثين. وأما قوله عليه السلام: "لقَّنُوا أمواتَكم قولَ لا إله إلا الله" فالمراد بهذا قبلَ الموت لا بعد الموت، أما لو لَقَّنَ أحدٌ الميتَ عند الدفن لم يكن فيه حرجٌ؛ لأنه ليس فيه إلا ذكرُ الله تعالى، وعرض الاعتقاد على الميت والحاضرين، والدعاءُ للميت وللمسلمين، ويكون فيه إرغام لمُنكِري الحشر والبعث وأحوال القيامة؛ وكلُّ ذلك حسنٌ. * * * ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل مراد الشارح: أن الحديث يدل على تلقين الميت عند الدفن، لتستقيم هذه الجملة مع ما بعدها، أو: أن يقوَّم ما بعد هذه الجملة عليها، لِتتفق مع الصواب الذي عليه جمهور العلماء من عدم استحباب تلقين الميت عند الدفن، وأن المراد بالتلقين ما كان قبل الموت، والله أعلم.

100 - عن درَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُسلَّطُ على الكافرِ في قبْرِه تسعةٌ وتسعون تِنِّينًا تنْهَشُهُ وتَلْدغُه حتى تقومَ الساعةُ، لو أنَّ تِنِّينًا منها نَفَخ في الأَرضِ ما أنبتتْ خَضْراء". قوله: "يُسلَّط": هذا فعل مضارع مجهول من التسليط، وهو أن يُجعَل أحدٌ مُوكَّلاً على أحدٍ ليعذِّبَه ويُؤذِيَه. (التنِّين) بتشديد النون الأولى: نوعٌ من الحياتِ كثيرُ السم، (نَهَشَ) و (لَدَغَ) كلاهما بفتح العين في الماضي والغابر، ومعناهما واحد في اللغة، وذِكرُ كلا اللفظَين هنا؛ إما للتأكيد، أو لبيان أنواع العذاب؛ لأنه ربما يكون النَّهشُ أشدَّ ألمًا من اللَّدغ، أو بالعكس. "حتى تقوم الساعة"؛ أي: حتى يجيءَ يومُ القيامة. قوله: "لو أن تنِّينًا منها نفخَ في الأرض لَمَا أنبتت خضراءَ": يصف شدةَ سمِّه وحرارةَ فمِه؛ يعني: لو وصلَ ريحُ فمِه وحرارتُه في الأرض ما أنبتت خضراءَ واحترقت الأرضُ من حرارته، بحيث لا ينبت في الأرض نباتٌ أخضرُ، ولم يبقَ في الأرض نباتٌ أو شجرٌ أخضرُ، وتقييد (التنِّين) بـ (تسعة وتسعين) اختُلف فيه؛ فالأصح أنه إنمَّا قيَّد رسولُ الله - عليه السلام - بتسعة وتسعين لحكمةٍ عَلِمَها هو - عليه السلام - بطريق الوحي، ولم يعرفها غيره، وهذا كتقييده - عليه السلام - الاستغفارَ بسبعين مرةً أو بمئةِ مرةٍ وغير ذلك من الأعداد. وقيل: إنما قيَّده بتسعة وتسعين؛ لأن لله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا، كلُّ اسمٍ مأخوذٌ من صفةٍ، كالرحمن والرحيم والملك، ويأتي بحثه في موضعه إن شاء الله تعالى. والكافرُ أَنكرَ هذه الأسماءَ وهذه الصفاتِ وأَشركَ بمَن له هذه الأسماءُ، فوُكِّلَ عليه بعدد كل اسم منها تنيَّنٌ، وحصل للمؤمنين بعدد كل اسم منها أقرَّ به رحمةٌ،

5 - باب الاعتصام بالكتاب والسنة

كما قال عليه السلام: "إن لله مئةَ رحمةٍ، أَنزلَ منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، بها يَتَعاطفون، وبها يَتَراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها، وأخَّرَ تسعةً وتسعين رحمةً يرحم بها عباده"، (التعاطُف): جريان العطف بين الاثنين، و (العطف): الشفقة والرحمة. * * * 5 - باب الاعتِصام بالكتاب والسُّنَّة (باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة) مِنَ الصِّحَاحِ: 101 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحدَثَ في أَمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهوَ رَدٌّ". قوله: "أحدث": إذا أتى بشيءٍ جديدٍ "في أمرنا"؛ أي: في دِيننا "هذا"؛ أي: هذا الدِّين الذي بُعِثْتُ به "ما ليس فيه"؛ أي: ما ليس نحن أَمَرْنا به أو فَعَلْنا، وما ليس في القرآن "فهو رَدٌّ"؛ أي: فهو مردودٌ؛ يعني: مَن فعلَ فعلًا أو قالَ قولًا في الدِّين، وليس ذلك في القرآن ولا في أحاديث رسول الله عليه السلام، لا يجوز قَبولُه، ويُسمى ذلك الفعلُ أو القولُ: بدعةً. واعلم أن البدعةَ نوعانِ: سيئ وحسن؛ فالسيئُ كالزيادة على أركان الصلاة عمدًا وأداء الصلوات النوافل على الدوام بالجماعة وغير ذلك. والحَسَنُ كالمَنَارة وتكثير درجات المِنبر لزيادة إعلام الأذان، وكزيادة الأذان الأول يومَ الجمعة قبل الأذان الذي يكون بعد صعودِ الخطيبِ المِنبرَ؛ فإن أميرَ المؤمنين عثمانَ - رضي الله عنه - وضعَه، وغير ذلك مما لم يَرَ فيه علماء السُّنَّة إثمًا، بل

رَأَوا فيه مصلحةً فلا بأس به، ولا تجوز البدعةُ السيئة. * * * 102 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمَّا بعدُ، فإنَّ خَيْرَ الحديث كتابُ الله، وخَيْرُ الهُدي هَدْي محمدٍ، وشرُّ الأُمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعةٌ، وكلُّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ". قوله: "أما بعدُ": هاتان الكلمتان يقال لهما: فصل الخطاب، وأكثر استعمالها بعد تقدُّم قصةٍ أو حمدٍ لله تعالى وصلاةٍ على النبي عليه السلام، وكأن الأصل أن يقال: أما بعد حمدِ الله تعالى، و (بعد) إذا كان له مضافٌ إليه ولم يكن قبله حرفُ جر فهو منصوبٌ على الظرفية، وإذا قُطِعَ عنه المضافُ إليه بقي على الضم كما ها هنا، والمفهوم من هذَين اللفظَين أن النبي - عليه السلام - قال هذا الحديثَ في أثناء خطبته ووعظه (¬1). قوله: "فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله تعالى"، الفاء جواب لـ (أما)؛ لأن فيه معنى الشرط، و (الحديث): الكلام، ولا شك أن كلامَ الله تعالى خيرٌ من كلام المخلوقين. قوله: "وخيرَ الهَدْي هَدْيُ محمَّدٍ" عليه السلام، و (خيرَ) منصوبٌ؛ لأنه معطوف على اسم (إن)، (الهَدْي): السيرة والطريقة، وهو مصدر يقع على الواحد والتثنية والجمع، فـ (الهَدْي) الأول بمعنى الجمع، والثاني بمعنى الواحد؛ يعني: خيرُ الطُّرُقِ والسَّيَرِ طريقُ محمَّدٍ - عليه السلام - وسيرتهُ ودِينُه. (المُحدَثات) بفتح الدال جمع مُحدَثة، وهي مفعول من أُحدِثَ، والمراد ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "الحديث يدل على أنه صَدَرَ عنه عليه السلام في أثناء خطبته ووعظه؛ لأن (أما بعد) يستعمل غالبًا بعد تقدُّم شيء"، زين العرب.

بـ (المُحدَثات): البِدَع والضلالات من الأفعال والأقوال. "وكلُّ مُحدَثة"؛ أي: كلُّ خصلةٍ مُحدَثةٍ "بدعةٌ"؛ أي: فهي بدعةٌ، ومعنى (المُحدَثة) و (البدعة) في اللغة واحدٌ. ولكن المراد بالبدعة في الحديث: المُخالِفة للسُّنَّة (¬1)؛ يعني: كلُّ خصلةٍ أتى بها جديدًا لم يقلْها النبيُّ - عليه السلام - فهي مخالفةٌ للسُّنة، ومخالفةُ السُّنةِ ضلالةٌ، والضلالةُ: تركُ الطريق المستقيم والذهابُ إلى غير الطريق، والطريق المستقيم: هو الشريعة، ومَن مالَ عن الشريعة فقد ضلَّ عن طريق الحق. * * * 103 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغَضُ النَّاسِ إلى الله ثلاثةٌ: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنَّةَ الجاهلية، ومُطَّلِبٌ دمَ امرئٍ بغير حقًّ ليُهريقَ دمَه"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. قوله: "مُلْحِدٌ في الحَرَم"، أَلْحَدَ: إذا مالَ عن الحق، ومُلْحِد في الحَرَم؛ أي: مائلٌ عن الحق في الحَرَم؛ يعني: مَن لم يُعظِّم حُرمة الحَرَم ويفعل فيه معصيةً فالمعصيةُ قبيحةٌ، وفي الموضع الشريف أقبحُ. قوله: "ومُبْتَغٍ في الاسلام سُنَّةَ الجاهلية"، ابتغى: إذا طلبَ؛ يعني: من دخل في الإسلام وطلب وتمنَّى ما هو عادة الجاهلية، كالمَيْسِر وقتل الأولاد وغير ذلك. قوله: "ومُطَّلِبٌ دمَ امرئٍ مسلمٍ بغير حق ليُهريقَ دمَه"، و (مُطَّلِب) بتشديد الطاء: اسم فاعل من (اطَّلَبَ)، وأصله: اطتلب، فقُلبت التاءُ طاءً ¬

_ (¬1) في "ش": "مخالفة السُّنة".

وأُدغمت (الطاء) في الطاء، ومعناه: طَلَبَ ليهريق، هذا اللفظ من أَرَاقَ يُرِيقُ إراقةً: إذا صبَّ الماءَ وغيرَه، فقُلبت الهمزةُ هاءً، فقيل: هَرَاقَ يُهَرِيقُ: بفتح الهاء؛ لأن أصلَ يُريق: يُؤَرِيقُ بفتح الهمزة، فحُذفت الهمزةُ كيلا تجتمع همزتان في الإخبار عن نفس المتكلم، نحو قولك: (أُريق)؛ فإن اجتماعَ الهمزتَين ثقيلٌ، فلمَّا قُلبت الهمزةُ هاءً زال عنه الثقل، فلم يُحذَف في المستقبل وغيره، فقيل: يُهَراق. وقيل: بل الهاءُ ساكنةٌ زائدةٌ في الماضي وغيره، تقول في الماضي: أَهْرَاقَ بسكون الهاء، وفي المستقبل: يُهَرِيقُ، وأصله: يُؤَهْرِيق بفتح الهمزة وبقيت الهاءُ ساكنةً. واعلم أن (الناس) في قوله: "أبغض الناس" ليس المراد به: جميع الناس؛ لأن المراد من المذكورين في هذا الحديث: مسلمون، فكيف يكون المسلمون أبغضَ إلى الله من الكفار، بل يراد به: المُذنِبون؛ يعني: أبغضُ المسلمين المُذنبِين إلى الله تعالى هذه الثلاثةُ؛ لأن هذه الذنوبَ الثلاثةَ المذكورةَ في هذا الحديث أشدُّ الذنوب. * * * 104 - وقال: "كلُّ أُمتي يَدخلونَ الجنَّة إلاَّ مَنْ أَبى"، قالوا: ومَنْ يأْبى يا رسول الله؟ قال: "مَنْ أَطاعني دخلَ الجنَّةَ، ومَنْ عصاني فقد أَبى"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "إلا مَن أَبَى"؛ أي: امتَنع عن قَبول الشرع أو عن العمل بالشرع، فمَن امتنعَ عن قَبول الشرع جاحدًا واستخفافًا للشرع فهو كافرٌ لا يدخل الجنةَ، ومَن ترك شيئًا من الشرع غيرَ جاحدٍ، بل من الكسل فهو مسلمٌ مُذنِبٌ وهو يدخل الجنةَ؛ إلا أنه يدخل الجنةَ بعد أن يعذَّبَ بقَدْر ذَنْبه، أو قبل أن عُذب، فهذا في

مشيئة الله تعالى. قوله: "ومَن عصاني فقد أَبَى": هذا يدل على أن مَن عَصَى رسولَ الله لا يدخل الجنةَ؛ لأنه قال: (كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلاَّ مَنْ أَبَى)؛ أي: مَنْ أَبَى لا يدخل الجنةَ فإن كان مَن عصاه كافرًا فلا شك أنه لا يدخلُ الجنةَ، وإن كان مسلمًا فهذا يكون للزجر والتهديد. * * * 105 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءتْ ملائكةٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو نائمٌ فقالوا: إنَّ لصاحبِكُم هذا مثَلاً فاضرِبُوا له مثَلاً، قال بعضُهُمْ: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهُمْ: إنَّ العيْنَ نائمةٌ والقلبَ يَقْظانُ، فقالوا: مثَلُهُ كمثَلِ رجل بنى داراً، وجعل فيها مَأدُبةً، وبعثَ داعيًا، فمَنْ أجابَ الداعيَ دخلَ الدَّارَ وأَكلَ من المَأْدُبة، ومَنْ لمْ يُجبِ الداعيَ لمْ يدخُلِ الدَّارَ ولمْ يأْكلْ مِنَ المأدُبة، فقالوا: أوِّلُوها لهُ يَفْقَهْها، قال بعضُهُمْ: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهُمْ: إنَّ العينَ نائمةٌ والقلْبَ يَقْظانُ، فقال بعضهم: الدارُ الجنَّةُ، والدَّاعي محمدٌ، فمَنْ أطاعَ محمدًا فقد أطاعَ الله، ومَنْ عصى محمدًا فقدْ عصَى الله، ومحمدٌ فرق بينَ الناس. قوله: "جاءت ملائكة"؛ أي: جاءت جماعةٌ من الملائكة "إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -"؛ ليضربوا له مَثَلاً ليحفظَه ويخبرَ به أُمتَه، "فقالوا: إن لصاحبكم هذا مَثَلاً"؛ أي: فقال بعضُ أولئك الملائكة لبعض: (إن لصاحبكم)؛ أي: لمحمدٍ هذا، و (هذا): إشارةٌ إلى محمد عليه السلام. المِثْل والمَثَل والشِّبْه والشَّبَه واحد، وأكثر استعمال (المَثَل) في شيءٍ يُشبَّه به شيءٌ آخرُ تقول: زيدٌ مَثَلٌ في الجُود؛ أي: له جودٌ كثيرٌ يُشبَّه الأسخياءُ به.

قوله: "قال بعضهم: إنه نائم"؛ يعني: قال بعضهم: لا يفيد ضربُ المَثَل في هذه الساعة؛ لأنه نائمٌ، والنائمُ لا يَفهَم ولا يَعلَم ما يقولون، وقال بعضهم: هو تنام عينُه ولا ينامُ قلبُه، فإذا كان كذلك يَفهَم ويَعلَم ما يقولون. (اليقظان): نعت مذكر، من يَقِظَ - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - يقظانًا، وهو ضد نام. "المَأدُبة" بضم الدال: الطعام الذي يُصنعَ للأضياف. قوله: "وبعث داعيًا"؛ يعني: أَرسلَ باني الدار أحدًا يدعو الناسَ إلى تلك الدارِ والمأدُبةِ التي صنعَ فيها. قوله: "فقالوا: أَوَّلُوها له يَفْقَهْها"، (فقالوا)؛ أي: فقال بعضُهم لبعضٍ (أَوَّلُوها)؛ أي: فَسَّروا هذه الحكايةَ أو هذه الدارَ والمأدُبةَ، (التأويل): التفسير، (له)؛ أي: لمحمد عليه السلام. (يفقهها) أصله: يَفْقَهْ بسكون الهاء؛ لأنه مجزوم بجواب الأمر، وهو من فَقِهَ - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - فقهًا: إذا أَدرَكَ وفَهِمَ شيئًا، فأُدغمت هاء يفقه في الهاء التي بعدها؛ لأن كلَّ حرفَين متماثلَين أولهما ساكنٌ فإدغامُ الأول في الثاني لازمٌ. قوله: "قال بعضهم: إنه نائم"؛ يعني: قال بعض الملائكة: إنه نائمٌ، وإذا كان نائمًا كيف يفقه ما نقول من تفسير المَثَل؟ وقال بعضهم: يفقه؛ لأن قلبَه ليس بنائمٍ. قوله: قولهم: "فالدارُ الجنةُ، والداعي محمَّدٌ" رسول الله، ذَكَرَ في المَثَل أربعةَ أشياءَ: أحدها الدار، والثاني بانيها، والثالث المأدبة، والرابع الداعي.

وذَكَرَ في التفسير شيئَين: الجنة والداعي، ولم يذكر الباقيين؛ لتقدُّم ذكرهما؛ يعني: الدار الجنة، والباني: هو الله تعالى، والمأدُبة: طعام الجنة، والداعي: محمد رسول الله، فمَن أطاعَ محمدًا عليه السلام يدخل الجنةَ ويأكل طعامَ الجنة ويرضى الله تعالى عنه. "ومن عَصَى محمدًا" رسولَ الله يكون بخلاف ذلك. قوله: "محمدٌ فَرَقَ بين الناس"، (فرَقَ): فعلٌ ماضٍ؛ يعني: محمدٌ ميَّز وفصَل بين الحق والباطل، والكفر والإسلام، والحلال والحرام، وفي بعض النسخ: "فَرْقٌ بين الناس" بسكون الراء وضم القاف، وهو مصدر بمعنى: الفارق. * * * 106 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ ثلاثةُ رهطٍ إلى أَزْواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يسأَلونَ عن عِبادةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أُخبِرُوا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أينَ نحنُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد غفَرَ الله لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ وما تأخَّر؟ فقال أحدُهم: أمَّا أنا فأُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال الآخر: أنا أصومُ النهارَ ولا أُفطِرْ، وقال الآخر: أنا أَعتزلُ النِّساءَ فلا أَتزوَّجُ أبدًا، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتمُ الذين قُلْتمْ كذا وكذا؟ أما والله إنَّي لأَخشاكم للهِ وأَتْقاكُم له، لكنَّي أَصُومُ وأُفطِرْ، وأُصلِّي وأَرقُدْ، وأتزوَّجُ النَّساءَ، فمَنْ رغبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي". قوله: "جاء ثلاثة رَهْط"، (الرهط): الجماعة ما دون العشرة، (ثلاثة رهط)؛ أي: ثلاثة أَنْفُس، قيل: هم علي وعثمان بن مظعون وعبد الله بن رواحة، جاؤوا "إلى أزواج النبي - عليه السلام - يسألونهن عن" قَدْرِ "عبادة النبي عليه السلام"، وعن وظائفه من العبادات في كل يوم وليلة؛ حتى يفعلوا مثلَ ما يفعل

النبي عليه السلام. قوله: "فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها"، الضمير في (تقالُّوها) يرجع إلى (العبادة)، و (التقالُّ): وجدان الشيء قليلاً، (تقالُّوها)؛ أي: وجدوا تلك العبادةَ قليلةً، وقد ظنوا أن وظائفَ رسولِ الله - عليه السلام - من العبادات كثيرةٌ. قولهم: "أين نحن من النبي"؛ أي: بيننا وبين النبي بُعْدٌ بعيدٌ؛ لأنَّا مُذنِبون، وهو مغفورٌ ذنُوبه، وهو أعزُّ المخلوقات إلى الله تعالى، فإذا كان كذلك فلا يحتاج إلى عبادةٍ كثيرةٍ. فإن لم يفعل عبادةً كثيرةً لم يكن له بذلك عيبٌ ونقصانٌ، لكنَا نحن مُذنِبون وليس لنا عند الله تعالى قَدْرٌ مِثْل قَدْرِه، فإذا كان كذلك نحتاج إلى عبادةٍ كثيرةٍ؛ فَلْيَزِدْ كلُّ واحدٍ منا على عبادة الرسول عبادةً كثيرةً، وقد حفظوا الأدبَ ولم يَعِيبوا رسولَ الله - عليه السلام - بقلة عبادته، بل أظهروا عذرَه ولاموا أنفسَهم في مقابلتِهم أنفسَهم بالنبي عليه السلام، وعلموا أن مقابلتَهم أنفسَهم بالنبي - عليه السلام - كان خطأ؛ فَلْيتعلَّمِ المُريدون والتلامذةُ مجالسةَ المشايخ والأستاذِين من هؤلاء، ولا ينبغي للمُريد أن ينظرَ إلى الشيخ بعين الاحتقار وإن رأى عبادتَه قليلةً، بل لِيُظهِرْ عذرَه وَلْيَلمْ نفسَه إن جرى في خاطره إنكارُ شيخه؛ لأن مَن اعتَرَضَ على شيخه لن يُفلِحَ. واعلم أن قلةَ وظائف النبي - عليه السلام - من العبادات إنما كانت رحمةً على أُمته؛ لأنه لو عمل عباداتٍ كثيرةً تجتهد أُمته أن يعملوا مثلَ عمله، وحينئذٍ يلحقهم ضررٌ ومشقةٌ، فلأجل هذا لم يعمل عباداتٍ كثيرةً. واعلم أنه اختُلف في قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا

تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]؛ قيل: ما كان قبل النبوة وما كان بعدها، وقيل: قبل الفتح وبعده. وقيل فيه أقوالٌ كثيرةٌ يطول ذكرها. "فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلِّي الليلَ أبدًا"؛ يعني: أُصلي اللياليَ فلا أَرقد. "وقال الآخر: أنا أصومُ النهارَ ولا أُفطر"؛ أي: ولا أفطر في النهار، و (الإفطار): الأكل بعد الصوم. "وقال الآخر: أنا أَعتزلُ النساءَ فلا أتزوَّج"، (الاعتزال): الاجتناب والتباعد؛ يعني: أَتباعَدُ من النساء فلا أنكحُهن أبدًا. قوله عليه السلام: "أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؟ " يعني: أنتم الذين وضع كلُّ واحدٍ منكم على نفسه شيئًا من العبادات على مخالفتي، ولم أكن أمرتُ بها ولم أَفعلْها أنا؟ قوله: "أَمَا والله إني لأَخشاكم لله وأتقاكم له"، (أَمَا) بفتح الهمزة وتخفيف الميم معناه: اعلَمْ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والتثنية والجمع؛ أي: أشدُّكم خشيةً لله وأتقاكم؛ أي: أشدُّكم تقوًى، و (التقوى): الحذر والاجتناب من معصية الله تعالى؛ يعني: إن وضعتُم هذه العباداتِ على أنفسكم من شدة خشيتكم وتقواكم لله تعالى فإن خشيتي وتقواي أشدُّ، ومع هذا ما وضعتُ على نفسي شيئًا مما وضعتُم على أنفسكم، فلِمَ فعلتُم شيئًا لم يأمركم به الله ولا رسولُه؟! فلا تفعلوا هذا؛ فإن لأنفسكم عليكم حقًّا، وإن لأزواجكم عليكم حقًّا، ويأتي ذكر هذا مستقصًى في حديثٍ آخرَ إن شاء الله تعالى. قوله: "لكني أَصوم وأُفطر"؛ يعني: أنا لا أفعل كما فعلتم، بل أَصوم وقتًا وأُفطر وقتًا، "وأصلي"، في بعض الليل "وأرقد"؛ أي: أنام في بعضٍ،

"وأتزوَّج النساءَ"؛ لأن الله تعالى خلقَ النساءَ للرجال وركَّب في الرجال والنساء الشهوةَ، كما خلقَ فيهم الاحتياجَ إلى الطعام، فكما أنه لا بد من الطعام فكذلك لا بد للرجال من النساء، والتزوُّجُ مُباحٌ، وهو سبب العبادات؛ لأنه يحصل به دفعُ الزَّنا من الرجال والنساء، ويُؤجَر الرجلُ بما يعطي زوجتَه من النفقة والكسوة، ويُؤجَر أيضًا بمكالمته ومجالسته إياها وتحصيل الأولاد. والأولادُ عبادُ الله، وأُمَّةُ محمدٍ عليه السلام، ولا شك أن تكثيرَ عبادِ الله تعالى وأُمةِ النبي - عليه السلام - عبادةٌ، فإذا كان كذلك فلا ينبغي لمَن يحتاج إلى النكاح ويقدر على تحصيل الكسوة والنفقة أن يتركَ التزوُّجَ. قوله عليه السلام: "فمَن رَغبَ عن سُنتي فليس مني"، رغب عن الشيء: إذا تركَه وأعرضَ عنه؛ يعني: مَن تركَ ما أَمرتُ به من أحكام الدين فرضًا كان أو سُنةً عن الاستخفاف بي وعدم الالتفات إليَّ فليس مني؛ لأنه كافرٌ، وأما مَن تركَ لا عن الاستخفافِ وعدم الالتفات، بل عن الكسلِ لم يكن كافرًا، وعلى هذا قوله: (فليس مني) تكون للزجر والوعيد، ويكون معناه: فليس من المُقتَدِين والعاملين بسُنَّتي. * * * 107 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهُونَ عنِ الشيءِ أصنَعُهُ، فوالله إنَّي لأَعلَمهُمْ بالله، وأشدُّهُم له خَشْيةً". قوله: "ما بالُ أقوامٍ"؛ أي: ما حالُ أقوامٍ، (ما): للاستفهام بمعنى التوبيخ والإنكار.

(يتنزَّهون)؛ أي: يتباعدون، فيحترزون "عن الشيء": الذي أفعله، الصُّنع: الفعل، "أَصنعُه"؛ أي: أَفعلُه. قوله: "إني لأَعلمُهم بالله"؛ أي: بعذاب الله وغضبه وعظمته؛ يعني: أنا أفعلُ شيئًا من المباحات مثل النوم والأكل في النهار والتزوج، وقومٌ يحترزون عنه؛ فإن احترزوا عنه لخوف عذاب الله تعالى فإني أعلمُ بقَدْر عذاب الله تعالى، فأنا أَولى أن أَحترِزَ عنه؛ فإذا لم أحترز عنه فاعلموا أنه لا يحصل به عذابُ الله تعالى؛ لأن العذابَ لا يحصل بفعل المباح، وإنما يتعلق بفعل المعصية. * * * 108 - وقال رافِع بن خَدِيْج: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أَعلَمُ بأمرِ دُنياكُم، إذا أُمرتُكُم بشيءٍ منْ أَمرِ دينِكُمْ فخُذوا بهِ". قوله: "أنتم أعلمُ بأمر دنياكم"، سببه: أن رافعَ بن خَديج بن رافعِ بن عدي، وكنية "رافع": أبو عبد الله، قال: لمَّا قدمَ رسولُ الله - عليه السلام - المدينةَ رأى أهلَ المدينة يُؤبِّرون النخلَ، قال: "ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنع هكذا أبدًا، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، فتركوا التأبير، فنقصت ثمارُهم، فذكروا لرسول الله - عليه السلام - أنَّا تركْنا التأبيرَ، ففسد الثمار، فقال رسولُ الله - عليه السلام - هذا الحديثَ؛ يعني: أنتم أعلمُ بالأمور الدنيوية وأنا أعلم بأمور الدَّين؛ إذا أمرتُكم بشيء من أمور الدين فاقبلوه. * * *

109 - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما مَثَلي ومَثَلُ ما بَعَثني الله بهِ كمثلِ رجُلٍ أتى قومًا فقال: يا قوم! إنَّي رأيتُ الجيشَ بعَينَيَّ، وإنَّي أنا النَّذيرُ العُريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأطاعَهُ طائفةٌ مِنْ قومهِ فأدلَجوا، فانطلَقُوا على مَهَلِهِمْ، فَنَجَوا، وكذَّبتْ طائفةٌ منهم، فأصبحوا مكانَهُمْ فصبَّحَهُمُ الجيشُ فأهلكَهُمْ واجتاحَهُمْ، فذلك مثَلُ من أطاعَني فاتَّبعَ ما جئتُ بِهِ مِنَ الحقِّ، ومَثَلُ مَنْ عصاني وكذَّب بما جئت بهِ مِنَ الحقِّ". قوله: "إنما مَثَلي ... " إلى آخره؛ يعني: أنا مبعوث لأُخوَّفَ الناسَ وأُعلِّمَهم بأن عذابَ الله تعالى نازلٌ على مَن لا يؤمن بي كـ "النذير العُريان"، وهو الذي يرى جيشًا يقصدون قومَه وقَرُبُوا منهم، ويخاف الرجلُ إن أتاهم ليخبرَهم يأتيهم الجيشُ قبلَه، فيقف عن بعيدٍ وينزع ثوبه ويشير إليهم بثوبه، ويناديهم: إن جيشًا قصدوكم وقربوا منكم ففِرُّوا، (النذير) بمعنى: المُنذِر، وهو المُعلِّم مع التخويف. "فالنَّجاءَ" مصدر بمعنى: الإسراع، ويجوز أن يكون مقصورًا وممدودًا، وتقديره: انجوا نجاءً؛ أي: أسرِعوا الإسراعَ في الفرار، وفي بعض النسخ: "فالنَّجا" مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وفي "شرح السُّنة" وأكثرِ الروايات مرة واحدة. قوله: "فأطاعه طائفة"؛ أي: فأطاعَ النذيرَ العُريانَ طائفةٌ "من قومه"، فصدَّقوه مرةً واحدةً، ففرُّوا من العدو ونَجَوا، وكذَّبه طائفةٌ فلم يفرُّوا وأقاموا بمكانهم، فأتاهم الجيشُ فأهلكَهم، فكذلك مَن صدَّق النبيَّ - عليه السلام - وآمَنَ بما يأمر به، فينجو مِن عذاب الله تعالى، ومَن كذَّبه يُخلَّد في نار جهنم. (الإدلاج): المشي في أول الليل، و (المَهَل) بفتح الميم والهاء: السكون والتأنَّي.

"فأَدلَجُوا على مَهَلهم"؛ أي: فذهبوا في أول الليل على الرِّفق والسكون، "فأصبحوا مكانَهم"؛ أي: دخلوا في وقت الصباح في ذلك المكان، وأقاموا بذلك المكان حتى ظهر الصبح، (الإصباح): الدخول في وقت الصباح. "فصبَّحهم الجيش" بتشديد الباء؛ أي: أتاهم الجيشُ في وقت الصبح؛ لأن عادةَ الجيش أن يُغِيرُوا في وقت الصبح، (التصبيح): الذهاب في وقت الصباح والدخول في وقت الصباح. "واجتاحهم"؛ أي: استَأصَلَهم وأَهلَكَهم بالكُلِّية، وهو افتعل؛ من جاحَ يَجُوحُ جَوحًا: إذا قَلَعَ الشجرَ من الأصل. قوله: "فذلك مَثَلُ مَن أطاعني"؛ أي: مَثَلُ مَن أطاعني كمَثَلِ مَن صدَّقَ النذيرَ العُريانَ، ومَن عصاني كمَن كذَّب النذيرَ العُريانَ. * * * 110 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلي كمثَلِ رجلٍ استوقدَ نارًا، فلمَّا أضاءتْ ما حولها جعلَ الفَراشُ وهذهِ الدوابُّ التي تقعُ في النَّارِ يقعنَ فيها، وجعلَ يحجُزُهُنَّ، ويغلِبنهُ فيقتَحمنَ فيها، قال: فذلكَ مَثَلي ومَثَلُكم، أنا آخذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ: هلُمَّ عنِ النارِ، هلمَّ عنِ النارِ، فتغلِبونني فتقحَّمُون فيها". قوله: "استَوقَد"؛ أي: أَشعلَ وأَضرَمَ "ما حولها"؛ أي: جوانب تلك النار. "جعل"؛ أي: طَفِقَ "الفراشُ": شيءٌ يشبه الذبابَ، وعادته أن يُلقي نفسَه في النار إذا رأى ضوءَ النار. قوله: "وهذه الدوابُّ التي تقع في النار"؛ يعني: الفراش وغيره من

الدوابِّ التي عادتُها إلقاؤُها أنفسَها في النار. "يَقَعْنَ فيها"، النون ضمير جماعة الإناث، وهي الفراش والدواب التي تقع في النار، والضمير في (فيها) يرجع إلى النار. قوله: "وجعل يَحجُزُهنَّ"، (وجعل)؛ أي: طَفِقَ ذلك الرجلُ الذي استوقدَ النارَ (يَحجُزُهن)؛ أي: يَمنعُهنَّ ويُبعدهن عن النار حتى لا يَقَعْنَ فيها. "ويَغْلِبنه"؛ أي: لا يَقْدِرُ ذلك الرجلُ أن يدفعَهن عن النار. "فيتقحمن"؛ أي: يُلقينَ أنفسَهن بالعنف في النار. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك مثلي ومثلكم"؛ يعني: أمنعكم من وصول نار جهنم بأن آمركم بالخيرات وأنهاكم عن المعاصي فلا تقبلون قولي، وتلقون أنفسكم في نار جهنم بمخالفتكم إياي. قوله: "أنا آخذ بحجزكم عن النار"، الحُجَز بفتح الجيم: جمع حجزة، وهو ما يدخل فيه التِّكَّة من الإزار، ومن أراد أن يأخذ أحدًا بقوة ويبعده عن شيء، يأخذ بحجزته ويجره حتى يبعده عن ذلك الشيء؛ يعني أنا أجرُّكم حتى أبعدكم عن النار. قوله: "هلم عن النار"، (هلم): له معنيان؛ أحدهما: ائت وتعال، والثاني: ائت به، فالمعنى الأول لازم، والثاني متعد، وهو أمر مخاطب، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والتثنية والجمع، هذا هو الأصح (¬1). وقيل: بل يتصرف كما يتصرف، أخرج وغيره من أمر المخاطب، وهو ها هنا لازم؛ أي: أقول لكم: تعالوا وابعدوا عن النار. قوله: "تقحمون" أصله: (تتقحمون) فحذفت التاء الأولى للتخفيف؛ ¬

_ (¬1) من هنا بداية سقط في النسخة الخطية المرموز لها بـ "ش".

يعني: تلقون أنفسكم في نار جهنم بفعل المعاصي. * * * 111 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ ما بعثَني الله بهِ منَ الهُدَى والعِلْمِ كمثلِ الغَيْثِ الكثيرِ، أصابَ أرضًا، فكانتْ منها طائفةٌ طيِّبةٌ قَبِلتِ الماءَ، فأَنبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أَجادِبُ أَمسكتِ الماءَ، فنفعَ الله بها الناسَ، فشرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعوا، وأصابَ منها طائفةً أُخرى إنَّما هيَ قِيعانٌ لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلكَ مثَلُ مَنْ فَقهَ في دينِ الله ونفعَهُ ما بعثني الله بهِ فعَلِمَ وعَلَّم، ومثَلُ مَنْ لمْ يرفعْ بذلكَ رأْسًا ولم يقبَلْ هُدَى الله الذي أُرسِلْتُ بهِ"، رواه أبو مُوسَى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. قوله: "كمثل الغيث الكثير"، (الغيث): المطر. قوله: "فكانت منها طائفة" (من) في (منها) للتبعيض، ومعنى (الطائفة) البعض والجماعة؛ يعني: الأرض إذا أصابها المطر تكون على ثلاثة أقسام: أحدها: أرض "طيبة" لينة "قبلت الماء"؛ أي: دخل الماء فيها "فأنبتت الكلأ والعشب" وهما الحشيش الرطب، فكذلك أنبتت الرياحين والزرع وغير ذلك مما ينتفع به الناس. القسم الثاني: الأجادب، وهي جمع: (أجْدَب) بالجيم والدال غير المعجمة، وهي الأرض الصلبة التي تقبل الماء بقدر ما تروى، ثم بعد ريِّها يقف على وجهها الماء. قوله: "فينفع الله تعالى بها الناس" الضمير في (بها) يرجع إلى (أجادب)؛ يعني: ينتفع الناس من الماء الواقف على وجه تلك الأرض، "فشربوا" منه "وسقوا" دوابهم وزروعهم وأشجارهم، فهذان القسمان من الأرض ينتفع بهما.

وأما الثالث: لا خير، فيه وهو القيعان، والقيعان: جمع قاع، وهي الأرض المستوية التي لا يقف على وجهها الماء، بل يدخل فيها، ولا ينبت منها شيء لكونها سبخة. قوله: "فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى"، (فقه) بضم العين في الماضي والغابر، وبكسرها في الماضي، وفتحها في الغابر: إذا فهم وأدرك الكلام. اعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس في قبول العلم قسمين: أحدهما: (من فقه في دين الله تعالى ... " إلى آخره. والثاني: "من لم يرفع بذلك رأسًا"؛ يعني: تكبر "ولم يقبل" الدين، يقال: لم يرفع فلان رأسه بهذا؛ أي: لم يلتفت إليه من غاية تكبره، وإنما ذكر ذلك؛ لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث أنهما ينتفع بهما الناس. فالحاصل: أن الأرض إذا جاءها المطر قسمان: أحدهما: ينتفع به، والثاني: لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: أحدهما: من يقبل العلم وأحكام الدين، والثاني: لا يقبلهما، هذا بحث جعل الناس في الحديث قسمين: أحدهما: ينتفع به والثاني: لا ينتفع به. وأما في الحقيقة: الناس على ثلاثة أقسام؛ فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الأول، ومنهم من يقبل من علم بقدر ما يعمل به ويبلغ أيضًا درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الثاني، ومنهم من لا يقبل العلم، فهو القسم الثالث. وإنما شبه العلم والهدى بالمطر؛ لأن المطر سبب إحياء الأرض، والعلم

والهدى سببان لإحياء القلوب. * * * 112 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} "، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتِ الذينَ يَتَّبعون ما تشابهَ منه، فأولئكَ الذينَ سمَّى الله، فاحذَروهم". قوله: "وقالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله عليه السلام". "تلا"؛ أي: قرأ: {هُوَ الَّذِي} الضمير راجع إلى ما قبله، وهو قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]. قوله: " {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ": (من) للتبعيض؛ أي: بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه. " {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} "، الأم: الأصل؛ أي: الآيات المحكمات أصل الكتاب؛ لأن المحكم هو الذي يعمل به، والمتشابه لا يعمل به، ولكن يؤمن به, فالمحكم يؤمن به ويعمل به، والمتشابه يؤمن به ولا يعمل به، فالذي يؤمن به ويعمل به أصل، والذي يؤمن به فقط فرع له. قوله: " {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} "؛ أي: وآيات أخر متشابهات، و (أُخرَ): جمع أخرى، و (أخرى) تأنيث (آخر) بفتح الخاء. واختلف العلماء في المحكم والمتشابه، قال مجاهد: المحكم ما يُعلم معناه، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وكقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، والمتشابه: ما لا يعلم معناه، بل اشتبه معناه علينا، بل لا يعلمه إلا الله، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، وما أشبه ذلك.

وقد قيل في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة، وهذا القول أقربها وأشبهها بهذا الحديث. قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}؛ أي: ميل عن الحق إلى الباطل، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}؛ يعني: يبحثون في الآيات المتشابهات {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}؛ أي: لابتغاء الفتنة، والابتغاء: الطلب؛ أي: لطلب إيقاع الشك والخصومة بين المسلمين {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}؛ أي: ولابتغاء تأويله، والتأويل ما يؤل إليه المعنى؛ أي: يرجع إليه؛ أي: يبحثون فيه لاستنباط معانيه وكيفيته وحكمه. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قال محيي السنة وهو مؤلف "المصابيح": إن أهل السنة يقفون على قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ} , ثم يبتدؤون بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، هذا تفسير الآية. قوله: "فإذا رأيت الذين": هذا خطاب لعائشة، والمراد: عائشة وجميع المسلمين "فأولئك الذين سمى الله"، (سمى) يقتضي مفعولين، وكلا المفعولين هنا محذوف، وتقديره: فأولئك الذين سماهم الله أهل الزيغ، "فاحذروهم" أيها المسلمون ولا تجالسوهم ولا تكالموهم؛ فإنهم أهل البدعة والضلالة والزيغ. * * * 113 - وقال عبد الله بن عمْرو - رضي الله عنهما -: هجَّرْتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فسمعَ صوتَ رَجلينِ اختلفا في آيةٍ، فخرجَ يُعرفُ في وجههِ الغضَبُ، فقال: "إنما هلكَ مَنْ كانَ قبلكُمْ باختلافِهِمْ في الكتابِ". قوله: "وقال عبد الله بن عمرو: هجَّرت إلى رسول الله عليه السلام" (التهجير): المشي في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار ومدة وقت غاية

الحرارة، (هجرت إلى رسول الله)؛ يعني: مشيت قبل الزوال إلى باب رسول الله عليه السلام، أو إلى مسجد رسول الله عليه السلام، وإنما مشى عبد الله في هذا الوقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون حاضرًا في المسجد أو في بابه قبل خروجه حتى إذا خرج عليه لا يفوته شيء مما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، وفي فعل عبد الله تحريض الناس على تحمل الحرارة والمشقة والإسراع إلى المسجد وفي طلب العلم. قوله: "فسمع صوت رجلين"؛ أي: فسمع رسول الله عليه السلام من حجرته صوت رجلين في المسجد، أو في موضع قريب من حجرته. "اختلفا في آية": أي: تنازعا وتخاصما في آية، واختلافهما في الآية يحتمل أن يكون في آية متشابهة؛ يبحث أحدهما في معناه وينهاه الآخر عنه، ويحتمل أن يختلفا في ألفالظها؛ فيقول أحدهما: لفظها هكذا، ويقول الآخر: بل هكذا، فخرج إليهم رسول الله غضبان، ونهاهم عن الاختلاف في القرآن؛ لأن الاختلاف إن كان في معنى آية متشابهة فلا يجوز؛ لأن الآية المتشابهة يجب الإيمان بها ولا يتعرض لمعناها، وإن كان الاختلاف في ألفاظ القرآن لا يجوز أيضًا؛ لأنه إذا أشكل على قوم لفظ من ألفاظ القرآن أنه كيف هذا اللفظ، وأنه من القرآن أم لا، فلا يجوز التكلم به من تلقاء أنفسهم، بل ليسألوا أهل القرآن عن ذلك اللفظ، فما ثبت عند القراء أنه جاء عن النبي عليه السلام يجب قبوله ولا يجوز الاختلاف فيه، وما لم يثبت أنه جاء عن رسول الله عليه السلام لا يجوز قبوله. قوله: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب"؛ يعني: هلك اليهود والنصارى وخابوا وخسروا حين اختلفوا في التوراة والإنجيل، وقال كل واحد منهم مَن شاء مِن تلقاء نفسه من غير علم، ومن غير أن يسأل العلماء عن ذلك. * * *

114 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوني ما تركتُكُمْ، فإنَّما هلكَ مَنْ كان قبلَكُمْ بكثْرةِ سُؤالهمْ واختلافِهِمْ على أنبيائهِمْ، فإذا أمرتُكُمْ بشيءٍ فأْتُوا منهُ ما استطعتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شيءٍ فَدَعُوه"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وقال رسول الله عليه السلام: ذروني". قوله: "ذروني"؛ أي: اتركوني ولا تسألوني. "ما تركتكم"؛ أي: ما دمتُ أترككم ولا آمركم بشيء. و (ذَرْ)؛ أي: اترك، وأصل هذا: وَذَرَ يَذَرُ مثل: وَسَعَ يَسَعُ، والمستعمل منه المستقبل والأمر والنهي، ولا يستعمل منه الماضي والفاعل والمفعول. قوله: "فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم" وإنما كثرةُ سؤالهم الأنبياء كان سبب الهلاك؛ لأن الأنبياءَ مبعوثون من الله تعالى على الحق، ولا يبعثُ الله أحدًا بالرسالة على الخلق إلا إذا كان أمينًا بمراعاة مصالح أمته، وتعليمهم ما هم محتاجون إليه، ونهيهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة، فإذا كان النبيُّ بهذه الصفة فلا تحتاج الأمة أن يكثروا السؤال بين يديه، فإن كثرةَ السؤال من النبي علامةُ سوء ظن الرجل في كون النبي عليه السلام تاركًا لتعليم ما به نجاته، ونهيه عما يضره، فلا شكَّ أن سوء الظن بالنبي عليه السلام مهلك الرجل، بل من شأن الأمة التسليم بين يدي النبي وتقبل ما يأمره النبي عن اعتقاد عظيم فيه، وتسكُتُ إذا سكَتَ النبي عليه السلام، ولْيُعتَقَدُ سكوته وتكلمه عينُ المصلحة. وكذلك المريد بين يدي الشيخ، فان المشايخ قالوا: مَنْ قال لشيخه: لِمَ؟ لن يفلح؛ لأنه من قال لشيخه: لِمَ قلت هذا؟ أو لم فعلت هذا؟ لن يفلح لأنه ضعيف الاعتقاد في الشيخ، فإذا كان الاعتراضُ على الشيخ سببَ حرمان الرجل

الإفلاح (¬1)، فما بال مَن اعترض على نبيِّه. قوله: "واختلافهم على أنبيائهم" معنى (الاختلاف) هنا: الاعتراض؛ أي: واعتراضُهم على أنبيائهم، والشكُّ في أقوالهم. قوله: "فأتوا منه ما استطعتم"؛ يعني: لا تتركوا أمري عن الجحود، ولكن إذا كان لكم عذر وتركتموه عن العذر، لا يكون عليكم حرج مثل: ترك الصوم بعذر المرض أو السفر ليقضيه بعد زوال العذر، وإذا لم يقدروا على الصلاة، عن القيام فصلوا عن القعود، وإن عجزتم عن القعود فصلوا مضطجعين. "فدعوه"؛ أي: فاتركوه. * * * 115 - وقال: "إنَّ أعظمَ المُسلمينَ في المُسلمينَ جُرْمًا مَنْ سألَ عَنْ شيءٍ لمْ يُحرَّمْ، فَحُرِّمَ من أجلِ مسألتِه"، رواه سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -. قوله: (إن أعظم المسلمين ... من سأل عن شيء)؛ يعني: من سأل نبيه عن شيء غير محرم، هل هو محرم أو لا؟ فحرم ذلك الشيء لأجل سؤاله. وكان ذنب هذا السائل أعظم من غيره من المسلمين؛ لأنه كان سببًا لحرمان جميع المسلمين من ذلك الشيء؛ لأنه لو لم يسأل عنه لم يحرم، ولو لم يحرم لانتفع به المسلمون، فكأنه منع المسلمين عن ذلك الشيء، ولا شك أن مَنْ فعل فعلاً يلحق ضرره جميع المسلمين أعظم ذنبًا من الذي فعل فعلاً يلحق ¬

_ (¬1) لعلَّ المراد من الكلام الذي ساقه الشارح هنا: أن من اعترض على شيخه اعتراضًا خارجًا عن آداب وسلوك الشرع، أو خالف الشيخَ فيما أجمع عليه العلماء مثلاً، أو سفَّه رأيًا لأحد الأئمة، ونحو هذا = لا يرجى له الفلاح، وقد نقلت كتب التاريخ قصصًا كثيرة في هذا، والله أعلم.

ضرره واحدًا أو جماعة قليلة كالقتل وغيره، وهذا زجر عن كثرة سؤال الأمم النبيين؛ لأنا قد قلنا: إن سؤال الأمم النبيين معصية. والمنع والزجر عن السؤال مخصوص بزمان نزول القرآن، وأما بعد وفاة النبي عليه السلام، فلا بأس بالسؤال؛ لأنه لا يحرِّمُ حلالاً ولا يحل حرامًا بعد النبي عليه السلام. وكنية "سعد": أبو إسحاق، واسم أبيه: مالك بن أُهَيْبِ [بن عبد مناف] ابن زُهْرَةَ بن كلاب القرشي، وكنية مالك: أبو وقاص. * * * 116 - وقال: "يكونُ في آخرِ الزَّمانِ دجَّالونَ كذَّابونَ، يأْتُونكُمْ مِنَ الأحاديثِ بما لمْ تسمعُوا أنتمْ ولا آباؤُكم، فإيَّاكُمْ وإيَّاهُمْ، لا يُضلُّونكمْ، ولا يفتِنُونَكُمْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "يكون في آخر الزمان دَجَّالون"، (دجَّالون) جمع دَجَّال، وهو كثير المَكْرِ والتَلبيس، و (الدجَلُ): التَلبيس؛ يعني: ستكون جماعة يقولون للناس: نحن علماء ومشايخ ندعوكم إلى الدين، وهم كاذبون في ذلك. "يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم"؛ يعني: يتحدثون بالأحاديث الكاذبة، ويبتدعون أحكامًا باطلة، ويعلمون الناس اعتقادات فاسدة، كالروافض والمعتزلة والجبرية وغيرهم من أهل البدع. قوله: "فإياكم وإياهم"؛ يعني: فإياكم بأن تحذروهم، وعليكم أن تحترزوا عنهم ولا تقربوهم؛ كيلا يضلوكم ولا يوقعوكم في الفتنة. * * * 117 - وقال: "لا تُصدِّقُوا أهلَ الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"؛ يعني: إن تحدث اليهود بشيء من التوراة، أو النصارى بشيء من الإنجيل، وقالوا: في التوراة كذا، وفي الإنجيل كذا = (لا تصدقوهم)؛ يعني: لا تقولوا: إنه حق؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، (ولا تكذبوهم)؛ أي: لا تقولوا: إنه كذب؛ لأنه يحتمل أن يكون صدقًا، بل إذا سمعتم منهم شيئًا من هذا فقولوا: " {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ". (الأسباط) جمع سِبْط، يُقال لجماعة ولدوا مِنْ ولدِ من أولاد يعقوب عليهم السلام: سبط، كما يقال لجماعة ولدوا مِنْ ولد مِنْ أولاد إسماعيل عليه السلام: قبيلة. يعني بهذه الآية في هذا الحديث: أن ما يقول اليهود والنصارى إن كان حقًا آمنّا، لأنا آمنا بجميع الرسل وما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقًا فلا نؤمن به ولا نصدقه أبدًا. * * * 118 - وقال: "كفَى بالمَرءِ كَذِبًا أَنْ يُحدِّثَ بكلَّ ما سَمِعَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، (كذبًا) منصوب على التمييز، (أن يحدث) فاعل (كفى)، و (بالمرء) مفعوله. يعني: لو لم يكن للرجل كذبٌ إلا تحدثه بكل ما سمع من غبر تبيُّنِهِ أنه صدق أم كذب = يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن الرجل إذا تحدث بكل ما سمع

لم يخلص من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقًا بل يكون بعضه كذبًا، وهذا زجر عن التحدث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم على الرجل أن يبحث في كلِّ ما سمع من الحكايات والأخبار وخاصة من أحاديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, فإن علم صدقه يتحدث، وإلا فلا يتحدث به. * * * 119 - وقال: "ما مِن نبيٍّ بعثَهُ الله في أُمَّتهِ قبْلي إلاَّ كان لهُ مِن أُمّتهِ حوارِيُّونَ وأصحابٌ يأخذونَ بسنَّتهِ ويقتدُونَ بأمرهِ، ثمَّ إنَّها تخلُفُ منْ بعدِهم خُلوفٌ يقولونَ ما لا يفعلون، ويفعلونَ ما لا يُؤمَرُون، فمنْ جاهدَهُمْ بيدِه فهوَ مؤمنٌ، ومَنْ جاهدَهُمْ بلسانهِ فهوَ مُؤمنٌ، ومَنْ جاهدَهُمْ بقلبهِ فهوَ مُؤمنٌ، ليسَ وراءَ ذلكَ منَ الإِيمانِ حبَّة خَرْدَلٍ"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. وقال: "ما من نبي بعثه الله في أمته". قوله "في أمته" روي: "في أمة" من غير هاء، وروي: "في أمته" بالهاء، وهذا هو الأصح. و (الحواريون) جمع حواري، وهو خليل الرجل، وصاحب سره. "ويقتدُونَ" أصله: يقتدْيُونَ، فنقلت ضمة الياء إلى الدال؛ لسكونها ولسكون الواو، ومعناه: يتَّبِعون. (خَلَفَ) - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - خِلافةً: إذا قام أحد مقام أحد وحفظ أمره، "من بعدهم"؛ أي: من بعد الحواريين والمقتدين لسنة الأنبياء عليهم السلام. (الخُلُوف) بضم الخاء: جمع خَلْف، بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الخليفة السيء، والولد السيء أيضًا.

يعني: لكل نبي أصحاب مختارون صديقون يعملون بفعله وقوله ولا يخالفونه، ثم ذهب أولئك الأصحاب، وأتى بعدهم قوم سوء، وأصحاب شر وفساد، خالفوا وعصوا ذلك النبي، يفعلون ما لا يأمرهم نبيهم، و (يقولون) باللسان مدح أنفسهم، ويقولون: نحن صالحون ومتبعون (¬1) النبي عليه السلام، ولا يفعلون بما يقولون، بل يفعلون الفساد. "فمن جاهدهم"، أي: حاربهم وآذاهم "بيده فهو مؤمن" وإن لم يقدر أن يحاربهم بيده فليحاربهم ويؤذيهم "بلسانه" ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإن لم يقدر أن يؤذيهم بلسانه مخافة أن يقتلوه أو يؤذوه إيذاءً شديدًا فليحاربهم "بقلبه"؛ أي: فلينكرهم بقلبه، ولكن في قلبه غضب وتحرك من فعلهم القبيح ويقول: لو قدرت لحاربتهم. قوله: "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، (وراء ذلك)؛ أي: غير ذلك، و (ذلك) إشارة إلى جهادهم بالقلب. يعني: من لم ينكرهم بقلبه بعد العجز عن جهادهم بيده ولسانه، فلم يكن حبة خردل من الإيمان؛ لأن المؤمن ينكر الكفر والعصيان، فمن لم ينكرهما فقد رضي بهما، والرضى بالكفر كفر. والمراد بهذا الحديث: أنه كما كان لكل نبي حواريون ثم جاء من بعدهم قوم يخالفون ذلك النبي، فكذلك يكون في آخر الزمان من أمتي من يرتد عن الدين، ومن يضع البدعة والضلالة، فإذا وجدتموهم فحاربوهم بما قدرتم من اليد واللسان وإنكارهم بالقلب. * * * ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "يتبعون"، ولعل الصواب ما أثبت.

120 - وقال: "لا يَزالُ من أُمَّتي أُمةٌ قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرُّهم مَنْ خذلَهُمْ ولا مَنْ خالَفَهُمْ حتى يأْتي أمرُ الله وهم على ذلك"، رواه مُعاوية - رضي الله عنه -. قوله: "لا يزال"؛ أي: أبدًا يكون "في (¬1) أمتي": طائفة قائمون على الدين، ثابتون على أوامر الله تعالى، متباعدون عن المعاصي، آمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، وحافظون أمور الشريعة. قوله: "لا يضرهم من خذلَهُم ولا مَنْ خالَفَهُم"، (خذل): إذا ترك أحدًا عن المعاونة؛ يعني: لا يتفاوت عندهم إن ترك الناس معاونتهم ولا أن يحاربوهم، بل لو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوهم عن دين الله تعالى، لم يقدروا؛ لأن الله تعالى حافظهم وناصرهم، وهذا إشارة إلى أن وجه الأرض لا يخلو من الصلحاء. قوله: "حتى يأتي أمر الله"؛ أي: حتى يأتي يوم القيامة. "معاوية" هنا: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مَنَافٍ الأموي، القرشي، وحيث جاء اسم معاوية مطلقًا؛ فاعلم أنه: معاوية بن أبي سفيان. * * * 121 - وقال: "لا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمّتِي يُقاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ إلى يومِ القيامةِ"، رواه جابر - رضي الله عنه -. قوله: وقال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين"؛ أي: غالبين؛ يعني: أبدًا يكون الجهاد موجودًا، ويكون الثابتون على الحق والمظهرون لدين الله تعالى موجودين "إلى يوم القيامة"، فإن لم يكونوا في بلد يكونوا في بلد أخرى. * * * ¬

_ (¬1) في المتن: "من".

122 - وقال: "مَنْ دعا إلى هُدًى كان لهُ مِنَ الأجرِ مثلُ أُجورِ منْ تَبِعَهُ، لا ينقُصُ ذلكَ مِنْ أُجورِهِمْ شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالةٍ كان عليهِ مِنَ الإِثْمِ مثلُ آثامِ مَنْ تبعهُ، ولا ينقصُ ذلكَ مِنْ آثامهِمْ شيئًا". قوله: "من دعا إلى هدى"، (الهدى): الصراط المستقيم، يعني: من دل جماعة على خير أو عمل صالح، فعمل أولئك الجمع على ذلك الخير، أو عملوا بذلك العمل الصالح = يحصل للذي دلَّهم على الخير من الأجر والثواب مثل ما حصل لكل واحد منهم؛ لأنه كان سبب حصول ذلك الخير منهم، ولولا هو لم يحصل ذلك الخير منهم. "ولا ينقص من أجرهم شيء" بسبب أن حصل له مثل أجورهم جميعًا؛ لأنه لا يؤخذ من أجورهم ما حصل له، بل أعطاهم الله تعالى وإياه من خزانةِ كَرَمه. قوله: (لا ينقص) فعل متعد، و (ذلك) فاعله، و (شيئًا) مفعوله، و (ذلك) إشارة إلى حصول الأجر له؛ يعني: حصول الأجر له وإعطاء الله تعالى إياه الأجر لا ينقص من أجورهم شيئًا، وكذلك البحث في دعاء أحد إلى ضلالة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 123 - وقال: "بدَأَ الإِسلامُ غريبًا، وسَيعودُ غَريبًا كما بدأَ، فطُوبَى للغُرباءِ". قوله: "بدأ الإسلام غريبًا" بَدَا يَبْدُو بَدْوَاً: إذا ظهر الغريب البعيد من وطنه وأقاربه، وانتصاب (غريبًا) على الحال؛ يعني: الإسلام حين بَدَا في أول الأمر كان غريبًا ليس من يقبله ويعزه إلا قليلًا.

ويحتمل أن يريد بقوله: (بدأ أهل الإسلام)؛ أي: كان أهل الإسلام في أول الأمر قليلاً، يؤذيهم أقاربهم وغيرهم كالغريب، ثم صار الإسلام قويًا وأهله كثيرًا "وسيعود": الإسلام في آخر الزمان ضعيفًا "غريبًا": كما كان في أول الأمر. قوله: "فطوبى للغرباء"؛ أي: أعطى الله الطيب والراحة والعزة للغرباء في الآخرة؛ يعني: كون الإسلام وأهله غريبًا، ليس عليهم منقصة بذلك، بل هو سبب عزتهم. رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 124 - وقال: "إنَّ الإِيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينةِ كما تَأْرِزُ الحيَّةُ إلى جُحْرِها". روى هذه الأحاديث الثلاثة أبو هُريرة - رضي الله عنه -. قوله: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة"، من أَرَزَ: - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - أُرُوْزًا: إذا انقبض والتجأ إلى أحد. يعني: أن الإيمان والدين إذا لم يعزه أحدٌ في سائر البلاد، يلتجئ ويَفِرُّ إلى المدينة، لأنه وطنه، لأن الإسلام ظهر وقوي في المدينة؛ يعني: لو لم يبقَ الإيمان في غير المدينة من البلاد لبقي في المدينة. قوله: "كما تأرز الحيَّة إلى جُحْرها"؛ يعني: كما تفرُّ الحَيَّة إلى ثُقْبَتِها حين يقصدها (¬1) أحد بالقتل، (الجُحْرُ): الثُقْبَة. * * * ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "قصده"، ولعل الصواب ما أثبت.

مِنَ الحِسَان: 125 - عن رَبيعةَ الجُرَشيِّ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: لِتنَمْ عينُك، ولْتسمَعْ أذُنُك، ولْيَعقِلْ قلْبُك، قال: "فنامتْ عَيْني، وسمعَتْ أُذُني، وَعقَلَ قلْبي، قال: فقيل لي: سيِّدٌ بنى دارًا، فصنَعَ فيها مَأْدُبةً، وأرسلَ داعيًا، فمنْ أجابَ الدَّاعيَ دخلَ الدارَ، وأكلَ من المَأْدُبة، ورضيَ عنهُ السيِّدُ، ومَنْ لمْ يُجبْ الدَّاعيَ لمْ يدخلِ الدَّارَ، ولمْ يأْكل من المأدُبة، وسخِطَ عليه السيِّد، قال: فالله السيِّدُ، ومحمدٌ الداعي، والدارُ الإِسلامُ، والمَأْدبةُ الجنَّة". قوله: "أُتِيَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -" - بضم الهمزة وكسر التاء وفتح الياء - يقال: أَتَيْتُ زيدًا وأُتِيَ زيدٌ؛ أي: أَتَىَ أحدٌ إلى زيدٍ، ومعناه هنا: أتى مَلَكٌ إلى رسول الله عليه السلام، وقال له: "لِتَنَمْ"؛ يعني لتكن عينُكَ وأذنك وقلبك حاضرة، لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تُصْغِ بأذنك إلى شيء، ولا تُخْطِرْ شيئًا في قلبك؛ يعني: كن حاضرًا حضورًا تامًا؛ لتفهم هذا المثل. فأجابه رسول الله عليه السلام: بأني قد فعلت ما تأمرني، (قال)؛ أي: قال رسول الله عليه السلام: (فقيل لي)؛ أي: قال لي ذلك المَلَكُ، وباقي الحديث معناه ظاهر. و"ربيعة" اسم أبيه: عمرو الجُرَشي، وهو من أصحاب الشام، وكان يُفَقِّهُ الناس. * * * 126 - وعن أبي رافِعٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أُلفِيَنَّ أحدَكُمْ متَّكِئًا على أَريكتِه، يأْتيه الأمرُ مِنْ أمري مما أَمَرتُ بهِ أو نَهَيتُ عنه، فيقول: لا أَدري، ما وجدنا في كتابِ الله اتَّبعناه".

قوله: "لا ألفِيَنَّ"؛ أي: لا أجِدَنَّ، الإلفاء: الوِجْدَان. قوله: "متكئًا على أريكته"، (الأريكة): السرير المزين، والمراد من (متكئًا على أريكته): التكبر والسلطنة. "مما أمرت به" بدل من "أمري" بتكرير العامل. قوله: "لا أدري"؛ يعني: يقول: لا أدري غير القرآن، ولا أَتَّبِعُ غير القرآن، "فما وجدنا في القرآن اتبعناه". يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبر ويعرض عن أحاديثي، ولا يقبلها، ولا يعمل بها، فمن لم يقبل قولي، فكأنه لم يقبل القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاهُ فقد عصى الله. و"أبو رافع" مولى النبي عليه السلام، اختلف في اسمه، فقيل: إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وكان قبطيًا. * * * 127 - عن المِقْدام بن مَعْدِيْ كَرِب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنِّي أُوتيتُ القرآنَ ومثْلَهُ معهُ، لا يُوشكُ رجلٌ شَبْعانُ على أريكتِه يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتُم فيه مِنْ حلالٍ فأَحِلُّوه، وما وجدتُمْ فيهِ مِنْ حرامٍ فحرِّمُوه، وإنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله، ألا لا يحلُّ لكم الحمارُ الأهليُّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السِّباع، ولا لُقَطَةُ مُعاهِدٍ إلاَّ أن يستغنيَ عنها صاحبُها، ومَنْ نزلَ بقومٍ فعليهم أن يَقْرُوه، فإنْ لم يَقْرُوه فله أنْ يُعقِبَهُمْ بمثْلِ قِراه".

قوله: "أوتيت القرآن ومثله معه"؛ يعني: آتاني الله القرآنَ، ومِثلَ القرآن مع القرآن، ومعنى (مثل القرآن) في وجوب القَبول والعمل به. يعني: كما يجب العمل بالقرآن، فكذلك يجب بأحاديثي؛ لأني لا أتكلم من تلقاء نفسي، بل مما أتاني الله وأمرني به، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. واعلم أن ما آتى الله رسولَه غير القرآن على أنواع: أحدها: ما آتاه ليلة المعراج من غير واسطة مَلَكٍ. والثاني: ما ألهمه. والثالث: ما رآه في المنام. والرابع: ما ينفثُ جبريل عليه السلام في رُوْعِه. والنَّفْثُ: النَّفْخُ، الرُّوع: القلب، كما قال عليه السلام: "إنَّ جبريلَ نَفَثَ في رُوعي". ويحتمل أن يريد بقوله: و (مثله معه) القَدْر؛ يعني: أوتيتُ القرآن، وأتيتُ أيضًا بقَدْرِ القرآن. قوله: إلا يُوْشِكُ رجلٌ شبعانٌ ... " إلى آخره، أوشَكَ يُوشِكُ: إذا قَرُبَ، (شبعان) عبارةٌ عن السَّلطنة والبطر والتكبر. يعني: سيحدث رجال متكبرون معرضون عن أحاديثي، يقولون لأصحابهم: عليكم بهذا القرآن؛ يعني: الزموا القرآن، واعملوا به، ولا تعملوا بغير القرآن، وهذا كفر؛ لأن تركَ أمْرِ رسول الله عليه السلام كترْكِ أمر الله. قوله: "وإنما حرَّم رسول الله عليه السلام كما حرَّم الله تعالى"؛ يعني: حرم رسول الله عليه السلام في غير القرآن بأمر الله كما حرم الله تعالى في القرآن.

قوله: "ألا لا يحلُّ لكم الحمار الأهلي"، (الحمار الأهلي): الحمار الذي يكون في البلد، وهذا احتراز عن الحمار البرِّي، فإنه حلال. يعني: وإنَّ مما حرَّمَ رسولُ الله عليه السلام وليس في القرآن تحريمَ الحمار الأهلي. ومنه تحريمُهُ عليه السلام "كلِّ ذي نَابٍ من السِّباع"، (الناب): السِّن؛ يعني: لا يحلُّ كلُّ سبْعٍ يصطاد ويتقوى بسنِّه في الاصطياد، كالأسد والذئب والفهد وغيرها. قوله: "ولا لُقَطَةُ معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها". اللَّقْطُ (¬1): ما يُلتقط من الأرض، واللُّقَطَةُ: ما يوجد في الأرض من مال سَقَطَ وضَاع من صاحبه. (المعاهد): الكافر الذي جرى بين المسلمين وبينه عهد من ذمِّي أو كافر حربي دخل في دار الإسلام بأَمَان في تجارة أو رسالة، لا يحلُّ مالُ واحدٍ منهم، ولو وُجِدَ مال لواحد منهم في صحراء أو طريق أو بموضع آخر لا يجوزُ أكلُه إلا بعد التعريف سنة، فإذا لم يأتِ صاحبها بعد التعريفِ سنة، فحينئذ يجوز أكله. قوله: "إلا أن يستغني عنها صاحبها"؛ يعني: أن تكون اللقطة شيئًا حقيرًا لا يلتفت إليه صاحبه، ولا يطلبه، كمسواك وعصا وغيرهما. قوله: "ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه"، قَرى يَقْرِي: إذا أضاف أحدًا، و (يَقْرُوه) أصله: يَقْريُوه، فنقلت ضمة الياء إلى الراء وحذفت لسكونها وسكون واو الجمع. وكلمة (على) للوجوب، وهذا كان في بُدُوِّ الإسلام، كان رسول الله عليه ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "اللقطة".

السلام يبعثُ الجيوش إلى الغزو، وكانوا يمرون في طريقهم بأحياء العرب، وليس هناك سوقٌ يشترون الطعام، وربما لا يكون معهم زاد، فَغَلَّظَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيافَتهم على أحياء العرب، وأوجب عليهم ضيافتهم، لأنه لو لم يوجب عليهم ضيافتهم، ربما لا يضيفونهم، ولو لم يضيفوهم، لم يقدروا على الغزو، فلأجل أن لا ينقطعَ الغزوُ أوجبَ الضيافة على الذين يمرُّ عليهم الجيش، فلما قَوِيَ الإسلامُ وغلب على المسلمين الشفقة والرحمة لمن يمرُّ بهم بإطعامهم الطعام، والإحسان عليهم من تطوع أنفسهم، فَنُسِخَ وجوبُ الضيافة. وقيل: قوله: "ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه" هذا (¬1) في حقِّ المضطر، وهو الذي لا يقدر على الذهاب من غاية الجوع، ولو لم يقروه يموت من الجوع أو يلحقه ضرر شديد، فإطعامهم إياه من الطعام بِقَدْرِ ما يسدُّ به الرَّمَق واجب عليهم، فعلى هذا لا يكون هذا الحكم منسوخًا. قوله: "فله أن يُعَقِّبَهُمْ بمثلِ قَراه" أَعْقَبَ يُعْقِبُ: إذا جازى أحدًا بفعله. (القِرى) بكسر القاف وبالقصر: الضيافة؛ يعني: للضيف أن يأخذ من الذين نزل بهم بقدر ضيافته قهرًا أو بالخفية، وبأي وجه يُقدر فهذا الحكم منسوخ على التأويل الأول، وليس بمنسوخ على التأويل الثاني. وجَدُّ "المِقدام": عبد الله بن عمرو بن عُصْم. * * * 128 - عن العِرْباض بن سَاريَة - رضي الله عنه - قال: قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيحسِبُ أحدُكُمْ مُتكئًا على أريكتِه يظنُّ أنَّ الله لمْ يُحرِّمْ شيئًا إلاَّ ما في هذا القرآن، ألا وإنِّي والله قد أَمَرْتُ، ووعَظتُ، ونَهيتُ عن أشياءَ، إنَّها لمثْلُ القرآنِ ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "وهذا".

أو أكثر، وإنَّ الله لم يُحِلَّ لكم أنْ تدخلُوا بُيوتَ أهلِ الكتابِ إلا بإذنٍ، ولا ضَرْبَ نسائهمْ، ولا أَكْلَ ثمارهمْ إذا أعطَوكُمُ الذي عليهم". قوله: "قام رسول الله عليه السلام"؛ أي: خطب رسول الله. "أيحسب"؛ أي: يظن "أحدكم". قوله: "إنها لمثل القرآن"؛ أي: بقَدر القرآن "أو أكثر"، فإن قيل: (أو) للشكِّ، وكيف يكون الشك لرسول الله عليه السلام؟ قلنا: كان رسول الله عليه السلام يزيد علمه وإلهامه من قبل الله تعالى ومكاشفاته لحظة فلحظة، فإذا كان كذلك كان - عليه السلام - كوشف أن ما آتاه الله من الأحكام غير القرآن أنها بقدر القرآن، ثم آتاه الله تعالى الزيادة متصلًا بها قبله. قوله: "وأن الله لا يحلُّ لكم"؛ يعني: وإن مما آتاني الله وليس في القرآن أنه لا يحل لكم "أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن"؛ يعني: إلا أن يأذنوا لكم بالطوع والرغبة، كما لا يحل لكم أن تدخلوا بيوت المسلمين بغير إذنهم، والمراد بأهل الكتاب هنا: أهل الذمة، وهم الذين قبلوا الجزية. قوله: "ولا ضرب نسائهم" يحتمل أن يريد بالضرب هنا: هو الضرب المعروف بالخشب؛ يعني: لا يجوز أن تضربوا نسائهم، وتأخذوا منهم طعامًا أو غيره من الأموال بالقهر. ويحتمل أن يريد بالضرب: المجامعة؛ يعني: لا تظنوا أن نساء أهل الذمة محللات لكم كنساء أهل الحرب، بل نساء أهل الذمة محرمات عليكم. قوله: "إذا أعطوكم الذي عليهم"؛ يعني: إذا أعطوكم الجزية لا يحل لكم أن تدخلوا بيوتهم، ولا يحل ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، أما إذا لم يعطوكم الجزية وأبوا عنها بطلت ذمتهم وحل دمهم ومالهم، وصاروا كأهل

الحرب في قولٍ، وفي قولٍ: إذا أبوا عن الجزية أُخرجوا من دار السَّلام إلى دار الحرب، ثم يغزوهم المسلمون كأهل الحرب. كنية "العِرْبَاض": أبو نَجِيح السُّلَمِي، وهو من أهل الصفة. * * * 129 - وعن العِرْباض بن سَارِيَة قال: وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً ذرفتْ منها العُيونُ، ووجِلَتْ منها القُلُوبُ، فقالَ قائلٌ: يا رسول الله!؛ كأنَّ هذه مَوعظةُ مُودِّعٍ فأوصِنا، فقال: "أُوصيكُم بتقوَى الله والسَّمْعِ والطاعةِ وإنْ كان عبدًا حبَشيًا، فإنهُ مَنْ يعِشْ منكُمْ بعدي فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ ومُحدَثاتِ الأُمورِ، فإن كُلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ". قوله: "وعظنا رسول الله عليه السلام موعظة بليغة"؛ أي: تامة "ذرفت منها العيون"، ذَرَفَ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - ذَرْفَاً وتَذْرَافًا: إذا جرى الدمع من عيون الحاضرين من خوف تلك الموعظة. "وَجِلَتْ"؛ أي: خافت. قوله: "كأنها موعظة مودع"، (المودع) اسم فاعل من التوديع؛ يعني: وعظتنا موعظةً تامَّة كأَّنك تودعنا، "فأوصنا"؛ أي: فَمُرْنَا بما فيه رشادنا وصلاحنا بعد وفاتك. "بتقوى الله"؛ أي: بمخافة الله تعالى والحذر من عصيانه. قوله: "والسمع والطاعة"؛ يعني: أوصيكم بسمع كلام الخليفة والأئمة وطاعتهم، "وإن كان عبدًا حبشيًا" لا يجوزُ أن يكونَ الخليفةُ عَبدًا، ولكن المراد من العبد هنا: مَنْ جعلَهُ الخليفةُ حاكمًا على قوم في كل بلد.

يعني: اقبلوا قولَ الخليفة ونوابه وأطيعوهم، وإن كان من جعل الخليفة واليًا عليكم عبدًا حبشيًا؛ لأن طاعة نائب الخليفة كطاعة الخليفة، وطاعة الخليفة طاعة الرسول، وطاعة الرسول طاعة الله تعالى. قوله: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا"، (مَنْ يَعِشْ) أصله: يَعِيْش، فنقلت كسرة الياء إلى العين وحذفت لسكونها وسكون الشين؛ يعني: ستظهر الفتن بعدي واختلاف الملل، كل طائفة تدعي اعتقادًا غير اعتقاد أهل السنة، وستظهر محاربةٌ كثيرة بين الناس، فكونوا مطيعين للخليفة ونوَّابه، ومتبعين ما عليه جماعة أهل السنة من الاعتقاد. قوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"، (المهدي) مفعول مِن: هَدَى يَهْدِي هِدَايَةً: إذا دلَّهُ على الطريق المستقيم، والمراد بالخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، وليس مراده عليه السلام من هذا الكلام: أنه لا يكون خليفة غير هذه الأربعة، بل يكون الخليفة موجودًا واحدًا بعد واحد إلى قرب القيامة، وإنما مراده عليه السلام بهذا: تفضيل هذه الأربعة على غيرهم، وحسن قيامهم على الدين، وحفظهم سُنَّةَ النبي عليه السلام. يعني: تمسكوا بسنتي وسنة هذه الأربعة، وما اجتمع عليه علماء أهل السنة فهو حق وجب قبوله؛ لأنه هو سنة النبي عليه السلام والخلفاء الراشدين؛ لأنه لا طريق في زماننا إلى معرفة سنة النبي عليه السلام والصحابة إلا بطريق الإجماع، وتتبع كتب الأحاديث الصحيحة. قوله: "وعضوا عليها بالنواجذ"، (عَضُّوا) أمر مخاطبين من عَضَّ - بكسر العين (¬1) في الماضي وفتحها في الغابر - عَضَّاً إذا أخذ شيئًا بالسن، والضمير في ¬

_ (¬1) أي: قبل إدغام الحرفين، ويقصد بـ (العين) ثاني الحروف.

(عليها) راجعٌ إلى السنة. (النواجذ) جمع ناجذ، وهي الضاحك من الأسنان، وقيل: الناب، وقيل: آخر الأسنان. والمراد من هذا اللفظ هنا: شدة ملازمة السُّنَّة؛ لأن من أراد أن يأخذ شيئًا أخذًا شديدًا يأخذه بأسنانه، والمراد منه: الأخذ باليدين وبالأسنان يكون على غاية الشدة. قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور"؛ أي: احذروا أن تتبعوا شيئًا لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن عليه إجماع أهل السنة. * * * 130 - عن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه - قال: خَطَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمَّ خطَّ خُطوطًا عن يمينهِ وعن شِمالهِ، وقال: "هذه سُبُلٌّ، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعو إليه"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الآية. عن عبد الله بن مسعود قوله: "هذا سبيل الله" هذا إشارة إلى أن سبيل الله وسط ليس فيه تقصير ولا إسراف، وسبيل أهل البدع مائل إلى جانب؛ يعني: فيه تقصيرٌ أو غلو مثاله مسألة القدر. يقول الجَبْرِي: كل ما يجري على العباد فهو بتقدير الله تعالى ولا كسب ولا اختيار للعبد فيه، وهذا مائل عن طريق الحق؛ لأنه يفضي إلى إبطال الكتب والرسل؛ لأنه إذا لم يكن للعبد اختيار يكون مجيء الرسل والكتب عبثًا, وكذلك قول المعتزلة مائل عن طريق الحق؛ لأنهم يجعلون الناس خالقة أفعالها (¬1)، وحينئذ يكون الناس شركاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "خالق أفعالهم".

وأما قول أهل السنة فهو الطريق المستقيم؛ لأنهم يقولون كل ما يجري على العباد فهو بقضاء الله وقدره، وبأفعال العباد واختيارهم بخلق الله أفعالهم في الوقت الذي قدر الله تعالى أن يفعلوها، فالخالق هو الله تعالى، والمكتسِب هو العبد. قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، {مُسْتَقِيمًا} منصوب على الحال، {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}؛ أي: ولا تتبعوا السبل التي هي من غير صراطي المستقيم، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} الباء للتعدية؛ يعني: تفرقكم وتبعدكم عن سبيله؛ أي: عن سبيل الله. * * * 131 - عن عبد الله بن عَمْرو - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمنُ أحدُكُمْ حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جئتُ بهِ". عن عبد الله بن عمر قوله: "حتى يكونَ هَواهُ"؛ أي: إرادته، هذا اللفظ يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون معناه: حتى يكون تابعًا مقتديًا "لِمَا جئْتُ به" من الشرع عن الاعتقاد وإرادة النفس، لا عن الإكراه وخوف السيف كالمنافقين، وعلى هذا التأويل يكون قوله: (لا يؤمن أحدكم) نفي أصل الإيمان لا نفي الكَمَال؛ يعني: من كان تابعًا للشرع لا عن إرادة النفس بل لخوف السيف فليس بمؤمن أصلًا. والأمر الثاني: أن يكون معناه: حتى تكون نفسه مطمئنة بالشرع، ولا تميل نفسه عن أحكام الشرع، وعلى هذا تكون (لا) في (لا يؤمن) لنفي الكمال؛ لا لنفي أصل الإيمان؛ لأن كثيرًا يعتقدون حقيقة الشرع، ويعملون بأحكامه، ولا تطيعهم

أنفسهم، بل يُكْرِهُون أنفسهم على الطاعات، فهؤلاء مؤمنون ولكن ليسوا كاملين، بل الكامل من اطمأنت نفسه بما يأمرها من الطاعات الشديدة، ولا تثقل عليها الطاعات. * * * 132 - وقال: "مَنْ أَحيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتي قدْ أُميتَتْ بعدي؛ فإنَّ لهُ منَ الأَجْرِ مثْلُ أُجور مَنْ عملَ بها مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورهِمْ شيئًا، ومنِ ابتدعَ بِدعةَ ضلالةٍ لا يَرضاها الله ورسولُه كان عليهِ من الإِثْمِ مثلُ آثامِ مَنْ عَمِلَ بها لا ينقُصُ ذلكَ منْ أَوزارِهمْ شيئًا"، رواه بلال بن الحارث المُزَنيُّ. وقال: "مَن أَحيا". قوله: "قد أُميتَتْ": أي: تُرِكَتْ ولم يُعمل بها؛ يعني: كل سُنَّة من سُنَّتِي خَفيت وتُركت، فمن أظهرها ودعا المسلمين إلى العمل بها فَلَهُ "من الأجر مثل أجور جميع مَنْ عَمِلَ بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا" بل يتمُّ أجور مَنْ عَمِلَ بها من غير أن ينقص، ويُعْطَى الأجر مثل أجورهم. ومعنى السنة: ما وضعه رسول الله عليه السلام من أحكام الدين، قد يكون فرضًا كزكاة الفطر وغيرها، وقد يكون غير فرض كصلاة العيد وغيرها. (سَنَّ) - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - سَنَاً: إذا وضع وأظهر رسمًا، مثل إحياء السنة: أن يتركَ أهلُ بلد الصلاة بالجماعة، أو صلاة العيد، أو قراءة القرآن وتعلمه وتحصيل العلم وما أشبه ذلك، فيأمرهم أحدٌ بذلك، وينصب بينهم إمامًا، ليقيم بهم صلاة الجماعة، وأستاذًا ليعلمهم القرآن والعلم. قوله: "ومن ابتدع بدعة ضلالة": هذا إشارة إلى أن البدعة نوعان: بدعة حسن، وبدعة سوء، فبدعة الحسن: ما جوزها أئمة المسلمين مثل المنارة؛ فإنها لم

تكن في زمن النبي وما أشبه ذلك، وبدعة السوء: ما أنكره أئمة المسلمين كالبناء على القبور وتجصيصها؛ فإن النبي عليه السلام نهى عن ذلك. (الآثام): جمع إثم، و (الأوزار): جمع وزر، وهما بمعنى الذنب. كنية "بلال" أبو عبد الرحمن، واسم جده: عصام بن سعيد بن قرة المزني. * * * 133 - وقال: "إنَّ الدِّينَ ليَأْرِزُ إلى الحِجازِ كما تأْرِزُ الحيّةُ إلى جُحْرِها، ولَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ منَ الحجازِ مَعْقِلَ الأُرْوِّيةِ من رأْسِ الجبَلِ، إنَّ الدينَ بدأَ غَريبًا ويرجعُ غَريبًا، فطُوبى للغُرباءِ الذينَ يُصلحونَ ما أفسدَ الناسُ منْ بعدي منْ سُنَّتي"، رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عَوْف بن زيد بن مِلْحَةَ عن أبيه، عن جدِّه. قوله: "إن الدين ليأرز إلى الحجاز"، (يَأْرِزُ)؛ أي: يلتجئ ويجتمع. (الحجاز): اسم مكة والمدينة وحواليهما من البلاد، سميت هذه البلاد حجازًا لأنها حجزت؛ أي: منعت وفَصَلَتْ بين بلاد نَجْدٍ وبلاد الغَور، والغَوْرُ: المنخفض من الأرض. (عقل) - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عقولًا: إذا التجأ إلى أحد أو إلى مكان محفوظ من إيذاء الأعداء. "الأُرْوِيَّة": الأنثى من المعز الجبلي؛ يعني: إذا ضعف الدين وغلب الكفار على المسلمين يفر الدين من البلاد إلى الحجاز، كما أنه ظهر من الحجاز؛ يعني: يفرُّ أهل الإسلام في آخر الزمان من الكفَّار والدَّجال إلى الحجاز؛ لأنه لا يصل الدَّجال وغلبة الكفار إلى الحجاز، وقد مضى بحث: "بدأ الإسلام غريبًا"، ومثله: "إن الدين بدأ غريبًا".

قوله: "فطوبى للغرباء الذين يُصلحونَ ما أفسدَ الناس من بعدي من سُنَّتي": أراد بـ (الغرباء) هنا: المسلمين، سماهم غرباء؛ لأنهم قليلون في آخر الزمان، والكفار كثير؛ يعني: فطوبى للمسلمين الذين يعملون بسنتي، ويظهرون الدِّين بقدر طاقتهم. قوله: "ما أفسد الناس"؛ أي: ما أفسد الكفار من الدين. واعلم أن النُّسخ مختلفة في اسم راوي هذا الحديث، ففي بعض النسخ: "زيد بن مِلْحَة"، وفي بعضها: "كثير بن عبد الله" وكلاهما ليس بصحابي، بل زيد ابن مِلْحَة جاهلي لم يدرك النبي عليه السلام، وكثير بن عبد الله جده صحابي، واسمه: عَمرو بن عَوف، بن زيد، بن مِلْحَة المزني، وعمرو هو الذي يروي هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام. والصواب أن يقال: رواه كثير بن عبد الله بن عَمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. * * * 134 - وقال: "لَيَأْتِيَنَّ على أُمَّتي كما أَتى على بني إسرائيلَ حَذْوَ النَّعْل بالنَّعْلِ حتَّى إنْ كان منهمْ مَنْ أتَى أُمَّهُ علانيةً لكانَ في أُمَّتي منْ يصنَعُ ذلك، وإنَّ بني إسرائيلَ تفرَّقتْ على ثِنتيْنِ وسَبعينَ مِلَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسَبعينَ مِلَّةً، كلُّهمْ في النَّارِ إلاَّ مِلَّةً واحدةً"، قالوا: مَنْ هيَ يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليهِ وأصحابي"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. قوله: "لَيَأْتِيَنَّ على أُمَّتي كما أتى على بني إسرائيل"؛ يعني: ليأِتيَنَّ أفعال وأقوال قبيحة على أمتي مثل ما أتى على بني إسرائيل.

قوله: (أمتي) إشارة إلى [أن] الفِرَقَ المبتَدعة كلهم مسلمون. قوله: "حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ"، (الحذو): جعل الشيء مثل شيء آخر، و (حَذْوَ النَّعل) منصوب على المصدر؛ أي: حذوا مثل حذو النعل بالنعل، فحذف (حذو) و (مثل) كلاهما، وأقيم (حذو النعل) الذي هو مضاف إليه بمثل مقام (مثل) فنصب؛ يعني: أفعال بعض أمتي في القُبْحِ مثل أفعال بني إسرائيل، كما أن إحدى نعلَي الرِّجْلِ مثل نعل الرِّجْلِ الأخرى. قوله: "حتى إن كان منهم من أَتى أمَّهُ علانيةً"، (أتى) ها هنا معناه: جامع وزنى. و"مَنْ يصنعُ ذلك"؛ أي: مَنْ يفعلُ ذلك، (تفرق) و (افترق) هنا معناهما واحد، (الملة) كل فعل أو قول اجتمع عليه جماعة، وقد يكون حقًا كملةِ الإسلام، وهي كما اجتمع عليه أهل الإسلام من الدين، وقد يكون باطلًا كما اجتمع عليه الجبرية والمعتزلة من الأفعال والاعتقاد. قوله: "كلهم في النار"؛ يعني: كلهم يفعلون ويعتقدون ما هو مُوجِب دخول النار، فإذا فعلوا ما هو مُوجِب دخول النار؛ فإن كان كُفرًا وماتوا عليه، دخلوا النار البتة، ولا يخرجون من النار البتة، وإن لم يكن كفرًا، فهو إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم بذلك، ثم يخرجهم ويدخلهم الجنة البتة. قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا عليه وأصحابي"؛ يعني: ما أنا وأصحابي عليه من الاعتقاد والقول والفعل فهو حق، وما عداه فهو باطل. فإن قيل: بأي شيء يُعرف ما عليه النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم. قلنا: بالإجماع، فما اجتمع عليه علماء الإسلام فهو حق، وما عداه فهو باطل

(بيان فرق المبتدعة) اعلم أن أصولهم ستة: الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والجبرية، والمرجئة، والمشبهة. فالخوارج خمسة عشر فرقًا: النجدات، والأزارقة، والأباضية، والعجاردة، والميمونية، والصفرية، والفضلية، والعَطوية، والقدلية، والبيهسية، والبدعية، والشمراخية، والأخنسية، والحازمية والصلتية، والخوارج كلهم مجتمعة على تكفير علي - رضي الله عنه - وتكفير من أذنب كبيرة إلا النجدات فإنهم لا يكفرونه وقالوا: الإصرار على الذنب أي ذنب كان كفر. وأما الشيعة: فاثنان وثلاثون فرقة: الكيسانية، والمختارية، والهاشمية، والبيانية، والرزاميَّة، والزيدية، والجارودية، والسليمانية، والصالحية، والإمامية، والباقرية، والناووسية، والشميطية، والأفطحية، والواقفية، والموسوية، والاثنا عشرية، والسبائية، والكاملية، والغَيلانية، والمغيرية، والمنصورية، والخطابية، والليالية، والهشامية، والنعمانية، والنصيرية، والإسحاقية، والإسماعيلية، والمعمورية، والفضيلية، والمتناسخية. وأما المعتزلة: فاثنا عشرة فرقة: الواصلية والهذلية، والنظامية، والحديثية، والبشرية، والمردارية، والثمامية، والجاحظية، والكعبية، والجبائية، والحايطية، والخياطية، والمعتزلة يقولون: العباد يخلقون أفعالهم. وأما الجبرية يقولون: لا كسب للعباد بل كل أفعالهم مخلوقة الله تعالى، وهم ثلاث فرق: الجهمية والنجارية والضرارية. وأما المرجئة فهم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ يعني: يقولون: لا يضر مع الإيمان المعصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم خمس فرق: اليونسية والغسانية والصالحية والتومنية والثوبانية.

وأما المشبهة: فهم الذين يشبهون الله تعالى بالمخلوقين في الجسم والحلول بالمكان وهم خمس فرق: الكرامية والمقاتلية والاسمية والهشامية والكلابية. فهذه أسماء الفرق الاثنين وسبعين وكل واحد من هذه الأسماء منسوب إلى شخص واضع لذلك المذهب، أو إلى قوله، ولكل فرقة منها مذهب منفرد تركن ذكره؛ لأن جميعها مذكور في "كتاب الملل والنحل" تأليف الشهرستاني رحمة الله عليه. واعلم أن المشهورين من أهل البدعة هؤلاء، لكن لا حصر للأقوال الفاسدة وقائليها، وطريق معرفتك الحق من الباطل أن تقابل ما سمعت من الأقوال بأقوال علماء السنة، فمن كان موافقًا لأقوالهم فهو حق، وما لم يكن موافقًا لأقوالهم فهو باطل. * * * 135 - وفي روايةٍ أخرى: "واحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة، وإنه سيَخرجُ في أُمَّتي قومٌ تَتَجارى بهم تلك الأَهواءُ كما يَتَجارَى الكَلَبُ بصاحبِهِ، لا يبقى منهم عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دخَله". قوله: "وفي رواية معاوية"؛ يعني: روى هذا الحديث معاوية بن أبي سفيان كما رواه عبد الله، إلا أن معاوية يقول: "كلهم في النار وواحدة في الجنة" وباقي حديثه كحديث عبد الله، وزاد معاوية: "وإنه سيخرج في أُمتي قوم تتجارى بهم"؛ أي: تدخل فيهم وتجري فيهم "تلك الأهواء"؛ أي: تلك البدع. (الأهواء): جمع الهوى، وهي ما تشتهيه النفس، والمراد منه ها هنا: البدعة، سميت البدعة بـ (الهوى)؛ لأنه موضوع بهوى نفس الرجل ومراده، وليس موضوعًا من جهة الشرع، وإنما قال: (تلك الأهواء) بلفظ الجمع؛ لأن

لكل قوم من المبتدعين ملة موضوعة توافق هواهم. قوله: "كما يتجارى الكَلَبُ": أي: كما يجري الكلب "بصاحبه"؛ أي: بمن به الكَلَب. و (الكَلَبُ)؛ بفتح اللام: قرحة تكون في الإنسان من عَضِّ الكَلْبِ المجنون، وإذا عضَّ الكلب المجنون إنسانًا، يحصل به شبه الجنون، ويتفرق أثره إلى جميع أجزائه، من كَلِبَ - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - كلابًا: إذا صار الكلب مجنونًا. قوله: "لا يبقى منه عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دَخَله"؛ يعني: كما يدخل الكلب في جميع أعضاء الرجل، فكذلك البدعة تدخل وتؤثر في جميع أعضاء المبتدع، بحيث لا يقدر أحد أن يزيلها عنه. * * * 136 - وقال: "لا تجتمعُ هذه الأُمةُ - أو قال أُمة محمدٍ - على ضَلالةٍ، ويدُ الله على الجَماعةِ، ومَنْ شَذَّ شذَّ في النَّارِ". قوله: "لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة" هذا دليل على أن إجماع الأمة حق. و (الإجماع): هو إجماع المسلمين، ولا اعتبار لإجماع العَوامَّ؛ لأن قول العوام لا يكون عن علم، وما لا يكون عن علم لا عبرة به، وإذا لم يكن إجماع العوام معتبرًا يبقى إجماع العلماء. فالمراد بقوله: (لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة): هم العلماء، فإذا لم يكن اجتماع هذه الأمة ضلالة، يكون حقًا لا محالة. قوله: "ويد الله على الجماعة"، (اليد) هنا: الحفظ والنصرة؛ أي: حفظ الله

ونصرته ورحمته على الجماعة المجتمعين على الدين، يحفظهم من الضلالة والخطأ. قوله: "ومن شذَّ شذَّ في النار"، شذ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - شذوذًا: إذا خرج من بين الجماعة وبقي منفردًا وحيدًا، و (من شَذَّ)؛ يعني: من خرج من بين جماعة المسلمين، وتفرد باعتقاد أو قول أو فعل لم تكن عليه جماعة المسلمين. (شذ في النار)؛ أي: يستحق هو دخول النار دون جماعة المسلمين. * * * 137 - ويُروى عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "اتَّبعوا السَّوادَ الأعظمَ، فإنه مَنْ شذَّ شذَّ في النَّارِ". قوله: "اتَّبعوا السَّواد الأعظمَ"؛ (السواد): الجماعة، (الأعظم): أفعل التفضيل؛ يعني: فانظروا في العالم فما عليه الأكثر من علماء المسلمين من الاعتقاد والقول والفعل، فاتبعوهم فيه، فإنه هو الحق، وما عداه باطل. واعلم: أن ما قلنا من وجوب اتباع إجماع المسلمين فهو في الاعتقاد وأصول الدين كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك. وأما فروع الدين من مسائل الفقه، كبطلان الوضوء بمس الفرج ولمس النساء، وما أشبه ذلك، لا حاجة فيها إلى إجماع جميع علماء المسلمين، بل كل ما أفتى به عالم مجتهد يجوز العمل به، مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والفقهاء السبعة رحمة الله عليهم، وهم فقهاء المدينة: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسَّيب، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعُبيد الله بن عَبد الله ابن عُتبة بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

وغيرهم من أهل الاجتهاد، والمجتهد: هو المستقل بأحكام الشرع نصًا واستنباطًا، والنص: هو الكتاب والسنة، والاستنباط: هو الأقيسة، وينبغي أن يكون المفتي: بالغًا، عاقلًا، ورعًا، عالمًا باللغة والنحو (¬1)، والأحاديث المتعلقة بالأحكام، والناسخ والمنسوخ والصحيح والسقيم، وأن يكون فقيه النفس، عالمًا بالتواريخ، وسير الصحابة، ومذاهب الأئمة، وأصول الفقه، وأحكام الشرع. روى هذا الحديث "عبد الله بن عباس" - رضي الله عنهما -. * * * 138 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بنيَّ إنْ قدرْتَ أن تُصبحَ وتمسيَ ليسَ في قلْبكَ غِشٌّ لأِحدٍ فافعلْ"، ثم قال: "يا بني وذلكَ مِنْ سنَّتي، ومَنْ أحبَّ سُنَّتي فقد أحبني، ومَنْ أحبني كانَ معي في الجنَّة" قوله: "يا بنيَّ" - بضم الباء وفتح النون - تصغير ابن، ويجوز فتح الياء المشددة وكسرها. "أن تصبح"؛ أي: تدخل في وقت الصَّباح، "وتمسي"؛ أي: تدخل في وقت المساء، والمراد ها هنا: جميع الوقت؛ أي: يمضي عليك الليل إلى الصبح، ويمضي عليك النهار إلى المساء، و"ليس في قَلبِكَ" حقدة وعداوة ومكر "لأحد فافعل"؛ فإن الخلق من الأخلاق المذمومة ليس من سنتي، ومن فعل الأفعال المرضِيَّة، وترك الأخلاق المذمومة، فقد أحيا سنتي؛ أي: فعل فعلي، واقتدى؛ أي: بي. "ومَنْ أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة"، (الغِشُّ): ¬

_ (¬1) "والنحو" ليس في "ق".

نقيض النصح، والنصح: إرادة الخير لأحد، و (الغِشُّ): مأخوذ من الغَشَشِ، وهو المَشْرَبُ الكَدِرِ. * * * 139 - وقال: "مَنْ تمسَّكَ بسُنَّتي عندَ فَسادِ أُمَّتي فلهُ أجرُ مائة شَهيدٍ"، رواه أبو هريرة. قوله: "مَنْ تمسَّكَ بسُنَّتي"؛ يعني: من عمل بسنتي وأحيا سنتي في وقت ترك العمل بسنتي وغَلَب الفسق والجهل في الناس، "فله أجرُ مئة شهيد"؛ لأنه يلحقُهُ مشقةٌ في ذلك الوقت بإحياء السُّنة والعمل بها، فهو كالشَّهيد الذي قاتل الكفارَ لإحياء الدِّين حتى قُتِلَ. * * * 140 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين أَتاهُ عمرُ - رضي الله عنه - فقال: إنَّا نسمَعُ أحاديثَ منْ يهود تُعجِبنا، أَفَتَرى أنْ نكتبَ بعضَها؟ فقال: "أَمُتَهَوِّكُونَ أنتم كما تهوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟ لقدْ جئتُكُمْ بها بيضاءَ نقيَّةً، ولوْ كان موسى حيًّا لَما وَسِعَهُ إلاَّ اتِّباعي". قوله: "تُعجِبنا"؛ أي: تَحْسُنُ عندنا وتصيرُ محبوبنا وتميلُ قلوبنا إليها، و (الإعجاب): صيرورة الشيء محبوبًا عند الرجل، (يهود): غير منصرف لوزن الفعل والتأنيث؛ لأنهم جماعة، فهي بمنزلة القبيلة. يعني: نسمع من يهود حكايات ومواعظ نحبها؛ أفتأذن لنا أن نكتبها ونقرأها؟ قوله عليه السلام: "أَمُتَهَوِّكُونَ أنتم"، (التَّهَوُّكُ): التحيُّر؛ يعني: أتصيرون

متحيِّرين مترِّددين في ملتكم كما تحيَّرت اليهود؛ لأن طلبَ شيءٍ لم يأمرهم به نبيُّهم دليلٌ على أن الرجل يظن نقصان ما أتى به النبي عليه السلام من الدين، واعتقد أنما أتى به النبي عليه السلام من الدِّين، ناقص قبيح، بل ينبغي أن يعتقد الرجل أنَّ ملةَ نبينا أفضلَ الملل وأكملها، ويحتاج إلى ملتنا جميعُ المِلل ولا يُحتاج إلى مِلَّةٍ أخرى. قوله عليه السلام: "لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيةَ"، (بيضاءَ نقيةَ): منصوبان على الحال، وكلاهما عبارة عن الظهور والصَّفاء والخُلوص عن الشكِّ والشبهة. يعني: لقد جئتم بالملَّةِ الحنيفية في حال كونها أظهر الملل وأيسرها لا مشقة فيها؛ بخلاف ما كان في دين اليهود من المشقة العظيمة؛ لأن في دينهم أن يخرجوا ربع أموالهم في الزكاة، وأن يقطعوا مواضع النجاسة من الثوب، ولا يجوز غسله، وغير ذلك من العُسْرِ. قوله: "ولو كان مُوسى حَيَّاً لما وَسِعَهُ إلا اتِّباعي"، (لما وسعه)؛ أي: ما ينبغي له شيء غير اتباعي، ولا بُدَّ له من اتباعي؛ يعني: لو كان موسى حيًا لا يجوز له أن يفعل فعلاً أو يقول قولاً إلا بأمري، فإذا كانت هذه حال موسى، فكيف يجوز لكم أن تطلبوا فائدة مِنْ موسى مع وجودي؟! * * * 141 - عن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ أكلَ طيِّبًا، وعملَ في سُنَّةٍ، وأمِنَ النَّاسُ بوائقَهُ دخلَ الجنَّةَ"، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله! إنَّ هذا اليومَ في الناسِ لكثيرٌ، قال: "وسيكونُ في قُرونٍ بَعْدي". قوله: "من أكل طيِّبًا"؛ أي: مَنْ كان قوتُهُ حلالاً، "وعَمِل في سُنَّة"؛ أي: وعمل كل فعل يفعله وكل قول يقوله على وِفق الشَّرع، والنكرة في (سنة)؛ إما أن تكون النكرة هنا بمعنى المعرفة، أو يكون معناه: عَمِلَ كل عملٍ بسنته؛

أي: بحديث جاء في ذلك العمل. يعني: يكون مُستمسِكًا في كل عَملٍ بسُنَّة؛ أي: بحديثٍ، كصلاة الضحى فإنها سُنَّة بحديث ورد فيها، وصلاة الوتر بحديث ورد فيها، وكذلك جميع أحكام الشرع، و (السُّنة) ها هنا كل ما قاله أو فعله رسول الله أو رضي به فرضًا كان أو سُنَّة (¬1). قوله: "وأَمِنَ النَّاسُ بوائقَهُ"، (البوَائِقُ): جمع بَائِقَةٍ، وهي الدَّاهية والمشقَّة؛ يعني: لا يُوصِلُ إلى أحدٍ ضررًا. قوله: "إن هذا اليوم في الناس لكثير"؛ يعني: إن هذا الشخص الذي يصفه في زماننا كثير بحمد الله تعالى. قوله: "فقال رسول الله عليه السلام: وسيكون في قرون بعدي"، (القُرون): جمع قَرْن، وهو أهل عصر؛ يعني: من هو بهذه الصفة يكون في قرون كثيرة بعدي. يعني: لا أقول مَنْ كان بهذه الصِّفَة، لا يكون إلا في أصحابي، بل يكون في قرونٍ بعدي إلى يوم القيامة مَنْ بهذه الصِّفَة، إلا أنه في زمان الصَّحابة أكثر من زمان التابعين، وفي زمان التابعين أكثر من زمان أتباع التابعين، وكذلك كلُّ قرن هم أبعد من زمان رسول الله عليه السلام يكون الصُّلحاء فيهم أقل ممن قبلهم. ويحتمل أن يكون معنى قوله: (وسيكون في قرون بعدي): أنَّ مَنْ لم يكن بهذه الصِّفة يظهرُ في قرون بعدي. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "كان فرضًا أو سنة".

142 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّكُمْ في زمانٍ مَنْ تركَ منكمْ عُشْرَ ما أُمِرَ بهِ هلكَ، ثمَّ يأتي زمانٌ مَنْ عملَ منهمْ بعُشْرِ ما أُمِرَ بهِ نَجَا"، غريب. قوله: "إنكم في زمان ... " إلى آخره. اعلم أن الخوف من الله واجب، ولكن لا يبلغُ خوفُ أحدنا عُشْرَ خوفِ الصَّحابة، ولا إيماننُا عُشْرَ إيمانهم، وكذلك الرَّجاء (¬1) والتوكل والصبر في مخالفة النفس والجهاد وغير ذلك، نحو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يعني: إنكم أيُّها الصَّحابة في زمانِ الأمن وعزَّة الإسلام، وتجالسونني، وتسمعون كلامي، وتشاهدون معجزاتي الكثيرة، فلو تركتم شيئًا مما أمرتم به، يكون ذنبُكم أعظم؛ لأنه لا مانع لكم، بل تركتموه عن التقصير. وأما في آخر الزمان يضعفُ الإسلامُ، ويكثر الظالمون والفساق، ولا يقدر الصالحون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، فإذا عجزوا فهم معذورون، وأما إذا قدروا على قليل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وفعلوا ما قدروا = نجَوا وخرجوا عن الإثم، ويكون لهم بذلك درجة عظيمة. * * * 143 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلا أُوتُوا الجَدَلَ"، ثم قرأَ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. قوله: "كانوا عليه"؛ أي: كانوا على هدى. ¬

_ (¬1) في "ت": "الوجل".

"أوتوا"؛ أي: أعطوا، والضمير في (أوتوا) مفعول أقيم مقام الفاعل، و (الجدل): منصوب لأنه المفعول الثاني، الجدل: الخصومة بالباطل. يعني: كل قومٍ ضلوا عن الهدى، ووقعوا في الكفر، إنما ضلوا بعد أن طفقوا بالخصومة بالباطل مع نبيهم، وطلبوا منه المعجزات للعناد والجحود، لا لطلب تَبَيُن كونه نبيًا ليؤمنوا به بعد ظهور نبوته، بل لإيذائه وإنكار نبوته، فلما أتى النبي عليه السلام بما طلبوا من المعجزة أصرُّوا وداموا على كفرهم. قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58]، يعني: ما ضربوا هذا المثل لك يا محمد! وهو قولهم: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أراد بـ (الآلهة) هنا: الملائكة؛ يعني: الملائكة خيرٌ أَمْ عيسى، فنعبد الملائكة، يعنون الملائكة خير من عيسى، فإذا عبد النَّصارى عيسى فنعبد الملائكة، فقال الله تعالى لنبيه محمد عليه السلام: ما قالوا هذا القول عن دليل وبرهان، ولم يسألوك هذا السؤال لطلب الحق بل لمخاصَمَتِك وإيذائك بالباطل. وهذا الحديث زجر ونهي للمسلمين عن الجَدَلِ، بل ينبغي للمسلم أن يكون مسلمًا (¬1) لأمر الله تعالى وأمر رسوله، ويقبل ما أُمر به عن اعتقادٍ صادقٍ من غير اعتراضٍ على الله ورسوله. * * * 146 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا تُشدِّدوا على أنفُسِكُم، فيُشدِّدَ الله عليْكُمْ، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفُسِهم فشدَّدَ عليهم، فتلْكَ بقاياهُمْ في الصَّوامعِ والدِّيار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] ". قوله: "فيشددَ الله تعالى": نصب على أنه جواب النهي؛ يعني: لا تحملوا ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "تسليمًا"، ولعل الصواب ما أثبت.

المشقة العظيمة على أنفسكم في الطاعات كيلا تضعفوا، وحينئذٍ يَفُوتُ عنكم بعض الفرائض والسُّنن المؤكدة وقضاء الحقوق، بل ينبغي للرجل أن يؤدِّي الفرائضَ والسُّنن ثم إنْ قدر يعمل بعض النوافل بحيث لا يلحقه ضرر ومشقة. وقد جاء في حديث آخر: أنَّ رسول الله عليه السلام قال: "لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَهُ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ". يعني: ليصلِّ أحدُكُم في وقتِ مطاوعة نفسِه وله نشاط، فإذا ضعف وحصل فيه ملالة فليترك الصلاة، وهذا في الصَّلاة النَّافلة، وكذلك الصَّيام وقراءة القرآن. قوله: "فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فَشُدِّدَ عليهم"؛ يعني بهم: بني إسرائيل؛ فإن الله تعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة، فسألوا عن لونها وسِنِّها وغير ذلك من صفاتها، حتى أمرهم الله تعالى بذبح بقرةٍ على صفةٍ لم توجد بتلك الصفة إلا بقرة واحدة، ولم يبعها صاحبها إلا بِمِلءِ جلدها ذهبًا، ولا بدَّ لهم من شرائها؛ لأن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة بتلك الصِّفة، فاشتروها وذبحوها، وهذا التشديد لزمهم بكثرة سؤالهم عن صفة البقرة. قال بعض المفسرين: إنهم لو ذبحوا بقرةً أيَّ بقرة كانت في أول ما أمرهم الله تعالى، لأجزأت عنهم، ولكن شدَّدوا على أنفسهم بكثرة سؤالهم، فشدَّدَ الله تعالى عليهم. قوله: "فتلك بقاياهم"، (البَقَايا): جمع بَقِيَّة، فتلك إشارة إلى مؤنث، يفسرها (بقاياهم)؛ يعني: بكثرة سؤالهم بقيَتْ جماعةٌ من بني إسرائيل يشدِّدون على أنفسهم بفعل ما لم يأمرهم الله تعالى، بل من إقامتهم على رؤوس الجبال ومهاجرتهم الناس. "الصَّوامع": جمع صَومَعَة، وهي موضع عبادة الرهبان، "والدِّيار": جمع دار.

(الرَّهبَانيَّة): عبادة الرُّهْبَان، وهي ما يفعلونها من تلقاء أنفسهم من ترك التلذذ بالأطعمة، وترك التزوج، وترك مخالطة الناس، والتَّوطن على رؤوس الجبال والمواضع البعيدة من العمرانات، وتلك الأشياء وضعوها مِن تلقاء أنفسهم. "وقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} "، (رهبانيَّة): منصوبة بفعل محذوف يفسره {ابْتَدَعُوهَا}، وتقديره: ابتدعوا رهبانية، فلما حذف (ابتدعوا) قَبْلَ رهبانية، أتى به بعدها، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}. ومعنى: (ابتدع) أتى بشيء بديع؛ أي: جديد لم يفعله قبلَه أحدٌ، والضمير في (كتبنا) راجع إلى الله تعالى؛ يعني قال الله تعالى: ما كتبنا الرهبانية، و (الرَّهْبَانيَّة) من الرَّهْبَةِ، وهي الخوف والمبالغة في العبادة. * * * 144 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزلَ القرآنُ على خمسةِ وجوهٍ: حلالٍ، وحَرامٍ، ومُحكَمٍ، ومُتشابهٍ، وأَمْثالٍ، فأَحِلُّوا الحَلالَ، وحرِّموا الحَرامَ، واعمَلُوا بالمُحكَم، وآمِنوا بالمُتشابه، واعتبِروا بالأَمثال". قوله: "نزل القرآن على خمسة وجوه"؛ يعني: بعض القرآن يبين ما هو حلال أكله أو فعله، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 160]، وكقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] الآية. (الجَوارِحُ): جَمع جَارِحَةٍ، وهي ما تصيد بها كالكلب والفهد؛ يعني: ما أصاد لكم الجَوارِحُ المُعَلَّمَةُ حلالٌ أكله، وكقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ أي: لباسكم وما أشبهه.

وبعضه يبين ما هو حرام، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ يعني: وما ذبح باسم غير الله، كقول الكفار عند الذبح: باسم الصنم، ومعنى الإهلال: رفعُ الصَّوْتِ. قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}؛ يعني: ما عُصِرَ حَلْقُهُ حتى يموت، أو بقي حلقه بين خشبتين أو حجرين حتى يموت. {وَالْمَوْقُوذَةُ}: ما مات بالضرب بالخشب. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: ما سقط من جبل وغيره ومات {وَالنَّطِيحَةُ}: ما مات بالنَّطْحِ، وهو أن تَضْرِبَ شاةٌ شاةً بقرنها. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}؛ يعني: ما جَرَحُه الكلب أو غيره من السِّباع ومات. {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}؛ يعني: إلا ما أدْرَكْتُم حياتَهُ، وذبحتُموه، فإنه حلالٌ أكلُهُ، التذكية: الذبح. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، (النُّصُبِ) ما ينصب من الحَجَرِ للعبادة؛ يعني: ما يذبحونه لآلهتهم فهو حرام. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} معنى (تستقسموا): تطلبوا، (الأزلام): قِداحٌ ثلاثةٌ مكتوبٌ على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث غُفْلٌ، لم يُكْتَبْ عليه شيء، كانوا إذا عزموا أمرًا من سفر أو نكاح أو غيرهما، أجالوها في خريطة أو تحت ثوب، ثم أخرجوا منها واحدًا، فإن خرج القِدح الذي مكتوب عليه: أمرني ربي، فعلوا ذلك الفعل الذي عزموه، وإن خرج القدح الذي مكتوب عليه: نهاني ربي، لم يفعلوا ذلك الفعل الذي عزموه، وإن خرج الغُفْلُ، أجالوها مرة أخرى، حتى تخرج قِدح أمرني ربي، أو نهاني ربي.

ووجه تحريم هذا الفعل: أنه شيء لم يأمرْهُمُ الله به، ولأَنْ كتبه: أمرني ربي، أو نهاني ربي على القدح كذبٌ؛ لأن الله لم يأمرهم بذلك. وبعض القرآن مُحْكَمٌ: وهو ما يُعَلمُ معناه، كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآية، وغير ذلك من الأمر والنهي والموعظة، فمن شأن هذا القسم العمل به. وبعضه متشابه: وهو الذي لا يَعْلَمُ معناه إلا الله، كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وما أشبه ذلك، فمن شأن هذا القسم الإيمان به؛ يعني: نقول: إنه حق، ولكن لا نعلم كيفيته بل نَكِلُ علمه إلى الله. وبعضه أمثال؛ يعني: قصص الأمم الماضية كقوم نوح وصالح وقوم لوط وغيرهم، فمِنْ شأنِ هذا القِسْمِ: الاعتبار والاحتراز عمَّا فعلوا؛ يعني: لا نفعل مثل ما فعلوا كيلا يصيبنا ما أصابهم من العذاب. * * * 145 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَمْرُ ثلاثةٌ: أمرٌ بَيِّنٌ رُشدُه فاتَّبعْهُ، وأَمرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فاجتنِبْهُ، وأمرٌ اختُلِفَ فيه فكِلْه إلى الله - عزَّ وجلَّ -". قوله: "إلا من ثلاثة"؛ يعني (الأمر) على ثلاثة أنواع: أحدها: "بَيِّنٌ"؛ أي: ظاهرٌ "رشدُهُ"؛ أي: صوابُهُ، وكونه حقًا، "فاتَّبعْهُ"، وذلك نحو وجوب الصَّلاة والزكاة والصوم وغير ذلك، مما عُلِمَ كونُهُ فرضًا أو سُنة أو حلالًا بالكتاب أو السُّنة أو الإجماع. والمراد بالكتاب: القرآن، وبالسُّنة: الحديث. النوع الثاني: "أمر بَيِّنٌ غَيُّهُ": أي: ضلالته؛ أي: ظاهر كونه ضلالة وباطلًا "فاجتنبه"؛ أي: احترز وابعُدْ عنه، وذلك نحو: بطلان كل دين غير دين

الإسلام، واعتقاد غير اعتقاد أهل السُّنة، ونحو تحريم الخمر والزنا والقتل، وغير ذلك مما عُلِمَ تحريمه بالكتاب أو السُّنة أو الإجماع. النوع الثالث: أمر غير هذين الأمرين؛ يعني: لم يثبت حَالهُ (¬1) بنصٍ؛ يعني: ما علِمْتَ كونه حقًا بالنَّص فاعمل به، وما علمتَ كونه باطلًا بالنص فاجتنبه، وما لم يثبُتْ حكمه بالنص، ولم يبين الشرعُ حكمه، فلا تقل فيه شيئًا من نفي أو إثبات، بل فكِلْ علمَهُ إلى الله تعالى، مثل متشابهات القرآن، والعلم بالقيامة؛ يعني: متى تكون القيامة، وكون أطفال الكفار أنهم من أهل الجنة أم من أهل النار، وغير ذلك مما لم يُبينه الشرع. قوله: "واختُلِفَ فيه" يحتمل أن يكون معناه: اشتبه وخَفِيَ حكمه، ويحتمل أن يكون معناه: اختلَفَ فيه الناسُ من تِلقاء أنفسهم من غير أن يبيِّنَ الله ورسوله حكمه. "فَكِلْهُ"، (الفاء) للتعقيب، و (كِلْ): أمرٌ مخاطب من: وَكَلَ يَكِلُ اتكالًا (¬2)، ومعنى (فَكِلْهُ): فَوِّضْ أمرَهُ "إلى الله". ° ° ° ¬

_ (¬1) في "ت": "حلاله". (¬2) في "ت" و"ق": "لاتكل"، ولعل الصواب ما أثبت.

2 - كتاب العلم

2 - كِتابُ العِلمِ

[2] كِتابُ العِلمِ (كتاب العلم) مِنَ الصِّحَاحِ: 147 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومَنْ كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَهُ مِنَ النَّارِ"، رواه عبد الله بن عمرو. قوله: "بَلِّغوا عَنِّي"، (بلغوا): أمر المخاطبين، من التبليغ، وهو إيصال الخبر إلى أحد، (الآية) لها معانٍ كثيرة، ومعناها ها هنا: كل كلام مفيد، نحو قوله: "مَنْ صمتَ نجا" و"الدِّين النصيحة". يعني: بلغوا عني أحاديثي إلى أمتي ولو كان قليلًا، وهذا تحريض على نشر العلم وتعليم الناس العلم وأحكام الدين ونشر الحديث. فإن قيل: لِمَ قال: (ولو آية)، ولم يقل: ولو حديثًا، مع أن المراد بالآية هنا: الحديث؟ قلنا: هذا إشارة إلى أنه يجوز تبليغ بعض حديث دون حديث تام، كما هو عادة مصنف "المصابيح" في كثير من أحاديث "المصابيح" نحو: حديث صلح الحديبية، فإن ذلك حديث طويل أورد في "المصابيح" بعضه، ومثل ذلك كثير، ومثل هذا: أحاديث الكتاب المعروف بـ "شهاب الخَبَرْ"، فإن كل ما عداه حديثًا فهو

بعض حديث ولا بأس به، إذ الغرض: تبليغ لفظ الحديث سواء كان حديثًا تامًا أو بعضه إذا كان مفيدًا. فإن قيل: لم حَرَّضَ النَّبي عليه السلام بتبليغ الأحاديث لقوله: "بلغوا عني"، ولم يحرِّضْهُم بتبليغ القرآن. قلنا: لهذا جوابان: أحدها: أن تبليغ القرآن داخل في قوله: "بلَّغُوا عني"؛ لأنه هو المبلِّغ للقرآن والأحاديث، فإذا قال: "بلغوا عني" يدخل فيه تعليم القرآن والحديث. والجواب الثاني: أن طباع المسلمين مائلة وحريصة على قراءة القرآن وتعليمه وتعلمه ونشره بما فيه من الثواب بقراءته وتعليمه وتعلمه؛ لأنه الكلام القديم، ولهذا صار القرآن مشهورًا في العالم ومتواترًا بحيث لا ينكره أحد من المسلمين، فإذا كان كذلك فتبليغ القرآن ونقله حاصل، فلا يحتاج فيه إلى تحريض. وأما الأحاديث فليس كذلك، فيحتاج فيها إلى تحريض النبي عليه السلام الناس على تبليغها وتعليمها وتعلمها، فلأجل هذا قال في نقل الأحاديث: "بلغوا عني ولو آية". قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، (الحَرَجُ): الضيِّق، ويستعمل في الإثم، وهذا رخصة من النبي عليه السلام لأمته في التَّحدث عن بني إسرائيل، وإن لم يعلموا صحة ما نقلوه عن بني إسرائيل، ولم يعلموا إسناده وراويه (¬1)؛ لأن معرفة صحته متعسر؛ لبعد الزمان بينهم وبين زمان موسى، ولانقطاع بني إسرائيل في زمان بُخْت نَصَّر، وهو كافر قد قتلَ بني إسرائيل إلا قليلًا. ¬

_ (¬1) في "ق": "ورواته".

فإن قيل: قد نهاهم النبي عليه السلام في حديث الباب المتقدم عن أن يكتبوا شيئًا عن لسان بني إسرائيل، وقال لهم: (أَمُتَهَوِّكُونَ أنتم)، ورخصَّ لهم (¬1) هنا في التحدث عن بني إسرائيل، كيف التوفيق بين الحديثين؟. قلنا: المراد بالتحدث عن بني إسرائيل هنا: أن يتحدثوا بقصص بني إسرائيل من حديث عوج بن عنق، وقتل بني إسرائيل أنفسهم لتوبتهم عن عبادة العجل، وغير ذلك من حكاياتهم وقصصهم؛ لأن في ذلك عبرة (¬2) وموعظة لأولي الألباب. وأما ما نهاهم عنه في الحديث المتقدم: هو ما أراد المسلمون كتابته (¬3) من أحكام التوراة وشريعة موسى عليه السلام، فنهاهم النبي عليه السلام؛ لأن جميع الشرائع والأديان والكتب صارت منسوخة بشريعة النبي عليه السلام. قوله: "ومن كذب علي متعمدًا فليتبَوَأْ مقعَدَهُ من النار"، (تبوأ): إذا هَيَّأَ، (المَقْعَد): المنزل؛ يعني: قد أذنت لكم أن تتحدثوا عن بني إسرائيل بشرط أن تتحرزوا عما عَلِمْتُم كذبه. قوله: (متعمِدًا) نصب على الحال، وهذا إشارة إلى أن من نقل حديثًا وعلم كذبه، يكون مستحقًا للنار، إلا أن يتوب أو يعفو الله عنه. وأما مَنْ سمع حديثًا منقولًا عن رسول الله عليه السلام مِنْ واحد، أو رآه في كتاب، ولم يعلم كذبه، لم يكن عليه إثم برواية ذلك الحديث، ولكن ينبغي أن لا ينقل الحديث إلا من شيخ معتبر أو كتاب مصنفه معتبر؛ لأن النبي عليه ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "رَخصهم"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬2) في "ت" و"ق": "لعبرة"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬3) في "ت": "كيفيته".

السلام قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، وقد شرحناه في الباب المتقدم. * * * 148 - وقال: "مَنْ حدَّثَ عنِّي بحديثٍ يُرى أنَّه كذِبٌ فهُوَ أحدُ الكاذِبَينَ". قوله: "من حدث ... " إلى آخره. "يُرى" بضم الياء: إذا ظن، يعني: من سمع حديثًا من أحدٍ، وظنه كاذبًا، ولم يعلم صدقه، ثم يحدث بذلك الحديث "فهو أحد الكاذبين"؛ يعني: شيخه كاذب وهو أيضًا كاذب بنقل ذلك الحديث عنه وتحدُّثِهِ به؛ يعني: لا يجوز نقل الحديث إلا إذا علم صدقه، أو غلب على ظنه صدقه، بكون الشيخ صالحًا ذا أمانة. وكنية "سَمُرَة": أبو سَعيد، واسم جده: هِلال بن خديج بن مُرَّة ابن عَمرو. * * * 149 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُردِ الله بهِ خيرًا يُفقهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولا تَزالُ منْ أُمَّتي أُمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرُّهمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خالفهُمْ حتى يأْتيَ أمرُ الله وهمْ على ذلك"، رواه مُعاوية - رضي الله عنه -. قوله: "يُفقِهْهُ في الدِّين"؛ أي: يجعله عالمًا بأحكام الدين، ويجعله ذا فهم حتى يفهم من ألفاظٍ قليلةٍ معانيَ كثيرة، وخير الدنيا والآخرة في العلم بأحكام الدين. قوله: "وإنما أنا قاسم والله يعطي"؛ يعني: إنما أنا أُحدِّث وأخبِرُ بما

يُوحَى إليَّ من القرآن وغيره من أحكام الدين، ولا أفضلُّ بعضكم على بعض في الأخبار، ولكن الله تعالى يرزق من يشاء من العلم، ويجعل من يشاء منكم ذا فَهْمٍ وإدراك، فبعضكم يسمع ما أقول ويحفظه ولا ينساه، وبعضكم يحفظه ولكن ينساه، وبعضكم له فهمٌ كثيرٌ يفهم من ألفاظه معانيَ كثيرة، وبعضكم لا يفهم منها إلا الظاهر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قوله: "ولا يزال": مضى شرحه في (باب (¬1) الاعتصام) قبل حِسانه بأربعةِ أحاديث. * * * 150 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الناسُ معادنُ كمعادنِ الذَّهبِ والفضَّةِ خِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "الناس معادن ... " إلى آخره. (المعادن): جمعُ مَعْدِن - بكسر الدال - وهو موضع الإقامة والاستقرار، والموضع الذي يخرج منه الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها من الجواهر وهو من عَدَنَ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عَدْنَا: إذا أقام بمكان. يعني: الناس معادن الأخلاق والأعمال والأقوال، فكما أن الأرض معدن الذهب وغيره من الجواهر، وكما أن بعض المعادن يخرج منها الذهب، وبعضها يخرج منها الفضة، وبعضها يخرج منها النحاس، وغير ذلك، فكذلك الناس يكون بعضهم معدن الأخلاق الحميدة، وبعضهم معدن الأخلاق الذميمة، فمن ¬

_ (¬1) هنا ينتهي السقط في النسخة الخطية المرموز لها بـ "ش"، والمشار إليه في (ص: 250) من هذا المجلد.

كان في الجاهلية صاحب أخلاق حميدة وأعمال وأحوال وأقوال مرضيَّةٍ كالحلم والكرم والكلام الطيب والشجاعة والسخاوة وغيرها، ثم أسلم وصار فقيهًا في الدين= فهو خير من الذي أسلم وفقه في الدين، ولم يكن له غير الفقه صفة مرضيَّة. قوله: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام"؛ يعني: مَنْ كان له شرف على غيره قبل الإسلام، فكذلك يكون له شرف على غيره في الإسلام إذا كان مساويًا لغيره في العلم والإسلام؛ لأنه إذا كان مساويًا شَرُفَ من النسب، وليس لغيره ذلك الشرف فلا شكَّ أن الذي له شرفٌ أشرفُ مِنَ الذي ليس له شرفٌ، وأما الذي له شرفٌ قبل الإسلام فأسلم، ولم يكن فقيهًا في الدين، فليس له شرف على مَنْ هو فقيه في الدين، وإن لم يكن له شرف قبل الإسلام. * * * 151 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إلا في اثنتَيْنِ: رجلٌ أَعطاه الله مالًا فسَلَّطهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجلٌ آتاهُ الله حِكْمةً فهُوَ يقضي بها ويُعلِّمُهَا"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. قوله: "لا حسد"، (الحسد): أن يتمنى أحد زوال ما يَعدوه من النعم، هذا لا يجوز في الشرع، و (الحسد) هنا: بمعنى الغِبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يحصل له ما يرى في شخص من النعم مِنْ غيرِ أن يتمنى زوال النعم من ذلك الشخص، وهذا جائز في الشرع. قوله: "إلا في اثنتين: رجلٍ آتاهُ الله مالًا"، (رجلٍ) مجرور لأنه بدل من (اثنتين)، وتقديره: لا غبطة إلا في شأن رجلين، وفي حال رجلين؛ يعني: لا قدر ولا عزة لشيء مما في الدنيا أن يتمناها المسلم إلا في شأن هذين الاثنين؛

لأنهما مشغولان بالخير، والخير شيء يُستحب بل يجبُ طلبُهُ لكل أحد. قوله: "فسلطَهُ على هَلَكَتِهِ"، (سلطه)؛ أي: وكَّلَهُ ووفَّقَهُ؛ لأن تصرفه على وجهٍ يحبه الله. قوله: "ورجلٍ آتاه الله حكمةً"؛ أي: عِلْمَ أحكام الدين "فهو يقضي بها"؛ أي: يعمل بها ويحكم بها بين الناس بالحق ويعمل "ويُعلِّمها" الناس. * * * 152 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا منْ ثلاثةٍ: إلا منْ صَدَقَةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعُو لهُ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله ... " إلى آخره. يعني: إذا مات الإنسان لا يكتب له بعد موته أجر وثواب؛ لأن الأجر جزاء العمل الصالح، والعملُ ينقطعُ بموتِ الرَّجل إلا إذا فعل فعلًا في الحياة يدوم خيره، وإذا كان كذلك يلحقه أجره، وذلك ثلاثة أشياء: أحدها: "الصدقة الجارية": وهي وَقْفُ أرضٍ أو دارٍ على المسلمين أو على شخصٍ واحدٍ أو بناءُ مسجدٍ أو مدرسةٍ أو رباطٍ، أو حفرُ بئرٍ وغير ذلك مما ينتفع به الناس. والثاني: "العلم الذي ينتفع به"؛ يعني: يعلِّمُ أحدًا أو جماعة مسألة أو أكثر من أحكام الدين، فيعملون بتلك المسألة ويعلمونها غيرهم من المسلمين، فيحصل له بذلك ثواب، وكذلك إذا صنف كتابًا. والثالث: "ولد صالح يدعو له" بعد موته، واعلم: أنه من ترك ولدًا صالحًا يحصل له من ذلك الولد ثوابٌ كل لحظة، سواء يدعو له الولد أو لا يدعو؛ لأن الولد كلما عمل عملًا صالحًا أو تلفظ بتسبيحٍ يحصل لأبيه ثواب؛

لأن الولد كشجرةِ مثمرة، فكما أن من غرس شجرة مثمرة يحصل له ثواب بأكل تلك الثمرة، سواء يدعو آكلها للغارس أو لا يدعو، فكذلك الأب كالغارس، والولد الصالح كالشجرة المثمرة، فهذا مثل قوله: "من سنَّ سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة". و (الولد الصالح) كسُنةٍ حسنةٍ سنها أبوه؛ أي: وضعها، فإن كان الولد سيئًا لا يلحق من سيئاته إلى الأب إثم؛ لأن نيَّةَ الأب في طلب الولد الخير لا الشر؛ لأن نيته في طلب الولد أن يحصل له ولد صالح يعبد الله ويحصل منه الخير إلى الناس، وإنما يصل من شر الولد إلى الأب نصيبٌ أن يعلِّمَ الأبُ الولدَ شرًا كالسرقة وشرب الخمر وغيرهما من المعاصي. قوله: "يدعو له" إنما قال هذا لتحريض الولد على الدُّعاء لأبيه، لا لأنه لو لم يدعُ الولد لا يلحق والده منه ثواب، بل يحصل له، فكما أن الأب يحصل له ثواب من الولد فكذلك الأم يحصل لها ثواب من ولدها بل ثوابها أكثر؛ لأن حقَّها على الولد أكثر. فإن قيل: قال هنا: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة"، فينبغي أن لا يكون غير هذه الثلاثة من يحصل له ثواب بعد موته، وقد جاء في الحديث: "من سنَّ سُنَّة حسنة ... " إلى آخره. وأيضًا: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة"، فهذان آخران يحصل لهما ثواب بعد موتهما. قلنا: هذان داخلان في تلك الثلاثة؛ لأن السُّنة التي سنَّها الرجل فهي: إما تعليم علم أو جعل موضع وقفًا أو ترك ولد صالح وما أشبه ذلك، وكذلك المرابط - وهو الغازي - لأنه قصد ونوى إحياء الدين وإظهاره، وجعل كل كافر

مسلمًا، وجعل نفسه فداءً لدين الله تعالى، فنيَّتُهُ وقصده في هذه الأشياء يشبه الوقف والعلمَ المنتَفَعِ به، فلذلك يدوم له الأجر والثواب إلى يوم القيامة. قوله: "ينمو"؛ أي: يزيد أجره. * * * 153 - وقال: "مَنْ نَفَّسَ عنْ مُؤمنٍ كُرْبَة مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ الله عنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ الله عليهِ في الدُّنيا والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مُسلِمًا ستَرهُ الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عَوْنِ العبْدِ ما دام العبْدُ في عَوْنِ أَخيه، ومَنْ سلكَ طَريقًا يلتمِسُ فيهِ عِلْمًا سهَّلَ الله لهُ بهِ طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمعَ قومٌ في مَسْجدٍ مِنْ مَساجدِ الله تعالى يتْلُونَ كتابَ الله ويتدارسُونَهُ بينهُمْ إلَّا نزلَتْ عليهِمُ السَّكينةُ، وغشِيَتْهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتْ بهِم الملائكةُ، وذكرهُمُ الله فيمنْ عنده، ومَنْ بطَّأَ به عمَلُهُ لمْ يُسْرعْ بهِ نسَبُه"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "من نَفَّسَ عن مؤمنٍ ... " إلى آخره، نَفَّسَ تنفيسًا: إذا ذهب الحزن. (الكُربة) بضم الكاف: الحزن، وجمعها: الكُرَب - بضم الكاف وفتح الراء - (يَسَّرَ) تيسيرًا: إذا سَهَّلَ الأمرَ وجعلَ أمرَ أحدٍ سهلًا، (المُعْسِر): الفقير. قوله: "مَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ"؛ أي: من كان له دينٌ على فقير فساهله بأن يمهله من وقتِ أداء دينه إلى وقتٍ يحصل له مال، أو يترك بعض دينه، ويطلب الباقي. قوله: "من سَتَرَ مسلمًا" هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يرى رجلًا على فعلٍ قبيح فيسترَ عليه ولا يفضحه.

والثاني: أن يكسُوَ مسلمًا ثوبًا. قوله: "والله تعالى في عون العبد"، (العون): النصرة، "ما كان العبد"؛ أي: ما دام العبد مشغولًا "في عون أخيه" المسلم؛ يعني: من يقضي حاجة مسلمٍ أو يعينُه قضى الله تعالى حاجته وأعانه على أمره. قوله: "ومن سلك طريقًا"؛ أي: ذهب طريقًا، "يلتمس"؛ أي: يطلبُ "فيه علمًا": من علوم الشريعة، "سَهَّلَ الله تعالى له به"، (الباء) باء السببية؛ يعني: جعل الله تعالى ذهابَه في طلب العلم سببًا لوصوله إلى الجنة من غير تعب، وذلك أن من طلبَ العلم يعرف به طريق الدين، وطريق الدين: هو الطريق الذي يوصل العبد إلى الجنة، والعلم هو الدليل إلى الجنة. قوله: "وما اجتمع قوم في مسجدٍ من مساجد الله تعالى يتلون كتاب الله"؛ أي: يقرؤون القرآن، "ويتدارسونه"، (التدارس): أن يقرأ بعضُ القوم مع بعضٍ شيئًا؛ يعني: يقرأ بعضهم بعض القرآن ويسمع بعض، أو يعلم بعضُهم بعضًا القرآن ويبحثون في معناه، أو تصحيح ألفاظه وحسن قراءته. وذكر هنا (المسجد)، والمراد به: جميع المواضع من المدارس والرباطات، وإنما قال: (في مسجد من مساجد الله تعالى)؛ لأن في زمان النبي عليه السلام وبعده إلى قرن أو قرنين لم تكن المدرسة والرباط، بل كان مجمع المصلين والمحدثين المساجد. قوله: "إلا نزلت عليهم السكينة"، (السكينة): الشيء الذي يحصل به سُكُون الرجل، والمراد ها هنا بها: حصول الذوق والشوق للرجل من القرآن، وصفاء قلبه بنوره، وذهاب الظلمة النفسانية من القلب، ونزول الضياء الرحمانية فيه. وقيل: (السكينة): اسم ملك ينزل قلب المؤمن، ويأمره بالخير، ويحرضه

على الطاعة، ويوقع في قلبه الطمأنينة والسكون على الطاعة. (غَشِيَ) - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - غشيانًا: إذا جاء من جانب العُلُوِّ، "وغَشِيَتْهُمُ الرحمة"؛ يعني: تنزل عليهم رحمة الله وبركاته. قوله: "وحفت بهم الملائكة"، (حفَّ) بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر، حفًا: إذا دارَ شيءٌ حولَ شيءٍ؛ يعني: تقف الملائكة حولهم يحفظونهم من الآفات، ويصافحونهم، ويزورونهم. قوله: "وذكرَهُمُ الله فيمَنْ عنده"؛ يعني: ذكرهم الله تعالى بين الملائكة ويقول لهم: انظروا إلى عبيدي يذكرونني ويقرؤون كلامي، وأيُّ شرفٍ أعظم من ذكر الله تعالى عباده بين الملائكة. قوله: "ومن بَطَّأَ به عَمَلُهُ"، (بطأ) بتشديد الطَّاء وفتح الهمزة، فعل ماضٍ من التَّبطئة، وهو ضدُّ التعجيل، (بطأ به)؛ أي: أَخَّر، و (أسرع به): إذا عَجَّله؛ يعني: التقديم بأمر الآخرة لا يحصل بالنَّسب وكثرة الأقارب والعشائر، بل بالعمل الصالح؛ يعني: من لم يتقرب بالعمل الصالح إلى الله لا يُقرِّبه علوُّ النسب وكونه ابن مَلِكٍ عظيم القدر لا ينفعه. * * * 154 - وقال: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ: رجلٌ استُشْهِدَ، فأَتى بهِ الله فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فِيها؟ قال: قاتلْتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدْتُ، قالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: إنك جَريءٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلقيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العِلْمَ وعلَّمَهُ وقَرأَ القُرآنَ، فأُتيَ بهِ فعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعرفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمت العِلْمَ وعلَّمْتُهُ وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبْتَ ولكنَّكَ تعلمتَ العِلمَ لِيقالَ: عالمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ ليُقالَ: هو قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثم أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ على وجهِهِ حتَّى

أُلقيَ في النَّار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليهِ وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كُلِّهِ، فأُتيَ بهِ فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سَبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفقَ فيها إلَّا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلْتَ ليقالَ: هو جَوَادٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ، ثُمَّ أُلقيَ في النَّار"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. قوله: "يُقضى عليه"؛ أي: يسأل يوم القيامة عن أفعاله ويُحاسب. "استُشْهِد" على بناء المجهول إذا جُعل شهيدًا؛ أي: قُتِلَ في معركة الكفار "فأُتيَ به" على بناء المجهول؛ أي: دُعِيَ وأحضر يوم القيامة للحساب. "فعرَّفه نعمه" تعريفًا: إذا جعله عالمًا بشيء، الضمير في (عَرَّفَ) يرجع إلى الله تعالى. (النِّعم): جمع نعمة؛ يعني: أعلمَهُ الله وذكَّره بما أنعم عليه من أنواع النِّعم من إعطاء القوة والشجاعة والفرس والسلاح وغير ذلك من أسباب المحاربة مع الكفار. "فعرَّفها"؛ أي: عَرَّف ذلك الشخص تلك النعم وأقر بها. "قال: فما عملت"؛ أي: قال الله تعالى له: فما عملت في تلك النعم، وعلى أيَّ وجهٍ صرفتها؟ "قال: قاتلتُ فيك"؛ أي: قاتلت في سبيل الله؛ أي: حاربت الكفار لإعلاء دينك ولرضاك "حتى استشهدت، قال: كذبت"؛ أي: قال الله له: كذبتَ إنك ما قاتلتَ مع الكفار لمرضاتي، بل قاتلتَ ليقولَ الناسُ إنك رجل شجاع، فغرضك من قتالك إظهارُ شجاعتك لا لإعلاء ديني. (الجَرِيء): الشجاع، من جَرُء - بضم العين في الماضي والغابر - جُرْأَةً وجَرَاءَةً: إذا صار شُجاعًا. قوله: "فقد قيل"؛ أي: فقد قال الناس ما طلبتَ، وهو مدحُك وإظهارُ

صيتك وشجاعتك؛ يعني: حصل لك غرضك في الدنيا، وهو إظهار شجاعتك، فليس لك ثواب غير ذلك، فإذا لم تقاتل لمرضاتي فما أديت حق نعمتي، وإذا لم تؤدِّ حق نعمتي فقد استوجبت العقوبة. "ثم أُمِرَ"؛ أي: أُمِرَ به، على بناء المجهول؛ أي: قيل لخزنة النار: ألقوه في النار، "سُحِبَ" ماضٍ مجهول؛ أي: جُذِبَ وجُرَّ. قوله: "ورجلٌ تعلَّم العلم"؛ أي: جيء يوم القيامة برجل تعلَّم العلم وعَلَّمه الناس، فعرفه الله تعالى ما أنعم عليه من الفهم والفصاحة والعلم والقرآن. قوله: "وقرأتُ فيك القرآن"؛ أي: في رضاك، وشرح باقيه قد تقدم. قوله: "وَسَّعَ الله تعالى عليه"؛ أي: كَثَّرَ الله مالَه، ووَسَّع رزقه "من أصناف المال" من الإبل والبقر والغنم والفرس وغيرها من الدواب، ومن الذهب والفضة وغير ذلك من أنواع المال كلها. قوله: "ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها"؛ يعني: ما تركت مَصرفًا تحبه وترضاه إلا صرفت فيه، كبناء المسجد والمدارس وإعطاء الزكاة والصدقات وغير ذلك من وجوه الخيرات، (الجواد): السَّخي، وباقي شرحه قد تقدم. * * * 155 - وقال: "إنَّ الله تعالى لا يقبِضُ العِلْمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخذَ الناسُ رُؤَساءَ جُهَّالًا، فسُئِلُوا، فأَفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فضَلُّوا، وأَضَلُّوا"، رواه عبد الله بن عَمْرو بن العاص. قوله: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا" منصوب على أنه مفعول

مطلق، والمفعول المطلق هو المصدر المنصوب. (الانتزاع): الجَذْبُ والجرُّ؛ يعني: إنَّ الله تعالى لا يقبض العلم من بين الناس على سبيل أن يرفعه مِنْ بينهم إلى السماء، ولكن يقبض بقبض أرواح العلماء حتى لا يترك عالمًا، فإذا قبض العلماء بقي الجهال، فاتخذ الناس قضاة وأئمة جاهلين، فقاضيهم يقضى بغير علم، ومفتيهم يفتي بغير علم. "رؤوساء": جمع رَأس، وهو السيد والإمام والقاضي والمفتي. "فسُئلوا" على بناء المجهول، والضمير في (سئلوا) يعود إلى (رؤوساء). قوله: "فضلوا"؛ أي: صار قضاتهم والذين أفتوهم ضالين وجعلوا قومهم ضالين أيضًا؛ لأنه مَنْ تَبِعَ جاهلًا يدله على سبيل الضلال، ومن تبع عالمًا يدله على سبيل الرَّشاد. * * * 156 - وقال عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتخَوَّلُنا بالمَوعظةِ في الأَيامِ كراهَةَ السَّآمَةِ علَينا. قوله: "يتخولنا"، (التخول): التعهد وحسن الرعاية. "السآمة": الملالة؛ يعني: كان رسول الله عليه السلام لا يعظنا متواليًا كيلا نَمِلَ، فلا يؤثِّرُ كلامُه في قلوبنا عند ملالتنا، بل يعظنا فيه يومًا دون يوم، ووقتًا دون وقت، ويطلب وقتًا نكون فيه مجموعي الخواطر فيعظنا فيه، وكذلك ليفعل المشايخ والوعاظ في تربية المريدين. * * * 157 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا حتى

تُفهمَ عنه، وإذا أَتَى على قومٍ فسلَّمَ عليهِمْ سَلَّم عليهم ثلاثًا. قوله: "إذا تكلم رسول الله عليه السلام" بوعظ وغيره أعاد ذلك الكلام ثلاث مرات حتى يفهمه المستمع، ويتقرر في طبعه، ويحفظه، وكذلك ليفعل الوعاظ في كل زمان. قوله: "وإذا أتى على قوم فسَلَّمَ عليهم سَلَّمَ عليهم ثلاثًا"؛ يعني: إذا أتى باب أحد أو أتى جمعًا سَلَّمَ عليهم للاستئذان، وإذا أذنوا له ودخل، سَلَّمَ عليهم ثانية للتحية، وإذا قام وخرج من عندهم سَلَّمَ عليهم ثالثة للوداع، وهذه التسليمات الثلاث سُنَّةٌ في كل أحد حين يأتي قومًا. * * * 158 - وعن أبي مَسْعُودٍ الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دلَّ على خَيْرٍ فلهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعلِهِ". قوله: "مَنْ دلَّ على خير"؛ يعني: مَنْ أَمَرَ أحدًا بإعطاء صدقة أو بناء مسجد أو مدرسة أو رباط وغير ذلك من الخيرات، أو وعظ أحدًا حتى يخافَ الله تعالى، ويرجع من المعاصي إلى الصلاح = فله مِثلُ أجر مَنْ فعل خيرًا بقوله، وهذا نظير قوله عليه السلام: "من سن سنة حسنة ... " إلى آخر الحديث. واسم "أبي مسعود": عُقبة بن عَمرو بن ثَعلبة بن أسيرة بن عَسيرة الأنصاري. * * * 159 - وقال: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورِهم شيءٌ، ومَنْ سنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً

سيَّئَةً كان عليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أَوزارِهم شيءٌ"، رواه جَرِيْر - رضي الله عنه -. قوله: "مَنْ سَنَّ": قد تقدم شرح هذا الحديث في (باب الاعتصام)؛ لأن هذا الحديث مثل قوله عليه السلام: "مَنْ دعا إلى هدى ... " إلى آخر الحديث. وجد "جرير": الشليل بن مالك. * * * 160 - وقال: "لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلْمًا إلَّا كانَ على ابن آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ"، رواه ابن مَسْعُود - رضي الله عنه -. قوله: "لا تقتل نفسٌ ظلمًا"، (ظلمًا) منصوب على التمييز، وأراد بـ (ابن آدم الأول): قابيل؛ فإنه قتل أخاه هابيل، وهو أول قاتل في العالم، ويدل هذا أنَّ قابيل أول ولد وُلد من آدم. قوله: "ابن آدم الأول"، (الأول) صفة للابن لا لآدم؛ لأنه لم يكن آدم أكثر من واحد حتى يكون هو أولهم، وقد بلغنا أن بعض الجهال يقولون: إنه قد كان قبل آدم هذا سبعة أوادم، وهذا القول كفر بل لم يكن آدم غير آدم الذي هو أبو البشر. قوله: "كِفْلٌ من دَمِها"، (الِكفل): النصيب، الضمير في (دمها) راجع إلى النفس، في قوله: (لا تُقتل نفسٌ)؛ يعني: كل قتل باطل يجري بعد قابيل إلى نفخة الصور يكون لقابيل نصيب من ذلك الإثم، وهذا الحديث نظير قوله: "ومن سَنَّ سنة ... " إلى آخر الحديث. * * *

مِنَ الحِسَان: 161 - عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَلَكَ طَريقًا يطلُبُ فيهِ عِلْمًا سَلَكَ الله به طَريقًا من طُرُق الجنَّةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالبِ العِلْمِ، وإنَّ العالمَ ليَستغفرُ لهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرضِ، والحِيْتانُ في جَوْفِ الماءِ، وإنَّ فَضْلَ العالم على العابِدِ كفضْلِ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ على سائرِ الكوكِبِ، وإنَّ العُلَماء وَرثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياء لم يُورَّثوا دِيْنارًا ولا دِرْهمًا، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أخذَ بحظٍّ وافِرٍ". قوله: "من سلك ... " إلى آخره، "سلك طريقًا"؛ أي: ذهب في الطريق. "سلك الله به": الباء في (به) للتعدية، والضمير يعود إلى (مَن)؛ يعني: أذهبه الله بسبب طلب العلم في طريق من طرق الجنة، حتى يوصله إلى الجنة والضمير يعود إلى العلم. قوله: "طريقًا من طرق الجنة" إشارة إلى أنَّ طرق الجنة كثيرة؛ يعني: كل عمل صالح طريق من طرق الجنة، وطلب العلم أقرب طريق إلى الجنة، وأعظم وأفضل عمل من الأعمال المرضية عند الله؛ لأن صحة الأعمال وقبولها موقوف على العلم، ألا ترى أن من ليس له علم الصلاة لا تصح صلاته، وكذلك الصوم والحج وجميع الأعمال الصالحة. قوله: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم"، (رضًا) منصوب في التقدير؛ لأنه مفعول له. (الأجنحة) جمع جَناح - بفتح الجيم - يعني: أن الملائكة تفرش وتبسط أجنحتها تحت قدمي طالب العلم تواضعًا له، ولتحمله ليبلغه حيث يمشي،

ويحتمل أن يريد بوضع الأجنحة: التقرب والتواضع له من غير حقيقة وضع الأجنحة؛ يعني: تدور الملائكة حول طالب العلم ويزورونه ويحفظونه من الآفات، وذلك لعظم قدر العلم. قوله: "وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان" جمع حوت؛ يعني: أهل السموات وأهل الأرض حتى الحيتان في الماء يدعون لأهل العلم بالخير ويستغفرون لهم، وذلك لأن مَن طلبَ العلم يطلبُ إحياءَ الدين مما يرضاه الله ورسوله وأهل السموات والأرض، فلأجل هذا يدعون له، ولأن نفع العلم يصل إلى جميع الحيوانات. أما وصول نفع العلم إلى الملائكة؛ فهو أن الكفار بعضهم يقولون: ليس لله ملائكة، وبعضهم يقولون: الملائكة بنات الله، وبعضهم يعبدون الملائكة وكل ذلك كفر، ويتأذى من جميع ذلك الملائكة، وأهل العلم يقولون: الملائكة عباد الله، فهذا الاعتقاد شيء يحبه الله وملائكته فتدعوا الملائكة لأهل العلم؛ لأنهم يقولون فيهم ما هو حقهم لا زيادة فيه ولا نقصان. وأما وصول نفع العلم إلى أهل الأرض من الإنس والجن؛ فهو أن خلاصهم من النار بسبب العلم. وأما سائر الحيوانات؛ فلأن أهل العلم يبيِّنون ما هو الحلال وما هو الحرام، وما يجوز قتلها وما لا يجوز، ويبيِّنون فيما يحل أكله كيف يُذبح حتى يجوز أكله، وكل ذلك نفع للحيوانات؛ لأن مَنْ لا علم له يظن أن قتل جميع الحيوانات غير الإنسان جائز فيقتلهم فيلحقهم ضرر بذلك، فلأجل أن العالم يصل منه نفع إلى الحيوانات تدعو الحيوانات له شكرًا لإنعامه عليها. قوله: "كفضل القمر ليلة البدر"، (ليلة البدر): وهي الليلة الرابع عشرة من الشهر، ونور القمر في هذه الليلة أكثر من نوره في جميع الشهر؛ يعني: بقدر

التفاوت بين نور القمر ليلة البدر وبين نور الكواكب، يكون التفاوت بين فضل العالم وفضل العابد، والمراد بـ (العالم) العالم الذي له اعتقاد صحيح وله أداء فرائض الله تعالى، ولكن لا يشتغل بنافلة الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات لاشتغاله بتحصيل العلم، والمراد بـ (العابد) هنا: هو الذي يَعلم من العلم ما تصح به عباداته، ولكن لا يشتغل بالعلم الذي ليس عليه فرض؛ لاشتغاله بالعبادات. قوله: "وإن العلماء ورثة الأنبياء"؛ يعني: كما أن أولاد الرجل يرثون ويأخذون ماله بعد وفاته، فالعلماء يرثون ويأخذون العلم من الأنبياء، وينقلون العلم عنهم وينشرونه ويظهرون دينهم، ومحبة الأنبياء للعلماء أكثر من محبة الآباء للأولاد؛ لأن وصول النفع من العلماء إلى الأنبياء أكثر من وصول النفع من الأولاد لآبائهم. قوله: "أخذ بحظ وافر"، (الحَظُّ): النصيب، و (الوافر): التام الكامل؛ يعني: فمن أخذ العلم من الأنبياء يكون حظه أكثر من حظ الذي أخذ المال. * * * 162 - وقال أبو أُمامة الباهليُّ: ذُكِرَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَجُلانِ أحدُهُما عابِدٌ والآخَرُ عالمٌ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلُ العالِمِ على العابدِ كفَضْلي على أَدناكُمْ"، ثم قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله وملائكتَهُ وأهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملَةَ في جُحْرِها وحتَّى الحوتَ لَيُصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخير". قوله: "ذُكِرَ لرسول الله"؛ يعني: وُصِفَ عند رسول الله عليه السلام رجلٌ بالعبادة ورجل بالعلم، وسئل: أيهما أفضل؟ فقال رسول الله عليه السلام: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منكم".

ومعنى (الأدنى): الأقل مرتبة وعزة (¬1)، وإنما فضل العالم يكون أكثر من فضل العابد؛ لأن العابد يعمل شيئًا ينفع نفسه فقط وهو العبادة، وأما علم العالم ينفع نفسه وغيره من المسلمين. (جُحْرِها): أي: الثُّقبة التي تكون فيها. قوله: "لَيُصَلُّون": وقد ذكر شرح الصلاة من الله ومن الملائكة ومن المؤمنين في (شرح ديباجة الكتاب). قوله: "على معلِّمِ الناس الخير" أراد بـ (الخير) ها هنا: علم الدين وما به نجاة الرجل. * * * 163 - وقال أبو سَعيد الخُدْريُّ - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ النَّاسَ لكُمْ تَبَعٌ، وإنَّ رِجالًا يأْتونكُمْ مِنْ أقطارِ الأرضِ يتفقَّهُونَ في الدِّينِ، فإذا أَتَوْكُمْ فاسْتَوْصُوا بهِمْ خَيْرًا". قوله: "إن الناس لكم تبع"، (لكم) خطاب للصحابة؛ يعني: الناس يأتونكم من جوانب الأرض يطلبون العلم منكم بعدي، فإذا أتوكم فأمروهم بالخير وعظوهم وعلموهم علوم الدين. قوله: (لكم تبع)؛ يعني: يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم أفعالي وأقوالي. "الأقطار": جمع قُطْر - بضم القاف - وهو الجانب والناحية. "يتفقَّهون"؛ أي: يطلبون الفقه ويتعلمونه. ¬

_ (¬1) في "ت": "وعِشْرة".

"في الدين"؛ أي: في أمور الدين وأحكامه. قوله: "فاستوصوا بهم خيرًا" أصل هذا: استوصيو، فَنُقِلت ضمة الياء إلى الصاد وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، والاستيصاء: قبول الوصية، والاستيصاء أيضًا بمعنى التوصية يُعَدَّى بالباء يقال: استوصيت زيدًا بعمرو خيرًا؛ أي: طلبت زيدًا أن يفعل بعمرو خيرًا. ومعنى قوله: (فاستوصوا بهم خيرًا)؛ أي: مروهم بالخير، وعظوهم خيرًا، وعلموهم الخير. * * * 164 - وقال: "الكلِمةُ الحِكْمَةُ ضالَّةُ الحَكيم، فحيثُ وجدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بها", رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. غريب. "الكلمة الحكمة"، (الكلمة): موصوفة. و (الحكمة): صفتها، ومعنى (الحكمة): المحكمة المثبتة والممنوعة عن الخطأ والفساد، وفي بعض الروايات: "كلمة الحكمة" على الإضافة، و (الحكمة): المانعة للرجل عن الجهل والفساد، و (حكم): إذا منع الضالة التي ضلت عن صاحبها؛ أي: غابت، و"الحكيم": ذو الحكمة؛ أي: ذو الصلاح والعلم والعقل الكامل؛ يعني: كلمة الحكمة مطلوبة الحكيم. و"الحكيم": هو الذي يعرف قَدْرَ العلم والمسائل الشرعية والمواعظ، فينبغي للحكيم أن يطلب العلم كما يطلب الرجل ما غاب عنه من دوابَّه وغيرها من الأموال، فحيث وجدها فليحفظها؛ لأنه هو صاحبها، ولا ينبغي أن يتركها وينساها، وإذا سمع حكيم مسألة من رجل فليحفظها، وإن كان الرجل الذي سمعها منه جاهلًا، ولا ينبغي له أن يستنكف من طلب العلم ممن هو دونه.

روى هذا الحديث: "أبو هريرة". * * * 166 - وقال: "لَفَقيهٌ أشدُّ على الشيطانِ مِنْ ألفِ عابِدٍ"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. قوله: "لفقيه واحد أشد ... " إلى آخره؛ يعني: بقاء فقيه واحد وحياته أشد وأبغض على الشيطان من ألف عابد وحياتهم؛ لأن الفقيه عدو الشيطان؛ لأن الشيطان يأمر الناس بالكفر والفسق، والفقيه يأمرهم بالإيمان والطاعة، ويدعوهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الرحمن، ولا يحصل من العابد شيء من هذه الأشياء إذا كان العابد غير عالم. * * * 165 - وقال: "طلَبُ العِلْمِ فريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ"، رواه أنسٌ - رضي الله عنه -. قوله: "طلب العلم فريضة" واعلم: أن المراد بالعلم الذي هو فريضة على كل مسلم: العلم الذي طلبه فرض عين لا فرض كفاية، وذلك مختلف باختلاف الأشخاص. فالفقير الذي ليس عليه إلا الصلاة والصوم من الأركان يجب عليه معرفة صحة الاعتقاد من كون الله تعالى واحدًا لا شريك له، وهو حي قديم أزلي أبدي، وغير ذلك مما ذكر تعلمه من العقائد في كتب الاعتقادات، ويجب عليه تعلم ما تصح به الصلاة والصوم وما يفسدهما، ويجب عليه معرفة الحلال والحرام، والخبيث والطاهر، والوضوء والغسل. وأما الغني الذي تجب عليه الزكاة والحج؛ فيجب عليه تعلم ما يجب على الفقير من العلم مع زيادة تعلم علم الزكاة والحج، ويجب على التاجر تعلم علم

ما تصح به العقود، وما يفسدها، وكذلك من يعمل عملًا يجب عليه تعلم علم ذلك العمل. وأما تحصيل العلم بحيث يصير الرجل مجتهدًا في بلد ومفتيًا، فهذا فرض كفاية لا فرض عين، وإذا صار رجلٌ مجتهدًا في بلد أو في ناحية سقط الفرض عمن كان قريبًا بمكان ذلك الرجل المجتهد بحيث تبلغ فتواه إليه، وإن لم يكن بكل ناحية مفتي عصى أهل تلك الناحية، حتى يصير واحد منهم مفتيًا. * * * 167 - وقال: "خَصْلَتَانِ لا تجتمعانِ في مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فِقْهٌ في الدِّين"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. قوله: "خصلتان لا تجتمعان ... " إلى آخره؛ يعني: لا تكون هاتان الخصلتان مجتمعتين في المنافق، بل إما أن لا تكون واحدة منهما، أو تكون واحدة منهما دون الأخرى؛ يعني: لا يكون المنافقُ حَسَنَ الخْلق حَسَنَ الطريقة في الدين، بل يكون سيئ الخلق مفسدًا لأمور الدين، وكذلك لا يكون عالمًا بالعلوم الشرعية؛ لأنه لا اعتقاد له بكون الشريعة حقًا، ولو تعلم مسائل من العلوم؛ لكون ذلك التعلم لمصلحة الأمور الدنيوية، ودفع السيف عن نفسه. وهذا الحديث يدل على عظم قَدْر حُسْنِ السَّمت والفقه في الدين، وهو أيضًا تحريض للمسلمين على حسن السَّمت، والفقه في الدين؛ لينالوا بركة وفضيلة ما لا يناله المنافقون. السَّمْت - بفتح السين وسكون الميم -: الطريق والهيئة. * * * 168 - وقال: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فهو في سَبيلِ الله حتَّى يرجِعَ"،

رواه أنس - رضي الله عنه -. قوله: "من خرج في طَلَبِ العلم ... " إلى آخره، يعني: من خرج من بيته في طلب العلم فله أجر من خرج للجهاد مع الكفار حتى يرجع إلى بيته. ووجه مشابهة طلب العلم بالجهاد: أن طلب العلم إحياء للدين، وإذلال للشيطان، وإتعابٌ للنفس، وكَسْرٌ للهوى واللذة، كما كانت هذه الأشياء في الجهاد. * * * 169 - وقال: "مَنْ طَلَبَ العِلمَ كان كفَّارةً لِمَا مضَى"، رواه عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي - رضي الله عنه -. ضعيف. قوله: "كان كفارة"؛ أي: كان طلبُ العلم كفارةً "لما مَضى من ذنوبه". و (الكفارة): تستر الذنوب وتزيلها، من كَفَرَ: إذا سَتَرَ. روى هذا الحديث "عبد الله بن سَخْبَرة" عن أبيه. * * * 170 - وقال: "لَنْ يَشبَعَ المؤمنُ مِنْ خَيْرٍ يسمَعُهُ حتَّى يكونَ مُنتهَاهُ الجنَّةُ"، رواه أبو سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -. قوله: "من خيرٍ يسمعُهُ"؛ أي: مِنْ علمٍ يسمعه. قوله: "حتى يكون منتهاه الجنة"، (منتهاه): غايته ونهايته، وهو ظرف خبر (يكون)، و (الجنة): اسمه، وتقديره: حتى تكون الجنة منتهاه؛ يعني: يكون المؤمن حريصًا على طلب العلم، ولا يشبع، ولا يمل منه، حتى يموت، فإذا مات دخل الجنة. * * *

171 - وقال: "مَنْ سُئلَ عن عِلْمٍ عَلِمَهُ ثمَّ كتمَهُ أُلْجِمَ يومَ القيامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "ثم كَتمَهُ"؛ أي: ستره؛ أي: جُعِل وأُدخِل في فمه لِجَامٌ من النار؛ يعني: مَنْ سألَهُ أحدٌ عن مسألةٍ علمها ثم أخفاها، ولم يُعلِّمها السَّائل، جعل له يوم القيامة لِجَام من النار، وإنما عذب فمه؛ لأن الفم موضع خروج العلم منه، فلما لم يُجِبِ السَّائل وسكت، جازاه عن سكوته بلجام من النار. واعلم أن المسألة التي يكون الإثم في ترك جوابها هي المسألة التي يحتاج إليها السائل في أمور دينه، أما لو سئل عن علم لا ضرورة له فيه، فلا يجب جوابه، بل يُخيَّرُ المسؤول في الجواب وتركه. * * * 172 - وقال: "مَنْ طلَبَ العِلْمَ ليُجارِيَ بِهِ العُلماء, أو ليُمارِيَ بِهِ السُّفهاءَ, أو يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إليهِ أدخلَهُ الله النَّار"، رواه كعب بن مالك - رضي الله عنه -. قوله: "ليجاري به العلماء"، (المجاراة): المقاومة، وجعل الرجل نفسه مثل غيره؛ يعني: لا يطلب العلم لله، بل ليقول للعلماء: أنا عالم مثلكم، ويتكبر، ويحصل لنفسه رفعة. قوله: "أو ليماري به السفهاء" (المماراة): المجادلة، (السفهاء): جمع سفيه، وهو ضعيف العقل، والمراد به ههنا: مَنْ ليس له علم، يعني: ليجادل الجاهلين ويقول لهم: أنا عالم وأنتم لستم بعالمين، وأنا خير منكم. قوله: "أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه"؛ يعني: طلب العلم على نية تحصيل المال والجاه من العوام؛ ليصير العوام مريدين يخدمونه ويعظمونه ويعطونه المال.

يعني: من طلب العلم لله يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، ويحصل له ثواب كثير، ومن طلب العلم لا لله، بل لغرض آخر يحصل له إثم عظيم، وكذلك جميع الأعمال الصالحة. * * * 173 - وقال: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مما يُبتغى بهِ وَجْهُ الله، لا يتعلَّمُهُ إلا لُيصيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنيا لمْ يَجدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامَةِ"؛ يعني: ريحَهَا، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "مما يُبتغى به وجه الله", (من): للتبيين، (يُبتغى)؛ أي: يُطلب (وجه الله)؛ أي: رضا الله. يعني: من تعلم علمًا من العلوم التي يكون لله رضا بتحصيل ذلك العلم؛ يعني: به العلوم الشرعية، فمن طلب شيئًا مِنْ هذه العلوم لطلب مال الدنيا تكون له العقوبة؛ لأنه طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ فقد وجد ثواب سعيه في طلب العلم؛ لأن نيته في طلب العلم جمع المال، وقد وُجِدَ، فإذا وجد ثوابه في الدنيا لا يكون له في الآخرة ثواب. "ليصيب"؛ أي: ليجد، (العَرَضُ): المال، (العَرْفُ) بفتح العين وسكون الراء: الرائحة. قوله: "لم يجد عَرْفَ الجنة" يحتمل أن يُريد به: التهديد والزجر عن طلب الدنيا بعمل الآخرة، ويحتمل أن يريد به: أنه لا يجد رائحتها ولا يدخلها قَبْلَ العذاب، بل يُعذب بقدر ذنوبه في طلب الدنيا بعمل الآخرة، ثم يدخل الجنة. وليس المراد به أن لا يدخل الجنة أبدًا؛ لأن المؤمن تكون عاقبته دخول

الجنة، وإن كان له ذنوب عظيمة. * * * 174 - وقال: "نَضَّرَ الله عبدًا سَمِعَ مَقالَتي فحفِظَهَا ووَعَاهَا وأَدَّاهَا، فرُبَّ حامِلٍ فِقْهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ مِنْهُ". وقال: "ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العَملِ لله، والنَّصيحةُ للمُسلمينَ، ولزومُ جماعَتِهِمْ، فإنَّ دعوتَهُمْ تُحيطُ مِنْ ورائِهِمْ"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. 175 - وقال: "نَضَّرَ الله امْرءًا سَمِعَ مِنَّا شيئًا فَبَلَّغَهُ كما سَمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى له مِنْ سامِعٍ"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. قوله: "نضرَ الله امرءًا"، (نَضَرَ) - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - نَضْرَةً: إذا جعل أحدًا ذا جمالٍ، وحسن الوجه من أثر النعمة، وهذا اللفظ يكون لازمًا ومتعديًا، وها هنا متعدٍّ. وروي: "نضَّر الله" بتشديد الضاد، ومعناهما واحد، ومن شدد يريد المبالغة والكثرة في النَّضْرَة. وَعَى يَعِي وَعْيًا: إذا حفظ كلامًا بقلبه، والمراد بقوله: "ووعاها"؛ أي: دام على حفظها ولم ينسها. "وأدَّاها"؛ أي: أوصلها إلى الناس، وعلمها الناس. قوله: "فربَّ حامِلِ فقهٍ غيرِ فقيه"، (غير): صفه لـ (حامل فقه). يعني: قد يكون بعضُ الناس يسمع حديثًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من الصحابة أو غيرهم، ويحفظ لفظ الحديث، وهو لا يعلم معناه، ويروي ذلك الحديث لشخص يعلم معنى ذلك الحديث.

وقد جَوَّزَ أصحاب الحديث أن يسمع العالم الفاضل الحديث من الرجل العامي ليس له علم، إذا سمع ذلك الرجل العامي الحديث من أحد، كما سمع فضلاء بغداد وأصفهان والعراق وغيرها من البلاد صحيح (¬1) البخاري وغيره من كتب الحديث على أبي الوقت، وهو رجل صوفي ليس له من العلم إلا قليل، وذلك بدليل هذا الحديث. قوله: "وربَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ منه"؛ يعني: قد يكون التلميذ أعلم بمعنى الحديث والأحكام من الأستاذ. يعني: تعلموا العلم ممن دونكم في العلم، ومن ليس له إلا مجرد نقل لفظ الحديث، وكل ذلك تحريضٌ على تعليم الحديث والعلوم وتعلمها ونشرها. وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امرءًا" في مُبَلِّغ الحديث؛ لأن تبليغَ الحديث تجديدُ الدين وإظهاره وتزيينه، فدعا رسول الله - عليه السلام - بأن يعطيه نضرة وسرورًا، وحسن الحال مجازاة له بتجديد الدين. قوله: "ثلاث لا يَغِلُّ عليهِن قلبُ مسلم"، (ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال، (لا يَغِل) - بفتح الياء وكسر الغين -؛ أي: لا يكون ذا حقد على هذه الخصال؛ يعني: لا يدخل في قلب مسلم شيء من الحقد يزيله ويمنعه من هذه الخصال. ويروى: "لا يُغِل" - بضم الياء وكسر الغين - وهو من الإغلال، وهو الخيانة؛ يعني: لا يخون قلب مسلم في هذه الخصال، والنفي في هذا الحديث بمعنى النهي؛ يعني: لا يتركها، بل يأتي بها. إحدى الخصال: "إخلاص العمل لله"؛ يعني: ليخلص كل مسلم عمله لله ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش" و"ق": "الصحيح".

لا للرياء وتحصيل جاه ومال. والخصلة الثانية: "النصيحة للمسلمين"، ومعنى (النصيحة): إرادة الخير؛ يعني: ليعظ بعض المسلمين بعضًا، وليحب كلُّ واحد من المسلمين للناس ما يحب لنفسه. والخصلة الثالثة: لزوم جماعتهم؛ أي: جماعة المسلمين؛ يعني: ليكن متفقًا مع المسلمين في الاعتقاد والعمل الصالح وصلاة الجمعة والجماعة والعيد، والكسوف، وغير ذلك مما عليه إجماع المسلمين من الأفعال والأقوال والاعتقاد. قوله: "فإن دَعوتَهُمْ تحيطُ من ورائِهم"، (أحاط): إذا دار حول شيء؛ يعني: فإن دعوة المسلمين تدور من ورائهم، ويكون اتفاقهم واجتماعهم على الدين حِرزًا وحصنًا لهم يحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، كما قال - عليه السلام - في حديث آخر: "اتبعوا السَّواد الأعظم"، وقال: "يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار". قوله: (فإن دعوتهم): لفظة (فإن) للتعليل، مثل لفظة (لأن)، وتقديره: لا يغلنَّ قلب مسلم في لزوم جماعتهم، ولا يقصرن أحد في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تحيط من ورائهم، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم. وإنما قال رسول الله - عليه السلام -: "ثلاث لا يغل عليهن" عقيب قوله: "نضر الله امرأ"؛ لأنه أمر الأمة بأداءِ ما سمعوا من الأحاديث، ثم قال: أداء الحديث، وتعليم الناس من إخلاص العمل لله، ومن نصيحة المسلمين، ومن لزوم جماعتهم، وهذه الأشياء مما لا يجوز لأحد أن يترك واحدًا منها. * * *

176 - وقال: "اتَّقُوا الحديثَ عنِّي إلَّا ما عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذبَ عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار". وقال: "مَنْ قالَ في القُرْآنِ برأْيهِ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. وفي روايةٍ أُخرى: "مَنْ قالَ في القُرآنِ بغيْرِ علْمٍ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّارِ". قوله: "اتقوا الحديث ... " إلى آخره. يعني: احذروا وخافوا رواية الحديث عني فيما لا تعلمون أنه حديثي، ولا تحدثوا عني إلا ما علمتم أنه حديثي. روى هذا الحديث: "ابن عباس". * * * 177 - وقال: "مَنْ قالَ في القُرآنِ برأْيِهِ فأَصابَ فقدْ أخطَأَ"، رواه جُندُب - رضي الله عنه -. قوله: "من قال في القرآن ... " إلى آخره. اختلفوا فيمن فسر القرآن برأيه؛ فقال بعضهم: هو الذي يقرأ القرآن بمراد نفسه، مثل أن يفسر المشبهي: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] استوى: على معنى استقرار الله وثبوته على العرش، ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد. وكما فسر القدري: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] على أن الخير من الله، والشر من الإنسان، وغير ذلك؛ ممن فسر القرآن على حسب اعتقاده الباطل وعمله الفاسد. وقال بعضهم: هو الذي يفسر القرآن من غير أن يكون له علم التفسير

وشرائطه من معرفة أقوال العلماء واعتقادهم، وموافقًا لأصول الدين [و] ما تقتضيه اللغة العربية، ومن غير أن يعلم سبب نزوله. قوله: "من قال في القرآن" هذا اللفظ يتناول التكلم في معنى القرآن، وفي سبب نزوله، وفي إعرابه، وفي لفظه بأن يقول: لفظه هكذا، وهذه القراءة جائزة، أو هذه قراءة فلان من القراء، كل ذلك غير جائز إذا لم يعلم؛ يعني: لا يجوز أن يتكلم في القرآن بغير دليل. قوله: "من قال في القرآن ... " إلى آخره. يعني: مَن قال في القرآن من المعاني أو سبب النزول أو غير ذلك من غير علم، فقد أخطأ وأَثِمَ، وإن ظهر أن ما قال كان صوابًا؛ لأنه لا إذن في التكلم في القرآن، بل في جميع أحكام الشريعة من غير علم، فقد تكلم بغير إذن الشارع، ومن تكلم بغير إذن الشارع، فقد أخطأ، وإن كان ما قاله صوابًا. * * * 178 - وقال: "المِراءُ في القُرآنِ كُفْرٌ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "المراء في القرآن"، المراء والمماراة: المجادلة. واختلف في تفسير هذا الحديث؛ فقال بعض أهل العلم: (المراء) ها هنا: الشك؛ يعني: الشكُّ في كون القرآن كلام الله كفر. وقال بعضهم: معناه: المجادلة في معاني القرآن مما هو من أصول الدين والاعتقاد، كما يستدل واحد على اعتقاده أو قوله بآية، فيقول الآخر: بل القول قولي بدليل هذه الآية، كما يستدل السني على كون الخير والشر من الله بـ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، ويستدل القدري بـ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79]. ويأتي بحث هذا الحديث في الحديث الذي بعده؛ فهذا الاختلاف مُفْضٍ إلى

الكفر؛ لأنه إذا قال أحد المناظرين معناه هذا، وأنكر الآخر ذلك المعنى، لا بد وأن يكون أحدهما حقًا، والآخر باطلًا، فيكون أحدهما منكرًا للحق، وإنكار الحق كفر، إلا أنه إذا ظن أنه ليس بحق؛ فلم يكن منكرًا للحق عن اليقين؛ فإذا كان كذلك لم يكن كافرًا، ولكن فَتْحَ بابِ الجدال في القرآن مهلك ومُفْضٍ إلى الكفر؛ لأن الرجل لا يأمن أن ينكر قول خصمه، وإن علم كونه حقًا يقينًا عند شدة غضبه، وإظهار فضله، وإذلال خصمه. وقال بعضهم: معنى (المراء في القرآن): أن ينكر الرجل قراءة من القراءات السبع التي أنزلت على رسول الله - عليه السلام - بأن يقرأ أحدٌ قراءة، فيقول: هذه القراءة ليست من القرآن، فيكون منكرًا للقرآن، فيصير كافرًا. وكان أبو العالية الرِّياحي إذا قرأ عنده أحد قراءة لم يسمعها لم يقل: إنها ليست كما تُقرأ، بل يقول: لكن أنا أقرأها هكذا لا كما تقرأ، من خوف أن ينكر القرآن. وإنما قال رسول الله - عليه السلام - هذا الحديث؛ لتعظيم القرآن، ولاحتراز الأمة عن الاختلاف في لفظ القرآن ومعناه فيما كان من أصول الدين. وأما الاختلاف فيما هو من فروع الدين كالمسائل الفقهية لا بأس بهذا الاختلاف؛ لأن هذا الاختلاف قد كان بين الصحابة كاختلافهم في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] أن الوضوء هل يبطل بلمس النساء أم لا؟ وغير ذلك. * * * 179 - وقال عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: سمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قومًا يتدَارَؤُنَ في القُرآن، فقال: "إنَّما هلكَ مَنْ كَانَ قبلَكُمْ بهذا، ضَربُوا كتابَ الله بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزَلَ كتابُ الله يُصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تُكَذِّبُوا بعضَهُ

ببعضٍ، فما عَلِمْتُمْ منه فقولُوه، وما جهلتُم فكِلُوهُ إلى عالمِهِ". قوله: "سمع رسول الله - عليه السلام - قومًا يتدارؤون"، (التدارؤ): الاختلاف والدفع، من دَرَأَ - بفتح العين في الماضي والغابر - دَرْأً: إذا دفع؛ يعني: يختلفون في القرآن، ويدفع بعضهم دليل بعض من القرآن، مثل أن يقول أهل السنة: الخير والشر بتقدير الله بدليل قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] , ويقول القدري: ليس كذلك بدليل قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فقد دفع القدري آية من القرآن وهو قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وكذلك كل شخصين اختلفا في مسألة، ويأتي كل واحد منهما بآية من القرآن بدليل ما قال، فقد دفع كل واحد منهما الآية التي أتى بها صاحبه، وهذا الاختلاف منهي عنه، بل الطريق في الآيات التي بينهما تخالف وتناقض في الظاهر أن يؤخذ ما عليه إجماع المسلمين منها، وتؤول الآية الأخرى على وجهٍ لا يكون بينه وبين ما عليه الإجماع تخالف، كما تقول: قد انعقد الإجماع على أن الخير والشر بتقدير الله، فإذا كان كذلك فلا تخالف بين الإجماع وبين قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وإنما التخالف في الظاهر بين الإجماع وبين قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، وفي هذه تخالف بينهما وبين الإجماع عند من لا يعلم التفسير، وأما عند من يعلم التفسير، فيعلم أنه لا تخالف بين الإجماع وبين هذه الآية؛ لأن المفسرين قالوا: هذه الآية متصلة بما قبلها، والتقدير: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؛ لأنهم يقولون: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ...} إلى آخره؛ يعني: المنافقون لا يعلمون ما هو الصواب؛ لأنهم يقولون: {مَا أَصَابَكَ ...} إلى آخره.

وقال بعض المفسرين: إن هذه الآية مستأنفة، ومعناها: ما أصابك يا محمد أو يا إنسان من حسنة أو من فَتْحٍ وغنيمة وراحة وصحة وكثرة مال وأولاد وعافية؛ فمن فضل الله، وما أصابك من سيئة؛ أي: من هزيمة في الغزو، أو من جوع وتلف مال ومرض فهو جزاء ما عملت من الذنوب. قوله: "ضربوا كتابَ الله بعضَهُ ببعض"؛ (الضرب) ها هنا: الخلط، والضرب: الصرف أيضًا؛ يعني: خلط اليهودُ التوراة، والنصارى الإنجيلَ، (بعضَهُ ببعضٍ)؛ يعني: لم يميزوا بين المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، بل حكموا في كلها حكمًا واحدًا. ويحتمل أن يكون معناه: دفع أهل التوراة الإنجيل، وأهل الإنجيل التوراة، وكذلك دفع أهل التوراة ما لا يوافق مرادهم من التوراة، وكذلك أهل الإنجيل؛ يعني: لا تفعلوا يا أهل القرآن بالقرآن ما فعلت اليهود والنصارى بكتابهم. قوله: "وإنما نزل كتابُ الله يصدِّق بعضه بعضًا"؛ يعني: الإنجيل بيَّن أن التوراة كلام الله وهو حق، والقرآن بيَّن أن جميع الكتب المنزلة من الله كلام الله أنزله بالحق على عباده، فإذا كان كذلك لا تكذبوا شيئًا منها، ولا تقولوا: هذا حق وذلك باطل، بل قولوا: كل ما أنزل الله على رسله حق. قوله: "فما علمتم منه فقولوا"؛ يعني: ما علمتم معناه فقولوا، وما لم تعلموا معناه كالمتشابهات من القرآن وغيره، فلا تقولوا: إنه ليس بحق، ولا تقولوا فيه معنًى من تِلقاء أنفسكم، بل فاتركوه وفوضوه إلى عالمه، وهو الله تعالى، أو من هو أعلم منكم من العلماء. واعلم أن كنية "عمرو بن شعيب": أبو إبراهيم، وجده: محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فالضمير في (عن جده) إن رجع إلى (عمرو) فالحديث مرسل؛ لأنه يكون تقديره: روى عمرو بن شعيب، عن محمد، سمع رسول

الله، ولم يسمع محمد من رسول الله - عليه السلام -؛ لأن محمدًا تابعي، وإن رجع إلى (شعيب) يكون الحديث متصلًا؛ لأن تقديره: روى عمرو بن شعيب عن محمد عن عبد الله: أنه سمع رسول الله - عليه السلام - و (عبد الله) صحابي، فالحديث متصل على هذا. * * * 180 - وقال: "أَلا سأَلوا إذْ لم يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤال"، رواه جابر. قوله: "ألا سألوا"، (ألا) بفتح الهمزة وتشديد اللام معناه: هَلَّا بمعنى: لِمَ لا. "العِيَّ" - بكسر العين وتشديد الياء -: التحيُّر في الكلام، والمراد به ها هنا: الجهل، يعني: لِمَ لَمْ يسألوا إذا لم يعلموا شيئًا، فإن الجهل داء شديد، وشفاؤه السؤال والتعلم من العلماء، وكل جاهل لم يستحِ عن التعلم، وتَعَلَّم يجدُ شفاء دائه، ويصير الجاهل بالتعلم عالمًا، ومن استحى عن التعلم لا يبرأُ أبدًا من دائِهِ. وسبب صدور هذا الحديث من النبي - عليه السلام - مذكور في (باب التيمم). روى هذا الحديث "جابر بن عبد الله" بن جابر وهو الشَّلِيل. * * * 181 - وقال: "أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لكلِّ آيةٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكلِّ حدٍّ مَطْلَعٌ"، رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -.

قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، (الأحرف): جمع حرف، والحرف ها هنا القراءة؛ أي: على سبعة قراءات، والقراءات: لغات العرب. أمر الله نبيه أن يقرأ بجميع لغاتهم؛ ليتيسر على كل قبيلة القراءة بلغتها، وهذا رحمة من الله على عباده؛ لأنه لو أمر قبيلة أن تقرأ بلغة غيرها يلحقها مشقة بذلك، وربما لا يتيسر لها نحو: الإدغام والإظهار، وهمز المهموز وتليينه، والإمالة والتفخيم، وغير ذلك، وإبدال الحرف وترك إبدالها كقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] بالهمزة، وأصله: (وقتت) بالواو. والحذفُ والزيادةُ كقوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ} [قريش: 1 - 2] بحذف الياء بعد الهمزة في الكلمتين وإثباتهما. والإسكانُ والتحريكُ كقوله تعالى: {رُسُلُكُمْ} [غافر: 50] بإسكان السين وتحريكها بالضم. وإفرادُ الكلمةِ وجمعُها نحو: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، ورسالاته وتحريكُ الحرف بالضم والكسر كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا} [يونس: 101] بتحريك اللام إلى الضم، والكسر وتلوين الخطاب كـ (يعلمون) و (تعلمون) بالياء والتاء و (نرتع) و (نلعب) والياء فيهما، وغير ذلك مما ذُكِرَ مفصَّلًا في كتب القراءات وكل واحدةٍ من هذه القراءات لغةُ قومٍ من العرب كقريش وثقيف وطيِّئ وهوازن، وأهل اليمن، والمدينة، وجهينة. وقولنا: "سبع قراءات": ليس معناه: أنه في كل لفظ سبعُ قراءات، بل أكثر ألفاظ القرآن لا خلافَ فيه، والذي فيه تجوز القراءة قد يكون فيه قراءتان نحو: {يَعلَمُونَ} بالياء والتاء. وقد تكون ثلاث قراءات نحوَ: {الصِّرَاطَ} بالصاد والسين الخالصتين، وبين الصاد والسين.

وقد تكون أربع قراءات نحو: (نَرتع) بالنون وسكون العين وبالنون وكسر العين من غير ياء بعدها، وبالنون وكسر العين وبعدها ياء ساكنة، وبالياء وسكون العين. وقد تكون خمس قراءات نحو: (جبريل) بكسر الجيم وسكون الباء، وبالياء بعد الراء، وجِبْرِيل بوزن زِنْبِيل، وجَبْرَئيل بوزن سَلْسَبيل، وجِبْرَئِيل بوزن جِبْرَعِيل، وجِبْرَائِيل بوزن جِبْراعِيل. وقد تكون ستَّ قراءات نحو: {تَختصِمُونَ} بفتح الخاء وتشديد الصاد، وباختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، وبسكون الخاء وتخفيف الصاد، وبكسر الخاء وتشديد الصاد، وكلها بفتح الياء وبكسر الخاء والياء وتشديد الصاد. قوله: "لكل آية منها ظهر وبطن"، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظهرها ما ظهرَ منها من معانيها، وبطنها ما خفيَ وأَشْكَلَ، واحتاج إلى فِكْرٍ وفَهْمٍ تامٍّ من استخراج معانيها. والقول الثاني: أن ظهرها: لفظُها وتلاوتُها، وبطنَها: معانيها. والقول الثالث: أن ظهرَها: قصَصُها، وبطنَها: الاعتبارُ والاتعاظ بها. قوله: "ولكل حَدٍّ مُطلَعٌ", (الحدُّ): المنع، والحَدُّ: الموضع الذي مُنِعَ الرجلُ إذا انتهى إليه عن أن يُجاوِزَه، والمراد ها هنا: ما بُيِّنَ لنا، ومُنِعْنا أن نخالفَه ونجاوِزَه من الحلال والحرام. وفي بعض الروايات: "لكل حرف حَدٌّ، ولكل حَدٍّ مُطَّلَع" يعني: حدُّ كلَّ حرف معلومٌ في التلاوة، ولا يجوزُ مخالفتُها؛ مثل: عدم جواز إبدال الضاد بحرف آخر، وكذلك الظاء، وغير ذلك من الحروف، ولا يجوز إبدال حرف بحرف إلا ما جاز في القراءة، وكذلك أحكام الشرع معلومة لا يجوز مخالفتُها، وكذلك سبب نزول كل آية وسورة وقصصها، لا يجوز إبدالُ شيء منها بغيرها، وكل ذلك حَدُّ القرآن.

وأما (المطَّلع): بتشديد الطاء فهو موضع الاطَّلاع، وهو رؤية شيءٍ وتفهُّم معنى شيء، يعني: لكل كلمة ولكل آية حكمٌ معلوم، وقصة معلومةٌ، ولها موضِعُ اطَّلاعِ الخواطر، وتَفَهُّم القلوب لمعانيها، وتَفهُّم معاني القرآن توفيقُ الله تعالى يُؤتيه من يشاء من عباده. قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لا تَفْقَهُ كلَّ الفِقْهِ حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة؛ يعني: لا تكون فقيهًا كاملًا حتى تفهمَ مِن كل لفظٍ معانيَ كثيرة. وقال بعض العلماء: أكثرُ أحاديثِ الرسول مستنبطَةٌ من القرآن، ولكن العلماء لا يعرِفُون مَأْخَذَها من القرآن. * * * 182 - وقال: "العِلْمُ ثلاثةٌ: آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادِلَةٌ، وما كان سِوى ذلكَ فَهُوَ فَضْلٌ"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. قوله: "العلم ثلاثة"، يعني: أصلُ علوم الدين ومسائل الشرع ثلاثة: أحدها: آية مُحكَمة، يعني: كل حكم مذكور في القرآن، وليس بمنسوخ، ومعنى المُحْكَمة ههنا: غير المنسوخة. الثاني: سُنَّةٌ قائمة؛ أي: حَديثٌ ثابثٌ صحيحٌ عند أصحاب الحديث غيرُ منسوخ. الثالث: فريضةٌ عادلة، قيل: معنى الفريضة العادلة ما يجب العمل به من أحكام الشرع غير القرآن والحديث، وهو ما عليه إجماعُ المسلمين كالاعتقادات وبعضِ المسائل الفقهية. سُمِّيَ هذا القسمُ فريضةً؛ لأنه يجبُ العمل به؛ لأنه إجماع، وسُمِّيَ: عادلة؛ لأن معنى العدل: المِثْل، ومعنى عادلة؛ أي: مساوية للقرآن والحديث في وجوبِ العمل بها، وفي كونها صدقًا وصوابًا؛ لأن الإجماع لا يكون خَطَأً.

وقيل: الفريضة العادلة في الأحكام المستنبطة المستخرجة من القرآن والحديث بأن يقيس العلماء بعض الأحكام التي ليس بها نصٌّ على ما يشابهها من القرآن والحديث، مثاله: قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: إذا ماتت امرأة وخَلَّفَتْ زوجًا وأبوين، أو مات رجل وخَلَّفَ زوجةً وأبوين، يُدْفَعُ أولًا فرضُ الزوج أو الزوجة، والباقي بين الأم والأب، للأم ثلثُ الباقي، وللأب ثلثاه. وليس فيما قال زيد نَصٌّ، ولكن قاس هاتين المسألتين على قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] جعل المال في الآية بين الأب والأم على ثلاثة أثلاث للأم ثلثه، وللأب ثلثاه عند عدم الولد. فهاتان المسألتان تُشابهان تلك المسألة المذكورة في الآية؛ لأنه ليس للميت أو الميتة ولدٌ في هاتين المسألتين، فإذا أخذ الزوج أو الزوجة نصيبَه جعلَ الباقيَ بين الأم والأب كما ذكرنا. فالحاصل: أن أدلَّةَ الشرع أربعةٌ: القرآن، والحديث، والإجماع، والقياس، ويسمَّى الإجماعُ والقياس: فريضةً عادلة. قوله: "وما كان سوى ذلك فهو فضل"، (الفضل): الزائد، يعني: كلُّ علمٍ سوى هذه الثلاثة فهو نادرٌ زائدٌ لا ضرورة في معرفته، كالنحو والتصريف والعَروض والطب وغير ذلك. * * * 183 - وقال: "لاَ يَقُصُّ إلَّا أميرٌ، أو مأمورٌ، أو مُختالٌ"، رواه عَوْف بن مالك الأَشجَعي - رضي الله عنه -. قوله: "لا يَقُصُّ إلا أمير"، (لا يقص): (لا) نفيٌ، والقَصُّ، التكلُّم بالقصص، ويُستعمل في الوعظ، يعني: الذين يَعِظُون الناس ثلاثة: أحدها: الأمير، وهو الحاكم.

والثاني: وهو المأمور، وهو الذي يأمرُه الأمير، ويأذَنُ له في ذلك، وهذان يجوز لهما الوَعْظ. والثالث: المختالُ وهو المتكبِّر، اختال: إذا تكبر، والمراد بالمختال ها هنا: الواعظ الذي ليس بالأمير ولا بالمأذون من جهة الأمير، ومن كان هذه صفتَه فهو متكبِّرٌ فُضُوليٌّ طالبٌ للرئاسة. وقيل: هذا الحديث في الخطبة خاصَّةً؛ لأن الخُطْبةَ للأمراء ولمن نَصَّبه الأمراء. وفي هذا الحديث زَجْرٌ عن الخطابة والوَعْظ بغير إذنِ الإمام، وإنما كان كذلك لأن الإمام أعرَفُ بمصالح الرعية، فلينظر الإمامُ في العلماء، فمن رأى فيه علمًا وديانةً، وتَرْكَ الطمعِ وحُسْنَ العقيدةِ وسكونَ النفس عن العداوة مع الناس = يأذنْ له في أن يَعِظَ الناسَ، ومن لم ير فيه هذه الصفات لم يأذنْ له في الوعظ؛ لئلَّا يوقعَ الناسَ في البدعة والجهل. كُنية "عوف": أبو عبد الرحمن، واسمُ جَدِّه: أبو عوف. * * * 184 - وقال: "مَنْ أُفتيَ بغيرِ عِلْمٍ كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومَنْ أشارَ على أخيهِ بأمْرٍ يعلَمُ أنَّ الرُّشْدَ في غيره فقدْ خانَهُ"، رواه أبو هريرة. قوله: "من أفتى بغير علم" (أفتى): فعلٌ ماض مجهول من الإفتاء، وهو أن يأمر أحدًا بحكمٍ من أحكام الشرع، وأجابه بعد سؤاله. يعني: كل جاهل سأل عالمًا عن مسألة فأجابه العالمُ بجوابٍ باطل، والسائلُ لم يعلمْ كونَ الجوابِ باطلًا، فعمل السائلُ بتلك المسألةِ لا إثمَ على السائل؛ لأنه لم يعلم كونَ الجوابِ باطلًا، وإنما الإثمُ على المجيب.

قوله: "ومن أشار على أخيه"، يعني: من استشار أحدًا في أمر، وسأله: كيف أفعل هذا الأمر؟ وهل فيه مصلحة أم لا؟ فقال له المستشار: المصلحة في أن تفعله، وهو يعلَمُ أن المصلحةَ في عدم فعلِه فقد خانه؛ لأنه دلَّه على ما ليس فيه مصلحتُه، أمَّا لو لم يعلم المستشارُ أن مصلحتَه في غير ما يأمره، بل ظَنَّ أن المصلحةَ فيما يأمره، ثم تبيَّنَ أنه لم تكنْ مصلحتُه فيما يأمرُه لم يكن عليه إثمٌ، بل كان كمَنْ أخطأَ في الاجتهاد، فكما أنه لا إثم على المجتهد إذا أخطأ، فكذلك لا إثم على المستشار إذا أخطأ فيما قال. * * * 185 - وقال مُعاوية - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأُغلوطات. قوله: "أن النبي - عليه السلام - نهى عن الأغْلُوطات"، جمع أُغْلُوطة، وهي المسألةُ التي يُوقِعُ السائلُ بها المسؤولَ في الغلط، يعني: نهى رسول الله - عليه السلام - أن يسأل أحدٌ أحدًا مسألةً فيها إشكالٌ وأغلوطة للامتحان؛ ليُظْهِرَ السائلُ فَضْلَ نفسِه، وقِلَّةَ عِلْمِ المسؤول؛ لأن في هذا إيذاء وإذلالًا للمسؤول. والإيذاء والإذلال منهيٌّ [عنه] في الشرع، مثاله: أن يسأل أحدٌ أحدًا: كيف تقول في رجل مات وخَلَّفَ زوجتَه وأخا زوجته، وأوجب الشرع نصف ميراثه لزوجته ونصفه لأخيها؟ فهذه المسألة وأشباهُها ما يَعْسُر على المسؤول حَلُّها، ويتأذَّى ويُفْضَحُ بين الناس، فلا ينبغي أن يسألَ أحدًا مثلَ هذه. جواب المسألة أن يقول: كان الميت عبدًا اشترت زوجته ثُلُثَه، وأخوها ثُلُثَيه قبل النكاح، ثم أعتقاه، وتزوجت هذه المرأة به، ثم مات ولم يُخلِّف إلا زوجته وأخاها، فرُبع الميراث للزوجة بالزوجية، والباقي بينها وبين أخيها بالولاء

على قَدْر مُلْكَيهما، ثُلُثه للزوجة وثلثاه لأخيها، فيحصُلُ للزوجة النصف، ولأخيها النصف. * * * 186 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوا الفَرائضَ والقُرآنَ؛ فإنِّي مَقْبُوضٌ". قوله: "تعلموا الفرائض"، قيل: المراد بالفرائض: عِلْمُ قِسْمَةِ الميراث، والصحيح: أنه أراد - عليه السلام - بالفرائض جميعَ ما يجبُ على الناس معرفتُه، يعني: تعلَّمُوا القرآن والعلومَ الشرعيةَ مني، فإني مقبوضٌ؛ أي: سأموتُ، فإن لم تتعلموا مني لا يُمْكِنْكُم التعليمُ من غيري؛ لأن الفرائض والعلومَ الشرعية أُوحِيَتْ إلي لا إلى غيري. وهذا تحريضٌ للصحابة على تعلم القرآن والعلوم منه عليه السلام؛ ليعلِّموا بعده - عليه السلام - الناسَ ما تعلموه من رسول الله عليه السلام. * * * 187 - عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه -: أنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فشخَصَ ببصرهِ إلى السَّماءِ, ثمَّ قال: "هذا أَوانٌ يُخْتَلَسُ فيه العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِرُوا منهُ على شيءٍ". قوله: "فشخص ببصره"؛ أي: نظر بعينه إلى السماء. (الأوانُ): الحِينُ، (يُخْتَلَس)؛ أي: يُسْلَب، وكأنه - عليه السلام - لمَّا نظر إلى السماء كوشفَ وأُعلِمَ أن أَجَلَه قد اقترب، فأَعْلَم وأخبر أمته أنه ستُقْبَضُ روحه، وينقطع الوحيُ بانقطاعه بحيث لا يقدر الناس على شيء من العلوم الشرعية، إلا ما تعلَّموه من رسول الله عليه السلام.

واسم أبي الدرداء: عويمر بن عامر بن زيد. * * * 188 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - روايةً: "يُوشِكُ أنْ يضربَ النَّاسُ أكبادَ الإبِلِ يطلُبُونَ العِلْمَ، فلا يَجِدُونَ أحدًا أعلمَ مِنْ عَالِمِ المدينةِ". قال ابن عُيَينة: هو مالك - رضي الله عنه -، ومثله عن عبد الرزَّاق، وقيل: هو العُمَرِيُّ الزَّاهِدُ. قوله: "يوشك"؛ يعني: يقرب. "أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل"؛ أي: يُجْهِدَ الناسُ الإبلَ ويَرْكُضُونها في طلب العِلْمِ في جوانب الأرض والبلاد البعيدة. (الأكباد): جمع كبد، وضرب أكباد الإبل: كنايةٌ عن إسراع الإبل والفَرَسِ وإجهادهما في السير والركض، وسَمُّوا شِدَّةَ الركضِ بضرب الأكباد؛ لأن أكبادَ الإبل والفرسِ وغيرهما تتحرَّك عند الركض، ويلحقها ضَرَرٌ وألم. يعني: قَرُبَ أن يأتيَ زمانٌ يسيرُ الناسُ سيرًا شديدًا في البلاد البعيدة في طلب العلم، ولا يجدُون عالمًا أعلمَ من عالم المدينة. وهذا في زمانِ الصحابة والتابعين؛ لأنه في هذين العصرين لم تكن كثرةُ العِلْم في بلدٍ مثلَ ما كانت في المدينة، وأما بعد ذلك؛ فقد ظهرت العلماءُ الفحولُ في كل بلدٍ من بلاد الإسلام نحوِ بغدادَ وكوفة وغيرهما من البلاد أكثر مما كانوا في المدينة. ولعل غرض النبي - عليه السلام - من هذا الحديث: تعظيمُ المدينة وإظهارُ قَدْرِها وشرفِها عند الناس لكي يقصدَها الناسُ من كل بلد، ويعظِّموا أهلها، ولا يتركوها حتى تَخْرَبَ.

قوله: "قال ابن عُيينة: هو مالك"، يعني: قال سفيان بن عُيَينة: هذا العالمُ الذي أشار إليه رسول الله - عليه السلام - هو مالكُ بن أنس، وهو أستاذُ الشافعيِّ، وكان صاحبَ الفِرَاسة، وصاحبَ الحديثِ والاجتهاد. "ومثله عن عبد الرزاق"، يعني: قال عبد الرزاق - وهو من فُضَلاَء أصحاب الحديث - مثلَ ما قال سفيانُ بن عُيَينة في مالك. قوله: "وقيل: هو العُمَريُّ الزاهد"، أراد بالعُمَريِّ عمرَ بن عبد العزيز، قيل له عُمَري: نسبةً إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو ابن بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وما قالوه ظنًا منهم، وليس بيقين. ويحتمل أن يريد النبي - عليه السلام - مالكًا وعمرَ بن عبد العزيز. ويحتمل أن يريدَ غيرَهما؛ لأن العلماءَ في المدينة كانوا أكثرَ منهما في عصر الصحابة والتابعين وأتباعِ التابعين. * * * 189 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - فيما أعلمُ - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله - عز وجل - يَبْعَثُ لهذهِ الأُمَّةِ على رأْسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دينَهَا". قوله: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -"؛ يعني: يقول أبو هريرة هذا الحديثَ روايةً عن النبي عليه السلام، لا يحدِّثُ به من نفسه. قوله: "فيما أعلم"، هذا لفظُ المصنِّف، يعني: شكَّ بعضُ الناس أن أبا هريرة روى هذا الحديث عن رسول الله - عليه السلام - أم لا؟. ويقول المصنف: فيما بلغني، وفيما أعلم أنه يروي هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام، لا عن غيره. قوله: "إن الله - عز وجل - يبعث ... " إلى آخره.

ومعنى الحديث: أنه إذا قل العلم، وغلبَ المبتدِعُون، وَفَّقَ الله لعالمٍ رَبَّانيٍّ بأن يعلِّمَ الناسَ علومَ الدين، ويبيِّنَ لهم السنةَ من البدعة، ويكسِرَ أهلَ البدعة ويُذِلَّهم، ويؤيِّدَ الدِّين، ويُعِزَّ أهله، ويُكثرَ العلم بين الناس. * * * 190 - وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُون عنهُ تَحْريفَ الغالِيْن، وانتِحالَ المُبْطِلين، وتأْويلَ الجاهلين". والله أعلم وأحكم. قوله: "يَحْمِلُ هذا العلمَ"، أي: يحفَظُ عِلْمَ الدين، وهذا إشارةٌ إلى عِلْم الدِّين الذي صَدَر عن رسول الله - عليه السلام - من الكتاب والسنة؛ أي: يأخذه ويقوم بإحيائه وتعليمه. قوله: "من كلَّ خَلَفٍ عُدُوله"، الخَلَفُ بفتح اللام: الرجلُ الصالحُ الذي يأتي بعده، ويقوم مَقامه، ويستوي في لفظ الخَلَف الواحدُ والتثنيةُ والجمع. والسَّلَف بفتح اللام: الجماعةُ الماضية، والخَلَفُ مَنْ يأتي بَعدَهم، يعني: كلُّ قرنٍ يأتي بعد قرن، فمَنْ كان منهم عَدْلًا صاحبَ التقوى والديانةِ يحفظ هذا العلم، ويقوم بإحيائه. قوله: "ينفون عنه تحريفَ الغَالِين"، نفى ينفي على وزن ضرب يضرب: إذا طردَ وأبعد، وأصل ينفون: ينفيون، فنُقِلَت ضَمَّةُ الياء إلى الفاء، وحذفت عنه؛ أي: عن هذا العلم. (التحريف): التبديل، (الغالين): أصلُه: غاليين فأُسكنت الياء الأولى؛ لثقل الكسرة عليها، وحذفت لالتقاء الساكنين، وهو اسم فاعلين من غلا يغلو إذا جاوز الحد.

يعني: يُبْعِدُ ويُزيلُ أهلُ السنة ما قال أهلُ البدعةِ في العِلْم مما فيه غُلُوٌّ عن حدِّ الصواب، كأقوال القدرية والجبرية والمشبهةِ، وغيرهم من أهل البدع. قوله: "وانتحال المبطلين"، (الانتحال): أن يقولَ الرجلُ: هذا الشعرُ من إنشائي، وليس من إنشائه، ونَحَلَ: بفتح العين في الماضي والغابرِ نحلًا: إذا نسبَ زيدٌ مثلًا كلامَ عمرٍو أو شعرَه إلى بَكْرٍ، والانتحالُ ها هنا: يعني: النَّحْلَ. و (المبطل): اسم فاعل من أبطل إذا قال باطلًا، أو جعل شيئًا باطلًا، وأراد بالمبطلين ها هنا: الواضعين أحاديثَ وأفعالًا وأقوالًا من تِلقاءِ أنفسهِم، ويقولون: هذا حديث رسول الله - عليه السلام - أو فعلُه أو سنتُه، يعني: علماءُ أهلِ السُّنَةِ يبيِّنون للناس الحقَّ، ويميِّزون أحاديث رسول الله - عليه السلام - وأفعاله وسنته من غيرها. قوله: "وتأويل الجاهلين"، يعني: ما قاله الجاهلون من تأويل القرآن والأحاديث ما ليس بصواب يبيِّنُ العلماءُ للناس بطلانَ تلك التأويلات، ويمنعونهم عن قَبُولها. جد "إبراهيم": عوف، والله أعلم. ° ° °

3 - كتاب الطهارة

3 - كِتَابُ الطَّهَارَةِ

[3] كِتَابُ الطَّهَارَةِ (كتاب الطهارة) مِنَ الصِّحَاحِ: 191 - عن أبي مالك الأَشْعَري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ، والحمدُ لله تَملأُ المِيْزانَ، وسُبحانَ الله والحمدُ لله تملآن - أو: تملأُ - ما بينَ السماواتِ والأرضِ، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدقةُ بُرهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليك، كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فبائعٌ نفسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا"، وفي روايةٍ أخرى: "ولا إلهَ إلَّا الله والله أكبرُ يملآن ما بينَ السَّماءِ والأرض". قوله: "الطُّهور ... " إلى آخره. اختلف أهل اللغة في الطُّهور؛ فقال بعضهم: الطُّهور: بضم الطاء مصدر، واسمٌ للماء الذي يتطَهَّرُ به، والطَّهور: بفتح الطاء ليس في كلام العرب مستعملًا. وقال بعضُهم: بل الطُّهور بضم الطاء المصدر، وبفتحها: الماء الذي يُتطهَّرُ به، وهذا القول هو المختار. وههنا: الطُّهور بضم الطاء؛ لأن المراد به المصدر. (الشطر): النصف، و (الإيمان) ها هنا: الصلاة كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ

لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. أي: صلاتَكم. يعني: الوضوءُ نصفُ الإيمان، يعني: لا تصحُّ الصلاةُ إلا بالوضوء، فيكونُ الوضوءُ شَطْرَها، ويجوزُ أن يرادَ بالإيمان: الإيمانُ الحقيقي، يعني: الوضوء يُطَهِّرُ الأعضاءَ الظاهرةَ عن الحَدَث، كما أن الإيمان يُطهِّرُ القلبَ عن الشرك. والمراد من هذا: تعظيمُ شأن الوضوء، وعِظَمُ ثوابه. قوله: "والحمد لله تملأ الميزان"، يعني: التلفُّظُ بالحمد لله يملأ ميزان قائل هذا اللفظ من الأجر من غاية عظمة هذا اللفظ. قوله: "وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو قال تملأ"، شكَّ الراوي في أن رسول الله - عليه السلام - قال: "تملآن، أو قال: تملأ". فعلى رواية (تملآن) معناه ظاهرٌ أن ألف التثنية في (تملآن) ضمير: (سبحان الله والحمد لله)، وأما على رواية (تملأ) يكون معناه: تملأُ كلُّ واحدة من هاتين الكلمتين ما بين السموات والأرض من الأجر. قوله: "والصلاة نور"، يعني: تكون له نورًا في القبر، وفي ظلمة القيامة، حتى توصِلَه إلى الجنة، ويحصُلُ للمصلِّي في الدنيا ضياءٌ في وجهه، وتُخْرِجُه من ظلمة المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. قوله: "والصدقة برهان"، (البرهان): الحُجَّةُ والدليل، يعني: أن الصدقة تُعينُ الرجلَ وتنجيه من عذاب الله، كما تعينُ الحُجَّةُ صاحبَها، وتغلِّبه على خصمه. قوله: "والصبر ضياء"، (الصبر): حَبْسُ النفس على فِعْل، يعني: المداومة على الشيء، وحبس النفس عليه، يحصِّل مرادَ الرجل، ويجعلُ له فرحًا وفرجًا من كل غمٍّ.

قوله: "والقرآن حجة لك أو عليك"، اللام للنفع، و (على) للضر. يقال: الحق له، يعني: مُلْكُه، والحق عليه، يعني: واجبٌ عليه أداؤُه، يعني: القرآن إما ناصرُك ومنجِّيك من عذاب الله، وإما خصمُك ومُهْلِكُك، فإن عَظَّمْتَ قَدْرَه، وعملت بما فيه فهو ناصرك، وإلا فهو خصمك. قوله: "كل الناس يغدو"، أي: يصبح، يعني: كلُّ أحدٍ إذا أصبحَ يبيعُ نفسَه؛ أي: يعطي نفسه، ويأخذ عِوضَها، وهو عملُه وكسبه، فإن عمل خيرًا فقد باع نفسه، وأخذ الخير عن ثمنها، وهو معتقُها من النار، وإن عملَ شرًا فقد باع نفسَه، وأخذ الشرَّ عن ثمنها، وهو موبِقُها؛ أي: مهلكُها، وأَوْبَقَ: إذا أهلك. اسم أبي مالك الأشعري: عمرو بن الحارث بن هانئ. * * * 192 - وقال: "ألا أُخْبِرُكُمْ بما يَمْحُو الله بهِ الخَطايَا ويرفَعُ بِهِ الدرجاتِ؟ إسباغُ الوُضُوءِ على المَكَارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطَا إلى المَساجِدِ، وانتِظارُ الصلاةِ بعدَ الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. قوله: "بما يمحو الله" (بما يمحو): إذا زال به؛ أي: بسببه وبفعله، "الخطايا": جمع خطيئة، "الإسباغ": الإتمام. "الوُضوء" بفتح الواو: الماءُ الذي يُتوضَّأُ به، وبضمها: المصدرُ وهو المراد ها هنا. "المكاره": جمع مَكْرَه بفتح الميم، وهو بمعنى الكُرْه، وهو المَشَقَّة، والمراد بالمكاره هنا: البرد الشديد. يعني بقوله: "إسباغ الوضوء على المكاره": إيصال الماء إلى مواضعِ الفَرْض من غير أن ينقصَ منها شيئًا عند شِدَّة البرد.

قوله: "وكثرة الخُطَا إلى المساجد"، الخطا: جمع خُطْوة، بضم الخاء في الجمع والواحد، وهو ما بين القدمين، يعني: المشي إلى المساجد لأداء الصلاة بالجماعة. قوله: "وانتظار الصلاة بعد الصلاة"، يعني: إذا أدى صلاةً بالجماعة، أو منفردًا ينتظر صلاة أخرى، وتعلَّقَ قلبُه بها، إما أن يجلسَ في المسجد ينتظرُها، أو يكون في بيته، أو مشتغل بكسبه، وقلبُه متعلِّقٌ بالصلاة ينتظرُ حضورَها. قوله: "فذلكم الرِّبَاط"، ذلك إشارة إلى ما ذُكِرَ من الطاعات. الرباطُ والمرابطةُ: رَبْطُ النفس والفَرَس في سبيل الله، يقاتل الرجلُ أعداءَ الله، وللمرابط في سبيلِ الله درجةٌ وفضيلةٌ رفيعةٌ يأتي ذكرها في (باب الجهاد). يعني: المداومة على هذه الطاعات مِثْلُ الجهاد في سبيل الله في الفضيلة. * * * 193 - وقد قال: "مَنْ توضَّأَ فأَحسنَ الوُضُوءَ خرجتْ خطاياهُ مِنْ جسَدِهِ حتَّى تخرجَ مِنْ تحتِ أَظْفارِهِ"، رواه عُثمان - رضي الله عنه -. قوله: "من توضأ فأحسن الوضوء"، أي: لم يترُكْ من فرائضه وسننه شيئًا. قوله: "خرجت خطاياه"، يعني: يزيل ماءُ الوضوءِ الصغائرَ من الذنوب؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، حتى تخرج من تحت أظفاره. يعني: من جميع جسده حتى من أصابعه، فيصيرُ طاهرًا من صغائر الذنوب، كما صار طاهرًا من الحَدَث. روى هذا الحديثَ عثمانُ - رضي الله عنه -. * * *

194 - وقال: "إذا توضَّأَ العبدُ المُسلمُ - أو: المُؤمن - فغَسلَ وَجهَهُ خرجَ مِنْ وَجهِهِ كُلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعَينه مَعَ الماءِ - أو: معَ آخرِ قَطْرِ الماءِ - فإذا غسلَ يَدَيْهِ خرجَ مِنْ يَديْهِ كُلُّ خطيئَةٍ بَطَشَتْها يداهُ مع الماءِ - أو: مع آخرِ قَطْرِ الماءِ - فإذا غسلَ رِجْلَيْهِ خرجَ كلُّ خطيئةٍ مَشَتْها رِجلاهُ مَعَ الماءِ - أو: معَ آخرِ قطْرِ الماء حتى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "إذا توضَّأ العبد المسلم أو المؤمن"، (أو) في قوله: (أو المؤمن) للشكِّ من الراوي. يعني: شكَّ الراوي أنه - عليه السلام - قال: إذا توضَّأَ العبد المسلم، أو قال: العبد المؤمن. وكذلك (أو) في قوله: "أو مع آخر قطر الماء"؛ يعني: شكَّ أنه قال: مع الماء أو قال: مع آخر قَطْرِ الماء. (القَطْرُ) بسكون الطاء -: إجراءُ الماءِ وإنزالُه قطرةً قطرةً، والمراد ها هنا: إجراءُ ماءِ الوُضوءِ على الأعضاء عند غسلها. والقَطْرُ أيضًا: جمعُ القَطْرة. (البطشُ): الأخذُ، يعني كل ذنبٍ فعلَتْهُ يداه من ملامسة النساء المحرمة وغيرها. قوله: "مشتها"، أي: مشت إليها، فحذف (إلى). "نقيًا"، أي: طاهرًا، يعني: التوضُّؤ يطهِّرُ الرجلَ من صغائر الذنوب. * * * 195 - وقال: "ما مِنِ امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحْسِنُ وُضوءَها وخُشُوعَها ورُكُوعَها، إلَّا كانَتْ كَفَّارةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يأْتِ

كبيرةً، وذلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ"، رواه عثمان - رضي الله عنه -. قوله: "تَحْضُرُه"، أي: تدخلُ عليه وقت صلاة مكتوبة؛ أي: مفروضة. (إحسان الوضوء): أنَّ يُتِمَّ فرائضَه الست وسننَه، (الخشوعُ): الحضورُ، ومراعاة الأدب من تركِ الالتفات إلى اليمين واليسار، (وإحسان الركوعِ): أن يستويَ ظهرُه وعنقُه فيه، ويجافيَ مِرفقيه من جنبيه، ويضعَ يديه على ركبتيه، ويطمئنَّ حتى تستقرَّ أعضاؤه، ويقول: سبحان ربي العظيم. وكذلك يتمُّ فرائضَ كلِّ ركن وسنَنَه. وإنما ذكرَ الركوعَ دون سائر الأركان؛ لأن الركوعَ أثقلُ على النفس، ولأن الشارع إذا أمر بإحسان الركوع فُهِم منه إحسانُ سائر الأركان. قوله: "إلا كانت"، أي: إلا كانت تلك الصلاةُ كفَّارةً؛ أي: ساترةً ومزيلةً لذنوبه الماضية. قوله: "ما لم يُؤْتِ كبيرةً"، (ما): للدوام، (يؤت)، بضم الياء وكسر التاء، هكذا روي، ومعناه: ما لم يَعملْ كبيرة. وحقيقته: أن معنى (آتى): أعطى، وحمل أحدًا على الإتيان؛ لأنه مَن عمل عملًا حملَ نفسَه على الإتيان إلى ذلك العمل، يعني: يغفر صغائر ذنوبه بفعل الوضوء والصلاة دون الكبائر. قوله: "وذلك الدهرَ كلَّه"، وذلك إشارة إلى تكفير الذنوب والغفران، و (الدهر): منصوبٌ على الظرفية، وتكفير الذنوب بسبب الصلاة حاصلٌ وكائنٌ في جميع الدهر، لا في وقت واحدٍ أو زمانٍ واحد. * * * 196 - وعن عثمان: أنَّهُ توضَّأ فَأَفْرغَ على يديْهِ ثلاثًا، فغسَلَهُمَا، ثُمَّ

مضمضَ واستنشَقَ واستنثر، ثمَّ غَسلَ وَجهَهُ ثلاثًا، ثمَّ غَسلَ يدَهُ اليُمنى إلى المِرْفَقِ ثلاثًا، ثمَّ غَسلَ يدهُ اليُسرى إلى المِرْفَقِ ثلاثًا، ثمَّ مسحَ برأسِهِ، ثمَّ غَسلَ رِجلَهُ اليُمنى ثلاثًا، ثمَّ اليُسرى ثلاثًا، ثمَّ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ نحوَ وُضوئِي هذا، ثم قال: "مَنْ توضَّأ نحوَ وُضوئِي هذا ثم يُصلِّي ركعتَيْنِ لا يُحدِّثُ نفسَهُ فيهما بشيءٍ غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ". قوله: "أنه توضأ": أن عثمان توضأ. "فأفرغ"، أي: صبَّ الماءَ على يديه. "فغسَلَهما"، أي: فغسَلَ كفَّيه إلى الكُوعَين. "مَضْمَض"، أي: ردَّد الماء في فمه. "واستنشق"، أي: جعلَ [الماءَ] في أنفه وجر أنفه، وأخرج نَفَسَه ليخرِجَ ما في أنفه من المُخَاط. قوله: "ثم مسح برأسه"، ولم يذكر العددَ في مسح الرأس، فالظاهر أنه مسحه مرة واحدة. قوله: "ثم قال: مَن توضَّأَ نحوَ وُضوئي هذا"، أي: قال رسول الله عليه السلام: من توضَّأَ مثلَ وُضوئِي هذا جامعًا لفرائضه وسننه. قوله: "لا يحدِّثُ نفسَه فيهما بشيء"، أي: لا يَجْرِي في قلبه وسوسةٌ واشتغالٌ من الأمور الدنيوية، يعني: يكون قلبُه حاضرًا، وقلَّما يمكن للإنسانِ الحضورُ بالكُلِّية، ولكن ينبغي ألَّا يكون غافلًا بحيث تغلبُ عليه الوسوسة، وغيبة القلب في الأشغال الدنيوية. ويحتمل أن يريد بقوله: (لا يحدِّثُ نفسَه): الإخلاصَ بالصلاة لله تعالى؛ أي: لا تكون صلاتُه لطلب الجاه ويحتمل أنه يريد به تركَ العُجْب، يعني:

لا يرى لنفسه عظمةً ومنزلةً رفيعةً بأداء الصلاة، بل ينبغي أنَّ يُحقِّر نفسه كيلا تغترَّ نفسه وتتكبر. * * * 197 - وقال: "ما مِنْ مُسلم يتوضَّأُ فيُحسِنُ وُضُوءَهُ، ثمَّ يقومُ فيُصلِّي ركعتَيْنِ مقبلًا عليهِمَا بقلبِهِ ووجهِهِ إلَّا وَجَبَتْ له الجنَّة". 197/ م - وقال: "مَنْ توضَّأَ فأحسنَ الوُضوءَ ثمَّ قال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ اجعلْني من التوَّابينَ، واجعلني من المتطهِّرينَ، فُتِحَتْ لهُ ثمانيةُ أبوابٍ من الجنَّة يدخلُ مِنْ أيِّها شاءَ"، رواه عُقبة بن عامر. قوله: "مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه"، (مقبلٌ): مرفوع صفة؛ لقوله: "ما من مسلمٍ"؛ لأن (مِن) زائدة، وتقديره: ما مسلمٌ، ويجوزُ أن تكون (مقبلٌ) خبرَ مبتدأ محذوف؛ أي: هو مُقْبِلٌ. يعني: يصلي ركعتين يكون ظاهرهُ وباطنُه مُستغرِقَيْن بالركعتين، ويصلِّيهما عن الخشوعِ والتعظيم. قوله: "وجبت له الجنة"، أي: حصَلَتْ له الجنة؛ لأن الله تعالى كريمٌ لا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين. ومعنى (وجبت) ها هنا: أن الله تعالى يعطيه الجنة تفضُّلًا وتكرمًا بحيث لا يخلف وعده، كمن وجب عليه شيء. ومذهب أهل السنة: أنه لا يجب على الله شيءٌ، بل مَن أدخلَه جنَّتَه فبفضله أدخلَه جنته. واسم جد عقبة: ربيعةُ بن حِزَام بن كَعْب، وهو أنصاري.

قوله: "كلمتي الشهادة"، عَقِيب الوضوءِ إشارة إلى إخلاصِ العمل لله، وطهارةِ القلب من الشرك والرياءِ بعد طهارةِ الأعضاءِ من الحَدَث والخبث، كأنه يقول المتوضِّئ: توضَّأتُ خالصًا لله تعالى، فإن الوضوءَ لم يكنْ من فِعْل عَبَدَة الأوثان، ولم يتوضَّأْ أحدٌ لمعبودٍ سوى الله، فإذا توضَّأَ الرجلُ طَهُرَتْ أعضاؤُه من الحَدَث، وغُفرَتْ ذنوبُه كما ذكر قبل هذا، وإذا قال كلمتي الشهادة طَهُرَ من الشِّرْك والرياء، فحينئذ استحقَّ دخولَ الجنة من أيِّ بابٍ شاء، و (من) في (من الجنة) للتبيين. * * * 199 - وقال: "إنَّ أُمَّتي يُدْعَوْنَ يومَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلينَ مِنْ آثارِ الوُضوءِ ممَنِ استطاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطيلَ غُرَّتَهُ فلْيَفْعَلْ". قوله: "غرًا محجلين"، (الغُرُّ): جمع أَغَرَّ، وهو أبيضُ الوجه، (المُحَجَّلُ): أبيض الرجل واليد. و"الوَضُوء" بفتح الواو هنا: الماءُ الَّذي وَصَلَ إلى أعضاء المتوضِّئ, يعني: حيث وصل ماءُ الوضوء من الأعضاء يظهرُ منه نورٌ وبياضٌ مزيِّنٌ لطيف. قوله: "إن أمتي يدعون"، يحتمل أن يكون معنى (يدعون): يسمُّون، فعلى هذا يكون الضمير المضمَرُ في (يدعون) هو المفعول الأول، أُقيم مُقَام الفاعل. و (غرًا): مفعول ثانٍ، يعني: يقال لأمتي: يا أيها الغُرُّ المُحَجَّلون! هَلُمَّ وادخلوا الجنة. ويحتمل أن يكون معناه: يدعون إلى يوم القيامة، أو دخول الجنة في حال كونهِم غرًا محجَّلين.

قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّتَهُ"، (الغُرَّةُ): بياضُ الوجه، و (التَّحْجِيلُ): بياضُ الرِّجْلِ واليد، وتقديرُه: أنَّ يُطيلَ غُرَّتَه وتَحجيلَه فليفعل، ولكن تَرَكَ ذِكْرَ التَّحْجيل؛ لأنه لمَّا ذَكَرَ (غُرًا محجَّلين) قبل هذا عُلِمَ أنه يريد ها هنا الغُرَّةَ والتحجيلَ كليهما. وإطالة الغُرَّةِ: أن يوصل ماءَ الوضوء في وجهه إلى أكثرَ من محلِّ الفرض، وإطالة التحجيل: أن يوصلَ ماءَ الوضوء في غسل اليدين والرجلين إلى أكثرَ من محلِّ الفرض. * * * 198 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حيثُ يبلُغُ الوَضُوءُ"، رواهما أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "تبليغ الحِلْيَة"، (الحلية): الزينةُ. "الوَضُوء" بفتح الواو، وذكر معناه، يعني: إلى حيث يبلغ ماء الوضوء من الأعضاء يُجعل فيه النورُ والسِّوَار والخَلْخَالُ في الجنة. * * * من الحسان: 200 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا، واعْلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ"، رواه ثَوبان - رضي الله عنه -. قوله: "استقيموا"، أي: الزموا الطريقَ المستقيمَ في الدِّين، والإتيان بجميع المأمورات، والانتهاء عن جميع المناهي، من الاستقامة. قوله: "ولن تُحْصُوا"، أحصى: إذا طاق أمرًا وعدَّ شيئًا، يعني: استقيموا،

ولكن لا تطيقون أن تستقيموا حقَّ الاستقامة؛ لأنها شديدة. وإنما قال: (ولن تحصوا) ليعترفوا بالتقصير، ولا يغترُّوا بما يفعلون من الطاعات، ويتركون من المعاصي؛ لأن ما يفعلون من الطاعاتِ ويتركون من المعاصي قليلٌ بالنسبة إلى ما هو حقُّ الاستقامة، فإن الاستقامةَ أن تطيعوا الله ولا تعصوه أصلًا، ومن يُطِيقُ هذا. وقيل: معنى: (ولن تحصوا): لا تقدروا أن تعدُّوا ثوابَ الاستقامة من كثرته. قوله: "واعلموا أنَّ خيرَ أعمالِكم الصلاةُ"، وإنما الصلاةُ خيرٌ من غيرها؛ لأن في الصلاة من كلِّ عبادةٍ شيئًا كقراءة القرآن، والتسبيح، وترك الأكل، والتكبير، وغير ذلك. قوله: "ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، (لا يحافظ): أي: لا يداوم، يعني: المنافق لا يداوِمُ على الوضوء، بل يتوضَّأُ إذا رآه أحدٌ، ولا يتوضَّأُ إذا لم يرَه أحدٌ، وكذا الكفار لا يتوضَّؤون. * * * 201 - وقال: "مَنْ توضَّأ على طُهْرٍ كُتب له عشْرُ حسَناتٍ"، رواه ابن عمر. غريب. قوله: "من توضأ على طهر"، أي: من جدَّد الوضوءَ بشرطِ أنْ يصلِّيَ بالوضوء الأول صلاةً، فإن لم يصلِّ بالوضوء الأول صلاةً لا يُستحَبُّ تجديدُ الوضوء. واعلم أنه في بعض النسخ: قوله: (استقيموا) إلى قوله: (عشر حسنات)، مكتوبٌ على أنَّه حديثٌ واحد من غير فاصلة، ورواية ابن عمر.

2 - باب ما يوجب الوضوء

ولكن في "شرح السنة" مذكورٌ: أنَّ راوي قوله: (استقيموا) إلى قوله: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن): أبو عبد الله ثوبانُ مولى رسول الله عليه السلام. وقوله: "من توضَّأَ على طُهْرٍ كُتِبَ له عشرُ حسنات"، هذا حديثٌ برأسه، ورواه ابن عمر - رضي الله عنه -. * * * 2 - باب ما يُوجِب الوضوءَ (باب ما يوجب الوضوء) مِنَ الصِّحَاحِ: 202 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْبَلُ صلاةُ مَنْ أحدثَ حتَّى يتوضَّأَ". قوله: "أحدث"، أي: صار ذا حَدَثٍ، وهو ما يُبْطِلُ الوضوءَ, يعني: لا يقبل الله صلاةً بغير الوضوء، إلا إذا لم يجدِ الماء، ووجد التراب، فيقوم التيمُّمُ مَقامَ الوُضوء، وإن لم يجدِ المَاء والترابَ يصلَّي فَرْضَ الوقت وَحْدَها؛ لحرمةِ الوقت، ثم إن مات قبل وُجْدانِ الماء أو التراب لم يكن عليه إثمٌ، وإن لم يَمُتْ حتى وجد الماءَ أو التراب يقضي تلك الصلاة. * * * 203 - وقال: "لا تُقْبَلُ صلاةٌ بغيرِ طُهُورٍ، ولا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -.

قوله: "بغير طُهُور"، بضم الطاء؛ أي: بغير توضُّؤ. قوله: "ولا صَدَقَةٌ من غُلُول"، (الغلول): الخيانة في الغنيمة، يعني: لا تُقْبَل صدقةٌ من مالٍ حرامٍ. * * * 204 - وقال علي - رضي الله عنه -: كنتُ رجلًا مَذَّاءً، فكنتُ أَستحي أنَّ أسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَمرتُ المِقْدادَ فسألَهُ، فقال: "يَغسِلُ ذكَرَهُ ويتوّضأُ". قوله: "كنت رجلًا مَذَّاءً"، (المَذَّاءُ) بتشديد الذال وبالمد: كثيرُ خُروجِ المَذْيِ من ذَكَرِه. والمَذْيُ: ماءٌ رقيقٌ يَخْرُجُ من الذَّكَرِ عند ملاعبة الرجلِ امرأته، وعند النظر بالشهوة إليها. قوله: "فكنت أستحيي"، يعني: استحييت أن أسأل النبيَّ - عليه السلام - عن حكم المذي: هل هو موجب الغسلَ أم لا؟، وهل نجس أم لا؟. فأمرتُ المِقْدَادَ حتى سألَ النبي - عليه السلام - عن حُكْمِ المَذْيِ، وإنما استحيى أمير المؤمنين عليٌّ - كرَّمَ الله وجهَه - أنَّ يسأل النبي - عليه السلام - عن المَذْيِ؛ لكون فاطمة بنتِ النبي - عليه السلام - زوجتَه. قوله: "يَغْسِلُ ذَكَرَه"، يعني: لا غُسْلَ عليه من المَذْيِ، بل هو نَجَسٌ يَغْسِلُ ذكرَه منه ويتوضَّأ؛ لأنه يُبْطِلُ الوضوء. و (المقداد): هو ابن عمرو الكندي، وكنيته: أبو سعيد، ويقال: المقداد ابن الأسود، نُسِبَ إلى الأسود بن عبد يغوثَ بن وهبِ بن عبد مَناف؛ لأنه قد تَبناه وهو صغير. * * *

205 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضَّؤوا مما مَسَّتِ النَّارُ"، وهذا منسوخٌ بما روي: 206 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أكلَ كَتِفَ شاةٍ ثمَّ صلَّى ولم يتوضَّأ. قوله: "توضَّؤوا"، (التوضُّؤ): طَلَبُ الوَضَاءَة، وهو الحُسْن والنظافة، والمستعمَلُ في الشرع: غَسْلُ الأعضاء الأربعةِ للصلاة. ويقال لغسل الكفين: التوضُّؤُ أيضًا؛ فيَحْتَمِلُ ها هنا أن يريد - صلى الله عليه وسلم - به غسل الكفين؛ لإزالة الرائحة الكريهة، والزُّهُومة. ويحتمل أن يريدَ به الوضوءَ المعروفَ، ثم يحتمل أن يريدَ به الوضوء على سبيل الاستحباب، وعلى سبيل الوجوب؛ فإن كان معناه: الوضوء على سبيل الوجوب؛ فمنسوخ بحديث ابن عباس وغيرِه مما يُذْكَرُ بعد هذا: "وما مسته النار" هو الذي أَثَّرت فيه النار وغَيَّرَتْه، كاللَّحم والدبس والسكر والسَّوِيق والخبز، وغير ذلك. وذهب بعضُ أهلِ العِلْم إلى إيجاب الوضوءِ مما مسَّتْه النار، وكان عمر بن عبد العزيز يتوضَّأُ من أَكْلِ السُّكَّر. * * * 207 - وعن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا سألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأُ مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ؟ قالَ: "إنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وإن شِئْتَ فَلا"، وقال: أَنَتَوضَّأُ مِن لُحُومِ الإبِلِ؟، قالَ: "نعم". قال: أُصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ؟ قال: "نعم"، قال: أُصَلِّي في مبارِكِ الإِبِلِ؟ قال: "لا". قوله: "أَتَوَضَّأُ من لحوم الغنم"، أصله: أأتوضأ بهمزتين، الأُولى همزة

الاستفهام، والثانية همزة نَفْسِ المتكلِّم، فحُذفت همزةُ الاستفهام؛ لدلالة الحالِ عليها، وكذلك في قوله: "أتوضَّأُ من لحوم الإبل". وفي بعض النسخ: (أيتوضَّأُ) بالياء بعد همزة الاستفهام، وهذا غَلطٌ؛ لأنا طلَبنا هذا الحديث في "الصحاح"، وكان بالهمزة، ولم يكن بعد الهمزة ياء. والوضوء من أكل لحم الإبل واجبٌ عند أحمدَ بن حنبل، وأما عند أكثر الفقهاء؛ فالمراد: غَسْلُ الكَفَّين. وإنما أمر رسول الله - عليه السلام - بغسل الكفين من أَكْلِ لَحْمِ الإبل؛ لأن له رائحةً كريهةً، بخلاف لَحْمِ الغنم. قوله: "أأصلي في مرابض الغنم"، (المرابض): جمع مَربِض، بفتح الميم وكسر الباء، وهو موضع الرُّبُوض، والرُّبُوض للغنم كالاضطجاع للإنسان، وكالبُرُوك للجمل. و (المبارك): جمع مَبْرَك، بفتح الميم والراء وهو موضع البُرُوك، يعني: الصلاة في موضعٍ يكونُ فيه الغنم غيرُ مكروه، وفي موضع الإبل مَكْرُوه؛ لأن الرجلَ لا يَأمَنُ من نِفَار الإبل، فيلحقُه منها صَدْمة، فلا يكونُ له حضورٌ في الصلاة، وهذا الخوف لا يكون من الغنم. وكنية جابر: أبو عبد الله، وقيل: أبو خالد، واسم جده: عمرو بن جُنْدب. * * * 208 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجدَ أَحَدُكُمْ في بَطْنِهِ شيئًا فَأَشْكَلَ عليهِ، أخَرَجَ منهُ شيءٌ أمْ لا؟ فلا يخرُجَنَّ مِنَ المَسجِدِ حتى يسمَعَ صَوْتًا أو يجدَ ريحًا".

قوله: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا"، يعني: إذا تردَّدَ في بطنه ريحٌ، وشَكَّ: هل خرجَ منه ريحٌ أو لم يخرج؟، الهمزة في (أَخَرَجَ) للاستفهام. قوله: "فلا يَخْرُجَنَّ من المسجد"، يعني: إذا شكَّ هل بطل وضوؤه أم لا؟ فلا يخرُجَنَّ من المسجد للتوضُّؤ؛ لأنه لا يبطل وضوءه؛ لأن الوضوء كان متيقنًا؛ فلا يبطل بالشك. قوله: "حتى يسمع صوتًا"، أي: صوتَ ريحٍ خرجَ منه. قوله: "أو يجد ريحًا"، أي: رائحةَ ريحٍ خرجَ منه، يعني: حتى يتيقَّن بُطْلَانَ وضوئه. * * * 209 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبنًا، فمَضْمَضَ وقال: "إنَّ لهُ دَسَمًا". قوله: "فمَضمَضَ"، أي: غَسَلَ فمه. "وقال: إن له دسمًا"، أي: إنما غسلتُ فمي؛ لأن لِلَّبن دسمًا؛ أي: زُهُومَةً وأثرًا في الفم، فالسُّنَّةُ غَسْلُ اليدين والفمِ عند أكلِ شيءٍ له زُهومةٌ وبقاء أثر في الفم واليد. * * * 210 - عن بُرَيدَة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الصَّلواتِ يومَ الفَتْح بِوُضُوءٍ واحدٍ، ومسحَ على خُفَّيْهِ. قوله: "صلى الصلوات"، الألف واللام فيها لاستغراق الجنس، و"يوم الفتح": نصب على الظرف، يعني: صلى جميع الصلوات المفروضة والمسنونة في يوم فتح مكة بوضوءٍ واحد، وهذا دليلٌ على أنَّ مَنْ قَدِرَ أنَّ يصلِّيَ صلواتٍ كثيرةً

بوضوء واحدٍ لا تُكرَهُ صلاتُه بشرط ألَّا يغلبَ عليه البولُ أو الغائط، فإن غَلبَا عليه تُكْرَهُ صلاتُه. قوله: "ومسح على خفيه"، دليلٌ على جواز المَسْحِ على الخُفَّين. كنية بُرَيْدَة: أبو عبد الله، واسم أبيه: الحُصَيْبُ بن عبد الله بن الحارث. * * * 211 - وعن سُويد بن النُّعمان: أنَّهُ خرجَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ خيبرَ حتَّى إذا كانوا بالصَّهْبَاءِ - وهيَ أدنى خَيْبر - نزلَ، فصلَّى العصرَ، ثمَّ دعا بالأزْوادِ فلم يُؤْتَ إلَّا بالسَّويقِ، فَأَمرَ بِهِ فثُرِّيَ، فأَكَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأكَلنا، ثمَّ قامَ إلى المَغربِ فَمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا، ثمَّ صلَّى ولم يَتوضَّأْ. قوله: "كانوا"، أي: كان رسول الله - عليه السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم -. "بالصَّهْباء"، أي: نازلين وحاصِلين بهذا الموضع. "أدنى خَيْبر"، أي: قريبٌ من خيبر، و (أدنى): أفعل التفضيل، كأن معناه: أقربُ قُرَى خيبر إلى خيبر. قوله: "ثم دعا بالأَزْواد"، أي: طلب ما كان معهم من الزاد ليأكلوا. "فلم يُؤْتَ إلا بالسَّوِيق"، أي: فلم يَحْضُر إلا بالسَّوِيق. "فأمر به"، أي: فأمر رسول الله - عليه السلام - القومَ ببَلِّ السَّوِيق. "ثُرِّيَ": ماضٍ مجهولٌ من ثرَّى يثرِّي تثرية: إذا بل السَّوِيقَ وغيرَه، وإنما بلَّ رسولُ الله - عليه السلام - السَّوِيقَ؛ لأنَّ المبلولَ أسهلُ في الأكل وأنفَعُ. جَدُّ سُويد: مالك بن عائذ بن مَجدَعة بن جُشَم بن حارثة، وهو أنصاري. * * *

212 - وقال: "لا وُضُوءَ إلَّا مِنْ صَوْتٍ أو رِيحٍ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا وضوء"، أي: لا وضوء واجبٌ على الرجل إلا إذا سمعَ صوتَ ريحٍ خرجَ منه. "أو ريح"، أي: رائحة ريحٍ خرجَ منه، يعني: لا يَبْطُلُ الوضوءُ إلا بيقينٍ، وسماعُ الصوتِ ووجدانُ الريحِ غيرُ مشروطين؛ لأن الرجلَ قد يكون أصمَّ فلا يَسْمَعُ الصوتَ، وقد يكون أَخْشَمَ، وهو الَّذي في أنفه انسدادٌ لا يدرِكُ الشَّمَّ. وليس معنى هذا الحديث: أنه لا يبطلُ إلا بالصوت أو بالريح، بل مبطلاتُ الوضوء أكثرُ من هذا كما ذكر في كتب الفقه. وإنما معنى هذا الحديث: أنه لا يبطلُ الوضوءُ بالشك. * * * 213 - وقال: "مِنَ المَذْيِ الوُضوءُ، ومِنَ المَنيِّ الغُسْلُ"، رواه علي. قوله: "من المذي ... "، إلى آخره. أي: من خروج المَذْيِ يجب التوضُّؤ، ومِن خروج المَنِيِّ يجبُ الاغتسال. * * * مِنَ الحِسَان: 214 - وقال: "مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ، وتحريمُهَا التَّكبيرُ، وتحليلُها التسليمُ"، رواه علي. قوله: "مفتاح الصلاة"، و (المفتاح): ما يُفْتَحُ به الباب، وهو سببُ دخولِ الدار، يعني: سببُ الدخولِ في الصلاة: الوضوءُ.

التحريم: الدخول في الصلاة. قوله: "وتحريمها التكبير"، يعني: لا يجوزُ الدخول في الصلاة إلا بقول: (الله أكبر) مقارَنًا بالنية، وسُمي الدخولُ في الصلاة تحريمًا؛ لأنه يحرِّمُ الكلامَ والضربَ والمشيَ والأكلَ وغيرَ ذلك على المصلِّي. التحليلُ: جَعْلُ شيءٍ محرَّمٍ حلالًا. قوله: "وتحليلها التسليم"، يعني: الخروج من الصلاة يكون بالتسليم، والتسليم من الصلاة واجبٌ عند الشافعي، ومستحَبٌّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنهما -، وعنده: إذا جلسَ في آخر الصلاة بقَدْر التشهُّد، ثم فعل ما يناقِضُ الصلاةَ كالكلام، وإبطال الوضوء وغير ذلك؛ فقد تمَّتْ صلاتُه، ولا حاجةَ إلى التسليمِ عنده. * * * 215 - وقال: "إذا فَسَا أحدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ". قوله: "إذا فسا"، فسا يفسو فَسْوًا: إذا خرجَ الريحُ التي لا صوتَ لها من أسفل الإنسان. رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. * * * 216 - وقال: "وِكاءُ السَّهِ العَيْنَانِ فمَنْ نامَ فَلْيَتَوضَّأ"، رواه علي - رضي الله عنه -. قال الشيخ الإمام رحمه الله: وهذا في غير القاعد لِمَا صحَّ: قوله: "وكاء السَّهِ العينان"، (الوِكَاءُ) بكسر الواو: ما يُشَدُّ به رأسُ الكيس وغيره، و (السَّهُ): الدُّبُر، وأصلُه: سَتَهٌ بفتح السين والتاء فحُذِفَت التَاءُ، يعني: حِفْظُ الدُّبُر من خروج الريحِ إنما يكونُ إذا كان الرجلُ يقظانَ، وليس بنائم، فأما

إذا نام فليتوضأ؛ لأنه ربما خرجَ منه ريحٌ، وليس له علم بذلك. (قال الشيخ)، أراد بالشيخ محيي السنة، قوله: (هذا في غير القاعد)؛ يعني: هذا الحكمُ الذي إذا نام الرجلُ فلْيتوضَّأْ فيمن نامَ مضطجِعًا، فأمَّا مَن نام قاعدًا ممكِّنًا مَقْعَدَه من الأرض، ثم استيقظ ومقعده مُمَكَّنٌ من الأرض كما كان، فلا يبطلُ وضوؤه، وإن طال نومه؛ لأن أصحاب رسول الله - عليه السلام ورضي الله عنهم - يجلسون في انتظار صلاة العشاء، وينامون قاعدين حتى تَخْفِقَ رؤوسهم من النوم، ثم يصلُّون بذلك الوضوء، ولا يجدِّدون الوضوء. * * * 218 - عن أنس قال: كانَ أصْحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظِرُونَ العِشَاءَ، فينامُونَ حتَّى تخفِقَ رُؤوسُهم، ثم يُصلُّونَ ولا يتوضَّؤُونَ. "خَفَقَ"، بفتح العين في الماضي، وضمَّها وكسرِها في الغابر، خَفَقَانًا: إذا تحرَّكَ العلم والشجر يمينًا وشمالًا من الريح ها هنا: مَيْلُ الرأس إلى كلِّ جانبٍ من النوم. * * * 219 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الوُضوءَ على مَنْ نامَ مُضْطَجعًا، فإنَّهُ إذا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ". قوله: "إن الوضوء"، يعني: وجوب التوضُّؤ على النائم الَّذي ينام، وهو راقدٌ ومضجع على جنبه؛ لأنه إذا اضطجعَ على جنبه فَتَرتْ وضَعُفَتْ أعضاؤه، وانفتح مقعدُه، فحينئذ لو خرج منه شيءٌ لم يعلمْ بخروجه، بخلاف ما إذا نام ومقعده ممكَّنٌ من الأرض.

قوله: "استرختْ مفاصلُه"، استَرْخَى يَسْتَرْخِي: إذا فترَ وضعف. (المفاصل): جمع مِفْصَل، وهو رؤوس العظام والعُرُوق، وهو معروف. * * * 220 - وعن بُسْرةَ رضي الله عنها قالتْ: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مسَّ أحدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". قوله: "إذا مسَّ أحدُكم ذكرَه"، واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في انتقاض الوضوء بمسِّ الفَرْج: فقال الشافعي - رضي الله عنه -: إذا مسَّ الرجلُ ذَكَرَه أو ذَكَرَ غيرِه ببطنِ الكفِّ والأصابع يبطُلُ وضوؤه، وكذلك المرأة إذا مَسَّتْ فَرْجَ نفسِها، أو فرَج امرأةٍ غيرِها يبطُلُ وضوؤُها، وكذلك مذهب أحمد. إلا أنه يقول: المَسُّ بظهر الكفِّ وبالساعد مبطلٌ أيضًا. وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: مَسُّ الفَرْجِ لا يُبطِلُ الوضوء. بُسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد، وهي قرشية. * * * 221 - وما رُوي عن طَلْق بن عليٍّ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنهُ فقال: "هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعةٌ مِنْكَ؟ "، منسوخٌ؛ لأن أبا هريرة - رضي الله عنه - أسلَم بعد قُدوم طَلْق. قوله: "سئل عنه"، أي: عن الذكر، يعني: سئل: هل يبطلُ الوضوءُ بمسِّ الذكر؟ فأجابه رسول الله بقوله: "هل هو إلا بَضعةٌ مِنْك". (البَضعة) بفتح الباء: قطعةُ لحمٍ، يعني: لا يَبطلُ الوضوءُ بمسِّ الذَّكَر كما لا يَبطُلُ بمسِّ سائر الأعضاء، ولأنه قطعة منه كالخِصية والفَخِذ وغيرهما.

أفضى: إذا وصل، وأفضى به: إذا أوصله. * * * 222 - وقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أَفْضَى أحدُكُمْ بِيَدِهِ إلى ذكَرِهِ ليسَ بينَهُ وبينها شيءٌ فليتوضَّأْ". قوله: "ليس بينه"، أي: بين ذَكَرٍ وبينَها، أو بين يدِه، "شيءٌ"؛ أي: ثوبٌ أو غيره، يعني: إذا أوصلَ يدَه إلى ذَكَرهِ من غير حاجزٍ فليتوضَّأْ. قول محيي السنة في حديث طلق: أنه منسوخٌ، إنما قال هذا؛ لأن الخَطَّابيَّ هكذا قال، ودليلُ كونه منسوخًا أن طلقَ بن عليٍّ أتى رسولَ الله - عليه السلام - حين [كان] يبني مسجد المدينة، وبنيَ في السنة الأولى من الهجرة، وأسلم أبو هريرة عام خيبر، وهو في السَّنَة السابعة من الهجرة. وقد روى أبو هريرة: "إذا أفضى أحدكم ... " إلى آخره. فحديث أبي هريرة يَحْكُمُ ببطلان الوضوء بمسِّ الذَّكَر، وحديث طَلْقٍ يحكُمُ بأنه لا يبطلُ الوضوءُ بمسِّه، وهما متناقضان، وكل حديثين متناقضين يكون المتأخِّرُ منهما ناسخًا للمتقدِّم. وقال أصحاب أبي حنيفة: يحتمل أنَّ طَلْقَ بن عليًّ عاد إلى رسول الله - عليه السلام - بعد إسلام أبي هريرة؛ فعلى هذا التقدير يكونُ حديثُ طَلْقٍ ناسخًا لحديث أبي هريرة، فقد تعارضَ احتمالُ كَوْنِ حديثِ طَلْقٍ ناسخًا ومنسوخًا. واذا تعارضَ الاحتمالان سقطَ الاحتجاجُ بحديثِ طَلْقٍ وأبي هريرة كليهما. ونعود إلى قول الصحابة، فنعملُ بقولهم. وقول علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفةَ وعمارِ بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين: أنه لا يبطل الوضوء بمسِّ الذكر؛ فوافقَ قولُ أبو

حنيفةَ أقوالَ هؤلاء من الصحابة. وقال عمر وابنه وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وعائشة: إنه يَبْطُلُ الوضوءُ بمسِّه؛ فوافق الشافعيُّ أقوالَ هؤلاء. وجَدُّ طلق بن علي: طلق بن عمرو. وقيل: بل جده قيس بن عمرو الحنفي اليماني. * * * 223 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ بعضَ أزواجِهِ، ثُمَّ يُصلِّي ولا يتوضَّأْ. ضعيف. قوله: "يقبل بعض أزواجه"، واعلمْ أنَّ العُلَماء اختلفوا في بطلان الوضوء بلمس النِّساء؛ فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يبطل الوضوءُ بلمس النساء بدليل هذا الحديث. وقال الشافعي وأحمد: يبطلُ الوضوء بلمس النساء الأجنبيات. وروي هذا القول عن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن مسعود. وعند مالك: يبطل إذا لمسَ بالشهوة، فإن كان بغير شهوةٍ فلا يَبْطُل. * * * 224 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أكلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَتِفًا، ثمَّ مسحَ يدَهُ بمِسْحٍ كانَ تحتَهُ، ثمَّ قامَ وصلَّى. قوله: "أكل رسول الله - عليه السلام - كَتِفًا": أراد به كَتِفَ شاةٍ مشويًّا. (المِسح): بكسر الميم: كساء. وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ أَكْلَ ما مسَّته النارُ لا يبطلُ الوضوءَ. * * *

3 - باب أدب الخلاء

225 - وعن أُم سلمة رضي الله عنها: أنَّها قرَّبتْ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَنْبًا مَشْوِيًّا، فأَكلَ منهُ، ثمَّ قامَ إلى الصَّلاةِ وما توضَّأَ منه. قوله: "جنبًا مشويًا"، أي: جنب شاةٍ مشوي. وهذا الحديث أيضًا يكون صريحًا في نسخ توضُّؤ مما مسَّته النار. "أم سلمة" زوجة النبي عليه السلام، واسمها: هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية. * * * 3 - باب أَدَب الخَلاءِ (باب أدب الخلاء) مِنَ الصِّحَاحِ: 226 - عن أبي أَيُّوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيتُمُ الغائطَ فلا تستقبِلُوا القِبلَةَ، ولا تَسْتَدْبِرُوهَا، ولكنْ شرِّقُوا أو غرِّبُوا". قال المصنف: هذا الحديث في الصَّحراء، أما في البنيان فلا بأْس به، لِمَا رُوي: قوله: "إذا أتيتم الغائط"، (الغائط): ما يخرجُ من دُبُرِ الإنسان. "شرقوا"؛ أي: وجِّهوا وجوهَكم إلى الشرق، "أو غرَّبوا"؛ أي: وجَّهوا وجوهكم إلى الغرب، يعني: إذا جلستم لقضاء الحاجة فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن استقبلوا يمينَ القِبلة أو يسارَها. اسم أبي أيوب: خالد بن كُليب بن ثعلبة بن عبد مناف. قوله: "هذا في الصحراء"، يعني: النهيُ عن استقبال القبلةِ واستدبارِها

عند قضاءِ الحاجةِ يكونُ في الصحراءِ, إما إذا كان في بيتٍ، أو من وراء جدار؛ فلا بأس؛ لأن عبد الله بن عمر ارتقى؛ أي: صعد فوق بيت أخته حفصة، وهي زوجة النبي عليه السلام، فرأى رسولَ الله - عليه السلام - يقضي حاجَته. * * * 227 - عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - قال: ارْتَقَيْتُ فوقَ بيتِ حَفْصَةَ بنت عمر لبعضِ حاجَتي، فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْضي حاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ مُستقبِلَ الشَّأْمِ. "مستدبر القبلة"، أي: مستقبل الشام؛ أي: مستقبل بيت المقدس، وذلك كان في بنيان. فعند الشافعي: استقبالُ القبلة واستدبارها غيرُ محرَّمٍ في البنيان. وعند أبي حنيفة رحمه الله: يستوي الصحراء والبنيان في تحريم استقبال القبلة أو استدبارها. * * * 228 - وقال سلمان - رضي الله عنه -: نَهانا - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نستقبِلَ القِبلَةَ بغائطٍ أو بَوْلٍ، أو أنْ نستنجِيَ باليمينِ، أو أنْ نستنجيَ بأقلَّ مِنْ ثلاثةِ أحجارٍ، أو أنْ نستنجِيَ برَجِيعٍ أو عظمٍ. قوله: "نهانا ... " إلى آخره. (أو) في هذا الموضع ليس للشك، بل للعطف، ومعناه معنى الواو، يعني: نهانا عن جميع هذه الأشياء، والنهيُ عن الاستنجاء باليمين نهيُ تنزيهٍ وكراهة، لا نهيُ تحريم.

والاستنجاء بثلاثة أحجار واجبٌ عند الشافعي، فلو حصلَ النَّقَاء بأقلَّ من ثلاثة أحجار؛ لزمه استعمالُ تمام ثلاثة. وعند أبي حنيفة: فلو حصلَ النقاءُ بواحدٍ واثنين لا حاجة إلى استعمال الزيادة. (الرجيعُ): السِّرْجِينُ، سُمِّيَ رَجِيعًا؛ لرجوعه من حال الطهارة إلى حال النجاسة، هكذا ذكر الخَطَّابي. وأما (العَظْم): ذكر الخطابي أنه لا يجوز الاستنجاءُ بعظم ميتةٍ ولا مُذَكَّاة. قيل: في علة النهي عن الاستنجاء بالعظم أنه أملسُ لا يُزيلُ النجاسة. وقيل: علته أنه يمكن مصُّه أو مضغه عند الحاجة؛ فهو مطعوم. وقيل: لأن النبي - عليه السلام - قال في العظم: "زاد إخوانكم من الجن". كنية سلمان: أبو عبد الله، وهو مولى رسول الله، ويعرف سلمان الخير، وهو من الفارس، وقيل: هو من أصفهان من رام هرمز، من قرية يقال لها: حَجْر. * * * 229 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ أنْ يَدخلَ الخَلاءَ قال: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ". قوله: "من الخبث والخبائث"، (الخُبُث) بضم الباء: جمع خبيث، وهو المؤذي من الجِنِّ والشياطين. والخُبْثُ بسكون الباء: الشرُّ. ويجوز أن يكون الخُبْث - بسكون الباء - مثلَ الخُبُث بضمها؛ لأنه يجوز

إسكان العين من (فعل) مضمومة الفاء والعين للتخفيف. وأما الخبائث: جمع خبيثة، وهي الأنثى المؤذيةُ من الجن. وإنما عاذ رسول الله من الجن والشياطين عند دخول الخلاء؛ لأن الخلاء مأوى الشياطين والجن. * * * 230 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقبرَيْنِ فقال: "إنَّهما يُعذَّبان، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ، أما أحدهما فكانَ لا يستبرِئُ مِنَ البَوْلِ - ويروى: لا يستنْزِهُ مِنَ البَوْلِ - وأما الآخرُ فكانَ يمشي بالنَّمِيمةِ"، ثمَّ أخذَ جَريدةً رطبةً فشقَّها بنصفَين، ثمَّ غرزَ في كُلِّ قبرٍ واحدةً، وقال: "لَعَلَّهُ أنْ يُخفِّفَ عنهُمَا ما لمْ يَيْبَسَا". قوله: "وما يعذبان في كبير"، (الكبير): الثقيلُ والشديد، يعني: يعذَّبان بسبب ذنبين لم يكن احترازه منهما ثقيلًا؛ لأنه لو كان شيئًا يَشُقُّ عليه الاحترازُ منه؛ لكان معذورًا فيه، ولم يكن له عذابًا، كسَلِسِ البول والمستحاضة؛ فإن ثوبيهما نَجِسان يُصَلِّيان معهما، ولم يكن لهما بذلك إثمٌ؛ لأنهما يشقُّ عليهما الاحترازُ من النجاسة. ولا يجوز أن يقال: المراد بالكبير ها هنا: الكبيرة من الذنوب؛ لأنه حينئذ يكون معناها: أن النميمة وتركَ الاحتراز من البول ليسا من الكبائر في حقِّ الذي لا يستبرئ ولا يسْتَنْزِه، ومعناهما: لا يحترز ولا يُبْعِدُ من البول. قوله: "يمشي بالنميمة"، يعني: يمشي إلى كل واحد من الشخصين اللَّذَين بينهما عداوة، ويلقي بينهما العداوة بأن ينقلَ إلى كلِّ واحدٍ منهما ما يقولُ الآخر من الشَّتْم والإيذاء.

قوله: "ثم أخذ جريدة رطبة"، (الجريدة): غصنُ النخل، يعني: أخذ رسول الله - عليه السلام - جريدةً رطْبةً فشقَّها نصفين، فغرز كل نصف على قبر وقال: "لعله أن يخفِّف" ويُزالَ عنهما العذابُ ما دام هذان النِّصفان رَطْبين. وسبب تخفيف العذاب عنهما "ما لم ييبسا": أنه - عليه السلام - سألَ الله أنَّ يخفَّفَ عنهما العذاب هذا القَدْر؛ لوصول بركته إليهما؛ لأنه رحمةٌ، لا يمرُّ بموضع إلا أصابه بركتُه، وليس تخفيفُ العذاب عنهما بخاصية الجَرِيد الرَّطْب؛ لأن الجَمَاداتِ ليس بعضُها أولى من بعض، فالرَّطْبُ مثلُ اليابس. وإنما الفضيلة بتفضيل الله بعضَ الجمادات كالكعبة والمساجد، ولم يثبُتْ نصٌّ في تفضيل الرَّطْب على اليابس، هكذا ذكر الخَطَّابي وغيرُه من فحول العلماء. * * * 231 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقُوا اللَّاعِنِينَ"، قالوا: وما اللَّاعِنَانِ يا رسول الله؟ قال: "الَّذي يتخلَّى في طريقِ النَّاسِ أو في ظِلِّهِمْ". قوله: "اتقوا"، أي: احذروا واجتنبوا. "اللَّاعِنَين"، أي: الأمرَين اللذين هما سببا اللعنة، يعني: احذروا أن تفعلوا هذين الشيئين. سُمِّيَ الشيءُ الَّذي هو سببُ اللَّعنةِ لاعنًا؛ لأنه إذا حصلت اللعنة بسببه، فكأنه هو اللاعن. قوله: "الَّذي يتخلّى"، ها هنا: المضاف محذوف، يعني: أحدُهما تَغَوُّطُ الَّذي يَتَغوَّطُ في طريق الناس، والثاني: تَغَوُّطُ الَّذي يَتغوَّطُ في ظِلِّهم.

(التخلِّي): التغوُّطُ، والمراد بـ (الظلِّ) ها هنا: الظِّلُّ الَّذي يجلس فيه الناس للتحدث، إما ظلُّ شجر، أو جدار بعيد لا يجلسُ فيه الناس، ولا يمرُّون به، يجوز التغوُّطُ فيه إذا لم يكنْ تحت شجرة مثمرةٍ. * * * 232 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَرِبَ أحدُكُم فلا يتنفَّسْ في الإِنَاءِ وإذا أَتى الخَلاءَ فلا يَمسَّ ذكرَهُ بيمينِهِ، ولا يتمسَّحْ بيمينِهِ"، رواه أبو قَتادة. قوله: "فلا يتنفس"، أي: فلا يخرجْ نفسَه في الظَّرْف، بل إذا أراد التنفُّسَ، فليَدْفَعْ فمَه عن الإناء ويتنفس ويستريح، ثم يشرب. وعلةُ النهي عن التنفس في الإناء؛ لتغيُّرِ ما في الإناء بنفسه. قوله: "فلا يمسَّ ذكَره بيمينه"، يعني: لا يضع يده اليمنى على ذَكَره، ولا يأخذه بيمينه عند الاستنجاء وغيره؛ لأن اليد اليمنى شريفة لا يستعملُها إلا في المواضع الشريفة، كالوجه والرأس وغيرهما. قوله: "ولا يتمسحْ بيمينه"، أي: ولا يستنجِ بيمينه. فإن قيل: كيف يستنجي بالحَجَر؛ فإنْ أخذَ الحجر بشماله، والذَّكَر بيمينه؛ فقد مسَّ ذكَره، وهو منهيٌّ، وإن أخذَ الحَجَر بيمينه، وأخذ الذَّكَر بشماله؛ فقد يَمْسَحُ بيمينه، وهو منهي. قلنا: طريقه أن يأخذ الذَّكَر بشماله، ويمسحَه على جدار أو حجر كبير بحيث لا يستعمل يمينه، لا في أخذ الذَّكَر، ولا في أخذ الحَجَر. واسم "أبي قتادة": الحارث بن رِبْعي الأنصاري. * * *

233 - وقال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "فليستنثر"، أي: فليخرِجْ نَفَسَه من أنفه عند الاستنشاق حتى يخرجَ ما فيه من المخاط والتغيُّر. قوله: "استجمر"، أي: استنجى بالجَمْرَة، وهي الحجر. "فليوتر"، أي: فليستنجِ وِتْرًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، (أوتر): إذا جعل الشيء وِتْرًا. * * * 234 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ الخَلاءَ, فأَحمِلُ أنا وغُلامٌ إداوَةً مِنْ ماءٍ وَعَنَزَةً، يستنجي بالماءِ. قوله: "يدخل الخلاء"، (الخلاء) بالمدِّ: الموضعُ الَّذي يقضي الإنسانُ فيه حاجتَه. "فأحمل أنا وغلام"، يعني: أحملُ أنا الإداوةَ، والغلامُ العَنَزَة، أو أحملُ أنا العَنَزَة، والغلامُ الإداوةَ. (الإداوة): ظَرفٌ من جِلْدٍ يتوضَّأُ منه. العَنَزَةُ بفتح العين والنون: رمحٌ قصيرٌ، وإنما يَحْمِلُ العَنَزَة معه؛ ليحفر الأرضَ، ويُليِّنَ التراب؛ ليبولَ في موضعٍ لَيِّن، كيلا يصيبَه الرَّشَاش. * * * مِنَ الحِسَان: 235 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ الخلاءَ نزَعَ خاتَمَهُ. غريب.

(من الحسان): قوله: "نزع خاتمه"، أي: أخرجَ خاتمه من إصبَعه قبلَ دخوله الخَلاء؛ لأن اسمَ الله مكتوبٌ عليه. * * * 236 - وقال جابر - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ البَرَازَ انطلقَ حتَّى لا يراهُ أَحَدٌ. قوله: "إذا أراد البَراز"، (البَراز) بفتح الباء: الذهابُ إلى قضاء الحاجة. "انطلق"، أي: ذهبَ، يعني: إذا أراد الخروج إلى قضاءِ الحاجة في الصحراء أَبْعَدَ في المشي، حتى وصل إلى موضعٍ لا يراه أحدٌ، ثم يجلس. * * * 237 - وقال أبو موسى: كنتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ، فأرادَ أنْ يبولَ، فأتى دَمْثًا في أصلِ جِدارٍ فبالَ، ثم قال: "إذا أرادَ أحدُكُمْ أنْ يبولَ فليرتَدْ لبَولِهِ". قوله: "ذات يوم"، أي: يومًا، و (الذات): زيادة. "فأتى دَمِثًا" الدَّمِثُ: الموضع اللَّيِّن، يعني: جلس في موضعٍ لَيِّنٍ في أصل جدار، فبال، ولم يجلِسْ في موضعٍ صُلْبٍ كيلا يصيبَه الرَّشَاش، وذلك الجدار لم يكن ملكًا لأحد، بل كان عاديًّا؛ أي: كان للكفار الماضية، وإنما لا يجوزُ أن يكونَ مُلْكَ مُسلِمٍ؛ لأن البولَ يَضُرُّ الجدارَ؛ لأن البولَ مالحٌ يجعلُ الترابَ سَبِخًا، ويجعله خَرِبًا، ولا يجوز الإضرارُ بملك المسلم من غير إذن مالكه.

قوله: "فليرتَدْ لبوله"، ارتاد يرتادُ: إذا طلبَ، وهو افتعالٌ مِن رادَ يَرُودُ رَوْدًا: إذا طلب، يعني: ليطلبْ موضعًا ليِّنًا للبَوْل، كيلا يرجعَ إليه الرَّشَاش. * * * 238 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ الحاجةَ لمْ يَرْفعْ ثوبَهُ حتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرضِ. قوله: "إذا أراد الحاجة"، يعني: إذا أراد قضاءَ الحاجة لم يكشِفْ عورتَه، حتى يقرُبَ من الأرض، ويستوي فيها الصحراءُ والبنيان؛ لأن رَفْعَ الثوبِ كَشْفٌ للعورة، وكشفُ العورة لا يجوزُ في الخَلْوة والصحراء، إلا عند الحاجة والضرورة. ولا ضرورةَ في رَفْع الثوب قبل أنَّ يقرُبَ من الأرض عند الجلوس لقضاء الحاجة. * * * 239 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما أنا لَكُمْ مِثْلُ الوالِدِ، فإذا ذَهَبَ أحدُكُمْ إلى الغائِطِ فلا يستقبِلَ القِبْلَةَ، ولا يَسْتَدْبِرْها لغائطٍ ولا لِبَوْلٍ، ولْيستنْج بِثلاثةِ أحجارٍ"، ونهى عَنِ الرَّوْثِ والرِّمَّةِ، وأنْ يستنجِيَ الرَّجُلَ بيمينِهِ. فوله: "إنَّما أنا لكم مثلُ الوالد"، يعني: أنا لكم مثلُ الأبِ في الشفقة والرحمة، وتعليمِكم الخير، وما فيه صلاحُ دينكم ودنياكم. ويحتمل أنه إنما قال هذا؛ ليحصلَ بينهم وبينه انبساطٌ، ويرتفعَ عنهم الحياءُ الذي يمنعُهم عن سؤال المسائل الدينية. قوله: "ونهى عن الرَّوْثِ والرِّمَّة"، (الروث): السِّرْجِينُ، و (الرِّمَّة) بتشديد

الميم: العظم البالي، والمراد بالرِّمَّةِ هنا: مطلَقُ العَظْمِ باليًا أو غير بالٍ، يعني: نهاهم عن الاستنجاء بشيءٍ نَجِسٍ، وبالعَظْم. * * * 240 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَتْ يدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - اليُمنى لطُهورِهِ وطَعامِهِ، وكانتْ يدُهُ اليُسْرى لخلائِهِ وما كانَ مِنْ أذَى. قوله: "كانت يدُ رسول الله - عليه السلام - اليمنى"، يعني يستعملُ رسولُ الله يدَه اليمنى فيما لا خِسَّةَ فيه؛ كالوضوء والأكل والشرب وغير ذلك، ويَستعملُ يدَه اليسرى فيما فيه خِسَّةٌ كالاستنجاء وغَسْلِ النجاسة وغَسْلِ القدمين، وغيرِ ذلك. والمراد بقولها: "وما كان من أذى"، ما كان فيه خِسَّةٌ كما قلنا. * * * 241 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذهبَ أحدُكُمْ إلى الغائطِ فليذْهَبْ معَهُ بثلاثةِ أحجارٍ يَسْتَطِيب بهنَّ، فإنَّها تُجْزِئُ عنْهُ". قوله: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط"، (الغائط): الموضعُ المنخفِض، والمراد منه هنا: الخلاءُ، سمِّيَ الخلاءُ غائطًا لأنَّ عادةَ أهل الصَّحَارى قضاءُ حوائجهم من التغوُّطِ في الموضع المنخفِضِ كيلا يراهم أحد، والغائطُ أيضًا: الحَدَث. أطلقوا اسمَ الموضع المنخفض - وهو الغائط - على الحدث الَّذي يخرجُ منهم في ذلك الموضع، والباء في "بثلاثة أحجار" للتعدية، يعني: فليأخذْ بثلاثة أحجار.

"يستطيب بهن"، أي: يستنجي بهن، "فإنها"، أي: فإن الأحجار الثلاثة "تجزئ"، أي: تكفي عنه؛ أي: عن الاستنجاء، ولا حاجةَ له إلى الاستنجاء بالماء. * * * 242 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْتَنْجُوا بالرَّوْثِ ولا بالعِظامِ، فإنَّها زادُ إخوانِكُمْ مِنَ الجنِّ"، رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -. قوله: "لا تستنجوا بالرَّوْث ولا بالعظام، فإنه زادُ إخوانكم"، (الرَّوْثُ): السِّرْجِينُ، وشرح هذا الحديث يُعلَمُ من حديثٍ آخرَ. وهو: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - روى: أن جماعةً من الجِنِّ أتوا رسول الله عليه السلام، وقالوا: يا رسول الله! اِنْهَ أمتَك أنَّ يستَنْجُوا بالرَّوْث والعَظْم والحُمَمة، فإن الله جعل لنا فيها رزقًا، فنهى النبي - عليه السلام - عن الاستنجاء بها. فقد وجدنا في "دلائل النبوة" التي صنفها الحافظ أبو نعيم رحمة الله عليه: أن الجنَّ قالوا لرسول الله - عليه السلام - ليلةَ الجن: أعطِنا هديةً، فقال رسول الله عليه السلام: "أعطيتُكم العَظْم والرَّوْث". فإذا وجد الجِنُّ عظمًا أو روثًا جُعِلَ العَظْمُ كأنْ لم يؤكلْ منه لحم، فيأكلُه الجِنُّ، وجُعِلَ الرَّوْثُ شعيرًا إن كانت تلك الدابة أَكَلَتِ الشعير، وتِبنًا إن أكلت التِّبن، وغير ذلك من العَلَف، فَيعْلِفون دوابَّهم، وذلك معجزة رسول الله عليه السلام. وهذا إذا لم يستنجِ أحدٌ بالعظم والرَّوْث، وأما إذا استنجى به أحدٌ لم يكن للجِنِّ فيهما نَفْعٌ. والحُمَمَةُ - بضم الحاء -: الفَحْم. * * *

243 - وقال رُوَيْفِع بن ثابت - رضي الله عنه -: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رُوَيْفِعُ! لعلَّ الحياةَ ستطولُ بكَ بعدي، فأخبِر النَّاسَ أنَّ مَنْ عَقدَ لحيتَهُ، أو تَقَلَّدَ وَتَرًا، أو استنجى برجيعِ دابَّةٍ أو عظمٍ فإن محمدًا منه بَرِيءٌ". قوله: "لعل الحياةَ ستطولُ بك بعدي"، يعني: لعلَّكَ تعيش بعدي مدة، فأخبر الناسَ أنَّ من فعل شيئًا من هذه الأشياء. "فأنا منه بريء"، لأنه فعل فِعلًا لم آمرْه به، وليس من سُنَّتي، وهذا تهديدٌ ومبالغةٌ في الزَّجْر عن فِعْلِ هذه الأشياء. "من عَقَدَ لحيتَه"، كان عادة العرب في الجاهلية وفي الأعاجم أيضًا: أنهم يَعْقِدُون اللِّحيةَ في الحرب، وبعضهم يَلْوِي لِحْيَتَه ويجعلُه جَعْدًا. فنهى النبي - عليه السلام - أمتَه من هذه؛ لأن هذا تغييرُ خَلْقِ الله، وأَمَرَهم باستعمالِ المِشْط، وإصلاحِ الشَّعْر للزينة؛ لأن الإنسانَ ينبغي أن يكونَ حَسَنَ الصُّورة. قوله: "أو تقلَّد وَتَرًا"، كان عادةُ أهلِ الجاهليةِ: أنهم يَجعلونَ في رِقابِ دوابِّهم الوَتَرَ، وَيزْعُمون أنَّ الوَتَرَ يدفعُ العَين، ويحفظ من الآفات، فنهى النبي - عليه السلام - أمتَه عن هذا؛ لأنه لم يدفعْ شيءٌ الآفةَ سوى الله وكلامِه، كما جاء في (باب الرقية بكلام الله). ويحتمل أن يريد بالنهي عن تقليد الوَتَر: الاحترازَ عن اختناقِ الدابة بالوَتَر؛ أي: يَعْصِرُ الوَتَرُ عنقَها فتموتُ. ويحتمل أن يريد بتقليد الوَتَر: ما يَجعلُ جماعة من القَلَنْدَرِيَّة في أعناقهم من الحَلْقة والخيوط، فإن هذا تغييرُ خلقِ الله بما لم يأتِ به الشَّرْع. (الرجيع): السِّرْجِينُ.

"رُوَيْفع بن ثابث" بن سكن بن عدي بن حارثة الأنصاري. * * * 244 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اكْتَحَلَ فليُوْتِرْ، مَنْ فَعَلَ فقدْ أَحسنَ، وَمَنْ لا فلا حَرَجَ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فليُوتِرْ، مَنْ فعلَ فقدْ أحسنَ ومَنْ لا فلا حرجَ، ومَنْ أكلَ فما تخلَّلَ فليلفِظْ، وما لاكَ بلسانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ، مَنْ فعلَ فقدْ أحسنَ، وَمَنْ لا فلا حَرَجَ، ومَنْ أتَى الغائِطَ فليستَتِرْ، فإنْ لم يَجِدْ إلَّا أنْ يجمَعَ كَثيبًا مِنْ رَمْلٍ فليستدْبِرْهُ، فإنَّ الشَّيطانَ يلعبُ بمَقاعِدِ بني آدمَ، مَنْ فَعَلَ فقدْ أحسَنَ، ومَنْ لا فَلَا حرجَ". قوله: "من اكتحل فليوتر"، أي: من جعل الكُحْلَ في عينيه، فليكنْ عددُ الأميال وِتْرًا، في كل عين ثلاثة أميال أو خمسة، ولو جعل في كلِّ عينٍ ميلًا واحدًا جاز. قوله: "من فعل فقد أحسن"، يعني: فقد أحسَن بأن أطاعني، وأتى سنتي، ومن لا فلا حرَج؛ أي: ومن لم يفعلْ وِتْرًا، بل فعل شَفْعًا في كلِّ عينٍ ميلين فلا إثمَ عليه؛ لأن الإيتار ليس بواجب. قوله: "ومن استجمر فليوتر"، ذُكِرَ معنى هذا، وقولُه عقيبَ هذا: "من فعل فقد أحسن"؛ أي: ومن استنجى وِتْرًا فقد أحسنَ بأن أطاعني وأتى سنتي، ومَنْ لا فلا حَرَجَ؛ أي: ومن لم يستنجِ وِتْرًا فلا خرَجَ عليه؛ لأن الإيتارَ سُنَّةٌ، وليس بواجب. هذا فيما زاد على الثلاث إذا لم يحصُلِ النَّقاء بالثلاث؛ لزمَه الزيادةُ على الثلاث، ثم إن حصل النَّقاء بالشفع فهو مخيَّرٌ بين أن يقتصرَ على الشفع، وبين أنَّ يزيدَ عليه، حتى يختم بالوتر، فأما إذا حصلَ بحجر أو بحجرين، فهل

يلزمه الثلاث أم لا؟. فيه خلافٌ بين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله، وقد ذكر في أول هذا الباب. قوله: "فما تخلَّلَ"، أي: فما أخرجَها بالخِلَال من بين أسنانِه. "فليلفظه"، أي: فليُسْقِطْه؛ لأنه ربما يخرج معه دَمٌ؛ لأن الخِلَال قد يجرَحُ بين الأسنان. "وما لاك بلسانه"، أي: ما أخرجَه بلسانه مِن بينِ أسنانه. "فليبتلِعْ"، أي: فليأكلْه؛ لأنه لا يخرجُ معه دمٌ؛ لأن اللسان لَيِّنٌ لا يَجْرَحُ ما بين الأسنان. لاك يلوك لوكًا: إذا مضغ. "من فعلَ فقد أحسن"، يعني: من فعل هذه السنةَ فقد أحسن، ومن لم يفعلها بأنْ أكلَ ما أخرجه بالخِلَال، فلا حرجَ عليه؛ لأنه لم يتيقَّنْ خروجَ الدَّمِ معه، وإن تيقَّنَ خروجَ الدَّمِ يَحْرُمْ أكلُه؛ لأن الدَّمَ حرامٌ بالإجماع. قوله: "فإن لم يَجدْ إلا أنَّ يَجْمَعَ كَثِيبًا"، (الكثيب): الرملُ المجتمعُ، يعني: فإن لم يَجِدْ سُتْرةً، فليجمَعْ من التراب والرمل قَدْرًا كثيرًا ويَقْعُدْ وراءه، كيلا يراه أحد. قوله: "فإن الشيطانَ يلْعَبُ بمقاعِدِ بني آدم"، يعني: فإن الشيطانَ يَحْضُرُ الرَّجُلَ إذا قضى حاجتَه؛ لأنَّ الرجلَ في هذا الوقت لا يَذْكُرُ الله، فإذا خلا الرَّجُلُ مِن ذِكْرِ الله يَحْضُرُه الشيطانُ، ويأمره بالسوء، فكذلك عند قضاء الحاجة يأمرُه بكَشفِ العَوْرة، وفي البول في الموضع الصُّلْب، ومستقبل الرِّيح؛ ليصيبَه رَشَاشُ البول، فكلُّ ذلك لَعِبُ الشيطان ببني آدم، فأمَر النبيُّ أمتَه بستْرِ العورة، ومخالفة الشيطان.

قوله عقيب هذا: "من فعل فقد أحسن"، يعني: من جمع كثيبًا من رَمْلٍ، وقعد خلفَه؛ فقد أحسنَ بإتيان السنة، ومن لم يجمعْ كثيبًا، بل قعدَ في الصحراء من غير سَتْرٍ فلا حَرَجَ؛ لأن الستر عند قضاء الحاجة في الصحراء غيرُ واجبٍ إذا لم يَرَه أحدٌ. * * * 245 - وقال: "لا يبُولَنَّ أحدُكُمْ في مُسْتَحَمِّهِ، ثمَّ يغتسلُ فيهِ أو يتوضأُ فيه؛ فإن عامَّةَ الوسْواسِ مِنْهُ"، رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -. قوله: "في مُسْتَحَمِّه"، (المُسْتَحَمُّ): موضِعُ الاستحمام، وهو الاغتسال بالحَمِيم، وهو الماءُ الحَارُّ، ويقال لكلِّ موضعِ يُغْتَسلُ فيه: مُسْتَحَمٌّ، وإن لم يَكُنْ الماءُ الَّذي يَغْتَسِلُ به حارًا. قوله: "فإن عامَّةَ الوَسْوَاس" تحصُلُ من البول في المُسْتَحَمِّ لأنه يصيرُ ذلك الموضعُ نَجِسًا، فيصيبُه منه رَشَاشٌ، ويقع في قلبه وسوسةٌ بأنه: هل أصابه منه رشاش أم لا؟. فإن كان الموضعُ نَجِسًا بسببٍ آخرَ يكون الاغتسالُ فيه مَنْهيًّا أيضًا. "عبد الله بن مُغَفَّل" - بالغين المعجمة وبالفاء - ابن عبد غُنْم بن عفيفِ بن أَسْحَم. * * * 246 - وقال: "لا يَبُولَنَّ أحدُكُمْ في جُحْرٍ"، رواه عبد الله بن سَرْجِس - رضي الله عنه -. قوله: "في جُحْرٍ"، (الجُحْر): الثُّقْبة في الأرض، وعِلَّةُ النهي من البول في الجُحْرِ: موضعُ الهَوَامِّ، وربما يصيبُ البولُ شيئًا من الهَوَامِّ فتموتُ، كالنَّمْلة

والدُّوْد الضعيف، وربما تقصِدُه حيةٌ أو عقربٌ فيلدغُه، وربما يصيب الجِنَّ، فيقتلُه الجِنُّ من الغَضَب، كما قتلَ الجِنُّ سعدَ بن عُبادة حين بال في جحر، فهتفَ هاتفٌ فقرأ هذا الشعَر: نَحْن قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْرَجِ سَعْدَ بن عُبَاده فرَمَيْناهُ بسَهْمَينِ ولم نُخْطِي فؤادَهْ فإذا كان كذلك فالاحترازُ عن البَوْل في الجُحْر سنةٌ مؤكدة. طلبنا في كتب معرفة الصحابة، ولم نجد اسمَ جَدَّ "عبد الله بن سَرْجِس". * * * 247 - وقال: "اتَّقُوا المَلَاعِنِ الثلاثة: البَرَازَ في المَوارِدِ، وقارِعَةِ الطريقِ، والظِّلِّ"، رواه مُعاذ - رضي الله عنه -. قوله: "اتقوا الملاعن"، (المَلاعِنُ): جمع مَلْعَن، وهو مصدرٌ ميمي، أو مكان، من (لَعَنَ) إذا شتم، يعني: احذروا قضاء الحاجة في هذه المواضع؛ لأنها مواضع اللعنة. يعني: يقولُ مَن رأى بولَه أو غائطَه في هذه المواضع: لعنَ الله مَنْ فَعلَ هذا. البَرَازُ: التَّغوُّط. "الموارد": جمع مَوْرِد، وهو الموضع الذي يأتيه الناسُ من رأسِ عينٍ أو نهر؛ لشرب الماء والتوضُّؤ، و"قارعة الطريق": الطريق الواسع الذي يقرَعُه الناسُ بأرجلِهم؛ أي: يدقُّونه، ويَمُرُّون عليه. * * * 248 - وقال: "لا يَخْرُجِ الرجُلانِ يضرِبان الغائطَ كاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا

يتحدَّثَانِ، فإنَّ الله يمقُتُ على ذلك"، رواه أبو سعيد - رضي الله عنه -. قوله: "لا يَخْرُجِ الرجلان"، بكسر الجيم؛ لأنه كان مجزومًا؛ لأن (لا) للنهي، فكُسِرَت الجيمُ لالتقاء الساكنين. "يضربان الغائطَ"، أي: يمشيان إلى قضاء الحاجة. (الضَّرْبُ): المشي. "يَمْقُتُ"، أي: يَغْضَبُ، يعني: لا يجوز أن يجلسَ الرجلان على قضاء الحاجة، ويكشفان عورتهما، وينظرُ كل واحد منهما إلى عورةِ صاحبهِ ويتحدَّثان. * * * 249 - وقال: "إنَّ الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فإذا دخل أحدُكُمْ الخلاءَ فَلْيَقُلْ: أعوذُ بالله مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ"، رواه زيد بن أرقَم - رضي الله عنه -. قوله: "إن الحشوش"، (الحُشُوش): جمع حُشٍّ، وهو الخَلَاء، الحُشُّ في الأصل: جماعةٌ من النَّخْلِ، سُمِّيَ الخَلَاء حُشًّا؛ لأن العرب كانوا يتغوَّطُون بين النَّخِيل، فسمِّيَ كلُّ موضعٍ يَقضِي فيه الإنسانُ حاجتَه بهذا الاعتبار. "محتضَرة"، أي: موضعُ حُضُورِ الجِنِّ والشياطين. وشرح هذا الحديث في الحديث الذي بعد هذا. "زيد بن أرقم" بن زيد بن قيس الأنصاري. * * * 250 - وقال: "سِتْرُ ما بينَ أَعيُنِ الجنِّ وعَوْرَاتِ بني آدمَ إذا دَخَلَ أحدُهُمْ الخلاءَ أنَّ يقولَ: بِسْم الله"، رواه علي - رضي الله عنه -. غريب. قوله: "سِتْرُ ما بين أعينِ الجنِّ ... " إلى آخره.

يعني: إذا دخل الإنسان الخَلاءَ، وكشفَ عورتَه نظرَ إليه الجِنُّ والشياطين، وربما يؤذيه، ويَلْحَقُه ضررٌ، هذا إذا لم يقل: (بسم الله) عند دخول الخلاء، فأما إذا قال: (بسم الله) جعلَ الله بينه وبين أعينِ الجِنِّ والشياطينِ حجابًا، حتى لم يرَه ببركة (بسم الله). * * * 251 - وقالت عائشة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خرجَ مِنَ الخَلاءِ قال: "غُفْرَانَكَ". قوله: "غفرانك"، (الغفرانُ): مصدرٌ كالمغفرة، وانتصابُه بفعلٍ مقدَّر؛ أي: أسأل غفرانَك، وفي عِلَّة تلفُّظه - عليه السلام - بهذا اللفظ عقيبَ خروجه من الخلاء وجهان: أحدهما: أنه استغفر على خلوِّه من ذكر الله في الوقت الذي كان في الخلاء. والثاني: أنه استغفر عن التقصير في أداء شُكْر نِعَمِ الله تعالى؛ فإنه تعالى رزقَ الطعامَ، وجعلَه هَضْمًا في البطن، وأبقى في الجسد ما كان سببَ قوةِ الجسمِ ونَفْعِه، وأخرجَ ما كان يؤذي الإنسانَ لو لم يخرجْ، فمن يطيقُ القيامَ بشكرِ هذه النِّعَم. * * * 252 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخَلاءَ أتيتُهُ بماءٍ في تَوْرٍ أو رَكوَةٍ فاستَنْجَى، ثمَّ مسحَ يدَهُ على الأرضِ، ثمَّ أَتَيْتُهُ بإِناءٍ آخرَ فتوضَّأ. قوله: "في تَوْرٍ"، (التَّوْرُ): ظَرْفٌ يُشْبهُ إِجَّانَةً يُتَوَضَّأُ منه، ويؤكَلُ منه الطعام.

(الرَّكْوَة): ظرفٌ من جِلْدٍ يُتَوضَّأُ منه، و (أو) في قوله: "أو رَكْوَةٍ"، لأحد الشيئين، يعني: تارةً أتيتُه بماء في تَوْرٍ، وتارةً في رَكْوَةٍ. ويحتمل أن تكون للشك ممن يروي عن أبي هريرة، يعني: شكَّ أنه سمع؛ أي: أبا هريرة: أنه قال: (في تور) أو قال: (في ركوة). قوله: "ثم مسح يده على الأرض"، هذا يدلُّ على أن مسح اليد على الأرض بعد الاستنجاء سُنةٌ؛ لإزالة الرائحةِ من اليد. "ثم أتيته بإناء آخر"، لأنه لم يبقَ من الأول شيءٌ، أو بقيَ شيءٌ قليلٌ لا يكفيه. * * * 253 - وعن الحكَم بن سُفيان الثَّقَفي: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بالَ توضَّأَ، ونَضَحَ فَرْجَهُ. قوله: "ونضح فرجه" النَّضْحُ: رشُّ الماءِ على موضع، يعني: إذا بال واستنجى رشَّ فرجَه بكفِ ماءٍ إما لدفع نزولِ البَوْلِ وقَطْعِه؛ لأن الماء يقبِضُ البولَ ويحْبِسُه، وإما لدفع الوَسْوَسة؛ فإن الرجل إذا لم ينضحْ بالماء فرجَه، ووجدَ بعد ذلك بلَلًا بين رجليه يظن أنَّه خرجَ منه بولٌ، واذا نضحَ فرجَه فإذا وجد بللًا يعلمُ أنَّه بللُ الماء، فلا يقعُ في الوَسْوَسة. وقيل: المرادُ بنضح فرجِه هنا: الاستنجاءُ. وقيل: سفيانُ بن الحَكَم لا حَكَمُ بن سفيان، وهو من أهل الكوفة، ولم يَرْوِ غيرَ هذا الحديث. * * *

254 - عن أُمَيْمَة بنت رُقَيْقَة قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدَحٌ مِنْ عَيْدانٍ تحتَ سريرِهِ يَبُولُ فيهِ باللَّيْلِ. قولها: "من عَيدان"، العَيْدان: جمعُ عُوْد، وهو الخشب، هذا يدلُّ على أن الرجلَ إذا كانت نجاسةٌ في ناحية بيته، وهو يصلي أو يقرأ القرآن أو يذكرُ في ناحية أخرى = يجوز، وكذلك لو صلى على سرير أو سجادة تحتَه نجسٌ يجوزُ؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - كانَ قدحُ البولِ تحتَ سريرِه، وهو على السرير، والغالبُ أنه - عليه السلام - لا يخلو في الليل من الصلاة، وقراءةِ القرآن والذِّكْر. * * * 255 - وقال عمر - رضي الله عنه -: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبولُ قائمًا، فقالَ: "يا عُمَرُ! لا تَبُلْ قائمًا". قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه -: قد صحَّ. قوله: "رآني رسول الله عليه السلام ... " إلى آخره. وعِلَّةُ النهي عن البول قائمًا: أنه تبدو عورتُه بحيثُ يراه الناس من بعيد، وأيضًا لا يأمَنُ من رجوع البولِ إليه، وهذا نهيُ تنزيهٍ لا نهيُ تحريم. * * * 256 - عن حُذَيْفَة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى سُباطَةَ قومٍ، فبالَ قائمًا. قيل: كان ذلك لعُذرٍ به، والله أعلم. قوله: "سُباطة قوم"، (السُّبَاطَةُ) بضم السين: الموضعُ الَّذي يُلقَى فيه الترابُ المُخْرجُ من البيوتِ، والنَّجَاساتُ.

4 - باب السواك

يعني: قال الشيخ: بينَ نَهْيِ عمرَ عن البول قائمًا، وبين بوله - عليه السلام - قائمًا تناقضٌ في الظاهر، ولكن ليس في الحقيقة بينهما تناقضٌ؛ لأن النبي - عليه السلام - بال قائمًا لعذر، وبولُ عمرَ لم يكن بعذر، وعذرُ النبي عليه السلام قيل: كان لجراحة تحت رُكْبته من جانب عَقِبه، فلم يمكنْه الجلوسُ، أو لأنه لم يمكنه الجلوسُ في السباطة؛ لأن السباطةَ يكون أعلاه مرتفعًا، فلو جلسَ مستدبرَ الناس سقط عن خلفه، ويرجعُ عليه البولُ، ولو جلسَ مستقبلَ الناس تبدو عورتُه لهم، فلأجل هذا بال قائمًا. فإن قيل: لمَ لم يؤخر البول إلى موضمع آخر؟. قلنا: لأن تأخير البول مُضِرٌّ. "حذيفة": اسم أبيه حِسلٌ، وقيل: حُسَيل، ابن جابر بن عمرو بن ربيعة اليماني. * * * 4 - باب السِّواكِ (باب السواك) مِنَ الصِّحَاحِ: 257 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهُمْ بتأخِيرِ العِشاءِ، وبالسِّواكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ". قوله: "لولا أن أشق"، (شَقَّ): إذا وضعَ المشقَّةَ والثِّقَلِ على أحد.

"لأمرتهم"، أي: لفرضتُ عليهم تأخيرَ صلاة العشاء، يعني: لولا أن تلحقَ لأمتي مشقةٌ بأن أفرِضَ عليسم تأخيرَ صلاة العشاءِ والسواكَ عند كل صلاة؛ لفرضْتُ عليهم من غاية فضيلتهما، ولكن لم أفرضْ عليهم، بل جعلتهما سُنَّتين. * * * 258 - عن المِقْدامِ بن شُرَيح، عن أبيه: أنَّه قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها: بأيِّ شيءٍ كانَ يبدأُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ بيتَهُ؟ قالت: بالسِّواكِ. قولهما: "بالسواك": "وإنما استاكَ رسولُ الله إذا دَخَل بيتَه": لأن الغالب أنَّه لا يتكلَّمُ في الطريق من المسجد إلى بيته، أو مِن موضعٍ آخرَ إلى بيته، والفمُ يتغيَّرُ بعدم التكلُّم، فإذا دخلَ بيتَه ابتدأَ بالسِّواكِ لإزالة التغير، وهذا تعليمٌ منه أُمَّتَه بأن الرجلَ إذا أرادَ التكلمَ مع أحدٍ فالمستحبُّ استعمالُ السواك؛ لطيبِ رائحةِ فمه؛ كيلا يتأذَّى أحدٌ من ريحِ فمه. واسم جد "مقدام": هانئ بن يزيد بن كعب الحارثي. * * * 259 - وقال حُذَيْفَة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ للتهجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ بالسِّواكِ. قوله: "للتهجد"، أي: لصلاة الليل. "يشوص"، أي: يغسل، "فاه": أي: فمَه. * * *

260 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشارِبِ، وإعفاءُ اللِّحْيَةِ، والسِّواكُ، واستِنْشَاقُ الماءِ، وقَصُّ الأظْفَارِ، وغَسْلُ البَرَاجِمِ، ونَتْفُ الإِبِطِ، وحَلْقُ العَانَةِ، وانْتِقَاصُ الماءِ - يعني: الاسْتِنْجَاء -". قال الراوي: ونسيتُ العاشرةَ إلَّا أنْ تكونَ المَضْمَضَةَ. وفي روايةٍ: "الخِتانِ" بدل: "إعفاءِ اللِّحْيَةِ". قوله: "عشرٌ من الفِطْرة"، أي: عشر خصال من السنة والإسلام. قوله: "إعفاءُ اللِّحْية"، (الإعفاءُ): الإكثار والتوفير، يعني: تركُ اللحية بحالها، ولا يقصُّها، كعادة بعض الكفار والقَلَنْدَرِيَّة. قوله: "واستنشاقُ الماء"، أي: جعلُ الماء في الأنف في الوضوء. قوله: "قَصُّ الأظفار"، و (القَصُّ): القَطْعُ؛ أي: قَلْمُ الأظفار. قوله: "وغَسْلُ البَرَاجِم"، (البراجم): جمع بُرْجُمة - بضم الباء والجيم - وهي مِفْصَلُ الإصبَع، والمراد منه ها هنا: خطوطُ الكَفِّ. وإنما أمر النبي عليه السلام وبالغ في غَسْلها؛ لأنه يبقى الوسَخُ بينهما، فلو لم يغسِلْها يغلظُ ويشتدُّ الوسخُ فيها فلا يصلُ الماءُ إلى تحتها، وحينئذ لا يصحُّ الوضوءُ والغسل. (النتف): القَلْعُ. قوله: "انتقاصُ الماء"، هذا كناية عن الاستنجاء؛ لأن الرجلَ إذا أراقَ الماءَ في الاستنجاء ينقصُ الماء. وقيل: أراد بانتقاص الماء: تنقيصُ البولِ وقطعُه بغَسْلِ الذَّكَر؛ لأن الماء ينقصُ ويقبِضُ البولَ، فعلى هذا أراد بالماءِ البَوْلَ.

قوله: "إلا أن تكون المضمضةَ"، يعني: لا أظنُّ العاشِرَ إلا المضمضةَ؛ لأن المضمضةَ والاستنشاقَ قد يكونان معًا في الذِّكْر في أكثرِ المواضع، فإذا ذكر ها هنا الاستنشاقُ، فالظاهر أن المضمضة قد كانت مذكورةً، ولكن نسيتها. * * * مِنَ الحِسَان: 261 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السِّواكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ مَرْضاةٌ للرَّبِّ". قوله: من الحسان: "السِّواكُ مَطْهَرةٌ للفم، مَرْضَاةٌ للرب"، المَطْهَرَةُ: بمعنى الطهارة، وهي مَفْعَلَة، وهي مصدر ميمي والمَصْدَرُ يُستعمَلُ بمعنى الفاعل والمفعول. ويحتمل ها هنا أن يكون بمعنى الفاعل؛ أي: مُطَهِّرٌ للفم. (المَرْضَاةُ) ها هنا: يجوز أن تكون بمعنى الفاعل؛ أي: مُرضٍ، ومحصِّلٌ لرضا الله، ويجوز أن تكون بمعنى المفعول؛ أي: مَرْضِيٌّ للرب. * * * 262 - وقال: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ: الحياءُ، والتَّعَطُّرُ، والسِّواكُ، والنِّكاحُ" - ويُروى: "الخِتان" -، رواه أبو أيوب. قوله: "أربعٌ من سنن المرسلين"، أي: أربعُ خِصال من سننِ الأنبياء. "الحَيَاءُ"، في هذا اللفظ ثلاث روايات: أحدها: (الحياء) بالحاء غير المعجمة وبالياء؛ يعني به: الحياء الَّذي يكون من الدَّين كسَتْر العَوْرة وتركِ الفواحش وغيرِ ذلك، لا الحياء الجِبِلِّي، فإن جميعَ الناس في الحياء الجِبِلِّي مشترِكٌ، وقد ذكر شرح هذا في قوله:

"الحياء شعبة من الإيمان". والرواية الثانية: (الختان) بالخاء المعجمة وبالتاء، وهو سنَّةُ الأنبياء من زمن إبراهيم - عليه السلام - إلى زماننا. واختُلِفَ في أنَّه سنةٌ في ديننا أو فَرْض؟ فعند الشافعي: فرضٌ، وعند أبي حنيفة: سنة. روي: أنه وُلِدَ أربعةَ عشرَ نبيًا مختونًا: آدمُ وشيثٌ ونوحٌ وهودٌ وصالحٌ ولوطٌ وشُعَيبٌ ويوسفُ وموسى وسليمانُ وزكريا وعيسى وحنظلةُ بن صفوان، وهو نبي أصحاب الرَّسَّ، ونبينا محمد صلوات الله عليهم أجمعين. والرواية الثالثة: "الحِنَّاء" بالحاء غير المعجمة وبنون مشدَّدة: وهو ما يُخضَبُ به، وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها تصحيف؛ لأن الحِنَّاء يحرمُ الخضابُ به في اليد والرِّجْلِ في حقِّ الرجال؛ لأن فيه تشبيهًا بالنساء، وأما خِضابُ الشَّعْر به فلم يكن قبل نبيِّنا هذا، بل صار سنةً مِن فِعْلِ نبينا، أو أمره به - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان كذلك، فكيف يكونُ من سُنَن المرسلين؟!! * * * 263 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ ولا نَهارٍ فيستَيْقِظُ، إلَّا يتَسوَّكُ قبلَ أَنْ يتوضَّأْ. قوله: "لا يَرْقُدُ"، أي: لا ينام. "فيَسْتَيقِظُ"، أي: فينتبه من النوم. "يَتَسوَّك"، أي: يستعمل السِّواك، وإنما يتسوَّكُ بعد اليقظة من النوم؛ لإزالة تغيُّر الفم الذي حصَلَ بالنوم؛ لتكون رائحةُ فمِه طيبةً إذا ذَكَرَ الله، أو قرأَ القرآن، أو تكلمَ مع أحدٍ من الملك والإنس، وكذلك لتفعلَ أمتُه اقتداءً

5 - باب سنن الوضوء

بسنته عليه السلام. قولها: "يستاك": استاك وتسوَّك وسوَّك بمعنًى واحد. * * * 264 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستاكُ، فيُعطيني السِّواكَ لأغسِلَهُ، فأبْدَأُ بِهِ فأستاكُ، ثمَّ أغسِلُهُ، وأدفَعُهُ إليه. قولها: "لأغْسِلَه"، هذا دليلٌ على أنَّ غَسْلَ المِسْواكِ سنةٌ بعد التسوُّكِ، والمِسواك مِفْعَال بمعنى الآلة؛ لأنه آلة التسويك، والتسويك: الترديدُ، والمراد ها هنا: ترديد خَشَبٍ، أو خِرْقَةٍ، أو إصبَعٍ في الفم؛ لإزالة الرائحةِ الكريهة. قولها: "فأبدأ به"، يعني: فأبدأ باستعماله في فمي قبل الغَسْل؛ لينالني بركةُ فمِ رسول الله، وهذا دليلٌ على أن الاستعمال بمسواكِ الغير غيرُ مكروهٍ بشرْطِ أن يكونَ بإذن صاحبه؛ لأن استعمالَ مالِ الغيرِ لا يجوزُ بغير إذنِ مالكِه. وعائشةُ رضيَ الله عنها إنما فعلتْ هذا للانبساط الذي يكون بين الزوجة وزوجها. * * * 5 - باب سُنن الوُضوء (باب سنن الوضوء) مِنَ الصِّحَاحِ: 265 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استَيقظَ أحدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فلا يغمِسْ يدَهُ في الإِناءَ حتَّى يغسِلَهَا ثلاثًا، فإِنَّهُ لا يدري أينَ باتتْ يدُهُ".

قوله: "باب سنن الوضوء"، ليس مرادُه بسنن الوضوء ذِكْرَ السُّنَنِ في هذا الباب دون الفرائض، بل يذكر السُّنَنَ والفرائض جميعًا في هذا الباب، وإنما مراده: بيانُ أفعال رسول الله - عليه السلام - في الوضوء من الفرائض والسنن. ويقال لأفعال رسول الله وأقوالهِ: سُننٌ، فرضًا كان أو سنة، وقولهم: جاء في السنة كذا؛ أي: في الحديث كذا. "فلا يَغْمِسْ"، أي: فلا يُدْخِلْ يده في ماء الإناء، وهذا نهيُ تنزيهٍ لا نهيُ تحريم، بل لو أدخلَ يدَه في الإناء ولم يتيقَّنْ نجاسةَ يدِه لا يصير الماء نَجِسًا. قوله: "لا يدري أين باتت يده؟ "، باتَ الرجلُ: إذا أقام في الليل بمكانٍ، أو فعل فِعلًا في الليل، يعني: لا يدري أين وصلت يده؟ لعلَّ يدَه وصلتْ إلى نجاسةٍ وهو نائم أو يقظانْ، ولكن يَنْسَى ذلك إذا انتبهَ من النوم، مثل أن يقتُلَ الرجلُ بُرْغُوثًا أو قَمْلًا بيده، أو مسَّ رَأْسَ ذَكَرِه، وكان رَأْسُ ذَكَرِه نَجِسًا بخروج مَذْيٍ، أو استنجى بالحَجَر، وعَرِقَ ووصَلَتْ يدُه إلى رأس ذَكَرِه أو دُبُرِه في حال الرطوبة. * * * 266 - وقال: "إذا استيقظَ أحدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فتوضَّأَ فلْيَسْتَنْثِر ثلاثًا، فإنَّ الشيطانَ يَبيتُ على خَيْشومِه"، رواه أبو هريرة. قوله: "فليستنثر"، أي: فليغسِلْ داخلَ أنفه. "فإن الشيطان يبيت على خيشومه"، (الخيشوم): باطنُ الأنفِ، يعني: إذا كان الرجلُ يقظانَ يوسوسه الشيطانُ، ويأمره بالسوء من كلِّ طريق، ويوقعُ في قلبه الوَسْوَسة، فإذا نام الرجلُ عَلِمَ الشيطانُ أنه لا يمكنه وسوسةٌ؛ لأنه زالَ بالنوم إحساسُه، ورُفِعَ عنه بالنوم قَلَمُ التكليف، فيبيت الشيطان في داخل أنفه؛

ليلقيَ في دماغه الرؤيا الفاسدة، ويمنعَه عن الرؤيا الصالحة؛ لأن محلَّ الرؤيا الدماغ، وكثيرٌ من الناس قد يَضِلُّ ويقعُ في الفتنة بالرؤيا الفاسدة، مثل أن يريَه الشيطان ويقول له: إنك نبيٌّ، أو إنك وليٌّ، أو أمرَه بشيءٍ لم يكن شرعيًا، أو نهاه عن شيءٍ هو شرعي. فأمر النبي - عليه السلام - أمتَه أنَّ يغسِلُوا داخلَ أنوفهم؛ لإزالة لَوْثِ الشيطان ونَتْنهِ منها، وطريقُ دفع الرؤيا الفاسدة أن يضطجع الرجل بالوضوء على جنبه الأيمن، ويذكرَ اسم الله تعالى، ويقرأَ القرآن حتى يدركَه النوم، فإذا نام كذلك لا يقربُه الشيطانُ حتى يستيقظ. * * * 267 - وقيل لعبد الله بن زَيد بن عاصِم: كيفَ كانَ يتوضَّأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بوَضُوءٍ، فأفرغَ على يدِهِ اليُمْنَى، فغسَلَ يدَيْهِ مرَّتين مرتين، ثم مَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثلاثًا، ثمَّ غَسلَ وجهَهُ ثلاثًا، ثمَّ غَسلَ يديهِ مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ثمَّ مسَحَ رأسَهُ بِيَدَيْهِ، فأقبَلَ بهما وأدبَرَ، بدأ بمُقدَّمِ رَأْسِهِ ثمَّ ذهبَ بهما إلى قَفَاهُ، ثمَّ ردَّهُمَا حتى رجعَ إلى المكانِ الذي بدأَ منهُ، ثم غَسلَ رِجلَيْهِ، وفي روايةٍ: فمضمَض واستنشَقَ ثلاثًا بثلاثِ غَرَفَاتٍ مِنْ ماء، وفي روايةٍ: مضمَضَ واستنشقَ مِنْ كفٍّ واحدةٍ، فعلَ ذلكَ ثلاثًا، وقال: مسحَ رأسَهُ فأقبلَ بهما وأدبرَ مرةً واحدةً، ثُمَّ غَسلَ رِجلَيْهِ إلى الكَعْبَيْنِ، وفي روايةٍ: فمَضْمضَ واسْتَنْثَرَ ثلاثَ مرَّاتٍ مِنْ غرفةٍ واحدةٍ. قوله: "فدعا بوَضوء"، الوَضُوء بفتح الواو: الماءُ الذي يُتوضَّأُ به. "أَفْرَغَ"، أي: صبَّ الماءَ. "فأَقبلَ بهما وأَدْبَرَ"، أي: وضع كفيه وأصابعَه عند جبهته، وأمرَّهما على رأسه حتى وصل إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى وصل إلى جبهته.

الغَرَفَات: جمع غَرْفَة، والغَرْفَة بفتح الغين: مصدرٌ بمعنى مرة واحدة مِن (غَرَفَ) إذا أخذ الماءَ بالكفِّ. والغُرْفَةُ بضم الغَين: الاسمُ، وهي ملء كفٍّ من الماء. قوله: "تمَضْمَضَ واستنشَقَ ثلاثًا"، بثلاث غَرَفَات، يعني: أخذ غَرْفَةً، وجعلَ بعضَه في فمه، وبعضَه في أنفه، وكذلك فعلَ في الغَرْفَة الثانية والثالثة. قوله: "فمَضْمَضَ واستنشقَ من كفٍّ واحدةٍ ففعلَ ذلك ثلاثًا"، يعني: أخذ غَرْفةً واحدةً، وجعل بعضَه في فمه، وبعضَه في أنفه، ثم جعلَ ثانيًا وثالثًا، كلُّ ذلك من كفٍّ واحدة، والرواية التي بعدَ هذا مثلُ هذا، إلا أنهما اختلفا في اللفظ. "عبد الله بن زيد بن عاصم" بن كعب بن عوف الأنصاري. * * * 268 - رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: توضَّأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةً. 269 - وعن عبد الله بن زيد: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ مرَّتينِ مرَّتين. 270 - وروي عن عثمان - رضي الله عنه -: أنَّهُ توضَّأَ ثلاثًا ثلاثًا. قوله: "مَرَّةً مَرَّةً"، يعني: غَسَلَ كلَّ عُضْوٍ مَرَّةً واحدةً، ومَسَحَ برأسه مَرَّةً واحدة، هذا هو أقلُّ الوضوء، والمرَّتان أفضلُ، والثلاث هو الأكمل، وقد فعل رسول الله كلَّ ذلك؛ ليبيَّنَ لأمته؛ أنَّ: جميعَ ذلك جائز، فمَنْ فعلَ الأكملَ يكونُ ثوابُه أكثرَ. * * *

271 - وقال عبد الله بن عمرو: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قومًا توضَّؤُوا وأعقابُهُمْ تَلُوحُ لم يمسَّهَا الماءُ فقال: "ويلٌ للأَعقابِ مِنَ النَّارِ، أَسبِغُوا الوُضُوء". قوله: "وأَعْقابُهُم تَلُوحُ"، الواو في (وأعقابهم) للحال. والأعقاب: جمع عَقِب، وهو خَلْف القدم. (تلوح)؛ أي: تظهرُ يُبُوسَتُها، لم يصلْ إليها الماء. "فقال رسول الله عليه السلام: ويلٌ للأعقابِ من النَّار"، يعني: تصلُ النارُ المواضعَ التي لم يَصِلْ إليها الماءُ من مواضعِ الوضوءِ إذا كان إيصالُ الماءِ إليها فَرْضًا. "أسبِغُوا"، أي؛ أَتِمُّوا. * * * 272 - وقال المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، فمَسحَ بناصيَتِهِ وعلى عِمَامَتِهِ وخُفَّيْهِ. قوله: "فمسحَ بناصِيِتهِ"، اعلم أن مسحَ جميعِ الرأس فرضٌ عند مالك، بدليل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. وعند أبي حنيفة: مسحُ قَدْرِ الناصيةِ فرضٌ بدليل هذا الحديث. وعند الشافعي: فلو مسحَ على ثلاث شعرات، وفي قولٍ: على شَعْرَةٍ واحدة لأَجزَأَهُ؛ لأن الباءَ في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض، والقليلُ بعضٌ كالكثير. وإنما مسح رسول الله عليه السلام على العِمَامة؛ لتكميلِ المَسْح، فكما أن المَسْحَ على الخُفَّين يقومُ مَقامَ غَسْل الرجلين، فكذلك المسحُ على العِمامة يقوم مَقام

المسحِ على الرأس في تكميل المَسْح، لا في قَدْرِ الفَرْض؛ لأن مَسْحَ الرأسِ بقدْرِ الفَرْضِ سهلٌ لا مشقةَ في كشفه من العِمَامة، بخلافِ كشف الرِّجْلِ من الخُفِّ. "المغيرة بن شعبة" بن أبي عامر بن مسعود بن معتب الثقفي. * * * 273 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّ التَّيَمُّنَ ما استطاعَ في شأْنِهِ كُلِّهِ: في طُهُورِهِ، وتَرَجُّلِهِ، وتَنَعُّلِهِ. قوله: "يُحبُّ التيمُّنَ"، (التيمُّنُ): الابتداء باليمنى. "في شَأْنه"، أي؛ في أمره، (الشأن): الأمر. "في طُهُوره"، أي: في وضوئه، يعني: يغسِلُ أولًا يدَه اليمنى ورجلَه اليمنى قبل اليسرى. "وتَرَجُّلِه"، (التَّرَجُّلُ): امتشاطُ الرأس، وهو استعمالُ المِشْطِ في الرأس، يعني: يتمشَّطُ الجانبَ الأيمنَ من رأسه قبل اليسار. و (التَّنَعُّلُ): لُبْسُ النَّعْلَين، يعني: يدخل رِجْلَه اليمنى في النَّعْلِ قَبْلَ اليُسْرى. * * * مِنَ الحِسَان: 274 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لَبِسْتُمْ وإذا توضَّأْتُمْ فابْدَؤُا بأَيمانكم". قوله: "فابدَؤُوا بأيامِنِكُم"، (الأَيامِنُ): جمع الأيمن، وهو بمعنى اليمين، والمَيامِنُ: جمع المَيْمَن، وهو بمعنى اليمين أيضًا، وفي رواية: "ميامنكم". * * *

275 - وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسمَ الله عليهِ". قوله: "لا وضوءَ"، يعني: لا وضوءَ كاملًا لمن لم يَذْكُرِ اسمَ الله عند التوضُّؤ، و (لا) لنفي الكمال عند أكثرِ العلماء. وقال بعضهم: بَطَلَ وضوؤُه. وقال إسحاق بن رَاهَوَيه: إنَّ مَنْ تَرَك التسميةَ عامدًا بطلَ وضوؤه، وإن تركَها ناسيًا لم يَبْطُلْ. وأبو "نفيل": عبد العُزَّى القرشي. * * * 276 - وقال لَقيط بن صَبِرة: قلت: يا رسولَ الله! أخبِرْنِي عن الوُضُوءِ، قال: "أسْبغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بينَ الأَصابعِ، وبالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلَّا أن تكونَ صائمًا". قوله: "أَسْبغِ الوُضوءَ"، فإن قيل: هذا الجواب لا يناسِبُ ظاهرَ السؤال؛ لأنه - عليه السلام - لم يعلِّمْه كيفيةَ التوضُّؤ، وهو سأل عن الوُضوء؟. الجواب: أنه سألَ عن بعض سُنَن الوضوء أو كمالِه لا عن أصلِ الوضوء، فإنه يعرِفُ الوضوء. وقوله: "ثم أَسْبَغِ الوُضوءَ"، يعني: لا تتركْ شيئًا من فرائضه وسُننه، وتخليلُ الأصابعِ سُنَّةٌ، إن وصل الماءُ بين الأصابع عند غَسْلِ الرِّجْلَين، وإن لم يصل فتخليلُها واجبٌ، والمبالغةُ في الوضوء سنة، وهو أن يوصِلَ الماءَ في المضمضة إلى الحَلْق، وفي الاستنشاق إلى باطن الأنف، ويجرَّه إلى أقصى الأنف، إلا أن يكون صائمًا فلا يبالغ كيلا يصلَ الماءُ في بطنه، ويبطل صومه.

"لَقِيط بن صَبرة"، وقيل: بل: لَقِيطُ بن عامر بن صَبرة بن عبد الله بن المُنْتَفِق. * * * 278 - وقال المُسْتَوْرِدُ بن شدَّاد: رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأَ يَدْلُكُ أصابعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ. قوله: "يَدْلُكُ أصابعَ رِجْلَيه"، أي: يُخَلِّلُها. "بخِنْصَره"، أي: بخِنْصَرِه اليسرى. فالسُّنَّةُ تخليلُ الأصابعِ بخِنْصَر اليدِ اليسرى، يبدأ برجلِه اليمنى من الخِنْصَر إلى الإبهام، وبرِجْلِه اليسرى من الإبهام إلى الخِنْصَر. المُسْتَوْرِد بن شدَّاد بن عُمَر الفِهْري القرشي. * * * 279 - وقال أنس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ أخذَ كفًّا مِنْ ماءٍ فأَدخَلَهُ تحتَ حَنَكِهِ، فخلَّلَ بِهِ لحيتَهُ، وقال: "هكذا أمرَنِي ربِّي". قوله: "تحت حَنَكِه"، أي: تحتَ لِحْيته، يعني: إذا غسلَ وجهَه أخذَ كَفَّ ماء، وخلَّل به شعر لحيتهِ من جانب حَلقه؛ ليصلَ الماءُ إلى كل جانبٍ من اللحية، ويفعل هذا وقتَ غَسْلِ وجهه؛ لأنه من كمال غَسْلِ الوجْهِ، لا بعد الفراغ من الوضوء كما ظنه قومٌ. * * * 280 - وعن عثمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُخلِّلُ لِحْيَتَهُ.

قوله: "عن عثمان ... " إلى آخره، معناه ظاهر. * * * 281 - عن أبي حَيَّة - رضي الله عنه - قال: رأيتُ عليًّا - رضي الله عنه - توضَّأَ فغسلَ كفَّيْهِ حتَّى أنقاهُما، ثمَّ مَضْمَضَ ثلاثًا، واستنشَقَ ثلاثًا، وغسلَ وجهَهُ ثلاثًا، وذِرَاعَيْهِ ثلاثًا، ومسحَ برأْسِهِ مَرَّةً، ثمَّ غسلَ قَدَمَيْهِ إلى الكعبَيْنِ، ثمَّ قامَ، فأخذَ فَضْلَ طَهُورِهِ فشَرِبَهُ وهو قائمٌ، ثم قال: أَحبَبْتُ أنْ أُرِيَكُمْ كيفَ كانَ طُهُورُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُروى: فمضمضَ واستنْشَقَ ونَثَرَ بيَدِهِ اليُسرى، فعلَ ذلك ثلاثًا، ويُروى: ثم تضمضَ واستنْشَقَ بكفٍّ واحدةٍ ثلاثَ مرات. قوله: "حتى أنقاهما"، أي: حتى أزال الوَسَخ من كفيه. (الإنقاء): التطهير. "وذراعيه"، يعني: ويديه من رؤوس الأصابع إلى المِرْفَقين. "فَضْلَ طَهُورِه"، بفتح الطاء، يعني: بقية الماء الذي توضَّأَ به، وعِلَّةُ شُرْبِ فَضْل الطَّهُور: أنه ما يُؤَدَّى منه عبادة، وهي الوضوء، فيكونُ فيه بركةٌ، وما فيه بركةٌ يَحْسُنُ شُرْبُه، وأما شُرْبُه من القيام قد يكون لتعليم الناسِ أن الشُّرْبَ قائمًا جائزٌ وليس بحرام. وقد جاء أحاديثُ تدلُّ على نَهْيِ الشُّرْب من القيام. ويأتي بحث هذا في بابه إن شاء الله تعالى. "كيف كان طُهُوُر رسولِ الله عليه السلام"، بضم الطاء: وهو التوضُّؤ. و"أبو حية" بالياء المنقوطة بنقطتين من تحتُ، وهو ابن قيس الوَدَاعِيُّ الهَمْدَانيُّ، الهَمْدان: اسم قبيلةٍ من اليمن. * * *

283 - عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسحَ برأسِهِ وأُذُنَيْهِ باطِنِهِمَا بالسَّبَّابَتَيْنِ، وظاهِرِهما بإبهامَيْهِ. قوله: "باطِنِهما بالسَّبَّابتين"، باطنُ الأذن: الطرفُ الذي فيه الثُّقْبة، وظاهره: الطَّرَفُ الذي يَلِي الرَّأْسَ. و (السَّبَّابتين): بمعنى المُسَبِّحَتَين. عند الشافعي - رضي الله عنه -: يمسَحُ الأذن بماءٍ جديدٍ، لا بالماء الذي مَسَحَ به الرأسَ. وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه -: يمسحُ الأذنين مع الرأس بماءٍ واحد. * * * 284 - وعن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ: أنَّها رأَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتوَضَّأُ، قالت: ومسَحَ رأْسَهُ ما أقبلَ مِنْهُ وما أدْبَرَ، وصُدْغَيْهِ، وأُذُنَيْهِ مَرَّةً واحِدةً، وقالت: وأَدخلَ أُصْبُعَيْهِ في جُحْرَيْ أُذُنَيْهِ. قوله: "وصُدْغَيه"، (الصُّدْغُ): الشَّعْرُ الذي بين الأذن وبين الناصية من كلِّ جانبٍ من جانبي الرأس، (جُحْرُ) الأذنِ وصماخُه: ثُقْبةٌ مفتوحة إلى الدماغ. "الرُّبَيِّع بنت معوذ" بن الحارث بن رِفَاعة بن النَّجَّار. * * * 285 - وعن عبد الله بن زَيد: أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، وأنَّه مسحَ رأسَهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ. قوله: "بماء غيرِ فَضْلِ يديه"، يعني: مسحَ رأسَه بماءٍ جديد، لا بالماءِ الذي بقيَ على يديه من غَسْلِ اليدين؛ لأن ذلك الماء مستعمَلٌ. وهذا الحديث منقول في "صحيح المسلم"، فينبغي أن يكون من الصحاح،

فلعلَّ المصنف - رحمه الله - لم يشعرْ كونَه في صحيح مسلم، ووجده في "صحيح الترمذي" فجعله من الحِسَان. واعلم أن عبد الله بن زيد حيث أتى ذكرُه في كتاب "المصابيح" فهو: عبد الله بن زيد بن عاصم، إلا في (حديث الأذان)؛ فإنه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخَزْرَجِي. * * * 286 - عن أبي أُمامة، ذكرَ وُضوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ المَأْقَيْن، قال: وقال: "الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأسِ"، وقيل: هذا من قول أبي أُمامة. قوله: "يمسح المَأْقَيْنِ"، (المَأْقُ): طَرَفُ العَيْنِ من جانب الأيمن، يعني: ذكرَ صفة وضوء رسول الله عليه السلام، وذكرَ من جملتها أنه - عليه السلام - يمسَحُ المَأْقين؛ أي: ينقِّيهما ويغسِلُها من الغَمَص، وهو قُبْح العين. قوله: "قال: الأذنان من الرأس"، يعني: قال أبو أُمَامة: إن رسول الله - عليه السلام - قال: "الأذنان من الرأس"، يعني: يجوز مسحُ الأذنين مع مسح الرأس بماءٍ واحد، وهو مذهبُ أبي حنيفة ومالك وأحمد - رضي الله عنهم -. وقال الشافعي: تُمسَحُ الأذنان بماء جديد، لا بالماء الذي مُسِحَ به الرأسُ. * * * 287 - وعن عمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده: أنَّ أعرابيًّا سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوُضُوءِ، فأَراهُ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوُضُوءُ، فمنْ زادَ على هذا فقدْ أَساءَ وتعدَّى وظلَمَ". قوله: "أراه" الوضوء.

"ثلاثًا ثلاثًا"، يعني: غسلَ كلَّ عضوٍ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء بترْكِ الأدب بمخالفة رسول الله عليه السلام. "وتعدَّى"، أي: جاوز الحد المحدود، وهو التوضؤ ثلاثًا ثلاثًا. "وظلم"، أي: وظلمَ نفسَه لمخالفةِ رسول الله عليه السلام، أو لأنه أتعبَ نفسَه فيما زاد على الثلاث من غير حُصُولِ ثوابٍ له، أو لأنه أتلفَ الماءَ بلا فائدة. * * * 288 - عن عبد الله بن المُغَفَّل - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ ابنهُ يقولُ: اللهمَّ إنَّي أسألُكَ القَصْرَ الأبيضَ عَنْ يمينِ الجنَّةِ، قال: أيْ بنيَّ، سَلِ الله الجنَّةَ، وتعوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فإنَّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه سيكونُ في هذه الأُمَّةِ قوْمٌ يعتدونَ في الطُّهُورِ والدُّعاءِ". قوله: "يَعْتَدُونَ في الدُّعاء والطَّهور"، معنى الحديث: أن ابن عبدِ الله بن مُغَفَّل بلغَه أنَّ عن يمين الجنةِ قصرًا أبيضَ فقال: اللهم إني أسألك القصرَ الأبيض، فقال له أبوه: أيْ بني! يعني: يا بني، لا تسألْ شيئًا معيَّنًا من الجنة؛ لأنه ربما يكونُ ذلك الشيءُ مقدَّرًا في تقدير الله لشخصٍ مُعيَّن غيرِك، فحينئذ سألتَ ما ليس لك، ومن سأل شيئًا ليس له فقد تعدَّى في الدعاء؛ لأنه طلبَ شيئًا ليس له، ومن سألَ شيئًا أكثرَ من قَدْره، أو سألَ شيئًا ليس له إليه حاجةٌ فقد تعدَّى في الدعاء. وأما التعدِّي في الطَّهور: فهو أن يغسِلَ الأعضاءَ أكثرَ من ثلاثِ مرَّات، أو أسرفَ في إراقةِ الماءِ في الاستنجاء والوضوء والغُسْل. * * *

289 - وعن أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ للوُضُوءِ شيطانًا يُقالُ له: الوَلْهَانُ، فاتَّقُوا وَسْوَاسَ الماءِ" ضعيف. قوله: "يقال له: الوَلْهَان"، بفتح الواو واللام: مصدر من وَلِهَ - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر -: إذا تحيَّرَ من غاية العِشْقِ بشيءٍ، يعني: وكَّلَ إبليسُ شيطانًا بإيقاع الوسوسة في الوضوء، يقول للمتوضِّيء: لم يَصِل الماءُ إلى هذا العُضْو، زدْ مرةً أُخرى، حتى يحملَه على غَسْلِ الأعضاء أربعَ مرات وأكثر؛ ليوقعَه في البدعة؛ لأن استعمالَ الماءِ أكثرَ من ثلاث مراتٍ بدعةٌ، فأمر النبي - عليه السلام - أمتَه أن يحذَرُوا من الوَسْوَسة والإسرافِ في استعمال الماء. وسمِّيَ هذا الشيطان وَلْهانًا؛ لإلقاء الناس في التحيُّر حتى لم يعلموا هل وصل الماء في أعضاء الوضوء والغسل، أو لم يصل؟ وهل غسل مرة أو مرتين أو ثلاثًا أو أكثر؟ كنية "أُبَيِّ بن كعب": أبو المنذر، وجدُّه: قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية ابن عمرو. * * * 290 - عن مُعاذ بن جَبلٍ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأَ مسحَ وجهَهُ بطَرَفِ ثَوْبِهِ. غريب. قوله: "مسح وجهه بطرف ثوبه"، يعني: نَشَّفَ أعضاءَه بعد الوضوء، وفي تنشيف الأعضاء بعد الوضوء وجهان: أحدهما: أن السنة ألاَّ يُنشِّفَ أعضاءَه بعد الوضوء؛ لحديث ميمونة في (باب الغسل). والثاني: أن السنة أن ينشِّفَ الأعضاءَ بدليل هذا الحديث، والذي بعدَه.

6 - باب الغسل

وروي عن عائشة: أنها كانت للنبي - عليه السلام - خِرقةٌ ينشِّفُ بها أعضاءَه. * * * 291 - ورُوي عن عائشة رضي الله عنها: أنَّها قالت: كانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بها بعدَ الوُضُوءِ، وهو ضعيف. قولها: "يُنَشِّفُ بها بعد الوضوء"، أي: ينشِّفُ بها أعضاءَه، والله أعلم. * * * 6 - باب الغُسْل (باب الغسل) مِنَ الصِّحَاحِ: 292 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلسَ أحدُكُمْ بينَ شُعَبِهَا الأربَعِ، ثم جهدَهَا فقدْ وجبَ الغُسْلُ وإنْ لم يُنْزِل". قال الشيخ الإمام رحمه الله: وما رُوي: قوله: "بين شُعَبِها الأربع"، (الشُّعَبُ): جمع شُعْبَة، وهي الغُصْنُ من الشجرة. قيل: أراد بشُعَبها الأربع: يديها ورجليها، وقيل: رجليها وطرفي فَرْجِها. "ثم جَهَدَها"، أي: ثم جامعَها. قال ابن الأعرابي: جَهَدَ الرجلُ امرأتَه: إذا جامعَها، والأصحُّ أن الجَهْدَ:

هو الجِدُّ والمبالغة في الأمر، وكل ذلك كنايةٌ عن المجامعة. فعبر رسول الله - عليه السلام - عن المجامَعة بالكناية؛ لأن الكنايةَ في مثل هذه الأشياء أفصحُ؛ لأن المقصودَ منه معلومٌ، يعني: إذا التقى الختانان وجبَ الغسل وإن لم يُنْزِلِ المَنِيَّ. * * * 293 - عن أبي سعيد الخُدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ"، منسوخ. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ" في الاحْتِلاَمِ. قوله: "الماءُ من الماءِ"، أي: استعمالُ الماءِ في الغُسْل يجبُ بخروج الماءِ الذي هو مَنِيٌّ من الذَّكَر، يعني: لو جامع ولم ينزل المَنِيَّ لم يَجِبِ الغُسْلُ. وهذا منسوخٌ بالحديث الذي قبلَ هذا، وربما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (إذا التقى الختانان وجبَ الغُسْلُ، فعلتُ أنا ورسولُ الله فاغتسلْنا). قوله: "إنما الماءُ من الماءِ في الاحتلام"، يعني: هذا الحديث الذي هو: "إنما الماء من الماء" منسوخٌ في المجامَعة، ولكن معمولٌ به في النَّوْم، فإن رأى في النوم أنه يجامعُ امرأةً، ثم استيقظَ ورأى المَنِيَّ وجبَ عليه الغُسْلُ، وإن لم يرَ المَنِيَّ لم يجبْ عليه الغُسْلُ. * * * 294 - وقالت أُمُّ سُلَيْم: يا رسولَ الله! إنَّ الله لا يَسْتَحْيي مِنَ الحقِّ، فهلْ على المرأةِ مِنْ غُسْلٍ إذا احتَلَمَتْ؟ قال: "نَعَمْ، إذا رأَتِ الماءَ"، فغطَّتْ أُمُّ

سَلَمَة وَجْهَهَا وقالت: يا رسولَ الله! أوتَحْتَلِمُ المرأةُ؟ قال: "نعم، تَرِبَتْ يَمينُكِ فبمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُها؟ إنَّ ماءَ الرَّجلِ غليظٌ أبيضُ، وماءَ المرأةِ رقيقٌ أصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِما عَلاَ وسبقَ يكونُ منهُ الشَّبَهُ". قولها: "إن الله لا يستَحْيِي من الحق"، يعني: أنا أيضًا لا أستحيي من سؤالٍ هو حق. "فغطَّت أمُّ سلمةَ"، أي: سترتْ وجهَها استحياءً مما سألتْ أمُّ سُلَيم: أوتحتلم المرأة؟ وتقديره: أتحتلم المرأة ويكون لها مَنِيٌّ، ويخرجُ مَنِيُّها كالرجل؟ "تَرِبَتْ يمينُكِ"، هذا دعاءٌ لا يرادُ وقوعُه، بل يقال عند ذَمِّ أحدٍ على قولٍ أو فِعْلٍ، وقد يقال للتلطُّف، ومعنى (تَرِبَتْ يمينُكِ): أي: صِرتِ خائبةً خاسرةً، ومثله: بيدك الترابُ. قوله: "فبم يشبِهُها ولدُها؟ "؛ يعني: قد يشبه الولد الأم، فإن لم يكن لها مَنِيٌّ لم يشبهها؛ لأن المشابهةَ إنما تكونُ إذا كان الولدُ جزءًا منها. قوله: "فمن أيِّهما علا"، يعني: إذا كان وقوعُ مَنيِّهما في الرَّحمِ معًا فأيُّهما يكون مَنِيُّه أعلى من مَنِيِّ صاحبه يكون شَبَهُ الولدِ به أكثرَ. قوله: "أو سبق"، يعني: إن وقع مَنِيُّ أحدهما في الرَّحِمِ قبلَ صاحبِه يكون شَبَهُ الولدِ بمن سبقَ منيُّه أكثرَ. اسم أبي "أم سليم": زيد بن خالد بن زيد، ولم يعرَفْ لها اسم. * * * 295 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنابَةِ بدأَ فغسَلَ يَدَيْهِ، ثمَّ توضَّأَ كما يتوضَّأُ للصلاةِ، ثمَّ يُدخِلُ أصابِعَهُ في

الماءِ فيُخَلِّلُ بها أُصولَ شعرِهِ، ثمَّ يَصُبُّ على رأْسِهِ ثلاثَ غَرَفَاتٍ بيدَيْهِ، ثمَّ يُفيضُ الماءَ على جِلْدِهِ كُلِّه، ويُروى: يبدأُ فيغسِلُ يدَيْهِ قبلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا الإِناءَ، ثمَّ يُفْرغ بيميِنهِ على شمالِهِ، فيغسِلُ فرجَهُ، ثمَّ يتوضَّأُ. قولها: "فغسَلَ يديه"؛ أي: كفَّيه. "يُفِيضُ"، أي: يَصُبُّ، ويروى: "يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفْرِغُ"، أفرغ يُفْرِغُ: إذا صَبَّ. * * * 296 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: قالت مَيْمُونة رضي الله عنها: وضعتُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غُسْلًا فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ، وَصَبَّ على يَدَيْهِ فَغَسَلَهُما، ثُمَّ أَدْخَل يَمينَهُ في الإِناءِ، فَأَفْرَغَ بها على فَرْجِهِ، ثم غَسَلَهُ بِشمَالِهِ، ثمَّ ضربَ بشِمالِهِ الأرضَ، فدلَكَها دَلْكًا شديدًا، ثم غسلَهَا، فمضمضَ واستنْشَقَ، وغسلَ وجهَهُ وذِرَاعَيْهِ، ثم أَفْرَغَ على رأْسِهِ ثلاث حَفَنَاتٍ مِلءَ كَفَّيهِ، ثمَّ غسلَ سائرَ جسدِهِ، ثم تَنَحَّى فغَسَلَ قَدَميْهِ، فناولْتُهُ ثوبًا فلم يأخُذْهُ، فانطلقَ وهو يَنْفُضُ يَدَيْهِ. قولها: "وضعتُ للنبيِّ - عليه السلام - غُسْلًا"، الغُسْلُ بضم العين: الماءُ الذي يُغْتَسل به، والغِسْل بكسر الغين: ما يغسَلُ به الرأسُ من الطِّيب، والخِطْمِيِّ. وقولها: "وضعت للنبي - عليه السلام - غُسْلًا"، يعني: وضعتُ ماءً ليغتسلَ به، فسترتُه بثوبٍ، أو ضربتُ له سِترًا يغتسلُ وراءَه كيلا يراه أحدٌ. "فدَلَكَها"، أي: مسحَ يدَه على الأرض لكي تزولَ منها الرائحةُ الكريهةُ. (الحَفَنَات): جمع حَفْنة، وهي ملء الكفَّين من الماء وغيره. وقولها: "مِلْء كَفَّيه"، هذا تأكيدٌ للحَفَنات.

"تَنَحَّى"، أي: تباعَدَ من ذلك الموضِع. قولها: "ثم تنحَّى فغسل قدميه"، يعني: لم يغسِلْ قدميه حين توضَّأَ، بل أَخَّر غَسْلَهما إلى آخرِ الغسل. وفي الحديث المتقدِّم قولُ عائشة: "يتوضَّأ كما يتوضَّأُ للصلاة" يدلُّ على أنه - عليه السلام - غسلَ قدميه حين توضَّأ؛ لأن الوضوءَ إنما يكون كما يتوضَّأُ للصلاة إذا غسلَ القدمين، فيجوز في الغسل أن يغسِلَ القدمين عند الوضوء، وأن يؤخِّرَهما إلى آخرِ الغسل بدليل هذين الحديثين. "فناولتُه"، أي: أعطيتُه. قولها: "فلم يأخذه"، أي: فلم يأخذ الثوبَ. ذكر في "شرح السنة": أنه إنما لم يأخذ الثوبَ؛ للاحتراز من تنشيف الأعضاء، فتَرْكُ التنشيفِ سُنَّةٌ. "فانطلق"، أي: فمشى، "وهو ينفضُ يديه"، (النَّفْضُ): التحريكُ، يعني: يحرِّكُ يديه في المشي كما هو عادةُ من له رجوليةٌ وقوةٌ، فإن صاحبَ الشوكةِ والقوةِ يحرِّك يديه في المشي، وليس معناه نفضَ اليدين لإزالة ما على يديه من الماء؛ لأن نَفْضَ اليدِ في الوضوء والغُسْل مكروهٌ. وقيل: بل المراد منه: نفضُ اليدين؛ لإزالة الماء المستعمَلِ عنه؛ فعند هذا التأويل لا يكون نفضُ اليد في الوضوء والغُسْل مكروهًا. اسم أبي "ميمونة": الحارث بن حَزْن بن بُجَيْر بن الهُزَم بن رُويَبْة بن عبد الله. * * * 297 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ امرأةً سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن غُسْلِها مِنَ المَحيضِ، فأمَرَهَا كيفَ تغتَسِلُ، ثمَّ قال: "خُذِي فِرْصةً مِنْ مِسْكٍ فتطهَّري

بها"، قالت: كيفَ أتطهَّرُ بها؟ قال: "سُبحانَ الله! تطهرِّي بها"، قالت: كيفَ أتطهَّرُ بها؟ فَاجْتَذَبْتُهَا إليَّ فقلتُ: تتَبَّعي بها أثرَ الدمِ. قولها: "من المَحِيض"، (المحيضُ): الحَيْضُ. "فأمرها كيف تغتسل"، يعني: أمرَها أن تغتسلَ كما تغتسلُ من الجَنَابة. "الفِرْصَةُ" - بكسر الفاء وبالصاد غير المعجمة -: قطعةٌ من قطنٍ، أو خِرْقةٌ. قوله: "من مِسْكٍ"، (من) تبيينٌ لشيءٍ مقدَّرٍ؛ أي: فِرْصَةٌ مطيَّبةٌ من مِسْك. وقيل: لا يقالُ (فِرْصةَ) إلا إذا كانت مطيَّبةً، فعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقال: فِرْصة مطيَّبة. قوله: "فتَطَهَّرِي"، أي: فتطيَّبي بها، فاستعملي بها في المواضع التي أصابها دم الحيض حتى يصير مطيَّبًا. "فاجْتَذَبْتُها إليَّ"، أي: قَرَّبْتُها إلى نفسي، وقلتُ لها سرًا: "تَتَبَّعي بها"، أي: اتَّبعِيها واستعملِيها في الفَرْج، وحيثُ أصابه الدَّمُ. * * * 298 - وقالت أم سَلَمَة: قلت: يا رسول الله! إنِّي امرأةٌ أشُدُّ ضَفْرَ رأْسي، أفأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الجَنابَةِ؟ فقال: "لا، إنَّما يكفيكِ أنْ تَحْثِي على رأْسِكِ ثلاثَ حَثَيَاتٍ، ثمَّ تُفيضينَ علَيْكِ الماءَ فَتَطْهُرين". قولها: "أَشُدُّ" - بفتح الهمزة وضم الشين -: مضارعُ متكلِّمٍ مِنْ: شدَّ الضُّفْرَ: نَسَجَ شَعْرَ الرأسِ وجعلَه ذُؤَابةً، و (الضفيرةُ): الذُّؤَابةُ، يعني: أجعلُ

نَسْجَ شَعْرِ رأسي شديدًا، أفأنقضُه وأُفرِّقُه للغسل أم لا؟ "أن تَحْثِي"، أصله: تَحْثِينَ، فسقطت النون للنصب، و (الحَثْيُ): التفريقُ وصبُّ الماء. "ثلاث حَثَيَات"، أي: ثلاثَ مرات؛ أي: تصبِّي على رأسك ثلاثَ مرَّاتٍ، إما بالكفِّ أو بظَرْفٍ، وليس المرادُ من ثلاث حَثَياتٍ الحصرُ بثلاثٍ بحيثُ لا يجوزُ أقلُّ منه أو أكثر، بل المراد منه: إيصالُ الماء إلى الشعر، فإنْ وصلَ الماءُ إلى الشعر، وإلى باطنِ الشعرِ؛ وظاهرِه بمرة واحدةٍ يكونُ الثلاث سُنَّةً، وإن لم يصل بثلاثٍ تكونُ الزيادةُ عليها واجبةً، حتى يصلَ الماءُ إلى ظاهرِه وباطنه. قوله: "ثم تفِيضِينَ"، أي: تصبِّين على سائر أعضائك فتطهُرين؛ أي: فتصيرين بعد إيصال الماء إلى جميع أعضائك طاهرةً. ونقضُ الضفائر عند إبراهيمَ النَّخَعي واجبٌ سواء وصلَ الماء إلى باطنها أو لم يصِلْ. وعند الشافعي: إن وصل لم يجب، وإن لم يصل واجب. وعند أبي حنيفة: وجب إيصالُ الماء إلى أصول ضفائر النساء، فإذا وصل الماءُ إلى أصولها لا يجبُ أن يصلَ الماء إلى باطن الشعر المضفور. وأما في الرجال: يجبُ إيصالُ الماء إلى ظاهرِ شعرهم المضفورِ، وباطنه عند أبي حنيفة أيضًا. * * * 299 - وقال أنسٌ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ بالمُدِّ، ويغتَسِلُ بالصَّاع إلى خَمْسَةِ أَمدادٍ.

قوله: "يتوضَّأُ بالمُد"، (المُدُّ): رَطْلٌ وثلث رطلٍ بالبغدادي، و (الصاع): أربعة أمداد. * * * 300 - وعن مُعاذةَ رضي الله عنها قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: كُنْتُ أغتسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إناءٍ واحدٍ بيني وبَيْنَهُ، فيبادِرُني، فأقول: دَعْ لي، دع لي، قالت: وهُما جُنُبان. قولها: "بيني وبينه"، أي: موضعُ ذلك الإناء بيني وبينه، وهو واسعُ الرأس، نجعلُ أيدينا ونأخذَ الماء. "فيبادرني"، أي: فيسبِقُني، ويأخذُ قبلي. "دع لي"، أي: اترك الماءَ لي. وهذا الحديث يدلُّ على أن الماء الذي غَمَسَ فيه الجنُب يدَه طاهرٌ مُطهَّر، سواءٌ فيه الرجلُ والمرأة. "معاذة" اسم أبيها: عبد الله، مولاة عبدِ الله بن أُبَيٍّ ابن سَلُول. * * * مِنَ الحِسَان: 301 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرَّجُلِ يجدُ البَلَلَ ولا يَذكُرُ احتِلامًا؟ قال: "يغتَسِلُ"، وعَنِ الرَّجلِ يرى أنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ ولا يجدُ بللًا؟ قال: "لا غُسْلَ عَلَيْهِ"، قالَتْ أُمُّ سُليم: هَلْ على المرأةِ تَرى ذلك غُسْلٌ؟ قال: "نعَمْ، إنَّ النِّساءَ شَقَائِقُ الرِّجالِ". قوله: "يَجِدُ البَلَل"، أي: يجد المَنِيَّ إذا استيقظ.

"ولا يذكر احتلامًا"، يعني: لا يذكرُ بعد التنبيهِ من النوم أنه جامعَ أحدًا في النوم. "يرى"، أي: يظنُّ، يعني بهذا الحديث: إن استيقظ ووجد المَنِيَّ وجبَ الغُسْلُ، وإلا فلا. قوله: "ترى ذلك"، أي: ترى الاحتلام. "شَقَائِق الرجال"، أي: أمثالُ الرجال في البشرية، فيجبُ الغُسْلُ على المرأةِ بخروج المَنِيِّ كالرجل. و (الشقائق): جمع شقيقة وشقيق، يقال: هذا شقيق هذا؛ أي: كلاهما مَشْقوقان من شيءٍ واحد، والمراد ها هنا: أن الرجل والمرأة من أصلٍ واحد وهو آدم عليه السلام. * * * 302 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاوَزَ الخِتَانُ الخِتَانَ وجَبَ الغُسلُ". قوله: "إذا جاوَزَ الخِتَانُ الخِتَانَ"، والمراد بمجاوزة الخِتَانِ الخِتَانَ: تغييبُ الحَشَفَةِ في الفَرْج. * * * 303 - وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جنابَةٌ، فاغْسِلُوا الشَّعرَ، وَأَنْقُوا البَشَر"، ضعيف. قوله: "تحتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابة"، يعني: لو بقيتْ شعرةٌ واحدةٌ لم يصل إليها الماءُ بقيتْ جنابةُ الرجل. قوله: "فاغسِلُوا الشعرَ"، أي: أوصلوا الماءَ إلى الشعر.

"وأَنْقُوا البَشَرَة"، يعني: فطهِّرُوا البشرةَ من الوَسَخِ، وأوصِلُوا إليها الماءَ، فلو كان في موضع وَسَخٌ بحيث لا يصلُ الماءُ إلى تحته لم تُرفَعِ الجنابة. * * * 304 - وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تركَ مَوْضِعَ شَعرةٍ من الجنابَةِ لَمْ يَغْسِلْهَا؛ فُعِلَ بها كذا وكذا من النَّار"، قال عليٌّ - رضي الله عنه -: فَمِنْ ثَمَّ عادَيْتُ رأسي. قوله: "فُعل بها كذا وكذا"، أي: فُعِلَ بتلك الشعرةِ من العَذاب ومسِّ النار عذابًا شديدًا. "قال علي فمِن ثَمَّ", أي: من أجلِ أنْ سمعتُ هذا التهديدَ، "عاديتُ رأسي"، أي: فعلتُ بشعر رأسي فعلَ العدوِّ بالعدوِّ، يعني: قطعتُ شعرَ رأسي مخافةَ ألاَّ يصلَ الماءُ إلى جميع شعري، وقد صحت الروايةُ: أن عليًا - رضي الله عنه - كان يَجُزُّ شعرَ رأسه؛ ليصل الماء إلى جميع رأسه. وروي مثله عن حُذَيفة. * * * 305 - قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضَّأُ بعدَ الغُسْلِ. قولها: "لا يتوضأ بعد الغسل"، هذا يحتملُ أمرين: أحدهما: أن يتوضَّأَ في ابتداء الغُسْل، فإذا فرغَ من الغُسْل يكتفي بذلك الوضوءِ ولا يتوضَّأُ مرةً أخرى، والحُكْمُ كذلك في الفِقْه. والثاني: أن يستنجيَ ويوصِلَ الماءَ بنية الغُسْل إلى جميع أعضائه، ولا يتوضَّأُ لا قبلَ الغُسْلِ ولا بعده، بل إذا ارتفعَ الحدثُ الأكبرُ وهي الجنابة يرتفعُ الحدثُ

الأصغر وهو ما يحتاجُ فيه إلى الوضوء، والحُكْمُ كذلك في الفقه. * * * 306 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسِلُ رأْسَهُ بالخِطْمِيِّ وهو جُنُبٌ، يجتزئُ بذلك، ولا يصبُّ عليه الماءَ. قولها: "يغسل رأسه بالخِطْمِيِّ"، (الخِطْمِيُّ) بكسر الخاء: شيءٌ معروفٌ يُغْسَلُ به الرأس. "يجتزِئُ بذلك"، أي: يكتفي بذلك الخِطْمِيِّ. صورة هذا الحديث: أن يصبَّ رسولُ الله على رأسه الماءَ بنيةِ رفعِ الجنابةِ حتى يصلَ الماءُ إلى جميعِ شعرهِ، ثم يجعل الخِطْمِيَّ على رأسه؛ للتبرُّدِ وتطييبِ الرأس، ويترك الخِطْمِيَّ على رأسِه، ولا يصبُّ على رأسِه الماءَ بعد ذلك؛ لأنه ارتفعتِ الجَنابةُ عن رأسه قبل جَعْلِ الخِطْمِيِّ على رأسه، ثم يَصُبُّ على بدنه الماءَ؛ لرفع الجَنَابة من باقي بدنه، وإنما قلنا: غسَلَ باقي بدنه؛ أي: بعد جَعْلِ الخِطْمِيِّ على رأسه؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "يغسلُ رأسَه بالخِطْمِيِّ وهو جُنُب" يعني: عند جَعْلِ الخِطْمِيِّ على رأسه كان جُنُبًا بالنسبة إلى باقي أعضائه، لا بالنسبة إلى رأسه. * * * 307 - عن يَعْلى بن أُمية: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحبُّ الحَيَاءَ والتستُّرَ، فإذا اغْتَسَلَ أحدُكُمْ فليَسْتَتِرْ". قوله: "حَيِيٌّ" بياءين: الأُولى مكسورةٌ مخفَّفة، والثانية مشدَّدة مرفوعة، وأصله: (حييي) بثلاث ياءات على وزن (عليم)، فأُدغمت الثانية في الثالثة، يعني: إن الله كريمٌ تاركٌ لفضْحِ العباد، ومتجاوزٌ عن سيئاتهم.

7 - باب مخالطة الجنب وما يباح له

قوله: "سِتِّير"، أي: ساترٌ على عيوب الناس، لا يهْتِكُ أستارَهم. قوله: "يحبُّ الحياء والتَّسَتُّر"، يعني: يحبُّ هاتين الصورتين من عباده، كما قال رسول الله - عليه السلام -: "تخلَّقُوا بأخلاق الله"، يعني: ليكنْ فيكم صفاتُ الله مما يمكن أن يكونَ في المخلوق، يعني: كونوا رحماءَ على عباد الله، كما كان الله رحيمًا على عباده، وكذلك باقي الصفات من الكرم والُّلطْف وغير ذلك. يعني: ليسْتُرْ كلُّ واحد منكم عورتَه، وليستَحْيي عن كَشْفِها إلا عند الخَلاَء، وحَلْقِ العانة، وغيرِ ذلك مما كان ضرورةً. تَسَتَّر وأَسْتَرَ: إذا سَتَرَ الرجلُ نفسه. "يَعْلَى": اسم أبيه: أمية بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر. * * * * 7 - باب مُخالَطةَ الجُنُب وما يُباح لَهُ (باب مخالطة الجُنُب وما يباحُ له) قوله: (المخالطةُ): المجالسةُ والمؤاكلةُ، وغيرُ ذلك مما يَجري بين اثنين من المعاشرة. "وما يُباحُ له"، أي: وما يَحِلُّ للجُنُب. مِنَ الصِّحَاحِ: 308 - قال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: لَقِيَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جُنُبٌ، فأخذَ بيدي فمشيتُ معَهُ حتى قعدَ، فَانْسَلَلْتُ فأتيتُ الرحلَ فاغتسلتُ، ثمَّ جئتُ وهو

قاعدٌ، فقال: "أينَ كنتَ يا أبا هِرٍّ؟ "، فقلت له: لَقِيتَني وأنا جُنُبٌ، فكرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأنا جُنُبٌ، فقال: "سُبْحَانَ الله، إِنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس". قوله: "فانسللت"، (الانسلالُ): الخروجُ من بين شيءٍ، ومن بينِ قومٍ، (فانسلَلْتُ)؛ أي: أخرجتُ يدي من يده، وكرهتُ أن أجالسَه جُنُبًا. "فأَتَيْتُ الرَّحْلَ"، أي: أتيت الماءَ بين الرَّحْل، وهو ما كان مع المسافر من الأقمشة، والرَّحْلُ أيضًا: الموضعُ الذي نزلَ فيه القومُ. قوله: "يا أبا هِرٍّ"، اعلم أن هذه الكنيةَ وضعها رسول الله - عليه السلام - حين رآه وفي ثوبه شيءٌ، فقال: "ما في ثوبك يا عبد الرحمن؟ " فقال: هِرَّةٌ، فقال: "أنت أبو هريرة"، فاشتهرَ بهذه الكُنية، وأحبَّ أن يدعوَه الناسُ بهذه الكنية؛ لبركة لفظِ رسولِ الله عليه السلام: "يا أبا هر" وربما قال له: "يا أبا هريرة"، ويجوز حذف الهمزة من الكُنية، يقال: يا با فلان. قوله: "فقلت له"، يعني: قلتُ له: كنتُ جُنُبًا حين رأيتَني مشيتُ واغتسلتُ. قوله: "سبحان الله"، هذا اللفظُ يقال عند التعجُّب، يعني: تعجب رسول الله - عليه السلام - من فِعْلِ أبي هريرة، وقال: "إن المؤمن لا يَنْجُسُ"، يعني: المؤمن طاهرٌ لا يصيرُ نجسًا بكونه جُنُبًا، بل يجوزُ مخالَطَةُ الجُنُب ومؤاكلَتُه. * * * 309 - وذكر عُمرُ - رضي الله عنه - لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ تُصيبُهُ الجَنابةُ مِنَ اللَّيْلِ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضَّأْ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثمَّ نَمْ". 310 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانَ جُنُبًا فأرادَ أنْ يأْكُلَ أوْ يَنَامَ توضَّأَ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ.

قوله: "توضَّأْ واغسِلْ ذَكَرَكَ"، يعني: يُستحَبُّ للجُنُبِ أن يغسِلَ ذكرَه ويتوضَّأَ، كما يتوضَّأُ للصلاة، ثم يأكلُ أو يشربُ أو يجامعُ مرةً أخرى أو ينام. * * * 311 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدُكُمْ أهلَهُ، ثمَّ أرادَ أنْ يعودَ فليتوضَّأْ بينَهُمَا وُضُوءًا"، رواه أبو سعيد الخدري. قوله: "إذا أتى أحدكم أهله ... " إلى آخره. يعني: إذا جامعَ مرةً ثم أراد أن يجامِعَ ثانيةً؛ فليغسِل الرجلُ والمرأةُ فرجيهما ويتوضأا؛ لأن هذا أطيبُ وأكثرُ للنشاط والتلَذُّذ. * * * 312 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يطوفُ على نِسائِهِ بِغُسْلٍ واحدٍ". قوله: "يطوف على نسائه بغُسْلٍ واحد"، يعني: يجامعُ نساءَه بغُسْلٍ واحدٍ، وهذا دليلٌ على أن الجُنُبَ يجوزُ له أن يجامِعَ ثانيةً وثالثةً، أو أكثرَ، ولا يجبُ عليه أن يغسِلَ لكلَّ مجامعةٍ غُسْلًا، بل يكفي جميع الوطآت غسل واحد. * * * 313 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الله على كُلِّ أَحْيَانِهِ. قوله: "يَذْكُرُ الله على كل أحيانهِ"، يعني: يجوزُ ذِكْرُ الله من التسبيح والتهليل وغيرِهما في حال الجَنَابة وغيرها، إلا أنه لا يجوزُ تلاوة القرآن للجُنُب. * * *

314 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخلاءِ، فأُتِيَ بطعامٍ، فَذَكَرُوا لهُ الوُضُوءَ, فقال: "أُريدُ أنْ أُصلِّيِ فأتوضَّأَ؟! ". قوله: "فذكروا له الوضوء"؛ يعني: قالوا له: أتتوضأ ثم تأكل أم لا؟ قال: لست أريد أن أصلي حتى أتوضأ. قوله: "أريد" أصله: أأريد بهمزتين، فحذفت الهمزة الأولى التي هي للاستفهام. قوله: "فأتوضأ" الفاء هي الناصبة للفعل المستقبل؛ لأنها جواب الاستفهام. وهذا الحديث دليلٌ على جواز الأكل والشرب بغير الوضوء. * * * مِنَ الحِسَان: 315 - قالت مَيْمُونة رضي الله عنها: أجْنَبْتُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَة وفضَلَ فيها فَضْلَةٌ، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فقلتُ: إنَّي قد اغتَسَلْتُ منها، فاغْتَسَلَ، وقال: "إنَّ الماءَ ليسَ علَيْهِ جَنَابَةٌ"، وفي رواية: "إنَّ الماءَ لا يُجْنِب". قولها: "من جفنة"، (الجفنة): القصعة الكبيرة. قوله: "إن الماء ليس عليه جنابة"؛ يعني: الماء الذي أدخل الجنبُ فيه يدَه طاهرٌ مطهِّرٌ إذا لم ينو المغتسلُ بإدخال يده الإناءَ رفعَ الجنابة من كفه، فإنْ نوى رفع الجنابة من كفه صار ذلك الماء مستعملًا؛ لأن الجنابة انتقلت من كفه إلى الماء. ويعني بالمانع: كون الرجل ممنوعًا من الصلاة وغيرها ممَّا لا يجوز

للجنب، والماء الذي ينفصل من أعضاء الجنب فهو مستعملٌ أيضًا؛ لأن المانع الذي كان على الجنب انتقل إلى الماء المنفصل عن الأعضاء، حتى يكون غير مطهِّرٍ. قوله: "لا يجنب"، أجنب يجنب: إذا صار جنبًا. * * * 316 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُجنِبُ فيغتَسِلُ، ثمَّ يستَدْفِئَ بي قبلَ أن أَغْتَسِل. قولها: "يستدفئ بي"؛ أي: يطلب الدفاءة بي، والدفاءة: الحرارة، يعني: يغتسل رسول الله عليه السلام، ويضع أعضاءه على أعضائي من غير حائلٍ؛ ليجد حرارةً من أعضائي؛ ليزول عنه البرد. وإنما قلنا: يضع أعضاؤه على أعضائها من غير حائلٍ؛ لأنه معلومٌ أن الغرض من إيراد هذا الحديث: بيانُ طهارة أعضاء الجنب، وإنما يكون هذا الحديثُ دليلًا على طهارة أعضاء الجنب إذا كان وصول البدنين بغير حائلٍ، وأما مع الحائل فيجوز وصول شيء طاهرٍ بشيءٍ نجسٍ مع حائلٍ بينهما، ألا ترى أنه يجوز الصلاة في أرض نجسة إذا كان بينها وبين المصلِّي سجادة. * * * 317 - وقال علي - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يخرجُ مِنَ الخلاءِ، فيُقْرِئُنا القُرآنَ، ويأكلُ معنَا اللحمَ، وكان لا يحجُبُهُ - أو لا يحجُزُهُ - عَنْ قِراءةِ القُرآنِ شيءٌ وليسَ الجنابة. قوله: "يُقْرئنا القرآن"، أَقْرَأ يُقْرئ: إذ علَّم تعليمًا، (يقرئنا)؛ أي: يعلِّمنا القرآن.

و (أو) في قوله: "أو: يحجزه" شكٌّ من الراوي أن عليًا قال: (لا يحجبه)، أو قال: (لا يحجزه). والحجب والحجز: المنع. "ليس الجنابة": أي: إلا الجنابة. * * * 318 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقرأُ الجُنُبُ ولا الحائضُ شيئًا مِنَ القُرآنِ". قوله: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن": (لا) ها هنا للنهي، وانكسرت الهمزة لالتقاء الساكنين. وقوله: (لا تقرأ) بالجزم، وقوله: (شيئًا من القرآن) يعني: لا يجوز القليل والكثير، وبه قال الشافعي، إلا أن يقول: بسم الله، والحمد لله، على قصد الذكر. وجوَّز مالك قراءةَ القرآن للحائض لخوف النسيان، وجوَّز للجنب أن يقرأ بعض آيةٍ، ولا يُتمها. ولأبي حنيفة روايتان؛ إحداهما كمالك، وأصحُّهما كالشافعي. * * * 319 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَجِّهُوا هذه البُيوتَ عَنِ المسجدِ، فإنِّي لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ". قوله: "وجِّهوا هذه": أمر مخاطبين، من التوجُّه، وهذا اللفظ إذا كان بعده (عن) معناه: الإعراض والصرف عن جانب إلى جانب آخر، وإذا كان بعده (إلى) معناه: الإقبال إلى الشيء.

كانت أبواب بعض البيوت حول مسجد رسول الله - عليه السلام - مفتوحة إلى المسجد يمرون في المسجد، فأمرهم رسول الله - عليه السلام - أن يصرفوا أبواب بيوتهم من المسجد إلى جانب آخر، كيلا يمر الجنب والحائض في المسجد، فمذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - تحريم مرور الجنب في المسجد. ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - ومالك: جواز المرور فيه دون المكث. ومذهب أحمد والمُزني: جواز المكث فيه. * * * 320 - وقال: "لا تدخُلُ الملائكَةُ بيتًا فيهِ صُورةٌ، ولا كلبٌ، ولا جُنُبٌ"، رواه علي - رضي الله عنه -. وهذا فيمَن يتخذ تأْخير الاغتسال عادةً تهاونًا بها. قوله: "لا تدخل الملائكة ... " إلى آخره؛ يعني: لا تدخل ملائكة الرحمة والبركة في بيتٍ فيه هذه الثلاثة، ولا تدخل الملائكة في هذا البيت بالخير. وأما الملائكة الذين يكتبون أعمال العباد لا يمتنعون بهذه الأشياء، بل يدخلون مواضع الخير والشر، وإنما لا تدخل ملائكة الرحمة بيتًا فيه هذه الأشياء لقبح هذه الأشياء. وأما (الصورة): فلأنَّ جَعْلَ الصورة تشبيهٌ بخلق الله، وأيُّ ذنب أعظم من ذنب مَن يشبِّه نفسه بالله في التصوير؟ والمحرَّم من الصور ما كان من صور الحيوانات على شيء مرتفع من الأرض كالجدار والستر. وأما صورةُ غير الحيوان وصورة الحيوان في البساط وما يجلس عليه

الرجل، فلا بأس به. وأما (الكلب)، فيأتي بحثه. وأما (الجنب): فالمراد منه: جنبٌ يقدر على الغُسل ولا يغتسل حتى يمضي عليه أوقاتُ الصلوات، وتفوت عنه الصلوات، ولا يغتسل. وأما تأخير الغسل ما لم تفت عنه الصلاة فلا بأس به، ولكن المستحبُّ تعجيل الغسل. * * * 321 - وعن عمَّار بن ياسر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا تَقْرَبُهُمُ الملائكةُ: جيفةُ الكافِرِ، والمتضمِّخُ بالخَلوقِ، والجُنُبُ إلاَّ أن يتوضَّأَ". قوله: "جيفة الكافر" أراد بـ (جيفة الكافر): ذاتَه في الحياة وبعد الموت؛ لأن الكافر نجسٌ بعيدٌ من الرحمة في الحياة، وبعد الموت سمي جيفةً لقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. "والمتضمخ بالخلوق"، (التضمُّخ) التلظُّخ، و (الخلوق) بفتح الخاء: طيبٌ معروفٌ يجعل من الزعفران مع غيره. ووجهُ النهي عن الخلوق؛ لمَا فيه من الرُّعونة والتشبُّهِ بالنساء، والنهي عن الخلوق مختص بالرجال دون النساء. قوله: "إلا أن يتوضأ": يعني: لا تقربُ ملائكة الرحمة أيضًا الجنبَ إلا أن يتوضأ، وهذا تهديدٌ وزجرٌ عن تأخير الغسل، كي لا تعتاد نفسُه بحالةٍ لا يجوز فيها الصلاة واللبثُ في المسجد وقراءة القرآن، بل ليعجِّل الغسل، وإن لم يقدر على الغسل فليتوضأ. ويحتمل أن يريد بالوضوء ها هنا الغسل.

اسم جد "عمار": عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين العنسي. * * * 322 - وفي الكتاب الذي كتبَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمْرِو بن حَزْم: "وأَنْ لا يَمَسَّ القُرآنَ إلاَّ طاهِرٌ". قوله: "أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر": يعني: لا يجوز حملُ المصحف ولا مسُّه إلا طاهرًا. روى هذا الحديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، اسم جد عمرو: زيد بن لوذان الخزرجي. * * * 323 - وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: مَرَّ رجلٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَبُولُ، فسلَّمَ علَيْهِ، فلمْ يَرُدَّ عليهِ حتَّى كادَ الرَّجُلُ أنْ يَتوارى، فضَربَ بيدَيْهِ على الحائطِ ومسحَ بهِما وجهَهُ، ثمَّ ضربَ ضَرْبَةً أُخرى فمسحَ ذراعَيْهِ، ثمَّ رَدَّ على الرَّجُلِ السَّلامَ، وقال: "إنَّهُ لَمْ يمنَعْني أنْ أرُدَّ عليكَ السَّلامَ إلاَّ أنِّي لَمْ أَكُنْ على طُهْرٍ". وروي: أنه لَمْ يَرُدَّ علَيْهِ حَتَّى توضَّأَ، ثمَّ اعتذَرَ إليْهِ فقال: "إنِّي كَرِهْتُ أنْ أَذْكُرَ الله إلاَّ على طُهْرٍ". قوله: "أن يتوارى"؛ يعني: أن يستتر ويغيب. "ضرب بيديه"؛ يعني: ضرب رسول الله - عليه السلام - يديه على الجدار للتيمم، وهذا إن كان على الحائط ترابٌ طاهرٌ صحَّ التيمم بالاتفاق، وإن لم يكن على الحائط ترابٌ طاهر صحَّ عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن أبا حنيفة جوَّز التيمم بضرب اليد على الحجر والأرض، وما كان من أجزاء الأرض، وإن لم يكن عليه تراب.

8 - باب أحكام المياه

وتيمُّمُ النبي - عليه السلام - ثم ردُّ السلام يدلُّ على استحباب ذكر الله بالوضوء والتيمم؛ لأن السلام اسمٌ من أسماء الله، وردُّ السلام عليه بعد التأخير يدلُّ على وجوب ردِّ السلام. قوله: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام" يدل على أن مَن قصر في جواب أحدٍ يُستحبُّ أن يعتذر إليه، ويخبرَه أنه لم يؤخِّر جوابه للتكبُّر، بل لعذر. قوله: "وروي أنه لم يرد عليه ... " إلى آخره، معناه ظاهرٌ، والله أعلم. * * * 8 - باب أَحكامِ المِيَاهِ (باب أحكام المياه) (المياه): جمع الماء، الماء: أصله ماه، فقُلبت الهاء همزًا. مِنَ الصِّحَاحِ: 324 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبُولَّنَ أحدُكُمْ في الماء الدَّائِم الذي لا يَجري ثمَّ يغتَسِلُ فيهِ". قوله: "في الماء الدائم"، (الدائم): الواقف، فوجْهُ النهي عن البول في الماء الواقف: أن الماء إن كان دون القلَّتين ينجسُ؛ فلا يجوز الاغتسالُ منه، وإن كان قلتين فلعله يتغير، فحينئذٍ يصير نجسًا بالتغير، ولو كان الماء كثيرًا على غاية الكثرة، فلا يجوز البول فيه أيضًا؛ لأنه لو جوِّز البول فيه ربما يبول فيه واحد بعد واحد، حتى يتغير من كثرة البول. * * * 325 - وقال: "لا يَغتسِلُ أحدُكُمْ في الماءِ الدَّائمِ وهو جُنُبٌ"، رواه

أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" هذا النهي إنما يكون في الماء الذي هو دون القلتين؛ لأن الجنب إذا اغتسل في ماء دون القلتين يصير الماء مستعملًا، فحينئذٍ قد أفسد الماء على الناس؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يغتسل أو يتوضأ منه بعد ذلك. * * * 326 - وقال جابر: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُبالَ في الماءِ الرَّاكِدِ. قوله: "في الماء الراكد"، (الراكد): الواقف. * * * 327 - وقال السَّائب بن يَزيد: ذهَبَتْ بي خالَتي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! إنَّ ابن أُخْتِي وَجِعٌ، فَمسحَ برأْسي، فدعا لي بالبَرَكَةِ، ثمَّ توضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثمَّ قُمْتُ خلفَ ظهرِهِ، فنظرتُ إلى خاتَمِ النُّبوَّةِ بينَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ. قوله: "إن ابن أختي وجعٌ"، (وجِع) بفتح الواو وكسر الجيم؛ أي: مريض. "من وَضوئه" بفتح الواو؛ أي: من ماء وضوئه. قوله: "مثل زر الحجلة"، (الزر) بكسر الزاي المنقوطة وبعدها راءٌ غيرُ منقوطةٍ مشدَّدةٌ، و (الحجلة) بفتح الحاء والجيم. الزر: البَيْض، والحجلة: القبحة، وهو الطائر المعروف، وبيضها فيه نقوشٌ تضرب إلى الحمرة. وقيل: الزر واحدُ أزرارِ حَجَلة العروس.

يعني: يُشْبِهُ خاتمُ النبوة بيضَ القيح والحمام، أو زرَّ حجلة العروس (¬1) ويأتي وصفُ خاتم النبوة في وصف رسول الله عليه السلام. واسم جد "السائب": سعيد بن ثمامة بن الأسود. * * * من الحِسان: 328 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل نَجسًا"، ويروى: "فإنَّه لا يَنْجُس". قوله: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا"، ويروى: "فإنه لا ينجس". (القلَّة): الجرة الكبيرة التي تسع مئتين وخمسين رطلًا بالبغدادي، فيكون قَدْرُ القلتين خمس مئة رطلٍ، وقيل: ست مئة رطل. قوله: "لم يحمل نجسًا"؛ أي: لا يقبل النجاسة، بل يدفع النجاسة عن نفسه، يعني: لا ينجس، وهذا بشرطِ أن لا يتغير، فإذا كان الماء قلَّتين ولم يتغير فهو طاهرٌ مطهِّر، وإن كان فيه جيفةٌ مثلًا، فإن تغيَّر نجس. وقَدْرُ القلتين يسمَّى: كثيرًا، ودونهما يسمى: قليلًا. وعند أبي حنيفة: الكثير: الغدير العظيم الذي لو حرِّك أحد جوانبه لم تتحرك جوانبه الأخرى، وفي بعض رواياته: الكثير: ما يكون طولُه عشرة أذرعٍ، وكذلك عرضه. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "والحجلة بالتحريك: واحدة حجال العروس، وهي بيت يزين بالثياب والأسرَّة والستور" صحاح.

329 - وقال أبو سعيد الخُدرِيُّ - رضي الله عنه -: قيلَ: يا رسولَ الله! أنتوضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضاعَةَ، وهِيَ بئرٌ تُلْقَى فيها الحِيَضُ ولُحومُ الكلابِ والنَّتْنُ؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ". 330 - ورُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خُلِقَ الماءُ طَهورًا لا يُنجِّسُهُ إلاَّ ما غيَّرَ طعمَهُ أو ريحَهُ". قوله: "من بئر بضاعة"، (بضاعة) بضم الباء، وهي بئرٌ في المدينة. قوله: "تلقى فيها الحِيَضُ ولحوم الكلاب والنَّتْن"، و (الحيض): جمع حيضة بكسر الحاء، وهي الخرقةُ التي تستعملها المرأة في دم الحيض. و (النَّتْن): الشيء الذي له رائحةٌ كريهة. وتأويل هذا: أن الناس يُلقون الحِيَضَ ولحومَ الكلاب والنَّتْنَ في الصحارى، وخلفَ بيوتهم، فيجري عليها ماء المطر، ويُلقيها الماء إلى تلك البئر؛ لأنها في ممر الماء، وليس معناه: أن الناس يلقون الحيض ولحوم الكلاب والنتن في بئر يُستقى منها الماء (¬1)؛ لأن هذا ممَّا لا يجوِّزه كافرٌ، فكيف يجوِّزه صحابة رسول الله عليه السلام ورضي عنهم. قوله: "إن الماء طهور" تأويله: إن الماء الذي تسألون عنه - وهو ماء بئر بضاعة - طاهر؛ لأنه أكثر من قلَّتين. قال أبو داود رحمة الله عليه: مددتُ فيه ردائي، فإذا عرضُه ستةُ أذرع. قال قتيبة بن سعيد: قلت لقيِّم بئر بضاعة: كم كان فيها من الماء؟ قال: إذا كان كثيرًا فإلى العانة، وإذا كان قليلًا فإلى دون العورة. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فعبَّرَ عن ذلك على وجه يوهم أن الإلقاء كان من الناس".

قوله: "لا ينجسه شيء" تقديره: لا ينجسه شيءٌ ما لم يتغيَّر. * * * 331 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "سألَ رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إنَّا نركبُ البحرَ، ونحمِلُ مَعَنَا القليلَ مِنَ الماءِ، فإنْ تَوَضَّأْنَا بهِ عَطِشْنَا، أفنتوضَّأُ بماءِ البحر؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ، والحِلُّ مَيْتَتُهُ". قوله: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته": الضمير في (هو الطهور) يرجع إلى (البحر)؛ يعني: ماؤه طهورٌ (¬1)، وميتته حلال، فالحوتُ حلالٌ بالاتفاق، والضفدع حرامٌ بالاتفاق، والسرطان حرام أيضًا في أصح القولين، وكذلك ما يعيش في الماء والبر. فأما ما لا يعيش في البر ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن جميعه حلال. والثاني: حرام. والثالث: ما يؤكل شبهُه في البر يؤكل، وما لا يؤكل شبهه في البر لا يؤكل. * * * 332 - عن أبي زيد، عن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لَهُ ليلةَ الجِنِّ: "ما في إداوَتِكَ؟ "، قال: قلت: نبَيذٌ، قال: "تمرةٌ طيِّبَةٌ وماءٌ طَهُور"، فتوضَّأَ مِنْهُ. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فيه دليل على أن الوضوء به جائز وإن تغير طعمه أو ريحه، وفيه أيضًا دليل على أن الطهور هو المطهر، فإنهم سألوه عن تطهير ماء البحر، لا عن طهارته، ولولا أنهم فهموا ذلك من لفظ الطهور، لا يزول إشكالهم بقوله: هو الطهور ماؤه".

قال الإمام: هذا ضعيف، وأبو زيد مجهولٌ، وقد صحَّ: 333 - عن عَلْقمة، عن عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه - قال: لَمْ أَكُنْ ليلةَ الجِنِّ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ففي روايةٍ: عبد الله بن مسعود كان معه، وفي رواية: زيد بن ثابت معه، لا ابن مسعود. قوله: "ليلة الجن"، (ليلة الجن): هي الليلة التي جاءت الجن رسول الله عليه السلام، وذهبوا به إلى قومهم ليتعلموا منه الدين. قوله: "ما في إداوتك"، (الإداوة): المطهرة، يعني: أيُّ شيء في إداوتك؟. "النبيذ": التمر أو الزبيب المنبوذ في الماء، كانوا يفعلون هذا ليحلوَ ماؤهم؛ لأن ماءهم كان مالحًا، أو مرًا، وربما يفعلون هذا لأن الماء إذا كان فيه تمرٌ أو غيره من الحلاوة كان أوفقَ وأنفع. واعلم أنه يجوز عند أبي حنيفة التوضُّؤ بالماء المتغيِّر بشيءٍ طاهرٍ كالتمر وغيره. وعند الشافعي: لا يجوز إذا تغيَّر بحيث يضاف ذلك الماء إلى ذلك التمر أو غيره. * * * 334 - عن كَبْشَة بنت كَعْب بن مالك - رضي الله عنهما -، وكانت تحت ابن أبي قَتادة: أنَّ أبا قَتَادة دخلَ عليها، فسكبَتْ لهُ وَضوءًا، فجاءتْ هِرَّةٌ تشربُ مِنْهُ، فأَصغَى لها الإِناءَ، قالت: فرآني أنظُرُ إليه، فقال: أتعجبين يا بنتَ أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّها لَيْسَتْ بنجَسٍ، إنَّها مِنَ الطَّوَّافينَ عليكُمْ والطَّوَّافاتِ".

قوله: "وكانت تحت ابن أبي قتادة"؛ أي: كانت زوجة ابن أبي قتادة، واسم (ابن أبي قتادة): عبد الله. "سكبت"، أي: صببتُ له ماء الوضوء في قدح. "فأصغى"؛ أي: أمال الإناء إليها لتشرب منه. "أتعجبين يا ابنة أخي"؛ يعني: أتعجبين لأن الهرة تشرب من ماء وضوئي؟ فلا تَعْجَبي، فإنَّ فمها طاهر. قوله لها: "يا ابنة أخي" هذا على عادة العرب؛ لأن العرب يقول بعضهم لبعضٍ: يا أخي، وإن كانا ابني عمَّين. قوله عليه السلام: "إنها من الطوَّافين عليكم، أو الطوافات"؛ يعني: ليست بنجسة؛ لأنها تطوف عليكم وتتمسَّح بثيابكم وفرشكم، فلو كانت نجسةً لأُمرتم باجتنابها وإخراجها من البيوت. وذُكر فيه معنًى آخرُ، وهو: إنها كالطوافين عليكم من المماليك وأصحاب الحوائج، يعني: يحصل لكم أجرٌ في الإحسان إليها. و (أو) في قوله: (أو الطوافات) شكٌّ من الراوي أنه قال: (من الطوافين)، أو قال: (من الطوافات). وسؤر الهرة طاهرٌ عند الشافعي، وعند أبي حنيفة مكروه. اسم (أبي قتادة): الحارث، وقيل: النعمان بن عمرو بن بلدمة. وجدُّ "كعب": عمرو بن القين بن كعب. * * * 335 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ بفَضْلِها.

قولها: "بفضلها"، أي: بفضل الهرة؛ أي: بما بقي في الإناء من الماء بعد شربها. * * * 336 - وقال جابر: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنتوضَّأُ بما أفْضَلَتِ الحُمُر؟ قال: "نعم، وبما أَفْضَلَتِ السِّباعُ كُلُّها". قوله: "أفضلت"؛ أي: تركت بعد الشرب. "الحمر" بضم الحاء والميم: جمع حمار. قال الشافعي: سؤر جميع السباع طاهر، إلا الكلب والخنزير، وعند أبي حنيفة: نجس. السؤر: البقية. * * * 337 - وقالت أُمّ هانئ: اغتسلَ هو - تعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَيْمُونَةُ في قَصْعَةٍ فيها أثرُ العَجين. قولها: "فيها أثر العجين"، (العجين): الدقيق المعجون، فإن كان أثر العجين كثيرًا بحيث يغيِّر الماء يجوز عند أبي حنيفة الطهارةُ به، ولا يجوز عند الشافعي. والظاهر: أن أثر العجين في تلك القصعة لم يكن كثيرًا مغيِّرًا للماء. و"أم هانئ" بالهمزة بعد النون: هي أختُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، واختُلف في اسمها، قيل: هند، وقيل: فاختة. * * *

9 - باب تطهير النجاسات

9 - باب تَطْهير النَّجاسات (باب تطهير النجاسات) مِنَ الصِّحَاحِ: 338 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرِبَ الكلْبُ في إناءِ أحدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا". قوله: "إذا شرب الكلب" بَحْثُ هذا الحديثِ يأتي في الذي بعده. * * * 339 - وقال: "طُهُورُ إناءِ أحدِكُمْ إذا وَلَغَ فيهِ الكلبُ أنْ يغسلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بالتُّرابِ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "طهور إناء أحدكم"، (الطهور) بضم الطاء، بمعنى التطهير أو الطهارة. "إذا ولغ"؛ أي: إذا أدخل فيه الكلب فمه. "أولاهن بالتراب"؛ يعني: يكون الماء الأول مكدَّرًا (¬1) بالتراب، وفي حديثٍ آخر: "أولاهن أو أخراهن" فيجب استعمال التراب في مرةٍ من السبعة أيَّةِ مرةٍ كانت. وعلةُ جَعْلِ التراب في الماء: أن التراب طهورٌ في التيمم، والماء طهور، فيجب استعمال الطهورين في ولوغ الكلب؛ لكون نجاسته أغلظَ النجاسات. ومذهب أبي حنيفة: أن ولوغ الكلب كسائر النجاسات، لا حاجةَ إلى عدد السبع، ولا إلى استعمال التراب فيه. وعند مالك: يغسل سبعًا من غير تراب، دليله الحديث الذي قبل هذا ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش": "مكررًا".

الحديث؛ لأنه لا يذكر فيه التراب. * * * 340 - وقال أبو هريرة: قامَ أعرابيٌ، فبالَ في المَسْجد، فتناوَلَهُ النَّاسُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُ، وأهريقُوا على بَولِهِ سَجْلًا - أَوْ ذَنُوبًا - مِنْ ماءٍ، فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرينَ، ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرين". ويُروى: أنَّه دَعاهُ فقال: "إنَّ هذهِ المساجِدَ لا تَصْلُحُ لشيءٍ مِنْ هذا البَوْلِ ولا القَذَرِ، وإنَّما هِيَ لِذِكْرِ الله، والصَّلاةِ، وقِراءَةِ القُرآن"، أو كما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فتناوله الناس"؛ أي: فأخذه الناس ليضربوه. "دعوه": أي: اتركوه ولا تضربوه ولا تشتموه، فإنه معذورٌ؛ لأنه لم يعلم أن البول في المسجد لا يجوز. "وأهريقوا"؛ أي: صبُّوا. "السَّجْل": الدلو الذي فيه الماء قلَّ أو كثر، و"الذَّنوب": الدلو الملآن. و (أو) في قوله: "أو ذنوبًا" يحتمل أن تكون للشك من الراوي، ويحتمل أن تكون للتخيير؛ يعني: خيَّرهم النبي - عليه السلام - بين أن يُهريقوا فيه سَجْلًا غيرَ ملآن، أو ذنوبًا ملآن. و"من ماء" تأكيدٌ وليس بتبيينٍ؛ لأن السَّجْلَ والذَّنوب لا يكونان إلا من الماء. وهذا دليل على أن الأرض تطهر بإراقة الماء عليها. وقال أبو حنيفة: لا تطهر حتى يحفر ذلك التراب، فإن وقع عليها الشمس طهر عنده من غير حفرٍ وصبِّ ماء.

قوله: "بعثتم ميسِّرين"، (التيسير): التسهيل؛ يعني: أُمرتم باللطف والرحمة على الناس، وترك إيذائهم. "التعسير": ضد التيسير. "لا تصلح": أي: لا يليق، ولا يجوز. "القذر": ما يَنفر ويَتقذَّر منه الطبع، كالنجاسات والأشياء المنتنة. قوله: "أو كما قال رسول الله عليه السلام"؛ يعني: شك الراوي أن رسول الله - عليه السلام - قال هذه الكلمات، أو قال شيئًا آخر. * * * 341 - قالت أسماءُ بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: سأَلَتِ امرأَةٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأَيْتَ إحدانا إذا أصابَ ثَوْبَها الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصابَ ثَوْبَ إِحْداكُنَّ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثمَّ لتَنْضَحْهُ بماءٍ، ثمَّ تُصلِّي فيه". وفي روايةٍ: "حُتِّيه، ثم اقْرُصيهِ، ثم اغسِليهِ بالماء". وفي روايةٍ: "ثُمَّ رُشِّيهِ بالماءِ، وصلِّي فيه". قولها: "أرأيت إحدانا": أي: أَخبِرْنا عن حكم إصابة دم الحيضة ثوبَ إحدانا، و (الحيضة): الحيض. قوله: "فلتقرصه": فلتَمْسَحْه بيدها مسحًا شديدًا قبل الغَسْلِ حتى تنقيته. "ثم لتنضحه"؛ أي: ثم لتغسله، (النضح) هنا: صبُّ الماء. "ثم تصلي فيه"؛ يعني: إذا غسلته وبقي أثره فلا بأس؛ لأن إزالة لون الدم متعسِّر. * * *

342 - عن سُليمان بن يَسار قال: سألتُ عائشةَ عن المَنيِّ يُصيبُ الثَّوبَ، فقالت: كنتُ أغسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرُجُ إلى الصَّلاةِ وأثَرُ الغَسْلِ في ثَوْبِهِ. 343 - وعن عَلقمة والأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ أفرُكُ المنيَّ مِنْ ثَوْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ يُصَلِّي فيه. قوله: "عن المني" اعلم أن المنيَّ طاهرٌ عند الشافعي وأحمد، ونجسٌ عند مالكٍ، وأما عند أبي حنيفة: يغسل ما دام رطبًا، فإذا يبس جاز فركُه من غير غَسْلٍ. والفرك: الدَّلكُ والمسحُ حتى يذهب أثره وغبارُه من الثوب. * * * 344 - عن أُمِّ قَيْس بنت مِحْصَن رضي الله عنها: أنَّها أتتْ بابن لها صغيرٍ لَمْ يأكُل الطَّعامَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجْلَسَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجْرِهِ، فبالَ على ثَوْبِهِ، فدعا بماءٍ فنضَحَهُ ولم يَغْسِلْهُ. قوله: "فدعا بماء فنضحه ولم يغسله": اعلم أن الصبي الذي لم يَطْعَم غيرَ اللبن اختُلف في غسل بوله: فمذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن يُغسل كسائر النجاسات. ومذهب الشافعي: أن يُرشَّ عليه بحيث أن يغلب الماء على البول؛ لأن لفظ الحديث هو الرشُّ كما يأتي بعد هذا. والمراد بالرش: إيصالُ الماء إلى جميع موضعِ البول بحيث يكون الماء أكثر من البول.

قيل في حدِّه: ليكن الماء مِثْلَي البول، ولا يشترطُ سيلان الماء من ذلك الموضع، ولا تقاطُره، وإذا رُشَّ الماء على ذلك الموضع على هذه الصفة طهُر ذلك الثوب برخصة الشارع، وعُفي عن البول الباقي في ذلك الموضع، بخلافِ بول الصبيَّة، فإن لبولها لُزوجةٌ، فيُحتاج في غسل بولها إلى دلكٍ وعصرٍ. "أم القيس" اسم جدِّها: حرثان، وهي أخت عكاشة بن محصن، وهي أسدية. * * * 345 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُبغَ الإِهابُ فقدْ طَهُرَ". قوله: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، (الإهاب): الجلد، يعني: إذا دُبغ جلد الميتة طهُر، إلا جلد الكلب والخنزير. وعند أبي حنيفة: يطهر جلدُ الكلب أيضًا. * * * 346 - وقال عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنهما -: تُصُدِّقَ على مَولاةٍ لمَيْمُونةَ بشاةٍ، فماتَتْ، فَمَرَّ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهابَهَا فدبَغْتُمُوهُ فانتفَعْتُمْ بهِ؟ "، فقالوا: إنَّها مَيْتَةٌ، فقال: "إنَّما حَرُمَ أكْلُها". قوله: "تُصُدِّقَ"؛ أي: دُفعت صدقةٌ إلى عتيقةٍ لميمونة. قوله: "وإنما حَرُم أكلها"؛ يعني: إنما حرم من الميتة أكلُها ونَجُسَ لحمُها، وأما جلدها فيجوز دباغته، ويطهر بالدباغة. * * * 347 - وقالت سَوْدَة رضي الله عنها زَوجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ماتَتْ لنا شاةٌ، فَدَبَغْنَا

مَسْكَها، ثم ما زِلْنَا نَنبذُ فيهِ حتَّى صارَ شَنًّا. قوله: "سودة زوج النبي عليه السلام: ماتت لنا شاة ... " إلى آخره، الزوج والزوجة واحدٌ. "المَسك" بفتح الميم: الجلد. "ما زلنا ننبذ"؛ أي: نشرب منه الماء، وإنما قالت: (ننبذ فيه)؛ لأنهم كانوا ينبذون في الماء التمرَ وغيرَه ليحلوَ. وفي هذا بيانُ طهارة الجلد المدبوغ. "حتى صار شنًا"؛ أي: حتى صار خَلَقًا بحيث لا يمكن استعماله، من الخُلوقة. "سودة" اسمُ أبيها: زمعةُ بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودٍّ. * * * مِنَ الحِسَان: 348 - عن لُبابة بنت الحارِث قالت: كانَ الحُسَيْنُ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - في حَجْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَالَ، فقلتُ: أعْطِنِي إزارَكَ حتَّى أغسِلَهُ، قال: "إنَّما يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنثى، ويُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ". وفي روايةٍ: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الجاريَةِ، ويُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلامِ". قوله: "عن لبابة" تقدم بحثُ حديثها. و"لبابة": أم عبد الله بن عباس، واسم جدها: حَزْنُ بن بجير بن الهزم، وهي أخت ميمونة. * * * 349 - وقال: "إذا وَطِئَ بنعْلِهِ أحدُكُم الأَذَى فإن التُّرابَ لهُ طَهُورٌ".

قوله: "وطئ"؛ أي: ضرب ومسح الأذى النجاسة. ذهب الأوزاعي وأبو ثور: أن النعل والخفَّ إذا أصابتهما نجاسةٌ رطبةٌ، ومسحهما على الأرض حتى يذهب أثرها، جازت الصلاة بهما. وذهب الشافعي: إلى أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وتأويل الحديث عنده: أن الرجل إذا مشى على نجاسة يابسة، فأصاب النعلُ غبار النجاسة اليابسة، ثم مشى على مكان طاهرٍ، يَطْهُر نعله؛ لزوال غبار النجاسة بمشيه على مكان طاهر. وعند أبي حنيفة: إذا جفَّت النجاسة بالنعل أو الخف، فمسَحَه على الأرض، جازت صلاته، وإن كانت النجاسة رطبةً لم تجز. * * * 351 - عن المِقْدَامِ بن مَعْدِ يْكَرِب - رضي الله عنه - قال: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُبْسِ جُلودِ السِّباعِ والرُّكوبِ عليها. قوله: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن لبس جلود السباع والركوب عليها" هذا النهي يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يكون قبل الدباغ فيكون نجسًا، ولبسُ النجس والركوبُ عليه لا يجوز. والثاني: أن يكون بعد الدباغ، ولكن الظاهر كونُ الشعر على جلود السباع يُدبغ مع الشعر (¬1)، والشعر لا يطهر بالدباغ؛ لأن الدباغ لا يغيِّر الشعر عن حاله، ولا يؤثِّر فيه، فإذا كان كذلك يكون نجسًا، فالنهي على هذين الوجهين نهيُ تحريمٍ، وفي وجهِ يَطْهُر الشعر بالدباغ تبعًا للجلد. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: "الجلد".

والوجه الثالث: أن لبس جلود السباع والركوب عليها من فعل السلاطين، وفيه تكبُّرٌ وزينة، ولا يليق هذا بالصلحاء، فإذا كان النهي لأجل ترك التكبر والخيلاء يكون النهي نهيَ تنزيهٍ إذا قلنا: يطهر الشعر بالدباغ، أو كان جلدًا لم يكن عليه شعر. * * * 352 - وعن أبي المَليح عن أبيه - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جُلُودِ السِّباعِ أنْ تُفْتَرشَ. قوله: "عن أبي المليح عن أبيه: أن النبي - عليه السلام - نهى عن جلود السباع أن تفترش": أي: تبسط ويجلس عليها. و"أبو المليح" بفتح الميم وكسر اللام: اسمه عامر، واسم أبيه: أسامة بن عمير الهذلي. * * * 353 - ورُوي عن أبي المَليح - رضي الله عنه -: أنَّهُ كَرِهَ ثَمنَ جُلُودِ السِّباعِ. قوله: "أنه كره ثمن جلود السباع"؛ يعني: أن رسول الله - عليه السلام - كره بيع جلود السباع وشراءها، وذلك قبل الدباغ؛ لكونها نجسة قبل الدباغ، وأما بعد الدباغ فيجوز. * * * 354 - وعن عبد الله بن عُكَيْم قال: أتانا كتابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهابٍ ولا عَصَبٍ". قيل: هذا فيما لم يُدبغ لِمَا رُوي:

10 - باب المسح على الخفين

355 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَتْ. قوله: "بإهاب"، (الإهاب): الجلد. راوي هذا الحديث: عبد الله بن عكيم، وهو ليس من الصحابة؛ لأنه لم يلق النبي عليه السلام. * * * 356 - وعن مَيْمُونة رضي الله عنها قالت: مرَّ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رِجالٌ يَجُرُّون شاةً، قال: "لو أخذْتُمْ إهابَهَا"، قالوا: إنَّها مَيْتَةٌ، فقال: "يُطَهِّرُهُ الماءُ والقَرَظُ"، ويُروى: "دِباغُها طُهُورُها". قوله: "لو أخذتم إهابها"؛ أي: لو أخذتم إهابها فدبغتُموه لكان حسنًا، أو: لكان جائزًا. قوله: "يطهره الماء والقَرَظ"، (القَرَظ): ورق شجرٍ - أي: سلم -، أو قشرُ بلوطٍ يُدبغ به، يعني: يطهِّره خلطُ القَرَظ بالماء ودباغةُ الجلد به، والله أعلم. * * * 10 - باب المَسْح على الخُفَّيْنِ (باب المسح على الخفين) مِنَ الصِّحَاحِ: 357 - سُئِلَ عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عَن المَسْحِ على الخُفَّيْنِ، فقال:

جَعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ للمُسافِر، ويومًا وليلةً للمُقيمِ. قوله: "سئل علي (¬1) ... " إلى آخره، معناه ظاهر. * * * 358 - عن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: أنَّه غَزا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تبوكَ، قال المُغيرةُ: فتبرَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ الغائطِ، فحمَلْتُ معهُ إداوةً، فلمَّا رَجَعَ أخذتُ أُهريقُ على يَدَيْهِ مِنَ الإداوةِ، فغسلَ يَدَيْهِ ووجْهَهُ، وعليهِ جُبَّةٌ مِنْ صوفٍ، ذهبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِراعَيْهِ، فضاقَ كُمُّ الجُبَّةِ، فأخرجَ يَدَيْهِ مِنْ تحتِ الجُبَّةِ، وألقى الجُبَّةَ على مَنْكِبَيْهِ، وغسلَ ذِراعَيْهِ، ثم مسحَ بناصِيَتِهِ وعلَى العِمامةِ، ثم أَهوَيْتُ لأنزِعَ خُفَّيْهِ فقال: "دَعْهُمَا، فإنِّي أدْخَلْتُهُما طاهِرَتَيْنِ"، فمسحَ عليهِما، ثمَّ ركِبَ ورَكِبْتُ، فانتهَيْنَا إلى القَوْمِ وقدْ قامُوا إلى الصَّلاةِ يُصلِّي بهم عبدُ الرَّحمنِ بن عَوْفٍ - رضي الله عنه - وقدْ ركعَ بهم ركعةً، فلمَّا أحسرَّ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذهبَ يتأخَّرُ، فأَوْمأَ إليهِ، فأدركَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إحدى الرَّكعتَيْنِ معهُ، فلمَّا سلَّمَ قامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقُمْتُ، فَرَكَعْنا الرَّكْعَةَ التي سَبَقَتْنا. قوله: "تبرَّز"؛ أي: خرج "قِبَل الغائط" - بكسر القاف وبفتح الباء - أي: جانبَ وناحيةَ، يقضي فيه حاجته. "إداوة"؛ أي: مطهرة فيها الماء؛ ليتوضأ منها. قوله: "قبل الفجر"؛ أي: وكان خروجه لقضاء الحاجة قبل الفجر. وهذا دليلٌ على أن تحصيل أسباب الصلاة من الوضوء وغيره يستحبُّ قبل دخول الصلاة. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "عن علي".

"فلما رجع"؛ أي: فلما رجع من قضاء الحاجة "أخذت"؛ أي: طفِقْتُ أُهريق؛ أي: أصبُّ على يديه. وهذا دليلٌ على أن صبَّ الماء على يد المتوضَّئ ليتوضَّأ جائز. "فغسل يديه"؛ أي: كفيه. قوله: "وعليه جبة من صوف" وهذا دليلٌ على أن لبس الصوف سنةٌ. "ذهب"؛ أي: طفق "يحسر عن ذراعيه"؛ أي: يُبعد كمَّيه عن ذراعيه، "فضاق كمُّ الجبة" بحيث لا يقدر أن يخرج يده إلى المرافق عن كم الجبة من غايةِ ضيقِ الكم. وهذا دليلٌ على أن الكمَّ الضيِّقَ سنة. "أهويت"؛ أي: قصدتُ. قوله: "دعهما"؛ أي: اتركهما ولا تنزعهما عن رجليَّ "فإني أدخلْتُهما طاهرتين"؛ يعني: لبستهما في حالةِ كونِ قدميَّ طاهرتين، يعني: كنت على وضوءٍ كامل حين لبستهما، فيجوز المسحُ عليهما. وهذا دليلٌ على أن المسح على الخفين إنما يجوز إذا لبس الخفين على وضوء كامل. "فانتهينا"؛ أي: وصلنا. "يصلِّي بهم"؛ أي: كان عبد الرحمن بن عوف إمامَهم، وقد جاء في رواية أخرى: أن رسول الله - عليه السلام - قال لهم بعد الفراغ من الصلاة: "أحسنتم، صلُّوا الصلاة لوقتها"؛ يعني: إذا دخل وقت الصلاة صلُّوا الصلاة لوقتها، ولا تؤخِّروا الصلاة لانتظار الإمام، وتركُ انتظار الإمام إنما يستحبُّ إذا علموا أن الإمام يجيء بعد مضي زمان كثير، ولم يعلموا متى يجيء الإمام، أما

إذا علموا مجيء الإمام في زمانٍ يسيرٍ يستحبُّ انتظاره، وإن كان موضع الإمام قريبًا من المسجد يستحبُّ إعلامه وقتَ الصلاة. قوله: "وقد ركع بهم ركعة"؛ أي: وقد صلَّى بهم ركعةً " [فلما] أحس بالنبي عليه السلام"؛ أي: علم عبد الرحمن مجيء النبي عليه السلام "ذهب يتأخر"؛ أي: عزم على أن يتأخر عن موضعه؛ ليتقدم النبي عليه السلام. "فأومأ"؛ أي: أشار إليه النبي - عليه السلام - أن يكون على حاله، "فأدرك النبي - عليه السلام - إحدى الركعتين معه"، يعني: اقتدى النبي - عليه السلام - بعبد الرحمن في ركعتهم الباقية، وهذا دليل على أن اقتداء الأفضل بمن دونه جائز إذا علم الإمام أركان الصلاة. "فركعنا"؛ أي: صلينا. "سبقَتْنا"؛ أي: فاتت عنَّا مع الإمام. * * * مِنَ الحِسَان: 359 - قال أبو بَكْرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ رخَّص للمُسافرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيَهُنَّ، وللمُقيمِ يومًا وليلةً، إذا تطهَّرَ فلبِسَ خُفَّيْهِ أنْ يمسحَ عليهِما. (مِنَ الحِسَان): قوله: "أرخص"؛ أي: جوَّز. "فلبس خفَّيه" الفاء للتعقيب، يعني: ليكن وضوؤه متقدمًا على لبس الخف، فلو لبس الخفَّ على الحدث ثم توضأ لا يجوز المسح على الخف. "أبو بكرة": ثقفي، واسمه: نفيع بن الحارث بن كَلَدَة بن عمرو بن علاج. * * *

360 - وقال صَفوان بن عسَّال - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأْمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا أنْ لا نَنْزِعَ خِفافَنا ثلاثةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ إلاَّ مِنْ جنابةٍ، ولكنْ مِنْ غائطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ. قوله: "إذا كنَّا سفرًا"، (السَّفْر) بسكون الفاء؛ بمعنى المسافرين. "أن لا ننزع خفافنا"؛ أي: أن نمسح على خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، و (الخفاف): جمع خُفٍّ. "إلا من جنابة"؛ يعني: لا ننزع خفافنا إلا عند غُسلِ الجنابة؛ فإنه لا يجوز للمغتسل أن يمسح على الخف، بل يجب عليه نزعُ الخف وغسلُ الرجلين كسائر الأعضاء. قوله: "ولكن من غائطٍ وبول ونوم"؛ يعني: ننزع خفافنا عند غسل الجنابة، ولكن لا ننزعها عند البول والغائط والنوم، بل نتوضأ ونمسح على الخف. فإن قيل: لم لا يجوز المسح على الخف للمغتسل ويجوز للمتوضيء؟. قلنا: لأن الجنابة لا يكثر وقوعها، فلا يكون في نزع الخف عند غسل الجنابة مشقةٌ، وأما الحدث يكثر وقوعه، فيكون في نزع الخف مشقةٌ، فالمسحُ على الخف رخصةٌ، وورودُ الرخصة إنما يكون لرفع المشقة. * * * 361 - عن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه - أنه قال: وضَّأْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فمسحَ أعلى الخُفِّ وأسفلَه. قال الشيخ الإِمام - رضي الله عنه -: هذا مرسلٌ لا يثبت، ورُوي متصلًا:

362 - عن المُغيرة - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ على الخُفَّيْنِ على ظاهرهِما. قوله: "وضأت" بتشديد الضاد؛ أي: صببتُ ماء الوضوء على يدي رسول الله عليه السلام. قول الشيخ: "هذا مرسلٌ لا يثبت" بعد قوله: "عن المغيرة" غير مستقيم؛ لأن المرسل هو الحديث الذي يرويه التابعي عن رسول الله عليه السلام، ولم يذكر الصحابي، وها هنا ذكر المغيرة وهو صحابي، وهو راوي هذا الحديث، فكيف يكون مرسلاً؟. وأصل هذا الحديث: أن رجاء بن حَيْوَةَ روى عن ورَّادٍ كاتبِ المغيرة ومولاه: أن رسول الله - عليه السلام - مسح أعلى الخفِّ وأسفلَه. فالحديث على هذا الطريق مرسل؛ لأن ورَّادًا روى هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام، وترك ذكر المغيرة، وورَّادٌ تابعي. فإذا عرفتَ هذا؛ فاعلم أن السنَّة عند الشافعي ومالك: أن يمسح أعلى الخفِّ وأسفله، وعند أبي حنيفة: أن يمسح أعلى الخف دون أسفله. * * * 363 - وعن المُغيرة - رضي الله عنه - قال: توضَّأَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ على الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ. قوله: "ومسح على الجوربين والنعلين" قال الخطابي: معنى قوله: (مسح على الجوربين والنعلين) أن النعلين لبسهما فوق الجوربين. وقد جوَّز المسح على الجوربين: سفيان الثوري وأحمد بن حنبل. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا

11 - باب التيمم

ثخينين لا يصل الماء منهما إلى الرِّجلين. * * * 11 - باب التَّيمُّم (باب التيمم) مِنَ الصِّحَاحِ: 364 - عن حُذَيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْنا على النَّاسِ بثلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كصُفُوفِ الملائكَةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرضُ كُلُّها مسجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ". (من الصحاح): قوله: "فضِّلنا"؛ يعني: لم يكن واحدٌ من هذه الثلاثة للأمم المتقدمة؛ أي: فضَّلنا الله على الأمم المتقدِّمة بهذه الأشياء، وذلك لأن الأمم المتقدِّمة يقفون كيف اتَّفق من غير الصف، وأُمرنا أن نقف في الصلاة على الصف كما تقف الملائكة هكذا. ولم يجز للأمم المتقدمة أن يصلُّوا إلا في كنائسهم، وجاز لهذه الأمة أن يصلُّوا في جميع وجه الأرض إذا كان الموضعُ طاهرًا. ولم يجز التيمم لأحدٍ من الأمم المتقدمة، وكذلك لم يكن في أول الإسلام جائزًا حتى أضلَّت عائشة قلادةً وهي مع رسول الله - عليه السلام - في غزوٍ، فأقاموا في ذلك الموضع لطلب قلادة عائشة حتى دخل وقت الصلاة، ولم يكن هناك ماء، فاغتمَّ المسلمون لأجل الصلاة، وجاء أبو بكر عائشةَ وآذاها بالكلام، وقال: فوَّتِّ الصلاة على المسلمين، فنزلت آية التيمم، وهي قوله

تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى آخر الآية [النساء: 43]. قوله عليه السلام: "وجعلت تربتها لنا طهورًا"، (تربتها)، أي: ترابُ الأرض، (طهورًا)؛ أي: مطهِّرًا. قوله: "إذا لم نجد الماء"، (إذا): للشرط، يعني: لا يجوز التيمم إلا إذا لم يجد الماء، وكذلك يجوز لمَن به مرضٌ أو جراحةٌ يضرُّه استعمال الماء، يجوز التيمم مع وجود الماء. * * * 365 - وقال عِمْران: كُنَّا في سَفَرٍ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالنَّاسِ، فلمَّا انفتلَ إذا هو برَجُلٍ مُعتزلٍ لم يُصَلِّ مع القومِ، فقال: "ما منعَكَ أنْ تصلِّيَ معَ القومِ؟ "، قال: أصابَتْني جنابةٌ ولا ماءَ قال: "عليكَ بالصَّعيدِ فإنَّه يكفيك". قوله: "وقال عمران: كنا في سفرٍ مع النبي - عليه السلام - فصلى بالناس، فلما انفتل إذا هو برجلٍ معتزلٍ". قوله: "انفتل"؛ أي: رجع وفرغ من الصلاة، "إذا هو برجل"؛ أي: إذا رسول الله - عليه السلام - حاصل برجل؛ يعني: رأى رسول الله - عليه السلام - رجلًا واقفًا في ناحية لم يصلِّ مع القوم. "معتزل": اسم فاعلٍ من اعتزل: إذا خرج من بين القوم، ووقف في جانبٍ منفردًا. "عليك بالصعيد"؛ يعني: يلزم عليك التيمُّمُ بالصعيد، و (الصعيد): التراب عند الشافعي، ووجهُ الأرض سواءٌ كان عليها الترابُ أو لم يكن عند أبي حنيفة. قوله: "فإنه يكفيك": أي: سيغنيك عن الوضوء، ويدفع عنك القضاء، بل من تيمم وصلَّى فلا قضاء عليه سواءٌ كان محدِثًا أو جنبًا. * * *

366 - وقال عمَّار - رضي الله عنه -: كُنَّا في سَرِيَّةٍ فأجْنَبْتُ، فتمعَّكْتُ فصلَّيْتُ، فذكرتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّما كانَ يكفيكَ هكذا"، فضربَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكَفَّيْهِ الأرضَ ونفخَ فيهما، ثمَّ مسحَ بهما وجهَهُ وكفَّيْهِ. وفي روايةٍ قال: فأَتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنما يَكفيكَ أنْ تضربَ بيَدَيْكَ الأرضَ، ثمَّ تنفُخَ، ثمَّ تمسحَ بهما وجهَكَ وكَفَّيْكَ". قوله: "كنا في سرية"، (السرية): قطعة من الجيش، يقال: خير السرية: أربع مئة رجل. "فتمعكت"؛ أي: تمرَّغْتُ في التراب؛ أي: أوصلتُ التراب إلى جميع أعضائي، وظننتُ أن إيصال التراب إلى جميع الأعضاء واجبٌ في الجنابة، كإيصال الماء إلى جميع الأعضاء. قوله: "فضرب النبي - عليه السلام - بكفيه الأرض ونفخ فيهما" إنما نفخ فيهما لأنه حصل في كفيه ترابٌ كثير، فنفخ فيهما ليَقِلَّ التراب، ولو نفخ حتى يذهب جميع التراب من الكف لم يجز التيمم عند الشافعي؛ لأن إيصال التراب إلى الوجه واليدين واجب عنده. ويجوز عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن إيصال التراب إلى الوجه واليدين غير واجب عنده، بل الواجبُ عنده ضربُ الكفين على وجه الأرض، وإن كان على حجر أملس. وهذا الحديث يدل على أنه يكفي ضربةٌ واحدة للوجه والكفين، وبه قال أحمد والأوزاعي. وأما عند مالكٍ والشافعي وأبي حنيفة: لا يجوز إلا بضربتين للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، بدليلِ حديث ابن عمر، وقد ذكر في آخر باب مخالطة الجنب. * * *

367 - عن أبي جُهَيْم بن الحارِث بن الصِّمَّة قال: مَرَرْتُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يبولُ، فسلَّمْتُ عليه، فلمْ يَرُدَّ عليَّ حتَّى قامَ إلى جِدارٍ، فحتَّهُ بعَصًا كانتْ معه، ثمَّ وضعَ يده على الجدارِ، فمسحَ وجهَهُ وذِراعَيْهِ، ثمَّ ردَّ عليَّ. قوله: "فحته"؛ أي: فحتَّه وخدشه حتى يحصل منه تراب. هذا الحديث يدل على استحباب ذكر الله تعالى في حال الطهارة؛ لأن السلام من أسماء الله تعالى. قوله: "وضع يده على الجدار"؛ أي: ضرب بيده على الجدار. "أبو الجُهيم"، وقيل: أبو الجهم، اسمه: الحارث بن الصَّمَة - بكسر الصاد وتخفيف الميم - الأنصاري. * * * مِنَ الحِسَان: 368 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ المسلمِ وإنْ لمْ يجِدِ الماءَ عَشْرَ سنِينَ، فإذا وجدَ الماءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فإنَّ ذلك خَيْرٌ". قوله: "إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين". و"الوضوء" بفتح الواو: ماء الوُضوء، والمراد ها هنا: أن التراب بمنزلة ماء الوضوء في صحة الصلاة بالتيمم. قوله: "وإن لم يجد الماء عشر سنين" والمراد بعشر سنين: الكثرة؛ يعني: وإن لم يجد الماء مدةً طويلة، وليس المراد منه أنه لا يجوز فوق عشر سنين، بل يجوز أبدًا إن لم يجد الماء. قوله: "فليُمِسه" بضم الياء وكسر الميم، وهو مضارعُ (أَمسَّ)، يقال:

مَسِسْتُ اليدَ، وأَمْسَسْتُ الماءَ اليدَ؛ أي: مسحت اليدَ بالماء، و"البَشَر والبَشَرة": وجه الجلد؛ يعني: إذا وجد الماء فليتوضأ. قوله: "فإن ذلك خير": ليس معنى هذا أن الوضوء والتيمم كلاهما جائزٌ عند وجود الماء لكنَّ الوضوء خير، بل المراد منه: أن الوضوء واجبٌ عند وجود الماء، ولا يجوز التيمم. وهذا نظير قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] مع أنه لا خير ولا حُسْنَ لمستقَرِّ أصحاب النار ومَقيلهم، و (المقيل): موضع القيلولة، وهو النوم نصف النهار. * * * 369 - وقال جابرٌ: خَرَجْنا في سفَرٍ، فأصابَ رَجُلاً مِنَّا حجَرٌ فشجَّهُ في رأسِهِ، فاحتلَمَ، فسألَ أصحابَهُ: هَلْ تجدُونَ لي رُخصةً في التَّيمُّمِ؟ قالوا: ما نجدُ لكَ رُخصةً وأنتَ تقدِرُ على الماءِ، فاغتَسَلَ فمات، فلمَّا قدِمْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بذلك، قال: "قتلُوهُ قتلَهُمُ الله، ألا سالُوا إذْ لمْ يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كانَ يَكفيهِ أنْ يتيمَّمَ، وَيَعصبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثمَّ يمسحَ عليها، ويغسِلَ سائرَ جسَدِهِ". قوله: "فشجه"؛ أي: كسره الحجر، و"في رأسه" بيانٌ لموضع الشج، يعني: كسر رأسه. "فاحتلم"؛ أي: أصابته جنابةٌ، وخاف أن يقع الماء في الجراحة لو اغتسل. "العي" بكسر العين: التحيُّر في الكلام، يعني: لمَ لم يسألوا، ولم يتعلَّموا ما لا يعلمون، فإنه لا شفاء لداء الجهل إلا التعلُّم.

12 - باب الغسل المسنون

التعصيب: الشد، "أن يعصب"؛ أي: أن يشد خرقةً على جرحه حتى لا يصل إليه الماء، ويمسح بالماء على وجه الخرقة ويتيمم. وفي الفقه خلافٌ في تقديم التيمم على الوضوء وتأخيره، وليس في الغسل ترتيب. * * * 12 - باب الغُسْل المَسْنون (باب الغسل المسنون) مِنَ الصِّحَاحِ: 371 - عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءَ أحدُكُم الجُمعَة فَلْيَغْتَسِل". (مِنَ الصِّحَاحِ): قوله: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" هذا أمرُ سنةٍ لا وجوبٍ، وغسلُ الجمعة لا يصحُّ قبل الصبح. * * * 372 - وقال: "غُسْلُ يومِ الجمعةِ واجِبٌ على كُلِّ مُحْتَلِمٍ"، رواه أبو سعيد الخُدري - رضي الله عنه -. قوله: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". قوله: "واجب": هذا تأكيد الاستحباب، وليس المراد به الوجوب، وهذا كقول القائل: حقُّ فلان علينا واجبٌ، ودعاؤه واجب. ومعلومٌ أن دعاءه غير واجب.

قوله: "على كل محتلم"؛ أي: بالغ؛ لأن الصبي غير مأمور، وعلَّة الغُسل: إزالة الوسخ والرائحة الكريهة كي لا يتأذى بعض الناس برائحة بعض. * * * 373 - وقال: "حقٌّ على كُلِّ مُسلمٍ أنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبعةِ أيَّامٍ يومًا يَغسِلُ فيه رأسَهُ وجَسَدَهُ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "حق على كل مسلم"! بحثُ قوله: "حق"، كبحثِ قوله: "واجب"، وقد ذكر. * * * مِنَ الحِسَان: 374 - عن سَمُرَة بن جُنْدب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ توضَّأَ يومَ الجمعةِ فَبِها ونِعْمَتْ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفْضَلُ". قوله: "فبها"؛ أي: فبالشريعة أَخَذَ، و"نعمت"؛ أي: نعمت الخصلةُ الوضوء. هذا الحديث صريحٌ بأن غسل الجمعة سنَّة. * * * 375 - وقال: "مَنْ غَسَّلَ مَيَّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، ومَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأَ"، رواه أبو هريرة. وقال: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". علة الغسل: أنه ربما يلحقه رَشاشٌ من الماء المغسول به الميت من

موضعٍ فيه نجاسة، وربما يعرق من الخوف والدهشة، فيستحبُّ له الغسل لإزالة العرق ورائحة الإبط الحاصلةِ في ذلك الوقت، ولتطهير أعضائه من الرشاش. فإن قيل: قد قلتم: إن الغسل لإزالة الرشاش النجس، فينبغي أن يكون الغسل واجبًا؛ لأن إزالة النجاسة واجبة. قلنا: إنما يجب إذا تحقَّق وصول الرشاش النجس إليه، وها هنا لم يتحقق، بل يحتمل، فيستحب ولا يجب، وأما الوضوء لحمل الجنازة: وإن لم يكن له الوضوء، فالوضوء عليه واجبٌ إذا أراد الصلاة على الميت، وإن كان له الوضوء قبل الحمل، ثم حمل الميت، فيستحبُّ له تجديدُ الوضوء بعد وضع الجنازة احتياطًا؛ لأنه ربما خرج منه ريحٌ لشدة دهشته وخوفه من حمل الجنازة وثقلِ حمل الجنازة، وهو لا يعلم بذلك من الدهشة، وربما يتغير وجهه من الخوف، فيستحب له الوضوء لإزالة التغير. وقيل: قوله: (فليتوضأ)؛ يعني: ليكون على الوضوء حين حمل الجنازة؛ ليصلي على الميت. * * * 376 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يغتسِلُ مِنْ أربَعٍ: مِنَ الجَنابةِ، ويومَ الجُمعةِ، ومِنَ الحِجامَةِ، وغُسْلِ الميِّتِ. قولها: "ومن الحجامة"، يعني: مَن احتجم يستحبُّ له أن يغتسل؛ لأنه ربما يصيبه رشاشٌ من الدم وهو لا يعلم. قولها: "وغسل الميت" ليس المراد به أن النبي - عليه السلام - غسل ميتًا فاغتسل من غسله، بل معناه أمرُ مَن غسل ميتًا بالاغتسال بعد الفراغ من غسله. * * *

377 - عن قَيْس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنَّهُ أسلمَ، فأمَرَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يغتسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ. قوله: "فأمره النبي - عليه السلام - أن يغتسل بماء وسدر". الكافر إذا أسلم وقد جامع أو احتلم في الكفر فهو جنب، والغسلُ عليه فريضة، وإن اغتسل في الكفر لم يصح غسله؛ لأن الغسل يحتاج إلى النية، والنية عبادة، والعبادة لا تصح من الكافر. وعند أبي حنيفة: يكفيه اغتساله في حال الكفر، وفيه قول الشافعي - رضي الله عنه -. فأما إذا أسلم الكافر ولم يكن جنبًا، بأن بلغ بالسنِّ، ولم يجامع ولم يحتلم، فالسنَّة أن يغتسل. وهل يغتسل قبل قول كلمتي الشهادة أو بعدها؟ فيه خلافٌ، والأصح: تأخير الغسل على قول كلمتي الشهادة، يؤمر أولاً بقول كلمتي الشهادة، ثم يؤمر بالغسل. والغرض من اغتساله: تطهيرٌ من النجاسة المحتملة على أعضائه، ومن الوسخ والرائحة الكريهة. وعند مالك وأحمد: يجب عليه الغسل، وإن لم يكن جنبًا. وأما الغُسل بالماء والسِّدر؛ فاستعمال السِّدر للتنظيف؛ لأن السدر يطيِّبُ الجسد، وهذا إذا جُعل السدر في الماء ولم يتغيَّر الماء، فإن تغيَّر يصبُّ الماء المتغير على جسده للتطيُّب (¬1)، ثم يصب الماء الصافي على جسده ليصح اغتساله. ويحتمل أن يريد باستعمال السدر غسلَ الرأس به. كنية "قيس": أبو علي، واسم جده: سنان بن خالد بن منقر بن عبيد ¬

_ (¬1) في "ش": "للتنظيف".

13 - باب الحيض

التميمي، والله أعلم. * * * 13 - باب الحيض (باب الحيض) مِنَ الصِّحَاحِ: 378 - قال أنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ اليهودَ كانُوا إذا حاضَتْ المرأةُ منهُمْ لمْ يُوْاكِلُوها، فسألَ أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلَ الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اصنَعُوا كُلَّ شيءٍ الاَّ النِّكاحَ". (مِنَ الصِّحَاحِ): قوله: "إن اليهود"، (اليهود): جمعٌ، واحدها: يهودي. آكل يؤاكل مؤاكلةً: إذا أكل واحدٌ مع واحدٍ. "لم يؤاكلوها"؛ يعني: يحترزون عنها في الأكل والشرب. قوله: "فسأل أصحاب النبي"؛ يعني: سأل الصحابة رسول الله - عليه السلام - عن ذلك: هل نجانبهن في الأكل والشرب ومساكنتهن في حال الحيض كما فعلت الهود، أم لا؟، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. (المحيض) في قوله: {عَنِ الْمَحِيضِ}: زمان؛ يعني: يسألونك عن حكم زمان الحيض {قُلْ هُوَ أَذًى (¬1)}؛ أي: هو قذرٌ ونجسٌ يتأذى أزواجهن بمجامعتهن ¬

_ (¬1) جاء في هامش "ش": "فإن قيل: لِمَ قال {قُلْ هُوَ أَذًى} وهذا مما لا يشك فيه أحد؟ قلت: الأذى هو المكروه الذي ليس شديدًا جدًا كقوله تعالى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}، فالمعنى أنه أذى يسيرٌ يُعتزل موضعه لا غير".

في ذلك الوقت {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ}؛ أي: ابعدوا منهن {فِي الْمَحِيضِ}؛ أي: في مكان المحيض وهو الفرج. يعني: الحيض أذى يتأذى الزوج من مجامعتها فقط، وليس أن يحصل منها للزوج أذًى من سائر أعضائها حتى يُخرجها الزوج من فراشه ومجلسه، ويتركَ مؤاكلتها كفعل اليهود. قوله عليه السلام: "اصنعوا"؛ أي: افعلوا "كل شيء" من المضاجعة، والمؤاكلة معهن، وملامستهن، "إلا النكاح"؛ أي: الجماع. فعند أبي حنيفة - رحمه الله - والشافعي ومالك: يحرم ملامَسةُ الحائض فيما بين السرة والركبة. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وفي وجهٍ من أصحاب الشافعي: أنه تحرم المجامعة فقط بدليل هذا الحديث، فإنه قال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". ودليل أبي حنيفة والشافعي ومالك: حديث عائشة، ويأتي بعد هذا. * * * 379 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كنتُ أغتَسِلُ أنا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إناءٍ واحدٍ وكِلانا جُنبٌ، وكانَ يأمُرُني فأتَّزِر، فيُباشِرُني وأنا حائضٌ، وكان يُخرِجَ رأسَهُ إليَّ وهو مُعتكِفٌ فأغسِلُه وأنا حائض. قولها: "فأتَّزِرُ"، أي: فأعقد الإزار في وسطي، "فيباشرني"؛ أي: فيلامسني فوق الإزار. قولها: "وكان يخرج رأسه"؛ يعني: كان النبي - عليه السلام - معتكفًا في المسجد، وكان باب الحجرة مفتوحًا إلى المسجد، فيخرج رأسه من المسجد

إلى الحجرة، فتغسله عائشة. وهذا دليلٌ على ترك مجانبة الحائض، ودليلٌ أيضًا على أن المعتكف إذا أخرج بعض أعضائه من المسجد لم يبطل اعتكافه. * * * 380 - وقالت: كنتُ أشربُ وأنا حائضٌ، ثمَّ أُناوِلُهُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيضَعُ فاهُ على مَوضِعِ فِيَّ، فيشرَبُ، وأَتَعَرَّقُ العَرْقَ وأنا حائضٌ، ثم أُناوِلُهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ على موضعِ فِيَّ. المناولة: الإعطاء، "ثم أناوله النبي عليه السلام"؛ أي: ثم أعطي الإناء النبي. "فاه"؛ أي: فمه. "فيّ" بتشديد الياء؛ أي: فمي. "وأتعرق"؛ أي: أفصل اللحم بفمي، من العَرْق - بفتح العين -: وهو العظم الذي عليه اللحم. * * * 381 - وقالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتَّكِئُ في حَجْري وأنا حائضٌ، ثمَّ يقرأُ القُرآنَ. "وقالت"؛ أي: وقالت عائشة. هذه الأحاديث تدلُّ على جواز مؤاكلة الحائض ومجالستها. * * * 382 - وقالت: قالَ لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ناوِلِيني الخُمْرَةَ مِنَ المسجِدِ"،

فقلت: إنِّي حائضٌ! فقال: "إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يدِكِ". "وقالت"؛ أي: وقالت عائشة: "قال لي النبي - عليه السلام -: ناوليني الخمرة"؛ أي: أعطيني، و (الخمرة): السجَّادة. "من المسجد"؛ أي: ناداني من المسجد، وهو في المسجد حين قال: "ناوليني الخمرة". "إن حيضتك ليست في يدك"؛ يعني: ليست يدك نجسةً؛ لأن الحيض يخرج من موضع آخر لا من يدك، فلا بأس بأن تعطيني الخُمرة. وقيل: معناه: ليس مجيء حيضتك باختيارك، فإذا لم يكن باختيارك، فلا بأس بمجالستك ومؤاكلتك، وأن تأخذي شيئًا بيدك. * * * 383 - وقالت ميمونة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في مِرْطٍ، بعضُهُ عليَّ وبعضُهُ عليهِ، وأنا حائضٌ. قولها: "في مرط"، (المرط): شبهُ ملحفة، يعني: بعض المرط ألقاه رسول الله - عليه السلام - على كتفه يصلِّي، وبعضه أنا ملتفَّةٌ به. * * * مِنَ الحِسَان: 384 - قال أبو هُريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَتى حائضًا أو امرأةً في دُبُرِها، أو كاهِنًا فقدْ كَفَر بما أُنزِلَ على مُحمَّدٍ"، ضعيف. قوله: "من أتى"؛ أي: مَن جامَعَ. قوله: "أو كاهنًا"، (الكاهن): الذي يخبر عمَّا يكون في الزمان المستقبل

بالنجوم، أو بأشياء مكتوبةٍ في الكتب من أكاذيب الجن؛ لأن الجن كانوا يصعدون السماء قبل بعثة النبي - عليه السلام - فيستمعون ما تقول الملائكة في السماء من أحوال أهل الأرض، من قَدْرِ أعمالهم وأرزاقهم، وما يحدث من الحوادث، فيأتون إلى الكهنة ويخبرونهم بذلك، فيخبر الكهنة الناس بذلك، ويخلطون بكلِّ حديث مئة كذبة. وقد كتبوا تلك الأشياء في كتبهم، فبقيت تلك الكتب بين الناس، فيقرأ [بها] جماعة من الناس (¬1)، فيتحدثون بما فيها. يعني: مَن جامع امرأة في حال الحيض أو في دبرها معتقدًا تحليله، أو سأل كاهنًا عن حالٍ معتقدًا أنه حق وصدق؛ فقد كفر؛ لأن تحليل الحرام كفر، وإن علم بطلان ذلك وتحريمه كان فاسقًا، فيكون معنى "كفر" حينئذٍ: كفران نعمة الله، أو يكون للتهديد والوعيد الشديد. * * * 386 - عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يَحِلُّ للرجلِ مِنْ امرأتِهِ وهي حائضٌ؟ قال: "ما فَوْقَ الإِزار، والتَّعفُّفُ عن ذلكَ أفضل"، إسناده ليس بقوي. قوله: "التعفف عن ذلك أفضل"، (التعفف): الاحتراز (عن ذلك)؛ أي: عما فوق الإزار (أفضل). وإسناد هذا الحديث ليس بقويٍّ، وحكمُه ضعيف؛ لأنه قد تقدم أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر عائشة بالاتَّزار ويباشرها فوق الإزار؛ أي: ولو كان التعفف عمَّا فوق الإزار أفضل لتعفَّف عن ذلك. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "فيقرأ جماعة من الناس تلك الكتب"

14 - باب المستحاضة

385 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقَعَ الرجلُ بأَهلِهِ وهي حائضٌ فلْيَتَصَدَّقْ بنصْفِ دِينارٍ". ويُروى: "إذا كانَ دَمًا أحمرَ فدِيْنارٌ، وإذا كانَ أصفَرَ فنِصْفُ دينارٍ". قوله: "إذا وقع الرجل بأهله"؛ أي: إذا جامع امرأته في حال الحيض؛ فمذهب أحمد بن حنبل، والقولُ القديم للشافعي: وجوب الكفارة المذكورة في هذا الحديث. ومذهب أبي حنيفة ومالكٍ والقولُ الجديد الأصحُّ للشافعي: أنها غير واجبةٍ، بل هي مستحبةٌ، وعليه الاستغفارُ، وهؤلاء زعموا: أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس - رضي الله عنهما -. * * * 14 - باب المستحاضة (باب المستحاضة) مِنَ الصِّحَاحِ: 387 - قالت عائشة رضي الله عنها: جاءتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيْشٍ رضي الله عنها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! إنِّي امرأةٌ أُسْتَحاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفأدَعُ الصَّلاةَ؟ فقال: "لا، إنَّما ذلك عِرْقٌ وليسَ بحَيْضٍ، فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُكِ فدَعي الصَّلاةَ، وإذا أدبَرَتْ فاغسِلي عنكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي". قوله: "أستحاض" هذا اللفظ جاء على بناء المجهول، يقال: (استُحيضت المرأة تستحاض): إذا جاوز دمها على أيام الحيض.

"أفأدع" الهمزة الأولى للاستفهام؛ أي: أفأترك. "إنما ذلك عِرْقٌ"؛ أي: عرقٌ ينشقُّ وينفجر منه الدم، وذلك العرق غيرُ عرق الحيض؛ لأن أكثر الحيض عند الشافعي: خمسة عشر يومًا، وعند أبي حنيفة: عشرة أيام، ولم يقل أحد: أن الدم الدائم حيضٌ، فإذا لم يكن حيضًا وجب عليها أداء الصلاة، لكن عليها أن تغسل لكل صلاة مفروضة فرجَها، وتشدَّه بعصابة، وتتوضأ، وتستعجل في أداء الصلاة، وهي معذورةٌ في جريان دمها في الصلاة وغيرها. قوله عليه السلام: "فإذا أقبلت حيضتك" هذه المرأة كانت لها عادة معلومة، فقال لها رسول الله عليه السلام: فإذا كان أيام حيضتك "فدعي الصلاة"؛ أي: فاتركي الصلاة، "وإذا أدبرت"؛ أي: إذا ذهبت حيضتك وجاوز الدم أيامَ عادتك في الحيض فاغتسلي مرةً واحدة، ثم توضئي لكل صلاة. مثاله: إذا كانت عادة امرأة أن تحيض خمسة أيام في أول شهر، ثم ينقطع دمها إلى آخر الشهر، وكذلك في شهر ثان، وثالث، ثم جاوز دمها الخمسة التي هي أيام عادتها ومجيء دمها أبدًا، فعليها أن تترك الصلاة خمسة أيام من أول كلِّ شهر؛ لأن الخمسة أيام عادتها، ثم تغتسل مرةً في أول اليوم السادس، ثم تتوضأ لكل صلاة وتصلي إلى آخر الشهر. اسم جدِّ "فاطمة": المطَّلبُ بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية. * * * مِنَ الحِسَان: 388 - عن عُرْوةَ بن الزُّبَيْر - رضي الله عنهما - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيْشٍ

رضي الله عنها: "إذا كانَ دمُ الحَيْضِ فإنَّه دَمٌ أسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذا كانَ ذلكَ فأمْسِكي عَنِ الصَّلاةِ، فإذا كانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئي وصَلِّي، فإنَّما هو عِرْقٌ". قوله: "يعرف"؛ أي: تعرفه النساء، هذا دليل التمييز. والمستحاضة إذا كانت مميِّزةً بأن ترى في بعض الأيام دمًا أسود، وفي بعضها دمًا أحمر أو أصفر؛ فالدم الأسود حيضٌ، بشرط أن لا ينقص من يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر يومًا، والدم الأحمر والأصفر دم استحاضة، بشرط أن لا ينقص الدم الأحمر والأصفر الواقع بين أسودين عن خمسة عشر يومًا، فإن زال شرطٌ من هذه الشُّروط، فليست بمميِّزة. وإذا لم تكن مميِّزة أو فقدت شرط تمييزها، وليست لها عادة، أو كانت لها عادة فنسيت عادتها، يُجعل حيضها في أول كلِّ شهر يومٌ وليلة في قول، وستةٌ أو سبعةٌ في قول، ثم تؤمر بالوضوء والصلاة إلى آخر الشهر. "فأمسكي"؛ أي: اتركي. * * * 389 - عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أنَّ امرأةٌ كانتْ تُهراقُ الدَّمَ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَفْتَتْ لها أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لِتَنْظُرَ عددَ اللَّيالي والأيَّامِ التي كانتْ تَحيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْر قَبْلَ أنْ يُصيبَها الذي أصابَها، فلتُترُك الصَّلاةَ قَدْرَ ذلكَ مِنَ الشَّهْرِ، فإذا خلَّفَتْ ذلكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بثَوْبٍ، ثمَّ لِتُصلِّي". قولها: "تُهراق الدم" هذا اللفظ يستعمل على بناء المجهول إذا كان في باب الاستحاضة، كلفظ تُستحاض، ومعنى (تُهراق الدم)؛ أي: صُيِّرت ذات هراقة الدم. الهراقة: الإراقة، وهي صبُّ الدم وغيرِه، يعني: صارت مستحاضة.

"فاستفتت"؛ أي: سألت. قوله - عليه السلام -: "لتنظر عدد الليالي والأيام": هذه المرأة كانت لها عادةٌ معلومة في الحيض قبل الاستحاضة، فأمر النبي - عليه السلام - أن تحفظ عدد أيام عادتها من الحيض، فتتركَ الصلاة قَدْرَ عدد أيام عادتها في الحيض في الوقت الذي كانت تحيض فيه من أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره، فإذا مضت أيام حيضها تغتسل مرة واحدة، ثم تتوضأ لكل صلاة فريضة، ثم تصلي. قوله: "قبل أن يصيبها الذي أصابها"؛ أي: قبل الاستحاضة. "قدر ذلك"؛ أي: قدر حيضها. "فإذا خلفت"؛ أي: فإذا جاوزت "ذلك" القدر - أي: أيام حيضها - ودخلت في أيام الاستحاضة. (التخليف): أن يترك أحدٌ شيئًا خلف ظهره. "ثم لتستثفر"؛ أي: ثم لتشدَّ فرجها بثوب، و (الاستثفار): أن تشدَّ المرأة ثوبًا بين رجليها بحيث يكون دُبُرها وفرجُها مشدودًا، ويكون أحد طرفي ذلك الثوب مشدودًا من خلف دبرها إلى وسطها، والطرف الآخر من قُبلها إلى وسطها مشدودًا أيضًا. * * * 390 - ويُروى عن عَديِّ بن ثابتٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المُستَحاضة: "تَدعُ الصَّلاةَ أيَّامَ أَقرائها التي كانتْ تَحيضُ فيها، ثمَّ تغتسِلُ وتتوضَّأُ عندَ كُلِّ صلاةٍ، وتصومُ وتُصلِّي". قوله: "تدع الصلاة"؛ أي: تترك الصلاة أيام أقرائها. (الأقراء): جمع قرءٍ، والقرء مشتركٌ بين الحيض والطهر، والمراد ها هنا به: الحيض،

يعني: أيام حيضها. يعني: تترك الصلاة بقَدْرِ أيام عادتها من الحيض، فإذا مضى ذلك القدرُ تغتسل مرة واحدة، ثم تتوضأ لكلِّ صلاةٍ وتصلِّي وتصوم. * * * 391 - وقالت حَمْنَة بنت جَحْش: كُنْتُ أُستَحاضُ حَيْضةً كثيرةً شديدةً، فجئتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أسْتَفْتيه، فقال: "إنِّي أنْعَتُ لكِ الكُرْسُفَ، فإنه يُذْهِبُ الدَّمَ"، فقلتُ: هو أكثرُ مِنْ ذلكَ، قال: "تَلَجَّمي"، قلتُ: هو أكثرُ من ذلك، إنما أثُجُّ ثَجًّا، قال: "إنَّما هيَ رَكْضَةٌ مِنْ رَكضاتِ الشَّيطانِ، فتحَيَّضي سِتةَ أيَّامٍ أو سَبْعَةَ أيَّامٍ في عِلْمِ الله، ثمَّ اغْتَسِلي، فَصَلِّي أرْبَعًا وعشرينَ ليلةً وأيَّامَها، أو ثلاثًا وعشرينَ ليلةً وأيَّامَها، وصُومي، وكذلك افعَلي في كُلِّ شَهْرٍ كما تحيضُ النساءُ وكما يَطْهُرْنَ، ميقاتَ حَيْضِهِنَّ وطُهْرِهِنَّ". وفي روايةٍ: "وإنْ قَوِيتِ على أنْ تُؤخِّري الظُّهْرَ وتُعَجِّلي العَصْرَ فتغْتَسِلينَ وتجمعينَ بينَ الصَّلاتينِ، وتُؤخِّرينَ المغْرِبَ وتُعجِّلينَ العِشاءَ، ثم تَغْتَسِلينَ وتجمعينَ بينَ الصَّلاتينِ فافعلي، وصُومي إنْ قَدَرْتِ على ذلك"، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أَعجَبُ الأَمرَيْنِ إليَّ". قولها: "أستحاض حيضة" معنى ذلك "كثيرة"، (حيضة) بفتح الحاء؛ يعني: يجري دمي أشد جريانًا من دم الحيض. "أستفتيه"؛ أي: أسأله عن حكمها. "أنعت لك الكُرْسُفَ"، (أنعت): الهمزة للمتكلم؛ أي: أصف لك الكرسف بكونه مُذهبًا للدم، فاستعمليه لعل دمك ينقطع، (الكرسف): القطن. وإنما أمرها رسول الله - عليه السلام - باستعمال الكرسف؛ لأنه - عليه السلام

- ظن أن دمها ليس شديد الجريان، فلما قالت: "هو أكثر من ذلك"، فأمرها رسول الله - عليه السلام - بالتلجُّم، وهو شدُّ الفرج بثوب، وهو مثلُ الاستثفار. وقد ذكر قولها: "إنما أنا آثج ثجاً"، ثج - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - ثجًا: إذا جرى الدم والماءُ جريانًا شديدًا. قوله عليه السلام: "إنما هي ركضة من ركضات الشيطان"، (الركضة): ضرب الأرض بالرِّجل حالَ العدو؛ يعني: هذه الحالة أو هذه العلةُ مما وجد الشيطان إليك سبيله ومراده، بأن يحيرك في أمر دينك من الصلاة والصوم في هذه الحالة، ويأمرك بترك الصلاة وغيرها من العبادات، فلا تطيعيه بل "تحيَّضي"؛ أي: اجعلي نفسك حائضةً "ستة أيام أو سبعة أيام" فاتركي الصلاة والصوم فيها، "ثم اغتسلي" مرة واحدة بعد مضي الست أو السبع، ثم توضَّئي لكل صلاة فريضة، وصلي وصومي بقية الشهر، وهي ثلاثة وعشرون يومًا إن كانت مدة الحيض سبعة، وأربعة وعشرون إن كانت مدة الحيض ستة. فإن قيل: أيُّ لفظ في هذا الحديث يدل على أن دمها أكثر من مدة الحيض، فإنها ما قالت: إن مدة دمي أكثر من مدة الحيض، بل قالت: (هو أكثر من ذلك)، وقولها: هو أكثر من أن يدفعه الكرسف والتلجم؟. قلنا: فهم النبي - عليه السلام - كونها مستحاضة من قولها: (أستحاض)، أو من قولها في رواية أخرى: قد منعتني الصلاةَ؛ يعني: الحيضةُ المُجاوِزةُ (¬1) عن قَدْر الحيض منعتني الصلاة، أو فهم من قولها: (أثج ثجًا)؛ لأن دم الحيض لا يكون جريانه شديدًا على الغالب، والجريان الشديد إنما يكون لدم العلة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "ش": "المتجاوزة".

و (أو) في قوله - عليه السلام - (ستة أو سبعة) معناه: اجعلي حيضك كحيض أقاربك: إن كانت عادة أقاربك ستةً فاجعلي حيضك ستةً، وإن كانت عادتهن سبعة فاجعلي حيضتك سبعة. واعلم أن العلماء اختلفوا في أن هذه المرأة كانت مبتدأةً في الحيض، أو كانت معتادةً ناسيةً لعدد عادتها. قال الخطَّابي: والأصح أنها كانت مبتدأةً. "في علم الله"؛ أي: فيما عَلِمَ الله من أمرك من الست أو السبع؛ أي: هذا شيءٌ بينك وبين الله، والله يعلم ما تفعلين من الإتيان بما أمرتُك، أو تركِه. وقيل: في (علم الله)؛ أي: في حُكم الله؛ أي: ما أمرتُك فهو حكم الله. وقيل: (في علم الله)؛ أي: فيما أَعْلَمَكِ الله من عادة النساء من الست أو السبع. قوله: "كما تحيض النساء وكما يطهرن"؛ يعني: اجعلي حيضك بقَدْرِ ما تكون عادة النساء من ستٍّ أو سبع، وكذلك اجعلي طُهرك بقَدْرِ ما تكون عادة النساء من ثلاثةٍ وعشرين، أو أربعة وعشرين. قوله: "ميقات حيضهن وطهرهن"؛ يعني: كما تُجعل عددُ حيضك وطهرك بقَدْرِ عدد حيض النساء وطهرهن، فكذلك اجعلي طهرك وقتَ حيضك، أو طهرك وقت حيض النساء وطهرهن، إن كان وقت حيضهن في أول الشهر؛ فليكن حيضك في ذلك الوقت. "حمنة" بالحاء غير المعجمة، وأبوها "جحش" بتقديم الجيم على الحاء غير المعجمة، وجدها: رئاب، من بني أسد، أخت زينب زوجةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ° ° °

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المَفَاتِيْحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ [2]

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م

4 - كتاب الصلاة

4 - كِتابُ الصَّلَاةِ

[4] كِتابُ الصَّلاةِ (كِتابُ الصَّلاةِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 392 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلواتُ الخَمْسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكَفِّراتٌ لمَا بينهُنَّ إذا اجْتَنَبَ الكبائرَ". قوله: "الصلوات الخمس ... " إلى آخره. يعني: مَن صلَّى صلوات الخمس وصلاةَ الجمعة، وصام شهر رمضان، غُفرت الصغائر من ذنوبه. * * * 393 - وقال: "أرأيتُمْ لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكُمْ يَغتسِلُ فيهِ كُلَّ يومٍ خَمْسًا، هل يَبقى مِنْ دَرَنِه شيءٌ؟ "، قالوا: لا، قال: "فذلكَ مَثَلُ الصَّلواتِ الخَمْسِ يمحُو الله بهِنَّ الخَطايا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "من درنه"؛ أي: من وسخه. "يمحو الله بهنَّ الخَطايا"؛ يعني: يزيل ويغفر ببركة الصلوات الخمس

الذنوبَ الصغائر، (الخطايا): جمع خطيئة. * * * 394 - عن ابن مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً أَصابَ مِنْ امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَهُ، فأنزلَ الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فقالَ الرَّجُلُ: يا رسولَ الله! ألي هذا خاصةً؟ قال: "لجميعِ أُمَّتي كُلِّهم". وفي روايةٍ: "لِمَنْ عملَ بها مِنْ أُمَّتي". "قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} " قال مقاتل: صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف. " {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} "؛ أي: صلاة العشاء، و (الزُّلف): جمع زُلْفةٍ، وهي قطعة من الليل؛ يعني: مَن صلَّى صلوات الخمس يغفر صغائر ذنوبه. " {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ": ذكر المفسرون أن معناه: أن الصلوات الخمس تَذهب بالسيئات. قوله: "ألي هذا؟ "؛ يعني: هذه الآية حكمُها مختصةٌ بي، أم لجميع المسلمين؟ "فقال" رسول الله عليه السلام: "بل لجميع أمتي". وكنية هذا الرجل: أبو اليَسَر، واسمُه: عمرو بن عربة (¬1) الأنصاري. * * * 395 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إنِّي أصَبْتُ حدًّا فأقِمْهُ عليَّ، ولم يسألهُ عنه، وحضَرَتِ الصَّلاةُ، فصلَّى مَعَ ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والصواب: "كعب بن عمرو".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قضى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ قامَ الرجُلُ، فقال: يا رسولَ الله! إنِّي أصَبْتُ حدًّا فأقِمْ فيَّ كتابَ الله، قال: "أليسَ قَدْ صلَّيْتَ معنا؟ "، قال: نعم، قال: "فإنَّ الله قَدْ غَفَرَ لكَ ذنبَكَ أو حدَّكَ". قوله: "أصبت حدًا"؛ أي: فعلتُ شيئًا يوجب الحد. "قال"؛ أي: قال الراوي: "ولم يسأله"؛ أي: ولم يسأل النبيُّ - عليه السلام - ذلك الرجل "عنه"؛ أي: عن ذلك الذنب. قوله عليه السلام: "إن الله قد غفر لك ذنبك، أو حدك" شكَّ الراوي في أن رسول الله - عليه السلام - قال: (ذنبك) أو (حدك). اعلم أن رسول الله - عليه السلام - لم يسأله عن ذنبه: أيَّ شيء كان؟ وقال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك)، وإنما لم يسأله؛ لأنه - عليه السلام - عرف ذنبه وغفرانه بطريق الوحي، فإن كان ذنبه صغيرًا يكون هذا الحكم عامًا في جميع المسلمين - أعني: أن أداء الصلوات يكفِّر الذنب الصغير - وإن كان ذنبه كبيرًا يكون غفران ذنبه بأداء الصلاة حُكمًا مختصًا به؛ لأن النبي - عليه السلام - قال في الحديث الأول من هذا الباب: "إذا اجتنبت الكبائر". * * * 396 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى الله؟ قال: "الصَّلاةُ لوقتِها"، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "برُّ الوالِدَيْنِ"، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله"، قال: حدَّثَني بهنَّ، ولو استَزَدْتُهُ لزادَني. قوله: "أيُّ الأعمال أحب ... " إلى آخره. هذا الحديث معناه ظاهرٌ، والمشكِلُ أنه قال ها هنا: "أحب الأعمال

إلى الله الصلاة لوقتها"، وفي حديث آخر: "أفضل الأعمال الإيمان بالله"، وفي حديث آخر: "أحسن الأعمال الحج" وغير ذلك من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال. والتوفيق بين هذه الأحاديث أن نقول: معنى (أحب الأعمال): المذكورة في ذلك الحديث (¬1)، لا أحب جميع الأعمال الشرعية، فإن المذكور في هذا الحديث: الصلاة، وبر الوالدين، والجهاد، ولا شك أن الصلاة أحبُّ هذه الأعمال الثلاثة، وكذلك البحثُ في كلِّ حديثٍ يشبه هذا. ويحتمل أن رسول الله - عليه السلام - أجاب كلَّ سائلٍ بما هو الغرضُ عن سؤاله، والأصلحُ له، فعرف النبي - عليه السلام - أن غرض ابن مسعود معرفةُ فضل الصلاة، فقال له النبي عليه السلام: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها). وأراد بالصلاة لوقتها: أداء الصلاة في أول وقتها؛ لأنه جاء في هذا الحديث برواية أخرى: "أحب الأعمال إلى الله الصلاة لأول وقتها". "بر الوالدين": الإحسان إلى الأب والأم. قوله: "ولو استزدته لزادني"؛ أي: ولو سألته أكثر من هذه الثلاثة؛ لبيَّن لي حكمه. * * * 397 - وقال: "بينَ العبدِ وبينَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاة"، رواه جابر. قوله: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"؛ يعني: بين الرجل وبين دخوله ¬

_ (¬1) في "ق": "معنى أحب الأعمال المذكورة في الحديث في كل حديث".

في الكفر ترك الصلاة، فإنْ تَرَك الصلاة جاحدًا لوجوبها يدخل في الكفر، وإن تركها غير جاحدٍ لم يدخل في الكفر، ولكن قرب منه، لأنَّ مَن تهاون بالصلاة لم يبال أن يتهاون بسائر الأركان، وإذا تهاون بأركان الإسلام يقِلُّ وقع الإسلام وقَدْرُه في خاطره، وإذا قلَّ وقع الإسلام في خاطره يوشك أن يقع في الكفر. * * * مِنَ الحِسَان: 398 - عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلواتٍ افترضَهُنَّ الله تعالى، مَنْ أحسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وصَلاَّهُنَّ لوقتهِنَّ، وأتمَّ رُكُوعَهُنَّ وخُشُوعَهُنَّ؛ كانَ لهُ على الله تعالى عهدٌ أنْ يغفرَ له، ومَنْ لمْ يفعلْ فليسَ له على الله عهدٌ، إنْ شاءَ غفرَ له، وإنْ شاءَ عذَّبَه". قوله: "افترضهن الله تعالى"، افترض وفرض واحد. "الخشوع": حضور القلب وطمأنينة الأعضاء والتواضع. "كان له على الله عهد"، (العهد): ما يجب حفظه من الميثاق, وعهدُ الله على عباده واجبٌ، وهو وجوبُ عبادته عليهم، وعهد العباد على الله غيرُ واجبٍ عند أهل السنة، بل وفاءُ الله بعهده ووعده كرمٌ وفضلٌ منه، وما وَعَدَ وعَهِدَ به الله يفي به البتة؛ لأنه لا يُخْلِفُ ميعاده. يعني: من أدى عبادة الله تعالى فإن الله لا يضيع أجره كرمًا البتة، ومن لم يؤدِّ عبادته لم يُثْبتْ أجرًا حتى لا يضيعه الله، بل هو مذنبٌ بترك عبادته، وجزاءُ المذنب إلى الله، إن شاء عفا عنه فضلًا، وإن شاء عاقبه عدلًا. * * * 399 - وقال: "صلُّوا خَمْسَكُمْ، وصُومُوا شَهْرَكُمْ، وأدُّوا زكاةَ أموالِكُمْ،

وأطيعُوا ذا أمْرِكُمْ، تدخُلُوا جنَّةَ ربكُمْ"، رواه أبو أُمامة. قوله: "صلوا خمسكم"؛ أي: خمس الصلوات المفروضة عليكم. "شهركم"؛ أي: رمضان. "ذا أمركم"؛ أي: الخليفةَ والسلطان وغيرهما من الأمراء. فإذا فعلتم هذه الأشياء فجزاؤكم أن "تدخلوا جنة ربكم". * * * 400 - وقال: "مُرُوا أولادَكُمْ بالصَّلاةِ وهُمْ أبناءُ سَبْعِ سِنينَ، واضرِبُوهُمْ عليها وهُمْ أبناءُ عَشْرِ سنين، وفرِّقوا بينهُمْ في المَضاجِعِ"، رواه سَبْرَة بن مَعْبَد الجُهَنيُّ. قوله: "مروا أولادكم"، (مروا): أمرُ مخاطبين من أمر، فحُذفت منها همزةٌ فاءُ الفعل للتخفيف، فلمَّا حذفت فاء الفعل فلم يحتج إلى همزة الوصل؛ لتحرُّك الميم. يعني: إذا بلغ أولادكم سبع سنين فأْمروهم بأداء الصلاة؛ ليعتادوا ويستأنسوا بالصلاة، فإن لم يفعلوا فلا تضربوهم، فإذا بلغوا عشر سنين ولم يصلوا فاضربوهم على ترك الصلاة. قوله: "وفرقوا بينهم في المضاجع"؛ يعني: إذا بلغوا عشر سنين فرِّقوا بين الأخ والأخت؛ لأن البلوغ في عشر سنين محتملٌ، فربما تغلب الشهوة على الذكور، فيفعلون فاحشة بالإناث وإن كن أخواتهم. "سبرة" - بسكون الباء - جدُّه: عَوْسَجة بن حَرْمَلة الجُهَني. * * *

2 - باب المواقيت

401 - وقال: "العَهْدُ الذي بينَنا وبينَهُمُ الصَّلاةُ فمَنْ تركَها فقدْ كَفَر"، رواه بُرَيْدَة. قوله: "بيننا وبينهم"؛ أي: وبين المنافقين، هكذا جاء في بعض الروايات، يعني: لا مانع من قتل المنافقين إلا أداؤهم الصلاة، فإذا تركوا الصلاة ارتفع العهد الذي بيننا وبينهم، وصاروا كسائر الكفار فنقاتلهم. * * * 2 - باب المَواقيْتِ (باب المواقيت) مِنَ الصِّحَاحِ: 402 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَقْتُ الظُّهْرِ إذا زالَتِ الشَّمسُ ما لَمْ يحضُرِ العَصْرُ، ووقْتُ العَصْرِ ما لَمْ تصفَرَّ الشَّمسُ، ووقتُ صَلاةِ المَغربِ إذا غابتِ الشَّمسُ ما لَمْ يَسقُطِ الشَّفَقُ، ووقْتُ صَلاةِ العِشاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ، ووقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ ما لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، فإذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فأَمْسِكْ عَنِ الصَّلاةِ، فإنَّها تَطْلُعُ بينَ قَرْنَيْ الشيطانِ". قوله: "إذا زالت الشمس"؛ يعني: أولُ وقت الظهر أولَ وقت زوال الشمس، وزوال الشمس عبارةٌ عن ميلها من جانب الشمال إلى جانب اليمين إذا استقبلت القبلة. قوله: "ما لم يسقط الشفق"؛ أي: ما لم يغرب الشفق. قوله: "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط"؛ يعني: أول وقت

صلاة العشاء بعد غروب الشفق، ويبقى وقت اختيارها إلى نصف الليل الأوسط، ثم يبقى وقت جوازها إلى الصبح. و (الأوسط): صفة (الليل)، يعني: بقَدْرِ نصف ليل وسطٍ لا طويل ولا قصير، فنصف ليل وسط يكون بالنسبة إلى ليلٍ قصيرٍ أكثر من نصفه، وبالنسبة إلى ليلٍ طويل يكون أقل من نصفه. وبحثُ مواقيت الصلاة ها هنا مختصر، ويأتي بعد هذا مشروحًا. قوله: "فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة"؛ أي: فاترك الصلاة، (الإمساك): الترك. "فإنها"؛ أي: فإن الشمس "تطلع بين قرني الشيطان"، (القرن): أحد جانبي الرأس، (بين قرنيه)؛ أي: بين جانبي رأسه، وذلك أن الشيطان وقف حين طلعت الشمس مستدبرًا للشمس مستقبلًا للناس؛ ليكون سجود الذين يعبدون الشمس ويسجدون للشمس حين طلوعها عبادةً للشيطان، فنهى النبي - عليه السلام - أمته عن الصلاة في هذه الساعة كيلا يوافق الذين يعبدون الشمس ويسجدون لها. * * * 403 - عن بُرَيْدة: أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ وَقْتِ الصَّلاةِ فقال: "صَلِّ مَعَنا هذَيْنِ" يعني: اليَوْمَيْنِ، فلمَّا زالتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بلالاً فأذَّنَ، ثم أَمَرَهُ فأقامَ الظُّهْرَ، ثمَّ أَمَرَهُ فأقامَ العَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بيضاءُ نقيَّةٌ، ثمَّ أمَرَهُ فأقامَ المَغْرِبَ حِينَ غابَتِ الشَّمْسُ، ثم أمَرَهُ فأقامَ العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفَقُ ثمَّ أمَرَهُ فأقامَ الفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الفجر، فلمَّا أن كانَ اليَوْمُ الثَّاني أمَرَهُ فأبْرَدَ بالظُّهْرِ فأنْعَمَ أنْ يُبْرِدَ بها، وصلى العَصْرَ والشَمْسَ مُرتفعةٌ، أخَّرَها فَوْقَ الذي كان بالأمس، وصلَّى المَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغيبَ الشَّفَقُ، وصلَّى العِشاءَ بَعْدَما ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وصلَّى

الفَجْرَ فأسْفَرَ بها، ثمَّ قال: "أينَ السَّائلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاةِ؟ "، فقالَ الرَّجُلُ: ها أنا، يا رسولَ الله، قال: "وَقْتُ صَلاتِكُمْ بينَ ما رأيْتُمْ". قوله: "فأقام الظهر"؛ أي: أقام للظهر، والمراد بـ (أقام) ها هنا وفيما بعده: التلفظ بكلمات الإقامة. قوله: "والشمس مرتفعة"؛ أي: في أول وقت العصر، "بيضاء"؛ أي: لم يختلط بالشمس صفرةٌ؛ أي: قبل أن تصفر الشمس، "نقية": أي: ظاهرة صافية من الاصفرار. "الشفق" عند الشافعي: الحمرة التي تبقى في المغرب بعد غروب الشمس، فإذا غربت تلك الحمرة دخل وقت العشاء. وعند أبي حنيفة: (الشفق): البياض الذي يكون بعد غروب الحمرة، فإذا غرب ذلك البياض يكون وقت العشاء. قوله: "فلما أن كان اليوم الثاني"، (كان) ها هنا تامةٌ لا تحتاج إلى الخبر؛ أي: فلما دخل اليوم الثاني، أو حصل اليوم الثاني، وما أشبه ذلك. قوله: "فأبرد بالظهر" في بعض النسخ: "أبرد الظهر" بغير الباء الجارة، وفي بعضها: "أبرد بالظهر" بالباء، وبالباء أصح؛ لأن أكثر الروايات مذكور بالباء، وفي اللغة يعدَّى الإبراد بالباء. يقال: أبرد فلان بالمشي؛ أي: مشى في وقتٍ باردٍ لا حرَّ فيه. والمراد بالإبراد في الحديث: أن النبي - عليه السلام - أخر الظهر حتى انكسر حرُّ النهار، ومضى بعد زوال الشمس زمانٌ كثير. "فأَنْعَم": أي: فزاد على الإبراد؛ أي: بالغ في الإبراد حتى تم انكسار الحر، وهذا مثل قول الرجل: أَحْسِنْ إلى فلان وأَنْعِم؛ أي: بالِغْ في الإحسان. قوله: "أخَّرها فوق الذي كان"؛ أي: فوق الذي كان أخَّرها بالأمس.

قوله: "وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق"؛ يعني: صلى المغرب في اليوم الثاني في آخر الوقت، وهو قريبٌ من غروب الشفق. قوله: "فأسفر بها"؛ أي: صلاها في وقت الإسفار، والإسفار: الضياء؛ يعني: صلى الصبح في اليوم الثاني حين ذهبت الظلمة. قوله: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم"؛ يعني: بيَّنْتُ أول الوقت بما أدَّيْتُ الصلوات في اليوم الأول، وبيَّنت آخر الوقت بما أدَّيت الصلوات في اليوم الثاني، فالصلاة جائزةٌ في أول الوقت وأوسطه وآخره. واعلم أن ما بيَّنه النبي - عليه السلام - من آخر الوقت هو آخرُ الوقت في الاختيار، وليس آخرَ الوقت في الجواز، بل تجوز صلاة الظهر ما لم يدخل في وقت صلاة العصر، ويجوز صلاة العصر ما لم تغرب الشمس، وصلاة المغرب ما لم يغرب الشفق في أصح القولين، وهو الموافق لأكثر الأحاديث الواردة في بيان وقت المغرب، وتجوز صلاة العشاء ما لم يطلع الفجر الثاني، وصلاة الصبح ما لم تطلع الشمس. * * * مِنَ الحِسَان: 404 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّني جِبرِيلُ عند بابِ البَيْتِ مَرَّتِيْنِ، فصلَّى بيَ الظُّهْرَ حِينَ زالَتِ الشَّمْسُ وكانَ الفَيْءُ مِثْلَ الشِّراكِ، وصلَّى بيَ العَصْرَ حِينَ كانَ كُلُّ شيءٍ مثلَ ظِلِّه، وصَلَّى بيَ المَغْرِبَ حِينَ أفطَرَ الصَّائمُ، وصلَّى بيَ العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفقُ، وصلَّى بيَ الفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعامُ والشَّرابُ على الصَّائِمِ، وصلَّى بيَ الغَدَ الظُّهْرَ حِينَ كانَ كُلُّ شيءٍ مِثْلَ ظلِّهِ، وصلَّى بيَ العَصْرَ حِينَ كانَ ظِلُّ كُلِّ شيءٍ مِثْلَيْهِ، وصلَّى بيَ المَغْرِبَ

حِينَ أفطَرَ الصَّائمُ، وصلَّى بيَ العِشاءَ حِينَ ذهبَ ثُلُثُ الليلِ، وصلَّى بيَ الفَجْرَ حِينَ أسْفَرَ، ثمَّ التفتَ إليَّ فقال: يا مُحمَّدُ، هذا وَقْتُ الأنبياءِ مِنْ قبلِكَ، والوقتُ ما بينَ هذيْنِ الوَقْتَيْنِ". قوله: "أمّني"؛ أي: كان إمامي؛ ليعرِّفني كيفيةَ الصلاة وأوقاتها. "باب البيت"؛ أي: باب الكعبة. "مرتين"؛ أي: في يومين؛ يومًا صلى الصلوات في أول الأوقات، ويومًا صلاَّهن في آخر الأوقات في الاختيار لا في الجواز، كما تقدَّم ذكره. "فصلى بي الظهر": الباء باء المُصاحبة والمَعيَّة؛ أي: صلَّى معي الظهر. قوله: "وكان الفيء مثل الشراك"، (الفيء): الظل، (الشراك): شراك النعل، وهو معروفٌ؛ أي: كان ظل الشخص في ذلك الوقت بقَدْرِ شراك نعل، وهذا يكون في أول وقت الظهر. وهذا يختصُّ بمكة، وبأطولِ يوم في السنة؛ لأن الظلَّ قبل الزوال بمكة يزول بالكلية في أطول يوم من السنة، ثم بعد الزوال يظهر ظلُّ كلِّ شخصٍ قليلًا قليلًا، وذلك أن مكة محاذيةٌ لقطب الشمس، فأيُّ بلد يكون أقربَ من قطب الشمس يكون الظل فيه أقل، وأيُّ بلدٍ يكون أبعدَ من قطب الشمس يكون الظل فيه أكثر، وفي الصيف يكون الظل أقلَّ من الشتاء. اعلم أن أول وقت الظهر في سائر البلاد إذا رجع الظل بعد الاستواء إلى الزيادة؛ يعني: يكون ظلُّ كلِّ شيءٍ في أول النهار كثيرًا، ثم ينقص قليلًا قليلًا إلى أن وقف لحظة، فلا يزيد ولا ينقص، فهذه الساعة وقتُ الاستواء، ويُكره فيه صلاة النوافل، فإذا زاد الظل بعد الاستواء أدنى زيادةٍ فهو أولُ وقت الظهر، ويبقى وقته إلى أن يصير ظل كلِّ شيء مثله من موضع الزيادة، فإذا زاد ظلُّ كلِّ شيء على مثله أدنى زيادةٍ، دخل وقت العصر.

قوله: "وصلى بي العصر حين كان كل شيء مثلَ ظله"؛ معناه: زاد ظلُّ كلِّ شيء عن مثله أدنى زيادةٍ، وليس معناه أن وقت العصر حين كان كلُّ شيء مثلَ ظله من غير زيادة؛ لأنه يأتي بعد هذا أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين كان كلُّ شيء مثلَ ظله، فإذا صلى الظهر حين كان كلُّ شيء مثل ظله يُعلم أن العصر يكون بعد الظهر لا في وقت الظهر، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثليه. وقال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه: إن آخر وقت الظهر وأولَ وقت العصر واحدٌ، واحتجَّا بظاهر الحديث: أن اليوم الأول صلى العصر حين كان كلُّ شيء مثلَ ظلِّه، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين كان كلُّ شيء مثلَ ظله أيضًا. وقالا: لو صلى واحد في هذا الوقت الظهر، وآخَرُ العصر، صحت صلاتُهما؛ لأن هذا الوقت يصلح للصلاتين. قوله: "حين أفطر الصائم"؛ يعني: بعد غروب الشمس؛ لأن الصائم يُفطر في هذا الوقت. قوله: "حين حرم الطعام والشراب على الصائم"؛ يعني: أول طلوع الفجر الثاني. قوله: "وصلى بي الغد"؛ يعني: صلى بي الظهر في اليوم الثاني. "التفت"؛ أي: نظر إليَّ جبريل. قوله: "الوقت ما بين هذين الوقتين"؛ يعني: تجوز الصلاة في أول الوقت، وأوسطه، وآخره. * * *

3 - باب تعجيل الصلاة

3 - باب تَعْجيل الصَّلاةِ (باب تعجيل الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 405 - قال أبو بَرزة الأسْلَميُّ - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدْعونَها الأُولى حينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصلِّي العصرَ ثمَّ يجيءُ أحَدُنا إلى رحلِهِ في أقصى المدينةِ والشمسُ حَيَّةٌ، ونَسِيتُ ما قالَ في المَغرِبِ، وكانَ يَستحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ العِشاءَ، ولا يُحِبُّ النَّوْمَ قبلَها والحديثَ بعدَها، وكان يَنفتِلُ مِنْ صلاةِ الغَداةِ حينَ يَعرِفُ الرجُلُ جَليسَهُ، ويقرأ بالستِّينَ إلى المئةِ، وفي روايةٍ: ولا يُبالي بتأخيرِ العِشاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْل. قوله: "يصلِّي الهجير"، (الهجير): هو الظهر في لغة بعض العرب، وفي لغة بعضهم: الأولى، بمعنى الظهر. يقول الراوي هذا للمخاطبين. "يصلي الهجير التي تدعونها"؛ أي: تسمُّونها وتقولونها "الأولى"، يعرِّفهم أن (الهجير) و (الأولى) والظهرَ واحدٌ. "حين تدحض الشمس"؛ أي: تزول، دحض - بفتح العين في الماضي والغابر -: إذا بَطَلَ وزال. "أقصى"؛ أي: أبعد، إلى آخر "المدينة"؛ يعني: يصلي أحدنا مع النبي - عليه السلام - العصر، ثم يذهب إلى بيته في آخر المدينة "والشمس حية"؛ أي: باقيةٌ على صفائها ولم تصفرَّ.

قوله: "ونسيت ما قال في المغرب"؛ يعني: قال الذي يروي هذا الحديث عن أبي برزة: ونسيت ما قال أبو برزة في وقت صلاة المغرب. والذي يروي هذا الحديث عن أبي برزة: سيَّار بن سَلاَمةَ. "وكان يستحب"؛ أي: كان رسول الله - عليه السلام - يحبُّ تأخير العشاء بشرطِ أن لا ينام الرجل قبلها، بل يجلس ويذكر الله، ولا يحبُّ الحديث بعدها، بل المستحبُّ إذا صلى الرجل صلاة العشاء أن ينام؛ لأنه لو اشتغل بالحديث ويؤخِّرُ النوم، ربما تفوت عنه صلاة الصبح، أو صلاة التهجد. "ينفتل"؛ أي: يرجِعُ ويفرُغ. "حين يعرف الرجل جليسه"؛ يعني: يفرغُ من صلاة الصبح حين يرى كلُّ واحد من الجماعة مَن هو بقربه من ضوء الصبح. "ويقرأ بالستين إلى المئة"؛ يعني: يقرأ في صلاة الصبح ستين آية، وربما يزيد إلى مئة آية. واسم أبي برزة: نضلة بن عبيد بن الحارث بن حبال. * * * 406 - وسُئل جابر - رضي الله عنه - عَنْ صَلاةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: كانَ يُصلِّي الظُّهرَ بالهاجرةِ، والعصرَ والشَّمسُ حيَّةٌ، والمغربَ إذا وَجَبَتْ، والعِشاءَ إذا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وإذا قلُّوا أخَّر، والصُّبحَ بغَلَسٍ. قوله: "يصلي الظهر بالهاجرة"، (والهاجرة): شدة الحرارة، يعني: يصلي الظهر في أول الوقت. "وجبت"، أي: غربت الشمس.

"الغلس": اختلاط بياض الصبح بظلمة الليل، و (الغلس): الظلمةُ أيضًا؛ يعني: يصلي الصبح في أول الوقت. * * * 407 - قال أنس - رضي الله عنه -: كُنَّا إذا صلَّيْنا خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالظَّهائرِ سجَدْنا على ثِيابنا اتِّقاءَ الحرِّ. قوله: "بالظهائر"، (الظهائر): جمع ظهيرة، وهي نصف النهار، وأراد بها الظهر، والباء في (بالظهائر) زائدة، وجَمَعَ الظهائر؛ لأنه أراد: ظهرَ كلِّ يوم، لا ظهر يومٍ واحد. "سجدنا على ثيابنا"؛ أي: سجدنا على ثيابنا المنفصلة منَّا، لا ثيابنا التي لبسناها، هذا عند الشافعي، فإنه لا يجوِّز السجودَ على العمامة والكم وغيرهما مما كان الرجل لابسه من الثياب. وعند أبي حنيفة: يجوز أن يسجد المصلي على العمامة وكمِّ القميص وغيرهما من الثياب المتصلة به. قوله: "اتقاء الحر"، (الاتقاء): الاحتراز والحذر؛ أي: نسجد على ثيابنا من خوف أنَّا لو نسجد على الأرض تحترق جباهنا من غاية الحرارة. يعني: كنَّا نصلي الظهر في أول الوقت. * * * 408 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اشتدَّ الحرُّ فأَبرِدُوا بالصَّلاة"، وفي رواية: "بالظُّهرِ، فإنَّ شِدَّةَ الحرِّ مِنْ فَيْحِ جهنَّمَ". قوله: "فأبردوا بالصلاة"؛ أي: بصلاة الظهر "فإن شدة الحرِّ من فيح

جهنم"، (الفيح): ظهور الريح والرائحة؛ يعني: شدة حرِّ الصيف من حرارة جهنم. * * * 408/ م - "واشْتكَتِ النَّارُ إلى ربها، فقالت: يا ربِّ! أكلَ بعضي بعضًا، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشتاءَ ونَفَسٍ في الصيف، أشدُّ ما تجِدُونَ مِنَ الحرِّ، وأشدُّ ما تجِدُونَ مِنَ الزَّمْهرير". قوله: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا"؛ أي: أكل بعضي بعضًا من غاية الحرارة، "فأذِنَ لها بنفسين" نفخَتْ نَفَسًا في الصيف، ونَفَسًا في الشتاء، وهذا شيء إيماني يجب الإيمان به، وإن لم يُعرف كيفيته. قوله: "أشد ما تجدون من الحر"؛ يعني: أشدُّ ما تجدون من حرِّ الصيف، فهو من حرِّ جهنم. "وأشد ما تجدون من الزمهرير"؛ يعني: أشدُّ ما تجدون من برد الشتاء، فهو من برد جهنم، (الزمهرير): البرد الشديد. فإن قيل: إذا نفست جهنم في الصيف نَفَسًا وفي الشتاء نَفَسًا، لمَ يختلف حرُّ الصيف وبرد الشتاء، وفي بعض الأيام يكون الحرُّ أشد من بعض، وكذا البرد؟ قلنا: لعل الله تعالى يأمر بأن تحفظ الحرارة الحاصلة من نَفَسِ جهنم في موضع، ثم ترسل إلى أهل الأرض قليلًا قليلًا، حتى يعتادوا بالحرارة حينًا بعد حين، وحتى لا تحترق الأشجار والنبات والحيوانات بإرسال تلك الحرارة دفعةً واحدة، وكذلك البرد، وكلُّ ذلك إيمانيٌّ يجب أن نقول: إن الله على كل شيء قدير. * * *

409 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ مُرتفِعةٌ حيَّةٌ، فيذهبُ الذَّاهبُ إلى العَوالي، فيأْتيهِمْ والشَّمْسُ مُرتفعةٌ، وبعضُ العَوالي مِنَ المدينةِ على أربعةِ أمْيالٍ أو نحوِهِ. قوله: "فيذهب الذاهب إلى العوالي"؛ يعني: يذهب واحد بعد صلاة العصر إلى العوالي، ويرجع إلى المدينة والشمس مرتفعة لم تصفرَّ بعد، يعني: يصلِّي العصر في أول الوقت. العوالي: اسم قرًى من قرى المدينة، بين بعضها وبين المدينة أربعةُ أميال، والأميال: جمع ميل، وهو ثلاثة فراسخ، والفرسخ: اثنا عشر ألف خطوة، وكلُّ خطوة ثلاثةُ أقدام. * * * 410 - وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلْكَ صلاةُ المُنَافِقِ، يجلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حتى إذا اصفرَّتْ، وكانتْ بينَ قَرْنيَ الشَّيطانِ؛ قامَ فنقرَ أربعًا لا يذكُرُ الله فيها إلاَّ قليلًا". قوله: "يرقب"؛ أي: ينتظر قُربان الشمس ودنوَّها من الغروب. قوله: "وكانت بين قرني الشيطان" إذا قربت الشمس من الغروب فحينئذ تكون بين قرني الشيطان، والصلاة في هذه الساعة غير مَرْضيَّةٍ. "نقر" الطيرُ الحبات: إذا لقطها بمنقاره سريعًا. "أربعًا"؛ أي: أربع ركعات، وهذا عبارةٌ عن سرعة أداء الصلاة، وقلَّةِ القراءة والذكر فيها. يعني: مَن أخَّر صلاة العصر إلى اصفرار الشمس؛ فقد شبه نفسه بالمنافقين، فإن المنافقين لا يصلُّون عن اعتقاد حقِّية الصلاة بل لدفع السيف، ولا يبالون

بتأخيرها؛ فإنهم لا يظنون (¬1) بها فضيلة وثوابًا حتى يصلوها لوقتها، فلا ينبغي للمسلم أن يفعل ما يفعل المنافقون. * * * 411 - وقال: "الذي تفُوتُهُ صَلاةُ العصرِ فكأنَّما وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ"، رواه ابن عمر. قوله: "وتر"؛ أي: نقص وأُهلك؛ يعني: فوتُ ثوابِ صلاة العصر عنه أكثرُ خسارةً من فوت أهله وماله. وهذا الحديث يدل على فضيلة العصر، وعلى أنَّ فوتَ الثواب والخصال الدينية أخسرُ من فوت المال والأهل. * * * 412 - وقال: "مَنْ تَرَكَ صلاةَ العَصْرِ حَبطَ عملهُ"، رواه بُريدة. قوله: "حبط عمله": أي: بَطَلَ، يعني: بطل كمالُ عمله في ذلك اليوم من الصلوات؛ لأن صلاة العصر هي صلاة آخر اليوم، ويرفع ملائكة النهار عمل الرجل إلى حضرة الله تعالى في وقت صلاة العصر، فإذا لم يصل العصر لم يختم عمل ذلك اليوم. * * * 413 - قال رافِع بن خَدِيج: كُنَّا نُصلِّي المغربَ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فينصرِفَ أحدُنا وإنَّه ليُبصِرُ مَواقِعَ نَبْلِهِ. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش": "يطلبون".

قوله: "مواقع نبله"، (المواقع): جمع موقع - بكسر القاف - وهو موضع الوقوع، (النبل): السهم، يعني: يصلي المغرب في أول الوقت بحيث لو رمى أحدٌ سهمًا لأبصر أين سقط. * * * 414 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانُوا يُصلُّونَ العَتَمةَ فيما بينَ أنْ يَغيبَ الشَّفَقُ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأولِ. قوله: "يصلون العتمة"، (العتمة): صلاة العشاء. فإن قيل: كيف قالت عائشة - رضي الله عنها - للعشاء عتمةً، مع ورود النهي عن تسمية العشاء بالعتمة؟ قلنا: لعلها قالت للعشاء عتمة قبل النهي، وكذلك قال رسول الله - عليه السلام - للعشاء عتمة في قوله عليه السلام: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح"، ويأتي تمام هذا الحديث في موضعه، وهذا أيضًا كان قبل النهي. * * * 415 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُصلِّي الصُّبحَ، فتَنصَرِفُ النِّساءُ مُتَلفِّعاتٍ بمُرُوطِهِنَّ ما يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ. قولها: "متلفعات بمروطهن"، (التلفُّع): ستر المرأة أعضاءها بالمِرْط، وهو المِلْحَفة، وجمعه: المروط. قولها: "ما يعرفن من الغلس"، (الغلس): الظلمة، يعني: تمشي المرأة وقد لفَّت مِرْطها عليها، ولا يعرف الرجل إذا نظر إليها أنها امرأة أو رجل من

الظلمة؛ يعني: يصلي الصبح في أول الوقت. * * * 416 - وعن قَتادة، عن أنس - رضي الله عنهما -: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - وزيدَ بن ثابتٍ تَسحَّرا، فلمَّا فَرَغا مِنْ سَحُورِهما قامَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصَّلاةِ فصلَّى، قُلنا لأنس: كَمْ كانَ بينَ فَراغِهِما مِنْ سَحُورِهما ودُخُولِهما في الصَّلاةِ؟ قال: قدرُ ما يقرأُ الرجُلُ خمسينَ آيةً. قوله: "تسحرا"؛ أي: أكلا السَّحور. "فلما فرغا من سَحورهما"، (السحور) بفتح السين: ما يؤكل في وقت السحر، وبضم السين: المصدر، وكلاهما جائز هنا من حيث المعنى، ولكن الرواية بفتح السين. قوله: "إلى الصلاة"؛ أي: إلى صلاة الصبح. قوله: "قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" هذه الفاصلة بين أكل السحور والدخول في صلاة الصبح لا تجوز لكل أحد، وإنما جاز لرسول الله عليه السلام؛ لأنه كان عارفًا بدخول الصبح بطريق الوحي والمعجزة، فأخر السحور إلى هذا الوقت، فإن كان الرجل حاذقًا في علم النجوم، فإن عرف دخولَ الصبح باليقين بعلم النجوم جاز له هذا التأخير أيضًا. * * * 417 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذَرٍّ! كيفَ بِكَ إذا كانتْ عليكَ أُمراءُ يُميتُونَ الصَّلاةَ - أو قال: يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ؟ ", قلتُ: يا رسولَ الله فما تأمُرُنِي؟ قال: "صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فإنْ أَدْرَكْتَها معهُمْ فصلِّها؛ فإنَّها لك نافِلَة".

قوله: "كيف بك"؛ أي: كيف بك الحال والأمراء "يميتون"؛ أي: يؤخِّرون الصلاة إلى آخر الوقت؛ يعني: إذا رأيت أئمةً يؤخِّرون الصلاة كيف تفعل، هل توافقهم في تأخير الصلاة أم تصلِّيها في أول الوقت؟. وإنما ذكر الأمراء؛ لأن الأمراء في ذلك الزمان كانوا يخطبون ويؤمون الناس. "صل الصلاة لوقتها"؛ أي: صلِّ الصلاة في أول الوقت، ولا تؤخِّرها، فإذا أدركْتَهم يصلون فصلِّ معهم مرة أخرى، وهذا دليلٌ على أن الصلاة في أول الوقت أفضل، ولا يستحب ترك فضيلة أول الوقت لأجل إمام يؤخِّر الصلاة. وهذا دليلٌ أيضًا على أن الأفضل لمَن صلَّى منفردًا أن يصلِّي بالجماعة مرةً أخرى، وينوي تلك الصلاةَ بالنفل. * * * 418 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أدركَ ركعةً مِنَ الصُّبْحِ قبلَ أنْ تطلُعَ الشَّمْسُ فقدْ أدركَ الصُّبْحَ، ومَنْ أدركَ ركعةً مِنَ العَصْرِ قبلَ أنْ تغرُبَ الشَّمْسُ فقدْ أدركَ العَصْر". قوله: "من أدرك ركعة من الصبح ... " إلى آخره. معناه ظاهر، والبحث فيه أن الأئمة اختلفوا في أنَّ مَن صلى صلاةً وقع بعضها في الوقت، وبعضها خارج الوقت. ففي قول: يكون جميعها أداءً، وفي قول: يكون جميعها قضاءً، وفي قول: القَدْرُ الواقع في الوقت أداء، والقَدْرُ الخارج قضاء. فمَن قال: جميعها قضاء، أو: القَدْرُ الخارج قضاء، لا يجوز أن يؤخِّر الرجل صلاته بغير عذرٍ إلى هذا الحد.

ومَن قال: جميعها أداء، يجوز التأخير إلى هذا الحد، ولكنْ تَرَكَ الاختيار والفضيلة. * * * 419 - وقال "إذا أَدْرَكَ أحدُكُمْ سَجدةً مِنْ صلاةِ العصرِ قبلَ أَنْ تغرُبَ الشَّمْسُ فلْيُتِمَّ صَلاتَهُ، وإذا أدركَ سَجدةً مَنْ صَلاةِ الصُّبحِ قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمسُ فلْيُتِمَّ صَلاتَه"، رواه أبي هريرة. قوله: "إذا أدرك أحدكم سجدة" قيل: معنى قوله: "أدرك أحدكم سجدة"؛ أي: ركعة، تلفَّظَ بـ (سجدة) وأراد به ركعة؛ لأن إطلاق البعض على الكل كثيرٌ، كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]؛ أي: صلُّوا مع المصلِّين، تلفَّظ بالركوع وأراد به الصلاة. وقيل: بل المراد سجدة واحدة؛ أي: مَن أدرك من الصلاة قبل غروب الشمس بقَدْرِ سجدةٍ فليُتمَّ صلاته. واختُلف فيمَن أدرك من الوقت بقَدْرِ ما يكبر تكبيرة الإحرام، ثم خرج الوقت: هل يكون مدركًا للصلاة أم لا؟. والمراد من قوله: "أدرك أحدكم سجدة" وهذا القدر من أول الصلاة. * * * 420 - وقال: "مَنْ نَسِيَ صَلاةً أو نامَ عَنْها، فكَفَّارتُها أنْ يُصلِّيَها إذا ذكَرها"، رواه أنس، وفي روايةٍ: "لا كفَّارَة لها إلاَّ ذلك". قوله: "أو نام عنها"؛ يعني: كان نائمًا حتى تفوت الصلاة "فكفارتُها أن يصليها إذا ذكرها"؛ يعني: ليس عليه إثم، بل يلزمه القضاء إذا ذكرها، وإنما ليس

عليه الإثم؛ لأنه لا تقصير منه في النسيان والنوم. وفي رواية: "لا كفارة لها إلا ذلك" يعني: إلا القضاء. * * * 421 - وقال: "ليسَ في النَّوْمِ تَفْريطٌ، إنَّما التَّفريطُ في اليَقَظَةِ، فإذا نَسِيَ أحدُكُمْ الصلاة أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكَرها"، رواه أبو قَتادة. ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، وزاد: "قالَ الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". قوله: "إنما التفريط في اليقظة"، (التفريط): التقصير؛ يعني: التقصير إنما يكون إذا لم يكن الرجل نائمًا ولا ناسيًا، وترك الصلاة حتى تَفُوت. قوله تعالى: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ": اللام بمعنى الوقت والحين، كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي: وقتَ زوال الشمسُ، وحُذف المضاف من {ذكري}، وتقديره: لذِكْرِ صلاتي، فحذفت الصلاة للعلم بها. يعني: أقم الصلاة إذا ذَكَرْتَها، فإن كنتَ ناسيًا أو نائمًا، فأنت معذورٌ حتى تنبَّهت من النوم، وزال عنك النسيان. * * * مِنَ الحِسَان: 422 - عن علي كرَّم الله وجهه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا عليُّ، ثلاثٌ لا تُؤخِّرْها: الصَّلاةُ إذا أتتْ، والجنازةُ إذا حَضَرَتْ، والأيِّمُ إذا وجدْتَ لها كُفْؤًا". قوله: "الصلاة إذا أتت" المشهور بتاءين، من أتى يأتي إتيانًا.

وقيل: هذا تصحيفٌ، بل الصواب: إذا آنَتْ، بوزن: حانت، من آن يئين أينًا: إذا دخل الوقت. "الأيم": المرأة التي ليس لها زوج بكرًا كانت أو ثيبًا. قوله: "وجدت لها كفؤًا"، (الكفء): المِثْل، والكفء في النكاح: أن يكون الرجل مثلَ المرأة في: الإسلام، والحرية، والصلاح، والنسب، وحسن الكسب، والعمل، فلا تزوَّج مسلمةٌ بكافرٍ، ولا حرةُ بعبدٍ، ولا صالحةٌ بفاسقٍ، ولا عَلَويةٌ أو هاشميةٌ أو مَن لها نسب مشهور معتبرٌ بمَن لم يكن نسبه مثلَ نسبها، ولا بنتُ فقيهٍ أو تاجرٍ أو مَن له حرفةٌ طيِّبة بمَن له حرفةٌ غيرُ طيِّبةٍ، كالحجَّام والدبَّاغ والحائك والحمَّامي وغير ذلك. فإن كانت المرأة بالغة ورضيت هي ووليُّها بغير كفءٍ صح النكاح، إلا في تزويج المسلمة بالكافر؛ فإنه لا يصح النكاح، وإن كانت المرأة غيرَ بالغة، وزوَّجها وليُّها بغيرِ كفءٍ بطل النكاح عند الشافعي، وصحَّ عند أبي حنيفة، ولها خيارُ الفسخ بعد البلوغ عنده. * * * 423 - وقال عليه السلام: "الوقْتُ الأوَّلُ مِنَ الصَّلاةِ رِضْوانُ الله، والوقتُ الآخِرُ عَفْوُ الله"، رواه ابن عمر. قوله: "الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله"، رواه ابن عمر. قال أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: الرضوان أحبُّ إلي من العفو. فعند الشافعي: تعجيل الصلوات في أول الأوقات أفضل، إلا الظهر في

شدة الحر، فإن تأخيرها أفضل. وعند أبي حنيفة: تأخير الصبح والعصر والعشاء أفضلُ من تعجيلهن. * * * 424 - وعن أُمِّ فَرْوَة رضي الله عنها قالت: سُئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ قال: "الصَّلاةُ لأِوَّلِ وَقْتِها"، ضعيف. قوله: "الصلاة لأول وقتها" اللام بمعنى (في)؛ أي: في أول وقتها. روت هذا الحديث: أمُّ فروةَ بنتُ أبي قُحافة أختُ أبي بكر الصديق. * * * 425 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاةً لِوَقْتِها الآخِرِ مَرَّتَيْنِ حتَّى قبضَهُ الله تعالى. قولها: "ما صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة لوقتها الآخِرِ مرتين حتى قبضه الله تعالى"؛ يعني: صلَّى رسول الله عليه السلام كلَّ صلاة في آخر وقتها مرةً واحدة؛ لبيان آخر وقتها، ولم يصلِّها مرةً أخرى في آخر وقتها، بل صلاَّها في أول وقتها، وهذا دليلٌ على فضيلة أول الوقت. * * * 426 - وقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزالُ أُمَّتي بخيرٍ ما لَمْ يُؤخَّرُوا المَغربَ إلى أنْ تَشتبكَ النُّجومُ"، رواه أبو أَيُّوب. قوله: "إلى أن تشتبك النجوم"، (الاشتباك): الاختلاط، يعني: تكون أمتي مشغولين بالخير إذا عجَّلوا أداء صلاة المغرب قبل أن تظهر نجومٌ كثيرة،

فإذا أخَّروا أداءها إلى ظهور نجومٍ كثيرة لم يكونوا مشغولين في هذا التأخير بخير. * * * 427 - وقال: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتِي لأَمرْتُهُمْ أنْ يُؤخِّرُوا العِشاءَ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ أو نِصْفِهِ"، رواه أبو هريرة. 428 - وقال: "أَعتِمُوا بهَذِهِ الصَّلاةِ، فإنَّكُمْ قد فُضلْتُمْ بها على سائر الأُمَمِ ولمْ تُصَلِّها أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ"، رواه مُعاذ بن جبل. قوله: "أَعْتِموا" أي: أخِّروا، (الاعتمام): التأخير، "بهذه الصلاة"؛ أي: بصلاة العشاء؛ يعني: إذا لم تكن هذه الصلاة لأمةٍ غيرِكم فعظِّموها واجلسوا ذاكرين منتظرين لها إلى أن يذهب بعض الليل، والغرض من هذا التأخير الاشتغال بالذكر وإحياء بعض الليل. ويحتمل أن يكون معنى (أعتموا)؛ أي: ادخلوا في العتمة، وهي صلاة العشاء، فعلى هذا يكون معناه: بالِغوا في المحافظة على أدائها. * * * 429 - وقال: النُّعمان بن بشير - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصَلِّيها لِسُقُوطِ القمَرِ ليلةَ الثَّالِثة. قوله: "يصليها"؛ أي: يصلِّي العشاء "لسقوط القمر"؛ أي: وقتَ غروب القمر "ليلة الثالث" من الشهر. جد "النعمان": سعد بن ثعلبة الأنصاري. * * *

فصل

430 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْفِرُوا بالفَجْرِ فإنَّه أعظَمُ للأَجْرِ"، رواه رافع بن خَدِيج. قوله: "أسفروا بالفجر"؛ أي: صلاة الفجر في وقت الإسفار، وهو إضاءة الصبح وذهابُ الظلمة. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 431 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لنْ يَلِجَ النَّارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقبلَ غروبهَا" يعني الفجرَ والعصر. قوله: "لن يلج النار"؛ أي: لن يدخل النار، روى هذا الحديث عمار بن رُويبة. * * * 432 - وقال عليه السلام: "مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجنَّةَ"، رواه أبو موسى. قوله: "من صلى البردين دخل الجنة" رواه أبو موسى. أراد بالبَردين: الصبح والعصر؛ يعني: داوِموا على أداء هاتين الصلاتين في وقتيهما؛ لأن الملائكة يحضرون فيهما، كما سيأتي، وليس المراد أداءَ هاتين الصلاتين في ترك غيرهما. * * *

433 - وقال: "يَتَعاقَبُونَ فيكُمْ ملائكَةٌ باللَّيْلِ وملائكَةٌ بالنَّهارِ، ويَجْتمِعُونَ في صَلاةِ الفَجْرِ وصَلاةِ العَصْرِ، ثمَّ يَعْرُجُ الذينَ باتُوا فيكُمْ فَيسأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وهو أعلمُ بهم: كيفَ تَركتُمْ عِبادي؟ فيقولونَ: تركناهُمْ وهم يُصلُّونَ، وأتَيْنَاهُم وهم يُصلُّونَ"، رواه أبو هريرة. قوله: "يتعاقبون"، (التعاقب): أن يجيء أحدٌ على عقيب أحد، وحقُّه أن يقول: يتعاقب؛ لأن الملائكة فاعلة، وإذا كان الفاعل ظاهرًا لا يؤتى في الفعل بألف التثنية وواو الجمع، يقال: جاء زيدٌ، وجاء الزيدان، وجاء الزيدون، وبعض العرب يجوَّز تثنية الضمير وجمعَه في الفعل مع كون الفاعل مُظْهَرًا. وأراد بقوله: "ملائكة" هنا: الملائكة الذين يكتبون أعمال العباد. "ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر"؛ يعني: يكتب (¬1) الملائكة الذين يكونون مع الناس في الليل حتى يجيء الملائكة الذين يكونون معهم في النهار؛ أي: في النهار عند صلاة الصبح، فإذا جاء الذين يكونون معهم في النهار وقتَ صلاة الصبح يعرج الذين كانوا معهم في الليل، وإذا كان وقت العصر يجيء الذين يكونون معهم في الليل ويعرج الذين جاؤوا وقت الصبح. والمراد بهذا الحديث تحريض الناس على المواظبة على هاتين الصلاتين. قولهم: "تركناهم وهم يصلون"؛ أي: تركناهم في هذه الساعة وهم يصلون الصبح. "وأتيناهم"؛ أي: لمَّا نزلنا بهم كانوا يصلُّون العصر. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "يثبت".

434 - وقال: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فهو في ذِمَّةِ الله، فلا يَطْلُبنكُمُ الله مِنْ ذِمَّتِهِ بشيءٍ, فإنَّهُ مَنْ يَطْلُبْه مِنْ ذِمَّتِهِ بشيء يُدْرِكْهُ، ثم يَكُبُّهُ على وجهِهِ في نارِ جهنَّمَ"، رواه جُنْدَب القَسْرِيُّ. قوله: "في ذمة الله"؛ أي: في أمان الله تعالى وعهده. قوله: "فلا يطلبنكم الله في (¬1) ذمته بشيء"؛ يعني: مَن صلى الصبح فلا تُلحقوا إليه مكروهًا، فإنكم لو ألحقتم إليه مكروهًا فقد نقضتم عهد الله تعالى فيه، ومَن نقض عهد الله يطلب الله منه عهده فيجازيه بنقض عهده. قوله: "فإنه من يطلبه"؛ أي: مَن يطلبه الله تعالى لا يمكن التخلُّص منه، بل "يدركه ثم يكبه"؛ أي: يلقيه في نار جهنم. وإنما خصَّ صلاة الصبح بهذا التهديد؛ لأنه مَن ترك النوم وقام إلى صلاة الصبح فالظاهرُ أنه لا يترك النومَ إلى صلاة الصبح إلا عن خلوصِ النية وصحةِ الإيمان، ومَن كانت هذه صفتُه يستحقُّ أن يشرِّفه الله بمنع الناس عن إيذائه بمثل هذا الحديث. وفي بعض النسخ: "رواه جندب القشيري" فـ (القُشَيريُّ) بالشين المنقوطة غلط؛ لأن جندبًا هذا هو بَجَليٌّ لا قُشيري، وقد ذكرت (¬2) نسبه، والبَجَلي منسوبٌ إلى قبيلة بَجيلة، نعم كان في قبيلة بَجيلة بطنٌ تسمَّى: قسرًا، بالسين غير المعجمة، لعل أحدًا نسب جندبًا إلى قسرٍ فقرأ جماعةٌ: جندب القشيري بـ: جندب القَسْري، على التصحيف. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "من". (¬2) في "ت": "ذكر".

435 - وقال: "لو يعلمُ الناسُ ما في النداءِ والصفَّ الأوَّلِ ثم لمْ يجدُوا إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا عليهِ لاستَهَمُوا عليه، ولو يَعلمونَ ما في التَّهْجير لاستَبَقُوا إليهِ، ولو يَعلمونَ ما في العَتَمةِ والصُّبح لأتَوْهما ولو حَبْوًا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "ما في النداء"؛ أي: قَدْرَ ما يكون للمؤذِّن ولمَن حضر الصفَّ الأول من الثواب. (استهم القوم): إذا أخرجوا القرعة بينهم على أنَّ مَن خرجت قرعتُه يأخذ المال الذي - أو يفعل الفعل الذي - أخرجوا فيه القرعة؛ يعني: لتنازعوا في الصف الأول حتى أخذوا المواضع من الصف الأول بالقرعة. "التهجير": الإتيان في غاية الحرارة إلى شيء، والمراد ها هنا: حضورُ الظهر في أول الوقت. (الاستباق): المبادرة إلى فعل. "العتمة": العشاء. (الحبو): المشي على الركبتين والكفين كفعل الصبي. قوله: "ولو حبوًا"؛ يعني: يمشي الناس إلى هاتين الصلاتين لطلب كثرة الثواب وإن كانوا يمشون على الرُّكب من غاية الضعف والعجز. * * * 436 - وقال: "ليسَ صلاةٌ أثقلَ على المُنافِقينَ مِنَ الفَجْرِ والعِشاءِ، ولو يَعلمُونَ ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبْوًا"، رواه أبي هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا". وإنما ثَقُلت هاتان الصلاتان على المنافقين لأنهما في وقت النوم، وتركُ النوم

شديدٌ على مَن ليس له إيمانٌ وخلوصُ نيةٍ. * * * 437 - وقال: "مَنْ صلَّى العِشاءَ في جماعةٍ كانَ كقِيامِ نِصْفِ ليلةٍ، ومَنْ صلَّى العِشاءَ والفَجْرَ في جماعةٍ كانَ كقيامِ ليلةٍ"، رواه عُثمان بن عفان - رضي الله عنه -. قوله: "كقيام نصف ليلة" أراد بالقيام هنا إحياءَ الليل بالصلاة والذكر. * * * 438 - وقال: "لا يَغْلِبنكُمْ الأَعرابُ على اسم صلاتِكُمُ المَغرِبِ"، قال: "وتقولُ الأَعرابُ هي العِشاءُ"، رواه عبد الله المُزَنيُّ. قوله: "لا يغلبنكم الأعراب"؛ يعني: يقول أعراب الجاهلية للمغرب: العشاء، فلا تُوافقوهم في هذه التسمية، بل قولوا: المغرب، وسمُّوها المغربَ، وكثَّروا استعمالها لتَغْلِبَ تسميتُكم لها على تسميتهم. * * * 439 - وقال: "لا يَغْلِبنكُمْ الأَعرابُ على اسم صلاتِكُمُ العِشاءِ، فإنَّها في كتابِ الله تعالى العِشاءُ، فإنَّها تُعْتِمُ بحِلابِ الإِبلِ"، رواه ابن عمر. قوله: "فإنها في كتاب الله تعالى"؛ يعني: سمَّاها الله تعالى العشاء في قوله في سورة النور: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] يعني سمَّاها الله العِشاء وسمَّتها العرب العتمة، فكثَّروا استعمالها بالعشاء حتى تبقى تسميتُها بالعشاء وتُترك تسميتُها بالعتمة. قوله: "فإنها تُعْتِمُ بحلاب الإبل"، (تعتم)؛ أي: تؤخَّر، (الاعتمام): التأخير والإبطاء.

وعتم - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عَتْمًا: إذا أبطأ؛ أي: لبث؛ يعني: سمَّت العرب وقت العشاء عتمةً؛ لأنهم يؤخَّرون حلابَ إبلهم إلى غيبوبة الشفق، فسمَّوا الوقت الذي يحلبون فيه إبلهم عتمةً. * * * 440 - عن عليًّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الخَنْدَقِ: "حَبَسُونا عَنْ الصَّلاةِ الوُسطى صَلاةِ العَصْرِ، مَلأَ الله بُيوتَهُمْ وقُبورهُمْ نارًا". 441 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الوُسْطَى صَلاةُ العَصْرِ". "قال يوم الخندق: حبسونا"، (يوم الخندق): يوم اجتمع الكفار حول مدينة الرسول ليحاربوا رسول الله، فحفر رسول الله حول المدينة خندقًا فدفع الله الكفار، ويأتي شرحه في موضعه. قوله: "حبسونا"؛ أي: منعنا الكفار "عن الصلاة الوسطى" بأن اشتغلنا بحفر الخندق بسبب دفع الكفار بالخندق. قوله: "صلاة العصر" مجرورةٌ بأنها بدلُ (صلاة الوسطى) أو عطفُ بيان. وغرض المصنف من إيراد هذا الحديث: بيان صلاة الوسطى أنها صلاة العصر. وقد اختلف العلماء في صلاة الوسطى: أيُّ صلاةٍ هي؟ فمذهب الشافعي أنها صلاة الفجر، ومذهب أبي حنيفة أنها صلاة العصر بدليل هذا الحديث. * * * 442 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ

4 - باب الأذان

الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: "تَشْهدُهُ مَلائكَةُ اللَّيْلِ ومَلائكَةُ النَّهارِ". قوله: " {قُرْآنَ الْفَجْرِ} "؛ أي: صلاة الفجر، سمَّيت قرآنًا لِمَا يُقرأ فيها من القرآن، "تشهده": أي: تحضره. وقد ذكر بحثُ هذا قبلَ هذا. * * * 4 - باب الأَذان (باب الأذان) مِنَ الصِّحَاحِ: 443 - قال أنس - رضي الله عنه -: ذَكَرُوا النَّارَ والنَّاقوسَ، فَذَكَرُوا اليهودَ والنَّصارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أنْ يشفَعَ الأذانَ، وأنْ يوتِرَ الإقامةَ إلا الإقامة. قوله: "ذكروا النار"؛ يعني: لمَّا فُرضت الصلاة قال رسول الله عليه السلام: "كيف نجمع الناس للصلاة" فقيل له: انْصِبْ رايةً - أي: عَلَمًا - في وقت كلَّ صلاة حتى يراه الناس ويخبر بعضهم بعضًا بدخول وقت الصلاة، فلم يرض رسول الله عليه السلام بهذا، وقال: "عادة اليهود"، ثم قيل له: أُشعل نارًا في وقت الصلاة حتى يراها الناس ويجتمعوا إلى الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عادة اليهود" فقيل له: مر بضرب الناقوس في وقت الصلاة حتى يسمع صوته الناس ويجتمعوا، فقال عليه السلام: "هذا عادة النصارى" فتفرقوا من غير اتفاق على شيء. فاهْتَمَّ عبد الله بن زيد بن عبد ربه لِهَمَّ رسول الله عليه السلام، فنام مهتمًا،

فلما أصبح أتى رسول الله عليه السلام وقال: يا رسول الله! رأيتُ رجلًا في المنام وفي يده ناقوس، فقلت له: يا عبد الله! أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: نضرب في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس وقت الصلاة، فقال: أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى. قال: فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال رسول الله عليه السلام: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذِّن به فإنه أندى صوتًا منك"؛ أي: أرفعُ صوتًا. فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، فقال: فسمع بذلك عمر ابن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجرُّ رداءه ويقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال رسول الله عليه السلام: "فلله الحمد". وروي: أنه رأى الأذان أحد عَشَرَ رجلًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - في المنام تلك الليلة. هذه قصة الأذان. قوله: "أن يشفع الأذان"؛ أي: يقول كلَّ كلمةٍ مرتين. "ويوتر الإقامة": أي: يقول كلَّ كلمةٍ من كلمات الإقامة مرةً واحدة إلا الإقامة؛ يعني: إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإنه يقولها مرتين. * * *

444 - قال أبو مَحْذُورة: ألْقَى عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التَّأذينَ هو بنفْسِهِ، فقال: "قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله"، ثمَّ قال: "ارجعْ فمُدَّ مِنْ صَوْتكَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، أشهدُ أن مُحَمَّدًا رسولُ الله، أشهدُ أنَّ مُحمدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفَلاح، حيَّ على الفَلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلاَّ الله". قوله: "ألقى علي"؛ أي: لقَّنني كلَّ كلمةٍ من هذه الكلمات بنفسه. قوله: "ثم [قال]: ارجع فمد من صوتك"، يعني: قل أولًا: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، وأشهد أن محمدًا رسول الله، مرتين، في السرِّ من غير جهرٍ، ثم ارفع صوتك وقل كلَّ واحدة من هاتين الكلمتين مرتين. ويسمَّى رفعُ الصوت بالمرتين اللتين يَرفعُ بها صوته: ترجيعًا، ولا ترجيعَ في كلمات الأذان إلا في كلمتي الشهادة؛ لأن الترجيع هو رفعُ الصوت بكلمتي الشهادة بعد قوله في السر مرتين، والتلفُّظ في السرِّ ليس في كلمةِ من كلمات الأذان سوى الشهادتين. والترجيع سنةٌ عند الشافعي، وعند أبي حنيفة ليس بسنة؛ يعني: لا يقول كلمتي الشهادة في السرِّ، كسائر كلمات الأذان. معنى "حي" بفتح الياء: عجِّل، وهذا أمر مخاطب، يقال للواحد والأكثر هكذا، فلا يغيَّر عن هذا اللفظ. "الفلاح": الخلاص من كلِّ مكروهٍ، والظفر بكلِّ مراد. و"أبو محذورة" وبلال كانا مؤذني رسول الله عليه السلام، [وأبو محذورة] جُمحيٌّ قُرَشيٌّ اختلف في اسمه، الأصح أنه سمرة بن مِعْيَر بن لَوْذان بن ربيعة،

أما بلال كنيته: أبو عبد الله، بلال بن رباح. * * * مِنَ الحِسَان: 445 - قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، غيرَ أنَّهُ يقولُ: قدْ قامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قامَتِ الصَّلاة. قوله: "كان الأذان على عهد رسول الله - عليه السلام - مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة"؛ يعني: يقول المؤذن كلَّ واحدة من كلمات الأذان مرتين مرتين، ومن كلمات الإقامة مرةً واحدة، إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإنه يقوله مرتين. * * * 446 - عن أبي مَحْذورة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأذانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كلمةً، والإِقامةَ سَبْعَ عشْرَةَ كلمةً. قوله: "علمه الأذان تسع عشرة كلمة" تفصيل الأذان: الله أكبر الله أكبر كلمتان، الله أكبر الله أكبر كلمتان، فهذه أربعُ كلمات، أشهد أن لا إله إلا الله أربع كلمات: مرتان في السر، ومرتان في الجهر، وكذا أشهد أن محمدًا رسول الله أربع مرات، حي على الصلاة مرتان، وكذا حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر كلمتان، لا إله إلا الله، فهذه تسع عشرة كلمة. قوله: "والإقامة سبع عشرة كلمة": تفصيله: الله أكبر الله أكبر أربع كلمات، أشهد أن لا إله إلا الله مرتان، وكذا أشهد أن محمدًا رسول الله، ولا يقولهما في السر، حيَّ على الصلاة مرتان، حي على الفلاح مرتان، قد قامت الصلاة مرتان،

الله أكبر الله أكبر كلمتان، لا إله إلا الله كلمة واحدة، وبهذا قال أبو حنيفة. وأما الشافعي فيقول: الإقامة أحد عشر كلمة؛ لأنه يقول كلَّ كلمةٍ مرةً إلا كلمةَ الإقامة، كما رواه ابن عمر وأنس. * * * 447 - وعن أبي مَحْذورة - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! علِّمْني سُنَّةَ الأذانِ، فذكَرَ الأذانَ، وقال بعدَ قولهِ حيَّ على الفَلاحِ: "فإن كانَ في صَلاةِ الصُّبحِ قُلتَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الله أكبرُ الله أكبرُ، لا إلهَ إلاّ الله". قوله: "سنة الأذان"؛ أي: كيفية الأذان في الشرع "فذكر الأذان"؛ أي: ذكر كلمات الأذان كما تقدم. * * * 448 - وعن بِلالٍ - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُثَوَّبن في شيءٍ مِنَ الصَّلاةِ إلاَّ في صَلاةِ الفَجْرِ"، ضعيف. "لا تثوَّبن"، (التثويب): أن يقول المؤذن: الصلاة خيرٌ من النوم، في صلاة الصبح بعد: حيَّ على الفلاح، والتثويب متعدًّ، لازمه ثاب يَثُوبُ ثوبًا: إذا رجع، كأَن المؤذن يَرْجِعُ الناس من بيوتهم إلى المسجد بهذا اللفظ، أو يَرْجِعُهم عن (¬1) النوم إلى الصلاة. والتثويب يجيء أيضًا بمعنى الدعاء مرة بعد أخرى، دعاء المؤذن القومَ مرةً إلى الصلاة بقوله: حي على الصلاة، ومرةً بقوله: حي على الفلاح، ومرة ¬

_ (¬1) في "ش": "من".

بقوله: الصلاة خيرٌ من النوم. * * * 449 - وعن جابر بن عبد الله: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: "إذا أَذَّنْتَ فتَرَسَّلْ، وإذا أَقَمْتَ فاحْدُرْ، واجعلْ بينَ أذانِكَ وإقامَتِكَ قَدْرَ ما يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أكلِهِ، والشَّارِبُ مِنْ شُرْبهِ، والمُعْتَصِرُ إذا دخلَ لِقضاءِ حاجتِهِ، ولا تَقُومُوا حتَّى تَرَوْني". قوله: "فتَرَسَّلْ"؛ أي: اقطع الكلمات بعضَها من بعضٍ؛ يعني: إذا قلت كلمةً فاسكت لحظةً قليلةً، ثم قل كلمة أخرى. قوله: "فاحدُر"؛ أي: عجِّل وأسرع في التلفُّظ بكلمات الإقامة؛ يعني: لا تسكت بين كلماتها. قوله: "واجعل بين أذانك وإقامتك"؛ يعني: إذا أذَّنت فاصبر بقَدْرِ ما يَفْرغُ الآكل من أكله، والشارب من شربه. "والمعتصر"؛ أي: الحاقن، يعني: الذي يؤذيه البول أو الغائط؛ يعني: فاصبر حتى يتوضأ مَن يحتاج إلى الوضوء. قوله: "ولا تقوموا حتى تروني"؛ يعني: إذا قام المؤذن فليجلس القوم ولا يقوموا حتى يدخل الإمام المسجدَ؛ لأن القيام قبل مجيء الإمام تعبٌ بلا فائدة. * * * 450 - وقال: "مَنْ أذَّنَ فهو يُقيمُ"، رواه زِياد بن الحارِث الصُّدَائيُّ. قوله: "من أذن فهو يقيم" رواه زياد بن الحارث الصدائي. يعني: الإقامة حقُّ مَن أذَّن، ويُكره أن يقيم غيرُ مَن أذَّن إلا برضاه.

5 - باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

ولم نجد اسم جدَّ "زياد"، وهو منسوبٌ إلى صُداء، وهو حيٌّ من اليمن، وأذَّن بين يدي رسول الله عليه السلام. * * * 5 - باب فَضْل الأَذان وإجابة المؤذَّن (باب فضل الأذان وإجابة المؤذن) مِنَ الصَّحَاحِ: 451 - عن مُعاوية - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المؤذَّنُونَ أطولُ النَّاسِ أَعناقًا يومَ القِيامَةِ". قوله: "أطول الناس أعناقًا" قال ابن الأعرابي: معناه: أكثر الناس أعمالًا، يقال: لفلان عنقٌ من الخير؛ أي: قطعةٌ من الخير. وقال غيره: أكثرهم رجاء؛ لأن مَن رجا شيئًا طال إليه عنقه، والناس يكونون في الكرب، وهم في الروح يَمُدُّون أعناقهم، وينتظرون أن يُؤْذَنَ لهم في دخول الجنة. وقيل: معناه: الدنو من الله - عز وجل -. وقيل: أراد أن لا يبلغ العرق أعناقهم في يوم بلغ العرق أفواه الناس، وهو يومُ القيامة. وكلُّ ذلك جزاء أن يمدُّوا أعناقهم عند رفع الصوت في الأذان؛ لأن مَن رفع صوته يمدُّ عنقه. * * *

452 - عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نُودِيَ للصَّلاةِ أَدبَرَ الشَّيطانُ لهُ ضُراطٌ حتَّى لا يَسمعَ التَأْذِينَ، فإذا قُضى النِّداءُ أقبلَ، حتَّى إذا ثُوُّبَ بالصَّلاةِ أدبرَ، حتَّى إذا قُضي التثويبُ أقبلَ حتَّى يَخطرَ بينَ المَرءِ ونفسِهِ، يقول: اذكُرْ كذا، واذكُرْ كذا لِمَا لمْ يكُنْ يَذْكُرُ حتَّى يظلَّ الرجلُ لا يَدري كَمْ صَلَّى". قوله: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان"؛ يعني: الشيطانُ وأصحابه يدخلون المساجد ويوسوسون للمصلَّين ويُشَوَّشون عليهم قلوبهم، حتى لا يكونَ لهم حضورٌ في الصلاة، فإذا أذَّن المؤذَّن فرَّ الشيطان، ويبعد بحيث لا يسمع الأذان. قوله: "له ضراط"، (الضراط): ريحٌ أسفل الإنسان وغيرِه إذا كان له صوت، والحمارُ إذا كان حملُه ثقيلًا (¬1) أو يعدو، يخرج منه الضراط من ثقل حمله، فكذلك الشيطان يخرج منه الضراط لثقل الأذان عليه. ويحتمل أن يكون خروج الضراط منه مَثَلًا، وليس المراد منه الحقيقةَ؛ يعني: يَثْقُلُ عليه سماعُ الأذان كما يثقل الحملُ على الحمار حتى يخرج منه الضراط. قوله: "فإذا قضى النداء أقبل"؛ يعني: فإذا فرغ المؤذَّن من الأذان أقبل الشيطان ودخل المسجد. قوله: "حتى إذا ثوَّب بالصلاة أدبر"، (ثوب)؛ أي: أُقيم، و (التثويب): الإقامة، و (التثويب) أيضًا: الإعلام، سمَّيت الإقامة تثويبًا؛ لأنها إعلامٌ بوقت الشروع في الصلاة. ويحتمل أن تسمَّى الإقامة تثويبًا لأن التثويب يجيءُ أيضًا بمعنى الدعاء مرةً بعد أخرى. ¬

_ (¬1) في "ش": "له حمل ثقيل".

وها هنا معناه: أن المؤذن إذا دعا القوم إلى الصلاة مرةً بالأذان، ثم يدعوهم بالإقامة إلى الشروع في الصلاة؛ يعني: إذا سمع الشيطان الإقامة فرَّ، حتى [إذا] فرغ المؤذن من الاقامة أقبل ودخل المسجد، ويوسوس المصلين. "حتى يخطر"، أي: حتى يجري. "يقول: اذكر"؛ يعني: يقول الشيطان للمصلي: اذكر كذا من حساب المال والبيع والشراء، وغيرها من الأشغال الدنيوية. "لما لم يكن يذكر"؛ يعني: لِمَا لم يكن قبل هذا في خاطره، فأجراه الشيطان في خاطره. "حتى يظل"؛ أي: حتى يصير من الوسوسة بحيث لا يدري كم صلَّى. * * * 453 - وقال: "لا يَسمعُ مَدَى صوْتِ المؤذِّن جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلاَّ شَهِدَ لهُ يومَ القيامَةِ"، رواه أبو سعيد الخُدَرِيُّ - رضي الله عنه -. قوله: "مدى صوت المؤذن": المدى: الغاية؛ يعني: من سمع صوت المؤذن من القريب والبعيد من الجنِّ والإنسِ وغيرهما من الحيوانات والجمادات، شهدوا له بسماعِ صوتِ أذانِهِ. والغرض من إنطاقِ من سمع صوت المؤذن: أن يشهد له = تشريفُ المؤذن وتكريمه بين أهل العَرَصات. * * * 454 - وقال: "إذا سمعتُمُ المؤذِّنَ فقولُوا مِثْلَ ما يقولُ، ثمَ صَلُّوا عليَّ، فإنَّه مَنْ صَلَّى عليَّ صَلاةً صَلَّى الله عليه بها عَشْرًا، ثمَّ سَلُوا الله تعالى لي الوَسِيلَةَ، فإنَّها منزِلَةٌ في الجنةِ لا تَنْبَغِي إلا لعبدٍ مِنْ عِبادِ الله، وأَرجو أنْ أكُونَ

أنا هُوَ، فَمَنْ سألَ لي الوَسيلَةَ حلَّتْ عليه الشَّفاعَةُ"، رواه عبد الله بن عمرو. قوله: "ثم صلوا عليَّ"؛ يعني: إذا فرغ المؤذن من الأذان فقولوا: اللهم صلِّ على محمد، ولو قال: وعلى آلِ محمد؛ لكان أكملَ. "صلى الله عليه بها عشرًا": أي: أعطاه الله عشرًا؛ أي: عشر رَحَمَات. "سلوا الله"؛ أي: اطلبوا من الله "لي الوسيلةَ"، وكيف يسأل أحدكم الوسيلة؟ يسأل كما قال - عليه السلام - في قوله: "اللهم ربَّ هذه الدعوة"، ويأتي شرحه في موضعه. قوله: "لا تنبغي"؛ أي: لا تُستحَق. "حلَّت عليه الشفاعة"؛ أي: نزلت عليه شفاعتي؛ أي: استحقَّ أن أشفع له جزاءَ دعائه. * * * 455 - وقال عمر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قالَ المؤذِّنُ: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدُكُمْ: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قالَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، قالَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، ثمَّ قال: أشهدُ أنَّ مُحمدًا رسولُ الله، قال: أشهدُ أنَّ مُحمدًا رسولُ الله، ثمَّ قال: حَيَّ على الصَّلاة، قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، ثم قالَ: حَيَّ على الفلاحِ، قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قال: لا إلهَ إلاَّ الله، قال: لا إلهَ إلاَّ الله، خالصًا مِنْ قَلْبهِ دخلَ الجَنَّةَ". قوله: "لا حول"؛ أي: لا حولَ ولا حيلةَ ولا خلاصَ عن المكروه، ولا قوةَ على الطاعة إلا بتوفيق الله. * * *

456 - وقال: "مَنْ قالَ حِينَ يَسمعُ النِّداءَ: اللهمَّ ربَّ هذهِ الدَّعوةِ التَّامَّةِ والصَّلاةِ القائمةِ، آتِ مُحمدًا الوَسيلةَ والفَضيلةَ، والدَّرجةَ الرَّفيعةَ، وابعثْة مَقامًا مَحمودًا الذي وعدْتَهُ يا أَرحم الراحمين، حلَّتْ لهُ شفاعَتِي يومَ القِيامَةِ"، رواه جابر. قوله: "هذه الدعوة التامة"، سمِّي الأذانُ دعوة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاةِ والذكرِ، ووصف هذه الدعوة بالتامة؛ لأنها ذكر الله، وما هو ذكر الله لا شكَّ أنه تامٌّ. والتام في الحقيقة ذكر الله، وما كان فيه رِضاء الله، وما سوى ذلك فهو ناقصٌ. قوله: "والصلاة القائمة"؛ أي: الدائمة التي لا ينسخُها دينٌ؛ لأنه لا دينَ ولا نبيَ بعد محمد عليه السلام. "الوسيلة": القربة. "وابعثه"؛ أي: أرسله وأوصله. * * * 457 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُغيرُ إذا طلَعَ الفجرُ، وكانَ يستمِعُ الأذانَ، فإنْ سَمِعَ أَذانًا أمسكَ، وإلا أَغارَ، فسمعَ رجُلًا يقولُ: الله أكبر الله أكبر، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "على الفِطْرَةِ"، ثمّ قال: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خرجْتَ مِنَ النَّارِ" فنظرُوا فإذا هو رَاعي مِعْزَى. قوله: "يغير"؛ يعني: يسير رسول الله - عليه السلام - في الليل إلى بلاد الكفار للغارة، وينتظر الصبح؛ ليعلمَ أن ذلك البلد بلد المسلمين أو بلد الكفار، ويعرف ذلك بالأذان، فإن أذَّن فيه أحدٌ أمسك؛ أي: ترك الإغارة،

وإن لم يسمع الأذانَ أغار. "فسمع يومًا رجلًا قال: الله أكبر، فقال رسول الله - عليه السلام -: على الفطرة"؛ أي: هو على الاسلام؛ لأن الأذان لا يكونُ إلا للمسلمين. "خرجتَ من النار"؛ أي: بسبب أنك تركت الشركَ بالله. قوله: "فنظروا"؛ يعني: فلما فرغ من الأذان "فإذا هو راعي مِعْزَى". المِعْزَى - بكسر الميم - والمَعْز والمَعِيز واحدٌ، وثلاثتها اسم الجنس، وواحد المِعْزَى: ماعز. * * * 459 - وقال: "بَيْنَ كُلَّ أذانَيْنِ صَلاةٌ، بينَ كُلَّ أذانَيْنِ صَلاةٌ" ثم قال في الثالثة: "لِمَنْ شاء"، رواه عبد الله بن مُغفَّل. قوله: "بين كل أذانين صلاة"، أراد بالأذانين: الأذان والإقامة، وعادة العرب أن يجمعوا بين شيئين بينهما مشابهة، فيسمونها باسم واحد، كقولهم: القمران؛ للشمس والقمر. وأراد بقوله: (صلاة): صلاة النافلة أو السنة. وإنما حرَّض رسول الله - عليه السلام - على صلاة النفل بين الأذان والإقامة؛ لأن الدعاء لا يردُّ بين الأذان والإقامة؛ لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقتُ أشرفَ، يكون ثواب العبادات فيه أكثر. فإن قيل: أراد بهذه الصلاة صلاة الفرض. قلنا: ليس كذلك؛ لقوله عليه السلام: "لمن شاء"، فلو كان فريضة لم يقل: لمن شاء. * * *

مِنَ الحِسَان: 460 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمَّةُ ضُمَناء، المُؤذَّنُون أُمناء، فأرشدَ الله الأئمَّةَ، وغفَرَ للمؤذِّنين". قوله: "الأئمة ضُمَناء"، (الضمناء): جمع ضمين، وهو بمعنى: الضامن، ومعناه هنا: الحافظ والراعي أمورَ المأمومين من عدد الركعات، وتحمله عنهم القيام والقراءة إذا أدركوه في الركوع، فإنه من أدرك الإمام في الركوع حصلت له تلك الركعةُ، وسقط عنه القيام والقراءة في تلك الركعة، ويأتي بحث هذا في (صفة الصلاة)، ويدعو الإمام لهم في الصلاة؛ لأنه يستحبُّ للإمام أن يدعو في الصلاة بلفظ الجمع. فالإمام ضامن؛ أي: حافظ لصلاتهم في هذه الأشياء. قال الخطابي: وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء؛ يعني: لا يلزم على الأمام إثمٌ بالإمامة، بل يحصل له ثوابٌ. قوله: "والمؤذنون أمناء"، (الأمناء): جمع أمين، وهو: من اعتمد عليه القوم؛ يعني: المؤذنون أمناء في مراعاة أوقات الصلاة؛ لأن الناس يصلون بأذانهم، ويفطرون بأذانهم. وإنما قال رسول الله - عليه السلام - هذا الحديث؛ ليعلم الأئمة أنهم حافظون لصلاة من اقتدى به؛ ليكونوا مستيقظين في حفظ عدد الركعات، وليدعوا بلفظ الجمع، وأيضًا ليجتهدوا في تطهير الثياب والبدن، وإتمام أركان الصلاة، وحفظ أمورها؛ لأن الغالب أن يكون المأموم من العوام، فلا يعلمون أمور الصلاة من السهو وغيره. وكذلك المؤذن؛ ليجتهد في محافظة الأوقات؛ كيلا تبطل صلاة المسلمين وصومهم بالأذان في غير وقته.

قوله: "فأرشدَ الله الأئمة"؛ يعني: رزقهم الصواب، وحفظهم عن الخطأ فيما عليهم من أحكام الصلاة. قوله: "وغفر للمؤذنين": يحتمل أن يكون هذا دعاءٌ من رسول الله - عليه السلام - للمؤذنين على ما صدر منهم في تقدُّمِ الأذان عن الوقت أو تأخره عنه من السهو والخطأ. ويحتمل أن يكون هذا دعاءٌ لا من صدور سهو، بل مجازاة لهم عن إحسانهم إلى الناس بإعلامهم إياهم أوقات الصلاة. وقال الخطابي رحمة الله عليه: في هذا الحديث دليلٌ على استحباب التولي للأذان، وكراهية التولي للإمامة؛ لأنه قال عليه السلام: "أرشدَ الله الأئمة"، والدعاءُ بالرشاد إنما يكون في فعلٍ فيه خطرٌ. التولي: القيام على الشيء. * * * 461 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنينَ مُحتسِبًا كُتِبَ له بَراءَةٌ مِنَ النَّار". قوله: "محتسبًا"، (الاحتساب): طمع الثواب من الله تعالى دون غيره، (محتسبًا)؛ أي: طالبًا لثواب الله، ولم يطلب أجرة. "براءة من النار"؛ أي: خلاص من النار. * * * 462 - وقال: "يَعجَبُ ربُّكَ مِنْ راعي غَنَمٍ في رأْسِ شَظِيَّةِ للجبَل يُؤَذِّنُ بالصَّلاةِ، ويُصلَّي، فيقولُ الله تعالى: انظُروا إلى عَبْدي هذا، يُؤَذَّن ويُقيمُ الصَّلاة، يخافُ منَّي، قدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وأدخلْتُهُ الجنَّةَ"، رواه عُقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

قوله: "يعجب ربك"؛ أي: يرضى ربك، وقيل: معناه: يعظمُ هذا الفعل عند ربك، الكاف خطاب لواحد من الصحابة، إما هذا الراوي أو غيره، يخاطبه النبي - عليه السلام - بهذا الحديث. "الشَّظِيَّة": الصخرة العظيمة الخارجة من الجبل، كأنها أنفُ الجبل. قوله: "انظروا"؛ أي: يا ملائكتي! انظروا. "يخاف مني"؛ يعني: لا يؤذن ولا يصلي ليراه أحد؛ لأنه لم يكن أحدٌ حاضرًا ثَمَّ، بل يفعل هذا؛ لخوف عذابي، وطمع جنتي. * * * 463 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثةٌ على كُثبانِ المِسْكِ يومَ القِيامَةِ: عبدٌ أدَّى حقَّ الله تعالى وحقَّ مَوْلاَهُ، ورجلٌ أمَّ قَوْمًا وهُمْ بِهِ راضُونَ، ورجلٌ يُنادي بالصلواتِ الخمسِ كُلَّ يومٍ وليلةٍ"، رواه ابن عُمر. غريب. قوله: "على كُثبان المسك"، (الكثبان): جمع كثيب، وهو: الموضعُ المرتفع مثل جبل صغير. قوله: "وهم به راضون"؛ يعني: إذا كان القوم راضين بالإمام، يكون ثوابُ الإمام أكثر. "ينادي"؛ أي: يؤذن؛ يعني: يجعل الله لهؤلاء الثلاثة في عرصات القيامة أمثالَ الجبال من المسك؛ ليقفوا عليها إعزازًا وإكرامًا لهم بين الناس؛ لشرف أفعالهم. * * * 464 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "المؤذِّنُ يُغفَرُ لهُ مدَى صَوْتِهِ، ويَشْهَدُ له كُلُّ رَطْبٍ ويابسٍ، وشاهِدُ الصَّلاةِ يُكتَبُ له خَمْسٌ

وعِشْرُونَ صلاةً، ويُكَفَّرُ عنه ما بينهُما". قوله: "يغفر له مدى صوته"، (المدى): الغاية، يريد بهذا: تكميلَ المغفرة؛ يعني: إذا كان صوته أبعدَ تكون مغفرته أكثر، وقيل: معناه: تُغفَرُ ذنوبه وإن كانت تملأ ما بين قدميه وبين آخر ما بلغه صوته من الأرض. قوله: "يشهد له كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وشاهدُ الصلاة"، (الشاهد): الحاضر؛ يعني: ما سمع صوته من الجمادات والحيوانات ومن حضر الصلاة بأذانه يشهدُ له يوم القيامة بسماع أذانه. قوله: "يكتب له خمس وعشرون صلاة"؛ أي: ثواب خمس وعشرون صلاة. وقد جاء في الأحاديث مقاديرُ من الثواب مثل هذا، وفي صلاة الجماعة: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذَّ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية: "بخمس وعشرين درجة". والحكمةُ في هذه المقادير: شيءٌ علمه النبي عليه السلام، كمقادير عدد ركعات الصلاة، ونصاب الإبل وغيرها من الزكاة، ومن قال فيها شيئًا؛ فقد قاله عن التكلف. قوله: "ما بينهما"؛ أي: ما بين أذان إلى أذان آخر. * * * 465 - وقال عُثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسولَ الله! اجعلْني إمامَ قَوْمِي، قال: "أنْتَ إمامُهُمْ، واقْتَدِ بأضعفِهِم، واتخِذْ مؤذِّنًا لا يأخُذُ على أذانِهِ أجرًا". قوله: "واقتدِ بأضعفهم"؛ أي: وافق أضعفَ القوم في الصلاة؛ يعني: خفَّفِ الصلاة؛ ليقدر الضعفاء أن يصلوا معك، ولا يجوزُ تركُ أركان الصلاة،

ولكن يُقصَّرُ القراءة والتسبيحات. وفي هذا الحديث ثلاث فوائد: إحداها: أن الإمامة ينبغي أن تكون بإذنِ الحاكمِ. والثانية: استحبابُ تخفيف الصلاة للإمام. والثالثة: استحبابُ الأذان بغير أُجْرة. فإن استأجر الإمام على الأذان جاز، وقيل: لا يجوز. كنية "عثمان": أبو عبد الله، واسم جده: بشر بن عبد بن دهمان الثقفي. * * * 466 - وقالت أمُّ سلَمة رضي الله عنها: عَلَّمني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقولَ عِنْدَ أذانِ المغرِبِ: "اللهمَّ! هذا إقْبالُ لَيْلِكَ، وإدْبارُ نهارِكَ، وأصواتُ دُعاتِكَ، فاغْفِرْ لي". قولها: "هذا إقبال ليلك"؛ أي: هذا الأوانُ أوانُ إقبالِ ليلك؛ يعني: بحق هذا الوقت الشريف. "فاغفر لي" فيه. "الدعاة": جمع الداعي، وهو المؤذن هنا. * * * 467 - ورُوي: أنَّ بِلالاً - رضي الله عنه - أخذَ في الإقامة، فلمَّا أنْ قالَ: قدْ قامَتِ الصَّلاةُ قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أقامَها الله، وأدامَها"، وقالَ في سائرِ الإقامةِ: كنحوِ حديثِ عمر في الأذانِ. قوله: "كنحو حديث عمر في الأذان"؛ يعني: قال رسول الله - عليه

السلام - مثل ما قال بلالٌ في سائر الكلمات إلا في قوله: قد قامت الصلاة، فإنه قال: "أقامها الله وأدامها"؛ أي: ثبت الله الصلاة وأدامها. * * * 468 - عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُرَدُّ الدُّعاءُ بينَ الأَذانِ والإِقامَةِ". 469 - وقال: "ثِنْتَانِ لا تُرَدَّانِ: الدُّعاءُ عندَ النَّداءِ، وعِندَ البأْسِ حينَ يَلحَمُ بعضُهم بعضًا"، ويُروى: "وتحتَ المَطَرِ"، رواه سَهْل بن سَعْد. قوله: "ثنتان"؛ أي: دعوتان "لا تردان"، بل تستجابان: إحداهما عند الأذان، والثانية: عند اختلاط جيش المسلمين بالكفار في المحاربة. "البأس": المحاربة. (ألحم يَلحَم): إذا اختلط، ولحَم - بفتح العين في الماضي وضمها وفتحها في الغابر - لحمًا: إذا فصل اللحم عن العظم، وهو استعارةٌ هنا عن القتل، فإن قلت: يُلحِم - بضم الياء وكسر الحاء - معناه: يختلط بعضهم ببعض، وإن قلت: يَلحَم - بفتح الياء والحاء - معناه: يقتل بعضهم بعضًا، والرواية: "يَلحَم" بفتح الياء والحاء. قوله: "وتحت المطر"؛ أي: عند نزول المطر. * * * 470 - وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! إنَّ المؤذِّنينَ يفضُلونَنَا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ كما يقولونَ، فإذا انْتَهَيْتَ فسَلْ تُعْطَ". قوله: "يفضلوننا"؛ أي: حصل لهم فضلٌ ومزيدٌ علينا في الثواب بسبب الأذان.

فصل

"قل كما يقولون"؛ أي: إذا قلت ما يقول المؤذن حصل لك الثوابُ. "فسل تُعطَ"؛ يعني: إذا فرغت، فاطلب ما تريد من الله تعالى، يعطك. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 471 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بلالاً يُنادي بالليل، فكُلوا واشربُوا حتَّى يُنادي ابن أُمَّ مَكْتُوم". قوله: "إن بلالًا ينادي بليل"؛ يعني: لا يحرم أكل السحور على الصائم بأذان بلال؛ لأنه يؤذن قبل الصبح، ولكن يحرم بأذان ابن أم مكتوم؛ لأنه يؤذن بعد الصبح. "ابن أمِّ مكتوم" اسمه: عبد الله، واسم أبيه: قيس بن زائدة بن الأصم، وهو قرشي عامري، واسم أمه: عاتكة بنت عبد الله بن عَنْكَثَةَ (¬1) المخزومية، والمراد بمكتوم: عبد الله، سمي بذلك؛ لأنه ضرير. * * * 472 - وقال: "لا يَمنعنَّكُمْ مِنْ سُحورِكُم أذانُ بلالٍ، ولا الفجرُ المُستَطِيلُ، ولكن المُسْتَطِيرُ في الأُفُق"، رواه سَمُرة بن جُنْدُب. قوله: "ولا الفجر المستطيل"، (المستطيل): الطويل، وأراد بالفجر المستطيل: الصبح الكاذب، وُصِف بالمستطيل؛ لأنه يرتفع قبل السماء طويلًا، ¬

_ (¬1) في "ش" و"ت" و"ق": "عتيكة"، والصواب ما أثبت.

ولا يتفرَّق نوره، ثم يزول، ثم بعد زواله بزمانٍ يظهر الصبح الصادق. "وهو يستطير"؛ أي: يتفرَّق نورُهُ في جانب الأفق. و"الأفق": جانب السماء والأرض. * * * 473 - وقال مالك بن الحُوَيْرِث - رضي الله عنه -: قدمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عمَّ لي، فقال لنا: "إذا سافَرْتُما فأَذَّنا، وأقِيما، ولْيَؤُمَّكُما أكْبَرُكُما". قوله: "فأذِّنا"؛ يعني: الأذان لا يختصُّ بالأكبر والأفضل، والإمامة تختصُّ بالأكبر والأفضل. جد "مالك": أشيمُ، وهو ليثي. * * * 474 - وقال: "صَلُّوا كما رأَيْتُمُوني أُصلَّي، فإذا حَضَرتِ الصَّلاةُ فلْيُؤَذَّنْ لكُمْ أحدُكُمْ، ثمَّ لِيَؤُمُّكُمْ أكبرُكُمْ". قوله: "صلُّوا كما رأيتموني"؛ يعني: اجعلوا ركوعكم وسجودكم وسائرَ أركان الصلاة مثلَ ما رأيتموني أفعلُ. * * * 475 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قفَلَ مِنْ خَيْبَرَ سارَ ليلةً، حتَّى إذا أدركَهُ الكَرَى عرَّسَ، ونامَ هو وأصحابُهُ، فلمْ يستيقِظْ أحد مِنَ الصَّحابَةِ حتى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّلَهُمْ استِيقاظًا، فقال: "اقتادُوا"، فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُم شيئًا، ثمَّ تَوَضَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرَ بلالاً فأقامَ الصَّلاةَ، فصلَّى بهِمُ الصُّبْحَ، فلمَّا قَضَى الصَّلاةَ قال: "مَنْ نَسِيَ الصَّلاة فَلْيُصَلِّها

إذا ذكرَها، فإنَّ الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". قوله: "قفل"؛ أي: رجع من غزو خيبر إلى المدينة. "الكرى": النوم، و"عرَّس تعريسًا": إذا نزل في آخر الليل للاستراحة. "ضربتهم"؛ أي: وقع حرُّ الشمس عليهم. "فقال: اقتادوا"؛ أي: قال لهم رسول الله عليه السلام: اقتادوا؛ أي: اطردوا وسوقوا رواحلَكُم من هذا الموضع إلى موضع آخر، "فاقتادوا رواحلهم شيئًا"؛ أي: اذهبوا من ثَمَّ مسافة قليلة. قيل: إنما لم يقضِ رسولُ الله - عليه السلام - في الموضع الذي استيقظَ فيه؛ لأنه موضعٌ غلب عليهم الشيطانُ فيه، فساروا إلى موضع آخر. وقيل: إنما لم يصلوا ثَمَّ، بل أخَّروا الصلاة؛ لترتفع الشمس؛ ليخرج وقتُ الكراهية، وهذا عند أبي حنيفة؛ لأنه يكره الصلاة عند طلوع الشمس والاستواء وعند الغروب، سواء كان للصلاة سببٌ أو لم يكن. وعند الشافعي: لا يكره إذا كان لها سببٌ، كالفائتة وغيرها. قوله: "فأقام الصلاة" ذكر في هذا الحديث الإقامة للفائتة، ولم يذكر الأذان؛ فعند أبي حنيفة: يؤذن ويقيم للفائتة، وعند الشافعي قولان: الأظهر: أنه يقيم ولا يؤذن. قوله تعالى: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ": ذكر شرحه في الحديث الذي قبل حِسَانِ (باب تعجيل الصلاة). * * * 477 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوها تَمشُون، وعلَيْكُمُ السَّكينَة، فما أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا،

6 - باب المساجد ومواضع الصلاة

وما فاتَكُمْ فأَتِمُّوا"، ويُروى: "فإنَّ أحدَكُمْ إذا كانَ يَعْمِدُ إلى الصَّلاةِ فهو في صَلاةٍ". قوله: "فلا تأتوها تسعَونَ"؛ يعني: كونوا في المشي إلى المسجد غيرَ مسرعين، وإن خفتم فوتَ الصلاة، فإذا أتيتم المسجد وقد فاتكم بعضُ صلاة الجماعة، فصلُّوا ما بقي منها، ويحصلُ لكم الثواب كاملًا؛ لأن من قصد الصلاة؛ فكأنه في الصلاة من حين قصدها، وهذا إذا لم يكن مقصَّرًا بالتأخير. * * * 6 - باب المَساجِد ومَواضع الصَّلاةِ (باب المساجد ومواضع الصلاة) مِنَ الصَّحَاحِ: 478 - قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: لمَّا دَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - البيتَ دَعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلَّ حتى خرجَ، فلمَّا خرجَ ركعَ ركعَتَيْنِ في قُبُلِ الكَعْبَةِ، وقال: "هذِهِ القِبْلةُ". قوله: "لما دخل النبي - عليه السلام - البيت"؛ يعني: لما دخل عام فتح مكة الكعبةَ. "دعا في نواحيه"؛ أي: وقف في كل جانب من جوانب الكعبة من داخلها، ودعا، "ولم يصلِّ"، ثم "خرج وصلى ركعتين في قُبُلِ الكعبة"، (القبل) بضم القاف وإسكان الباء وضمها: ضد الدبر، وأراد بـ (قبل الكعبة): مستقبلَ باب الكعبة.

قوله: "وقال هذه القبلة"؛ أي: قال رسول الله عليه السلام هذا؛ أي: استقرَّ أمر القبلة بحيث لا يُنسَخُ إلى القيامة، ويجب أن يتوجَّه الكعبةَ من يصلي في أيَّ مكان من الأرض. (القبلة): ما يقبل عليه الرجل؛ أي: يستقبله. * * * 479 - وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ الكعبةَ هو وأُسامَةُ بن زَيْدٍ وعُثْمَانُ بن طَلحةَ الحَجَبيُّ وبلالُ بن رَباح، فأغلقَها عليه، ومكثَ فيها، فسألتُ بلالاً حينَ خرجَ: ماذا صنعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: جَعَلَ عَمودًا عن يسارِهِ، وعَمودَيْنِ عن يمينِهِ، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَهُ، ثمَّ صلَّى. قوله: "إن رسول الله - عليه السلام - دخل الكعبة ... " إلى آخره. وجدُّ "أسامة": حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى. وأما جدُّ "عثمان بن طلحة": أبو طلحة عبد الله بن العزى بن عثمان بن عبد الدار القرشي. أما "بلال بن رباح" فهو مؤذن رسول الله عليه السلام، وهو حبشي، مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. "الأعمدة": جمع عمود؛ يعني بهذا الحديث: أنه كان للكعبة يومئذ ستة أعمدة، فوقف رسول الله - عليه السلام - كما وصف هنا، وأما الآن فليست الكعبة على تلك الهيئة؛ لأنه غيَّرها حجَّاج بن يوسف، وفي أيَّ موضع منها يصلي الرجل جاز. * * *

480 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةٌ في مسجِدي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ إلاَّ المسجدَ الحرامِ". قوله: "صلاة في مسجدي هذا"؛ أراد بقوله: (مسجدي) مسجدَ المدينة. * * * 481 - وقال: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومَسجدِي هذا"، رواه أبو سعيد الخُدْرِيُّ - رضي الله عنه -. قوله: "لا تشد الرحال"، (لا) هنا نفيٌ معناه النهي، و (الرحال): جمع رحل، وهو: ما يكون مع المسافر من الأقمشة. يعني: لو نذر واحد أن يمشي إلى مسجد للصلاة أو غيرها، لم يجب عليه المشي، إلا إلى هذه المساجد الثلاثة؛ لأن ما سوى هذه الثلاثة متساوٍ ففي أيِّ موضع يصلي خرج من النذر، ولا يلزمه المشي إلى المسجد الذي عيَّنه في نذره، وأما هذه المساجد الثلاثة لها فضيلة على غيرها؛ أما الكعبة فلأنها القبلة، ولأنها تقصد للحج والعمرة. وأما مسجد المدينة فلأنه موضع النبي - عليه السلام - ومصلاه. وأما بيت المقدس فلأنه كان قبلة الأنبياء، وصلى إليه رسول الله - عليه السلام - لمَّا قدم المدينة ستة عشر شهرًا، وقيل: سبعة عشر شهرًا، ثم نزل بين الظهر والعصر: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] إلى آخر الآية، فحوَّل إلى الكعبة، فأوَّلُ صلاة صلاها رسول الله - عليه السلام - في المدينة إلى الكعبة العصر. * * *

482 - وقال: "ما بينَ بَيتي ومِنبَري رَوضةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي على حَوْضي"، رواه أبو هريرة. قوله: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومِنبري على حَوْضي"، وكان باب حجرته - عليه السلام - مفتوحًا إلى المسجد، والمحراب بين المنبر وبين بيته، وأراد بقوله: "روضة": المحراب؛ لأن محرابه - عليه السلام - موضع الصلاة والوعظ والذكر، وفيه بركته؛ يعني: محرابي سبب وصول الرجل إلى الجنة بالإيمان به، وقَبولِ ما يصدر من النبي - عليه السلام - من الأحاديث، وهو موضع الملائكة والصالحين، لا يخلوا أبدًا من أهل الصلاح، ولا شك أن الموضعَ الذي هذه صفته سببُ وصول الرجل إلى الجنة. وقد قال عليه السلام: "إذا مررتم برياض الجنة فارتَعوا" قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: "حِلَق الذَّكر". قوله: "ومنبري على حوضي"؛ يعني: من آمن بكون منبري حقًا، وكون ما يسمع مني على منبري حقًا، ويعمل به، يردُ عليَّ على حوض الكوثر، ومن لم يكن بهذه الصفة، لم يرد عليَّ على حوضي. * * * 483 - عن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأْتي مسجِدَ قُباءٍ كُلَّ سَبْتٍ ماشِيًا وراكبًا، فيُصلِّي فيهِ ركعَتْينِ. قوله: "يأتي مسجد قباء ... " إلى آخره، هذا الحديث يدلُّ على أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحبٌّ، وأن الزيارة يوم السبت سنة. و (قُباء): مسجد خارج المدينة قريب منها، و (قباء) ممدود، ذكره في "الصحاح". * * *

484 - وقال: "أحبُّ البلادِ إلى الله مسَاجِدُها، وأبغضُ البلادِ إلى الله تعالى أسواقُها"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "أحب البلاد إلى الله"، (البلاد): جمع بلد، وهو المواضع؛ يعني: أحب المواضع إلى الله تعالى المساجد؛ لأنها مواضعُ الصلاةِ والذكر، وأبغضُ المواضع إلى الله الأسواق؛ لأنها مواضعُ الغفلةِ والحرص والطمع والخيانة. * * * 486 - وقال: "مَنْ غَدا إلى المسجدِ أو رَاحَ، أعدَّ الله لهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدا أو راحَ". قوله: "من غدا إلى المسجد"، (غدا): إذا مشى في أول النهار، و (راح): إذا مشى في أول الليل. "أعد الله"؛ أي: هيَّأ الله. "النزل" بضم الزاي، ويجوز إسكانها: ما يُقدَّم إلى الضيف من الطعام. يعني: عادة الناس أن يقدموا طعامًا إلى من دخل بيوتهم، والمسجدُ بيتُ الله، فمن دخله في أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله تعالى أكرمُ الأكرمين، فلا يضيعُ أجرَ المحسنين. * * * 487 - وقال: "أعظمُ النَّاسِ أجْرًا في الصَّلاةِ أبعَدُهُمْ فأبعَدُهُمْ مَمْشًى، والذي يَنتظِرُ الصَّلاةَ حتَّى يُصَلِّيها مع الإِمام أعظمُ أجرًا مِنَ الذي يُصَلِّي ثمَّ ينامُ"، رواه أبو موسى - رضي الله عنه -. قوله: "فأبعدهم ممشى"، (الممشى): مصدر ميمي، أو مكان؛ يعني: من كان من بيته إلى المسجد أبعد مسافة فأجرُه أكثرُ؛ لأن الأجر بقدر التعب.

قوله: "يصلي ثم ينام"؛ يعني: يصلي منفردًا، ثم ينام، ولا ينتظر الإمام. * * * 488 - وقال جابر: أرادَ بنو سَلِمَةَ أَنْ يَنتقِلُوا إلى قُرْب المسجدِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سَلِمَةَ! دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكُمْ، دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكم". قوله: "أراد بنو سَلِمة" بكسر اللام: قبيلة من الأنصار، وكان بين دورهم وبين مسجدِ رسول الله - عليه السلام - مسافةٌ بعيدة، يلحقهم تعب في سواد الليل في المشي إلى المسجد، فأرادوا أن يتركوا دورهم، ويتخذوا دورًا أخر بقرب المسجد، فقال لهم رسول الله عليه السلام: "بني سلمة! "؛ أي: يا بني سلمة! "ديارَكم"؛ أي: الزموا دياركم، فلا تنتقلوا عنها، "تكتب" بجزم الباء على جواب الأمر المقدر؛ أي: حتى يكتب أجرُ "آثاركم"؛ أي: أقدامكم؛ يعني: لكل خطوة درجة في المشي إلى المسجد، فما كان الخطا أكثرَ يكون الأجرُ أكثرَ. * * * 489 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبعةٌ يُظلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلَّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأَ في عِبادَةِ الله تعالى، ورجُلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسجِدِ إذا خَرَجَ مِنْهُ حتَّى يَعودَ إليه، ورجُلاَنِ تحابَّا في الله اجتَمَعَا عليهِ، وتَفرَّقا عليه، ورجُل ذكرَ الله خالِيًا ففاضَتْ عَيْنَاهُ، ورجُل دَعَتْهُ امرأَةٌ ذاتُ حَسَبٍ وجَمالٍ فقال: إنَّي أَخافُ الله، ورجُلٌ تصَدَّقَ بصدَقَةٍ فأخْفاهَا حتَّى لا تعلمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُهُ". قوله: "يظلهم الله"، أظل يظل: إذا أوقف أحدًا في الظل، وجعل الظلَّ على رأسه.

"يظلهم الله تعالى في ظله"؛ أي: يجعلهم الله تعالى في حفظه وعنايته، ويحفظهم عن عذاب يوم القيامة. "يوم لا ظلَّ إلا ظله"؛ أي: لا قدرةَ ولا رحمةَ في يوم القيامة إلا لله. "إمام"؛ أي: ملك وحاكم. "نشأ"؛ أي: نما؛ أي: يكون في العبادة من أول بلوغه بسنِّ التمييز إلى أن كبر. "تحابَّا في الله"؛ أي: جرت المحبةُ بينهما لله، لا لغرضٍ دنيوي. "اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه"؛ يعني: لو كانا جالسين ومجتمعين يكونان في رضا الله تعالى في الحب لله، ولو كانا متفرقين يكونان على ذلك الحب، يحفظان الحب في الحضور والغيبة. "ذكر الله خاليًا"؛ أي: يخاف الله في الخلوة، ويبكي من خوفه، ومن تقصيره في الطاعة، وخوف ذنوبه. "فاضت عيناه"؛ أي: جرى الدموع من عينيه. "دعته امرأة"؛ أي: دعته امرأة أن يزني بها، ولها جمالٌ كاملٌ وحسب، ومع ذلك يتركها من خوف الله تعالى. "الحسب": ما يعدُّه الرجلُ من مفاخر آبائه، وكذا ما يكون في الرجل من الخصال الحميدة، وكذلك المرأة، والمرأةُ إذا كانت شريفةً ذاتَ خصال حميدة، تكون النفسُ أميلَ إليها ممن لم تكن بهذه الصفة. قوله: "لا تعلم شماله ما تنفق يمينه": هذا تأكيدٌ ومبالغةٌ في الإخفاء، وليس المراد به الحقيقة؛ لأن نسبةَ العلمِ إلى الشمال استعارة؛ لأن الشمالَ لا تعلم شيئًا. * * *

490 - وقال: "صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سُوقِهِ خَمْسًا وعشرينَ ضعفًا، وذلكَ أنَّهُ إذا تَوَضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ، ثمَّ خرجَ إلى المسجد لا يُخرجُهُ إلاّ الصَّلاةُ، لم يَخْطُ خُطوةً إلاّ رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنهُ بها خَطيئةٌ، فإذا صَلَّى لمْ تَزَلِ الملائكةُ تُصَلِّي عليهِ ما دامَ في مُصَلاَّهُ: اللهم صلِّ عليه، اللهم! ارحمْهُ". وقال: "لا يزالُ أحدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَ ينتظِرها، ولا تزالُ الملائكَةُ تُصلَّي على أحدِكُمْ ما دامَ في المسجِدِ تقول: اللهمَّ! اغفِرْ لهُ، اللهمَّ! ارحَمْهُ ما لمْ يُحدِثْ". قوله: "تُضعَّفُ"؛ أي: تزاد. "لا يخرجه إلا الصلاة"؛ يعني: لا يخرج من بيته إلى المسجد إلا للصلاة، لا لشُغلٍ آخر. "تصلِّي عليه"؛ أي: تدعو له، وتستغفرُ له. "في مصلاه"؛ أي: في الموضع الذي صلَّى فيه. قوله: "اللهم! اغفر له"؛ يعني: تقول الملائكة: اللهم! اغفر له. "ما لم يُحْدِث" بسكون الحاء وتخفيف الدال؛ أي: ما لم يُبطِلْ وُضوءه. * * * 492 - وقال: "إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ". قوله: "فليركعْ ركعتين"؛ يعني: فلْيصلِّ ركعتين تحيةَ المسجد. * * *

493 - وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقْدُمُ مِنْ سفَرٍ إلاَّ نهارًا في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بدأَ بالمسجِدِ، فصلَّى فيهِ ركعَتَيْنِ، ثمَّ جلسَ فيه. قوله: "لا يَقدُم من سفر إلا نهارًا"، فالسنة إذا رجع من السفر: أن يدخل الرجل بلده في أول النهار، بدليل هذا الحديث، وليبدأ بدخول المسجد، وليصلَّ ركعتين تحية المسجد، وليجلس فيه لحظة؛ ليزوره أحباؤه ويزورهم، ثم يدخلُ بيته. * * * 494 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمِعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عليكَ، فإنَّ المساجِدَ لمْ تُبن لهذا". قوله: "ينشدُ ضالَّة"، نشد ينشد: إذا طلب الضالة؛ يعني: رفع الصوت في المسجد غيرُ جائزٍ في غير ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، والوعظ، ودرس العلم. * * * 495 - وقال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجرةِ المُنْتَنِةَ فلا يَقْرَبن مَسجِدَنَا، فإنَّ الملائكَةَ تتأذَّى ممَّا يَتَأَذَّى منهُ الإِنسُ". قوله: "من أكل من هذه الشجرة"؛ أي: من الثوم، هكذا ذكر في "شرح السنة"، ويقاس عليه البصلُ، وما له رائحة كريهة؛ يعني: من أكل شيئًا له رائحة كريهة، كُرِهَ له أن يدخلَ المسجد؛ كيلا يتأذى برائحته الملائكة، ومن حضر من الإنس، والنهيُ ليس من دخول المسجد، بل من أكل هذه الأشياء. * * *

496 - وقال: "البُزاقُ في المَسجِدِ خَطيئةٌ، وكفَّارتُها دَفْنُها". قوله: "البزاق في المسجد خطيئةٌ، وكفارتُها دفنُها"، رواه أنس. يعني: إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهرٍ عقيبَ الإلقاءِ أزال عنه تلك الخطيئة. قوله: "البزاق في المسجد" تقديره: إلقاء البزاق في المسجد. * * * 497 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أَعمالُ أُمَّتِي حَسَنُها وسيَّئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالِها الأَذَى يُماطُ عنِ الطَّريقِ، ووجدتُ في مَساوئ أعمالِها النُّخَاعةَ في المسجدِ لا تُدْفَنُ". وقال: "عُرِضت عليَّ أعمالُ أمتي حسنُها وسيَّئُها". قوله: "فوجدتُ في محاسنِ أعمالهم"، (المحاسن): جمع حسن. "الأذى": ما يتأذى به الناس من حجر وشجر في الطريق، وغير ذلك. "يُماط"؛ أي: يُبعَد. "المساوئ": جمع مَسَاء، وأصله: (مَسْوَء)، فنُقِلت فتحة الواو إلى السين، وقُلِبت ألفًا، ومعناه: السيئة، و (السوءُ) مثله، ويحتمل أن تكون (المساوئ) جمع: السوء، كـ (المحاسن) جمع: الحسن، والياء في (المساوي) مقلوبةٌ عن الهمزة. "النُّخاعة" والنُّخامة: البزاق الذي يلقيه الرجل من فمه. يعني: إماطةُ الأذى عن الطريق من جملة الحسنات، وإلقاءُ البزاق في المسجد من جملة السيئات، إذا لم "يدفن"؛ أي: لم يستر. * * *

498 - وقال: "إذا قامَ أحدُكُمْ إلى الصَّلاةِ فلا يَبصُقْ أَمامهُ، فإنما يناجي الله ما دام في مُصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملَكًا، وليبصُق عن يَسارِهِ أو تحتَ قدَمِهِ فَيَدْفِنُها"، وفي رواية: "أو تحتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى". قوله: "فلا يبصق"؛ أي: فلا يسقط البزاق. قوله: "أمامه" بفتح الهمزة؛ أي: تلقاء وجهه؛ يعني: نحو القبلة. و"يناجي الله تعالى"؛ أي: يخاطبه، ومن يخاطب أحدًا لا يبصق نحوه، والله تعالى ليس له مكان حتى يختصَّ بجهة، بل جميع الجهات عنده سواء، ولعل المراد من النهي: أن لا يبصق المصلي تلقاء وجهه صيانةً للقبلة عما ليس فيه تعظيمٌ. قوله: "فإن عن يمينه ملكًا"، اعلم أن عن يساره ملكًا كما أن عن يمينه ملكًا؛ لقوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]. (يتلقى)؛ أي: يأخذ ويكتب، (المتلقيان): الملكان الموكلان بالإنسان؛ أحدهما عن يمينه يكتب حسناته، والثاني عن شماله يكتب سيئاته. (قعيد)؛ أي: كل واحد منهما مُقاعِدٌ؛ أي: مجالس وملازم له. ولعل المراد بالنهي عن إلقاء البزاق عن اليمين: زيادةُ تعظيم الملك الذي هو عن اليمين؛ لأنه يكتب الحسنات، ومن يكتب الحسنات أشرفُ من الذي يكتب السيئات، ولأن جانب يمين الرجل خيرٌ من شماله. وفي هذا الحديث دلالةٌ على طهارة البزاق؛ لأنه لو لم يكن طاهرًا لما أمر النبي - عليه السلام - المصلي بإلقاء البزاق في مُصلاه، وقد أمره في حديث آخر: أن يأخذ البزاق بثوبه. قال الخطابي: لا أعلمُ أحدًا قال بنجاسة البزاقِ إلا إبراهيم النخعي. * * *

499 - وقال: "لَعنةُ الله على اليَهودِ والنَّصارَى، اتَّخَذُوا قُبورَ أَنبيائهم مَساجِدَ". قوله: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى"، وعلةُ دعائه - عليه السلام - على اليهود والنصارى باللعنة: أنهم يصلُّون في المواضع التي فيها أنبياؤهم - عليهم السلام - مدفونون؛ إما للسجود لهم، وهذا كفر؛ لأن السجودَ لا يجوز إلا لله، وإمَّا لاعتقادهم أن الصلاة ثمة أفضل؛ لكونها خدمة لله وتعظيمًا لأنبيائهم، وهذا شرك؛ لأنه لا يجوز أن يقصد بالصلاة إلا تعظيم الله تعالى وطاعته. وعلةُ نهيه - عليه السلام - أمتَهُ عن الصلاة في المقابر الاحترازُ عن مشابهة اليهود والنصارى. * * * 501 - وقال: "اجْعَلُوا في بُيوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، ولا تتَّخِذُوهَا قُبورًا". قوله: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم"؛ يعني: صلُّوا في بيوتكم، ولا تتخذوها كالمقابر؛ فإن المقابرَ هي التي نُهِي عن الصلاة فيها. وقيل: معناه: صلوا في بيوتكم؛ فإنكم لو لم تصلوا فيها، فقد شبَّهتم بيوتكم بالمقابر، وشبَّهتم أنفسَكم بالموتى. ومن قال: معناه: لا تدفنوا الموتى في بيوتكم، فقد أخطأ؛ لأن النبي - عليه السلام - دُفِنَ في بيته بإجماع من الصحابة. * * * 503 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبْلةٌ".

قوله: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة. اعلم أنَّ المشارقَ والمغارب كثيرةٌ؛ لأن (المشارق) جمع: مشرق، وهو موضع شروق الشمس؛ أي: طلوعها، وكل وقت تطلع الشمس من موضع، وتغرب من موضع، فأولُ المشارق مشرقُ الصيف، وهو مطلع الشمس في أطول يوم من السنة، وذلك قريبٌ من مطلع السِّماكِ الرَّامِح، يرتفع عنه في الشمال، وآخر المشارق مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة، وهو قريبٌ من مطلع قلبِ العقربِ، ينحدر عنه في الجنوب قليلًا، وأولُ المغارب مغربُ الصيف، وهو مغيب القرص عند موضع غروب السِّماكِ الرامِح، وآخر المغارب مغرب الشتاء، وهو مغيب القرص عند مغرب قلب العقرب على نحو ما ذكرته في مطلعه، فمن جعل من أهل الشرق أول المغارب عن يمينه وآخر المشارق عن يساره، كان مستقبلًا للقبلة، والمراد بأهل الشرق: أهل الكوفة وبغداد وخرستان وفارس والعراق وخراسان، وما يتعلق بهذه البلاد. * * * 504 - وقال طَلْق بن علي: خرجْنَا وَفْدًا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فبايعناهُ، وصَلَّيْنَا معهُ، وأخبَرْنَاهُ أنَّ بأرضنَا بِيْعةٌ لنا، فقال: "إذا أَتيتُمْ أرضَكُمْ فاكسِروا بِيعَتَكُمْ، وانضَحُوا مَكانَها بهذا الماءِ، واتَّخِذُوهَا مسجِدًا". قوله: "خرجْنَا وَفْدًا"، (الوفد): الجماعة الذين يقصدون أحدًا لرسالة أو مهم، (وفدًا) هنا منصوب على الحال؛ أي: خرجنا في حال كوننا قاصدين رسول الله - عليه السلام - لتعليم الدين. "البيْعَة": الموضع الذي يتعبد فيه النصارى.

"فاكسروا بِيعتكم"؛ أي: أخربوها. "وانضحوا"؛ أي: رُشُوا وأريقوا. "مكانها بهذا الماء"، أراد بهذا الماء: فضلَ وضوء رسول الله عليه السلام؛ لأنه رُوِيَ: أن طلقَ بن عليًّ - رضي الله عنهما - قال: استوهبنا رسولَ الله - عليه السلام - فضلَ وضوء، فدعا بماء فتوضأ منه، وتمضمض، ثم صبَّه في إِداوةٍ وقال: "اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بِيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدًا" فقلنا: يا نبي الله! إن البلدَ بعيدٌ والماءُ ينشفُ، قال: "أمدُّوه من الماء، فإنه لا يزيد إلا طيبًا"، فعلمنا بهذا الحديث: أن قوله عليه السلام: "بهذا" الإشارةُ إلى فضل وضوئه، لا إلى جنس الماء. قوله: "أمدُّوه"؛ أي: زيدوا عليه ماء آخر حتى يكثر. الإمداد: الزيادة. * * * 505 - قالت عائشة رضي الله عنها: أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببناءِ المَساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ. قوله: "أمر رسول الله عليه السلام"؛ يعني: أذن رسول الله - عليه السلام - أن يُبنى في كلَّ محلة مسجدٌ. و"الدور": المحلات. ويحتمل أن يكون المراد به: أنه أذن أن يبني الرجل في داره مسجدًا يصلي فيه أهلُ بيته. ولا يصيرُ الموضع مسجدًا بالصلاة فيه حتى يقول مالكه: جعلت هذا مسجدًا، فإذا قال ذلك، زال عنه ملكه، ويثبت لذلك الموضع حكمُ المسجد من تحريم لبث الجنب، والحائض.

قولها: "وتُنظَّف"؛ أي: وتتطهر بإزالة النتن والتراب والقذارة وما أشبه ذلك منه. قولها: "وتُطيَّب"؛ أي: يجعل فيها الطيبُ. * * * 506 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُمِرْتُ بتشييدِ المَساجِدِ"، قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زَخْرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى. قوله: "ما أُمرتُ بتشييد المساجد"؛ (التشييد): جعل الشيء رفيعًا، والتشييد أيضًا: جعل الشيء أبيض بالجص؛ يعني: ما أمرت أن أجعل المسجد رفيعًا مبيضًا بالجصِّ؛ لأنهما زائدان على قدر الحاجة. قوله: "لتزخرفُنَّها"؛ أي: يأتي عليكم زمان تزينون فيه المساجد بالنقوش وتبيِّضونها بالجص، وتتفاخرون بكونها رفيعة مزينة، وهذا بدعةٌ لم يفعله رسول الله عليه السلام، ولأنه إتلافٌ للمال، ولأنه موافقةٌ لليهود والنصارى؛ فإنهم يزينون بِيعهم وكنائسهم. * * * 507 - عن أنس - رضي الله عنه - عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ أنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ في المساجِدِ". قوله: "إن من أشراط الساعة"، (الأشراطُ): جمع شرطٍ، وهو: العلامة. "أن يتباهى"؛ أي: يتفاخر؛ يعني: من علامات القيامة أن يتفاخر كل واحد بمسجد، ويقول: مسجدي أرفعُ وأكثر زينةً من مسجد فلان. * * *

508 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أُجُورُ أُمَّتي حتَّى القَذَاةَ يُخرِجُها الرجُلُ مِنَ المسجِدِ، وعُرِضَتْ عليَّ ذُنُوبُ أُمَّتي، فلمْ أَر ذنبًا أعظمَ مِنْ سورَةٍ مِنَ القُرآنِ أو آيةٍ أُوتيَها رجلٌ، ثمَّ نسِيَها". "حتى القذاة"، (القذاة): التبن والتراب أو غير ذلك مما يُطهَّر منه المسجد؛ يعني: تطهير المسجد حسنة. قوله: "فلم أرَ ذنبًا ... " إلى آخره؛ يعني: من تعلم سورة أو آية من القرآن، ثم نسيها، يكون ذنبُهُ أعظمَ من سائر الذنوب الصغائر؛ لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن عن استخفافٍ، وقلةِ تعظيم القرآن، وإنما قال - عليه السلام - هذا للتشديد والتحريض على مراعاة حفظ القرآن. * * * 509 - وقال: "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجِدِ بالنُّور التَّامِّ يومَ القِيامَةِ". قوله: "بشِّر المشَّائين"، (المشاء): كثير المشي. * * * 510 - وقال: "إذا رأَيتُم الرجل يتعاهد المَسجدَ فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ". قوله: "يتعاهد المسجد"؛ أي: يخدمه ويعمره؛ يعني: إذا رأيتم الذي يعمر المسجد ويصلحه فاعلموا أنه مؤمنٌ. * * *

511 - قال عُثمان بن مَظْعُون - رضي الله عنه -: قلت: يا رسولَ الله! ائذَنْ لنا في الاخْتِصَاءِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "ليسَ مِنَّا مَن خَصَى، ولا مَنِ اخْتَصى، إنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ"، فقال: ائذَنْ لنا في السِّياحَةِ، فقال: "إنَّ سياحَةَ أُمَّتِي الجِهادُ في سَبيلِ الله"، فقال: ائذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ، فقالَ: "إنَّ تَرَهَّبَ أُمَّتِي الجُلُوسُ في المَساجِدِ انتِظارَ الصَّلاةِ". قوله: "ليس منا من خصى ولا اختصى": خصى يخصِي خِصاء - بكسر الخاء في المصدر -: إذا أخرج وسلَّ خصيةَ أحد، و (اختصى): إذا أخرج وسلَّ خصية نفسه. اعلم أن جماعةَ أهلِ الصُّفة أرسلوا عثمان بن مظعون إلى رسول الله عليه السلام؛ ليستأذن رسول الله - عليه السلام - في الاختصاء؛ لأنهم يشتهون النساء، وليس لهم مهرٌ ونفقة أن يتزوجوا، فنهاهم رسول الله - عليه السلام - عن ذلك، وأمرهم بالصوم؛ فإن الصوم يكسر الشهوة. "السِّياحة": مصدر ساح يسيح: إذا تردَّدَ وسافرَ في البلاد. "الترهُّب": التزهُّد، والمراد هنا: العزلة عن الناس، والفرار من بينهم إلى رؤوس الجبال والمواضع الخالية، كما فعلت زُهَّادُ النصارى. "انتظارَ الصلاة" منصوب بأنه مفعولٌ له؛ أي: لانتظار الصلاة. كنية "عثمان": أبو الثابت، واسم جده: حبيب بن وهب بن حُذافةَ القرشي. * * * 512 - عن عبد الرحمن بن عائش - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ رَبي تَبَارَكَ وتعالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ، فقال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمّد؟ قلتُ: أنتَ أَعْلَمُ أَي رَبَّ - مَرَّتَيْنِ - قال: فَوَضعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ،

فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ, فَعَلِمْتُ ما في السَّماءِ والأَرْضِ، ثُمَّ تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} , ثم قال: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؟ قلتُ: في الكَفَّاراتِ، قالَ: وما هُنَّ؟ قُلْتُ: المَشْيُ على الأقْدَامِ إلى الجماعَاتِ، والجُلُوسُ في المَساجِدِ خَلْفَ الصَّلواتِ، وإبلاغُ الوُضوءِ أماكِنَهُ في المَكَارِهِ، مَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، ويكونَ مِنَ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ومِنَ الدَّرَجَاتِ إطْعَامُ الطَّعامِ، وبَذْلِ السَّلامِ، وأنْ يَقُومَ بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ، قال: قُلِ: اللهمَّ! إنَّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكين، وأَنْ تَغْفِرَ لي خَطِيئتِي وتَرْحَمَني وتَتُوبَ عَلَيَّ، وإذا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ". قوله: "رأيتُ ربي تبارك وتعالى في أحسنِ صورةٍ ... " إلى آخره. اعلم أنَّ هذا الحديثَ مرسلٌ؛ لأن عبد الله بن عائشٍ - بالشين المنقوطة - يروي هذا الحديث عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، قال معاذ: لم يخرجْ علينا رسول الله - عليه السلام - يومًا لصلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فخرج وصلى بنا صلاة الغداة على العجلة، ثم قال: "قمتُ الليلةَ وصلَّيتُ ما قدَّر الله لي أن أصلي، ثم غلبني النعاس، فرأيتُ في المنام ربي في أحسن صورة ... "، وحكى إلى آخر الحديث، وروى نحو هذا ابن عباس. قوله: "في أحسن صورة": هذا يحتمل أن يكون حالًا من الرائي، وهو النبي عليه السلام، ويحتمل أن يكون حالًا من المرئي، وهو الرب تبارك وتعالى؛ فإن كان حالًا من النبي - عليه السلام - فلا إشكالَ، ويكون معناه: أنا في تلك الحالة كنت في أحسن صورةٍ وصفةٍ من غاية إنعامه ولطفه تعالى عليَّ. وإن كان حالًا من الله؛ فإن تأوَّلْنا الصورةَ بالصفةِ فلا إشكالَ أيضًا؛ لأن معناه: كان ربي تبارك وتعالى أحسنَ إكرامًا ولطفًا ورحمة عليَّ من وقت آخر،

وإن لم نقل: إن الصورةَ هنا بمعنى الصفة، ففيه إشكالٌ؛ لأن إطلاق الصورة على الله تعالى تشبيهٌ، ونعوذُ بالله من التشبيه. فطريقه أن (¬1) نقول: الصورة هنا كالوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وكالمجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، ونحو هذا كثير، ولا نتعرَّضُ لتأويله، بل نؤمن بكون هذه الأشياء حقًا، ونَكِلُ تأويله إلى الله تعالى. قوله: "فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ " أي: قال لي ربي: قل يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ و (اختصم) و (تخاصم) بمعنى واحد، (الملأ): الجماعة، والمراد بالملأ هنا: الملائكة، وُصِفوا بالملأ الأعلى؛ لعلو مكانهم في السماوات، أو لعلو منزلتهم عند الله تعالى، ويأتي معنى اختصامهم بعد هذا. قوله: "أنت أعلم أي رب"، (أي) بفتح الهمزة وسكون الياء بمعنى: يا، يقال: أي زيد! كما يقال: يا زيد! يعني: لما سألني عن هذا السؤال ما كنت عالمًا بجوابه، فقلت: أنت أعلم، قلت هذا "مرتين"، فلما نظرَ إليَّ نظر الرحمة فتحَ في قلبي باب العلم، فعلمت ما في السماء والأرض، فلما ساءلني مرة أخرى، وقد فتح الله تعالى في قلبي علمَ ذلك وغيره، فأجبته فقلت: "في الكفارات". قوله: "فوضع كفَّه بين كتفي"، معنى (كفه) كمعنى (يده)، وهذا ممَّا نَكِلُ علمَ كيفيته إلى الله تعالى، وغرضُ النبي - عليه السلام - من التلفظ بهذا بيانُ إنعام الله؛ لأن العادة جارية بأن من يتلطف بأحد يضع كفه بين كتفيه، ويقول له: ¬

_ (¬1) في "ش": "والأولى".

كيف أنت؟ أو يقول له: أبشر بكذا، أو لا تخف ولا تحزن، وما أشبه ذلك؛ يعني به النبي عليه السلام: أن الله تعالى تلطَّفَ وفتحَ عليَّ باب العلم والرحمة. قوله: "فوجدت بردَها بين ثديي"، (البرد): الراحة؛ يعني: فوجدت راحة لفظه تعالى في قلبي، والضمير في (بردها) راجع إلى الكف، وأراد بقوله: (بين ثديي): قلبه أو صدره. قوله: "فعلمت ما في السماء والأرض": اعلم أنه علمَ ما أعلمه الله تعالى مما في السماء والأرض لا جميعَ الأشياء؛ لأنه لم يعلم عددَ جميع الملائكة وجميع الأشجار وعدد الرمل وغير ذلك من المخلوقات وأحوالهم، بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. قوله: "ثم تلا"؛ أي: تلا رسول الله عليه السلام: " {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} "؛ أي: وكما نريك يا محمد أحكام الدين وعجائب ما في السماء والأرض نري إبراهيم. هذا اللفظ مضارع، ومعناه الماضي؛ أي: أرينا إبراهيم. "ملكوت السماوات والأرض"؛ أي: خلق السماوات والأرض. قال مجاهد: ظهرت له السماوات إلى العرش حتى نظر إليها، وظهرت له الأرضون حتى نظر إليها. "وليكون من الموقنين"، الواو عطف على مقدر؛ أي: ليحتجَّ به [على] قومه، وليكون من الموقنين في أن لا إلهَ غيري. (الملكوت): بمعنى الملك العظيم. سورة الأنعام نزلت بمكة، وهذه الرؤيا كانت بالمدينة، وغرضُ النبي - عليه السلام - من تلاوة هذه الآية: أن الله فتح لي حتى علمتُ ما في السماوات والأرض كما أُرِي إبراهيمُ ملكوتَ السماوات والأرض.

قوله: "قلت: في الكفارات"، وفي بعض الروايات: "في الدرجات والكفارات"؛ يعني: يختصم الملأ الأعلى في الكفارات. (يختصم): بمعنى يتمنَّى فيشتهي؛ يعني: يشتهي الملائكة أن يفعلوا ما فعل بنو آدم من الخصال التي ترفع الدرجات، وتكفر السيئات؛ أي: تمحوها. "ما هُنَّ"؛ أي: قل: الكفارات ما هن؟ (ما) استفهامية، وغرض سؤال الله تعالى نبيه عن بيان هذه الأشياء: أن يخبر بها أمته؛ ليفعلوها. "أماكِنَهُ"؛ أي: مواضع الفروض والسنن، (الأماكن): جمع المكان، وهو الموضع. "في المكاره"؛ أي: في شدة البرد. قوله: "ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه"، (كيوم) مبني على الفتح، وكذا كلُّ ظرف أُضيفَ إلى الماضي يكون مبنيًا على الفتح، وأما إذا أُضيفَ إلى المضارع اختلف في أنه مبني على الفتح أو معرب؟ والأصح أنه معرب. يعني: من فعل هذه الخصال يخرج من ذنوبه الصغار طاهرًا، وأما ذنوبه الكبار في مشيئة الله تعالى، ونرجو أن تكون أيضًا معفوةً؛ فإن الله غفور رحيم. "بذل السلام"؛ أي: إفشاءُ السلام على مَنْ عرفته، ومن لم تعرفه. "قال: قل"؛ أي: قال الله تعالى: يا محمد! قل. "الطيبات": الأفعال والأقوال الصالحة، و (الطيبات): الحلالات. "وإذا أردت فتنة"؛ يعني: وإذا قدَّرتَ أن يضلَّ قومٌ عن الحق. "فتوفَّني"؛ أي: قدِّرْ موتي "غيرَ مفتون"؛ أي: غير ضال. * * *

513 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ كُلهُمْ ضامِنٌ على الله: رَجُلٌ خرجَ غازِيًا في سبيل الله، فهو ضامِنٌ على الله حتَّى يَتوفَّاهُ فيُدْخِلَهُ الجنَّةَ أو يَرُدَّهُ بما نالَ مِنْ أَجرٍ أو غنيمةٍ، ورجُلٌ راحَ إلى المسجِدِ فهو ضامِنٌ على الله، ورجُلٌ دخلَ بيتَهُ بسلامٍ فهو ضامِنٌ على الله". قوله: "ثلاثة كلهم"؛ أي: كل واحد منهم. "ضامن"؛ أي: ذو ضمان على الله تعالى، وقيل: (ضامن) هنا فاعل بمعنى مفعول؛ أي: مضمون على الله؛ يعني: وعد الله وعدًا لا خلفَ فيه أن يعطيَهُم مرادَهم. "حتى يتوفَّاه"؛ أي: حتى يقبضَ روحه؛ إما بالموت، أو بأن يقتله الكفار. "نال"؛ أي: وجد. "راح إلى المسجدِ"؛ أي: مشى إلى المسجد، فهو ضامنٌ على الله أن يعطيه الأجر. قوله: "دخل بيتَهُ بسلام" معناه عند الأكثرين: أنه يسلِّمُ على أهل بيته إذا دخل، فإذا سلَّم فهو ضامن على الله تعالى أن يعطيه البركةَ والثوابَ الكثير، كما قال - عليه السلام - لأنس - رضي الله عنه -: "إذا دخلتَ على أهلِكَ فسلِّم، تكون بركتُكَ عليك، وعلى أهل بيتك". وقيل: معناه: دخل بيته، ولا يخرج؛ ليسلمَ من الفتنة، وعلى هذا يكون معناه: من لازمَ بيته، فهو ضامن على الله أن يحفظه من الآفة والفتنة. * * * 514 - وقال: "مَنْ خرجَ مِنْ بيتِهِ مُتطهرًا إلى صَلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُهُ كأجرِ الحاجِّ المُحرِمِ، ومَنْ خرجَ إلى تَسبيحِ الضُّحى لا يُنصِبُهُ إلَّا إيَّاهُ فأجرُهُ كأجرِ

المُعْتَمِرِ، وصلاةٌ على إثر صلاةٍ لا لَغْوَ بينَهُما كِتابٌ في عِلِّيّين". قوله: "مكتوبة"؛ أي: مفروضة. قيَّد الحاج بالمحرم؛ لأن الحجَّ في اللغة: هو القصد، والجمعةُ حجُّ المساكين، فلو قال مطلقًا: كأجر الحاج، يظنه ظانٌّ أن معناه: كأجر الحاج الذي يقصد صلاة الجمعة. ويحتمل أن يكون معناه: كأجر الحاجِّ بعد الإحرام، لا قبل الإحرام. قوله: "كأجر الحاج المحرم": معلوم أن أجرَ المصلي لا يبلغ أجرَ الحاج المحرم، بل أجرُ الحاجَّ أكثر، ولكن لا يلزم مساواة بين المشبَّه والمشبَّه به في جميع الأشياء، بل إذا حصل المشابهة بينهما بشيء، صحَّ التشبيه. يعني: كما أن الحاجَّ من أول خروجه من بيته إلى أن يرجع إلى بيته يكتب له بكل خطوة أجرٌ، فكذلك المصلي، إذا توضَّأ، وخرج إلى الصلاة إلى أن يرجع إلى بيته، يكتب له بكلِّ خطوة أجرٌ، ولكن بين أجر المصلي وأجر الحاج تفاوتٌ. "إلى تسبيح الضحى"؛ أي: إلى صلاة الضحى "لا يُنصِبُهُ": لا يزعجه ولا يخرجه شغلٌ غير الصلاة؛ يعني: ينبغي أن يكون خروجه للصلاة وحدها. (الإثر) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحهما واحدٌ. "على إثر الصلاة"؛ أي: عقيب الصلاة. "كتابٌ في علِّيين"؛ أي: عملٌ مكتوب في عليين، واختلف في عليين، الأصح: أنه موضع تكتبُ فيه أعمالُ الصالحين. * * * 515 - وقال: "إذا مَرَرْتُمْ برياضِ الجنَّةِ فارتَعوا"، قيلَ: يَا رسولَ الله! وما رياضُ الجنَّة؟ قال: "المساجِدُ", قيل: وما الرَّتْعُ يَا رسولَ الله؟ قال:

"سُبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله والله أكبر". قوله: "فارتعوا"، الرتع في اللغة: ما تأكله الدوابُّ في الصحراء. * * * 516 - وقال: "مَنْ أتى المسجِدَ لشيءٍ فهو حظُّه". قوله: "من أتى المسجد لشيء، فهو حظُّه"؛ يعني: من أتى المسجدَ لعبادةٍ يحصلْ له الثواب، ومن أتاه لشُغلٍ دنيوي لا يحصلْ له إلا ذلك الشغل. * * * 517 - عن فاطمة الكبرى رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ المسجدَ صَلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ عليه السلام، وقال: "رَبَّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ رحمتِكَ"، وإذا خرجَ صلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ، وقال: "رَبَّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ فضلِكَ"، ليس بمتصل. قوله: "صلَّى على محمَّد"؛ يعني: قال: اللهمَّ صلِّ على محمَّد. "فاطمة الكبرى (¬1) ": هي فاطمةُ بنتُ النبيِّ عليه السلام، كُنِّيت بالكبرى لكبر شأنها وفضيلتها. * * * 518 - وعن عَمْرو بن شُعيب، عن أَبيه، عن جدِّه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ نهى عن تَناشُدِ الأشعارِ في المسجِدِ، وعن البيعِ والاشتِراءِ فيه، وأنْ يَتحلَّقَ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "وقيدت بالكبرى لتمتاز عن فاطمة الصغرى، وهي بنت الحسين ابن علي، وهي جدتها".

النَّاسُ يومَ الجمعةِ قبلَ الصَّلاةِ في المسجِدِ". قوله: "نهى عن تناشُدِ الأشعارِ"، (التناشد): قراءة الشعر بعض القوم مع بعض. التناشدُ منهيٌّ في المساجد، سواء كان شعرًا فيه إثمٌ أو لم يكن؛ فإن كان فيه إثمٌ فعِلَّةُ نهيه ظاهرة، وإن لم يكن فيه إثمٌ فعلةُ نهيه هي: أن العادةَ اجتماعُ النَّاس لقراءة الشعر ورفعُ الأصوات والتعصُّبُ والتباغضُ بين أولئك الجمع، يقول بعضهم: هذا الشعر جيد، ويقول بعضهم: ليس بجيد، وهذه الأشياء لا تليقُ في المساجد. فإن قُرِئَ في المساجد شعرٌ ليس فيه إثمٌ، ولم يكن فيه تعصُّبٌ وتباغض وكثرة رفع الأصوات، جاز؛ لأنه قُرِيء الشعرُ بين يدي رسول الله - عليه السلام - في المسجد، ولم ينههم، وقد نهى عمر - رضي الله عنه - حسان بن ثابت عن إنشاد الشعر في المسجد في زمان خلافته مع أن حسانًا كان شاعرَ رسول الله عليه السلام، وإنما نهاه لما ذكرناه؛ لأنه لا يُراعى الأدبُ بعد رسول الله عليه السلام، كما يُراعى بحضرته عليه السلام (¬1). قوله: "وأن يتحلَّقَ النَّاسُ يوم الجمعة قبل الصلاة", (التحلق): جلوسُ النَّاس في الحلقة، يتوجَّهُ بعضهم بعضًا (¬2)، وإنما نهاهم - عليه السلام - عن التحلق؛ لأن القومَ إذا تحلَّقوا، فالغالبُ عليهم التكلمُ ورفع الصوت، وإذا كانوا كذلك لا يستمعون الخطبة، والناسُ مأمورون باستماع الخطبة والسكوت بحيثُ لا يسلِّمُ من دخل وقت الخطبة، ولو سلَّم أحدٌ لا يجاب. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "والبيع والاشتراء فيه، قال في "شرح السنة": كره قومٌ من أهل العلم البيعَ والشراءَ في المسجدِ". (¬2) أي: يواجه بعضهم بعضًا.

519 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأَيْتُمْ من يبيعُ أو يَبتاعُ في المسجدِ فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رأيتُمْ مَنْ ينشُدُ فيهِ ضالَّةً فقولوا: لا ردَّ الله علَيْكَ". قوله: "يبتاع"؛ أي: يشتري. * * * 520 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُسْتَقادَ في المسجِدِ، وأنْ يُنْشَدَ فيهِ الأشعارُ، وأنْ تُقامَ فيه الحُدودُ. قوله: "أن يُستقادَ"؛ يعني: أن يقتَصَّ؛ كيلا يقطر الدم في المسجد، ولا ترتفعَ الأصواتُ. "وأن يُنشد"؛ أي: وأن يقرأ. "وأن تقام فيه الحدود"؛ أي: وأن يُضرَب الزاني حدَّ الزنا، والقاذف حدَّ القذف، وكذلك باقي الحدود؛ لأنه ربما يتلوَّثُ المسجد، وترتفع الأصواتُ فيه * * * 521 - عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أَبيه - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى عنْ هاتَيْنِ الشَّجرتَيْنِ - يعني البصلَ والثُّومَ - وقال: "مَنْ أكلهُما فلا يَقْرَبن مَسجِدَنا"، وقال: "إنْ كنتُمْ لا بُدَّ آكليهِما فأَمِيتُوهُما طَبْخًا". قوله: "فأميتوا"؛ أي: فازيلوا واكسروا رائحتَهما بالطبخِ. * * *

522 - وقال: "الأرضُ كُلُّها مسجدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّامَ", رواه أبو سعيد الخُدريُّ. قوله: "الأرضُ كلُّها مسجد"؛ يعني: يجوزُ الصلاة في جميعِ الأرض، "إلا" في "المقبرة والحمام"، فإن الصلاةَ تُكرَه فيهما. * * * 523 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى أنْ يُصلَّى في سبعةِ مَواطِنَ: في المَزبلةِ، والمَجزرَةِ، والمَقبَرةِ، وقارِعَةِ الطريقِ، وفي الحمَّامِ، وفي مَعاطِنِ الإبلِ، وفوقَ ظهرِ بيتِ الله تعالى. قوله: "في سبعة مواطن"، (المواطن): جمع موطن، وهو الموضعُ. "المَزبلة"؛ أي: الموضع الذي يكون فيه الزبلَ، وهو السِّرجِين. "المَجزَرَة" بكسر الزاي، ويجوز فتحها: الموضع الذي تُجزَرُ فيه الإبل؛ أي: تذبح. وعلةُ النهي في المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام النجاسةُ، فإن صلى في هذه المواضع بغير سجادة، بطلت صلاته، وإن صلَّى على السجادة، فهي مكروهة؛ للرائحة الكريهة، ولخوف أن تصل إليه نجاسة. وأما الصلاة في قارعة الطريق، فيه علتان للنهي: أحدهما: أن الطريقَ يكون نجسًا في الغالب. والثانية: أنه لا يكون له حضورٌ من كثرة مرورِ الناس والدوابِّ. وأراد "بقارعة الطريق": الطريق الذي يقرعه الناس والدواب بأرجلهم؛ أي: يدقه، والقرع: الدق.

"المعاطن": جمع مَعطِن بكسر الطاء، وهو الموضعُ الذي تجتمع فيه الإبلُ عند الرجوع عن الماء، ويُستعمَل في الموضع الذي تكون فيه الإبل بالليل أَيضًا، ووجه النهي فيه: أن الرجلَ فيه لا يأمنُ ضررَ الإبل هناك. وأما الصلاة فوق الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة؛ أي: بقبة جدران يستقبلها، بطلت عند الشافعي، وتصحُّ عند أبي حنيفة. * * * 524 - وقال: "صَلُّوا في مَرابضَ الغنمِ، ولا تُصَلُّوا في أَعطانِ الإِبلِ". قوله: "في مرابض الغنم"، (المرابض): جمع مَربض بكسر الباء، وهو: الموضع الذي تكون فيه الغنم في الليل. "الأعطان": جمع عَطَن، وهو مثل المَعْطِن، وقد ذُكِر. * * * 525 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائراتِ القُبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجِدَ والسُّرُجَ. قوله: "لعن رسول الله عليه السلام زائرات القبور"، قال مُحيي السنة في كتاب "التهذيب": يكره للنساء زيارةُ القبور، وعلى هذا التأويل أن النهيَ كان قبل ترخيصه في زيارة القبور، فلمَّا رخَّص في زيارة القبور، دخلَ في الرُّخصةِ الرجالُ والنساءُ. وقيل: بل نَهْيُ النساء عن زيارة القبور باقٍ؛ لقلةِ صبرهنَّ وكثرةِ جزعهنَّ إذا رأينَ القبور. قوله: "والمتخذين عليها المساجد": هذا مثلُ قولِهِ: "لعنةُ الله على

اليهودِ والنَّصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ". "السُّرُج": جمع سراج، وهو المصباح، والنهيُ عن الإسراج في القبور إنما كان لتضييع المال؛ لأنه لا نفعَ لأحد من السراج ثَمَّ، ويحتمل أن يكون النهيُ للاحتراز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتِّخاذِ القبور مساجد، فإن كان قبرٌ في مسجد أو غيره، ويجلسُ فيه الناسُ لتلاوة القرآن والذكر، لا بأسَ بوضع السراج ثَمَّ؛ لينتفع الجالسون بنوره. * * * 525/ م - عن أبي أُمامة الباهلي: أنَّ حَبْرًا من اليهود سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ البقاع خيرٌ؟ فسكت عنه، وقال: "اسكت حتى يجيء جبريلُ"، فسكت، فجاء جبريل عليه السلام، فسأله، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن أَسألُ ربي تعالى، ثم قال جبريل: يَا محمد! إنِّي دنوتُ من الله دُنوًّا ما دنوَتُ منه قطُّ، قال: "كيف كان يَا جبريلُ؟ "، قال: كان بينه وبيني سبعون ألف حجابٍ من النور، فقال: "شرُّ البقاع أَسواقها، وخير البقاع مَساجدها"، في نسخةٍ: "بيني وبينه". قوله: "أن حَبْرًا من اليهود"، (الحبر) بفتح الحاء وكسرها: العالم. وذكر في "صحاح اللغة": أن (الحِبْر) بكسر الحاء أصحُّ من (الحَبْر) بفتح الحاء، ولكن المشهورَ في الاستعمال (الحَبْرُ) بفتح الحاء؛ ليكون بين الحَبْر - الذي هو بمعنى: العالم - والحِبْر - الذي هو بمعنى: المِداد - فرقٌ. قوله: "أَسكتُ": هذا مضارع، والهمزة للمتكلم. "ولكن أسألُ ربي"؛ أي: ولكن أرجع إلى حضرة ربي، وأسأله عن هذه المسألة.

7 - باب الستر

"ثم قال جبريل"؛ يعني: ذهب إلى الحضرة، وسأل ربه، ثم رجع إلى النبي عليه السلام. "إني دنوتُ"؛ أي: إني قربت؛ يعني: أذنَ لي بأن أقربَ منه تعالى أكثرَ مما قربت منه في سائر الأوقات، ولعل زيادة قربته من الله تعالى في هذه المرة لتعظيمه النبي عليه السلام؛ لأنه أتى جبريلُ من عند النبي عليه السلام إلى الحضرةِ، وقد يزيد الحبيب احترامَ رسولِ الحبيب؛ لتعظيم الحبيب. * * * 7 - باب السَّتر (باب الستر) 526 - قال عمر بن أبي سَلَمة - رضي الله عنه -: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في ثَوْبٍ واحِدٍ مُشْتَمِلًا بهِ في بيتِ أُمِّ سَلَمَةَ واضعًا طَرَفَيْهِ على عاتِقَيْهِ. قوله: "عمر بن أبي سلمة ... " إلى آخره، (أبو سلمة) اسمُ أَبيه: عبد الأسد بن الهلال بن عبد الله القرشي. "في ثوب واحد"؛ أي: إزار طويل. "مشتمل به"، يقال: اشتمل بالإزار: إذا لفَّه ببدنه؛ يعني: اتزر ببعضه، وألقى طرفه على عاتقه. وهذا دليلٌ على أن الصلاة في ثوب واحد جائزةٌ، فإذا ستر الرجل ما بين سرته وركبته صحَّت صلاته. * * *

527 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدُكُمْ في ثوبٍ واحدٍ ليسَ على عاتِقَيْهِ مِنْه شيءٌ". قوله: "لا يصلينَّ أحدكم في الثوب الواحدِ ليس على عاتقيه منه شيءٌ" رواه أبو هريرة. هذا نهيُ تنزيه لا نهيَ تحريمٍ؛ يعني: إذا كان له إزارٌ واحد طويل، فليتزر ببعضه، وليطرحْ بعضه على عاتقه. * * * 528 - وعنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكُمْ في ثَوْبٍ فلْيُخالِفْ بطرفَيْهِ على عاتِقَيْهِ". قوله: "فليخالفْ بطرفيه"؛ أي: فليتزرْ بأحد طرفيه، وليطرحْ طرفه الآخر على عاتقيه، فهذا هو المخالفة بين طرفيه. * * * 529 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في خَميصةٍ لها أَعلامٌ، فنظرَ إلى أعلامِها نَظرةً، فلمَّا انصرفَ قال: "اذهَبُوا بخَميصَتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ، فإنَّها ألهتْني آنِفًا عنْ صلاتي". وفي روايةٍ: "كنتُ أنظُرُ إلى عَلَمِها وأنا في الصَّلاةِ، فأخافُ أن تَفْتِنَني". قولها: "صلَّى في خميصة"، (الخميصة): كساءٌ أسود مربَّع له علمان، وعائشة رضي الله عنها أجرت التثنية مجرى الجمع في قولها: "لها أعلام"، ويحتمل أن يكون لها أكثر من علمين.

"الأنبجانِيَّة": كساءٌ غليظ من صوف بغير علم، منسوب إلى (أنبج)، وهو اسم بلد، وقال الخطابي: منسوبٌ إلى (أذربيجان)، فحُذِف بعض حروفه، وأصحاب الحديث يقولون: (إنبجانية) بكسر الباء، وأهل اللغة يقولون بفتح الباء. "فإنها"؛ أي: فإن الخميصة "ألهتني": أصله ألهَيَتْني، ومعناه: شغلتني، ومنعتني الحضور في الصلاة "آنفًا"؛ أي: في هذه الساعة. "فأخاف أن تفتنني"؛ أي: أن تمنعَنِي عن الصلاة. وإنما بعث خميصته عليه السلام إلى أبي جهم؛ لأن أبا جهم أرسلَ إليه تلك الخميصةَ بالهدية، فلما كرهها ردَّها على صاحبها؛ ليصلَ الحقُّ إلى صاحبه، وإنما قال عليه السلام: "واتوني بأنبجانية أبي جَهْمٍ" كيلا يتأذى أبو جهم بردِّ هديته عليه، فطلب بدل تلك الخميصة من أبي جهم؛ ليطيبَ قلبه. وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى ترك النظر والالتفات إلى شيءٍ في الصلاة، وكذلك إشارةٌ إلى كراهية الصلاة على سجادة معلمة منقشة؛ كيلا يزولَ حضوره. و"أبو جهم" هذا هو: أبو جهم بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي. * * * 530 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كانَ قِرامٌ لعائشةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بهِ جانبَ بَيْتِها، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمِيطي عنَّا قِرامَكِ، فإنَّهُ لا تزالُ تصاوِيرُهُ تَعْرِضُ في صَلاتي". "قِرام لعائشة رضي الله عنها"، (القِرام): سترٌ فيه نقوشٌ. "أميطي"؛ أي: أبعدي وارفعي هذا الستر من تلقاء وجهي؛ فإنه "تعرِضُ"؛

أي: تظهر لي نقوشُهُ في صلاتي، وهذا مثل الحديث الأول. (التصاوير): جمع تصوير، وهي بمعنى: الصورة، والتصاوير ها هنا بمعنى: النقوشِ إن لم تكن على ذلك القِرام صورٌ، وإن كانت فيه صورٌ فالتصاويرُ تكون بمعنى الصور، ويأتي بحثُ تحريمِ الصلاةِ في موضعها، إن شاء الله تعالى. * * * 531 - وعن عُقْبة بن عامِر - رضي الله عنه - قال: أُهدِيَ لرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَريرٍ، فلبسَهُ، ثمَّ صلَّى فيهِ؛ ثُمَّ انصرَفَ فنزعَهُ نَزْعًا شديدًا كالكارِهِ لهُ، ثم قال: "لا يَنْبَغي هذا للمُتَّقينَ". قوله: "فَرُّوج حرير"، (الفرُّوج) بفتح الفاء وتشديد الراء: شبه قباء. "لا ينبغي"؛ أي: لا يليقُ "هذا للمتقين"، قال بعض العلماء: لبسه - عليه السلام - بعد تحريم الحرير، ولكن لبسه لتطييب قلب الذي أرسله، وهو المقوقسُ صاحبُ الإسكندرية، أو أكيدرُ صاحبُ دَوْمة الجندلِ؛ على اختلاف القولين. وقال بعضهم: لا يجوز هذا الظنُّ في حقِّ الرسول عليه السلام؛ لأنه لا يفعلُ شيئًا محرمًا لأجل تطييب قلبِ أحدٍ، بل إنما كان ذلك اللبسُ قبلَ تحريم الحرير، ونزعه إياه إما أنَّـ[ـه] كان قد أُوحِي إليه في الصلاة تحريمُهُ، أو كان نزعَهُ لِمَا رأى فيه من الرعونة، لا لأنه حُرَّم بعدُ، فمعنى قوله: "للمتقين"؛ أي: للمحترزين من المعاصي إن قال هذا بعد التحريم، وإن قال قبله فمعناه: لا ينبغي هذا للمتقين؛ أي: الرعونة والتنعم. * * *

مِنَ الحِسَان: 532 - قال سَلَمة بن الأَكْوَع: قلتُ: يَا رسولَ الله! إنِّي رجُلٌ أَصيدُ، أفأُصلِّي في القَميصِ الواحِدِ؟ قال: "نعمْ وازْرُرْه ولو بشَوْكةٍ". قوله: "وازرُرْه ولو بشوكةٍ"، و (ازرره): أمر مخاطب من (زر): إذا شدَّ جيبُ القميص. يعني: تجوز الصلاة في قميص ليس تحته سراويل، ثم إن كان جيب القميص واسعًا بحيث يرى المصلي عورة نفسه في الركوع وغيره؛ لسعة الجيب، يلزمه أن يشدَّ جيبه بشوك أو خِلال أو بخيط. كنية "سلمة": أبو سليم، واسم أبيه: عمرو بن الأكوع بن سنان الأسلمي. * * * 533 - وقال: "إنَّ الله لا يقبَلُ صَلاةَ رجُلٍ مُسبلٍ إزارَهُ". قوله: "إن الله لا يقبلُ صلاةَ رجلٍ مُسبلٍ إزارَهُ"، (المسبل): اسم فاعل من أسبل: إذا أرسل الرجلُ ثوبَهُ حتى وصل إلى الأرض من غابة طوله، ومصدره إسبال. يعني: أن الله لا يقبل كمالَ صلاة رجل يُطوَّلُ ذيله؛ فكره الشافعيُّ إطالةَ الذيل في الصلاة كما في غير الصلاة، وجوَّز مالكٌ إطالةَ الذيل في الصلاة، قال: لأن المصلي قائمٌ في موضع واحد، ولا يكون في طول ذيله تكبرٌ بخلاف من يمشي؛ فإن في طول ذيله تكبرًا وخيلاء، وروى هذا الحديثَ. * * * 534 - وقال: "لا تُقْبَلُ صَلاةُ حائضٍ إلَّا بِخِمارٍ".

قوله: "لا تُقبَل صلاةُ حائضٍ إلا بخمارٍ": أراد بالحائض: الحرة التي بلغت سنَّ الحيض، ولم يرد بها الحائض؛ فإن الحائض لا تصلي. يعني: لا تقبل صلاة الحرة إلا بخمار، وهو المِقْنَعَة؛ يعني: لا يجوز لها كشفُ الرأس بخلاف الرجل. والأمة يجوز لها كشف الرأس، ويأتي دليلُهُ في موضعه، إن شاء الله تعالى. * * * 535 - وعن أُمِّ سَلَمة: أنَّها سألتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أتُصلِّي المرأَةُ في دِرْعٍ وخِمارٍ ليسَ عليها إزارٌ؟ قال: "إذا كانَ الدِّرْعُ سابغًا يُغطَّي ظُهورَ قَدَمَيْها"، ووقفَه جماعةٌ على أُمِّ سَلَمة. قوله: "إذا كان الدرعُ سابغًا", (الدرع): قميصُ المرأة. "ليس عليها إزارٌ"؛ أي: ليس تحت قميصها إزارٌ ولا سراويل. "سابغًا"؛ أي: تامًا بحيث "يغطي"؛ أي: يسترُ قميصُها "ظهورَ قدميها"؛ يعني: إذا ستر قميصها ظهور قدميها جازت صلاتها. "ووقفه بعضُهم على أم سلمة"؛ يعني: قال بعض أصحاب الحديث: إن هذا عبارةُ أمِّ سلمة، لا عبارة رسول الله عليه السلام. * * * 536 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ السَّدْلِ في الصَّلاةِ، وأنْ يُغطَّي الرجُلُ فاهُ". قوله: "نهى عن السَّدلِ في الصلاة، وأن يغطَّيَ الرجلُ فاه"، (السدل):

الإسبال، وقد ذُكِرَ قبيل هذا. قوله: "أن يغطي الرجلُ فاه"، (يغطَّي)، أي: يستر "فاه"؛ أي: فمه. كان عادةُ العرب أن يغطوا أفواههم بأطرافِ عمائمهم، يجعلون أطراف عمائمهم تحت أذقانهم حتى تصلَ إلى أفواههم، فنهاهم رسولُ الله - عليه السلام - عن ذلك؛ لأن الرجلَ إذا ستر فمه لا تخرجُ الحروفُ من فمه صحيحة، فيقرأ لحنًا كثيرًا في الفاتحة وغيرها. * * * 537 - وقال: "خالِفُوا اليَهودَ، فإنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ في نِعالِهِمْ ولا في خِفافِهِمْ". قوله: "خالفوا اليهودَ ... " إلى آخره. "فإنَّهم لا يصلُّونَ في نِعالِهم وخِفافِهم"؛ يعني: تجوزُ الصلاة في النعل والخفَّ إذا كانا طاهرين. كنية "شدَّاد": أبو يعلى، جده: ثابت بن المنذر بن أخي حسان بن ثابت. * * * 538 - قال أبو سعيد الخُدريُّ - رضي الله عنه -: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بأصحابهِ إذْ خَلَعَ نعلَيْهِ فوضعَهُما عَنْ يَسارِهِ، فلمَّا رأى ذلكَ القومُ ألقَوْا نِعالَهمْ، فلمَّا قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتَهُ قال: "ما حَمَلَكُمْ على إلقائكُم نِعَالِكُمْ؟ "، قالوا: رأَيْناكَ ألقيتَ نعلَيْكَ، فقال: "إنَّ جِبريلَ أتاني فاخبَرَني أنَّ فيهما قَذَرًا"، وقال: "إذا جاءَ أحدُكُم المسجِدَ فلْيَنْظُرْ فإن رأَى في نعلَيْه قَذَرًا فلْيَمْسَحْهُ، ولْيُصَلِّ فيهِما"، وفي روايةٍ: "خَبَثًا". قوله: "إذ خلع نعليه"؛ أي: نزعهما من رجليه.

"ما حمَلَكم"؛ أي: لم صنعتم هذا؟ قوله: "أخبرني أن فيهما قذرًا"، (القذر): ما يكرهه الطبعُ من النجاسة وغيرها، واختلف في القذر هنا؛ فقال بعض العلماء: إنه كان نجاسة، واستدلَّ مَنْ حكمَ بجواز صلاة مَنْ صلَّى وفي ثوبه نجاسةٌ ولم يعلم بها بهذا الحديث؛ لأنه لم يستأنفْ النبيُّ - عليه السلام - صلاته، مع أنه صلَّى بعضَ صلاته بنعلٍ نجس. وقال بعضهم: إن القذر هنا كان شيئًا طاهرًا مما يكرهه الطبعُ، كالنخامة والبزاق، فأخبره جبريل بذلك لينزع نعليه؛ كيلا تتلوثَ ثيابُهُ بشيء مُستقذَرٍ. قوله: "فإن رأى في نعليه قذرًا": اختلف العلماء في القذر هنا أَيضًا، كما اختلفوا في الأول؛ فإن كان القذرُ شيئًا طاهرًا، فلا كلامَ في جواز الصلاة فيه، وإن كان شيئًا نجسًا، فهل يطهر بمسح النعلين بالأرض؟ وقد ذكر بحثه في (باب تطهير النجاسات). ووضعُ النبي - عليه السلام - نعليه عن يساره تعليمٌ لأمته؛ لأن النعال توضع عن اليسار. وفي إلقاء القوم نعالهم لمَّا رأوا النبيَّ - عليه السلام - ألقى نعليه دليلٌ على وجوب موافقة المأمومين الإِمام. * * * 539 - وقال: "إذا صَلَّى أحدُكُمْ فلا يَضَعْ نعلَيْهِ عَنْ يمينِهِ، ولا عَنْ يَسارِهِ فيكونَ على يمينِ غَيْرِهِ، إلَّا أنْ لا يكونَ عن يَسارِهِ أحدٌ، ولْيَضَعْهُما بينَ رِجْلَيْهِ، أو لِيُصَلِّ فيهِما". قوله: "فلا يضعْ نعليه عن يمينِهِ"، وعلةُ النهي عن وضع النعلين عن اليمين

8 - باب السترة

ما ذكرنا في البزاقِ في الباب المتقدم. قوله: "أو ليصلِّ فيهما"؛ يعني: إن كانا طاهرين. رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 8 - باب السُّترة (باب السترة) قوله: "السترة": ما يستر شيئًا، والمراد هنا: سجادة، أو عصا، أو غير ذلك مما يظهر به موضعُ سجود المصلي؛ كيلا يمرَّ مارٌّ بين المصلي وبين موضع سجوده. من الصحاح: 540 - قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْدُو إلى المُصَلَّى وَالعَنَزَةُ بينَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ، وَتُنْصَبُ بالمُصَلَّى بينَ يَدَيْهِ، فيُصلِّي إِليها. قوله: "يغدو"؛ أي: يمشي. "العَنَزَة": رمح قصير. "تُنصَبُ"؛ أي: تغرز العنزة في الأرض؛ ليُعْرَفَ موضعُ سجوده؛ ليمرَّ المارُّ خلف العنزة، لا بين العنزة وبين المصلي، وهذا الحديث يدلُّ على أن المصلي ليبيِّنْ موضعَ صلاته بسجادة، أو ليقفْ قريبًا من أسطوانة المسجد، أو ليغرزْ عصا، أو ليخطَّ خطًا. قال المصنف في "شرح السنة": سترة الإِمام سترة من خلفه؛ يعني: إذا

بيَّن الإمامُ موضع صلاته بعصًا وغيرها، لا حاجةَ للمأمومين إلى غرز العنزة وغيرها. * * * 541 - عن عَون بن أبي جُحَيْفة، عن أَبيه قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالأَبْطَح في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أدَمٍ، ورأيتُ بلالًا أَخَذَ وَضُوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذلك الوَضوءَ، فمَنْ أصابَ منهُ شيئًا تمسَّحَ بِهِ، ومَنْ لم يُصِبْ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صاحبهِ، ثُمَّ رأيتُ بلالًا أَخَذَ عَنَزةً فَرَكَزَها، وخرجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ حمراءَ مُشَمِّرًا صلَّى إلى العَنَزَةِ بالنَّاسِ الظُّهْرَ ركعتَيْنِ، ورأيتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بين يَدَي العَنَزةِ. قوله: "بالأبطح": (الأبطح): موضعٌ بمكة. "وَضوءَ رسول الله عليه السلام"؛ أي: الماء الذي توضَّأ به رسولُ الله عليه السلام. "يبتدرون"؛ أي: يسرعون إلى ذلك الماء، يأخذونه، ويمسحون به وجوههم وأعضاءهم؛ ليصيبوا بركةَ رسول الله عليه السلام. "تمسَّحَ به"؛ أي: مسح به أعضاءه، وهذا دليلٌ على أن الوَضُوءَ طاهرٌ. قوله: "في حُلَّةٍ حمراء": تأويلُ هذا أنه لم تكن تلك الحلةُ حمراءَ جميعها، بل كان به خطوط حمرٌ, لأن الثوبَ الذي هو أحمر من غير أن يكون فيه لونٌ آخرُ غيرُ الأحمر مكروهٌ للرجال. قال الخطابي: قد نهى رسول الله - عليه السلام - الرجالَ عن لبس المعصفرة، وكره لهم الحُمرةَ في اللباس، وكان ذلك منصرفًا إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صُبغَ غزله، ثم نسج، فغيرُ داخل في النهي؛ لأن

ما صُبغ غزله ثم نُسِج قد يكون بعضُ ألوانه أحمر، وبعضه لونًا آخر, فإن كان الثوب الذي صبغ غزله فنسج جميعه أحمر فهو منهي كالأحمر الذي يُصبَغ بعد النسج. وإنما نَهَى الرجالَ عن لبس الثياب الحمر؛ لما فيه من المشابهة بالنساء، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لعن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشابهات من النساء بالرجال. قوله: "مشمرًا"، (التشمير): ضمُّ الذيل ورفعُهُ للعدْوِ، ومشمرًا هنا معناه: مسرعًا عن جلادة. * * * 542 - عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَرِّضُ راحلتَهُ فيُصلِّي إِلَيْهَا، قلتُ: أفَرَأَيْت إذا هَبَّتِ الرِّكابُ؟ قال: كانَ يأخُذُ الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فيُصلِّي إلى آخِرَتِهِ. قوله: "يعرض راحلته"؛ أي: يُنيخُ ويُبرِك جمله بالعرض بينه وبين القبلة، ويصلي نحوه؛ ليكون الجمل مانعًا بينه - عليه السلام - وبين المارين. (عرض يعرُض) بضم الراء وكسرها: إذا وضع شيئًا بالعرض. "أفرأيت"؛ أي: أخبرني. "إذا هبتِ الرِّكاب"؛ أي: إذا سارت الجمال إلى الصحراء إلى أيِّ شيء يصلي؟ هبَّ البعير يهبُّ هَبًا: إذا نشط في السير وأسرع. (الركاب): جمع لا واحدَ له من لفظه، بل واحدة: راحلة. "فيعدِّله": بتشديد الدال؛ أي: يُسوِّيه ويقوِّمه.

"آخرة الرحل": خلفه. * * * 543 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضَعَ أحدُكُمْ بينَ يدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، ولا يُبالِ مَنْ مرَّ وراءَ ذلك". قوله: "مثل مُؤخِرةِ الرَّحل"، (مُؤخِرة الرحل) بكسر الخاء: خلف الرحل؛ يعني: إذا وضع شيئًا مرتفعًا بقدر مؤخرة الرحل وصلَّى، فلا يضرُّه من مرَّ وراء ذلك. "رواه موسى بن طلحة، عن أبيه". * * * 544 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يَعلَمُ المارُّ بينَ يَدَي المصلِّي ماذا عليهِ لكانَ أنْ يقفَ أربعينَ خيرًا له مِنْ أَنْ يَمُرَّ بينَ يَدَيْهِ"، قال الراوي: لا أدري أقال: "أربعينَ يومًا، أو شهرًا، أو سنةً". قوله: "ماذا عليه"؛ أي: أيُّ قدرٍ عليه من الإثم بسبب المرور بين يدي المصلي. قوله: "لا أدري قال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنة"، قال بعض أصحاب الحديث: إنه يريد بهذا أربعين سنة لا شهرًا ولا يومًا؛ لأن هذا وعيدٌ وزجرٌ عن المرور، وما فيه الوعيد أكثرُ، فهو أوفقُ لمقصود الزجر، ولا شكَّ أن الوعيد في أربعين سنة أكثر، فيكون أربعين سنة أصح من أربعين شهرًا، أو يومًا. و"أبو الجهم" (¬1) هذا هو: عبد الله بن جُهَيم الأنصاري، ويقال: هو ابن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وإنما هو "أبو جُهَيم"، والله أعلم.

أخت أُبيِّ بن كعب. * * * 545 - وقال: "إذا صَلَّى أحدُكُمْ إلى شيءٍ يستُرُهُ مِنَ النَّاسِ فأرادَ أحدٌ أنْ يجتازَ بينَ يدَيْهِ فليَدْفَعْهُ، فَإِنْ أبي فلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هو شَيْطانٌ". قوله: "يجتاز"؛ أي: يمر. "فليقاتله"؛ أي: فليحاربه؛ يعني: فليدفعه بالقهر، وليس معناه جواز قتله، بل لو قتله عمدًا يجب عليه القصاصُ، ولو قتله خطأ تجب عليه الدية، بل معناه المبالغةُ في كراهية المرور بين المصلي وبين السترة، والمبالغةُ في استحباب دفع المارِّ. قوله: "وإنما هو شيطان"؛ يعني: يفعل فعل الشيطان؛ لأن تشويشَ المصلي فعلُ الشيطان. * * * 546 - عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال]: "تَقطعُ الصَّلاةَ المرأةُ، والحمارُ، والكَلْبُ، وَيَقي ذلك مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ". قوله: "يقي"؛ أي: يحفظ ويدفع "ذلك"؛ أي: ذلك القطع. يعني: إذا مرَّ بين يدي المصلي امرأة أو حمار أو كلب، تبطل صلاته، فإن كان هناك سترةٌ، ومرت هذه الثلاثة وراء السترة، لا يضر. هذا ظاهر الحديث، ولكن لا يجوز أن يُحمَل هذا الحديث على ظاهره؛ لأحاديث تأتي بعد هذا على خلاف هذا الحديث، ومعنى "يقطع الصلاة" هنا: يقطع كمال الصلاة؛ لأن الرجل إذا مر بين يديه شيء من هذه الأشياء يتشوش

قلبه، ويزول حضوره، فإذا زال الحضورُ زال كمالُ الصلاة. * * * 547 - قالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلَّي مِنَ اللَّيْلِ وأنا مُعْتَرِضَةٌ بينهُ وبينَ القِبْلَةِ كاعْتراضِ الجَنازَةِ. قولها: "مُعترِضَة", (الاعتراض): صيرورةُ الشيء حائلًا بين شيئين. وقولها: "أنا معترضة"؛ أي: أنا مضطجعة بينه وبين القبلة، كما توضع الجنازة بين المصلي وبين القبلة. والغرض من هذا الحديث: بيان أن المرأة لا تقطع الصلاة إذا مرَّت أو اضطجعت بين يدي المصلي. وفي هذا الحديث فائدة لطيفة، وهي: أن السنة في الاضطجاع أن يضطجع مستقبلَ القبلة. * * * 548 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أقبلتُ راكبًا على أتانٍ وأنا يومئذٍ قد ناهزتُ الاحتِلامَ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلَّي بالنَّاسِ بمِنًى إلى غيرِ جِدارٍ، فمرَرْتُ بينَ يَدَيْ بعضِ الصَّفِّ، فنَزَلَتُ، وأرسَلْتُ الأتانَ تَرتَعُ، ودخلتُ الصفَّ، فلمْ يُنْكِرْ ذلكَ عليَّ أحَدٌ. قوله: "أقبلت"؛ أي: جئت. "الأتان": الحمار الأنثى. "ناهزتُ"؛ أي: قاربت؛ يعني: كنت قريبًا من البلوغ. "إلى غير جدار"؛ يعني: إلى غير سترة، بل استقبلَ الصحراءَ.

والغرض من هذا الحديث: أن مرورَ الحمار بين يدي المصلي لا يقطعُ الصلاة. * * * مِنَ الحِسَان: 549 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكُم فليَجْعَلْ تِلقاءَ وجهِهِ شيئًا، فانْ لمْ يجدْ فليَنْصِبْ عصَاه، فإنْ لمْ يَكُنْ معهُ عصًا فليَخْطُطْ خطًّا، ثمَّ لا يضُرُّهُ ما مرَّ أمامَهُ". قوله: "فليخطُطْ خطًا": وفي كيفية الخطِّ خلاف؛ فقيل: يخط المصلي من عند قدمِهِ خطًا طويلًا نحو القبلة، وقيل: بل يخطُّ عند موضع سجوده خطًا على العرض؛ ليكن الخط مثل جنازة موضوعة بين يديه. * * * 550 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكُمْ إلى سُتْرَةٍ فلْيَدْنُ منها، لا يقطَعِ الشيطانُ عليهِ صلاتَه". قوله: "فليَدْنُ"؛ أي: فليقرب. قال الشافعي: ليكن بين المصلي وبين السترة ثلاثةُ أذرع أو أقل، ومثله قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لتكن السترة عند موضع السجود. قوله: "لا يقطع الشيطان عليه صلاته"؛ يعني: حتى لا يشوشَ الشيطانُ عليه صلاته. كنية "سهل": أبو عبد الله، واسم أبيه: عبيد الله بن ساعد. * * *

551 - وقال المِقْداد بن الأَسْوَد: ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي إلى عمودٍ ولا عُودٍ، ولا شجرةٍ إلَّا جعلَهُ على حاجبهِ الأيمنِ أو الأيسر، ولا يَصْمُدُ له صَمْدًا. قوله: "ولا يصمُدُ له صَمْدًا": صمد - بفتح العين في الماضي وضمها وكسرها في الغابر - صمدًا: إذا قصد. يعني: إذا صلَّى إلى سترة، ولا يجعل تلك السترة تلقاء وجهه، بل يجعلها مائلًا عن يمينه، أو عن يساره؛ احترازًا عن مشابهة الذين يعبدون الأصنام، فإنهم يتوجهون إليها عند السجود. * * * 552 - وقال الفضل بن عباس: أَتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ في باديةٍ لنا ومعه عباس، فصلَّى في صحراءَ ليسَ بينَ يدَيْهِ سُترةٌ، وحمارةٌ لنا وكلْبةٌ تعبَثان بينَ يدَيْهِ، فما بالَى بذلك. "وحمارة لنا"، التاء في (حمارة) و (كلبة) للإفراد، كما يقال: تمر وتمرة، ويحتمل أن تكون للتأنيث. والغرض من هذا الحديث: بيان أن مرورَ الحمار والكلب بين يدي المصلي لا يقطعُ الصلاة. * * * 553 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطعُ الصَّلاةَ شيءٌ، وادْرَؤُوا ما استطَعتُمْ، فإنَّما هو شَيطانٌ". "وادرؤوا ما استطعتم"، (الدرء): الدفع؛ يعني: إذا مرَّ بين أيديكم شيء وأنتم في الصلاة لا يقطع صلاتكم، ولا يبطل صلاتكم، ولكن ادفعوا وامنعوا

9 - باب صفة الصلاة

المارَّ، فإن المارَّ بين يدي المصلي "شيطانٌ"؛ أي: حمله الشيطان على المرور. وإنما يجوز له دفع المارِّ إذا وضع بين يديه سترة، أو صلى على سجادة، فإن لم يصلِّ إلى السترة، فليس له الدفع؛ لأن التقصيرَ منه بترك السترة. * * * 9 - باب صِفة الصَّلاةِ (باب صفة الصلاة) مِنَ الصَّحَاحِ: 554 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رجلًا دخل المسجِدَ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالِسٌ في ناحِيَةِ المسجِدِ، فصَلَّى، ثمَّ جاءَ فسلَّمَ عليهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "وعلَيْكَ السَّلام، ارْجِعْ فصَلِّ فإنَّكَ لمْ تُصَلِّ"، فرجَعَ فصلَّى، ثمَّ جاءَ فسلِّمَ، فقال: "وعليكَ السَّلام، ارْجِعْ فصلِّ، فإنَّكَ لمْ تُصلِّ"، فقال: يَا رسول الله! عَلِّمْني فقال: "إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فأسبغِ الوُضوءَ، ثمَّ استقبل القِبلةَ، فكبرْ، ثمَّ اقرأ ما تيسَّرَ معكَ مِنَ القُرآن، ثمَّ اركعْ حتَّى تَطمئنَّ راكعًا، ثمَّ ارفَعْ حتَّى تَسْتَوِي قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تَطمئنَّ ساجِدًا، ثُمَّ ارفعْ حَتى تطمئنَّ جالسًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تَطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تَسْتَوِيَ قائمًا، ثمَّ افعلْ ذلك في صَلاتِكَ كُلِّها". قوله: "ناحية المسجد"؛ أي: جانب المسجد. "فإنك لم تصلِّ"؛ أي: لم تصل صلاة صحيحة.

"إذا قمت إلى الصلاة"؛ أي: إذا أردت القيام إلى الصلاة، "فأسبغِ الوضوءَ" (الإسباغ): الإتمام؛ أي: فتوضأ وضوءًا تامًا، "ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن"؛ يعني: اقرأ من القرآن ما تعلم، فعند الشافعي لا تصحُّ الصلاة إلا بقراءة الفاتحة إن علمها، أو بقدر الفاتحة من سورة أخرى إن لم يعلم الفاتحة، وإن لم يعلم شيئًا من القرآن يُسبح بقدر الفاتحة. وعند أبي حنيفة: لا تلزم الفاتحة، بل يقرأ المصلي ما شاء من القرآن ولو آية. وفي هذا الحديث بيانُ فرضية الوضوء، والاستقبال، والتكبير، وقراءة القرآن، والركوع، والرفع منه، والسجدة الأولى والرفع منها، والسجدة الثانية، والطمأنينة في هذه الأركان كلها، وكونُ هذه الأركان فريضةً في كلِّ ركعة. * * * 555 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بالتكبيرِ والقِراءةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وكانَ إذا ركعَ لمْ يُشْخصْ رأْسَهُ ولمْ يُصَوِّبْهُ، ولكنْ بينَ ذلك، وكانَ إذا رفعَ رأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وكانَ إذا رفعَ رأسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ جالِسًا، وكانَ يقولُ في كُلِّ ركعتَيْنِ التَّحِيَّات، وكانَ يَفرشُ رِجْلَهُ اليُسرى ويَنْصِبُ رِجْلَهُ اليُمنى، وكانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيطانِ، ويَنهى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِراعَيْهِ افْتِراشَ السَّبُعِ، وكانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بالتسليمِ. قوله: "يستفتح"؛ أي: يبتدئ. "أشخصَ يُشخِصُ": إذا ارتفع. "صوَّب يصوِّب": إذا خفض، وهو ضد رفع.

قولها: "وكان"؛ أي: وكان رسول الله عليه السلام "يقول"؛ أي: يقرأ "في كل ركعتين" التحيات. قولها: "وينصب رجليه"؛ يعني: وينصب قدمه اليمنى بحيث يضع أصابع رجله اليمنى على الأرض، ويرفع عقبه. "عُقْبَةُ الشَّيطانِ" والإقعاءُ واحدٌ، وهو: أن يضع الرجل مقعده على عقبيه، كما هو عادة الناس إذا جلسوا عند الأمراء، وقيل: الإقعاء أن يضع الرجل وِرْكَه على الأرض، وينصب ركبتيه بحيثُ تكونُ قدماه على الأرض. قولها: "أن يفترش الرجل ذراعيه"؛ يعني: نهى رسول الله - عليه السلام - أن يضع الرجل مرفقيه وكفيه على الأرض في السجود، بل ينبغي أن يضع كفيه، ويرفع مرفقيه عن الأرض. * * * 556 - وقال أبو حُمَيْد السَّاعِدِيُّ في نَفَرٍ مِنْ أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أحفظُكُمْ لصَلاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيتُهُ إذا كبَّرَ جعلَ يدَيْهِ حِذاء مَنْكِبَيْهِ، وإذا ركعَ أمكَنَ يدَيْهِ مِنْ رُكبتَيْهِ، ثمَّ هَصَرَ ظهرَهُ، فإذا رفعَ رأسَهُ استوَى حتَّى يعودَ كُلُّ فَقارٍ مكانَهُ، فإذا سجدَ وضعَ يدَيْهِ غيرَ مُفْتَرِشٍ ولاْ قَابضهِما، واستقبَلَ بأطرافِ أصابعِ رِجلَيْهِ القِبلَةَ، فإذا جلسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جلسَ على رِجلِهِ اليُسرَى ونصَبَ اليُمنى، فإذا جلسَ في الرَّكعةِ الأخيرة قدَّمَ رِجلَهُ اليُسرَى وَنصَبَ الأُخرى وَقعدَ على مَقْعَدَتِهِ". قوله: "في نفر"؛ أي: في جماعة. "حِذاء منكبيه"؛ أي: إزاء وتلقاء منكبيه. "أمكنَ يديه من ركبتيه"؛ أي: وضع كفَّيه على ركبتيه.

"ثم هَصَرَ ظهرَهُ"؛ أي: ثم ثنى وعوج ظهره في الركوع. و"الفقار" بفتح الفاء، وتقديمها على القاف: جمع فقارة، وهي خرزة الظهر، ويستعمل (فقار) في المفرد أَيضًا. يعني بقوله: "حتى يعود كل فقار مكانه"؛ أي: يستقرَّ ويطمئنَّ حتى يسكن كلُّ عظم. "غير مفترش"؛ أي: غير واضع مرفقيه على الأرض. "ولا قابضهما"؛ أي: وغير قابض أصابع يديه، بل يبسط أصابعه قِبَلَ القبلة. "فإذا جلس في الركعتين"؛ أي: في الركعتين الأوليين. "قدَّم رجلَهُ اليُسرى"؛ أي: أخرج رجله من تحت وركِهِ إلى جانب الأيمن، ويضع وركه على الأرض. اسم "أبي الحميد": المنذر، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو بن سعد الأنصاري. * * * 557 - وقال سالم بن عبد الله بن عمر، عن أَبيه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يرفعُ يدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذا افتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذا كبَّرَ للرُّكُوعِ، وإذا رفعَ رأسَهُ منَ الرُّكُوعِ رفَعَهُما كذلك، وقال: "سَمِعَ الله لمنْ حَمِدَهُ ربنا ولكَ الحمدُ"، وكانَ لا يفعلُ ذلكَ في السُّجودِ. قوله: "ولا يفعل ذلك في السجود"؛ يعني: لا يرفعُ يديه إذا قصد السجودَ. * * *

558 - وقال نافع: كانَ ابن عُمَر إذا دخلَ الصَّلاة كبَّرَ ورفعَ يدَيْهِ، وإذا ركعَ رفعَ يدَيْهِ، وإذا قالَ سَمعَ الله لمنْ حَمِدَهُ رفعَ يدَيْهِ، وإذا قامَ مِنَ الرَّكعتَيْنِ رفعَ يدَيْهِ، ورفعَ ذلك ابن عمرَ إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "وإذا قام من الركعتين"؛ يعني: إذا قام من الركعة الثانية إلى الركعة الثالثة رفع يديه، ورفع اليدين في هذا الموضع ليس في مذهب الشافعي، بل مذهبُ الشافعي أن يرفعَ المصلي يديه عند تكبيرة الإحرام، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وعند أبي حنيفةَ لا يرفعُ المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام. قوله: "ورفع ذلك ابن عمرَ إلى نبي الله عليه السلام"؛ يعني: يقول ابن عمر: فعل النبي هكذا (¬1). * * * 559 - وروى مالك بن الحُوَيْرِث: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفعَ اليَدَيْنِ إذا كبَّرَ، وإذا ركعَ، وإذا رفَعَ رأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وقال: حتى يُحاذي بهِما أُذُنَيْهِ. وفي روايةٍ: "إلى فُروعَ أُذُنَيْهِ". ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "قوله: إذا دخل الصلاة كبر ورفع يديه ... " إلى آخره، قيل: الحكمة في رفع اليدين إعظامًا لله تعالى واتباعًا لرسوله، وقيل: هو استكانة واستسلام وانقياد، وكان الأسير إذا غُلب مَدَّ يديه إعلامًا للاستسلام، وقيل: إشارة إلى استعظامه ما دخل فيه، وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بكليته على صلاته ومناجاته ربه، وكما تضمَّن ذلك قوله: الله أكبر؛ ليتطابق قوله وفعله، وقيل: إشارة إلى دخول الصلاة، وهو يختص بالرفع عند الإحرام، وقيل غير ذلك، وفي أكثرها نظر. "شرح مسلم".

قوله: "فروع أذنيه"، (فرع الأذن): أعلاها. وقال الشافعي: يرفعُ المصلي يديه عند تكبيرة الإحرام حذاءَ منكبيه، وقال أبو حنيفة: حذاء أذنيه، وذُكِر أنَّ الشافعي حين دخل مصر: سأله أهل مصر عن كيفية رفع اليدين عند التكبير؟ فقال: يرفع المصلي يديه بحيث يكون كفاه حذاء منكبيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وأطراف أصابعه فروع أذنيه؛ لأنه جاءَ في رواية: (رفع اليدين إلى المنكبين)، وفي رواية: (إلى الأذنين)، وفي رواية: (إلى فروع الأذنين)، ففعل الشافعي ما ذكرنا في رفع اليدين جمعًا بين الروايات الثلاث. * * * 560 - وعن مالك بن الْحُوَيْرِثِ: أَنَّهُ رَأَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فإذا كانَ في وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لمْ يَنْهَضْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا. قوله: "في وِتْرٍ من صلاتِهِ"؛ أي: الركعة الأولى والثالثة. وكلُّ ركعة لم تقرأ فيها التحيات فالسنةُ أن يجلس المصلي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية لحظةً بقدر قراءة سورة الإخلاص، وتسمى تلك الجلسة جلسة الاستراحة. قوله: "لم ينهض"؛ أي: لم يقم "حتى يستويَ قاعدًا"؛ أي: حتى يجلس. * * * 561 - وعن وائل بن حُجْرٍ: أَنَّهُ رَأَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يدَيْهِ حينَ دخلَ في الصَّلاةِ وكبَّرَ، ثمَّ التَحفَ بِثَوْبهِ، ثمَّ وضعَ يدَهُ اليُمنى على اليُسرَى، فلمَّا أَرادَ أنْ يركَعَ أخرجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثمَّ رفعَهُمَا وكبَّرَ فركَعَ، فلمَّا قالَ: "سَمِعَ الله لمنْ حَمِدَهُ" رفعَ يَدَيْهِ، فلمَّا سجدَ سجدَ بَيْنَ كَفَّيْه.

قوله: "ثم التحف بثوبه"، (التحف)؛ أي: ستر. يعني: أخرج يديه من الكُمِّ إذا كبَّر للإحرام، فإذا فرغ من التكبير أدخل يديه في كُمَّيه، ثم أخرجهما إذا رفع يديه للركوع، ولعل التحاف يديه بكُمَّيه لبرد شديد، أو لبيان أن كشفَ اليدين عند التكبير غيرُ واجب. "سجد بين كفَّيه"؛ أي: وضع كفيه بإزاء منكبيه في السجود. وكنية "وائل": أبو هُنيدة، جده: ربيعة بن وائل بن يَعمر الحضرميُّ. * * * 562 - وقال سَهْل بن سَعْد: كانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يضعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمنى على ذِرَاعِهِ اليُسرى في الصَّلاةِ. قوله: "يُؤمَرون أن يضعَ الرجلُ اليدَ اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"؛ يعني: السنة للمصلي أن يضع يده اليمنى فوق يده اليسرى (¬1) إذا فرغ من تكبيرة الإحرام، ويضعهما بين السُّرةِ والصدر عند الشافعي، وتحت السرة عند أبي حنيفة. * * * 563 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصَّلاةِ يُكَبرُ حِينَ يقومُ، ثمَّ يُكَبرُ حِينَ يَركعُ، ثُمَّ يقولُ: "سَمِعَ الله لمنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرفعُ صُلبَهُ مِنَ الرَّكعةِ، ثمَّ يقولُ وهو قائمٌ: "ربنا لكَ الحمدُ"، ثمَّ يُكبرُ حِينَ يَهوي، ثمَّ يُكبرُ حِينَ يرفعُ رأْسَهُ، ثمَّ يكبرُ حِينَ يسجُدُ، ثمَّ يكبرُ حِينَ يَرْفَعُ رأْسَهُ، ثمَّ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "الحكمة في وضع اليد اليمنى على اليسرى: أنه أقربُ إلى الخشوع، ولمنعِهما من العبث. شرح مسلم".

يَفعلُ ذلكَ في الصَّلاةِ كُلِّهَا حتَّى يَقْضيَهَا، وَيُكَبرُ حِينَ يَقُومُ من الثِّنْتَيْنِ بعدَ الجُلوسِ. قوله: "سمع الله لمن حمده"؛ يعني: قبل الله حمدَ مَنْ حمده. هَوَى - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - هَويًا: إذا نزل من علو إلى سفل بفتح الهاء، وهُويًا - بضم الهاء -: إذا ارتفع من سفل إلى علو. * * * 564 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الصَّلاةِ طولُ القُنُوتِ". قوله: "طولُ القنوتِ"، (القنوت): تطويلُ القيام في الصلاة، وتقدير هذا الحديث: أفضلُ الصلاة صلاةٌ فيها طولُ القنوت؛ أي: طول القيام والقراءة. * * * مِنَ الحِسَان: 565 - قال أبو حُمَيْد السَّاعِدِيُّ في عَشَرَةٍ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعلَمُكُمْ بصلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فَاعْرِضْ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصَّلاةِ رفعَ يدَيْهِ حتَّى يُحاذيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ، ثم يُكَبرُ، ثمَّ يقرأُ، ثمَّ يكبرُ، ويرفعُ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ، ثمَّ يركَعُ ويضعُ راحَتَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ، ثم يعتدِلُ فلا يُصبي رأسَهُ ولا يُقْنِعُ، ثمَّ يرفعُ رأسَهُ فيقولُ: "سمعَ الله لمنْ حَمِدَهُ"، ثمَّ يرفعُ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِي بهما مَنْكِبَيْهِ مُعتدلًا، ثمَّ يقولُ: "الله أكبرُ"، ثمَّ يَهْوِي إلى الأرضِ ساجدًا، فيُجافي يديهِ عنْ جَنْبَيْهِ، ويفتح أصابِعَ رِجْلَيْهِ، ثمَّ يرفعُ رأسَهُ، ويَثْني رِجْلَهُ اليُسْرى، فيقعُدُ عليها، ثمَّ يعتدِلُ حتَّى يرجعَ كلُّ عظمٍ في موضعِه مُعتدِلًا، ثم يسجُدُ، ثمَّ يقولُ: "الله أكبر"، ويرفعُ ويَثني رِجلَهُ

اليُسرى فيقعُدُ عليها، حتَّى يرجِعَ كُلُّ عظمٍ إلى موضعِهِ، ثمَّ ينهضُ، ثمَّ يصنعُ في الركعةِ الثانيةِ مِثْلَ ذلكَ، ثمَّ إذا قامَ مِنَ الركعتَيْنِ كَبَّرَ ورفعَ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ كما كبَّرَ عندَ افتِتاحِ الصَّلاةِ، ثمَّ يصنعُ ذلكَ في بقيَّةِ صلاتِهِ، حتَّى إذا كانَتِ السَّجدةُ التي فيها التَّسليمُ أخَّرَ رِجْلَهُ اليُسرى، وقعدَ مُتورَّكًا على شِقِّه الأيسرِ، ثمَّ سَلَّم، قالوا: صدَقتَ، هكذا كانَ يُصلِّي، صحيح. وفي روايةٍ من حديث أبي حُمَيْد: ثمَّ ركعَ فوضعَ يدَيْهِ على رُكبَتَيْهِ كأنَّهُ قابضٌ عليهِما، ووتَّرَ يدَيْهِ فنحَّاهما عَنْ جنبَيْهِ، وقال: ثمَّ سجدَ فأمكنَ أنفَهُ وجبهتَهُ الأرضَ، ونحَّى يدَيْهِ عنْ جنبَيْهِ، ووضعَ كفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وفرَّجَ بينَ فخذَيْهِ غيرَ حامِلٍ بطنَهُ على شيءٍ مِنْ فخِذَيْهِ حتَّى فرغَ، ثمَّ جلسَ فَافْتَرَشَ رِجلَهُ اليُسرى، وأَقبلَ بِصدْرِ اليُمنى على قِبْلتِه، ووضَعَ كفَّه اليُمنى على رُكبتِهِ اليُمنى، وكفَّهُ اليُسرى على رُكبتِهِ اليُسرى، وأشارَ بإصبعِهِ، يعني: السَّبَّابَة. وفي روايةٍ: وإذا قعدَ في الركعتَيْنِ قعدَ على بَطْنِ قَدَمِهِ اليُسرى، ونصبَ اليُمنى، وإذا كانَ في الرابعةِ أفْضى بِوَرِكِهِ اليُسرى إلى الأرضِ، وأخرجَ قَدَمَيْهِ مِنْ ناحيةٍ واحدة. قوله: "في عشرة"؛ أي: بين عشرة أنفس من الصحابة. "فاعرِضْ"؛ أي: بيِّنْ. "يعتدل"؛ أي: يستوي قائمًا. صبَّى يُصبي تصبية: إذا خفض رأسه. وأقنع يُقنِع: إذا رفع رأسه. "فيجافي"؛ أي: فيبعدُ مرفقيه عن جنبيه. "فتَخَ" بالخاء المعجمة، وبفتح العين في الماضي والغابر فتخًا: إذا كسر

أصابع الرجل واليد إلى جانب الكفَّ. ثَنَى يثني ثنيًا، وثنَّى يُثنَّي تثنية: إذا عوج شيئًا وحَنَاه. "يصنع"؛ أي: يفعل. "التورك": أن يجلس الرجل على وِرْكه؛ أي: جانب أليته، ويخرج رجليه من تحته. قوله: "صحيح" قال أبو عيسى: هذا الحديثُ حسنٌ صحيحٌ، وكأنَّ عادةَ أبي عيسى في كلَّ حديث جاء فيه روايات كثيرة، وفيه من الصحة أكثر من أحاديث أخر أن يقول: هذا حديث صحيح. قوله: "ووتَّر يديه"، (التوتير): جعل الوتر على القوس؛ يعني: أبعد مرفقيه عن جنبيه حتى كان يدُهُ كالوتر، وجنبُهُ كالقوس. "نحَّى" ينحَّي: إذا أبعد. "أمكن"؛ أي: وضع. "فرَّج"؛ أي: فرق. "غير حامل"؛ أي: غير واضع. "وأقبل بصدر اليمنى"؛ أي: وجَّه أطراف أصابع رجله اليمنى إلى القبلةِ. "أفضى"؛ أي: أوصلَ. * * * 566 - وعن وائل بن حُجْر: أَنَّهُ أبصَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قامَ إلى الصَّلاةِ رفعَ يدَيْهِ حتَّى كانتا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ، وحاذَى إبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ. وفي روايةٍ: يرفعُ إبْهَامَيْهِ إلى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ.

قوله: "بحيال مَنكِبيه"؛ أي: بحِذاءِ مَنكِبيه. * * * 567 - وعن قَبيْصة بن هُلْبٍ، عن أَبيه أنَّه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّنا فيأْخُذُ شِمالَهُ بيمينِهِ. قوله: "بيمينه"؛ أي: أخذ بكفِّه الأيمنِ كوعَهُ الأيسر في القيام. * * * 568 - وعن رِفاعة بن رافِع قال: جاء رجُلٌ فصلَّى في المسجد، ثمَّ جاءَ فسلَّمَ على النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أعَدْ صَلاتَكَ، فإنَّكَ لمْ تُصَلَّ"، فقال: علِّمْني - يَا رسولَ الله! - كيفَ أصلَّي؟، فقال: "إذا توجَّهْتَ إلى القِبلةِ فكبرْ، ثمَّ اقرأْ باُمِّ القرآنِ، وما شاءَ الله أنْ تقرأَ، فإذا ركَعْتَ فاجعَلْ راحتَيْكَ على رُكبتَيْكَ، ومكَّنْ رُكُوعَكَ، وامدُدْ ظَهْرَكَ، فهذا رفعتَ فأقِمْ صُلْبَكَ، وارفَعْ رأْسَكَ حتى ترجعَ العِظامُ إلى مَفاصِلِها، فإذا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ للسُّجُودِ، فإذا رَفَعْتَ فَاجلِسْ على فَخِذِكَ اليُسرى، ثمَّ اصْنع ذلكَ في كُلِّ ركعةٍ وسَجْدَةٍ حتَّى تطمئنَّ". وفي روايةٍ: "إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فتوضَّأْ كما أمرَكَ الله، ثمَّ تشهَّدْ فأقِمْ، فإنْ كانَ معكَ قُرآنٌ فأقْرَأْ، وإلاَّ فاحْمَدِ الله وكَبرْهُ وهَلِّلْهُ، ثمَّ ارْكَعْ". قوله: "ثم اقرأ بأم القرآن"، (أمُّ القرآن): سورة الفاتحة، سُمِّيت أمَّ القرآن؛ لأنها أول القرآن في التلاوة، ألا ترى أنها مكتوبة في المصاحف قبل سورة البقرة؟ (الأم): الأصل. "وما شاء الله أن تقرأ"؛ يعني: وما رزقَكَ الله أن تقرأ من القرآن بعد الفاتحة.

"ومكِّن ركوعَكَ"؛ أي: أركع ركوعًا تامًا مع الطمأنينة. قوله: "حتَّى تَطمئنَّ"، (اطمأن): إذا سكن واستقرَّ؛ يعني: حتَّى تجلس في آخر صلاتك؛ يعني: حتى تفرغ، وإنما قال: تطمئنَّ، وأراد به الجلوس في آخر صلاته؛ لأن آخرَ الصلاة موضعُ الاستقرار والسكون وطول قراءة الدعوات. قوله: "ثم تشهَّد": بفتح التاء وتشديد الهاء، معناه: احضُرْ وانْوِ وكبرْ وأحضرْ قلبَكَ. "فاحمد الله"؛ أي: قل: الحمد لله. "وكبره"؛ أي: قل: الله أكبر. "وهلِّله"؛ أي: قل: لا إله إلا الله. جدُّ "رفاعة": مالك بن العجلان بن عمرو الأنصاري. * * * 569 - عن الفضل بن عبَّاس أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهَّدُ في كُلِّ ركعتَيْنِ، وتَخَشَّعُ، وتَضَرَّعُ، وتَمَسْكَنُ، ثمَّ تُقْنِعُ يديك - يقول: ترفعُهما - إلى رَبكَ مُستقبلًا ببُطُونِهِما وجهَكَ، وتقولُ: يَا ربِّ يَا ربِّ، ومَنْ لمْ يفعلْ ذلكَ فهو خِداجٌ". قوله: "الصلاة مَثْنى مَثْنى"؛ يعني: الصلاة تصلى ركعتين؛ يعني: يُسلِّم من كلِّ ركعتين، وهذا في صلاة النوافل والسنن عند الشافعي، فالأفضلُ فيها أن يسلم في كل ركعتين؛ ليلًا كان أو نهارًا، وعند أبي حنيفة الأفضل أن يصلي أربع ركعات بتسليمة؛ ليلًا كان أو نهارًا. قوله: "تشهُّدٌ وتخشُّعٌ وتضرُّعٌ وتَمَسْكُنٌ": كلها مصدر منون، هكذا جاء في الرواية.

10 - باب ما يقرأ بعد التكبير

قوله: "تشهد"؛ أي: في كلَّ ركعتين يقرأُ التحيات. قوله: "تخشع"؛ أي: في الصلاة تخشع؛ أي: ليكن فيها تخشع، وهو سكون الظاهر والباطن، وطمأنينة الرجل بحيث لا يتحرك ولا يلتفت يمينًا ويسارًا. و"التمسكن": إظهار الرجل المسكنةَ عن نفسه. "ثم تقنع"؛ أي: ثم ترفع يديك. "يقول" معناه: يعني. "ترفعُهما إلى ربك"، تطلبُ منه حاجتك. "ومن لم يفعل ذلك"؛ أي: ومن لم يفعل هذه الأشياء في الصلاة. "فهو خداج"؛ أي: ففعلُ صلاتِهِ ناقصٌ. * * * 10 - باب ما يَقْرأُ بعد التَّكبيرِ (باب ما يقرأ بعد التكبير) مِنَ الصِّحَاحِ: 570 - قال أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْكُتُ بين التَّكْبيرِ وَبَيْنَ القِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً فقلت: بِأَبي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! إسْكَاتُكَ بين التَّكْبيرِ وَالقِرَاءَةِ ما تَقُولُ؟، قال: أَقُولُ: "اللهم بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كما بَاعَدْتَ بين المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللهم نَقِّنِي من الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ من الدَّنَسِ، اللهم اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالمَاءَ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ".

قوله: "يسكتُ بين التكبير"، (يُسكِتُ) بضم الياء وكسر الكاف: مضارع أسكتَ إسكاتًا؛ بمعنى: سكت، و (الإسكات) ها هنا: ترك الجهر، لا تركُ الكلام أصلًا. "بأبي وأمي"، الباء للتعدية تقديره: مفديٌّ بأبي وأمي؛ أي: فُدِيت بأبي وأمي؛ أي: وجعل أبي وأمي فداء لك. "إسكاتَكَ" - بالنصب - مفعول فعل مقدر؛ أي: أسألك عن إسكاتك: ما تقول فيه؟ ويجوز أن يكون تقديره: في إسكاتك ما تقول؟ فحُذِفت (في)، ونصب (إسكاتك). "نقِّني"؛ أي: طهَّرني، (التنقية): التطهير. قوله: "بالماء والثلج والبرد"؛ يعني: أنواع المطهرات هي الثلاثة، وكل ثوب غسل بهذه الثلاثة يكون على غاية الطهارة والنظافة؛ يعني: اغسلني من الذنوب بأنواع المغفرة غسلًا تامًا. * * * 571 - وقال علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصَّلاةِ - وفي رواية: كان إذا افتتحَ الصَّلاةَ - كبَّرَ، ثمَّ قالَ: "وجَّهْتُ وجْهِيَ للذي فطرَ السَّماواتِ والأرضَ حنيفًا مسلمًا، وما أنا مِن المُشْركينَ، إنَّ صَلاتي ونُسُكي ومَحْيايَ ومَماتي لله رَبِّ العالمينَ لا شَريكَ لهُ، وبذلكَ أُمِرْتُ، وأنا منَ المُسلمينَ، اللهمَّ أنتَ المَلِكُ لا إله إلَّا أنتَ، سُبحانك وبحمْدِكَ، أنتَ رَبيَ وأنا عبدُكَ، ظلَمتُ نفْسي، واعترفْتُ بذَنْبي، فاغْفِرْ لي ذُنوبي جميعًا، إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنتَ، واهْدِني لأحسَنِ الأخلاقِ، لا يهدي لأَحسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنِّي سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنِّي سَيِّئَها إلَّا أنتَ، لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، والشَّرُّ ليسَ إليكَ، أنا بكَ وإليكَ، تَبارَكْتَ وتعالَيْتَ،

أستَغْفِرُكَ وأتُوبُ إليكَ"، وإذا ركعَ قال: "اللهمَّ لكَ ركَعْتُ، وبكَ آمنتُ، ولكَ أسْلَمْتُ، خشعَ لكَ سَمْعي، وبَصَري، ومُخِّي، وعَظْمي، وعَصَبي"، وإذا رفعَ رأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قال: "اللهمَّ ربنا لكَ الحَمْدُ مِلءَ السَّماواتِ ومِلْءَ الأرضِ وما بينهُما، ومِلءَ ما شِئْتَ مِنْ شيءٍ بعدُ"، وإذا سجدَ قال: "اللهمَّ لكَ سَجدْتُ، وبكَ آمنْتُ، ولكَ أسلَمْتُ، سجَدَ وجْهِي للذي خلقَهُ وصَوَّرَهُ، وشَق سَمْعَهُ وبصَرَهُ، فتباركَ الله أحسَنُ الخالِقينَ"، ثمَّ يكونُ مِنْ آخِرِ ما يقوله بين التشَهُّدِ والتَّسْليمِ: "اللهمَّ اغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ، وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ، وما أعْلَنْتُ، وما أسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلم بهِ منِّي، أنتَ المُقَدِّمُ وأنتَ المُؤخِّرُ، لا إله إلَّا أنتَ". وفي روايةٍ: "والشرُّ ليسَ إليكَ، والمَهدِيُّ مَنْ هدَيتَ، أنا بكَ وإليكَ، لا مَنْجا مِنكَ ولا ملْجأَ إلَّا إليكَ، تباركتَ وتعالَيْتَ". قوله: "إذا قام إلى الصلاة قال"؛ أي: إذا قام إلى الصلاة كبَّر، ثم قال: "وجهت وجهي": هكذا هذا الحديث مذكور في "سنن أبي داود"؛ أي: صرفت وجهي إلى الله تعالى، وأعرضت عن غيره، ويحتمل أن يكون معناه: قصدت بعبادتي إلى الله تعالى، وأخلصت عبادتي لله تعالى. "فطرَ"؛ أي: خلقَ. "حنيفًا": منصوبٌ على الحال، و (الحنيف): المائل عن غير ملةِ الإِسلامِ إلى الإِسلام. "ونُسُكي"؛ أي: عبادتي. "ومَحْياي"؛ أي: حياتي، "ومماتي"؛ أي: موتي؛ يعني: أنا لله في الحياة وبعده.

"المسلم": المنقاد والمطيع لله. "سبحانَكَ": اسم أُقِيم مقامَ المصدر، وهو التسبيح، وتقديره: أسبحك تسبيحًا؛ أي: أنزهك وأبعدك ممَّا لا يليق بحضرتك من أوصاف المخلوقات. "وبحمدك" تقديره: وبحمدِكَ أسبحُكَ وأحمدُكَ، ويحتمل أن يكون تقديره: وفقني بحمدك؛ أي: بأن أحمدك. "واعترفت"؛ أي: أقررت. "سيئها"؛ أي: سيَّء الأخلاق. "لبيك"؛ أي: أجبتُكَ في أمرك إجابةً بعد إجابةٍ. قوله: "سعديك"؛ أي: ساعدت طاعتك مساعدةً بعد مساعدةٍ، (المساعدة): الموافقة (¬1). " (¬2) والشر ليس إليك"؛ يعني: والشرُّ ليس ممَّا يُتقرَّبُ به إليك (¬3). وقيل: معناه: والشرُّ لا يُضافُ إليك لحسن الأدب، ألا ترى أنه لا يقال لله: يَا خالق الخنازير، وإن كان خالقها؟! لأنه ليس في هذا اللفظ تعظيمٌ، بل يقال: يَا خالق البريات، فكذلك هو خالقُ الخيرِ والشرِّ جميعًا، ولكن لا يقال: يَا خالق ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "ثم أسعدني إسعادًا بعد إسعاد، وبمعنى: أطعت الطاعة بعد الطاعة، وأجبت إجابة بعد إجابة، تفعل به ما فعل بلبيك، والإعادة تستعمل مع لبيك. قاضي". (¬2) جاء على هامش "ش": "الخير كله بيديك؛ أي: الكل عندك كالشيء الموثوق به المقبوض عليه، يجري مجاري قضائك، لا يدرك من غيرك ما لم تسبق به كلمتك. قاضي". (¬3) جاء على هامش "ش": "أو الشر لا يصعد إليك، وإنما يصعد إليك الطيب، وهو الخير. قاضي".

الشر، كما قال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 78 - 79] , أضاف الخلق والإطعام والسقي إلى الله تعالى؛ لما فيها من التعظيم، وقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] , أضاف المرضَ إلى نفسه؛ لما ليس فيه من التعظيم. وقيل: معناه: والشر لا يُنسَبُ إلى أفعالك؛ يعني: ليس في أفعالك شرٌّ؛ لأنك إذا خلقت الشرَّ وبيَّنته لعبادك ونهيتهم عن فعله، فلم يكُ فعلك شرًا (¬1). "أنا بك" (¬2)؛ أي: أنا بك أحيا وأموت وأستجير وأتقوَّى. قوله: "وإليك"؛ أي: وإليك مرجعي ومآبي وحولي وقوتي. "خشع"؛ أي: خضع وتواضع وأطاع. قوله: "بعدُ"؛ أي: بعد السماوات والأرض؛ يعني: لك من الحمد مِلْء السماوات ومِلء الأرض، وملء غير السماوات والأرض ممَّا شئت. "وما أنت أعلم به مني"؛ يعني: قد يكون في ذنوب لا أعلمها، وأنت تعلمها، وأستغفرك منها. "أنت المقدِّم"؛ أي: أنت توفِّقُ بعضَ العباد لك على طاعات. "وأنت المؤخِّر"؛ يعني: أنت تخذل بعض العباد من النصرة والتوفيق على الطاعات. ويحتمل أن يكون معناهما: أنت الرافع والخافض، والمعز والمذل. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "قال في "النهاية": هذا الكلام إرشادٌ إلى استعمال الأدب في الثناء على الله، وأن يُضافَ إليه محاسنُ الأشياء دون مساوئها, وليس المقصود نفي شيء عن قدرة الله تعالى. قاضي". (¬2) جاء على هامش "ش": "أي: أنا أعتمد وألوذ بك. قاضي".

"لا مَنْجا منك، ولا مَلْجَأ إلا إليك": تقديره: لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، ولا فِرارَ من عذابك إلا إليك؛ يعني: الناجي هو الذي يلتجئ إليك ويستعيذ منك. (منجا): مصدر ميمي أو مكان، من نجا ينجو، و (ملجأ) مصدر ميمي أو مكان، من لجأ يلجأ: إذا التجأ وهربَ من أحد إلى كَنَفِ أحدٍ. * * * 572 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رجُلًا جاءَ إلى الصَّلاةِ وقدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فقال: الله أكبرُ، الحمدُ لله حَمدًا كثيرًا طَيبًا مُبارَكًا فيه، فلمَّا قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتَهُ، فقال: "أيُّكُمُ المُتَكَلِّمُ بالكلماتِ؟، لقدْ رأيتُ اثنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَها، أَيُّهُمْ يرفعُها". قوله: "حَفَزَهُ النفسُ"؛ أي: حرَّكه النفس من كثرة السرعة في الطريق إلى الصلاة. (الحفز): التحريك، (النَّفَس) بفتح الفاء معروف. (بارك): إذا جعل البركةَ في شيء، "مباركًا فيه"؛ أي: حمدًا كثيرًا غاية الكثرة. "يبتدرونها"؛ أي: يسبقُ ويعجلُ بعضهم بعضًا في كتبهِ تلك الكلمات، ورفعِها إلى حضرة الله تعالى؛ لعظم قدرها. * * * من الحِسان: 573 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا افْتَتَحَ الصَّلاةَ

قال: "سُبحانَكَ اللهمَّ وبحمدكَ، وتباركَ اسمكَ، وتعالى جَدُّكَ، ولا إلهَ غيرُك"، ضعيف. قوله: "تبارك اسمك"؛ أي: كثُرتْ بركةُ اسمك في السماوات والأرض؛ إذ وُجِدَ كلُّ خير من اسمك وتنوَّر، وجُعِلت البركةُ في كل موضع ذُكِر أو كُتِبَ اسمك فيه. "وتعالى جَدُّك"، (الجد): العظمة، و (تعالى): تفاعل من العلو؛ أي: علا ورفع عظمتك على عظمة غيرك غاية العلو والرفعة. "جلَّ"؛ أي: عظم. وذكر المصنف: أن هذا الحديث "ضعيف"، وهذا ضعيفٌ عند قليل من أصحاب الحديث، ولكنه حديثٌ حسنٌ عالي الإسناد قويٌّ عند أكثرهم. * * * 574 - عن جُبَيْر بن مُطْعِم: أنَّهُ رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلاةً قال: "الله أكبرُ كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا ثلاثًا، وسُبحانَ الله بُكرةً وأَصيلًا ثلاثًا، أعوذُ بالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، مِنْ نَفْخِهِ ونَفْثِهِ وهَمْزِهِ". قوله: "بكرة"؛ أي: في أول النهار. "وأصيلًا": في آخره، وإنما قال هذا القول؛ لقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42] , خصَّ بُكرةً وأصيلًا بالذكر؛ لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في هذين الوقتين. "من نَفْخِه"؛ أي: ممَّا يأمرُ النَّاس من التكبر، و (النفخ): التكبر. "ونَفْثِه"؛ أي: ممَّا يأمر بعضَ الناس بإنشاء الشعر المذموم ممَّا فيه هجوٌ

لمسلم، أو كفر، أو فسق. وقيل: (النفث): السحر. "وهمزه"؛ أي: من جعله أحدًا مجنونًا، والمجنون: من يرى الجن أو شيطانًا، فيسقط من الخوف. وقيل: (همزه): الوسوسة. كنية "جُبير": أبو محمَّد، جده: عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي. * * * 575 - عن سَمُرة بن جُنْدُب: أنَّهُ حفِظَ عنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتَيْنِ: سَكْتَةً إذا كَبَّرَ، وسَكْتَةً إذا فرغَ مِنْ قراءةِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فصدَّقَهُ أُبيُّ بن كَعْبٍ. قوله: "سكتتين"، والغرضُ من السكتة الأولى ليفرغَ المأمومون من النية وتكبيرة الإحرام؛ لأنه إذا كان يقرأُ الإمامُ الفاتحة عقيبَ التكبير، ربَّما يكون بعض المأمومين مشتغلًا بالنية أو التكبير، فيفوته بعضُ سماع قراءة الإِمام الفاتحة. والغرض من السكتة الثانية ليقرأ المأمومون الفاتحة بعد فراغ الإِمام منها، وليرجع إلى الإِمام النفس ويستريح ثم يقرأ السورة. والسكتة الثانية سنَّةٌ عند الشافعي وأحمد كالسكتة الأولى، ومكروهةٌ عند أبي حنيفة ومالك. * * * 576 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهضَ من الرَّكعةِ

11 - باب القراءة في الصلاة

الثانيةِ استفتحَ القِراءةِ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} , ولمْ يسكُتْ. قوله: "ولم يسكتْ"؛ يعني: إذا قام من الركعة الثانية إلى الركعة الثالثة لم يسكت، بل يقرأ الفاتحةَ كلَّما وصل إلى القيام، وإنما لم يسكت؛ لأن هذا الموضع ليس الموضعين اللذين رُوِيَ فيهما السكتة. * * * 11 - باب القِراءةِ في الصَّلاة (باب القراءة في الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 577 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ لمْن لمْ يقرأْ بفاتِحَةِ الكِتابِ". ويروى: "لِمَنْ لمْ يقرأْ بأُمَّ القُرآنِ فصاعِدًا". قوله: "فصاعدًا"؛ يعني: أو أكثر؛ يعني: قراءةُ الفاتحة واجبةٌ، وقراءةُ شيء من القرآن بعد الفاتحة سنةٌ. (الصعود): الارتقاء من سفل إلى علو، و (الصاعد): اسم فاعل منه، ومعنى الصاعد ها هنا: الزائد، (فصاعدًا) منصوب على الحال، وهذا اللفظ لا يتغير سواء كان حالًا من مذكر أو مؤنث، وتقرير كون (صاعدًا) حالًا أن يقال: تقديره: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن فقط، أو بأم القرآن في حال كون قراءتِهِ صاعدًا - أي: زائدًا - على أم القرآن. * * *

578 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى صلاةً لم يَقْرأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ فهيَ خِداجٌ ثلاثًا، غيرُ تمامٍ", وقيل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: إنَّا نكونُ وراءَ الإِمام؟، قال: اقْرَأ، بها في نَفسِكَ، فإنِّي سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قال الله - عز وجل -: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سألَ، وإذا قالَ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حَمَدني عَبْدي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قالَ الله: أَثنَى عليَّ عَبْدي، وإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: الله تعالى مَجَّدَنِي عَبْدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بَيْني وبَيْنَ عَبْدي، ولِعَبْدِي ما سألَ، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هذا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي ما سَألَ". قوله: "فهي خداج", (الخداج) مصدر خدَجت الناقة تخدِج - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر -: إذا أسقطت ولدها قبل أوانِ النِّتاج، وإن كان تامَّ الخِلقةِ، و (الخديج): الولد الذي صورتُهُ وخلقتُهُ تامةٌ ومدتُهُ ناقصةٌ، و (أخدجت الناقة): إذا أسقطت ولدها ناقصَ الخِلقةِ تامَّ المدة، و (المخدَج) بفتح الدال: ذلك الولد، و (الخداج) هنا مصدر أُقيم مقامَ اسم الفاعل، بمعنى: الناقص. "في نفسك"؛ أي: بحيث تسمع أذنك، ولا تجهر صوتك بحيث تشوِّشُ على من يقربك، ومن لم تسمع أذنُهُ قراءةَ نفسِهِ، لم تصحَّ قراءته إلا إذا كان أصمَّ. "قسمتُ الصلاةَ", معنى الصلاة هنا: الفاتحة، سُمِّيت الفاتحة صلاةً؛ لما في الصلاة من القراءة. قوله: "بيني وبين عبدي نصفين"، أراد بنصفين: من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ لأن لفظ الحمد والثناء ينتهي بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومن قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة دعاءٌ، ولا شكَّ أن نصف الدعاء أكثر.

ومعناه: نصف هذه السورة حمدٌ وثناءٌ لي، ونصفُها دعاءٌ للعبد، ومعنى النصف: البعضُ هنا؛ يعني: بعضها لي وبعضها له. "مجَّدَني"؛ أي: ذكرني بالعظمة، ومصدره: التمجيد. {نَسْتَعِينُ}؛ أي: نطلب العون على الأمور منك. {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ يعني به: كلَّ فعل وقول ونية تَرضاهُ. {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}؛ يعني بهم: الأنبياء والأولياء. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}؛ يعني بهم: اليهود. {وَلَا الضَّالِّينَ}؛ أي: وغير الضالين؛ يعني بهم: النصارى. يعني بقوله: {اهْدِنَا}: ثبتنا؛ يعني: وثبتنا على طريق أنبيائك وأوليائك وسيرتهم دون اليهود والنصارى، بل أبعِدْنا عن أفعالهم وأقوالهم. * * * 579 - وعن أنس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما - كانوا يفتَتِحُونَ الصَّلاةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. "يفتتحون"؛ يعني: يبتدؤون بفاتحة الكتاب، لا بسورةٍ أخرى. وقال بعض العلماء: معناه: أنهم يُسِرُّون بـ: (بسم الله الرحمن الرحيم)، كما يُسَّرون بالتعوذ، ثم يجهرون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. * * * 580 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَمَّنَ الإمامُ فَأَمَّنُوا، فإنَّه مَنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبه".

وفي روايةٍ: "إذا أَمَّنَ القارِئُ فأَمَّنُوا، فإنَّ الملائكةَ تؤمِّنُ، فمنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنْبهِ". وفي روايةٍ: "إذا قالَ الإمامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإنَّ الملائكةَ تقولُ: آمين، وإنَّ الإمامَ يقولُ: آمين، فمَنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمِينَ الملائكةِ غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ". قوله: "مَنْ وافق تأمينه"، (التأمين): أن يقول الرجلُ: آمين، ومعناه: اللهمَّ استجبْ؛ يعني: إذا أمَّنَ الإمامُ بعد قراءة الفاتحة تؤمَّنُ الملائكة فمن أمَّن من المأمومين في الوقت الذي تؤمَّن فيه الملائكةُ، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. * * * 581 - وعن أبي مُوسَى الأَشْعَري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلَّيْتُمْ فأقِيمُوا صفوفَكُمْ، ثمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أحدُكُمْ، فإذا كَبَّرَ فكبرُوا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقُولُوا: آمين يُجبْكُمُ الله، فإذا كَبَّرَ وركعَ فكبرُوا وارْكَعُوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه فقولُوا: اللهمَّ رَبنا لَكَ الحَمْدُ، يسمَعِ الله لَكُمْ". وفي روايةٍ: "وإذا قرأَ فأنْصِتُوا". قوله: "فأقيموا"؛ أي: سَوُّوا. "إذا كبَّر فكبروا"؛ يعني: موافقةُ الإِمام واجبةٌ. قوله: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد" بدلٌ، يعني: يقول الإمامُ في الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ويقول

المأموم: ربنا لك الحمد، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي: يقول الإِمام والمأموم: سمعَ الله لمن حمده، ربنا لك الحمد؛ لِمَا روى ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا رفع رأسهُ قال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" هذا في الإِمام، ولم يَجِئْ في الحديث: أنَّ المأمومَ يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ولكن قد جاء في الحديث: "إنما جُعِلَ الإِمام ليؤتمَّ به"، وإنما يكون المأمومُ مؤتمًا بالإمام إذا قال ما يقولُ الإِمام. قوله: "يسمعِ الله لكم": بكسر العين، وكان (يسمع) مجزومًا لجواب الأمر، فحُرِّك بالكسر؛ لسكون العين ولام التعريف. قوله: "فإذا قرأ فأَنْصِتوا"، (أنصتوا)؛ أي: اسكتوا ولا تقرؤوا حتى يفرغَ الإمامُ من القراءة. قال أبو حنيفة: لا تجب قراءة الفاتحة وغيرها على المأموم، بل يسكت المأموم. وقال الشافعي: تجب عليه قراءة الفاتحة؛ لقوله عليه السلام: "لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بأمِّ القرآن". * * * 582 - عن أبي قَتادة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقرأُ في الظُّهْرِ في الأُولَيَيْنِ بأُمِّ الكِتابِ وسُورتَيْنِ، وفي الرَّكعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بأُمِّ الكِتابِ، ويُسْمِعُنا الآيةَ أحيانًا، ويُطيلُ في الرَّكعةِ الأُولى ما لا يُطيلُ في الرَّكعةِ الثانية، وهكذا في العَصْرِ، وهكذا في الصُّبْحِ. قوله: "ويُسمِعُنا الآيةَ أحيانًا"؛ يعني: يقرأ في صلاة الظهر سِرًا، وربما يرفعُ صوته ببعض كلمات الفاتحة أو السورة بحيث نسمعُ حتى نعلمَ ما يقرأ من السورة. * * *

583 - قال أبو سعيدٍ الخُدري: كنَّا نَحزرُ قِيامَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الظُّهْرِ والعَصْرِ، فَحَزَرْنا قِيامَهُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُوْلَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ قِراءةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَة - وفي روايةٍ: في كُلِّ ركعةٍ قَدْرَ ثلاثينَ آيةً - وفي الأُخْرَيَيْنِ قدر النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وفي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوْلَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ على قَدْرِ قِيامِهِ في الأخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وفي الأُخْرَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ على النِّصْفِ مِنْ ذلك. قوله: "نحزِرُ"؛ أي: نقدِّرُ، (الحَزْر): التقدير. * * * 585 - وقال جُبَيْر بن مُطْعِمْ: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرَأُ في المغرِب بالطُّور. قوله: "قرأ في المغرب بالطُّور", وهذا الحديث وما أشبه ذلك يدلُّ على أنَّ وقت المغرب باقي إلى قريب من غروب الشفق؛ لأن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأُ على التأنِّي من غير عجلة، وسورة الطور إذا قُرِئت على التأني يقربُ الفراغُ منها من غروب الشفق. * * * 586 - وقالت أم الفَضْل بنت الحارِث: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في المغربِ بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}. قوله: "يقرأ في المغرب بـ (المرسلات عرفًا) " معناه ظاهرٌ. "أم الفضل": أخت ميمونةَ زوجةِ النبي عليه السلام، وقد ذُكِرت. * * *

587 - وقال جابر: كانَ مُعاذُ بن جَبَلٍ يُصلَّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ يأتِي قَوْمَهُ فيُصَلِّي بهِمْ الصلاةَ، فصلَّى ليلةً مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العِشَاءَ ثمَّ أَتى قَوْمَهُ فأمَّهُمْ فافتَتَحَ سُورةَ البَقرةِ، فانْحَرَفَ رجلٌ فسلَّمَ ثمَّ صلَّى وحدَهُ وانصرفَ، فبلغَ ذلكَ مُعاذًا فقال: إنه مُنافِقٌ، فبلغَ ذلكَ الرجُلَ، فأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسولَ الله!، إنَّا قَوْمٌ نعملُ بأَيْدينا ونَسْقي بنواضحِنا، وإنَّ مُعاذًا صلَّى بنا البارحةَ فقرأَ البقرةَ فتجوَّزْتُ، فزعم أنِّي مُنافِقٌ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا معاذُ!، أفَتَّانٌ أَنْتَ؟ - ثلاثًا - اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ونحوهما". قوله: "فانحرفَ رجلٌ، فسلَّم (¬1)، ثم صلَّى وحدَهُ"، (انحرف)؛ أي: انصرف؛ يعني: ترك رجلٌ من القوم صلاتَهُ مع معاذ، وفارقَ متابعته، وسلَّم من الصلاة قبل تمامها، ثم استأنفَ الصلاةَ، وصلى منفردًا، وإنَّما سلَّم واستأنفَ الصلاة؛ لأنه لم يعلم أنه لو فارقَ الإمامَ بالنية، وأتمَّ صلاته من غير استئنافٍ، لجازت صلاته. قوله: (وانصرف)؛ يعني: خرج من المسجد. قوله: "فبلغ ذلك الرجل"؛ يعني: فبلغ ذلك الرجل: أن معاذًا قال في حقه: إنه منافق (¬2). ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "قوله: فسلم، يحتمل أن تكون معترضة، فتقديرها: فانحرت ثم صلى وحده فسلم، ويحتمل أنه أتم تلك الصلاة، ثم صلى صلاة أخرى وحده". (¬2) جاء على هامش "ش": "قيل: إنما أنكر - صلى الله عليه وسلم - على معاذ ووبخه في إطالة الصلاة، ولم ينكر عليه إضافة النفاق إلى رجل من الصحابة لم يُعرَف منه نفاق قط، وذلك أعظمُ من إطالة الصلاة؛ لأن صلابته في الدين حملته على هذا القول بعد أن رأى فيه التشابهَ بين صنيع الرجل وصنيع المنافقين، فعذره فيه، ولم يعذره في إطالة الصلاة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم معالمَ الدين، وعلمهم كيفية إقامة الصلاة، وأمرهم بالاقتداء به، ولم يكنْ فيما بيَّن لهم ما يُفضي إلى ترك الجماعة".

"فأتى النبيَّ عليه السلام"؛ أي: أتى الرجلُ النبي عليه السلام. "ونسقي بنواضحِنا"، (النواضح): جمع ناضحة، أو ناضح، وهو الجمل الذي يَنزِعُ الماء من البئر، ويسقي به الزرع. يعني: أطال معاذٌ الصلاةَ فلو صبرت معه، لم أقدرْ على النوم إلا قليلاً، فإذا كان حالي كذلك، لم أقدرْ على نزعِ الماء. "البارحة": الليلة الماضية. "وتجوَّزت"؛ أي: تركتُ متابعتَهُ، (التجوُّز): الاختصار. "الفتَّان": الذي يوقع الناس في الفتنة (¬1). يعني: تطيل الصلاة وتؤذي الناس بطول الصلاة فلا تفعل هذا، بل اختصرْ، واقرأ السورَ القصارَ في الصلاة. 590 - وعن عَمْرو بن حُرَيْثٍ - رضي الله عنه -: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الفَجْرِ {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}. قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}؛ يعني به {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. كنية "عمرو": أبو سعيد، جده: عمرو بن عثمان بن عبد الله القرشي. * * * 591 - وعن عبد الله بن السَّائب - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ بمكَّةَ، فاستفتحَ سُورَةَ (المؤمنين) حتَّى جاءَ ذِكْرُ موسى وهارونَ - أو ذِكْرُ عيسى - أخذَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "ومنه قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ}؛ أي: مضلين".

قوله: "جاء ذكر موسى"، أراد بذكر موسى وهارون قولَهُ تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون: 45]، وأراد بذكر عيسى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]. "السَّعْلةُ" والسعال واحد (¬1)؛ يعني: لما أخذته السعلة، لم يقدر على إتمامِ السورةِ، فقطعها وركع. كنية "عبد الله": أبو عبد الرحمن، جده: أبو السائب، واسم أبي السائب: صيفي بن عابد القرشي. * * * 593 - وقال عُبَيْد الله بن أبي رافعٍ: صلَّى لنا أبو هريرة - رضي الله عنه - الجُمعة فقرأَ سُورةَ الجُمعةِ في السَّجْدَةِ الأُولَى، وفي الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بهِمَا يومُ الجُمعة. قوله: "في السجدة الأولى"؛ يعني: في الركعة الأولى. * * * 595 - وسأل عمرُ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أبا واقدٍ اللَّيثِيُّ - رضي الله عنهما -: ما كانَ يَقرأُ بِهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطرِ؟، فقال: كانَ يقرأُ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. قوله: "ما كان"، (ما) للاستفهام؛ يعني: أي شيءٍ يقرأُ في العيدين؟ لم يُعرَف اسم "أبي واقد"، ولا اسم أبيه، وهو من قبيلة ليث بن بكر. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "وهو صوت من وجع الحلق واليبوسة فيه، وإنما أخذته بسبب البكاء؛ يعني: تكاثرت عليه؛ أي: غلبت عليه السعلة من البكاء".

596 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ في ركعتي الفجرِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} , و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. "في ركعتي الفجر"، أراد بركعتي الفجر: سنة الصبح. 597 - وقال ابن عباسٍ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. قوله: "في ركعتي الفجر"، أراد بركعتي الفجر: سنة الصبح أيضًا. قوله: "والتي في آلِ عمران"؛ يعني: الآية التي أولها: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64]. * * * مِنَ الحِسَان: 598 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَفتَتِحُ صلاتَهُ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ضعيف. قوله: "يفتتح صلاته ببسم الله"؛ يعني: يجهر ببسم الله في أول الفاتحة بحيث يسمع، وهذا مذهبُ الشافعي، ومذهبُ أبي حنيفة الإسرارُ ببسم الله. قال الشافعي في أحد قوليه، وعبد الله بن المبارك: بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من الفاتحة، ومن كلِّ سورة إلا سورة التوبة. وقال الآخرون: هي آية من الفاتحة، وأما في غيرها كتبت للفصل بين السور، وليست آية من غير الفاتحة. قوله: "ضعيف"، ذكر أبو عيسى: أنَّ إسنادَ هذا الحديث ليس بقوي،

وعند آخرين قوي. * * * 599 - عن وائل بن حُجْر أنه قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقالَ: "آمين" مدَّ بها صوْتَهُ. "آمين" يجوز (آمِين) بالمد بعد الهمزة، و (أمِيْن) بغير المد، والميمُ مخففة في اللُّغتين. * * * 600 - وعن أبي زُهير النُّميري أنه قال: خرجْنَا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ، فأتَيْنَا على رجلٍ قد أَلَحَّ في المَسألةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْجَبَ إن خَتَم! "، فقالَ رجلٌ من القومِ: بأيِّ شيءٍ يختمُ؟، قال: "بآمين". قوله: "ألحَّ في المسألةِ"؛ أي: بالغ في الدعاء. "أوجبَ"؛ أي: أوجبَ الجنةَ لنفسِهِ، أو أوجبَ إجابةَ دعائِهِ. وهذا الحديث يدلُّ على أن من دعا يستحبُّ له أن يقول بعد دعائه: آمين، وإن كان الإمام يدعو والقوم يؤمِّنون، فلا حاجةَ إلى تأمين الإمام، بل الدعاءُ منه، والتأمينُ من القوم. ولم يُعرَف اسم "أبي زهير"، ولا اسم أبيه. * * * 601 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ في صلاةِ المغربِ بسورةِ الأعرافِ، فرَّقَها في ركعتين.

قولها: "قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف"، في هذا الحديث إشكالٌ؛ لأنَّ النبي - عليه السلام - كان يقرأ على التأني، وسورة الأعراف إذا قُرِئت على التأني في صلاة المغرب يدخلُ وقت العشاء قبل الفراغِ منها، وحينئذ تفوتُ المغرب، وتأويله: أنه - عليه السلام - قرأ في الركعة الأولى قليلاً من سورة الأعراف؛ ليدرك ركعة من الوقت، ثم قرأ باقيها في الركعة الثانية، ولا بأسَ بوقوع الركعة الثانية أو الثالثة خارجًا من الوقت، ويحتمل أن يريد الراوي: أنه - عليه السلام - قرأ بعضَ سورة الأعراف، لا كلها، فتلفَّظَ الراوي بسورة الأعراف، وأراد بعضها. * * * 602 - وقال عُقْبَة بن عامر: كنتُ أقودُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقَتَهُ في السفَرِ، فقالَ لي: "يا عقبةُ! ألا أُعَلِّمُك خيرَ سورتينِ قُرِئَتَا؟ "، فَعَلَّمني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، قال: فَلَمْ يَرَنِي سُرِرْتُ بهما جِدًّا، فلمَّا نزلَ لصلاةِ الصبح صلَّى بهما صلاةَ الصُّبحِ للناسِ، فلمَّا فرغَ التفتَ إليَّ فقالَ: "يا عقبةُ!، كيفَ رأيتَ؟ ". قوله: "خيرَ سورتين قُرِئتا"، واعلم أن هاتين السورتين ليستا خيرًا من سائر السورِ على الإطلاق، بل معناه: ليست سورةٌ مثلَهما في قلةِ الألفاظِ وكثرة المعاني من التعوُّذِ بالله من شرِّ الأشرار. قوله: "كيف رأيت؟ "؛ أي: كيفَ رأيتني قرأتهما في صلاة الصبح؟ فلو لم تكونا عظيمتي القدرِ لَمَا قرأتُهما في الصلاة. * * * 603 - وقال جابر بن سَمُرة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في صلاةِ المغربِ ليلةَ

الجمعةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. "كان النبي - عليه السلام - يقرأ في صلاةِ المغربِ ليلةَ الجمعةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "، واعلم أن هذا وأشباهه ليس على الدوام، بل يقرأ في كلِّ وقتٍ شيئًا؛ ليعلمَ الناسُ جوازَ ما يقرأه. * * * 604 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ما أُحصِي ما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الركعتين بعدَ المغربِ وفي الركعتين قبلَ صلاةِ الفجرِ بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. قوله: "ما أُحصِي ما سمعتُ النبيَّ عليه السلام"، (الإحصاء): العد، (ما) خبرية بمعنى: الذي؛ يعني: لا أقدر أن أعدَّ المرات التي قرأ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة المغرب وسنة الصبح بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. * * * 605 - وقال سليمانُ بن يسارٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ما صليتُ وراءَ أحدٍ أشبهَ صلاةً برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من فلانٍ، قال سليمانُ: صلَّيتُ خلْفَهُ، فكانَ يُطيلُ الركعتينِ الأُولَيَيْنِ من الظهرِ، ويُخَفِّفُ الأُخريينِ، ويُخَفِّف العصرَ، ويقرأُ في الركعتينِ الأُوليينِ من المغربِ بِقِصَارِ المُفَصَّلِ، وفي العشاءِ بوسَطِ المُفَصَّلِ، وفي الصُّبح بطِوالِ المُفَصَّلِ. قوله: "من فلان"؛ يعني: عمر بن عبد العزيز. السُّبعُ "المفصَّل": أوله سورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} [الحجرات: 1]

إلى آخر القرآن، سُمِّي مفصلاً؛ لأن سورَها قِصارٌ، كلُّ سورة كفصل من الكلام. (القصار): جمع قصير، و (الطوال): جمع طويل، قيل: "طوال المفصل" من سورة: {لَا تُقَدِّمُوا} إلى سورة {عَمَّ}، وأوساطه من {عَمَّ} إلى سورة {وَالضُّحَى}، و"القصار" من: {وَالضُّحَى} إلى آخر القرآن. * * * 606 - وقال عُبادة بن الصَّامت: كنا خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الفجرِ، فقرأَ فَثَقُلَتْ عليهِ القراءةُ، فلمَّا فرغَ قالَ: "لعلَّكم تَقْرَؤونَ خلفَ إمامِكُمْ؟! "، قلنَا: نعمْ يا رسولَ الله، قال: "لا تَفعلوا إلا بفاتِحَةِ الكتابِ، فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بها"، وفي روايةٍ قال: "وأنا أقولُ مالي يُنازِعُنِي القرآنُ!، فلا تَقْرؤوا بشيءٍ من القرآنِ إذا جهرتُ إلا بِأُمِّ القرآنِ". قوله: "فثقلت عليه القراءة"؛ يعني: تعسَّرت القراءةُ على النبيِّ - عليه السلام - لكثرة أصوات المأمومين بالقراءة، فالسنةُ أن يقرأ المأموم بحيث يسمعُ كلُّ واحد قراءةَ نفسِهِ، ولا يرفعُ صوته؛ كي لا يشوش القراءة على الآخرين. قوله: "ينازعني القرآن"، (المنازعة): أن يجذِبَ كلُّ واحد من الشخصين شيئًا من صاحبه؛ يعني: تشوشُ قراءة المأمومين على قراءتي. واعلم أن الأئمة اختلفوا في قراءة الفاتحة خلفَ الإمام، فأصحُّ قولي الشافعي: أنه يقرأها في السرية والجهرية، ومذهبُ مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي: أنه يقرأها في السرية دون الجهرية؛ لأن استماعَهُ في الجهرية قراءةَ الإمامِ يكفيه، ومذهبُ أبي حنيفة: لا يقرأها؛ لا في السرية، ولا في الجهرية. * * *

607 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - انصرفَ من صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءةِ، فقال: "هل قرأَ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، فقالَ رجلٌ: نعم يا رسولَ الله، قال: "إني أقولُ: ما لي أُنازَعُ القرآنَ! "، قال: فانتهى الناسُ عن القراءةِ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جهرَ فيه بالقراءة من الصلاةِ حينَ سَمِعُوا ذلكَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "انصرف"؛ أي: فرغ. "آنفًا"؛ يعني: الآن. قوله: "أُنازَع" بضم الهمزة وفتح الزاي، والهمزة للمتكلم، وهو فعل مضارع لم يُسمَّ فاعله، ومفعولُهُ الأول مضمرٌ فيه، و"القرآن" مفعوله الثاني، ومعناه: أني يُشوَّشُ عليَّ في القراءة بجهرِ بعضِ المأمومين بالقراءة. "قال: فانتهى الناسُ عن القراءة"، (انتهى)؛ أي: ترك، ومعناه في قول من قال: لا يقرأ المأمومُ الفاتحةَ في الجهرية: أنهم تركوا القراءة خلف الإمام في صلاة الجهرية، وفي قول من قال: (يقرأها) معناه: أن الناسَ تركوا رفعَ الصوت في القراءة خلف الإمام. * * * 608 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُصلِّي يُنَاجي ربَّه، فلينظرْ ما يُناجيه به، ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ بالقرآنِ". قوله: "مناج": أصله مناجي، فأُسكِنت الياء وحُذِفت، وهو اسم فاعل من (ناجى): إذا جرى سرٌّ وكلامٌ خفيٌّ بين اثنين. "فلينظرْ ما يُناجيه به"؛ يعني: فليكن قلبه حاضرًا في ذلك الوقت؛ ليصحِّحَ القراءة، ولتكن قراءته عن التعظيم.

قوله: "ولا يجهر بعضكم على بعض"؛ يعني: ليقرأْ كلُّ واحد ما يقرأ من غير رفع صوتٍ حتى لا يشوش القراءة على الآخرين، فإنهم لو رفعوا أصواتهم لا يدري كلُّ واحد ما يقرأ، ولا يكونُ له حضورٌ. رواه أبو حازم التمَّار، عن البَيَاضي، عن رسول الله عليه السلام. * * * 609 - وعن أبي هريرة أنه قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤُتَمَّ بِهِ، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا قرأَ فأنصِتُوا". قوله: "ليؤتَمَّ"؛ أي: ليُقتدَى. * * * 610 - وقال عبد الله بن أبي أَوْفَى: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيعُ أن آخُذَ من القرآنِ شيئًا، فعلِّمْنِي ما يُجْزِئني، قالَ: "قلْ: سُبحانَ الله، والحمدُ للَّهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم"، قال: يا رسولَ الله!، هذا للَّهِ، فما لي؟، قال: "قلْ: اللهمَّ ارحمني، وعافِنِي، واهدِنِي، وارزُقني". قوله: "إني لا أستطيع أن آخذ ... " إلى آخره، اعلم أن هذه الواقعة لا يجوزُ أن تكون في جميع الأزمان؛ لأن مَنْ يقدرُ على تعلم هذه الكلمات يقدرُ على تعلم الفاتحة لا محالةَ، بل تأويله: لا أستطيع أن أتعلم شيئًا من القرآن في هذه الساعة، وقد دخل عليَّ وقت الصلاة، فقال رسول الله عليه السلام: "قل سبحان الله ... " إلى آخره. فمن دخل عليه وقتُ صلاة مفروضة، ولم يعلمْ الفاتحةَ، ويعلمُ شيئًا من

التسبيحات، لزمه أن يقولها في تلك الصلاة بدلَ الفاتحة، فإذا فرغ من تلك الصلاة، لزمه أن يتعلم الفاتحةَ، فمن لم يعلم الفاتحة، وعلم شيئًا من القرآن، لزمه أن يقرأ ما يعلمُ من القرآن بقدر الفاتحة في عدد الآيات، وهي سبع آيات، وفي الحروف، ولا يجوز أن ينقص منها، فإن لم يعلم شيئًا من القرآن لزمَه أن يقول هذه الكلماتِ؛ لأن النبي - عليه السلام - علَّمَها ذلك الرجلَ أن يقرأها في الصلاة، ولأنه رُوي أن النبي - عليه السلام - قال: "أفضلُ الذِّكرِ بعد القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". قوله: "هذا لله فما لي"؛ يعني: هذه الكلماتُ ذِكرُ الله، علِّمْني شيئًا يكون فيه دعاءٌ لي واستغفارٌ. كنية "عبد الله": أبو معاوية، واسم "أبي أوفى": علقمة بن خالد الأسلمي. * * * 612 - ورُوِيَ عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قرأَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقلْ: بلى، وأنا على ذلكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، ومَنْ قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقلْ: بلى، ومَنْ قرأَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقلْ: آمَنِّا بالله". قوله: {بَعْدَهُ}؛ أي: بعد القرآن. وهذا الحديث يدل على استحباب إجابة العبدِ ربَّه فيما يقرأ من القرآن. "فيما يأمره أو ينهاه"؛ يعني: إذا قرأ آيةً يأمره الله تعالى فيها فَلْيقلْ: سمِعْنا وأطَعْنا، وإذا قرأ آيةَ نهيٍ فَلْيقلْ: انتَهَيْنا، وإذا قرأ آيةَ رحمةٍ فَلْيَسأَلِ الله تعالى رحمتَه، وإذا قرأ آيةَ العذابِ فَلْيتعوَّذْ بالله من عذابه.

12 - باب الركوع

فعند الشافعي تجوز هذه الأشياء في الصلاة وغيرها، وعند أبي حنيفة: لا تجوز إلاَّ في غير الصلاة. * * * 613 - وعن جابر قال: قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابهِ سورَةَ الرحمنِ فسكَتُوا، فقال: "لقدْ قرأتُها على الجنِّ فكانُوا أحسنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كلَّما أَتيتُ على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: لا بشيءٍ من نِعَمِكَ رَبنا نكذبُ، فَلَكَ الحَمْدُ"، غريب. قوله: "أحسن مردودًا"؛ أي: أحسن ردًّا وإجابةً، و (المردود) هنا بمعنى: الرد؛ لأنه جاء في بعض الروايات: "أحسن ردًّا". قوله: "فبأي آلاء ربكما تكذِّبان": الخطاب للإنس والجن، (الآلاء): النِّعَم؛ يعني: أيُّ نِعَمٍ مما أَنعَمَ الله تعالى عليكم تجحدون؛ يعني: تعلمون أن كلَّ النَّعَمِ من الله تعالى ثم تجحدون نعمةً بتركِ شكرِهِ وتكذيبِ رُسلِه وعصيانِ أمرِه. * * * 12 - باب الرُّكُوع (باب الركوع) مِنَ الصِّحَاحِ: 614 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقيموا الركوعَ والسجودَ، فوالله إني لأراكم مِن بعدِي".

قوله: "أَقِيمُوا"؛ أي: أَتِمُّوا. "من بعدي"؛ أي: من خلفي؛ يعني: أني أَعلمُ ما تفعلون خلفَ ظهري من نقصان الركوع والسجود. * * * 614/ م - وقال البراء: كانَ ركوعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَسجودُهُ وجلوسُه بين السجدَتَيْن، وإذا رَفَعَ من الركوعِ ما خَلاَ القيامَ والقُعُودَ قريبًا من السَّواءِ. قوله: "ما خلا"؛ أي: ما عدا؛ يعني: كان قيامُه وقعودُه للتشهُّد طويلَين، وباقي أركان الصلاة متماثلًا لم يكن طويلًا. قوله: "قريبًا من السواء"؛ أي: قريبًا من التماثُل؛ أي: يُشبه بعضُها بعضًا. * * * 615 - وقال أنس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قالَ: "سَمِعَ الله لِمَنْ حمدَهُ" قام حتى نقول: قد أَوْهَمَ, ثم يسجدُ ويقعدُ بينَ السجدتينِ حتى نقولَ: قد أوهمَ. قوله: "حتى نقول": بالرفع، وكذلك حيث دخل (حتى) على لفظ مضارع بمعنى الماضي لا ينصبه (حتى). "قد أوهم": إذا ترك آية من القرآن. و (أَوهَمَ): إذا أَوقَعَ أحدًا في الغلط، فعلى معنى الترك يكون معناه: وقف حتى قلنا: إنه ترك ذلك الركوعَ والاعتدالَ وعاد إلى القيام من غاية طول قيامه، وعلى معنى الإيقاع في الغلط يكون لفظ (أُوهِم) بضم الهمزة وكسر الهاء؛ أي أُوقع في الغلط ووقفَ من السهو. * * *

616 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أن يقولَ في ركوعُهُ وسجودِهِ: "سبحانَكَ اللهمَّ ربنا وبحمدِك، اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآنَ. قوله: "يتأوَّل القرآن"، (يتأول)؛ أي: يُفسِّر؛ يعني: يقول معنى القرآن بعبارته، ولكن لا يقرأ القرآنَ في الركوع. قوله: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك": هذا إجابة قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الطور: 48]. قوله: "اللهم اغفر لي": هذا إجابة قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون: 118]. * * * 617 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ في ركوعهِ وسجودِه: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ". قوله: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ" معناهما: طاهر مُنزَّه عن أوصاف المخلوقات، و (سُبُّوح قُدُّوس) خبران، مبتدؤهما محذوف، تقديره: ركوعي وسجودي لمَن هو سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ. "ربُّ الملائكة والرُّوح"، و (الروح): اسم جبريل، والروح أيضًا: اسم مَلَكٍ يكون إذا وقف كجميع الملائكة إذا وقفوا، وأَفرد (الروح) هنا بالذكر مع أنه من الملائكة؛ للتشريف والتخصيص. * * * 618 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني نُهيتُ أنْ أَقْرَأَ القرآنَ راكعًا أو

ساجِدًا، فأمَّا الركوعُ فعظِّمُوا فيهِ الربَّ، وأمَّا السُّجودُ فاجتهدُوا في الدُّعاءِ، فَقَمِنٌ أن يُستجَابَ لكم". قوله: "فعظِّموا فيه الربَّ"؛ أي: قولوا: سبحان ربي العظيم. قوله: "فاجتهدوا في الدعاء": والمراد به الدعاء بعد قوله: سبحان ربي الأعلى، وليس المراد: أن يدعوَ الرجلُ في السجود من غير أن يقولَ: سبحان ربي الأعلى. قوله: "فقَمِنٌ"؛ أي: جديرٌ وحقيقٌ "أن يُستجابَ لكم"؛ لأن السجودَ أقربُ ما يكون فيه العبدُ إلى ربه، فيكون الدعاءُ في تلك الحالة أقربَ إلى الإجابة، وإنما نَهَى عن القراءة في الركوع والسجود؛ لأن القراءةَ موضعُها القيامُ، وكلُّ موضعٍ مخصوصٌ بشيءٍ. * * * 619 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ الإِمامُ: سمعَ الله لِمَنْ حمدَهُ؛ فقولُوا: اللهم رَبنا لك الحمدُ، فإنَّه مَن وافَق قولُه قولَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبهِ". قوله: "فإنه مَنْ وافَقَ قولُه قولَ الملائكة"؛ يعني: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، تقول الملائكة: ربنا لك الحمد، فقولوا أنتم أيضًا: ربنا لك الحمد. * * * 621 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعَ رأسهُ من الركوع، قال: "ربنا لكَ الحمدُ مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرضِ ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمَجْدِ، أَحَقُّ ما قالَ العبدُ، وَكُلُّنا لكَ عبدٌ، اللهم

لا مانِعَ لِمَا أَعطيتَ، ولا مُعطيَ لِمَا مَنعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ". قوله: "أهل الثناء والمجد": يجوز (أهل) بالرفع على تقدير: أنتَ أهلُ الثناء، ويجوز بالنصب على تقدير: يا أهلَ الثناء والمجد. "أحقُّ ما قال العبد"، (أحق)؛ أي: أَولى، تقدير هذا الكلام: أنتَ أحقُّ بما قال العبدُ لك من المدح من غيرك. قوله: "ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ"، (الجَد): الغنى والعظمة، تقديره: ولا ينفع الجَدُّ ذا الجَدِّ منك؛ أي: لا يمنع عظمةُ الرجلِ وغِنَاه عذابَك عنه إن شئتَ به عذابًا وهلاكًا، بل لا ينفعُه إلا طاعتُك. * * * 622 - عن رِفَاعة بن رافعٍ قال: كنا نُصلِّي وراءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رفعَ رأْسهُ من الركعةِ قال: "سمعَ الله لمن حَمدَه"، فقالَ رجلٌ وراءَه: ربنا ولكَ الحمدُ حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيهِ، فلما انصرفَ قال: "مَن المُتَكلِّم؟!، رأيتُ بضعةً وثلاثينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَها أَيُّهُم يكتُبها أَوَّل". قوله: "يكتبُها أولُ"، (أول): مبني على الضم، حُذف منه المضاف إليه، وتقديره: أولهم؛ يعني: كل واحد منهم يُسرع ليكتبَ هؤلاء الكلماتِ قبلَ الآخرين، ويصعدَ بها إلى حضرة الله تعالى؛ لعظم قَدْر هؤلاء الكلمات. * * * مِنَ الحِسَان: 623 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجْزِئُ صلاةُ الرجلِ حتى يُقيمَ ظهرَهُ في

الركوعِ والسُّجودِ"، صحيح. قوله: "لا تُجزِئ صلاة الرجل"، أَجْزَأَ يُجزِئ: إذا أَغْنَى؛ يعني: لا تجوز صلاةُ مَن لا يستوي ظهرُه في الركوع والسجود، والمراد منها: الطمأنينة، والطمأنينةُ واجبةٌ في الركوع والسجود والرفع فيها عند الشافعي وأحمد، وليستْ بواجبةٍ فيهن عند أبي حنيفة. * * * 624 - وعن عُقْبة بن عامر قال: لمَّا نَزلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلُوهَا في ركوعِكُم"، فلما نزلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجْعَلُوهَا في سجودِكم". "اجعلوها في ركوعكم"؛ يعني: قولوا في الركوع: سبحانَ ربي العظيم، وفي السجود: سبحانَ ربي الأعلى. * * * 625 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ركعَ أحدُكم فقالَ في ركوعِهِ: سبحانَ ربي العظيمِ ثلاثَ مراتٍ؛ فقد تَمَّ ركوعُه، وذلك أَدناهُ، وإذا سجدَ فقالَ في سجودِه: سبحانَ ربي الأَعلى ثلاثَ مراتٍ؛ فقد تمَّ سجودُه، وذلكَ أَدناه"، ليس بمتصلٍ. قوله: "أدناه"؛ أي: أقلُّه. واعلم أن أقلَّ الركوع أن يطمئنَّ بحيث يقول: سبحانَ ربي العظيم مرةً واحدةً، وقولُ: سبحانَ ربي العظيم سُنَّةٌ، وكذلك بحثُ السجود، والمراد من قوله: (أدناه)؛ أي: أدنى الكمالِ، وأكملُ الكمالِ أن يزيدَ سبحانَ ربي العظيم إلى

13 - باب السجود وفضله

سبع مرات، ويقول: اللهم لك ركعت ... إلى آخره، كما تقدم، وفي السجود يقول: اللهم لك سجدت ... إلى آخره، كما تقدم. * * * 13 - باب السُّجود وَفضْله (باب السجود وفضله) مِنَ الصَّحَاحِ: 627 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن أَسجُدَ على سبعةِ أَعْظُمٍ: على الجَبْهةِ، واليدَينِ، والرُّكبتَينِ، وأطرافِ القَدَمينِ، ولا نكَفِتَ الثِّيابَ والشَّعْرَ". قوله: "أُمرت أن أَسجدَ على سبعة أَعظُم"، (الأَعظُم) جمع: عَظْم. "واليدين"؛ أي: الكفَّين؛ يعني: أُمرت أن أضعَ هذه الأعضاءَ السبعةَ على الأرض إذا سجدتُ. قوله: "ولا نكفتَ الثيابَ والشَّعرَ"، (الكَفْتُ): الضمُّ والجمعُ؟ يعني: ألا أضمَّ ثيابي وشَعري إلى نفسي، وألا أرفعَها عن الأرض، بل أُمرت أن أتركَها حتى تقعَ على الأرض؛ ليسجدَ جميعُ أعضائي وثيابي. فبهذا الحديث قالوا: يُكرَه فتلُ الشَّعر وعقدُه خلفَ القفا ورفعُ الثياب عند السجود. واعلم أن مذهبَ الشافعيِّ وأكثرِ الأئمة وجوبُ وضعِ الجبهة، ووضعُ الأنف سُنَّةٌ.

وقال أبو حنيفة: أيُّ واحدٍ من الجبهة والأنف في السجود وضعَه جازَ. وقال الشافعي: يجب كشفُ الجبهة في السجود. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يجوز ألا يكشفَ جبهتَه، وأما وضعُ الكفَّين والركبتَين والقدَمَين على الأرض في السجود فلا يجب عند أكثر العلماء وفي أحد قولَي الشافعي، وفي قوله الثاني: يجب، ثم هل يجب كشفُ الكفَّين والقدمَين أم لا؟ فيه قولان؛ الأصحُّ أنه لا يجب. * * * 628 - وقال: "اعتدلُوا في السُّجود، ولا يبسُطْ أحدُكم ذراعَيْهِ انبساطَ الكلبِ". قوله: "اعتَدِلُوا في السجود"، و (الاعتدال): الاستواء؛ يعني: لِيَضَعْ أحدُكم كفَّيه على الأرض في السجود، وَلْيَرفَعْ مِرْفَقَيه عن الأرض وبطنَه عن فخذَيه، هذا هو الاعتدال في السجود. قوله: "ولا يَبسطْ أحدُكم ذراعَيه انبساطَ الكلب"، وفي بعض النسخ: "إبساطَ الكلب" بوزن: إفعال، وهذا خطأ؛ بل (انبساط الكلب) بوزن: انفعال؛ يعني: لِمَ يفترشُ أحدُكم ذراعَيه كما يفترشُ الكلبُ ذراعَيه؟! وافتراشُ الذراعَين: أن يضعَ المِرْفَقَين والكفَّين على الأرض. * * * 630 - وقالت مَيْمُونة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ جافَى بينَ يديهِ، حتى لو أنَّ بَهْمَةً أرادَتْ أن تمرَّ تحتَ يديْهِ لَمَرَّتْ. قوله: "جافَى"؛ أي: أَبْعَدَ.

"البَهْمَة": ولد الضَّأن؛ يعني: فرَّق بين يدَيه وجنبَيه بحيث تَقدِرُ سَخْلَةٌ أن تمرَّ بين يدَيه وجنبَيه. * * * 631 - وقال عبد الله بن بُحَيْنَة: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ فرَّج بينَ يديهِ، حتى يبدُوَ بياضُ إبْطَيْهِ. قوله: "فرَّج"؛ أي: وسَّع. "بُحَينة" اسم أم "عبد الله"، وأبوها: الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وأبو (عبد الله) اسمه: مالك بن القِشْب الأزدي، وكنية (عبد الله): أبو محمد. * * * 632 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ يقولُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سجودِهِ: "اللهم اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وأَوَّلَه وآخرَه، وعلانيتَه وسِرَّه". قوله: "دِقَّه"؛ أي: صغيرَه، "جِلَّه" بكسر الجيم؛ أي: كبيرَه. * * * 633 - وقالت عائشةُ: فقدتُ ليلةً رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من الفِراشِ، فالتمستُهُ، فوَقَعَتْ يدي على بطْنِ قدميْهِ - وهو في المسجدِ - وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم أعوذُ برضاكَ من سخطكَ، وبمُعافاتِكَ من عُقوبَتِكَ، وأَعوذُ بكَ منكَ، لا أُحصي ثناءً عليك، أنتَ كَما أَثنيتَ على نفْسك". قولها: "فقدتُ رسولَ الله - عليه السلام - ليلةً من الفراش"، فَقَدَ ضد وَجَدَ.

"فالتمستُه"؛ أي: طلبتُه، "فوقعتْ يدي"؛ يعني: طلبتُه باليد، فمددتُ يدي من الحُجرة إلى المسجد، فوقعتْ يدي على تحت قدمه، وهو في السجود. "أعوذ برضاك من سخطك"؛ أي أَطلبُ رضاك وأسألك ألا تَسخطَ عليَّ؛ يعني: ألا تُؤاخذَني بفعلٍ يُوجِبُ سخطَك، وكذلك معنى: "وبمعافاتك من عقوبتك"؛ يعني: أَطلبُ أن تُعافيَني ولا تُعاقبني. "وأعوذ بك منك"؛ يعني: أَفرُّ إليك مِن أنْ تعذِّبني بذَنْبي وتقصيري في طاعتك. "لا أُحصي ثناءً عليك"؛ أي: لا أُطيقُ أن أُثْنِيَ عليك كما تستحقُّه وتحبُّه، بل أنا قاصرٌ عن أن يبلغَ ثنائي قَدْرَ استحقاقك. "أنت كما أثنيتَ على نفسك" بقولك: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 - 37]، وما أشبه ذلك من الآيات التي حمدتَ نفسَك فيها. * * * 634 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ ربه وهو ساجدٌ، فأكثِروا الدُّعاءَ". قوله: "وهو ساجد"، الواو في (وهو ساجد) للحال؛ يعني: أقربُ حالات العبد من ربه حالَ كونه ساجدًا، وإنما يكون العبدُ في السجود أقربَ من ربه من سائر أحواله؛ لأن العبدَ بقَدْرِ ما يَبْعُدُ عن نفسه يَقْرُبُ من ربه، والسجودُ غايةُ التواضعِ وتركِ التكبُّر عن النفس؛ لأن النفسَ لا تأمر الرجلَ بالمَذلَّة والتواضع، بل تأمره بخلاف ذلك، فإذا سجدَ فقد خالَفَ نفسَه وبَعُدَ عنها، فإذا بَعُدَ عنها قَرُبَ من ربه، وإذا قَرُبَ من ربه يكون دعاؤُه مقبولاً؛ لأن

الحبيبَ يحبُّ حبيبَه المُطيعَ، ويَقبَل ما يقول ويسأل. * * * 635 - وقال: "إذا قرأَ ابن آدمَ السجدةَ فسجدَ؛ اعتزلَ الشيطانُ يبكي يقولُ: يا ويلتا! أُمِرَ ابن آدمَ بالسجودِ فسجدَ فلهُ الجنةُ، وأُمِرْتُ بالسجودِ فأَبَيْتُ فليَ النارُ". قوله: "إذا قرأ ابن آدمَ السجدةَ"؛ يعني: إذا قرأ آيةً فيها سجدةٌ, كآية آخر الأعراف وما أشبهها، ويأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. "اعتزلَ"؛ أي: انفصل وانحرف من عند الرجل الذي يريد وسوستَه، وبَعُدَ إلى جانب آخر. و"يبكي" على خسارته. "يا ويلَتَا" أصله: يا وَيْلِي، فقُلبت ياءُ المتكلم تاءً، وزِيدت ما بعدها ألفُ النُّدبة. * * * 636 - قال ربيعة بن كعبٍ الأَسْلَمي: كنتُ أبيتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فآتيه بِوَضُوئهِ وحاجتِهِ، فقالَ لي: "سَلْ"، فقلْتُ: أسألُكَ مرافقتَكَ في الجنةِ! قالَ: "أَوَغَيْرَ ذلكَ؟ "، فقلتُ: هو ذاكَ، فال: "فأَعِنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السجودِ لِلَّهِ". قوله: "فقال لي: سَلْ"؛ يعني: قال لي رسولُ الله عليه السلام: اطلُبْ مني حاجةً. قوله: "قال: أَوْ غيرَ ذلك؟ " بسكون الواو؛ يعني: مسؤولُك ومطلوبُك ذلك

أو غير ذلك؛ فإن ذلك درجةٌ عاليةٌ؟ قال ليس لي حاجةٌ غير ذلك. قوله: "فأَعنِّي على نفسك بكثرة السجود"، يقال: أَعنتُ زيدًا على أمرٍ؛ أي: صِرتُ عونًا له في تحصيل ذلك الأمر، فههنا معناه: كُنْ عونًا لي في إصلاح نفسك، واجعَلْها طاهرةً مستحقةً لِمَا تطلب؛ فإني أَطلبُ إصلاحَ نفسك من الله، وأطلبُ منه أيضًا إصلاحَها بكثرة السجود؛ فإن السجودَ كاسرٌ للنفس مُذِلٌّ لها، وأيُّ نفسٍ انكسرت، فذلَّتْ وانقادَتْ استحقَّتِ الرحمةَ. جدُّ "ربيعة": مالك بن يَعمَر الأسلمي. * * * 637 - وقال مَعْدَان بن أبي طَلْحة: لقيتُ ثوبانَ مَوْلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: أخبرني بعملٍ يُدخلني الله به الجنةَ؟، فقال: سألتُ عن ذلكَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "عليكَ بكثرةِ السجودِ للَّهِ، فإنَّك لا تسجدُ للَّهِ سجدةً إلا رفَعكَ الله بها درجةً، وحطَّ عنكَ بها خَطيئةً". قوله: "عليك بكثرة سجود" أراد بـ (السجود): أن يسجدَ في الصلاة، أو سجدة التلاوة أو الشكر، وأما السجود في غير الصلاة وغير سجود السهو والتلاوة والشكر - كما هو عادة بعض الناس - فالأصحُّ أنه لا يجوز. * * * مِنَ الحِسَان: 638 - عن وائل بن حُجْر قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ وضعَ ركبتيهِ قَبْلَ يديهِ، وإذا نهضَ رفعَ يديهِ قبلَ ركبتيهِ.

14 - باب التشهد

قوله: "نهض"؛ أي: قامَ. * * * 639 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سجدَ أحدُكم فلا يَبْرُكْ كما يَبرُكُ البعيرُ، وَلْيَضَعْ يديهِ قبلَ ركبتيهِ". وحديثُ وائل بن حُجْر أثبتُ من هذا، وقيل: هذا منسوخٌ. قوله: "فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ"؛ يعني: [لا] يضع ركبتَيه على الأرض قبلَ يدَيه، وَلْيَضَعْ يدَيه قبل ركبتَيه. وبهذا قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يضع المُصلِّي ركبتَيه قبلَ يدَيه، كما ذُكر قبل هذا في حديث وائل بن حجر. فإن قيل: كيف شبَّه وضعَ الرُّكبة قبل وضع اليدَين ببُروك الجَمَل، مع أن الجَمَلَ يضع يدَيه قبل رِجلَيه؟ قلنا: لأن رُكبةَ الإنسانِ في الرِّجل، ورُكبةَ الدوابِّ في اليد، فإذا وضعَ الرَّجلُ ركبتَه أولاً فقد شابَهَ الجَمَل في البُروك. * * * 14 - باب التَّشهُّدِ (باب التشهد) مِنَ الصِّحَاحِ: 642 - قال ابن عمر: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ في التشهدِ وضعَ يدَهُ

اليُسرى على ركبتِهِ اليُسرى، ووضعَ يدَهُ اليُمْنَى على ركبتِهِ اليُمْنَى، وعقدَ ثلاثةً وخمسينَ، وأشارَ بالسَّبَّابَةِ. وفي روايةٍ: وضعَ يديهِ على ركبتيْهِ، ورفعَ إصبَعَهُ التي تلي الإِبهامَ اليُمنَى يَدعُو بها، ويدَه اليُسرى على ركبتِهِ باسِطَها عليها. قوله: "عَقَدَ ثلاثةً وخمسين"؛ أي: أخذَ أصبعَه كما يأخذ المُحاسب عقدَ ثلاثةٍ وخمسين. "السبَّابة": المُسبحة. "تلي الإبهام"؛ أي: تَقرُب من الإبهام، وهي المُسبحة أيضًا. "يدعو بها"؛ أي: يشير بها، والإشارة لِتكنْ عند قول الرجل في الشهادة: إلا الله، يرفع أصبعَه ويشير بها إلى وحدانية الله تعالى بالإلهية. * * * 643 - عن عبد الله بن الزُّبير أنه قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليُمنى على فخذِه اليمنى، ويدَه اليُسرى على فخذِه اليُسرى، وأشارَ بإصبعهِ السبَّابةِ، ووضعَ إبهامَه على إصبعِهِ الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليُسرى ركبتَه. قوله: "يدعو"؛ أي: يقرأ التحيات. "ويُلقِمُ كفَّه اليسرى"، (التلقيم): أن يُعطي أحدًا لقمةً؛ يعني: أَخذ رُكبتَه بكفِّه اليسرى حتى صارت ركبتُه كلقمةٍ في كفِّه. * * * 644 - قال عبد الله بن مَسْعود: كنا إذا صلَّينا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلنا: السلامُ

على الله - قبلَ عبادِهِ - السلامُ على جبريلَ، السلامُ على ميكائيلَ، السلامُ على فلانٍ، فلما انصرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أَقْبَلَ علينا بوجهِهِ فقال: "لا تقولوا: السلامُ على الله، فإنَّ الله هو السلامُ، فإذا جلسَ أحدُكم في الصلاةِ فليقلْ: التحياتُ للَّهِ والصلواتُ والطيباتُ، السلامُ عليكَ أيها النَّبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحينَ، فإنه إذا قالَ ذلك، أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماءِ والأرض، أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، ثم ليتخَيَّرْ من الدعاءِ أعجبَهُ إليه فيدعو به". قوله: "السلام على الله قبل عباده"؛ يعني: قبلَ أن يُعلَّمَنا رسولُ الله - عليه السلام - التحياتِ كنا نقول هذه الألفاظَ، فنهانا رسولُ الله - عليه السلام - عن هذه الألفاظ. قوله: "لا تقولوا: السلامُ على الله"؛ يعني: قول الرجل للرجل: السلامُ عليك، معناه: أنتَ آمِنٌ من شرِّي، وهذا اللفظ لا يجوز أن يقال لله؛ لأنه منزَّه عن أن يلحقَه ضررٌ. قوله: "فإن الله هو السلامُ"؛ يعني: هو الذي يخلص عبادَه ويحفظهم عن الآفات، ولا تصل إليه آفةٌ وضررٌ. "التحيات" جمع: تحية، وهي المُلك، وإنما جُمع لأن أنواعَ مُلكه كثيرةٌ؛ يعني: جميعُ العظمةِ وأنواعِ المُلكِ لله، وقيل: التحية: السلام؛ يعني: إطلاق التحية بالأسماء الحسنى - كقوله: الرحمن الرحيم الملك القدوس ... إلى آخر الأسماء التسعة والتسعين - لله. قوله: "والصلوات"؛ أي: جميع أنواع الرحمة لله تعالى على خلقه. قوله: "والطيِّبات"؛ أي: الثناءُ الطيِّبُ بأنواع التسبيحات لله، والأفعالُ والأقوالُ الطيِّبةُ التي تصدر من المؤمنين توفيقٌ من الله تعالى لعباده.

"التخيُّر" مثل: الاختيار. "أعجبه"؛ أي: رَضيَه وأحبَّه، فيدعو بما يحبُّ من الدعوات من أمر الدِّين والدنيا؛ بشرط أن يكون بالعربية. * * * 645 - وقال عبد الله بن عباس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهدَ كما يعلِّمنا السُّورةَ من القرآنِ، فكانَ يقولُ: "التحياتُ المُباركاتُ الصَّلواتُ الطَّيِّباتُ للَّهِ، سلامٌ عليكَ أيُّها النبيُّ! ورحمةُ الله وبركاتُهُ، سلامٌ علينا وعلى عبادِ الله الصالحينَ، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله". قوله: "يُعلِّمنا التشهُّدَ"؛ أي: قراءةَ "التحيات المباركات"؛ أي: الأشياء التي بُورِكَ فيها من الله تعالى، والبركة منه، ومعنى البركة: الزيادة، وبارَكَ: إذا زادَ. * * * مِنَ الحِسَان: 646 - عن وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم جلسَ فافترشَ رجلَهُ اليُسرى، ووضعَ يدَه اليُسرى على فخذِهِ اليُسرى، وحدَّ مِرْفقَه اليُمنى على فخذِه اليُمنى، وقبضَ ثِنتينِ، وحلَّق حلقةً، ثم رفعَ إصبعَهُ، فرأيتُهُ يُحرِّكُها يَدعُو بها. قوله: "وحدَّ مِرْفقَه اليمنى عن فخذه"؛ أي: رفعَ مِرفقَه عن فخذه، وجعلَ عظمَ مرفقه كأنه رأسُ وتدٍ. "وقبضَ ثِنتينِ"؛ أي: الخِنْصِر والبنصِر. "وحلَّق"؛ أي: أخذَ إبهامَه بأصبعه الوسطى "ورفع أصبعَه"؛ أي مسبحتَه

"يدعو بها"؛ أي: يشير بها إلى وحدانية الله تعالى. * * * 647 - وعن عبد الله بن الزُّبير: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُشيرُ بإصبعِهِ إذا دَعَا، ولا يُحَرِّكُها، ولا يُجاوزُ بصرُه إشارَتَهُ. قوله: "ولا يُحرِّكها": اختُلف في تحريك الأصبع إذا رفعها للإشارة؛ الأصحُّ أنه إذا رفعَها يضعُها من غير تحريكٍ. قوله: "ولا يجاوز بصرُه إشارتَه"؛ يعني: لا ينظر إلى السماء حين أشار بأصبعه إلى وحدانية الله تعالى، بل ينظر إلى أصبعه وحِجْرِه؛ يعني: لا ينظر إلى السماء عند الإشارة كما هو عادة بعض الناس؛ لأن النظرَ عند الإشارة إلى السماء يوهم أن الله في السماء، ولا يجوز هذا الاعتقادُ؛ فإن الله تعالى منزَّهٌ عن المكان. * * * 648 - عن أبي هريرة: أن رجلاً كانَ يدعو بإصبَعَيْهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحِّدْ أَحِّدْ". قوله: "يدعو"؛ أي: يشير. "أحِّد" بتشديد الحاء: هو أمر مُخاطَب من: التوحيد، وهو القول والشهادة بأن الله واحد، وأصل أَحِّد: وَحِّد، قُلبت الواو همزًا؛ يعني: ارفَعْ أصبعًا واحدةً؛ لأنك تشير إلى وحدانية مَن هو واحدٌ. * * * 649 - وعن ابن عمر أنه قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلسَ الرجلُ في الصلاةِ وهو مُعتمِدٌ على يدَيه.

ويُروى عنه: نهى أن يعتَمِدَ الرجلُ على يديهِ إذا نهضَ في الصلاةِ. قوله: "وهو معتمد على يده"؛ أي: وهو متَّكِئ على يده؛ يعني: إذا جلس للتشهد لا يضع يده على الأرض، بل يضعها على ركبته. قوله: "أن يعتمد الرجلُ على يدَيه إذا نهض في الصلاة"؛ يعني: لا يضع يديه على الأرض ولا يتكِئ عليهما إذا قام إلى القيام، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يضع يدَيه على الأرض ويتكِئ عليها إذا قام إلى القيام. * * * 650 - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأُوليينِ كأنه على الرَّضْفِ حتى يقومَ. قوله: "كأنه على الرَّضْف"، (الرَّضف): الحَجَرُ الحارُّ. يعني بـ "الركعتَين الأولَيَين": التشهد الأول من صلاةٍ هي ثلاثُ ركعاتٍ أو أربعٌ؛ يعني: لا يلبث في التشهد الأول كثيرًا، بل يقوم إذا فرغ من التحيات والصلاة، ولا يدعو ولا يقرأ: "كما صلَّيتَ" (¬1). ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فهذا التشبيهُ من حيث أصلُ الصلاة، لا من حيث المُصلَّى عليه؛ لأن نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ من إبراهيم عليه السلام، فمعناه: اللهم صلِّ على محمدٍ بمقدار فضله وشرفه - أي: محمد - عندك، كما صلَّيت على إبراهيم بمقدار فضله وشرفه عندك، وهو كما قال تعالى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200]؛ يعني: اذكروا الله بقَدْر نعمته وأياديه عليكم، كما تذكرون آباءكم بمقدار نعمتهم عليكم، أو أشد ذكرًا، بل أشد ذكرًا، وتشبيه الشيء بالشيء يصبح من وجهٍ واحدٍ، وإن كان لا يشبهه من كل وجه، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]؛ يعني: من وجهٍ واحدٍ، وهو خلقُه بغير تراب" من تفسير أبي سليمان.

15 - باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلها

قوله: "كأنه على الرَّضْف"؛ يعني: كمَنْ هو قاعدٌ على حَجَرٍ حارٍّ لا يلبث في القعود، بل يقوم مسرعًا، فكذلك هو - عليه السلام - يقوم مسرعًا. * * * 15 - باب الصَّلاةِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفَضْلِها (باب الصلاة على النبي عليه السلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 651 - قال كَعْب بن عُجْرة: سَأَلْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُلْنا: يا رسولَ الله!، كيف الصلاةُ عليكم أهْلَ البَيْتِ، فإنَّ الله تعالى قد علَّمنا كيف نُسَلِّمُ عليكَ؟، قالَ: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، إنك حَميدٌ مَجيدٌ". قوله: "كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيت؟ " و (أهلَ البيت): منصوب على إضمار فعل، تقديره: يعني أهلَ البيت، ويجوز (أهلِ) بالجر على أن يكون بدلًا للضمير في (عليكم)، أو عطف بيان. قوله: "فإن الله قد علَّمَنا كيف نُسلِّم عليك"، تقديره: فإن الله قد علَّمَنا كيف نُصلَّي ونُسلِّم عليك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] , والأمرُ للوجوب، والصلاةُ عليه واجبةٌ في الصلاة، ومستحبةٌ في غيرها؛ يعني: علَّمَنا بهذه الآية كيف الصلاةُ والسلامُ عليك، ولكن لا نعلم كيف نُصلِّي على أهل بيتك، هذا هو المفهوم من هذا الحديث، ولكن

قد جاء في الحديث الذي بعد هذا وفي أحاديثَ أُخَرَ في غير هذا الكتاب: أنهم سألوا عن الصلاة عليه لا على آله، فإذا كان سؤالُهم عن كيفية الصلاة عليه فقولُهم: (إن الله قد علمنا كيف السلام عليك) معناه: أن الله قد علَّمَنا بلسانك وبواسطة بيانك، كما بيَّنتَ لنا في التحياتِ: (السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُه). اعلم أنه اختلف في آل النبي؛ ففي قولٍ: آلُه: مَن حُرِّمَتْ عليه الزكاةُ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وفي قولٍ: آله: فاطمةُ والحسنُ والحسينُ وعليٌّ وأخواه جعفرٌ وعَقيلٌ وأعمامُه عليه السلام: عباس وحمزة والحارث بن عبد المطلب، وأولاد هؤلاء، وقيل: كلُّ تقيٍّ آلُه. واعلم أن قراءةَ التحيات والصلاة على النبي واجبٌ في الركعة الأخيرة عند الشافعي رحمه الله، وهو يقرأ مثل ما رواه ابن عباس. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: قراءةُ التحياتِ والصلاةِ غيرُ واجبةٍ بل مستحبةٌ، وعنده: إذا قعد في آخر الصلاة بقَدْر قراءة التشهُّد صحت صلاته وإن لم يقرأ شيئًا، وهو يقرأ التحياتِ على سبيل الاستحباب مثل ما رواه ابن مسعود. جد "كعب": أمية بن عدي، وهو أنصاري سُلَمي. * * * 652 - عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -: قالوا يا رسولَ الله!، كيفَ نُصَلِّي عليكَ؟، قال: "قولوا: اللهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِهِ، كما صلَّيتَ على آل إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ". 653 - وقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صلاةً صَلَّى الله عَلَيْه عَشْرًا".

"صلَّى الله عليه عشرًا"، الصلاةُ من الله تعالى: إعطاءُ الرحمةِ عبدَه. * * * مِنَ الحِسَان: 654 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا، وحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطيئاتٍ، ورُفِعَتْ لهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ". قوله: "من صلَّى عليَّ صلاةً ... " إلى آخره: اعلم أن عادةَ الملوك والكُرَماء إعزازُ مَن يُعِزُّ أحبابَهم وتشريفُ مَن شرَّف أخلاَّءَهم؛ فالله تعالى مالكُ الملوكِ أكرمُ الكُرَماءِ، وهو أحقُّ بهذا الكرم؛ فإنه مَن يُشرِّفْ حبيبَه ونبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأن يُصلِّي عليه يَجِدْ من الله الكريمِ الرحمةَ وحطَّ الذنوبِ ورفعَ الدرجاتِ. * * * 655 - وقال: "إنَّ أَوْلَى الناسِ بي يَوْمَ القِيامَةِ أكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً". قوله: "أَولى الناس بي": أقربُ الناس مني وأحقُّهم بشفاعتي. * * * 656 - وقال: "إنَّ لِلَّهِ مَلائِكةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُوني عَنْ أُمَّتي السَّلام". قوله: "سيَّاحين"؛ أي: ذاهبين، من ساحَ يَسِيحُ سِيَاحةً: إذا ذهبَ على وجه الأرض. "يُبلِّغوني": بتخفيف النون، وهذه النون هي نون الجمع، ونون الوقاية

ساقطة؛ يعني: إن الله تعالى أَرسلَ ملائكةَ على وجه الأرض حتى يُخبروني عمَّن صلَّى أو سلَّم عليَّ. * * * 657 - وقال: "ما مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلاَّ رَدَّ الله عَلَيَّ رُوحي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ". قوله: "ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ": ذُكر شرحُه قبلَ هذا، رواه أبو هريرة. و"ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلامَ"؛ يعني: أقول: وعليكَ السلامُ. * * * 658 - وقال: "لا تَجْعَلُوا قَبْري عِيْدًا، وصَلُّوا عَلَيَّ، فإن صَلاتَكُمْ تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُم". قوله: "لا تجعلوا قبري عِيدًا", (العيد): هو الوقت الذي يجتمع فيه الناس لصلاةٍ كعيد الفطر والأضحى، أو للتنزُّه كما هو عادة أهل الجاهلية، وعادة اليهود أن يجتمعوا لزيارة أنبيائهم ويلعبون ويتفرجون عند ذلك، فنَهَى النبيُّ - عليه السلام - أُمتَه عن أن يتخذوا قبره مجتمعَهم، ويقصده الناسُ من كل بلدٍ. ونهيُه - عليه السلام - أُمتَه عن ذلك يحتمل وجوهًا: أحدها: دفع المشقة عنهم؛ لأن كلَّ مَن قصدَ قبرَه من بلدٍ بعيدٍ لا شك أن يلحقَه مشقةٌ في السير، ويتعطَّل عن الكسب وتحصيل قوت العيال. الثاني: كراهة أن يتخذوه معبودًا ويتجاوزوا عن قدر التعظيم، فيشبهوا تعظيمَه تعظيمَ الخالق جلَّ جلاله. الثالث: زوال وقعه وتعظيمه عن خواطرهم؛ فإنه مَن زارَ أحدًا كثيرًا زالَ

تعظيمُه عن خاطره، ولهذا كرهَ بعضُ العلماء مجاورةَ حَرَم مكةَ؛ كراهةَ أن يزولَ تعظيمُ الكعبة عن الخواطر. نعم، مَن حجَّ يُستحبُّ له زيارةُ رسول الله عليه السلام؛ لأن الحجَّ في كل سنةٍ مرةً، أو في العمر مرةً، ولا يلحق بذلك مشقةٌ عظيمةٌ إلى الرجل، ولأنه لو حجَّ ولم يَزُرْ قبرَ رسول الله - عليه السلام - يكون ذلك دليلاً على قلة اشتياق ذلك الرجل إلى قبر رسول الله عليه السلام، وعلى تعظيم الكعبة، وعدم تعظيم رسول الله عليه السلام. * * * 659 - وقال: "رَغِمَ أنفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أبَواهُ الكِبَرَ أَوْ أَحَدُهما، فَلَمْ يُدْخِلاهُ الجَنَّةَ". قوله: "رَغِمَ أنفُ رجلٍ": هذا دعاء عليه؛ أي: لحقَه ذلٌّ مجازاةً بترك تعظيمي بأن لم يُصَلِّ عليَّ إذا سمع اسمي، وتركَ تعظيمَ شهر رمضان بأن لم يتبْ فيه من الذنوب، ولم يبالغ في طاعة الله تعالى حتى يجدَ الغفران بسبب تعظيم هذا الشهر، وكذلك لحقَه ذلٌّ بترك تعظيم أبيه وأمِّه بأن يخدمَهما في جميع الأحوال، وخاصة عند الكبر؛ فإن الشخصَ عند الكبر أحوجُ إلى أن يخدمَه أحدٌ. "انسلخ": إذا مضى الشهر. قوله: "فلم يُدخِلاه الجنةَ"؛ يعني: فلم يدخل الجنةَ بترك خدمتهما. * * * 660 - عن أبي طَلْحَةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَ ذاتَ يومٍ والبشْرُ في

وَجْهِهِ، فقالَ: "إنَّه جاءَني جِبْريلُ عليه السَّلامُ فقال: إنَّ رَبَّكَ يَقولُ: أما يُرْضيكَ يا مُحَمَّدُ أن لا يُصَلِّيَ عليكَ أحدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ولا يُسَلِّمُ عليكَ أحَدٌ مِنْ أمَّتِكَ إلا سَلَّمْتُ عَلَيهِ عَشْرًا". "والبشْرُ في وجهه"، (البشْر): أثر الفرح في الوجه. (أَرْضَى يُرضي): إذا جعلَه راضيًا. اسم "أبي طلحة": زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري. * * * 661 - وعن أُبَيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قلتُ: يا رسولَ الله!، إني أُكثِرُ الصلاةَ عَليكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتي؟، فقالَ: "ما شِئْتَ"، قلتُ: الرُّبعَ؟، قال: "ما شِئْتَ، فإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لكَ"، قلتُ: النِّصفَ؟، قالَ: "ما شِئْتَ، فإنْ زِدْتَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فالثُّلُثَيْن؟، قالَ: "ما شئتَ، فإنْ زِدْتَ فهوَ خَيْرٌ لكَ"، قلتُ: أَجْعَلُ لكَ صَلاتي كلَّها؟، قال: "إذًا تُكْفَى هَمَّكَ، ويُكَفَّرُ لكَ ذَنْبُكَ". قوله: " [فكم] أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئتَ، قلت: الربعَ؟ قال: ما شئتَ، قال: فإن زدتَ فهو خيرٌ لك"، الصلاة ههنا: الدعاء؛ يعني: لي زمانٌ أدعو فيه لنفسي، فكم أَصرفُ من ذلك الزمان في الدعاء, فقال له الرسول: (ما شئتَ). قوله: "فإن زدتَ فهو خيرٌ لك": هذا دليل على أن الصلاةَ على النبي للرجل أفضلُ من الدعاء لنفسه، وإنما كان كذلك لأن الصلاةَ على النبي ذكرُ الله تعالى وتعظيمُ رسولِه، وقال رسولُ الله، عن الله تعالى: أنه قال تعالى: "مَن شغلَه ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين"؛ يعني: مَن

اشتغل بذِكري ولم يسأل مني شيئًا لنفسه أعطيتُه أكثرَ مما أُعطي السائلين. قوله: "إذا تُكْفَى همَّك"، (كفى) يتعدى إلى مفعولين، وهنا مفعولُه الأولُ فيه مُضمَرٌ أُقيم مقامَ الفاعل، و (همَّك): مفعوله الثاني، و (الهم): ما يقصده من أمر الدنيا والآخرة؛ يعني: إذا صرفتَ جميع زمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعطيتَ مرادَ الدنيا والآخرة؛ لأنه قال عليه السلام: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وكذلك قال: "مَن كان لله كان الله له"، ولا شك أن مَن اشتغل بالصلاة على النبي - عليه السلام - فقد كان لله. * * * 662 - عن فَضالَةَ بن عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: دخلَ رجلٌ فصلَّى، فقالَ: اللهمَّ اغفِرْ لي وارْحمْني، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِلْتَ أَيُّها المُصَلِّي، إذا صلَّيْتَ فقعدتَ فاحمَد الله بما هو أهلُهُ، وصَلِّ عَلَيَّ، ثم ادْعُهُ"، قالَ: ثُمَّ صَلَّى رجلٌ آخرُ بَعْدَ ذلكَ، فَحَمِدَ الله، وصلَّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّها المُصَلِّي!، ادعُ تُجَبْ". قوله: "عَجِلْتَ أيُّها المُصلِّي"؛ أي: تركتَ الترتيبَ في الدعاء؛ لأنه ينبغي أن يذكرَ الله تعالى أولاً ليحصلَ رضاه، ويؤديَ حقَّ نعمتِه عليه بتوفيقه إياه للصلاة وغيرها، ثم يُصلِّي على النبي عليه السلام؛ لأنه هو الذي هداه إلى الصراط المستقيم، وهو الوسيلةُ بينه وبين الله تعالى، فإذا أدَّى شكرَ الله وشكرَ رسولِه فقد أدَّى حقَّ الخدمة فقد استحقَّ أن يُقبَلَ قولُه، ويُستجابَ دعاؤُه. * * * 663 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: كنتُ أُصَلِّي، فلمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بالثَّناءِ

16 - باب الدعاء في التشهد

على الله تعالى، ثُمَّ بالصَّلاةِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ دَعَوْتُ لِنفْسي، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ". قوله: "سَلْ تُعْطَه": يحتمل أن يكون الهاء فيه زيادة، كما في قوله تعالى: {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ}، وتُسمى هاءَ السَّكْت، ويحتمل أن تكون للضمير، وحينَئذٍ تكون ضميرًا عن غير مذكور، وتقديره: سَلْ تُعْطَ ما تطلب. * * * 16 - باب الدُّعاء في التَّشهُّدِ (باب الدعاء في التشهد) مِنَ الصِّحَاحِ: 664 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو في الصلاة: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ منْ عذابِ القَبْرِ، وأعوذُ بكَ منْ فتنةِ المَسيح الدَّجَّال، وأَعوذُ بكَ مِنْ فتنةِ المَحْيَا وفتنةِ المَماتِ، اللهمَّ إنَّي أَعوذُ بكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ"، فقالَ له قائلٌ: ما أكثرَ ما تستعيذُ مِنَ المَغْرَمَ!، فقال: "إن رجلاً إذا غَرِمَ حدَّثَ فكَذَبَ، وَوَعَدَ فأخْلَفَ". قوله: "من فتنة المسيح"، سُمي الدجَّال مسيحًا لأن المسيحَ بمعنى الممسوح؛ يعني: عينه ممسوحة؛ أي إحدى عينَيه ذاهبةٌ، أو ممسوح عن كل خير؛ أي أُبعِدَ عن كل خير، وقيل: سُمي مسيحًا لأنه يتردد في وجه الأرض كثيرًا، بحيث لا يكون بلدٌ إلا دخلَه غيرَ مكةَ والمدينةِ، كأنه يمسح الأرضَ؛ أي يُقدِّرُها ويعدُّها بالذَّراع والشِّبر.

"المَأْثَم": الإثم، "والمَغْرَم": الغرامة والدَّين. "ما أكثرَ"، (ما) للتعجب، و (ما) في "ما تستعيذ" موصولة، و (تستعيذ) صلة، والموصول مع صلته مفعول (أكثر). "إذا غَرِم"؛ أي: إذا لزمَه دَينٌ "حدَّث فكذبَ"؛ يعني: إذا تقاضاه مستحقُّ الدَّين، ولم يكن له مالٌ يؤديه في الدَّين يكذب معه ليتخلصَ من سجنه، ويقول: لي مالٌ غائبٌ إذا حضر أُؤَدِّي دَينَك، وأُعطيك غدًا أو في المدة الفلانية، ويَكذِب وَيحلِف في ذلك؛ يعني: فَلْيَدْعُ الرجلُ أن يحفظَه الله من لزوم الدَّين؛ حتى يتخلصَ من هذا الاستحياء والكذب وإخلاف الوعد. * * * 665 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَرَغَ أَحَدُكُمُ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ فليتعوَّذْ بالله من أَرْبَعٍ: مِنْ عذابِ جهنَّمَ، ومِنْ عذابِ القَبْرِ، وَمِنْ فتنةِ المَحْيا والمَماتِ، ومِنْ شَرِّ المَسيحِ الدَّجَّالِ". قوله: "ومِن فتنة المَحيا والمَمات (¬1) "، (فتنة المَحيا والمَمات) واحدٌ من هذه الأربع؛ لأنه لو عُدَّ اثنين يكون المجموعُ خمسًا. "الدجال": عطف بيان "المسيح". * * * 666 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعَلِّمهم هذا الدُّعاءَ, كما يُعَلِّمهم السورةَ مِنَ القرآنِ يقولُ: "قولوا: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِنْ عذابِ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فتنة المحيا: الابتلاءُ مع زوال الصبر والرضا، والوقوعُ في الآفات، والإصرارُ على الفساد، وتركُ متابعة طريق الهدى، وفتنة الممات: سؤال المُنكَر والنكير مع الحيرة والخوف، وعذاب القبر: ما فيه من العقاب".

جهنَّمَ، وأعوذُ بكَ مِنْ عذابِ القبرِ، وأعوذُ بكَ مِنْ فتنةِ المسيح الدجَّالِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المَحْيا والمَماتِ". * * * 667 - وقال أبو بكر - رضي الله عنه - للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني دعاءً أَدْعُو به في صَلاتي، قالَ: "قُلْ: اللهمَّ إنِّي ظلَمتُ نفسي ظُلمًا كبيرًا، ولا يَغفرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندِك وارْحَمْني، إنَّكَ أنتَ الغَفور الرَّحيم". قوله: "أدعو به في صلاتي"، أراد بقوله: (في صلاتي) هنا عقيبَ التشهُّد. * * * 668 - عن عامر بن سَعْدٍ، عن أبيهِ، أنه قال: كنتُ أرى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّم عن يَمينهِ وعن يَسارِهِ حتى أَرى بَياضَ خدِّه. قوله: "حتى أرى بياضَ خدِّه": أراد أن يرى صفحةَ وجهه اليمنى إذا سلَّم عن يمينه، وصفحتَه اليسرى إذا سلَّم عن يساره. و"سعد" هذا هو سعد بن أبي وقاص. * * * 669 - قال سَمُرَةُ بن جُنْدَبٍ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى صلاةً أقْبَلَ علينا بِوَجْهِهِ. قوله: "أَقبلَ علينا بوجهه"؛ يعني: يصرف وجهَه يمينًا ويسارًا، كما ذُكر. * * * 670 - وقال أنسٌ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينصرِفُ عن يَمينِهِ.

قوله: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه"؛ يعني: إذا فرغ عن صلاته وقام يمشي إلى جانب يمينه؛ لأن البدايةَ باليمين مستحبٌّ. * * * 671 - قال عبدُ الله بن مَسْعود - رضي الله عنهما -: لا يجعلُ أحدُكم للشَّيطانِ شيئًا من صلاتِهِ يَرى أنَّ حقَّاً عليهِ أنْ لا ينصرِفَ إلا عن يَمينهِ، لقدْ رأَيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ينصرِفُ عن يَسارِهِ. قوله: "لا يجعل أحدكم للشيطان ... " إلى آخره؛ يعني: كان رسولُ الله - عليه السلام - ينصرف يمشي جانب يمينه مرةً إذا فرغ من صلاته، وإلى جانب يساره مرةً، فإذا كان رسولُ الله - عليه السلام - ينصرف إلى الجانبين فمَن اعتقد أنه حقٌّ عليه أن ينصرف عن يمينه دون يساره؛ فقد اعتقد غير ما فعلَه رسول الله عليه السلام، ومَن اعتقد شيئًا غير ما فعلَه رسول الله - عليه السلام - فقد تابَعَ الشيطانَ، ومَن تابَعَ الشيطانَ في صلاته أو عقيبَ صلاته باعتقادٍ بدعةٍ أو تركِ سُنَّةٍ فقد ذهبَ الشيطانُ بكمال صلاته. قوله: "يرى": بضم الياء وفتح الراء؛ أي: يظن، و (يرى) بفتح الياء والراء؛ أي: يعلم، وكلا الوجهين محتمل. * * * 672 - وقال البَراءُ: كُنّا إذا صَلَّيْنا خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحْبَبنا أنْ نكونَ عن يَمينِه، يُقْبلُ علَيْنا بوَجْهِهِ، قالَ: فسمعتُهُ يقولُ: "ربِّ قِني عذابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبادَكَ، أوْ تجمَعُ عبادَكَ". "أَحبَبنا أن نكونَ عن يمينه، يُقبل علينا بوجهه"؛ يعني: إذا سلَّم سلَّم أولاً عن يمينه، فكنا نحب أن نكونَ عن يمينه حتى يُقبلَ بوجهه علينا قبلَ أن

يُقبلَ على مَن عن يساره. قوله: "يقول: ربِّ قِنِي عذابَك"؛ يعني: يقول بعدَ السلام، ومعنى (قِنِي): احفَظْنِي. * * * 673 - قالت أمُّ سَلَمَةَ: إنَّ النِّساءَ في عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتوبَةِ قُمْنَ، وثَبَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ صلَّى مِنَ الرِجالِ ما شاءَ الله، فإذا قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قامَ الرِّجالُ. قولها: "وثَبَتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، إنما ثبتَ ولم يقم لتنصرفَ النساء؛ كي لا يختلطَ الرجالُ بالنساء، وكي لا يَرَوهنَّ. * * * 674 - وقال جابرُ بن سَمُرَةَ: كانَ - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقومُ من مُصَلاَّهُ الذي يُصلِّي فيه الصُّبحَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ، وكانوا يتحدَّثون، فيأْخذونَ في أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، فيَضْحَكونَ، ويتَبَسَّم. قوله: "فيأخذون في أمر الجاهلية"؛ أي: يتحدثون بما جَرَى عليهم قبلَ الإسلام من الحالات. قوله: "ويتبسَّم"؛ يعني: يتبسَّم رسولُ الله عليه السلام، وهذا دليل على أن استماعَ كلامٍ مباحٍ جائزٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 675 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه - أنه قال: أخذ بيدي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ:

"إنَّي لأحِبُّكَ يا معاذُ! "، فقلتُ: وأنا أُحِبُّكَ يا رسولَ الله!، قالَ: "فلا تَدَعْ أنْ تقولَ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ: ربِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وشكرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ". قوله: "فلا تَدَعْ"؛ أي: فلا تَتركْ أن تقول خلف كل صلاةٍ هؤلاء الكلماتِ، وهذا دليلٌ على أن مَن يحب أحدًا ينبغي أن يريدَ له كلَّ خيرٍ، ويدلَّه على كلِّ خيرٍ. * * * 676 - وعن عبد الله بن مَسْعود: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُسَلِّمُ عن يَمينِهِ: "السلامُ عليكم ورحمةُ الله"، حتَّى يُرى بياضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وعن يَسارِهِ: "السلامُ عَلَيْكُم ورحمةُ الله" حتَّى يُرى بياضُ خَدِّهِ الأَيْسَرِ. قوله: "كان يُسلِّم عن يمينه: السلامُ عليكم ورحمةُ الله": اعلم أنه لم يَرِدْ في السلام من الصلاة غيرُ هاتَين الكلمتَين، وأما في سلام الرجل على مَن لقيَه قد جاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأكثر من هذا، ويُذكر في بابه إن شاء الله تعالى. * * * 677 - وعنه قال: كانَ أكثرُ انصِرافِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَلاتِهِ على شِقِّهِ الأَيْسَرِ إلى حُجْرَتِهِ. قوله: "كان أكثرُ انصرافِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته على شقِّه الأيسرِ إلى حُجرته"؛ يعني: كان بابُ حُجرته مفتوحًا إلى المسجد عن جانب يسار المِحْرَاب، وينصرف إلى جانب يساره ويمشي إلى حُجرته. * * *

17 - باب الذكر بعد الصلاة

678 - وعن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُصلِّي الإمامُ في المَوْضعِ الذي صَلَّى فيه حتَّى يَتَحَوَّلَ". قوله: "حتى يتحولَ"؛ أي: حتى ينتقلَ؛ يعني: السُّنةُ للإمام - والمأموم أيضًا - أن يُصلِّيَ السُّنةَ والنافلةَ في غير الموضع الذي صلَّى فيه الفريضةَ؛ ليشهدَ له موضعانِ بالطاعة يومَ القيامة، ولذلك يُستحب تكثير العبادة في مواضع مختلفة. * * * 679 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهاهُم أن يَنْصَرِفُوا قبلَ انْصِرافِهِ مِنَ الصَّلاة. قوله: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاهم أن ينصرفوا قبلَ انصرافه من الصلاة"، وعلَّةُ نهيه - عليه السلام - أصحابَه عن الذهاب قبلَه إنما كان ليذهبَ النساءُ اللاتي يصلِّينَ خلفَه؛ حتى لا ينظرَ الرجالُ إليهن، ولا يختلطوا بهن. * * * 17 - باب الذِّكر بعد الصَّلاة (باب الذِّكر بعد الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 680 - قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: كنتُ أَعْرِفُ انقِضاءَ صلاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتَّكْبيرِ.

قوله: "كنتُ أَعرفُ انقضاءَ صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، (الانقضاء): وصولُ الشيء إلى آخرِه وانتهاؤُه؛ يعني: كان رسولُ الله - عليه السلام - إذا جلس في آخر صلاته ينقص من صوته بتكبيرةٍ ليعرفَ مَن خلفَه أنه جلسَ، والمُستحَبُّ للإمام: أن يرفعَ صوتَه إذا قام من السجود قَدْرًا أكثرَ مما كان يرفع إذا جلسَ؛ ليعرفَ المأمومُ قيامَه من جلوسه. * * * 681 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلا مِقدارَ ما يقولُ: "اللهمَّ أنتَ السَّلامُ، ومِنْكَ السَّلامُ، تبارَكتَ يا ذا الجلال والإكرام". قولها: "لم يَقعد": من جلوسه "إلا مقدارَ ما يقول: اللهم أنتَ السلامُ ... " إلى آخره؛ يعني: لا يقعد إذا سلَّم من فريضةٍ بعدَها سُنَّةٌ إلا هذا المقدارَ، وهي الظهر والمغرب والعشاء، وأما الصبحُ والعصرُ فقد جاء الحديث: أنه - عليه السلام - يجلس في المسجد زمانًا مديدًا. * * * 682 - وقال ثَوبان: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرفَ مِنْ صلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثلاثًا وقالَ: "اللهمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ، تبارَكْتَ يا ذا الجَلالِ والإِكرامِ". "أنت السلام"؛ أي: أنت المنزَّهُ والسالمُ عن التغيُّرِ وصفاتِ المخلوقاتِ. "ومنك"؛ أي: ومنك يحصل للعباد النجاةُ من المكروهات. "تباركتَ"، قال الأزهري: معناه: تعاليتَ وتعظَّمتَ. "يا ذا الجلال والإكرام"؛ أي: يا مَنْ يستحق الجلالَ، وهو العظمة والإكرام

والإحسان إلى عباده، وقيل: الجلال التنزُّه عما لا يليق به، والإكرام: العظمة. * * * 683 - وعن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ مَكْتوبَةٍ: "لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، لَهُ الملكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ على كلِّ شيءٍ قَديرٌ، اللهمَّ لا مانِعَ لما أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ , ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ". قوله: "في دُبرِ كل صلاة": بسكون الباء وضمها؛ أي: في عقب كل صلاة. "مكتوبة"؛ أي: مفروضة. * * * 684 - وعن عبد الله بن الزُّبير قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ مِنْ صَلاتِهِ قالَ بصَوْتِهِ الأَعْلى: "لا إلهَ إلاّ الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحُمْد وهُوَ على كلَّ شيءٍ قديرٌ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، لا إله إلا الله لا نَعْبُدُ إلا إيَّاهُ، لَهُ النَّعمةُ، ولَهُ الفَضْلُ، ولَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ، لا إله إلاَّ الله مُخْلِصينَ لَهُ الدينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرونَ". قوله: "مُخلِصين له الدِّين"، تقديره: مُخلِصين الدِّين له، و (مخلصين): نصب على الحال، تقديره: نقول ونعتقد أنه لا إله في الوجود إلا الله في حال كوننا مُخلِصين دِينَه، والمُخلِص: هو الذي يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. قوله: "ولو كره الكافرون" مفعوله محذوف؛ أي: ولو كره الكافرون كوننَا مُخلِصين دِينَ الله، وكوننَا عابدين له ولا نشرك به شيئًا. * * *

685 - وعن سَعْدٍ: أنه كان يُعَلِّمُ بنيه هؤلاءِ الكَلماتِ، ويقولُ: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: "اللهمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبن، وأَعوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأعوذُ بكَ مِنْ أَرْذَلِ العُمُرِ، وأَعوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيا وعذابِ القَبْرِ". قوله: "أنه كان يُعلِّم": الضمير في (أنه) يعود إلى "سعد"، وهو سعد بن أبي وقاص، وكذلك حيث ذُكر (سعد) مطلقًا. "دُبرَ الصلاة" بالنصب؛ أي: في عقب الصلاة. "الجبن": ضد الشجاعة. "الأرذل": أفعل التفضيل من: الرذالة، وهي الخساسة. "العُمر" جمع عُمُور (¬1)، وأراد بـ (أرذل العمر): الهَرَم؛ لأنه مَن هَرِمَ يكون عمرُه أخسَّ وأنقصَ من غيره، والمراد بالهَرَم: أن يبلغ الرجل إلى سنٍّ نقصَ فيه عقلُه، وضعفت قوتُه، بحيث يصير حقيرًا عند الناس. * * * 686 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسولَ الله!، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجاتِ والنَّعيمِ المُقيمِ، صَلُّوا كما صَلَّيْنا، وجاهَدوا كما جاهَدْنا، وأنْفَقوا مِنْ فُضولِ أَمْوالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لنا أَمْوالٌ، قالَ: "أَفَلا أُخْبرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ، وتَسْبقُونَ مَنْ جاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتي أَحَدٌ بِمَثْل ما جِئْتُمْ بِهِ، إلاَّ مَنْ جاءَ بمثْلِهِ!، تُسَبحُونَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا، وتَحْمَدونَ عَشْرًا، وتُكَبرونَ عَشْرًا". ¬

_ (¬1) في "الصحاح": "والعُمْر: واحد عُمُور الأسنان، وهو ما بينها من اللحم".

وفي روايةٍ: "تُسَبَّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وتُكَبرونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ". قوله: "ذهب أهل الدُّثور بالدرجات"، (الدُّثور) جمع: دَثْر، وهو المال. "والنعيم المقيم": الدائم، والمراد به الجنة. "تَحمَدون" [وتُحمِّدون]: كلاهما جائز؛ لأن (التحميد) مبالغة (الحمد)؛ يعني: إذا فعلتُم ما أمرتكم من المواظبة بهذه الأذكار يحصل لكم ثواب الأغنياء الذين يصرفون أموالهم في الخيرات ممن كان قبلكم، ويكون ثوابُكم أكثرَ مِن ثواب مَن جاء بعدكم؛ إلا مَن فعلَ مِثْلَ فعلِكم. * * * 687 - وعن كَعْبِ بن عُجْرَةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُعَقِّباتٌ لا يَخيبُ قائِلُهُنَّ - أَوْ فاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كلِّ صَلاةٍ مَكتوبةٍ: ثَلاثٌ وثَلاثونَ تَسْبيحَةً، وثَلاثٌ وثَلاثون تَحْميدَةٌ، وأَرْبَعٌ وثَلاثونَ تَكْبيرَةً". قوله: "مُعقِّبات"؛ أي: كلمات. "لا يخيب"؛ أي: لا يصير محرومًا عما يريد. و (أو) في قوله: "أو فاعلُهن" للشك من الراوي، سُميت هذه التسبيحات: (مُعقِّبات) بكسر القاف؛ لأن التعقيبَ هو الرجوعُ؛ يعني: كلُّ كلمةٍ ترجع عقيبَ كلمةٍ، أو ترجع هؤلاء الكلماتُ خلفَ كلِّ صلاةٍ. قوله: "ثلاثٌ وثلاثون": فهو خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هنَّ ثلاثٌ وثلاثون. * * *

688 - وعن أبي هريرة قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ، وحَمِدَ الله ثلاثًا وثَلاثينَ، وكَبَّرَ الله ثَلاثًا وثَلاثينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثم قالَ تَمامَ المائة: لا إله إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كلَّ شيءٍ قديرٌ، غُفِرَتْ خَطاياهُ وإنْ كانَتْ مِثلَ زَبَدِ البَحْرِ". قوله: "وإن كانت مِثْلَ زَبَدِ البحر": وإنما قال: (مِثْلَ زَبَد البحر)؛ لأن زَبَدَ البحرِ أكثرُ مما سواه. * * * مِنَ الحِسَان: 689 - عن أبي أُمامَةَ أنه قال: قيلَ: يا رسولَ الله!، أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟، قالَ: "جَوْفُ الليلِ الآخِرُ، ودُبْرَ الصَّلَواتِ المَكْتوباتِ". قوله: "أسمعُ"؛ أي: أقربُ إلى الإجابة. "جوفَ": منصوب على الظرفية، و"الآخرَ": صفته؛ أي: آخرَ الليل، و"دُبرَ" أيضًا منصوب على الظرفية. * * * 690 - عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ أنَّه قال: أَمَرني رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَقْرَأَ المُعَوِّذَتَيْنِ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ. قوله: "أن أقرأ المعوِّذتَين في دُبرِ كل صلاة"، (المعوِّذتين): بكسر الواو، وأُريد بهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، سُمِّيَا مُعوِّذتين؛ لأنهما تُزيلان وتدفعان االآفةَ من قارئهما. * * *

691 - وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرونَ الله مِنْ صَلاةِ الغَداةِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وُلْدِ إسْماعيلَ، ولأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرونَ الله مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً". قوله: "لأَنْ أَقعدَ مع قوم يذكرون الله ... " إلى آخره: وجه تخصيصه الوقتَين المذكورَين من بين سائر الأوقات شرفُ هذَين الوقتَين؛ لأن أحدَهما أولُ النهار، والآخرَ آخرُه، ولاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في هذَين الوقتَين. وأما تخصيصُ العِتق بولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن العربَ أشرفُ من غير العرب، وولدُ إسماعيلَ من بين العرب أشرفُ من غيرهم؛ لفضيلة إسماعيل عليه السلام، ولكون نبيِّنا - عليه السلام - منهم. قوله في آخر الحديث: "مِن أن أُعتقَ أربعةً"؛ يريد: رقبةً من ولد إسماعيل، وهذا يدل على أن الذِّكرَ من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس أفضلُ من صلاة العصر إلى الغروب؛ لأنه ذكرَ في الأول أربعةً، وفي الثاني رقبةً واحدةً. * * * 692 - وعن أَنَسٍ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَماعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله - عز وجل - حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ"، قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تامَّةٍ تامَّةٍ". "ثم صلى ركعتَين"؛ أي: صلَّى بعد أن تطلعَ الشمسُ قيدَ رمحٍ؛ حتى يخرجَ وقتُ الكراهية، وهذه الصلاةُ تُسمى: صلاةَ الإشراق، وهي أولُ صلاة الضُّحى. قوله: "كأجر حَجَّة": ذُكر شرح هذا في (باب المساجد) في حديث أبي

18 - باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

أمامة، في قوله: "كأجر الحاجِّ المُحرِم". قوله: "تامةٍ": مجرورة؛ لأنه صفةُ (حَجَّةٍ وعُمرةٍ). * * * 18 - باب ما لا يَجُوزُ من العمَل في الصَّلاة وما يُباحُ منه (باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يُباح منه) مِنَ الصِّحَاحِ: 693 - عن مُعاوِيَةَ بن الحَكَمِ - رضي الله عنه - قالَ: بَيْنا أَنا أُصَلِّي مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَرَماني القَوْمُ بِأَبْصارِهِمْ، فَقُلْتُ: ما شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟، فَجَعلوا يَضْرِبُونَ بِأَيْديهمْ عَلى أَفْخاذِهِم، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُوننَي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبأَبي هُوَ وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعليمًا مِنْهُ، والله ما كَهَرَني ولا ضَرَبني ولا شَتَمَني، قال: "إنَّ هذهِ الصلاةَ لا يَصْلُحُ فيها شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إنَّما هِيَ التَّسْبيحُ والتَّكْبيرُ وَقِراءَةُ القُرْآنِ" - أو كما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: يا رسول الله!، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وقَدْ جاءَ الله بالإِسْلامِ، وإنَّ مِنَّا رِجالاً يَأْتُونَ الكُهَّان؟، قالَ: "فَلا تَأْتِهِمْ"، قُلتُ: ومِنَّا رِجالٌ يَتَطَيَّرُونَ؟، قالَ: "ذاكَ شَيءٌ يَجِدُونَهُ في صُدورِهِمْ، فَلا يَصُدَّنَّهُمْ"، قلتُ: ومِنَّا رِجالٌ يَخُطُّونَ؟، قالَ: "كانَ نبَيٌّ مِنَ الأنْبياءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وافَقَ خَطَّهُ فَذاكَ". قوله: "فرماني القومُ بأبصارهم"؛ أي: نظروا نظرَ كراهيةٍ وزجرٍ؛ كي لا أتكلمَ في الصلاة، فإن قولي: (يرحمك الله) كلامٌ، وما فهمتُ سببَ نظرهم

إليَّ، "فقلت: ما شأنُك تنظرون إليَّ؟ " أي: لِمَ نظرتُم إلي؟ واعلم أن مَن قال لعاطسٍ: يرحمك الله، تبطل صلاتُه؛ لأنه خاطبَه، والمُخاطَبةُ كلامٌ، ولو قال: (يرحمه الله) بلفظ الغائب تجوز صلاتُه، وهو قوله: "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات". "كَهَرَ": إذا منعَ أحدًا عن فعلٍ، وكَهَرَ: إذا عَبَسَ وجهُه. قوله: "إني حديثُ عهدٍ بجاهليةٍ"، (الحديث): الجديد، (العهد): الرؤية؛ يعني: انتقلت عن الكفر إلى الإسلام عن قريبٍ، ولم يمضِ عليَّ في الإسلام زمانٌ طويلٌ، ولم أَعرِفْ بعدُ أحكامَ الدَّين وما يُبطل الصلاةَ. قوله: "فلا تأتهم"؛ يعني: إتيانُ الكُهَّان كفرٌ إن اعتقدوها حقًّا، فلذلك قال عليه السلام: (فلا تأتهم). "يتطيَّرون"؛ أي: يتفاءلون بالطير، مثل: أن الرجلَ منهم إذا أراد سفرًا؛ فإن طار طيرٌ عن يمينه يقول: هذا السفرُ مباركٌ، وإن طارَ عن يساره يقول: هذا السفرُ غيرُ مباركٍ. قوله: "ذلك شيءٌ يجدونه في صدورهم"؛ يعني: هذا وهمٌ وظنٌّ منهم، وليس له حقيقةٌ وتأثيرٌ. "فلا يصدَّنَّهم"؛ يعني: فلا يَمنعْهم هذا الوهمُ عما يقصدونه من شغل؛ لأن طيرانَ الطير لا يجعل المباركَ مشؤمًا، ولا المشؤومَ مباركًا. قوله: "ومنا رجالٌ يخطُّون"، وكيفية خط العرب: أن الرجلَ منهم إذا عزمَ على شغلٍ يأخذ خشبًا ويخط على العجلة خطوطًا كثيرةً بلا حسابٍ على الأرض أو الرمل، ثم يمحو خطَّين خطَّين، فإن بقي زوجٌ فهو علامةُ الخير في ذلك الشغل، وإن بقي فَرْدٌ فهو علامةُ النحوسة، وأما ما يفعله الرمَّالون فليس له أصلٌ في الشرع، وليس عليه دلالةٌ في هذا الحديث؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - لم يبيِّن

كيفيةَ خطِّ ذلك النبي حتى يقيسَ عليه أحدٌ. قوله: "فمَن وافق خطَّه فذاك"، الرواية: (خطَّه): بالنصب، وتقديره: فمَن وافَقَ خطُّه خطَّه، ويجوز من حيث المعنى: (فمَن وافَقَ خطُّه) بالرفع، ويكون تقديره: فمَن وافَقَ خطُّه خطَّه أيضًا، "فذاك"؛ يعني فذاك جائزٌ وصوابٌ. وقال الخطابي رحمة الله عليه: إنما قال رسولُ الله عليه السلام: (فمَن وافَقَ خطَّه فذاك" على سبيل الزجر، ومعناه: لا يوافق خطُّ أحدٍ خطَّ ذلك النبيِّ؛ لأن خطَّ ذلك النبي - عليه السلام - كان معجزةً له، ولا يجوز أن تكونَ معجزةُ نبيًّ في شخصٍ غيرِ نبيًّ. "معاوية" هذا كان من بني سُلَيم، ولا يروي غيرَ هذا الحديث. * * * 694 - قال عبد الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا نُسَلِّمُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ في الصَّلاة، يَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجاشِيِّ سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنا، وقال: "إنَّ في الصلاةِ لَشُغُلًا". قوله: "فلما رجعنا من عند النجاشي [سلَّمنا] فلم يردَّ علينا، وقال: إن في الصلاة لَشُغلًا"، (النجاشي): ملك الحبشة، وهاجَرَ جماعةٌ من الصحابة من مكةَ إلى أرضِ الحبشة حينَ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ قبلَ خروجه منها، فلما سمع الذين هاجروا إلى أرض الحبشة أن رسولَ الله - عليه السلام - خرج من مكةَ إلى المدينةِ هاجروا من أرض الحبشة إلى المدينة، ومنهم: ابن مسعود، فلما أتى ابن مسعودٍ رسولَ الله عليه السلام وجدَه في الصلاة، فسلَّم عليه، ولم يردَّ - صلى الله عليه وسلم - عليه السلامَ؛ لأن الكلامَ كان جائزًا في الصلاة في بدء الإسلام ثم حُرِّمَ. قوله: "إن في الصلاة لَشُغلًا"؛ يعني (شغل الصلاة): قراءة القرآن والتسبيح

والدعاء، لا الكلام، ويأتي شرح هذا في الحديث الأول من الحسان. * * * 695 - وعن مُعَيقيب: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في الرجلِ يُسَوِّي التُّرابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قال: "إنْ كانَ فاعِلًا فَواحِدَةً". قوله: "إن كان فاعلًا فواحدةً": منصوب بفعل مضمر، تقديره: وليفعل فعلةً واحدةً؛ يعني: ينبغي أن يكون للمُصلِّي خشوعٌ، ولا يتحرك ولا يلتفت، فإنْ فعلَ فَعلةً أو فَعلتَين، أو خَطَا خطوةً أو خطوتَين كُرِهَ ولم تبطل صلاته، وإن فعلَ ثلاثًا أو خَطَا ثلاثَ خطواتٍ متوالياتٍ بطلت صلاتُه. "مُعَيقيب": هو ابن أبي فاطمة، مولى سعيد بن العاص، من بني دَوس. * * * 696 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نَهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الخَصْرِ في الصَّلاةِ. قوله: "عن الخَصْر في الصلاة": فسَّر (الخَصْر) على وضع اليد على الخاصرة، وهي فوق موضع شدِّ السراويل، وإنما نَهَى المُصلِّي من الخَصْر؛ لأن هذا من فعل اليهود، وفعل مَن أصابَه مصيبةٌ. ورُوي: أن إبليسَ وضعَ يدَه على خاصرته حين نزلَ الأرضَ بعد صيرورته معلونًا. وفي أكثر الروايات: "نُهِيَ عن الاختصار في الصلاة"، ومعناهما واحدٌ، ولكن (الاختصار) بهذا المعنى مشهورٌ في اللغة، و (الخَصْر) لم يوجد في اللغة بهذا المعنى. * * *

697 - وقالت عائشة: سَأَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الالْتِفاتِ في الصَّلاةِ؟، فقالَ: "هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطانُ مِنْ صَلاةِ العَبْدِ" قولها: "عن الالتفات في الصلاة ... " إلى آخره؛ يعني: مَن التفتَ في الصلاة يمينًا ويسارًا ولم يحول صدرَه عن القِبْلة لم تبطل صلاتُه، ولكن يسلب الشيطانُ كمالَ صلاته بأنْ حملَه على هذا الفعل، وإن حوَّلَ صدرَه عن القِبْلَة بطلت صلاتُه. * * * 698 - عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَيَنْتهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُم". قوله: "لَينتهيَنَّ أقوامٌ ... " إلى آخره، (الانتهاء): ترك الفعل، (الخَطْف): السَّلْب. اعلم أن النظرَ إلى السماء عند الدعاء في الصلاة مكروهٌ؛ لأنه التفاتٌ، والالتفاتُ في الصلاة مكروهٌ، فلأجل هذا خوَّفَهم الرسولُ عليه السلام. وأما في غير الصلاة فغيرُ مكروهٍ، ومعنى الإشارة عند الدعاء في الصلاة إلى السماء: نسبة العلو إلى الله تعالى، وليس معناه أن مكانه السماء، بل تعالَى وتقدَّس عن المكان. قوله: "أو لَتخطفنَّ أبصارُهم": إشارة إلى أن مَن أَذنبَ بعضوٍ فَلْيَخَفْ أن يَلْحَقَ ذلك العضوَ عقوبةٌ، كما قال في موضع آخر: "أما يخشى الذي يرفع رأسَه قبلَ الإمام أن يجعلَ الله رأسَه رأسَ حمارٍ". * * *

699 - عن أبي قَتَادَةَ الأَنْصارِي أنه قال: رَأَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ الناسَ وأُمامَةُ بنتُ أبي العاصِ عَلى عاتِقِهِ، فإذا رَكَعَ وَضَعَها، وإذا رَفَعَ مِنَ السُّجودِ أَعادَها، ويروى: رَفَعها. قوله: "يؤمُّ الناسَ وأمامةُ بنتُ أبي العاص على عاتقه"، (أبو العاص): كان زوجَ زينبَ بنتِ رسولِ الله عليه السلام، و (أمامة) بنته منها، و (أبو العاص) اسم أبيه: الربيع بن عبد شمس. وهذا دليلٌ على أن الفعلَ القليلَ لا يُبطل الصلاةَ، وفعلُه - صلى الله عليه وسلم - هذا فعلٌ قليلٌ؛ لأنه إذا رفع رأسَه من السجود الثاني رفعَها وحملَها، وهذا فعلٌ واحدٌ، وإذا فرغ من القراءة وأراد الركوع وضعَها، وهذا الفعلُ واحدٌ، والفعلُ الواحدُ والاثنان لا يبطلان الصلاةَ وإن كان متواليَين. وهذا الحديث يدل على طهارة بدن الصبي وثوبه، وعلى أن مَن حملَ حيوانًا جازت صلاتُه وإن كان باطنُه نجسًا إذا كانت النجاسةُ مستورةً خلقةً، بخلاف حمل قارورةٍ مصمَّمة الرأس وفيها نجاسةٌ. ويدل أيضًا على حسن معاشرة الأولاد والرِّفق معهم، وقيل: لم يحملها النبي باختياره، بل كانت تركبُه. * * * 700 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ في الصَّلاةِ فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيطانَ يَدْخُلُ في فيهِ". قوله: "إذا تثاءَبَ أحدُكم في الصلاة ... " إلى آخره، تثاءب الرجل، وتثأَّب على وزن تفعَّل وتفاعَلَ: إذا فتح فاه من غلبة النوم أو الغفلة، أو كثرة امتلاء البطن، وكلُّ ذلك غيرُ مَرْضيٍّ، فلأجل هذا كُرِهَ التثاؤبُ، ومَن وجد هذا

الشيء من نفسه "فَلْيكظمْه"؛ أي: فَلْيدفَعْه بأن يضمَّ شفتَيه، أو يضعَ يدَه على فمه. قوله: "فإن الشيطانَ يدخله"؛ يعني: فإن لم يدفعه عن نفسه يغلب عليه الشيطان بأن يجعلَه معتادًا به، وإذا اعتاد بهذا ولم يكرهه فيعتاد بالضرورة بما يحصل منه هذا الشيء، من النوم والغفلة وكثرة الأكل، وكلُّ ذلك من غلبة الشيطان. ومعنى (دخول الشيطان في فيه) هنا: غلبته، بجعله إياه معتادًا بما هو مكروهٌ في الشرع، ويحتمل أن يدخل في فمه للوسوسة، وخصَّ دخولَه في الفم مع أن له القدرةَ على الدخول في الإنسان من كل موضع؛ لأن الفمَ انفتح بشيءٍ مكروهٍ للشرع، وكلُّ عضوِ صَدَرَ منه فعلٌ مكروهٌ لاللشرع ففيه طريقٌ للشيطان. * * * 701 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عِفْريتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاتي، فَأَمْكَنَني الله مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ، فَأرَدْتُ أَنْ أَرْبطَهُ إلى سارِيَةٍ مِنْ سَواري المَسْجدِ حَتَّى تَنْظُروا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخي سُلَيْمانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فَرَدَدْتُهُ خاسِئًا". قوله: "إن عِفريتًا من الجن"، (العفريت): القوي الشرير. "تفلَّت"؛ أي: فرَّ من الحبس، والمراد منه ههنا: أنه جاءني ليُوسوسَني ويشغلَني عن صلاتي. "فأمكنني الله منه"؛ أي: قوَّاني وجعلني غالبًا عليه. "السارية" الأُسطوانة، جمعها: سَوَارٍ بفتح السين. قوله: "فذَكرتُ دعوةَ أخي سليمانَ عليه السلام"؛ يعني: كأن أخذَ الجن والحكمَ عليه لسليمان، وقد دعا سليمان - عليه السلام - ألا يكونَ لأحدٍ مُلكٌ

مثلُ ما كان له، فلو أخذتُه لكان لي ما كان لسليمان - عليه السلام - من تسخير الجن، وحينَئذٍ لا يكون دعاؤُه مقبولًا، ولا يجوز أن يكون دعاؤُه مردودًا، فلأجل هذا ما أخذتُه. "فرددتُه"؛ أي: دفعتُه عن نفسي "خاسئًا"؛ أي: محرومًا بعيدًا عن مراده. * * * 702 - وقال: "مَنْ نابَهُ شَيْءٌ في صَلاتِهِ فَلْيُسَبحْ، فَإنَّما التَّصْفيقُ لِلنِّساءِ". 703 - وقال: "التَّسْبيحُ لِلرِجالِ، والتَّصْفيقُ لِلنِساءِ". "نابه شيء"؛ أي: نزل عليه أمرٌ في الصلاة، مثل: أن يدعوه أحدٌ ويسأذنه في دخول البيت، ولم يعلم ذلك الأحد أنه في الصلاة فَلْيقُلْ المُصلِّي: سبحان الله؛ ليعلمَ ذلك الأحدُ كونَه في الصلاة، وإن كانت امرأةً فَلْتضرِبْ بطنَ كفِّها اليمنى على ظهر كفِّها اليسرى. و"التصفيق": ضرب إحدى اليدَين على الأخرى. * * * مِنَ الحِسَان: 704 - قال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ في الصَّلاةِ قَبْل أن نَأْتيَ أَرْضَ الحَبَشَةِ فَيَرُدَّ عَلَيْنا، فَلَمَّا رَجَعْنا مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، حتَّى إذا قَضى صَلاتَهُ قالَ: "إنَّ الله تَعالى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ ما يَشاءُ، وإنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ"، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ.

قوله: "فردَّ عليَّ السلام": هذا دليلٌ على استحباب جواب السلام بعد الفراغ من الصلاة، وكذلك لو كان على قضاء الحاجة، أو قراءة القرآن وسلَّم عليه أحدٌ، فإذا فرغ من ذلك الشغل يُستحبُّ ردُّ السلام على مَن سلَّم عليه، ولا يجب؛ لأن السلامَ في هذه الأحوال غيرُ مسنونٍ. * * * 705 - وقال: "إنما الصلاةُ لِقِراءَةِ القُرآنِ، وذِكْرِ الله تعالى، فإذا كنتَ فيها فَلْيَكُنْ ذلكَ شَأْنُكَ". قوله: "فليكنْ ذلك شأنُك"؛ أي: فليكن ما ذكرتُ لكل أمرك من الصلاة، لا غير ذلك من التكلُّم وغيره. * * * 706 - قال ابن عمر: قلتُ لِبلالٍ: كيفَ كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كانُوا يُسَلِّمونَ عَلَيْهِ وهُوَ في الصَّلاةِ؟، قالَ: كانَ يُشيرُ بِيَدِهِ. قوله: "يشير بيده"؛ يعني: يشير بيده على رد السلام، وكذلك لو أشار برأسه أو بعينه، جازَ. * * * 707 - قال رِفاعَة بن رافِع: صَلَّيْتُ خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَطَسْتُ، فَقُلْتُ: الحَمدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ مُبارَكًا عَلَيْهِ كما يُحِبُّ رَبنا ويَرْضى، فَلمَّا صَلَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ فقال: "مَن المُتكَلِّمُ؟ "، قال رِفاعةُ: أنا يا رسول الله! قال: "وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ ابْتَدَرَها بِضْعَةٌ وثَلاثونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِها".

قوله: "فعَطَستُ، فقلت: الحمدُ لله حمدًا كثيرًا ... " إلى آخر هذا الحديث، يدل على أن مَن عطسَ في الصلاة جازَ له أن يقول: الحمد لله. قوله: "مباركًا فيه ومباركًا عليه": كلاهما واحد، ولعل المراد منه أنواع البركة، والبركة: الزيادة. * * * 708 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَثاؤُبُ في الصَّلاةِ مِنَ الشَّيْطانِ، فإذا تَثَاءَبَ أَحَدكُم فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ". وفي روايةٍ: "فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلى فِيهِ". قوله: "من الشيطان"؛ يعني: يحصل هذا من الغفلة أو كثرة الأكل والملالة، وكلُّ ذلك من الشيطان. * * * 709 - وقال: "إذا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عامِدًا إلى المَسْجِدِ فَلا يُشَبكَنَّ بَيْنَ أَصابعِهُ، فإنَّهُ في الصَّلاةِ". قوله: "فلا يُشبكنَّ بين أصابعه"؛ يعني: تشبيك الأصابع لا يليق بالخشوع، فلا يجوز في الصلاة، ومَن قصد الصلاة فكأنه في الصلاة في حصول الثواب له؛ فلا يُشبكَنَّ أصابعَه، وتشبيك الأصابع في غير الصلاة قد جاء عن النبي عليه السلام، كما يأتي في (باب سجود السهو). رواه كعب بن عُجْرة. * * *

710 - وقال: "لا يَزالُ الله - تَعالى - مُقْبلًا عَلى العَبْدِ وَهُوَ في صَلاتِهِ ما لَمْ يَلْتَفِتْ، فإذا الْتَفَتَ أَعْرَضَ عَنْهُ" يَرويه أبو ذَرٍّ. قوله: "مُقبلًا على العبد"؛ أي: ناظرًا إليه بنظر الرحمة وإعطاء الثواب. * * * 711 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَنَسُ!، اجْعَلْ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجُدُ". قوله: "يا أنسُ! اجعل بصرَك حيث تسجد"، اعلم أن المُستحَبَّ أن ينظرَ المُصلِّي في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى ظهر القَدَم، وفي السجود إلى أنفه، وفي التشهُّد إلى حِجْره. * * * 712 - وعن أنس قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بنيَّ! إيَّاكَ والالتِفاتَ في الصلاةِ، فإنَّ الالتِفاتَ في الصَّلاةِ هَلَكَةٌ، فإنْ كانَ لا بُدَّ؛ فَفي التَّطَوُّعِ، لا في الفَريضَةِ". قوله: "وإياك والالتفاتَ في الصلاة؛ فإن الالتفاتَ في الصلاة هَلَكَةٌ، فإن كان لا بد ففي التطوُّع لا في الفريضة". رواه أنس. "وإياك": خطابٌ لأنس. "هَلَكَة"؛ أي: طاعةٌ للشيطان، وطاعةُ الشيطانِ هلاكٌ للإنسان، والالتفاتُ إن كان بحيث يُحول الرجلُ صدَره عن القِبْلة يبطل الصلاةُ، وإلا لا يبطل الصلاة، ولكن يُكرَه ذلك وينقص الثواب.

والالتفاتُ في صلاةِ النوافلِ أسهلُ من صلاة الفريضة؛ لأن زوالَ كمالِ صلاةِ النافلةِ أسهلُ من زوالِ كمالِ صلاةِ الفريضةِ. * * * 713 - ورُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَلْحَظُ في الصَّلاةِ يَمينًا وشِمالًا، وَلا يَلْوي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ. قوله: "يَلحَظ"؛ أي: ينظر. "ولا يَلْوِي"؛ أي: ولا يصرف، والتفاته - عليه السلام - إنما كان مرةً أو مراتٍ قليلةً؛ ليبينَ أن الالتفاتَ غيرُ مُبطِلٍ للصلاة إن كان لشيءٍ ضروريٍّ؛ لأنه لا يجوز أن يَنْهَى أُمتَه عن شيءٍ وهو يفعلُه لغير ضرورةٍ. * * * 714 - عن عَدِيِّ بن ثابت، عن أبيه، عن جدِّه رفعَه قال: "العُطَاسُ، والنُّعاسُ، والتَّثاؤُبُ في الصَّلاةِ، والحَيْضُ، والقَيْءُ، والرُّعافُ مِنَ الشَّيطانِ". قوله: "العُطاس والنُّعاس ... " إلى آخره، (النُّعاس): النوم الخفيف. قوله: "من الشيطان"؛ يعني: هذه الأشياء بعضُها يبطل الصلاةَ وبعضُها يزيل الحضورَ في الصلاة، وكل ذلك مما يرتضيه الشيطان ويفرح به، وليس معناه: أن الشيطانَ يحمل الإنسانَ على هذه الأشياء؛ لأن هذه الأشياءَ طبيعيةٌ، ونجري على الإنسان بغير اختياره، والإشكالُ هنا في العُطاس؛ فإنه جاء في (باب العطاس): "إن الله يحب العُطاسَ ويكره التثاؤبَ"، فإذا كان كذلك فكيف يكون العُطاسُ مما يرتضيه الشيطان؟ تأويله: أن الرجلَ إذا عطسَ وقال: الحمد لله، يحبُّه الله، وإذا كان في

الصلاة زال عنه الحضور في الصلاة من أول مبادئ العطاس إلى أن يفرغَ منه، فيحب الشيطانُ زوالَ حضوره. روى هذا الحديثَ "دينارٌ الأنصاريُّ" جدُّ عَدِيٍّ، ولم يَروِ دينارٌ غيرَ هذا الحديث، والحديثَ الذي في (باب الاستحاضة). * * * 715 - عن مُطَرِّف بن عبدِ الله بن الشِّخِّير، عن أبيه قال: أتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزيزٌ كَأزيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ. قوله: "كأزِيز المِرْجَل"؛ أي: كصوت غليان القِدْر. واعلم أن البكاءَ في الصلاة جائزٌ إن لم يظهر منه حرفانِ، فإن ظهر حرفانِ تبطل الصلاةُ هذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله: إن كان البكاء من ذى الجنة والنار لا تبطل الصلاة، وإن كان لوجعٍ أو مصيبةٍ تبطل الصلاةُ إن ارتفع الصوتُ به. روى هذا الحديثَ "مُطرِّف" بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء وتشديدها، وجده "شِخِّير" بكسر الشين والخاء وتشديدها، واسم أبي (شِخِّير): عوف بن كعب بن وقدان الحرَشي. * * * 716 - عن أبي ذَرٍّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قامَ أَحَدُكم إلى الصَّلاةِ فَلا يَمْسَحْ الحَصا، فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُواجِهُهُ". قوله: "فلا يمسح الحَصَى ... " إلى آخره، (الحصى): الحِجَار الصِّغَار، واحدها: حصاة، يعني: الرحمةُ تُقبل عليه وتنزل عليه، فلا يليق اللعبُ

بالحصى وغيرها عمن تنزل عليه الرحمة. * * * 717 - وقالت أمُّ سَلَمَةَ: رَأَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غُلامًا لنا يُقالُ لَهُ: أَفلَح، فإذا سَجَدَ نَفَخَ، فقال: "يا أَفْلَحُ!، تَرِّبْ وَجْهَكَ". قولها: "إذا سَجَدَ نَفَخَ"؛ يعني: نَفَخَ في الأرض ليزولَ عنه الترابُ؛ ليَسجدَ. "ترِّبْ"؛ أي: أَوصِلْ وجهَك إلى التراب؛ أي: اسجدْ على التراب؛ فإنه أعظمُ للثواب. * * * 718 - وقال "الاخْتِصارُ في الصَّلاةِ راحَةُ أَهْلِ النَّارِ". قوله: "الاختصارُ في الصلاة راحةُ أهل النار"، قيل: المراد بالاختصار هنا: الخَصْر في قوله: (نهى عن الخَصْر)، وقد ذُكر شرحُه في هذا الباب. والمراد بأهل النار: اليهود؛ لأنه فعلُ اليهودِ، وقيل: الاختصار أن ينقصَ الرجلُ من أركان الصلاة ليفرغَ منها سريعًا، ولا شك أن نقصانَ أركان الصلاة مُوجِبٌ للنار. * * * 719 - وقال "اقتُلوا الأَسْوَدَيْنِ في الصَّلاةِ: الحَيَّةَ، والعَقْرَبَ". قوله: "اقتلوا الأسودَين ... " إلى آخره.

"الحيةَ والعقربَ": بيان (الأسودَين)، ويجوز قتلُهما في الصلاة بضربةٍ أو ضربتَين. * * * 720 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي تَطَوُّعًا والبابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فجئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ، فَمَشَى فَفَتَحَ لي، ثُمَّ رَجَعَ إلى مُصَلاَّهُ، وذَكَرَتْ أنَّ البابَ كانَ في القِبْلَةِ. قولها: "فاستفتحت ... " إلى آخره؛ (استفتحت)؛ أي: طلبتُ فتحَ الباب. هذا دليلٌ على أن الخطوةَ والخطوتَين في الصلاة لا تبطلها، وإنما علِمْنا أن رسولَ الله - عليه السلام - خَطَا خطوةً أو خطوتَين ولم يزد على ذلك؛ لأنَّا علِمْنا من الشرع أن ثلاثَ خطواتٍ تُبطل الصلاةَ. * * * 721 - عن عَليِّ بن طلق أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَسا أَحَدُكُم في الصَّلاةِ فلينصَرِفْ، فليتوضَّأ، وَلْيُعِدِ الصَّلاةَ". قوله: "إذا فَسَا أحدُكم"؛ أي: إذا خرج منه ريحٌ. * * * 722 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَحْدَثَ أَحَدُكم في صَلاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأنْفِهِ، ثمَّ ليَنْصَرِفْ". "إذا أَحدَثَ أحدُكم في الصلاة فَلْيَأخُذْ بأنفه، ثم لِيَنْصَرِفْ"؛ إنما أمرَه رسولُ الله - عليه السلام - بأن يأخذَ يدَيه بأنفه ليُخيِّلَ للحاضرين أنه رعفَ،

19 - باب سجود السهو

كيلا يخجلَ ويَستحي. * * * 723 - وقال: "إذا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ جَلَسَ في آخِرِ صَلاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جازَتْ صَلاتُهُ"، ضعيف. قوله: "إذا أَحدَثَ ... " إلى آخره؛ يعني: إذا حصلَ حَدَثٌ لأحدكم وقد جلس في آخر صلاته بقَدْر التشهد تمَّت صلاتُه، وإن لم يقرأ التشهُّدَ وإن لم يُسلِّم. وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وعند الشافعي رحمه الله: بطلت صلاتُه؛ لأن التسليمَ عنده فرضٌ. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -. * * * 19 - باب سُجُود السَّهْوِ (باب السَّهو) (¬1) مِنَ الصِّحَاحِ: 724 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَحَدُكُم إذا قامَ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ق": "السهو جائز على الإنسان، بخلاف النسيان؛ لأنه نقص، وما في الأخبار من نسبة النسيان إليه - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالنسيان فيه: السهو، وفي "شرح المواقف": الفرق بين السهو والنسيان: أن الأول زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة، والنسيان زوالها عنهما معًا، فيحتاج في حصولها إلى سبب جديد"، انتهى. ابن قاسم على "التحفة".

يُصَلِّي جاءَ الشَّيْطانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حتَّى لا يَدْري كَمْ صَلَّى، فإذا وَجَدَ ذلك أَحَدُكُمْ فَليَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وهو جالِسٌ". قوله: "لَبَّسَ" بتشديد الباء؛ أي: خلَّط وشوَّش خاطرَه وأوقعَ في خاطره من الأشغال الدنيوية. قوله: "فَلْيَسْجُدْ سجدتَين" هذا الحديث مختصر، ومعناه: أنه يبني على اليقين؛ يعني: إذا شكَّ أنه صلَّى ركعةً أو ركعتَين أخذ بالأقل، وهو ركعة، وكذلك لو شكَّ أنه صلَّى ركعتَين أو ثلاثًا أخذ بالأقل، وهو ركعتان، وَلْيُصلِّ ما بقي ثم يسجد سجدَتَي السَّهو بعد قراءة التشهُّد. * * * 725 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاته فلم يدْرِ كم صلَّى، ثلاثًا أم أربعًا؛ فليَطرح الشَّكَّ، وليَبن على ما استيقَن، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فإنْ كانَ صَلَّى خَمسًا شَفَعَها بهاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِنْ كانَ صلَّى إتمامًا لأِرْبعٍ كانتا تَرغيمًا لِلشَّيطانِ". قوله: "فإن كان قد صلَّى خمسًا يشفعها بهاتَين السجدتَين": هذا إشارة إلى أن كلَّ صلاةٍ هي شَفْعٌ، كالظهر والعصر والعشاء الآخرة، والصُّبح لا يجوز أن يُصلِّيَها أحدٌ وترًا، فإنْ صلاَّها أحدٌ وترًا، مثل: أن يُصلِّيَ الظهرَ خمسَ ركعاتٍ، فإن زاد الركعةَ الخامسةَ عمدًا بطلَتْ، وإن زادها سهوًا يقعد إذا تذكَّر، ويتشهَّد ويسجد سجدتَي السَّهو، ويُسلِّم عند الشافعي. وأما عند أبي حنيفة: إذا صلى ركعةً خامسةً سهوًا، ثم تذكَّر يُصلِّي ركعةً سادسةً، ثم يتشهَّد ويُسلِّم، ثم يسجد سجدتَي السَّهو. "الترغيم": الإذلال والإغضاب والإيصال إلى التراب.

"كانتا ترغيمًا للشيطان"؛ أي: كانت سجدتا السَّهو إذلالًا للشيطان وجبرًا لِمَا أَوقع الشيطانُ في قلبه من الوسوسة. * * * 726 - وعن عبدِ الله بن مَسْعودٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهرَ خمسًا، فقيلَ له: أَزيدَ في الصلاة؟، فقالَ: "وما ذاكَ! "، قالوا: صلَّيتَ خمسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ، وقال: "إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُم أَنْسى كما تَنْسَوْنَ، فإذا نسِيتُ فَذَكِّروني، وإذا شَكَّ أَحَدُكُمْ في صَلاِتهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ ليُسَلِّمْ، ثم يسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ". قوله: "ما ذاك؟ " أي: ما قولُك؟ يعني: لأيِّ سببٍ تقولون: "أزِيدَ في الصلاة؟ " قوله: "فسجد سجدتَين"؛ أي: سجدتَين للسَّهو بعدما سلَّم؛ لأنه علَّم السَّهوَ بعدَ السلام، وهذا دليلٌ على أن مَن زاد في الصلاة ساهيًا وعلمَ السهوَ بعدَ السلام سجدَ سجدتَي السهو، وليس عليه أن يُسلِّمَ مرةً أخرى. قوله: "فَلْيَتحرَّ الصوابَ"؛ أي: فَلْيطلبِ الصوابَ بغَلَبَةِ الظن. قوله: "فَلْيُتمَّ عليه"؛ يعني: فَلْيأخُذْ بالأقل وليتمَّ ما بقي من صلاته، فإن شكَّ هل صلَّى ثلاثًا أم أربعًا فَلْيأخُذْ بالأقل، وهو الثلاث، وليتمَّ ما بقي وهو ركعة. * * * 727 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العَصْرِ فَسَلَّم في رَكعتينِ، فقامَ إلى خشبةٍ مَعْروضَةٍ في المَسْجدِ، فاتَّكَأَ عَلَيْها كأنَّه غَضْبانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى على اليُسْرى، وشَبَّكَ بَيْنَ أصابعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ

الأَيْمَن على ظَهْرِ كَفِّهِ اليُسْرى، وفي القَوْمِ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ رضوان الله عليهما، فهاباه أن يُكَلِّماه، وفي القَوْم رَجُلٌ وفي يَدَيْهِ طُولٌ يقال له: ذو اليدين، قالَ: يا رسولَ الله! أَقُصِرَتْ الصلاةُ أَمْ نَسيتَ؟، فقال: "كلُّ ذلكَ لَمْ يَكُنْ"، فقالَ: قَدْ كانَ بعضُ ذلكَ، فأَقْبَلَ على الناسِ، فقال: "أصدَقَ ذو اليَدَيْنِ؟ " قالوا: نَعَمْ، فتقدَّم، فَصَلَّى ما تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رأْسَهُ وكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّر وسَجَدَ مِثْلَ سُجودِهِ أو أَطوَل ثم رَفَعَ وَكَبَّرَ. وقال عِمرانُ بن حُصَيْن: ثُمَّ سَلَّم. قوله: "صلاة العصر"، رُوي عن أبي هريرة بطرقٍ كثيرةٍ: أنه شكَّ أن تلك الصلاةَ كانت ظهرًا أو عصرًا والأصحُّ أنها كانت عصرًا؛ لأن عِمرانَ بن حُصين رَوى: أنها كانت صلاة العصر بغير شك. "فقام إلى خشبة معروضة"؛ أي: قام من ذلك الموضع وأتى إلى خشبةٍ كانت في وسط المسجد معروضةٍ؛ أي: مطروحة، وهي مِنْ: عَرضتُ الخشبةَ على الإناء؛ أي: طرحتُها عليه. قوله: "شبَّك بين أصابعه"، (تشبيك الأصابع): إدخال بعضها في بعض، وهو مكروهٌ حيث كان للعب، وغيرُ مكروهٍ حيث كان يمدَّ الأصابعَ للاستراحة، أو كان ليأخذ يدَيه على ركبتَيه ليتمكَّنَ من الجلوس، أو ليضعَ وجهَه أو رأسَه على ركبتيه، كلُّ ذلك غيرُ مكروهٍ؛ لأنه للاستراحة. قوله: "فهاباه أن يُكلِّماه"؛ أي: خاف أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يُكلِّماه في نقصانه الصلاةَ. قوله: "في يدَيه طولٌ"؛ يعني: يدُه كانت أطولَ من أيدي القوم، فلطولِ يدِه يُسمى: (ذو اليدَين)؛ يعني: يدُه كاليدَين في الطول، واسمه: خِرْبَاق، من بني سُلَيم، حجازي.

قوله: "كلُّ ذلك لم يكن"؛ يعني: ما نسيتُ وما قُصِرَتِ الصلاةُ، بل أَتممتُ الصلاةَ، وهذا دليلٌ على أن مَن ظنَّ أنه فعلَ شيئًا فقال: فعلتُ، أو قال: ما فعلتُ، وفي ظنِّه أنه لم يفعل، ثم تبيَّن خلافُ ما ظنَّ، لم يَأثَمْ؛ لأن رسولَ الله قال: (كلُّ ذلك لم يكن)، وقد كان السَّهوُ. قوله: "قد كان بعضُ ذلك"؛ يعني: قصرتَ الصلاةَ، ولكن: قصرتَها سهوًا، أو أمرَ الله تعالى بقصرها؟ اعلم أن العلماءَ قد تكلموا في حكم تكلُّم ذي اليدَين، وتكلُّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقوم في جواب رسول الله عليه السلام بـ "نعم"، ثم صلَّوا ما بقي من الصلاة ولم يستأنفوا؛ فقال بعضهم: قد كانت هذه الواقعة قبل أن يُحرَّمَ الكلامُ في الصلاة. وقال بعضهم: بل كانت هذه الواقعةُ بعد تحريم الكلام، ولكن سببَ تكلُّم ذي اليدين: أنه ظنَّ أن رسولَ الله - عليه السلام - قصرَ الصلاةَ بأمر الله حتى لم يكونوا في الصلاة، وسبب تكلُّم رسول الله عليه السلام: أنه ظنَّ أن ذا اليدَين غيرُ صادقٍ فيما يقول بالصلاة، وظنَّ أنه أتمَّ الصلاةَ وخرجَ منها، وجواب القوم له بقولهم: (نعم): أنهم لم يعلموا أيضًا أن رسولَ الله يقول: (قصرت الصلاة) أو يقول: "نسيت"، فلم يعلموا كونَهم في الصلاة يقينًا؛ وهذا التأويل أصحُّ، وبعدَ رسولِ الله لا يُتصوَّر مثلُ واقعة ذي اليدَين؛ لأنه لم يكن زمانَ زيادةِ الصلاة ونقصانها؛ لانقطاع الوحي. نعم، لو نقص الإمامُ شيئًا من الصلاة، فأشار إليه بعضُ القوم بالنقصان، فقال الإمام لبعض القوم باللسان: أنقصتُ من الصلاة أم لا؟ فأُشير إليه بأن نقصتَ كذا، لا تبطل صلاةُ الإمام بهذا التكلم؛ لأنه لم يعرف يقينًا كونه في الصلاة، بل يقوم ويصلِّي ما بقي.

قوله: "مثل سجوده"؛ يعني: لبثَ في سجود السهو مثلَ ما لبثَ في سجود الفرض. "وقال عِمران بن حُصين: ثم سلَّم"؛ يعني: قال عمران: سلَّم رسولُ الله بعد سجود السهو مرةً أخرى. * * * 728 - وقال عَبْدُ الله بن بُحَيْنَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فقامَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقامَ الناسُ مَعَهُ، حتى إذا قَضى الصَّلاةَ وانْتَظَرَ الناسُ تَسْليمَهُ كَبَّرَ وهُوَ جالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قبل أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ. قوله: "لم يجلس"؛ أي: لم يجلس في التشهد الأول. "فسجد سجدتَين"؛ أي: سجدتَي السَّهو. قال الشافعي: موضعُ سجودِ السهو قبلَ السلام، وقال أبو حنيفة: بعد السلام. * * * مِنَ الحِسَان: 730 - عن المُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قامَ الإِمامُ في الرّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوي قائمًا فَلْيَجْلِسْ، وإنْ اسْتَوى قائمًا فَلا يَجْلِسْ، وَيَسْجُد سَجْدَتَيْ السَّهْوِ". قوله: "إذا قام الإمامُ في الركعتَين"؛ يعني: إذا ترك التشهدَ الأولَ يسجدُ للسَّهو، ولا يسجد سجودَ السهو لأجل سُنَّةٍ سوى التشهد الأول والقنوت؛ فإنهما واجبانِ عند أبي حنيفة. * * *

20 - باب سجود القرآن

20 - باب سُجود القُرآن (باب سجود القرآن) مِنَ الصِّحَاحِ: 731 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سَجَدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بـ (النجم)، وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمونَ، والمُشْرِكُونَ، والجِنُّ، والإِنْسُ. قوله: "سجدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ... " إلى آخره، قيل: سببُ موافقة المشركين رسولَ الله - عليه السلام - في السجود في (النجم): أن رسولَ الله - عليه السلام - قرأ النجم، فلما بلغ: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] جرى على لسانه سهوًا: تلك الغَرَانيقُ العُلا، وإن شفاعتَهن لَتُرْتَجَى، ففرح المشركون وقالوا: إن محمدًا - عليه السلام - مدح أصنامنا، فلما سجد في آخر السورة وافقَه المشركون وقالوا: نوافقُه كما وافَقَنا في مدح الأصنام، فلما عَلِمَ النبيُّ - عليه السلام - أنه جرى على لسانه: تلك الغرانيق العلا اغتمَّ غَمًّا شديدًا لجريان هذا على لسانه، حتى أنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية (¬1). الغُرْنُوق: الشابُّ، جمعها: غرانيق، إن شفاعتَهن لَتُرتجى؛ يعني: تُرتَجَى شفاعةُ الأصنام لمَن يعبدها، هذا كفرٌ، ولكن ألقاه الشيطانُ على لسان رسول الله عليه السلام. قوله: {إِذَا تَمَنَّى}؛ أي: إذا قرأ الكتابَ الذي أُنزل عليه؛ يعني: ألقى ¬

_ (¬1) والقصة منكرة عند أهل الحديث.

الشيطانُ الخطأَ على لسان الأنبياء مِن قبلِك كما ألقاه عليك، {فِي أُمْنِيَّتِهِ}؛ أي: في قراءته. وأما سجودُ الجن فلأنَّ مِن الجنِّ مسلمين ومشركين كما من الإنس، فوافقوا رسولَ الله عليه السلام، كما وافقه الإنس. * * * 732 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سَجَدْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} , و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. قوله: "سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، الذي في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}: قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]، وفي {اقْرَأْ}: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. * * * 733 - وقال ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ السَّجَدَةَ ونحنُ عِنْدَهُ، فَيَسْجُدُ ونسْجُدُ معه، فَنَزْدَحِمُ حَتَّى ما يَجِدُ أَحَدُنا لِجَبْهَتِهِ مَوْضعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ. قوله: "فنزدحم"، أصله: نزتحم، فقُلبت التاءُ دالًا؛ أي: نجتمع بحيث ضاق المكانُ علينا، هذا الحديث يدل على تأكيد سجود التلاوة. * * * 734 - وقال زَيد بن ثابتٍ: قَرَأْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ} فَلَمْ يَسْجُدْ فيها. قوله: "قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَالنَّجْمِ}، فلم يسجد فيها": قد صح أن رسولَ الله سجد في آخر {وَالنَّجْمِ}، وهذا الحديثُ لا يدل على عدم السجود في

(النجم)؛ لأنه لعل رسولَ الله - عليه السلام - في ذلك الوقت لم يكن على الوضوء، أو لعله سجدَ في وقتٍ ولم يسجد في وقتٍ؛ ليُعلمَ الناسَ أنه سُنَّةٌ وليس بواجبٍ، وفي العبادات الإثباتُ أَولى بالقَبول من النفي. * * * 735 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سجدة (ص) لَيْسَتْ مَنْ عَزائِمِ السُّجودِ، وقَدْ رَأَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فيها. قوله: "سجدة {ص} ليست من عزائم السجود"، (العزائم) جمع: عزيمة، وهي ما يعزمه الإنسان؛ أي: يقصده؛ إما لسبيل الوجوب، أو السُّنة، والعزيمةُ استعمالها ما في الفريضة أكثر. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن سجودَ التلاوة واجبٌ، وعند الشافعي: سُنَّةٌ، وسجدة قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وهي من جملة سَجَدات التلاوة عند أبي حنيفة، وأما عند الشافعي فهي سجدة الشكر، لا من جملة سَجَدات التلاوة. وقول ابن عباس: (ليس من عزائم السجود)، معناه عند أبي حنيفة: ليس من الفرائض، بل هي من الواجبات، وعنده الواجبُ غيرُ الفريضةِ، والفريضةُ عنده: ما فُرِضَ وما ثبتَ وجوبُه بدليلٍ قاطعٍ، والواجبُ: ما ثبتَ وجوبُه بدليلٍ ظنيٍّ. وعند الشافعي معناه: أنه ليس من سُنَن سَجَدات التلاوة، بل هو من سَجَدات الشكر؛ لأن داودَ لمَّا قُبلت توبتُه سجدَ شكرًا، ولمَّا قرأ رسولُ الله عليه السلام: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} سجدَ موافقةً لداود عليه السلام. * * *

736 - وفي روايةٍ: أَنَّهُ قَرَأَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} , وقالَ: كانَ داوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبيُّكُمْ أَنْ يَقْتَديَ بهِ، فَسَجَدَها داودُ، فَسَجَدَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: {هَدَى اللَّهُ}؛ أي: هداهم الله. {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}؛ يعني: افعَلْ كما فعلوا من تبليغ الرسالة وتحمُّل الأذى في سبيلي. قوله: "أن يَقتديَ به"؛ يعني: هو نبيٌّ من جملة الأنبياء الذين قال لي ربي: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. * * * مِنَ الحِسَان: 737 - عن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأهُ خَمْسَ عَشرَةَ سَجْدَة: مِنْهَا ثلاثٌ في المُفَصَّلِ، وفي سورَةِ الحَجِّ سجدتان. غريب. قوله: "أَقْرَأَه خمسَ عشرةَ سجدةً": اعلم أن سَجَدات التلاوة خمسَ عشرةَ سجدةً، في الأعراف آخرَها، وفي الرعد: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، وفي النحل: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وفي بني إسرائيل: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]، وفي مريم: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وفي الحج موضعان: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وفي الفرقان: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]، وفي {الم (1) تَنْزِيلُ}: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]، وفي {صَ}: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وفي: {حمَ} فصلت: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] , وفي النجم آخرَها، وفي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، وفي {اقْرَأْ} آخرَها. وبهذا الحديث قال أحمد وابن المبارك، وأخرج الشافعي من جملتها

سجدةَ {ص} وأخرج أبو حنيفة منها السجدةَ الثانيةَ من (الحج). * * * 738 - عن عُقْبَةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله!، فُضلَتْ سورةُ الحَجِّ بِأَنَّ فيها سَجْدَتَيْنِ؟، قالَ: "نعمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فلا يَقْرَأْهُمَا"، ضعيف. "فُضلَتْ سورةُ الحج بأن فيها سجدتَين"؛ يعني: لسورة الحج فضيلةٌ على السور التي فيها سجدةٌ بأن فيها سجدتَين، وفي غيرها سجدةٌ. "ومَن لم يسجدهما فلا يقرأهما"؛ يعني: مَن لم يَسجدْهما لم يحصل له كمالُ ثوابِ قراءتها، فيكون كمَن لم يقرأ جميعَها، بل قرأ بعضَهما وترك بعضَها. * * * 739 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ القرآنَ، فإذا مَرَّ بالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وسَجَدَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ. قوله: "ثم قام فركع"؛ يعني: لمَّا عاد من السجود إلى القيام ركع ولم يقرأ بعد السجدة شيئًا، فمَن شاء أن يقرأ باقي السورة بعد السجدة جازَ، ومَن شاء ألا يقرأَ باقيها جازَ. قوله: "فرَأَوا"؛ يعني: علموا أنه قرأ: {الم (1) تَنْزِيلُ} بأن سمعوا بعضَ قراءته؛ لأنه - عليه السلام - كان يرفع صوتَه ببعض الكلمات في الصلاة السرية، ليعرفَ مَن خلفَه ما يقرأ؛ لتصيرَ قراءةُ تلك السورة سُنَّةً. * * * 740 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ في صَلاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قامَ

فَرَكَعَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ قَرَأَ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة. قوله: "فإذا مرَّ بالسجدة كبَّرَ وسجدَ وسجَدْنا": الأكمل في سجود التلاوة في غير الصلاة أن يرفعَ يدَيه وينويَ ويكبر للإحرام، ثم يكبر للسجود، ثم يكبر للرفع من السجود، ولو اقتصر على السجود من غير تكبير جازَ. وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ في الفقه، وإن سجدَ في الصلاة لا يرفع يدَيه، ويكبر للسجود ويكبر للرفع. * * * 741 - وعنه: قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ عامَ الفَتْحِ سجدةً، فَسَجَدَ الناسُ كلُّهُم، منهم الراكبُ والساجدُ على الأرضِ حتى إنَّ الراكبَ يسجد على يَدِهِ. قوله: "حتى إن الراكبَ لَيسجدُ على يده": هذا دليلٌ على أن الراكبَ إذا قرأ آيةَ سجدةِ التلاوةِ يُسَنُّ له السجودُ، إلا أنه يشير برأسه ولا يحتاج إلى وضع جبهته على السرج وغيره، فلو سجدَ على يده يصحُّ إذا أَنْحَى عنقَه عند أبي حنيفة، ويبطل عند الشافعي. * * * 742 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسْجُدْ في شَيْءٍ من المُفَصَّل مُنْذُ تَحَوَّلَ إلى المَدينةِ. قوله: "لم يَسجُدْ في شيءٍ من المُفصَّل منذ تحوَّلَ إلى المدينة": لم يلزم من هذا الحديث عدمُ سجود التلاوة في المفصَّل؛ لأن كثيرًا من الصحابة يَرْوُون سَجَدات المفصَّل، وإذا تعارَضَ النفي والإثباتُ فالإثباتُ أَولى بالقَبول، ولأن ابن عباسٍ هو الذي يروي في الصِّحاح: (أن النبي عليه السلام سجد

21 - باب أوقات النهي عن الصلاة

بـ {وَالنَّجْمِ}، وسجد معه المشركون ... إلى آخر الحديث، ولا شك أن الحديثَ المَرويَّ في الصِّحاح أقوى من المَرويِّ في الحِسان. * * * 744 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله!، رَأَيْتُني اللَّيلةَ وأنا نائِمٌ كأنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدَتُ، فَسَجَدَتِ الشَجَرَةُ لِسُجودِي، فَسَمِعْتُها تَقولُ: اللهمَّ اكتبْ لي بها عِنْدَكَ أَجْرًا، وضَعْ عَنِّي بها وِزْرًا، واجْعَلْها لي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وتَقَبَّلْها مِنِّي كما تَقَبَّلْتَها مِنْ عَبْدِكَ داودَ وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: فَقَرَأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سجدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُه وهُوَ يقولُ مِثلَ ما أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عن قَوْلِ الشَّجَرَةِ. غريب. قوله: "يا رسولَ الله! رأيتُني الليلةَ وأنا نائمٌ كأني خلفَ شجرةٍ، فسجدتُ ... " إلى آخره: اعلم أن الرجلَ الذي رأى في هذه الرؤيا هو أبو سعيد الخُدْري، وهذا الدعاءُ مسنونٌ في سجود التلاوة؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - قرأه في سجود التلاوة. * * * 21 - باب أَوقات النَّهْي عن الصَّلاة (باب أوقات النهي) مِنَ الصِّحَاحِ: 745 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَحَرَّ أَحَدكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ولا عِنْدَ غُروبهَا".

وفي روايةٍ: "إذا طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، واذا كابَ حاجِبُ الشَّمسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغيبَ، ولا تَحَيَّنُوا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ ولا غُروبَها، فإنَّها تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطانِ". قوله: "لا يتحرَّى ... " إلى آخره، (لا يتحرَّى)؛ أي: لا يطلب ولا يقصد الصلاةَ عند طلوع الشمس؛ لأن الكفارَ الذين يعبدون الشمسَ يسجدون لها عند طلوعها وعند غروبها، (لا يتحرى): نفي بمعنى النهي. قوله: "إذا طلع حاجب الشمس ... " إلى آخره، (حاجب الشمس): أولها. "فدَعُوا"؛ أي: فاتركوا. "حتى تبرزَ"؛ أي: تخرجَ قيدَ رمحٍ. "حتى تغيبَ"؛ أي: حتى تغربَ بالكُلِّية. "ولا تحيَّنوا"؛ أي: ولا تطلبوا الحِين، وهو الوقت؛ يعني: ولا توقعوا صلاتَكم في وقت طلوع الشمس ولا غروبها. قوله: "فإنها تطلع بين قرنيَ الشيطان": ذُكر هذا في (باب تعجيل الصلاة). * * * 746 - وقال عُقْبَةُ بن عامِرٍ - رضي الله عنه -: ثلاثُ ساعاتٍ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَانَا أنْ نُصَلِّي فيهِنَّ، وأَنْ نَقْبُرَ فيهِنَّ مَوْتانا: حينَ تَطْلعُ الشَّمْسُ بازِغَةً حتى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يقومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ حتى تميلَ الشَّمسُ، وحينَ تَضَيَّفُ الشمسُ للغُروبِ حتى تَغْرُبَ. قوله: "وأن نقَبرَ فيهن موتانا ... " إلى آخره، قال ابن المبارك: المراد منه: الصلاة على الميت.

"بازغة": منصوب على الحال؛ أي: حين خرجت الشمس ظاهرةً من المشرق، لا وقتَ ظهور شعاعها، ولم يظهر شيء من قرصها، فإنه حينَئذٍ لم تُكرَه صلاةُ النفل ممن لم يصلِّ فرضَ الصبح. قوله: "وحين يقوم قائم الظهيرة"، (الظهيرة): نصف النهار، ووقتَ الظهيرة كانت الشمسُ واقفةً عن السير تلبث في كبد السماء لحظةً، ثم تسير. وقيل: يراها الناسُ واقفةً، وهي في الحقيقة غيرُ واقفةٍ. قال المصنف - رحمه الله - في "شرح السنة": وقد علَّل النبيُّ - عليه السلام - المنعَ من الصلاة حالةَ الطلوع وحالةَ الغروب بكون الشمس بين قرنَي الشيطان، وعلَّل المنعَ حالةَ الزوال بأن جهنمَ تُسجر حينَئذٍ وتُفتَح أبوابُها. وقيل: علة النهي نصفَ النهار: أن عَبَدَةَ الشمسِ يسجدون لها في ذلك الوقت؛ لانتهائها الكمال في النور والارتفاع، وسجر جهنم في ذلك الوقت لعَبَدَة الشمس. وذكر محيي السُّنة في "التهذيب": أنه رُوي عن الصالحي: أن رسولَ الله عليه السلام قال: "إن الشمسَ تطلع ومعها قرنُ الشيطان، فإذا ارتفعت فارَقَها، ثم إذا استوت قارَنَها، فإذا زالت فارَقَها، فإذا دَنَتْ للغروب قارَنَها". فهذا الحديث يدل على أن علةَ النهي في وقت الاستواء كما في وقت الغروب والطلوع. قال الشيخ الإمام رحمه الله: وهذا التعليلُ وأمثالُه مما لا يُدرَك معانيها؛ إنما علينا الإيمانُ والتصديقُ، وتركُ الخوضِ فيها، والتمسكُ بالحكم المعلَّق بها. قوله: "وحين تضيَّف الشمسُ"؛ أي: تتضيَّف، فحُذفت تاء الاستقبال، ومعناه: تميل، فمذهب الشافعي: جوازُ صلاةٍ لها سببٌ، كالقضاء وصلاة

الجنازة وتحية المسجد وغيرها عند الطلوع والغروب والزوال، وعند أبي حنيفة: لا يجوز. * * * 747 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَمْسُ، ولا صَلَاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغيبَ الشَّمْسُ". قوله: "لا صلاةَ بعد الصبح حتى ترتفعَ الشمس، ولا صلاةَ بعد العصر حتى تغيبَ": وهذا النهي لمَن صلَّى الفريضةَ، فإذا لم يصلِّ الفريضةَ جازَ له النفلُ وغيرُه. * * * 748 - وقال عَمْرُو بن عَبَسَةَ: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينَةَ، فَقَدِمْتُ المَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فقلتُ: أَخْبرْني عَنْ الصَّلاةِ؟، فقالَ: "صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حين تَطْلُعَ الشمسُ حتَى تَرْتَفِعَ، فإنَّها تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطان، وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ، فإنَّ الصلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضورَةٌ حتى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمْح، ثُمَّ أَقْصِرْ عنْ الصَّلاةِ، فإنَّهُ حِينَئذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فإذا أَقْبَلَ الفَيْءُ فَصَلِّ، فإنَّ الصلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ أقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَمْسُ، فإنَّها تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيطانِ، وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكُفَّارُ"، قلتُ: يا نَبيَّ الله!، فَالوُضُوءُ، حَدِّثْنِي عَنْهُ، قالَ: "مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، ويَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إلاَّ خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ وفيهِ وخَياشِيمِهِ مع الماءِ، ثمَّ إذا غسَلَ وَجْهَهُ كما أَمَرَهُ الله إلاَّ خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ

لِحْيَتِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ إلَّا خَرَّتْ خَطايا يَدَيْهِ مِنْ أَنامِلِهِ مَعْ الماءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إلاَّ خَرَّتْ خطايا رأسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ معْ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلى الكعبيْنِ إلَّا خَرَّتْ خَطايا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعْ الماءِ، فإنْ هُوَ قامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بالذي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ تعالى إلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قوله: "أَخبرْني عن الصلاة"؛ أي: عن وقت الصلاة. "أَقصِرْ" بفتح الهمزة؛ أي: اتركْ. "مشهودة": محضورة؛ أي يشهدها ويحضرها أهلُ الطاعة. قوله: "حتى يستقلَّ الظلُّ بالرمح"، هكذا في نسخ "المصابيح"، وفي بعض نسخ "صحيح مسلم"، وأما في "شرح السُّنة" فرُوي هذا الحديثُ عن مسلم، وفيه: "حتى يستقلَّ الرمحُ بالظلِّ"؛ وهو الصحيح المستقيم في المعنى. (استقل): إذا ارتفع، (حتى يستقل الرمح بالظل)؛ أي: حتى يرفع الرمحُ ظلَّه، وهذا مجازٌ؛ يعني: حتى لم يبقَ ظلُّ الرمحِ، وهذا بمكة والمدينة وحواليها في أطول يوم من النهار، فإنه لا يبقى عند الزوال ظلٌّ على وجه الأرض، بل يرتفع الظلُّ عن الأرض، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب، وهو أول الظهر، يقع الظلُّ على الأرض. وخصَّ الرمحَ بالذكر؛ لأن العربَ كانوا أهلَ باديةٍ ومسافرةٍ، فإذا أرادوا أن يعلموا نصف النهار ركزوا الرمحَ في الأرض، ثم نظروا إلى ظلِّها. "تُسجَر"؛ أي: تُحمَى ويُبالَغ في حَرِّها. "فإذا أقبل الفيء"؛ أي: فإذا رجع الظلُّ بعد ذهابه من وجه الأرض فهذا الوقت هو وقت الظهر.

"حتى تُصلِّيَ العصر"؛ أي: حتى تُصلِّيَ فرضَ العصر، فإن لم تصلِّ الفرضَ جازَ جميعُ الصلوات قبل أداء فرض العصر. قوله: "فالوضوء"؛ يعني: أَخبرْني عن فضل الوضوء. "وَضُوءَهُ" بفتح الواو: ماء وُضوئه. "وفيه"؛ أي: وفمِه. "الخياشيم" جمع: خَيْشُوم، وهو باطن الأنف. "ثم إذا غسل وجهه": هذا وما بعده عطف على قوله: "ما منكم من رجل"، وتقديره: ما منكم رجلٌ يغسل وجهَه كما أمرَه الله إلا خرَّت خطايا وجهه. "فإن هو قام"؛ أي: فإن قامَ هو بعد الوضوء وصلَّى. قوله: "فحَمِدَ الله تعالى وأثنَى عليه"؛ يعني: يذكر الله في الصلاة كثيرًا. قوله: "وفرَّغ قلبَه لله"؛ يعني: وجعلَ قلبَه حاضرًا لله، وجعلَه خاليًا عن الأشغال الدنيوية. "عمرو بن عَبَسَة" بغير نون، جدُّه: عامر بن خالد السُّلَمي، وكنية (عمرو): أبو شعيب (¬1). * * * 749 - وعن كَرِيبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ ابن عَبّاسٍ، والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ، وعَبْدَ الرَّحْمنِ بن أَزْهَرَ - رضي الله عنهم - أرْسَلُوهُ إلى عائِشَةَ رضي الله عنها، فقالوا له: اقْرَأْ عليها السلامَ، وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ؟، قالَ: فَدَخَلْتُ على عائشةَ، فَبَلَّغْتُهَا ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وفي "تقريب التهذيب": "أبو نَجِيح".

ما أَرْسَلُوني [بِهِ]، فقالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ، فَرَدُّونِي إلى أُمِّ سَلَمَةَ، فقالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْهُمَا ثُمَّ رأَيْتُهُ يُصَلِّيهِما، ثُمَّ دَخَلَ، فَأَرْسَلْتُ إلَيْهِ الجاريَةَ، فَقُلْتُ: قولي له: تقولُ أُمُّ سَلَمَةَ، يا رسولَ الله!، سَمِعْتُك تَنْهى عَنْ هَاتَيْنِ، فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟، قال: "يا بنتَ أبي أُمَيَّةَ!، سألتِ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعْدَ العَصْرِ، وإنَّهُ أَتَاني ناسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُوني عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فُهُما هاتانِ". قوله: "عن الركعتَين بعد العصر ... " إلى آخره؛ يعني: رأى الصحابة المذكورون في هذا الحديث، أو سمعوا أن رسولَ الله عليه السلام صلَّى بعد أداء فرض العصر ركعتَين، فأَشكَلَ عليهم ذلك؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد فرض العصر، وهو - عليه السلام - صلَّى هاتَين الركعتَين. قوله: "فهما هاتان"، هذا دليل على أن قضاءَ السُّنةِ سُنَّةٌ، وعلى أن أداءَ ما له سببٌ من الصلاة في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها جائزٌ. كنية "مِسْوَر": أبو عبد الرحمن، وجدُّه: نَوفل القُرَشي، جدُّ "عبد الرحمن بن أزهر": عوف القرشي الزُّهري. * * * مِنَ الحِسَان: 750 - عن قَيْسِ بن قَهْدٍ - رضي الله عنه - قال: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْح، فقالَ: "ما هاتانِ الرَّكْعَتانِ؟ "، فَقُلْتُ: إنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْ الفَجْرِ، فَسَكَتَ عَنْهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. غير متصل. قوله: "رآني رسول الله ... " إلى آخر: هذا الحديث يدل على أن سُنَّةَ

الصبح تجوز بعد فريضة الصبح لمَن لم يكن صلاَّها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا فاتت السُّنةُ قبلَ الفرض لا تُؤدَّى بعد الفرض؛ لأن كلَّ سُنَّةٍ وقتُها معلومٌ، فإذا فاتَ وقتُها لا تُقضَى. * * * 751 - عن جُبَيْر بن مُطْعَمٍ: - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عَبْدِ مَنافٍ!، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فلا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طافَ بِهذا البَيْتِ وصَلَّى أَيَّ ساعَةٍ شاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهارٍ". قوله: "مَن وَلِيَ منكم من أمر الناس شيئًا"؛ يعني: مَن كان منكم أميرًا أو حاكمًا على المسلمين. هذا الحديث يدل على أن صلاةَ التطوع في أوقات الكراهية غيرُ مكروهة بمكة؛ لشرفها، لينالَ الناسُ فضلَها في جميع الأوقات، وبه قال الشافعي. وعند أبي حنيفة: مكروهة فيها كسائر البلاد. * * * 752 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلاةِ نِصْفَ النَّهارِ حَتَّى تَزولَ الشَّمْسُ إلَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ. قوله: "نهى عن الصلاة نصفَ النهار حتى تزولَ الشمس؛ إلا يومَ الجمعة": هذا الحديث يدل على أن صلاةَ النفل نصفَ نهارِ يومِ الجمعة غيرُ مكروهة، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة: مكروهة. * * *

22 - باب الجماعة وفضلها

22 - باب الجَماعة وفَضْلِها (باب الجماعة وفضلها) مِنَ الصِّحَاحِ: 754 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً". قوله: "صلاة الجماعة تفضل صلاةَ الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجةً"، (تَفْضُل)؛ أي: تزيد في الثواب، (صلاة الفذ)؛ أي: صلاة المنفرد. * * * 755 - قال: "وَالذي نَفْسي بِيَدِهِ!، لقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ أخالِفُ إلى رِجالٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيوتَهُمْ، والَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ!، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أنَّهُ يَجدُ عِرْقًا سَمينًا، أَوْ مِرْماتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشاء". قوله: "لقد هممت ... " إلى آخره؛ أي: قَصدتُ. "يُتحطَّب": الصواب: يُحتَطب؛ لأن المراد به: جمع الحطب، و (الاحتطاب) بمعنى جمع الحطب معروف، و (التحطُّب) غيرُ مستعمل بمعنى جمع الحطب، ولأنه ذكر في "شرح السُّنة": (يُحتَطب)، وهكذا في "صحيح مسلم". "أُخالِف"؛ أي: أُخاصِم وأُحارِب. "لا يشهدون"؛ أي: لا يحضرون؛ يعني: قصدت أن آمرَ بأن يُجمَع

حطبٌ كثيرٌ وآمرَ مؤذِّنًا بأن يؤذِّن، وإمامًا بأن يؤمَّ الناسَ، ثم أنظر؛ فمَن لم يحضر الجماعةَ من غير عذر أُحرِّق بيتَه، وهذا يحتمل أن يكون في حقِّ المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله عليه السلام، ويحتمل أن يكون عامًا في حق جميع الناس، وإنما ذكره عليه السلام بهذه العبارة للتأكيد؛ كي لا يترك الجماعةَ أحدٌ بغير عذرٍ لكثرة ثوابها، لأنها شعارُ الإسلام. قوله: "لو يعلم أحدُهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا"، (العَرْق) بفتح العين وسكون الراء: العظم الذي لا لحمَ عليه. "المرْمَاة" بكسر الميم وفتحها: السهم الذي يُرمَى به في السبق. وقيل: المرماة: ما بين ظلفَي الشاة من اللحم؛ يعني: لو يعلم أحدُهم أنه إذا حضرَ صلاةَ العشاء يجد شيئًا من هذَين الشيئَين مع حقارته لأَتاها، مع أن حضورَ العشاء شديدٌ، ولم يأتِها ولا غيرَها من الصلاة ليجدَ نعيمَ الآخرة. * * * 756 - وقالَ أبو هريرة - رضي الله عنه -: أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ أعْمَى فقالَ: يا رسول الله!، إنَّهُ لَيْسَ لي قائِدٌ يَقُودُنِي إلى المَسْجدِ، فسَأَلَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ في بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعاهُ فقالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟ "، قالَ: نعم، قالَ: "فَأَجِبْ". قوله: "أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى": هذا الرجل هو ابن أمِّ مكتوم. قوله: "فاجِبْ"؛ أي: فَأْتِ إلى الجماعة. وقال أبو ثور: حضورُ الجماعة واجبٌ؛ بدليل هذا الحديث. وقال بعض أصحاب الشافعي: هو فرضٌ على الكفاية، والأكثرون

على أنه سُنَّةٌ مؤكدةٌ يجوز تركُها بعذرٍ، والعَمَى عذرٌ إذا لم يكن له قائدٌ، ولعل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرخِّص لابن أم مكتوم - مع أنه قال: ليس له قائدٌ - لتأكيد، أو لأنه يعلم أنه يَقدِرُ على الحضور بغير قائدٍ. * * * 757 - وقال ابن عُمَرَ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأْمُرُ المُؤَذِّنَ إذا كَانَتْ ليلةٌ ذاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يقولُ: أَلا صَلُّوا في الرِّحالِ. قوله: "ألا صلُّوا في الرِّحال"؛ يعني: صلُّوا في بيوتكم، ولكم الرخصةُ في ترك الجماعة إن كان لكم عذرٌ. * * * 758 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضعَ عَشاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَت الصَّلاةُ؛ فَابْدَؤا بالعَشاءِ, ولا يَعْجَل حتى يَفْرغُ مِنْهُ". قوله: "فابدؤوا بالعَشاء ... " إلى آخره، (العِشاء) بكسر العين: هي الصلاة المعروفة والوقت المعروف، و (العَشاء) بفتح العين: ما يُؤكَل في ذلك الوقت؛ يعني: لو غلبَ الجوعُ على أحدٍ، بحيث أزالَ حضورَ قلبه لو حضر الجماعةَ، جازَ له تركُ الجماعة والأكلُ؛ شرطَ ألا يُفوتَ الصلاةَ عن الوقت. * * * 759 - وعن عائشة أنها قالت: قال: "لا صلاةَ بِحَضْرَةِ طَعامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدافعُهُ الأَخْبَثانِ". قوله: "لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"، (الأخبثان): البول والغائط؛ يعني: إذا حضر الطعامُ وهو جائعٌ، أو غلبَ عليه الأخبثان

لا يُصلِّي - لا منفردًا ولا بالجماعة - حتى يُزيلَ عن نفسه الجوعَ والأخبثَينِ، فإن صلَّى كُرِهَ وأجزأته صلاتُه، والنفي ههنا بمعنى نفي الكمال. * * * 760 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمتْ الصَّلاةُ فلا صَلاةَ إلاَّ المَكْتُوبَة". قوله: "إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبة"؛ يعني: إذا أقام المؤذِّن لا يجوز أن يُصلِّيَ الرجلُ سُنَّةَ الفجرِ ولا غيرَها، بل يوافق الإمامَ في الفريضة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لو علمَ المُصلِّي أنه لو اشتغل بسُنة الفجر وفرغ منها وأدرك الإمام في الركعة الأولى والثانية صلَّى سُنةَ الفجر أولًا، ثم يدخل مع الإمام في الفريضة. * * * 761 - وعن ابن عمر أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إلى المَسْجدِ فَلا يَمْنَعْها". قوله: "إذا استَأذنتِ امرأةُ أحدِكم إلى المسجد فلا يَمنَعْها": هذا الحديث يدل على جواز خروج النساء إلى المسجد للصلاة، ولكن في زماننا مكروهٌ لهن الخروجُ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لو أدركَ رسولُ الله - عليه السلام - ما أحدثَ النساءُ لَمَنعَهنَّ المسجدَ كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل. * * * 762 - وعن زينب الثَّقَفية أنها قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا".

قوله: "إذا شهدتْ إحداكن المسجدَ فلا تمسَّ طيبًا"، شهدت؛ أي: حضرت. رَوَتْه "زينب" امرأةُ عبدِ الله بن مسعود، اسم أبي "زينب": عبد الله بن معاوية بن عتاب بن الأسعد، وهي ثَقَفِية. * * * 763 - وقال: "أيُّما امْرأةٍ أصابَتْ بَخورًا فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا العِشَاءَ الآخِرَةَ". قوله: "أيُّما امرأةٍ أصابَتْ بخورًا فلا تَشهَدْ معنا العِشاءَ الآخرةَ"، (البخور) بفتح الباء: ما يُتبخَّر به؛ أي: ما يُتعطَّر به. وخصَّ صلاةَ العشاء بالنهي؛ لأنها وقتُ الظلمةِ وخلوِّ الطرق، والعِطرُ مُهيِّجُ الشهوة، فلا تَأمَن المرأةُ في ذلك الوقت من الفتنة. * * * مِنَ الحِسَان: 765 - قال: "صَلاةُ المَرْأَةِ في بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا في حُجْرَتِهَا، وصَلاتُها في مُخْدَعِها أفضَلُ مِنْ صَلاتِهَا في بَيْتِهَا". قوله: "صلاتُها في مُخْدَعها أفضلُ من صلاتها في بيتها"، (المُخْدَع) بضم الميم وفتح الدال: بيت صغير يُحفَظ فيه الأمتعة، فالمرأة إذا كانت في المُخْدَع تكون أسترَ من أن تكون في البيت، وفي البيت أسترَ من أن تكونَ في الحجرة، وإذا كانت أسترَ فصلاتُها أفضلُ. * * * 766 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْبَلُ لاِمْرَأَةٍ صَلاةٌ

تَطَيَّبَتْ لِهذا المَسْجِدِ حَتَّى تَرْجعَ فَتَغْتَسِلَ غُسْلَها مِنَ الجَنَابَةِ". قوله: "تطيَّبت لهذا المسجد"، وليس المرادُ من هذه الإشارة: تخصيصَ ذلك المسجد، بل معناه: أيُّما امرأةٍ تطيَّبت وخرجت إلى المسجد لا يُقبَل كمالُ صلاتها، ولا يحصل لها فضيلةُ تلك الصلاة حتى ترجعَ فتغتسلَ غُسلًا كغُسل الجنابة، هذا إذا كان طيبُها شيئًا أصاب جميعَ بدنها، فتغسل حتى يزولَ الطِّيبُ من بدنها. وإن كان الطِّيبُ في موضعٍ مغسولٍ تَغسِلُ ذلك الموضعَ فقط، وإن لم يكن في بدنها بل في ثيابها تُبدل تلك الثيابَ المُطَيَّبة بثيابٍ غيرِ مُطيَّبةٍ. * * * 767 - وعن أبي موسى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ عَيْنٍ زانِيَةٌ، فَالمَرْأةُ إذا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وكذا"، يعني: زانية. قوله: "كلُّ عينٍ زانيةٌ؛ فالمرأةُ إذا استَعطرَتْ، فمرَّتْ بالمجلس فهي كذا وكذا؛ يعني: زانية"؛ يعني: إذا تعطَّرت المرأةُ ومرَّت بمجلسٍ أو مسجدٍ فقد هيَّجت شهوةَ الرجال بعطرها، وحملَتْهم على النظر إليها، فكلُّ مَن نظرَ إليها فقد زَنىَ بعينه، ويحصل لها إثمٌ بأنْ حملَتْه على النظر وشوَّشت قلبَه، وإذا كانت هي سببَ زناه بالعين فتكون هي أيضًا زانيةً؛ باشتراكها في الإثم. * * * 768 - عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ صلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكى مِنْ صلاتِهِ وَحْدَهُ، وصلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكى مِنْ صلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وما كَثُرَ فهو أَحَبُّ إلى الله".

قوله: "أزكى"؛ أي: أكثر ثوابًا. * * * 769 - عن أبي الدَّرْدَاء قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ في قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقامُ فِيهِمْ الصَّلاةُ إلاّ قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطانُ، فَعَلَيْكَ بالجماعَةِ، فَإنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ القاصِيَةَ". قوله: "اسْتَحوَذَ عليهم الشيطانُ"؛ أي: استَولَى وغَلَبَ عليهم؛ لأن تركَ الشريعةِ بغير عذرٍ متابعةُ الشيطان. "فعليك بالجماعة"؛ أي: الزَمِ الجماعةَ. قوله: "وإنما يأكلُ الذئبُ القاصيةَ"، تقديره: الشاةَ القاصيةَ؛ أي: البعيدةَ من الأغنام؛ يعني: الشيطانُ بعيدٌ من الجماعة كما أن الذئبَ لا يأكل الغنمَ المجتمعةَ؛ لاطِّلاع الراعي عليها، ويستولي الشيطانُ على مَن فارق الجماعةَ كما أن الذئبَ يأكل الشاةَ المفردةَ عن الأغنام، والراعي للجماعة: نظرُ الله إلى الجماعة وحفظُه إياهم، كقوله عليه السلام: "يدُ الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار". * * * 770 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ سَمِعَ المُنادي فَلَمْ يَمْنَعْهُ من اتِّباعِهِ عُذْرٌ"، قالوا: وما العُذْرُ؟، قال: "خَوْفٌ، أَوْ مَرَضٌ؛ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلاةُ التي صَلاَّها". قوله: "مَن سمع المنادي"؛ أي المؤذِّنَ، وهذا نفيُ الكمالِ، لا نفيُ أصلِ الصلاة. * * *

771 - وقال: "إذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمْ الغائِطَ فَلْيَبْدَأْ بالغائِطِ". قوله: "فَلْيَبْدَأْ بالغائط"؛ يعني: فليبدأ بإزالة الغائط، فيجوز له ترك الجماعة بهذا العذر، رواه "عبد الله بن الأرقم"، جدُّ (عبد الله): عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف القُرَشي. * * * 772 - وقال: "ثَلاثٌ لا يَحِلُّ لأِحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ: لا يَؤُمَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نفسَهُ بالدُّعاءِ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ، ولَا يَنْظُرْ في قَعْرِ بَيْتٍ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ، فَإِن فَعَلَ فَقَدْ دَخَلَ، ولَا يُصَلِّي وَهُوَ حاقنٌ حَتّى يَتَخَفَّفَ". قوله: "فقد دخل"؛ يعني: حصلَ له إثمٌ كمَن دخلَ، لا في قَدْرِ الإثم، شبَّهه بمَن دخل بحصول الإثم، وإن كان إثمُ مَن دخل أكثرَ. "وهو حَقِنٌ"؛ أي: يؤذيه البولُ أو الغائطُ. "حتى يتخفَّف"؛ أي: حتى يُزيلَ ما يؤذيه من البول أو الغائط. رواه ثوبان بن بُجْدُد. * * * 773 - عن جَعْفَر بن محمد، عن أبيه - رضي الله عنهما -، عن جابرٍ - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُؤَخّروا الصَّلاة لِطعامٍ ولا لِغَيْرِهِ". قوله: "لا تُؤخِّروا الصلاةَ لطعامٍ"؛ يعني: إذا كان الوقتُ ضيقًا تفوتُ الصلاةُ عن الوقت. * * *

23 - باب تسوية الصف

23 - باب تَسْوية الصَّفِّ (باب تسوية الصف) مِنَ الصِّحَاحِ: 774 - عن نُعمان بن بَشيرٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفوفَنا حَتَّى كَأَنَّما يُسَوِّي القِدَاحَ، فَرَأَى رَجُلًا بادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِ، فقال: "عِبادَ الله!، لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجوهكم". قوله: "كأنما يُسوِّي القِدَاحَ"، (القِدَاح) جمع (القِدْح) بكسر القاف، وهو السهم قبل أن يُراشَ ويُركَّبَ فيه النصل. "باديًا صدرُه"؛ أي: ظاهرًا ومتقدمًا صدره "عن صدور القوم". "أو لَيُخالِفَنَّ الله بين وجوهكم"؛ يعني: أدبُ الظاهرِ علامةُ أدبِ الباطن، فإن لم تتفقوا في الظاهر ولم تطيعوا أمرَ الله وأمرَ رسوله يقع من شؤم المخالفة اختلافٌ وكدورةٌ في قلوبكم، بحيث يَسرِي اختلافُ قلوبكم وكدورتُها إلى ظاهركم، فيقع بينكم عداوةٌ بحيث يُعرض بعضُكم عن بعضٍ. فهذا هو المراد بأن يُخالِفَ الله الوجوهَ، ويحتمل أن يريد به: تقبيح الله وجوههم بشؤم مخالفة الرسول عليه السلام، كمَن قال فيمَن رفع رأسه قبل الإمام: "أما يَخشَى أن يحول الله رأسَه رأسَ حمارٍ". * * * 775 - وقال: "أَقِيمُوا صُفوفَكُمْ وتَرَاضُّوا، فإنِّي أَراكُم مِنْ وَراءِ ظَهْرِي". وفي روايةٍ: "أَتِمُّوا الصُّفوفَ".

قوله: "أَقِيمُوا صفوفَكم"؛ أي: سوُّوا وأَتِمُّوا صفوفَكم، "وتراصُّوا"؛ أي: لِيَقرُبْ كلُّ واحدٍ منكم بجنب صاحبه، بحيث تتصل مناكبُكم تراصَّ الشيئان إذا انضمَّا ولزقَ أحدُهما بالآخر. قوله: "فإني أراكم من وراء ظهري"؛ يعني: لا تقفوا متفرِّقين؛ يعني: كونوا مستوِين في الصف ولا تظنُّوا أني لم أَرَكم، بل أراكم من وراء ظهري كما أرى من قُدَّامي؛ وهذه من المعجزة. * * * 776 - وقال: "سَوُّوا صُفوفَكُمْ فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفوفِ مِنْ إقامَةِ الصَّلاةِ". وفي روايةٍ: "مِنْ تَمامِ الصَّلاةِ". قوله: "من إقامة الصلاة"؛ أي: من إتمام الصلاة وإكمالها؛ يعني: تسويةُ الصفوف من أمر الشريعة كالصلاة، وبها يحصل الثواب. * * * 777 - وقال "أبو مَسْعودٍ الأَنِصارِي - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَناكِبنا في الصَّلاةِ، ويَقُولُ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفوا فَتَخْتَلِفَ قُلوبُكُم". قوله: "يمسح مَنَاكِبنا"؛ أي: يضع يدَه على مناكبنا ليُسوِّيَ مناكبنا في الصف. * * * 778 - عن أبي مَسْعودٍ الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَلِني مِنْكُمْ أُولو الأَحْلَامِ والنُّهى، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثم الذين يلونهم - ثلاثًا - وَإيَّاكُمْ وَهَيْشاتِ الأَسْواقِ".

قوله: "لِيَلِيني": حقُّ هذا اللفظ أن يكون بغير ياء بعد اللام الثانية؛ لأنه أمرٌ من (وَلِيَ يَلِي): إذا قَرُبَ، والياء تسقط في الجزم، ولكن رُوي هذا اللفظ بالياء من كتب "المصابيح"، ولعل هذا سهوٌ من الكاتب، أو كتبه بالياء ليُعلَم أصلُه، ثم قرأه الناس بالياء. "الأحلام" جمع: حِلْم، وهو السكون والوقار، وهم البالغون، و"النُّهَى" جمع: نُهْيَة، وهي العقل؛ يعني: لِيَقفِ العقلاءُ وذوو الوقار قريبًا مني؛ ليحفظوا صلاتي، وإن حصل لي سهوٌ يخبروني، وأجعل واحدًا منهم خليفتي إن احتجتُ إلى الخليفة، ولأن العقلاءَ وذوي الوقار أَولى بالتقديم من غيرهم. قوله: "ثم الذين يلونهم"؛ يعني: لِيَقفْ في الصف الأول مَن هو أكثرُ علمًا وعقلًا، ثم مَن هو أدنى منه في العلم والعقل يقف في الصف الثاني، ثم مَن هو أدنى مِن أهل الصف الثاني يقف في الصف الثالث. قوله: "وإياكم وهَيشاتِ الأسواق"، (الهَيشات) جمع: هَيشة، ويجوز: هَوشة، وهي الموضع الذي فيه كثرةُ رفعِ الأصوات واختلاطُ الناس من كل صنف؛ يعني: احذروا من أن تقفوا مختلطًا العالِم والجاهِل من غير تمييز، ويحتمل أن يكون معناه: احذروا من أن تصلُّوا في الأسواق وفي الموضع الذي لا يكون لكم فيه حضورٌ من كثرة الأصوات. * * * 779 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَى في أَصْحَابهِ تأَخُّرًا، فقالَ لَهُمْ: "تَقَدَّمُوا وائْتَمُّوا بي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ الله". قوله: "رأى في أصحابه تأخُّرًا"، معنى هذا الحديث كمعنى الحديث

المتقدم في أن معناه: ليقفِ العلماءُ والعقلاءُ خلفي، ومَن دونهم ليقفوا في الصف الثاني، فأهل الصف الثاني كأنهم يقتدون بالصف الأول في الظاهر لا في الحكم؛ لأن في الحكم كلهم مقتدون بالإمام. ويحتمل أن يكون معناه: لِيتعلَّمْ كلُّكم مني الصلاةَ وغيرَها من أحكام الشريعة، ولْيَتعلَّمِ التابعون منكم، وكذلك يتعلَّم قرنٌ مِن قرنٍ إلى آخر الدنيا. قوله: "حتى يُؤخِّرَهم الله" في دخول الجنة؛ يعني: لِيَكُنِ الرجلُ مسرعًا حريصًا في الخيرات، فمَن تأخَّر عن الخيرات تأخَّر عن الثواب ودخول الجنة. * * * 780 - وقال جَابرُ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه -: خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَآنا حِلَقًا، فقالَ: "مَا لي أَرَاكُم عِزينَ؟ "، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فقالَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائِكَةُ عِنْدَ رَبها؟ "، فَقُلْنَا: يا رَسولَ الله!، كيفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبهَا؟، قالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأُولى، ويَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ". قوله: "فرآنا حِلَقًا ... " إلى آخره، (الحِلَق) بفتح اللام: جمع (حلقة)، (فرآنا حِلَقًا)؛ يعني: فرآنا جلوسًا حلقةً حلقةً، كلُّ حلقةٍ في جانب المسجد. "عزين" جمع: عِزَة بتخفيف الزاء، وهي الجماعة المتفرقة؛ يعني: لِمَ جلستُم متفرقين؟! "ويتراصُّون"؛ أي: يتلاصقون بحيث تتصل مناكبُهم. * * * 781 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ صُفوفِ الرِّجالِ أَوَّلُها، وشَرُّهَا آخِرُها، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخِرُها، وشَرُّها أَوَّلُها".

قوله: "خيرُ صفوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صفوفِ النساء آخرُها وشرُّها أولُها"؛ يعني: الرجالُ مأمورون بالتقدُّم؛ فمَن هو أكثرُ تقدُّمًا فهو أشدُّ تعظيمًا لأمر الشرع، فلا جَرَمَ يحصل له من الفضيلة ما لا يحصل لغيره، وأما النساءُ فمأموراتٌ بأن يَحتجبن من الرجال؛ فمَن هي أكثرُ تقدُّمًا فهي أقربُ إلى صف الرجال، فتكون أكثرَ تركًا للاحتجاب، فلا جَرَمَ هي شرٌّ من النساء اللاتي تكون في الصف الأخير. * * * مِنَ الحِسَان: 782 - قال: "رُصُّوا صُفوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَها، وحاذُوا بالأَعْنَاقِ، فَوالذي نَفْسي بِيَدِهِ!، إنِّي لأرَى الشَّيْطانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّها الحَذَفُ". قوله: "رُصُّوا صفوفَكم"؛ أي: ضمُّوا مناكبَكم، "وقارِبُوا بينها وحاذوا بالأعناق"؛ أي: لِتَكُنْ أعناقُكم بعضُها محاذيةً لبعضٍ، ولا يتقدَّمْ بعضُها على بعضٍ. "الخَلَل": الفُرجة التي تكون بين الشخصَين في الصف. "الحَذَف" بالحاء غير المعجمة ويالذال المعجمة: غَنَم سُود صِغَار من غنم الحجاز، واحدها: حَذَفَة. الضمير في "كأنها" راجعٌ إلى مقدَّر؛ أي: جعلَ نفسَه شاةً أو ماعزةً كأنه الحَذَف. * * * 783 - وقال: "أَتِمُّوا الصَّفَّ المُقَدَّمَ، ثُمَّ الذي يَليهِ، فما كانَ مِنْ نقَصٍ فَلْيَكُنْ في الصَّفِّ الآخِر".

قوله: "الذي يليه"؛ أي: الصف الذي بعده. * * * 784 - وقال: "إنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الذينَ يَلونَ الصُّفوفَ الأُولى، وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَحَبُّ إلى الله مِنْ خُطْوَةٍ تَمْشيها تَصِلُ بها صَفًا". قوله: "يَلُونَ"؛ أي: يَقرُبون ويتقدَّمون إلى الصف الأول. روى هذا الحديثَ البراء بن عازب. * * * 786 - وقال النُّعمانُ بن بَشِير - رضي الله عنه -: كانَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفوفَنا إذا قُمْنَا إلى الصَّلاةِ، فَإِذا اسْتَوينَا كَبَّرَ. قوله: "يُسوِّي صفوفنا": هذا الحديث يدل على أن السُّنَّةَ للإمام أن يُسوِّيَ الصفوفَ، ثم يكبر. * * * 787 - وروي: أنَّهُ كانَ يقولُ عَنْ يَمينِهِ: "اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفوفَكُمْ"، وعَنْ يَسارِهِ: "اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفوفَكُمْ". "اعتدلوا"؛ أي: استَقِيمُوا. * * * 788 - وقال: "خِيارُكم أَلْيَنُكُم مَناكِبَ في الصَّلاةِ". قوله: "خيارُكم أَليَنُكم مناكبَ في الصلاة"، معنى (لين المَنْكِب) هنا: أن الرجلَ إذا كان في الصف وأمرَه أحدٌ أن يستويَ في الصف، أو يضعَ يدَه على مَنْكِبه

24 - باب الموقف

ليستويَ يطيعُه، ولو أراد أحدٌ أن يدخلَ في الصف يتركُه حتى يدخلَ في الصف ولا يمنعُه. وقال الخطابي: معنى (لين المنكب): السكون والخشوع في الصلاة؛ والوجه الأول أليق بهذا الباب. * * * 24 - باب المَوْقِفِ (باب الموقف) مِنَ الصِّحَاحِ: 789 - قال عبدُ الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: بِتُّ في بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ رضي الله عنها، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يسارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدي مِنْ وَراءِ ظَهْرِهِ، فَعَدَلَنِي كَذلِكَ مِنْ وَراءِ ظَهْرِهِ إلى الشِّقِّ الأَيْمَنِ. قوله: "فعَدَلَني كذلك"، (عَدَلَني) بتخفيف الدال؛ أي: حَرَفَني عن جانب يساره إلى جانب يمينه، وهذا يدل على أن الرجلَ الواحدَ يقف على يمين الإمام، وعلى أن مثلَ هذا القَدْر من الفعل لا يُبطل الصلاةَ. * * * 790 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّي، فجئْتُ، حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذ بِيَدي، فَأَدَارَني، خَلْفَهُ حتَّى أَقَامَني عَنْ يَمينِهِ، ثم جاء جَبَّارُ بن صَخْرٍ، فَقَامَ عن يَسارِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَ بيَدَيْنا جَميعًا فَدَفَعَنَا

حَتَّى أقامَنَا خَلْفَهُ. قوله: "فدَفَعَنا"؛ أي: أخَّرَنا، وهذا يدل على أن الرجلَين يقومانِ خلفَ الإمام بالصف كالجماعة. وجدُّ "جبَّار": أمية بن خنساء بن سنان. * * * 791 - وقال أَنَسٌ: صلَّيتُ أَنَا وَيَتِيمٌ في بَيْتِنا خَلْفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنا. قوله: "صلَّيت أنا ويتيمٌ في بيتنا خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمُّ سُلَيم خلفَنا": وهذا دليل على أن الصبيَّ يقف بجنب الرجل، والمرأةَ تقف خلفَ الرجال. * * * 793 - عن أبي بَكْرَةَ: أنَّهُ انْتَهَى إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ راكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، ثُمَّ مَشى إلى الصَّفِّ، فَذُكِر ذلِكَ لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "زادَكَ الله حِرْصًا ولا تَعُدْ". قوله: "انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع"، (انتهى)؛ أي: وصل؛ يعني: نَوَى وكبَّر قبلَ أن يَصِلَ إلى الصف؛ ليدركَ رسولَ الله - عليه السلام - في الركوع، فإنَّ مَن أدركَ الركوعَ فقد أدركَ تلك الركعةَ. "ولا تَعْدُ" بسكون العين وضم الدال؛ أي: ولا تُسرِع في المشي إلى الصلاة، بل لِيَكنْ عليك السكونُ والوقارُ في المشي، واصبرْ حتى تصلَ إلى الصف، ثم تشرع في الصلاة؛ فإنَّ مَن قصدَ الصلاةَ فإنه في الصلاة وفي وجدان الثواب، فلا يضرُّه فوتُ بعض الصلاة أو جميعها. * * *

من الحسان: 794 - عن سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ - رضي الله عنه -، قالَ: أَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كُنَّا ثَلَاثةً أنْ يَتَقَدَّمنَا أَحَدُنا. قوله: "أن يَتَقدَّمَنا أحدُنا"؛ أي: يكون أحدُنا إمامًا، وكذلك لو كانا اثنين ينبغي أن يكون أحدُهما إمامًا للآخر. * * * 795 - ورُوِيَ عن عَمَّار: أَنَّهُ قامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي والناسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ على يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُ عَمَّار حَتَّى أَنْزَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّار مِنْ صَلاتِهِ قالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذَا أَمَّ الرَّجُلُ القَوْمَ فلا يَقِفُ في مقامٍ أَرْفَعَ مِنْ مقامِهِم" - أو نحو ذلك -؟ قالَ عمَّار: لِذلِكَ اتَّبَعْتُكَ. قوله: "فأخذ على يدَيه فاتَّبعَه عمَّارٌ"، (أخذ على يديه)؛ يعني: جرَّ حذيفةُ عمارًا من خلف ظهره، فوافقه عمَّارٌ، حتى أنزلَه من الدكان، فلما فرغ عمَّارٌ من صلاته قال له حذيفة: لِمَ قمتَ في موضع أعلى من موضع المأمومين، وقد نَهَى رسولُ الله - عليه السلام - عن ذلك؟ فقال عمار: إنما وافقتُك في النزول من الدكان لأني سمعتُ هذا من رسول الله عليه السلام. وهذا دليلٌ على أن الخطوةَ والخطوتَين في الصلاة لا تُبطلها، وعلى أن كون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين مكروه والكراهية إنما تكون إذا كان موضعًا أعلى من موضع أهل الصف الذي خلفه لا من موضع أهل جميع الصفوف. ويدل أيضًا على أن المداهنة في الدِّين غيرُ جائزةٍ إذا لم يكن خوفٌ؛ لأن حذيفةَ لم يؤخِّر عمارًا إلى فراغه من الصلاة. * * *

796 - وقد صَحَّ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنَّه سُئِلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ المِنْبَرَ؟، قالَ: هُوَ مِنْ أَثْلِ الغابَةِ، عَمِلَهُ فلانٌ مَوْلَى فُلانةَ، وقامَ عليهِ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَكَبَّرَ، وقامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعْ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرضِ، ثُمَّ عادَ إلى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَرَأَ ثم ركع ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرى حتَّى سَجَدَ بالأَرْضِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ على النَّاسِ فقال: "إنَّما صَنَعْتُ هذا لِتَأْتَمُّوا بي، وَلِيتَعْلَمُوا صَلاتي". قوله: "هو من أَثْلِ الغابة"، (الأثل): شجر كبير يشبه الطَّرْفَاء، (الغابة) هنا: اسم موضع بالمدينة. "عمله فلان"، قيل: اسمه باقوم الرُّومي، و"فلانة"، قيل: اسمها عائشة، وقيل: التَّوأمة، امرأةٌ من المدينة، ولم يُعرَف نسبُها عند أصحاب الحديث. "القهقرى": أن يمشيَ على جانب خلف ظهره، بحيث لا يصرف وجهَه إلى تلك الجهة، وهذا المِنْبر كان ثلاث درجات متقاربة، فالنزولُ منه يتيسرُ بخطوة أو خطوتَين، فلا تبطل الصلاةُ بهذا القَدْر، وهذا يدل على أن الإمامَ إذا أراد تعليمَ القومِ الصلاةَ جازَ أن يكون موضعُه أعلى من موضع المأمومين. * * * 797 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: صَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حُجْرَتِهِ والنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الحُجْرَةِ. قوله: "من وراء الحُجْرة": أراد بهذه الحجرة موضعًا صنعَه رسولُ الله - عليه السلام - من الحصير في المسجد ليعتكفَ فيه، وإذا كان الإمامُ والمأمومُ في المسجد فلا بأسَ باختلاف مواضعهم.

25 - باب الإمامة

وقيل: المراد بهذا الحُجْرة: حُجْرة عائشة رضي الله عنها؛ لأن بابَها كان مفتوحًا إلى المسجد، ولو أمكن اتصالُ الصف بالإمام بأن يقف أحدٌ على باب الحُجرة ليكونَ بينه وبين الإمام ثلاثةُ أَذرُعٍ أو أقلُّ، وباقي القوم في المسجد، جازَ وصحَّ هذا التأويلُ، والظاهر أن هذا التأويلَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنه لو صلَّى رسولُ الله - عليه السلام - في حُجرته والناسُ في المسجد يقتدون به لَصلَّى كذلك في مرضه، ولم يستخلف أبا بكر - رضي الله عنه -، والله أعلم. * * * 25 - باب الإِمامةِ (باب الإمامة) مِنَ الصِّحاحِ: 798 - عن أبي مَسْعودٍ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله تعالى، فَإِنْ كانُوا في القِراءَةِ سَواءً فَأَعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَواءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرةً، فَإنْ كانُوا في الهِجْرَةِ سَواءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنَّاً، وَلاَ يَؤمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطانِهِ - ويُرْوَى: في أَهْلِهِ - ولا يَقْعَدْ في بَيْتِهِ على تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بإذْنِهِ". قوله: "يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواءً فأقدمُهم هجرةً"؛ يعني: إذا كان في القوم رجلٌ قارئٌ وهو يعلم من الفقه قَدْرَ ما تصح به الصلاة، ورجلٌ فقيةٌ يعلم من القرآن قَدْرَ ما تصحُّ به الصلاة فأيُّهما أَولى بالإمامة؟

قال سفيان الثوري وأحمد: إن الأقرأَ أَولى؛ لظاهر الحديث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الأفقهُ أَولى؛ لأن الحاجةَ في الصلاة إلى الفقه أكثرُ، أراد بـ (السُّنة): الأحاديث، وفي عهد الصحابة الأفقه هو الذي كان بالأحاديث أعلمَ. والمراد بـ (الهجرة): الانتقال من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، فمَن هاجَرَ أولاً فشرفُه أكثرُ من شرف مَن هاجر بعدَه، وبعد فتح مكة قد انقطعت الهجرة وبقي شرفُ المهاجرين في أولادهم؛ فولدُ مَن هاجَرَ آباؤه أولاً أَولى بالإمامة ممن هاجَرَ أبوه بعد ذلك إذا كانوا بالقراءة والفقه سواءً. قوله: "فأقدمُهم"؛ أي: أكبرُ منهم في السِّنِّ. قوله: "في سلطانه"؛ أي: في بلده، أو موضعٍ هو صاحب اليد فيه؛ يعني: السلطان أو نائبه أَولى بالإمامة من غيره إذا كان يعلم من القرآن والفقه قَدْرَ ما صحَّت به صلاته، وإن كان غيرُه أقرأَ أو أفقهَ، وكذلك صاحبُ البيتِ أحقُّ من غيره إذا علم ما صحَّت به صلاته، وإن كان غيرُه أعلمَ منه، وإن لم يعلم فمَن قدَّمَه بالإمامة فهو أَولى. قوله: "على تَكْرمَته"؛ أي: على موضع أو شيءٍ له فيه إكرامٌ وعِزَّةٌ كسجَّادة أو سريرٍ، يعني: لا يقعدْ أحدٌ على سجادةِ أحدٍ أو سريرِه أو غيرِ ذلك إلا بإذنه. * * * 799 - وقال "وإذا كانوا ثَلاَثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بالإِمامَةِ أَقْرَؤُهُمْ". قوله: "وأَحَقُّهُم بالإمامة أَقْرؤهم"، رواه أبو سعيد، وبهذا قال سفيان الثوري وأحمد، خلافًا للشافعي وأبي حنيفة فإنهما يقولان: الأفقه أَوْلَى. * * *

800 - وقال: "إذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا". قوله: "فليؤذِّنْ أحدُكم وليؤمَّكم أكثركم قرآنًا"، رواه عمرو بن سَلِمَة، يعني: كلُّ مَن يؤذِّنُ يجوزُ، ولكنْ مَنْ هو أكثرُ صلاحًا وعدالةً أَولى؛ لأنه يؤذِّنُ على المواضع المرتفعةِ، ويطَّلِعُ على بيوت الناس، فليكنْ صالحًا كي لا ينظرَ إلى ما لا يجوزُ، وليحفظ الوقتَ كي لا يؤذِّنَ قبل الوقت، أو بعدَ فوته، وليؤمَّ القومَ أَعْلَمُهم. وكنية عمرو أبو بُرَيد (¬1)، وجدُّه قيس. * * * مِنَ الحِسَان: 801 - قال أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه -: "لِيُؤَذَّنْ لَكُمْ خِيارُكُم، وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ". قوله: "ليؤذِّنْ لكم خِيارُكم"، أراد بالخِيَارِ الصُّلَحاءَ؛ لأن الخِيَار جمع خَير. * * * 802 - وقال أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَخْلَفَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى. قوله: "استخلَفَ ابن أم مَكْتُوم يَؤُمُّ الناسَ وهو أعمى"؛ يعني: أقام رسولُ الله عليه السلام ابن أمِّ مَكْتومٍ مُقامَ نفسِه في مسجد المدينة حين خرج عليه ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش" و"ق": "وكنية أبي عمرو أبو زيد"، والصواب ما أثبت.

السلام إلى الغزو ليؤمَّ الناس. وقد جاء في بعض الروايات أنه عليه السلام استخلفَ ابن أم مكتوم في ثلاث عشرة غزوة. * * * 803 - عن مالك بن الحُوَيرِثِ قال: قالَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَارَ قَوْمًا فلا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ". قوله: "ولْيَؤُمَّهم رجلٌ منهم"؛ يعني: صاحبُ البيت أحقُّ بالإمامة من أضيافه. * * * 804 - قال أبو أُمامَةَ - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثَلاَثَةٌ لا تُجاوِزُ صَلاتُهُم آذانُهُمْ: العَبْدُ الآبقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وامْرَأَةٌ باتَتْ وَزَوْجُها عليها ساخِطٌ، وإمامُ قَوْمٍ وهُمْ لَهُ كارِهون"، غريب. قوله: "ثلاثةٌ لا تجاوِزُ صَلاتُهم آذانَهم"؛ يعني: لا يكون لصلاةِ هؤلاء كمالُ قَبول، والذنبُ للمرأة إنما يكون إذا كان سَخِطَ زوجُها لسوء خُلُقِها وأدبها وقِلَّةِ طاعتِها الزوجَ، أما لو كان سُخْطُها من غير جُرْمها لا يكونُ له أثر. قوله: "وإمامُ قومٍ وهمْ له كارهون"، وهذا فيما إذا كان القومُ كَرِهُوا الإمامَ لبدعته، أو فِسْقِه، أو جَهْلِه بالإمامة، أمَّا إذا كان بينهم وبينه كراهةٌ وعداوةٌ بسببِ شيءٍ دنيوي لا يكونُ للإمام هذا الحكمُ. * * *

805 - وقال: "ثلاثةٌ لا تُقْبَلُ مِنْهُمُ صلاةٌ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كارِهُونَ، وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلاةَ دِبارًا - والدِّبارُ أَنْ يَأْتِيهَا بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ- ورَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَهُ". قوله "ثلاثةٌ لا تُقبلُ منهم صلاةٌ: مَن تَقدَّمَ" هذا نفيُ الكمال، (تَقَدَّمَ) أي: أمَّ قومًا. "اعْتَبَدَ مُحَرَّرَهُ"؛ أي: جعل حرًا عبدًا؛ أي: باع حرًا وقال: هذا عبدي. * * * 806 - وقال: "إنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ المَسْجِدِ لا يَجِدُونَ إمامًا يُصَلِّي بِهِمْ". قوله: "إن من أشراط الساعة"، الأشراطُ: العلامات. "أن يَتَدافَعَ أهلُ المسجد"؛ يعني: يدفعُ كلُّ واحدٍ عن نفسه الإمامةَ ويقول: لستُ عالمًا بها، يعني يتركُ الناسَ تعلَمُ ما تصحُّ به الصلاة وما تَفْسُدُ به، حتى لا يوجد في جمعٍ كثيرٍ من هو يَعْلَمُ الإمامة. * * * 807 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجِهادُ واجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَميرٍ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، والصَّلاةُ واجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فاجِرًا، وإنْ عَمِلَ الكَبائِرَ، والصَّلاةُ وَاجِبَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وإِنْ عَمِلَ الكبائِرَ". قوله: "الجهادُ واجبٌ عليكم مع كلِّ أميرٍ ... " إلى آخره، يعني: طاعةُ

26 - باب ما على الإمام

السلطانِ واجبةٌ على الرعية سواءٌ كان السلطان ظالمًا أو عادلًا، إذا لم يأمرْهم بالمعصية. والمسألةُ الأُولى: تدلُّ على أن الجهاد واجبٌ، وطاعةَ السلطان واجبةٌ، وأن السلطان لا ينعزِلُ بالفِسق. والمسألة الثانية: تدلُّ على جوازِ الصلاةِ خلفَ الفاسقِ، وكذا المبتدع، إذا لم يكنْ ما يقولُ كفرًا. والمسألة الثالثة: تدلُّ على جوازِ صلاةِ الفاسقِ، وعلى أن الكبيرةَ لا تُحبطُ العملَ الصالحَ. * * * 26 - باب ما علَى الإِمامِ (باب ما على الإمام) قوله: "ما على الإمام"، أي: على الإمام تخفيفُ الصلاةِ من غيرِ أن يترُكَ شيئًا من الأركان والسنن، لكنْ لا يُطوِّلُ القراءةَ والأذكارَ كي لا يمل المأمومون ويتركوا صلاة الجماعة من خَوْفِ المَلاَلة. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 808 - قال أنس - رضي الله عنه -: ما صليتُ وراءَ إمامٍ قطُّ أخفَّ صلاةً ولا أَتَمَّ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كانَ ليَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فيُخففُ مخافةَ أن تُفتَنَ أمُّه.

قوله: "أخفَّ"؛ أي: أخف في تَرْكِ تطويلِ القراءة والأَذْكار. قوله: "ولا أَتَمَّ"؛ أي: في الإتيان بالأركان والسنن. "أن تُفْتَنَ أمُّه"؛ أي: يُشَوَّشَ قلبُها بسبب بكاء ولدِها، ويزولَ ذوقُها وحضورُها في الصلاة. * * * 809 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأدخلُ في الصلاةِ وأنا أُريدُ إطالَتها، فأَسمعُ بكاءَ الصَّبيِّ، فأَتَجوَّزُ في صلاتي مما أعلمُ من شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ من بكائه". قوله: "فأَتَجَوَّزُ"؛ أي: فأقتصرُ ولم أطول القراءةَ والأذكارَ كي لا يُشَوَّشَ قلبُ أمِّ الصبيِّ. (الوجدُ): الحزن. رواه أبو قَتَادة. * * * 811 - عن قَيْس بن أبي حازِم قال: أخبرني أبو مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً قال: والله يا رسولَ الله، إني لأتأخَّرُ عن صلاةِ الغَداةِ من أجلِ فلانٍ مما يُطيلُ بنا، فما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةٍ أشدَّ غضَبًا منه يومئذٍ، ثم قال: "إنَّ منكم مُنَفِّرين، فأَيُّكم ما صلى بالناسِ فليتجوَّز، فإنَّ فيهم الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجةِ". قوله: "إنَّ منكم منفِّرِين، فأيُّكم ما صلَّى بالناس فليتجَوَّزْ"؛ أي: فليَقْتَصِر؛ يعني: بعضُ الأئمة يطوِّلُون الصلاةَ، ويعجزُ الناسُ عن متابعتهم إما لضَعْفٍ فيهم، أو لشغلٍ والتفاتِ خاطرٍ إلى أمرٍ وشغلٍ لهم، فيترُكُون صلاةَ

27 - باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

الجماعةِ، فكلُّ إمامٍ يفعلُ ذلك فكأنه منعَ الناسَ عن صلاة الجماعة. (ما) في (أيُّكم ما صلَّى): زائدة. * * * 812 - وقال: "يُصَلُّونَ لكم، فإن أَصابوا فلكم ولهم، وَإن أخطؤوا فلكم وعليهم". قوله: "يُصَلُّون لكم"؛ يعني: أئمتُكم يُصَلُّون لكم وأنتم تُتَابعُونَهم، فإن أَصَابُوا فَلَكُم؛ أي: إن كانت صلاتُهم صحيحةً مُشتمِلَةً على الشرائط والأركانِ فلكم ولهم الأجرُ، فذكرَ (لكم) وترك (لهم) لعلمِ المخاطَبِ به؛ لأنه معلومٌ أنَّ صلاةَ الإمام إذا كانت صحيحةً يحصلُ له الأجرُ كما يحصُلُ للمأمومين بل أكثر. قوله: "وإن أخطؤُوا فلكُم وعليهِم"؛ يعني: إذا كان في صلاة الإمامِ خَلَلٌ بأن كان جُنُبًا، أو مُحْدِثًا، أو نَجِسًا، ولم يعلم المأمومُ حالَه فللمأموم الأجرُ، وصلاتُه صحيحةٌ، وعلى الإمام الوزرُ إن كان عالمًا بكونِ نفِسه جُنُبًا أو مُحْدِثًا أو غير ذلك، وإن لم يعلَمْ حالَ نفسِه لم يكنْ عليه وِزْرٌ، ثم إذا علم لَزِمَه إعادةُ الصلاة. * * * 27 - باب ما على المَأْموم مِنَ المُتابعة وحُكْم المَسْبُوق (باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق) مِنَ الصِّحَاحِ: 813 - قال البَرَاءُ بن عازِبٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا نصلي خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال:

"سمِعَ الله لمنْ حمده"، لم يَحْنِ منا أحدٌ ظهْرَهُ حتى يضعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جبهتَه على الأرضِ. قوله: "لم يَحْنِ أحدٌ منا ظَهْرَه"، حنا يحنو، وحنى يحني: إذا عَوَّجَ شيئًا. هذا الحديث يدلُّ على أن السنةَ في حقِّ المأمومِ أن يكونَ خلفَ الإمامِ في أفعال الصلاةِ متأخِّرًا، لا معه، فلو كان معه جازتْ صلاتُه إلا تكبيرةَ الإحرامِ؛ فإنه لا بد للمأموم أن يصبرَ حتى يفرُغَ الإمامُ منها ثم يكبر المأمومُ. * * * 814 - وقال أنس - رضي الله عنه -: صلى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ، فلما قَضَى أَقْبَلَ علينا بوجهِهِ فقال: "أيُّها النَّاس، إني إِمامُكم، فلا تَسبقوني بالركوعِ ولا بالسجودِ ولا بالقيامِ ولا بالانصرافِ، فإني أَراكم أَمامي ومِنْ خلْفي". قوله: "فلمَّا قَضَى"، أي: فلما قضى صلاتَه. "فلا تَسْبقُوني"، أي: فلا تفعلُوا أفعالَ الصلاةِ قبلي، بل اصبروا حتى أدخلَ في ركنٍ، ثم اتْبَعُوني في ذلك الرُّكْنِ. قوله: "ولا بالانصراف"، يحتملُ أن يريدَ به التسليمَ من الصلاة، ويحتملُ أن يريدَ به الخروجَ من المسجدِ، وذكر بحث هذا في الحديثِ الآخرِ من الدعاءِ في التشهُّد. * * * 815 - عن أبي هريرة قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمنا يقولُ: "لا تُبادِرُوا الإِمامَ، إذا كَبَّر فكبرُوا، وإذا قال: ولا الضَّالين، فقولوا: آمين، وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حَمِدَهُ، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمدُ".

قوله: "لا تبادروا الإمام"؛ أي: لا تَسْبقُوه، معنى هذا الحديث كالحديث المتقدِّم. * * * 816 - وقال "إنما جُعِلَ الإِمام لِيُؤتَمَّ بهِ، فلا تختلِفوا عليه، فإذا ركعَ فاركعوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حَمِده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمدُ، وإذا سجدَ فاسجدُوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون". قال الشيخ الإمام رحمه الله: وقوله: "فصلُّوا جلوسًا" منسوخٌ بما روي. قوله: "ليؤتم"؛ أي: ليقتدى، (أجمعون) تأكيد للضمير المرفوع في (صلوا). قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه: قوله: "فصلوا جلوسًا" منسوخٌ، لِمَا رُوِيَ عن عائشة قالت: "لما ثَقُلَ رسولُ الله جاءَ بلالٌ يُؤْذِنُه بالصلاة". قول الشيخ: (فصلُّوا جلوسًا منسوخٌ) هذا عند أكثرِ الأئمةِ إلا أحمدَ وإسحاقَ بن راَهويه، فإنهما يقولان: لو شرعَ الإمامُ في الصلاةِ في حال المرضِ وهو قاعدٌ فليقْعُدِ المأمومون للحديث المتقدِّم، وإن شرعَ في الصلاة وهو صحيحٌ ثم مَرِضَ وقعدَ لم يَقْعُدْ المأمومون. * * * 817 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا ثَقُلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَ بلالٌ يُؤذِنُهُ بالصلاةِ، فقال: "مُرُوا أبا بكرٍ أن يصليَ بالناسِ"، فصلَّى أبو بكر تلك الأيامَ، ثم إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجدَ في نفسه خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بين رَجُلَيْنِ، ورجلاه تخُطَّان في الأرض حتى دخلَ المسجدَ، فلمَّا سمعَ أبو بكرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ يتأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لا يتأخرَ، فجاءَ حتى جلسَ عن يسارِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -،

فكانَ أبو بكرٍ يصلي قائمًا، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعدًا، يقتدي أبو بكرٍ بصلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والناسُ يقتدونَ بصلاةِ أبي بكرٍ، وفي روايةٍ: وأبو بكرٍ يُسمِعُ الناسَ التكبيرَ. قولها: "لما ثَقُلَ رسولُ الله"؛ أي: اشتدَّ مرضُه، و"يُؤْذِنه" بسكون الهمزة وتخفيف الذال؛ أي: يُعْلِمُه ويخبرُه و (يُؤَذِّنُه) بفتح الهمزة وتشديد الذال؛ أي: يَدْعوه. و (التأذينُ): رَفْعُ الصوتِ في دعاءِ أحدٍ أحدًا، أو في الأذان. "وَجَدَ في نفسه خِفَّةً"؛ أي: قوةً وزوالَ بعضِ المَرَضِ. "يُهَادَى بين الرَّجُلَين"؛ أي: يمشي بين رجلين إحدى يديه على عاتقِ أحدِهما، والأخرى على عاتقِ الآخر، والرجلان كانا عليَّ بن أبي طالب، وعباسَ بن عبد المطلب - رضي الله عنهما -. "ورجلاه تَخُطَانِ"، أي: تَنْجَرَّان على الأرض، ولا يقدِرُ أن يرفعَهما عن الأرض مِنْ غاية الضَّعْف. "حِسُّه"؛ أي: حركتُه، أو صوتُه. "ذهبَ يَتَأَخَّرُ"؛ أي: طَفِقَ وقَصَدَ أن يتأخَّر عن موضعِه ليقومَ رسولُ الله مَقامَه. "فأومأ"؛ أي: فأشارَ. قوله: "يقتدي أبو بكرٍ بصلاةِ رسولِ الله"، اختلفَ العلماءُ في هذا، فروى ابن عباسٍ وجماعةٌ كثيرةٌ عن عائشة: أنَّ رسولَ الله كان إمامًا، وأبو بكر يقتدي به. قوله: "والناسُ يَقْتَدُون بصلاةِ أبي بكر"، معناه: والناسُ يَصْنَعُون مثلَ ما

يصنعُ أبو بكر، وليس معناه أن أبا بكرٍ كان إمامَ القومِ ورسولُ الله كان إمامَ أبي بكر؛ لأن إمامة المأمومِ غيرُ جائزةٍ، بل كلُّهم اقتدَوا برسول الله. وروى مسروقٌ عن عائشةَ: "أن رسولَ الله جلسَ في الصفِّ خلفَ أبي بكرٍ واقتدى بأبي بكر"، والروايةُ الأولى أَصحُّ. قوله: "وأبو بكرٍ يُسْمِعُ الناسَ التكبيرَ"؛ يعني: قالتْ عائشةُ بعد قولها: وكان رسولُ الله يصلِّي قاعدًا، وأبو بكرٍ يُسْمِعُ الناسَ التكبيرَ، يعني: كان أبو بكرٍ مكبرًا لا إمامًا. وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ المأمومَ إذا صلَّى خلفَ إمامٍ بعضَ الصلاةِ، ثم تركَ الإمامُ الإمامةَ أو بَطَلَتْ صَلاتُه، وجاءَ إمامٌ آخرُ= للمأمومِ أن يصلِّيَ باقيَ صَلاتِه خلفَ الإمامِ الثاني من غير استئنافِ التكبيرِ والنيةِ، ويدلُّ أيضًا على جَوازِ كونِ صلاةِ المأموم أقلَّ من صلاةِ الإمامِ؛ لأنَّ القومَ هنا قد صلُّوا بعضَ الصلاةِ قَبْلَ رسولِ الله. وقال الشافعيُّ في قولٍ: لو صلَّى رجلٌ منفرِدًا بعضَ الصلاة، ثم اقتدى في باقيها جازَ بدليل هذا الحديث، وهذا بعيد لأنه ههنا صلَّى القومُ جميعَ الصلاةِ مع الإمامِ إلا أنهم صلُّوا بعضَ الصلاة خلفَ إمامٍ وبعضَها خلفَ إمامٍ آخرَ. * * * 818 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا يخشى الذي يرفعُ رأْسَهُ قبلَ الإمام أنْ يُحوِّلَ الله رأسَه رأسَ حِمارٍ". وقال: "لا تُبادروا الإمامَ، إذا كبَّر فكبروا، وإذا قال: ولا الضالين

فقولوا: آمين، واذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". قوله: "أن يُحَوِّلَ الله"؛ أي: أن يَقْلِبَ الله، ويُبَدِّلَ الله. * * * مِنَ الحِسَان: 819 - عن عليٍّ ومُعاذ بن جبَل - رضي الله عنهما - قالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أتى أحدُكم الصلاةَ والإمامُ على حالٍ، فليصْنَعْ كما يصنعُ الإمامُ"، غريب. قوله: "إذا أتى أحدُكم الصلاة ... " إلى آخره؛ يعني: إذا نوى المأمومُ وكَبَّر تكبيرةَ الإحرامِ فلْيُوافقِ الإمامَ فيما هو فيه من القيام، أو الركوع، أو غير ذلك، ثم إنْ أدركَ الركوعَ احْتُسِبَ له تلك الرَّكعة، وإن أدركَه بعد الركوع فليوافقْه ولم يُحتَسَبْ له تلك الرَّكْعَة. * * * 820 - وقال: "إذا جئتم إلى الصلاةِ ونحنُ سُجودٌ فاسجُدوا، ولا تَعُدُّوه شيئًا، ومَنْ أَدرك الركعةَ فقد أَدرَكَ الصَّلاةَ". قوله: "ونحن سجود"، السُّجُودُ هنا جمع سَاجِد. "فاسجدوا ولا تَعُدُّوه شيئًا"؛ أي: ولا تَجْعَلُوا السجودَ رَكْعةً؛ يعني: فوافِقُوني فيما أنا فيه من الأركان، ولكنْ لا يحصُلُ لكم رَكعةٌ بذلك إن لم تركعوا معي الرُّكُوع. قوله: "ومنْ أدركَ الرَّكعةَ فقد أدركَ الصَّلاَة"، قيل: معنى الرَّكْعةِ هنا

الركوعُ، ومعنى الصلاة: الركعةُ؛ يعني: منْ أدركَ الركوعَ مع الإمام فقد أدركَ تلكَ الرَّكعةَ. وقيل: بل معناه من أدركَ رَكعةً فقد أدركَ الصلاةَ مع الإمام؛ يعني: يحصُلُ له ثوابُ الجماعةِ، وإن أدركَ مع الإمام أقلَّ من رَكعةٍ لا يحصُلُ له ثوابُ الجماعةِ عند بعض أصحابِ الشافعي. والأظهرُ أنه يحصُلُ له ثوابُ الجماعةِ إذا أدركَ الإمامَ قبل السلام، وأما صلاة الجمعة لا تحصُلُ له بإدراك أقلَّ من رَكعةٍ بلا خلاف. * * * 821 - عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى للهِ أربعين يومًا في جماعةٍ يُدركُ التكبيرةَ الأُولى؛ كُتِبَتْ له براءتانِ: براءةٌ من النارِ وبراءةٌ من النِّفاقِ". وقال: "من صَلَّى لله أربعينَ يومًا كُتِبَ له بَرَاءَتان: براءةٌ من النار وبراءةٌ من النَّفَاق". رواه أنس. "براءة من النار"؛ أي: نجاةٌ من النار. "وبراءة من النفاق"؛ أي: طهارةٌ وخَلاَصٌ من النفاق عند الله وعند الناس؛ لأنَ مَنْ سَعَى في الصلواتِ الخمسِ حتى يدركَ التكبيرةَ الأولى مع الإمام فهذا الحرصُ منه على الصلاة دليلٌ على كَمَالِ إيمانِه؛ لأن المنافقَ قلَّما يصلِّي بالجماعة، ولو صلَّى بالجماعةِ يؤخِّرُ الصلاةَ حتى تفوتَه بعضُ الرَّكَعات لعدم إيمانِه بنيلِ الثَّواب. * * *

28 - باب من صلى صلاة مرتين

822 - وقال: "مَنْ توضَّأَ فأحسَنَ وُضوءَه، ثم راحَ فوجدَ الناسَ قد صَلَّوا؛ أَعطاهُ الله تعالى مثلَ أجرِ مَنْ صلاها وحَضَرها، لا ينقُصُ ذلك من أُجورهم شيئًا". قوله: "مَنْ تَوَضَّأَ فأحسنَ وضوءَه ... " إلى آخره، وهذا إذا لم يكنْ منه تقصيرٌ بتأخير الصلاةِ من غير عُذْرٍ، أما لو أخَّرَ حضورَ الجماعةِ بغير عُذْرٍ حتى تفوتَه الجماعةُ لم يكنْ له هذا الثوابُ. * * * 823 - عن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ وقد صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا رجلٌ يتصَدَّقُ على هذا، فيُصلِّيَ معه؟ "، فقامَ رجلٌ فصَلَّى معه. قوله: "ألا رجلٌ يَتصَدَّقُ"، على هذا الهمزة في (ألا) للاستفهام، و (لا) بمعنى (ليس)؛ يعني: هل كان رجلٌ يصلِّي مع هذا الرجلِ بالجماعةِ حتى يَحْصُلَ لهذا الرجلِ الداخلِ ثوابُ الجماعةِ فيكون كأنه قد أعطاه صدقةً؛ لأنه جعلَ ثوابَ صلاتِه من واحدٍ إلى سبعة وعشرين. وهذا دليلٌ على أن دلالةَ أحدٍ على الخير وتحريضَ أحدٍ على الخيرِ صدقةٌ عليه، وهو دليلٌ على أنَّ مَن صلَّى بالجماعة يجوزُ له أن يصلِّيَ مرةً أخرى بالجماعة فيكون إمامًا أو مأمومًا. * * * 28 - باب مَنْ صلَّى صلاةً مرَّتَينِ (باب من صلى صلاة مرتين) 824 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: كان مُعاذُ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - يُصلِّي مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم

يأْتي قَومَه، فيُصلي بهم. وقال جابرٌ: كانَ معاذُ بن جَبَل يُصلِّي معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العِشاءَ، ثم يَرجِعُ إلى قومِهِ، فيُصلي بهم العشاءَ، وهي له نافلةٌ. قوله: "فيصلِّي بهم"؛ أي: بالقوم. قوله: "وهي له نافلةٌ"؛ يعني: الصلاةُ الثانيةُ نافلةٌ لمعاذ؛ لأنَّ النافلةَ معناها الزيادةُ، والصلاةُ الثانيةُ زيادةٌ؛ لأنه لو لم يُصَلِّها لم يكنْ عليه إثمٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 825 - عن يَزيد بن الأَسْوَد أنه قال: شَهِدْتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حجَّتَهُ، فصلَّيْتُ معَهُ صلاةَ الصُّبحِ في مَسجدِ الخَيْفِ، فلمَّا قضى صلاتَهُ وانحرفَ، فإذا هو برجُلَيْنِ في آخرِ القومِ لم يُصَلِّيا مَعَهُ، قال: "عليَّ بهما"، فَجِيءَ بهما تُرْعَدُ فرائصُهما قال: "ما مَنَعَكما أن تُصَلِّيا معَنا؟ "، فقالا: يا رسولَ الله! إنَّا كنا صلَّينا في رِحالِنا، قال: "فلا تَفْعلا، إذا صلَّيتُما في رِحالِكما، ثم أتَيْتُما مَسجِدَ جماعةٍ، فصلِّيا معهم، فإنها لكُما نافلةٌ". "شَهِدْتُ مع النبيِّ عليه السلام حَجَّتَه ... " إلى آخره، (شَهِدتُ)؛ أي: حَضرْتُ، و (انحرف)؛ أي: انصرفَ ورجعَ. قوله: "عليَّ بهما"؛ أي: ائتوني بهما، وأحضروهما عندي. (تُرْعَدُ) - بضم التاء وفتح العين -؛ أي: تُحَرَّك. (الفرائصُ): جمع فَرِيصَة، وهي اللَّحْمُ الذي تحت الكَتِفِ، ومن خافَ تحرَّكَ ونَبَضَ ذلك اللحمُ من الخوف؛ يعني: يخافان من رسول الله عليه

29 - باب السنن وفضلها

السلام أن يضربَهما من تركِهما الصلاةَ مع رسول الله عليه السلام. اعلم أن مَن صلَّى صلاةً، ثم أدركَ جماعةً يُصَلُّون تلك الصلاةَ بالجماعة يوافقُهم فيها، أيَّ صلاةٍ كانت عند الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يعيد الصبحَ والعصرَ والمغربَ، ثم إذا صلَّى الثانيةَ فالثانيةُ له نافلةٌ بدليلِ هذا الحديث. جدُّ "يزيد": المُطّلِبُ بن أسد بن عبد العُزَّى بن القُصَيِّ القُرَشي. * * * 29 - باب السُّنَن وفَضْلها (باب السنن وفضلها) مِنَ الصِّحَاحِ: 826 - عن أم حَبيْبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى كلَّ يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرةَ ركعةً تَطَوُّعًا بني له بيتٌ في الجنةِ، أربعًا قبلَ الظهرِ، وركعتينِ بعدها، وركعتينِ بعدَ المَغربِ، وركعتينِ بعدَ العِشاءِ، وركعتينِ قبلَ صلاةِ الفَجْرِ". قوله: "عن أم حَبيبة"، هي زوجةُ النبيِّ عليه السلام، وهي أختُ معاوَية بن أبي سفيان، وقد ذُكِرَ نسبُ أبي سفيان. قوله: "تطوُّعًا"، التطوُّعُ ما ليس بفريضة، وهو قِسمان: سنةٌ ونافلة، والمراد به هنا السُّنَّة.

"حفصة" هي بنتُ عمرَ بن الخطاب، وهي زوجة النبي عليه السلام. * * * 827 - وقال ابن عمر: صليتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتينِ قبلَ الظُّهرِ، وركعتينِ بعدَها، وركعتينِ بعدَ المَغربِ في بيتِهِ، وركعتينِ بعدَ العِشاءِ في بيته، وحدَّثتني حَفْصة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلي ركعتينِ خَفيْفتينِ حينَ يطلُعُ الفجرُ. وفي روايةٍ: وكانَ لا يُصلِّي بعدَ الجمعةِ حتى ينصرِفَ، فيُصلِّي ركعتينِ في بيتِهِ. قوله: "رَكْعتين خفيفتين"، يريد بهما سنةَ الصبح. قوله: "فيصَلِّي رَكْعتين في بيته"، يريد بهما سُنَّةَ الجمعة، وسُنَّةُ الجمعةِ كسنة الظهر. * * * 828 - وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من التطوُّعِ، فقالت: كان يُصلِّي في بيتي قبلَ الظُّهرِ أربعًا، ثم يَخرجُ، فيُصلي بالناسِ، ثم يدخلُ فيُصلي ركعتَينِ، ويُصلي بالناسِ المَغربَ، ثم يَدخُلُ فيُصلي ركعتَينِ، ثم يُصلي بالناسِ العِشاء، ثمَّ يدخُلُ بيتي، فيُصلي ركعتَينِ، وكان يُصلي من اللَّيلِ تِسْعَ ركَعاتٍ فيهنَّ الوِتْرُ، وكانَ يُصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، فكان إذا قرأَ وهو قائمٌ ركعَ وسجدَ وهو قائمٌ، واذا قرأَ وهو قاعدٌ ركعَ وسجدَ وهو قاعدٌ، وكان إذا طلَعَ الفَجْرُ صلَّى ركعتينِ، ثم يخرجُ، فيُصلي بالناسِ صلاةَ الفَجْرِ.

قوله: "من التطوُّع"؛ أي: من غير الفريضةِ، وتطوُّعُ النَّبيِّ كلُّه سُنَّةٌ. قولها: "كان يصلِّي في بيتي قبلَ الظُّهْرِ أربعًا"، هذا دليلٌ على استحبابِ أداءِ السُّنَّةِ في البيت، فما هو فرضٌ إظهارُه أَوْلَى، وما هو تطوُّعٌ إخفاؤُه أَوْلَى. وفي زماننا إظهارُ السنة الراتبةِ أَوْلَى ليتعلَّمَها الناسُ ولا تَنْدَرِسَ، ولأنه لو رأى الناسُ واحدًا يصلِّي الفريضةَ في المسجد ولم يَرَوْه يصلِّي السنة اتَّهَمُوه وظَنُّوه تاركًا للسُّنَّة. قولها: "فيهنَّ الوِتْر"؛ يعني: الوتر وصلاة الليل كلُّها واحدة. واختلفَ العلماءُ في أنَّ مَن صلى الوتر أكثر من ركعةٍ إلى ثلاثَ عشرةَ ركعةً فهل جميعُها وتر، أم الوترُ ركعةٌ والباقي صلاة الليل؟ فالمفهوم من الأحاديثِ الواردةِ في الوتر أن جميعَها وترٌ، وليس صلاة الليل غير الوتر إلا في حقِّ مَنْ صلَّى الوترَ قبلَ النوم، ثم نامَ وقامَ وصلَّى فإنه ما صلَّى بعد النوم فهو صلاةُ الليل، وكذلك منْ لم يصلِّ قبلَ النوم فإذا قام من النوم وصلَّى أكثرَ من ثلاثَ عشرةَ ركعةً يسلِّمُ من كلِّ ركعتين، ثم يصلِّي ركعةً واحدةً ويسلِّم، فإنَّ ما صلَّى قبلَ الركعة الأخيرة فهي صلاةُ الليل؛ لأنه لم يُنْقَل الوترُ عن النبي أكثرَ من ثلاثَ عشرةَ رَكعةً. قولها: "وكان يُصلِّي ليلًا طويلًا قائمًا وليلًا طويلًا قاعدًا"؛ يعني: يصلِّي صلاةً كثيرةً من القيام، أو يصلِّي رَكعاتٍ مطوَّلاتٍ في بعض الليالي من القيام، وفي بعضٍ يصلِّي صلاةً طويلةً من القُعُود، وإنَّما فعلَ هكذا ليعلِّمَ الناسَ جوازَ غيرِ

الفرائضِ من الصلوات عن القُعُود. قولها: "فكان إذا قَرأَ ... " إلى آخره، يعني: إذا صلَّى عن القيام يركع ويسجدُ عن القيام، وإن صلَّى عن القعود يركعُ ويسجدُ عن القعود، ولا يقومُ لأجلِ الركوع إذا صلَّى عن القُعود. * * * 829 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: لم يكنْ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النوافلِ أشدَّ تعاهُدًا منه على ركعتَي الفَجْرِ. قولها: "من النوافل"؛ أي: من السُّنَن. "تَعَاهُدًا"؛ أي: مداومةً على رَكْعتي الفجر؛ أي: على سنة الفجر. * * * 830 - وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتا الفَجْرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها". قولها: "وما فيها"؛ أي: وما في الدنيا من المال، وليس معناه وما يصْدُرُ عن عبادِ الله فيها من الأعمالِ الصالحة، وقراءةِ القرآن، والذِّكْر، والصيامِ، وغيرِ ذلك من الخيرات. * * * 831 - وقال: "صلُّوا قبلَ المَغربِ ركعتينِ، صلُّوا قبلَ المغربِ ركعتينِ"، قال في الثالثة: "لمَنْ شاءَ، كراهية أن يتَّخِذها الناسُ سُنةً". قوله: "صلُّوا قبلَ المغرِب رَكْعتين"؛ يعني: السنةُ أن يصلِّيَ رَكعتين

بعد أذان المغرب وقبل الشُّرُوع في الفَرْض. قال أنس - رضي الله عنه -: كنَّا في المدينة فإذا أَذَّنَ المؤذِّنُ لصلاة المغرب ابتدَرُوا السَّوَارِيَ؛ أي: فركَعوا رَكعتين حتى إنَّ الرجلَ الغريبَ ليدخلُ المسجِدَ فيحسَبُ أن الصلاةَ قد صُلِّيَتْ من كثرةِ مَنْ يُصَلِّيها. السَّواري: جمع سارية وهي الأُسْطُوَانة؛ يعني: يقفُ كلُّ واحدٍ خلفَ أُسْطُوَانةٍ يُصَلِّي هاتين الركعتين قبل الشُّروعِ في الفَرْض. قوله: "كراهية أن يتخذها الناس سنة"؛ يعني: مِن خشيةِ أن يتَّخِذَها الناسُ واجبًا. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن بُرَيدة، عن عبد الله المُزَني، عن رسول الله عليه السلام، وعبد الله المُزَني أبوه عمرو بن هلال والد علقمةَ وبَكْر. * * * 832 - وقال: "من كان منكم مُصلِّيًا بعدَ الجمُعةِ فليُصَلِّ أربعًا". قوله: "من كان منكم مُصَلِّيًا"، هذا دليلُ التخيير وعَدَمِ الوجوب، واختُلِفَ في السنةِ بعد صلاة الجمعة، ففي قول: هي أربعُ رَكَعاتٍ بدليلِ هذا الحديث، وفي قول: رَكْعتان بدليلِ حديثِ ابن عمرٍو، وقد تقدَّم. * * * مِنَ الحِسَان: 834 - عن أم حَبيبة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: "مَنْ حافظَ على أربعِ ركعاتٍ قبلَ الظهرِ وأربعٍ بعدَها حرَّمَه الله على النارِ". قوله من الحِسَان: "من حافظ على أربعِ ركعاتٍ قبلَ الظُّهْرِ وأربعٍ بعدَها حرَّمَه الله على النار". قوله: "حافظ"، أي: داوَمَ. * * * 835 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ قبلَ الظهرِ ليسَ فيهن تسليمٌ تُفْتَحُ لهنَّ أبوابُ السماءِ"، رواه أبو أَيُّوب. وقال: "أربعٌ قبلَ الظهرِ ليسَ فيهنَّ تسليمٌ، تُفْتَحُ لهنَّ أبوابُ السَّماء". رواه أبو أيوب. يعني: أربعُ ركعاتٍ قبلَ الظهرِ بتسليمةٍ واحدةٍ تُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماء؛ أي: تُرْفَعُ بها إلى الحَضْرَة؛ أي: قُبلَتْ. * * * 836 - وروي: أنه عليه السلام كان يُصلي أربع ركعاتٍ بعد الزوالِ، لا يسلِّمُ إلا في آخرهنَّ، وقال: "إنها ساعةٌ تُفْتَحُ فيها أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أن يصعدَ لي فيها عملٌ صالحٌ". قوله: "كان يصلِّي أربع ركعاتٍ بعدَ الزَّوَالِ لا يُسلِّمُ إلا في آخرهنَّ، فقال: إنها ساعة تُفْتَحُ فيها أبوابُ السماء"، أراد بهذه الأربعِ سنةَ الظهرِ التي قبلَها. * * *

837 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امْرءاً صلى قبلَ العصرِ أربعًا". وقال: "رَحِمَ الله امرأً صَلَّى قبلَ العصْرِ أربعًا". والمرادُ منه أيضًا سنةُ العَصْر. * * * 839 - وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلي قبلَ العصرِ أربعَ ركعاتٍ. قوله: "كان يصلِّي قبلَ العصرِ أربعَ ركعاتٍ"، والمرادُ منه أيضًا سنةُ العصر. * * * 841 - وقال: "مَنْ صلى بعدَ المغربِ ستَّ ركعاتٍ لم يتكلَّمْ فيما بَيْنَهُنَّ بسوءٍ عُدِلْنَ له بعبادةِ ثنثي عشرةَ سنةً". قوله: "من صلَّى بعدَ المغرب ستَّ ركعات ... " إلى آخره، وقال ابن عباس: الصلاةُ بين المغرب والعشاء ناشئةُ الليل. * * * 842 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى بعدَ المَغربِ عشرينَ ركعةً بنى الله له بيتًا في الجنةِ". قوله "مَن صلَّى بعدَ المغربِ عشرينَ ركعةً بنى الله له بيتًا في الجَنَّة"، السُّنةُ الراتبة بعد المغرب ركعتان، وما زاد عليهما سنةٌ غيرُ راتبة.

والمفهوم من هذا الحديث أن السنةَ المذكورةَ في الحديثِ الأولِ هي مع الرَّكعتين الراتبتين لا دونهما. * * * 843 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العِشاءَ قَطُّ فدخلَ عليَّ إلا صلَّى أربعَ ركَعاتٍ أو ستَّ ركَعاتٍ. قولها: "إلا صَلَّى أربع ركعات، أو ست ركعات"، السنةُ الراتبةُ بعدَ العشاء ركعتان، وما زاد عليهما غيرُ راتبة، وهذه الأربعُ أو السِّتُّ هي مع الركعتين الراتبتين وهذه الركعاتُ غيرُ الوِتْرِ، ومعنى السنةِ الراتبةِ ما داومَ عليها رسولُ الله عليه السلام، هي مأخوذةٌ من الرُّتُوب؛ وهو الثبوتُ والدَّوَام. * * * 844 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} الركعتينِ قبلَ الفجرِ، و {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} الركعتين بعدَ المغربِ". قوله: " {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} الركعتين ... " إلى آخره، (الإدْبارُ) والدُّبور: الذهاب، و (إدبار النجوم) يعني: عقيبَ ذهابِ نجومِ الليل، وهو سنةُ الصبح؛ لأن وقتَ سنةِ الصبحِ ذهابُ النجومِ وغروبُها، والسجود في قوله: "وأدبار السجود" فريضةُ المغرب، والمراد بـ "أدبار السجود" سنةُ المَغْرِب. * * *

30 - باب صلاة الليل

30 - باب صلاة الليل (باب صلاة الليل) مِنَ الصِّحَاحِ: 845 - عن عُروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي فيما بين أن يَفْرُغَ من صلاةِ العشاءِ إلى الفجرِ إحدى عشرةَ ركعةً، يُسلِّم من كل ركعتينِ، ويُوتِر بواحدةٍ، فيسجدُ السجدةَ من ذلك قدرَ ما يقرأُ أحدُكم خمسينَ آيةً قبلَ أنْ يرفعَ رأسَه، فإذا سكتَ المؤذِّنُ من صلاةِ الفجرِ وتبيَّن له الفجرُ؛ قامَ فركعَ ركعتينِ خفيفتينِ، ثم اضطجَع على شِقِّه الأيمنِ حتى يأتيَهُ المؤذِّنُ للإقامةِ، فيخرجُ. قوله: "فيسجُدُ السجدةَ من ذلك"، (من) للتبعيض، يعني: قد كان بعضُ سَجداتهنَّ طويلاً بقدْر ما يقرَأُ أحدٌ خمسين آيةً، ولم يرفَعْ رأسَه بعدُ. قولها: "فركع ركعتين خفيفتين"؛ يعني سنةَ الصبح. قولها: "ثم اضطجع"؛ أي: اضطجع للاستراحة ليزولَ عنه تعبُ قيامِ الليل؛ ليصلِّيَ فريضةَ الصبحِ على نشاطٍ، ولم يكنْ به مَلالةٌ. * * * 846 - وقالت عائشة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر فإنْ كنتُ مستيقظةً حدَّثني وإلا اضطجعَ. قولها: "فإنْ كنتُ مستيقظةً حدَّثَني، وإلا اضطجَع"، هذا دليلٌ على أنَّ الفَصْلَ بينَ سنةِ الصبحِ وبينَ الفريضةِ جائزٌ، وعلى أنَّ الحديثَ مع الأهلِ سُنَّةٌ. * * *

848 - وقال القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً منها الوِتر، وركعتا الفجرِ. "وقال القاسم بن محمد"، هو ابن محمد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه -. * * * 849 - وقال مسروق: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها عن صلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالليلِ؟، فقالت: سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرةَ سوى ركعتَي الفجرِ. قولها: "سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر"؛ يعني: قد كان يصلِّي في ليلٍ سبعَ رَكَعاتٍ مع الوِتْر غيرَ سُنْةِ الفجر. وفي ليلٍ تسعًا مع الوِتْر غيرَ سُنة الفجر، وفي ليلٍ إحدى عشرةَ ركعةً مع الوِتْر غيرَ سنةِ الصبح. * * * 850 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ لِيُصلي افتتحَ صلاتَه بركعتينِ خفيفتينِ. قولها: "افتتح صلاتَه برَكْعتين خفيفتين"؛ يعني: كان أولُ صلاتِه بالليل رَكْعتين خفيفتين لا طويلتين؛ ليحصُلَ به نشاطٌ بالصلاة ويعتادَ بها، ثم يزيد عليهما بعد ذلك، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ مَن يريدُ أن يَشْرَعَ في أمرٍ فيشرعُ فيه قليلًا قليلًا. * * * 852 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال: بِتُّ عندَ خالتي ميمونَة ليلةً والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَها، فتحَدَّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهلِهِ ساعةً ثم رقدَ، فلمَّا كان ثلثُ الليلِ

الآخرُ أو بعضُه قعدَ فنظرَ إلى السماء فقرأ: " {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} " حتى خَتَمَ السورةَ، ثم قامَ إلى القِربةِ، فأَطلقَ شِناقَها، ثم صبَّ في الجَفَنة، ثم توضأَ وضوءًا حسنًا بين الوضوءينِ لم يُكْثِرْ وقد أَبْلَغَ، فقامَ يصلي، فقمتُ فتوضأتُ فقمتُ عن يسارِهِ، فأخذَ بأُذُني عن يمينِهِ، فتتَامَّتْ صلاتُه ثلاثَ عشرةَ ركعةً، ثم اضطجعَ فنامَ حتى نفخَ، وكان إذا نامَ نفخَ، فآذَنَهُ بلالٌ بالصلاةِ فصلَّى ولم يتوضأ، وكانَ في دعائه: "اللهمَّ اجعلْ في قلْبي نُورًا، وفي بصري نورًا، وفي سَمْعي نُورًا، وعن يَميني نُورًا, وعن يَساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأَمامي نُورًا، وخلْفي نُورًا، واجعل لي نُورًا - وزاد بعضهم - وفي لِساني نورًا - وذكر - وعصَبي، ولَحمي، ودمي، وشَعْري، وبشَري". وفي روايةٍ: "واجعل في نفسي نورًا، وأَعظِم لي نورًا". وفي روايةٍ: "اللهمَّ أَعطني نُورًا". وفي روايةٍ: عن ابن عباس أنه رقدَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظَ فتسوَّكَ وتوضأَ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى ختمَ السورةَ، ثم قامَ فصلى ركعتينِ أطالَ فيهما القيامَ والركوعَ والسجودَ، ثم انصرفَ فنامَ حتى نفخَ، ثم فعلَ ذلك ثلاثَ مراتٍ ستَّ ركعاتٍ، كلُّ ذلكَ يَسْتَاكُ ويتوضأُ ويقرأُ هؤلاء الآياتِ، ثم أوترَ بثلاثٍ. قوله: "ثم رَقَد"؛ أي: نام. قوله: "أو بعضُه"؛ يعني: فلمَّا بقيَ ثلثُ الليلِ، أو أقلُّ من الثلث. "أطْلَقَ شِنَاقَها"؛ أي: حَلَّ رأسَ القِرْبة. (الشِّنَاقُ) بكسر الشين: الخيطُ الذي يُشَدُّ به رأسُ القِرْبَة.

"صَبَّ في الجَفَنَة"؛ أي: أراقَ الماءَ من القِرْبَةِ في القَصْعَة. "بينَ الوُضوءَينِ"؛ أي: لم يُكثِرْ إراقةَ الماءِ ولكنْ "أَبْلَغَ"؛ يعني: أتمَّ الوضوءَ مِن غيرِ نقصانٍ وزيادةٍ. "فأَدارني عن يَمينه"، (عن) ههنا بمعنى الجانب، يعني: فأدارني عن جانبِ يسارِه إلى جانبِ يمينِه. قوله: "فتتَامَّتْ صلاتُه"؛ أي: فتوفَّرْت وتَمَّتْ صلاتُه ثلاثَ عشرةَ رَكعةً. قوله: "فنام حتى نَفَخَ"؛ أي: حتى سُمِعَ صوتٌ منه كما يُسْمَعُ من النائم. قوله: "فصلى ولم يتوضَّأْ"، هذا خاصيةٌ له عليه السلام لأنه نامتْ عيناه، ولم يَنَمْ قلبُه فلا يبطلُ وُضوؤه بمثل هذا. وجهُ سؤالِه النورَ لكلِّ عضوٍ: أنه أراد أن يزيدَ الله توفيقَه لما يُحِبُّ ويرضى، وأراد أيضًا تعليمَ أمته أن يسألوا من الله النورَ ليزول عن أعضائهم الظلمةُ الإنسانيةُ والشهوةُ النفسانيةُ، ويَظْهَرَ بها نورٌ يستعملها في طاعةِ الله، فإنه لا حولَ ولا قوة إلا بتوفيق الله وإعانتِه، ونورُ الله: نظرُ عنايته ورحمته. قوله: "كل ذلك يَسْتاكُ ويتوضَّأُ"، هذا الحديثُ يدلُّ على أن من استاكَ لصلاةٍ، ثم مضى زمانًا يتغيَّرُ فيه الفَمُ، ثم أراد أن يُصَلَّيَ صلاةً أُخرى يُستحَبُّ إعادةُ السَّواكِ، و (الركعاتُ الستُّ) في هذا الحديث هي صلاة الليل، وليس من الوتر؛ لأنه وقعَ بينها وبينَ الوِتْرِ فَصْلٌ كثيرٌ. فإن قيل: لمَ يتوضَّأُ في هذه الروايةِ بعد ما استيقظَ ولم يتوضَّأْ في الروايةِ المتقدِّمةِ مع أنه نام فيها حتى نَفَخ؟ قلنا: إنما توضَّأَ حيث توضَّأَ لتجديدِ الوضوء؛ لأن وضوءَه عليه السلام لم يبطُلْ بالنوم.

قال محيي السنة رحمة الله عليه: نومُه مضطجِعًا حتى نفخَ وقيامُه إلى الصلاة من خصائصه عليه السلام؛ لأن عينَه كانت تنامُ وقلبه لا ينام. * * * 853 - وعن زيد بن خالدٍ الجُهَني - رضي الله عنه - أنه قال: لأَرْمُقَنَّ صلاةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الليلةَ، فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم صلَّى ركعتينِ طويلتينِ طويلتينِ طويلتينِ، ثم صلى ركعتينِ وهما دونَ اللتينِ قبلَهما، ثم صلَّى ركعتينِ وهما دونَ اللَّتينِ قبلهما، ثم صلى ركعتينِ وهما دونَ اللتينِ قبلهما، ثم صلى ركعتينِ وهما دون اللتينِ قبلَهما، ثم أَوْتَرَ فذلك ثلاثَ عشرةَ ركعةً. قوله: "لأرمقن صلاة رسول الله عليه السلام"، (الرموق): النظرُ إلى شيء. "لأرمقن"؛ أي: لأنظرن وأحفظن صلاة رسول الله عليه السلام في هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. قوله: "ثم صلى ركعتين طويلتين"، كرر طويلتين ثلاث مرات وأراد التأكيد، وليس المراد بكل طويلتين ركعتين، بل المراد ركعتان على غاية الطول. قوله: "دون اللَّتَين قَبْلَهما"؛ أي: أقل من الركعتين اللَّتين قبلَهما، والوِتْرُ هنا ثلاثُ ركعات؛ لأنه عَدَّ ما قبلَ الوِتْر عشرَ ركعات؛ لأنه قال: (ركعتين خفيفتين)، ثم قال: (ركعتين طويلتين) فهذه أربعُ ركعات، ثم قال ثلاث مرات: (صلَّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما)، فهذه ستُّ ركعات أُخَر، وكنيةُ "زيد" أبو عبدِ الرَّحْمن. * * * 854 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: لمَّا بَدَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ؛ كانَ

أكثرُ صلاتِهِ جالسًا. قولها: "لمَّا بَدَّنَ رسولُ الله عليه السلام وَثقل كانَ أكثرُ صلاتِه جالسًا"، (بَدَّنَ) - بتشديد الدال -: إذا كَبرَ سِنُّه، وبَدُنَ - بتخفيف الدال وفتحها وضمها -: إذا كثر لحمُه وكلاهما مروي، ولكنَّ العلماءَ يختارون تشديد الدال؛ لأن رسول الله عليه السلام لم يوصفْ بكثرةِ اللحمِ حتى يقال فيه: بَدُنَ، بتخفيف الدال. وأما قولُ عائشة في حديثٍ آخر: (لما ثَقُلَ رسولُ الله عليه السلام وأخذَ اللَّحْم)، قيل إنَّ الرجلَ إذا كَبرَ سِنُّه أَسَنَّ وأخذَ اللَّحْمَ حتى يُرى كأنه كثيرُ اللَّحْمِ، فعلى هذا التأويل يكون معنى كَثُرَ لحمُه: كَبرَ سِنُّه أيضًا، ومعنى ثَقُلَ هنا: ضَعُفَ. قولها: "حتى كان أكثر صلاته"؛ أي: أكثرُ صلاتِه من النوافل جالسًا. * * * 855 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: لقد عرفتُ النَّظائرَ التي كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرِنُ بينهن - فذكر عشرينَ سورةً من أولِ المُفَصَّل على تأليفِ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - سورتينِ في كلِّ ركعةٍ، آخرُهنَّ حم الدُّخان، وعمَّ يتساءلون. قوله: "لقد عَرَفْتُ النَّظَائِرَ ... " إلى آخره، (النظائر): السُّورُ التي تماثِلُ بعضُها بعضًا في الطول والقصر، ونظيرُ الشيءِ: مِثْلُه. "يَقْرِنُ بينهنَّ"؛ أي: يجمعُ بين السورتين في رَكْعةٍ على تأليف ابن مسعود، يعني: جمع ابن مسعودٍ القرآنَ على نسقٍ غيرِ النسقِ الذي جَمعَ عليه القرآنَ زيدُ بن ثابت بإذن أبي بكرٍ على خلافته، ورضيَ به عمرُ وعثمان وعليٌّ وجميعُ الصحابة، والترتيب الذي يقرأ الناسُ القرآنَ عليه ويكتبونه في المصاحف من عهد الصحابة إلى يومنا هو الترتيب الذي جَمَعَ عليه القرآنَ زيدُ بن ثابتٍ، ولا يُلْتَفت إلى جمعِ ابن

مسعود؛ لأنه شاذٌّ، جمعَه بعد زيد بن ثابت، ولم يَتَّبعْه فيه أحدٌ. وقد ذكر أبو داود رحمة الله عليه في "صحيحه" السورَ التي يَقْرِنُ بينهنَّ رسولُ الله عليه السلام في صلاته فقال: كان رسولُ الله عليه السلام يقرأ: (الرحمن) (والنجم) في ركعة و (اقتربت) و (الحاقة) في ركعة، و (الطور) و (الذاريات) في ركعة، و (إذا وقعت) و (نون والقلم) في ركعة و (سأل سائل) و (النازعات)، و (ويلٌ للمطففين) و (عبس) في ركعة، و (المدَّثِّر) و (المزَّمِّل) في ركعة، و (هل أتى) و (لا أقسم بيوم القيامة) في ركعة، و (عم يتساءلون) و (المرسلات) في ركعة، و (الدخان) و (إذا الشمس كورت) في ركعة. قال أبو داود رحمة الله عليه: هذا تأليف ابن مسعود - رضي الله عنه -. * * * مِنَ الحِسَان: 856 - عن حُذيفة - رضي الله عنه -: أنه رَأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي من الليلِ فكانَ يقولُ: "الله أكبر - ثلاثًا - ذا الملكوتِ والجَبَرُوتِ والكبرياءِ والعظَمةِ"، ثم استفتحَ فقرأ البقرةَ، ثم ركعَ فكانَ ركوعه نحوًا من قيامه يقول: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم"، ثم رفع رأسه فكان قِيامُه نحوًا من ركوعِه يقولُ: "لِرَبي الحمدُ"، ثم سجدَ فكان سُجودهُ نحوًا من قيامِهِ يقول: "سبحانَ ربي الأعلى"، ثم رفعَ رأسَه، وكان يقعدُ فيما بينَ السجدتينِ نحوًا من سجودِه يقولُ: "ربِّ اغفرْ لي ربِّ اغفرْ لي"، فصلَّى أربعَ ركعاتٍ قرأَ فيهنَّ البقرةَ وآلَ عمرانَ والنساءَ والمائدةَ. قوله: "ذو الملكوت والجبروت ... " إلى آخره، (الملكوت): الملكُ (الجبروت): العظمةُ، "نحوًا"؛ أي: مِثْلًا. * * *

857 - عن عبد الله بن عَمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قامَ بعشْرِ آياتٍ لم يُكتبْ من الغافلينَ، ومَن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِبَ من القانتينَ، ومن قامَ بألفِ آيةٍ كُتب من المُقَنْطِرين". قوله: "من قام بعشر آيات"؛ أي: مَن قرأ في صلاته عشرَ آيات على التدبُّر والتأنِّي "لم يُكْتَبْ من الغافلين"؛ لأنه مَنْ فعلَ هذا لم يكنْ غافلاً. "كُتِبَ من القانتين"؛ أي: المطيعين، أو المُطَوِّلِين في القِيَام؛ لأنَّ معنى القُنُوتِ: الطاعةُ وطولُ القيام. "من المقنطرين"؛ أي: مكثرين الثوابَ، ومن الأغنياء من الثواب، كالأغنياء من المال. و (قَنْطَرَ): إذا جمع مالًا حتى صار قِنْطَارًا أو أكثر، والقِنْطَارُ سبعونَ ألف دينار. * * * 858 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانت قراءَةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالليلِ يرفعُ طَوْرًا ويخفضُ طَوْرًا. "يرفع طورًا ويخفض طورًا"؛ أي: مَرةً يرفعُ، يعني: مرةً يرفعُ صوتَه، ومرة يخفضه. * * * 859 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت قراءةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على قَدْرِ ما يَسمعُهُ مَن في الحُجرةِ وهو في البيت. قوله: "كانتْ قراءةُ رسولِ الله عليه السلام على قَدْر ما يسمعُه ... " إلى

آخره؛ يعني: لا يرفعُ صوتَه كثيرًا، ولا يُسِرُّ بحيث لا يسمعُه أحدٌ، وهذا في صلاة الليلِ في بيته، وأما في المسجد يقرأ في الصلاةِ ويرفَعُ صوتَه أكثرَ من هذا. * * * 860 - عن أبي قَتادة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا أبا بكرٍ، مررتُ بكَ وأنتَ تصلي تخفِضُ صوتَك"، قال: قد أَسْمَعْتُ مَن ناجَيتُ يا رسولَ الله، وقال لعُمر: "مررتُ بكَ وأنتَ رافعٌ صوتَك"، فقال: أُوقِظُ الوَسْنَان وأَطردُ الشيطانَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكرٍ، ارفعْ مِن صوتكَ شيئًا"، وقال لعمر: "اخفِضْ من صوتِكَ شيئًا". قوله: "قد أَسْمَعْتُ مَن ناجيتُ ... " إلى آخره؛ يعني: أناجي ربي وهو سميعٌ لا يحتاجُ إلى رَفْع الصَّوْت. "أوقظ"؛ أي: أَنَبهُ "الوسنانَ"؛ أي: النائمَ، "وأطْرُدُ"؛ أي: أُبْعِدُ، وهذا الحديث يدلُّ على أن الإسراف والتقصير غيرُ محمودٌ، بل خير الأمور أوْسَاطُها. * * * 861 - عن أبي ذر قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أَصْبَحَ بآيةٍ، والآيةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. قوله: "قامَ رسولُ الله عليه السلام حتى أصبحَ بآيةٍ، والآيةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} "؛ يعني: يكرِّرُ هذه الآيةَ ويفكِّرُ في معناها وحصلَ له من معانيها ذوقٌ، ومعنى الآية أنَّ عيسى عليه السلام ناجَى ربه وقال: (إن تُعَذِّبْ أمتي فإنهم عبادك، والربُّ إذا عاقبَ عبدَه لا يلومُه أحدٌ إذ لم يكن ظلمًا، وفعلُك لا يكونُ ظلمًا)؛ لأن الظلمَ عصيانُ من تجبُ طاعتُه وليس فوقَك أحدٌ حتى تكونَ ظالمًا بعصيانِه، وأن تغفرَ لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

31 - باب ما يقول إذا قام من الليل

قال السُّدِّي: إن توفِّقْهم لما يوجبُ غفرانَك من الإيمانِ والطاعةِ فإنك أنت العزيزُ الحكيم؛ أي: القادِرُ القويُّ على ما تشاء، "الحكيم": أفعالُك موافقة للحكمة، وإن خفيت حكمتُها على المخلوقات. * * * 862 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكم ركعتي الفجرِ فليضطجعْ على يمينِهِ". قوله: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه"، هذا في حقِّ مَنْ قام في الليل وأصابَه مَلالةٌ وتعبٌ فليضطجع بعد سُنةِ الصبحِ لحظةً ليستريحَ، ثم يصلي الفريضة على نَشَاطٍ. * * * 31 - باب ما يقول إذا قام من الليل (باب ما يقول إذا قام من الليل) مِنَ الصِّحَاحِ: 863 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ يتهجدُ، قال: "اللهم لكَ الحمدُ، أنتَ قَيمُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولكَ الحمدُ، أنتَ نورُ السماواتِ والأرضِ ومَنْ فيهنَّ، ولكَ الحمدُ أنتَ مَلِكُ السماوات والأرضِ، وَمَن فيهنَّ، ولكَ الحمدُ، أنتَ الحقُّ، ووعدُكَ الحقُّ، ولقاؤُكَ حقٌّ، وقولُكَ حقٌّ، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والنبيونَ حقٌّ، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ، والساعةُ حقٌّ، اللهم لكَ أسلمتُ، وبكَ آمنتُ، وعليكَ توكَّلْتُ، وإليك أَنَبْتُ،

وبك خاصَمْتُ، وإليكَ حاكَمْتُ، فاغفر لي ما قدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ، وما أسررْتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المُقَدِّمُ وأنت المؤخِرُ لا إله إلا أنت". قوله: "إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد ... " إلى آخره، (يتهجَّدُ)؛ أي: يصلِّي. "قَيمُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ"؛ يعني: أنت القائمُ، تحفظُ السماواتِ والأرضَ ومَن فيهن من المخلوقات، تَحْفظُهم عن الآفاتِ وترزقُهم. "أنتَ نورُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ"؛ أي: أنت خالقُ نورِ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ والنارِ، ونورِ قلوبِ عبادك. وقيل معناه: أنت مُنوِّرُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ. "وإليك أَنَبْتُ"؛ أي: وإليك رجعتُ في جميع أحوالي وفوضتُ أمري إليك. (أناب): إذا رجع. "وبك خاصَمْتُ"؛ أي: بقوتِك ونصرتِك إيايَ خاصمتُ أعداءَك من الكُفَّار. "وإليك حاكَمْتُ"، (المحاكمة): رفعُ الأمرِ إلى القاضي؛ يعني: رفعتُ إليك أمري وجعلتُ قاضيًا بيني وبين مَن يخالِفُني فيما أرسَلْتَني به من الدِّين، وهو مثلُ قوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] * * * 864 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ - تعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ افتتحَ صلاتَه قال: "اللهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا

فيه يختلفونَ، اهدِني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنِكَ، إنكَ تهدي مَن تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ". قوله: "رب جبرائيل وميكائيل ... " إلى آخره، وجهُ إضافةِ الربِّ إلى هؤلاء الملائكةِ مع أنه تعالى ربُّ جميعِ المخلوقاتِ بيانُ تخصيصِ هؤلاءِ الملائكةِ وتشريفِهم على غيرِهم. (الفاطر): الخالقُ، "الغيبُ": ضدُّ الشاهد، ومعنى الشاهد: الحاضر والمرئي. (اللام) في "لِمَا اخْتُلِفَ" بمعنى (إلى)؛ يعني: كلُّ حقًّ وصدقٍ اخْتَلَفَ الناسُ فيه فيقول بعضُهم: الحقُّ هذا، ويقول بعضهم: بل هذا. "فاهدِني إلى ما هو الحقُّ بإذنِك"؛ أي: بفضلِك وقُدْرَتِك. * * * 765 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تَعَارَّ من الليلِ فقال: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، سبحانَ الله والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا الله والله أكبرُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم"، ثم قال: "ربِّ اغفر لي - أو قال ثم دعا - استُجيبَ لهُ، فإن توضأَ ثم صلَّى قُبلَتْ صلاتُه". قوله: "تَعَارَّ مِنَ الليل"، (تَعَارَّ) - بتشديد الراء -: تنبَّهَ من النوم، (من الليل)؛ أي: في الليل. * * * مِن الحِسَان: 866 - قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظَ مِن

الليلِ قال: "لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ، اللهم أستغفرُك لذنبي، وأسألُك رحمتَك، اللهم زِدْني عِلْمًا، ولا تُزِغْ قلْبي بعدَ إذ هديتني، وهَبْ لي من لَدُنْكَ رحمةً، إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ". قوله: "ولا تُزِغْ قلبي"، (زاغَ): إذا مالَ عن الحقِّ إلى الباطِل؛ يعني: لا تجعلْ قلبي مائلاً عن الحقِّ إلى الباطل، وهذا تعليمٌ لأمته أن يَدعُوا بهذا الدعاءِ ليعلموا أنَّه لا يجوزُ لهم الأمنُ من مكرِ الله وزوالِ نِعمته. * * * 867 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلمٍ يَبيتُ على ذكرٍ طاهرًا فَيَتَعَارُّ من الليلِ، فيسألُ الله تعالى خيرًا إلا أَعطاهُ إياه". قوله: "ما من مُسْلِمٍ يَبيتُ على ذِكْرٍ طاهرًا"؛ يعني: ليكنِ الرجلُ يضطجِعُ مُتَوَضئًا ويذكر الله تعالى، فإذا استيقظَ من النومِ استيقظَ فَذَكرَ الله، فإذا كان كذلك صار مستحِقًّا لأنْ يُستجابَ دعاؤُه. * * * 868 - عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت: بمَ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفتَتِحُ إذا هبَّ من الليلِ؟، فقالت: كانَ إذا هَبَّ من الليلِ كَبَّر عشرًا، وحَمِدَ عشرًا، وقال: "سبحانَ الله وبحمدِه" عشرًا، وقال: "سبحانَ الملكِ القُدُّوس" عشرًا، واستغفر عشرًا، وهلَّلَ عشرًا، ثم قال: "اللهم إني أعوذُ بك من ضيقِ الدنيا، وضيقِ يوم القِيامةِ، عشرًا، ثم يفتَتِحُ الصلاةَ. قوله: "يَفْتَتِحُ إذا هَبَّ من الليل ... " إلى آخره، (يفتتح): أي: يبتدِئ، (إذا هب): أي: استيقظ من النوم.

32 - باب التحريض على قيام الليل

قوله: "من ضيقِ الدنيا"، أراد به مكارهَ الدنيا وشدائدَها؛ لأنَّ مَنْ به مشقةٌ من مرضٍ، أو دَيْنٍ، أو ظُلْمٍ صارت الأرضُ بعينه ضَيقةً، كقوله تعالى للنبي وأصحابه عليه السلام ورضي الله عنهم في قصةِ حُنينٍ لمَّا هَزَمَهم الكافرون: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ...} [التوبة: 25 - 26] إلى آخر الآية، يعني: لمَّا غلبتِ الكفارُ عليكُم صارتِ الأرضُ الواسعةُ في أعينكم ضَيقةً من الغَمِّ، ثم نَصَرَكم الله حتى هزمتموهم، وكذلك المرادُ من ضيق يومِ القيامة. * * * 32 - باب التَحريض على قيام الليل (باب التحريض على قيام الليل) مِنَ الصِّحَاحِ: 869 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يعقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يضربُ على كلِّ عُقدةٍ: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإن استيقظ فذكرَ الله تعالى انحلَّتْ عقدةٌ، فإنْ توضَّأَ انحلَّتْ عُقدةٌ، فإنْ صلى انحلَّتْ عُقدةٌ، فأصبح نَشيطًا طيبَ النفسِ، وإلا أصبحَ خبيثَ النفسِ كسلانَ". قوله: "يَعْقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم ... " إلى آخره، (يَعْقِدُ)؛ أي: يَشُدُّ، (القافية): القَفَا، "العُقَدُ": جمع عُقْدَة، وهي ما يُعْقَد، "عليكَ ليلٌ طويلٌ"؛ يعني: يحببُ النومَ إليه ويقول له كلَّما أرادَ أن يقومَ: ارقُدْ، فإنَّ الليلَ طويلٌ، وليس وقت القيام بعد، فيأمره بالرقود، فمن خالفَه وذكرَ الله وأعاذَ به من

الشيطان "انحلَّتْ"؛ أي: انفتحتْ عُقْدَة، وإن قام وتوضَّأَ انحلَّتْ عقدةٌ ثانية، وإنْ صَلَّى انحلَّتِ الثالثةُ. فمفهومُ الحديثِ أنَّ إحدى العُقَد منه انحلَّتْ عن ذِكْرِ الله، والثانية عن القيام والوضوء، والثالثة عن الصلاة، فإذا خالفَه في جميع ذلك فأصبحَ نشيطًا؛ أي: ذا فَرَحٍ وطيبِ قَلْبٍ وحُسْنِ حالةٍ؛ لأنه خَلصَ من قيد الشيطان وحَصَّلَ رضا الرحمن، وإن أطاعه ونامَ حتى تفوتَه صلاةُ الصبح أصبحَ خبيثَ النَّفْس؛ أي: محزونَ القلب كثيرَ الغَمِّ متحيرًا في أمره، لا يحصلُ مرادُه فيما يقصده من أموره؛ لأنه مقيَّدٌ بقيد الشيطان ومبعَدٌ من رضا الرحمن. قوله: "عليك ليل طويل"؛ أي: على إمامك ليلٌ طويلٌ، أو عليك بالنومِ فإنه بقيَ ليلٌ طويلٌ، وما أشبهَ ذلك مما يحسُنُ تقديرُه. * * * 870 - وقال المُغيرة [بن شعبة]: قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ حتى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ فقيل له: لِمَ تصنَعُ هذا وقد غفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنْبكَ وما تأخَّرَ؟، قال: "أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا". قوله: "تَوَرَّمتْ قدماه"؛ أي: انتفختا وعَظُمَتا من الوجع. قوله: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"؛ أي: ليس عبادتي لله من خوفِ الذنوب، بل لشكرِ أنعُمِه الكثيرةِ عليَّ، وقد ذُكِرَ بحثُ: (غفر له ما تقدم من ذنبه عليه السلام وما تأخرِ) في (باب الاعتصام) في قول أنس: (جاء ثلاثةُ رَهْطٍ). * * * 871 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ذُكِرَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقيل:

ما زالَ نائمًا حتى أَصْبَحَ - ما قامَ إلى الصلاة - فقال: "بالَ الشيطانُ في أُذُنِهِ". قوله: "بال الشيطان في أذنه"؛ يعني: جعلَه خبيثًا لا يقبَلُ الخيرَ، وجعله مسخَّرًا ومطيعًا له يقبَلُ ما يأمرُه الشيطانُ من تَرْكِ الصلاةِ وغيرِها، ولا يجيبُ المؤذِّنَ إذا دعاه إلى الصلاة، وإنما خصَّ الأُذُنَ بذكر البولِ فيه؛ لأن الأذنَ محلُّ سماعِ صوتِ المؤذِّن، فإذا لم يُجِبِ المؤذِّنَ فكأنَّ سمْعَه مُصَمَّمٌ ببولِ الشيطان وخَيالاتِه الباطلةِ ووسواسِه المُضلَّة. * * * 872 - وقالت أم سَلَمَةَ: استيقظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فَزِعًا يقول: "سبحانَ الله!، ماذا أُنزِل الليلةَ مِن الخزائنِ، وماذا أُنزِل من الفِتَن؟، مَنْ يُوقِظُ صواحِبَ الحُجُراتِ - يريد أزواجَهُ - لكي يُصلِّين؟، رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة". قوله: "ماذا أنزل الليلة من الخزائن ... " إلى آخره، (ماذا): استفهامٌ بمعنى التعظيم والتعجُّب، أرادَ بـ (الخزائن): الرحمةَ، وبـ (الفِتَن): العذابَ؛ يعني: كمْ رَحْمةٍ نَزَلَتِ الليلةَ، وكم عذابٍ نَزَلَ، "من يوقظُ": للاستفهام يعني هل أحدٌ يُنبه أزواجي من النوم حتى يُصَلِّين ليجدْنَ الرحمةَ ويَفْرِرْنَ من العذاب. قوله: "رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارِيَة في الآخرة"؛ يعني: ربما امرأةٌ لها عيشٌ طَيبٌ ولباسٌ جميلٌ وعِزٌّ ومالٌ في الدنيا، وهي تكونُ في القيامةِ ذاتَ حَسْرةٍ وندامةٍ وعذابٍ شديدٍ، وتكون عارَيةً من اللباس لكونِها غيرَ صالحةٍ في الدنيا؛ يعني: نعيمُ الدنيا لا ينفعُ الشَّخْصَ في الآخرة، بل لا ينفعُه إلا العملُ الصالحُ. (رُبَّ كاسية)، ليس المرادُ منها النساءَ فقط، بل هذا الحكمُ عامٌّ في

الرجال والنساء، ولكن تلفَّظَ بهذا اللفظ لتحريض أزواجِه. * * * 873 - وقال: "ينزلُ ربنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حينَ يبقَى ثلثُ الليلِ الآخرُ يقول: مَن يدعوني فأَستجيبَ له، مَن يسألُني فأُعْطِيَهِ، مَن يستغفرني فأَغفِرَ له". وفي روايةٍ: "ثم يبسُطُ يديهِ يقول: من يُقرِضُ غيرَ عَدومٍ ولا ظَلُومٍ؟ حتى ينفجرَ الفجرُ". وفي رواية: "يكون كذلك حتى يُضيء الفجر ثم يعلو ربنا إلى كُرسيه". قوله: "ينزِلُ رَبنا"، فبعضُ العلماءِ لا يأوِّلُون هذا وأشباهَه، وبعضُهم يقولون: معناه: تنزِلُ رحمةُ ربنا وسَعَةُ فَضْلِه. "من يُقْرِضُ"، (من) للاستفهام؛ أي: مَن يُعطي قَرْضًا "غيرَ عَدُوم"؛ أي: غَيْرَ فقيرٍ وغير ظالم؛ يعني: مَن يُعطيني القَرْضَ أُعْطِي جزاءَه سبع مِئة ضعْف أو أكثر، فإني غيرُ فقيرٍ وغيرُ ظالمٍ. "حتى ينفجر"؛ أي: حتى يطلُعَ الصبحُ ينادي هذا النداء. * * * 874 - وقال: "إنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقُها رجلٌ مسلمٌ يسألُ الله تعالى خيرًا، مِن أمرِ الدنيا والآخرةِ إلا أَعطاهُ إيَّاهُ، وذلكَ كلَّ ليلةٍ". قوله: "وذلك كلَّ ليلة"؛ يعني: ساعةُ الإجابة ليست مخصوصةً ببعض الليالي، بل هي في كلِّ الليالي، فليجتهدِ الرجلُ أنْ يحييَ كلَّ ليلة أو بعضَها، لعلَّه يجدُ تلك الساعةَ. * * *

875 - وقال: "أَحبُّ الصلاةِ إلى الله صلاةُ داوُدَ، وأَحبُّ الصيامِ إلى الله صيامُ داودَ، كانَ ينامُ نصفَ الليلِ، ويقومُ ثُلُثَهُ، وينامُ سُدسَه، ويصومُ يومًا، ويُفْطِرُ يومًا". قوله: "وينام سُدُسَه"؛ يعني: ينامُ النصفُ الأولَ، ويقوم بعد ذلك ثلثَ اللَّيل، أو ينام السُّدُسَ الآخرَ، ويقومُ عندَ الصبح؛ يعني: وسطُ الليلِ أفضلُ مِن أولِه وآخرِه؛ لأنه أَشقُّ على النَّفْسِ وأَبْعَدُ من الرياء، ثم إن كانت له حاجةٌ إلى أهله؛ يعني: إن اشتهى في أولِ الليلِ مباشرةَ زوجاتِه فَعَلَ، ثم ينام. * * * 876 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ - تعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينامُ أولَ الليلِ ويُحيي آخِرَهُ، ثم إنْ كانت له حاجةٌ إلى أهلهِ قضَى حاجتَه، ثم ينامُ، فإن كانَ عندَ النداءِ الأولِ جُنبًا وثبَ فأفاضَ عليهِ الماءَ، وإن لم يكنْ جنبًا توضأَ للصلاةِ، ثم صلى ركعتينِ. قولها: "فإن كان عند النداء الأول"، (فإن) هنا بمعنى (إذا) في "شرح السنة"، حتى إذا كان عند النداء الأول، أرادت بالنداء أذانَ بلالٍ، فإنه يؤذِّنُ إذا مضى نصفُ اللَّيلِ، وأما ابن أمِّ مكتومٍ فإنه يؤذِّنُ عند الصُّبْح. "وَثَبَ"؛ أي: قامَ من النوم، "فأفاض عليه الماء"؛ أي: اغتسل. قولها: "ثم يصلي الركعتين"، يحتمل أن تكون الألف واللام للعَهْد، يعني: يبتدئُ بركعتين خفيفتين كما ذُكِرت في صلاة الليل. ويحتملُ ألاَّ تريد بإدخال الألف واللام معنًى، بل تريدُ مجرَّدَ الرَّكعتين، ومعلومٌ من الأحاديث أنه عليه السلام يصلِّي في الليل أكثرَ من رَكعتين، فإذا كان

كذلك فتأويلُ قولها: (يصلَّي الركعتين) ما ذكرتُ من أن تقديرَه: يبتدِئ بركعتين خفيفتين. * * * مِنَ الحِسَان: 877 - عن أبي أُمامة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بقيامِ الليلِ فإنه دَأبُ الصالحينَ قبلَكم، وهو قُرْبَةٌ لكم إلى رَبكم، وَمَكْفَرةٌ للسيئاتِ ومَنْهَاةٌ عن الإِثمِ". [وفي رواية: "وَمَطْرَدَةُ الداءِ عن الجسدِ"]. قوله: "دأب الصالحين ... " إلى آخره، (الدَّأْبُ): العادَةُ. "مَكْفَرَةٌ"، بفتح الميم وسكون الكاف؛ أي: ساترةٌ، و"مَنْهاةٌ"؛ أي: ناهي، يعني: يمنع الرجلَ عن العِصيانِ كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. * * * 878 - وقال: "ثلاثةٌ يضحكُ الله إليهم: الرجلُ إذا قامَ باللَّيلِ يُصلَّي، والقومُ إذا صفُّوا في الصلاةِ، والقومُ إذا صفُّوا في قتالِ العدوِّ". قوله: "يضحك الله إليهم"؛ أي: يَرْضَى عنهم ويُنزِلُ عليهم الرحمة. * * * 879 - وقال: "أقربُ ما يكونُ الربُّ مِن العَبْدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ، فإن استطعتَ أنْ تكونَ ممن يذكرُ الله في تلكَ الساعةِ فَكُنْ"، صحيح.

قوله: "في جَوْفِ اللَّيلِ الآخِرِ"، (الآخِر) صفة لجوف، يعني: في آخر الليل، وإنما كان هذا الوقتُ شريفًا؛ لأنه الوقتُ التي ينادي الله تعالى فيه عبادَه فيقول: "مَنْ يدعوني فأستجيبَ له ... " إلى آخر الحديث. * * * 880 - وقال: "رحمَ الله رجلاً قامَ من الليلِ فصلَّى، وأَيقظَ امرأتَه فَصَلَّتْ، فإن أَبَتْ نضحَ في وجهِهَا الماءَ، رحمَ الله امرأةً قامَتْ من الليلِ فصلَّتْ، وأيقظَتْ زوجَها فإن أبَى نضحَت في وجهِه الماءَ". قوله: "نَضَحَتْ في وجهه الماءَ"، (نَضَحَ)؛ أي: رشَّ فأراقَ، وهذا يدلُّ على أن إكراهَ أحدٍ على خيرٍ يجوزُ، بل مستحبٌّ. * * * 881 - وعن أبي أُمَامة أنه قال: قيل: يا رسولَ الله!، أيُّ الدعاءِ أَسْمَعُ؟ قال: "جوفَ الليلِ الآخرَ، ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ". قوله: "أَسْمَعُ"، أقربُ إلى أن يَسْمَعَه الله تعالى؛ أي: يقبلَه. * * * 882 - وقال: "إن في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها من باطِنها، وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّها الله لمن أَلانَ الكلامَ، وأَطْعَمَ الطعامَ، وتابعَ الصيامِ، وصلى بالليلِ والناسُ نيامٌ". وفي روايةٍ: "لِمَنْ أَطَابَ الكلامَ". قوله: "غُرَفًا ... " إلى آخره، (الغُرَفُ): جمع غرفة، وهي البناءُ على عُلُوٍّ.

33 - باب القصد في العمل

"أعَدَّها"؛ أي: هيَّأَها "لمَنْ ألْيَنَ الكلامَ"؛ أي: لمن له خُلُقٌ طيبٌ مع الناسِ و (أَلْيَنَ) حقُّه أن تُنْقَلَ فتحةُ الياءِ إلى اللام وتقلَبَ ألفًا، فيقال: ألان، إلا أنه تُرِكَ على أصلِه. "وتابع الصيام"؛ أي: يُكثِرُ الصيامَ بعد الفريضة. * * * 33 - باب القَصْد في العمَل (باب القصد في العمل) "القصدُ": الوَسَطُ، يعني: لا إسراف ولا تقصير. مِنَ الصِّحَاحِ: 883 - قال أنس - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ من الشهرِ حتى نظُنَّ أن لا يصومَ منه، ويصومُ حتى نظُنَّ أن لا يفطرَ منه شيئًا، وكانَ لا تشاءُ أن تراهُ من الليلِ مصليًا إلا رأيتَهُ، ولا نائمًا إلا رأيتَه. قوله: "حتى نظُنَّ أن لا يصومَ منه"؛ يعني: يفطرُ أيامًا كثيرةً من الشهر حتى نظنَّ أن لا يصوم منه، ثم يصوم باقيَه، وكذلك يصومُ أيامًا كثيرة من الشهر ثم يُفطر؛ يعني لا يصومُ أبدًا ولا يفطرُ أبدًا. قوله: "وكان لا تشاءُ تراهُ مُصَلَّيًا إلا رأيتَه"، (لا) هنا بمعنى (ليس)، أو بمعنى (لم)؛ أي: ليست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو تقديره: لا زمانَ تشاء؛ أي: لا مِن زمانٍ تشاءُ. * * *

884 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى أَدْوَمُها وإن قَلَّ". قوله: "أَحَبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى أَدْوَمُها وإن قلَّ"؛ يعني: مَن عَمِلَ وِرْدًا من صومٍ أو صلاةٍ فليداوِمْ عليه، ولهذا الحديث ينكِرُ أهلُ التصوُّفِ تَرْكَ الأوراد كما يُنْكِرُون تَرْكَ الفرائض. * * * 885 - وقال: "خذوا من الأعمالِ ما تُطِيقونَ، فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا". قوله: "خذوا من الأعمال ما تطيقون"؛ يعني: لا تحمِلُوا على أنفسكم أورادًا كثيرةً لا تقتدرون المداومةَ عليها، فإنكم حينئذٍ تَعجزون عنها وتتركونها، وحينئذٍ تنقطعُ عنكم بركتُها، ولكن افعلوا من الأوراد ما تُطيقُون الدوامَ عليه، فإنَّ الله تعالى يحبُّ الدوامَ على العمل. قوله: "فإن الله لا يَملُّ حتى تملُّوا"، معنى المَلال من الله: تركُ إعطاءِ الثوابِ؛ لأن الملالةَ لا تجوزُ عليه؛ يعني لا يقطع الثوابَ والرحمةَ عنكم حتى تملُّوا وتتركوا عبادتَه، وقيل: معناه ولا يتركُ فضلَه عنكم حتى تتركوا سؤالَه. * * * 886 - وقال: "لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فَتَرَ فليقعُدْ". قوله: "فإذا فَتَرَ فليقْعُدْ"، (فَتَر): ضعف، يعني: ليصلِّ الرجلُ عن كمالِ الإرادة والذوق، فإذا حصلَ به ملالةٌ فليتركِ الصلاةَ فإن الصلاةَ مناجاةُ الله، ومناجاةُ الله لا تجوزُ عن مَلالة. * * *

887 - وقال: "إذا نَعِسَ أحدُكم وهو يصلي فَلْيَرْقُدْ حتى يذهبَ عنه النومُ، فإنَّ أحدَكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعلَّه يستغفرُ فَيَسُبُّ نفسَهُ". قوله: "نَعِسَ"؛ أي: نام، والنعاسُ نومٌ خفيفٌ. قوله: "لعله يَستَغُفِرُ فيَسُبُّ نفسَه"؛ أي: لعله يدعو فيجري على لسانه شتمٌ، أو شيءٌ قبيحٌ وهو لا يدري من النوم. * * * 888 - وقال: "إن الدينَ يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَه، فسدِّدوا وقارِبُوا، وأَبشِروا، واستَعِينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ من الدُّلْجَة". قوله: "إن الدِّين يُسْرٌ"؛ يعني: لا يحملُ الله على عبادِه في الدِّين مَشقَّةً عظيمةً، ولم يفرضْ عليهم من الفرائضِ ما يَلْحَقُهم ضررٌ بأدائها، كما قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال أيضًا {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فإذا كان كذلك فلا ينبغي لأحدٍ أن يحملَ على نفسِه مشقةً عظيمةً في العبادات بحيث يحصلُ به مَلالةٌ، ويزولُ عنه ذوقُ الطاعة من غاية المَلالة. قوله: "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، (المشادَّةُ): جَريانُ الشِّدَّةِ والمضايقة بين اثنين، ومثل قوله عليه السلام: "لا تشدِّدوا على أنفسكم"؛ يعني: من أراد أن يقضيَ حقوقَ الدِّين وأن يعبدَ الله حقَّ عبادته لا يَقْدِر، بل يغلبُ عليه الدِّينُ، ويعجَزُ عن أن يقضيَ حقَّ الدِّين وأن يعبدَ الله حقَّ عبادته، بل الطريق أداءُ الفرائضِ والسننِ وشيءٍ من النوافل مَن قَدِرَ عليه، ثم الاعترافُ بالتقصير والعجز. قوله: "فسَدِّدوا"، قال المصنف: معناه: اقصِدوا السَّدادَ؛ وهو الصوابُ والصراطُ المستقيم.

قوله: "وقاربوا"، قال المصنف أيضًا: معناه: لا تعجِّلُوا، بل كونوا على سكون في الشروعِ في الدِّين كي لا تُتعِبوا أنفسكم، وقيل معناه: الزَموا الوَسَطَ من غير إسراف وتقصير. قوله: "وأَبْشِروا"؛ أي: افرَحُوا ولا تَحْزَنُوا، فإن الله تعالى كريمٌ يرضى عنكم بأداء فرائضه، ويعطيكم الثوابَ العظيمَ بالعملِ القليل. قوله: "واستعينوا بالغَدْوة والرَّوْحَة وشيءٍ من الدُّلْجَة"، (الغُدْوَة): أولُ النهار، و (الرَّوْحَة): آخره، و (الدُّلْجَة): اسم من الادِّلاَج - بتشديد الدال - وهو السيرُ في آخر الليل، وقيل بل هي اسمٌ من الإدْلاج - بسكون الدال - وهو السيرُ في أول الليل، يعني: كما أن المسافرَ يقدِرُ على دوامِ المسافرةِ بأن يمشيَ في أولِ النهارِ إلى أن يمضيَ بعضُ النهار، ثم ينزل ويستريح ساعةً، ثم يمشي بعد العَصْر إلى اللَّيل، ثم ينزل ويستريح، ثم يمشي في آخر الليل، فكذلك العابد ينبغي أن يتعبَّدَ ساعةً، ثم يستريحَ ساعةً، وهكذا ساعةً فساعةً حتى لا يتعَب. * * * 889 - وقال: "مَنْ نامَ عن حزبهِ، أو عن شيءٍ منه فقرأهُ فيما بينَ صلاةِ الفجرِ وصلاةِ الظهرِ، كُتِبَ له كأنما قرأَه من الليلِ". قوله: "من نام عن حزبه"، (الحِزْبُ): الوِرْدُ، يعني: منْ كان له وِرْدٌ في الليل من قراءةِ قَدْرٍ من القرآن، أو عددٍ من رَكَعَات الصلاةِ ولم يتيقَّظْ إلا وقتَ الصبحِ وفاتَه وِرْدُه، فإذا فعلَ وِرْدَه في النهار قبلَ الظُّهْرِ فكأنه فَعَلَه في الليل؛ لأنه معذورٌ لأنَّ النومَ ليس باختياره، وإنما خصَّ قبلَ الظهرِ بهذا الحكمِ لأنه متصلٌ

بآخرِ الليل من غير أن تفصِلَ بينهما صلاةُ فريضةٍ غير الصبح. والصبحُ أيضًا من جملة الليل؛ لأنه بقيَ فيه الظلمةُ، ولهذا لو نوى الصائمُ قبل الزوال صومَ سنةٍ، أو نافلةٍ جازَ، ولو نوى بعد الزَّوال لم يَجُزْ. * * * 890 - وقال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستَطِعْ فقاعدًا، فإن لم تستَطِعْ فعلى جَنْبٍ". قوله: "فإن لم تَسْتَطِعْ فعلى جَنْبٍ"، كلمةُ (إنْ) للشرط، يعني: تركُ القيامِ يجوزُ بشرطِ العَجْزِ عن القيامِ، وكذلك تَرْكُ القعودِ والانتقالُ منه إلى الاضطجاع، وهذا في صلاة الفريضة، وأما في النافلة فتجوزُ عن القعودِ مع القدرةِ على القيامِ، ولكنَّ ثوابَ القاعدِ نصفُ ثوابِ القائم. * * * 891 - وقال: "مَن صلَّى قاعِدًا فله نصفُ أجرِ القائِمِ، ومَن صلَّى نائمًا فله نصفُ أجرِ القاعدِ"، رواهما عِمْران بن حُصين. قوله: "نائمًا"؛ أي: مُضطجِعًا. * * * مِنَ الحِسَان: 892 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَوَى إلى فِراشِهِ طاهرًا يذكرُ الله تعالى حتى يدركَه النُّعاسُ؛ لم يتقلَّبْ ساعةً من الليلِ يسألُ الله شيئًا من خيرِ الدنيا والآخرةِ، إلا أَعطاه إياه". قوله: "من أَوَى إلى فِراشِه"؛ أي: من دَخَلَ فراشَه.

"طاهرًا"؛ أي: متوضئًا "لم يتقلَّبْ ساعةً"؛ أي: لم تَمضِ ساعةٌ، هذا إذا قرأتَ (ساعةٌ) بالرفع، وإن قرأتَها بالنصب يكون معناه: ولم يتردَّدْ ذاك الرجلُ في فراشِه في ساعةٍ. * * * 893 - وقال: "عجِبَ ربنا من رجلينِ: رجلٌ ثارَ عن وِطائه ولِحافِه من بينِ حِبه وأهلِه إلى صلاتهِ فيقولُ الله لملائكَتِه: انظروا إلى عبدي ثارَ عن فِراشِه ووِطائِه من بينِ حِبه وأهلِه إلى صلاتِه، رغبةً فيما عندي وشفَقًا مما عندي، ورجلٌ غزا في سبيلِ الله فانهزمَ مع أصحابهِ، فعلمَ ما عليهِ في الانهزامِ وما لَهُ في الرجوعِ، فرجعَ حتى هُريقَ دَمُه، فيقولُ الله تعالى لملائكَتِه: انظروا إلى عبدي رجعَ رغبةً فيما عندي، وشفقًا مما عندي حتى هُريقَ دمهُ". قوله: "عَجِبَ ربنا مِن رجلين ... " إلى آخره، عَجِبَ؛ أي: رَضيَ. "ثَارَ": أي: قام، (الوطاء): الفِرَاشُ اللَّين، و (اللحافُ): ثوبُ النومِ الذي يكونُ فوقَ النائم. قوله: "الحِبُّ"، بكسر الحاء: المحبوبُ، "رغبة فيما عندي"، يعني: لِمَا له منَ الرغبةِ فيما عندي مِنَ الثوابِ والجَنَّة. "وشفقًا"؛ أي: للخوفِ مما عندي من العَذَاب. "ما عليه"؛ أي: ما عليه من الإثم في الانهزام، وما له في الرجوع؛ أي: وما له من الثَّواب.

34 - باب الوتر

34 - باب الوِتر (باب الوتر) مِنَ الصِّحَاحِ: 894 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشِيَ أحدُكم الصُّبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى". قوله: "صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، إذا خشيَ أحدُكم الصبحَ صلَّى رَكعةً واحدةً"، قال الشافعيُّ: إن صلاةَ اللَّيلِ والنهارِ يسلِّمُ من كل رَكعتين غير الفريضة؛ لِمَا رُوِيَ عن ابن عمرَ عن النبي عليه السلام أنه قال: "صلاة الليل والنهار مَثْنَى مَثْنَى". وقال بعضُ أصحابِ أبي حنيفة: إن صلاةَ اللَّيل يُسلِّمُ من كلِّ رَكعتين، وصلاة النهار يُسلِّمُ عن أربعٍ. * * * 895 - وقال: "الوِتْر ركعةٌ من آخِر اللَّيل". قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل"؛ يعني: أقلُّ الوِتْر رَكعةٌ، وآخرُ وقتِها آخرُ الليل. * * * 896 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من اللَّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً يُوتِرُ من ذلكَ بخمسٍ لا يَجلِسُ في شيءٍ إلا في آخرِها.

قوله: "يُصلِّي من الليل ثلاثَ عشرةَ رَكعةً ... " إلى آخره؛ يعني: يُصلِّي ثماني رَكَعاتٍ بأربعِ تسليمات، ثم يُصلِّي خمسَ رَكَعاتٍ بنيَّةِ الوِتْرِ بتسليمةٍ واحدةٍ لا يجلسُ إلا في آخرِها، ولو صلَّى رجلٌ رَكَعاتٍ كثيرةً ثم لا يجلسُ إلا في آخرِها جاز، ولو جلسَ في الآخرة - وقيل في الأخيرة - جاز أيضًا. * * * 897 - عن سَعْد بن هشام - رضي الله عنه - أنه قال: انطلقْنا إلى عائشةَ رضي الله عنها فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْبئيني عن خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: أَلَستَ تَقْرأُ القُرآنَ؟، قلت: بلى، قالَتْ: فإن خُلُقَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ القرآنَ، قلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنبئيني عن وِتْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سواكَه وطَهُورَه، فَيَبعثُه الله ما شاءَ أن يبعثَه من الليلِ، فَيتسوَّكُ ويتوضَّأ ويُصلِّيَ تسعَ ركعاتٍ لا يَجلِسُ فيها إلا في الثامنةِ، فَيذكُر الله، ويَحمَدُه، ويدعُوه، ثم ينهضُ ولا يُسلِّم فيصلي التاسعةَ، ثم يقعدُ فَيذكرُ الله، ويحمدُه، ويدعُوه، ثم يسلِّمُ تسليمًا يُسمِعُنا، ثم يُصلِّي ركعتَينِ بعدَ ما يُسلِّمُ وهو قاعدٌ، فتلكَ إحدى عشرةَ ركعةً، فَلَمَّا أَسَنَّ وأخذَ اللَّحْمَ أَوترَ بسبعٍ، وصنَعَ في الركعتينِ مثلَ صَنيعِه في الأُولى، فتلْكَ تسعٌ يا بنيَّ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاةً أحبَّ أن يُداومَ عليها، وكان إذا غلبَهُ نومٌ أو وجعٌ عن قيامِ الليلِ صلى من النهارِ ثنتي عشرةَ ركعةً، ولا أعلمُ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ القرآنَ كلَّه في ليلةٍ، ولا صلَّى ليلةً إلى الصُّبحِ، ولا صامَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضان. قولها: "كان خلقه القرآن ... إلى آخره": يعني: كان خلقه مذكورًا في القرآن في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. "أَنْبئيني"، أي: أخبريني. "نُعِدُّ" - بضم النون -؛ أي: نهيئُ له سِواكَه وطَهُورَه؛ أي: ماءَ وضوئه.

"فيبعثُه الله"؛ أي: يُوقِظُه الله من النومِ فيذكرُ الله ويحمَدُه؛ يعني: يقرأُ التشُّهدَ. "يُسْمِعُنا"؛ أي: يرفعُ صوتَه بالتسليم بِحيثُ نسَمعُه. "أَسَنَّ"؛ أي: كبرَ، و"أخذَ اللَّحْمَ"؛ أي: ضَعُفَ. "وصَنَعَ"؛ أي: فعلَ في الرَّكْعَتين؛ أي: صلَّى رَكعتين من غيرِ القُعود بعدَ السَّبْع. * * * 898 - عن عبد الله بن عُمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْعَلوا آخرَ صلاتِكم باللَّيلِ وِتْرًا". قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"؛ يعني: السنة أن يختِمَ الرجلُ صلاتَه في اللَّيل بالوِتْر. * * * 899 - وقال: "بادِرُوا الصُّبحَ بالوترِ". قوله: "بادروا الصبح بالوتر"؛ يعني: أسرِعُوا بأداءِ الوِتْر قبلَ الصُّبْح. * * * 900 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خافَ أن لا يقومَ مِن أخرِ الليلِ، فليُوترْ أولَّه، ومن طَمِعَ أن يقومَ آخِرُهُ فليُوترْ آخِرَ الليلِ، فإن صلاةَ آخرِ الليلِ مشهودةٌ، وذلكَ أفضلُ". قوله: "مَشْهودةٌ"؛ أي: محضورة؛ أي: فِعْلُ الصلاةِ في هذا الوقتِ فِعْلُ الأنبياءِ والأولياءِ وغيرِهم من عباد الله.

901 - وقالت عائشة رضي الله عنها: "مِن كُلِّ الليلِ أَوْتَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أوَّلِ اللَّيلِ وأَوْسَطِه وآخرِه، وانتهى وِتْرُه إلى السَّحَرِ". قوله: "أوترَ رسولُ الله عليه السلام مِن أولِ اللَّيل"، الحديثُ أولَ وقتِ الوِتْر بعدَ أداءِ فريضةِ العِشَاءِ إن صلَّى الوترَ بثلاث، أو أكثر، وإن صلاَّها برَكعةٍ واحدة فالأصحُّ أنه يجوزُ أداؤُها بعد فرضِ العِشاء، وقيل: لا يجوزُ حتى يصلِّيَ السُّنَّةَ أو غيرَها، وآخرُه قُبَيلَ الصُّبحِ. * * * 902 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أَوْصاني خليلي بثلاثٍ: صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وركعتي الضحى، وأن أُوتِرَ قبلَ أن أنامَ. قوله: "خَلِيلي"؛ يعني: رسول الله عليه السلام. "صيامِ ثلاثةِ أيامٍ"؛ يعني: أيام البيض، وهو الثالثَ عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ. * * * مِنَ الحِسَان: 903 - عن غُضَيف بن الحارث قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يغتسلُ من الجنابةِ في أولِ الليلِ أَمْ في آخرِه؟، قالت: رُبَّما اغتسل في أولِ الليلِ ورُبَّما اغتسلَ في آخره، فقلت: الحمدُ للهِ الذي جعلَ في الأمرِ سَعَةً، قلتُ: كانَ يُوتِرُ في أولِ الليلِ أَمْ في آخِرِه؟، قالت: رُبَّما أَوترَ في أولِ الليلِ ورُبَّما أوترَ في آخرِه قلتُ: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعَةً، قلت: كانَ يجهرُ بالقراءةِ أم يَخفِت؟، قالت: رُبَّما جهَرَ ورُبَّما خَفَتَ، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعلَ في الأمرِ سَعَةً.

قوله: "خَفَتَ"، ضدُّ جَهَرَ. * * * 904 - وسُئلت عائشة رضي الله عنها: بِكَم كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِر؟، قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍ وثلاثٍ، وثمانٍ وثلاثٍ، وعشرٍ وثلاثٍ، ولم يكنْ يُوتِر بأَنقَصَ من سبعٍ، ولا بأكثرَ من ثلاثَ عشرةَ. قولها: "بأربعٍ وثلاثٍ"؛ يعني: يُصَلِّي أربعًا بتسليمتين، وثلاثًا بتسليمةٍ واحدةٍ، وكذلك في آخرِ الحديث: يصلِّي ما قبلَ الثلاثِ كلَّ رَكعتين بتسليمةٍ. * * * 905 - عن أبي أَيُّوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوِترُ حقٌّ على كلِّ مسلمٍ، فمن أَحبَّ أن يُوتِرَ بخمسٍ فليفعلْ، ومَن أحبَّ أَنْ يُوتِرَ بثلاثٍ فليفعلْ، ومَن أحبَّ أن يوتِرَ بواحدةٍ فليفعل". قوله: "الوِتْرُ حَقُّ"، (الحقُّ) هنا معناه: السُّنَة، وتَلَفُّظُه عليه السلام بهذا اللَّفظ للتأكيد، هذا عند الشافعي، وعند أبي حنيفة معناه: الوجوب. * * * 906 - وقال: "إن الله تعالى وِتْرٌ يُحبُّ الوِترَ، فأَوتِروا يا أهلَ القُرآنِ". قوله: "يا أهلَ القرآن"؛ يعني: يا أيها المسلمون. * * * 907 - قال: "إن الله أَمَدَّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمْرِ النَّعَم: الوِترُ، جعلَه الله فيما بينَ صلاةِ العِشاءِ إلى أنْ يَطلُعَ الفجْر".

قوله: "أَمَدَّكم"؛ أي: زادَ على صلاتِكم صلاةً أخرى، وهي الوِتْر. "الحُمْر": جمع أَحْمرَ، و"النَّعَمُ": هنا الإبل، والإبلُ الأحمرُ عندَهم أعزُّ الأموال فقال عليه السلام: هذه الصلاةُ خيرٌ لكم مما تحبون من أموال الدنيا لأنها ذخيرة الآخرة، والآخرة خير وأبقى. "الوتر": هي مجرورةٌ لأنها بدلٌ لقوله: أَمَدَّكم بصلاةٍ، ويجوزُ أن يكونَ مرفوعًا على تقديرِ فهي الوِتْر. رواه خارجةُ بن حُذَافةَ، جَدُّ خارجةَ: غانمُ بن عامرِ بن عبد الله بن عبيدٍ القُرَشي. * * * 908 - وقال: "مَن نامَ عن وِتْرهِ فليُصَلِّ إذا أَصبَحَ"، مُرسَل. قوله: "مَنْ نامَ عن وِتْرِه فلْيُصَلِّ إذا أصْبَحَ"، رواه زيدُ بن أَسْلم، يعني: مَن فاتَه الوِتْرُ. فَلْيقْضها بعد الصُّبحِ متى اتفق، رواه ثعلبة بن عديِّ بن العَجْلان الأنصاري. * * * 909 - سُئلت عائشةُ رضي الله عنها: بأي شيءٍ كان يوترُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: كان يقرأُ في الأُولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوِّذتين. قولها: "بأيِّ شيءٍ يُوْتِر"؛ يعني: أي شيءٍ يقرأُ في الوِتْر. * * * 910 - وعن الحسنِ بن علي - رضي الله عنهما - أنه قال: علَّمَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ

أقولُهنَّ في قنوتِ الوِترِ: "اللهم اهدِني فيمَن هدَيتَ، وعافِني فيمَن عافيتَ، وتَوَلَّني فيمَن تَوَلَّيْتَ، وبارِكْ لي فيما أعطيتَ، وَقِني شرَّ ما قضيتَ، فإنَّكَ تَقضي ولا يُقضَى عليكَ، إنه لا يَذِلُّ مَنْ والَيْتَ، ولا يَغِرُّ من عاديتَ، ولا يضل من هديت، تباركتَ ربنا وتعالَيْتَ". قوله: "فيمن هديت"؛ أي: فيمن هديتهم؛ يعني: اجْعَلْني من جملةِ الذين هديتَهم إلى الصراط المستقيم. "وتولَّني": هذا أمرٌ مخاطَبٌ مِنْ (تَولَّى) إذا أحبَّ أحدًا وقام بحِفْظِ أموره، "من واليتَ"؛ أي: مَنْ أحببتَ. * * * 911 - وعن أُبي بن كَعْبٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من الوترِ قال: "سُبحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ" ثلاثَ مراتٍ يرفعُ في الثالثةِ صوْتَه. قوله: "سبحان الملك القدوس ثلاث مرات"، (القُدُّوسُ): الطاهِرُ. هذا الحديث يدلُّ على أن الذِّكْرَ برفْعِ الصوتِ جائزٌ، بل مستحَبٌّ إذا لم يكن فيه الرِّياءُ ليتعلَّمه الناسُ، لإظهارِ الدِّينِ ووصولِ بركةِ صوتِ الذِّكْرِ إلى السامعين والدُّور والبيوت والحيوانات، وليُوَافقُها القائل، مِنْ سمعِ صَوْتِه، وليشهدَ له يومَ القيامةِ كلُّ رَطْبٍ ويابسٍ سَمِعَ صوتَه. وبعض المشايخ يختارُ إخفاءَ الذكر؛ لأنه أبعدُ من الرِّياء، وهذا يتعلَّقُ بالنية، فمن كانت نيتُه صادقةً فرفعَ الصوتَ بقراءة القرآنِ والذِّكْر أولى لما ذَكَرْنا، ومن خافَ من نفسه الرِّياءَ فالأَولى له إخفاءُ الذِّكْرِ كي لا يقعَ في الرِّياء، والله أعلم. * * *

35 - باب القنوت

35 - باب القُنوت (باب القنوت) مِنَ الصِّحَاح: 913 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أرادَ أن يدعوَ على أحدٍ، أو يدعوَ لأحدٍ قَنتَ بعدَ الركوعِ، فرُبَّما قال إذا قال: سمعَ الله لِمَن حَمِدَه، ربنا لك الحمدُ: "اللهم أَنْجِ الوليدَ بن الوليدِ، وسلمةَ بن هشامٍ، وعَيَّاشَ بن أبي ربيعةَ، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ، واجعلْها سِنينَ كسِنِيِّ يوسفَ" يجهرُ بذلك، وكانَ يقولُ في بعضِ صلاتِه: "اللهم العَنْ فلانًا وفلانًا" لأحياءٍ من العربِ حتى أنزلَ الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. قوله: "إذا أراد أن يدعو على أحد ... " إلى آخره، دعا على أحدٍ إذا طلبَ أن يَلْحَقَه ضَرَرٌ، ودعا لأحدٍ إذا طلبَ خيرَه. "أَنْجِ"، أمرٌ مخاطَبٌ مِن (أَنْجَى أحدًا) إذا خلَّصه، هؤلاءِ الثلاثة كانوا من أصحاب رسول الله عليه السلام، فأخذَهم الكفارُ، فدعا رسول الله لهم ليخلِّصَهم الله. قوله: "اللهم اشددْ وطْأَتَك"، (الوَطْءُ): الضَّرْبُ؛ يعني: شَدِّدْ عذابَك على كُفَّار مُضَر. "واجْعَلْها"؛ أي: واجعلْ وطْأَتَك، "سِنينَ": وهي جمع سَنَة، وهي القَحْطُ؛ يعني: اجعلْ عذابَكَ عليهم بأن تسلِّطَ عليهم قَحْطًا عظيمًا سبعَ سنين أو أكثر، كما كان في زمن يوسفَ عليه السلام، "يجْهَرُ بذلك"؛ يعني: يرفعُ صوتَه.

قوله تعالى: " {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} " [آل عمران: 128]. (أو) ههنا بمعنى (إلى أن) في قول، يعني: أرسلْناك لتبلغَ رسالتي، وليس لكَ من الهداية واللَّعنِ شيءٌ، بل اترك اللَّعْنَ واصبرْ لما يصيبُك إلى أن يتوبَ الله عليهم أو يعذِّبَهم، وليكنْ رضاك موافقًا لأمر الله تعالى وتقديره، لا تقلْ ولا تفعل شيئًا باختيارك. * * * 914 - وقال عاصم الأَحوَلُ: سألتُ أنسَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عن القُنوتِ في الصلاةِ، كَانَ قبلَ الركوعِ أو بعدَه؟، قال: قبلَه، إنما قنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الركوعِ شهرًا، إنه كَانَ بعثَ أُناسًا يقال لهم: القراءُ، سبعونَ رجلًا، فأُصيبوا، فقنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الركوعِ شهرًا يَدعو عليهم. قوله: "كان قبل الركوع"، يعني: إذا فَرَغ من قراءةِ القرآنِ قرأَ القنوتَ، ثم ركَعَ، وبهذا قال أبو حنيفة. قوله: "بعث أناسًا"، هؤلاء كانوا من أهل الصُّفَّة، يتعلَّمون العِلْمَ والقرآن، فجاء أبو عامر - الذي يقال له: ملاعِبُ الأسِنَّة قبلَ إسلامه - إلى رسول الله عليه السلام فقال: لو بعثتَ جماعةً إلى أهل نَجْدٍ ليدْعُوهم إلى الإسلام لاستجابوا، فقال رسول الله عليه السلام: "أخاف عليهم أهل نجد"، فبعثَ معه السبعين المُسَمَّين بالقراء، فنزلوا بئر مَعُونة، أخذَ حَرَام بن مِلْحَان كتابَ رسولِ الله عليه السلام، وهو من السبعين، وأتى عامرَ بن طُفَيل وعرضَ عليه كتابَ رسولِ الله عليه السلام فقالَ عامرٌ لأصحابه: أعينوني حتى أقتلَ هؤلاءِ المسلمين، فلم يُجِبْه أصحابُه، فاستعانَ بقبيلةِ عُصَيَّةَ ورِعْلٍ وذَكْوَان، والقَارَة، فأجابوه وجاؤوا إلى السبعين وقتلوهم كلَّهم إلا كعبَ بن زيد.

"فأصيبوا"؛ أي: قُتِلُوا، وهذه الواقعة كانت بعد الهجرة في أول السنة الرابعة. * * * مِنَ الحِسَان: 915 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظُّهرِ والعصرِ والمغربِ والعِشاءِ، وصلاةِ الصُّبحِ، إذا قال: "سَمِعَ الله لمن حَمِدَه" من الركعةِ الأَخيرة يدعو على أحياءٍ من سُلَيْمٍ - على رِعْلٍ، وذَكوانَ، وعُصَيَّةَ - ويُؤَمِّنُ مَن خَلْفَهُ. قوله: "يدعو على أحياء ... " إلى آخره، دعا على هؤلاء لأنهم قتلُوا القُرَّاءَ كما ذكرْنا. وهذا الحديث يدُّل على أنه لو نزل بالمسلمين نازلةٌ من قَحْطٍ، أو غلبةِ عدوٍّ، أو غيرِ ذلك من المكارِه يُسَنُّ القنوتُ في جميع الصلواتِ، وفيه قولٌ: أنه لا يُسَنُّ في غيرِ الصبحِ. * * * 916 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قنتَ شهرًا، ثم تَرَكَه. قوله: "قنت شهرًا ثم تركه"؛ يعني: دعا على الكفار في القنوت شهرًا، ثم ترك الدعاءَ على الكُفَّار، وليس معناه أنه عليه السلام تركَ القنوتَ. * * * 917 - وعن أبي مالكٍ الأَشجَعي قال: قلتُ لأَبي: إنك قد صلَّيتَ خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -

ههُنا بالكوفةِ نحوًا من خمسِ سنينَ، أكانوا يَقنُتونَ؟، قال: أَيْ بنيَّ، مُحْدَثٌ. قوله: "ههنا بالكوفة"؛ يعني: صليتُ خلفَ عليٍّ بالكوفة خمسَ سنين، وليس معناه صليتُ خلفَ رسولِ الله عليه السلام وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ بالكوفة. قوله: "أي بنيَّ مُحْدَثٌ"؛ يعني: يا بنيَّ! القنوتُ مُحْدَثٌ، أحدَثه التابعون، ولم يقرأْه رسول عليه السلام وأصحابُه. قال الإمام أبو الفتوح العِجْلي رحمة الله عليه: لا يلزمُ من نفيِ هذا الصحابيِّ القنوتُ؛ لأنه يحتملُ أن يكونَ في آخرِ الصفِّ إذا صلَّى مع رسول الله عليه السلام وأصحابه، ولم يسمعِ القُنوتَ. ويحتملُ أيضًا أنه يريدُ بنفي القُنوتِ نفيَ القُنوتِ في غير الصبح وِالوِتْر. ويحتملُ أنه يسمعُ من الناسِ بعدَ الصحابةِ كلماتٍ يقرؤونها في القُنوتِ، ولم يسمعْها من النبي عليه السلام، ولا من الخلفاء الراشدين، فأنكرَ تلك الكلماتِ، فقال: مُحْدَثٌ؛ أي: قراءةُ هذهِ الكلماتِ في القُنوتِ مُحدَثٌ. وقد روى القُنُوتَ حسنُ بن عليٍّ، وأبو هريرةَ، وأنسٌ، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وصحبةُ هؤلاء مع رسول الله عليه السلام أكثرُ من صحبةِ هذا الصحابيِّ، وهو طارقُ بن أَشْيَمَ، فتكونُ روايتهم أثبتُ قولًا، والله أعلم. "أبو مالك": اسمه سعد بن طارق بن أشْيَمَ.

36 - باب قيام شهر رمضان

36 - باب قِيَام شَهْر رمَضان (باب قيام شهر رمضان) مِنَ الصِّحِاحِ: 918 - قال زَيد بن ثابت - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اتَّخذَ حُجْرةً في المسجدِ من حَصيرٍ، فصلَّى فيها لياليَ حتى اجتمعَ إليه ناسٌ، ثم فَقَدوا صوتَه ليلةً، وظنُّوا أنه قد نامَ، فجعلَ بعضُهم يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إليهم، فقال: "ما زالَ بكم الذي رأَيتُ من صَنيعِكم حتى خشيتُ أن يُكتَبَ عليكم، ولو كُتِبَ عليكم ما قُمْتُمْ بهِ، فَصَلُّوا أيُّها الناسُ في بيوتكم، فإنَّ أفضلَ صلاةَ المَرْءِ في بيتِه إلا الصلاةَ المكتوبةَ". قوله: "فصَلَّى فيها لياليَ"؛ يعني: فصلَّى في تلك الحُجْرةِ، ويخرجُ من تلك الحُجْرَة، ويُصلِّي للناسِ بالجَماعة، واقتدَى الناسُ به في صلاةِ التراويح كما يقتدُون به في صلاةِ الفريضةِ حتى كَثُرَ الناس. قوله: "ثم فَقَدُوا صوتَه ليلةً"؛ أي: فلم يجِدُوا صوتَه؛ يعني: خرجَ ليلةً وصلَّى بهم صلاةَ الفريضةِ، ودخل تلك الحُجْرةَ ليخرجَ إليهم لصلاةِ التراويحِ بعد ساعةٍ كما هو عادتُه في الليالي الماضيةِ، فلم يخرجْ إليهم. قوله: "مما زالَ بكم"؛ يعني: رأيتُ شِدَّةَ حِرْصِكم في إقامة صلاة التروايح بالجماعة حتى خَشِيتُ أني لو واظبتُ على إقامتها لفرضت عليكم، ولو فرضت عليكم لم تُطِيقوها. وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أن الجماعةَ بصلاةِ التراويحِ سُنةٌ لمَّا فعلها رسول الله عليه السلام لياليَ، ويدلُّ أيضًا على كونِها سُنَّةً بالانفراد.

واختُلِفَ في أن صلاةَ التراويحِ بالجماعة أَولى أو بالانفراد، والأصحُّ أن الجماعة فيها في عصرنا أفضلُ؛ لأن الكسلَ غالبٌ على الناس، فلو لم يصلُّوها بالجماعةِ لم يصلُّوها بالانفراد. * * * 919 - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُرَغِّبُ في قيامِ رمضانَ من غيرِ أن يأمُرَهم فيه بعَزيمةٍ، فيقول: "مَنْ قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبهِ"، فتُوفيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والأمرُ على ذلك، ثم كانَ الأمرُ على ذلكَ في خلافةِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، وصدرًا من خلافةِ عُمر - رضي الله عنه -. قوله: "يُرَغِّبُ في قيامِ رمضان"، (يُرَغِّبُ) بتشديد الغين؛ أي: يُظْهِرُ رغبتَهم فيه بقوله عليه السلام: "من قام رمضان إيمانًا"؛ أي: عن صِدْقِ نيةٍ لا عن النفاق، "واحتسابًا": أي: لطلبِ الثوابِ من الله لا عن الرِّيَاء. قوله: "والأمرُ على ذلك"؛ أي: لم يكنِ الناسُ يقومون رمضانَ بالجماعةِ غيرَ الفَريضة. قوله: "وصَدْرًا"؛ أي: وفي أولِ خلافةِ عمرَ كذلك، وصدرُ الشيء: أولُه. ثم خرج عمرُ - رضي الله عنه - في خلافته ليلةً في رمضان، فرأى الناسَ يصلُّون في المسجد منفردِين صلاةً غيرَ صلاةِ الفريضة، فأمرَ أُبيَّ بن كَعْبٍ وتميمًا الدَّارِيَّ ليصلِّيا بالناسِ بالإمامة صلاةَ التراويح، والمرادُ بقيام رمضان أداءُ صلاةِ التراويحِ عندَ أكثرِ أهلِ العلم، وعندَ أهلِ المدينة: أداءُ إحدى وأربعين رَكعةً من الوتر والتراويح. * * *

920 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قضَى أَحدُكم الصَّلاةَ في مَسجده فليجعَل لبيته نَصيبًا من صلاته، فإنَّ الله جاعلٌ في بيته من صلاته خَيْرًا". قوله "فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته"؛ يعني: لا تتركوا بيوتَكم خاليةً عن الصلاة، بل صلُّوا فيها صلاةَ النَّوافلِ والسُّنَنِ، فإنَّ الله يجعلُ البركةَ والرحمةَ في بيتٍ تُصَلَّى فيه صلاةٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 921 - قال أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه -: صُمْنا مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَقُمْ بنا شيئًا من الشهرِ حتى بقيَ سبعٌ، فقامَ بنا حتى ذهبَ ثلثُ الليلِ، فلمَّا كانت السادسةُ لم يَقُمْ بنا، فلمَّا كانت الخامسةُ قام بنا حتى ذهبَ شَطْرُ الليلِ، فقلتُ: يا رسولَ الله لو نَفَّلْتَنا قيامَ هذهِ الليلةِ، فقال: "إن الرجلَ إذا صلى معَ الإمام حتى ينصرفَ؛ حُسِبَ له قيامُ ليلةٍ"، فلمَّا كانت الرابعةُ لم يَقُمْ حتى بقيَ ثلاثٌ، فلمَّا كانت الثالثةُ جمعَ أهلَهُ ونساءَهُ والناسَ، فقامَ بنا حتى خَشِينا أن يفوتَنا الفلاحُ - يعني السُّحور - ثم لم يقمْ بنا بقيةَ الشهرِ. قوله: "فلم يَقُمْ بنا شيئًا من الشَّهر"؛ يعني؛ لم يصلِّ بنا غيرَ صلاةِ الفريضة، فإذا صلَّى الفريضة دخلَ حُجْرتَه، "حتى بقيَ لسبعٍ"؛ أي: سبع ليالٍ من شهر رمضانَ. "فقام بنا"؛ يعني: كان معنا "حتى ذهب ثلث الليل"، فيصلِّي ويذكر الله ويقرأُ القرآن "شَطْرَ الليل"؛ أي: نصفَه. "لو نَفَّلْتَنا"؛ أي: لو زدتَ في قيامِ الليلِ على نِصْفِه لكانَ خيرًا لنا. قوله: "صلَّى مع الإمام حتى ينصرفَ"؛ يعني: مَن صلَّى صلاةَ الفريضةِ

مع الإمامِ ويصبرُ معه حتى ينصرفَ الإمامُ من المسجد إلى بيته = يَحْصُل له ثوابُ قيامِ ليلةٍ تامَّةٍ. قوله: "فلمَّا كانتِ الرابعةُ لم يَقُمْ بنا حتى بقيَ ثلثُ الليل"، اعلم أن قولَه: (حتى بقي ثلث الليل) ليس في "معالم السنن"، ولا في "شرح السنة"، بل كان في الكتابين المذكورين: (فلمَّا كانت الرابعة لم يَقُمْ) فلعلَّ قوله: (حتى بقي ثلث الليل) جاء في بعض الرواياتِ. "الفلاح": البقاءُ، وسُمِّيَ ما يؤكَلُ في السَّحَر فلاحًا لأنه سببُ بقاءِ قوةِ الصائم، ومعينٌ له على الصَّوْم. * * * 922 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى ينزلُ ليلةَ النصفِ من شعبانَ إلى السماءِ الدُّنيا، فيغفرُ لأكثرِ من عددِ شعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ"، ضعيف. قولها: "غَنَم كَلْب"؛ أي: غَنَم بن كَلْب، وهي قبيلةٌ كثيرةٌ، ولهم غَنَمٌ كثيرة. * * * 923 - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ المرءِ في بيتِهِ أفضلُ من صلاتِهِ في مسجدي هذا إلا المَكتوبة". قوله: "صلاةُ المرءِ في بيته أَفْضَلُ"؛ يعني: صلاةُ النافلةِ أفضلُ في بيتِه من صلاتِه في مسجدِ المدينة، مع أنَّ صلاةً في مسجدِ المدينة أفضلُ من ألفِ صلاةٍ في سائر المساجدِ غيرَ المسجدِ الحرامِ، والله أعلم. * * *

37 - باب صلاة الضحى

37 - باب صلاة الضُّحى (باب صلاة الضُّحى) مِنَ الصِّحَاحِ: 924 - عن أم هانئٍ رضي الله عنها أنها قالت: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ بيتَها يومَ فتح مكةَ، فاغتسلَ وصلى ثمانيَ ركعاتٍ، فلم أَرَ صلاةً قَطُّ أَخَفَّ منها، غيرَ أنه يُتِمُّ الركوعَ والسجودَ، وذاكَ ضحًى. قولها: "ولم أرَ صلاةً قَطُّ أخفَّ منها"، وخِفَّةُ هذه الصلاة كانتْ بتركِ قراءةِ السُّوَرِ الطويلةِ والأذكارِ الكثيرةِ، لا بترْكِ شيءٍ من الفَرائضِ. * * * 925 - وقالت مُعاذَةُ: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها، كم كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضُّحى؟، قالت: أربع ركعاتٍ، ويزيدُ ما شاءَ الله. قوله: "ويزيدُ ما شاءَ الله"، مفهومُ قولها: (ويزيد ما شاء الله) أنه يزيدُ مِن غيرِ حَصْرٍ، ولكنْ لم يُنقَلْ أكثرُ من اثنتي عشرةَ رَكْعةً. * * * 926 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُصبحُ على كلِّ سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تَحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن المُنكرِ صدقةٌ، ويُجزئُ من ذلكَ ركعتانِ يركعُهما من الضُّحى".

قوله: "على كلِّ سُلاَمى"، (السُّلاَمى) - بضم السين -: كلُّ عَظْمِ مِفْصَل، وكلُّ عَظْمٍ يَعتمِدُ به الإنسانُ عندَ الحركة؛ يعني: يستحقُّ على كلِّ واحدٍ منكم بعددِ كلِّ عظمٍ على أعضائه صدقةً شُكْرَ الله على أنْ خَلَقَه، وجَعَلَه بحيث يمكنكم الحركة به، وليسَ الصدقةُ بالمالِ فقط بل كلُّ خيرٍ صَدَقة. قوله: "ويُجْزِئُ"؛ أي: ويَكْفِي؛ يعني: إذا صلَّى ركعتي الضُّحى فقد أدَّى شكر ذلك، رواه أبو ذر. * * * 927 - وقال: "صلاةُ الأَوَّابينَ حينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ". قوله: "صلاةُ الأَوَّابينَ حينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ"، رواه زيدُ بن أرقم. (الأَوَّابُ): الراجعُ إلى الله تعالى في جميع أحوالِه. "رَمِضَتِ" الفِصَالُ تَرْمَضُ: إذا احترقَتْ أخفافُها من غايةِ حرِّ النهار. وقصةُ هذا الحديث أنَّ رسولَ الله عليه السلام دخلَ مسجدَ قُبَاء عند ارتفاعِ الشمسِ ارتفاعًا كثيرًا، فرأى أهلَ المسجدِ يُصَلُّون صلاةَ الضُّحَى، فقال رسول الله عليه السلام هذا الحديث، وإنما مدَحهم بأن يُصَلُّوا صلاةَ الضُّحَى في هذا الوقت؛ لأنَّ هذا الوقتَ وقتُ القيلولةِ والاستراحةِ، فتركُوا الاستراحةَ واشتغلوا بالصلاةِ فاستحقُّوا المَدْحَ. * * * مِنَ الحِسَان: 928 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن الله تبارَكَ وتعالى أنه قال: "يا ابن آدمَ،

اركَعْ لي أربعَ ركعاتٍ من أولِ النهارِ أَكْفِكَ آخِرَه". قوله: "أَكْفِكَ آخرَه"، أقْضي شُغْلَك وحوائجَك، وأَدفَعُ عنك ما تَكْرَه بعدَ صَلاتِك في آخرِ النَّهار. * * * 929 - وقال: "في الإِنسان ثلاث مئةٍ وستونَ مَفْصِلًا، فعليه أنْ يتصدَّق عن كل مَفصِلٍ منه بصدقةٍ"، قالوا: ومَن يُطيقُ ذلك يا رسول الله؟، قال: "النُّخاعةُ في المَسجدِ تَدْفِنُها، والشيءُ تُنَحِّيه عن الطَّريقِ, فإنْ لم تجدْ فركعتا الضُّحى تُجزِئكَ". قوله: "النُّخَاعةُ في المسجدِ تَدْفِنُها"، (النُّخَاعَةُ) ماءُ الأنفِ؛ يعني: ليست الصدقةُ بالمالِ فقط، بل إذا دفنَ الرجلُ نُخَاعةً في المسجدِ كُتِبتْ له بذلك صدقةٌ، وكذلكَ كلُّ خيرٍ صدقةٌ. "تُنَحِّيه"؛ أي: تُبْعِدُه. رواه بُرَيْدَة. * * * 931 - وقال: "من قعدَ في مُصَلاَّهُ حينَ ينصرفُ من صلاةِ الصُّبحِ حتى يُسبحَ ركعتي الضُّحى لا يقولُ إلا خيرًا؛ غُفِرَ له خطاياهُ وإن كانتْ أكثرَ من زَبَدِ البحرِ". قوله: "حتى يُسَبحَ"؛ أي: حتى يُصَلِّيَ، والله أعلم. * * *

38 - باب التطوع

38 - باب التطوع (باب التَّطَوُّعِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 932 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبلالٍ عندَ صلاة الفجرِ: "يا بلالُ!، حدِّثني بأَرْجَى عمَلٍ عَمِلْتَه في الإِسلامِ؟، فإِني سمعتُ دَفَّ نعليكَ بين يديَّ في الجنةِ"، قال: ما عملتُ عملاً أَرْجَى عندِي إلا أني لم أتَطَهَّرْ طُهُورًا في ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارٍ إلا صلَّيتُ بذلكَ الطُّهور ما كُتِبَ لي أنْ أُصَلِّيَ. "عند صلاة الفجرِ" يحتملُ أن تكونَ هذه الواقعةُ ليلةَ المِعْرَاج، ويحتملُ أن يراه في النوم، أو أراه الله عليه السلام في اليقظة. "دَفَّ نَعْلَيك"؛ أي: صوتَ نعليك. قوله: "بين يَدَيَّ"، هذا لا يدلُّ على تفضيلِ بلالٍ على واحدٍ من الصحابة العشرة فضلاً على رسول الله، وإنما مشى بلالٌ بين يديه عليه السلام للخِدْمة، كما يسبقُ العبدُ السيدَ في المَشْيِ، وسؤالُه عليه السلام بلالاً لُيَطَيبَ قلبَه بكونِه مستحِقًّا للجَنة، وليدومَ على ما عليه من الطاعةِ، وليُظْهِرَ رغبةَ مَنْ سمعَ هذا الحديثَ في الطاعة، وليصيرَ أداءُ الصلاةِ بعد الوضوء سُنَّةً، ويُسمَّى شُكْرَ الوُضوء. "ما كُتِبَ لي"؛ أي: ما قُدِّرَ لي. * * * (صلاة الاستخارة) 933 - وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنا الاستخارَةَ في الأُمورِ

كما يُعَلِّمُنا السورةَ من القرآنِ يقولُ: "إذا همَّ أحدُكم بالأمرِ فليركعْ ركعتينِ من غيرِ الفَريضةِ، ثم ليقلْ: اللهم إني أَستخيرُكَ بعلمِكَ، وأستقدرُكَ بقُدرتكَ، وأَسألُكَ من فضْلِكَ العظيمِ، فإنك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ، وتعلَمُ ولا أعلمُ، وأنتَ علاَّمُ الغيوبِ، اللهم إنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ - ويُسمِّي حاجَتَهُ - خيرٌ لي في دِيْني ومَعاشي وعاقبةِ أمري وآجِلِه فاقدرْه لي ويسِّرْه لي ثم بارِكْ لي فيه، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شرٌّ لي في دِيْني ومَعاشي وعاقبةِ أَمري وآجله فاصرفْهُ عني واصرفني عنه، واقدرْ ليَ الخيرَ حيثُ كانَ ثم أَرْضني به". قوله: "أَسْتَخِيرُك"؛ أي: أطلبُ الخيرَ منك. "وأسْتَقْدِرك"؛ أي: أطلبُ منك أن تُقَدِّرَ لي الخيرَ. قوله: "أن هذا الأمر"؛ أي: الأمر الذي يَقْصِدُه من نكاحٍ، أو مسافرةٍ، أو غيرِها. * * * مِنَ الحِسَان: 934 - قال علي - رضي الله عنه -: ما حدَّثني أحدٌ حَديثًا إلا استحلَفتُه، فإذا حلَفَ لي صدَّقتُه، وحدَّثني أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه - وصدَقَ أبو بكرٍ - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن رجلٍ يُذنِبُ ذَنْبًا ثم يقومُ فيتطهرُ، ثم يُصلِّي، ثم يستغفر الله تعالى إلا غفرَ الله لهُ، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} ". قوله: "ثم يستغفر الله"، أنه يتوبُ من ذلك الذَّنْبِ ويعزِمُ على ألاَّ يعودَ إليه، لأنَّ هذا شرطُ التوبةِ والاستغفار. قيل: "الفاحشة" في هذه الآية: الكبائرُ والظلم، {أَوْ ظَلَمُوا}: الصغائر،

{ذَكَرُوا اللَّهَ}: أي: ذكروا عذابَ الله وخافُوا منه. وجزاءُ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] في الآية الثانية، وهو: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 136]. * * * 935 - وقال حُذيفة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَه أمرٌ صَلَّى. قوله: "إذا حَزَبَه أمرٌ صَلَّى"، (حَزَبَه): أي: نزلَ عليه؛ يعني: أو أُنْزِلَ عليه أمرٌ صلَّى؛ ليسهل ذلك الأمرُ ببركةِ الصلاة. * * * 936 - عن بُرَيْدَةَ قال: أصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَدَعا بلالًا فقال: "بِمَ سَبقتني إلى الجنةِ؟، ما دخلتُ الجنةَ قَطُّ إلا سمعتُ خَشْخَشَتَكَ أَمامي"، قال: يا رسولَ الله!، ما أَذَّنتُ قَطُّ إلا صليتُ ركعتينِ، وما أَصابني حَدَثٌ قَطُّ إلا تَوضأتُ عندَه، ورأيتُ أن للهِ عليَّ ركعتينِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بهما". قوله: "بما سبقتني ... " إلى آخره (ما): في (بما) للاستفهام. "خَشْخَشَتَك"؛ أي: حركتك. "ورأيتُ أنَّ لله علي رَكْعتين"؛ أي: ظننتُ أنَّ الله أوجبَ عليَّ رَكعتين. "بهما"؛ أي: بهاتين الخَصْلَتين دخلتَ الجَنَّة. * * * 937 - عن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانتْ له حاجةٌ إلى الله تعالى، أو إلى أحدٍ مِن بني آدمَ فليتَوضأ فليُحسنِ الوُضوء، ثم

39 - باب صلاة التسبيح

ليُصلِّ ركعتينِ، ثم ليُثنِ على الله، وليُصلِّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقلْ: لا إلهَ إلا الله الحليمُ الكريمُ، سُبحانَ الله ربِّ العرشِ العظيم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَسألُكَ مُوجباتِ رحمتِكَ، وعزائمَ مغفرتِكَ، والغنيمَةَ مِن كلِّ برٍّ، والسَّلامةَ مِن كل إثْمٍ، لا تَدع لي ذنبًا إلا غَفرتَهُ، ولا همَّاً إلا فرَّجتَهُ، ولا حاجةً هي لك رِضًا إلا قضيتَها يا أرحمَ الراحمين"، غريب. قوله: "أسألك مُوْجِباتِ رَحْمَتِك"؛ أي: الأفعالَ والأقوالَ والصِّفاتِ التي تحصلُ رحمتُك لي بسببها. "وعزائم مغفرتك"، (العزائمُ): جمع عزيمة، وهي الخَصْلَة التي يَعْزِمُها الرجُل؛ أي: يقصِدُها، مِن قَصْدِ القلب والجِدِّ فيه؛ يعني أسألكَ الخِصالَ التي تَحْصُلُ مغفرتُك لي بسببها. "والغنيمة من كل بر"؛ أي: أسألُك أن تعطيَني نصيبًا تامًا من الخيرات. "لا تدع"؛ أي: لا تتركْ. "الهَمُّ": الغمُّ، "فَرَّجَ" تفريجًا: إذا زال الغَمُّ. "رضا"؛ أي: مُرضيًا؛ أي: كلُّ حاجةٍ وشغلٍ من حوائجي واشتغالي هو مرضيٌّ لك فاقضه. * * * 39 - باب صلاة التَّسْبيح (صلاة التسابيح) 938 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ للعباسِ بن عبدِ المطلبِ:

"يا عَمَّاهُ، ألا أُعلِّمُكَ، ألا أَمنَحُكَ، ألا أَفعلُ بكَ عشرَ خصالٍ إذا أنتَ فعلتَ ذلكَ غُفِرَ لكَ ذنبُك أولُه وآخرُه، خَطَؤه وعَمْدُه، صغيرُه وكبيرُه، سِرُّه وعلانيتُه: أن تُصلِّي أربعَ ركعاتٍ تقرأُ في كلِّ ركعةٍ فاتحةَ الكتابِ وسورةً، فإذا فرغتَ من القراءةِ قلتَ وأنتَ قائمٌ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ خمسَ عشرةَ مرةً، ثم تركعُ فتقولُها عشرًا، ثم ترفعُ رأْسَك من الركوعِ فتقولُها عشرًا، ثم تَهوي ساجدًا فتقولُها عشرًا، ثم ترفعُ رأسَك من السجودِ فتقولُها عشرًا، ثم تَسْجُدُ فتقولُها عَشرًا، ثم ترفَعُ رأسك مِنَ السجودِ فتقولُها عشرًا قبل أن تقومَ، فذلك خمسٌ وسبعونَ في كلِّ ركعةٍ، إنِ استطعتَ أن تُصلِّيَها في كل يومٍ مرةً فافعلْ، فإن لم تفعلْ ففي كل جمعةٍ، فإن لم تفعلْ ففي كل شهرٍ فإن لم تفعلْ ففي كل سَنةٍ، فإن لم تفعل ففي عمُرِكَ مرةً". قوله: "يا عمَّاه! ألاَ أعلِّمُكَ، أَلاَ أَمْنَحُك"، هذا الحديث قد سَقَطَتْ ألفاظُه في كتاب "المصابيح" من الناسخ، ولفظهُ ما أوردناه هنا. (الهاء) في (عمَّاه) هاءُ السكت، وهاءُ الندبة لتعظيم النداء، وهي ساكنة. "أَمْنَحُكَ"؛ أي: أُعْطِيكَ، كرَّر هذه الألفاظَ لتعظيم هذه الصلاةِ، وهذا التعليمُ في خاطرِ عباس، ولا بدَّ من إضمار، والتقدير: ألاَ أُعلِّمُكَ شيئًا يكفِّرُ عشرةَ أنواعِ ذُنوبك، وهي أولُه وآخرُه، قديمه وحديثه إلى آخرِ الخِصَال، والمراد بالخِصَال الأنواعُ المذكورة. قوله: "إذا أنت فعلت ذلك"، هذا شرحُ ما قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا أنت فعلت ما أعلمك غفر الله كل أنواع ذنوبك، عشر خصال. قوله: "سره وعلانيته"، يجوزُ بالنَّصْبِ على تقديرِ: عَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ خِصَال، ويجوز بالرفع على تقدير هذه عشرُ خِصَال.

939 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أولَ ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنْ صَلَحَت فقد أَفْلَحَ وأَنْجَحَ، وإن فَسَدَت فقد خابَ وخَسِرَ، فإن انتقَصَ من فَريضَتِه شيءٌ قال الرب تبارك وتعالى: انظُروا هل لعبدي من تطوُّعٍ؟، فيُكَمَّلُ بها ما انتقصَ من الفَريضةِ، ثم يكونُ سائرُ عَمَلِهِ على ذلك". وفي روايةٍ: "ثم الزكاةُ مثل ذلك، ثم تُؤْخذُ الأَعمالُ على حسبِ ذلك". "أَفْلَحَ وأَنْجَحَ"، يأتي لازمًا ومتعدِّيًا وهنا لازمًا؛ أي: صارتْ حاجته، ومراده نافذًا. "وإن فَسَدَتْ"؛ أي: وإن لم يؤِّد جميعَ فرائضِ الصلاةِ، أو أدَّاها غيرَ صحيحة. "خاب"؛ أي: صار محرومًا عن الفوز والخلاص قبل العذاب. قوله: "ثم يكونُ سائرُ عَمَلِه على ذلك"؛ يعني كذلك الصوم، إن تركَ شيئًا من الصيام الواجِب يؤخذ بدلَه ما صام من السُّنَّة والنوافل، وإن ترك شيئًا من الزكاة يؤخذ بدلَها ما أعطى من الصدقات. قوله: "ثم تؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك"؛ أي: على هذا المثال، يعني: من كان عليه حقٌّ لأحدٍ يؤخَذ من أعمالِه الصالحةِ بقدرِ ذلك الحقِّ، ويدفَع إلى صاحب الحَقِّ. * * * 940 - وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أذِنَ الله لعبدٍ في شيءٍ أفضلَ من ركعتينِ يُصليهِما، وإنَّ البرَّ ليُذَرُّ على رأسِ العبدِ ما دامَ في صلاتِهِ، وما تَقَرَّبَ العبادُ إلى الله تعالى بمثْلِ ما خرجَ منهُ"، يعني: القرآن.

40 - باب صلاة السفر

قوله: "ما أَذِنَ الله لعبدٍ في شيءٍ أفضلَ من رَكْعتين يصلِّيهما"؛ يعني: أفضلُ العباداتِ الصلاةُ. "وإن البرَّ لَيُدَرُّ": بالدال غير المعجمة؛ أي: وإن الرحمة والثواب لينزل على المصلِّي، ويجوز (ليَذُرُّ) بالذال المعجمة وضمِّها، ومعناه: يَنْشُر. قوله: "بمثلِ ما خَرَجَ منه"؛ أي: بمثل قراءة القرآنِ؛ يعني: قراءةُ القرآن أفضلُ من الذِّكْر، لأن القرآنَ كلامُ الله تعالى، وفيه المواعظُ والحِكَمُ والاعتبارات، وغيرُ ذلك من الفوائدِ التي لا يمكنُ إحصاؤها. وقد جاءَ في الحديثِ أنَّ القارئَ يُعطي بكلِّ حرفٍ عشرَ حَسَناتٍ، ولأنَّ القيامَ والمداومةَ بالقرآن سببُ بقاءِ القرآنِ بين الناس، وبقاءُ القرآن بقاءُ الدِّين، ولا شكَّ أن السَّاعِيَ في شيءٍ فيه بقاءُ الدِّين أفضلُ مِن غيره. * * * 40 - باب صلاة السَّفَر (باب صلاة المسافر) مِنَ الصِّحَاحِ: 941 - قال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ بالمدينةِ أربعًا، وصلى العصرَ بذي الحُلَيْفَةِ ركعتينِ. قوله: "صلَّى الظُّهرَ بالمدينة أربعًا ... " إلى أخره. "وصلَّى العَصْرَ بذي الحُلَيفة ركعتين"، (ذو الحُلَيفة): ميقاتُ أهلِ المدينة؛ يعني: صَلَّى الظُّهْرَ بالمدينة اليومَ الذي أرادَ الخروجَ إلى مكةَ للحجِّ

أربعَ رَكَعات، وإذا خرجَ من المدينة ووصلَ إلى ذي الحُلَيفة صلَّى العَصْرَ رَكْعَتين؛ لأنه كان في السفر، ويجوزُ قَصْرُ الظُّهْر والعَصْر والعِشَاء في السَّفَر. * * * 942 - قال حارثة بن وَهْب الخُزاعي: صلَّى بنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ أكثرُ ما كنَّا قطُّ وآمَنُه بِمِنى، ركعتينِ ركعتينِ. قوله: "ما كُنَّا قَطُّ"، (ما) في: (ما كنا) مصدرية، ومعناها الجمعُ؛ لأنَّ ما أضيفَ إليه (أفعلُ) التفضيل يكون جمعًا؛ يعني: أكثرُ أكواننا في سائر الأوقات عددًا. قوله: "وآمَنُه"، الضميرُ فيه يرجِعُ إلى (ما)؛ أي: أكثرُ أَمْنًا ممَّا كنَّا في سائر الأوقات؛ يعني: قَصْر الصلوات في السفر لا يختصُّ بالخوف، بل يجوزُ من غيرِ خَوْفٍ. وشرحُ هذا الحديثِ في الحديثِ الذي بعدَه. * * * 943 - وقال يَعْلى بن أُميَّة: قلت لعُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما قال الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}، فقد أمِنَ الناسُ؟، قال عمر: عَجِبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صَدَقَتَه". قوله: "إنما قال الله: أنْ تَقْصُرُوا من الصَّلاة ... " إلى آخره؛ يعني: شَرْطُ قَصْرِ الصلاةِ في السفر عند خوفِ المسلمين من الكُفَّار، ثم جَوَّزَ لهم القَصْرَ عند الأمنِ أيضًا تَفَضُّلاً منه تعالى على عباده.

قوله: "فاقبَلُوا صَدَقَتَه"؛ أي: اعملوا له برُخْصَته، وقابلوا فَضْلَه بالشُّكْر. * * * 944 - وقال أنس: خرجْنا مع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن المدينةِ إلى مكةَ، فكانَ يُصلي ركعتينِ ركعتينِ، حتى رجعْنا إلى المدينةِ، قيل له: أَقَمتم بمكةَ شيئًا؟، قال: أَقمنا بها عشرًا. قوله: "أقمنا بها عشرًا"؛ أي: عشرَ ليالٍ، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه -: أن الرجلَ المسافرَ إذا لَبثَ ببلدٍ ولم يَنْوِ الإقامة، وعَزَمَ على الخروج كلَّما انقضى شغلُه = جاز له القَصْرُ إلى ثمانيةَ عشرَ يومًا، وإن نوى الإقامةَ أربعةَ أيام فصاعدًا أتَمَّ. وقال أبو حنيفة: جاز له القَصْرُ ما لم يَنْوِ الإقامةَ خمسةَ عشرَ يومًا. * * * 945 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ تسعةَ عشرَ يومًا يُصلي ركعتينِ. قوله: "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ تسعةَ عشرَ يومًا يُصَلِّي رَكْعتين"، (أقام): معناه: لَبثَ لشغلٍ على عَزْمِ الخروجِ متى انقضى شغلُه، وبها قال الشافعي في أحدِ أقواله. * * * 946 - وقال حَفْص بن عاصم: صَحِبتُ ابن عمرَ في طريقِ مكةَ، فصلَّى لنا الظهرَ ركعتينِ، ثم جاءَ رَحْلَهُ وجلسَ، فرأَى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنعُ هؤلاءِ؟، قلتُ: يُسبحون، قال: لو كنتُ مسبحًا أَتممتُ صلاتي، صحبتُ

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ لا يزيدُ في السَفرِ على ركعتينِ، وأبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ - رضي الله عنهم - كذلك. قوله: "فرأى ناسًا قيامًا"، (قيام): جمع قائم. "يسبحُون": أي: يُصَلُّون السُّنَّةَ والنافلة. * * * 947 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بينَ صلاةِ الظُّهر والعصرِ إذا كانَ على ظَهرِ سَيْرٍ، ويجمعُ بينَ المغربِ والعشاءَ، رواه ابن عمر، وأنسٌ، ومعاذ. قوله: "إذا كان على ظَهْرِ سَيْرٍ"؛ أي: إذا كان في السَّفَر تارةً ينوي تأخيرَ الظُّهْرِ ليصلِّيَها في وقتِ العَصْر، وتارةً يُقدِّمُ العَصْرَ إلى وقت الظُّهرِ ويؤدِّيها بعد الظُّهْر، وكذلك المغرب والعشاء. * * * 948 - قال ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في السَّفَر على راحلتِه حيثُ توجَّهَتْ بهِ، يومئُ إيماءَ صلاةِ الليلِ إلا الفرائضَ، ويُوتِرُ على راحلتِهِ. قوله: "يصلي في السَّفَر على راحلتِه حيث توجَّهَتْ به، يومِئُ إيماء"؛ يعني يجوزُ أداءُ السُّنةِ والنافلةِ مستقبلًا الطريقَ، راكبًا وماشيًا، يشير بالركوع والسجود، في السفر الطويل والقصير، فإن كان ماشيًا أو على دابة يسهلُ توجيهُها إلى القِبْلَة يلزمُه أن يستقبلَ القِبلةَ عند افتتاح الصلاة، ثم يستقبل الطريقَ ويُتِمُّ الصَّلاة.

وقال أبو حنيفة: لا يجوزُ أداءُ الوِتْرِ إلا مستقبلَ القِبْلَة، وهذا لأنَّ الوِتْرَ عنده واجبٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 949 - قالت عائشة رضي الله عنها: كلُّ ذلكَ قد فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَصَرَ الصلاةَ وأتمَّ. قوله: "قَصَرَ الصلاة وأَتَمَّ"؛ يعني: كان رسول الله عليه السلام يَقْصُرُ الصلاةَ في الرباعية في السَّفر ويُتِمُّها، فهذا مُستَنَدُ الشافعيِّ، فإنه يجوزُ القَصْرُ والإتمامُ في السفر، ولا يجوزُ الإتمامُ عند أبي حنيفة. * * * 950 - قال عِمْران بن حُصَين: غزَوتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وشهدتُ معه الفتحَ، فأقامَ بمكةَ ثماني عشرةَ ليلةً لا يُصلي إلا ركعتينِ، يقول: "يا أهلَ البلدِ، صلُّوا أربعًا فإنَّا سَفْرٌ". قوله: "فإنا سَفْرٌ"، السَّفْرُ بسكون الفاء: المسافرون. * * * 951 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: صلَّيتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهرَ في السفَرِ ركعتينِ، وبعدَها ركعتينِ، والعصرَ ركعتينِ، ولم يُصلِّ بعدَها، والمغربَ ثلاثَ ركعاتٍ وبعدَها ركعتينِ. قوله: "وبعدها ركعتين"، أراد بالرَّكْعتين هنا: سُنَّةَ الظُّهر.

952 - وعن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ في غزوةِ تَبُوكَ إذا زاغتْ الشمسُ قبلَ أن يرتحِلَ جمعَ بينَ الظُّهرِ والعصرِ، وإنْ تَرَحَّل قبلَ أن تَزيغَ الشمسُ أَخَّرَ الظهرَ حتى ينزلَ للعصرِ، وفي المغربِ مثْلَ ذلكَ، إن غابَت الشمسُ قبلَ أن يرتحِلَ جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ، وإنِ ارتحَلَ قبلَ أن تغيبَ الشمسُ أخَّرَ المغربَ حتى ينزِلَ للعشاءِ، ثم جمعَ بينهما. قوله: "قبلَ أنْ تزيغَ الشمسُ آخرَ الظُّهْر"، زاغَ يَزيغُ: إذا مال؛ يعني: إذا زالت ودخلَ وقتُ الظُّهْرِ، وهو في منزلٍ يُصَلِّي العصرَ في وقت الظهرِ، وإن كان في وقت الظهرِ في السَّير يؤخرُ الظهرَ إلى وقت العَصْر. * * * 953 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سافرَ وأرادَ أنْ يتطوعَ استقبلَ القِبْلةَ بناقتِهِ، فكبَّرَ ثم صلَّى حيثُ وَجَّهَهُ رِكابُه. قوله: "وجهه ركابه"؛ أي: استقبلَ الطريقَ الذي ذهبَ به مركوبُه. * * * 954 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجةٍ فجئتُ وهو يُصلي على راحلتِهِ نحوَ المشرقِ، ويجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوعِ. قوله: "نحو المَشْرِق"؛ يعني: كان طريقُه إلى جانب المَشْرِق، يُصَلِّي النافلةَ متوجِّهًا إلى طريقه. * * *

41 - باب الجمعة

41 - باب الجُمُعة (باب الجمعة) مِنَ الصِحَاحِ: 955 - عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحنُ الآخِرون السابقون يومَ القيامةِ بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناهُ من بعدِهم، ثم هذا يومُهم الذي فُرِضَ عليهم - يعني الجمعةَ - فاختلَفوا فيه، فهدَانا الله له، والناسُ لنا فيه تَبَعٌ، اليهودُ غدًا والنَّصارى بعدَ غدٍ". وفي روايةٍ: "نحن الآخِرون الأَوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة". وفي روايةٍ: "نحن الآخِرونَ مِن أهلِ الدُّنيا، والأولونَ يومَ القيامةِ المَقْضيُّ لهم قبلَ الخلائِق". "نحن الآخرون"؛ أي: نحن آخِرُ الأنبياءِ في الدنيا، ولكن نَسْبقُهم في الآخرة. "بَيْدَ أَنَّهم"؛ أي: غيرَ أنهم؛ يعني: نحن السابقون على الأنبياء والأممِ في الآخرة، غيرَ أن الأنبياءَ كانوا في الدُّنيا قبلَنا، وبُعِثُوا وأُوتوا الكتاب قبلَنا. وقيل: معنى (بَيْدَ أنهم)؛ أي: معَ أنهم. قوله: "هذا يومُهم الذي فُرِضَ عليهم"؛ يعني فَرَضَ الله على اليهودِ والنَّصَارى أن يُعَظِّمُوا يومَ الجمعةِ بالطاعة، فقالت اليهود: اليومُ الذي فَرضَ الله علينا أن نعظِّمَ ربنا فيه هو يومُ السبتِ؛ لأنَّ الله تعالى فَرَغَ في هذا اليومِ من خَلْقِ المخلوقاتِ، فنحن نتفرَّغُ من الاشتغال، ونَشْتغِلُ بالعبادةِ فيه.

وقالت النصارى: بل هو يومُ الأَحد؛ لأن الله ابتدأَ بخلقِ المخلوقاتِ فيه، فهو أَولى بالتعظيم، فوفَّق الله أمةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - ليومِ الجُمُعَة. قوله: "والناسُ لنا فيه تَبَعٌ"؛ يعني: نحن اختْرنا يومَ الجمعة، واليهودُ بعدها يومَ السبت، والنصارى بعدَ يومِ اليهود، وهو يومُ الأحد. قوله: "المَقْضيُّ لهم"؛ يعني: أولُ مَن يُحاسَبُ يوم القيامة أُمَّتي. رواه أبو هريرة بعباراتٍ مختلفة. * * * 956 - وقال: "خيرُ يومٍ طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمُعةِ، فيهِ خُلِقَ آدمُ، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرجَ منها، ولا تقومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمُعةِ". قوله: "وفيه أُدْخِلَ الجَنَّة، وفيه أُخْرِجَ منها، ولا تقومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمعة"، فإن قيل: دخولُ آدمَ الجنةَ حسنٌ وخيرٌ له، وأما خروجُه منها غيرُ حَسَنٍ، وليس فيه خيرٌ له، بل هو شرٌّ له، فكيف يكونُ يومُ الجمعةِ مبارَكًا إذا حصلَ لآدمَ فيه شرٌّ؟ قلنا: في الحقيقة خروجُ آدمَ من الجنة عَيْنُ المصلحةِ والخَير؛ لأنه بواسطة إقامته في الأرض حصلَ منه أولادٌ كثيرة، ونَسْلٌ عظيم، وبعثَ الله الأنبياءَ من نَسْلِه على ذُرِّيته، وأنزلَ فيهم الكتبَ الشريفةَ العظيمةَ، وجَعلَ منهم الأخيارَ والأبرارَ، وظهرَ منهم عباداتٌ مُرْضيةٌ لله تعالى، وكلُّ ذلك خير. رواه أبو هريرة. * * * 957 - وقال: "إن في الجمُعةِ لساعةً لا يوافِقُها مسلمٌ يسألُ الله فيها خيرًا

إلا أَعطاهُ إيَّاهُ قال: وهي ساعةٌ خفيفةٌ". وفي روايةٍ: إلا يوافِقُها مسلمٌ قائمٌ يُصلِّي يَسألُ". قوله: "إن في الجمعة لساعةً لا يوافقها مسلمٌ يسألُ الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه"؛ يعني: فيها ساعةٌ شريفةٌ يستجابُ فيها الدعاءُ، وهي غير معلومةٍ، والحِكْمَةُ في إخفائِها ليشتغِلَ الناسُ بالعبادِة والدعاءِ في جميعها رجاءَ أن يوافِقَ دعاؤُهم تلك الساعةَ. * * * 958 - قال أبو موسى: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بينَ أَنْ يجلِسَ الإمامُ إلى أنْ تُقْضَى الصلاةُ". قوله: "وهي ما بينَ أن يَجْلِسَ الإمامُ إلى أن يقضيَ الصلاةَ"؛ يعني: الساعةُ الشريفةُ ما بين أن يَجْلِسَ الخطيبُ بينَ الخُطْبتين إلى أن يَفْرُغَ من صلاة الجمعة، ويحتملُ أن يريدَ بالجلوسِ هنا صعودَ الخطيبِ المِنْبَرَ. * * * مِنَ الحِسَان: 959 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ يومٍ طلَعتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهبطَ، وفيه ماتَ، وفيه تِيْبَ عليه، وفيه تَقومُ الساعةُ، وما من دابةٍ إلا وهي مُسِيخَةٌ يومَ الجمعةِ، من حينَ تُصبحُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ شفقًا من الساعةِ إلا الجنُّ والإِنسُ، وفيه ساعةٌ لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يُصلي يسألُ الله شيئًا إلا أعطاهُ إياه. وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: لقِيتُ عبدَ الله بن سلامٍ، فحدَّثتُه فقال عبدُ الله بن

سَلامٍ: قد علمتُ أيَّةَ ساعةٍ هي، هي آخرُ ساعةٍ في يومِ الجمعةِ، قال أبو هريرةَ: كيفَ تكونُ آخرَ ساعةٍ في يومِ الجمعةِ وقد قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصادِفُها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي، وتلكَ ساعةٌ لا يُصلَّى فيها؟ "، فقال عبدُ الله ابن سلام: ألم يَقُلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جَلَسَ مجلِسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في الصلاةِ"؟، قال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: بلى، قال: فهو ذاك. قوله: "وفيه أُهْبطَ"؛ أي: أُسْقِطَ وأُخْرِجَ من الجنة إلى الأرض. "تيب عليه"؛ أي: قُبلَتْ توبتُه. "مُسِيخَةٌ"، بالسين؛ أي: مستمعةٌ منتظِرةٌ لقيام الساعةِ من بينِ الصبحِ إلى طلوعِ الشمس؛ لأن القيامةَ تَظْهَرُ يومَ الجمعة بين الصبح وطلوعِ الشمس. يعني: ألهمَ الله جميعَ الدوابِّ أنَّ يومَ القيامةِ يقومُ يومَ الجمعةِ بينَ الصبحِ وطلوعِ الشمسِ، ينتظرونها كلَّ جمعةٍ، وأخفاها عن الجِنِّ والإنس؛ لأنهم مأمورون بالإيمان بالغَيْبِ، ولو عَلِمُوا متى تكونُ القيامةُ لم يكنْ إيمانُهم بالغيب، ولأنهم لو علموا متى تكون القيامةُ تَنغَّصَ عليهم عيشُهم، ولم يُحَصِّلُوا من القوتِ ما يعيشون به. "شَفَقًا"؛ أي: خوفًا من القيامة. قوله: "لا يُصَادِفُها"؛ أي: لا يوافِقُها. "فحَدَّثْتُه"؛ أي: فقلتُ له: إنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "إنَّ في يوم الجمعة لساعةً يُستجابُ فيها الدعاءُ"، قال عبد الله بن سَلاَم: عرفتُ تلك الساعةَ. * * * 960 - قال أنس: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التمِسُوا الساعةَ التي تُرجى في يومِ

الجمُعةِ بعدَ العصرِ إلى غَيبوبةِ الشَّمسِ". قوله: "التمسوا الساعة"؛ أي: اطلُبوا. "ترجى"؛ أي: تُطمَعُ إجابةُ الدعاءِ فيها. * * * 961 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن أفضلِ أيَّامِكم يومَ الجمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه قُبضَ، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثِروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنَّ صَلاتَكُمْ معروضَةٌ عليَّ"، قالوا: يا رسولَ الله!، كيفَ تُعْرَضُ عليكَ صلاتُنا وقد أَرَمْتَ؟ - يقولون: بليتَ - فقال: "إن الله تعالى حرَّمَ على الأرضِ أجسادَ الأنبياءِ". قوله: "وقد أَرَمْتَ"؛ معناه: بَلِيتَ، وأصلُه: أَرْمَمْتَ، فنُقِلَت فتحةُ الميم الأُولى إلى الراء، وحُذِفَت إحدى الميمين. قوله: "يقولون: بليتَ"، يعني: الراوي، معناه: بليت. * * * 962 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: يومُ القيامةِ، واليومُ الـ {مَشْهُودٍ}: يومُ عرفةَ، و {الشاهد}: يومُ الجمعةِ، وما طلعَت الشمسُ ولا غَربت على يومٍ أفضلَ منه، فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبدٌ مؤمنٌ يدعو الله بخيرٍ إلا استجابَ الله له، ولا يستعيذُ من شيءٍ إلا أعاذهُ منه. غريب. قولُه: " {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: يومُ القيامة، واليومُ المشهودُ: يومُ عرفة، والشاهد: يومُ الجمعة"، اليوم الموعود، والشاهدُ والمشهودُ المذكوراتُ في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 1 - 3]،

42 - باب وجوبها

ومعناه ما ذكرَه رسولُ الله - عليه السلام - في هذا الحديث، والضمير في (منه) راجعٌ إلى يوم الجمعة. * * * 42 - باب وجوبها (باب وجوبها) مِنَ الصِّحَاحِ: 963 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجماعاتِ، أو ليختِمنَّ الله على قُلوبهم، ثم لَيكونُنَّ من الغافلين". "عن وَدْعِهم"؛ أي: عن تَرْكِهم، يعني: من خالفَ أمرًا من أوامرِ الله تعالى ورسولهِ يَظْهَر في قلبهِ نكتةٌ سوداء، فإذا تركَ أمرًا تظهر نكتةٌ أخرى في قلبه، ثم كذلك حتى يسودَّ قلبُه، فإذا اسودَّ قلبُه يغلبُ عليه الفِسْقُ والفجور والغَفْلَةُ والتباعُدُ من رحمةِ الله تعالى، فإن تاب؛ فبقدْرِ ما يبُعد عن المعاصي، وتركِ النواهي تزولُ تلك النُّكَت نكتةً بعد نكتةٍ من قلبه حتى ابيضَّ قلبه، ويغلبُ حينئذٍ عليه الصلاحُ والتقوى والقربُ من رحمة الله تعالى. * * * مِنَ الحِسَان: 964 - عن أبي الجَعْد الضَّمْري: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ترَكَ ثلاثَ جُمَعٍ تَهاونًا بها طَبَعَ الله على قلْبهِ". قوله: "تهاوُنًا بها"؛ أي: عن التقصير لا مِن عُذْرٍ.

"طَبَعَ الله تعالى"؛ أي: ختمَ الله، ولم يُعرَفْ لأبي الجَعْد روايةُ حديثٍ غيرِ هذا الحديث، واسم "أبي جَعْد": أَدْرَع بن بكرِ بن عبد مناةَ من بني ضَمْرة. * * * 965 - وقال: "مَن تركَ الجمُعةَ من غيرِ عُذْرٍ فليتصدَّقْ بدِينارٍ، فإنْ لم يجدْ فبنصفِ دينارٍ". وقال: "مَن تَرك الجمعةَ من غيرِ عُذْرٍ فليتصدَّقْ بدينار ... " إلى آخره. رواه سَمُرَة بن جندب، هذا التصدُّقُ مستحَبٌّ؛ لرفعِ إثمِ تَرْكِ الجمعة. * * * 966 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمُعةُ على مَن سَمِعَ النداءَ". قوله: "الجمعة على من سمع النداء"؛ يعني: الجمعةُ واجبةٌ على مَن كان بين وطنِه وبين الموضعِ الذي تُصلَّى فيه الجمعةُ مسافةٌ يسمعُ الأَذان بوطنه من ذلك الموضع. * * * 967 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمُعةُ على مَن آوَاهُ الليلُ إلى أهلِهِ"، ضعيف. قوله: "الجمعةُ على مَن آواه الليلُ إلى أهلِه"؛ يعني: الجمعةُ واجبةٌ على مَن كان بين وطنِه وبيَن الموضعِ الذي تُصلَّى فيه الجمعةُ مسافةٌ يمكنُه الرجوعُ بعد أداء الجمعةِ إلى وطنِه قبلَ اللَّيلِ، وبهذا قال أبو حنيفة.

43 - باب التنظيف والتبكير

وشَرطَ عنده: أن يكونَ خراجُ وطنِ هذا الرجلِ إلى ديوانِ المِصْر الذي يأتيه للجُمعة، فإن كان لوطنه ديوانٌ غيرُ ديوانِ هذا المِصْرِ لم يجبْ عليه الإتيانُ إلى هذا المِصْر للجمعة. * * * 968 - وقال: "تَجبُ الجمُعةُ على كل مُسلمٍ إلا امرأةً أو صَبيًا أو مَملوكًا". قوله: "إلا امرأةً أو صبيًا أو مملوكًا"، (إلاَّ) ههنا بمعنى غير، وما بعدَه مجرورٌ، وهو صفة لمسلم؛ أي: كلُّ مسلمٍ غيرِ امرأةٍ أو صبيٍّ أو مملوكٍ. روى هذا الحديث: محمدُ بن كعبٍ عن رجلٍ من بني وائلٍ عن النبي عليه السلام، ورواه طارق بن شهابٍ عن رسول الله عليه السلام. وقيل: رأى طارق بن شهاب رسولَ الله عليه السلام، ولم يسمعْ منه حديثًا. * * * 43 - باب التَّنظيف والتَّبكير (باب التنظيف والتبكير) "التنظيف": التطهيرُ، و"التَّبْكِيرُ": المشيُ في أول النهار. مِنَ الصِّحَاحِ: 969 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمُعةِ ويتطهَّرُ ما استطاعَ من طُهرٍ، ويدَّهِنُ من دُهْنِهِ أو يَمَسُّ من طِيْبِ بيتِهِ، ثم يخرجُ، فلا

يُفَرِّقُ بين اثنينِ، ثم يُصلي ما كُتِبَ له، ثم يُنْصِتُ إذا تكلَّمَ الإِمامُ إلا غُفِرَ له ما بينَه وبينَ الجمُعةِ الأخرى"، وفي روايةٍ: "وفضْلُ ثلاثةِ أيامٍ". قوله: "ما استطاعَ مِن طُهْرٍ"، أراد بهذا الطُّهْرِ: قصَّ الشاربِ، وقَلْمَ الأظفار، وحَلْقَ العَانة، ونَتْفَ الإبط، وتنظيفَ الثياب. (أو): في "أو يمس": للشكِّ من الراوي، يعني: شكَّ الراوي أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ويدَّهن من دُهْنِه"، أو قال: "وَيمَسُّ من طِيبه" ومعنى (الدُّهْن) هنا: الطِّيب. "ولا يُفَرِّقَ بين اثنين"؛ أي: ولا يجلسُ بين الاثنين اللَّذين يجلِسان متقارِبَين بحيث لا يكونُ بينهما موضعُ جلوسِ واحدٍ، ويحتملُ أن يكونَ معناه: ولا يتخطَّى رقابَ الناس. "ما كتب له"؛ أي: ما رزقه الله تعالى مِن صلاةِ السُّنَّةِ والنوافل. "ينصت"؛ أي: يَسْكُت. "إذا تكلم الإمامُ"؛ أي: إذا قرأ الإمامُ الخطبةَ. "وفضل ثلاثةِ أيام"؛ أي: زيادة ثلاثة أيام على سبعةٍ حتى تكون عشرة أيام؛ لأن الحسنةَ بعشرة أمثالها. * * * 970 - وقال: "مَنْ مَسَّ الحَصَى فقد لَغَا". قوله: "مَن مسَّ الحَصى فقد لَغَا"؛ يعني: من وضعَ يدَه على حَجَرٍ يومَ الجمعة في المسجِد بطريقِ اللَّعِبِ من غيرِ ضرورة. (فقد لغا): أي: فكأنه تكلَّمَ بلغْوٍ، وقيل: قد مالَ عن الحقِّ إلى الباطل.

971 - وقال: "إذا كان يومُ الجمعةِ وقفَت الملائكةُ على بابِ المسجدِ يكتبونَ الأولَ فالأول، ومثلُ المُهَجِّر كمثَل الذي يُهدي بدَنةً، ثم كالذي يُهدي بقَرةً، ثم كَبْشًا، ثم دجاجةً، ثم بيضةً، فإذا خرجَ الإِمام طَوَوْا صُحفَهم، ويستمعونَ الذِّكرَ". قوله: "يكتُبون الأولَ فالأولَ"؛ أي: يكتُبون: مَن أتى المسجدَ أولًا ثوابُه أكثرُ من ثوابِ مَن أَتى بعدَه. "المُهَجِّر": الذي يمشي إلى المسجد في أولِ الوقت، (التهجيرُ): المشيُ في وقتِ غايةِ الحرارةِ، يعني: ثوابُ الذَّاهبينَ إلى المسجدِ على هذا التفاوُتِ. "فإذا خرجَ الإمامُ"؛ أي: فإذا صعدَ الخطيبُ المنبرَ تَطوِي الملائكةُ كتبَهم ويَحْضُرون استماعَ الخُطبة؛ يعني: من دخلَ في هذا الوقتِ يكونُ ثوابُه قليلاً، ولا تكتُبه الملائكةُ مِن الذين لهم ثوابٌ كاملٌ. * * * 972 - وقال: "إذا قلتَ لصاحِبكَ يومَ الجمعةِ: أَنْصِتْ، والإمام يخطبُ؛ فقد لغَوْتَ". قوله: "إذا قلتَ لصاحبك يومَ الجمعة: أنصتْ، والإمام يخطبُ، فقد لغوتَ"، رواه أبو هريرة، يعني: إذا قلت لمن يتكلَّم: اسكتْ، فقد تكلمتَ. والكلامُ منهيٌّ عنه إما على سبيل الاستحبابِ، أو على سبيل الوجوب على اختلاف القَولين، بل الطريقُ أن تُشيرَ إليه بيدِكَ إذا أَمَرْتَه بالسكوت. * * * 973 - وقال: "لا يُقيمَنَّ أحدُكم أخاهُ يومَ الجُمعةِ ثم يخالفُ إلى مَقعدِه

فيقعدَ فيه، ولكنْ يقولُ: افسَحُوا"، رواه ابن عمر. قوله: "لا يُقيَمنَّ أحدُكم أخاه ... " إلى آخره. "المخالفةُ": أن يقومَ كلُّ واحدٍ من الشخصين مَقامَ صاحبه، و (المخالفة): المخاصَمةُ. "يُخالِفُ إلى مقعده": أي: يأخذُ مَكانَه، يعني: لا يُخْرِجُ أحدٌ أحدًا عن مقامه، ثم يقعدُ في مقامه. * * * مِنَ الحِسَان: 974 - قال: "من اغتسلَ يومَ الجمعةِ، ولبسَ من أحسَنِ ثيابهِ، ومَسَّ من طيبٍ إنْ كان عندَه، ثم أَتى الجمُعةَ فلم يتخطَّ أَعناقَ الناسِ، ثم صلَّى ما كَتَبَ الله له، ثم أَنصتَ إذا خرجَ إمامُه حتى يفرُغَ من صَلاتِهِ؛ كانت كفارةً لمَا بينَها وبينَ جُمُعَتِهِ التي قبلَها". قوله: "ولَبسَ من أحسنِ ثيابه ... " إلى آخره. في هذا الحديث: بيانُ كونِ لُبْسِ الثيابِ الحسنةِ، واستعمالِ الطِّيْبِ سُنَّتين، وكونِ وَضْعِ القَدَمِ على رقابِ الناسِ وإيذائهم منهيًّا، وكونِ السكوتِ عند الخطبة حتى يفرُغَ من الصلاة مأمورًا به. * * * 975 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسَّلَ يومَ الجمُعةِ واغتسلَ، وبَكَّرَ وابتكرَ، ومَشَى ولم يركبْ، ودَنَا من الإِمامِ واستَمعَ ولم يَلْغُ؛ كان له بكلِّ خطوةٍ عملُ سنةٍ: أَجْرُ صيامها، وقيامِها" رواه أَوْس بن أوسٍ.

قوله: "مَن غسَلَ يومَ الجمعة واغْتَسل"؛ (غَسَلَ واغتسل)، رُوِيَ في (غسل) التشديدُ والتخفيف، فبالتشديد معناه: مَن وَطِئَ امرأتَه حتى يكونَ يومُ الجمعة، إذا دخلَ في كثرةِ الناسِ شهوتُه منكسرةٌ، حتى لا ينظرَ بالشهوةِ إلى ما لا يجوزُ النظرُ إليه. ولغةً: (غسَّل) بالتشديد: حَمَلَ أحدٌ أحدًا على الاغتسال، وإذا وَطِئَ امرأتَه فقد حملَها على الاغتسال. وأما بالتخفيف فمعناه: مَنْ غَسَلَ رأسَه بالخِطْمِيِّ وغيرِه، واغتسلَ غُسْلَ الجمعة؛ فإنَّ من غَسَلَ رأسَه واغتسلَ الجمعَة تكون نظافتُه أكثرَ. ومعنى "بَكَّرَ" - بالتشديد -: مشى إلى المسجد في أولِ الوقتِ، ومعنى (ابتكر): استمع الخطبةَ، وهو من الابتكار، وهو لفظُ باكورةِ الثَّمَرة، وهو أولُ ما يبدو ويَطِيبُ من الثمار، ومن حضرَ واستمعَ أولَ الخُطبة فقد وجدَ باكورةَ الخطبة، "ولم يَلْغُ"؛ أي: ولم يَقُلْ لغوًا؛ أي: كلامًا ليس فيه خيرٌ. * * * 976 - وقال: "ما على أحدِكم أنْ وجَد أنْ يتخِذَ ثوبَينِ ليومِ الجمُعةِ سِوىَ ثَوْبَي مِهْنتهِ". قوله: "ما على أَحدِكم"؛ أي: لا جناحَ ولا ضررَ على أحدِكم أن يكونَ له لباسٌ حسنٌ خاصةً ليومِ الجمعة. "المهنة": الخِدْمة. ومعنى "ثوبي مهنة": الثيابُ التي تكونُ معه فيه في سائر الأيام. * * *

977 - وقال: "احْضُروا الذِّكرَ وادنْوا من الإِمام، فإنَّ الرجلَ لا يَزالُ يتباعدُ حتى يُؤَخَّرَ في الجنَّةِ، وإنْ دخلَها". قوله: "احْضُرُوا الذِّكْرَ"؛ (الذِّكْرُ) ههنا: الخطبة. "يتباعَدُ"؛ أي: يتباعَدُ ويتأخَّرُ من الخيراتِ. * * * 978 - وقال: "مَنْ تَخَطَّى رقابَ الناسِ يومَ الجمعةِ اتخذَ جِسْرًا إلى جهنَّم"، غريب. قوله: "اتخذَ جِسْرًا إلى جهنَّمَ"، (الجسرُ): القَنْطَرةُ، يعني: من وضعَ قدمَه على رقابِ الناسِ يومَ الجمعةِ وغيرِها، فكأنه يضعُ قدمَه على قَنْطَرةِ جهنم، يعني: يكونُ إيذاؤُه الناسَ سببًا لدخوله النارَ. وجدُّ معاذٍ: سهلُ بن معاذ الجُهَني. * * * 979 - عن مُعاذ بن أنسَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن الحُبْوَةِ يومَ الجمعةِ والإِمامُ يخطبُ. قوله: "نهى عن الحُبْوة"، الحُبْوَة - بضم الحاء وكسرها -: اسمٌ من الاحتباء، وهو أن يجلسَ الرجلُ على مَقْعَدِته، وينصبَ ركبتيه بحيثُ يكونُ أخمصاه على الأرض، ويأخذَ بيدهِ خَلْفَ ركبتيه، أو يشدَّ ظهرَه وساقيه بإزارٍ ونحوِه. ووجهُ النَّهْيِ: إذا جلسَ على هذه الهيئةِ يدخلُ عليه النَّوْمُ، ولا يكون مَقْعَدُه ممكَّنًا على الأرض، فربَّما يخرجُ منه رِيحٌ. * * *

44 - باب الخطبة والصلاة

980 - وقال: "إذا نعسَ أحدُكم يومَ الجمعةِ فليتحوَّلْ من مَجلِسهِ ذلك". قوله: "فليتحوَّل"؛ أي: فلينتقْل من ذلك الموضعِ إلى موضعٍ آخرَ؛ ليذهبَ عنه النومُ. "نَعِسَ"، أي: نام. * * * 44 - باب الخُطبة والصَّلاة (باب الخطبة والصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 981 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصلِّي الجمُعةَ حينَ تَميلُ الشَّمسُ. قوله: "كان يصلِّي الجمعةَ حتى تميلَ الشمسُ"؛ يعني: في أولِ الوقتِ، فوقتُها وقتُ الظهر. * * * 982 - وقال سَهْل بن سَعْد: ما كنَّا نَقِيلُ ولا نتغدَّى إلا بعدَ الجمُعةِ. "نقَيلُ"؛ أي: ننام. "ولا نتغدَّى"؛ أي: فلا نأكلُ، يعني: لا ينامُون ولا يَأْكلُون قبلَ الجمعة، بل يَشْتَغِلُون بالغُسْل، ودخولِ المسجد في أولِ الوقت، ويشتغلون بالطاعة. * * *

983 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصلاةِ، وإذا اشتدَّ الحرُّ أَبْرَدَ بالصلاةِ، يعني: الجمعةَ. قوله: "بكر بالصلاة"؛ أي صلاَّها في أولِ الوقت. "أَبْرَدَ بالصلاة"؛ أي: صلاَّها بعد أن وقعَ ظِلُّ الجِدارِ في الطريقِ كي لا يتَأذَّى الناسُ بالشمسِ إذا دخلُوا المسجِدَ. * * * 984 - وقال السائب بن يَزيد: كانَ النِّداءُ يومَ الجمعةِ أَوَّلُه إذا جلسَ الإِمامُ على المِنْبرِ، على عهدِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكرٍ، وعمرَ، فلمَّا كانَ عثمانُ وكَثُرَ الناسُ زادَ النداءَ الثالثَ على الزَّوْرَاءِ. قوله: "كان النداء يومَ الجمعة أَوَّلُه ... " إلى آخره. يعني: كان النداء الأول على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - عند صعودِهم المنبرَ، وهو الأذانُ، ولم يكنْ قبلَ هذا الأذانِ أذانٌ آخر. وأراد بالأذان الثاني الإقامةَ، فأمر عثمان - رضي الله عنه - أن يؤذَّنَ في أولِ الوقتِ قبلَ أن يَصعَدَ الخطيبُ المنبرَ كما في زماننا؛ ليُعْلِمَ الناسَ بوقت صلاة الجمعة، وهو النداء الثالث. و"الزوراء": اسمُ دارٍ في السوق بالمدينة يقفُ المؤذِّنُ على سَطْحِ هذه الدار. * * * 985 - وقال جابر بن سَمُرَة: كانت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُطبتانِ يجلسُ بينَهما يقرأُ القُرآنَ، ويُذَكَّرُ الناسَ، فكانت صلاتُه قَصْدًا، وخُطْبَتُه قَصْدًا.

قوله: "فكانت صلاته قَصْدًا، وخطبته قَصْدًا"، (القَصْدُ): الوَسَطُ، يعني: لم تكن طويلةً، ولا قصيرةً. * * * 986 - وقال عمار: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ طُولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبتِهِ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصلاةَ وأقْصُروا الخُطبةَ، وإنَّ من البَيانِ لَسِحرًا". قوله: "وقِصَرَ خُطْبتِه مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِ الرَّجُل"، (مَئِنَّةٌ): أي: علامة، يعني: السُّنَّةُ قِصَرُ الخطبة وطولُ الصلاة، فمن فعلَ هذا ففِعْلُه يدلُّ على أنه عالمٌ فقيهٌ بالحديث. وقول جابر: "وكانتْ صلاتُه وخطبتُه قَصْدًا"، ليس معناه أن صلاتَه كانت مثلَ خطبته؛ لأنه حينئذٍ يكونُ بين حديثِ جابرٍ وعَمَّارٍ تضادٌّ، بل معناه: كانت صلاتُه طويلةً، ولكن لم يجاوزْ في الطولِ حَدَّه، بحيث يحصلُ منها مَلالَةٌ، وكانت خطبتُه قصيرةً، ولكن لم تكن في القِصَرِ على حَدِّ النقصان. وفرض الخُطْبَةِ خَمْسٌ: الحمدُ لله، والصلاةُ على رسول الله، والوعظُ بأيِّ لفظٍ كان، فهذه الثلاثةُ فريضةٌ في الخطبتين، والرابع: قراءةُ آيةٍ في الخطبة الأولى، والخامسُ الدعاءُ للمؤمنين في الخطبة الثانية. قوله: "وإنَّ من البيانِ لسحرًا"؛ قيلَ: هذا ذمُّ تزيينِ الكلامِ وتغييرِه بعبارةٍ يتحيَّرُ فيه السامِعون، كما أن الناسَ يتحيَّرون بالسحر، والساحرُ يُرِي الناسَ شيئًا بصورةِ شيء، فكما أن السحرَ منهيٌّ، فكذلك تزيينُ الكلامِ بحيث يغلط الناس مَنْهِيٌّ. وقيل: بل هذا مدحُ الفصاحة، يعني: أن الفصيحَ يجعلُ السامعَ مُحِبًا

ومريدًا للآخِرة بوعْظِه الفصيحِ، وكلامِه البليغِ، كما يجعلُه الساحرُ للذي يَرَى سِحْرَه مريدًا له بسحره. * * * 987 - وقال جابر: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطَبَ احمَرَّتْ عيناهُ، وعَلا صوتُهُ، واشتدَّ غضبُهُ حتى كأنه مُنْذِرُ جيشٍ يقولُ: صَبَّحَكم ومَسَّاكم، ويقولُ: "بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتَيْنِ"، ويَقْرُنُ بينَ أصبعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى. قوله: "كأنه مُنْذِرُ جيش"؛ أي: مَن أخبرَ جيشًا؛ أي: قومًا بأنه قَرُبَ منهم جيشٌ عظيمٌ ليقتلَهم، ويغيرَ عليهم، يَرْفعُ صوتَه، ويَحْمَرُّ وجهُه إذا أخبرهم باقتراب الجيش. وسبب رفعِ صوتِه إبلاغُ صوتِه إلى آذانهم، وتعظيمُ ذلك الخبرِ في خواطرهم، وتأثيرُه فيهم، وكذلك رَفَعَ رسولُ الله - عليه السلام - صوتَه، ويحمرُّ وجهُه إذا أخبرَهم؛ لتأثير وَعْظِه في خواطرِ الحاضرين. قوله: "صَبَّحَكم ومَسَّاكم"، (صَبَّحَكُم)؛ أي: أتاكُم الجيشُ في وقتِ الصَّباح، و (مسَّاكم)، أي: أَتَوكُم في وقتِ المساء، ومَنْ خَوَّفَ أحدًا يقول له هذين اللفظين. يعني: ستأتيكم القيامةُ بغتةَ، كما أن الجيش يأتي القومَ بغتةً في وقتِ الصباح، وهم نائمون غافلون. قوله: "بُعِثْتُ أنا والساعة" برفع (الساعة) على العطف على الضمير في (بُعِثْتُ)؛ يعني: مجيئي وبعثتي إليكم قريبٌ من القيامة، فتنبهوا من نوم الغَفْلَةِ. * * *

988 - وقال صَفْوان بن يَعْلَى، عن أبيه: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ على المِنْبرِ: " {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ". قوله: "ويقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} "!؛ يعني: كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ القرآن في الخطبة، ويقرأ آية فيها وعظٌ وتخويفٌ، والضميرُ في {وَنَادَوْا} لأهل جهنم؛ يعني: يقول الكفار لـ (مالك): لِيبينْ ربُّك قَدْرَ لُبْثِنَا في النار؟ فقال لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}؛ أي: لكم لُبْثٌ طويل في النار من غير نهاية. ويعلى هذا: هو يعلى بن أُمية. * * * 989 - وقالت أم هشامٍ بنتُ حارثةَ بن النُّعمانِ: ما أَخذتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسانِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كلَّ جمعةٍ على المِنْبرِ إذا خطَبَ الناسَ. قوله: "ما أخذْتُ"؛ أي: ما حفظْتُ، وأرادَتْ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}: أولَ السورة لا جميعها؛ لأن جميعها لم يقرأها رسولُ الله - عليه السلام - في الخطبة. وقيل: في أم هشام: أم هاشم، وهي أنصارية. * * * 990 - عن عَمْرو بن حُرَيثٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ وعليهِ عِمَامةٌ سوداءُ قد أَرْخَى طرفَيْهَا بينَ كَتِفَيْهِ. قوله: "قد أَرْخَى طَرفَيْهَا بين كَتِفَيْه"؛ (أَرْخَى)؛ أي: سَدَلَ وأَرْسَلَ؛

يعني: لُبْسُ الزينة يوم الجمعة سُنَّةٌ، ولُبْسُ العمامة السوداء وإرسال طرفها بين الكتف سُنَّةٌ. * * * 991 - وعن جابر قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطُب: "إذا جاءَ أحدُكم يومَ الجمُعةِ والإمام يخطبُ فليركَعْ ركعتَينِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فيهما". قوله: "فلْيَتَجَوَّزْ"؛ أي: فليُخَفِّفْ، وهاتان الركعتان ينبغي أن يصليهما الرجل بنيَّة سُنَّةِ الجمعة، لا بنية تحية المسجد؛ لأن التحيةَ تحصل بأداء السُّنة، بخلاف العكس. * * * 992 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أدركَ ركعةً من الصلاةِ مع الإِمام فقد أدركَ الصلاةَ". "فقد أدرك الصلاة"؛ أي: فقد أدرك صلاة الجمعة، يقوم بعد تسليمِ الإمام ويصلي ركعةً. * * * مِنَ الحِسَان: 993 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ خُطبتينِ، كان يجلسُ إذا صَعِدَ المِنْبرَ حتى يفرغَ - أُراه المُؤذِّن - ثم يقومُ فيخطبُ، ثم يجلسُ ولا يتكلمُ، ثم يقومُ فيخطبُ. قوله: "أُراهُ المؤذن"؛ أي: قال الذي سمع هذا الحديث عن ابن عمر: أنَّ

45 - باب صلاة الخوف

ابن عمر لما قال: (حتى يفرغ): أُرَاه؛ أي: أظنُّ أن ابن عمر قال: حتى يفرغ المؤذن من الأذان. * * * 994 - وعن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استَوَى عن المِنبرِ استقبلناهُ بوُجوهِنا. ضعيف. قوله: "إذا استَوَى على المنبر استقبَلْنَاهُ بوجُوهِنا"، (استوى)؛ أي: قام؛ يعني: السُّنة أن يتوجَّهَ القومُ الخطيبَ، والخطيبُ القومَ. * * * 45 - باب صلاة الخَوف (باب صلاة الخوف) مِنَ الصَّحَاحِ: 995 - عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، عن أبيه، قال: غزوتُ مَع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجْدٍ، فوازَيْنا العدُوَّ فصَافَفْنَا لهم، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي لنا، فقامَتْ طائفةٌ معه وأَقْبَلَتْ طائفةٌ على العدوِّ، وركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معَهُ وسجَدَ سجدتَين، ثم انصَرفوا مكانَ الطائفةِ التي لم تُصَلِّ، فجاؤوا فركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعةً وسَجدَ سجدتَينِ ثم سلَّم، فقامَ كلُّ واحدٍ منهم فركعَ لنفسِهِ ركعتَهُ، وسجدَ سجدتينِ. ورواه نافعٌ، عن عبد الله بن عمر، وزادَ: فإنْ كانَ خَوفٌ هو أَشدُّ من ذلكَ صلَّوا رِجالًا قيامًا على أقدامِهم، أو رُكبانًا مُسْتَقْبلِي القِبْلةِ أو غيرَ مُستقبلِيها.

قال نافع: لا أُرَى عبدَ الله بن عمرَ ذكرَ ذلك إلا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فوازَيْنَا"؛ أي: فحَاذَيْنا ولاقَيْنا، (المُوَازَاة): المُحَاذَاةُ. "فصافَفْنَا"؛ أي: فوافقنا بالصَفِّ على وجُوهِهِم. "ورَكعَ رسولُ الله - عليه السلام -"؛ يعني: صلَّى بِمَنْ معه ركعةً، ومَشَتْ هذه الطائفةُ إلى وَجهِ العدو، ولم تُسَلِّم، ثم جاءت الطائفةُ التي كانت في وجه العدو، واقتدَتْ برسولِ الله - عليه السلام -، وصلى بهم الركعة الثانية، وسلَّم رسول الله - عليه السلام -، ولم تسلِّمْ هذه الطائفة، وخرجوا إلى وَجْه العدو، وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانهم، وصلوا ركعتهم الثانية منفردين أيضًا، وسلَّموا ومضَوا إلى وجه العدو، ثم جاءت الطائفة الثانية وصَلوا ركعتَهم الثانية منفردين أيضًا وسلَّموا، وبهذا قال أبو حنيفة. قوله: "مُسْتَقْبلِي القبلةَ أو غَيْرَ مُسْتقبلِيْها"؛ يعني: فإن اختلط المسلمون والكفار في المحاربة، ولم يمكَّنْ للمسلمين أن يصلوا مستقبلي القبلة بالركوع والسجود، صلوا بالإشارة كيفَ اتَّفَقَ لهم. * * * 996 - وعن يَزيد بن رُومَان، عن صالح بن خَوَّاتٍ، عمَّن صلَّى مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ذاتِ الرِّقاع صلاةَ الخوفِ: أنَّ طائفةً صَفَّتْ مَعَهُ، وطائفةً وُجاهَ العدوِّ، فصلى بالتي معَه ركعةً ثم ثبتَ قائمًا، وأَتمُّوا لأنفسِهم، ثم انصرفوا فصفُّوا وُجاهَ العدوِّ، وجاءَتْ الطائفةُ الأُخرى فصلى بهم الركعةَ التي بقيَتْ من صلاتِهِ، ثم ثبتَ جالسًا وأَتمُّوا لأنفسِهم ثم سلَّم بهم. ورواهُ القاسمُ، عن صالح بن خَوَّاتٍ عن سهلِ بن أبي حَثْمة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: "صلَّى مع رسول الله - عليه السلام - يومَ ذاتِ الرِّقَاع صلاةَ الخوف"، (ذات الرِّقاع): غزوةٌ غزاها رسول الله - عليه السلام - في السَّنة الخامسة من الهجرة، فلَقِيَ المسلمون الكفار، فخافوهم فصلَّى رسول الله - عليه السلام - هذه الصلاة، ثم انصرف المسلمون والكفار، ولم يجرِ بينهم حربٌ. سُمِّيَتْ تلك الغزوة (ذات الرِّقاع)؛ لأن تلك الغزوة كانت بأرضِ كانت ألوانُها مختلفة من سوادٍ وبياضٍ وصفرةٍ وحمرةٍ، كالرِّقَاع المختلفة في الألوان. قوله: "وأَتمُّوا لأنفسهم"؛ أي: صلَّت الطائفة الأولى الركعة الثانية منفردين وَسَلَّمُوا. قوله: "وجاءَتِ الطائفةُ الأخرى وأتمُّوا لأنفسهم"؛ أي: صلوا الركعة الثانية منفردين من غير نِيَّةِ المُفَارقة، ومن غير تسليم، بل جلسوا في التشهد، وسلم رسول الله - عليه السلام - بهم، وبهذه الرواية عمل الشافعي ومالك. * * * 997 - قال جابر: أَقْبَلْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذاتِ الرِّقاعِ فنُودِيَ بالصلاةِ، فصلى بطائفةٍ ركعتينِ، ثم تأخَّروا، وصلَّى بالطائفةِ الأُخرى ركعتَينِ، فكانَت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعَ ركعاتٍ وللقومِ ركعتانِ. قوله: "أقبلنا مع رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. هذه الروايةُ مخالفةٌ لِمَا قبلَها مع أنَّ الموضعَ واحدٌ، ويحتمل أن رسول الله - عليه السلام - صلى بهذا المَوْضعِ مرتين؛ مرة كما رواه سَهْلُ بن أبي حَثْمَة وغيره، ومرة كما رواه جابر. * * *

998 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ، فَصَفَفْنَا خلْفَهُ صَفَّيْنِ، والعدُوُ بَيْنَنَا وبينَ القِبلةِ، فَكَبَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا جميعًا, ثم ركعَ وركعْنَا جميعًا، ثم رفعَ رأسَه من الركوعِ ورفعْنَا جميعًا، ثم انحدَرَ بالسُّجودِ والصفُّ الذي يليهِ؛ وقامَ الصفُّ المُؤخَّرُ في نَحْرِ العدوِّ، فلما قضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السجودَ وقامَ الصفُّ الذي يليهِ، انحدرَ الصفُّ المؤخَّرُ بالسجودِ ثم قاموا، ثم تقدَّمَ الصفُّ المؤخَّرُ، وتأخَّرَ المُقَدَّمُ ثم ركعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وركعْنَا جميعًا، ثم رفعَ رأسَهُ من الركوعِ ورفعْنَا جميعًا، ثم انحدَرَ بالسجودِ والصفُّ الذي يليهِ، الذي كانَ مُؤَخَّرًا في الركعةِ الأُولى، وقامَ الصفُّ المؤخَّرُ في نحرِ العدوِّ، فلما قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السجودَ والصفُّ الذي يليه؛ انحدرَ الصفُّ المؤخَّرُ بالسجودِ، فسجدوا، ثم سلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسلَّمْنَا جميعًا. قوله: "انحدَرَ بالسجود والصفُّ الذي يليهِ"، (الحَدْرُ): السجود؛ أي: نزل، (يَلِيْه)؛ أي: يكونُ أقرب منه. "في نَحْرِ العدوِّ"؛ أي: في إزاء العدو؛ يعني: وقفوا ينظرون إلى العدو كي لا يحمل عليهم العدو. قوله: "ثم تقدَّمَ الصفُّ المُؤَخَّرُ"؛ يعني: تقدم الصَفُّ الآخرُ بخطوة أو خطوتين ووقفوا مكان الصَّفِّ الأول، وتأخرَ الصَّفُّ الأول بخطوة أو خطوتين، ووقفوا مكان الصَّفِّ المتأخر، وإنما فعلوا ذلك؛ لأنَّ النَّوْبَةَ (¬1) في موافقة النبي - عليه السلام - للصَفِّ المتأخر في الركعة الثانية؛ فينبغي أن يكون أقرب منه من غيرهم. قوله في الركعة الثانية: "ثم ركعَ النبيُّ - عليه السلام -"؛ يعني: قامَ وقرأَ ¬

_ (¬1) في "ق": "الأسوة".

46 - باب صلاة العيد

الفاتحةَ والسورةَ ثم رَكَعَ. * * * مِنَ الحِسَان: 999 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصلي بالناسِ صلاةَ الظُّهرِ في الخَوفِ ببطنِ نخْلٍ، فصلَّى بطائفةٍ ركعتينِ ثم سلَّم، ثم جاءَ طائفةٌ أخرى فصلَّى بهم ركعتين، ثم سَلَّم. قوله: "فصلى بطائفة ركعتين ... " إلى آخره. هذا الحديثُ يدلُّ على جَوازِ اقتداءِ المُفْتَرِضِ بالمُتَنَفِّلِ؛ لأنَّ الطائفةَ الثانية كانوا مُفْتَرِضين، ورسولُ الله - عليه السلام - كان مُتنفِّلاً إذا أمَّهم - عليه السلام -. * * * 46 - باب صَلاةِ العِيْد (باب صلاة العيد) مِنَ الصِّحَاحِ: 1000 - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ يومَ الفِطْرِ والأَضْحى إلى المُصلَّى، فأَولُ شيءٍ يبدأُ به الصلاةُ، ثم ينصرفُ فيقومُ مقابلَ الناسِ والناسُ جلوسٌ على صفوفهم، فَيَعظُهم ويُوصِيهم ويأمُرُهم، وإنْ كانَ يريدُ أن يَقْطَعَ بَعْثًا قطعَهُ، أو يأمر بشيءٍ أَمَرَ به، ثم ينصرفُ. "فأولُ شيءٍ يبدأُ به الصَّلاةُ"، يعني: ليس لصلاةِ العيد قبلَها سُنَّة، ولا بعدها. "أن يَقْطَعَ بَعْثًا"، (البَعْثُ): الجيش؛ يعني: أن يُرسِلَ جيشًا إلى ناحيةٍ أرسَلَهُ.

"أو يأمرُ بشيءٍ"؛ يعني: أو يأمرُ بشيءٍ من أمورِ الناسِ ومصالِحِهِم. * * * 1001 - عن جابر بن سَمُرَةَ أنه قال: صلَّيتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العيدين غيرَ مرةٍ ولا مرتينِ، بغيرِ أذانٍ ولا إقامةٍ. قوله: "بغير أذَانٍ ولا إقامة"؛ يعني: لا يُؤذَّنُ لها، ولا يُقَام، بل يُنادى: (الصَّلاةَ جَامِعة)؛ ليجتمع الناس بهذا الصوت. * * * 1002 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكرٍ، وعمرَ يُصَلُّونَ العيدينِ قبلَ الخُطبةِ. قوله: "يصلون العيدَيْنِ قبلَ الخُطبة"؛ يعني: الخُطبة في العيد بعد الصَّلاة بخلاف الجمعة؛ لأن خطبةَ الجمعة فريضةٌ، فلو قُدِّمَتِ الصلاة على الخطبة، ربما يتفرق جماعةٌ من الناس إذا صلوا الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة، فيأثَموا، وأما خطبة العيد فسُنَّةٌ، فلو صلى بعضُ القوم، ولم ينتظر استماعَ الخطبة، لا إثمَ عليه. * * * 1003 - وسُئل ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: شهدتَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العيدَ؟، قال: نَعَم، خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى ثم خَطَبَ، ولم يذكُر أَذانًا ولا إقامةً، ثم أتى النساءَ فَوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهنَّ وأَمَرَهن بالصدقةِ، فرأيتهنَّ يُهْوينَ إلى آذانِهنَّ وحُلوقِهنَّ يدفَعْنَ إلى بلال، ثم ارتفعَ هو وبلالٌ إلى بيتِهِ. قوله: "شَهِدْتَ" همزة الاستفهام منه محذوفةٌ؛ أي: أشَهِدْتَ؛ يعني: أحضَرْتَ.

"يُهْوِيْنَ" بضم الياء الأولى وكسر الواو؛ أي: يَقْصِدْنَ إلى حُلِيهِنَّ من القُرْطِ والقِلادة والعِقْدِ ويَدْفَعْنَهُ إلى بلال ليتصدقَ لهنَّ على الفقراء. "ارتفع"؛ أي: ذهب. * * * 1004 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يومَ الفِطْرِ ركعتينِ لم يُصَلِّ قبْلَها ولا بعدَها. قوله: "صلى يوم الفطر ركعتين لم يصلِّ قبلَهما ولا بعدَهما"؛ يعني: صلاة العيد ركعتان، وليسَ قبلها ولا بعدها سنة. * * * 1005 - وقالت أُم عَطيَّة: أُمِرْنَا أنْ نُخرِجَ الحُيَّضَ يومَ العيدينِ وذواتِ الخُدُورِ، فيشهدنَ جماعةَ المُسلمينَ ودعوتَهم، وتعتزلُ الحُيَّضُ عن مُصَلاَّهُنَّ، قالت امرأةٌ: يا رسولَ الله!، إحدانا ليسَ لها جِلْبَابٌ؟، قال: "لِتُلْبسْها صاحبتُها من جِلْبَابها". قوله: "وتعتزل الحُيَّضُ عن مصلاهن"، (الحُيَّضُ): جمع حائض. "الخُدُور": جمع خِدْرٍ وهو الستر، (ذواتِ الخُدُور): النساء اللاتي قلَّ خروجُهُنَّ من بيوتِهن. "يَشْهَدْنَ"؛ أي: يَحْضُرْنَ. "تعتزلُ"؛ أي: تنفصلُ وتقفُ في موضعٍ منفردات؛ يعني: أمرَ رسولُ الله - عليه السلام - بأن تحضرَ جميعُ النساء يومَ العيد المُصَلَّى؛ لِتُصلِّيَ مَنْ ليسَ لها عُذْرٌ، وتَصِلُ بركةَ الدعاء والصلاة إلى مَنْ لها عذر في ترك الصلاة مِنهنَّ، وهذا

ترغيبٌ للناس في حضور الصلاة، ومجالس الذكر، ومقاربة الصلحاء؛ لينالهم بركتهم، وحضورُ النِّساء المصلَّى في زماننا غير مستحبٍ؛ لظهور الفساد بين الناس. واسمُ أم عطيَّة: نُسَيْبَة بنت الحَارث، وقيل: بنت كعب، وهي أنصارية. * * * 1006 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكرٍ - رضي الله عنه - دخلَ عليها وعندَها جاريتانِ في أيامِ مِنَى تُدَفِّفانِ وتضرِبَانِ - وفي رواية: تغنِّيانِ - بما تَقَاوَلَتْ الأنصارُ يومَ بُعاثٍ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَغَشٍّ بثوبهِ، فانتهرَهُمَا أبو بكرٍ، فكشفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن وجهِهِ فقال: "دَعْهُمَا يا أبا بكرٍ، فإنها أيامُ عيدٍ"، وفي روايةٍ: "يا أبا بكرٍ، إن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدُنا". قوله: "تُدَفِّفَان"؛ أي: تضربان الدُّف. قوله: "وتَضْرِبَان": هذا تكرار لزيادة الشرح؛ أي: وتضربان الدُّف. (تَقَاوَلَ) الرجلان: إذا أجابَ كلُّ واحدٍ منهما الآخر. "يوم بُعَاثٍ" بالعين غير المعجمة والباء مضمومة: اسم لحرب بين أَوْسٍ وخَزْرَجٍ قبل الإسلام، وهما قبيلتان من الأنصار؛ يعني: تغنيان بالأشعار التي يقرأها كل واحد من القبيلتين في ذلك اليوم؛ لإظهار شجاعتهم. وهذا يدل على جواز ضَرْبِ الدُّف، وجواز قراءة الأشعار التي لم يكن فيها وصفُ امرأة مُعَيَّنَةٍ، ولا هَجْوُ مسلم. قوله: "والنبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَغَشٍّ"، الصواب: "مُتَغَشٍّ" بحذف الياء؛ لأنه مرفوع بخبر المبتدأ، وفي أكثر نسخ "المصابيح": "متغشيًا" بالنصب، وهو لحن؛ لأنه لو نُصبَ لبقيَ المبتدأ بلا خبر، ومعنى (التَّغَشِّي): التَّغطي والتَّستر.

قوله: "انتهرَ": إذا رفعَ الصَّوتَ على أحد ومنعه. وهذا الحديث يدلُّ على تعظيم أيام العيد، وتجويزُ الضَّربِ للطَّرب والفرح، واللعب بما ليس فيه معصية. * * * 1007 - وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يغدو يومَ الفِطْرِ حتى يأكلَ تَمَرَاتٍ، ويأكُلُهنَّ وِترًا. قوله: "ويأكُلُهُنَّ وِتْرَاً"؛ يعني: يأكلُ قبلَ الخروج إلى صلاة عيد الفطر تمرات بعدد الوتر ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، وما أشبه ذلك. * * * 1008 - وقال جابر: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كانَ يومُ عيدٍ خالفَ الطريقَ. قوله: "إذا كان يوم عيد خالف الطريق"؛ يعني: يمشي إلى المُصلَّى في طريقٍ، ويعود في طريقٍ آخر، يمشي في طريق بعيد؛ لتكثرَ خُطُوَاته؛ لأن في كلِّ خُطْوةٍ درجةً، ويعود في طريق أقرب؛ ليقلَّ انتظارُ أهلِ بيته إيَّاه. ويحتمل أن يمشيَ في طريقٍ، ويعود في طريق آخر؛ ليستفيدَ منه أهل الطريقَيْنِ بالسُّؤال والبَركة. * * * 1009 - وقال البَرَاءُ - رضي الله عنه -: خَطَبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ النحرِ فقالَ: "إنَّ أولَ ما نبَدأُ بهِ في يومِنا هذا أن نُصلَّيَ ثم نَرجعَ فننحرَ، فَمَنْ فعلَ ذلك فقدْ أصابَ سُنَّتَنَا، ومَن ذَبَحَ قبلَ أنْ يُصَلِّي فإنما هو شاة لحمٍ عَجَّلَهُ لأهلِهِ ليسَ مِن النُّسُكِ في شيءٍ".

قوله: "خطبنا رسول الله - عليه السلام - يوم النحر، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي"، (يوم النحر): يوم عيد الأضحى. "وليس من النُّسُكِ في شيء": يعني: ليسَ بقُرْبَان، ولا ينال ثوابَ القُرْبَان. واعلم أن أول وقت الأُضْحِيَة: إذا مضى من يوم العيد بعدَ ارتفاع الشمس بقَدْر رُمْحٍ، قَدْر صلاة العيد والخطبتين، فإذا مضى هذا القَدْرُ دخل وقتُ الأُضْحِيَةِ، وإن لم يُصَلِّ القوم، وآخر وقته: إذا مضى اليوم الرابع مع يوم العيد يستوي فيه أهل الأمصار والقرى، هذا مذهب الشافعي - رضي الله عنه -. وأما مذهب أبي حنيفة: أنه يجوز لأهل القرى الأُضْحِيَة بعدَ طلوع الشمس، ولا يجوز لأهل المِصْرِ حتى يصليَ الإمامُ، فإن لم يُصَلَّ الإمامُ فحتى تزولَ الشمس، وآخرُ وقتِهِ عندَه آخرُ اليوم الثالث مع يوم العيد. * * * 1010 - وقال: "مَنْ ذبحَ قبلَ الصلاةِ فليذبحْ مكانَها أُخرى، ومَن لم يَذبَحْ حتى صلَّينا فلْيذبحْ على اسمِ الله تعالى". قوله: "من ذبَحَ قبلَ الصلاة فليذبَحْ مكانَها أخرى"؛ يعني: ذَبْحُ الأُضْحِية قبلَ الصلاة لا يجوز، وبعدَها يجوز، ولْيُسَمِّ الله الذي يَذْبَحُهَا. * * * 1011 - وقال: "مَنْ ذَبَحَ قبلَ الصلاةِ فإنما يَذبحُ لنفْسِه، ومَنْ ذبحَ بعدَ الصلاةِ فقد تَمَّ نُسُكُهُ، وأصابَ سُنَّةَ المسلمينَ". قوله: "فإنما يذبَحُ لنفسه"؛ يعني: لا تجوز عن الأُضْحِية. * * *

1012 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبحُ وينحرُ بالمُصلَّى. قوله: "يذبحُ وينحرُ بالمصلى"، الذَّبْحُ للبقر والغنم، والنَّحْرُ للإبل. وإنما فعلَ رسولُ الله - عليه السلام - الذَّبْحَ والنَّحْرَ بالمصلى في كلٍ لإظهارِ شِعَارِ الأضحية؛ ليراه الناس، ويقتدون به. ويجوز الذَّبْحُ في كل مَوْضعٍ في الدُّور وأجواف البيوت وغير ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 1013 - قال أنس - رضي الله عنه -: قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ولهم يومانِ يلعبونَ فيهما، فقال: "ما هذانِ اليومانِ؟ "، قالوا: كنا نلْعبُ فيهما في الجاهليةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَبْدَلَكُم الله بهما خيرًا منهما: يومَ الأَضحى، ويومَ الفِطْرِ". قوله: "قد أبدَلَكُمُ الله تعالى بهما خيرًا منهما: يومَ الأضحى، ويومَ الفطر"؛ يعني: اتركوا هذين اليومين، يعني: النَّيْرُوْز والمَهْرجان، وخذوا واقبلوا بَدَلَهُما يومَ الأضحى ويوم الفطر، وهذا يدل على أن تعظيم يومَ النَّيْرُوز والمَهْرَجَان وغيرهما مما لم يأمر الشَّارِعُ به لا يجوز. * * * 1014 - وقال بُرَيْدَة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يخرُجُ يومَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ، ولا يَطْعَمَ يومَ الأَضْحى حتى يُصلِّي. قوله: "لا يخرجُ يومَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ، ولا يَطْعَمَ يومَ الأضحى حتى يُصلِّيَ": أي: لا يأكل يوم الأضحى قبلَ الصلاة موافقةً للفقراء؛ لأن الظاهر أن لا يكون للفقراء شيء، إلا ما أعطاهم الناس من لحوم الأضاحي، وهذا

يكون بعد الصلاة. وقيل: إنما لا يأكل قبل الصلاة يوم الأضحى؛ ليكونَ أولَ ما يأكل لحمُ أضحيتِهِ. وقد قال بريدة: إن رسول الله - عليه السلام - كان يَطْعَمُ يومَ الفطر قبل أن يَخْرُجَ، وكان إذا كان يوم النَّحْرِ لم يَطْعَمَ حتى يرجِعَ فيأكلَ من ذَبيحَتِهِ، ويَدْفَعُ الفطرةَ إلى الفقراء قبلَ الصلاة في عيد الفطر؛ فكان يأكلُ قبلَ الصلاة. * * * 1015 - عن كثيرٍ بن عبدِ الله، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كبَّرَ في العيدينِ في الأُولى سبعًا قبلَ القراءةِ، وفي الآخرةِ خمسًا قبلَ القراءةِ. قوله: "كَبَّرَ في العيدين في الأولى سَبعًا قبل القراءة وفي الأخيرة خمسًا قبل القراءة"، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد. والسَّبْعُ في الأُولى غيرُ تكبيرةِ الإحرام وتكبيرةِ الركوع، والخَمْسُ في الثانية غيرُ تكبيرةِ القيامِ وتكبيرةِ الركوع، وكلُّ واحدة من السَّبْعِ والخَمْسِ قبلَ القراءة. وعند أبي حنيفة: في الأولى أربع تكبيرات قبل القراءة مع تكبيرة الإحرام، وفي الثانية أربع تكبيرات بعد القراءة مع تكبيرة الركوع. * * * 1016 - ورُويَ مرسلاً عن جَعْفر بن محمد: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكرٍ، وعمرَ كبَّروا في العيدين والاستسقاء سبعًا، وخمسًا، وصلَّوا قبلَ الخطبةِ وجَهروا بالقِراءةِ.

1017 - وسُئل أبو موسى - رضي الله عنه -: كيفَ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرُ في الأَضْحى والفِطْرِ؟، قال؛ كانَ يُكَبرُ أربعًا تكبيره على الجَنائزِ. قوله: "تَكْبيرَهُ على الجنائز"، (تكبيرَه)؛ أي: مثل تكبيره على الجنائز، وهذا مُتَمَسَّكُ أبي حنيفة، كما ذكر بحثه. * * * 1018 - عن البَرَاء - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نُووِلَ يومَ العيدِ قَوسًا فخطبَ عليه. 1019 - ورُويَ مُرسَلاً: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خطبَ يعتمدُ على عَنَزَتِهِ اعتمادًا. قوله: "نوُوِلَ يومَ العيد قوسًا"، (نُوْوِلَ): أي: أُعطِي، من ناَوَلَ يُنَاوِلُ: إذا أعطى؛ يعني: السُّنةُ أن يأخذَ الخطيبُ بيده اليُسرى قَوْسًا أو سيفًا أو عَنَزَةً - وهي رُمْحٌ قصير - أو عصًا، ويأخذ بيده اليمنى خشبَ المنبر. * * * 1020 - وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: شهدتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في يومِ عيدٍ، فبدأَ بالصلاةِ قبلَ الخطبةِ بغيرِ أذانِ ولا إقامةٍ، فلما قَضَى الصلاةَ قامَ متوكِّئًا على بلالٍ فحمدَ الله وأثنَى عليهِ، ووعظَ الناسَ وذكَّرهم وحثَّهم على طاعته، ومضَى إلى النِّساءِ ومعَهُ بلالٌ، فأمرهنَّ بتقوى الله ووعظَهنَّ وذكَّرهنَّ. قوله: "قام متوكَّيًا على بلال"، أي: متوكئًا معتمدًا؛ يعني: كما يتَّكِئُ الخطيب على العصا اتَّكَأَ رسولُ الله - عليه السلام - على بلال. "التذكيرُ والوعظُ": متقاربان في المعنى، (الحَثُّ): التحريض. "ومضَى"؛ أي: ذهب "إلى النساء"؛ يعني: كانت النساء واقفاتٍ بحيث

لا يسمَعْنَ وعظَ رسولِ الله - عليه السلام - فأتاهُنَّ ووعظهُنَّ. * * * 1022 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنه أَصابهم مطرٌ في يومِ عيدٍ، فصلَّى بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العيدِ في المسجدِ. قوله: "أصابَهم مطرٌ في يومِ عيد"؛ يعني: كان رسولُ الله - عليه السلام - يصلي صلاةَ العيد في الصحراء إلا إذا كان مطر. والأفضل: أداء صلاة العيد في الصحاء في سائر البلدان، وفي مكة خلافٌ، ويستخلفُ الإمامُ إذا خرجَ إلى المصلى أحدًا يصلي في الجامع بالضعفاء. * * * 1023 - رُويَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى عَمْرو بن حَزْمٍ وهو بنجْرَان: "عَجِّلْ الأضحى، وأَخِّرْ الفطرَ، وذكِّرْ الناسَ". قوله: "عَجَّلِ الأضحى، وأَخِّرِ الفطر، وذكِّرِ الناسَ". "عَمرو بن حَزْمٍ": كان عامل رسولِ الله - عليه السلام - بنجْرَان، وهو اسم بلدٍ باليمن. يعني: السُّنة أن يصليَ صلاة عيد الأضحى بعد مضيِّ قليل من اليوم؛ ليشتغلَ الناس بذبحِ الأضاحي، ويصلي صلاة الفطر بعد مضيَّ كثير من اليوم؛ ليوسِّع على الناس وقتَ إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة. * * * 1024 - ورُويَ: عن أبي عُمَيْر بن أنس، عن عمومةٍ له من أصحابِ

فصل في الأضحية

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن رَكْبًا جاؤوا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَشهدُونَ أنهم رأَوْا الهلالَ بالأمس، فأمَرهم أنْ يُفْطِروا، وإذا أصبحُوا يغدوا إلى مُصَلاَّهم. قوله: "أن ركْبَاً جاءوا إلى النبي - عليه السلام - يشهدون بأنهم رأَوا الهلال بالأمس فأمرهم"، (العُمُومَةُ): جَمع العَمَّ، (الرَّكْبُ): جمع الراكِب. يعني: لم يُرَ الهلالُ في المدينة ليلةَ الثلاثين من رمضان، فصاموا ذلك اليوم، فجاء قافلة يومَ الثلاثين في أثناء النهار، وشهدوا أنهم رَأَوا الهلالَ ليلة الثلاثين في بلد آخر، فأمر النبي - عليه السلام - الناس بالإفطار، وبأداءِ صلاة العيد يوم الحادي والثلاثين. وفي الفقه: إن شهدوا قبل الزوال أفطرَ الناس وصلُّوا صلاةَ العيد من الغد عند أبي حنيفة وفي قولٍ للشافعي، وظاهر قوليه: أنه لا تُقضى الصلاةُ لا من اليوم ولا من الغد. * * * فصل في الأُضْحِيَة مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل في الأضْحِية) مِنَ الصَّحَاحِ: 1025 - عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ضحَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشينِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحهما بيدهِ وسمَّى وكبَّر، قال: رأيتُه واضعًا قدمَه على صِفَاحِهِما ويقولُ: "بسمِ الله والله أكبر". قوله: "ضحَّى رسولُ الله - عليه السلام - بكْبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ"، يعني: أبيضين،

"أقرَنَيْن"؛ يعني: طويلي القَرْنِ. قوله: "ذبَحهما بيدِه"؛ يعني: السُّنة أن يذبحَ الرجلُ الأضحيةَ بيده؛ لأن فعلَ الرجلِ العبادةَ بنفسه أفضل، فإن وَكَّل أحدًا في ذبحها جاز. قوله: "سمَّى وكَبَّرَ" أي: قال: بسم الله والله أكبر. (الصَّفَاح): جَمْعُ صَفْحٍ، وهو الجَنْبُ. * * * 1026 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بكبشٍ أقْرَنَ يَطأُ في سوادٍ، وَيبْرُكُ في سوادٍ، وينظرُ في سوادٍ، فأُتي به ليُضحِّيَ به، قال: "يا عائشةُ، هلُمِّي المُدْيَةَ"، ثم قال: "اشْحَذِيهَا بحجرٍ"، فَفَعَلَتْ ثم أخذَها، وأخذَ الكبشَ فأضجَعَه ثم ذبحه، ثم قال: "بسم الله، اللهم تَقَبَّلْ من محمدٍ وآلِ محمدٍ، ومن أُمَّةِ محمدٍ"، ثم ضحَّى به. "يطأُ في سَوادٍ": (يطأ): أي: يمشي ويضع رجليه، يعني: كأَن رجليه سُوْدٌ، "ويَبْرُكُ في سَوادٍ": أي: يضطَجِعُ؛ أي: بطنُهُ أَسْوَدٌ، "وينظر في سَواد": أي: حَوالي عينيه أسود، وباقيه أبيض. "هَلُمِّي": أي: أعطني. "المُدْيَةَ": وهي السكين. "اشحذيها"؛ أي: حَدِّديها، والشَّحْذُ: التَّحديد. قوله - عليه السلام -: "تَقَبَّلْ من محمدٍ وآل محمدٍ ومن أُمَّةِ محمد" ليس معنى هذا أنَّ واحدًا من الغنم يجوز عن اثنين فصاعدًا، بل لا يجوز واحد من الغنم إلا عن واحد، إلا أن معناه: إيصال الثواب إلى مَنْ أشار له في الذكر. ولهذا قال الشافعي ومالك وأحمد: إن المستحبَّ للرجل أن يقولَ إذا ذَبَحَ أضحيته: أُضحِّي هذا عنَّي وعن أهل بيتي، وكره هذا أبو حنيفة. * * *

1027 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبَحوا إلا مُسِنَّةً إلا أن يَعْسُر عليكم، فتذبَحُوا جَذَعَةً من الضَّأنِ". قوله: "لا تذبحوا إلا مُسِنَّةً"، (المُسِنَّةُ): ما له سنتان؛ يعني: أقل ما تذبحون في الأضحية مُسِنَّةٌ، والسِنُّ الذي يجوز في الأضحية إما الثَّنِيُّ، وإما الجَذَعُ، والثَّنِيُّ من الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر والمعز: ما له سنتان. وقيل: الثَّنِيُّ من المعز: ما له سنة، والجَذَعُ من الضَّأْنِ: ما له سنة. وقيل: ما له ستة أشهر. ولا يجوز من الإبل والبقر والمعز في الأضحية إلا ثَنِيٌّ، ومن الضأن: لا يُجزئ إلا جَذَعٌ. وقال الزهري: لا يجوزُ من الضأن أيضًا إلا ثَنِي، بظاهر هذا الحديث. وقال الآخرون غير الزهري: إنَّ النهيَ هنا ليس لنهي الجواز، بل لنهي الكمال. * * * 1028 - عن عُقْبَة بن عامر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاهُ غنمًا يقسِمُها على أصحابهِ ضَحَايَا، فبقيَ عَتُودٌ، فقال: "ضَحِّ به أنتَ". وفي رواية: قلتُ: يا رسولَ الله، أَصابني جَذَعٌ، قال: "ضَحِّ به أنت". قوله: "يقسِمُهَا على أصْحَابهِ ضَحَايا"، (ضَحَايا): جمع أُضْحِية، وهي ما يذبح للقربان، الضمير المنصوب في (يقسمها) راجع إلى الغنم؛ يعني: يقسمُها بين أصحابه للتضحية؛ أي: ليجعل كل واحد ما أصابه أُضْحِيَةً.

(العَتُوْدُ): السَّخْلَةُ التي قدرت على الرعي، ولعل المراد به هنا: أنه بلغ سنًا يجوز في الأُضْحِيَّةِ. * * * 1029 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذبحُ وينحرُ بالمُصلَّى. قوله: "يذبح وينحر بالمُصَلَّى" ذُكِرَ شرح هذا، والغرض من تكرار هذا الحديث: أنَّ ذكره هنا لبيانِ مكان الذبح، وهو المُصَلَّى، حيث ذَبَحَ جَازَ، إلا أن الأفضلَ الذبحُ بالمصلى؛ لإظهارِ شِعَارِ الدين. وذُكر قبل هذا الفصل لبيان وقت الأُضْحِيَةِ؛ لأنه ذكره بعد أحاديث كلها لبيان وقت الأُضحِيَة. فالمفهوم من إيراد هذا الحديث عقيب تلك الأحاديث: أنه لبيان وقتِ الأُضْحيَة، ووجه كون بيان وقت الأُضحيَة في هذا الحديث: أنه إذا ذَبَحَ رسولُ الله - عليه السلام - بالمُصلَّى عُلِمَ أنه كان بعد صلاةَ العيد لا قبلها؛ لأنه قال - عليه السلام - في حديث البَرَاء: "أولُ ما نبدأ به في يومِنا هذا أن نصلِّيَ"، فإذا كان أولُ ما نبدأ به الصلاة لا يكونُ الذبحُ بالمُصَلَّى قبل الصلاة. * * * 1030 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البقرةُ عن سبعةٍ، والجَزُورُ عن سبعةٍ". قوله: "البقرة عن سَبْعَةٍ، والجَزُور عن سَبْعَةٍ"، و (الجَزُوْرُ): ما يُجْزَرُ من الإبل؛ أي: يُنْحَرُ. يعني: لو اشتركَ سَبْعَةُ أنفسٍ بذبْحِ بقرةٍ، أو نحْرِ جَمَلٍ للأُضحيَة، جَازَ، فلو

أراد بعضهم أن يأكلَ نصيبَهُ، ولم يصرف شيئًا منه في الأُضحيَة، جازَ عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة، إلا أن يريد كلهم الأضحية. وقال مالك: لا يجوز الاشتراك في البَدَنة وغيرها إلا أن يكون الشركاءُ أهلَ بيتٍ واحد، فيجوزُ حينئذ اشتراك سَبْعَةٍ في بَدَنة أو بقرة. * * * 1031 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلَ العَشرُ وأرادَ بعضُكم أنْ يُضَحِّي فلا يمسَّ من شعرِهِ وَبَشَرِهِ شيئًا". وفي رواية: "فلا يأْخُذَنَّ شعرًا، ولا يُقَلِّمَنَّ ظُفْرًا". وفي رواية: "مَنْ رأى هلالَ ذي الحِجَّة وأرادَ أن يُضَحِّي فلا يأْخذْ من شعرِه ولا مِن أظفارهِ". قوله: "فلا يأخُذْ من شَعَرِهِ ولا مِنْ أَظْفَارِهِ"؛ يعني: مَنْ أراد أن يضحي لم يأخذ من شَعرِ نفسه، ولا من ظُفْره إذا دخل عشر ذي الحجة، والمراد بـ (البَشَرِ) هنا: الظُّفْرُ. وعلته: أن الأُضحيَة تكون يوم القيامة فداءً للمُضحِّي، فيصِلُ بكل عضوٍ وشَعَرَةٍ من الأُضحيَة بركةٌ ورحمةٌ إلى كل جزء من المُضحِّي، فنهى رسول الله - عليه السلام - عن حَلْقِ الشَّعَرِ، وقَلْمِ الأظْفَار؛ لتكونَ تلك الشُّعور والأظْفَار واجدةً للرحمة والبركة. وهذا مثل أمره - عليه السلام - بإرسال الثياب والشُّعور؛ لتقع على الأرض؛ لتكون ساجدةً مع المصلي؛ لينالَ كلُّ عضوِ ثوابَ السجود. وهذا نهيٌ، تاركُه تاركُ سُّنةٍ عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، وعندهم ترك حلق الشَّعَرِ، وقَلْمِ الظُّفُرِ سُنَّةٌ، كما في الحديث.

وقال أحمد وإسحاق: هذا النَّهي نهيُ التحريم، وحَلَقَ ابن عمر بعد ما ذُبحَتْ أضحيته يوم العيد. * * * 1032 - وقال: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله مِنْ هذِهِ الأيامِ العَشْرِ"، قالوا: يا رسولَ الله!، ولا الجهادُ في سَبيلِ الله؟ قالَ: "ولا الجهادُ في سَبيلِ الله إلَّا رجلٌ خرجَ بنفسِه ومالِهِ فلمْ يرجِعْ من ذلكَ بشيء". قوله: "ما مِنْ أيَّامٍ العملُ الصالح ... " إلى آخره. وإنما كان العمل الصالح في هذه العشرة أفضل لفضل هذه الأيام؛ لأنها أيام الشهر الحرام، والحُجَّاج يشتغلون في هذه الأيام بزيارة بيت الله الحرام والبلد الحرام، ولا شَكَّ أنَّ الوقتَ إذا كان أفضل من غيره يكونُ العمل الصالح فيه أفضل. قوله - عليه السلام -: "فلم يَرْجِعْ من ذلك بشيء"؛ يعني: مَنْ أُخِذَ مالُه وأهَرِيقَ دَمُهُ في سبيل الله تعالى، فهذا الجهادُ أفضلُ من العبادة في هذه الأيام؛ لأن الثوابَ يكون بقدر المشقَّة في سبيل الله تعالى، ولا مشقة ولا رياضة في عمل من الأعمال الصالحة، أشدُّ من أن يُهَرَاقَ دمُ الرجل في سبيل الله تعالى. * * * مِنَ الحِسَان: 1033 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: ذبحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الذَّبح كبشَين أَقْرنين أملَحين مَوجُوأَين، فلمَّا ذبحهما قال: "إني وَجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السَّماواتِ

والأرضَ على مِلَّةِ إبراهيمَ حنيفًا ومَا أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي ومَحْيَايَ ومَمَاتي للهِ ربِّ العالمينَ لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمينَ، اللهم منكَ ولَكَ عن محمدٍ وأُمَّتِهِ، بسم الله والله أكبرُ". وفي روايةٍ: ذبَح بيدهِ وقال: "بسم الله والله أكبرُ، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ مِن أُمَّتي". قوله: "مَوجِيَّيْن" حقُّه: مَوْجُوئَيْن؛ لأنه مفعول مِنْ (وَجَأَ) مهموز اللام: إذا دَقَّ عروقَ الخِصيَةِ حتى يصيرَ الكبش شبيهًا بالخَصيِّ، إلا أنهم قلبوا الهمزة ياء، وقلبوا الواو ياء؛ لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والأولى منهما ساكنة تقلب الواو ياء، وتدغم الياء في الياء، ويكسر ما قبل الياء، فصار (مَوْجِيَّيْنِ) مثله (مُوْجَيَيْنِ). قوله: "على مِلَّةِ إبراهيمَ"؛ أي: أنا على مِلَّة إبراهيم، وصرفتُ وجهي وعملي ونيتي إلى ربِّ العالمين، وأعرضْتُ عما سواه. قوله: "مِنْكَ"، يعني: حصل في هذا الكَبش منكَ، وجعلتُه "لك"، وأتقربُ به إليك. * * * 1034 - عن حنَشٍ أنه قال: رأيتُ عليًا يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وقال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَاني أن أُضَحِّي عنه، فأنا أُضَحِّي عنه. قوله: "أَوْصَاني أن أُضَحِّي عنه"؛ يعني: يجوزُ التضحيةُ عن الميت سواء كان تَبرَّع به أحدٌ على الميت، أو كان من مال الميت، ووصَّى به الميت، ولكن إنْ كان وصَّى به الميت يُخرَجْ قيمةُ الأُضحيَةِ من ثُلُثِ مالِهِ، فإن لم يُوصِ (¬1) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يخرج" بدل "يوص".

وأجازَتِ الورثةُ؛ جازَتْ. * * * 1035 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: أَمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرِفَ العينَ والأُذُنَ، وأن لا نُضَحِّيَ بِمُقابَلَةٍ، ولا مُدابَرَةٍ، ولا شَرْقاءَ، ولا خَرْقاءَ. قوله: "أن نستشرِفَ العينَ"، (الاستشراف): النظر إلى شيء على التَّأمل. "أن نستشرِفَ"، أي: أن ننظر في عيني الأُضحيَة، فلا نضحي بالأعمى والأعور، وما في عينه نقصان ظاهر. قال محيي السنة: (المُقَابَلَةُ): ما قُطع مقدمُ أذنها، و (المُدَابَرَةُ): ما قطع مؤخر أذنها، و (الشَّرْقَاء): ما شُقَّ أذنها، و (الخَرْقَاء): ما ثقب أذنها. وقيل: (الشَّرْقَاء): ما قطع أذنها طولًا، و (الخَرْقَاء): ما قطع أذنها عرضًا. فعند الشافعي: لا يجوز التضحية بشاة قُطِعَ بعض أذنها. وعند أبي حنيفة: يجوز إذا قُطِعَ أقل من نصفه. ولا بأس بمكسور القَرْنِ. * * * 1036 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُضَحِّى بأَغْضَبِ القَرنِ والأذُنِ. قوله: "أَعضَب القَرْن"؛ أي: مكسورَ القَرْن، وبهذا قال إبراهيم النخعي، و [قال] غيره: يجوز مكسور القَرْن. * * *

1037 - وعن البَراء بن عازب: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل ماذا يُتَّقَى من الضحايا؟، فأَشارَ بيدِه فقال: "أربعًا: العرجاءُ البَينُ ظَلَعُها، والعوراء البَينُ عَوَرُها، والمريضةُ البينُ مرضُها، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقي". قوله: "ماذا يُتقى من الضَّحَايا"؛ (يُتَّقَى): أي: يُحتَرَزُ، (الظَّلَعُ): العَرَجُ، أَنْقَى يَنْقى: إذا صار ذا مُخٍّ. "لا تُنْقِي"؛ أي: لا يَبْقَى بها نِقْيٌ، وهو المُخُّ من غاية العَجَفِ. * * * 1038 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُضَحَّي بكبشٍ أَقْرَنَ فَحيلٍ، يَنظرُ في سوادٍ ويأكلُ في سوادٍ، ويمشي في سوادٍ. قوله: "يضحي بكبش أقْرَنَ فحيل"، (الفَحيل): الفَحْلُ المُختار السَّمين. "وينظرُ في سُواد"؛ أي: حوالي عينيه أَسْوَد. "ويأكل في سَواد"، أي: فيه أَسْوَد. "ويمشي في سَواد"، أي: رجله أَسْوَد. * * * 1039 - عن مُجاشِعٍ - من بني سُلَيْمٍ - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقول: "إن الجَذَعَ يُوَفِّي مما يُوَفِّي منه الثَّنِيُّ". قوله: "يُوَفَّى"؛ أي: يجزئ، يعني: الجَذَعُ من الضَّأن يجوزُ تضحيته كما يجوز تضحية الثَّنِيَّ من المَعز وغيره. واسم أبيه: مسعود بن ثعلبة بن وهب. * * *

1040 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "نِعْمَتِ الأُضْحيةُ الجَذَعُ مِن الضَّأنِ". قوله: "نِعْمَتِ الأضحية الجَذَعُ من الضَّأْنِ"، مدحه رسول الله - عليه السلام -؛ ليعلمَ الناسُ أنه جائز في الأضحية. * * * 1041 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنا معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفَرٍ، فحضرَ الأَضحى، فاشتركْنا في البقرةِ سبعةً، وفي البعيرِ عشرةً"، غريب. قوله: "وفي البعيرِ عشرة" عمل بهذا إسحاق بن راهويه. وأما غيره قالوا: هذا منسوخ بما تقدم من قوله - عليه السلام -: "البقرةُ عن سَبْعَة، والجَزُوْرُ عن سَبْعَةٍ". * * * 1042 - عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عَمِلَ ابن آدمَ مِنْ عملٍ يومَ النحرِ أحبَّ إلى الله مِن هِراقةِ الدمِ، وإنه لتأتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأَشعارِها وأَظلافِها، وإن الدمَ ليقعُ من الله بمكانٍ قبلَ أن يقعَ بالأرضِ، فَطِيبُوا بها أَنْفُسًا". قوله: "بفروثها وأشعارها وأظلافها"، (الفُرُوْثُ): جمع فَرْثٍ، وهو النجاسة التي تكون في الكَرِشِ. (الأَظْلافُ): جمع ظِلْفٍ، وهو من الغنم بمنزلة الخُفِّ من البعير، يعني: أفضل عبادات يوم العيد إراقة دم القُرْبَان.

وإنه يأتي يوم القيامة كما كان في الدنيا من غير أن ينقصَ منه شيء، ويُعْطَى الرجلُ بكل عضوٍ منه ثوابًا، ويكونُ مركَبَهُ على الصراط. وكل زمان يختص بعبادة، وهذا الزمان - أعني: يوم النحر - مختص بعبادةٍ فَعَلَهَا إبراهيمُ خليل الله - عليه السلام -، وهي تضحية القُرْبَان والتكبير. ولو كان شيءٌ أفضلَ من ذبح الغنم في فداء الإنسان لم يجعل الله تعالى الذَّبْحَ المذكور في قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فداءً لإسماعيل - عليه السلام -. قوله: "وإنَّ الدَّمَ يقع ... " إلى آخره؛ يعني: يقبلُهُ الله تعالى عند قَصدِ الرجلِ ذبحَه قبلَ أن يقعَ دمُه على الأرض، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]. قوله: "فَطِيْبُوا بها أنفسًا"؛ يعني: إذا علمتم أن الله تعالى يقبله ويجزيكم بها ثوابًا كثيرًا، فلتكنْ أنفسُكم بها طيبة من غير كراهية. * * * 1043 - ويروى أنه قال: "ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله أنْ يُتعبَّدَ له فيها مِن عشرِ ذي الحِجَّةِ، يَعدلُ صيامُ كلِّ يومٍ منها بصيامِ سنةٍ، وقيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيامِ ليلةِ القدرِ"، ضعيف. قوله: "يعدل"، أي: يَسوى صيام كل يوم منها؛ أي: من أول ذي الحجة إلى يوم عرفة، وقد صحُّ الحديث في أنَّ صومَ يوم عرفة كفارةُ سنتين. قوله: "بصيام سنة"، أي: سَنةً غيرَ عشر ذي الحجة. روى هذا الحديث: أبو هريرة. * * *

47 - باب العتيرة

47 - باب العَتِيْرةِ (باب العتيرة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1044 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا فَرَعَ ولا عَتِيْرَة"، قال: والفَرَعُ أول نِتاجٍ كان يُنْتَجُ لهم، كانوا يَذبحونه لطَواغِيتِهم، والعَتِيرَةُ في رجبٍ. قوله: "لا فَرَعَ ولا عَتِيْرَة"، والفَرَعُ: أولُ نِتاجٍ كان يُنْتَجُ لهم، (الفَرَع) - بفتح الراء -: أولُ ولدٍ ولدته ناقة، الكفارُ كانوا يذبحونه لأصنامهم بمنزلة الأُضحيَة في الإسلام. و (العَتِيْرَة): جمل أو شَاة، كلُّ واحدٍ بقَدْرِ وُسْعِهِ، كانوا يذبحونه في رجب لأصنامهم، و (عَتَرَ): إذا ذَبَحَ، والفَرَعُ والعَتِيْرَةُ كلاهما منهي في الإسلام، وجَوَّزَ ابن سيرين العَتيرة وقال: لا بأس بذبح شاة في رجب لا للأصنام. * * * مِنَ الحِسَان: 1045 - عن مِخْنَفِ بن سُليم: أنه شهدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ يومَ عرفةَ يقولُ: "على كلِّ أهلِ بيتٍ في كلِّ عامٍ أُضحيةٌ وعَتِيْرَةٌ"، ضعيفٌ، ومنسوخٌ. قوله: "على كل أهل بيت في كل عام أُضحيَّة وعتيرة"، الأضحيةُ واجبةٌ عند أبي حنيفة على مَنْ مَلَكَ نِصابًا من المال المزكَّى بدليل هذا الحديث، وأما العَتِيْرَة فلا تجوز عنده كالشافعي وغيره.

48 - باب صلاة الخسوف

وجَدُّ مِخْنَف: الحارثُ بن عوفٍ بن ثعلبة، ولاَّه علي بن أبي طالب أصفهان. * * * 48 - باب صلاة الخُسُوف (باب صلاة الخسوف) مِنَ الصَّحَاحِ: 1046 - قالت عائشة رضي الله عنها: إن الشمسَ خَسَفَتْ على عَهْدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَعث مُناديًا: "الصلاةُ جامعةٌ"، فتَقَدَّمَ فصلَّى أربعَ ركعات في ركعتينِ، وأربعَ سَجَداتٍ. "خُسِفَتْ"؛ أي: أُخِذت وأُزيل نورُها. "الصلاةُ جامعةٌ" بالرفع، (الصلاة) مبتدأ، و (جامعة) خبرها؛ يعني: الصلاةُ تجمع الناس في المسجد، ويجوز أن يكون الناس في المسجد، (جامعة): بمعنى ذات جماعةٌ؛ أي: هي صلاةٌ ذات جماعة تُصلى بالجماعة، لا صلاة تصلى منفردة، كسنن الرواتب والنوافل. "أربع ركعات"؛ أي: أربع ركوعات، ويقال لركوع واحد: ركعة، كما يقال لسجود واحد: سجدة؛ يعني: صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان. وإنَّ صلاة الخسوف والكسوف واحد، إلا أن الخُسوف الأكثر استعماله في القمر، والكسوف في الشمس، ويجوز بالعكس. وصلاة الخسوف والكسوف ركعتان بالصفة التي ذكرناها عند مالك

والشافعي وأحمد، وأما عند أبي حنيفة: فهي ركعتان في كل ركعة ركوع واحد وسجودان، كسائر الصلوات. وتصلى الخسوف والكسوف بالجماعة عند الشافعي وأحمد، وفرادى عند أبي حنيفة، وأما عند مالك: تصلى كسوف الشمس جماعة، وخسوف القمر فرادى. * * * 1048 - وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جهَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الخُسوفِ بقِراءتِه. قولها: "جَهَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوفِ بِقراءتِهِ": أرادت بـ (الخسوف): القمر؛ لأن خسوف القمر يكون بالليل، فيجهر بالقراءة فيها، ولا يجهر بالقراءة في كسوف الشمس كصلاة الظهر والعصر. * * * 1049 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: خَسَفتْ الشمسُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ معَه، فقامَ قِيامًا طويلًا نَحوًا من سورةِ البقَرةِ، ثم ركعَ ركوعًا طويلًا، ثم رفعَ رأْسَه، فقامَ قيامًا طويلًا وهو دُونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعًا طويلًا وهو دونَ الركوعِ الأول، ثم رفع ثم سجَدَ، ثم قامَ فقامَ قيامًا طويلًا وهو دونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعًا طويلًا وهو دونَ الركوعِ الأول، ثم رفعَ فقامَ قيامًا طويلًا وهو دونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعًا طويلًا وهو دونَ الركوعِ الأولِ، ثم رفعَ، ثم سجدَ، ثم انصرفَ وقد تَجَلَّتْ الشَّمسُ فقال: "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله، لا يَخْسِفان لمَوتِ أحدٍ ولا لحَياتِه، فإذا رأَيتُم ذلكَ فاذكروا الله"، قالوا: يا رسولَ الله!، رأَيناكَ تناولتَ

شيئًا في مَقامِك هذا، ثم رأيناكَ تَكَعْكَعْتَ؟، قال: "إنَّي رأيتُ الجنةَ، فَتَناولْتُ منها عُنقودًا، ولو أخذتُه لأَكلتُم منه ما بقيَتْ الدنيا، ورأيتُ النارَ، فلمْ أرَ كاليومِ مَنظرًا أفظَعَ قَطُّ منها، ورأيتُ أكثرَ أهلِها النِّساءَ"، فقالوا: لِمَ يا رسولَ الله؟، قال: "بكفرِهنَّ"، قيل: يَكْفُرْنَ بالله؟، قال: "يكفُرْنَ العَشيرَ، ويكفُرنَ الإحسانَ، لو أَحسنتَ إلى إحداهُنَّ الدهرَ كلَّهُ، ثم رأتْ منكَ شيئًا قالت: ما رأَيتُ منكَ خيرًا قطُّ". قوله: "ثم قَام": أي: قام إلى الركعة الثانية. "فَقَام": أي: فوقف قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول؛ أي: وهو أقل وأقصر من القيام الثاني من الركعة الأولى، وكذلك حيث قال: (دون القيام الأول)، أو (دون الركوع الأول)، أراد: دون القيام الذي قبله، ودون الركوع الذي قبله. يعني: كلُّ قيامٍ تقدَّمَ فهو أطولُ مما بعدَه، وكذلك الركوع. (تجلَّى): إذا أضاء، و"تجلَّت" أصله: تجليت، قلبت الياء ألفًا، وحذفت الألف لسكونها وسكون التاء؛ لأن التاء كانت ساكنة وحركت هنا لسكونها، وسكون ما بعدها. "آيتان من آيات الله تعالى"؛ يعني: علامتان من علامات القيامة؛ فإذا رأيتموها؛ فخافوا الله وصلوا. وقيل: معنى (آيتان من آيات الله تعالى): أن خسوفَهما علامةُ كونهما مُسَخَّرَيْن ومقهورَيْن كسائر المخلوقات، فإذا كانا عاجِزَيْنِ، كيف يجوزُ أن يتخذهما بعضُ الناس معبودَيْنِ؟! "لا يُخسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياته" إنما قال - عليه السلام - هذا تكذيبًا لجماعة يزعمون: أن كسوفهما يُوجب حدوث تغيُّرٍ في العالم من موتِ أحد، أو

ولادةِ أحد، أو قَحْطٍ، أو غير ذلك من الحوادث. "رأيناك تناوَلْتَ شيئًا"، (تَنَاوَل): إذا أخذ، (تكعكع): إذا تأخر، يعني: رأى القومُ رسولَ الله - عليه السلام - في صلاة خسوف الشمس أنه تقدم من مكانه، ومدَّ يدَه إلى شيء، ثم رأَوْهُ تأخَّرَ. "فتناولتُ منها عُنقودًا"؛ يعني: حين رأيتموني تقدمتُ من مكاني، ومددتُ يدي، عُرِضَتْ عليَّ الجنة، فمددْتُ يدي لآخذَ عنقودًا، "ولو أخذْتُهُ" لأكل منها أهل الدنيا ولا يفنى؛ لأن ما كان من الجنة لا يفنى. ووجه عدم إفنائه: أن يخلق الله تعالى بدل كل حَبَّةٍ أَكلَهَا أحدٌ حَبَّةً، فإذا كان كذلك لا يفنى. وعِلَّةُ تركه - عليه السلام - تناولَ العُنقود: أنه لو تناولَهُ ورآه الناس؛ لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، وقد أُمِرَ الناسُ أن يؤمنوا بالغيب، والشهادة ضد الغيب. "ورأيت النار"؛ يعني: حين رأيتموني تأخرت من مكاني عُرِضَتْ عليَّ النار تأخرت عن مكاني؛ خشية أن يصيبني لَفحها؛ أي: حرارتها وشعلتها. "فلم أر كاليوم منظرًا"؛ تقديره: لم أَرَ منظرًا مثل المنظر الذي رأيته في هذا اليوم؛ يعني: لم أر شيئًا أشد وأخوف من النار. "قيل: يَكْفُرْنَ بالله"؛ يعني: سألَ رجلٌ: دخولُ النساءِ النارَ لأجل أنهنَّ يكفُرْنَ بالله أم لا؟ فقال: لا يكفرن بالله، "ولكن يكفُرْنَ العشيرَ"، (العشير): الزوج؛ أي: يتركْنَ شكر أزواجهن، ومَنْ لم يشكرِ الناسَ لم يشكرِ الله، ومن لم يشكرِ الله يُدخله النار.

"ثم رأت منك شيئًا"؛ أي: شيئًا تكره. * * * 1050 - وعن عائشة رضي الله عنها نحوَ حديث ابن عباس، وقالت: "ثم سجَدَ فأطالَ السجودَ، ثم انصرفَ وقد انجلتِ الشمسُ فخطبَ الناسَ فحمِدَ الله وأثنى عليهِ، ثم قال: "إن الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يَخْسِفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتُم ذلكَ فادعُوا الله وكَبروا وصلُّوا وتَصدَّقوا"، ثم قال: "يا أُمَّةَ محمدٍ!، والله ما مِن أحدٍ أَغْيَرُ من الله أنْ يَزنيَ عبدُه أو تَزنيَ أَمَتُهُ، يا أُمَّةَ محمدٍ!، والله لو تعلمون ما أعلمُ لضحِكْتُم قليلاً وَلبكَيْتُم كثيرًا". قوله: "أَغْيَرُ"؛ أي: أشدُّ غَيرة، و (الغَيْرَةُ): كراهةُ الرجل اشتراكَ غيره فيما هو حقه، وغيرة الله تعالى: أن يكره مخالفة أمره ونهيه. "أن يزنيَ عبدُهُ أو تزني أمَتُهُ"، يعني: لو زنى عبدُ أحدكم أو تزني أَمَةَ أحدكم يكرهُ ويغارُ، فإذا زنى عبدٌ من عباد الله تعالى، أو أَمَةٌ من إمائه تكون غَيرته وكراهيته أشد من غيرتكم وكراهيتكم. "لو تعلمون ما أعلم"؛ يعني: ما أعلم من شدة العذاب، وشدة غضب الله تعالى وقهره. * * * 1051 - وعن أبي موسى أنه قال: خَسَفتِ الشمسُ، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَزِعًا يَخْشَى أن تكونَ الساعةُ، فأَتَى المسجدَ، فصلَّى بأطولِ قيامٍ ورُكوعٍ وسجودٍ ما رأيته قطُّ يَفْعَله، وقال: "هذه الآياتُ التي يرسلُ الله لا تكونُ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِهِ، ولكنْ يُخَوِّفُ الله بها عبادَهُ، فإذا رأيتُم شيئًا من ذلكَ، فافزَعُوا إلى

ذكرِه ودعائه واستغفارِه". قوله: "فَزِعًا"؛ أي: خائفًا. قول أبي موسى: "يخشى أن تكون الساعة" هذا ظَنٌ منه؛ لأنه لم يعلم ما في قلب النبي - عليه السلام -، وهذا الظنُّ غير صواب؛ لأن النبي - عليه السلام - كان متيقنًا أن الساعة لا تقوم حتى ينجزَ الله ما وعده له ولأمته من أخذ بلاد العجم والروم وغير ذلك من المواعيد. فإن قيل: يحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل أن يخبر الله تعالى رسوله بهذه الأشياء، فحينئذٍ في يتوقع وقوع السَّاعة كل لحظة. قلنا: ليس كذلك؛ لأن إسلام أبي موسى كان بعد فتح خيبر، وقد أخبر الله تعالى النبيَّ - عليه السلام - بهذه الأشياء قبل فتح خيبر، وهذا الخسوف كان بعد فتح خيبر، وإنما فزع النبي - عليه السلام - وتغير وجهه؛ لأنه خاف نزول عذابٍ على أهل ناحيته. قوله: "رأيته قطُّ" أصل استعمال (قط): أن تكون بعد النفي، وليس هنا حرف نفي، فلعله مُقدر؛ أي: ما رأيته قط فعل مثل هذا الركوع والسجود. "فافزعوا"؛ أي: التجئوا، أو عوذوا من عذابه "إلى ذِكْرِهِ". * * * 1052 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: انكسَفَتِ الشمسُ في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ماتَ إبراهيمُ ابن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالناسِ ستَّ ركعاتٍ بأربعِ سَجداتٍ. قوله: "انكسفت الشمس في عهد رسول الله عليه السلام ... " إلى آخره؛ ظنَّ بعضُ الناس أن انكسافَ الشمسِ يوم مات إبراهيم لموت إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - عليه السلام -: "الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى

لا يخسفان لموت أحد" كما تقدم في الأحاديث المذكورة. و"إبراهيم": ابن النبي - عليه السلام - كان له ثمانية عشر شهرًا، وأكثر أهل التواريخ: على أنه مات في سنة العاشرة من الهجرة. قوله: "ست ركعات بأربع سجدات"؛ يعني بـ (الركعات) هنا: جمع الرَّكعة، التي هي بمعنى الركوع؛ يعني: صلَّى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات. فعند الشافعي وأكثر أهل العلم: أن الخسوف إذا تمادى جاز أن يركع في كل ركعة ثلاث ركوعات، وخمس ركوعات؛ فإنه قد روي: أن رسول الله - عليه السلام - صلى ركعتين بعشر ركوعات، وأما السجود لا يزيد على السجدتين في كل ركعة؛ فإن أسرع الانجلاء جازَ الاقتصارُ في كل ركعة على ركوع واحد. * * * 1053 - ورُوي عن علي - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى ثماني ركعاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ. قوله: "ثماني ركعات في أربع سجدات"، (الركعة) ها هنا: بمعنى الركوع؛ يعني: صلى رسول الله - عليه السلام - ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات، وقد ذكر بحثه. * * * 1054 - وقال جابر بن سَمُرَة: كَسَفتِ الشمسُ في حياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَتيتُه وهو قائمٌ في الصلاةِ رافعٌ يديهِ، فجعلَ يُسبح ويهلِّلُ ويكبرُ ويحمدُ

ويدعو حتى حُسِرَ عنها، فلما حُسِرَ عنها قرأَ سورتينِ وصلَّى ركعتينِ. قوله: "حُسِرَ عنها": أي: أُزيل وأُذهب عن الشمس خسوفها. يعني: دخل رسول الله - عليه السلام - في صلاة الخسوف، ووقف في القيام الأول، وطوَّلَ التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع وسجد، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن، وركع وسجد وتشهد وسلم. ولم يذكر الراوي أنه - عليه السلام - ركع في ركعة ركوعا واحدًا أو أكثر، وظاهر الحديث يدل على أنه ركع في كل ركعة ركوعًا واحدًا. وقد قلنا: أنه إذا انجلى الخسوف جاز الاقتصار في كل ركعة على ركوع واحد. * * * 1055 - وقالت أسماء بنتُ أبي بكر - رضي الله عنها -: أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَتاقَةِ في كُسوفِ الشَّمسِ. قولها: "في كسوف الشمس"، اعلم أن الإعتاق وسائر الخيرات مأمور بها في خسوف الشمس والقمر كليهما؛ لأن الخيرات ترفع العذاب. * * * مِنَ الحِسَان: 1056 - عن سَمُرَة بن جُندُب - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوفٍ لا نسمعُ له صوتًا.

قوله: "لا نسمع له صوتًا": هذه الصلاة كانَتْ صلاة كسوف الشمس. * * * 1057 - وقال عِكْرِمة: قيل لابن عباس: ماتَتْ فلانةُ - بعضُ أزواجِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَّ ساجدًا، فقيلَ له: أَتسجدُ في هذه الساعةِ؟، فقال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم آيةً فاسجُدُوا"، وأيُّ آيةٍ أَعظمُ مِن ذهابِ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟!. قوله: "ماتَتْ فلانة"، (فلانة): هي صفية زوجة النبي عليه السلام. "بعض أزواج النبي عليه السلام"؛ أي: إحدى زوجات النبي - عليه السلام -. "فخر ساجدًا"؛ أي: سقط للسجود. قوله: "إذا رأيتم آية"؛ أي: علامةً يخوِّف الله بها عباده كالخسوف والكسوف. قوله: "فاسجدوا" أراد بـ (السجود): الصلاة، إن كانت الآية خسوف الشمس والقمر، وإن كانت الآية غيرها كمجيء الريح الشديدة والزلزلة وغيرهما يكون معنى (فاسجدوا) هو السجود بغير صلاة. وقيل: لا يجوز السجود في غير الصلاة إلا سجود تلاوة القرآن وسجود الشكر. قوله: "وأيُّ آيةٍ أعظم من ذهاب أزواج النبي عليه السلام" يخاف عُقيبه نزول العذاب؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فما دام النبي - عليه السلام - حيًا يندفع العذاب عن الناس ببركته، وزوجاته أيضًا ذوات البركة؛ لأن أهل الرجل منه؛ فيندفع العذاب عن

فصل في سجود الشكر

الناس أيضًا ببركتهن، ويُخاف نزول العذاب بذهابهنَّ، فيتوجه الالتجاء إلى ذكر الله تعالى والسجود عند انقطاع بركتهن؛ ليندفع العذاب ببركة الذَّكْرِ والسُّجود والخيرات. * * * فصل في سُجُود الشُّكر (فصل في سجود الشكر) مِنَ الحِسَان: 1058 - عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا جاءَهُ أمرٌ يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا شكرًا للهِ. غريب. قوله: "في سجود الشكر"؛ يعني: فصل في سجود الشكر، وسجود الشكر عند حدوث نعمة، أو وصول شيء إلى الرجل يُسَرُّ به، واندفاع بليَّة كانت عليه = سُنَّةٌ عند الشافعي، وليس بسنة عند أبي حنيفة. * * * 1059 - ورُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى نُغاشيًا، فسجدَ شكرًا للهِ تعالى. قوله: "رأى نغاشيًا فسجد"، (النُّغَاشيُّ) بتشديد الياء بالغين المعجمة: قصيرُ الخلق. فالسُّنة لمن رأى مبتلى ببلاءٍ أن يسجدَ شكرًا لله على أن عافاه الله تعالى من ذلك البلاء، ولكن ليكتم السجود عنه كيلا يتأذى، وإن رأى فاسقًا ليسجد وليظهر السجود، فلعلَّ الفاسق ينتبه ويتوب. * * *

1060 - عن عامر بن سَعْد، عن أبيه قال: خرجْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن مكةَ نريدُ المدينةَ، فلمَّا كنا قَريبًا من عَزْوَزاء نزلَ، ثم رفعَ يديهِ فدَعا الله ساعةً، ثم خَرَّ ساجدًا، فمكثَ طويلًا، ثم قامَ فرفعَ يديه ساعةً، ثم خرَّ ساجدًا، ثم قام فقال: "إني سألتُ ربي، وشفعتُ لأِمَّتِي، فأعطاني ثُلُثَ أُمَّتي، فخرَرْتُ ساجدًا لِربي شكرًا، ثم رفعتُ رأسي فسألتُ ربي لأمَّتي، فأعطاني ثلثُ أمتي فخررتُ ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعتُ رأسِي فسألتُ ربي لأِمَّتي، فأعطاني الثلث الآخِرَ، فخررتُ ساجدًا لربي شكرًا". وروي أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نُغاشِيًا، فسجد شكرًا لله، والنُّغاش: القصير. "عن عامر بن سعد عن أبيه". قوله: "قريبًا من عَزُوْزَاء": - بالعين غير المعجمة وبالزايين المعجمتين والمد -: موضع بين مكة والمدينة، نزل النبيُّ - عليه السلام - في هذا الموضع للدعاء، ولم يكن خاصية هذا البقعة، بل بوحي أوحي إليه في الدعاء، أو لأمر آخر. ودعاؤه لأمته في هذا الموضع وإعطاء الله تعالى إياه جميع أمته بثلاث مرات، ليس معناه أن يكون جميع أمته مغفورين بحيث لا يصيبهم عذاب؛ لأن هذا نقيض لكثير من الآيات والأحاديث الواردة في تهديد آكل مال اليتيم والربا والزاني وشارب الخمر وقتل النفس بغير حق وغير ذلك. بل معناه: أنه سأل أن تخصَّ أمتُهُ من بين الأمم بأن لا تمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب، وغير ذلك من الخواص التي خصَّ الله تعالى أمته - عليه السلام - من بين سائر الأمم. * * *

49 - باب الاستسقاء

49 - باب الاستِسقاء (باب الاستسقاء) مِنَ الصِّحَاحِ: 1061 - عن عبد الله بن زيد قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناسِ إلى المصلَّى يستسقي، فصلَّى بهم ركعتين جهرَ فيهما بالقراءةِ، واستقبلَ القِبلةَ يدعُو، ويرفعُ يديهِ، وَحَوَّلَ رداءَهُ حينَ استقبلَ القبلة. قوله: "فصلى بهم ركعتين" السُّنَةُ أن يصلي الاستسقاء بالجماعة ركعتين كصلاة العيد من غير فرق، ويخطب بعدها خطبتين، إلا أن يبتدئ؛ أي: في الخطبة الأولى للعيد بتسع تكبيرات، وفي الثانية بسبع، وفي الاستسقاء يبدل التكبير بالاستغفار، ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويدعو بدعاء الاستسقاء، ويحول الخطيب رداءه والقوم يوافقونه في تحويل الرداء. والغرض من تحويل الرداء: التفاؤل بتحويل الحال، يعني: حَوِّلْ علينا أحوالَنا رجاءَ أن يُحَوِّل الله العُسْر باليسر، والجَدْبَ بالخصب. وكيفية تحويل الرداء: أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساره، وبيده اليسرى الطرف الأسفل من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره بحيث يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه الأعلى من جانبه اليمين، والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانبه اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يسارًا، واليسار يمينًا، والأعلى أسفلَ، والأسفل أعلى، وهذا عند الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء، ولكن يدعو.

وقال مالك: يصلي ركعتين من غير تكبير كسائر الصلوات. * * * 1062 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يرفعُ يديهِ في شيء من دعائِه إلا في الاستسقاءِ, وإنه ليرفعُ يديهِ حتى يُرَى بياضُ إبطيْهِ. قوله: "لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء"؛ يعني: لا يرفع يديه رفعًا كاملًا حتى تُجاوِزَ يداه وجهه إلا في الاستسقاء؛ فإنه يرفعهما حتى تُجاوِزا رأسه. * * * 1063 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْقى، فأشارَ بظهرِ كفَّيهِ إلى السماءِ. قوله: "فأشار بظهر كَفَّيه إلى السماء" هذا إشارةٌ إلى دفع البلاء والقحط، فمن أراد من الله نعمة؛ فليجعل بطن كفه إلى السماء، ومن طلب دفع بلاء فليجعل ظهر كفه إلى السماء. ويحتمل أن يريد بقلب بطن كفه إلى الأرض: نزول المطر؛ أي: اُصْبُب مطرَ السَّحاب إلى الأرض كما ينصبُّ ماء في الكف إذا جعل بطنه إلى الأرض. * * * 1064 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن النبيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَأَى المطرَ قال: "صَيبًا نافِعًا". قوله: "صَيبًا نافعًا"، (الصيب): المطر؛ يعني: اجعل هذا المطر نافعًا،

ولا تجعله مغرقًا كطوفان نوح - عليه السلام -. * * * 1065 - وقال أنس: أصابنا ونحنُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مطرٌ، قال: فحسَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبَه حتى أصابَه من المطرِ، فقلنا: يا رسولَ الله، لِمَ صنعتَ هذا؟، قال: "لأنه حديثُ عهدٍ بربه". قوله: "حَسَرَ ثوبَه"؛ أي: كَشَفَ ثوبه عن بدنه. قوله: "لأنه حديثُ عهدٍ بربه"؛ أي: جديد النزول من حضرة ربه، وبأمر ربه، فالمطر مبارك، وَمَا لَم يصب الأرض يكون أكثر بركة وطهارة؛ فلهذا أحبَّ - عليه السلام - أن يصيب المطر المبارك الطهور بدنه المبارك الطاهر، وهذا إشارة وتعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة. * * * مِنَ الحِسَان: 1066 - عن عبد الله بن زَيدٍ - رضي الله عنه - قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى فاستَسقَى، وحوَّلَ رداءَه حين استقبلَ القبلَةَ، فجعل عِطافَه الأيمنَ على عاتِقِهِ الأيسرِ، وجعلَ عِطافه الأيسرَ على عاتِقِهِ الأيمنِ، ثم دَعا الله. قوله: "فجعل عِطَافَه"، (العِطَاف) بكسر العين: الرِّداء. "فجعل عِطافَه الأيمنَ"؛ أي: فجعل الجانب الأيمن من عِطافه. * * * 1067 - وعنه أنه قال: استسقَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ خَمِيصَةٌ له سوداءُ، فأرادَ

أن يأخذَ أسفَلَها فيجعلَهُ أعلاها، فلمَّا ثَقُلَتْ عليه قلَبَها على عاتِقَيْهِ. قوله: "وعليه خَمِيصَةٌ"؛ (الخميصة): الكِسَاء الأسود. "فلمَّا ثَقُلَتْ قَلَّبَها على عاتقيه"؛ يعني: فلما عسرت عليه جعل أسفلها أعلاها، وجعل ما على كتفه الأيمن منها على عاتقه الأيسر. * * * 1068 - عن عُمَير مولى آبي اللحمِ: أنه رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عندَ أحجارِ الزَّيتِ، قائمًا يدعُو رافعًا يديهِ قِبَلَ وجهِهِ لا يجاوزُ بهما رأسَه. قوله: "أحْجَارِ الزَّيتِ": موضع بالمدينة قريبًا من الزَّوراء. قوله: "لا يجاوز بهما رأسه"؛ يعني: لا يرفع يديه إلا بمحاذاة وجهه ورأسه، ولا يرفع أكثر من هذا، وهذا خلاف حديث أنس، ولعل هذا كان في مرة أخرى. و"آبي اللحم" بالمد: سمي به؛ لأنه أَبَى أن يأكل اللحم، واسمه: عبد الله ابن عبد الملك استشهد يوم حنين، قيل: لم يروِ عميرٌ هذا الحديث عن رسول الله - عليه السلام -، بل عن مولاه آبي اللحم، ولم يرو آبي اللحم غير هذا الحديث. * * * 1069 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعني في الاستسقاءِ - مُبتذلاً مُتَواضعًا مُتخشِّعًا مُتضرِّعًا. قوله: "مُتَبَذِّلاً"، (التَّبَذُّلُ): الخروج بلباس البذْلَةِ، وهو ما يبذلها ويلبسها الرجل في جميع أيامه غير لباس الزينة، والإبذَالُ مثله؛ يعني: خرج

رسول الله - عليه السلام - بلباس التواضع، لا بلباس الزينة، بخلاف العيد. * * * 1070 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ إذا استسقى: "اللهم اسْقِ عبادَكَ وبَهيمَتَكَ، وانشُرْ رحمَتَكَ، وأَحْيِ بلدَكَ الميتَ". قوله: "وانشُرْ"؛ أي: وابسط. "وأحيي بلدك الميت"؛ أي: أنزل المطر حتى تصيرَ الأرضُ اليابسةُ البيضاءُ من عدم الماء والنبات رطبةً خضراءَ بالنبات والماء. * * * 1071 - وعن جابر بن عبد الله قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُواكِئ يرفع يديه فقال: "اللهم اسقِنا غَيْثًا مُغيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا نافعًا غيرَ ضارٍّ عاجلاً غيرَ آجلٍ"، فأطبَقَتْ عليهم السماءُ. قوله: "يُوَاكِئ"؛ أي: يرفع يديه للدعاء، واتَّكَأ على يديه حتى وجد ثقلاً بيده كمن اتكأ على عصا، وهو من: (واكَأ يواكئ): إذا اتكأ على عصا، هكذا قال الخطابي. "غيثًا"؛ أي: مطرًا. "مغيثًا"؛ أي: مُعِيْنًا (¬1)، وهو قريب من قوله: (نافعًا). "مريئًا"، (المَريء): الطعام الذي يوافق الطَّبع، ولا يحصل منه ضرر؛ يعني: أعطنا مطرًا نافعًا لا يكون فيه ضرر من الإغراق والإهدام. ¬

_ (¬1) في "ق": "مُغْنِيًا".

فصل في صفة المطر والريح

"مَرِيعًا" قال الخطابي: يجوز (مَريْعًا) بفتح الميم وبالياء المنقوط تحتها بنقطتين و (مُربعًا) بضم الميم وبالباء المنقوطة تحتها بنقطة واحدة، فالأول من (مَرُعَ مَرَاعَة): إذا صارت الأرض كثيرة الماء والنبات، و (مَريعًا) هنا: صفة (الغيث)، فكأنه قال: غيثًا مريعًا؛ أي: كثيرًا. والثاني من (أَرْبَعَ): إذا رعى الشاة في الربيع؛ فعلى هذا يكون معناه: غيثًا مربعًا؛ أي محصلًا ومنبتًا للربيع، وهو النبات الذي ترعاه الشاة في فصل الربيع. ويجوز من حيث اللغة: (مُرِيْعًا) - بضم الميم - من (أَرَاعَ يُرِيْع): إذا كثر الشيء، وجعله زائدًا على ما كان، فعلى هذا يكون معناه: غيثًا عاجلًا لنبات كثير. قوله: "فأُطْبقَتْ عليهم السماء" بضم الهمزة وكسر الباء: جُعِلَتِ السماء عليهم كطبق، و (السماء): السحاب، و (أطبق): إذا وضع طبقًا على رأس شيء وغطاه؛ يعني: ظَهَرَ السَّحاب في ذلك الوقت وغطاهم السحاب، جَعَلَ السَّحابَ كطبق فوقهم بحيث لا يرون السماء من السحاب. * * * فصل في صفة المَطَر والرِّيح (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1072 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ". قوله: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهلكَتْ عادٌ بالدَّبُور"، و (الصبا): الريح التي

تجيء من خلف ظهرك إذا استقبلت القبلة، و (الدَّبُور): الريح التي تجيء من قِبَلِ وجهك إذا استقبلت القبلة أيضًا. قصة هذا الحديث: أن قُريشًا وغَطَفان وبني قُريظة وبني النَّضير حاصروا المدينة يوم الخندق، ونزلوا قريبًا من المدينة، فهبَّتْ ريح الصَّبا، وكانت ريحًا شديدة، فقلعت خيامهم، وأراقت أوانيهم وقدورهم، ولم يمكنهم لفرار ثَمَّ، وألقي في قلوبهم الخوف فهربوا. وذلك كان معجزة لرسول الله - عليه السلام -، وفضلاً من الله تعالى على المسلمين. وأما (الدَّبور): فأهلكت قومَ عاد، وكانت قَامَةُ كلِّ واحد منهم اثني عشر ذراعًا في قول، فهبت عليهم الدَّبور، وألقتهم على الأرض بحيث اندقَّتْ رؤوسهم، وانشقَّت بطونهم، وخرجَتْ أحشاؤهم من بطونهم. يعني بهذا الحديث: أن الريح مأمورة تجيء تارة لنصرة قوم، وتارة لإهلاك قوم. رواه: "عبد الله بن عباس". * * * 1073 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أضحى ضاحِكًا حتى أَرَى منه لَهَواتِهِ، إنما كانَ يَتَبَسَّمُ، وكانَ إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِفَ في وجهِهِ. قولها: "أرى منه"؛ أي: من رسول الله عليه السلام. "لَهَواته"؛ (اللهوات): جمع لَهَاة، وهي قعر الفم قريب من أصل اللسان.

"الغيم": السَّحاب. "عُرِفَ في وجهه"؛ أي: ظهر أثر الخوف في وجهه، خاف أن يحصل من ذلك السحاب أو الريح ما فيه ضرر بالناس. * * * 1074 - وقالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصَفَتِ الريحُ قال: "اللهم إني أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَتْ به، وأعوذُ بكَ من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسِلت به"، وإذا تخيَّلت السماءُ تغيَّر لونُه، وخرجَ ودخلَ وأقبلَ وأدبرَ، فإذا مَطَرَت سُرِّيَ عنه، فعَرَفتْ ذلكَ عائشةُ رضي الله عنها فسأَلَتْه؟، فقال: "لعلَّه يا عائشةُ كما قالَ قومُ عادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} ". وفي روايةٍ: ويقولُ إذا رأَى المطرَ: "رحمةً"؛ أي: اجعلْها رحمةً. قولها: "عصفت"؛ أي: هبَّت وجاءت. "تَخَيَّلَتِ السَّماء"، (السماء) هنا بمعنى: السَّحاب، و (تخيَّلَت السحاب): إذا تهيأت للمطر وظهر فيها أثر المطر. قولها: "وخرجَ ودخلَ، وأقبلَ وأدبرَ": هذا الألفاظ عبارات عن عدم القرار من الخوف؛ يعني: من غاية الخوف لحظةً يخرجُ من البيت ولحظة يدخل. قولها: "فإذا مطرت"؛ أي: مطرت السحاب؛ أي: نزل منها المطر. "سُرِّيَ عنه" بضم السين وكسر الراء؛ أي: أُذهب عنه الخوف. "عَارِضًا"؛ أي: سحابًا. "استقبل ذلك السَّحاب أَوديَتِهم"؛ أي: صحاريهم.

" {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} "؛ أي: ظنوا أن هذا السحاب ينزل منه المطر، فظهرت منه ريح فأهلكتهم؛ كما تقدم بحثها في أول هذا الفصل. يعني رسول الله - عليه السلام - بهذا القول: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يأمنَ من عذاب الله تعالى. قوله: "رحمة"؛ يعني: اجعله رحمة ولا تجعله عذابًا. * * * 1075 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية". قوله: "مفاتيح الغيب خمس" قيل: أراد بـ (مفاتيح الغيب): خزائن الغيب، وشرح هذه الآية ذُكر في أول (كتاب الإيمان). * * * 1076 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليست السَّنَةُ بأنْ لا تُمْطَرُوا، ولكنَّ السَّنَةَ أنْ تُمْطَرُوا وتُمْطَروا ولا تُنبتُ الأرضُ شيئًا". قوله: "ليست السَّنة بأن لا تمطروا"، (السَّنَةُ): القحط، (بأن لا تُمطروا)؛ أي: بأن لا ينزل عليكم المطر؛ يعني: لا تظنوا الرزق والبركة من المطر، بل الرزق والبركة من الله تعالى، فربَّ مطرٍ لا يَنبتُ منه شيءٌ. وهذا ليس نهي عن الاستسقاء والاستمطار، بل الاستسقاء والاستمطار سُنَّةٌ، ولكنه نهي عن اعتقاد حصول الرزق بنزول المطر، وعدم حصول الرزق بعدم المطر، بل ليكتسب العبد وليعلم أنَّ الرزق من الله تعالى، وليستمطر وليعلم أنَّ الرزق من الله تعالى. * * *

مِنَ الحِسَان: 1077 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الريحُ من رَوْحِ الله تأْتي بالرحمةِ وبالعذابِ، فلا تَسُبُّوها، وسَلُوا الله من خيرِها، وعُوذُوا بهِ مِن شرِّها". قوله: "الريح من رَوْحِ الله تعالى": ذكر في "شرح السُّنة": أن قوله: (الريح من رَوح الله تعالى)؛ أي: من رحمة الله تعالى، فذكر هذا القدر، واقتصر (¬1) عليه. والريح كيف تكون من رحمة الله تعالى مع أنه تجيء بالعذاب؟ جواب هذا الإشكال: أن الريح إذا جاءت لعذاب قوم؛ فذلك العذاب يكون رحمةً للمؤمنين خلصوا من أيدي الكفار الذين أهلكوا بالريح. ويحتمل أن تكون (الريح) هنا مصدرًا بمعنى الفاعل كـ (عدل) بمعنى (العادل)، وحينئذٍ يكون معناه: من رائح الله؛ أي: من الأشياء التي تجيء من حضرة الله بأمر الله كالمطر والحرارة والبرودة وغير ذلك، فتارة تجيء للراحة بأمر الله، وتارة تجيء للعذاب بأمر الله تعالى، فإذا كان مجيئها بأمر الله، فلا يجوز سَبُّها بأن يَلْحَقَ منها ضررٌ إلى أحد، بل ليتوب ذلك الأحدُ؛ بل جميعُ الناس إلى الله تعالى، ويستعيذون به من عذابه. * * * 1078 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلًا لعنَ الريحَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تَلعنُوا الريحَ، فإنها مأمورةٌ، وإنه مَن لعنَ شيئًا ليسَ له بأهلٍ رجعَتِ اللعنةُ عليهِ"، غريب. ¬

_ (¬1) في "ش" و"ق": "اختصر".

قوله: "رجعت اللعنة عليه"، الضمير في (عليه) يرجع إلى اللاعن هنا، لا إلى قوله: (شيئًا)، وباقي معناه ظاهر. * * * 1079 - وعن أُبيِّ بن كَعْبٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسبُّوا الرِّيحَ، فإذا رأَيتُم ما تَكرهونَ فقولوا: اللهم إنا نسألُكَ من خيرِ هذهِ الريحِ وخيرِ ما فيها وخيرِ ما أُمِرَتْ به، ونعوذُ بكَ من شرِّ هذه الريحِ وشرِّ ما فيها وشرَّ ما أُمِرَت به". قوله: "فإذا رأيتم ما تكرهون"؛ يعني: فإذا رأيتم ريحًا شديدةً تأذيتُمْ بها. * * * 1080 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما هَبَّت ريحٌ قطُّ إلا جَثَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ركبتَيهِ وقال: "اللهم اجعَلْها رحمةً ولا تجعَلها عذابًا، اللهم اجعَلها رياحًا ولا تجعَلها ريحًا". قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: في كتابِ الله - عز وجل -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}، و {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}. قوله: "ما هبت ريحٌ قطُّ إلا جَثَا النبي - عليه السلام - على ركبَتَيْهِ"، (جثا)؛ أي: جَلَسَ على ركبتيه من التواضع، وعرض الخشوع على الله، ومن الفرار من عذاب الله تعالى. قول ابن عباس إنما قاله لتفسير قوله - عليه السلام -: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا"؛ يعني: كل ما كان في القرآن من الريح بلفظ المفرد؛

فهو عذاب نحو: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 19]، و {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، وكل ما كان بلفظ الجمع فهو رحمة نحو: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] و {يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]. (الصَّرْصَرُ): شديد البرد، (العَقِيْمُ): ما ليس فيه خير، (اللَّواقِحُ): جمع لاقِحة، وهي بمعنى مُلَقِّحَة؛ أي: تلقَّح الأشجار؛ أي: تجعلها حاملًا بالثمار، وهذا التفسير ليس بمستقيم؛ لأن في القرآن كثيرًا من الريح بلفظ المفرد، وليس بعذاب نحو قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، فثبت أنه لا فرق بين الريح والرياح، إلا إذا اتصل ذكر رحمة أو ذكر عذاب، وما في معناهما. أما قوله عليه السلام: (اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا) قال الخطابي: إنما قال رسول الله - عليه السلام - هذا؛ لأن الريح لو كانت مرة واحدة لا تلقح السحاب، فلا ينزل المطر، أو ينزل المطر، ولكن يكون قليلًا، وأما لو كانت الرياح كثيرة تُلُقِّحَ السَّحابَ، فيكون مطرها كثيرًا. وقيل: معناه: لا تهلكنا بهذه الريح، وطوِّلْ أعمارنا حتى تمرَّ علينا رياحًا كثيرة؛ فإنك لو أهلكتنا بهذه الريح لكانت هذه الريح ريحًا لا تهُبُّ بعدها علينا ريحٌ أخرى، فتكون ريحًا لا رياحًا. * * * 1081 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَبصرْنا شيئًا من السماءِ - تعني السحابَ - تركَ عملَهُ، واستقبَلَهُ وقال: "اللهم إني أعوذُ بكَ من شرِّ ما فيهِ"، فإن كشَفَهُ الله حَمِدَ الله، وإن مطرَتْ قال: "اللهم سُقْيًا نافعًا". قولها: "إذا أبصرنا شيئًا من السماء ناشئًا"؛ أي: سحابًا، سمي (ناشئًا)

لأنه ينشأ في الهواء؛ أي: يظهر. قولها: "فإن كشفه الله تعالى حَمِدَ الله تعالى"؛ يعني: فإن أذهب الله تعالى ذلك السَّحاب ولم تمطر حمد الله على ذهابه، ولم يحصل منه عذاب، كما خرجت الريح من بين السحاب، وأهلكت عادًا وأخرجت نارًا من ظلمة مثل سحاب، وأحرقَتْ قومَ شعيب. * * * 1082 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ والصَّواعِقِ قال: "اللهم لا تَقْتُلْنا بِغَضَبكَ، ولا تُهلِكنا بعذابكَ، وعافِنا قبلَ ذلكَ". قولها: "إذا سمع صوتَ الرَّعد والصَّواعق"، (الصواعق): جمع (صاعقة)، وهي مثل الرعد، إلا أنه يقال لصوت شديد غاية الشدة يسمع من السحاب: صاعقة، ولصوت أقل من ذلك: رعد. ° ° °

5 - كتاب الجنائز

5 - كِتابُ الجَنَائِزِ

1 - باب عيادة المريض وثواب المرض

[5] كِتابُ الجَنَائِزِ 1 - باب عِيَادة المَريض وثواب المَرَض (كتاب الجنائز) (باب عيادة المريض وثواب المرض) مِنَ الصِّحَاحِ: 1083 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَطْعِموا الجائع، وعُودُوا المَريض، وفُكُّوا العاني". قوله: "وعُودوا المريض"، (عودوا): أمر جماعة المخاطبين، يقال: (عُدْ يا رجل) مثل: (قُل)، و (عُودا) مثل (قولا)، و (عُودوا) مثل (قولوا)، ومصدره العِيَادة، وهي معروفة. "فُكُّوا" بضم الفاء أيضًا: أمر جماعة المخاطبين؛ أي: أعتقوا. "العَاني": الأسير؛ أي: العبد والأمة.

1084 - وقال: "حقُّ المُسلم على المُسلم خمسٌ: ردُّ السلام، وعيادةُ المَريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدَّعوة، وتشميت العاطِس". قوله: "وإجابةُ الدَّعوة"؛ يعني: إذا دعا أحد لضيافة أو معاونة يجيبه ويطيعه في ذلك. "وتشميت العاطس" بالشين والسين: أن يقول لِمَنْ عطس: (يرحمك الله). وردُّ السَّلام فرضٌ على الكفاية؛ يعني: إذا جلس جماعة فسلم عليهم أحد، فإذا ردَّ مِنْ بين الجماعة واحدٌ السلامُ سقطَ الفرضُ عن الباقين. وإن سَلَّمَ على الواحد تعيَّنَ عليه الجواب. "واتِّباعُ الجنائز" أيضًا فرضٌ على الكفاية، وكذلك (إجابة الدعوة) إذا دعاه في النكاح، ولم يكن هناك معصية من زُمُرٍ وغيره. وأما عيادة المريض، وتشميت العاطس إذا قال: (الحمد لله) فسُنَّةٌ. * * * 1085 - وقال: "حقُّ المُسلم على المُسلم سِتٌّ: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأَجبْه، وإذا استنصحك فانصَح له، وإذا عَطَسَ فحمِد الله فشمِّته، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإذا مات فاتَّبعْه". قوله: "فسلِّمْ عليه"، التسليمُ سُنَّةٌ، فإذا سلَّم من بين جماعة أحد يكفي، وقد أدى جميعهم السُّنَّةَ. قوله: "وإذا استَنْصَحَكَ"؛ أي: إذا طلب منك النصيحة، و (النصيحة): وعظ أحد ودلالته على الرُّشد، وإرادة الخير له. * * *

1086 - وقال البَراء بن عازِب: أَمَرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ، ونَهانا عن سبعٍ، أَمَرَنا بعِيادةِ المريض، واتباعِ الجنائزِ، وتشميت العاطِسِ، وردِّ السلام، وإجابةِ الداعي، وإبرار المُقْسِم، ونصر المظلوم، ونهانا عن خاتَم الذهب، وعن الحرير، والإسْتَبْرَق، والدِّيباج، والمِيْثَرة الحمراء، والقَسِّيِّ، وآنيةِ الفضة. وفي روايةٍ: وعن الشرب في الفضة، فإنه مَنْ شَرِب فيها في الدُّنيا، لم يشرب فيها في الآخرة. "وإبرار المُقْسِمِ"، (الإبرار): جعل اليمين صدقًا، و (المُقْسِم) بضم الميم وكسر السين: الحالف، مثال إبرار المقسِم: أن يقولَ زيدٌ مثلًا لعمرو: والله لا أذهبُ حتى تجيء معي، أو حتى تفعل كذا، فالمستحب لعمرو أن يفعل ذلك الفعل إذا لم يكن معصيةً؛ حتى يصير قَسَمُ زيد صدقًا. ويحتمل أن يكون معنى (إبرار المقسم): تصديقه، مثل أن يقول أحد: والله فعلت كذا، أو ما فعلت كذا، فيعتقد كونه صادقًا، ولا يقول: إنه حلف كاذبًا. "الإستَبْرَقُ والدِّيياج": نوعان من الإبريسَم. "المِيْثَرة": وسادة توضع في السَّرج؛ ليكون موضع جلوس الراكب لينًا، فإن كان من الإبريسم حرم الجلوس عليه بأي لون كان، وإن لم يكن من الإبريسَم، فإن كان لونه أحمر فهو منهي عنه؛ لما فيه من الرعونة، وإن لم يكن أحمر فلا بأس به. "القَسِّيِّ" بفتح القاف وتشديد السين والياء: ثياب منسوبة إلى القَس، وهي قرية من ناحية مصر، وكونه منهيًا؛ إما لكونه من الإبريسَم، وإما لكونه أحمر وإن لم يكن من الإبريسَم. قوله: "لم يشرب فيها في الآخرة"؛ يعني: من اعتقد حِلَّها ومات على

هذا الاعتقاد؛ فإنه مات كافرًا، والكافر لا يدخل الجنة، وأما من اعتقد تحريمها؛ فإن هذا الحديث غير متناول له؛ لأن الشُّرب من آنية الذهب والفضة ذنب صغير، ومن أذنب ذنبًا صغيرًا كيف لا يشرب في الجنة من آنية الفضة، بل كل من دخل الجنة يشرب من آنية الذهب والفضة وغير ذلك، بل يكون هذا الحديث؛ لزجر المسلمين وتهديدهم عن الإذناب، وإن كان الذَّنب صغيرًا. * * * 1087 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُسلمَ إذا عاد أخاه المسلم لم يَزَلْ في خُرْفَةِ الجنةِ حتى يرجِعَ". قوله: "لم يزل في خُرْفة الجنة": ذكر في "شرح السنة" في آخر هذا الحديث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله! "وما خُرْفَةُ الجنة؟ قال: جَنَاها". (الخُرْفَةُ) بضمِّ الخاء وسكون الراء: جنى الشجر، وهو الثمرة، وهنا مصدر محذوف، تقديره: في التقاط خُرفة الجنة؛ يعني: عيادة المريض تحصِّل الجنة للذي يعود المريض. * * * 1088 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يقول يومَ القيامة: يا ابن آدم، مرضْتُ فلم تَعُدْني، قال: يا ربِّ، كيف أَعُودُكَ وأنت رب العالمين؟، قال: أَما علمتَ أنَّ عبدي فلانًا مرِضَ فلم تَعُدْه، أما علمتَ أنك لَوْ عُدْتَه لَوَجَدْتَني عنده؟، ابن آدم، استطعمتُكَ فلم تُطعِمني، قال: يا ربِّ وكيف أُطعِمُك وأنت رب العالمين؟، قال: أَما علمتَ أنه استطعَمك عبدي فلانٌ فَلَم تُطْعِمْهُ، أَما علمتَ أنك لو أطعمتَه لَوَجدتَ ذلك عندي؟، ابن آدم: استسقيتُك فلَمْ تُسقِني، قال: يا ربِّ، كيف أسقيكَ وأنت رب العالمين؟، قال: استسقاك

عبدي فلانٌ فلم تَسَقِه، أَما علمتَ أنك لو سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلك عندي". قوله: "وأنتَ ربُّ العالمين"؛ يعني: أنت غنيٌّ ومنزهٌ عن الأمراض والنقصان والحَاجة إلى شيء أو إلى أحد. قوله: "لوجَدْتَني عنده"؛ يعني: لوجدتني حاضرًا بالعلم عنده، ولوجدْتَ ثوابي عند عيادته. قوله: "ابن آدم" التقدير: يا ابن آدم. "استطعم": إذا طلبَ الطعام. * * * 1089 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخَل على أعرابي يعودُه، وكان إذا دخلَ على مريضٍ يعودُه قال: "لا بأْسَ، طَهُورٌ إنْ شاء الله تعالى"، فقال له: "لا بأْسَ، طَهُورٌ إن شاء الله"، قال: كلا بل حُمَّى تفورُ، على شيخٍ كبيرٍ، تُزِيرُه القُبورَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فنَعَمَ إذًا". قوله: "لا بأسَ طَهُور"، (الطَّهُور): هو المطهِّر؛ يعني: ليس في هذا المرض ضرر عليك في الحقيقة؛ لأنه مطهر من الذنوب. قول الأعرابي: "كلا"؛ أي: ليس هذا المرض مُطهرِّي، أو: ليس كما قلتَ: أنه لا بأسَ به، بل فيه بأسٌ شديد؛ لأنه "حُمَّى تَفُور"؛ أي: تَغْلِي في بَدَني كغليان القِدْر، قريبٌ من أن تزيرني القبر، أزَارَ يُزِيْرُ: إذا أذهب أحدًا إلى زيارة أحد. قوله: "فنعم إذًا"؛ يعني: إذًا هذا المرض ليس بمطهِّرٍ لك كما قلتَ، وإنما قال رسول الله - عليه السلام - هذا القول حين غضب برد الأعرابي قوله - عليه السلام -.

وهذا إشارة إلى أن الرجل ينبغي أن يتبرك بقول العلماء وأهل الدين، وأن يعظم أقوالهم، وأن يصدق ما أخبروا به، وأن تطيب نفسه بالمرض والحزن وغير ذلك من المكاره لما به من الثواب. * * * 1090 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منَّا إنسانٌ مَسَحه بيمينه، ثم قال: "أَذْهِبِ البأْسَ ربَّ الناسِ، اشفِ أنت الشَّافي، لا شفاءَ إلا شِفاؤك، شفاءً لا يُغادِر سَقَمًا". قوله: "إذا اشتكى منا إنسانٌ مَسَحَهُ بيمينه"، (اشتكى) بمعنى: أنَّ يَئِنُ أَنينًا؛ يعني: إذا أَنَّ واحدٌ من مرضٍ وضعَ يده اليمنى على جبهته، أو على يده، أو موضع آخر، وقرأ به هذا الدعاء. "لا يُغادر"؛ أي: لا يترك. "سَقَمًا"؛ أي: مرضًا. * * * 1091 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ منه، أو كانتْ به قَرْحَةٌ، أو جَرْحٌ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه: "باسمِ الله، تُرْبَةُ أرضنا بِرِيقَةِ بعضنا ليُشْفَى سَقِيمُنَا بإذن ربنا". قولها: "إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ منه، أو كانت به قَرْحَة أو جُرْح"، (الشيءَ) مفعول (اشتكى)؛ أي: إذا اشتكى مرضًا أو ألم بعض أعضائه. القَرحة والجُرح واحد، ولعل المراد بـ (القَرحة) هنا: ما يخرج على الأعضاء مثل الدُّمَّل، وبـ (الجُرح): ما أصابه من جراحة بالسيف وغيره.

قولها: "قال النبي - عليه السلام - بإصبعه"، (قال) هنا بمعنى: أشار، وهذا الحديث مختصر، وقد جاء في حديث آخر: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلَّ إصبعه بريقه، ووضعه على التراب حتى لزق به التُّراب، ثم رفع إصبعه وأشار إلى ذلك المريض، وقال: "بسم الله، تُرْبَةُ أرضنَا، بِرِيْقَةِ بَعضنَا ... " إلى آخره. (الرِّيْقَةُ والرِّيْقُ): ماء الفم، وهنا: كناية عن المني. وقد جاء في الحديث: أنه - عليه السلام - بصق على كفه، ثم وضع إصبعه عليه وقال: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم خلقتك من هذا"، وأراد به: المني، فكما أنه أشار إلى البزاق وأراد به المني، فكذلك ها هنا: "تربة أرضنا بِرِيْقَةِ بَعْضنَا". أي: صورة كل واحد من بني آدم مخلوقة من التراب المعجون بالمني، وهذا مناجاة مع الله، يعني: يا مَنْ قدر على خلق الإنسان من النطفة اشفِ هذا المريض؛ فإنك قادر على شفائه، وهو هين عليك. قوله: "ليُشْفَى سقيمُنا"؛ أي: فعلت هذا لتشفيَ سقيمَنا، هكذا قرر هذا الحديث بعض الأئمة. * * * 1092 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكَى نفَثَ على نَفْسِه بالمعوِّذات، ومسحَ بيده، فلمَّا اشتكى وَجَعَه الذي تُوفي فيه، كنتُ أنفثُ عليه بالمعوِّذات التي كان ينفثُ، وأمسحُ بيدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويروى: كان إذا مَرِض أحدٌ من أهل بيته نفثَ عليه بالمُعوِّذات. قولها: "إذا اشتكى"؛ أي: إذا مرض.

"نفثَ على نَفْسِهِ بالمعوِّذات"؛ أي: قرأ على نفسه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ونفث الريح على نفسه. حقُّه أن تقول: بالمعوذتين؛ لأنهما سورتان، ولكن تَلَفَّظَتْ بلفظ الجمع؛ إما لأنها أَجْرَت التثنية مجرى الجمع، أو لأنها تعني بالمعوذات: هاتان السورتان وكل آية تشبههما، مثل: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51]، وما أشبه ذلك. قولها: "ومسح عنه بيده"؛ أي: مسح عن ذلك النَّفْث بيده أعضاءَه. وهذا الحديث يدل على أن الرُّقية بكلام الله وبالأدعية سُنَّة، وكذلك النَّفْث عند الرقية سنة. * * * 1093 - وعن عُثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: أنه شكى إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا يجدُه في جسدِه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضع يدَك على الذي يُؤلم من جسَدِك، وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أَعوذ بعزة الله وقُدرته من شرِّ ما أَجِدُ وأحاذِر"، قال: ففعلتُ، فَأذْهَبَ الله ما كان بي. قوله: "يَأْلَمُ من جسدك"، (يألم)؛ أي: يوجع. "ما أَجِدُ" من الوجَع، "وأُحَاذِرُ"؛ أي: وأحترز. * * * 1094 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن جبريلَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، أَشْتكَيْتَ؟، قال: "نعم"، قال: بسم الله أَرقيكَ، من كل شيءٍ يُؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ، الله يَشفيك، بسم الله أَرقيك.

قوله: "أشْتكَيْتَ" أصله: (أاشْتَكَيْتَ) فحذفت الهمزة الثانية التي هو للوصل، ونزلت مكانها الهمزة الأولى التي هي للاستفهام، وهي مفتوحة. * * * 1095 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ ويقول: "إن أباكما - يعني إبراهيم - كان يعوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاق، أُعِيذُكما بكلماتِ الله التامةِ من كلل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة". قوله: "كان النبي - عليه السلام - يُعَوِّذُ الحَسن والحُسين ... " إلى آخره. "إنَّ أبَاكما - يعني إبراهيم - كان يُعوِّذ بها إسماعيلَ وإسحاق، أُعِيذُكُمَا بكَلِمَاتِ الله التَّامَّة من كلِّ شيطان وهَامَّة" هذا لفظه في "المصابيح". وأما في "الصِّحاح"، وفي "شرح السنة" لفظه: "أنَّ رسول الله - عليه السلام - كان يُعوِّذ الحسن والحسين ويقول: أعيذكما بكلمات الله التَّامة من كلِّ شيطان وهامَّة، ومن كل عَيْنِ لامَّة، ويقول: كان إبراهيم يُعوِّذ بها ابنيْهِ إسماعيل وإسحاق - عليهم السلام -". قوله: "بها"؛ أي: بهذه الكلمات، وفي أكثر نسخ "المصابيح": "بهما" على لفظة التثنية، وهذا خطأ من الكاتب. قوله: "بكلماتِ الله التَّامة"؛ أي: ليس فيها نقص؛ لأنها صفات الله تعالى وصفات الله تعالى منزهةٌ عن النقصان، وأراد بـ (كلماتِ الله): أسماء الله وصفاته. قوله: "وهامَّة"، (الهَامَّة): ما له اسم مما يدِبُّ على الأرض كالحية والعقرب وغيرهما. قوله: "ومِنْ كلِّ عينٍ لامَّة"، (اللامَّة): ما يُلم به الإنسان؛ أي: ينزل؛ من

جنون وغيره؛ يعني: ومن عينٍ حاسدةٍ يحصل منها ضرر بالإنسان. * * * 1096 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يُرِدْ الله به خيرًا يُصِبْ منه". قوله: "يُصِبْ": مجزوم؛ لأنه جواب الشرط، و (من) في "مِنْهُ" للتعدية، ومعناه: إلى. ويقال: أصاب زيدٌ من عمرو؛ أي: وصل إليه منه مصيبة وأذى؛ يعني: مَنْ يُرِدِ الله به خيرًا أَوْصَلَ إليه مصيبة؛ ليطهره من الذنوب، وليرفع درجته بتلك المصيبة، و (المصيبة): اسم لكل مكروهٍ يُصيب أحدًا. * * * 1097 - وقال: "ما يُصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همًّ ولا حَزَنٍ، ولا أَذَى ولا غَمٍّ، حتى الشوكةُ يُشاكُها إلا كَفَّر الله بها مِن خطاياه". قوله: "مِنْ وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا همِّ ولا حزنٍ، ولا أذى ولا غم"، (الوَصَبُ): المرض الطويل، و (النَّصَبُ): الأَلم الذي يصيب الأعضاء من جراحة وغيرها، (الهمُّ والحزن والغم): ما يصيبُ القلب من الأَلَم بفوت مال أو موت ولد وغير ذلك، إلا أن الغمَّ أشدُّ، وهو الحزن الذي يُغم الرجل؛ أي: يسترُهُ بحيث يقرب أن يغمى عليه. و (الهمُّ): الحزن الذي يهُمُّ الرجل؛ أي: يُذيبُهُ، و (الحزن) أسهل منهما، وهو الذي يظهر منه في القلب خشونة وضيق، وهو من قولهم: مكان حَزْنٌ؛ أي: خشن. قوله: "حتى الشوكة يُشاكها" يجوز برفع (الشوكة) على أنها مبتدأ،

ويجوز بجرها على أن (حتى) بمعنى الواو العاطفة، أو بمعنى (إلى) التي هي لانتهاء الغاية. قوله: "يُشاكها" فالضمير مفعوله الثاني، والمفعول الأول مُضْمَرٌ قائمٌ مقام الفاعل، والتقدير: حتى الشوكة يشاكها المسلم تلك الشوكة؛ أي: تجرح أعضاؤه بشوكة. * * * 1098 - وقال: "إني أُوعَكُ كما يُوعَك الرجلانِ منكم"، قيل: ذلك لأن لك أجرين؟، قال: "أجل"، ثم قال: "ما من مسلمٍ يُصيبُه أذًى مرضٌ فما سِواه، إلا حطَّ الله سيئاتِه كما تَحُطُّ الشجرةُ وَرَقَها". قوله: "أُوْعَك" علي بناء المجهول، همزته لنفس المتكلم؛ أي: يأخذني الوَعْكُ، وهو الحُمَّى. قوله: "كما يُوْعَكُ رَجُلانِ"؛ أي: أَلَمُ وَعْكِي مِثلا ألمِ وَعْك كلِّ واحد منكم. وهذا الحديث يدل على أن المرض إذا كان أشد يكون الأجر أكثر. * * * 1099 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحدًا الوجعُ عليه أشدُّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 1100 - وقالت: مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين حاقِنَتي وذاقِنَتي، فلا أكَره شدةَ الموتِ لأحدٍ أبدًا بعدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "حَاقِنَتِي وذَاقِنَتِي"، (الحَاقِنة) بالحاء غير المعجمة وبالقاف: التَّرْقُوَة،

و (الذَّاقِنة): طرف الحلقوم؛ يعني: وضع رسول الله - عليه السلام - رأسه على ترقوتي عند النَّزع. قولها: "فلا أكرهُ شدَّةَ الموتِ لأحد"؛ يعني: ظننْتُ شدَّةَ الموت من كثرة الذنوب، وظننتُها من علامة الشَّقاوة وسوء حال الرَّجُل عند الله، وهذا قبل موت رسول الله - عليه السلام -، فلما رأيت شدَّةَ موت رسول الله - عليه السلام - علمت أن شدة الموت ليست بعلامة الشقاوة، ولا بعلامة سوء حال الرجل؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لرسول الله - عليه السلام - شدَّة، بل شدة الموت؛ لرفع الدَّرجة، ولتطهير الرجل من الذنوب، فإذا كان كذلك فلا أكره شدة الموت لأحد بعدما علمْتُ هذا. * * * 1101 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مثَلُ المؤمنِ كمثل الخامَةِ من الزرعِ، تُفَيئُها الرياح، تصرعها مرة، وتَعْدِلها أُخرى حتى يأتِيَه أجلُه، ومثَل المنافقِ كمثَل الأَرْزَةِ المُجْذِيَةِ التي لا يصيبها شيءٌ، حتى يكون انجِعافُها مرةً واحدةً". قوله: "كمثل الخامة من الزرع"، (الخَامَة): الغصنُ الرَّطب من الزرع. "تُفَيئُهَا"؛ أي: تحرَّكها وتميلها. "وتَصْرَعُهَا"؛ أي: تسقطها. "وتَعْدِلُهَا"؛ أي: وتقيمها؛ أي: تسقطها الرياح من جانب اليمين إلى جانب اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. قوله: "حتى يأتيه أجله"؛ يعني: يصيب المؤمن أنواع المشقة من الجوع والخوف والمرض وغير ذلك حتى يموت، وكل ذلك من أثر السعادة بحصول الثواب له.

"الأَرْزَة" بفتح الهمزة وسكون الراء: شجرة الصَّنوبر، والصنوبر ثمره، وهو شجرٌ صلب شديد الثبات في الأرض، وبفتح الهمزة والراء: شجر الأَرْزَن، وهو شجر صلب أيضًا يجعل منه السَّوط، والرواية الأولى أصح في الحديث. "المُجْذِيَة": اسم فاعل من (أَجْذَى) بالجيم والذال المعجمة: إذا ثبت في الأرض. "لا يصيبُها شيءٌ"؛ أي: لا يحرَّكها ولا يسقطها. "الانجعاف": الانقلاع (¬1)، يعني: لا يصيبُ المنافقَ مرضٌ وألمٌ، حتى يموت كيلا يحصل له ثواب. * * * 1102 - وقال: "مَثلُ المؤمنِ كمثَلِ الزرعِ لا تزالُ الريح تُميلُه، ولا يزالُ المؤمنُ يُصيبه البلاءُ، ومثل المنافقِ كمثل شجرة الأَرْزة، لا تَهْتَزُّ حتى تَسْتَحْصِدَ". "لا تَهْتَزُّ"؛ أي: لا تتحرك. "حتى تُسْتَحْصَد"؛ أي: حتى يدخل وقت حصاده؛ يعني: لا يصيب المنافقَ ألمٌ حتى يموت. * * * 1103 - وقال جابر - رضي الله عنه -: دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أُم السَّائبِ فقال: "ما لَكِ تُزَفْزِفين؟ "، قالت: الحُمَّى، لا بارَكَ الله فيها، فقال: "لا تَسُبي الحُمَّى، فإنها تُذهِبُ خَطايا بني آدم كما يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ" ¬

_ (¬1) في "ش" و"ق": "الانقلاب".

قوله: "الكِيْرُ": شيءٌ ينفخُ فيه الحَدَّاد في النار؛ ليزول خبث الحديد عن الحديد؛ يعني: الحُمَّى تطهر بني آدم من الذنوب كما يطهر الكِيرُ الحديدَ من الخبث. * * * 1104 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرَض العبدُ أو سافر كُتِبَ له بمثلِ ما كان يعملُ مقيمًا صحيحًا". قوله: "كتب له بِمثلِ ما كان يعملُ مقيمًا صحيحًا"؛ يعني: إذا فات منه عمل صالح بسبب المرض أو المسافرة أو شغل طاعة أو مباح، أعطاه ثواب ذلك العمل؛ لأنه معذور في فَوت ذلك العمل، وهذا في غير الفرائض، أما الفرائض لا عذر في فوتها إلا الصوم في السفر والمرض، فإنه يجوز أن يفطر بشرط القضاء. روى هذا الحديث: "أبو موسى". * * * 1105 - وقال: "الطاعون شهادةُ كلِّ مسلم". قوله: "الطَّاعون شهادة كل مسلم" رواه أنس. (الطَّاعون): الموت من الوَبَاء، و (الوباء): الموت العام، والمرض العام؛ يعني: مَنْ مات بالطاعون فهو شهيد. * * * 1106 - وقال: "الشهداءُ خمسةٌ: المطعونُ، والمبطونُ، والغريقُ، وصاحبُ الهَدْم، والشهيدُ في سبيلِ الله".

"المَطْعُون": مَنْ مات بالطَّاعون. "والمَبْطُون": من مات بوجع البطن. روى هذا الحديث: "أبو هريرة". * * * 1107 - وقال: "ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكثُ في بلده صابرًا محتسِبًا، يعلم أنه لا يصيبُهُ إلا ما كَتَبَ الله له إلا كان له مثلُ أجرِ شهيدٍ". "صابرًا"؛ أي: يصبر على الإقامة في ذلك البلد مع القدرة على الخروج. "محتسبًا"؛ أي: طالبًا للثواب، لا لحظِّ مال، أو غرض آخر، وإنما يحصل له الثواب بالإقامة في ذلك البلد لأنه توكل على الله، ودرجةُ المتوكل أرفعُ الدرجات. * * * 1108 - وقال: "الطاعونُ رِجزٌ أُرسِل على طائفةٍ من بني إسرائيل، أو على مَن كان قبلكم، فإذا سمعتُم به بأرض فلا تَقدُموا عليه، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فِرارًا منه". "رِجْزٌ"؛ أي: عذاب. قوله: "أرسل على طائفة من بني إسرائيل": هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سُجَّدًا، فخالفوا ما أمرهم الله تعالى، فأرسل الله عليهم الطَّاعون، فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفًا من شيوخهم وكبرائهم. أراد بـ (الباب): باب القبة التي صلى إليها موسى - عليه السلام - ببيت المقدس، وأراد بقوله: (سجدًا): منحَنِيْنَ متواضعين.

قوله: "فلا تقدموا عليه"؛ يعني: إذا سمعتم أن الطاعون وقع ببلد فلا تدخلوا ذلك البلد، وهذا إشارة إلى أن الرجل لا يجوز له أن يوقِعَ نفسه في موضع يكون فيه الهلاك. قوله: "فلا تخرجوا فرارًا منه"؛ يعني: إذا وقع الطاعون وأنتم فيه فاصبروا وتوكلوا ولا تفروا، هذا إشارة إلى أن العذاب إذا نزل بقوم وأنت فيهم، فاصبر ولا تهرب من بينهم، فإن العذاب لا يدفَعُهُ الهرب، وإنما يدفعه الاستغفار والتوبة؛ ليظن كل واحد من أولئك أن العذاب نزل على هؤلاء بشؤم ذنبه، وليستغفِر الله وليَتُبْ إليه. * * * 1109 - وقال: "إن الله تعالى قال: إذا ابتلَيتُ عَبْدي بِحَبيْبَتَيْهِ ثم صَبَرَ، عَوَّضْتُه منهما الجنةَ" يُريد: عينَيه. قوله: "إذا ابتليت عبدي بِحَبيْبَتَيْهِ ثم صَبَرَ عوضتُهُ منهما الجنة"؛ يعني: إذا أذهبْتُ عينيه ورضيَ بحكمي ولم يَجْزَع. * * * مِنَ الحِسَان: 1110 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن مسلمٍ يعودُ مسلمًا غُدوةً إلا صلى عليه سبعونَ ألفَ ملَكٍ حتى يُمْسِيَ، ولا يعودُه مساءً إلا صلى عليه سبعونَ ألف ملَكٍ حتى يُصْبحَ، وكان له خريفٌ في الجنة". قوله: "له خَريف في الجنة"، (الخَريف): البستان. * * *

1111 - وقال زيد بن أَرقَم: عادني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من وجعٍ كان بعينيَّ. قوله: "عادني النبي - عليه السلام - مِنْ وَجَعٍ كان بعيني"، وهذا يدلُّ على أنَّ مَنْ به وَجع يجلس لأجله في بيته، ولم يقدر أن يخرج = عيادتُهُ سُنَّةٌ. * * * 1112 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن توضأ فأَحسنَ الوضوءَ، وعادَ أخاه المسلمَ محتسِبًا؛ بُوعِدَ من جهنم مسيرةَ ستينَ خريفًا". قوله: "فأحسنَ الوضوء"، ولعل الحكمة في الوضوء هنا: أن العيادة عبادة، وأداء العبادة على الوضوء أكمل، وإن كانت عبادةً ليس الوضوء فيها فرضًا كقراءة القرآن من الحفظ، والجلوس في المسجد. قوله: "ستين خريفًا"؛ أي: ستين سنة، (الخريف): وقت الخَرْفِ، وهو قطع الثِّمار، سمي الكل باسم البعض. * * * 1114 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُعلِّمهم من الحُمَّى ومن الأَوجاع كلِّها أن يقولوا: "بسم الله الكبيرِ، أعوذ بالله العظيمِ، من شر كلِّ عِرْقٍ نعَّارٍ، ومن شر حَر النارِ"، غريب. قوله: "عِرْقٍ نعَّارٍ": (العِرْق النَّعَّار): الذي يفورُ ويغلي دمه؛ يعني: غلبة الدم في البدن تولد الدَّاء، فليتعوذ منه الرجلُ بالله تعالى. * * * 1115 - عن أبي الدَّرداء أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ

اشتكى منكم شيئًا أو اشتكاه أخٌ له فليقلْ: ربنا الله الذي في السماء تقدَّسَ اسمك، أَمرُك في السماء والأرضِ، كما رَحَمْتُكَ في السماء، فاجعل رحمتَك في الأرض، اغفرْ لنا حُوْبنا وخطايانا، أنت ربُّ الطَّيبينَ، أنْزِلْ رحمةً من رحمتِكَ وشِفاءًا من شِفائك على هذا الوجَعِ، فيبرأَ". قوله: "أو اشتكاه أخٌ له"، الضمير في (اشتكاه) يرجع إلى (شيئًا) الذي تقدم ذكره. "ربنا" مبتدأ، و"الله" خبره، و"الذي" مع صلته: صفته. قوله: "في السماء": هذا إشارة إلى علوِّ الشأن والرفعة لا إلى المكان؛ لأنه تعالى متنزه عن المكان. "تقدس اسمك"؛ أي: تَطَهَّرَ اسمك عما لا يليق بك. "الحُوب": الذنب. قوله: "أنت ربُّ الطَّيبيْنَ"؛ أي: أنت ربُّ الذين اجتنبوا عن الأفعال والأقوال القبيحة كالشرك والفسق، وهذا إضافة التشريف؛ أي: أنت مُحبُّ الطَّيبين. * * * 1116 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء الرجلُ يعودُ مريضًا فليقلْ: اللهم اشفِ عبدَك يَنْكَأُ لكَ عَدُوًّا أو يمشي لك إلى جَنازةٍ". قوله: "يَنْكَأ لك عدوًا"، نَكَأَ يَنْكَأُ: إذا جَرَحَ، (ينكأ) مجزوم؛ لأنه جواب الأمر، ويجوز أن يكون مرفوعًا تقديره: اللهم اشف عبدك، (فإنه ينكأُ عدوك)؛ أي: يغزو في سبيلك.

قوله: "أو يمشي" جاء بإثبات الياء، وتقديره: أو هو يمشي. * * * 1117 - وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، وعن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، فقالت: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "هذه معاتَبةُ الله العبدَ بما يُصيبهُ من الحُمَّى والنَّكبةِ، حتى البضَاعَةِ يضعُها في يدِ قميصِهِ فيفقِدُها فيفزعُ لها، حتى إن العبدَ ليَخرجُ من ذنُوبهِ كما يخرجُ التِّبْرُ الأحمرُ من الكِيرِ". قوله: " {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} "؛ يعني: إن تُظهروا ما في قلوبكم من السوء وعملتم به. " {أَوْ تُخْفُوهُ} "؛ يعني: أو تسرُّوه؛ يعني: ما جرى في خواطِرِكُم من قَصْدِ الذنوب. " {يُحَاسِبْكُمْ} "؛ أي: يجازيكم به الله، ولكن جزاؤه ما يصيب الرجل من الحُزن والمرض، وغير ذلك، هذا قول عائشة. وفي قولٍ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ودَفْعُ ما جرى في الخَاطر ليس بمقدور الإنسان. قوله: "هذه معاتبةُ الله العبدَ"، (المعاتَبَة): جريان العِتَابِ بين صديقين، و (العتاب): أن يُظهِرَ أحد الخليلين من نفسه الغضب على خليله؛ لسوء أدبٍ ظهر منه مع أن في قلبه محبته. يعني: ليس معنى الآية: أن يعذبَ الله المؤمنين بجميع ذنوبهم يوم القيامة، بل معناها: أنه يلحقهم بالجُوَّع والعطَّش والمرَّض والحزَّن، وغير ذلك من المكاره، حتى إذا خرجوا من الدنيا صاروا متطهرين من الذنوب؛ لأن مكاره

الدنيا تكون كفارةً لذنوب المؤمنين. "النَّكبة": المحنة والأذى. قوله: "حتى البضَاعَةُ"؛ يعني: حتى لو وضع هنا متاعًا في كُمِّه وسقط، فيحزن لأجل ضَياعه، يكون ذلك كفارة. "يد القميص"؛ أي: الكم. "الفقدان": ضد الوجدان. "يفزع"؛ أي: يحزن ويخاف. "التِّبْرُ": الذهب الخَالص. وفي أكثر نسخ "المصابيح": "متابعة الله العبد" وهذا خطأ من الكاتب؛ لأنه لم يُذكر هذا اللفظ في "الصحاح" ولم يحْسُن معناه هنا. * * * 1118 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصيبُ عبدًا نَكْبَةٌ فما فوقها أو دونَها إلا بذنبٍ، وما يعفو الله عنه أكثرُ، وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ". قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]؛ يعني: كلُّ مصيبة لحقتكم في الدنيا، تكون بسبب ذنوبكم، وتكون كفارةً لذنوبكم. " {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} "؛ يعني: يعفو عن كثير من ذنوبكم، ولم يجازيكم بها لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فضلًا منه تعالى ورحمة. * * *

1119 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا كان على طريقةٍ حسنةٍ من العبادةِ ثم مَرِضَ قيل للملك المُوَكَّلِ به: اكتبْ له مثلَ عملهِ إذا كان طليقًا حتى أُطلِقَهُ أو أَكْفِنَهُ إليَّ". وفي روايةٍ: "فإن شفاه غسَّله وطهَّره، وإنْ قبضَه غفرَ له ورَحِمه". قوله: "كان طليقًا"، (الطَليق): بمعنى المطلَق، إذا كان صحيحًا، وهو مفعول من (أطلق): إذا خَلَّى أحدًا، ورفع عنه القيد. (إذا كان طليقًا)؛ أي: إذا كان صحيحًا؛ يعني: اكتب له من الثَّواب في المرض بقدر ما كنتُ أكتبُ له في حال الصِّحة. "حتى أطلِقَهُ"؛ أي: أرفع عنه المرض. "وأكفته"؛ (الكَفْتُ): الجمع والضم؛ أي: حتى أميته. قوله: "غسله"؛ أي: غسله من الذنوب. "وإن قبضه"؛ أي: وإن أماته. * * * 1120 - وقال: "الشهادةُ سبعٌ سوى القتلِ في سبيلِ الله: المطعونُ شهيدٌ، والغريقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شهيدٌ، والمَبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريق شهيدٌ، والذي يموتُ تحتَ الهَدْمَ شهيدٌ، والمرأة تموت بجُمْعٍ شهيدٌ". قوله: "ذات الجَنْبِ": مرض معروف، وهو وَجَع الجَنْبِ. "وصاحبُ الحريق": الذي أحرقته النار. قوله: "المرأة تموت بِجُمْعٍ" بضم الجيم وسكون الميم؛ أي: التي تموت عند الولادة، ولم يخرج ولدها، ومن ماتَتْ عقيب الولادة بوجع الولادة لها

هذا الثواب أيضًا. * * * 1121 - وعن سعد - رضي الله عنه - قال: سئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟، قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على حَسَبِ دينِهِ، فإنْ كانَ في دينِه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإنْ كانَ في دينِه رِقَّةٌ هُوِّنَ عليه، فما زال كذلك حتى يمشيَ على الأرضِ ما لَهُ ذنبٌ"، صحيح. قوله: "ثم الأمْثَلُ فالأَمْثَلُ"؛ (الأمثل): الأصلح؛ يعني: مَنْ هو أقرب إلى الله تعالى يكون بلاؤه أشد؛ ليكون ثوابه أكثر، فأقرب الناس إلى الله الأنبياء، ثم الأولياء، ثم من أصلح واتقى. "صلبًا"؛ أي: شديدًا. "الرِّقة": الضَّعف. "هُوِّن" بضم الهاء وكسر الواو؛ أي: سُهِّلَ وقُلِّلَ عليه البلاء؛ ليكون ثوابه أقل. قوله: "فما زالَ كذلك"؛ يعني: أبدًا يصيب الصالحَ البلاءُ، ويغفر ذنبه بسبب البلاء، حتى يصيرَ بِلاَ ذنب. * * * 1122 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما أَغْبطُ أحدًا بِهَوْنِ الموتِ بعدَ الذي رأيتُ من شِدَّةِ موتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قولها: "ما أَغْبطُ أحدًا بِهَوْنِ موت ... " إلى آخره. الهمزة في (ما أغبط) للمتكلم؛ أي: ما أفرحُ بسهولة موت أحد، وما أتمنى سهولة الموت، بل أتمنى شدة الموت، كما كان لرسول الله - عليه السلام -؛ ليكثر ثوابي.

(الهَون) بفتح الهاء: السهولة. * * * 1123 - وقالت: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالموتِ وعندهُ قَدَحٌ فيه ماءٌ وهو يُدْخِلُ يدَه في القَدَحِ ثم يمسحُ وجهه، ثم يقول: "اللهم أعنِّي على منكراتِ الموت - أو سكَرات الموتِ". "المُنْكَرَات": جمع مُنْكَرَة، والمُنْكَر والمُنْكَرَة: الشدة. "السَّكرات": جمع سَكْرَة، وهي شدة الموت. * * * 1124 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرادَ الله بعبدهِ الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشرَّ أمسكَ عنه بذنبهِ حتى يوافيَه به يومَ القيامةِ". قوله: "إذا أراد الله بعبده الخير عَجَّل له العقوبة ... " إلى آخره. أي: ابتلاه الله تعالى بالمكاره حتى تكون تلك المكاره كفارةً لذنوبه حتى إذا وصل إلى القيامة لم يبقَ له ذنب. قوله: "أمسَكَ عنه بذنبه"؛ أي: أخر عنه العقوبة بذنبه في الدنيا. "حتى يوافيه"؛ أي: حتى يجازيه. "به"؛ أي: بذنبه. * * * 1125 - وقال: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ الله - عز وجل - إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فَلَهُ السُّخطُ".

قوله: "إنَّ عِظَمَ الجزاء"؛ أي: إنَّ كثرةَ الثَّواب تحصلُ بوصول كثرة البلاء إلى الرجل. "فمن رضي فله الرضا"؛ أي: فَمَنْ رضيَ بالبلاء وصبرَ عليه، يحصل له رضا الله تعالى. "ومن سخط"، أي: ومَنْ كَرِهَ البلاءَ وجزع، ولم يرضَ بحكم الله، يحصل له سخط الله وغضبه، والسخط من العبد: يتعلق بالقلب لا بالأنين باللسان. فكم من رجل له أنين مِنْ شدَّةِ المرض، وفي قلبه الرضا والتسليم بأمر الله، فلا تَقُلْ عَمَّنْ (¬1) سمعته يئن: إنه غير صابر؛ لأن الرضا والسخط محلهما القلب، وأنت لا تطلع على قلب أحد. * * * 1126 - وقال: "لا يزالُ البلاءُ بالمؤمن أو المؤمنة في نفسِه ومالِه وولدِه، حتى يَلْقَى الله وما عليهِ من خطيئةٍ"، صحيح. قوله: "حتى يلقى الله": أي: حتى يموت، وقد زال ذنبه في الدنيا بسبب البلاء. * * * 1127 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبدَ إذا سَبَقَتْ له من الله منزلةٌ لم يبلغْها بعملِهِ ابتلاه الله في جسدِهِ، أو في مالِهِ، أو في ولدِهِ، ثم صبَّرَه على ذلك، حتى يُبَلِّغَهُ ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش" و"ق": "من".

المنزلةَ التي سبقتْ له من الله". قوله: "سبقت له من الله منزلة"؛ يعني: إذا قَدَّرَ الله تعالى لعبدٍ منزلةً ودرجةً رفيعة، ولم يقدر ذلك العبدُ أن يبلغَ تلك المنزلة بالعمل الصالح، أصابَهُ الله تعالى ببلاء، ورزقَهُ صبرًا على ذلك البلاء حتى يبلغَ تلك المنزلة بما حصل له من ثواب ذلك البلاء وصَبْرٍ عليه. * * * 1128 - وقال: "مثَلُ ابن آدمَ وإلى جنبهِ تسعةٌ وتسعونَ منيَّةً، إنْ أخطأَته المَنايا وقعَ في الهَرَمِ حتى يموتَ"، غريب. قوله: "وإلى جنبه تِسع وتسعون مَنيةً"؛ (الجَنب): الأمر والشأن، (المَنِيَّة): تقدير الموت وسببه. "إن أخطاء": إذا جاوز. يعني: لابن آدم تسع وتسعون سبب موت، مثل: المرض، والجوع، والغرق، والهدم، ولدغ الحية والعقرب، وغير ذلك، فإن لم يلحقه شيء من تلك الأسباب لا يخلص من الهرم، وهو داء لا دواء له. يعني بهذا الحديث: أن ابن آدم لا يطيب عيشه في الدنيا، بل عيش الإنسان مَشُوب بالغُصَصِ في الدنيا، ولكن يحصل له بكل غُصَّةٍ ثوابٌ. روى هذا الحديث: "عبد الله بن الشَّخَّير". * * * 1129 - وقال: "يَوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثوابَ، لو أنَّ جلودَهم كانتْ قُرِضَتْ في الدنيا بالمقاريضِ"، غريب.

"يود أهل العافية ... " إلى آخره. يعني: إذا رأى الذين لم يكن لهم في الدنيا بلاء أنَّ الذين كان البلاء عليهم كثيرًا يعطون ثوابًا كثيرًا، تمنوا وقالوا: يا ليتَ جلودنا "قُرِضَتْ"؛ أي: قُطَّعَتْ "بالمقاريض" قطعةً قطعةً، حتى وَجَدْنَا اليومَ نحن أيضًا ثوابًا، كما وَجَدَ أهل البلاء الثواب. روى هذا الحديث: "جابر بن عبد الله". * * * 1130 - عن عامر الرَّامِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا أصابَهُ السَّقَمُ ثم عافاه الله كانَ كفارةً لِمَا مضى من ذُنوبهِ، وموعظةً له فيما يستقبل، وإنَّ المنافقَ إذا مَرِضَ ثم أُعْفِيَ كانَ كالبعير عَقَلَهُ أهلُهُ ثم أرسلوهُ فلم يدرِ لِمَ عقلُوه ولِمَ أرسلوهُ". قوله: "كالبعير عَقَلَهُ أَهْلُهُ"، (عَقَلَهُ)؛ أي: شَدَّه؛ يعني: المؤمن مَنْ إذا أصابه مرض يحصل له تنبهٌ واعتبار، فيتوب عن الذنوب، والمنافق لا يتعظ ولا يتوب، فلا يكون مرضه مفيدًا له لا في الزمان الماضي ولا في المستقبل. و"عامر الرَّام"، قيل: عامر الرامي، أخو الخُضَر، والخُضَر قبيلة، ولم يعرف اسم أبيه. * * * 1131 - عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلتم على المريضِ فنفِّسُوا له في أجلِه، فإن ذلك لا يردُّ شيئًا ويُطَيبُ نفسَه"، غريب.

2 - باب تمني الموت وذكره

قوله:"فَنَفِّسُوا له في أجله"، (نفِّسوا)؛ أي: أذهبوا حزنَه فيما يتعلق باجله بأن تقولوا: طوَّل الله عمرك، ولا تخف، فإنه لا بأس عليك، وسيشفيك الله، وما أشبه ذلك. فإن دعاءَكم "لا يردُّ شيئًا" من قدر الله تعالى؛ يعني: لا يردُّ الموتَ عنه، ولكن يطيب قلبه ونفسه بدعائكم. * * * 1132 - وقال: "مَن قَتَله بطنُه لم يُعَذَّبَ في قبرِه"، غريب. قوله: "من قتلَهُ بطنُهُ لم يُعذَّب"؛ يعني: مَنْ مات لوجع البطن لم يعذَّب في القبر، ولعل سببه: أن وجع البطن شديد يكون كفارة لذنوبه، فلا يكون له عذاب في القبر. روى هذا الحديث: "سليمان بن صُرَد"، والله أعلم. * * * 2 - باب تمنِّي المَوت وذِكْره (باب تمنَّي الموت وذكره) مِنَ الصِّحَاحِ: (مِنَ الصِّحَاحِ): 1133 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنَّى أحدكم الموتَ، إما مُحسِنًا فلعلَّه يزدادَ خيرًا، وإما مُسيئًا فلعله أن يستَعْتِب".

"لا يتمنَّى": نفي بمعنى النهي، وفي بعض النسخ: "لا يتمنَّيَنَّ" وهو صحيح في المعنى، ولكن لم نسمعه في الرواية، والنهي عن تمني الموت إنما كان إذا تمنى الرجل الموتَ من ضُرٍّ أو مكروه أصابه. وإنما نهى الرجل عن تمني الموت؛ لأن الحياة حكم الله تعالى عليه، وطلب زوال الحياة عدم الرضا بحكم الله تعالى، فإن كان تمني الموت لخوف الدِّين جاز، وليقل: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وأمتني ما كان الموت خيرًا لي". قوله: "إما محسنًا"، (ما) زائدة؛ يعني: إن كان محسنًا، ويروى: "محسنٌ" بالرفع، وتقديره: إن كان رجل محسن في عمله؛ فـ (محسن) صفة رجل. قوله: "أن يَسْتَعْتِبَ"؛ أي: أن يتوبَ من الذنوب، (استعتب): إذا طلب إعتاب أحد، و (الإعْتَابُ): زوال الغضب والمصالحة. * * * 1134 - وقال: "لا يتمنَّى أحدُكم الموتَ، ولا يَدْعُ به من قبْلِ أنْ يأتيَهِ، إنه إذا مات انقطع عملُه، وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عُمْرُهُ إلا خيرًا". قوله: "ولا يَدع به": في أكثر نسخ "المصابيح": "ولا يَدْعُ" بحذف الواو على أنه نهي، وهذا غير مستقيم؛ لأنه قبله: (لا يتمنى) بإثبات الياء على أنه نفي، فإذا كان (لا يتمنى) بإثبات الياء، فكذلك ليكن: (ولا يدعو) بإثبات واو لام الفعل. وهكذا في "شرح السنة": الياء في (لا يتمنى)، والواو في (ولا يدعو) مثبتتان، ولعل حذف الواو في: (ولا يدع) في نُسَخِ "المصابيح" سهوٌ من الكاتب. * * *

1135 - وقال: "لا يتمنَّيَنَّ أحدكم الموتَ من ضُرٍّ أَصابَه، فإنْ كان لا بُدَّ فاعلًا فليقلْ: اللهمَّ أحيني ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي". قوله: "فإن كان لا بُدَّ فاعلًا"؛ يعني: إن كان لا بدَّ يريد أن يتمنى الموت. * * * 1136 - وقال: "مَنْ أحبَّ لِقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لقاءَ الله كرِهَ الله لقاءَهُ، والموتُ قبلَ لقاءَ الله، فقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنا لنَكْرَه الموتَ؟، قال: "ليس ذلكِ!، ولكنَّ المُؤمنَ إذا حضَرهُ الموتُ بُشِّرَ برِضوانِ الله وكَرامَتِهِ، فليسَ شيءٌ أحبَّ إليه مما أَمامَه، فأحبَّ لقاءَ الله وأحبَّ الله لقاءَهُ، وإن الكافر إذا حُضره بُشِّرَ بعذابِ الله وعقوبتِه، فليس شيءٌ أكْرَهَ إليه مما أمامَه، فكرِهَ لقاءَ الله وكرِهَ الله لقاءَهُ". قوله: "لقاءَ الله"؛ أي: الوصول إلى الله تعالى؛ يعني: الانتقال من الدنيا إلى الآخرة. "أحبَّ الله لقاءه"؛ أي: وصوله إليه تعالى. وشرح هذا: ما قاله رسول الله - عليه السلام - في جواب عائشة كما يأتي. "والموتُ قبلَ لقاءِ الله تعالى"؛ يعني: لا يمكن رؤية الله تعالى قبل الموت، بل بعده، ومَنْ قال: إني رأيت الله بالعين الباصرة قبل الموت غير نبينا محمد - عليه السلام - فقد كذب؛ لأنه ليس لأحدٍ لم يكن نبيًا أن يكون، أعزَّ على الله تعالى من نبي. وموسى بن عمران - مع عِظَمِ شأنه - طلبَ من الله الكريم أن يراه فأجابه

تعالى بقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فإذا لم يَرَ موسى عليه السلام، فكيف يراه من ليس بنبي، وأما نبينا - عليه السلام -؛ فإنه رأى الله تعالى حين عرج به إلى حيث شاء الله تعالى، ورآه. ثَمَّ في قول ابن عباس - وهو الأصح - وثم ليس من الدنيا. وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يَرَ رسولُ الله - عليه السلام - ربَّه. قوله: "ليسَ ذلك"؛ يعني: ليسَتْ كراهةُ الموت كما تظنين، يا عائشة! بل المؤمنون يكرهون الموت في حالة الصِّحة وفي المرض قبل حضور ملك الموت بهم، وكراهيتهم الموت؛ لخوف شدة الموت، وليس لكراهة انتقالهم من الدنيا إلى الآخرة، بل إذا رأى المؤمنُ مَلَكَ الموتِ بُشِّرَ المؤمن في ذلك الوقت بما له عند الله من المنزلة والكرامة، فيزول حينئذ خوفه، ويشتدُّ حرصه بسرعة قَبْض روحه؛ ليصل إلى ما له عند الله من الكرامة، وأما الكافر فحاله بعكس هذا. * * * 1137 - وقال أبو قَتادة - رضي الله عنه -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازةٍ قال: "مُستريحٌ أو مُستَراحٌ منه"، قالوا: يا رسول الله!، ما المُستريحُ وما المُستَراحُ منه؟، قال: "العبدُ المُؤمنُ يستريح من نصَبِ الدُّنيا وأَذاها إلى رحمةِ الله، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدَّوابُّ". قوله: "ما المستَرِيح وما المُسترَاح منه؟ "، (المستريح): الذي وجد الرَّاحة، و (المُستراح منه): الذي خلصَ الناس من شرِّه، واستراحوا من ظلمه؛ يعني: إن كان هذا الميت صالحًا، فقد خَلَصَ من نَصَبِ الدنيا، وإن كان فاجرًا، فقد خَلَصَ الناس من شرِّه، وكذلك الدواب والأشجار والأرض خَلَصَتْ من

شره؛ لأن الفاجر تبغضه وتتأذى منه الأرض وما فيها. * * * 1138 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمِنْكَبي فقال: "كُن في الدُّنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، وكان ابن عمرَ يقول: إذا أَمسيتَ فلا تَنْتَظِر الصَّباح، وإذا أصبحتَ فلا تَنْتَظِر المَساءَ، وخُذْ من صِحَّتِكَ لمرضكَ، ومن حياتِكَ لموتِك". قوله: "عابرُ سبيل"؛ أي: مسافر؛ يعني: لا تَمِلْ إلى الدنيا؛ فإنك مسافر ستسافر إلى الآخرة، فلا تتخذ الدنيا وطنًا. قوله: "وخُذْ من صِحتكَ لمرضك"؛ يعني: اغتنم الصِّحة وبالغ في العمل الصالح في حال الصِّحة عملًا كثيرًا، يكون ذلك العمل خيرًا لِمَا فات عنك بلا عمل في حال المرض. "وخذ من حياتك لموتك"؛ يعني: خذ في حال الحياة زادَ الآخرة، وزادُ الآخرة العمل الصالح والتقوى. * * * 1139 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله". قوله: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله" رواه جابر. يعني: ليكن الرجل عند الموت رجاؤُهُ غالبًا على خوفه، وليظنَّ أن الله تعالى كريم سيغفر له ذنبه، وإن كان عظيمًا، هذا في حال المرض: وأما في الصحة ليكن خوفه غالبًا على رجائه؛ ليحذر من الذنوب. * * *

مِنَ الحِسَان: 1140 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ شئتُم أَنبأتُكم ما أولُ ما يقولُ الله للمؤمنينَ يومَ القيامةِ، وما أولُ ما يقولونَ له؟ "، قلنا: نعم يا رسول الله!، قال: "إنَّ الله تعالى يقولُ للمؤمنين: هل أَحْبَبْتُم لقائي؟، فيقولون: نعم، يا ربنا، فيقولُ: لِمَ؟، فيقولون: رَجَوْنا عَفْوَك ومغفرتَك، فيقولُ: قد وجبتْ لكم مغفِرَتي". قوله: "أنبأْتُكُمْ"؛ أي: أخبرتكم. "لِمَ"؛ أي: لأي سبب. * * * 1141 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثِروا ذكْرَ هاذِمِ اللذاتِ" يعني: الموت. قوله: "أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت"، (الهاذم): الكاسر، يعني: يكسرُ الموت كل لَذَّةٍ وطِيبَ عيشٍ؛ يعني: اذكروه ولا تنسوه حتى لا تغفلوا عن القيامة، ولا تتركوا تهيئة زاد الآخرة. (الموت): يجوز بالجر على أنه عطف بيان لـ (هاذم اللذات)، ويجوز رفعه على تقدير؛ فهو الموت، ويجوز نصبه على تقدير: أعني الموتَ. * * * 1142 - وعن ابن مَسْعود - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذاتَ يومٍ لأصحابه: "استحْيُوا من الله حقَّ الحَياءِ"، قالوا: إنا نستحْيي من الله يا نبيَّ الله، والحمد لله، قال: "ليسَ ذلك، ولكن مَن استحْيى من الله حقَّ الحياء فليحفظْ الرأسَ وما وَعَى، وليحفظْ البطْنَ وما حَوَى، وليذْكر المَوتَ والبلَى، ومَن أرادَ الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلك فقد استحْيى من الله حقَّ الحَياءِ"، غريب.

قوله: "ليس ذلك"؛ يعني: ليس "حق الحياء" أن تقولوا باللسان: إنا نستحيي، أو يكون في قلوبكم الاستحياء من الله ولم تتركوا المناهي، بل حقيقة الاستحياء: الإتيان بأوامر الله وترك المناهي. قوله: "فليحفظ الرأس وما وعى"، (وعى): إذا حفظ؛ يعني: فليحفظ رأسه، وما وعاه الرأس؛ أي: وما في الرأس من السمع والبصر واللسان. يعني: لا يستعمل رأسه في غير خدمة الله تعالى بأن يسجد - نعوذ بالله - لصنم، أو يسجد عند أحد تعظيمًا له، أو يصلي للرياء، ولا يبصر بعينه، ولا يسمع، بأذنيه، ولا يتكلم بلسانه ما لا يجوز. قوله: "وليحفظِ البطن وما حوى"، (حَوَى): إذا جَمَع؛ يعني: فليحفظ البطن وما يجتمع اتصاله بالبطن من الفرج والرجلين واليدين والقلب، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف؛ يعني: لا يأكل إلا الحلال، ولا يستعمل هذه الأعضاء في المعاصي. "البلَى": مصدر من (بَلِيَ يَبْلَى): إذا صار الشيء خلقًا مُتَفَتِّتَاً (¬1)؛ يعني: اذكروا صيرورتكم في القبر عظامًا بالية، فمن ذكر هذا يهيئ زاد الآخرة، ولا يتكبر، ولا يَعْلَقُ قلبُه بالدنيا. * * * 1143 - وقال: "تُحفَةُ المُؤمن المَوتُ". قوله: "تحفة المؤمن الموت"؛ يعني: يكون الموت عند المؤمن عزيزًا، ولا يتأذَّى منه؛ لأنه شيء أعطاه الله إياه، وما أعطاه الحبيبُ يكون عزيزًا عظيم القدر، ولأن الموت منه سببُ وصول العبد المؤمن إلى الله تعالى، وما هو سبب ¬

_ (¬1) في "ت": "منتنًا".

وصول الحبيب إلى الحبيب عزيز. رواه "عبد الله بن عمرو". * * * 1144 - وقال: "المؤمنُ يموتُ بعَرَقِ الجَبينِ". قوله: "المؤمن يموت بعَرَقِ الجَبين" رواه بريدة. يعني: يشتد الموت على المؤمن، وتكون سَكْرَةُ موته شديدةٌ بحيث يخرج منه العَرَقُ من الشِّدة، وذلك ليتخلص ويتطهر من ذنوبه الباقية عليه، ويزيد درجته. * * * 1145 - ويُروى: "موتُ الفَجْأَةِ أَخْذَةُ الأَسَفِ". قوله: "مَوْتُ الفَجْأَةِ أَخْذَةُ الأَسَفِ"، (الأسَف) بفتح السين: الغضب، وتقديره: أخذةٌ من الأَسَف، يعني: موت الفجأة أخذة الله تعالى العبدَ من الغضب؛ يعني: هذا أَثَرُ غضب الله تعالى على العبد؛ لأنه لم يتركه للتوبة وإعداد زاد الآخرة، ولم يُمرضه؛ ليكونَ المرضُ كفارةً لذنوبه، وقد تعوذ رسول الله - عليه السلام - مِنْ مَوْتِ الفجأة. وقيل في "عبيد": عبيد بن خالد، وقيل: عتبة بن خالد والأول أصح. * * * 1146 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دخل على شابٍّ وهو في المَوت، فقال: "كيف تَجِدُكَ؟ "، قال: أرجو الله يا رسولَ الله، وإنيِ أخافُ ذُنوبي، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمعانِ في قلْبِ عبدٍ في مثْل هذا المَوطنِ إلا أعطاهُ الله ما يَرجو، وآمنَه مما يَخافُ"، غريب.

3 - باب ما يقال لمن حضره الموت

قوله: "كيف تَجِدُكَ"؛ أي: كيفَ تجدُ نفسك وقلبك في الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، قلبك طَيبٌ أو مغمومٌ. قوله: "لا يجتمعان"؛ أي: لا يجتمعُ رجاءُ رحمة الله وخوفُ عذاب (¬1) الله. * * * 3 - باب ما يقال لمَنْ حَضَرَهُ الموتُ (باب ما يقال عندَ من حَضَرَهُ الموتُ) مِنَ الصِّحَاحِ: 1147 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقِّنوا موتَاكم لا إلهَ إلا الله". قوله: "لقِّنوا موتَاكم لا إله إلا الله"؛ يعني: قُولوا له: قول كلمتي الشهادة، فإن قال فهو المراد، وإن لم يقل لا يكلَّف عليه؛ لأنه ربما لا يقدر على الكلام أو يكون مشغولًا بفكر، ولكن يقول الحاضرون كلمتي الشهادة حتى يوافقهم بقلبه. * * * 1148 - وقال: "إذا حَضَرْتم المَريضَ أو الميتَ فقولوا خَيرًا، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنون على ما تقولون". قوله: "فقولوا خيرًا"؛ يعني: ادعوا للمريض بالشِّفاء، وقولوا: اللهم ¬

_ (¬1) في "ش": "عقاب".

اشفه، وللميت بالرحمة والمغفرة، وقولوا: اللهم اغفر له وارحمه، فإن الدُّعاء حينئذ مستجاب؛ لأن الملائكة يؤمنون. * * * 1149 - وقالت أُم سلَمة رضي الله عنها: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن مُسلمٍ تُصيبُه مصيبةٌ: فيقولُ ما أَمَرَهُ الله به: إنا لله وإنا إليهِ راجعون، اللهم أَجِرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها إلا أخلَفَ الله له خيرًا منها"، فلمَّا ماتَ أبو سلَمة قلتُ: أيُّ المُسلمينَ خيرٌ من أبي سلَمة؟، أولُ بيتٍ هاجر إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنَّي قلتُها، فَأَخْلَفَ الله لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وأَخْلِفْ لي خيرًا"، (أخلف) أمر مخاطب، من (أَخْلَفَ): إذا أدى العِوض. قوله: "خيرًا منها"، أي: مِنْ هذه المصيبة؛ يعني: خيرًا مما فات عني في هذه المصيبة. قولها: "أول بيتٍ هَاجَر" من مكة إلى المدينة؛ موافقة لرسول الله عليه السلام. قولها: "ثم إني قلتها"؛ أي: قلت: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فجعلني الله زوجةً لرسول الله عليه السلام. * * * 1150 - وقالت: دخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلَمة وقد شقَّ بَصَرُهُ، فأَغْمَضَهُ، ثم قال: "إنَّ الروح إذا قُبضَ تَبعَه البصرُ"، فَضَجَّ ناسٌ من أهلِهِ فقال: "لا تدعوا على أنفُسِكم إلا بخيرٍ، فإنَّ الملائكة يُؤَمِّنون على ما تقولون"، ثم قال: "اللهم اغفِرْ لأبي سلمةَ، وارفع درجتَه في المهدِيين، واخلفْه في

عَقِبه في الغابرين، واغفرْ لنا وله يا ربَّ العالمَين، وافسَحْ له في قبرِه ونوِّرْ له فيه". قولها: "وقد شَقَّ بصرُه" بفتح الشين، ورفع الراء على أنه فِعْلٌ معروف: إذا بقيَ بصرُه مفتوحًا. "إن الروح إذا قُبضَ تبعَهُ البصرُ"؛ يعني: إذا قبضَتِ الملائكةُ الروحَ نَظَرَ إليها البصرُ من الاشتياق، فإذا ذهبت الروح بقيَ البصر منفتحًا، وفي انفتاح عين الميت قُبْحٌ، فلهذا أغمضه رسول الله - عليه السلام -: أي: وضع أحد الجفنين بالآخر. قولها: "فضجَّ ناسٌ من أهله"؛ أي: رفع أقارب الميت أصواتهم بالبكاء. قوله - عليه السلام -: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير"؛ يعني: لا تقولوا شرًا، ولا تقولوا: الويل لي، وواويلي، وما أشبه ذلك، بل اذكروا الله تعالى، واستغفروا للميت. قوله: "وارفع درجته في المهديين"؛ أي: اجعله في زمرة الذين هديتهم إلى الإسلام، وارفع درجته من بينهم. "وأخلفه": هذا أمر مخاطب، من خَلَفَ يَخْلُفُ خِلافَةً: إذا قام أحدٌ مقام آخر في رعاية أمره، وحفظ مصالحه. "في عَقِبهِ"؛ أي: في أولاده الغابرين؛ أي: في الباقين، وفي الأحياء، (غَبَرَ): إذا مضى، وبقي، والمراد هنا: بقي، يعني: كن خليفة في أولاده الباقية؛ يعني: أنت احفظ أمورهم ومصالحهم، ولا تكلهم إلى كلاءة غيرك. * * * 1151 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ تُوفي

سُجِّيَ ببُرْدِ حِبَرَةٍ. قولها: "سُجِّيَ ببُرْدِ حِبَرَةٍ"؛ (سُجِّيُ): أي: سُتِرَ، (التَسْجِيَةُ): السِّتْرُ، (الحِبَرَة): البُرْدُ اليمني، ليس المراد: بهذا الكفن، بل السُّنة أن يُسْتَرَ الميت من حين الموت إلى حين الغسل بثوب خفيف. * * * مِنَ الحِسَان: 1152 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلا الله دخلَ الجنَّةَ". قوله: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ظاهر هذا الحديث أن بعض اليهود والنصارى يدخلون الجنة؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. ولكن ليس معناه: من قال: لا إله إلا الله، بل معناه: مَن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن كان آخر كلامه عند الموت هاتين الكلمتين دخل الجنة؛ إما قبل العذاب، وإما بعد أن عُذِّبَ بقدر ذنوبه. روى هذا الحديث: "معاذ بن جبل". * * * 1153 - قال: "اقرؤوا على موتاكُم يس". قوله: "اقرؤوا على موتاكم يس"، ولعل الحكمة في قراءة هذه السورة على من حضره الموت أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها، فإذا قُرِئَتْ عليه، يجدد له ذكر الرحمن والبعث والقيامة، ويبقى في خاطره حتى يموت.

وكنية "معقل": أبو عبد الله، وقيل: أبو يسار، واسم جده: عبد الله بن مُعَبر بن حُرَاق. * * * 1154 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قبَّل عُثمانَ بن مَظْعون وهو ميتٌ وهو يبكي حتى سالَ دُموعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على وجه عثمان. قولها: "قبَّل عثمان بن مظعون ... " إلى آخره. هذا يدل على أن المسلم إذا مات فهو طاهر. * * * 1156 - عن الحُصَين بن وَحْوَح: أنَّ طَلْحة بن البَراء مرِضَ، فأتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُه، فقال: "إني لا أرَى طلْحةَ إلا قد حَدَثَ به الموتُ، فآذِنوني به، وعَجِّلوا، فإنه لا ينبغي لجيفةِ مسلمٍ أن تُحْبَسَ بين ظَهْرَانَي أهلِهِ". قوله: "فآذِنوني"؛ أي: أخبروني بمَوْتِهِ إذا مات؛ لأحضر الصلاة عليه. قوله: "وعَجِّلوا"؛ أي: أسرعوا في غسله وتكفينه. "لِجيفَةِ مسلم"؛ أي: لجثة ميت مسلم. "بين ظَهْرَاني أهْلِهِ"؛ أي: بين أهله؛ أي: لا يُوضع الميتُ بينَ أهله زمانًا طويلًا كيلا يُنتن، وكي لا يَكْثُرَ حزنُ أهله. * * *

4 - باب غسل الميت وتكفينه

4 - باب غُسْلِ المَيت وتكفينه (باب غسلِ الميت وتكفينه) مِنَ الصِّحَاحِ: 1157 - قالت أُم عَطيَّة رضي الله عنها: دخلَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسلُ ابنتَه فقال: "اغْسِلْنَها وِتْرًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، بماءٍ وسِدْرٍ، واجعلن في الآخرة كافورًا فإذا فرغْتُنَّ فآذِنَّني"، فلما فرَغْنَا آذَنَّاهُ، فألقى إلينا حِقْوَهُ، وقال: "أَشْعِرْنَها إياه". وفي روايةٍ: "ابدأْنَ بميامِنِها ومواضعِ الوُضوءِ منها"، وقالت: فضفَرنا شعرَها ثلاثةَ قرونٍ فألقَيناها خلْفها. قوله: "ابدؤوا بميامنها ... " إلى آخر الحديث. قولها: "نغسل ابنته"؛ يعني: زينب بنت النبي عليه السلام. استعمالُ السِّدر في الغسل لنظافة البدن، ولأن السدر باردٌ يشبه الكافور يصلب الجلد. "حِقْوَه"؛ أي: إزاره. "أَشْعِرْنها إياه"؛ أي: اجعلْنَ هذا الحِقْوَ تحت الأكفان بحيث يلاصق بشرتها، والمراد منه: إيصال بركته - عليه السلام - إليها. قولها: "فضفرنا"؛ أي: فتلنا شعرها "ثلاثة قرون"؛ أي: على ثلاثة أقسام، ولعل المراد بفتل شعرها ثلاثة قرون مراعاةُ عادة النساء في ذلك الوقت، أو مراعاة سنَّة عدد الوتر كسائر الأفعال. اعلم أن غسل الميت من فروض الكفايات، وكذلك تكفينُ الميت

والصلاة ودفنه، والجهاد، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والقضاء بين المسلمين، وحفظ جميع القرآن، وتعلُّم العلم إلى أن يبلغ الرجل درجة الفتوى، وتعليمُه، وإقامةُ الحج في كل سنة، ودفعُ الضرر عن المسلمين، كستر العارين، وإطعامِ الجائعين على الأغنياء إذا لم تفِ الزكاة بسدِّ الحاجات، ولم يكن في بيت المال من سهم المصالح ما يصرف إليها. ومن فروض الكفايات الحِرَفُ والصناعاتُ والعملُ بها، وما يَتمُّ به المعايش، وتحمُّلُ الشهادة وأداؤها. وفرضُ الكفاية ما إذا قام به واحدٌ أو جماعةٌ سقط الفرض عن الباقين. روى أصل هذا الحديث محمد بن سيرين عن أم عطية، وروت حفصة بنت سيرين أختُ محمد بن سيرين عن أم عطية. * * * 1158 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ يمانيةٍ، بيضٍ، سَحُوليةٍ، من كُرْسُفٍ، ليس فيها قَميصٌ ولا عِمامةٌ. قولها: "سحولية" منسوبةٌ إلى سَحُول - بفتح السين -، وهو اسم موضع باليمن. "الكُرسف": القطن. قولها: "ليس فيها قميص ولا عمامة"؛ يعني: السنَّة في الكفن ثلاثُ لفائف، واللفائف جمع لفافةٍ مثل ملحفةٍ يلفُّ فيها الميت. * * *

1159 - وعن جابر قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كَفَّن أحدُكم أخاهُ فليُحْسِن كفنَه" قوله: "فلْيُحْسِن كفنه" رواه جابر: "فلْيُحسِّن" بتشديد السين، وهو أمرُ غائبٍ من التحسين، وهو المبالغةُ في إحسان شيء، والمراد منه: تنظيف الكفن وتبييضه وتعطيره، وليس المراد منه جَعْلُ الكفن كثيرَ القيمة، هكذا قال محيي السنة في "شرح السنة". * * * 1160 - وقال خبَّاب بن الأرَتِّ - رضي الله عنه -: قُتِلَ مُصْعَب بن عُمَير يومَ أُحُدٍ، فلم نجدْ شيئًا نُكَفِّنُه فيه إلا نَمِرَةً، كنا إذا غطَّينا بها رأسَه خرَجَتْ رجلاهُ، وإذا غطَّينا رجليهِ خرجَ رأسُهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضَعُوها مما يلي رأْسَه، واجعلوا على رجليهِ من الإذْخِر". قوله: "فلم نجد شيئًا نكفنه فيه إلا نمرة"، (النمرة): نوعٌ من الكساء. "غطينا"؛ أي: سترنا. "يلي"؛ أي: يَقْرُب. "الإذخر": نبتٌ عريض الورق. هذا دليلٌ على أن ستر جميع الميت بالكفن واجب، والكفن: ما يستر الميت من أيِّ شيءٍ كان يجوز إذا لم يكن محرمًا. جده جندلة بن سعد بن خزيمة الخزاعي، وقيل: التميمي، وجد مصعب هاشم (¬1) القرشي. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "مشار"، وفي "ش": "حسان"، وليست في "ق"، والصواب ما أثبت، وانظر "الإصابة" (6/ 123).

1161 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رجلًا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَصَتْهُ ناقتُهُ وهو محرمٌ فماتَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسِلُوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكفِّنُوه في ثوبَيهِ، ولا تُمِسُّوهُ بطِيْبٍ، ولا تُخَمِّروا رأسَه، فإنه يُبعث يومَ القيامَةِ مُلَبيًا". قوله: "فوقصته ناقته"؛ أي: أسقطته فاندقَّت عنقُه. قوله: "في ثوبيه"؛ أي: في إزاره وردائه اللَّذَيْن كان لبسهما للإحرام. "ولا تخمِّروا رأسه"؛ أي: ولا تستروا. ومذهب الشافعي وأحمد: أن المُحْرِم يكفَّن بلباس إحرامه، ولا يُستر رأسه، ولا يُجعل عليه طيبٌ؛ ليَبْقَى أثر الإحرام، فإنه يُبعث يوم القيامة ويقول: لبيك اللهم لبيك؛ ليعلم الناسُ أنه مات في حال الإحرام. ومذهب أبي حنيفة ومالك: أنه يُفعل به ما يُفعل لسائر الموتى. * * * مِنَ الحِسَان: 1162 - قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "البَسُوا من ثيابكم البَياضَ، فإنها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم، مِنْ خَيْر أكحالِكم الإثْمِد، فإنه يُنْبتُ الشَّعرَ ويَجلُو البصَرَ"، صحيح. قوله: "ينبت الشعر"؛ أي: يَنْبُت منه أهدابُ العين، وكثرةُ الأهداب زينةٌ ومنفعة. "ويجلو البصر"؛ أي: يزيد في نور البصر. * * *

1164 - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أنه لما حَضَرَهُ الموتُ دعا بثيابٍ جُدُدٍ فَلَبسَهَا، ثم قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الميتُ يُبعثُ في ثِيابهِ التي يَمُوتُ فيها". قوله: "دعا بثياب جُدُد" بضم الجيم والدال الأولى: جمع جديدة. قال أصحاب الحديث: إن معنى هذا الحديث ليس كما فهمه أبو سعيد، بل يريد بالثياب: العمل، يعني: يبعث كلُّ واحد يومَ القيامة في عمله. * * * 1165 - وعن عُبادة بن الصَّامِت، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الكَفَنِ الحُلَّة، وخيرُ الأُضحيةِ الكبشُ الأقرنُ". قوله: "خير الكفن الحلة"، (الحلة): إزار ورداء، والمراد هنا: البُرْدُ اليمني. واختار بعض الأئمة أن يكون الكفن من برود اليمن بدليل هذا الحديث، والأصح: أن الثوب الأبيض أفضل؛ لحديث عائشة. ولعل فضيلة الكبش الأقرن على غيره في الأضحية لكونه أعظمَ جثةً وسِمَنًا في الغالب. * * * 1166 - عن ابن عباس قال: أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلَى أُحُد أن يُنزعَ عنهم الحديدُ والجُلودُ، وأن يُدفَنُوا بدمائهم وثيابهم. قوله: "أمر رسول الله - عليه السلام - بقتلى أحد ... " إلى آخره. "القتلى": جمع قتيل، أراد بـ "الحديد": السلاح والدرع، وأراد بـ (الجلود):

5 - باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

ما معهم من الفروة والكساء وغيرِ الملطَّخ بالدم. قوله: "أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"؛ يعني: ثيابهم الملطخة بالدم. لا يغسل الشهيد ولا يصلَّى عليه تكرمة له، فإنه مغفورٌ، هذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة لا يغسَّل ولكن يصلَّى عليه. * * * 5 - باب المَشْي بالجَنازة والصَّلاة علَيها (باب المشي بالجنازة والصلاة عليها) مِنَ الصِّحَاح: 1167 - قال رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَسرِعوا بالجنازَةِ، فإن تَكُ صالحة فخيرٌ تقدمونَها إليه، وإن تكنْ سوى ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم". قوله: "فإن تك صالحة"؛ أي: فإن تكن الجنازة صالحة. "الجنازة" بكسر الجيم: الميت، والسريرُ الذي يُحمل عليه الميت، وبفتح الجيم: هذا السرير لا غير، فعلى هذا أَسْنَدَ الفعل إلى الجنازة، وأراد به الميت. "فخير تقدمونها إليه"؛ يعني: حاله في القبر يكون حسنًا وطيبًا، فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. * * * 1168 - وقال: "إذا وُضعَتْ الجنازَةُ فاحتمَلَهَا الرجالُ على أعناقِهم؛ فإن كانتْ صالحةً قالت: قدِّموني، وإن كانتْ غيرَ صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها!، يسمعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمِعَ

الإنسان لصَعِقَ" يرويه أبو سعيد الخُدري. قوله: "فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني"، احتمل وحمل واحد. قوله: "قدموني"؛ يعني: يرى الميت منزله حسنًا، ويقول: أسرعوا بي لأَصِلَ إلى منزلي. قوله: "يا ويلها" الضمير يرجع إلى الجنازة، والمراد منه الميت، تقول: يا ويل زيد، تقديره: يا قوم حصل هلاكُه قوله: "أين تذهبون بها" هذا خطابٌ لأهلها ولمَن حملها، وإنما يقول هذا؛ لأنها ترى منزلَها وحالها غيرَ حسنٍ. "صعق": إذا مات وأغمي عليه. * * * 1169 - وعنه أيضًا قال: "إذا رأيتم الجنازَة فقومُوا، فمن تَبعَها فلا يقعدْ حتى تُوضَعَ". قوله: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا" الأمرُ بالقيام عند رؤية الجنازة؛ لإظهار الرجلِ الفزعَ والخوف على نفسه، فإنه أمر عظيم، ومن رأى الجنازة ولم يقم وبقي على حاله فهذا علامةُ غِلَظِ قلبه، وعظمِ غفلته. قوله: "فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع" [أي: حتى يوضع] الميت في اللحد؛ ليكمل أجره. * * * 1170 - وقال: "إنَّ الموتَ فَزَعٌ، فإذا رأَيتُم الجَنازَة فقُوموا" يرويه جابر.

قوله: "إن الموت فزع"؛ أي: ذا فزع؛ أي: يُظْهِرُ الفزع والخوف في قلوب الناس. * * * 1171 - وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقومُ للجنازةِ، ثم يَقعدُ بعدَه". قوله: "يقوم للجنازة ثم يقعد بعده"؛ يعني: يقوم إذا رأى الجنازة، ثم يقعد بعد مرورها؛ ليعلم الناس أن اتِّباع الجنازة إلى رأس القبر غيرُ واجبٍ، بل مستحبٌّ. قد جاء عن جماعة من الصحابة: أنهم يقومون إذا رأوا الجنازة من بعيد، ثم يقعدون قبل أن تنتهي الجنازة إليهم. ويحتمل أن يكون معنى قوله: (يقوم ثم يقعد) أنه يقوم إذا رأى الجنازة في وقت، ويقعد ولا يقوم إذا رأى الجنازة في وقت آخر؛ ليعلِّمَ الناس أن القيام للجنازة والقعود كلاهما جائز، وليس بواجب. * * * 1172 - قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَبعَ جنازةَ مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا وكان مَعها حتى يُصلَّى عليها ويُفْرَغَ من دَفْنِها، فإنه يَرْجِعُ من الأجرِ بقيراطيْنِ، كلُّ قيراطٍ مثل أُحُدٍ، ومن صلَّى عليها ثم رجعَ قبلَ أن تُدْفَنَ فإنه يرجعُ بقِيْراطٍ". قوله: "إيمانًا واحتسابًا" (الاحتساب): طلب الثواب من الله تعالى، يعني: ليتَّبع الجنازة لطلب الثواب من الإيمان بالله تعالى ورسوله، لا لرياءٍ، وليطيبَ قلبَ أحد. * * *

1173 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى للناس النَّجاشِيَّ اليومَ الذي ماتَ فيهِ، وخرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم إلى المُصَلَّى، فصَفَّ بهم وكبَّر أربَعَ تكبيرات. قوله: "نعى للناس النجاشي"، أي: أخبرنا الناس بموت النجاشي. وهذا الحديث يدل على جواز النعي، وبه قال الشافعي وأكثرُ أهل العلم، وكره قومٌ النعي. ويدل أيضًا على جواز الصلاة على الغائب، وبه قال الشافعي، ويتوجَّهون القبلةَ لا بلدَ الميت. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الصلاة على الغائب. والنجاشي كان ملك الحبشة، وكان مسلمًا يكتم إسلامه؛ لأن قومه كانوا كفارًا، فلمَّا مات لم يصلِّ عليه أحد، فأخبر جبريلُ النبيَّ - عليه السلام - بموته، فصلى رسول الله - عليه السلام - مع الصحابة عليه. * * * 1174 - ورُوي: أن زيدَ بن أرقَم كبَّر على جنازةٍ خمسًا، وقال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكَبرُها. قوله: "أن زيدًا كبر على جنازة خمسًا ... " إلى آخره. رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد، والمراد بـ (زيد) هنا: زيد بن أرقم. وبهذا قال حذيفةُ، ولم يعمل به واحد من الأئمة، لكن لو كبَّر الإمام خمسًا لم تبطُل صلاته على الأصح. * * *

1175 - وروي: أَنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - صلَّى على جنازةٍ فقرأَ فاتِحَةَ الكتابِ فقال: لِتَعْلموا أنها سُنَّةٌ. قوله: "أن ابن عباس صلى على جنازة ... " إلى آخره. رواه طلحة بن عبد الله بن عوف، عن ابن عباس. قوله: "سنة"؛ أي: مما فعله رسول الله عليه السلام. ومذهب الشافعي وأحمد: أن قراءة فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى فرض. وقال أبو حنيفة: ليس بفرض. * * * 1176 - وقال عَوْف بن مالك: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازةٍ فحَفظتُ من دُعائه، وهو يقول: "اللهم اغفرْ له، وارحمْهُ، وعافهِ، واعفُ عنه، وأكَرِمْ نُزُلَهُ، ووسِّع مُدْخَلَهُ، واغسلْه بالماء والثلج والبَرَدِ، ونَقِّه من الخطايا كما نَقَّيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دارًا خيرًا من دارهِ وأهلًا خيرًا من أهلِه، وزوجَاً خيرًا من زَوجه، وأَدخِلْه الجنَّةَ، وقِهِ فِتْنةَ القَبرِ وعذابَ النارِ" حتى تمنيتُ أن أكونَ ذلكَ الميتَ. قوله: "وعافِه": هذا أمرُ مخاطَبٍ من المعافاة، وهو تخليص أحدٍ من المكاره. "وأَكْرِمْ نزلَه"، (النزل) بسكون الزاي وضمها: الرزق وما يقدَّمُ إلى الضيف من الطعام؛ يعني: أحسنْ نصيبه من الجنة. "مدخله"؛ أي: قبره.

قوله: "واغسله ... " إلى آخره؛ أي: اغسله من الذنوب بأنواع المغفرة، كما أن هذه الأشياء أنواعُ المطهِّرات من الدنس. وأراد بـ "فتنة القبر": التحيُّر في جواب المنكر والنكير والعذاب. والدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة فرضٌ عند الشافعي. وفرائض صلاة الجنازة عنده سبعٌ: النية، والتكبيرات الأربعة، وقراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي - عليه السلام - بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة، وأقله أن يقول: اللهم اغفر له، والتسليمة الأولى، وفي القيام خلاف، والأصح أنه فرض. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله: الواجب التكبيرات الأربعة، وما سواها سنةٌ. * * * 1177 - وقالت عائشة رضي الله عنها: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بَيْضاءَ في المسجدِ، سُهيلٍ وأخيهِ. قولها: "على ابني بيضاء"، (بيضاء) أمُّهما، واسمها: دعدٌ بنتُ الجحدم، واسم أبيهما: عمرو بن وهب، واسم أخي سهيل: سهل. فعند الشافعي: تجوز الصلاة على الميت في المسجد. وعند أبي حنيفة: تكره. * * * 1178 - وقال سَمُرَةُ بن جُنْدَبٍ: صلَّيتُ وراءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى امرأةٍ ماتتْ في نِفاسِها، فقامَ وسَطَها.

قوله: "وسطها"؛ يعني: وليقف الإمام عند وسط المرأة كأنه يستر كفنها عن القوم. * * * 1179 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بقبْرٍ دُفِنَ ليلاً فقال: "متى دُفِنَ هذا؟ "، قالوا: البارحةَ، قال: "أفلا آذَنْتُمُوني؟ "، قالوا: دفنَّاه في ظُلمةِ الليلِ، فكرهْنا أن نوقِظَكَ، فقامَ فَصَفَفْنَا خلفَهُ، فصلَّى عليه. قوله: "مر بقبر دفن ليلًا ... " إلى آخره، هذا يدل على أن الدفن في الليل جائزٌ؛ لأن النبي - عليه السلام - لم ينكر عليهم، ويدل أيضًا على أن الصلاة على القبر جائزة، وعلى أن الصلاة بالجماعة مستحبة؛ لأن القوم صلَّوا مع رسول الله - عليه السلام - على القبر. * * * 1180 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أسودَ كان يكونُ في المسجد يَقُمُّ المسجدَ، فماتَ فأَتى - يعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبرَهُ فصلَّى عليه، ثم قال: "إنَّ هذه القبورَ مَمْلُوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإنَّ الله يُنَوِّرُهَا لهم بصلاتي عليهم". قوله: "أن أسوَد: كان يكون في المسجد يقمُّ المسجد"، (أسود): اسم رجل، (يقمُّ المسجد)؛ أي: يكنسه ويطهِّره، فمات ولم يعلم النبي - عليه السلام - بموته حتى مضى أيام، قال - عليه السلام -: "أين أسود؟ ": فقالوا: مات، فقال: "دلوني على قبره" فأتى قبره، فصلى عليه. قوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة"؛ يعني: القبور ممتلئةٌ من الظلمة، وينوِّرها الصلاة عليها، والدعاء، والعمل الصالح التي تكون للميت.

قوله: "بصلاتي عليهم" اعلم أن صلاة النبي - عليه السلام - على القبور ودعاءَه لهم تكون نورًا، وكذلك صلاة غيره تكون مفيدةً للميت، وتكون نورًا له أيضًا؛ لأن الصلاة مِن شَرْعِ النبيِّ عليه السلام، وما هو شرعُ النبي - عليه السلام - لا شك أن يكون رحمةً ونورًا للناس. * * * 1181 - وقال: "ما من مسلم يموتُ فيقومُ على جنازتِهِ أربعونَ رجلًا لا يُشركونَ بالله شيئًا إلا شَفَّعَهم الله فيه". قوله: "إلا شفعهم الله تعالى"، (شفع) بتشديد الفاء: إذا قَبلَ الشفاعة، يعني: يقبل الله تعالى دعاءهم للميت ببركة دعائهم. * * * 1182 - وقال: "ما من ميتٍ تُصلي عليهِ أُمَّةٌ من المسلمين يبلغونَ مائةً، كلُّهم يشفعونَ له إلا شُفِّعُوا فيه". قوله: "يشفعون له"؛ أي: يدعون له. ليس بين هذين الحديثين تناقضٌ، بل حديثُ ابن عباس متأخِّرٌ عن هذا الحديث؛ لأن رحمة الله تعالى تزيد على المؤمنين ولا تنقص، يعني: لو شفع له مئة تُقبل شفاعتهم، ولو شفع له أربعون أيضًا تُقبل شفاعتهم. * * * 1183 - وقال أنس - رضي الله عنه -: مَرُّوا بجنازةٍ فأَثْنَوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَبَتْ"، ثم مَرُّوا بأُخرى فأَثْنَوا عليها شرًا فقال: "وَجَبَتْ"، فقالَ عمرُ: ما وَجَبَتْ؟، قال: "هذا أَثْنَيْتُم عليهِ خيرًا فوجبتْ له الجنةُ، وهذا أثنيتُم عليه

شرًا فوجبت له النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض". وفي روايةٍ: "المؤمنونَ شهداء الله في الأرضِ". قوله: "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا" الضمير في (مروا) وفي (أثنوا) ضميرُ الصحابة. "وجبت"؛ أي: وجبت الجنة، ووجبت النار. قوله: "أنتم شهداء الله في الأرض" ليس معنى هذا أنَّ ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص من استحقاقه الجنة أو النار يكون كذلك؛ لأن مَن يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقول أحد، ولا مَن يستحق النار يصير من أهل الجنة بقول أحد. بل معناه: أن الذي أثنوا عليه خيرًا رأوا منه الخير والصلاح في حياته، والخير والصلاح من علامة كون الرجل من أهل الجنة، وأن الذي أثنوا عليه الشرّ رأوا منه الشر والفساد، والشرُّ والفساد من علامة دخول النار، فشهد النبي - عليه السلام - للأول بالجنة، وللثاني بالنار. وتأويل قَطْعِه - عليه السلام - للأول بالجنة، وللثاني بالنار: أنه أَطْلَع الله تعالى نبيَّه - عليه السلام - على أن الأول من أهل الجنة، والثاني من أهل النار، وليس هذا الحكم عامًا في كلِّ مَن شهد له جماعةٌ بالجنة أو بالنار، ألا ترى أنه لا يجوز أن يُقطع بكون واحد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وإن شهد له بالجنة أو بالنار جمعٌ كثير، بل نرجو الجنَّةَ لمن شهد له جماعةٌ بالخير، ونخاف النار لمن شهد له جماعة بالشر. * * * 1184 - وقال عمر - رضي الله عنه -: عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما مسلمٍ شَهِدَ له أربعةٌ بخيرٍ أَدخلهُ الله الجنَةَ"، قلنا: وثلاثةٌ: قال: "وثلاثةٌ"، قلنا: واثنان؟ قال: "واثنانِ"،

ثم لم نسألْه عن الواحدِ. قوله: "أيُّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة"؛ يعني: ومَن شهد له أربعةٌ أو ثلاثةٌ أو اثنان بالخير، فالظاهر والغالب من حاله أنه رجل صالح حتى يشهدوا له بالخير، وإذا كان صالحًا أدخله الله الجنة بفضله، وبسبب خيره وصلاحه، وربما يكون له ذنبٌ فيغفر الله تعالى ذنبه ويدخله الجنة؛ لتصديقِ ظنِّ المؤمنين في كونه صالحًا. ويحتمل أن يريد بقوله: (شهد له أربعة) صلاةَ أربعةٍ أو ثلاثة أو اثنين عليه ودعاءَهم وشفاعتهم له، فيقبل الله دعاءهم له. * * * 1185 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمواتَ، فإنهم قد أَفْضَوا إلى ما قَدَّموا". قوله: "قد أفضوا إلى ما تقدموا"، رواه عائشة. "أفضوا": أصله أَفْضَيُوا، فقلبت الياء ألفًا وحذفت، ومعناه: وصلوا إلى ما أرسلوه إلى الآخره من الأعمال؛ يعني: كما لا يجوز غيبةُ الأحياء، لا يجوز غيبةُ الأموات. * * * 1186 - وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يجمعُ بين الرَّجُلينِ مِنْ قتلى أُحُدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقولُ: "أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أُشيرَ له إلى أحدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحدِ، وقال: "أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ"، وأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بدمائِهم، ولم يصلِّ عليهم ولم يُغسلوا.

قوله: "في ثوب واحد"؛ أي: في قبر واحد. وليس معناه أنهما يجرَّدان عن الثياب بحيث تصل بشرة أحدهما إلى بشرة الآخر، وهذا لا يجوز، بل يكون على كلِّ واحدٍ منهما ثيابه الملطَّخة بالدم وغيرُ الملطَّخة، ولكن يضجع أحدهما بجنب الآخر في قبر واحد، ومَن هو أفضل يُضجع مستقبلَ القبلة ملاصقًا بجدار اللحد، والثاني خلف ظهره. قوله: "أنا شهيد على هؤلاء"؛ أي: أنا شفيعٌ لهؤلاء، وأشهدُ لهم بأنهم بذلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم لله تعالى. * * * 1187 - قال جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه -: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفرسٍ مُعْرَوْرًى فركبه حين انصرفَ من جنازةِ ابن الدَّحْدَاحِ ونحنُ نمشي حوله. قوله: "بفرس مُعْرَوْرٍ", (مُعْرَوْرٍ): اسمُ فاعلٍ من اعْرَوْرَى الفرسُ: إذا تجرَّد عن السرج. هذا يدل على أنه يجوز الركوب عند الانصراف من الجنازة، بخلاف المشي مع الجنازة فإنه يكره الركوب. * * * مِنَ الحِسَان: 1188 - عن المُغيرة بن زياد - رضي الله عنه - قال: إنه رفعَهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الراكبُ يسيرُ خلفَ الجنازةِ، والماشي يمشي خلفَها وأمامَها، وعن يمينِها وعن يسارِها قريبًا منها، والسِّقْط يُصلَّى عليه ويُدْعَى لوالدَيهِ بالمغفرةِ والرحمةِ".

قوله: "السِّقط يصلَّى عليه" مذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه يصلَّى على السقط إن استهل؛ أي: صوَّت حين انفصل من أمه ثم مات، وإن لم يستهلَّ لم يُصلَّ عليه. وقال أحمد: يصلَّى عليه إذا كان له أربعةُ أشهر وعشرٌ في البطن، ونُفخ فيه الروح، وإن لم يستهلَّ حين انفصل من الأم. في نسخ "المصابيح" وفي "شرح السنة": أن راوي هذا الحديث: المغيرة ابن زياد. * * * 1189 - عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ يمشونَ أمامَ الجنازةِ. ورواه بعضهم مرسلًا. قوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة. ورواه بعضهم مرسلًا. "سالم": هو سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. وبهذا الحديث قال الشافعي وأحمد. * * * 1190 - وعن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجَنازةُ متبوعةٌ، ولا تَتْبَعُ"، وإسناده مجهول. قوله: "الجنازة متبوعة ولا تتبع" وإسناده مجهول. يعني: الناس يمشون خلف الجنازة، وبهذا قال أبو حنيفة. وعلةُ المشي خلف الجنازة: لينظر الناس إلى الجنازة، ويعتبرون وينتبهون

عن نوم الغفلة. وعلة المشي قدام الجنازة: أن الماشين مع الجنازة شفعاءُ الميت إلى الله تعالى، والشفيع يمشي قدام المشفوع. * * * 1191 - وقال: "مَنْ تَبعَ جَنازَةً وحَمَلَها ثلاثَ مراتٍ فقد قَضَى ما عليهِ من حَقِّها"، غريب. قوله: "وحملها ثلاث مرات"؛ يعني: يعاون الحاملين في الطريق، ثم يتركها ليستريح، ثم يحملُها في بعض الطريق، يفعل كذلك ثلاث مرات. قوله: "فقد قضى ما عليه من حقها"؛ يعني: على المسلم معاونةُ المسلم بما يُطيق، فإذا حمل جنازته فقد قضى حقَّها من المعاونة، وليس معناه: أنه قضى ما عليه من دَينٍ وغيره من الحقوق مثلَ الغيبة والبهتان والضرب والشتم. * * * 1192 - وروي: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حملَ جنازَة سَعْدِ بن مُعاذٍ بين العَمُودَين. قوله: "حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين" قال الشافعي: والحمل بين العمودين أن يحمل الجنازة ثلاثة: واحد يقف من قدام الجنازة بين العمودين، واثنان يقفان خلف الجنازة يضعُ كلُّ واحد منهما عمودًا على عاتقه، هذا عند حمل الجنازة من الأرض، ثم لا بأس بأن يعاونهم مَن شاء كيف شاء. ومذهب أبي حنيفة: الأفضل التربيعُ، وهو أن يحمل الجنازة أربعةٌ يأخذ كل واحد عمودًا.

روى هذا الحديث (¬1) [إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل]. * * * 1193 - وروي عن ثَوبانَ أنه قال: خرجنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جنازةٍ، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: "ألا تستَحْيُون؟، إنَّ ملائكةَ الله على أقدامِهم وأنتم على ظُهورِ الدوابِّ"، ووقفه بعضهم على ثَوبان. قوله: "فرأى ناسًا ركبانًا ... " إلى آخره. يعني: المشي خلف الجنازة ركبانًا مكروهٌ، إلا إذا كان الشخص ضعيفًا، ووجْهُ الكراهة: أن الركوب تنعُّمٌ وتلذُّذٌ، وهذا لا يليق في مثل هذه الحالة. * * * 1194 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ على الجنازةِ بفاتِحَةِ الكتابِ. قوله: "قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب"؛ أي: قرأها بعد التكبيرة الأولى. * * * 1195 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء". قوله: "فأخلِصوا له الدعاء" قد قلنا: الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة فرضٌ عند الشافعي، وسنَّة عند أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وما بين معكوفتين من "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 431).

فمَن قال بالفرض قال: هذا الأمر للوجوب، ومن قال بالسنة قال: هذا الأمر للندب، ومعنى الندب السنة. * * * 1196 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى على جنازةٍ قال: "اللهم اغفر لِحَينا ومَيتِنَا، وشاهِدنا وغائِبنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكرِنا وأُنثانا، اللهم مَن أحييتَه منا فأَحْيهِ على الإسلام، ومن توفيتَه منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرِمْنا أجرَهُ، ولا تَفتِنَّا بعدَه واغفر لنا وله". قوله: "وشاهدنا وغائبنا"، (الشاهد): الحاضر. قوله: "صغيرنا" فإن قيل: الصغير لم يكن ذنبه ذنبًا؛ لأنه غيرُ مكلَّفٍ، وأيُّ حاجةٍ له إلى الاستغفار لأجله؟. قال بعض الأئمة: معناه: السؤال من الله الكريم أن يغفر له ما كُتب له في اللوح المحفوظ أن يفعله من الذنوب، حتى إذا فعله كان مغفورًا عنه. * * * 1197 - وعن وَاثِلة بن الأسَقَع قال: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ من المسلمين فسمعتُه يقول: "اللهم إنَّ فلانَ بن فلانٍ في ذِمَّتِكَ، وحبلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ من فتنةِ القبرِ وعذاب النار، وأنت أهلُ الوفاءِ والحقِّ، اللهم اغفرْ له وارحَمْهُ، إنَّك أنت الغفورُ الرحيمُ". قوله: "في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار"، (الذمة): الأمان، (الحبل): العهد. (وحبل جوارك)؛ أي: في كنف حفظك وفي عهد طاعتك إذا مات.

وجَدُّ واثلة عبد العُزَّى (¬1) الليثي. * * * 1198 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكُروا مَحاسِنَ موتَاكم، وكُفُّوا عن مَساوئهم". قوله: "اذكروا محاسن موتاكم"، (المحاسن): جمع حسن، و (المساوئ): جمع سوء، كلاهما جمعٌ غريب. "كفوا"؛ أي: اتركوا. * * * 1199 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنه صلَّى على جنازةِ رجلٍ فقامَ حِيالُ رأسِه، ثم جاؤُوا بجنازةِ امرأةٍ فقامَ عندَ حِيالِ وسطِ السَّرير، فقيلَ له: هكذا رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قامَ على الجنازةِ مَقَامَكَ منها، ومِن الرجلِ مَقَامَكَ منه؟، قال: نعم. "حيال رأسه"؛ أي: إزاء رأسه وتِلْقاءَه. ليعلم زمرةُ إخواني، وثلَّةُ خُلَصائي أني قد شرطْتُ في أول الكتاب أن أُورد كلَّ حديثٍ من أحاديث هذا الكتاب مكتوبًا بالحمرة، ثم أشرح ذلك، ثم إني لمَّا رأيت غلبة الكفار على المسلمين، وسمعتُ بواقعة أمير المؤمنين، تكدَّر زماني، وتحيَّر جناني، وترجل قوتي وفرحي، وتوطَّن غمِّي وتَرَحي. وعلمتُ أن هذه الواقعة من اقتراب الساعة، وأيقنتُ أن الوقائع تصير ¬

_ (¬1) في النسخ: "عبد العزيز"، والمثبت هو الصواب، وقد قيل في اسم جده غير ذلك. انظر "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 393 - 394).

6 - باب دفن الميت

أضعافًا مضاعفةً، فهممتُ أن أترك التصنيف والتدريس طرًا، وأطوي في البكاء عمرًا، ولكن خفتُ ربَّ العالمين أن أترك ما استطعت إظهار الدين؛ فإن هذا ممَّا يفرح به الشيطان اللعين. فحَوْلَقْتُ وردَّدْتُ كلمةَ الاسترجاع، وأقبلت مع امتلاء قلبي من الجراح والأوجاع إلى إتمام الكتاب، واستعنتُ فيه من الله الوهاب، سالكًا سبيل الاختصار، بأن أترك كتابة لفظ "المصابيح" بالحمرة، وأورد منه ما يحتاج إلى الشرح، من غيرِ أن أترك من الإشكالات شيئًا، والله الموفق والمرشد. 6 - باب دَفْن الميت (باب دفن الميت) مِنَ الصِّحَاحِ: 1200 - قال سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في مرضه: ألحِدُوا لي لَحْدًا، وانصِبوا عليَّ اللَّبن نَصْبًا كما صُنِعَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كما صنع برسول الله عليه السلام"؛ أي: فُعِلَ بقبر رسول الله عليه السلام؛ يعني: وضع على قبر رسول الله - عليه السلام - اللَّبن. يعني: جعلُ اللحدِ ونصبُ اللبن عليه سنةٌ بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. * * * 1201 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: جُعِلَ في قبْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفةٌ حمراء. قوله: "قطيفة حمراء"، (القطيفة): نوعٌ من الكساء.

الذي أَلْحَدَ - أي: حفر لحدَ - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو طلحة، والذي جعل القطيفة في قبره - عليه السلام - هو شُقْرَانُ، واسمه صالحٌ ولقبه شقران، وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما جَعَل القطيفة في قبره - صلى الله عليه وسلم - لأنها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فوضعها شقران في قبره، فقال: والله لا يلبسها أحدٌ بعدك. وكره ابن عباس أن يُفرش تحت الميت شيءٌ. * * * 1202 - وعن سُفيان التَّمَّار: أنه رأى قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسَنَّمًا. قوله: "مسنمًا" بفتح النون وتشديدها، وهو القبر الذي يكون مثلَ ظهر حمار، وتسنيم القبر وتسطيحه كلاهما جاء في الحديث. والتسنيم: أن يجعل القبر مسنَّمًا كما ذكرنا، والتسطيح: أن يُجعل مسطَّحًا، وهو أن يجعل مثل سرير، وميل الشافعي إلى التسطيح. * * * 1203 - وقال علي - رضي الله عنه - لأبي الهيَّاج الأَسَدي: ألا أبعثُكَ على ما بَعَثَني عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدعَ تِمْثالًا إلا طمَستَه، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيتَه. قوله: "ألا أبعثك"، أي: ألا أرسلك على أمرٍ قد بعثني رسول الله - عليه السلام - إليه. "لا تدع"؛ أي: لا تترك "تمثالًا"؛ أي: صورةً وشكلاً يشبه شكلَ الحيوان، (التمثال): ما يُجعل على مثال شيء يشبهه، "إلا طمسته"؛ أي: إلا مَحَوْته، فإنَّ جَعْلَ صورة الحيوان محرَّمٌ إلا على الفراش. "ولا قبرًا مشرفًا"؛ أي: قبرًا مرتفعًا، "إلا سويته": أي: أزلت ارتفاعه،

وليس معنى التسويةِ هنا جعلَ القبر مستويًا على وجه الأرض بحيث لا يُعلم أنه قبر، بل هذا لا يجوز في قبور المسلمين، بل السنة: أن تجعل قبور المسلمين مرتفعةً من الأرض بقَدْرِ شبرٍ: إما مسطَّحًا، وإما مسنَّمًا، ولا ترفع أكثر من شبر. * * * 1204 - وقال جابر - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَصَّصَ القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يُقعدَ عليه. قوله: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه". تجصيصُ القبور والبناءُ عليها - بجَعْلِ بيتٍ على القبر، أو ضربِ خيمةٍ عليه - منهي؛ لأنه إضاعة المال من غير فائدة للميت فيه، ولأنه من فعل الجاهلية. وقد أباح السلف - رحمهم الله - أن يبنى على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس، ويستريح الناس بالجلوس في البناء الذي يكون على قبورهم مثل الرباطات والمساجد. وأما القعود على القبور: علة النهي عنه: أنه إذلالٌ واستخفاف بالميت، وهذا لا يليق بقبور المسلمين. وقد روي: أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا قد اتكأ على قبر فقال النبي عليه السلام: "لا تؤذ صاحب القبر"؛ يعني: الميت. وقد أجاز قومٌ الجلوس على القبر، وحَمَلَ حديث النهي عن القعود على القبر على أن المراد منه: القعود للتغوط على القبر والبول. * * * 1205 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجلِسوا على القُبورِ، ولا تُصَلُّوا إليها".

"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"؛ يعني: لا تصلُّوا وتلقاءَ وجوهكم قبر، وقد ذكر بحثه في باب المساجد. روى هذا الحديث: أبو مرثد (¬1) الغَنوي. * * * 1206 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يجلِسَ أحدُكم على جَمْرةٍ فَتُحرِقَ ثيابَهُ فتَخلُصَ إلى جِلْده خيرٌ له مِن أن يجلِسَ على قبرٍ"، يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لأن يجلس ... " إلى آخره. روى هذا الحديث أبو هريرة. قوله: "فتَخْلُصَ"؛ أي: فتصلَ الجمرةُ إلى جلده فتحرقَ جلده، "خيرٌ له من أن يجلس على قبر"؛ لأن الجلوس على القبر يوجب عذاب الآخرة، وعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة. * * * مِنَ الحِسَان: 1207 - قال عروةُ: كانَ بالمدينةِ رجلانِ أحدهما يَلْحَد والآخرُ لا يَلْحَدُ، فقالوا: أيُّهما جاءَ أولًا عَمِلَ عَمَلَه، فجاءَ الذي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "أحدهما يَلحد"؛ يعني: أحدهما يحفر القبر، ويجعل فيه اللحد، وهو أبو طلحة بن زيد بن سهل الأنصاري. قوله: "والآخر لا يلحد"؛ يعني: والآخر يحفر القبر، ولم يجعل فيه ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "أبو مرثد بن أبي مرثد"، والصواب المثبت.

اللحد، وهو أبو عبيدة بن الجراح، وجَعْلُ اللحد في القبر وتركُ اللحدِ كلاهما جائز، لأنه لو كان واحدٌ منهما منهيًا لَمَا فعله أبو عبيدة مع أنه من العشرة المبشَّرة بالجنة، وأبو طلحة مع أنه من كبار الصحابة. قوله: "فقالوا: أيهما جاء"؛ يعني: اختلف الصحابة في أنه يجعل قبر النبي - عليه السلام - مع اللحد، أو من غير اللحد. فاتفقوا على أن يبعثوا رجلين إلى الذي يلحد، وإلى الذي لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أولًا يعمل عمله، فجاء أبو طلحة، فحفر قبر رسول الله - عليه السلام - مع اللحد. * * * 1208 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّحدُ لنا، والشَّقُّ لغيرِنا". قوله: "اللحد لنا"؛ يعني: جُعل اللحد في القبر من اختيارنا، وهو أولى عندنا. قوله: "والشق لغيرنا"؛ أي: تركُ اللحد مختارٌ لأهل الأديان التي قبلنا، وقد قلنا: اللحد وتركُ اللحد جائزٌ، واللحدُ أفضل بدليل هذا الحديث. * * * 1209 - وعن هشام بن عامرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ أُحُد: "احْفِرُوا، وأَوْسِعُوا، وأَعْمِقُوا، وأَحْسِنُوا، وادفِنُوا، الاثنينِ، والثلاثةَ في قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا أكثرَهم قرآنًا". قوله: "أوسعوا"؛ أي: اجعلوا القبر واسعًا.

"وأعمقوا"؛ أي: اجعلوه بعيد القعر، السنة أن يكون القبر قَدْرَ قامة رجلٍ إذا مدَّ يده إلى رؤوس أصابع يديه. "وأحسنوا"؛ أي: اجعلوا القبر حسنًا بتسوية قعره عن الارتفاع والانخفاض، وتنقيته من التراب، وغير ذلك. روى هذا الحديث هشام بن عامر، وجدُّ هشام: أمية بن الخشخاش الأنصاري. * * * 1210 - وقال جابر: لمَّا كانَ يومُ أحدٍ جاءتْ عَمَّتي بأبي لتدفِنَه في مقابرنا، فنادَى منادِي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا القَتْلى إلى مَضاجِعِها". قوله: "ردوا القتلى إلى مضاجعها"؛ (ردوا) أمرُ مخاطَبين، يعني: لا ينقل الشهداء من الموضع الذي قُتلوا فيه إلى غيره، بل ادفنوهم حيث قتلوا، وكذلك حكمُ غير الشهيد لا ينقل من البلد الذي مات فيه إلى بلد آخر. * * * 1211 - عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سُلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ رأسِه. "سل رسول الله - عليه السلام - من قبل رأسه"، (سُلَّ): ماضٍ مجهولٌ، من سَلَّ: إذا جَرَّ؛ أي: أُدخل النبي - عليه السلام - في قبره من قِبَلِ رأسه بأن وُضع رأس الجنازة على مؤخَّر القبر، ثم يُدخل الميت القبر، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة فيما قبل القبلة من القبر بحيث يكون مؤخَّرُ

الجنازة إلى مؤخَّرِ القبر، ورأسُ الجنازة إلى رأس القبر، ويدخل الميت القبر. * * * 1212 - وعن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ قبرًا ليلاً فأُسْرِجَ له سراجٌ، فأخَذَ من قِبَلِ القبلةِ، وقال: "رحمكَ الله إنْ كنتَ لأوَّاهًا تلاءً للقرآن"، إسناده ضعيف. قوله: "فأسرج له سراج"؛ يعني: دخل رسول الله - عليه السلام - القبر في الليل، فوضع سراجٌ على طرف القبر ليضيء القبر، فأخذ رسول الله - عليه السلام - الميت من قِبَلِ القبلة، ووضعه في القبر. قوله عليه السلام: "إن كنتَ لأوَّاهًا تلاَّءً" (إنْ) بسكون النون بمعنى (إنَّ) بتشديد النون، وتقديره: إنَّك كنتَ لأوَّاهًا؛ أي: كنت كثير التأوُّه من خشية الله تعالى "تلاء"؛ أي: كثير القراءة. * * * 1214 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَثَى على الميتِ ثلاثَ حَثَيَاتٍ بيدَيْه جميعًا، وأنه رشَّ ماءً على قبرِ ابنهِ إبراهيم صلى الله عليه، ووضعَ عليه حَصباء"، مرسل. قوله: "حثا على الميت" هذا الحديثُ يدل على أن السنَّة لكلَّ واحدٍ من الذين يكونون على رأس القبر أن يحثوَ ثلاث حثيات من التراب في القبر بعد نصب اللَّبنات على اللحد، وعلى أنَّ رشَّ القبر بالماء ووضعَ الحصباء - وهو الحجار الصغار - على القبر سنةٌ؛ ليشتد القبر، كي لا ينبشه سبعٌ، وليكون علامةً للقبر. * * *

1215 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُجَصَّص القبورُ، وأن يُكْتَب عليها، وأن تُوطَأ يعني بالقدم. قوله: "وأن يكتب عليها"؛ يعني: مكروهٌ أن يكتب اسم الله واسمُ رسوله والقرآنُ على القبور؛ لأنه ربما يبولُ عليه الكلب وغيره من الدواب، وربما يضع عليه أحد رجليه، وتُلقي الريح التراب عليه، وكذلك يكره أن يُكتب اسم الله تعالى على جدار المساجد وغيرها، وكذلك القرآن. * * * 1217 - وعن المُطَّلِبِ أنه قال: لمَّا ماتَ عثمانُ بن مَظْعون - رضي الله عنه - فدُفِنَ؛ أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أن يأتِيَهُ بحجرٍ، فلم نستطع حملَها، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحَسَرَ عن ذراعيهِ وحملَها، فوضَعها عندَ رأسِه وقال: "أُعَلِّم بها قبرَ أخي، وأَدْفِنُ إليه مَن ماتَ مِن أهلي". قوله: "وحسر عن ذراعيه"؛ أي: أبعد كُمَّهُ عن ساعده ولفَّ كمَّه، كما هو عادةُ مَن يعمل عملًا. "أعلِّم بها قبر أخي"؛ يعني: أجعلُ هذه الصخرة علامةً لقبر عثمان بن مظعون، وعُلم من هذا الحديث: أنَّ جَعْلَ العلامة على القبر ليعرفه الناس سنَّةٌ، وكذلك دفنُ الأقارب بعضهم قريب من بعض. * * * 1218 - وقال القاسمُ بن محمدٍ: دخلتُ على عائشةَ رضي الله عنها فقلت: يا أُمَّاهُ!، اكشفي لي عن قبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكَشَفَتْ لي عن ثلاثةِ قُبورٍ لا مُشْرِفَةٍ ولا لاَطِئَةٍ، مبطوحةٍ ببطحاءِ العَرَصَةِ الحمراءِ. غريب.

قوله: "عن ثلاثة قبور" أحدها قبر النبي عليه السلام، والثاني قبر أبي بكر، والثالث قبر عمر - رضي الله عنهما -، وعلق على وجهها ستر. "لا مشرفة"؛ أي: ليست القبورُ بمرتفعةٍ ارتفاعًا كثيرًا. "ولا لاطئة"؛ أي: وليست مستويةً على وجه الأرض بحيث لا تكون مرتفعةً، بل كانت مرتفعةً قَدْرًا يسيرًا. قوله: "مبطوحة"؛ أي: مبسوطةً عليها بطحاءُ العَرْصة، البطحاء: الرمل، والعَرْصَة: اسم موضع. * * * 1219 - وقال البَرَاءُ بن عازبٍ - رضي الله عنه -: خَرَجْنَا مع رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازةٍ، فوجدْنا القبرَ لم يُلْحَدْ، فجلسَ مستقبَلَ القِبْلَةِ وجلسْنا معَه. قوله: "فوجدنا القبر لم يلحد" هذا يدل على أن القبر من غير اللحد جائزٌ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك القبر من غير لحدٍ ولم ينههم. قوله: "فجلس مستقبل القبلة" هذا يدل على أن الجلوس عند القبر إذا لم يتمَّ دفن الميت ليكن مستقبل القبلة، وأما عند زيارة الميت ليجلس مستقبل وجه الميت مستدبرَ القبلة. * * * 1220 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَسْرُ عظمِ المَيتِ ككَسْرهِ حَيَّاً". قوله: "ككسره حيًا"؛ يعني: كما أن كسر عضو رجلٍ حيًّ فيه إثمٌ، فكذلك كسرُ عظم الميت فيه إثم؛ لأنه استخفافٌ وإذلال، ولا يجوز إذلال

7 - باب البكاء على الميت

الإنسان لا في الحياة ولا في الممات. * * * 7 - باب البُكاء على المَيت (باب البكاء على الميت) مِنَ الصِّحَاحِ: 1221 - قال أنس - رضي الله عنه -: دخلنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سَيْفٍ القَيْنِ - وكان ظِئرًا لإبراهيمَ - فأخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيمَ فَقَبَّلَهُ وشمَّه، ثم دخلنا عليهِ بعدَ ذلكَ، وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ، فقالَ له عبدُ الرحمن بن عَوْفٍ: وأنتَ يا رسولَ الله؟، فقالَ: "يا ابن عوفٍ! إنها رحمةٌ"، ثم أَتْبَعَها بأُخرى فقال: "إن العينَ تَدمعُ، والقلبُ يحزنُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفِراقِكَ يا إبراهيم لَمَحْزُونون". قوله: "القين": الحداد. "وكان ظئرًا لإبراهيم": الظئر: المربي والمُرضع للطفل، يستوي في هذا اللفظ المذكَّر والمؤنث، يعني: كانت امرأته أم سيف تُرضع إبراهيم ابن النبي عليه السلام. قوله: "وشمه"؛ أي: وضع أنفه ووجهه على وجهه كمَن يَشَمُّ رائحة، هذا يدل على أن محبة الأطفال والترحُّمَ بهم سنَّةٌ. قوله: "ثم دخلنا عليه بعد ذلك"؛ أي: بعد أيام؛ إذ سمع - عليه السلام - أن إبراهيم مرض.

قوله: "وهو يجود بنفسه"؛ أي: وهو يتحرك ويتردَّد في الفراش؛ لكونه في النزع والغرغرة. "تذرفان"؛ أي: تقطران وتجريان الدمع. قوله: "وأنت يا رسول الله؟ "، يعني: وأنت تبكي كما يبكي غيرك؟ وإنما قال عبد الرحمن هذا لأنه ظن أن البكاء منهيٌّ قليلُه وكثيره. قوله عليه السلام: "إنها رحمة"؛ يعني: البكاء يجيء من القلب الرحيم، والقلب الرحيم محمودٌ. والبكاء يجوز من غير ندبٍ ونياحة، والمنهيُّ هو الندب والنياحة. قوله: "ثم أتبعها بأخرى"؛ أي: ثم أتبع تلك المرة من البكاء بمرةٍ أخرى، أو تلك الدمعة، أو أتبع قوله: (إنها رحمة) بكلمةٍ أخرى، وهي قول: "إن العين تدمع". قوله: "ولا نقول إلا ما يرضي ربنا": هذا يدل على أنه إذا لم يقل بلسانه شيئًا من الندب والنياحة، وما لا يرضاه الله تعالى، لا بأس بالبكاء. * * * 1222 - وقال أُسامة بن زيد: أَرْسَلَتْ ابنةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليه: إن ابنًا لي قُبضَ فأْتِنَا، فأرسلَ يُقْرِئُ السلامَ ويقول: "إنَّ للهِ ما أَخَذَ وله ما أَعْطَى، وكلٌّ عندَه بأجَلٍ مسمًّى، فلتصبرْ ولتحتسبْ"، فَأَرْسَلَتْ إليه تُقْسِمُ عليه ليأتيَنَّها، فقامَ ومعَه سعدُ بن عُبادَةَ، ورجالٌ، فَرُفِعَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ ونْفسُه تَتَقَعْقَعُ، ففاضَتْ عيناهُ، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله!، ما هذا؟، قال: "هذه رحمةٌ جعلَها الله في قُلوبِ عبادِهِ، فإنما يرحمُ الله من عبادِه الرحماءَ". قوله: "ابنًا لي قبض"؛ أي: قَرُبَ موتُه، وهو في النزع، فأرسل يقرئها

السلام؛ يعني: فأرسل رسول الله - عليه السلام - أحدًا إلى ابنته ليقول لها: إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى". قوله: "فلتحتسب"؛ يعني: لتطلب الثواب من الله في الصبر. قوله: "فأرسلت"؛ يعني: فأرسلت إليه أحدًا مرة أخرى. و"تقسم عليه"؛ أي: تقول له: أقسمتُ عليك أن تأتيني. قوله: "فرُفع إلى رسول الله - عليه السلام - الصبي"؛ أي: وضعه أحدٌ في حجر رسول الله عليه السلام، "ونفسه تتقعقع"؛ أي: تتحرك لكونه في النزع، "ففاضت عيناه"؛ أي: نزل الدمع من عيني رسول الله عليه السلام. قوله: "ما هذا؟ "؛ أي: ما هذا البكاء منك؟ قوله: "هذه رحمة"؛ يعني: البكاء رحمةٌ من رقة القلب، ومن ترحُّم الرجل على الناس، وهذه الصفة محمودة، وهو صفةُ رحيم القلب، ومَن يُرحِّمْ يُرحَّمْ عليه. * * * 1223 - وقال عبدُ الله بن عُمرَ: اشتَكَى سعدُ بن عُبادَةَ شَكْوى، فأتَاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُهُ مع عبدِ الرحمن بن عَوفٍ، وسعدِ بن أبي وقَّاص، وعبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنهم -، فلما دخلَ عليه وجدَه في غاشِيةٍ، فبكَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رَأَى القومُ بُكاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوا، فقال: "ألا تَسْمَعون!، إن الله لا يُعَذِّبُ بدمعِ العينِ، ولا بحُزْنِ القلبِ، ولكن يعذِّبُ بهذا - وأشار إلى لسانِهِ - أو يرحمُ، وإن الميتَ ليُعَذَّبُ ببكاءِ أهلِهِ عليه". قوله: "اشتكى"؛ أي: مرض، "شكوى"؛ أي: مرضًا. قوله: "وجده في غاشية"؛ أي: في شدةٍ من المرض، ويحتمل أن يريد به

أنه صار مغشيًا عليه من غاية المرض. "ألا تسمعون؟ "؛ أي: أما سمعتم وأما علمتم أنه لا إثم على الرجل في البكاء؟ قوله: "ولكن يعذب بهذا"؛ يعني: يكون الإثم فيما صدر من اللسان من [الجزع والنياحة. قوله: "أو يرحم"؛ يعني: يعذب بهذا؛ يعني: يكون الإثم فيما صدر من اللسان] بسبب اللسان إن قال شرًا، أو يرحم إن قال خيرًا، مثل أن يقول عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: "وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" قال الخطابي: إنما يعذَّب الميت إذا أوصى لأهله أن يبكوا عليه ويشقُّوا ثيابهم ويضربوا خدودهم وما أشبه ذلك، فإن أوصَى بهذا يعذَّب؛ لأنه أَمر ورضي بمعصية، وإن لم يوصِ بشيء من هذا، لا يعذَّب بأن يبكي أهله عليه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. {وَلَا تَزِرُ} أي: ولا تحمل {وَازِرَةٌ} أي: نفسٌ حاملة {وِزْرَ أُخْرَى}؛ أي: ذنبَ نفسٍ أخرى؛ يعني: لا يحمل أحدٌ ذنب غيره، ولا يؤاخَذُ واحدٌ بذنبِ غيره. * * * 1224 - وقال: "ليسَ منا مَن ضرَبَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودعا بدعَوى الجاهليةِ". قوله: "ليس منا"؛ أي: ليس من الذين يتَّبعونا؛ أي: ليس من أمتي الكاملين مَن ضرب يده على وجهه عند البكاء.

"وشق الجيوب"؛ أي: خرق ثوبه عند البكاء. "ودعا بدعوى الجاهلية"؛ أي: وقال عند البكاء ما يقول به أهل الجاهلية ممَّا لا يجوز في الشرع. روى هذا الحديث عبد الله بن مسعود. * * * 1225 - وقال: "أنا بريءٌ ممن حَلَقَ، وسَلَقَ، وخَرَقَ". قوله: "حلق"؛ أي: حلق رأسه عند المصيبة، وكان عادةُ العرب إذا مات لأحدهم قريبٌ أن يحلق رأسه، كما أن عادة العجم قطعُ بعض شعر الرأس. "سلق"؛ أي: رفع صوته بالبكاء وقال ما لا يجوز، فإن لم يقل بلسانه قولاً قبيحًا لا بأس بالبكاء. "وخرق"؛ أي: شق ثوبه بالمصيبة. روى هذا الحديث أبو موسى الأشعري. * * * 1226 - وقال: "أربعٌ في أُمَّتي من أمرِ الجاهليةِ لا يَتْرُكُونَهن: الفخْرُ في الأَحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ. وقال: "النائحةُ إذا لم تَتُبْ قبلَ موتِها، تُقامُ يومَ القيامَةِ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرَانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ". قوله: "الفخر في الأحساب"، (الأحساب): جمع حَسَب، وهو ما يَعُدُّه الرجل من الخصال التي تكون فيه كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك؛ يعني: تفضيلُ الرجل نفسَه على غيره ليَحْقِرَه لا يجوز.

قوله: "والطعن في الأنساب"؛ (الطعن): العيب؛ يعني: تحقير الرجل آباءَ غيره وتفضيلُ آبائه على آباء غيره ليؤذيه، لا يجوز، فإن كان أبو أحدهما مسلمًا وأبو الآخر كافرًا جاز تفضيلُ المسلم على الكافر. قوله: "والاستسقاء بالنجوم"؛ يعني: اعتقادُ الرجل نزولَ المطر بظهور نجمِ كذا هذا حرام. قوله: "والنياحة"، (النياحة): أن يقول مَن مات له قريبٌ: واويلاه واحسرتاه، والندب: أن يَعُدَّ عند البكاء خصالَ الميت، بأن يقول: واشجاعاه واأسداه. روى هذا الحديث أبو مالك الأشعري. قوله: "النائحة"؛ أي: المرأة التي تَعدُّ خصال الميت؛ لتوقع أقرباء الميت وغيرهم في البكاء. "السربال": القميص. "القطران": دهنٌ يدهن به الجمل الأجرب. "الدرع": قميصُ النساء. يعني: النائحة تلبس في المصيبة قميصًا أسود للمصيبة، وتخدش وجهها، وتخدش أيضًا قلوب الحاضرين بما تعدُّ من خصال الميت، فيجازيها الله تعالى يوم القيامة بأن يُلبسها لباسًا من قطران، ولباسًا من جرب. ولباس القطران يكون أسود، ويسرع اشتعالُ النار فيه، ومعنى لباس الجرب: أنه يصير جلدها أجرب حتى يكون جَرَبُها كقميصٍ على أعضائها، وإنما فُعل بها هذا؛ لتحك وتخدش أعضاءها من الجرب، كما خدشت وجهها وقلوب الحاضرين بكلماتها.

روى هذا الحديث أبو مالك الأشعري. * * * 1227 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ تبكي عندَ قبرٍ، فقال: "اتقي الله واصْبري"، فقالت: إليكَ عَنِّي، فإنك لم تُصَبْ بمصيبَتي - ولم تعرفه - فقيلَ لها: إنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتَتْ بابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ تَجِدْ عندَه بَوَّابينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال: "إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأُولى". قولها: "إليك عني"؛ أي: ابعد ولا تلُمني، فإنه لم يصبك ما أصابني. "فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: قيل لها بعد ما ذهب (¬1) النبي عليه السلام: إنه النبي، فندمت على ما جاوبت رسول الله عليه السلام "فأتت باب النبي - عليه السلام - لتعتذر، فلم تجد عنده بوَّابين" ليس النبي - عليه السلام - مستكبرًا ولا جبارًا، ولم ينصب على بابه بوَّابًا ولا حاجبًا، كما هو عادة الملوك. قوله: "الصبر عند الصدمة الأولى"، (الصدم): الدق، يعني: الصبرُ المَرْضيُّ المثابُ عليه هو الصبر عند ابتداء المصيبة ولحوقِ المشقَّة، فأما الصبرُ بعد ما مضى زمانٌ مديدٌ فلا قَدْرَ له؛ لأن الصبر بعد مضيِّ مدةٍ ضروريٌّ، ولا قَدْرَ للضروري. * * * 1228 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتُ لمسلمٍ ثلاثةٌ من الوَلَدِ فيَلِجَ النارَ إلا تَحِلَّةَ القَسَم". قوله: "فيلج النار"؛ أي: فإن يلج النار؛ يعني: لا يدخل النار. "إلا تحلة ¬

_ (¬1) في "ش": "بعد ذهاب".

القسم"، (التحلّة): التحليل، وتحليل القسم: جَعْلُه صدقًا؛ يعني: لا يدخل النار إلا أن يمرَّ عليها من غيرِ لُحوقِ ضررٍ منها به، ومرورُه على النار إنما كان ليَجعل الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] صدقًا. ومعنى {وَارِدُهَا}: أي: آتي النار ومجاوِزٌ عليها. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1229 - وقال لِنِسْوَةٍ من الأنصارِ: "لا يموتُ لإحداكُنَّ ثلاثةٌ من الولد فتحتسبَهُ إلا دخلَتْ الجنَّةَ"، فقالت امرأة: واثنانِ يا رسول الله؟، قال: "واثنانِ". وفي روايةٍ: "ثلاثةٌ لم يبلغوا الحِنْثَ". قال ابن شُميل: معناه قبل أن يبلغوا فيُكتبَ عليهم الإثمُ. "فتحتسبه"؛ أي: فتصبر للطمع في ثواب الله تعالى. قوله: "لم يبلغوا الحنث"؛ يعني: لم يبلغوا الاحتلامَ والبلوغ، فإن الشخص ما لم يبلغ لم يكتب عليه حنث؛ أي: ذنب، يعني: ثلاث أولاد يموتون قبل البلوغ. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * 1230 - وقال: "يقولُ الله تعالى: ما لِعَبْدي المُؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّه مِن أهلِ الدنيا ثم احتسَبَهُ إلا الجنة".

قوله: "صفيه"؛ أي: ولده، و (الصفيُّ): المختار والمحبوب. قوله: "ثم احتسبه"؛ أي: ثم صبر عليه طلبًا لثواب الله تعالى. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: (من الحسان): 1232 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجَبًا للمؤمن!، إنْ أصابَهُ خيرٌ حَمِدَ الله وشَكَرَ، وإنْ أصابَتْهُ مصيبةٌ حَمِدَ الله وصبَرَ، فالمؤمنُ يُؤجرُ في كلِّ أمرِهِ، حتى في اللُّقمةِ يرفعُها إلى في امرأتِهِ". قوله: "إن أصابته مصيبة حمد الله تعالى وصبر" هذا يدلُّ على أن الحمد محمودٌ عند النعمة وعند المصيبة. وتحقيق الحمد عند المصيبة: أن المصيبة نعمةٌ أيضًا؛ لأنه يحصل له ثوابٌ عظيم، والثواب نعمةٌ خيرٌ من نعم الدنيا، فالحمد لهذا. قوله: "يرفعها إلي في امرأته"، (في) هنا بمعنى الفم؛ يعني: يحصل للمؤمن أجرٌ في جميع أمره، حتى في وضع اللقمة في فم امرأته. فإن قيل: كيف يؤجر في جميع أمره، بل ينبغي أن يقال: فيما هو خيرٌ من أمره؟. قلنا: الأمر ثلاثة أنواع: خيرٌ وشرٌّ ومباحٌ، فالمراد هنا بـ (أمره): الخير والمباحُ، فالمباح ينقلب خيرًا بالنية والقصد، مثالُه: النوم مباح، فإذا قصد بالنوم زوالَ التعب والملالةِ ليقوم لصلاة الصبح عن نشاطٍ وفرحٍ، يكون نومه طاعة. والأكل مباح، فلو قصد به قيام جسده وحصولَ القوة فيه حتى يقدر على الطاعة، يكون الأكل طاعة، وكذلك جميع المباحات.

روى هذا الحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. * * * 1233 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مُؤمنٍ إلا وله بابانِ بابٌ يصعدُ منهُ عملهُ، وبابٌ ينزلُ منه رِزْقُهُ، فإذا ماتَ بَكَيَا عليه، فذلكَ قوله - عز وجل -: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]. قوله: "بكيا عليه" ووجه بكائهما عليه: أن الله تعالى خلق السماوات والأرض لعباده من الملائكة والجن والإنس، فمَن صدر خيرٌ منه تحبُّه السماء والأرض، وما كان مشغولًا به من السماء والأرض يتشرَّف لأجله، فإذا مات العبد الذي يتشرَّف به مكانُه وما كان مشغولًا به من السماء والأرض بكيا بفراقه؛ لأنه انقطع خيره من السماء والأرض، ولا شك أن السماء والأرض تحزنان وتبكيان على انقطاع الخير عنهما، هذه صفة المؤمن. وأما الكافر: تتأذى به السماء والأرض؛ لأنه يصدر منه الكفر والشر، فإذا مات تفرح السماء والأرض بموته؛ لأنه انقطع عنهما كفره وشره، فإذا كان كذلك فلا تبكيان عليه. * * * 1234 - عن ابن عباس قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانَ له فَرَطَانِ مِن أمتي أدخلَهُ الله بهما الجنَّةَ"، فقالت عائشةُ رضي الله عنها: فَمَن كانَ له فَرَطٌ مِن أُمَّتِكَ؟، قال: "وَمَن كانَ له فَرَطٌ يا مُوَفَّقةُ"، فقالت: فمَن لم يكنْ له فَرَطٌ مِن أُمَّتك؟، فقال: "فأنا فَرَطُ أمَّتي، لن يُصابوا بمِثْلي"، غريب. قوله: "من كان له فرطان"، (الفرط) بفتح الفاء والراء: الذي يتقدم القومَ

ليهيئ أسبابهم في المنزل، حتى إذا وصلوا إلى المنزل تكون أسبابهم مهيَّأة، والمراد هنا: الطفل الذي مات، سمِّي فَرَطًا لأنه يتقدم أبويه في الذهاب إلى الآخرة، يعني: من مات له ولدان عوَّضه الله تعالى الجنة عن مصيبته، وبتجرُّح قلبه بموتهما. قوله: "فمن كان له فرط"؛ يعني: مَن مات له ولدٌ واحد فهل يكون له هذا الثواب أيضًا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن كان له فرط"؛ يعني: من مات له ولد يكون له هذا الثواب أيضًا. قوله لها: "يا موفَّقة"؛ يعني: الحرص على معرفة الشرع، والشفقة على الخلق بسؤالِ قَدْرِ ثوابهم، وذكاءُ القلب على السؤال = توفيقٌ من الله الكريم، وأنت موفَّقةٌ بهذه الأشياء. قوله: "لن يصابوا بمثلي"؛ يعني: لم تصل مصيبةٌ إلى أمتي مثل موتي، هذا يدل على أن المؤمن ليَكُنْ فوتُ ما يتعلق بالدِّين وفوتُ مَن تكون محبته لله تعالى عنه أشدَّ عنده من فوت ما تكون محبتُه نفسانيًا كالولد وغيره. * * * 1235 - وقال: "إذا ماتَ ولدُ العبدِ؛ قال الله لملائكتِهِ: قَبَضْتُم ولَد عبدي؟، فيقولونَ: نعم، فيقول قَبَضْتُم ثَمَرَةَ فؤادِهِ؟، فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قالَ عبدي؟، فيقولون: حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ، فيقولُ الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنةِ، وسَمُّوهُ بيتَ الحمدِ". قوله: "واسترجع"؛ أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: "سمُّوه بيتَ الحمد"؛ أي: اجعلوا اسمَ ذلك البيت: بيت الحمد، أضاف ذلك البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة؛ لأن ذلك البيتَ يكون جزاءَ ذلك الحمد.

روى هذا الحديث أبو موسى الأشعري. * * * 1236 - وقال: "مَنْ عَزَّى مصابًا فله مثلُ أجرِهِ". قوله: "من عزى مصابًا"، (التعزية): أن يأمر أحدٌ أحدًا بالصبر، والمراد هنا: أن يقول لمَن مات له قريبٌ: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. العزاء - بالمد -: الصبر. روى هذا الحديث عبد الله بن مسعود. * * * 1237 - عن أبي بَرْزَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدًا في الجنَّةِ"، غريب. قوله: "من عزى ثكلى"، (ثكلى) بفتح الثاء: المرأة التي مات ولدها. * * * 1238 - وروي: أنَّه لمَّا جاءَ نَعْيُ جَعْفرَ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصنَعُوا لآلِ جعفرٍ طعامًا، فقد أتاهُمْ ما يَشْغَلُهم". "نعي جعفر"؛ أي: خبر موته. قوله: "ما يشغلهم"؛ أي: ما يمنعهم عن تهيئة الطعام. وهذا يدل على أن المستحَبَّ لأقرباء الميت وجيرانه أن يرسلوا طعامًا إلى أهل الميت. روى هذا الحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. * * *

8 - باب زيارة القبور

8 - باب زِيارة القُبور (باب زيارة القبور) مِنَ الصِّحَاحِ: 1239 - عن بُرَيْدة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَهيتُكم عن زيارةِ القبورِ، فزوروها، ونهيتُكم عن لُحومِ الأَضاحي فوقَ ثلاثٍ، فأمسكوا ما بدَا لكم، ونهيتُكم عن النَّبيذ إلا في سِقَاءٍ، فاشرَبُوا في الأَسْقِيَةِ كلِّها، ولا تشرَبُوا مُسْكِرًا". "نهيتكم عن زيارة القبور"؛ يعني: نهيتكم قبل هذا عن زيارة القبور، ثم رخَّصتُ لكم في زيارتها. "ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث"، (الأضاحي): جمع أُضحية، وهي ما يُذبح يومَ العاشر من ذي الحجة وأيامَ التشريق للقربان. كان رسول الله - عليه السلام - نهاهم عن أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم بعد ثلاثة أيام، وما بقي بعد ثلاثة أيام في أيِّ وقت شاؤوا وجب عليهم التصدُّق به؛ فرخَّص لهم أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم بعد ثلاثة أيام، ويلزمهم أن يعطوا الفقراء شيئًا منها، ويجوز أن يعطوا الأغنياء والفقراء، ولكن للفقراء أفضل. قوله: "ونهيتكم عن النبيذ"؛ يعني: عن إلقاء التمر والزبيب وغيرهما من الحلاوى في الماء، وكانوا يلقون التمر وغيره في الماء ليصير الماءُ حلوًا فيشربونه، فنهاهم النبي - عليه السلام - أن لا يلقوا إلا في السِّقاء، فإن السِّقاء جلدٌ رقيق لا يَجعل الماء حارًا، فلا يصير مُسْكِرًا عن قريب، بخلاف سائر

الظروف، فإن سائر الظروف تجعل الماء حارًا؛ فيصير النبيذ مسكرًا عن قريب، فرخَّص لهم النبي - عليه السلام - عن شرب النبيذ من كل ظرفٍ ما لم يَصِرْ مُسْكرًا. * * * 1240 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: زارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبرَ أُمِّه فَبَكَى وأَبكى مَنْ حَوْلَهُ، فقالَ: "استأذنتُ ربي في أنْ أستَغْفِرَ لها فلم يأْذنْ لي، واستأذنْتُهُ في أن أزورَ قبرَها فأَذِنَ لي، فزوروا القبورَ، فإنها تذكِّرُكم الموتَ". قوله: "وأبكى من حوله"؛ يعني: حتى بكى الذين معه لكثرة بكائه، هذا يدل على أن البكاء جائز. قوله: "فلم يؤذن لي" وإنما لم يأذن الله تعالى له في أن يستغفر لأمه؛ لأنها كانت كافرةً، والاستغفارُ للكافر والكافرة لا يجوز؛ لأن الله تعالى لن يغفر لهم أبدًا. قوله: "فاستأذنته في أن أزور قبرها": هذا تعليمٌ لأمته في قضاء حقوق الآباء والأمهات، والأقارب والأصدقاء؛ [أي:] مع أن أمي كافرة لم أترك قضاء حقِّها من الزيارة، فلا تتركوا زيارة قبور المسلمين. * * * 1241 - عن بُرَيدَة - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهم إذا خَرَجوا إلى المقابرِ: "السلامُ عليكم أهلَ الديارِ من المؤمنينَ والمُسلمينَ، وإنَّا إنْ شاءَ الله بكم لاحِقُونَ، نسأَل الله لنا ولكم العافية". وعنه في روايةٍ: "إنَّا إنْ شاء الله بكم لاحِقُون، أنتم لنا فَرَطٌ ونحن لكم تَبَعٌ، نسأل الله العافية".

قوله: "السلام عليكم" هذا يدلُّ على أن التسليم على الأموات كالتسليم على الأحياء. وأما قوله - عليه السلام - في حديث آخر: "عليك السلام تحية الموتى": وإنما قال هذا بعُرفهم؛ لأن عُرف العرب أن يقولوا إذا سلَّموا على قبر: عليك السلام، فتكلم رسول الله - عليه السلام - على وفق عادتهم. قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" ليس في بعض نسخ "المصابيح" لفظة: (بكم)، ولعله تركٌ من الناسخ؛ لأنه في كتب "الصحاح": "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". ولفظة: (إن شاء الله) ليست للشك، بل للتبرُّك وزينة الكلام. وهذا كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، ومعلومٌ أن لفظة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} في هذه الآية ليست للشك؛ لأن الشك لا يجوز على الله تعالى. (اللاحقون): الواصلون. "العافية": الخلاص من المكروه. * * * مِنَ الحِسَان: 1242 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقبُورٍ بالمدينةِ، فأقْبَلَ عليهم بوجهِهِ فقالَ: "السلامُ عليكم يا أهلَ القبورِ، يغفرُ الله لنا ولكم، أنتم سلفُنا ونحنُ بالأثَرِ". وبالله التوفيق. قوله: "فأقبل عليهم بوجهه" اعلم: أن زيارة الميت كزيارته في حال حياته، يُستقبل وجهه، فإن كان في الحياة إذا زاره يجلس منه على البعد لكونه

عظيم القدر، فكذلك في زيارته ميتًا يقف أو يجلس منه بالبعد، وإن كان يجلس منه على القرب في حياته، فكذلك يجلس بقربه إذا زاره ميتًا. وإذا زاره يقرأ الفاتحة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات، وإن قرأها اثني عشر كان حسنًا، ثم يدعو له. روى الحسن البصري، عن أنس بن مالك، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفِّف عنهم يومئذ، وكان له بعددِ مَن فيها حسنات". هكذا نقل هذا الحديث الإمام أبو الفُتوح العِجْليُّ - رحمة الله عليه - في "تفسيره". ومعنى (خفِّف عنهم): أن يزيل عنهم عذاب ذلك اليوم. يريد (بعدد من فيها): بعددِ كلِّ ميتٍ في تلك المقابر يحصل حسنةٌ لمَن قرأ (يس). قوله: "يغفر الله لنا ولكم": هذا يدلُّ على أنَّ مَن يدعو للحيِّ والميت؛ ليُقدِّمْ دعاء الحي على دعاء الميت، وكذلك مَن يدعو لحاضرٍ وغائب ليقدِّم دعاءَ الحاضر على دعاء الغائب، يقول: يغفر الله لك وله، وعليك وعليه السلام، وما أشبه ذلك. ° ° °

6 - كتاب الزكاة

6 - كِتابُ الزَّكَاةِ

[6] كِتابُ الزَّكَاةِ (كتاب الزَّكَاةِ) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1243 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ مُعاذًا إلى اليَمنِ فقال: "إنك تأْتي قومًا أهلَ كتابٍ، فادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، فإنْ هُمْ أطاعوا لذلك فأَعْلِمْهُم أنَّ الله قد فَرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ، فإنْ هم أَطاعوا لذلك فأعْلِمْهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقةً تُؤْخَذْ مِن أغنيائهم فَتُرَدُّ على فُقرائهم، فإنْ هم أَطاعوا لذلك فإيَّاكَ وكرائمَ أَموالِهِم، واتَّقِ دعوةَ المَظلومِ، فإنَّه ليسَ بينَها وبينَ الله حِجَابٌ". "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله": هذا يدل على أن الغزاة يجب عليهم عرضُ الإسلام على الكفار قبل أن يقاتلوهم، فإن أسلموا فهو المراد، وإن لم يُسْلِموا؛ فإن كانوا أهلَ التوراة والإنجيل، أو كانوا مجوسًا، فيعرضوا عليهم الجزية، فإن قبلوا الجزية فلم يقاتلوهم، وإن لم يقبلوا فحينئذ يقاتلونهم، وإن كانوا كفارًا غير هذه الأصناف الثلاثة لا تقبل منهم الجزية، بل يُقتلون إذا لم يُسْلموا.

قوله: "فإن هم أطاعوا لذلك"، (إنْ) بسكون النون كلمة الشرط، تقديره: إن أطاعوا لذلك - يعني: إن قبلوا الإسلام - فأخبرهم بوجوب أركان الشرع عليهم. قوله: "قد فرض الله عليهم صدقة"؛ أي: زكاة. قوله: "تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم": هذا يدلُّ على أن الزكاة تُصرف إلى فقراء بلد المال؛ لأنه أضاف إلى فقرائهم، ولو نَقَلَ الزكاة عن ذلك البلد إلى بلدٍ آخَرَ كُرِهَ، ولكن تسقط عنه عند أبي حنيفة والشافعي. وللشافعي قول: أنه لا تسقط عنه، والفتوى على القول الأول. قوله: "فإياك وكرائم أموالهم"، (الكرائم): جمع كريمة، وهي خيار المال، يعني: فإياك - أي: فاحذر - من أخذ خيار أموالهم، بل لا تأخذ الخيار إلا برضاهم، ولا تأخذ الرديء، بل خذ الوسط. قوله: "واتق دعوة المظلوم"؛ يعني: لا تظلم أحدًا بأن تأخذ منهم ما ليس بواجبٍ عليهم، أو تؤذيهم بلسانك، فإنك لو ظلمت أحدًا ودعا المظلومُ عليك بسوءٍ يقبل الله تعالى دعاءه، فإن الله تعالى لا يردُّ دعاء المظلوم. * * * 1244 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ صاحبِ ذَهبٍ ولا فِضَّةٍ لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كانَ يومُ القيامةِ صُفِّحَت له صَفائحَ مِن نارٍ، فأُحمِيَ عليها في نار جهنَّم، فيُكْوَى بها جَنْبُه وجَبينُهُ وظَهْرُهُ، كلَّما بَرَدَتْ أُعيدَتْ له في يومٍ كانَ مِقْدَارَه خمسينَ ألفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بينَ العبادِ، فَيَرَى سبيلَهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النارِ، قال: ولا صاحبِ إبلٍ لا يُؤُدِّي منها حقَّها، ومِن حقِّها حَلْبُها يومَ وِرْدِها إلاَّ إذا كانَ يومُ القيامةِ بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ أوفَرَ ما كانت، لا يفقِدُ منها فَصِيلًا واحدًا تَطؤه بأَخْفافها، وتَعَضُّه بأَفواهِهَا، كلَّما مَرَّ

عليهِ أُولاهَا رُدَّ عليهِ أُخراها في يومٍ كانَ مِقْدَارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ حتى يُقْضَى بينَ العبادِ، فيَرَى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النارِ، ولا صاحبِ بقَرٍ ولا غنَمٍ لا يُؤَدِّي منْها حَقَّها إلا إذا كانَ يومُ القيامةِ بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ منها شيئًا ليسَ فيها عَقْصَاءُ ولا جَلْحَاءُ ولا عَضْبَاءُ تنطحُهُ بُقرونِها، وَتَطَؤُهُ بأَظلاَفِهَا، كلَّما مَرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها في يومٍ كانَ مِقدارَه خمسينَ ألفَ سنةٍ حتى يُقضَى بينَ العبادِ، فَيَرَى سبيلَهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النارِ". قال: "والخيلُ ثلاثةٌ: لِرَجُلٍ أجرٌ، ولرجلٍ سِتْرٌ، وعلى رجلٍ وِزْرٌ، فأمَّا الذي له أجرٌ: فرجلٌ ربَطها في سبيلِ الله، فأَطالَ لها في مَرْجٍ أو رَوْضَةٍ، فما أصابَتْ في طِيَلِها ذلكَ من المَرْج أو الرَّوضةِ كانَ له حَسَنَاتٍ، ولو أنه انقطعَ طِيَلُها فاسَتَّنت شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ كانتْ آثارُها وأرواثُها حسناتٍ له؛ ولو أنها مَرَّت بنهرٍ فَشَرِبَتْ منه ولم يُردْ أنْ يسقيَها كانَ ذلك حسناتٍ له، وأمَّا الذي هي له سِترٌ: فرجلٌ ربَطها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا، ثم لم يَنْسَ حَقَّ الله تعالى في رِقابها ولا ظهورِها، فهي له سِتْرٌ، وأما الذي هي عليه وِزْرٌ: فرجلٌ ربطَها فخرًا ورياءً ونِواءً لأهلِ الإِسلام، فهي على ذلك وِزرٌ". وسُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحُمُرِ؟، فقال: كما أُنزِلَ عليَّ فيها شيءٌ إلا هذه الآيةُ الفاذَّةُ الجامعةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} " [الزلزلة: 7 - 8]. قوله: "لا يؤدي منها حقها" ذكر الذهب والفضة، قال: (لا يؤدِّي منها حقَّها)، فينبغي أن يقول: منهما حقَّهما، لكن أراد به: من كلِّ واحدة منهما حقَّها، فالفضةُ مؤنَّثٌ لوجود التاء فيها، والذهب يجوز تأنيثه أيضًا؛ لأنه بمعنى العين، والعين مؤنَّثٌ.

"التصفيح": جَعْلُ الشيء عريضًا، والصفائح: جمع صفيحة، وهي العريضة؛ يعني: جُعلت فضتُه أو ذهبه إذا لم يؤدِّ زكاتها يوم القيامة كأمثال الألواح ثم أحميت تلك الصفائح؛ أي: جُعلت حارةً في نار جهنم حتى صارت كألواحٍ من نار. قوله: "صفائح من نار"؛ أي: جُعلت كأنها من نارٍ من غاية حرارتها، ولا يجوز أن يقال: تكون صفائحَ من نار؛ لأنه لو كانت تلك الصفائح من النار، فيكون قوله: "فأحمي عليها" بلا معنى، ولفظة: (عليها) ضمير من (الصفائح)، وتقديره: أُحميت تلك الصفائح. قال المفسرون والمحدِّثون: إن علَّةَ أن يُكوى جنبُ مانع الزكاة وجبينُه - أي: جبهته - وظهره من بين سائر أعضائه أن صاحب المال إذا رأى الفقير الطالب الزكاة يقبض جبهته ويعبس وجهه، فيتأذى الفقير، فإذا سأله الزكاة يصرف إليه جنبه ويُعرض عنه، فإذا بالغ في السؤال يقوم ويصرف ظهره إلى الفقير، ويذهب ولا يعطيه شيئًا، فيعذب الله تعالى أعضاءَه التي آذى بها الفقير بأن يكوي بماله تلك الأعضاء. قوله: "كلما ردَّت أعيدت"؛ يعني: كلما وصل كيُّ هذه الأعضاء من أولها إلى آخرها أُعيد الكيُّ إلى أولها حتى وصل إلى آخرها. قوله: "ومن حقِّها حلبُها يوم وردها"، (الورد): الإتيان إلى الماء، ونوَبةُ إتيان الإبل إلى الماء في كلِّ ثلاثة أيامٍ يومًا، أو في كلِّ أربعة أيامٍ يومًا، وربما يأتي بعد ثمانية أيام. يعني: الحقوقُ التي تصرف إلى الفقراء من الإبل: أحدها الزكاة، والثاني أن تحلب الإبل يوم وردها - أي: عند الماء - حتى يكون الفقراء حاضرين، ثم ليُصْرَفْ بعض لبنها إليهم، ولا يحلبها في موضعٍ بعيدٍ من الطريق والماء، وفي موضعٍ خالٍ

كيلا يراه الفقراء. وقيل: معناه: ومن حقها أن يحلبها في اليوم الذي شربت فيه الماء، ولا يحلبها في يوم لم تَسْتقِ فيه الماء، ويكون عطشُها فيه؛ لأن العطش ضررٌ ومشقَّةٌ، وحلبها مشقةٌ أخرى، فيلحقها مشقَّتان. قوله: "بُطح لها (¬1) بقاعٍ قرقرٍ"، (بطح) بضم الباء وكسر الطاء؛ أي: أُلقي على وجهه، (القاع والقرقر) كلاهما: الموضع المستوي، وذكر كِلاَ اللفظين للتأكيد. قوله: "أوفر"؛ أي: أَتمَّ ما كانت في الدنيا. "لا يفقد"؛ أي: لا يَعْدَمُ ولا ينقص "منها فصيلًا"؛ أي: ولدًا، بل تحضر جميعها "تطؤه"؛ أي: تضربه الإبل "بأخفافها"؛ أي: بأرجلها، وأصل (تطأ): تَوْطَأ، فحُذفت الواو. "وتَعَضُّه بأفواهها"؛ أي: وتأخذه بأسنانها، وتشقُّ جلده وتعذِّبه؛ لأنه لم يُخرج الزكاة منها. قوله: "كلما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها" هكذا في "المصابيح"، وفي "شرح السنة"، وفي بعض الروايات المذكورة في كتاب مسلم. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه قال: "كلما مضى عليه أُخراها رُدَّت عليه أُولاها". وفي رواية أبي ذر: "كلما جازت أُخراها ردَّت عليه أُولاها". والروايتان الأخيرتان أقرب إلى المعنى؛ لأن الردَّ إنما يكون إذا انتهى مرور آخر قطار الإبل، فإذا مَرَّ الآخِرُ يعاد الأول. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "له"، والمثبت هو الصواب.

يعني: أبدًا تمرُّ عليه إبلُه وتضربه بأخفافها وتعضُّه بأسنانها مرةً بعد أخرى في عرصة القيامة حتى يفرغ من حساب العباد. قوله: "ليس فيها عقصاء"، (العقصاء): الشاة أو البقرة مال قرنُها إلى خلف أذنها، "الجلحاء": التي لا قرن لها، "العضباء": المكسورة القرن، يعني: بقره وغنمُه يوم القيامة ليست بهذه الصفات؛ لأنَّ الشاة التي لها صفةٌ من هذه الصفات لا تقدر على النطح، ولا يكون نطحها شديدًا، بل يكون لها يومئذٍ قرنان مستويان؛ ليكون نطحها لصاحبها شديدًا. "النطح": الضرب بالقرن أحدًا، و"الوطء": الضرب بالرجل، "الأظلاف": جمع ظِلْفٍ، والظِّلْفُ للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس. قوله: "والخيل ثلاثة"؛ يعني: رَبْطُ الرجلِ الخيلَ على ثلاثة أنواع. قوله: "في سبيل الله"؛ أي: ليجاهد الكفار على ظهرها، "فأطال لها في مرج"، (المرج): المرعى؛ يعني (¬1): طوَّل حبلها لترعى في المرعى. قوله: "فما أصابت في طيلها"؛ (الطيل) أصله: طِوْل - بالواو - فقُلبت الواو ياءً لأن الياء أخفُّ من الواو، و (الطيل): الحبلُ الذي يشدُّ أحد طرفيه إلى وتدٍ أو شجر، وطرفه الآخر إلى يد الفرس ليرعى في المرعى كي لا يفر، يعني: فما وجد من العلف في ذلك المرج يحصلُ لمالكها بذلك أجرٌ؛ لأن نيته في ذلك الجهاد، وهو طاعةٌ عظيمة. قوله: "فاستنَّت"؛ أي: ركضت "شرفًا"؛ أي: طَلَقًا وشوطًا، وهو العَدْوُ من موضعٍ إلى موضع. "آثارها"؛ أي: خطواتها. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يعني قوله"، والمثبت هو الصواب.

"وأرواثها"؛ أي: ما يسقط من الروث، وهو السِّرْجين. يعني: يحصل بجميع حركاتها وسكناتها لمالكها أجرٌ. قوله: "ولم يُرِدْ أن يسقيها"؛ يعني: لو شربت الفرس بنفسها من غير أن يسقيها مالكها، يحصل له أيضًا ثواب. قوله: "تغنيًا وتعفُّفًا"، (التغنِّي): إظهارُ الغنى، و (التعفُّف): إظهار العِفَّة، وهي حفظ النفس عن الفواحش والسؤال، يعني: رَبَطَ الفرس ليركبها إذا مشى في قضاء حوائجه كيلا يحتاج إلى أن يسأل مركوبًا أحدًا. ويحتمل أن يريد به: ربطها للنتاج؛ ليحصل له بنتاجها استعناءٌ، وكلُّ ذلك مباح. قوله: "ثم لم ينسَ حق الله تعالى" أراد به عند الشافعي: أنه لو طلبها أحد ليركبها إلى موضع، أو وَجَد مضطرًا عاجزًا في الطريق، لم يبخل بها، بل يُرْكِبه عليها. وعند أبي حنيفة: المراد به الزكاة. قوله: "فهي له ستر"، (الستر) هنا: ما يحفظه عن السؤال والاحتياج إلى مال أحد، بل يستغني بها وبنتاجها عن مال غيره. قوله: "فخرًا ورياء"؛ يعني: يربط الخيل ليفخر بها على الفقراء، وليظهر عن نفسه التكبر والعظمة. قوله: "ونواءً لأهل الإسلام"، النِّوَاء والمُناوَأة: المخاصمةُ المحارَبة، يعني: ليحارب المسلمين على ظهرها. "فهي على ذلك وِزْرٌ"؛ يعني: تكون تلك الفرس على ذلك القصد والنية وزرًا لصاحبها.

قوله: "وسئل رسول الله - عليه السلام - عن الحمر"؛ يعني: هل يجب الزكاة فيها أم لا؟، (الحمر): جمع حمار. قوله: "ما أنزل عليَّ فيها"؛ يعني: ما أنزل عليَّ وجوبُ الزكاة فيها، إلا أنه داخلٌ في حكم قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]؛ يعني: إنْ عاون بها أحدًا يجد ثواب ذلك، وذلك بأن يعطيها أحدًا عارية ليركبها، أو يحمل عليها حملاً. قوله: "الفاذة"؛ أي: المنفردة؛ يعني: ليس في القرآن آيةٌ مثلُها في قلة الألفاظ، وجمع معاني الخير والشر فيها. روى هذا الحديث - أعني: من قوله: "والخيل ثلاثة" إلى هنا - أبو هريرة. * * * 1245 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن آتَاهُ الله مالًا فلَم يؤدِّ زَكاتَهُ مُثِّلَ له مالُه يومَ القيامةِ شُجاعًا أقرعَ له زَبيبتانِ، يُطَوِّقُه، ثم يأخذُ بِلِهْزِمَتَيهِ - يعني شِدْقيه - يقول: أنا مالُكَ أنا كنزُكَ"، ثم تلا هذه الآيةَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية [آل عمران: 180]. قوله: "مثِّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان"، (مُثِّل): ماضٍ مجهولٌ من التمثيل، وهو جَعْلُ شيءٍ مثلَ شيءٍ آخَرَ، (الشجاع): الحية الذَّكَر، (الأقرع): الذي ذهب الشعر من رأسه من غاية سمِّه، (الزبيبتان): نكتتان سوداوان فوق عينيه، وكلُّ حيةٍ لها زبيبتان فهي أخبثُ الحيات، يعني: جُعل له مالُه حيةً تُطْبقُ على عنقه وتَلدَغُه؛ لأنه لم يُخرج الزكاة منها. * * *

1247 - وعن جَريرٍ أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَتاكُم المُصَدِّقُ فليَصْدُرْ عنكم وهو عنكم راضٍ". قوله: "إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض"، (المصدق): الساعي، وهو الذي يجمع الزكاة للمستحِقِّين، (فليَصْدُر)؛ أي: فليرجع؛ يعني: حصِّلوا رضاه. روى هذا الحديث جرير بن عبد الله. * * * 1248 - وقال عبد الله بن أبي أَوْفَى: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتَاه قومٌ بِصَدَقَتِهِمْ قال: "اللهم صَلِّ على آلِ فُلانٍ"، فأَتاهُ أَبِي بصدقتِه فقال: "اللهم صلِّ على آلِ أبي أَوْفَى". وفي روايةٍ: إذا أتى الرجلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بصدقته فقال: "اللهم صَلِّ عليه". قوله: "إذا أتاه قوم بصدقتهم"؛ يعني: إذا أعطى أحدٌ الزكاة "قال" رسول الله عليه السلام: "اللهم صل على آل فلان" أو: "على قوم فلان". هذا يدلُّ على أن المستحبَّ للساعي أن يدعو لمعطي الزكاة، بأن يقول: آجَرَكَ الله فيما أعطيت، وبارك فيما أبقيتَ، وجعله لك طهورًا، ولا يقول: اللهمَّ صل على فلان؛ لأن الصلاة على النبي، وله أن يقول لغيره [أما نحن] فلا يجوز لنا أن نصلِّي إلا على نبينا وغيره من الأنبياء، وكذلك يجوز على الملائكة. * * * 1249 - عن أبي هريرة أنَّه قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عُمرَ على الصَّدقةِ، فقيل: منعَ ابن جَميلٍ وخالدُ بن الوَليد والعبَّاسُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينقِمُ ابن جَميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسولُه؟، وأما خالدٌ فإنكم تَظلِمُونَ

خالدًا، قد احتبسَ أَدراعَهُ وأَعتُدَه في سبيلِ الله، وأما العبَّاسُ فهي عليَّ ومثلُها معها"، ثم قال: "يا عمرُ، أَمَا شَعرتَ أنَّ عمَّ الرجلِ صِنْوُ أبيه". قوله: "بعث رسول الله - عليه السلام - عمر على الصدقة"؛ يعني: بعثه ليأخذ الزكاة من أرباب الأموال. قوله: "فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس" جاء أحدٌ إلى رسول الله - عليه السلام - وشكا من هؤلاء الثلاثة، وقال: لا يؤدُّون الزكاة، فعاب رسول الله - عليه السلام - ابن جميل في منع الزكاة. وقيل: لا عذر له في منع الزكاة، لكنه كفر نعمة الله تعالى عليه، فإنه كان فقيرًا فأعطاه الله تعالى المال، فجزاء هذه النعمة الرغبة في أداء الزكاة لا منعُ الزكاة. قوله: "ما ينقم ابن جميل"، نقم الرجل أمرًا: إذا عدَّه قبيحًا، و (نقم): إذا غضب وكره شيئًا؛ يعني: ما يَغْضبُ ابن جميل على طالب الزكاة، وما يكره أداء الزكاة، إلا لكفران نعمة الله تعالى. قوله: "أغناه الله ورسوله" إنما عطف - عليه السلام - نفسَه على لفظة (الله)؛ لأنه - عليه السلام - كان سببًا وهاديًا له إلى الإسلام ووجدانِ الغنيمة. قوله: "فإنكم تظلمون خالدًا"؛ يعني: تطلبون منه من غيرِ أن تكون الزكاةُ عليه واجبةً، وهذا ظلم. قوله: "قد احتبس أدراعه وأَعتُدَه في سبيل الله تعالى"، (احتبس)؛ أي: وقف، (الأدراع): جمع درع، و (الأعتد) بفتح الهمزة وبالتاء المنقوطة من فوقها بنقطتين وبضمها: جمع عتاد، وهو ما يعدُّ للحرب من السلاح، وما يعدُّ لأمرٍ آخر أيضًا. وقصته (¬1): أن الساعي وجد عند خالد شيئًا من آلات الحرب وأفراسًا، ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش": "قصة هذا".

وقد سمع أو ظنَّ أن خالدًا جعل هذه الأشياء للتجارة، وطلب منه زكاة التجارة ولم يُعطه خالد، فشكى إلى رسول الله - عليه السلام - مَنْعَ خالدٍ الزكاةَ، فقال رسول الله - عليه السلام -: ليست هذه الأشياءُ مالَ التجارة، بل جعلها خالدٌ وقفًا في سبيل الله تعالى، ولا زكاة في الوقف. وقد قيل في تأويله غير هذا، ولكن المختار هذا. قوله: "فهي عليَّ ومثلُها معها": قال أبو عبيدة: تأويله: أن رسول الله - عليه السلام - أخَّر زكاةَ تلك السنة لعباس والسنةَ الثانية؛ لأنْ يؤدِّيَها في السنة الثالثة زكاة السنتين الماضيتين، لمَّا رأى احتياج عباس وضيقَ يده، قوله: "عليَّ"؛ أي: أنا ضامنٌ بوصول هذه الزكاة من عباس إلى المستحِقِّين. وقيل: تأويله أنه - عليه السلام - أخذ زكاة سنتين من العباس قبل وجوبها، فلما طلب الساعي الزكاة من العباس، قال رسول الله عليه السلام: قد وصلت إليَّ زكاتُه. قوله: "ومثلها معها"؛ أي: زكاة هذه السنة ومثلُها؛ أي: زكاة السنة الثانية، وتعجيلُ زكاة سنةٍ جائزٌ، وفي السنة الثانية خلافٌ. قوله: "أما شعرت"؛ أي: أما علمتَ، الهمزة للاستفهام، وما للنفي. قوله: "صنو أبيه"، (الصنو): النخلة التي تَنبتُ بجنب نخلةٍ أخرى بحيث يكون أصلهما واحدًا، يعني عليه السلام: الرجل وأبوه كلاهما من أصلٍ واحد؛ يعني: إذا علمت أنه وأبي من أصلٍ واحد فلا تقلْ له ما يتأذَّى منه محافظةً لجانبي. روى هذا الحديث أبو هريرة، وأبو الزناد. * * *

1250 - وعن أبي حُمَيْد السَّاعِدي قال: استعمل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من الأَزْد يقال له: ابن اللُّتْبيَّةِ على الصدقةِ، فلمَّا قَدِمَ قال: هذا لكم وهذا أُهديَ لي، فخطبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعدُ، فإنِّي أَستعملُ رجالًا منكم على أُمورٍ ممَّا ولاَّني الله، فيأْتي أحدُهم فيقولُ: هذا لكم، وهذه هديةٌ أُهديتْ لي، فهلاَّ جلسَ في بيتِ أبيهِ أو بيتِ أمِّه فينظرَ أَيُهدى له أم لا؟، والذي نفسي بيده لا يأْخذُ أَحدٌ منه شيئًا إلا جاءَ به يومَ القيامةِ يحملُهُ على رقبَتِهِ، إنْ كان بَعيرًا له رُغاءٌ، أو بقَرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ"، ثم رفَعَ يديه حتى رأَينا عُفْرَةَ إبطَيهِ فقال: "اللهم هل بَلَّغتُ؟، ثلاثًا". قوله: "استعمل رسول الله - عليه السلام - رجلًا"؛ أي: جعله عاملًا في جمع الزكاة، "الأزد": قبيلة. قوله: "ابن اللتبية" اسم هذا الرجل: عبد الله، و (اللُّتَب) بضم اللام وفتحِ التاء المنقوطة من فوقها بنقطتين وبعدها باءٌ منقوطةٌ من تحتها بنقطةٍ: اسم قبيلة. و (اللتبية): اسم أمِّ هذا الرجل، وهي منسوبةٌ إلى قبيلة اللتب، وهذا الرجل مشهورٌ بإضافته إلى أمه. قوله: "هذا لكم وهذا أهدي إلي"؛ يعني: قال لبعض ما معه من المال: هذا مال الزكاة، وقال لبعضه الآخر: هذا ما أعطانيه القوم بالهدية. قوله: "ولاني الله"؛ أي: جعلني الله فيه حاكمًا. قوله: "فهلا جلس"؛ أي: لمَ لمْ يجلس في بيته، فينظر هل أعطاه أحدٌ شيئًا أم لا؟ يعني: لا يجوز للعامل أن يقبل هديةً؛ لأنه لا يعطيه أحدٌ شيئًا إلا أن يطمع في أن يترك بعض زكاته، وهذا غيرُ جائزٍ منه؛ أي: من مال الزكاة. قوله: "إن كان بعيرًا له رغاء"، (الرغاء): صياح البعير وصوته، (الخوار): صوتُ البقر، يَعَرَ المعز يَيْعَر: إذا صاح، يعني: مَن سرق شيئًا في الدنيا من مال

الزكاة وغيرها، يجيءُ يومَ القيامة وهو حاملٌ لِمَا سرق إن كان حيوانًا له صوت رفيع؛ ليعلم أهل العرصات حاله؛ لتكون فضيحته أشهر. ويأتي تمام هذا الحديث في (قَسم الغنائم). قوله: "عفرة إبطيه"؛ أي: ما نبت فيه الشعر من تحت إبطيه. قوله: "اللهم هل بلغت" ذكر هذا تقريرًا وعِظةً على الناس؛ ليكون أكثر وقعًا وتعظيمًا وحفظًا في خواطرهم، يعني: الله تعالى شاهدي على تبليغ حال السرقة حتى لا ينكروا تبليغي يوم القيامة. * * * 1251 - وقال: "مَن استعْمَلْنَاهُ منكم على عمَلٍ، فَكَتَمَنا مَخِيطًا فما فوقَه؛ كانَ غُلُولًا يأْتي به يومَ القيامةِ". قوله: "فكتمنا مخيطًا"، (المخيط) بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء: الإبرة، يعني: مَن أخفى منه شيئًا، وسرق منا شيئًا من ذلك المال حتى إبرةً فما فوقها، أو أقلَّ منها؛ يكون ذلك غلولًا؛ أي: خيانة، ويكون ذلك على رقبته إذا جاء يوم القيامة. * * * من الحِسَان: 1252 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كَبُرَ ذلكَ على المسلمين فقالوا: يا نبيَّ الله، إنه كَبُرَ على أصحابكَ هذه الآية، فقال: "إنَّه ما فرضَ الزكاةَ إلا ليُطَيبَ ما بقيَ من أموالِكم"، فكبَّر عمرُ، ثم قال: "أَلا أُخبرُكم بخيرِ ما يَكْنِزُ المرءُ؟ المرأةُ الصالحةُ، إذا نظرَ إليها تَسُرُّه، وإذا أمرَها أطاعَتْهُ، وإذا غابَ عنها حَفِظَتْهُ". قوله: "كبر ذلك على المسلمين"؛ يعني: خافوا من هذه الآية وقالوا:

لا بد لنا من ذخيرةٍ ندَّخرها ليومٍ نحتاج إليها، والذخيرةُ من جملة الكنز، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] فما لنا في الادخار؟ فقال رسول الله عليه السلام: "ما فرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم" ومعنى (ليطيب): ليُحِلَّ؛ يعني: مَن أدى الزكاة لم يكن في الكنز عليه إثم، ولم يكن من الذين قال الله تعالى لرسوله عليه السلام: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قوله: "فكبر عمر"؛ يعني: ففرح عمر بذلك، وكبَّر حمدًا لله على أنْ دفع الله تعالى الإثم عن عباده بإعطاء الزكاة. قوله: "ثم قال: ألا أخبرك"؛ أي: ثم قال رسول الله - عليه السلام - لعمر: ألا أخبرك؟ إنما يكنز الرجلُ المال لينتفع به، وكلُّ ما فيه النفعُ أكثر فهو خير وأولى للادِّخار، فالمرأة الصالحة خيرُ ما يدَّخِرُ الرجل؛ لأن النفع فيها أكثر؛ لأنه إذا نظر إليها تسرُّه، يعني: يحصل له منها تلذُّذٌ، فتُكسر الشهوة، ويُدفع الزنا، وهذه منفعةٌ كثيرة. ثم إذا أمرها بأمرٍ أطاعته وخدمت، فهذا أيضًا منفعةٌ، وإذا غاب الرجل عنها حفظته؛ أي: حفظت حقَّه وإنعامه عليها، فلم تَخُنْه بأنْ تُسْلِم نفسَها إلى أجنبي، بل تدوم على عفَّتها وصلاحها، وحفظِ بيت زوجها ومالِه وأولاده، فهذه أيضًا منفعةٌ كثيرة. وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى ترك الكنز وجمع المال، والاختصارِ إلى اتخاذ منكوحةٍ صالحة. * * * 1253 - وقال: "سَيأْتيكُم رَكْبٌ مُبَغَّضونَ، فإذا جاؤوكم فرحِّبوا بهم،

فَخلُّوا بينَهم وبينَ ما يَبتغُون! فإنْ عَدَلُوا فلأِنفُسِهِمْ، وإنْ ظَلَمُوا فعليها، فأَرْضُوهم، فإنَّ تَمامَ زكاتِكم رِضاهُم، ولْيَدْعوا لكُم". وفي روايةٍ: "أَرْضُوا مُصَدِّقيكم"، قالوا: وإنْ ظلَمُونا يا رسولَ الله؟، قال: "أرضوا مصَدِّقيكم وإنْ ظُلِمْتُمْ". "ركبٌ مبغَّضون" أراد بهم: الذين يجمعون الزكاة، يعني: قد يكون بعض العاملين سيئَ الخُلُق متكبرًا، فاصبروا على سوء خلقهم. (المبغَّض) بفتح الغين وتشديدها: الذي جُعل بغيضًا في قلوب الناس، والبغيض: مَن كرهه الناس، وهو ضدُّ الحبيب، يعني: العاملين الذين لهم خلقٌ سيئٌ يكرههم الناس لسوء خلقهم. ويجوز: (مُبْغَضون) بسكون الباء، وهو مفعولٌ، من أَبغض الرجل أحدًا: إذا كرهه. وكِلاَ الوجهين - أعني: تشديد الغين وتخفيفها - ممكنٌ هنا. قوله: "فرحِّبوا بهم"؛ أي: قولوا لهم: مرحبًا وأهلًا؛ أي: احفظوا عزَّتهم وتعظيمهم. قوله: "وخلُّوا بينهم وبين ما يبتغون"؛ أي: يطلبون، يعني: كيفما يأخذون الزكاة لا تمنعوهم، وإن ظلموكم؛ لأن مخالفتهم مخالفةُ السلطان؛ لأنهم مأمورون من جهته، ومخالفةُ السلطان غيرُ جائزٍ. قوله: "فإن عدلوا فلأنفسهم"؛ يعني: إن عَدَلوا في أخذ الزكاة أكثرَ ممَّا وجب وتركوا الظلم، فلهم الثواب. قوله: "وإن ظلموا فعليها"؛ أي: وإن أخذوا الزكاة أكثرَ ممَّا وجب عليكم فعليها؛ أي: فعلى أنفسهم إثمُ ذلك الظلم، وليس عليكم إثمٌ بظلمهم، بل يكون لكم الثواب بتحمُّل ظلمهم.

قوله: "فإن تمام زكاتكم رضاهم"؛ يعني: أعطوهم وإن طلبوا أكثر مما يجب عليكم، فإنكم لو لم تُعطوهم ما طلبوا لعصيتم أولي الأمر. وتمام الزكاة بشيئين: بأداء الزكاة، وطاعةِ أولي الأمر؛ فمَن ترك واحدًا منهما لم تكن زكاته تامةً. روى هذا الحديث جابر بن عَتِيكٍ الأنصاريُّ. * * * 1254 - وقال بشيرُ بن الخَصَاصِيَّة: قُلنا: إنَّ أهلَ الصدقةِ يعتدونَ علينا، أَفَنَكْتُم مِن أموالِنا بقدرِ ما يعتَدون علينا؟، فقال: "لا". قوله: "يعتدون علينا"، (الاعتداء): مجاوزةُ الحد؛ يعني: يأخذون منا أكثر مما يجب علينا. قوله: "أفنكتم من أموالنا بقَدْرِ ما يعتدون علينا"؛ يعني: إذا علمنا أنهم يأخذون عن خمسٍ من الإبل شاتين، مع أن واجبها شاةٌ واحدة، فإن كان لنا عَشْرٌ من الإبل فهل يجوز أن نكتم خمسًا، ونقولَ لهم: ليس لنا إلا خمس، حتى إذا أخذوا شاتين عن خمسٍ لا يكون علينا ظلم؟ قوله عليه السلام في جوابهم: "لا"، وإنما لم يرخِّص في كتمان شيء من المال؛ لأنه لو رخَّص لهم في كتمان شيء لكان بعض الناس كتموا بعض أموالهم مع أن العاملين لا يظلمون عليهم، ولأن كتمان بعض المال خيانةٌ، والخيانةُ كذبٌ ومكر. روى هذا الحديث بشير بن الخَصَاصِيَة السدوسي. * * *

1255 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العاملُ على الصدقةِ بالحقِّ، كالغازي في سبيلِ الله حتى يرجعَ إلى بيتِهِ". قوله: "العامل على الصدقة بالحق"؛ يعني: عامل الزكاة إذا لم يظلم أرباب الأموال، ولم يأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم، ولم يأخذ أقلَّ مما يجب عليهم، فهو كالغازي في الثواب. روى هذا الحديث رافع بن خديج. * * * 1256 - وقال: "لا جَلَبَ، ولا جَنَب، ولا تُؤخَذ صدقاتُهم إلا في دُورِهم". قوله: "لا جلب"، (الجلب): الجذبُ والجمع؛ يعني: لا يجوز للعامل أن ينزل إلى موضع بعيدٍ من موضع أرباب الأموال ويأمرَ أربابَ الأموال أن يجتمعوا ويجمعوا أموالهم عنده ليأخذ زكاتهم؛ لأن في إتيانهم وسَوْقِ مواشيهم من مواضعهم إلى الموضع الذي نزل فيه العامل مشقةٌ عليهم، بل يأتي العامل إلى مواضع أرباب الأموال ويأخذ زكاتهم في موضعهم، وهذا معنى قوله: "لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم". قوله: "ولا جنب"، (الجنوب): التباعُدُ؛ يعني: لا يجوز لأرباب الأموال أن يَبْعُدوا من مواضعهم المعهودة إلى مواضع بعيدةٍ بحيث يكون على العامل مشقةٌ في إتيانهم. روى هذا الحديث عبد الله بن عمر. * * * 1257 - وعن ابن عمر: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن استفادَ مالًا فلا زكاةَ فيهِ

حتى يَحولَ عليهِ الحَولُ"، والوقْف على ابن عمرَ أَصحُّ. قوله: "من استفاد مالًا"؛ أي: مَن وجد مالًا وعنده نصابٌ من ذلك الجنس، مِثْلَ أن يكون للرجل ثمانون شاةً، ومضى عليها ستةُ أشهر، ثم اشترى أحدًا وأربعين شاة، فإذا مضى ستة أشهر يجب عليه شاةٌ للثمانين؛ لأنه تمَّ حولُها، ولا يجب عليه للأحد والأربعين التي اشتراها شيءٌ حتى يتم عليها حولٌ من وقت الشراء، فإذا تم عليها حولٌ من وقت الشراء يجب عليه شاةٌ لها؛ لأن المستفاد لا يكون تبعًا للمال الموجود في ملكه قبل المستفاد، هذا قولُ الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون المستفاد تبعًا للمال الموجود في ملكه، فإذا تم حول الثمانين يجب عليه شاتان للثمانين وللأحد والأربعين، كما أن النتاج تبعٌ للأمهات. قوله: "والوقف على ابن عمر أصح"؛ يعني: بعض الرواة يروي هذا الحديث عن ابن عمر عن رسول الله عليه السلام، وبعضهم يرويه: عن ابن عمر، ولا يقول ابن عمر: قال رسول الله عليه السلام، وهذا هو الأصح. * * * 1259 - عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَلِيَ يتيمًا له مالٌ فَلْيَتَّجِرْ فيهِ، ولا يَتْركْه حتى تأْكْلَه الصَّدَقَةُ"، ضعيف. قوله: "ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"؛ يعني: لو لم يتَّجر في ماله حتى يحصلَ الربح ويؤدِّيَ الزكاة من ماله، ينقص كلَّ سنةٍ من أصل ماله بقَدْرِ الزكاة، فيَفْنَى ماله، ووجوبُ الزكاة في مال الصبي مذهبُ الشافعي ومالك وأحمد. وأما مذهب أبي حنيفة: فلا زكاة في مال الصبي، إلا في مالٍ يجب فيه العُشر؛ فإنه يقول بوجوب العشر كالباقين.

2 - باب ما تجب فيه الزكاة

2 - باب ما تجب فيه الزَّكاةُ (باب ما تجب فيه الزكاة) من الصحاح: 1260 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ من التمرِ صدَقةٌ، وليسَ فيما دونَ خمسِ أَوَاقٍ من الوَرِق صدَقةٌ، وليسَ فيما دونَ خمسٍ ذَوْدٍ من الإبلِ صدقةٌ". قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسقٍ من التمر صدقة"، (فيما دون)؛ أي: فيما هو أقلُّ من خمسة أوسق. (الأوسق): جمع الوَسْق - بسكون السين - وهو ستون صاعًا، قَدْرُ خمسة أوسُقٍ ثمان مئة منٍّ، كلُّ منٍّ مئتا درهم وستون درهمًا، وهذا هو النصاب في النبات والتمر والزبيب. وما لم تبلغ الحبوبُ والتمر والزبيب نصابًا لا تجب فيه الزكاة عند الشافعي. وأما عند أبي حنيفة: تجب الزكاة في القليل والكثير من الحبوب والتمر والزبيب وغيرها من النبات. قوله: "وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة"، (الأواقي): جمع أُوقية، وهي أربعون درهمًا، ومجموعها مئتا درهم، و (الورق): الفضة. قوله: "خمس ذود": أي: خمسة رؤوس (¬1) من الإبل، و (الذود): من الثلاثة إلى العشرة من الإبل. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "رأس".

ولا خلاف في أنه لا تجب الزكاة في الورق حتى يكون مئتي درهم، وفي الذهب حتى يكون عشرين دينارًا، وفي الإبل حتى تكون خمسة رؤوس. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * 1261 - وقال: "ليسَ على المُسلِم صَدَقةٌ في عبْدِه ولا فَرَسِه". قوله: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه". * * * 1262 - وقال: "ليسَ في العبدِ صدقةٌ إلا صَدَقةُ الفِطْرِ". قوله: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". روى هذين الحديثين أبو هريرة. يعني: لا زكاة في الفرس والعبيد، إلا أنه تجب زكاة الفطر عن العبيد، هذا عند الشافعي ومالك. وأما عند أبي حنيفة: تجب الزكاة في الفرس إذا كان أنثى، في كلِّ فرس دينار، وإن شاء مالكها قوَّمها وأخرج من كلِّ مئتي درهم خمسةَ دراهم. * * * 1263 - عن أنس: أنَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - كتبَ له هذا الكتابَ لَمَّا وجَّهَه إلى البَحْرينِ: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فَرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المُسلمين، والتي أَمرَ الله بها رسولَه، فمَنْ سُئلَها من المُسلمين على وَجْهِها فليُعْطِها، ومَنْ سُئلَ فوقَها فلا يُعطِ: في أربعٍ وعشرينَ من الإبلِ فما دونَها من

الغنم في كل خمسٍ شاةٌ، فإذا بلغَتْ خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثينَ ففيها بنتُ مخَاضٍ أُنثى، فإذا بلغتْ سِتَّاً وثلاثين إلى خمسٍ وأَربعين ففيها بنتُ لَبُونٍ أُنثى، فإذا بلغَت سِتًا وأَربعين إلى ستين ففيها حِقَّةٌ طَرُوقةُ الجمَلِ، فإذا بلغتْ واحدةً وستين إلى خمسٍ وسبعينَ ففيها جَذَعَةٌ، فإذا بلغتْ ستًا وسَبْعين إلى تِسْعين ففيها بنتا لَبُونٍ، فإذا بلغتْ إحدى وتِسْعين إلى عِشْرين ومائةٍ ففيها حِقَّتان طَرُوقَتَا الجمَلِ، فإذا زادتْ على عشرين ومائةٍ ففي كلِّ أربعين بنتُ لَبُونٍ، وفي كل خمسين حِقَّةٌ، ومن لم يكن معه إلا أربعٌ مِنَ الإبلِ فليسَ فيها صدقةٌ إلا أنْ يشاء ربُّها، فإذا بلغت خمسًا ففيها شاةٌ، ومن بلغت عندَه من الإبل صدقةُ الجَذَعَةِ وليست عندَه جذَعَةٌ وعنده حِقَّةٌ فإنها تُقبَلُ منه الحِقَّةُ، ويَجعلُ معها شاتين إنْ استَيْسَرَتَا، له أو عشرين درهمًا، ومَن بلغتْ عندَه صدقةُ الحِقَّةِ ليستْ عندَه الحِقَّةُ، وعندَه الجَذَعَةُ، فإنّها تُقْبَلُ منه الجَذَعَةُ ويُعْطيهِ المُصَدِّقُ عشرين دِرْهَمًا أو شاتَيْنِ، ومَنْ بَلَغَتْ عِنْدِهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وليستْ عندَه إلا بنتُ لَبُونٍ فإنها تُقبل منه بنتُ لبونٍ، ويُعطي معها شاتين أو عشرينَ درهمًا، ومَن بلغت صدَقَتُه بنتَ لَبُونٍ وعِنْدَهُ حِقَّةٌ فإنَّها تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ، ويُعْطيهِ المُصَدِّقُ عشرينَ دِرْهَمًا أو شاتَيْنِ، ومَنْ بَلَغَت صَدَقَتُه بنتَ لَبُونٍ وليستْ عندَه وعندَه بنتُ مَخَاضٍ فإنها تُقبلُ منه بنتُ مخاضٍ، ويُعطي معها شاتين أو عشرينَ درهمًا، ومَنْ بلغتْ صدقَتُه بنتَ مَخَاضٍ وليست عندَه، وعندَه بنتُ لَبُون فإنها تُقبلُ منه، ويعطيه المُصَدِّق عشرينَ درهمًا أو شاتينِ، فإنْ لم يكنْ عنده بنتُ مَخَاضٍ على وجهِها، وعندَه ابن لَبُونٍ فإنه يُقبلُ منه، وليسَ معَه شيءٌ، وفي صدقةِ الغنَمِ في سائِمَتِها إذا كانت أربعينَ إلى ومائةٍ وعشرين شاةٌ، فإذا زادَت على عشرينَ ومائةٍ إلى مائتينِ ففيها شاتانِ، فإذا زادَت على مائين إلى ثلاثمائةٍ ففيها ثلاثُ شياهٍ، فإذا زادَت على ثلاثمائة ففي كل مائةٍ شاةٌ، فإذا كانت سائمةُ الرجل ناقصةً من أربعينَ شاةً واحدةٌ فليسَ فيها صدقةٌ إلا أنْ يشاءَ ربُّها، ولا تُخرَجُ في الصدقةِ

هَرِمَةٌ، ولا ذاتُ عَوَارٍ، ولا تَيْسٌ إلا ما شاءَ المُصَدِّق، ولا يُجْمَعُ بينَ مُتَفَرِّقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مُجتَمِعٍ خشيةَ الصدقةِ، وما كانَ مِن خَليطينِ فإنهما يتراجَعَانِ بينَهما بالسَّويَّةِ، وفي الرِّقَةِ ربعُ العُشرِ، فإنْ لم تكنْ إلا تسعينَ ومائة فليسَ فيها شيءٌ إلا أنْ يشاءَ ربُّها. قوله: "بنت مخاض"؛ أي: التي لها سنةٌ واحدة، و (المخاض): الحوامل من النوق، وليس لهذا الجمع واحدٌ من لفظه، بل واحده: خَلِفَةٌ؛ أي: حامل، سمِّي الولد الذي له سنةٌ بنتَ مخاض؛ لأن أمه حملته؛ يعني: مضى على الولد سنة، ثم حملت أمه. وأما تقييده بالأنثى في قوله: (بنت مخاض أنثى)، مع أن (بنت مخاض) تكون أنثى، قال فيه بعض الأئمة: إنما قُيدَ بالأنثى لأن البنت في الآدمي لا تقال إلا في الأنثى، والابن في الذكر، وأما في غير الآدمي قد يقال: البنت، ويراد به الجنس لا الأنثى خاصةً، وكذا الابن قد يراد به الجنس نحو قولهم: ابن عُرْسٍ، وهو جنسٌ فيه الذكر والأنثى، وكذلك ابن الماء، وبنت الفلاة لمَا يقطع به المفازة من الإبل؛ أي: يُركَب ويُسافَر به، وقد يكون مؤنثًا ومذكرًا، وإذا قال: (بنت مخاض أنثى) ارتفع هذا الاشتباه. قوله: "ففيها بنت لبون"؛ أي: التي لها سنتان، أضيفت إلى اللبون؛ لأن اللبون: الناقة التي لها لبن، وإنما يكون لناقةٍ لبن إذا مضى على ولدها الذي ولدته قبل هذه الولادة سنتان؛ لأنها تُرضع ولدها سنةً ثم تحمل، ومضى عليها حولٌ بعد أن حملت، ثم تلد. قوله: "ففيها حقَّةٌ طَرُوقةُ الجمل"؛ أي: التي لها ثلاث سنين، سمِّيت التي لها ثلاث سنين: حِقَّةً؛ لأنها استحَقَّتْ أن يُحمل عليها الحمل، وأن يُطرق عليها الفحل.

و (الطروقة): فَعولةٌ بمعنى مفعولة؛ أي: التي نزل (¬1) عليها الفحل. قوله: "ففيها جذعة"؛ أي: التي لها أربع سنين. قوله: "فإذا زادت على عشرين ومئة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". اعلم أنه إذا زاد على عشرين ومئة واحدٌ يجب فيها ثلاثُ بناتِ لبون، فإذا زاد على هذا عددٌ دون العشرة لا يجب فيها غير ثلاث بنات لبون، فإذا زاد عليها عشرة؛ يعني: إذا بلغ مئة وثلاثين استقر الحساب؛ ففي كل أربعين بنتُ لبون، وفي كل خمسين حِقَّةٌ، فإذا زاد تسعةً لا يتغير الحساب، بل لا يجب في زيادة تسعٍ شيءٌ حتى يزيد عشرة، وفي مئة وثلاثين حِقَّةٌ وبنتا لبون، وفي مئة وأربعين حِقَّتان وبنتُ لبون، ويجب بهذا الحساب. قوله: "ويَجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا"؛ أي: إن أعطى شيئًا أنقصَ ممَّا يجب عليه يُعطي بدلَ كلِّ سنٍّ أنقصَ إلى العامل شاتين أو عشرين درهمًا، وهو مخيَّر بين إعطاء شاتين وعشرين درهمًا، وإن أعطى شيئًا أعلى مما يجب عليه أخذ من العامل بدل السن الزائد شاتين أو عشرين درهمًا، والعامل مخيَّر بين إعطاء الشاتين وعشرين درهمًا. قوله: "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" هذا يحتمل على ثلاثة صور: أحدها: أن يكون معناه: أن لا يكون عنده بنت مخاضٍ أصلًا. والثاني: أن لا تكون بنتَ مخاضٍ صحيحةً، بل تكون مريضةً، فإذا كانت مريضةً؛ فهي كالمعدومة. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والأحسن: "نزى".

والثالث: أن لا يكون عنده بنت مخاض متوسطة، بل ليس له إلا بنت مخاض على غاية الجودة، فلا يلزمه إعطاءُ ما هو على غاية الجودة. ففي هذه الصور الثلاثة جاز إعطاء ابن لبون بدلًا من بنت مخاض، وكذلك هذا البحث في بنت اللبون والحِقَّة والجَذَعة، فإنه لا يقبل منه مريضةٌ، ولا يكلَّف إعطاءَ الجيدة على غاية الجودة. قوله: "إلى ثلاث مئة" اعلم أنه تجب في مئتي شاةٍ وواحدةٍ ثلاثُ شياهٍ، إلى أربع مئة، فإذا بلغت أربع مئة يجب عليه أربعُ شياهٍ، ثم في كلِّ مئة شاة. قوله: "هرمة"؛ أي: التي بلغت من الكبر إلى أن صارت ضعيفةً كالمريضة، أما لو كانت كبيرة السن وليس بها ضعفٌ وعجز، لا بأس. "ولا ذات عوار" بضم العين؛ أي: ولا ذات عيبٍ. قوله: "ولا تيس"، (التيس): فحل المعز؛ يعني: لا يؤخذ منه فحلٌ؛ لأنه يحتاج إلى الفحل، وربما لا يطيبُ قلبه بإعطاء الفحل. قوله: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" هذا دليلُ جَعْلِ الخلطةِ مالَ الشريكين كمالِ الرجل الواحد. وفي هذا الحديث: نهى الشارع العامل بأن يفرِّق الأموال المجتمعة لتكثر زكاتُها، مِثْلَ أن يكون لواحد أربعون شاة ولآخر أيضًا أربعون شاة، وخلطا ماليهما، ومضى عليها سنة، فيجب عليها شاة لأن الكل ثمانون، فجاء العامل وأمرهما بالتفريق ليأخذ من كلِّ واحدٍ شاةً؛ لأن ماله أربعون، هذا لا يجوز، بل إذا كان مالُهما مختلطًا من أول السنة إلى آخرها لا يؤخذ منها إلا شاةٌ؛ لأن ماله أربعون (¬1). وقد نهى أيضًا المالكَيْنِ أن يجمعا ماليهما لتقليل الزكاة، مثل أن يكون ¬

_ (¬1) "لأن ماله أربعين" كذا في جميع النسخ، والظاهر أنها لا ارتباط لها بالنص هنا.

لكلِّ واحد من الرجلين أربعون شاة، ولم يخلطا حتى مضى عليها سنة، ثم خلطاها في آخر السنة لتكون زكاتها شاةً واحدة = هذا لا يجوز، بل إذا كانا منفردين وجب على كلِّ واحدٍ شاةٌ، هذا مثالُ جمع المتفرِّق لتقليل الزكاة. وكذلك لو كان لواحد مئةٌ وواحدة، ولآخَرَ مئةٌ، وكان مالاهما مجتمعين من أول السنة إلى آخرها، وجب عليهما ثلاث شياه؛ لأن المجموع مئتا شاة وواحدة، فلا يجوز لهما أن يفرِّقا ماليهما؛ ليجب على كل واحد منهما شاةٌ واحدة، هذا مثال تفريق المجتمع لتقليل الزكاة. قوله: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"؛ يعني: إذا أخذ الساعي الزكاة واتَّفق أن ما أخذه كان لأحد الشريكين، يأخذ الشريك الذي أُخذت الزكاة من ماله من الشريك الآخر بقَدْرِ ما يكون نصيبه من الزكاة. قوله: "وفي الرِّقة"؛ يعني: وفي الفضة، وأصله: وَرِق، فحذفت الواو وعوِّض منها التاء. قوله: "فإن لم يكن إلا تسعين ومئة"؛ يعني: نصاب الفضة مئتا درهم، فإن نقص عن مئتي درهم - وإن كان شيئًا قليلًا - لا تجب فيها الزكاة. * * * 1264 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقَتْ السَّماءُ والعُيونُ أو كان عَثَرِيَّاً العشرُ، وما سُقِيَ بالنَّضْحِ نصفُ العُشرِ". قوله: "فيما سقت السماء"؛ أي: فيما كان ماؤه ماءَ المطر. قوله: "أو كان عَثَريًا"، (العثري) بفتح العين والثاء: ما يسقى بالمطر، ولكن قالوا: المراد منه ها هنا: ما يَشرب بالعروق؛ يعني: ما يُزرع في أرضٍ أبدًا رطبة؛ لقربها من الماء، فلا تحتاج إلى السقي.

"وما سقي بالنضح نصف العشر"، (النضح): ما يسقى من بئرٍ بالبعير والبقر وغير ذلك. يعني: ما يحتاج في السقي إلى مؤونةٍ كثيرة يجب فيه نصف العشر، وما لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة يجب فيه العشر. * * * 1265 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْماءُ جُرْحُها جُبارٌ، والبئرُ جُبارٌ، والمَعدِنُ جُبارٌ، وفي الرِّكازِ الخمُسُ". قوله: "العجماء جرحها جبار"، (العجماء): الدابة. "جبار"؛ أي: هدر؛ يعني: إذا أَتلفت دابةٌ شيئًا ولم يكن معها صاحبها، لم يجب ضمانٌ على صاحبها، وإن كان معها صاحبها؛ فما أتلفت يجب الضمان على صاحبها. قوله: "والبئر جبار"؛ يعني: إذا حفر أحدٌ بئرًا في ملكه، أو في مَوَاتٍ، لا في الطريق، ووقع فيها أحدٌ أو دابة، لا يجب الضمان على حافرها؛ لأنه لم يكن متعدِّيًا في حفرها. قوله: "والمعدن جبار"؛ يعني: إذا حفر واحدٌ موضعًا فيه الذهب والفضة ليُخرج منه الذهب والفضة، ووقع فيه أحدٌ أو دابةٌ، لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعدٍّ في الحفر، وكذلك معدن الفيروزج، والطين، وغيرِ ذلك. قوله: "وفي الركاز الخمس"، (الركاز): ما يوجد في الأرض من مال الكفار من ذهب أو فضة، فزكاتُه خُمسُه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

مِنَ الحِسَان: 1266 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عَفَوتُ عن الخَيلِ والرَّقيقِ، فَهاتُوا صدَقةَ الرِّقَةِ مِنْ كلِّ أربعينَ درهمًا درهمٌ، وليسَ في تسعين ومائةٍ شيءٌ، فإذا بلغَتْ مائتينِ ففيها خمسة دراهمٍ، فما زادَ فعلى حِسابِ ذلك، وفي الغنَمِ في أربعينَ شاةً شاةٌ إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدةً فشاتانِ إلى مائتينِ، فإنْ زادتْ فثلاثُ شياهٍ إلى ثلاث مئة، فإذا زادت على ثلاث مئة؛ ففي كلِّ مائةٍ شاةٌ، فإنْ لم تكُنْ إلا تِسْعًا وثلاثينَ فليسَ عليكَ فيها شيءٌ، وفي البقَرِ في كلِّ ثلاثين تَبيْعٌ، وفي الأَربعين مُسِنَّةٌ، وليسَ على العَوامل شَيٌ". قوله: "في كل ثلاثين تبيع"، (التبيع): الذكر الذي له سنةٌ واحدة من البقر، والمُسِنَّة: الأنثى التي لها سنتان. قوله: "وليس على العوامل شيء"، (العوامل): جمع عاملة، وهي البقر أو الجمل الذي يعمل عملًا كالحراثة وسقي الماء، لا زكاة فيها وإن كانت نصابًا، عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد. وقال مالك: تجب فيها الزكاة. * * * 1268 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُعْتَدي في الصَّدَقةِ كمانِعِها". قوله: "المعتدي في الصدقة كمانعها"، (الاعتداء): مجاوزةُ الحد؛ يعني: العامل الذي يأخذ في الزكاة أكثر من القَدْرِ الواجب ويظلمُ أرباب الأموال هو في الوزر كالذي لا يعطي الزكاة؛ لأن الذي لا يعطي الزكاة يظلم الفقراء بمنع الزكاة عنهم، فكذلك العامل يظلم أرباب الأموال بأخذ الزيادة منهم. روي هذا الحديث أنس. * * *

1270 - عن موسى بن طَلْحة قال: كَانَ عندَنا كتابُ مُعاذِ بن جبَلٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه إنَّما أَمرَه أنْ يأخُذَ الصدقةَ مِن الحِنْطةِ، والشَّعيرِ، والزَّبيبِ، والتَّمرِ. مُرسَلٌ. قوله: "إنما أمره أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر" ليس معنى هذا أنه لا يجب الزكاة إلا في هذه الأربعة فقط، بل الزكاةُ واجبةٌ عند الشافعي فيما ينبته الآدميون إذا كان قوتًا. وعند أبي حنيفة: فيما تنبته الأرض سواءٌ كان قوتًا أو لم يكن. وإنما أمره أن يأخذ الزكاة من هذه الأربعة؛ لأنه لم يكن ثَمَّ غيرُ هذه الأربعة. * * * 1271 - عن عَتَّاب بن أَسِيد: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في زكاةِ الكُرومِ: "إنَّها تُخرَصُ كما تُخرَصُ النَّخلُ، ثم تُؤدَّى زكاته زَبيْبًا كما تُؤدَّى زكاةُ النَّخلِ تَمْرًا". قوله: "الكروم إنما تخرص كما تخرص النخل"، (الكُروم): جمع الكَرْم، وهو شجر العنب؛ يعني: إذا ظهر في العنب وتمر النخل حلاوةٌ، يُخرص على المالك، ويقدِّر الخارص أن هذا العنب إذا صار زبيبًا كم يكون؟ وكذلك الرطب إذا كان تمرًا كم يكون؟ ثم انظر؛ فإذا كان نصابًا يجب عليه زكاته، وإن لم يكن نصابًا لم يجب عليه. روى هذا الحديث: عتَّابُ بن أَسِيدٍ، جدُّ عتَّابٍ: أبو العِيص بن أميةَ القرشي الأموي. * * *

1272 - عن سَهْل بن أبي حَثْمَة - رضي الله عنه - حدَّث أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إذا خَرَصْتُم فَدَعوا الثُّلُث، فإنْ لم تدَعوا الثُّلُث فدَعوا الرُّبُع". قوله: "إذا خرصتم فجذُّوا (¬1) ودعوا الثلث" سقط من كتاب "المصابيح" في هذا الحديث لفظ: "فجذُّوا (1) "، وفي "كتاب أبي داود": "إذا خرصتم فجذُّوا (1) ودعوا الثلث" بالجيم، يعني: إذا قطعتم الثمار فاتركوا للمالك الثلثَ أو الربع، وبهذا قال: ولا تأخذوا من الثلث والربع الزكاة. وفي "كتاب النسائي": "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث" بالخاء والذال المعجمتين، يعني: إذا أخذتم الزكاة فلا تأخذوا زكاة الثلث أو الربع، وبهذا قال أحمد وإسحاق. وأما عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك: لا يترك شيئًا من الزكاة، وتأويل هذا الحديث عندهم: أن هذا الحديث إنما كان في حق يهود خيبر، فإن رسول الله - عليه السلام - ساقاهم على أن يكون لهم نصف الثمرة، ولرسول الله - عليه السلام - نصفُها، فأمر الخارص أن يترك لهم الثلث أو الربع مسلَّمًا لهم، ويقسم الباقي نصفين، نصف لهم، ونصف لرسول الله عليه السلام. * * * 1273 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَبعَثُ عبدَ الله بن رَواحةَ إلى يهودَ، فَيَخْرُصُ النَّخلَ حينَ يطيبُ قبلَ أن يُؤكلَ منه. قولها: "يبعث"؛ أي: يرسل. قولها: "إلى يهود"؛ أي: إلى يهود خيبر. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ش": "فجدوا" بالدال، والمثبت من "ق"، وكلاهما بمعنى القطع.

قولها: "حين يطيب"؛ أي: حين تظهر في الثمار الحلاوة. * * * 1274 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "في العَسلِ في كلِّ عشرةِ أَزُقٍّ زِقٌّ". قوله: "في عشرة أزق"، (الأَزُقُّ) بفتح الهمزة وضم الزاي: جمع زق، وهي ظرفٌ من جلد يُجعل فيه العسلُ والسمن وغيرهما. لا زكاة في العسل عند الشافعي ومالك. وأما عند أبي حنيفة وأحمد: يجب فيه العشر. * * * 1275 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشرَ النِّساءِ!، تصدَّقْنَ ولو من حُلِيكُنَّ، فإنكنَّ أكثرُ أهلِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ". قوله: "تصدقن ولو من حُليكن"؛ يعني: أخرجوا زكاة أموالكنَّ حتى من حليكن، وبهذا قال أبو حنيفة، وأحد قول الشافعي. وأما مالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه: لا يوجبون الزكاة في الحلي المباح. روت هذا الحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود. * * * 1277 - عن أُمِّ سلَمة قالتْ: كنتُ أَلبَسُ أَوْضَاحًا من ذهبٍ، فقلتُ: يا رسولَ الله، أكَنزٌ هو؟، فقال: "ما بلَغَ أنْ تؤدَّى زكاتُه فزُكِّيَ فليسَ بكَنْزٍ".

قولها: "ألبس أوضاحًا"؛ أي: حليًا، واحدة: (وَضَح) التي بفتح الواو والضاد. قولها: "أكنز هو"؛ يعني: استعمال الحلي كنزٌ من الكنوز التي بشَّر الله صاحبها بالنار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى آخر الآية [التوبة: 34] أم لا؟ * * * 1278 - عن سَمُرَة بن جُندب: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأْمرُنا أنْ نُخرِجَ الصَّدَقةَ مِنَ الذي نُعِدُّ للبيعِ. قوله: "نعد للبيع"؛ أي: نهيئ للتجارة. * * * 1279 - وروى ربيعةُ عن غيرِ واحدٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَ لبلالِ بن الحارثِ المُزَني مَعادِنَ القَبَليةِ، وهي مِنْ ناحيةِ الفُرْعِ، فتلكَ المعادنُ لا يؤخذُ منها إلا الزكاةُ إلى اليومِ. قوله: "معادن القبلية"؛ (قبلية) بفتح القاف والباء: اسم موضعٍ من ناحية الفُرع، و (الفُرع) بضم الفاء: اسم بلدٍ بينه وبين المدينة خمسةُ أيام أو أقل. يعني: أعطى رسولُ الله - عليه السلام - معادن القبلية بلال بن حارث ليعمل فيها، ويُخرج منها الذهب والفضة لنفسه. قوله: "لا يؤخذ منها إلا الزكاة" يعني بالزكاة: ربع العشر، كزكاة الذهب والفضة الحاصلان من غير المعدن، وهذا مذهب مالك وأحمد وأحدُ قولي الشافعي. وأما أبو حنيفة وقول الشافعي: يوجبان الخمس في المعدن.

3 - باب صدقة الفطر

والقول الثالث للشافعي: إن وجده بتعبٍ ومؤونة يجب فيه ربع العشر، وإن وجده بلا تعب ولا مؤونة يجب فيه الخمس. * * * 3 - باب صدَقة الفِطْر (باب صدقة الفطر) من الصِّحاح: (من الصحاح): 1281 - وقال أبو سعيد الخُدْريُّ: كُنَّا نُخرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من شَعيرٍ، أو صاعًا من تَمْرٍ، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا من زَبيبٍ. قوله: "من أقط"، (الأقط): الكشك إذا كان من اللبن، والفطرةُ تجب على كلِّ واحدٍ من غالب قُوْته يوم العيد، فإن كان قوتُه أَقِطًا فهل يجوز أن يؤِّدي منه الفطرة؟ وفيه خلافٌ، ظاهر الحديث يدلُّ على جوازه. * * * مِنَ الحِسَان: 1282 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال في آخِر رمَضان: أَخرِجُوا صدَقةَ صَوْمِكم، فَرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصَّدَقةَ: صاعًا من تَمْرٍ أو شَعيرٍ، أو نِصْفَ صاعٍ من قَمْحٍ، على كل حرٍّ أو مَملوكٍ، ذكرٍ أو أنثى، صَغيرٍ أو كَبيرٍ.

وقوله: "أو نصف صاع قمح"، (القمح): الحنطة. عند أبي حنيفة: إن أخرج الرجل الفطرة من الحنطة أجزأه نصفُ صاع، وإن أخرجها من غير الحنطة لم يُجزئه إلا صاعٌ. وعند مالك والشافعي وأحمد: لا يجزئه إلا صاعٌ سواءٌ كان من الحنطة أو غيرها. والصاع عند أبي حنيفة: أربعة أَمْناءٍ. وعند غيره: خمسة أرطال وثلثُ رطلٍ. * * * 1283 - وقال: فرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطرِ طُهْرَةً للصائمِ من اللَّغوِ والرَّفَثِ وطُعْمَةً للمساكينِ. قوله: "وقال: فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر طهرة للصائم"؛ أي: وقال ابن عباس: فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر على الصائم؛ لتكون سببًا لتطهيره من ذنوبه اللغو والرفث؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات. "الرفث": الكلام القبيح. قوله: "وطعمة للمساكين"؛ أي: ليكون قُوتُ المساكين في يوم العيد مهيَّأً (¬1)؛ ليكون الفقير والغني متساويين في وجدان القوت يوم العيد. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسح: "مهيئة"، والمثبت من "مرقاة المفاتيح" (4/ 285).

4 - باب من لا تحل له الصدقة

4 - باب من لا تحلُّ له الصَّدَقة (باب من لا تحل له الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1284 - قال أنس - رضي الله عنه -: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتمْرةٍ في الطَّريقِ، فقال: "لولا أنِّي أخافُ أن تكونَ من الصَّدَقةِ لأَكَلْتُها". قوله: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". اعلم أن الزكاة حرامٌ على النبي عليه السلام وعلى بني هاشم وبني المطلب، وأما على مَن أعتقه النبي عليه السلام، أو بنو هاشم، أو بنو المطلب، هل تحرم عليه الزكاة أم لا؟. فالأصح أنها لا تحرم. وأما صدقة التطوع: حرام على النبي عليه السلام؟ فالأصح: أنها لا تحرم على بني هاشم، وبني المطلب. وهذا الحديث يدل على جواز أكل ما وجد في الطريق من الطعام القليل الذي لا يطلبه مالكه؛ لأن النبي - عليه السلام - قصد أن يأكل التمرة، ولكن منعته خشية كونها من الصدقات. * * * 1285 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: أخذَ الحسَنُ بن علي - رضي الله عنهما - تمرةً من تَمْرِ الصدقةِ، فجعلَها في فيهِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كِخْ كِخْ" لِيَطرَحَها، ثم قال: "أَما شَعَرتَ أنَّا لا نأْكلُ الصَّدَقَةَ".

قوله: "أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - تمرة من تمر الصدقة"؛ أي: من تمر الزكاة. وهذا يدل على أنه وجب على الآباء نهي الأولاد عما لا يجوز في الشرع. * * * 1287 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: "كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده وأكل معهم. قوله: "فإن قيل هدية ضرب بيده وأكل" قال الخطابي: وإنما أكل رسول الله - عليه السلام - الهدية ولم يأكل الصدقة؛ لأن الهدية إنما يراد بها ثواب الدنيا، وكان رسول الله - عليه السلام - يقبلها ويُثيب عليها، فتزول المنَّة عنه, والصدقة يراد بها ثواب الآخرة، فلم يجز أن تكون يدًا على مَن يدُه في ذات الله تعالى وفي أمر الآخرة. قوله: (ضرب بيده)؛ أي: مدَّ يده إلى ذلك الطعام، وكأنه من (ضرب): إذا ذهب، والباء في (بيده) للتعدية؛ أي: أذهب يده إلى ذلك الطعام. * * * 1288 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانتْ في بَريرَةَ ثلاثُ سُنَنٍ: إِحدى السُّننِ أنها عَتَقَت، فَخُيرَت في زوجِها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلاءُ لمن أَعْتَقَ"، ودخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والبُرْمَةُ تَفُورُ بلَحْمٍ، فقُرِّبَ إليه خبزٌ وأُدْمٌ من أُدْمِ البيتِ، فقال: "أَلم أرَ بُرمةً فيها لَحْمٌ؟ "، قالوا: بلى، ولكنْ ذلكَ لحمٌ تُصُدِّقَ به على بَريرةَ، وأنتَ لا تأكلُ الصدقةَ، قال: "هو علَيها صَدَقةٌ، ولنا هديَّةٌ". قول عائشة: "كان في بريرة ثلاث سنن"، (بريرة): اسم جاريةٍ اشترتها

عائشة وأعتقتها، (ثلاث سنن)؛ أي: حصل بسببها ثلاثُ مسائلَ من شرع رسول الله عليه السلام. قولها: "فخيرت في زوجها"؛ يعني: أن المرأة إذا كانت أمةً، فأعتقت وزوجُها عبدٌ، تكون مخيَّرةً: إن شاءت فسخت النكاح، وإن شاءت لا تفسخ. قوله: "الولاء لمن أعتق" هذه المسألة الثانية؛ يعني: مَن أعتق عبدًا أو أمة كان ولاؤه له. "ألم أر برمة"، (البرمة): القِدْرُ من الحجر؛ يعني: رأى قِدْرًا فيه لحمٌ، فلما لم يأت إليه من ذلك اللحم قال هذا الكلام، يعني: لمَ لمْ تأتوني بذلك الطعام واللحم. قوله: "هو عليها صدقة ولنا هدية"؛ يعني: إذا أعطتنا بريرةُ شيئًا من ذلك الطعام يكون هدية، ونحن نأكل الهدية. وهذا يدل على أن الفقير إذا أخذ الزكاة ودفعها إلى غيره بهديةٍ أو هبةٍ أو بيعٍ جاز قبولها. * * * 1289 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقبلُ الهديَّةَ، ويُثيبُ علَيها. "ويثيب عليها"، أثاب يُثيب: إذا أعطى الثواب، وهو العِوَضُ؛ يعني: يعطي عوضَ تلك الهدية. * * * 1290 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَو دُعيتُ إِلى كُراعٍ لأَجَبْتُ، ولو أُهدِيَ

إلي ذِراعٌ لَقَبلتُ". قوله: "لو دعيتُ إلى كُراعٍ لأجبت"، (الكراع): لمَا دون الركبة من الإنسان، ولمَا دون الكعب من الدوابِّ؛ يعني: إذا دعاني أحدٌ إلى ضيافةِ كُراعِ غنمٍ لأجبته. هذا إظهارُ التواضع، وتحريضُ الناس على التواضعِ وإجابةِ مَن يدعوهم إلى ضيافةٍ. قوله: "ولو أهدي إلي ذراع لقبلت"؛ يعني: لو أَرسل إليَّ أحدٌ ذراعًا من كِرْباس أو ذراعَ شاةٍ على رسم الهدية لقبلْته، وهذا أيضًا ترغيب الناس على قبول الهدية. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1291 - وقال: "ليسَ المِسْكِينُ الذي يَطُوفُ على النَّاسِ تَرُدُّه اللُّقمةُ واللُّقْمتانِ، والتَّمرةُ والتَّمرتانِ، ولكنَّ المِسْكينَ الذي لا يَجِدُ غنًى يُغنيهِ، ولا يُفطَنُ به فيُتصدَّقَ عليه، ولا يَقُوم فيَسأَلُ الناسَ". قوله: "تردُّه اللقمة واللقمتان"؛ يعني: ليس المسكين مَن يتردَّد على الأبواب، ويأخذ لقمة، فإن: مَن فَعَلَ هذا ليس بمسكين؛ لأنه يقدر على تحصيل قوته، وليس المراد من هذا أنَّ مَن فعل هذا لا يستحق الزكاة، بل يستحقُّها، ولكن المراد ذمُّ مَن هذا فعلُه إذا لم يكن مضطرًا، وإظهارُ فضل مسكينٍ لم يسأل الناس على مَن يسألهم. قوله: "ولا يفطن له"؛ أي: ولا يُعلم حالُه أنه محتاجٌ حتى يتصدقَ عليه الناس، بل يُخفي حال نفسه.

روى هذا الحديث أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * مِنَ الحِسَان: 1292 - عن أبي رافعٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رجلًا على الصَّدقة، فقالَ لأبي رافعٍ: اصحَبني كَيْما تُصيبَ منها، فانطلَقَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسأَلَه، فقال: "إنَّ الصدقةَ لا تَحِلُّ لنا، وإنَّ مَوالي القَومِ مِنْ أَنفُسِهِمْ". قوله: "بعث رجلًا على الصدقة"؛ يعني: أرسل أحدًا ليجمع الزكاة فجمعها، فلمَّا أتى رأى أبا رافعٍ في طريقه فقال له: ائت معي إلى رسول الله - عليه السلام - لأقول له أن يعطيك نصيبًا من الزكاة. قوله: "إن موالي القوم من أنفسهم"؛ يعني: أنت عتيقُنا، فكما لا يحلُّ لنا الزكاة، فكذلك لا تحلُّ لمَن أعتقناه. هذا ظاهر الحديث، ولكن قال الخطابي: فأمَّا موالي بني هاشم فإنه لا حظَّ لهم في سهم ذي القربى، فلا يجوز أن يُحرموا الصدقة، ويُشْبهُ أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهًا له، وقال: (موالي القوم من أنفسهم) على سبيل التشبيه في الاستنان بهم؛ أي: في الاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس. التنزيه: التبعيد، الاستنان: أخذ السنَّة. يعني: كان أبو رافع يخدم رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام يعطيه ما يكفيه، فنهاه رسول الله - عليه السلام - باجتناب أخذ الزكاة: إما لكونه غير محتاج، وإما لغاية تقواه، فإن الأولى له أن يوافق رسول الله - عليه السلام - في ترك أخذ الزكاة. * * *

1293 - وقال: "لا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لغنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيًّ". قوله: "ولا لذي مرة سوي"، (المِرَّة): القوة، (السَّوي): صحيح الأعضاء تامُّ الخلقة، يعني: لا تحل الزكاة لمَن أعضاؤه صحيحة، وهو قويٌّ يقدر على الكسب بقَدْرِ ما يكفيه وعياله. روى هذا الحديث عبد الله بن عمرو. * * * 1295 - وقال: "لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ إلا لخمسةٍ: لغازٍ في سبيل الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغَارِمٍ، أو لرجلٍ اشتراها بمالِه، أو لرجلٍ له جارٌ مِسْكينٌ، فتُصُدِّق على المِسْكين، فأَهدى المِسْكِينُ للغنيِّ". ويُروى: "أو ابن السَّبيل". قوله: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة"؛ يعني: لا تحلُّ الزكاة لغنيٍّ إلا أن يكون الغنيُّ واحدًا من هذه الخمسة المذكورة؛ فإنها تحلُّ له حينئذٍ. قوله: "أو لغارم"؛ يعني: الغارم الذي استدان دينًا ليُصلح به بين طائفتين، مثلَ أن تطلب طائفةٌ من طائفةٍ ديةً أو دَينًا كان لهم عليهم، فيمنعون أداءه، وحصل بينهم الأمر إلى الضرب أو القتل، فيستدينُ رجلٌ ويؤدي ذلك الدَّينَ أو الدية، ويُصلح بينهم، فيجوز له أخذُ الزكاة ليؤدي ذلك الدَّين وإن كان غنيًا. روى هذا الحديث عطاء بن يسار. * * *

5 - باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

5 - باب مَنْ لا تَحِلُّ له المَسْألة ومَنْ تَحِلُّ له (باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1297 - عن قَبيصَةَ بن مُخارقٍ قال: "تَحمَّلْتُ حَمالَةً، فَأَتَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسألُه فيها، فقال: "أَقمْ حتى تأْتيَنا الصَّدَقةُ، فنأْمرَ لكَ بها، ثم قال: "يا قَبيصَةُ، إنَّ المسأَلةَ لا تحَلُّ إلا لأحدِ ثلاثةٍ: رجلٌ تحمَّلَ حمالَةً، فحلَّت له المَسألةُ حتى يُصيبَها ثم يُمسِكُ، ورجلٌ أصابَته جائحةٌ اجتاحَت مالَه، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيبَ قِوامًا من عَيْشٍ - أو قال سِدادًا من عَيْشٍ - ورجلٌ أصابَته فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أَصابَتْ فُلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسأَلَةُ حتى يصيبَ قِوامًا من عَيْشٍ - أو قال سِدادًا من عيْشٍ - فما سِواهنَّ من المَسألةِ - يا قَبيصةُ - سُحْتٌ يأْكْلُها صاحبُها سُحْتًا". قوله: "تحملت حمالة"، (الحمالة): الدَّين الذي استدانه أحدٌ ليُصلح بين طائفتين كما ذكرنا. قوله: "ثم يمسك"؛ يعني: فإذا أخذ من الزكاة ما أدى به ذلك الدَّين لا يجوزُ له أن يأخذ شيئًا آخر من الزكاة. قوله: "أصابه جائحة"؛ أي: آفةٌ وحادثة. "اجتاحت ماله"؛ أي: أهلكت تلك الجائحةُ ثمارَ بستانه وزرعه، أو غيرَها من الأموال. "فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من

عيش"، (القوام) بكسر القاف: ما يقوم به الشيء، و (قوامٌ من عيش)؛ أي: ما يكون به العيش من قُوتٍ ولباس، و (السداد) بكسر السين: ما يسدُّ به الفقر؛ أي: يدفع. قوله: "ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه"، (الفاقة): الفقر، (الحجى): العقل؛ يعني: أصابه فقرٌ ظاهرٌ بحيث يَعلم حالَه جيرانُه وأقاربه، وشهد مَن علم حاله أنه فقيرٌ محتاج، فحينئذٍ يجوز له أن يسأل الزكاة؛ لأن الرجل لا تحل له الزكاة إلا إذا كان فقيرًا أو مسكينًا، وغيرهما من المذكورين في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية [التوبة: 60]. هذا بحثُ سؤالِ الزكاة. فأما سؤالُ صدقة التطوع: فإن كان لا يقدر على كسب؛ لكونه زمنًا، أو ذا علة أخرى، جاز له السؤال بقَدْرِ قوتِ يومه، ولا يدَّخر، وإن كان يقدر على الكسب، فإن ترك الكسب لاشتغاله بتعلم العلم تجوزُ له الزكاة وصدقة التطوع، وإن ترك الكسب لاشتغاله بصلاة التطوع وصيام التطوع، لا تجوز له الزكاة، وتكره له صدقة التطوع. فإن جلس واحد أو جماعة في بقعة واشتغلوا بالطاعة ورياضة الأنفس وتصفية القلوب، يستحبُّ لواحدٍ أن يسأل صدقة التطوع وكسراتِ الخبز واللباس لأجلهم، وينبغي أن تكون نيةُ السائل كفافَ أسباب هؤلاء، لا كفافَ نفسه، فإذا كانت نيته كفافَهم وأكلَ معهم لم يكره له. وشرط السائل تركُ الإلحاح والمبالغةِ في السؤال، بل ليقل إذا طاف في الأسواق أو السكوك: مَن يعطي شيئًا لرضا الله، من غير أن يواجه أحدًا، أو يُغلظ القول في الخطاب، فإن أعطاه أحدٌ ليدْعُ له، وإن لم يعطه أحدٌ فلا يجوز له أن يغضب ويشتم أحدًا، أو يغلظ القولَ على أحد، فإن السائل بهذه الصفة

إثمه أكثر من أجره. فإن حفظ السائل ما ذكرنا من الشروط فهو ممن قال لهم رسول الله عليه السلام: "الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله". وأما الزكاة المفروضة لا تجوز لهم البتة إذا قدروا على الكسب؛ لزجر السائل عن السؤال. قوله: "يأكلها صاحبها سحتًا"، (السحت): الحرام، (سحتًا) منصوبٌ بدل الضمير في (يأكلها). وجدُّ قبيصة: عبد الله، روى هذا الحديث: معاوية بن شداد الهلالي. * * * 1298 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سأَلَ النَّاسَ أَموالَهم تَكَثُّرًا؛ فإنَّما يَسْألُ جَمْرًا، فليَستَقِلَّ أو ليَسْتكْثِرْ". قوله: "تكثرًا"؛ أي: أكثر من قَدْرِ قوته، "فإنما يسأل جمرًا"؛ (الجمر): الفحم قبل أن تخبو نارها؛ يعني: لا يجوز له أن يأخذ الزكاة والصدقة أكثر من قوته، فإذًا لا يجوز له أخذها، ولو أخذها يكون ذلك سببًا لنار جهنم. قوله: "فليستقل أو ليستكثر"؛ يعني: إذا علم أنه نارٌ: إن شاء أكثر السؤال، وإن شاء أقلَّ، هذا تهديدٌ ووعيد. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1299 - وقال: "ما يَزالُ الرَّجلُ يَسْألُ الناسَ حتى يأْتيَ يومَ القِيامةِ ليسَ في وجْههِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".

قوله: "ليس في وجهه مزعة لحم"؛ أي: قطعة لحم. قال الخطابي: هذا يحتمل أن يكون معناه الإذلال؛ يعني: كما أذلَّ نفسه في الدنيا وأراق ماء وجهه بالسؤال يكون يوم القيامة ذليلًا. ويحتمل أن يجيء يوم القيامة ولحم وجهه ساقطٌ: إما عقوبةً له، وإما ليكون ذلك علامةً له يعرفه الناس بتلك العلامة أنه كان يسأل الناس في الدنيا. روى هذا الحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. * * * 1300 - وقال: "لا تُلْحِفوا في المَسأَلةِ، فوالله لا يَسألُني أَحَدٌ منكُم شيئًا فتُخرِجُ له مَسأَلتُه منِّي شيئًا وأَنا لهُ كارِهٌ، فيُبارَكَ لهُ فيما أَعطيتُهُ". قوله: "لا تلحفوا في المسألة"، (الإلحاف): الإلحاح في المسألة؛ أي: في السؤال. روى هذا الحديث معاوية. * * * 1301 - وقال: "لأَنْ يأخُذَ أحدُكُم حَبْلَهُ فيأْتيَ بحِزْمَةِ حطَبٍ على ظَهْرِه، فيبيعَها، فيَكُفَّ الله بها وجْهَهُ؛ خَيْرٌ له مِنْ أَنْ يَسأَلَ الناسَ أَعطَوهُ أو مَنَعوه". قوله: "بحزمة حطب"، (الحزمة): قَدْر ما يحمله الرجل بصدره بين عضديه، ويستعمل فيما يحمل على الظهر من الحطب وما أشبهه. قوله: "فيكف الله بها وجهه"، (الكف) المنع؛ يعني: فيمنع الله وجهه عن أن يريق ماءه بالسؤال. روى هذا الحديثَ عروةُ بن الزبير. * * *

1302 - وقال حَكِيْمُ بن حِزَامٍ: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال لي: "يا حَكِيْمُ!، إنَّ هذه المَال خَضرةٌ حُلْوٌ، فمن أخذَه بِسَخَاوَةِ نفْسٍ بُورِكَ له فيه، ومَنْ أَخذَه بإشرافِ نفْسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأْكْلُ ولا يَشْبَعُ، واليدُ العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفْلى"، قالَ حكيمٌ: فقلت: يا رسولَ الله!، والذي بعثَكَ بالحقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بعدَك شيئًا حتى أُفارقَ الدُّنيا". قوله: "إن هذا المالَ خَضرٌ حلوٌ"، (الخَضر): يكون في العين طيبًا، و (الحلو): يكون في الفم طيبًا، ولا تملُّ العينُ من النظر إلى الخَضر، ولا يملُّ الفم من أكل الحلو، فكذلك النفسُ حريصةٌ بجمع المال لا تملُّ منه. قوله: "بإشراف نفسٍ"، (الإشراف): الاطِّلاع على الشيء والنظر إليه، والمراد هنا: كراهته من غير طيب النفس بالإعطاء. قوله: "واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى"، (اليد العليا): المُعطِية، و (اليد السفلى): الآخِذة؛ يعني: اكتَسِبِ المالَ وأَعطِه، ولا تتركِ الكسبَ فتطمعَ في أموال الناس؛ فإن المعطي خيرٌ من السائل. قوله: "لا أَرْزَأُ أحدًا"، (الرُّزْء): إيصال المصيبة إلى أحدٍ؛ يعني: لا أسألُ أحدًا بعد هذه المرة إلى أن أموتَ. وجدُّ "حكيم": خُوَيلد بن أسد القرشي. * * * 1303 - وقال: "اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلى". 1304 - واليدُ العُليا هي المنفقةُ، والسُّفلى السَّائلة. قوله: "اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى"، و (اليد العليا): هي المُنفِقة، و (السفلى): هي السائلة، (المُنفِقة): المعطية.

روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 1305 - وقال أبو سعيد: إنَّ أُناسًا من الأَنصارِ سأَلوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَعطاهُم، ثمَّ سأَلُوه فأَعطاهم، حتَّى نَفِذَ ما عندَه، فقال: "ما يكونُ عِنْدي مِنْ خَيرٍ فلَنْ أَدَّخرَه عنكُم، ومَن يَستعِفَّ يُعِفُّه الله، ومن يَستَغْنِ يُغنِهِ الله، ومَن يَتَصبَّرْ يُصبرْه الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأَوسعَ مِن الصَّبرِ". قوله: "ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم"، (ما) خبرية؛ أي: كل شيء لي من المال أُعطيكم، و (لن أدَّخرَه عنكم)؛ أي: ولن أمنعَه عنكم. قوله: "ومَن يَستَعِفَّ يعفَّه الله"؛ أي: ومَن طلبَ العِفَّةَ من الله تعالى رزقَه الله العفةَ، والإعفاف: إعطاءُ العفةِ أحدًا وجعلُه عفيفًا، والعفة: حفظ النفس عن المَنهيَّات؛ يعني: مَن قنعَ بأدنى قُوتٍ وتركَ السؤالَ يُسهِّلُ الله عليه القناعةَ. قوله: "ومَن يَستَغْنِ"؛ أي: ومَن أظهرَ عن نفسه الغنى وتركَ السؤال، وحفظَ ماءَ وجهِه يَجعلْه الله غنيًا. "ومن يتصبَّر"؛ أي: ومَن أمرَ نفسه بالصبر ووضعَ الصبرَ على نفسه بالتكلُّف يُسهِّلِ الله عليه الصبرَ. * * * 1306 - قال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعطيني العَطاءَ، فَأقولُ: أَعطِهِ أفقرَ إليه منِّي، فقال: "خُذْهُ فتَمَوَّلْهُ، وتَصدَّقْ به، فما جاءَكَ مِنْ هذا المَالِ وأنتَ غَيرُ مُشْرِفٍ ولا سائِلٍ فَخُذْهُ، وما لا فلا تُتْبعْه نفْسَكَ".

"أفقرَ"؛ أي: أحوجَ. قوله: "فتموَّلْه"؛ أي: اقبَلْه وأَدخِلْه في مالك ومُلكك. قوله: "فما جاءَك من هذا المال وأنتَ غيرُ مشرفٍ"، (من هذا المال): إشارة إلى جنس المال. ويحتمل أن يكون إشارةً إلى ذلك المال الذي أعطاه رسولُ الله عليه السلام؛ يعني: من هذا المال الحلال، (وأنت غيرُ مُشرفٍ)؛ أي: غيرُ مطلعٍ وغيرُ ناظر إليه؛ يعني: لا تنظُرْ إلى أموال الناس ولا تطمَعْ فيها، فإن جاءَك من غير أن تطلبَه فاقبَلْه وتصدَّقْ به إن لم تكن محتاجًا إليه. قوله: "وما لا"؛ أي: وما لا يأتيك من غير طلبك فلا تطلُبْ ولا تتعَبْ؛ أي: ولا توصل المشقةَ إلى نفسك في طلبه. * * * مِنَ الحِسَان: 1307 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَسائلُ كُدُوحٌ يَكْدَحُ بها الرجلُ وجهَهُ، إلا أنْ يَسأَلَ ذا سُلْطانٍ، أو في أَمرٍ لا يَجِدُ منه بُدًّا". قوله: "المُسائِل كَدُوح"، (الكدوح) بفتح الكاف: مبالغة، مثل: صَبُور، وهو من: الكدح؛ بمعنى: الجرح. "يَكدَح بها الرجل"؛ أي: يُريق بالسؤال ماءَ وجهه، ومَن أراقَ ماءَ وجهِه فكأنه جرحَه. قوله: "إلا أن يَسألَ ذا سلطانٍ"؛ يعني: إلا أن يَسأل ذا حُكمٍ ومُلكٍ بيده بيتُ المال؛ فإنه يجوز له أن يسأل حقَّه من بيت المال.

قوله: "أو في أمرٍ لا يجد منه بُدًّا"؛ يعني: إلا أن يكونَ من المذكورين في حديث قَبيصة. روى هذا الحديثَ سَمُرة بن جُندب. * * * 1308 - وقال: "مَن سألَ الناسَ ولهُ ما يُغنيهِ جاءَ يومَ القيامةِ ومَسْأَلتُه في وجْهِهِ خُمُوشٌ، أو خُدُوشٌ، أو كُدُوحٌ"، قيل: يا رسولَ الله!، وما يُغْنيهِ؟، قالَ: "خَمْسونَ دِرْهمًا، أو قِيْمتُها مِنَ الذَّهَبِ". قوله: "ومسألته في وجهه خُموشٌ أو خُدوشٌ أو كُدوحٌ": هذه الألفاظُ كلُّها متقاربةُ المعنى. وشكَّ الراوي في أن رسولَ الله - عليه السلام - تلفَّظ بأي هذه الألفاظ. و (الخدوش) جمع: خَدْش، و (الخُمُوش) جمع: خَمْش، و (الكُدوح) جمع: كَدْح، وكلُّها بمعنًى واحدٍ. "خمسون درهمًا": هذا ليس بعام، بل في حقِّ مَن كان يكفيه خمسون درهمًا، أما مَن كان له عيالٌ كثيرةٌ ولا يكفيه خمسون درهمًا ولا يَقدِر على كسب فيجوز له السؤالُ حتى يُحصِّلَ قُوتَه وقُوتَ عيالِه. روى هذا الحديثَ ابن مسعودٍ. * * * 1309 - وقال: "مَنْ سأَلَ وعنده ما يُغنيهِ فإنما يستكثر من النارِ"، قالوا: يا رسول الله، وما يُغنيهِ؟، قال: "قدرُ ما يُغديه، أو يُعشِّيه". وفي روايةٍ: "شِبَعُ ليلةٍ ويومٍ".

وقال: "مَنْ سأَلَ منكم وله أُوقَّيةٌ أو عِدْلُها؛ فقد سأَلَ إلْحافًا". قوله: "يستكثر من النار"؛ يعني: مَن جمع أموالَ الناس بالسؤال من غير ضرورة فكأنه يجمع لنفسه نارَ جهنم. قوله: "قَدْرُ ما يغدِّيه ويعشِّيه"، (التغدية): إطعامُ طعامِ الغَداةِ أحدًا، و (التعشية): إطعامُ طعامِ العَشاء؛ يعني: مَن كان له قُوتُ غدائه وعَشائه لا يجوز له أن يسألَ في ذلك اليوم صدقةَ التطوع، وإنما يسأل إذا لم يكن له قُوتٌ، وهو مضطرٌ، فيجوز له السؤالُ بقَدْر ما يأكل، ولا يدَّخر. وأما الزكاةُ المفروضةُ فيجوز لمَن هو مستحقٌّ للزكاة أن يسألَها بقَدْر ما يتمُّ له نفقةُ سَنةٍ لنفسه وعياله وكسوتهم؛ لأن تفريقَ الزكاة لا يكون في السَّنة إلا مرةً. روى هذا الحديثَ سهل ابن الحنظلية، واسم أبيه (¬1): الربيع بن عمرو ابن عدي الأنصاري. قوله: "من سأل منكم وله أوقيةٌ أو عِدْلُها"؛ يعني: مَن كان له أربعون درهمًا مَن الفضة، "أو عِدْلها"؛ أي: مِثْلُها من ذهبٍ أو مالٍ آخرَ، وسألَ "فقد سأل إلحافًا"؛ أي: إلحاحًا؛ أي: إسرافًا من غير اضطرارٍ، وهذا في حق مَن يكفيه أربعون درهمًا. روى هذا الحديثَ: عطاء، عن رجلٍ من بني حُبْشيِّ بن جُنادة السَّلُولي. * * * 1310 - وقال: "إنَّ المَسأَلةَ لا تَحِلُّ لغنيِّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إلا لذي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، ومَنْ سأَلَ الناسَ ليُثريَ بهِ مالَه كانَ خُموشًا في وجهِهِ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "واسم الحنظلة"؛ وهو خطأ، و"الحنظلية" أمُّه.

يومِ القيامةِ، ورَضْفًا يأكلُه مِن جهنمَ، فمن شاءَ فليُقِلَّ، ومن شاءَ فليُكثر". قوله: "إلا لذي فقر مُدْقِع"؛ أي: فقر شديد، (المُدقِع): اسم فاعل من (أَدَقَعَ): إذا ألصقَه بالدَّقْعَاءِ، وهو التراب من عدم الفراش. قوله: "أو غُرْمٍ مُفظِع"؛ (المُفظِع): اسم فاعل من (أَفظَع) إذا صار فظيعًا؛ أي: شديدًا غايةَ الشدةِ؛ يعني به: دَينًا ثقيلًا، هذا لفظ الحديث، ولكن الحكمَ جوازُ السؤال لأداء الدَّين، وإن كان الدَّينُ قليلًا. قوله: "ليُثرِي"؛ أي: ليُكثِر. "الرَّضْف": الحَجَر المُحمَّى، والمراد به: التحريق. روى هذا الحديثَ حُبْشيُّ بن جُنَادة السَّلُولي. * * * 1312 - ويُروي: "إنَّ المَسألةَ لا تَصلُحُ إلا لثَلاثةٍ: لذي فَقْرٍ مُدْقِع، أو لِذِيْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ". قوله: "أو دمٍ مُوجعٍ"؛ يعني: أو دِيَةٍ تُوجعُ أولياءَ القاتلِ أو القاتلَ؛ بأن يَلزَمَه دِيَةٌ، وليس له ولا لأوليائه مالٌ، ولا يؤديها من بيت المال؛ فقد حصلت المخاصمة والفتنة بين أولياء القاتل والمقتول في طلب الدية؛ فيجوز لواحدٍ أن يسأل الناسَ حتى يُؤديَ الديةَ، ويقطعَ بينهم الخصومة. * * * 1313 - وقال: "مَن أصابَتهُ فاقةٌ فأَنزلَها بالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فاقتُه، ومن أنزلَها بالله أَوْشَكَ الله له بالغِنى، إمَّا بموتٍ عاجِلٍ، أو غِنًى عاجِلٍ". قوله: "فأنزلها بالناس"؛ يعني: مَن عرضَ حاجتَه على الناس وطلبَ إزالةَ فقرِه من الناس لم يُصلحوا مالَه، ولم يُزيلوا فقرَه، بل لِيَعرِضِ العبدُ فقرَه

6 - باب الإنفاق وكراهية الإمساك

على الله، ويسألْ منه قضاءَ الحوائج. قوله: "أوشك الله له بالغنى"؛ يعني: قَرُبَ أن يحصل الله غناه؛ إما بأن يُميتَه، أو يُعطيَه مالًا. روى هذا الحديثَ: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. * * * 6 - باب الإنفاق وكراهية الإمساك (باب الإنفاق وكراهية الإمساك) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1314 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَيَسُرُّني أنْ لا يمُرَّ عليَّ ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيءٌ، إلا شيءٌ أَرْصُدُه لِدَيْنٍ". "أُرصدُه" بضم الهمزة: هذا نفس متكلم من (أَرصَدَ شيئًا): إذا أعدَّه وهيَّأه؛ يعني: إلا ما حفظتُه لأداء دَينٍ كان عليَّ، هذا يدل على أن أداءَ الدَّين مقدَّمٌ على الصدقات. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1315 - وقال: "ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إلا مَلَكانِ ينزِلانِ فيقول أحدُهما: اللهمَّ أَعْطِ مُنفِقًا خلَفًا، ويقولُ الآخرُ: اللهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا". قوله: "اللهم أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا"؛ (الخَلَف) بفتح اللام: العِوَض الصالح؛

يعني: اللهم أَعطِ مَن صرفَ مالَه في الخيرات ولم يُمسِكْه عِوَضًا، وكَثِّرْ مالَه، ومَن لم يُنفِقْ مالَه في الخيرات أَتلِفْ مالَه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1316 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لأسماء: "أَنفِقِيْ، ولا تُحصِي، فيُحصِيَ الله عليكِ، ولا تُوعِيْ فيُوعِيَ الله عليكِ، ارْضَخِي ما استطعتِ". قوله: "ولا تُحصي فيُحصي الله عليك"، (الإحصاء): العَدُّ؛ يعني: ولا تُعطي مالَكِ الفقراءَ بالعَدِّ والقلة؛ فإنك لو أَعطيتِ القليلَ يعطيك الله القليلَ، وإن أعطيتِ الكثيرَ بغيرِ حسابٍ يعطيك الله الكثيرَ بغيرِ حسابٍ. قوله: "ولا تُوعي"؛ أي: ولا تجعلي مالَكِ في الوعاء؛ أي: الظَّرف؛ يعني: لا تَمنعي مالَكِ في الوعاء عن الفقراء؛ فيمنع الله عنك نِعَمَه. روت هذا الحديثَ: فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. * * * 1317 - وقال: "قال الله تعالى: يا ابن آدمَ، أَنْفِقْ أُنفِقْ عليك". قوله: "أَنْفِقْ يا ابن آدمَ أُنْفِقْ عليك"؛ يعني: أعطِ الناسَ ما رزقَك حتى أَرزُقَك. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1318 - وقال: "يا ابن آدمَ، إنك أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خيرٌ لك، وأَنْ تُمسِكَهُ

شَرٌّ لك، ولا تُلامُ على كفَافٍ، وابدأ بمَنْ تَعُولُ". قوله: "لا تُلاَمُ على كَفَافٍ"؛ يعني: إن حفظتَ من مالك قَدْرَ قُوتِك وقُوتِ عيالك لا لومَ عليك، وإن حفظتَ أكثرَ من ذلك، ولم تتصدق بما فَضَلَ عن قُوتك فأنت بخيلٌ، والبخيلُ غيرُ محمودٍ، بل هو مذمومٌ. روى هذا الحديثَ أبو أمامة. * * * 1319 - وقال: "مثَلُ البَخيلِ والمُتصَدِّقِ: كمثَلِ رجلَينِ عليهما جُنَّتانِ من حديدٍ، قد اضْطُرَّت أَيديهِما إلى ثُدِيهِمَا وتَراقِيْهما، فجَعَلَ المتصدِّقُ كلَّما تَصَدَّقَ بصدقةٍ انبسطَتْ عنه، وجَعَلَ البخيلُ كلَّما همَّ بصدقةٍ قَلَصَتْ وأخذتْ كلُّ حلْقةٍ بمَكانِها". قوله: "كمَثَل رجلَين عليهما جُنَّتان"، (الجُنَّة) بضم الجيم وبعدها نون: الدِّرع، وفي بعض الروايات: "جُبَّتان" بالباء. قال بعض أصحاب الحديث: بالباء تصحيفٌ وسهوٌ. قوله: "قد اضطُرت"؛ أي: عُصِرَتْ وضُمَّتْ. قوله: "فجعل"؛ أي: طَفِقَ. "انبسطت"؛ أي: توسَّعت. "همَّ"؛ أي: قَصَدَ. "قَلَصَتْ"؛ أي: اشتدت والتصقت الحِلَق بعضها ببعض؛ يعني: السَّخِيُّ المُوفَّقُ إذا قصد التصدُّقَ يَسْهُلُ عليه ويطاوعُه قلبُه، كمَن عليه دِرعٌ ويدُه تحت الدِّرع، فأراد أن يخرج يدَه من الدِّرع وينزع الدِّرع يَسْهُلُ عليه، والبخيلُ إذا أراد أن يتصدَّقَ لا يطاوعه قلبُه ويَعسُر عليه، كمن عليه دِرعٌ ضيقةٌ ويدُه تحت الدِّرع،

فأراد أن يُخرجَ يدَه من الدِّرع وينزعَ الدِّرعَ فلا يُمكنه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1321 - وقال: "تصدَّقوا، فإنه يأْتي عليكم زمانٌ يَمْشي الرجلُ بِصدقتِهِ، فلا يجدُ من يَقبلُها، يقولُ الرجلُ: لو جئْتَ بها بالأَمسِ لَقَبلْتُها، فأما ليومَ فلا حاجةَ لي بها". قوله: "فأما اليومَ فلا حاجةَ لي بها"؛ يعني: يصير الناسُ راغبين في الآخرة تاركين للدنيا، ويقنعون بقُوت يومٍ، ولا يدَّخرون المال. في كل زمان قد وُجد جماعةٌ من المتوكِّلين بهذه الصفة، ولكن عامةَ الناس لم يكونوا بهذه الصفة إلا في زمان المهدي ونزول عيسى عليهما السلام، فإن الناسَ يصيرون كلُّهم بهذه الصفة. روى هذا الحديث حارثة بن وَهْب. * * * 1322 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله!، أَيُّ الصدقةِ أَعظمُ أجرًا؟، قال: "أنْ تَصَدَّق وأنتَ صحيحٌ شَحيحٌ تخشَى الفقرَ وتأْمُلُ الغنى، ولا تُمهِلْ حتى إذا بلغتْ الحلقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا، وقد كانَ لفُلانٍ". قوله: "وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ"؛ أي: في حال صحتك؛ لأن الرجلَ في حال الصحة يكون شحيحًا؛ أي: بخيلًا يخشى الفقرَ، تقول له نفسه: لا تُتلِفْ مالَكَ؛ كي لا تصيرَ فقيرًا، فتحتاج إلى الناس، بل اتركْ مالَكَ في بيتك؛ لتكونَ غنيًا، ويكون لك عِزَّةٌ عند الناس بسبب غناك؛ فإن الصدقةَ في هذه الحالة أفضلُ مراغمةً للنفس.

قوله: "ولا تُمهِل حتى إذا بلغتِ الحلقومَ"؛ أي: ولا تُؤخِّر الصدقةَ إلى أن بَلَغَتِ الرُّوحُ الحُلقومَ؛ يعني: إلى أن قَرُبْتَ من الموت وتعلم مفارقتَك من الدنيا، فتقول لوَرَثَتِك: أعطُوا الفقيرَ الفلاني كذا من مالي، واصرفوا في عمارة المسجد الفلاني كذا من مالي. قوله: "وقد كان لفلان"؛ يعني: في هذه الحالة ثُلثا مالِكَ لوَرَثَتك، ولا يجوز تصرُّفُك في هذه الحالة فيما زاد على ثُلث مالِكَ، وأنتَ تأمرُ في هذه الحالة بصرف جميع أموالك في الخيرات، فكيف تُقبَل صدقةٌ من مالٍ ليس لك فيه حكمٌ، وهو ثُلثا مالِكَ. * * * 1323 - وعن أبي ذرٍّ قال: انتهيتُ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في ظِلِّ الكعبةِ، فلمَّا رآني قال: "هُمُ الأَخسرونَ وربِّ الكَعْبةِ"، فقلتُ: فِداكَ أَبِي وأُمي، مَن هم؟، قال: "هم الأكثرونَ أموالًا إلا مَنْ قال هكذا وهكذا وهكذا من بينِ يديهِ، ومِن خلفِه، وعن يميِنه، وعن شِمالِه، وقليلٌ ما هم". قوله: "هم الأخسرون"، (هم) ضمير عن غير مذكور، ولكن يأتي تفسيره، وهو قوله: "هم الأكثرون أموالًا"؛ يعني: مَن كان مالُه أكثرَ، وإثمُه أكثرَ، وخسرانُه أكثرَ. "إلا من قال هكذا"، (قال) هنا من قولهم: (قال بيده): إذا أشار بيده إلى جانب؛ يعني: إلا مَن حرَّك وأَعملَ يدَه في صرف ماله في الخيرات من جانب يمينه ويساره وخلفه وقُدَّامه؛ يعني: يعطي مَن سألَه ومَن رأى من المحتاجين، فمَن كان بهذه الصفة ليس من الخاسرين، بل هو من الفائزين. قوله: "وقليل ما هم"، (ما) زائدة، و (هم) مبتدأ، و (قليل) خبره مقدَّم عليه؛ أي: هم قليلٌ؛ يعني: مَن يصرف مالَه في الخيرات صرفًا كثيرًا قليلٌ. * * *

من الحسان: 1324 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّخيُّ قريبٌ من الله قَريبٌ مِن الجنةِ قريبٌ من الناسِ بعيدٌ من النارِ، والبخيلُ بعيدٌ من الله بعيدٌ من الجنةِ بعيدٌ من الناسِ قريبٌ من النارِ، ولَجَاهِلٌ سَخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيلٍ". قوله: "السَّخِيُّ قريبٌ من الله ... " إلى آخره، (القُرْب) هنا: قُرب من رحمة الله تعالى؛ يعني: السَّخاوةُ خَصلةٌ محمودةٌ عند الله وعند الناس، فلا جَرَمَ هو مستحقُّ الرحمةِ والحبِّ من الله ومن الناس، والبخيلُ بعكس ذلك. قوله: "ولَجاهلٌ سَخِيٌّ أحبُّ إلى الله تعالى من عابدٍ بخيلٍ"، يريد بـ (الجاهل) هنا: ضد (العابد)؛ لأنه ذكره بإزائه؛ يعني: رجلٌ يؤدي الفرائضَ ولا يؤدي النوافلَ، وهو سَخِيٌّ، أحبُّ إلى الله تعالى من رجلٍ يُكثر النوافلَ وهو بخيلٌ؛ لأن "حبَّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ"، والمراد بـ (حبِّ الدنيا): حبُّ المال. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1325 - وقال: "لأَنْ يَتَصدَّقَ المرءُ في حياتِه بدِرْهمٍ؛ خيرٌ له مِن أنْ يتصدَّقَ بمائةٍ عندَ موتِه". قوله: "لأَن يتصدَّق المرءُ في حياته بدرهمٍ ... " إلى آخره؛ يعني: كلُّ فعلٍ يكون على النفس أشدَّ فثوابُه أكثرُ، والصدقةُ في الصحة على النفس أشدُّ من حال المرض، فلا جَرَمَ ثوابُه أكثرُ. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * *

1326 - وقال: "مثَلُ الذي يتصدَّقُ عندَ موتِه أو يُعتِقُ كالذي يُهدي إذا شَبعَ"، صحيح. قوله: "كالذي يُهدي إذا شبع"؛ يعني: الذي يُطعم الطعامَ في حال الجوع يكون على النفس أشدَّ، فثوابُه كثيرٌ، والذي يُطعم الطعامَ على الشبع لا يكون على النفس شديدًا؛ فلا جَرَمَ لم يكن ثوابُه كثيرًا، وكذلك التفاوتُ بين الصدقة في حال الصحة والمرض. روى هذا الحديثَ أبو الدرداء. * * * 1327 - وقال: "خَصْلَتانِ لا تَجتمعانِ في مُؤمنٍ: البُخلُ، وسُوءُ الخُلُقِ". قوله: "خَصلتانِ لا تجتمعانِ في مؤمنٍ"؛ أي: في مؤمنٍ كاملٍ. روى هذا الحديثَ أبو سعيد الخُدْري. * * * 1328 - وقال: "لا يَجتمعُ الشُّحُّ والأيمانُ في قلْبِ عبدٍ أبدًا". قوله: "لا يجتمع الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا": هذا تهديدٌ وزجرٌ عن البخل، وليس معناه: أن البخيلَ ليس بمؤمنٍ، ويحتمل أن يكون تأويله: لا يجتمع الشُّحُّ والإيمانُ الكاملُ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1329 - وقال: "لا يدخلُ الجنَّةَ خِبٌّ، ولا بَخيلٌ، ولا مَنَّان". قوله: "لا يدخلُ الجنةَ خبٌّ"؛ أي: مكَّارٌ مُفسِدٌ يَمكرُ بالمسلمين؛ أي:

7 - باب فضل الصدقة

لا يدخل الجنةَ مع هذه الخصلة، حتى يُجعَلَ طاهرًا منها؛ إما بالتوبة في الدنيا، أو بأن يعفوَ الله عنه، أو بأن يُعذبَه ثم يدخل الجنةَ. روى هذا الحديثَ أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -. * * * 1330 - وقال: "شرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هالِعٌ، وجبن خالعٌ". قوله: "شرُّ ما في الرجل شُحٌّ هالِعٌ"، (الهالع): الجزع، فهو ضد (الصابر)؛ أي: بخلٌ يجزعُ صاحبُه عند إخراج الحق من ماله، و (هالع)؛ أي: ذو هَلَع. قوله: "أو جُبن خالع"، (الخلع): نزع الشيء وإخراجه، و (الجبن): ضد الشجاعة؛ يعني: جبن يمنع الرجلَ من المحاربة مع الكفار، ويمنعُه من الدخول في الخيرات. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 7 - باب فضل الصدقة (باب فضل الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1331 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَصَدَّقَ بعِدْلِ تَمْرةٍ من كَسْبٍ طَيبٍ - ولا يقبلُ الله إلا الطيبَ - فإن الله يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثم يُرَبيها لصاحِبها كما

يُرَبي أحدُكم فَلُوَّه حتى تكونَ مِثْلَ الجَبَلِ". قوله: "العَدل" بفتح العين: ما يُعادل شيئًا؛ أي: يُماثل شيئًا، و (العِدْل) بكسر العين: المِثْل؛ يعني: مَن تصدَّق بتمرةٍ أو مِثْلِها من مالٍ آخرَ. "الطيب": الحلال. قوله: "فإن الله يتقبَّلها بيمينه"؛ أي: يَقبَلها بحسن قَبوله وحسن رضاه. قوله: "ثم يُربيها"؛ أي: ثم يزيدها ولا يُضيعها ولا يَنقصها. "كما يُربي أحدُكم فُلُوَّه" بفتح الفاء وتشديد الواو: المُهر، كما يربي أحدُكم مُهْرَه. "حتى تكون مثل الجبل"؛ فكذلك يُضاعف الله جزاءَ الصدقة إلى سبع مئة ضعف، ويزيد. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1332 - وقال: "ما نقصَتْ صدَقةٌ مِنْ مالٍ، وما زادَ الله عبْدًا بعفْوٍ إلا عِزًا، وما تَواضَعَ أَحَدٌ للهِ إلا رَفَعهُ الله". قوله: "ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ"؛ يعني: لا ينقصُ المالُ بالصدقة، بل يزيد خيرُه وبركتُه، ويُرزَق صاحبُها أضعافَ ما أَعطَى. قوله: "وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا"؛ يعني: لو ظلمَ أحدٌ أحدًا، وَيقدِر المظلوم على الانتقام من الظالم، فيعفو عنه يزيدُ الله عِزَّه بسبب هذا العفو. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

1333 - وقال: "مَن أَنْفَقَ زَوجَينِ من شيءٍ من الأشياءِ في سبيلِ الله دُعِيَ من أَبوابِ الجنةِ، وللجنةِ ثمانية أبوابٍ، فمَن كانَ مِن أهلِ الصلاةِ، دُعِيَ من بابِ الصلاةِ، ومَن كانَ مِن أَهلِ الجهادِ دُعيَ من بابِ الجهادِ، ومَن كان من أهلِ الصدقةِ دعُي من باب الصَّدَقةِ، ومَنْ كانَ مِن أهلِ الصِّيامِ دُعي من بابِ الرَّيانِ"، فقالَ أبو بَكْرٍ: ما على مَن دُعيَ من تلكَ الأبوابِ مِن ضرورةٍ، فهل يُدعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟، قال: "نعم، وأَرجُو أنْ تكونَ مِنْهم". قوله: "مَن أَنفق زوجَين من شيءٍ من الأشياء"، قد جاء في بعض الروايات: أنه قيل لرسول الله عليه السلام: "وما زوجان؟ قال: فَرَسَانِ أو عَبْدَانِ أو بَعِيرانِ من إبله"؛ معناه: مِن كل شيءٍ يُتصدَّق به يُشفَع من ذلك الجنس؛ أي: يُعطَى شيئَين لا شيئًا واحدًا، فإن أَعطَى الدرهمَ يُعطَى الدرهمَين، وإن أَعطَى ثوبًا يُعطَى ثَوبَين، وكذلك جميع الأشياء. قوله: "فمَن كان من أهل الصلاة"؛ يعني: مَن كان يُكثر صلاةَ النافلة إذا قَرُبَ من الجنة نُودِيَ من باب الصلاة: يا عبدَ الله! ادخلِ الجنةَ من هذا الباب. "ومَن كان من أهل الجهاد"؛ يعني: يُكثر الجهادَ نُودِيَ أيضًا من باب الجهاد، وكذلك جميع الخيرات. قوله: "من باب الريَّان": ضد (العطشان)؛ يعني: يُسقَى الصائمُ من ذلك الباب شرابًا طهورًا قبل أن يدخلَ وسطَ الجنة؛ ليزولَ عطشُ الصيام عنه. قوله: "ما على مَن دُعِيَ من تلك الأبواب من ضرورة"، (ما): نفي، و (مِن) في (من ضرورة): زائدة؛ لأن (مِن) بعد حرف النفي لا تكون إلا زائدة، إلا ما شذَّ، وتقديره: ما ضرورةٌ؛ أي: ليس ضرورةٌ على مَن دُعي من تلك الأبواب واحتياجٌ؛ يعني: لو دُعِيَ من بابٍ واحدٍ يحصل مرادُه، وهو دخولُ الجنة، وليس عليه ضرورةٌ واحتياجٌ إلى أن يُدعَى من جميع الأبواب،

ومع أنه لا ضرورةَ عليه في أن يُدعَى من جميع الأبواب، فهل يكون أحدٌ يُدعَى من جميع الأبواب؟ "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم": يكون جماعةٌ كثيرون يُدعَون من جميع الأبواب. "وأرجو أن تكون منهم": فمَن كثرت صلاتُه وصيامُه وجهادُه وغيرُ ذلك من الخيرات نُودِيَ من كلِّ بابٍ: يا عبدَ الله! ادخلْ من هذا الباب. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1335 - وقال: "اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمْرةٍ، فإنْ لم تَجدْ فبكلِمة طَيبةٍ". قوله: "اتقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرة"؛ يعني: ادفعوا النارَ عن أنفسكم بالخيرات من الصدقات والصيام وغير ذلك. "ولو بشق تمرة"؛ يعني: بنصف تمرة تتصدَّقون به؛ فإن الصدقةَ تدفع النارَ، وإن كانت قليلةً. روى هذا الحديثَ عَديُّ بن حاتم. * * * 1336 - وقال: "يا نساءَ المُسلِماتِ، لا تحقِرَنَّ جارةٌ لِجَارتِها ولو فِرْسِنَ شاةٍ". قوله: "لا تَحقرَنَّ جارةٌ لجارتها، ولو فِرسِنَ شاةٍ"، (الفِرْسِن): لحم بين ظلفَي الشاة، تقديره: لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها صدقة ولو فِرْسِنَ شاةٍ؛ يعني: لا ينبغي لامرأةٍ أن تتركَ الصدقةَ إلى جارتها وإن كانت تلك الصدقةُ شيئًا قليلاً، ولا ينبغي لها أن تستحي من الصدقة بشيء قليلٍ، فإن الله تعالى يقبَل القليلَ،

ويَجزِي به جزاءً كثيرًا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1337 - وقال: "كلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقةٌ". قوله: "كلُّ معروفٍ صدقةٌ"، (المعروف): ما عُرف من جملة الخيرات؛ يعني: كلُّ ما فيه رضا الله تعالى من الأفعال والأقوال فهو صدقةٌ. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1338 - وقال: "لا تحقِرَنَّ من المَعْروفِ شيئًا ولو أَنْ تَلقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلِيْقٍ". قوله: "لا تَحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلقَى أخاك بوجهٍ طليقٍ"، (الوجه الطليق): الذي فيه بشاشةٌ وفرحٌ؛ يعني: افعلِ الخيراتِ كلَّها قليلَها وكثيرَها. ومن الخيرات: أن يكون وجهُك ذا بشاشةٍ وفرحٍ إذا رأيتَ مسلمًا، فإنه يَصِلُ إلى قلبه سرورٌ إذا تركتَ العُبوسَ وتتلطف عليه. ولا شك أن إيصالَ السرورِ إلى قلوب المسلمين حسنةٌ. روى هذا الحديثَ أيضًا جابر. * * * 1339 - وقال: "على كلِّ مُسلِم صدَقةٌ"، قالوا: فإنْ لم يجدْ؟، قال: "فيعملُ بيدَيهِ، فينفعُ نفْسَه، ويتصدَّقُ"، قالوا: فإنْ لم يستطِعْ أَوْ لم يفعلْ؟،

قال: فلْيُعِنْ صاحِبَ الحاجةِ المَلْهُوف"، قالوا: فإنْ لم يفعلْ؟ قال: "فليَأْمُرْ بالخَيرِ"، قالوا: فإن لم يفعل؟، قال: "فليُمْسِكْ عَن الشَّرِّ، فإنَّه له صدَقةٌ". قولهم: "فإن لم يجد"؛ يعني: فإن لم يجد كلُّ مسلمٍ صدقةً ماليةً؛ يعني: لا يجد من المال ما يتصدَّق به. قوله: "فيُعين ذا الحاجة الملهوف" المتحيرَ في أمره، وصاحبَ الحزن. روى هذا الحديثَ أبو موسى الأشعري. * * * 1340 - وقال: "كلُّ سُلامَى من الناسِ عليهِ صدقةٌ، كلَّ يومٍ تطلُعُ فيه الشَّمسُ يعدِلُ بين الاثنينِ صدقةٌ، ويعينُ الرجلَ على دابَّتِهِ، فيَحمِلُ عليها أو يرفعُ عليها مَتاعَه صدَقةٌ، والكَلِمةُ الطَّيبةُ صدَقةٌ، وكلُّ خُطْوةٍ يَخطُوها إلى الصَّلاةِ صدَقةٌ، ويُميطُ الأذَى عن الطَّريقِ صدَقةٌ". قوله: "كلُّ سُلاَمَى من الناس عليه صدقةٌ"، (السُّلاَمى): عَظْم الإصبع، السّلاميات: جمع؛ يعني: على كل واحدٍ من الإنسان بعددِ كلِّ مِفْصَلٍ في أعضائه صدقةٌ؛ شكرًا لله تعالى بأن جعلَ في عظامه مفاصلَ يَقدِر على قبضِ أصابعه ويدَيه ورجلَيه وغير ذلك وبسطِها، فإن هذه نِعَمٌ عظيمة؛ فإذنه لو جَعلَ أعضاءَه بغير مِفْصَلٍ يكون كلوحٍ أو خشبٍ لا يَقدِر على القبض والبَسط والقيام والقعود والاضطجاع. قوله: "يَعدِل بين الاثنين"؛ يعني: تُصلح بين الخصمَين وتَدفع ظلمُ ظالمٍ عن المظلوم. قوله: "ويُميط الأذى"؛ أي: وتَدفع وتُبعد ما يؤذي الناسَ عن طريق المسلمين.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1341 - وقال: "خُلِقَ كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ على ستِّينَ وثلاثمائةِ مَفْصِلٍ، فمَنْ كبَّر الله، وحَمِدَ الله، وهَلَّلَ الله، وسبَّح الله، واستغفرَ الله، وعزَلَ حجَراً عن طَريقِ النَّاسِ، أو شَوكةً، أو عَظْمًا، أو أَمرَ بمَعْروفٍ أو نَهَى عن مُنْكَرٍ عَددَ تِلكَ الستينَ والثلاثمائةِ فإنَّه يَمْشِي يومَئذٍ وقد زَحْزَحَ نفسَهُ عن النَّارِ". قوله: "وعزلَ حَجَرًا"؛ أي: أَبعدَ حَجَرًا. قوله: "عدد تلك الستين وثلاث مئة"، يعني: عدَّ بعدد كلِّ مِفْصَلٍ صدقةً؛ أي: فقد فعلَ بعدد كل واحدٍ منها خيرًا. قوله: "زحزح نفسَه عن النار"؛ أي: أَبعدَ نفسَه. روت هذا الحديثَ عائشة رضي الله عنها. * * * 1342 - وقال: "إنَّ بِكلِّ تَسْبيحةٍ صدقةً، وكلِّ تَكْبيرةٍ صدَقةٌ، وكلِّ تَحْميدةٍ صدقةٌ، وكلِّ تَهْليلةٍ صدَقةٌ، وأَمرٍ بالمَعروفِ صدَقةٌ، ونَهْيٍ عنْ مُنكرٍ صدَقةٌ، وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ"، قالوا: يا رسولَ الله!، أيأْتِي أَحدُنا شهوتهُ ويكونُ له فيها أجرٌ؟، قال: "أَرأَيتُم لَو وَضَعَها في حَرامٍ، أكانَ عليهِ فيهِ وِزْرٌ؟، فكذلكَ إذا وضَعَها في الحَلالِ كانَ له أجْرٌ". قوله: "إن بكل تسبيحةٍ صدقةً"، تقديره: أي تحصل للرجل بكل تسبيحة صدقةٌ؛ أي: كلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ. قوله: "وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ"، (البُضع): الفَرْج؛ يعني: إذا جامَعَ

الرجلُ منكوحتَه أو مملوكتَه تحصل له صدقةٌ. روى هذا الحديثَ أبو ذر الغِفَاري. * * * 1243 - وقال: "نِعْمَ الصَّدَقةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، والشَّاةُ الصَّفيُّ مِنحةً، تَغْدُو بإناءٍ، وتَرُوحُ بآخَرٍ". قوله: "نِعمَ الصدقةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنحةً"، (اللِّقحة): الناقة ذات اللبن، (الصَّفِيُّ): كثيرة اللبن، (مِنْحةً): نصب على التمييز، والمِنْحَة: الناقة التي يعطيها الرجلُ فقيرًا ليشربَ من لبنها مدةً، ثم يردها إلى مالكها؛ فمدح رسولُ الله - عليه السلام - هذا الفعل. قوله: "تغدو بإناءٍ وتروح بآخرَ"؛ يعني: تحلب من لبنها ملءَ إناءٍ في وقت الغداة، وملءَ إناءٍ آخرَ في وقت المساء. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1344 - وقال: "ما مِن مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يَزْرعُ زَرْعًا، فيأكْلُ منهُ إنسانٌ أو طَيْر أو بَهيْمةٌ إلا كانتْ له صدَقةٌ". ويروى: "ما سُرِقَ منه لهُ صدَقةٌ". قوله: "ما من مسلم يَغرِس غَرسًا ... " إلى آخره؛ يعني: بأي سببٍ يُؤكَل مالُ الرجل يحصل له الثوابُ. روى هذا الحديثَ أنس. * * *

1345 - وقال: "غُفِر لامرأةٍ مُومِسَةٍ مرَّتْ بكلْبٍ على رأْسِ رَكيًّ يَلْهثُ، كَادَ يَقتلُه العَطَشُ، فنَزَعَتْ خُفَّها، فأوْثَقَتْه بِخِمارِها، فَنَزَعَتْ لهُ من الماءِ، فغُفِرَ لها بذلك"، قيل: إنَّ لَنا في البَهائِم أَجْرًا؟، قال: "في كلِّ ذاتِ كَبدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ". قوله: "غُفِرَ لامرأةٍ مُومِسَة"، (المُومِسَة): الفاجرة. "الرَّكِيُّ": البئر. "يَلْهَث"؛ أي: يُخرج لسانَه من العطش. "فأَوثقتْه"؛ أي: شدَّتْه. قوله: "في كل ذاتِ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ"؛ يعني: بإطعامِ كلِّ حيوانٍ وسَقْيه يحصل لك أجرٌ، بشرط ألا يكون الحيوانُ مأمورًا بقتله كالعقرب والحية وغيرهما. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1346 - وقال: "عُذَّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ أَمْسَكَتْها حتى ماتَتْ مِنَ الجُوعِ، فلم تكنْ تُطْعِمُها، ولا تُرسلُها فتأكلَ من خَشاشِ الأَرضِ". قوله: "في هِرَّة"؛ أي: في أمرِ هِرَّةٍ وسببها. "خَشَاش الأرض" بفتح الخاء: هوامُّ الأرض وحشراتها، و (الخِشَاش) بكسر الخاء: الخشب الذي يُجعَل في أنف البعير. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1347 - وقال: "مرَّ رجلٌ بغُصْنِ شَجَرةٍ على ظَهْرِ طريقٍ، فقالَ: لأُنحَّينَّ

هذا عن طريقِ المُسلمينَ لا يُؤْذيهم، فأُدخِلَ الجنَّةَ". "لأُنحيَنَّ"؛ أي: لأُبعدَنَّ. قوله: "لايؤذيهم"؛ أي: كي لا يؤذيهم. قوله: "فأُدخلَ" الجنةَ؛ أي: فأَبعدَ ذلك الغصنَ عن طريق المسلمين، فأُدخِلَ الجنةَ بهذا الخير. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1348 - وقال: "لَقَدْ رأَيتُ رجُلاً يتقلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرةٍ قطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّريقِ، كانتْ تُؤذي النَّاسَ". قوله: "في شجرة"؛ أي: في أمرِ شجرةٍ وسببها؛ يعني: إذا أَبعدَ شجرًا أو غصنَ شجرٍ عن طريق المسلمين، فأُدخِلَ الجنةَ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1352 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَّدَقةَ لَتُطفِئ غضَبَ الرَّبِّ، وتَدفَعُ مِيْتةَ السُّوءِ". قوله: "وتدفع مِيتةَ السوء"، و (الميتة) أصله: مِوْتَة، فقُلبت الواوُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، وهي اسمٌ من (مات يموت)، و (مِيتة السوء): ما تعوَّذ منه رسول الله - عليه السلام في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، ومن الغَرَق والحَرْق والهَرَم، وأعوذ بك من أن يتخبَّطني الشيطانُ عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مُدبرًا، وأعوذ بك من أن أموتَ لديغًا".

روى هذا الحديثَ الذي فيه (ميتة السوء): أنس، ورَوى هذا - أعني: "اللهم إني أعوذ بك ... " إلى آخره -: أبو اليَسَر. * * * 1353 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّدَقةُ تُطْفِئُ الخَطيئةَ كما يُطفئ الماءُ النَّارَ". قوله: "الصدقةُ تُطفِئ الخطيئةَ"؛ أي: الصدقةُ تُزيل الذنوبَ، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. روى هذا الحديثَ معاذ بن جبل. * * * 1354 - وقال: "كلُّ مَعْروفٍ صَدَقةٌ، وإنَّ مِنَ المَعْرُوفِ أنْ تَلْقَى أَخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ، وأنْ تُفرِغَ من دَلْوِكَ في إِناءِ أَخيكَ". قوله: "وأن تُفرِغَ من دَلْوِكَ في إناء أخيك"؛ يعني: إذا استقيت الماءَ من بئرٍ وجاءك مسلمٌ على رأس البئر، فتعطيه ماءَك؛ كي لا يحتاجَ إلى تعبِ الاستقاء، ثم استَقيتَ مرةً أخرى لنفسك يكون لك هذا صدقةً. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1355 - وقال "تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخيكَ صَدقةٌ، وأَمرُكَ بالمَعروفِ صدَقةٌ، ونهيُكَ عن المُنكَرِ صدَقةٌ، وإِرشادُكَ الرَّجلَ في أَرضِ الضَّلالِ لكَ صدَقةٌ، ونَصْرُكَ الرَّجلَ الرَّديءَ البصَرِ لكَ صدَقةٌ، وإِماطتُكَ الحجَرَ والشَّوكَ والعَظْمَ عن الطَّريق لك صدَقةٌ، وإفْراغُكَ من دَلْوِكَ في دَلْوِ أَخيكَ لكَ صدقةٌ"، غريب.

قوله: "في أرض الضلال"؛ أي: في أرضٍ لا علامةَ فيها للطريق يَضلُّ فيه الرجل. قوله: "الرديء البَصَر"، (الرديء) ضد (الجيد)، والمراد منه: الذي لا يُبصر أو يُبصر قليلاً. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1357 - وقال: "أَيُّمَا مُسلِمٍ كَسَا مُسلِمًا ثَوبًا على عُريٍ؛ كسَاه الله مِن خُضْرِ الجنَّةِ، وأَيُّما مُسلمٍ أَطْعَمَ مُسلمًا على جوعٍ أَطعَمَهُ الله مِنْ ثِمَارِ الجنَّة، وأَيُّما مُسلمٍ سَقَى مُسلِمًا على ظَمَأٍ سَقاهُ الله من الرَّحيقِ المَخْتُومِ". قوله: "على ظمأ سَقَاه الله تعالى من الرحيق المختوم"، (الظمأ): العطش، (الرحيق): الخمر، (المختوم): الذي وُضعَ عليه الختمُ؛ كي لا يصلَ إليه أحدٌ غير أصحابه. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * 1358 - وقال: "إِنَّ في المَالِ لَحَقَّاً سِوى الزَّكاةِ، ثم تلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآيةَ". قوله: "إن في المال لَحقًّا سوى الزكاة"، (حق المال): ألا يُحرَم السائلُ، وألا يَمنَع متاعَ بيته من استعارةٍ، كالقِدْر والقَصْعَة وغيرهما، ولا يَمنَع أحدًا الماءَ والملحَ والنارَ. روت هذا الحديثَ فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية. * * *

1360 - وقال: "مَنْ أَحيَا أَرضًا مَيْتةً فله أَجْرٌ، وما أَكلَتْ العافيَةُ منهُ فهوَ له صدَقةٌ". قوله: "وما أكلتِ العافيةُ"، (العافية): كلُّ طالبٍ رزقًا من إنسان ودوابَّ وطيرٍ. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1361 - وقال: "مَن مَنَحَ مِنْحَةَ وَرِقٍ، أو أَهدى زُقَاقًا، أو سَقَى لَبنًا؛ كان له كعِدْلِ رقَبةٍ أو نَسَمةٍ". وفي روايةٍ: "كانَ لهُ مِثْلُ عِتْق رقَبةٍ". قوله: "مَن مَنَحَ مِنْحَةَ وَرِقٍ"؛ أي: مَن أعطَى عطيةً، "أو هدى - بتخفيف الدال - زُقاقًا"؛ يعني: أو دلَّ ضلالًا إلى زُقاقٍ، وهي السِّكَّة؛ يعني: يدلُّه إلى سِكَّتِه أو بيتِه. ورُوي: "هدَّى زُقاقًا" بتشديد الدال؛ يعني: مَن وقفَ بسِكَّةٍ من النخل؛ أي: صفًا وبستانًا، أو تصدَّق بها. "العدْل" - بكسر (¬1) العين -: المِثْل. قوله: "أو نسمة": شكٌّ من الراوي في أن النبي - عليه السلام - قال: (كعدْلِ رقبةٍ، أو قال: كعدْلِ نسمة)، (النسمة): الإنسان، والمراد بالرَّقبة والنَّسمة: العبد. روى هذا الحديثَ البراء. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "بفتح العين"، والصواب ما أثبت.

1362 - عن أبي تَمِيْمَةَ الهُجَيْمي، عن أبي جُرَيًّ جابرِ بن سُلَيم قال: رأيتُ رجلاً يصدرُ الناسُ عنْ رأْيهِ، قلتُ: مَن هذا؟، قالوا: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: عليكَ السَّلامُ، يا رسولَ الله مرَّتين، قال: "لا تقلْ: عليكَ السلامُ، عليكَ السلامُ تحيةُ الميِّتِ!، قلْ: السَّلامُ عليكَ"، قلت: السلامُ عليكَ، قلتُ: أنتَ رسولُ الله؟، قال: "أنا رسولُ الله الذي إذا أَصابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كشَفَ عنكَ، وإِنْ أصابَكَ عامُ سَنةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لك، فإذا كنتَ بأرضٍ قَفْرٍ أو فَلاةٍ فَضَلَّتْ راحلَتُكَ فدعوتَه ردَّها عليكَ"، قلتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قال: "لا تَسُبن أحدًا"، فما سبَبْتُ بعدَه حُرًّا ولا عَبْدًا ولا بَعْيرًا ولا شاةً، قال: "ولا تحقِرَنَّ شيئًا من المَعْروف، وأنْ تُكلِّم أخاكَ وأنتَ مُنبسِطٌ إليه وجهُك، إِنَّ ذلكَ مِنَ المَعروفِ، وارفَعْ إزارَكَ إلى نِصْفِ السَّاقِ، فإنْ أَبَيْتَ فإلى الكَعْبَينِ، وإيَّاكَ وإسبالَ الإِزارِ، فإنَّها من المَخِيْلةِ، وإِنَّ الله لا يحبُّ المَخِيْلةَ، وإنِ امرؤٌ شتمَكَ وعيَّرَكَ بما يعلمُ منكَ فلا تُعَيرُهُ بما تعلَمُ منه، فإنَّما وبالُ ذلكَ عليهِ". وفي رواية: "فيكونُ لكَ أجرُ ذاكَ، ووبالُهُ عَليهِ". قوله: "رأيت رجلاً يَصدُرُ الناسُ عن رأيه"؛ يعني: يعملُ الناسُ ما يأمر، ويقولون ما يأمر، ولا يخالفون أمره. قوله: "عليك السلامُ تحيةُ الميت"، كان الرجل لا يعرف الفرقَ بين: السلام عليك، وبين: عليك السلام، فقال رسول الله عليه السلام: (عليك السلامُ تحيةُ الميت)؛ يعني: هذا اللفظ يقال في المقابر؛ لأنه لا يُتوقَّع الجوابُ من الميت، وأما الحيُّ يُتوقَّع الجوابُ منه، فقُل: (السلام عليك)، ليقول هو لك: وعليك السلام.

قوله: "عامُ سَنَةٍ"، أي: عامُ قحط، وعامٌ لا تُنبت الأرضُ شيئًا. "بأرضٍ قَفْرٍ"، (القَفْر): الفلاة الخالية من النبات والشجر، والمراد منه: المفازة البعيدة. قوله: "اعهَدْ إليَّ"؛ أي أَوصِنِي. قوله: "ولا تَحقِرَنَّ شيئًا من المعروف"؛ أي: ولا تتركَنَّ شيئًا من المعروف. قوله: "وأنت منبسطٌ إليه"؛ أي: وأنتَ ذو بَشَاشةٍ تتواضع إليه، ويتطيَّب كلامُك له، حتى يفرحَ قلبُه بحسن خُلقك. قوله: "وارفع إزارَك"؛ أي: ليكن سراويلُك وقميصُك قصيرَين. "فإن أبيتَ"؛ يعني: فإن تركتَ جعلَ إزارك قصيرًا إلى نصف الساق فاجعلْه أسفلَ من نصف الساق، ولكن بشرط ألا يكونَ أسفلَ من الكعب. قوله: "وإياك وإسبالَ الإزار"؛ يعني: (وإياك)؛ أي: فاحذَرْ من إطالة الذَّيل؛ فإنها من التكبُّر. قوله: "عيَّرك": أي: عَذَلَكَ ولامَكَ بما يعلم من عيبك، فلا تَعْذِلْه بما تعلم من عيبه. * * * 1363 - عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذَبَحوا شاةً، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما بقيَ منها؟ "، فقالت: ما بقِيَ إلا كَتِفُها، قال: "بقِيَ كلُّها غيرَ كتِفِها"، صحيح. قوله: "ما بقي منها؟ "، (ما) للاستفهام.

قوله: "بقي كلُّها إلاَّ كتفَها)؛ يعني: ما تُصدِّقَ به فهو باقٍ، وما بقي عندك فهو غيرُ باقٍ، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. * * * 1365 - عن عبد الله بن مَسْعود - يرفعُه - قال: "ثلاثةٌ يُحبهم الله: رجلٌ قامَ من اللَّيل يَتلُو كتابَ الله، ورجلٌ يتصدَّقُ بصدَقةٍ بيمينِهِ يُخفيها - أُراهُ قالَ مِن شِمَالِهِ، ورجلٌ كانَ في سَرِية، فانهزَمَ أَصحابُه، فاستْقَبلَ العَدوَّ", غريب. قوله: "أُراه" بضم الهمزة؛ أي: أظنُّه، قال: يخفيها من شماله. * * * 1366 - عن أبي ذَرًّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ يُحِبُّهم الله، وثلاثةٌ يُبغِضُهم الله، فأَما الذين يُحِبُّهم الله: فرجلٌ أَتَي قَومًا، فسأَلهَم بالله ولم يسألْهم لقَرابةٍ بينَهُ وبينَهم فَمَنَعُوه، فتَخَلَّفُ رجلٌ بأَعقابهم فأعطاه سِرًّا، لا يعلمُ بعطيَّتِهِ إلا الله والذي أَعطاهُ، وقومٌ سَارُوا ليلَتَهم حتى إذا كَانَ النَّومُ أحبَّ إليهم مما يُعدَلُ، به فَوَضَعُوا رؤُوسَهم، فقامَ سِرًّا، يتمَلَّقُني ويتلُو آياتي، ورجلٌ كانَ في سَرِيةٍ، فلَقُوا العَدوَّ، فهُزِمُوا، فأَقبلَ بصَدْرِهِ حتى يُقتلَ أو يُفتَحَ له، والثلاثةُ الذين يُبغِضهُم الله: فالشيخُ الزَّاني، والفَقيرُ المُخْتَالُ، والغَنيُّ الظَّلُومُ". قوله: "ولم يَسأَلْهم لقرابةٍ"؛ يعني: يقول السائل: أَسأَلُكم وأَعطُوني بالله، ولم يقل: أسألكم بحق قرابةٍ بيني وبينكم؛ يعني: إذا سألَ بالله وَجَبَ إجابتُه؛ تعظيمًا لاسم الله، فإذا منعوه فقد احترموا أجرًا عظيمًا، فإذا أعطاه واحدٌ سرًّا فيه فضيلتان، إحداهما: أنه عظَّم اسم الله، والثانية: أنه تصدَّق سرًّا، وصدقةُ السِّرِّ لها فضيلةٌ.

قوله: "فتخلَّف رجلٌ بأعيانهم"؛ أي: تأخَّر واستتر من بينهم إلى جانبٍ حتى لا يَرَوه، ثم أعطى الفقيرَ سرًّا. (العَين) لها معانٍ كثيرةٌ، ومن جملتها: النفس، يقال: عينُ فلانٍ؛ أي: نفسُه وذاتُه، وهو المراد هنا، (بأعيانهم)؛ أي: بأنفسهم. قوله: "مما يُعدَل به"؛ أي: مما يقابل بالنوم؛ يعني: غلب عليهم النوم حتى صار النومُ أحبَّ إليهم من كل شيء يعطونه في مقابلة النوم. قوله: "يتملَّقُني"؛ أي: يتواضع إليَّ ويتضرَّع، ويبكي من خشيتي. قوله: "في سَرِيَّة"؛ أي: في جيش. "المختال": المتكبر، "الظَّلُوم": كثيرُ الظلمِ. * * * 1367 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا خلَقَ الله الأرضَ جَعلَتْ تَمِيدُ، فخلَقَ الجِبَالَ فقال بها عليها، فاستقرَّتْ، فعجِبَتِ المَلائكةُ من شِدَّةِ الجِبالِ، فقالوا: يا ربَّ، هل مِنْ خلْقِكَ شيءٌ أشَدُّ من الجبالِ؟، قال: نَعَم، الحديد فقالوا: يا ربَّ، هَلْ من خلْقِكَ شيءٌ أَشدُّ من الحديدِ؟ قال: نَعَم، النارُ، فقالوا: يا ربَّ، هل مِنْ خلْقِكَ شَيْءٌ أشدُّ مِنَ النارِ؟، قال: نعم، الماء، فقالوا: يا ربِّ، هل مِنْ خلقِكَ شيءٌ أشدُّ من الماء؟، قال: نعم، الريحُ، فقالوا: يا ربِّ، فهل مِنْ خلقِكَ شيءٌ أشدُّ مِنَ الريحِ؟، قال: نعم، ابن آدم تَصَدَّقَ صدقةً بيمينِهِ يُخفيها مِنْ شِمالِهِ"، غريب. قوله: "جعلَتْ تَمِيدُ"، (جعلت)؛ أي: طَفِقَتْ، (تميد): أي: تتحرَّك ولا تستقرُّ.

8 - باب أفضل الصدقة

"فقال بها عليها"، الباء في (بها) تحتمل أن تكون بمعنى اللام، وحينَئذٍ مفعوله محذوف، وتقديره: أمر الله تعالى الملائكة بوضع الجبال على الأرض. قوله: "الحديد"، وشدةُ الحديد من أجل أنه يَكسِر الحَجَرَ، فتكون أشدَّ من الجبال، وشدةُ النار من أجل أنها تُذيبُ الحديدَ، وشدةُ الماء من أجل أنه يُطفِئ النارَ، وشدةُ الريح من أجل أنها تَقطَع الماءَ وتشقُّه وتفرِّقه. وكونُ تصدَّق بني آدم سرًّا أشدُّ من الريح؛ إما لعظم ثوابه، فإن ثوابَ التصدُّق في حال السرَّ أعظمُ من هذه الأشياء، وإما لأنه مخالفةُ النفس وقهرُ الشيطان، وهذان الوصفانِ أعظمُ أيضًا من هذه الأشياء، وإما لأنه تحصيلُ رضا الله تعالى وتبعيدُه من الرياء، ولا شك أن تحصيلَ رضا الله تعالى والإخلاصَ أعظمُ من هذه الأشياء. * * * 8 - باب أَفْضَل الصَّدَقة (باب أفضل الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1368 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الصَّدقةِ ما كانَ عن ظَهْرِ غِنًى، وابدأْ بمَنْ تَعُولُ". قوله: "خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهرِ غِنىً"، (الظَّهر): زائدة في المعنى؛ أي: عن غِنًى، وإما كان: خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهر غِنًى؛ لأن معنى (غنى) هنا: أن يترك قُوتَ نفسه وعياله، ويتصدَّق بالفضل، فيكون التصدُّقُ بما فضل عن قُوتِه وقُوتِ عياله أفضلَ من أن يتصدَّقَ بجميع ماله، ويتركَ نفسَه وعيالَه في الجوع والشدة.

رواه أبو هريرة. * * * 1369 - وقال: "إذا أَنفقَ المُسلِمُ على أهلِهِ نفقةً وهو يَحتَسِبُها كانتْ له صدقةً". قوله: "وهو يحتسبها"، (الاحتساب): طلب الثواب من الله تعالى؛ يعني: إذا أَنفقَ على عياله ويطلب من الله الثوابَ يحصل له الثواب, وإن أنفقَ لا لله، بل لأجل عشقٍ وشهوةٍ له مع زوجته أو ولده، أو ينفق عليهم لا لله ولطلب الثواب، بل يؤذيهم ويمنُّ عليهم، ويظن الإنفاقَ عليهم ظلمًا؛ فلا يحصل له ثوابٌ من الله بهذا الإنفاق. روى هذا الحديثَ أبو مسعود الأنصاري. * * * 1370 - وقال: "دِينْارٌ أنفقتَهُ في سَبيلِ الله، ودِينارٌ أنفقتَهُ في رقبةٍ، ودِينْارٌ تصدَّقتَ بِه على مِسْكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أَهْلِكَ، أَعظَمُها أَجْرًا الذي أنفقتَهُ على أَهلِكَ". قوله: "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله"؛ أي: في الغزو. "دينارٌ أنفقتَه في رقبة"؛ أي: في إعتاقِ رقبةٍ. "أعظمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك"، وإنما كان الإنفاقُ على الأهل أفضلَ؛ لأنه صدقةٌ وصلةُ الرحم. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

1371 - وقال: "أَفْضَلُ دينارٍ ينفقُهُ الرجلُ: دينارٌ يُنفقُهُ على عيالِهِ، ودينارٌ يُنفِقُهُ على دابَّتهِ في سبيلِ الله، ودينارٌ يُنفقُهُ على أصحابهِ في سبيلِ الله". قوله: "أفضلُ دينارٍ يُنفقُه الرجلُ ... " إلى آخره؛ يعني: الإنفاقُ على هؤلاء الثلاثة أفضلُ من الإنفاق على غيرهم. روى هذا الحديثَ ثوبان مولى رسول الله عليه السلام. * * * 1373 - وعن زَيْنَبَ امرأةِ عبدِ الله بن مَسْعودٍ قالتْ: انطلقتُ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فوجدتُ امرأةً من الأَنْصارِ على البابِ حاجتُها مثْلُ حاجتي، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُلقِيَت علَيه المَهابةُ، قالت: فخرجَ علينا بلالٌ، فقلنَا له: ائتِ رسولَ الله، فأخبره أنَّ امرأَتينِ بالبابِ تسأَلانِكَ: أَتُجزِئُ الصَّدَقةُ عنهما على أَزواجِهما، وعلى أَيتامٍ في حُجورِهما، ولا تُخْبرْهُ مَن نحنُ، فدخلَ، فسأَلَهُ، فقال: "مَن هما؟ "، قال: زينبُ، قال: قال: "أَىُّ الزَّيانِب؟ "، قال: امرأةُ عبدِ الله بن مَسْعود، قال: "نعَمْ، لَهُما أَجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ". قولها: "أُلقيت عليه المَهَابةُ"، (المهابة): العَظَمة والخوف؛ يعني: أَعطَى الله تعالى رسولَه مهابةً يخاف منه الناسُ. قولها: "وعلى أيتامٍ في حجورهما"، (الحُجُور) جمع: الحِجْر، وهو من الثوب ما تحت الصدر إلى الذيل؛ يعني: على أولاد لهما، ليس لأولئك الأولاد أبٌ. فإن قيل: قد قالت زينبُ لبلالٍ: "لا تُخبرْه مَن نحن"، ثم أَخبرَ بلالٌ رسولَ الله - عليه السلام - مَن هنَّ؟ قلنا: لم يكن على بلالٍ طاعةُ زينبَ فرضًا حتى يأثمَ بمخالفتها، وكانت إجابةُ

رسولِ الله - عليه السلام - بما سأله فرضًا، وكذلك لو قال أحدٌ لأحدٍ: قُلْ هذا، أو افعَلْ هذا، أو: لا تقل، أو لا تفعل؛ لا يجب عليه طاعتُه إلا أن يُقسِمَ عليه بأن يقول: بالله عليك، أو أقسمتُ عليك أن تفعلَ كذا، فحينَئذٍ له أن يُطيعَه. * * * 1374 - وقالت مَيْمونة بنت الحارِث: يا رسولَ الله!، إني أَعتقتُ وَلِيدَتِي، قال: "أَمَا إنَّك لو أَعطيتِها أَخْوَالَكِ كانَ أَعظمَ لأَجْرِك". قولها: "وليدتي"؛ أي: جاريتي. "أما"؛ أي: اعلَمْ، يستوي فيه خطاب المذكر والمؤنث. قوله: "كان أعظمَ لأجرك"، وإنما كان إعطاؤها أخوالَها أعظمَ لأجرها؛ لأن أخوالَها كانوا محتاجين إلى خادم، فلو أَعطَتْها أخوالَها كان صدقةً وصلةَ رَحِمٍ، والإعتاقُ شيءٌ واحدٌ، وهو الصدقة، ولا شك أن خيرَينِ أفضلُ من خيرٍ واحدٍ. * * * 1376 - وعن أبي ذَرًّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طَبخْتَ مرَقةً فأَكْثِرْ ماءَها، وتَعَاهدْ جيرانَكَ". قوله: "وتَعَاهَدْ جيرانَك"، (الجيران) جمع: جار؛ يعني: أَعطِ جيرانَك من ذلك الطبخ نصيبًا؛ يعني: لا تجعلْ ماءَ قِدْرِك قليلًا؛ ليكونَ مرقُها كثيرَ اللذة؛ فإنك حينَئذٍ لا تَقدِر على تعاهُدِ جيرانك، بل اجعَلْ ماءَ قِدْرِك كثيرًا؛ ليبلغَ نصيبٌ منه إلى جيرانك، وإن لم يكن لذيذًا. * * * مِنَ الحِسَان: 1377 - عن أبي هريرة أنه قال: يا رسولَ الله، أيُّ الصدقةُ أَفْضَلُ؟،

قال: "جُهْدُ المُقِلِّ، وابدَأْ بمَنْ تَعولُ". قوله: "جُهْدُ المُقِلِّ"؛ (الجهد) بضم الجيم: الطاقة والاستطاعة، و (المُقِلُّ): الفقير؛ يعني: أفضلُ الصدقة ما قَدرَ عليه الفقيرُ أن يعطيَه المسكينَ، والمراد بـ (المُقِل): الغني القلب. والتوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام: "أفضل الصدقة ما كان عن ظَهر غِنًى": أنه يريد بهذا (المُقِل): الذي يصبر على الجوع، وإعطاء قُوته إلى الفقراء، وأراد بـ (الغني): الذي لا يصبر على الجوع والشدة، فمَن صبرَ على الجوع، وإعطاء قُوته، أو إعطاء ما فضل عن قُوت يومه إلى الفقراء فالإعطاءُ في حقِّه واختيارُ الجوعِ أفضلُ، كما مدحَ الله تعالى الأنصار - رضي الله عنهم - بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]؛ أي: جوعٌ وفقرٌ. وقد جاء في تفسير هذه الآية: أن ضيفًا نزل برسول الله عليه السلام، ولم يكن في حُجراته شيءٌ من الطعام، فقال عليه السلام: "مَن يعطي هذا الضيفَ طعامًا؛ فإنه ليس عند آل محمد طعام؟ " فقال رجل: أنا يا رسولَ الله، فذهب إلى بيته ولم يكن في بيته من الطعام إلا قَدْرُ كَفَافِ واحدٍ، وكان له امرأةٌ وأولادٌ، فقال لامرأته: اجعلي أولادك مشغولين من الطعام بأن تحدِّثيهم حتى يناموا، ففعلَتْ، فنام أولادها، ثم قال لامرأته: أَسْرِجي عند الضيف سراجًا، وأَحضرِي الطعامَ عنده، فإذا وضعتِ الطعامَ عنده فقُومِي إلى السراج بحيث يظن الضيفُ أنك تُصلِحينَ السراجَ، ثم أَطفِئي السراجَ بحيث لا يدري الضيفُ، ثم نقعد أنا وأنت عند الضيف في الظلمة، ونُحول ونُدير ألسنتَنا في أفواهنا حتى يظنَّ أنَّا نأكلُ معه، ولا نأكلُ حتى يشبعَ الضيفُ، ففعلَتْ كما أمرَها زوجُها، فأكل الضيفُ حتى شبعَ، ونام المُضيفُ وزوجتُه وأولادُه على الجوع، فلما أصبحَ المُضيفُ ذهبَ إلى رسول الله عليه السلام، فضحكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في

وجهه، وتعجَّب بما فعل، فقرأ - عليه السلام - هذه الآية، وقال: "نزلت فيك هذه الآية". وأما مَن لا يصبر على الجوع فالأفضلُ في حقِّه: أن يتركَ قُوتَه ثم يتصدق بما فَضَلَ. وفي الجملة: يَحرُم على الفقير والغني أن يصرفَ قُوتَ عياله على الفقراء، ويتركَهم على الجوع؛ إلا إذا رَضُوا وأَذِنُوا له بأن يصرفَ قُوتَهم على الفقراء لأجل الثواب. * * * 1378 - وقال: "الصَّدقةُ على المِسْكِين صدَقةٌ واحدةٌ، وهي علَى ذِي الرَّحِم ثنتانِ: صدَقةٌ وصِلَةٌ". قوله: "الصدقةُ على المسكين صدقةٌ، وهي على ذي الرَّحِم ثِنْتَانِ؛ صدقةٌ وصِلَةٌ"؛ يعني: الصدقةُ على الأقارب أفضلُ؛ لأنها صدقةٌ وصلةُ الرحم. روى هذا الحديثَ سلمان بن عامر - رضي الله عنه -. * * * 1380 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُخبرُكم بخيرِ الناس؟، رجلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فرَسِهِ في سبيلِ الله، ألا أَخبُركم بالذي يتلُوهُ؟، رجلٌ معتزِلٌ في غُنَيْمَةٍ له يؤدَّي حقَّ الله - تعالى - فيها، ألا أُخبرُكم بِشرِّ الناسِ؟، رجلٌ يُسألُ بالله، ولا يُعطي بِه". قوله: "بالذي يَتْلُوه"؛ أي: يتبعُه ويكون بعده في الدرجة. "مُعتزِل"؛ أي: متباعِد ومنفرد عن الناس إلى موضعٍ خالٍ من الصحارى والبوادي.

"الغُنيَمة" تصغير: غَنَم. يعني: الذي له جماعةٌ من الغنم أو البقر وغيرهما من الدواب يذهب بها إلى ناحية البادية ويرعاها، ويؤِّدي زكاتَها، ويصلِّي الصلواتِ، ولا يصل منه شرٌّ إلى أحدٍ له درجةٌ وثوابٌ قريبٌ من درجة الغازي. * * * 1381 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا السائلَ ولو بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" قوله: "ردوا السائل ولو بظلف مُحرَقٍ"؛ يعني: لا تجعلوا السائلَ محرومًا، بل أعطوه شيئًا ولو كان ظِلْفًا مُحترقًا، (الظِّلف) للغنم والبقر: بمنزلة الحافر للفَرَس. روى هذا الحديث: ابن بُجَيد الأنصاري، عن جدَّتِه، عن رسول الله عليه السلام. * * * 1382 - وقال: "مَنِ استعاذَكم بِالله فَأَعِيذُوه، ومَن سأَلَ بالله فأَعطُوهُ، ومَنْ دَعَاكم فأَجيبُوهُ، ومَن صنَعَ إليكم مَعرُوفًا فكافِئُوه، فإنْ لم تَجِدُوا ما تُكافِئُونَهُ فادْعُوا له، حتى تَرَوْا أنْ قد كَافَأتُمُوه". قوله: "مَن استعاذكم بالله فأَعِيذُوه"، و (استعاذ): إذا طلبَ أحدٌ أن يدفعَ عنه شرًّا، و (أعاذ): إذا دفعَ عنه الشرَّ الذي يُطلَب منه دفعُه؛ يعني: إذا طلبَ أحدٌ منكم أن تدفعوا عنه شرَّكم أو شر غيرِكم بالله، مثل أن يقول: يا فلان! بالله عليك أن تدفعَ عني شر فلانٍ وإيذاءَه، أو احفَظْني من شرِّ فلانٍ، فأجِيبُوه واحفظُوه؛ لتعظيم اسم الله. قوله: "ومَن صنعَ إليكم معروفًا"؛ أي: مَن أحسنَ إليكم إحسانًا

"فكافِئُوه"؛ أي: فأَحسِنُوا إليه مثلَ ما أَحسنَ إليكم، (المُكافَأة) مهموز باللام: مثل المُجازَأة. قوله: "فإن لم تجدوا ما تكافِئُوه"؛ يعني: فإن لم تجدوا من المال ما تكافِئُوه فكافِئُوه بالدعاء. قوله: "حتى تَرَوا أن قد كافأتُمُوه"؛ يعني: كرِّروا الدعاءَ له حتى تعلموا أن قد أدَّيتُم حقَّه. وقد جاء في حديث آخر: "مَن صُنِعَ إليه معروفٌ، فقال: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغَ في الثناء". فبدليل هذا الحديث مَن قال لأحدٍ: جزاك الله خيرًا مرةً واحدةً فقد أدَّى حقَّه، وإن كان حقُّه كثيرًا. وكانت عادةُ أمِّ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - إذا دعَا لها السائلُ أن تُجيبَه بمِثْل ما يدعو لها السائل، ثم تُعطيه من المال ما تُعطيه، فقيل لها: أتُعطينَ السائلَ المالَ وتَدْعينَ له بمِثْل ما يدعو لك؟ فقالت: لو لم أَدْعُ له لَكانَ حقُّه بالدعاء لي أكثرَ من حقِّي بالصدقة، فأدعو له بمِثْل ما يدعو، حتى أُكافِئَ دعاءَه بدعائي؛ لِتَخلُصَ لي صدقتي. روى هذا الحديثَ - أعني حديث: "من استعاذكم بالله" -: عبدُ الله بن عمر. * * * 1383 - وقال: "لا تَسْأَلُوا بوجْهِ الله إلا الجنَّةَ". قوله: "لا تسألوا بوجه الله إلا الجنةَ"، هذا يحتمل أمرَين: أحدهما: أن يكون معناه: لا تسألوا من الناس شيئًا بوجه الله، مثل أن

9 - باب صدقة المرأة من مال زوجها

تقولوا لأحدٍ: يا فلانُ! أعطِني شيئًا بوجه الله، أو بالله؛ فإن اسمَ الله تعالى أعظمُ مِن أن يُسألَ به شيءٌ من متاع الدنيا لأحدٍ، بل اسألوا به الجنةَ، مثل أن تقولوا: بالله، ويا ربنا نسألُك الجنةَ بوجهك الكريم. والأمر الثاني: أن يكون معناه: لا يُسأل الله شيئًا من متاع الدنيا، بل اسألوا الله الجنةَ ورضاه؛ فإن متاعَ الدنيا لا قَدْرَ له. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 9 - باب صدَقة المَرأَة من مال زوجها (باب صدقة المرأة من مال زوجها) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1384 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنفقَتِ المَرأةُ من طعامِ بيتِها غيرَ مُفسِدةٍ كانتْ لها أجرُها بما أَنفقَتْ، ولزوجِها أَجرُه بما كسَبَ، وللخَازِنِ مثْلُ ذلك، لا ينقُصُ بعضُهم أَجْرَ بعضٍ شيئًا". قوله: "إذا أنفقَتِ المرأةُ من طعام بيتها غيرَ مُفسِدةٍ كان لها أجرُها بما أَنفقتْ، ولزوجها أجرُه بما كسبَ، وللخازن مثلُ ذلك": هذا الحديثُ مُفسَّرٌ عند العلماء على عادة أهل الحجاز؛ فإن عادتَهم أن يَأذَنُوا لزوجاتهم وخَدَمهم بأن يُضيفوا الأضيافَ، ويُعطوا السائلين، فحرَّض رسولُ الله - عليه السلام - أُمتَه على هذه العادة الحسنة، فإذا كان إنفاقُ الزوجة والخادم بإذن الزوج والمولى لا شك في أن يكونَ لكلَّ واحدٍ من الزوج والزوجة والخادم نصيبٌ من الأجر،

وأما إذا أَنفقتِ المرأةُ بغير إذن زوجها يحصل لها مظلمةٌ وإثمٌ لا يجوز لها أن تتصدقَ بشيءٍ من مال زوجها، لا القليلَ ولا الكثيرَ، ولا الرطبَ ولا اليابسَ. وفسَّر بعضُ الناس هذا الحديثَ: بأن ينفقَ طعامًا، نحو مَرَقة ورُطَب وعِنَب وبطيخ، وما أشبه ذلك مما يَفسُد لو بقي في البيت. فقال هذا القائل: جازَ لها أن تتصدَّقَ بهذه الأشياء بغير إذن زوجها، وهذا القول ليس بشيءٍ؛ بل لا يجوز لها التصدَّقُ بشيءٍ من مال زوجها بغير إذنه أصلاً. قوله في هذا الحديث: "غيرَ مُفسِدة"؛ يعني: لا تكون مُسرِفةً في التصدُّق. روت هذا الحديثَ: عائشة رضي الله عنها. * * * 1385 - وقال: "إذا أَنفقتِ المَرأَةُ من كسْبِ زَوجها من غيرِ أَمرِه فلها نِصْفُ أَجْرِه". قوله: "إذا أنَفقتِ المرأةُ من كسب زوجها من غير أمره فلها نصفُ أجره". فسَّر الخطابي هذا الحديثَ بما إذا أَخذتِ المرأةُ من مال زوجها أكثرَ من نفقتها وتصدَّقتْ به، فإذا فعلَتْ هذا فعليها غُرمُ ما أخذتْ أكثرَ من نفقتها وتصدَّقتْ به، فإذا علمَ الزوجُ بأنها تصدَّقت بأكثرَ من نفقتها ورَضيَ بذلك يكون الأجرُ بينهما نصفَين؛ نصفٌ لها بما تصدَّقت من نفقتها، ونصفٌ له بما تصدَّقت به أكثرَ من نفقتها؛ لأن الأكثرَ حقُّ الزوج.

روى هذا الحديثَ: أبو هريرة. * * * 1386 - وقال: "الخازِنُ المُسلِمُ الأَمينُ الذي يُعطِي ما أُمِرَ بِه كاملاً مُوَفَّرًا طَيبةً بِه نفْسُهُ، فيدفعُهُ إلى الذي أُمِرَ له بِه أحدُ المُتَصَدَّقَيْنَ". قوله: "الخازن المسلم الأمين الذي ... " إلى آخره. شرطَ في هذا الحديث أربعةُ أشياء: أحدها: الإذن؛ لأنه قال: "ما أُمر به". والثاني: ألا ينقصَ مما أُمر به. والثالث: أن يكون قلبُه طيبًا بالتصدُّق بما أُمر به؛ فإن بعضَ الخازنين والخُدَّام غيرُ راضين بما أُمروا به من التصدُّق، فإذا تصدَّقوا من غير رضا قلوبهم لم يحصل لهم ثوابٌ، حتى لو تصدَّقَ واحدٌ من مال نفسه ولم تكن نفسُه طيبةً بما يتصدَّق به لم يحصل له ثوابٌ. الشرط الرابع: أن يعطيَ إلى المسكين الذي أَمر صاحبُ المال بالدفع، ولا يعطيه إلى مسكينٍ آخرَ، فإذا اجتمع في الخازن هذه الشروط فهو "أحدُ المتصدِّقين"؛ يعني بـ (المتصدقين): صاحب المال والخازن؛ لأن الخازنَ يحصل له ثوابٌ بالسعي. روى هذا الحديثَ أبو موسى الأشعري. * * * 1387 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رجُلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمي افْتُلِتَتْ نفَسُها، وأظنُّهَا لو تكلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فهل لها أَجْرٌ إن تَصدَّقتُ عنها؟، قال: "نَعَمْ".

قوله: "إن أُمَّي افتُلتتْ نفسُها"؛ أي: أُهلكت نفسُها بغتةً، (الفلتة): البغتة؛ يعني: ماتت بغتةً ولم تَقدِر على الكلام، ولو قدرت لتصدَّقتْ بشيءٍ من مالها وأَوصَتْ بشيءٍ من مالها، فهل يجوز أن أتصدَّقَ بشيءٍ من مالي عنها؟ فأجازه رسولُ الله - عليه السلام - في ذلك. وهذا صريحٌ في أن ثوابَ الصدقة عن الميت يصلُ إليه. * * * مِنَ الحِسَان: 1388 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خُطبَتِهِ عامَ حجَّةِ الوداعِ: "لا تُنفِقُ امرأةٌ شيئًا من بيتِ زَوجِها الا بإذنِ زَوْجِها"، قيل: يا رسولَ الله، ولا الطعامُ؟، قال: "ذاكَ أفْضَلُ أَموالِنا". قوله: "ذلك أفضلُ أموالنا"؛ يعني: الطعامُ أفضلُ أموالنا، فإذًا: لا يجوز التصدُّقُ بشيءٍ هو أقلُّ قَدْرًا من الطعام بغير إذن الزوج، فكيف يجوز بالطعام الذي هو أفضلُ؟! * * * 1389 - وعن سَعْد - رضي الله عنه - قال: لَمَّا بايعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النِّساءَ قالت امرأةٌ: إنَّا كَلٌّ على آبائِنا وأزواجِنا، فما يَحِلُّ لنا من أَموالِهم؟، قال: "الرَّطْبُ تَأكُلْنَهُ، وتُهْدِينَه". قولها: "كَلُّ"؛ أي: ثقيلٌ وعيالٌ. قوله: "الرَّطْبُ تَأكُلْنَه وتُهدِينه"، (أَهدَى يُهدي): إذا أَرسلَ هديةً؛ يعني: يحل لَكُنَّ ما تأكلْنَه من أموال آبائكنَّ أو أبنائكنَّ أو أزواجكنَّ بقَدْر نفقتِكنَّ، وأما الإهداءُ والتصدُّقُ لا يحلُّ لَكُنَّ إلا بالإذن.

10 - باب من لا يعود في الصدقة

والحديثُ مُفسَّرٌ بما إذا أَذِنَ آباؤهنَّ أو أبناؤهنَّ أو أزواجهنَّ بالإهداء، والله أعلم. * * * 10 - باب مَنْ لا يَعْود في الصَّدقَة (باب من لا يعود في الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1390 - قال عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حَمَلْتُ على فرَسٍ في سبيلِ الله، فأضاعَه الذي كان عنْدَه، فأَردتُ أَنْ أشتريَه، فساَلْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تَشْتَرِه دانْ أعطاكَهُ بدِرْهمٍ، فإنَّ العائدَ في صدقَتِهِ كالكلْبِ يَعُودُ في قَيْئِه". وفي روايةٍ: "لا تَعُدْ في صدقَتِكَ، فإنَّ العائدَ في صدقتهِ كالعائدِ في قَيْئه". قوله: "حَملتُ على فَرَسٍ"؛ أي: أَركبتُ أحدًا على فَرَسٍ؛ يعني: تصدَّقتُ بفَرَسٍ على أحدٍ في الغزو. قوله: "فأضاعه الذي كان عندَه"، (ضاع الشيء) بنفسه، و (أضاعه) أحدٌ، والمراد بقوله: (أضاعه): أن الذي أعطيتُه الفَرَسَ لم يَقدِر على القيام بعلفه، فبقي الفَرَسُ بلا علفٍ، فأردت أن أشتريَه، فنهاني النبي - عليه السلام - عن شرائه؛ لأني لو اشتريتُه لكان ذلك الرجل يُخاببني في ثمنه، ويستحيي أن يضايقَني فيه، فربما يبيعه مني رخيصًا، فأكون كالذي عاد في صدقته. * * *

1391 - عن بُرَيْدة أنه قال: كنتُ جالسًا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ أَتَتْهُ امرأةٌ فقالت: يا رسولَ الله، إني تصدَّقتُ على أُمي بجاريةٍ وإنَّها ماتتْ، قال: "وجَبَ أجرُكِ، وردَّها علَيكِ المِيْراثُ"، قالت: يا رسولَ الله، إنه كانَ عليها صومُ شهرٍ، أفَأَصومُ عنها؟، قال: "صُومي عنها"، وقالت: إنَّها لم تَحُجَّ قَطُّ، أفأحجُ عنها؟، قال: "نَعَمْ حُجِّي عَنْها". قوله: "وردَّها عليك الميراث"، قال أكثر العلماء والأئمة الأربعة: إنَّ مَن تصدَّقَ بشيءٍ على قريبه، ثم مات ذلك القريبُ وَرِثَ المُتصدَّقُ ذلك الشيءَ عن الميتُ إن كان الميت من وَرَثَة المتصدِّق، ويكون ذلك الشيءُ ملكًا للمُتصدِّق. وقال بعض العلماء: وجب على المتصدِّق أن يتصدَّقَ بذلك الشيء على فقيرٍ؛ لأن ما تصدَّق به صار حقًّا لله، فلا يصير مُلكًا للمتصدِّق. قوله: "صُومِي عنها"، جوَّز أحمد أن يصومَ الوليُّ عن الميت ما كان عليه من الصوم من قضاء رمضان أو نذر أو كفَّارة؛ بهذا الحديث. ولم يجوَّز مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله، بل قالوا: يُطعِم عنه وليُّه عن كل يومٍ مُدًّا من الطعام، وأما الحج فيجوز أن يحج أحدٌ عن الميت بالاتفاق. ° ° °

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المَفَاتِيْحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ [3]

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م

7 - كتاب الصوم

7 - كِتابُ الصَّومِ

1 - باب

[7] كِتابُ الصَّومِ (كتاب الصوم) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 1391/ م - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَخَلَ رَمضانُ فُتِحَتْ أَبْوابُ السَّماءِ". وفي روايةٍ: "فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أَبْوابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتْ الشَّياطينُ". وفي روايةٍ: "فُتِحتْ أَبْوابُ الرَّحْمَةِ". قوله: "فُتحت أبوابُ السماء"؛ يعني: إذا دخل الوقتُ الشريفُ فُتحت أبوابُ السماءِ وأبوابُ الجنةِ؛ لتنزلَ الرحمةُ على مَن عظَّم الوقتَ الشريفَ، وَلِتَصِلَ طاعةُ مَن عظَّم هذا الوقتَ بالأعمال الصالحة واجتناب المعاصي إلى محلِّ الكرامة. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

1392 - وقال: "في الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوابٍ، فيها بابٌ يُسَمَّى الرَّيَّان لا يَدْخُلُهُ إلاَّ الصَّائِمُونَ". قوله: "يُسمَّى الريَّان"، (الريَّان): ضد العطشان. روى هذا الحديثَ: سهل بن سعد - رضي الله عنه -. * * * 1393 - وقال: "مَنْ صَامَ رمضانَ إِيْمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ، ومَنْ قامَ رَمَضَانَ إِيْمانًا وَاحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ، ومَنْ قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيْمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ". قوله: "إيمانًا واحتسابًا"؛ يعني: عن الإيمان والاعتقاد بحقَّيَّة فرضيَّة صوم هذا الشهر، لا عن خوفٍ أو استحياءٍ من الناس من غير اعتقادٍ بحقِّيَّةٍ وفرضيَّة، من غير اعتقادٍ بتعظيم هذا الشهر. و (الاحتساب): طلب الثواب من الله الكريم. قوله: "ومن قام"؛ يعني: مَن أَحيَا لياليَ رمضانَ أو بعضًا من كل ليلةٍ بصلاةِ التراويح وغيرها من الطاعات. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1394 - وقال: "كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها إلى سَبْعِمائَةِ ضعْفٍ، قال الله تعالى: إلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لي، وأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلي". وقال: "للصائِم فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِه، وفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقاء رَبهِ، ولَخُلوفُ

فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله تعالى مِنْ رِيْحِ المِسْكِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ، فَإذا كانَ يَوْمُ صوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فلا يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي آمْرُؤٌ صائِمٌ". قوله: "يُضاعَف الحسنةُ بعَشرِ أمثالها"؛ يعني: كلُّ طاعةٍ وخيرٍ إن لم تكن رياءً ونفاقًا أقلُّ ما يُعطَى صاحبُه عشرةُ أمثالها، وقد يُزاد إلى سبع مئة ضعْفٍ. "الضعْف": المِثْل. وسبب الزيادة من عشرة أمثالها إلى سبع مئة؛ إما لكمال إخلاص نية المتصدِّق، وإما لشدة استحقاق الفقير، وقد يُزاد الثوابُ عن سبع مئة ضعْفٍ، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]. قوله: "إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أَجزِي به"؛ يعني: أن سائر الخيرات تطَّلع عليها الملائكة ويكتبونها، إلا الصوم؛ فإنه لا اطِّلاعَ للملائكة عليه؛ لأنه ليس بعملٍ ظاهرٍ، بل هو نيةٌ وتركُ الطعامِ، وهذا مما لا تطَّلع عليه الملائكةُ، لا يجزي الصائمَ بموجب كتاب الملائكة؛ لأنه لا اطِّلاع لهم عليه، بل يجزيه بما يعلمه تعالى، ولأن الصومَ أشدُّ على النفس من سائر العبادات. ولأنه لا يمكن الصومُ بالرياء والنفاق؛ لأن المرائيَ والمُنافِقَ يُظهرانِ بين الناس عن أنفسهم الصومَ، ويأكلانِ ويشربانِ في الخلوة، فحينَئذٍ لا يكونانِ صائمَينِ حتى يُجزَيا بصومهما، بخلاف الصلاة وسائر العبادات؛ فإنه يمكن فعلُها بين الناس للرياء والنفاق. قوله: "يَدَع شهوتَه"؛ أي: يترك ما اشتهتْه نفسُه من اللذات والاستمتاعات التي هي لا تجوز للصائم. قوله: "للصائم فرحتانِ: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه"، (الفرحة التي تكون عند فطره) تحتمل أمرين:

أحدهما: فرحُ نفسِه بالأكل والشرب؛ فإن نفسَ الإنسان تفرح بالأكل والشرب بعد الجوع والعطش. والثاني: فرحةٌ بوجدانه التوفيقَ لإتمام صوم ذلك اليوم. والفرحة الثانية: إذا لقي الله يومَ القيامة وأعطاه جزاءَ صومِه يفرح فرحًا لا يبلغ أحدٌ كُنْهَه. قوله: "ولَخَلُوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المِسْك"، (الخَلُوف)؛ يعني: رائحةُ فمِ الصائمِ أطيبُ وأعزُّ عند الله من ريح المسك عند أحدكم أيُّها الناسُ؛ لأن رائحةَ فمِ الصائمِ من أثر الصوم، والصومُ عبادةٌ يجزي بها الله تعالى بنفسه صاحبَها. قوله: "والصيام جُنَّة"، و (الجُنَّة): التُّرس، هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون معناه: الصومُ يدفع الرجل عن المعاصي؛ لأنه يكسرُ النفسَ كما تدفع الجُنَّةُ السهمَ. والثاني: أن يكون الصومُ يدفع النارَ عن الصائم كما أن الجُنَّةَ تدفعُ السهمَ. قوله: "فلا يَرفُثْ ولا يَصخَبْ": (رَفَثَ يَرْفُثُ): إذا تكلَّم بكلامٍ قبيحٍ، و (صَخَبَ يَصْخَبُ): إذا رفع الصوتَ. يعني: إذا كان الرجلُ صائمًا فَلْيكنْ صائمًا من جملة المناهي، لا من الطعام والشراب فقط، وأراد بالنهي عن رفع الصوت: رفع الصوت بهَذَيانٍ، وأما رفعُ الصوت بقراءة القرآن والذَّكر وغيرها مما فيه خيرٌ فلا منعَ منه. قوله: "فإن سابَّه"؛ أي: شتمَه. قوله: "أو قاتَلَه"؛ يعني: أو خاصمه وحاربَه.

قوله: "فليقل: إني امرِئٌ صائمٌ"، قيل: معناه: أنه يقول بلسانه: إني صائمٌ؛ ليندفعَ عنه خصمُه؛ يعني: إذا كنتُ صائمًا لا يجوز لي أن أقاتلَك بالشتم والهَذَيان، فاتركْني. وقيل: لا يقول ذلك بلسانه، بل بفكره في نفسه؛ لتسكنَ نفسُه من الغضب، ولا يُجيبُ خصمَه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 1395 - قال: "إذا كانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ صُفِّدَتْ الشَيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجنِّ، وَغُلَّقَتْ أَبْوابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْها بابٌ، وفُتِّحَتْ أَبْوابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ منها بابٌ، ويُنادي مُنادٍ: يا باغِيَ الخَيْرِ أَقْبلْ، ويَا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، ولِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وذلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ"، غريب. قوله: "صُفِّدت الشياطينُ ومَرَدَةُ الجِن"، (صُفِّدَت): برفع الصاد وكسر الفاء وتشديدها وتخفيفها؛ أي: شُدُّوا بالأغلال؛ كي لا يوسوسوا في الصائمين، ويحملوهم على المعاصي، كما قال - عليه السلام - في هذا الحديث في موضع آخر: "كيلا يفسدوا على الصائمين صيامَهم". (المَرَدَة) جمع: مارد، وهو كلُّ شرِّيرٍ كثيرِ الفسادِ، مجاوزٍ عن الحدِّ. (الباغي): الطالب، "يا باغيَ الخيرِ! أَقبلْ"؛ يعني: يا طالبَ الثوابِ! تعالَ واطلُبِ الثوابَ بالعبادة؛ فإنك تُعطَى ثوابًا كثيرًا بعملٍ قليلٍ، وذلك لشرفِ الشهر، فإن الوقتَ إذا كان شريفًا يكون ثوابُ الطاعة فيه كثيرًا، وعذابُ المعصية أيضًا فيه كثيرًا.

2 - باب رؤية الهلال

قوله: "ويا باغيَ الشرِّ! أَقصِرْ"، (الإقصار): الترك؛ يعني: يا مَنْ يَشرعَ ويَسعَى في المعاصي! تُبْ وارجِعْ إلى الله. قوله: "ولله عُتَقاء من النار"؛ أي: ويُعتق الله عبادًا كثيرًا من النار؛ لحُرمةِ هذا الشهر. قوله: "وذلك كلَّ ليلةٍ"؛ يعني: هذا النداء يكون كلَّ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2 - باب رؤية الهِلال (باب رؤية الهلال) مِنَ الصِّحاحِ: (من الصحاح): 1396 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصومُوا حتَّى تَرَوُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُروا لَهُ". وفي روايةٍ: "فإن غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثلاثينَ". قوله: "لا تصوموا حتى تَرَوا الهلالَ"؛ يعني: لا تصوموا شهرَ رمضانَ حتى تثبتَ عندكم رؤيةُ الهلال بشهادة عَدْلَين أو أكثر. وهل تثبت بشهادة عَدْلٍ واحدٍ؟ تثبت في أصح قولَي الشافعي وعند أحمد، سواءٌ كان في السماء سحابٌ أو لم يكن، وعند أبي حنيفة: تثبت إذا كان في السماء سحابٌ، وعند مالك: لا تثبت أصلاً.

وهل يثبت بقول النساء والعبيد؟ فيه خلاف؛ والأصح: أنه لا يثبت قوله: "ولا تفطروا حتى تَرَوه"؛ يعني: ولا تخرجوا من صوم رمضان حتى يثبتَ عندكم رؤيةُ هلالِ شوَّال، ولا يثبت هلالُ شوَّال بأقلَّ من شهادة عَدْلَين بالاتفاق. قوله: "فإن غُمَّ عليكم"؛ أي: فإن خَفِيَ عليكم هلالُ رمضانَ بعد مضي تسعة وعشرين يومًا من شعبان. "فاقدُرُوا له"؛ أي: قدِّرُوا واجعلوا شعبانَ ثلاثين يومًا، ثم صوموا رمضان. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 1397 - وقال: "صوموا لِرُؤيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعبانَ ثلاثينَ". قوله: "صُومُوا لرؤيته وأَفطِرُوا لرؤيته"، معنى هذا كمعنى الحديث المتقدم. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 1398 - وقال: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ، ولا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هكَذَا، وهكَذَا وهكَذَا، وعَقَدَ الإِبْهَامَ في الثَّالِثَةِ"، ثُمَّ قالَ: "الشَّهْرُ هكذَا وهكَذَا وهكَذَا، يَعْنِي: تمامَ ثلاثين، يعني: مرَّةً تسعٌ وعِشرونَ، ومَرَّةً ثلاثونَ. قوله: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ"؛ (الأمي): الذي لا يعرف الكتابةَ والقراءةَ من الكتاب، منسوب إلى أُمة العرب، لا يعرفون الكتابةَ والقراءةَ.

وقيل: منسوب إلى الأُم؛ أي: بقي على الحالة التي ولدته أُمه عليها. يعني: نحن - جماعةَ العرب - لا نعرف الكتابةَ وحسابَ النجوم، حتى نعتمدَ على علم النجومِ وسَيرِ القمر، ونعرفَ الشهرَ بحساب النجوم، بل نعدُّ بعضَ الشهر تسعةً وعشرين يومًا، وبعضَها ثلاثين يومًا. وهذا يتعلق بالرؤية، فإن رأينا الهلالَ بعد مضي تسعةٍ وعشرين يومًا من الشهر المتقدم نحكم بدخول الشهر، وإن رأيناه بعد مضي ثلاثين يومًا نحكم بدخوله. وليس معنى قوله: "مرةً تِسعٌ وعشرون، ومرةً ثلاثون": أنه يلزم أن يكون شهرٌ تسعةً وعشرين، وشهرٌ ثلاثين على السوية والتعاقب؛ لأنه قد يكون شهران ثلاثين، وقد يكون شهران تسعةً وعشرين، لا ترتيبَ بهذا، بل معناه: قد تكون بعضُ الشهور تسعةً وعشرين، وبعضُها ثلاثين من غير تعيين، كيف ما اتفق. قوله: "هكذا": إشارة إلى أصابعه العشر. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1399 - وقال: "شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصانِ: رَمَضَانُ، وَذُو الحِجَّةِ". قوله: "شَهْرَا عيدٍ لا ينقصان"، أراد بأحد الشهرَين: رمضان؛ لأنه يأتي بعده عيد، والثاني: ذا الحجَّة؛ لأن العيدَ فيه. وقال أحمد بن حنبل: معنى هذا الحديث: أنه لا يكون هذانِ الشهرانِ في سَنةٍ تسعًا وعشرين، بل إن كان أحدُهما تسعًا وعشرين يكون الآخرُ ثلاثين. وقال إسحاق بن راهَوَيه: معناه: لو كانا تسعةً وعشرين لكان ثوابُ مَن

يُعظِّمهما ثوابَ ثلاثين يومًا، لا ينقص ثوابُهما، فعلى قوله: يجوز أن يكونا في سَنةٍ تسعًا وعشرين. روى هذا الحديثَ أبو بكر. * * * 1400 - وقال: "لا يتقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمضانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كانَ يَصومُ صَومًا فَلْيَصُمْ ذلِكَ اليوْمِ". قوله: "لا يتقدَّمَنَّ أحدُكم رَمضان ... " إلى آخره الحديث. يُكرَه للرجل أن يصومَ آخرَ شعبان يومًا أو يومين، كما في هذا الحديث. وعلَّة الكراهة: أن الرجلَ ينبغي له أن يستريحَ من الصوم؛ ليحصلَ له قوةٌ ونشاطٌ، كي لا يثقلَ عليه دخولُ رمضان. وقيل: علَّتُها اختلاطُ صوم النفل بالفرض؛ فإن الرجلَ لو صامَ آخرَ شعبانَ يشك الناسُ ويقولون: لعلَّه رأى هلالَ رمضان حتى يصومَ، فيوافقه بعضُ الناس على ظنَّ أنه رأى الهلال. هذا النهي إنما كان عن صوم النفل؛ لأنه لا ضرورةَ فيه، وأما القضاءُ والنذرُ، والوِردُ فيه ضرورة؛ لأن القضاءَ والنذرَ فرضٌ، وتأخيرُ الفرضِ غيرُ مَرْضيٍّ، وأما الوِردُ فتركُه أيضًا شديدٌ عند مَن أَلِفَه؛ لأن أفضلَ العباداتِ أدومُها. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 1401 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتصَفَ شَعْبَانُ فلا تَصُومُوا".

قوله: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"؛ يعني: إذا مضى النصفُ الأولُ من شعبان فلا تصوموا بعد ذلك إلى آخره، وعلَّته: ليستريحَ الرجلُ من الصوم. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1402 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْصُوا هِلالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ". قوله: "أَحْصُوا هلالَ شعبان لرمضان"، (أحصى الرجل): إذا علمَ وعدَّ عددًا، يعني: اطلبوا هلالَ شعبان واعلموه، وعدُّوا أيامَه؛ لتعملوا دخولَ رمضان. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1405 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إلى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّي رَأَيْتُ الهِلالَ، يعني: رمضان، قال: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إلاَّ الله؟ "، قال: نَعَمْ، قال: "أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ "، قال: نَعَمْ، "قال: يا بِلالُ، أَذِّنْ في النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا". قوله: "أتشهد أن لا إله إلا الله": هذا يدل على أن الإسلامَ شرطٌ في الشهادة، وعلى أن الرجلَ إذا لم يُعرَف منه فسقٌ يُقبَل منه شهادة؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - لم يبحث في أن الأعرابيَّ عَدْلٌ أم لا، وعلى أن شهادةَ الواحد مقبولةٌ في هلال رمضان. * * *

فصل

1406 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: تَرَاءَى النَّاسُ الهِلالَ، فَأخْبَرْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ الناس بِصِيامِهِ. قوله: "تراءى الناسُ الهلالَ"، (الترائي): أن يرى بعضُ القوم بعضًا، والمراد به ها هنا: أنه اجتمع الناسُ لطلب الهلال. * * * فصل (فصل) مِنَ الصَّحَاحِ: (من الصحاح): 1407 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا، فإنَّ في السُّحُورِ بَرَكةٌ". "تسحَّروا"؛ أي: كُلُوا الطعامَ في وقت السَّحَر؛ ليكونَ لكم قوةٌ على الصوم. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 1408 - وقال: "فَصْلُ ما بَيْنَ صِيامِنَا وصِيامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ"، رواه عَمْرو بن العاص. قوله: "فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السَّحَر"؛ يعني: كان الطعامُ والشرابُ والمجامعةُ حرامًا على بني إسرائيل ليلةَ صيامهم إذا ناموا، ولا يجوز لهم هذه الأشياء إلا بعد الغروب إلى أن يناموا.

وكذلك كان الحكمُ في بدء الإسلام، ثم أَذِنَ الله تعالى بهذه الأشياء ما لم يطلع الصبح. وسببه: أن قيسَ بن صِرْمَةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، فلما كان وقتُ الإفطار لم يجد شيئًا يفطر به، وخرجت امرأتُه في طلب شيء، فغلب النومُ على قيس، فنام، فلما جاءت امرأته بالطعام كان قيسٌ قد نام وحَرُمَ عليه الطعام، فلم يأكل شيئًا، فلما كان من الغد غُشِيَ عليه في نصف النهار من غاية الجوع. وأتى عمرُ - رضي الله عنه - أهلَه؛ أي: جامَعَها وقد نامَتْ، فسأل عمرُ رسولَ الله - عليه السلام - عن ذلك، وتحسَّر على هذا الذنب، فنزل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. {الرَّفَثُ}: المجامعة، {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}: الصبح الثاني، {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}؛ أي: من بين الظلام الذي كان في موضع الصبح. روى هذا الحديثَ - أعني: "فصل ما بين صيامنا" - عمرو بن العاص. * * * 1409 - وقال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ"، رواه سَهْل بن سَعْد. قوله: "لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْرَ"، (ما): للدوام، السُّنَّةُ إذا تحقَّق غروب الشمس: أن يعجلَ الصائمُ الإفطارَ؛ يعني: ما دام الناسُ يحفظون هذه السُّنةَ كانوا على الخير، وإذا تركوها قلَّ خيرُهم؛ يعني: مَن حافَظَ على جميع الفرائض والسُّنن أكثرُ خيرًا ممن تركَ بعضَ السُّنن. وعلَّة استحباب تعجيل الفطر: إشباعُ الناس؛ ليكونَ لها حضورٌ وقوةٌ عند أداء الصلاة.

روى هذا الحديثَ سهل بن سعد الساعدي. * * * 1410 - وقال: "إذا أَقبلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". قوله: "إذا أَقبلَ الليلُ من ها هنا، وأدبرَ النهارُ من ها هنا، وغربت الشمسُ فقد أفطرَ الصائم"، (أقبل الليل من ها هنا): إشارةٌ إلى المشرق؛ لأن الظلمةَ أولَ ما تظهر تظهر من ذلك الجانب، و (الليل): عبارة عن ظهور الظلمة من المشرق. قوله: "وأَدبرَ النهار من ها هنا": إشارةٌ إلى جانب المغرب؛ لأن الإدبارَ هو الذهابُ، والشمسُ تذهب إلى جانب المغرب، و (النهار): عبارة عن بقاء الشمس، فإذا غربت الشمسُ ذهبَ النهارُ. وقوله: "وغربت الشمس": لا حاجةَ إلى هذا اللفظ؛ لأنه إذا قال: (وأدبر النهار) عُلِمَ منه غروبُ الشمس؛ وإنما قاله لشرح (وأدبر النهار من ها هنا)، أو لبيان كمال الغروب، كيلا يظنَّ أحدٌ أنه إذا غربت بعضُ الشمس جازَ الإفطار؛ لأنه أدبرَ النهارُ. قوله: "فقد أفطر الصائم"، قيل: معناه: دخل في وقت الفطر؛ لأنه ما لم يأكل ولم يشرب لا يكون مفطرًا، وقيل: معناه: أفطر في الحكم؛ يعني: إذا غربت الشمس انتهى صومُ الصائم، ولم يكن بعد ذلك صائمًا في الحُكم، سواءٌ أكل أو لم يأكل، بدليل أنه يحتاج إلى نية الصوم للغد إن لم يأكل ولم يشرب. روى هذا الحديثَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. * * *

1411 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوِصَالِ في الصَّوْمِ، فقالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّكَ تُواصِلُ يا رسُولَ الله!، قال: "وَأَيُّكُمْ مِثلي؟، إنَّي أَبيتُ عِنْدَ رَبي يُطْعِمُني ويَسْقِينِي". قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصَالِ في الصوم"، (الوِصَال): أن يَصِلَ الصائمُ صومَ يومٍ بيومٍ؛ يعني: ألا يأكلَ ولا يشربَ شيئًا في الليل. وهذا منهيٌّ عنه في حق غير رسول الله - عليه السلام - نهيَ كراهةٍ، وأما في حق رسول الله - عليه السلام - يجوز الوصالُ من غير كراهة. وعلَّة نهي الأُمة عن الوصال: عدمُ قُوَّتهم على ترك الطعام يومَين؛ فإن الرجلَ يصير بالوصال ضعيفًا، فيعجز عن كثيرٍ من العبادات وكثيرٍ من الحقوق، فلو أكلَ الصائمُ في الليل شيئًا أو شربَ وإن كان شيئًا قليلًا خرجَ عن النهي. فلو أراد أحدٌ الوصالَ ولا يلتفت إلى النهي فلا يكفيه لصوم يومَين نيةٌ واحدةٌ، بل يلزمه أن ينويَ لصوم اليوم الثاني في ليلته، وإن لم يأكل شيئًا. قوله: "إني أَبيتُ عند ربي يُطعمني ويَسقيني"، قال الخطابي: يحتمل هذا معنيين: أحدهما: أن يُحمَل على الظاهر ويقول: يرزقه الله تعالى في ليالي صيامه طعامًا وشرابًا. والثاني: أن يكون معناه: إن الله تعالى يُعينني على الصوم، ويُعطيني القوةَ على الوصال، فيكون إعطاءُ الله إياه - عليه السلام - القوةَ بمنزلة إعطاء الطعام والشراب. * * * مِنَ الحِسَان: 1412 - عن حَفْصَة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ

الصِّيامَ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ الفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ"، ويُروى موقوفًا على حَفْصَةَ. قوله: "مَن لم يُجمعِ الصيامَ من الليل قبلَ الفجر فلا صيامَ له"، (أَجمعَ يُجمِعُ): إذا عزمَ على الشيء؛ يعني: مَن لم ينوِ الصومَ قبلَ الصبح لا يصحُّ صومُه. وفي هذا بحثٌ؛ فالقضاءُ والكفارةُ والنذرُ المُطلَق، فصيامُ هذه الأشياءِ لا تصح إلا بنية قبل الصبح لكل يومٍ نيةٌ جديدةٌ. وأما صومُ رمضان إذا لم يكن قضاءً، والنذرُ المعيَّن زمانُه؛ فعند الشافعي وأحمد: لا يصح أيضًا إلا بنيةٍ لكل يوم قبل الفجر. وعند أبي حنيفة: يجوز في هذَين النوعَين النيةُ بعد الصبح، وقبلَ الزوال لكل يومٍ نيةٌ واحدةٌ. وعند مالك: يجوز لجميع رمضان نيةٌ واحدةٌ، مثل أن يقول الرجل في أول ليلة من رمضان: نويتُ أن أصومَ هذا الشهرَ، فتكفيه هذه النيةُ لصوم جميع رمضان. وأما النافلةُ يجوز صومُها بنيةٍ من الليل والنهار قبلَ الزوال بالاتفاق. * * * 1413 - وقال: "إذا سَمِعَ النِّدَاءَ أَحَدُكُمْ والإناءُ في يَدِهِ؛ فلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضيَ حاجَتَهُ مِنْهُ". قوله: "إذا سمع النداءَ أحدُكم والإناءُ في يده"، وأراد أن يشرب "فلا يضعه حتى يقضيَ حاجتَه منه"؛ يعني: إذا سمع الصائمُ أذانَ الصبح، وإناءُ الماء في يده، وأراد أن يشربَ فلا يتركْه بسماع الأذان، بل له الشربُ، وهذا إذا علمَ عدمَ طلوع الصبح، أما إذا علمَ طلوعَ الصبح أو شكَّ أنه هل طلع أم لا؟ لا يجوز له الشربُ، وهذا لا يتعلق بالأذان، بل يتعلق بطلوع الصبح وعدمه.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1414 - وقال: "قال الله تعالى: أَحَبُّ العِبادِ إليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا". قول الله تعالى: "أحبُّ عبادي إليَّ أعجلُهم فِطرًا"؛ يعني: مَن هو أكثرُ تعجيلًا في الإفطار؛ فهو أحبُّ إلى الله تعالى. ولعل سببَ محبة الله تعالى إياه: لطاعته سُنَّةَ رسول الله عليه السلام، ولأنه إذا أفطرَ قبلَ الصلاة يؤدي الصلاةَ عن حضور القلب وطمأنينة النفس، ومَن كان بهذه الصفة فهو أحبُّ إلى الله ممن لم يكن كذلك. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1415 - وقال: "إذا أَفْطَرَ أَحَدكم فَلْيُفْطِرْ على تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكةٌ، فإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ على ماءٍ، فإنَّهُ طَهُورٌ". قوله: "فَلْيفطِرْ على تمرٍ؛ فإنه بركةٌ، فإن لم يجد فَلْيفطِرْ على ماءٍ؛ فإنه طَهورٌ": فهذا الحديثُ وأمثالُه الأَولى أن يُحالَ عليه إلى رسول الله عليه السلام؛ فإنه يعلم حقيقةَ الأشياء بتعليم الله تعالى إياه، ونحن لا نعلم. وما يجري في الخاطر: أن التمرَ قُوتٌ وحلوٌ، والنفس قد تعبت بمرارة الجوع، فأَمرَ الشارعُ بإزالة هذا التعب بشيءٍ هو قُوتٌ وحلوٌ، ولا شيءَ بهذه الصفة إلا التمر والزبيب، والتمرُ أكثرُ في المدينة من الزبيب وأحلى، فلهذا أَمرَ - عليه السلام - بالإفطار على التمر. وإن لم يكن التمرُ أَمرَ الشارعُ بالإفطار على الماء؛ لأن الماءَ يُزيل تعبَ

العطش عن النفس. روى هذا الحديثَ سلمان بن عامر الضبي. * * * 1417 - عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَطَّرَ صائِمًا أو جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِه"، صحيح. قوله: "مَن فطَّر صائمًا"، (التفطير): جعلُ أحدٍ مُفطِرًا؛ يعني: مَن أطعمَ صائمًا. قوله: "أو جهَّز غازيًا"، (التجهيز): تهيئة أسباب المسافر؛ يعني: مَن أعطى غازيًا السلاحَ والفَرَسَ ونفقةَ سفرِه إلى الغزو "فله مثل أجره". * * * 1418 - عن ابن عمر قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَفْطَرَ قال: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وثَبَتَ الأَجْرُ إنْ شَاءَ الله تعالى". قوله: "ذهبَ الظَّمَأ"؛ أي: زالَ العطشُ الذي كان بي. "وابتلَّت العروق"؛ أي: زالت يبوسةُ عروقي التي حصلت من غاية العطش بأن شربتُ الماء، وهذا تحريضُ الناس على العبادة؛ يعني: لا يبقى التعبُ على الإنسان، ويبقى له الأجرُ، فَلْيحمِلِ الإنسانُ التعبَ على نفسه؛ ليحصلَ له غنيمةُ الأجر، وهذا الدعاء يُقرَأ بعد الإفطار بالماء. * * * 1419 - ورُوي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا أَفْطَرَ قال: "اللهمَّ لكَ صُمْتُ، وعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ".

3 - باب تنزيه الصوم

قوله: "اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ"؛ يعني: لم يكن صومي رياءً، بل خالصًا لك؛ لأن الرازقَ أنتَ، فإذا أكلتُ رزقَك - ولا رازقَ غيرُك - فلا ينبغي العبادةُ لغيرك، وهذا الدعاء يُقرَأ أيضًا بعد الإفطار. روى هذا الحديثَ معاذ. * * * 3 - باب تَنْزيه الصَّوم (باب تنزيه الصوم) مِنَ الصِّحَاحِ: 1420 - قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ فَلْيْسَ للهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرابَهُ". قوله: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ فَلْيْسَ للهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرابَه"، (التنزيه): الإبعاد والتخليص، والمراد به ها هنا: تخليص الصوم من الفواحش. (مَن لم يَدَعْ)؛ أي: مَن لم يتركِ الزُّورَ والكذبَ. قوله: "والعمل به"؛ أي: بالزور، أراد به جميعَ الفواحش؛ لأن كلَّ ما نَهَى الله عنه، فمَن عملَه فقد فعلَ مخالفةَ الله تعالى، والمخالفة: هو الكذب في الحكم وحصول الإثم. يعني: الغرضُ من الصيام كسرُ النفس بترك الطعام، والغرضُ من كسر النفس: تركُ المَنَاهي، والغرضُ المعظَّم من الصيام: تركُ المناهي التي هي مُحرَّمةٌ، لا تركُ الطعام والشراب اللذَين هما مباحان.

فقد روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1421 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبلُ ويُبَاشِرُ وهو صائِمٌ، وكانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبهِ. قولها: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبل ويُباشِر وهو صائمٌ، وكان أَملكَكم لإربه"، ومعنى (يباشر) هنا: يلمس نساءَه بيدِه، (أملككم): أفعل التفضيل من (مَلَكَ مُلكًا): إذا قَدرَ على شيء وصار حاكمًا عليه، (لأَرَبه) بفتح الهمزة والراء؛ أي: لحاجته، و (الإرْب) بكسر الهمزة وسكون الراء: مثله؛ يعني: إنما فعلَ رسولُ الله - عليه السلام - هذا؛ لأنه كان غالبًا على هواه، ولا يُخاف عليه إنزالُ المني، بخلافكم أيها الأُمة؛ فإنه لو فعلتُم هذا يُخاف عليكم إنزالَ المني، فإذا كان كذلك القُبلةُ والمُباشَرةُ مكروهتانِ لكم. وقيل: معناه: كان رسولُ الله - عليه السلام - يقدر على أن يحفظَ نفسَه عن القُبلة والمُباشَرة؛ لأنه غالبٌ على هواه، ومع هذا يُقبل ويُباشِر، والأُمةُ قد يكون لهم صبرٌ وقدرةٌ على ترك القُبلة والمُباشَرة؛ لأنهم قلَّما يملكون هواهم، فإذا كان كذلك يُكرَه لهم القُبلةُ والمُباشَرةُ، وبهذا قال عمر وعائشة - رضي الله عنهما -. وقال الشافعي وأحمد: لا يُكرَه لمَن لم تحرِّك القُبلةُ والمُباشَرةُ شهوتَه، وقال مالك: تُكرَهان للشابِّ دونَ الشيخ. وقال أبو حنيفة: لا تُكرَهانِ للصائم مطلقًا. فإن خرجَ المَنِي بالقُبلة والمُباشَرة بطل الصومُ بالاتفاق. * * *

1422 - وقالتْ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الفَجْرُ في رَمَضَانَ وهو جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، فَيَغْتَسِلُ، ويَصُومُ". قولها: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُدركه الفجرُ في رمضان وهو جنبٌ من غير حُلمٍ، فيغتسل ويصوم"، (من غير حُلم)؛ أي: من غير احتلام؛ يعني: لو جامَعَ أحدٌ قبلَ الصبح ولم يغتسل إلا بعد الصبح فلا بأسَ عليه، ولا خللَ في صومه عند الأئمة الأربعة. وقال بعض التابعين: يبطل صومُه، وقال إبراهيم النَّخَعي: يبطل الفرضُ دون النفل. * * * 1423 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحْتَجَمَ وهو صَائِمٌ. قوله: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو مُحرِمٌ، واحتجم وهو صائمٌ"، تجوز الحِجامةُ للمُحرِم بالحج أو العمرة بشرط أن لا ينتفَ شَعرًا، فإن نتفَ شعرًا فعليه الفِديةُ، كما يأتي في (كتاب الحج)، وكذلك يجوز للصائم الحِجامةُ من غير كراهيةٍ عند أبي حنيفة ومالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يُكرَه للصائم الحجامةُ؛ مخافةَ الضعف، وقال أحمد: يبطل صومُ الحاجم والمحجوم، ولا كفارةَ عليهما. وقال عطاء: يبطل صومُ المحجوم وعليه الكفارةُ. * * * 1424 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَسِيَ وهو صائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وسَقَاهُ".

قوله: "مَن نَسِيَ وهو صائمٌ ... " إلى آخره؛ يعني: لا يبطل الصومُ بالأكل والشرب ناسيًا، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: يبطل الصومُ بالأكل والشرب ناسيًا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1425 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هَلَكَتُ، وأَهْلَكْتُ، فقال: "ما شَأْنُكَ؟ "، قال: وَقَعْت على امْرَأَتِي في نَهارِ رَمضانَ، قال: "فأَعْتِقْ رَقَبَة"، قال: لَيْسَ عندي، قال: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعَيْنِ"، قال: لَا أستطيعُ، قال: "فَأَطْعِمَ سِتِّينَ مسكينًا"، قال: لا أَجِدُ، قال: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فأُتِىَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ - والعَرَقُ: المِكْتَلُ الضَّخْمُ - قال: "خُذْ هذا فتَصَدَّقْ بِه"، قال: على أَفْقَرَ مِنَّا؟، فَضَحِكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قال: "أَطْعِمْهُ عِيالَكَ". قوله: "هلكتُ وأَهلكتُ"؛ أي: هلكتُ بحصول الذنب لي، وأهلكتُ امرأتي بأن حصلت لها ذنبًا. "ما شأنك؟ "؛ أي: أيُّ شيءٍ أمرُك وحالُك حتَّى تقول هذا؟ "وقعتُ على امرأتي"؛ أي: جامعتُها في رمضان؛ أي: في نهار رمضان. قوله: "فأَعتِقْ رقبةً"؛ أي: كفارةُ هذا الذنب أن تُعتقَ رقبةً عبدًا أو أَمَةً. العَرَق" بفتح العين والراء "المِكْتَل" بكسر الميم: وهو الزِّنْبيل. قوله: "على أفقرَ منا"؛ أي: أتصدُّق بهذا على من هو أكثرُ حاجةً منا؛ يعني: أنا وعيالي فقراء ليس أحدٌ أفقرَ منا، فهل يجوز لنا أن نأكلَه أم لا بد أن أتصدَّق به على غيرنا؟

"النواجذ": أواخر الأسنان، واحدتها: ناجزة. اعلم أنه - عليه السلام - لم يأمر الأعرابيَّ بقضاء صوم ذلك اليوم في هذا الحديث، ولكن أمرَه بقضائه في رواية أخرى، ولم يورد المصنف تلك الروايات في "المصابيح". واعلم أن الأعرابيَّ لمَّا ذكرَ عجزَه عن الإعتاق والصوم والإطعام لم يقلْ رسولُ الله: في ذِمَّتك حتى يقدرَ على أحد هذه الثلاثة؛ هذه خاصيةُ ذلك الأعرابي. وأما غيرُه إذا فعلَ هذا الفعلَ وعجزَ عن هذه الثلاثة يجب في ذِمَّته إلى أن يقدرَ على واحدٍ من هذه الثلاثة. قوله - عليه السلام - للأعرابي: "أَطعِمْه عيالَك": خاصةٌ للأعرابي، ولا يجوز لغيره أن يطعمَ طعامَ الكفارةِ عيالَه، وهذه الكفارةُ مرتبة عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد. وقال مالك: هي مخيَّرة بفعل المُجامِع ما شاء من هذه الثلاثة، ومعنى المرتب: أن يكون الإعتاق مقدَّمًا، فإن لم يقدر على الإعتاق فيلزمه صومُ شهرَين متتابعَين، فإن لم يقدر على الصوم فيُطعم ستين مسكينًا، كلَّ مسكينٍ مُدًّا، وقال أبو حنيفة: نصفَ صاعٍ. * * * مِنَ الحِسَان: 1427 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رجُلًا سأَلَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ المُبَاشَرَةِ للصَّائِمِ فَرَخَّصَ له، وأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ، فإذا الذي رَخَّصَ له شَيْخٌ، والذي نَهَاهُ شابٌّ.

قوله: "عن المُباشَرة"؛ أي: عن القُبلة واللمس باليد، وإنما رخَّص للشيخ؛ لأنه لا تكون له شهوةٌ غالبةٌ، فيُخاف عليه إنزالُ المني، بخلاف الشباب. * * * 1428 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ وهو صائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْه قَضَاءٌ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ"، ضعيف. قوله: "مَن ذَرَعَه القَيء": غلبَ عليه القيء، فخرجَ بغير اختياره لا قضاءَ عليه؛ لأنه لا تقصيرَ منه. قوله: "ومَن استقاء"؛ أي: طلبَ القيءَ وأخرجَه باختياره فعليه القضاءُ. * * * 1429 - عن مَعدانَ بن أبي طَلْحَةَ، أنَّ أبا الدَّرداءِ حَدَّثه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَاء فَأَفْطَرَ، قال ثَوْبَان: صَدَقَ، وأَنا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. قوله: "وأنا صببتُ له وَضوءَه" بفتح الواو؛ أي: ماءَ وضوئه؛ يعني: سكبتُ الماءَ على يديه حتى غسلَ يدَيه وفمَه، هذا تأويله عند الشافعي؛ لأن القيءَ لا يُبطل الوضوءَ عنده. وقال أبو حنيفة: يُبطل القَيءُ الوضوءَ. * * * 1430 - عن عامر بن رَبيعةَ قال: رأَيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما لا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وهو صائِمٌ. قوله: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أُحصي يتسوَّك وهو صائمٌ"، (ما لا أحصي)؛ أي: ما لا أقدر على عدِّه من كثرته، (الإحصاء): العَدُّ، ولا يُكرَه السواكُ للصائم في جميع النهار، بل هو سُنَّةٌ عند أكثر العلماء، وبه قال أبو حنيفة

ومالك؛ لأنه تطهيرٌ. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: يُكرَه بعد الزوال؛ لأن خَلُوفَ فمِ الصائم أثرُ العبادة، وهو أطيبُ عند الله من ريح المسك، والخَلُوفُ يظهر عند خلو المَعدة من الطعام، وخلوُّ المعدة يكون عند الزوال غالبًا، وإزالةُ أثرِ العبادةِ مكروهٌ، وبه قال الشافعي وأحمد. روى هذا الحديثَ عامر بن ربيعة العدوي. * * * 1432 - ورُوي عن أنَس - رضي الله عنه - قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي، أفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟، قال: "نَعَمْ"، ضعيف. قوله: "اشتَكيتُ عيني"؛ أي: أَشكُو من وجع عيني. الاكتحالُ للصائم غيرُ مكروهٍ، وإن ظهرَ طعمُه في الحلق عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وكرهَه أحمد. * * * 1433 - ورُوي عن بعضِ أَصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لَقَدْ رَأَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْجِ يَصُبُّ على رَأْسِهِ الماءَ وهو صَائِمٌ مِنَ العَطَشِ، أوْ مِنَ الحَرِّ. قوله: "رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْج يصبُّ على رأسه"، (العرج): أسم موضع بالمدينة. لا يُكرَه للصائم أن يصبَّ على رأسه الماءَ وينغمس في الماء، وإن ظهر برودتُه في باطنه. * * *

1434 - عن شَدَّاد بن أَوْسٍ قال: رَأَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، قال: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ". قال المصنِّف رحمه الله: وتأَوَّلَه بعضُ مَنْ رخَّص في الحِجَامة، أي: تعرَّضَا للإفطار، المَحجُوم للضَّعْف، والحاجِم لأنَّه لا يأْمَن من أَنْ يصِلَ شيءٌ إلى جَوْفِه بمصِّ المَلازِم. قوله: "أفطرَ الحاجمُ والمحجوم"، قال أحمد: بطلَ صومُهما بظاهر هذا الحديث، وقال غيره: لا يبطل صومُهما، وقد ذُكر بحثُ هذا وتأويلُه. قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما فَعَلا فِعلًا يُخاف عليهما إفطارُ الصوم، أما المحجومُ لحصول ضعفٍ فيه، وأما الحاجمُ فلامتصاصه تلك القارورة؛ فإنه يُخاف عليه أن يَصِلَ شيءٌ من الدم إلى جوفه. * * * 1435 - ورُوي عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَفْطَرَ يومًا مِنْ رَمضانَ مِنْ غيرِ رُخْصَةٍ ولا مَرَضٍ لم يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّه"، ضعيف. قوله: "لم يقضِ عنه صومُ الدهرِ كلِّه"؛ يعني: لم يجد فضيلةَ صوم المفروض بصوم النافلة، وليس معناها: لو صام الدهر بنية قضاء يوم رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم، بل يُجزئه قضاءُ يومٍ بدلًا من يومٍ. * * * 1436 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَمْ مِنْ صائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الظَّمَأُ، وكَمْ مِنْ قائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيامِهِ إلَّا السَّهَرُ". قوله: "كم مِن صائمٍ ... " إلى آخره؛ يعني: كلُّ صومٍ لا يكون خالصًا

4 - باب صوم المسافر

لله تعالى، بل يكون رياءً ونفاقًا يحصل له العطشُ والجوعُ ولا يحصل له الثوابُ، وكذلك لو تكلَّم الصائمُ بالكذب والغِيبة وشتم الناس وغير ذلك مما لا يكون له الثوابُ؛ لأن ثوابَ صومه يأخذه منه مَن شتمَه واغتابَه يومَ القيامة، وكذلك القائمُ في الليل بالصلاة وتلاوة القرآن إذا كان رياءً ليس له ثوابٌ، ويحصل له مشقةُ السهر، وهو تركُ النوم، وكذلك جميع العبادات إذا لم يكن خالصًا. * * * 4 - باب صَوْم المُسافِر (باب صوم السفر) مِنَ الصِّحَاحِ: 1437 - قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ حَمْزَةَ بن عَمْروٍ الأَسْلَمِيَّ قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَصومُ في السَّفَرِ؟، وكانَ كَثيرَ الصِّيامِ، فقال: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ". قوله: "إن شئتَ فصُمْ، وإن شئت فأفطِرْ". الإفطار والصوم كلاهما جائزان في السفر، الاختيارُ إلى الرجل عند أكثر العلماء إلا ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -، فإنهما قالا: لا يجوز الصومُ في السفر، ثم اختلف القائلون بجواز الصوم والفطر؛ فقال أحمد: الفِطرُ أفضلُ، وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: الصومُ أفضلُ لمَن يُطيقه، ومَن يلحقه ضررٌ شديدٌ بالصومِ فالفِطرُ له أفضلُ. * * *

1438 - وقال أبو سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: غَزَوْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رمَضانَ، فَمِنَّا مَنْ صامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فلمْ يَعِبِ الصَّائمُ على المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ على الصَّائمِ. قوله: "قد ظُلِّل عليه"؛ أي: سقط من ضعف الصوم وجُعل على رأسه ظلٌّ. قوله: "ليس من البرِّ الصومُ في السفر"؛ يعني: لمَن يلحقه ضررٌ شديدٌ بالصوم الصومُ في حقِّه لا يَحْسُنُ. * * * 1441 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ، فصامَ حتَّى بَلَغَ عُسْفانَ، ثُمَّ دَعا بماءٍ فَرَفَعَهُ إلى يَدِهِ لِيَرِاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرَ حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وذلكَ في رمضانَ. قوله: "حتَّى بلغَ عُسفانَ"، (عُسفان): اسم موضع قريب من المدينة. * * * 1442 - ورُوي عن جابرٍ: أَنَّهُ شَرِبَ بعدَ العَصْرِ. قوله: "شرب بعد العصر"؛ يعني: كان رسولُ الله - عليه السلام - صائمًا إلى وقت العصر، ثم أفطرَ؛ ليعلمَ الناسُ أن الإفطارَ في السفر جائزٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 1443 - روى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ الله وَضَعَ عَنْ المُسافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ، والصَّوْمَ عَنِ المُسافِرِ، وعَنِ المُرْضعِ، والحُبْلَى". "شطر الصلاة"، (الشطر): النصف؛ يعني به القصر.

"الحُبْلَى": الحامل، يجوز للمُرضع والحامل الإفطارُ إذا خافَتَا أن يلحقَهما أو يلحقَ ولدَيهما ضررٌ بالصوم باتفاق العلماء، وأما في الفدية خلافٌ؛ فقال الشافعي وأحمد: يُطعمانِ المساكين عن كلِّ يومِ مُدًّا من الحِنطة أو قُوتَ غيرها إن كان قُوته غيرَ الحِنطة. وقال أبو حنيفة: ليس عليهما الفديةُ، وقال مالك: تجب على الحامل دون المُرضع؛ لأن الحاملَ يلحق الضررُ نفسَها والمُرضعَ ولدَها، فتكون الحاملُ كالمريض ولا بد من القضاء بالاتفاق. روى هذا الحديثَ "أنسُ بن مالك" - رضي الله عنه -، الذي هو من بني عبد الله ابن كعب، ولم يروِ (أنسٌ) غيرَ هذا الحديث، و (أنسٌ) هذا ليس بـ (أنسٍ) الذي هو خادمُ النبي عليه السلام. * * * 1444 - وقال: "مَنْ كانَتْ لَهُ حَمُولَةَ تَأْوِي إلى شِبَعٍ، فَلْيَصُمْ رمضانَ حيثُ أَدْرَكَهُ". قوله: "مَن كانت له حَمُولةٌ يأوي إلى شِبعٍ فَلْيَصُمْ رمضانَ حيث أدركَه"، (الحَمولة) بفتح الحاء: المركوب؛ يعني: مَن كان راكبًا وسفرُه قصيرًا بحيث يبلغ إلى المنزل في يومِ فَلْيَصُمْ رمضانَ، والمراد بقوله: (تأوي إلى شبعٍ): الوصول إلى المنزل؛ يعني: إذا كانت المسافةُ أقلَّ من ستةَ عشرَ فرسخًا لا يجوز الإفطارُ. وقال داود: يجوز الإفطارُ في السفر أيَّ قَدْرٍ كان، ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث: أن مَن كان راكبًا ومعه زادٌ يفطر به في الليل فَلْيَصُمْ رمضانَ، وإن كان سفرُه طويلًا؛ لأن الراكبَ قلَّما تلحقه مشقةُ السفر، وعلى هذا التأويل يكون أمرَ استحباب؛ يعني: الصومُ أحبُّ في السفر من الإفطار، والله أعلم. * * *

5 - باب القضاء

5 - باب القَضَاء (باب القضاء) مِنَ الصِّحَاحِ: 1445 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ يَكُونُ عليَّ الصَّوْمُ مِنْ رمَضانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضيَ إلَّا في شَعبانَ. تعني: الشُّغْلُ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "تعني الشُّغلَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -"، يعني كانت مشغولةً بخدمة النبي عليه السلام، لعلها تعني بهذا الشغل؛ لأنها لا تصوم كي لا يفوتَ عن النبي - عليه السلام - استمتاعُها، فأخَّرَت قضاءَ رمضان إلى شعبان، فإذا جاء شعبان قَضَتْ ما عليها من الصيام، وإن فاتَتْ عنها خدمةُ النبي عليه السلام؛ لأنه لا يجوز تأخيرُ القضاء من شعبان، فإن أخَّر أحدٌ قضاءَ رمضانَ عن شعبانَ وقضى بعد رمضانَ آخرَ فعليه مع القضاء عن كلَّ يومٍ مُدٌّ من الطعام عند الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا فديةَ عليه. * * * 1446 - قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ للمَرأَةِ أَنْ تَصُومَ وزَوْجُها شَاهِدٌ إلَّا بإذْنِهِ، ولا تأْذَنَ في بَيْتِهِ إلَّا بإذْنِهِ". قوله: "لا يحلُّ لامرأةٍ أن تصومَ وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنه"، (شاهد)؛ أي؛ حاضر في البلد، والمراد بهذا الصوم: صوم النافلة؛ كي لا يفوتَ عن الزوج استمتاعُها. قوله: "ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"؛ يعني: لا تأذن المرأةُ لأجنبيٍّ في دخول البيت. قولها في جواب معاذة: كنَّا نُؤمَر بقضاء الصوم ولا نُؤْمر بقضاء

6 - باب صيام التطوع

الصلاة، فهذا الجواب ليس جوابًا لسؤال معاذة؛ لأنها تعلم هذا الحكمَ، ولكن تسأل عن علَّته، ولم تُجِبْها عائشةُ بما فيه بيانُ علَّة الحكم، ولم تبين لها علَّةَ الحكم؛ لأنه يجب على الناس قَبولُ أحكام الشرع، سواءٌ علموا علَّتَها أو لم يعلموا، ولكن لو طلب أحدٌ علَّةَ حكم من الأستاذ لطلبِ الفائدةِ لا للإنكارِ والاعتراضِ على الشارع فلا بأسَ. وقيل: علَّة هذه المسألة أن قضاءَ صوم رمضانَ لا حرجَ فيه؛ لأن أكثرَ الحيضِ خمسةَ عشرَ يومًا، وقضاءُ خمسةَ عشرَ يومًا في سنةٍ غيرُ شديدٍ، بخلاف قضاء الصلاة؛ فإنه ربما يكون حيضُ المرأةِ خمسةَ عشرَ يومًا من كل شهرٍ، فقضاءُ خمسةَ عشرَ يومًا من كل شهرٍ شديدٌ. * * * 6 - باب صِيَام التَّطوُّع (باب صيام التطوع) 1451 - وقالتْ: ما عَلِمْتُهُ صامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمضانَ، ولا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حتَّى يصومَ منهُ، حتَّى مَضَى لِسَبيلِهِ. "حتى مضى لسبيله"؛ يعني: حتى تُوفِّي. * * * 1452 - وقال عِمْرانَ بن حُصَين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أَو لآخَر: "أَصُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعبانَ؟ "، قال: لا، "قال: "فإذا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ". قوله: "له أو لآخر"؛ يعني: شكَّ الراوي أن النبيَّ - عليه السلام - قال

لعِمران بن الحُصين أو قال لرجلٍ آخرَ: "أصمتَ من سررِ شعبان؟ " (السَّرَر) و (السِّرَار) بفتح السين وكسرها: ليلتان من آخر الشهر؛ يعني: إذا أفطرتَ اليومَين الأخيرَين من شعبان فاقضِ مكانَهما يومَين، قيل: كان عليه صومُ يومِ الأخيرَين من شعبان، فأمرَه رسولُ الله - عليه السلام - بقضائها إذا فاتا، على هذا الوجه فسَّره أصحاب الحديث، سُمِّي اليومانِ الأخيرانِ من الشهر سَرَرًا وسِرَارًا؛ لاستتار القمر في ليلتهما. * * * 1453 - وقال: "أفْضَلُ الصِّيامِ بعدَ رَمضانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بعدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ". قوله: "أفضلُ الصيام بعدَ رمضانَ شهرُ الله المُحرَّم"؛ أضاف (شهر المُحرَّم) إلى نفسه تعالى؛ لتعظيم هذا الشهر. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1454 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: ما رَأَيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى صِيامَ يَومٍ فَضَّلَهُ على غيرِهِ إلَّا هذا اليومَ يومَ عاشوراءَ، وهذا الشهرَ، يعني: شهرَ رمضانَ. قوله: "يتحرَّى صيامَ يومٍ فضَّلَه" بدل من قوله: (صيام يوم)، والتقدير: يتحرَّى فضلَ صيامِ يومٍ على غيره، و (التحرِّي): طلبُ الصوابِ والمبالغةُ في طلبِ شيءٍ؛ يعني: ما رأيتُه يُبالغ في تفضيل صومِ يومٍ على يوم إلا عاشوراءَ ورمضانَ؛ فإنه - عليه السلام - فضَّل صومَ هذه الأيام على صوم غيرها. أما صومُ رمضانَ فلأنه مفروضٌ، وأما عاشوراء فإنها كانت فريضةً في أول الإسلام، ثم نُسخت فرضيتُها ووجبَ فرضيةُ رمضانَ، ولا شك أن السُّنةَ

التي كانت فريضةً ثم نُسخت فرضيتُها أفضلُ من سُنَّةٍ لم تكن فرضًا قطُّ. * * * 1455 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: حِينَ صامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ عاشوراءَ وأَمَرَ بصِيامِهِ قالوا: يا رسُولَ الله!، إنَّهُ يومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ، فقال: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ". قوله: "حين صام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ عاشوراءَ ... " إلى آخره، قصته: أن النبي - عليه السلام - لمَّا خرج من مكةَ ودخل المدينةَ رأى اليهودَ يصومون يومًا، فقال لهم: "ما هذا اليوم؟ " فقالوا: هذا يومٌ أظهرَ الله موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنصوم هذا اليومَ ونعظِّمه، فقال رسول الله عليه السلام: "نحن أَولى بموسى عليه السلام"؛ يعني: بموافقته، فصام رسولُ الله - عليه السلام - ذلك اليومَ وأمرَ أصحابَه بصومه، وذلك يوم عاشوراء، وهو العاشر من المُحرَّم، فلما كانت السنةُ العاشرةُ من الهجرة وصامَ يوم عاشوراء قال له أصحابه: هذا يومٌ يعظِّمه اليهود؛ يعنون بذلك: أنَّا لا نريد موافقتَهم، فقال رسول الله عليه السلام: "لئن بقيت إلى قابلٍ لأَصومَنَّ التاسعَ"؛ يعني: لئن عشتُ إلى المُحرَّم الذي يأتي بعد هذا لأَصومَنَّ من اليوم التاسع من المُحرَّم، يسمى ذلك اليومُ تاسوعاءَ، فلم يَعِشْ رسولُ الله - عليه السلام - إلى السَّنة القابلة، تُوفي في الثاني عشرَ من الربيع الأول، فصار اليومُ التاسعُ من المُحرَّم صومُه سُنَّةً وإن لم يَصُمْه رسولُ الله عليه السلام؛ لأنه عَزَمَ على صومه، وكلُّ ما فعلَه رسولُ الله - عليه السلام - أو عَزَمَ عليه أو أَمَر به أو رَضيَ به كان ذلك سُنَّةً، إن لم يكن فريضةً. وقوله: "لأصومن التاسع"، لم يقل - عليه السلام - هذا على عزم ترك صوم عاشوراء مخالفة لليهود، بل قال هذا وعزم على صوم التاسع من المُحرَّم لتعلم اليهودُ أنَّه - عليه السلام - وأصحابَه لم يصوموا عاشوراءَ موافقةً لهم؛

لأنهم لو صاموها موافقةً لهم لم يعزموا على صوم تاسوعاء. * * * 1456 - وقالتْ أُمِّ الفَضْل بنت الحارِث: إنَّ ناسًا تَمارَوْا يومَ عَرَفَةَ في صِيامِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَرْسَلْتُ إليهِ بِقَدَحِ لَبن وهو واقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بعَرَفَةَ، فَشَرِبَهُ. قولها: "إن ناسًا تمارَوا"؛ أي: شكُّوا، (التماري): الشكُّ؛ يعني: خَفِيَ على الصحابة أن رسولَ الله - عليه السلام - هل هو صائمٌ يومَ عرفةَ بعرفة أو ليس بصائمٍ؟ "فأرسلْتُ إليه" بلَبن؛ لأرى هل يشربه أم لا؟ فشربَه، فعلم الناسُ أنَّه - عليه السلام - ليس بصائمٍ، فعُلِمَ بهذا أن صومَ يومِ عرفةَ سُنَّةٌ لغير الحاجِّ. وأما الحاجُّ قال الشافعي ومالك: ليس بسُنَّةٍ لهم؛ كي لا يضعفوا عن الدعاء بعرفة. وقال: إسحاق بن راهَوَيه: إنه سُنَّةٌ لهم، وقال أحمد: إن لم يضعفوا صاموا، وإن ضعفوا لم يصوموا. * * * 1457 - وقالت عائشةُ رضيَ الله عنها: ما رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صائِمًا في العَشْرِ قَطُّ. قول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العَشْرِ قطُّ"؛ أي: في العَشْرِ من أول ذي الحجَّة. اعلم أن صومَ تسعةِ أيامِ من أول ذي الحجَّة سُنَّةٌ؛ للحديث المذكور في فضلها في آخر هذا الباب، وقولها: (ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العَشْر

قط) لا ينفي كونَها سُنَّةً؛ لأنه - عليه السلام - ربما صامَها ولم تعرفْ عائشةُ - رضي الله عنها - بصومه، فإذا تعارَضَ النفيُ والإثباتُ فالإثباتُ أَولى بالقَبول. * * * 1458 - وعن أَبي قَتادة قال: قال عُمر: يا رسُولَ الله!، كيفَ مَنْ يصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟، قال: "لا صامَ، ولا أفْطَرَ، ثَلاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ، فهذا صِيامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيامُ يومِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بعدَهُ، وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ أَحْتَسِبُ على الله أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَها". قولها: "لا صامَ ولا أفطرَ"؛ يعني: هذا الشخص كأنه لم يصمْ ولم يُفطرْ، لأنه لم يأكلْ شيئًا، ولم يَصُمْ؛ لأنه لم يكن بأمر الشارع. قال الشافعي ومالك: هذا في حقِّ مَن صامَ جميعَ أيام السَّنة حتى يومَي العيد وأيام التشريق، فمَن صام هكذا فكأنه لم يَصُمْ؛ لأن يومَي العيدِ وأيامَ التشريقِ صومُهما مُحرَّمٌ، فأما مَن لم يَصُمْ هذه الأيامَ الخمسةَ لا بأسَ عليه في الصوم غير هذه الأيام؛ لأن أبا طلحةَ الأنصاريَّ وحمزةَ بن عمرو الأسلميَّ كانا يصومانِ الدهرَ، غيرَ هذه الأيامِ الخمسةِ، ولم يُنكر عليهما رسولُ الله عليه السلام. وقال أحمد: يجب أن يفطرَ هذه الأيامَ الخمسةَ حتى يخرجَ من النهي، وعلَّةُ نهي صومِ الدهر: صيرورةُ الرجل به ضعيفًا عاجزًا عن الجهاد وقضاء الحقوق. قوله: "ثلاثٌ من كل شهرٍ"، قيل: مرادُه من هذه الثلاثة: أيام البيض، والصحيح أن الرجلَ مخيَّر، أيَّ ثلاثةِ أيامٍ صام من كل شهر وجدَ هذا الثوابَ، بدليل حديث عائشة، ويأتي بعد هذا.

قوله: "أحتسب"؛ أي: أرجو. "يُكفِّر" بتشديد الفاء؛ أي: يَستُر ويُزيل ذنوبَ صائمِ ذلك اليوم، ذنوبَه التي اكتسبَها في السَّنة التي قبلَها والسَّنة التي بعدها، ولعل المرادَ بهذه الذنوب: غيرُ الكبائر؛ لأنه اشترطَ اجتنابَ الكبائر في أحاديث. فإن قيل: كيف يكون تكفيرُ ذنوب السَّنة التي بعدها ولو لم يكن للرجل ذنبٌ في السَّنة التي لم تأت بعدُ؟ قيل: معناه: يحفظهُ الله تعالى عن أن يُذنبَ إذا جاءت تلك السَّنة، أو يعطيه من الرحمة والثواب بقدَرْ ما يكون كفَّارةً للسَّنة القابلة اذا جاءت واتفق له فيها ذنوبٌ. * * * 1459 - وسُئل عَنْ صَوْمِ يومِ الإثْنَينِ فقال: "فيهِ وُلِدتُ، وفيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ". قوله: "وسُئل عن صوم الاثنين": راوي هذا الحديث أيضًا أبو قتادة، عن عمر: أنه سأل رسولَ الله عليه السلام عن صوم يوم الاثنين، فأجابه بما يدل على أن هذا اليومَ مباركٌ وصومَه محبوبٌ. * * * 1461 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صامَ رَمضانَ، وأتْبَعَه سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيامِ الدَّهْر". قوله: "من صامَ رمضانَ وأتبعَه سِتًّا من شوَّالٍ كان كصيامِ الدهر": وإنما كان كذلك؛ لأن الحسنةَ بعَشْرِ أمثالها، فإذا صام رمضانَ فكأنه صامَ عشرةَ أَشهُرٍ، وإذا صام ستةَ أيامٍ من شوالٍ فكأنه صامَ شهرَين، وهذه الستةُ لو صامَها

متتابعةً بعد يوم العيد لكان أَولى، ولو صامَها متفرقةً في شوَّالٍ جازَ. روى هذا الحديثَ أبو أيوب الأنصاري. * * * 1464 - وقال: "أيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وشُرْبٍ، وذِكْرٍ لله". قوله: "أيامُ التشريقِ أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ الله"، وحُرِّم الصومُ في يومَي العيد وأيام التشريق؛ لأن الناسَ أضيافُ الله تعالى في هذه الأيام، أراد أن يأكلَ الناسُ في عيد الأضحى وأيام التشريق من لحوم الأضاحي؛ حتى يكون للفقراء رفاهيةٌ وطيبُ عيشٍ في هذه الأيام. وفي عيد الفطر يأكل الفِطرةَ والأطعمةَ التي أعطاهم الأغنياءُ، وأراد أن يوافقَهم الأغنياءُ في ترك الصوم، فحرَّم الصومَ في هذه الأيام على الفقراء والأغنياء. سمَّى هذه الأيامَ: أيامَ التشريق؛ لأن معنى (التشريق) جعلُ اللحم قديدًا، والفقراء يُقدِّدون ما أُعطوا من لحوم الأضاحي في هذه الأيام، فسمَّى هذه الأيامَ: أيامَ التشريق لأجل هذا. روى هذا الحديثَ نُبَيْشَة الهُذَلي. * * * 1465 - وقال: "لا يصُومُ أَحَدُكُمْ يومَ الجُمعةِ إلَّا أنْ يصُومَ قَبْلَهُ، أو يصُومَ بعدَه". 1466 - وقال "لا تَخْتَصُّوا ليلةَ الجُمعةِ بِقيامٍ مِنْ بينِ اللَّيالي، ولا تخْتَصُّوا يومَ الجُمعةِ بصيامٍ مِنْ بينِ الأَيَّامِ إلَّا أنْ يكُونَ في صَوْمٍ يَصُومُه أَحدُكم".

قوله: "لا يصومُ أحدُكم يومَ الجمعة إلا أن يصومَ قبلَه أو بعدَه"، قيل: علَّة النهي: إنما كانَ ترك موافقةِ اليهودِ السبتَ في يومٍ واحدٍ من بين أيام الأسبوع؛ يعني: عظَّمت اليهودُ السبتَ فلا تُعظِّموا أنتم الجمعةَ خاصةً بصيامٍ وقيامٍ، بل عظِّموا جميع الأيام. روى هذا الحديثَ والذي بعدَه أبو هريرة. * * * 1467 - وقال: "مَنْ صامَ يومًا في سَبيلِ الله بَعَّدِ الله وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَريفًا". قوله: "مَن صام يومًا في سبيل الله تعالى بعَّدَ الله وجهَه عن النار سبعين خريفًا"؛ أي: سَنةً؛ يعني: مَن جمع بين تحمُّل مشقة الصوم ومشقة الغزو يكون له هذا التشريفُ، وهذا إذا اتفق الغزو في البلد، أما إذا كان في السفر فإن لم يَلحَقْه ضعفٌ يمنعُه عن الجهاد فالصومُ أفضلُ له من الإفطار، وإن لحقَه ضعفٌ فالإفطارُ أَولى. روى هذا الحديثَ أبو سعيد الخُدْري. * * * 1468 - وقال عبد الله بن عَمْرو بن العاص: قالَ لي رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَبْدَ الله!، أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تصُومُ النَّهارَ، وتقُومُ اللَّيْلَ؟ "، فقلتُ: بلَى يا رسُولَ الله، قال: "فلا تَفْعَلْ، صُمْ وأفْطِر، وقُمْ ونَمْ، فإن لِجَسَدِكَ علَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حقًّا، لا صامَ مَنْ صامَ الدَّهْرِ، صَوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّه، صُمْ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةُ، واقْرأ القُرآنَ في كُلِّ شَهْر"، قلت: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذلك، قال: "صُمْ أفْضَلَ الصَّوْم صَوْمَ داوُدَ، صيامُ يومٍ وإفْطارُ يومٍ، واقْرَأْ في كُلِّ سَبْعِ لَيالٍ مَرَّةً،

ولا تَزِدْ على ذلكَ". قوله: "تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ"؛ أي: تصوم النهارَ أبدًا وتقوم جميعَ الليل، ولا تنام. قوله: "إن لجسدِك عليك حقًّا وإن لنفسك عليك حقًّا"، (النفس): الدمُ، وعين الشيء، والنفس أيضًا بمعنى الجسد، ولعل المرادَ ها هنا بـ (النفس): الذات، وبـ (الجسد): اللحم؛ يعني: كلُّ شيءٍ من بدنك له عليك حقٌّ، فلا يجوز لك إضاعتُه وإضرارُه بحيث تعجز عن عبادة الله تعالى وقضاء الحقوق، فإن الصومَ الدائمَ يذيُب لحمَك ويُضعف قوتَك، ويَقل به نورُ عينك، وتعجز عن القيام بحقِّ زوجك من المضاجعة والمباشرة والمكالمة، وتعجز أيضًا عن المجالسة مع زَوْرِك والقيام بخدمتهم. و"الزَّور" جمع: زائر، وهو الضيف. قوله: "واقرأ القرآن في كل شهر"؛ أي: اقرأ كلَّ يومٍ وليلةٍ جزءًا من ثلاثين جزءًا حتى تختمَ كلَّ شهرٍ خَتمةً واحدةً. * * * 1470 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُعْرَضُ الأَعمالُ يومَ الإِثْنَيْنِ والخمِيسِ، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلي وأنا صائِمٌ". قوله: "تُعرَض الأعمالُ"؛ أي: تُعرَض الأعمالُ على ربِّ العالمين "يومَ الاثنين والخميس"، جاءت لفظة (رب العالمين) في حديث آخر. * * * 1472 - عن عبد الله قال: كان رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثلاثَةَ أَيَّامٍ، وقَلَّمًا كانَ يُفْطِرُ يومَ الجُمعةِ.

قوله: "وقلَّما كان يُفطر يومَ الجمعة"، تأويل هذا: أنه يصوم مع يوم الجمعة يومًا قبله أو يومًا بعده، حتى لا يكونَ التناقضُ بين هذا وبين نهيه عن صوم يوم الجمعة، أو نقول: هذا مختص برسول الله عليه السلام، كما كان الوِصالُ مختصًا به. * * * 1473 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ، والأَحَدَ، والإِثْنَيْنَ، ومِنَ الشَّهْرِ الآخر الثَّلاثاءَ، والأَرْبعاءَ، والخَمِيسَ". قول عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الشهر السبتَ والأحدَ والاثنين، ومن الشهرِ الآخرِ الثلاثاءَ والأربعاءَ والخميسَ": أراد رسولُ الله - عليه السلام - أن يبين سُنَّةَ صومِ جميعِ أيام الأسبوع؛ فصام من شهرٍ السبتَ والأحدَ والاثنين، ومن شهرٍ الثلاثاءَ والأربعاءَ والخميسَ، وإنما لم يَصُمْ جميعَ هذه الستةَ متواليةً لئلا يشقَّ على الأمة الاقتداءُ به، ولم يكن في هذا الحديث ذكرُ صوم يوم الجمعة، وقد ذُكر في حديثٍ آخرَ قبلَ هذا قولُ أمِّ سَلَمة: كان رسولُ الله - عليه السلام - يأمرُني أن أصومَ ثلاثةَ أيامٍ في كل شهرٍ، أولُها الاثنين أو الخميس؛ يعني: ثلاثةَ أيامٍ يكون أولُها الاثنين أو الخميس، فإن كان الاثنين تبتدئ بصوم يوم الاثنين وتصوم بعدَها الثلاثاءَ والأربعاءَ، وإن كان أولُها الخميسَ يبتدئ بصوم يوم الخميس وتصوم بعدَه يومَ الجمعةِ والسبتَ. * * * 1475 - عن مُسلِمٍ القُرَشي قال: سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيامِ الدَّهْرِ، قال: "صُم رَمَضَانَ، والذي يَلِيهِ، وكُلَّ أرْبعاءَ وخَمِيسٍ، فإذا أنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ".

قوله: "والذي يليه"؛ أي: يأتي بعده. * * * 1477 - عن عبد الله بن بُسْرٍ، عن أُخته: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصُومُوا يومَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا افْتُرِضَ علَيْكُمْ، فإنْ لمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ". قوله: "لا تصوموا يومَ السبت"، وجه كراهية صوم يوم السبت: أنَّه يومٌ يعظِّمه اليهود، فنُهينا عن أن نعظِّمه. "اللَّحاء": القِشْر. * * * 1478 - وقال: "ما مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلى الله أنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فيها مِنْ عَشْرِ ذي الحِجَّةِ، يَعدِلُ صِيامَ كُلِّ يَومٍ منها بصِيامِ سَنَةٍ، وقِيامُ كُلِّ لَيْلَةٍ منها بقِيامِ لَيْلَةِ القَدْرِ". قوله: "ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله تعالى أن يُتَعبَّد له فيها": ذُكر هذا الحديث في (باب العيد) في آخر (فصل الأضحية). * * * 1479 - وقال: "مَنْ صامَ يَومًا في سَبيلِ الله جعلَ الله بينَهُ وبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ". قوله: "جعلَ الله بينَه وبينَ النارِ خَنْدَقًا كما بين السماء والأرض"، حقيقة هذا مثل قوله: "الصومُ جُنَّة"؛ يعني: يصير صومُه خَنْدَقًا بينه وبين النار، فكما أن الرجلَ إذا كان بينه وبين عدوِّه خندقٌ لا يصلُ إليه عدوُّه، فكذلك الصائمُ لا تصل إليه النارُ.

فصل

روى هذا الحديثَ أبو أُمامة الباهلي. * * * 1480 - وقال: "الغَنِيمَةُ البارِدَةُ الصَّوْمُ في الشِّتَاءِ"، مرسلْ. قوله: "الغنيمةُ الباردةُ الصومُ في الشتاء"، (الغنيمة): التي تحصل بأدنى سعي من غير كثرة مشقة، ويُستعمل (البارد) في الشيء ذي الراحة، و (البَرد): الراحة، وإنما سُميت الراحةُ بردًا؛ لأن الحرارةَ غالبةٌ في ديار العرب، وماءَهم حارٌّ، فإذا وجدوا بردًا أو ماءً باردًا يعدُّونه راحةً؛ يعني: الصومُ في الشتاء يحصل الثوابُ به للصائم، ولم تَلحَقْه مشقةُ الجوع؛ لقِصَرِ اليومِ. روى هذا الحديثَ "عامر بن مسعود". * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل من الصحاح): 1481 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: دَخَلَ عليَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يَوْمٍ، فقال: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟ " فقلنا: لا، قال: "فإنِّي إذًا صائِمٌ"، ثُمَّ أَتانا يَوْمًا آخَرَ، فقُلْنا: يا رسُولَ الله!، أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ، فقال: "أَرِينِيهِ، فلَقَد أصْبَحْتُ صائِمًا"، فأَكَلَ. قوله: "فإني إذًا صائمٌ"؛ يعني: ما نويتُ الصومَ إلى هذه الساعة، فإذا لم يكن شيءٌ عندَكم آكلُه نَويتُ الصومَ، هذا دليلٌ على جواز نية صوم النافلة في أثناء النهار.

قولها: "أُهدِيَ لنا حَيْسٌ"؛ أي: أُرسل إلينا حَيْسٌ على سبيل الهدية، (الحيس): طعامٌ مخلوط من الزُّبْد والتمر. قوله: "فلقد أصبحتُ صائمًا"؛ يعني: نَويتُ الصومَ في أول هذا اليوم، فإذا كان عندَكم طعامٌ أوافقكم في الأكل، وهذا دليلٌ في جواز الخروج من صوم النافلة. * * * 1482 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: دَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّ سُلَيْمٍ، فأَتَتْهُ بتَمْرٍ وسَمْنٍ، فقال: "أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقائِهِ وتَمْرَكُمْ في وِعائِهِ فَإنِّي صائِمٌ"، ثُمَّ قامَ إلى ناحَيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعا لِأمِّ سُلَيْمٍ وأَهْلِ بَيْتِها. قوله: "فإني صائمٌ" في حديث أنس: هذا دليلٌ على أن مَن صامَ تطوُّعًا يجوز أن يصومَ ولا يلزمُه الإفطارُ إذا قُرِّبَ إليه طعامٌ، وإن أفطرَ يجوزُ؛ للحديث المتقدم، ولا قضاءَ عليه، وكذلك لو خرج من صلاة التطوُّع عند الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاءُ، سواءٌ خرج منها بعذرٍ أو بغيرِ عذرٍ. وقال مالك: لا قضاءَ عليه إن خرج بعذرٍ، ويلزمه القضاءُ إن خرج بغيرِ عذرٍ، والسُّنَةُ للضيف إذا كان صائمًا ولم يُفطِر أن يدعوَ للمُضيف، ولو صلَّى ركعتَين كان حسنًا، كما ذُكر في آخر هذا الحديث. * * * 1483 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلى طَعامٍ وهو صائِمٌ فَلْيَقُلْ: "إنِّي صائِمٌ". قوله: "إذا دُعِيَ أحدُكم إلى طعامٍ وهو صائمٌ فَلْيَقُلْ: إنِّي صائمٌ"، روى

هذا الحديثَ والذي بعده "أبو هريرة"، وفي هذَين الحديثَين دليلٌ على أن الصائمَ لا يفطر. وعند أبي حنيفة ومالك ظاهرٌ، وأما عند الشافعي وأحمد تأويله: أنه يُستحبُّ له إتمامُ الصوم، وليس بواجبٍ عليه، والضابطُ فيه عند الشافعي: أن الضيفَ ينظر؛ فإن كان المُضيفُ يتأذَّى بترك الإفطار فالأفضلُ للضَّيف الإفطارُ، وإن لم يتأذَّ فالأفضلُ ألا يفطرَ. * * * 1484 - وقال: "إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ فليُجِبْ، فإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ، وإنْ كانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ". قوله: "فَلْيُصلِّ"؛ قيل: معناه: فَلْيَدْعُ لصاحب الطعام، وقيل: معناه: ليصلِّ ركعتَين كما فعلَ رسول الله - عليه السلام - في بيت أمِّ سُلَيم. * * * مِنَ الحِسَان: 1485 - عن أُمِّ هانئٍ رضي الله عنها قالت: لمَّا كانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ جاءَتْ فاطِمَةُ، فَجَلَسَتْ عَنْ يَسارِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُمُّ هانِئٍ عَنْ يَمِينِه، فَجاءتِ الوَلِيدَةُ بإناءٍ فيه شرابٌ، فناوَلتْهُ، فشَرِبَ منهُ، ثُمَّ ناوَلَهُ أُمَّ هانِئٍ، فَشَرِبَتْ، فقالتْ: يا رسُولَ الله!، إنِّي كُنْتُ صائِمَةً، فقالَ لها: "أَكُنْتِ تَقْضينَ شَيْئًا؟ "، قالت: لا، قال: "أَنَذْرٌ عليكِ"، قالت: لا، قال: "فلا يَضُرُّكِ إنْ كانَ تَطَوُّعًا". وفي روايةٍ: "الصَّائَمُ المُتطوِّع أَمِيرُ نَفْسِه، إنُ شاءَ صامَ، وإنْ شاءَ أَفْطَرَ". قوله: "وفي رواية: الصائمُ المُتطوِّعُ أميرُ نفسه"، وفي رواية عند أم هانئ

أيضًا: أنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصائمُ المتطوِّعُ أمير نفسِه"؛ أي: هو حاكمٌ على نفسه، إن شاءَ أفطرَ وإن شاءَ صامَ. * * * 1486 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أنا وحَفْصَة صائِمَتَيْنِ، فعُرِضَ لنَا طَعامٌ اشْتَهَيْناهُ، فأَكَلْنا مِنْهُ، فقالَتْ حَفْصَةُ: يا رسُولَ الله!، إنَّا كُنَّا صائِمَتَيْنِ، فعُرِضَ لنا طَعامٌ اشْتَهَيْناهُ، فأَكَلْنا منهُ، قال: "اقْضيا يَوْمًا آخَرَ مَكانَهُ"، وهذا يُروى مُرسلًا على الأَصحَّ عن الزُّهريِّ عن عائشة رضي الله عنها. قوله: "اقضيَا يومًا آخرَ مكانَه"، قال الخطابي: هذا القضاءُ على سبيل التخيير والاستحباب؛ لأن قضاءَ شيءٍ يكون حكمُه حكمَ الأصل، وكما أن في الأصل كان الرجلُ فيه مخيَّرًا فكذلك في قضائه. * * * 1487 - عن أم عُمارَة بنت كَعْب: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الصَّائِمَ إذا أُكِلَ عِنْدَهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ حتَّى يَفْرُغُوا". قوله: "إن الصائمَ إذا أُكِلَ عندَه صلَّتْ عليه الملائكةُ حتَّى يفرغوا"، قصة هذا: أن رسولَ الله - عليه السلام - دخل على أُمِّ عُمَارة بنت كعب، فدَعَتْ أمُّ عُمارةَ بطعام لرسول الله عليه السلام، فدعاها رسولُ الله عليه السلام لتأكلَ هي أيضًا، فقالت: إني صائمٌ، فقال رسول الله عليه السلام: "إن الصائمَ إذا أُكِلَ عنده ... " إلى آخر هذا الحديث؛ تفريحًا لها بإتمام صومها؛ يعني: الصائمُ إذا رأى الطعامَ ورأى مَن يأكل الطعامَ عنده تَميلُ نفسُه إلى الطعام، فيكون الصيامُ عليه شديدًا في هذه الحالة، فمَن صبرَ على الصوم مع هذه المشقة "صلَّت عليه الملائكة"؛ أي: استغفروا له عِوَضًا عن هذه المشقة.

7 - باب ليلة القدر

و"أم عُمَارة" هي جدَّة حبيب بن زيد الأنصاري. * * * 7 - باب لَيْلَةِ القَدْر (باب ليلة القَدْر) مِنَ الصِّحَاحِ: 1488 - قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ". قوله: "تحرَّوا"؛ أي: اطلبوا. قوله: "في الوِتر"؛ أي: في ليالي الوِتر. "من العَشر الأواخر": مثل الحادي والعشرين، والثالث والعشرين ... إلى آخرها. * * * 1489 - وقال ابن عمر: إنَّ رجالًا مِنْ أصْحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيلَةَ القَدْرِ في المَنامِ في السَّبْعِ الأَواخِرِ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى رُؤْياكُمْ قد تَواطَأَتْ في السَّبْعِ الأَواخِرِ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأَواخِرِ". قوله: "أُرُوا" بضم الهمزة والراء، أصله: أُرِيُوا، فنُقلت ضمةُ الياء إلى الراء وحُذفت؛ لسكونها وسكون واو الجمع.

قوله: "قد تَواطَتْ في السَّبع الأواخر"، (تواطت): أصله: (تواطأت) بالهمز بعد الطاء، فقُلبت الهمزة ألفًا وحُذفت الألفُ؛ لسكونها وسكون التاء، ومعناه: توافقت؛ يعني: رأى جماعةٌ من الصحابة ليلةَ القَدْر في المنام، بعضُهم رآها في ليلة الثالث والعشرين، وبعضُهم في ليلة الخامس والعشرين، وكذلك جميعُهم رَأَوها في المنام في السَّبع الأواخر. سُمِّيت ليلةُ القَدْر بهذا الاسم؛ لأن معنى (القَدْر) عظيمُ الشأن والمنزلة، هذه الليلةُ عظيمةُ القَدْرِ والمنزلةِ، وقيل: سُميت هذه الليلةُ بليلة القَدْرِ؛ لِمَا يجري فيها من قضاء الله وقَدَره أكثر مما يجري سائرَ الليالي. * * * 1490 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْتمِسُوا في العَشْرِ الأواخِرِ في رمَضانَ لَيْلَةَ القَدْرِ في تاسِعةٍ تَبْقَى، في سابعةٍ تَبْقَى، في خامِسَةٍ تَبْقَى، في ثالِثَةٍ تَبْقَى". قوله: "التَمِسُوا"؛ أي: اطلبوا. * * * 1491 - عن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتكَفَ العَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فقال: إنِّي "اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوْسَطَ، ثْمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لي: إنَّهَا في العَشْرِ الأَواخِرِ، فَمَنْ كانَ اعْتَكَفَ مَعي فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَواخِرَ، فقدْ أُريتُ هذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُها، وقدْ رَأَيْتُني أَسْجُدُ في ماءٍ وطِينٍ مِنْ صَبيحَتِها، فالْتِمِسُوها في العِشْرِ الأَواخِرِ، والْتَمِسُوها في كُلِّ وِتْرٍ"، قال: فَمَطَرَتِ السَّماءُ تِلكَ اللَّيْلَة، وكانَ المسجِدُ على عَرِيشٍ، فَوَكَفَ المسجِدُ،

فَبَصُرَتْ عَيْنايَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الماءِ والطِّينِ من صَبيحَةِ إحْدَى وعِشْرِين. قوله: "اعتَكَفَ العَشْرَ الأولَ من رمضانَ ... " إلى آخره، (الاعتكاف): الإقامة في المسجد بنية الاعتكاف، ولا يصح من غير نية، ولا يصح إلا في المسجد، سواءٌ فيه مسجد الجامع وغيره عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك. وقيل: يصحُّ اعتكافُ المرأة في بيتها، ويصحُّ الاعتكافُ بغير صومٍ عند الشافعي، ولا يصحُّ عند أبي حنيفة ومالك. قوله: "فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ"؛ أي: في قُبَّةٍ من لِبْدٍ. قوله: "ثم أُتيتُ"؛ يعني: قال لي قائلٌ من الملائكة: إن ليلةَ القَدْر في العَشر الأواخر لا في العَشر الأول والأوسط، فعَزَمتُ على أن أَعتكفَ في العَشر الأواخر لا في العشر الأول؛ فمَن أراد موافقتي فَلْيُوافِقْني في اعتكاف العَشر الأواخر. قوله: "فقد رأيتُ هذه الليلةَ ثم أُنسيتُها"؛ يعني: رأيتُ هذه الليلةَ مرارًا ثم أُنسيتُها، ولعل الحكمةَ في نسيانه - عليه السلام - ليلةَ القَدْر: أنَّه لو لم يَنْسَها لأَخْبَرَ الناسَ بها، وإذا أَخْبَرَ الناسَ بها فربما يُواظب جماعةٌ على تعظيم ليلة القَدْر، ويغترُّون بكثرة ثوابهم في إحياء تلك الليلة ويتركون تعظيمَ باقي الليالي والأيام، فأخفاها الله تعالى ليُعظِّمَ الناسُ لياليَ رمضانَ أو لياليَ العَشر الأواخر من رمضانَ لطلب ليلة القَدْر. قوله: "وقد رأيتُني أسجدُ في ماءٍ وطينٍ من صبيحتها"؛ يعني: رأيتُ ليلةَ القَدْر في المنام، ورأيتُ في المنام أيضًا أني أَسجدُ في صبيحةِ ليلةِ القَدْر على أرضٍ رطبٍ، فنُسِّيتُ أيةَ ليلةٍ كانت. قال أبو سعيد: فبَصُرَتْ عيناي جبهةَ رسول الله - عليه السلام - ملطخةً

بالطين صبيحةَ الحادي والعشرين؛ لأن المسجدَ كان من أغصان الشجر، و"مَطَرَتِ السماءُ تلك الليلةَ"، ورطبت أرض المسجد؛ يعني: الليلةُ التي رآها رسولُ الله - عليه السلام - في المنام أنها ليلةُ القدر هي ليلةُ الحادي والعشرين. و"العَرِيش": بيتٌ من أغصان الشجر، "وَكَفَ": أي: قَطَرَ ونَزَلَ الماءُ من السقف. * * * 1492 - وعن عبد الله بن أُنَيْس قال: أَمَرَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يقُومَ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ. قوله: "ليلةَ ثلاثٍ وعشرين"؛ أي: قال عبد الله بن أُنَيْس: إن ليلةَ القَدْر هي ليلةُ ثلاثٍ وعشرين. * * * 1493 - وعن أُبيِّ بن كَعْب: أنَّه حَلَفَ لا يَسْتَثْني أنَّها ليلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ، فقِيلَ لهُ: بأَيِّ شَيءٍ تقُولُ ذلك؟، قال: بالعلامَةِ التي أَخْبَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِها بَيْضاءَ لا شُعاعَ لها". قوله: "لا يستثني"، (الاستثناء): أن يقول الحالفُ عَقيبَ حَلِفِه: (إن شاء الله)؛ يعني: حَلَفَ أُبي بن كعب حلفًا جازمًا أن ليلةَ القَدْر هي ليلةُ السابع والعشرين. * * * 1494 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأَواخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غَيْرِه.

قولها: "يجتهد في العَشْر الأواخر"؛ يعني: يُبالغ في طلب ليلة القَدْر في العَشْر الأواخر أكثرَ مما يُبالغ في غيرهن من الليالي. * * * 1495 - وقالت: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مَئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ. قولها: "إذا دخل العَشْر"؛ أي: العَشْر الأواخر من رمضان. قولها: "شدَّ مِئْزَرَه"، (شد الإزار): عبارة عن الجد والمبالغة في الأمر، وهو عبارة أيضًا عن ترك المجامعة. قولها: "وأَيقظَ أهلَه"؛ أي: أَيقظَ أهلَه للعبادة وطلب ليلة القَدْر في العَشْر الأواخر. * * * مِنَ الحِسَان: 1497 - وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ، فقال: "هيَ في كُلِّ رَمَضانَ"، ووقفَه بعضُهم على ابن عُمر. قوله: "هي في كل رمضان"؛ يعني: ليلة القَدْر ليست مختصةً بالعَشْر الأواخر من رمضان، بل كلُّ ليلةٍ من شهر رمضانَ يمكن أن تكون ليلةَ القَدْر، ولهذا لو قال أحدٌ لامرأته في نصف رمضان أو غيرها من ليالي رمضان: أنتِ طالقٌ في ليلة القَدْر، لا تَطلُقُ حتَّى يأتيَ رمضانُ السَّنةِ القابلةِ، فتَطلُق في الليلة التي علَّق فيها الطلاقَ. * * *

8 - باب الاعتكاف

1498 - عن عبد الله بن أُنَيْس - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ الله!، إنَّ لي بادِيَةً أكُونُ فيها، وأنا أُصلِّي فيها بِحَمْدِ الله، فمُرْني بلَيْلَةٍ مِنْ هذا الشَّهْرِ أنْزِلُها إلى هذا المسْجِدِ، قال: "انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِين"، قال: فكانَ إذا صلَّى العَصْرَ دخلَ المسجِدَ فلَمْ يَخْرُجْ إلَّا في حاجَةٍ حتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ. قوله: "إن لي بادية"؛ يعني: أنا ساكنٌ لبادية، وأصلِّي فيها، ولكن أريدُ أن أعتكفَ في مسجدٍ في ليلةٍ من ليالي رمضان. قوله: "انزلْ ليلةَ ثلاث وعشرين"، هذا إشارةٌ إلى أن هذه الليلةَ ليلةُ القدر. * * * 8 - باب الاعتِكاف (باب الاعتكاف) مِنَ الصِّحَاحِ: 1501 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضانَ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضانَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القُرْآنَ، فإذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كانَ أَجْوَدَ بالخَيْرِ مَنَ الرِّيحِ المُرْسَلَة. قوله: "أجود الناس"؛ أي: أكثرهم جُودًا وسَخاوة. قوله: "فكان أجود ما يكون في رمضان": (ما) في (ما يكون) مصدرية، وهو جمع؛ لأن أفعل التفضيل إنما يُضافُ إلى جمع، والتقدير: فكان أجودَ أكوانِهِ في رمضان؛ يعني كان رسولُ الله - عليه السلام - في رمضان أكثرَ جودًا منه

في سائر الشهور؛ لأن الوقتَ إذا كان أشرفَ يكون الجودُ فيه أفضلَ. قوله: "كان جبريلُ يلقاه كلَّ ليلة في رمضان"؛ يعني: ينزل جبريلُ عليه السلام في رمضان كلَّ ليلة يقرأ عليه رسول الله - عليه السلام - القرآن، وهذا تشريفٌ من الله الكريم إليه عليه السلام؛ لأن الله تعالى يكثرُ تشريفَ عباده المقربين في الأوقات الشريفة، ونزول جبريل - عليه السلام - كل ليلة من رمضان لا شكَّ أنَّه مزيدُ تشريفٍ له. "من الريح المرسلة"؛ أي: الشديدة؛ يعني: كان كثير التصدق. * * * 1502 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ يُعْرَضُ عَلَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القُرْآنُ كُلَّ عامٍ مَرَّةٍ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ في العامِ الَّذي قُبضَ فيهِ، وكانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عامٍ عَشْرًا، فاعْتكَفَ عِشْرِينَ في العامِ الَّذي قُبضَ. قوله: "يُعرَض عليه القرآنُ كلَّ عام مرة"؛ يعني: يأتيه جبريلُ، ويقرأ رسولُ الله - عليه السلام - القرآنَ عليه من أوله إلى أن يختم؛ لتجويدِ اللفظ، وتصحيحِ إخراج الحروف من مخارجها، وليكونَ سنةً في حق الأمة؛ ليجدد التلامذة على الأستاذين قراءتهم. * * * 1503 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَكَفَ أَدْنَى إليَّ رَأْسَهُ وهو في المسْجِدِ فأُرَجِّلُهُ، وكانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلَّا لِحاجَةِ الإِنْسانِ. قولها: "أدنى إليَّ رأسَه وهو في المسجد، فأرجِّله"، (الترجيل): تسريح الشعر، وهو استعمالُ المشطِ على الرأس؛ يعني: يخرج رأسه من المسجد إلى

حجرتي، فأسرِّحُ شعرَ رأسه، وهذا دليلٌ على أن الاعتكافَ في المسجد، وعلى أن المعتكف لو أخرجَ بعضَ أعضائه من المسجد لا يبطلُ اعتكافُهُ. قولها: "وكان لا يدخلُ البيتَ إلا لحاجة الإنسان"، هذا دليلٌ على أن المعتكفَ إذا خرج من المسجد لِمَا لا بدَّ له منه، كالأكل والشرب ودخول المستراح، لا يبطلُ اعتكافه، وإن خرج لِمَا له منه بدٌّ بطلَ اعتكافُهُ إن نوى أيامًا متتابعة، ويلزمه الاستئنافُ، وإن لم يذكر أيامًا، بل اعتكفَ من غير تعيين المدة، فإذا خرج حصلَ له ثوابُ الوقت الذي اعتكف، ثم إذا دخل المسجدَ بعد الخروج، يستأنفُ النية. * * * 1504 - ورُوي عن عمر - رضي الله عنه -: أنَّه سَأَلَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كُنْتُ نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتكِفَ لَيَلْةً في المسْجِدِ الحَرامِ، قال: "فأوْفِ بنذْرِك". قوله: "فأوفِ بنذرِكَ"، هذا دليلٌ على أنَّ الكافرَ لو نذر في حال الكفر بما يجوزُ نذرُهُ في الإسلام صحَّ نذرُهُ، ويلزمه الوفاءُ به إذا أسلمَ، وكذلك لو حلفَ أو ظاهرَ في حال الكفر، وحنث في حال الكفر أو بعد الإسلام، لزمته الكفارةُ عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ نذرُ الكافر ولا يمينه ولا ظهاره. * * * مِنَ الحِسَان: 1505 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَعْتكِفُ في العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ عامًا، فَلَمَّا كانَ العامُ المُقْبلُ اعْتكَفَ عِشْرِينَ.

قوله: "فلم يعتكفْ عامًا، فلمَّا كان العامُ المقبل اعتكفَ عشرين"، هذا دليلٌ على استحبابِ قضاءِ ما فاتَ من السُّنن. * * * 1507 - وعن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَرادَ أنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الفِجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ في مُعْتَكَفِهِ. قولها: "كان رسولُ الله - عليه السلام - إذا أرادَ أن يعتكفَ صَلَّى الفجرَ، ثم دخلَ في مُعْتَكَفِهِ". (المُعتكَف) بفتح الكاف: موضع الاعتكاف. فمن أراد أن يعتكف يومًا أو أكثر يدخل المسجدَ في أول صبح ذلك اليوم عند أحمد بدليل هذا الحديث، وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: يدخل المسجد قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكفَ في اليوم الذي بعدها. فمن أرادَ أن يعتكفَ العشرَ الأواخرَ من رمضان، يدخلُ المسجد في قول هؤلاء الثلاثة قبل غروب الشمس من يوم العشرين، وفي قول أحمد: يدخلُ بعد الصبح في يوم الحادي والعشرين. * * * 1506 - وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعُودُ المَرِيضَ وهو مُعْتَكِفٌ، فيَمُرُّ كما هُو ولا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ. قولها: "كان رسولُ الله - عليه السلام - يعودُ المريضَ وهو معتكف، فيمرُّ كما هو، فلا يعرِّجُ يسألُ عنه". (التعريج): الإقامة والميل عن الطريق إلى جانب؛ يعني: إذا خرجَ لقضاء

حاجةٍ، ورأى مريضًا في طريقه يسألُهُ، ولا ينحرفُ عن الطريق إلى جانب لعيادة المريض، فمن عادَ مريضًا أو صلَّى على جنازة وهو معتكف، فإن خرج لقضاء حاجة، واتفقَ له هذا الشغلُ في طريقه، ولم ينحرفْ عن الطريق، ولم يقفْ في الطريق وقوفًا أكثرَ من قدر الصلاة على الميت، لم يبطل اعتكافه، وإن انحرفَ عن الطريقِ، أو وقفَ في الطريق أكثر من قدر صلاة جنازة، بطلَ اعتكافُهُ عند الأئمة الأربعة، وقال الحسن البصري والنخعي: يجوز للمعتكف الخروج لصلاة الجمعة، وعيادة المريض، وصلاة الجنازة. * * * 1508 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: السُّنَّةُ عَلَى المُعْتكِفِ أنْ لا يَعُودَ مَرِيضًا، ولا يَشْهَدَ جنازَةً، ولا يَمَسَّ المَرْأَةَ، ولا يُباشِرَها، ولا يَخْرُجَ لَحاجَةٍ إلَّا لِمَا لا بُدَّ منه، ولا اعْتِكافَ إلَّا بصَوْمٍ، ولا اعْتِكافَ إلَّا في مَسْجِدٍ جامِعٍ. قولها: "السنةُ على المعتكفِ أن لا يعودَ مريضًا"؛ يعني: الدين والشرع أوجبَ على المعتكف أن لا يخرجَ من المسجد لعيادة المريض أو صلاة جنازة. "ولا يشهد"؛ أي: ولا يحضر. "ولا يمسَّ المرأة"؛ يعني: ولا يمسها بشهوةٍ. "ولا يباشرها"؛ أي: ولا يجامعها، فإن جامعَ المعتكفُ بطلَ اعتكافه، وإن مسها بشهوة؛ ففي قول: بطل اعتكافه، وفي قول: لا يبطل اعتكافه، وفي قول: إن أنزل بطل، وإن لم ينزل لم يبطل، هذه الأقوال للشافعي، وأما عند أبي حنيفة: إن أنزل بطل، وإن لم ينزل لم يبطل. ° ° °

8 - كتاب فضائل القرآن

8 - كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ

[8] كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ (كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ) قوله: "الفضائل": جمع فضيلة، وهي الشيء الذي يفضل به الرجل على غيره، يقال: لفلان فضيلةٌ؛ أي: خصلةٌ حميدةٌ وشرفٌ وفضلٌ على غيره. يبينُ في هذا الباب فضلَ القرآن على سائر الكلام، وفضلَ تعليمه وتعلمه على تعليم وتعلم غيرِهِ من الكلام. مِنَ الصِّحَاحِ: 1509 - روى عُثمان: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَه". قوله: "خيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه"؛ يعني: إذا كان خيرُ الكلامِ كلامَ الله، فكذلك خيرُ الناس بعد النبيين مَنْ تعلَّم ويعلِّمُ كلامَ الله. روى هذا الحديث عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه -. * * * 1510 - وقال: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنْ يَغْدُوَ كُلَّ يومٍ إلى بُطْحانَ أَوْ العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ بناقَتَيْنِ كَوْماوَيْنِ في غَيْرِ إثْمٍ ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟ "، قالوا: يا رسُولَ الله!، كُلُّنا يُحِبُّ ذلك، قال: "فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إلى المَسْجدِ فَيَعْلَمَ أو يَقْرَأْ آيَتَيْنِ مِنْ

كِتابِ الله تعالى خَيْرٌ لهُ مِنْ ناقَتَيْنِ، وثَلاثٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثٍ، وأَرْبَعٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ أرْبَعٍ ومِنْ أَعْدادِهِنَّ مِنَ الإِبلِ". قوله: "أَيُّكم يحبُّ أن يغدوَ كل يوم إلى بُطْحانَ والعقيق"، (بطحان) و (العقيق): موضعان قريبان من المدينة، والعقيقُ الذي هو هذا غيرُ العقيق الذي هو ميقاتُ أهل الشرق قريبٌ من ذات عرق. "كَوْمَاوَين": تثنية: كَوْماء، وهي الناقةُ العظيمةُ السَّنام. "في غيرِ إثمٍ ولا قطعِ رحمٍ"؛ يعني: يجد ناقتين عظيمتين من غير سرقةٍ، ولا غصبٍ، ولا إيذاءِ قريبٍ له. قوله: "وثلاث خير من ثلاث"؛ يعني: وثلاثُ آياتٍ خيرٌ من ثلاث من الإبل، وأربعُ آيات خيرٌ من أربع من الإبل. قوله: "ومن أعدادِهنَّ من الإبل"، (من الإبل) بدل من (أعدادهن) أو بيان له؛ أي: من أعداد من الإبل، وهذا يتعلَّقُ بقوله: اثنين، وبقوله: ثلاث، وبقوله: أربع آيات؛ يعني: آيتان خيرٌ من عدد كثير من الإبل، وثلاث آيات وأربع آيات خيرٌ من عدد كثير من الإبل؛ لأن قراءةَ القرآن تنفعُ الرجل في الدنيا والآخرة بأن يُحفَظَ ببركته من البلاء في الدنيا، ويُعطَى الجنة في الآخرة، وأما الإبل فمتعلقة بتمتُّع الدنيا، والآخرةُ خيرٌ وأبقى. روى هذا الحديث: عقبةُ بن عامر. * * * 1511 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ أنْ يَجدَ فيهِ ثلاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سمَانٍ؟ "، قلنا: نَعم، قال: "فثَلاثُ آياتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ في صَلاتِهِ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثِ خَلِفَاتٍ عِظامٍ سمَانٍ".

قوله: "أن يَجِدَ فيه"؛ أي: في طريقه. "الخَلِفَات": جمع خَلِفة، وهي الناقة الحامل. * * * 1512 - وقال: "المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، والذي يَقْرِأُ القُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فيهِ وهو عليهِ شاقٌّ لهُ أجْرانِ". قوله: "الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرامِ البَرَرَة"، (الماهر): الحاذق، يحتمل أن يريد به: جودةَ الحفظ والمهارةَ في القرآن، ويحتمل أن يريد به: جودةَ اللفظ وإخراجَ كلِّ حرف من مخرجه. (السَّفَرة): جمع سافر، وهو الكاتب والمصلح بين القوم؛ فإن كان من السِّفْر بمعنى: الكَتَبَةِ، يريد به: الملائكة الذين يكتبون أعمال العباد، وإن كان من السَّفْر الذي هو بمعنى: الإصلاح، يريد به: الملائكة الذين ينزلون بأمر الله فيما فيه مصلحةُ العباد، كحفظِهم عن الآفات، ودفعِهم عن المعاصي، وإلقاءِ الخير في قلوبهم. (الكِرام): جمع كريم، و (البَرَرة): جمع بار، وهو المحسنُ. يعني: من كان كاملًا في حفظ القرآن وقراءته فهو مع هؤلاء الملائكة: ومناسبة كونه مع هؤلاء الملائكة: أن هؤلاء الملائكة يكونون كاملين بحفظ الإنسان من الآفات بأمر الله وبحفظ أعمالهم من الخير والشر، فيكون بين الماهر بالقرآن وبين هؤلاء الملائكة مشابهةٌ في جودة الحفظ. قوله: "والذي يقرأُ القرآنَ، ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ، فله أجران". تَعْتَعَ لسانُهُ: إذا توقَّفَ على الكلمات وعثرَ لسانُهُ؛ أي: الذي لا يطيعه لسانه في القراءة له أجران؛ أجرُ القراءة وأجرُ تحمل المشقة.

فإن قيل: ذكر للمتعتع لسانه أجرين، ولم يذكر للماهر أجرين، فلزم من هذا أن يكون المتعتعُ أفضلَ من الماهر. قلنا: لا يلزم هذا؛ لأن رسول الله - عليه السلام - ذكر لكلِّ واحد فضيلةً؛ ليكون تحريضًا له على القراءة، فذكر للمتعتع حصول أجرين، وذكر للماهر كونه مع السفرة، فكون الرجل مع السفرة لا ينقص من حصول أجرين. روت هذا الحديث عائشة. * * * 1513 - وقال: "لا حَسَدَ إِلَّا في اثْنَتَيْنِ: رجُلٌ آتاهُ الله القُرْآنَ، فهو يَقُومُ بهِ آناءِ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجُلٌ آتاهُ الله مالًا فهو يُنْفِقُ منهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ". قوله: "لا حسدَ إلا على اثنين"، الحسد هنا بمعنى: الغبطة؛ لأن الحسدَ أن يتمنَّى الرجلُ زوالَ النعمة من أحد، وهذا لا يجوزُ في الشرع. والغبطةُ: ألَّا يتمنَّى زوالَ النعمة من أحد، ولكن يتمنَّى أن يكون مثله، وهذا جائزٌ في الشرع؛ يعني: لا ينبغي للمسلم أن يكون مثلَ صاحبِ نعمةٍ في النعمة إلا أن تكونَ تلك النعمةُ تقرِّبه إلى الله، كتلاوة القرآن، والتصدق بالمال، وغيرهما من الخيرات. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 1514 - وقال: "مثَلُ المُؤْمِن الَّذي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ ريحُها طَيبٌ وطَعْمُها طَيبٌ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِيحَ لها وطَعْمُها حُلْوٌ، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنَظَلَةِ لَيْسَ لَها ريحٌ وطَعْمُها مُرٌّ،

وَمَثَلُ المُنافِقِ الَّذي يَقَرْأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحانَةِ ريحُها طَيَّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ". وفي روايةٍ: "المُؤْمِنُ الَّذي يَقْرأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالأُتْرُجَّة، والمُؤْمِنُ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالتَّمْرَة". قوله: "مثلُ المؤمِنِ الَّذي يقرأُ القرْآنَ ... " إلى آخره؛ يعني: الأُتْرجَّةُ طعمها طيب وريحها طيب، فالمؤمنُ الذي يقرأ القرآن هكذا من حيثُ إن الإيمانَ في قلبه ثابتٌ طيب الباطن، ومن حيث إنـ[ـه] يقرأُ القرآن، ويستريحُ الناسُ بصوته، ويَجِدون الثوابَ بالاستماع إليه، ويتعلمون القرْآنَ منه = مثلُ رائحة الأترجة يستريح الناس برائحتها. والمؤمنُ الذي لا يقرأُ القرآن طيبٌ باطنُهُ وذاتُهُ بالإيمان، ولكن لا يستريحُ الناسُ بقراءته القرآنَ، وهو كالتمرِ، طعمُهُ حلوٌ، وليس له رائحةٌ يستريحُ الناسُ بها من البُعدِ. ومثل المنافق الذي لا يقرأُ القرآنَ كمثل الحنظلة؛ لأن باطنَهُ خبيثٌ بكتمانه الكفرَ، ولا يحصل من ظاهره خيرٌ لأحد. والمنافقُ الذي يحصل منه راحةٌ إلى الناس باستماعهم القرآن منه كمثل رائحةِ الريحانةِ، ولكنَّ باطنَهُ خبيثٌ بكتمان الكفر، كطعم الريحانة. روى هذا الحديث أبو موسى الأشعريُّ. * * * 1515 - وقال: "إنَّ الله تعالى يَرْفَعُ بهذا الكَتابِ أقْوامًا ويَضَعُ بهِ آخَرِين". قوله: "إن الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرين"؛ يعني: من آمنَ بالقرآن وعظَّم شأنَهُ وعمل به، يرفع الله درجته في الآخرة، ويرزقه عزة وشرفًا، ومن

لم يؤمن به أو لم يعمل به أو لم يعظِّم شأنَه، يذلُّه الله تعالى في الدنيا والآخرة. روى هذا الحديث عمرُ بن الخطاب. * * * 1516 - وعن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: أنَّ أُسَيد بن حُضَيرٍ بَيْنَما هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مربُوطٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتْ الفَرَسُ، فسكَتَ فسَكَنَتْ، فقَرَأَ فجَالَتْ، فسَكَتَ فسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فجالَتْ، فلمَّا أصْبَحَ حَدَّثَ بهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فَرَفَعْتُ رأْسي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلةِ فيها أَمْثالُ المَصَابيحِ عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى لا أَراها، قال: "تلكَ المَلائِكةُ دَنَتْ لِصَوتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها لا تَتَوارَى مِنْهُم". قوله: "إذ جَالت الفرسُ"، (جالت)؛ أي: تحرَّكت؛ يعني: رأت الفرسُ الملائكةَ الذين نزلوا واستمعوا إلى القرآن، فنفرت الفرسُ خوفًا. "فسكت فسكنت" يحتمل أن يكون تحرُّكُ الفرس عند القراءة لدنوِّ الملائكة، وسكونُ الفرس عند سكوته عن القراءة لعروج الملائكة إلى الهواء حين ترك القارئ القراءة، فسكنت الفرسُ إذا بعدت الملائكة. ويحتمل أن يكون تحركُ الفرس عند سماع القراءة؛ لوجدانها ذوقًا وراحة من سماع القراءة، فتتحرَّك لذلك الذوقِ، وإذا سكت القارئُ تسكن الفرس؛ لذهاب ذلك الذوق منها، كقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. قوله: "فإذا مِثلُ الظُّلةِ فيها أمثالُ المصابيح"، (الظلة): ما يقي الرجلَ من الشمس مثل سحابٍ أو سقفٍ وغير ذلك، والمراد: مثل سحابة "فيها أمثالُ المصابيح"، وكانت تلك المصابيح ملائكة، يظهر نورُ كلِّ ملكٍ للقارئ مثل مصباح.

قوله: "ولو قرأت به ... " إلى آخره؛ يعني: لو لم تسكتْ لَمَا ذهبت الملائكةُ، فإذا أصبحتَ ينظرُ الناس إلى الملائكةِ الذين جاؤوا لاستماعِ قراءتك. "لا تَتوارَى"؛ أي: لا تستتِرُ من أبصار الناس، الضمير في "إليها" يعود إلى الظلة. * * * 1517 - عن البَرَاء - رضي الله عنه - قال: كانَ رجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وإلى جانِبهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ، فتَغَشَّتْه سَحابةٌ، فجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو، وجَعَلَ فرَسُهُ تَنْفِر، فلمَّا أَصْبَحَ أتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَ ذلك لهُ فقال: "تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآنِ". قوله: "وإلى جانبه حصان"، (الحصان): الفرس الذكر. "بشَطَنَينِ" بفتح الطاء؛ أي: بحبلين. "فتغشَّته سحابةٌ"؛ أي: سترته؛ أي: وقفت فوق رأسه كقطعةِ سحابٍ. "فجعلَتْ"؛ أي: فطفقت تلك السحابةُ "تدنو"؛ أي: تقرب من العلو إلى السفل؛ لسماع قراءة القرآن. "السكينة" هنا يراد به: ملك الرحمة. * * * 1518 - عن أبي سَعيد بن المُعَلَّى - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ أُصَلِّي، فدَعاني النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ أُجِبْه حتَّى صَلَّيْتُ، ثمَّ أتَيْتُ، فقال: "ما مَنَعَكَ أَنْ تَأتِيَني؟ "، فقلتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فقال: "أَلَمْ يَقُلِ الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، ثُمَّ قال: "أَلا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِنَ المسْجِدِ؟ "،

فأخَذَ بِيَدي، فلمَّا أَرَدْنا أنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يا رسُولَ الله!، إنَّكَ قُلتَ: "ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُوَرةٍ في القُرْآنِ"، قال: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هيَ السَّبْعُ المَثاني، والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذي أُوتِيتُهُ". قوله: "ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، هذا دليلٌ على أن إجابةَ الرسولِ إذا دعا أحدًا في الصلاة لا تُبْطِلُ الصلاةَ، كما أنك تخاطب الرسولَ في الصلاة تقول: سلام عليك أيها النبي، ولا يجوز هذا مع غيره عليه السلام. قوله: "أعظم سورة"، سمَّى الفاتحة أعظم سورة؛ لأن فيها ذكر حمد الله، وذكر رحمانيته ورحيميته، وذكر تفرُّدِهِ بالملك، وذكر عبادة العباد إياه، وذكر استعانتهم إياه، وذكر سؤال العباد منه، وهذه الأشياءُ عظيمةٌ عند الله تعالى، وليس فيها شيءٌ من قصص الأمم وذكر الكفار، وليس سورةٌ بهذه الصفة غيرَهَا. قوله: "هي السبع المثاني"، سمَّاها السبع؛ لأنها سبع آيات، وسمَّاها المثاني؛ لأنها كررت في الصلاة في كلِّ ركعة مرة. وقيل: (المثاني): جمع المَثْنَى، وهو بمعنى الثناء، كـ (المحمدة) بمعنى: الحمد، سميت المثاني على هذا القول؛ لِمَا فيها من الثناء على الله تعالى. * * * 1519 - وقال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذي يُقْرأُ فيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ". قوله: "لا تجعلوا بيوتَكم مقابرَ"؛ يعني: لا تتركوا بيوتَكم خاليةً من تلاوة

القرآن، بل اقرؤوا في بيوتكم القرآنَ؛ فإن كلَّ بيت لا يُقرَأ فيه القرآن يشبه المقابرَ في عدم قراءة القرآن. "إن الشيطانَ ينفِرُ من البيت الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة"، خصَّ سورة البقرة بفِرارِ الشيطان من البيت الذي تُقرَأ فيه؛ لطولها، وكثرة الأحكام الدينية، وكثرة أسماء الله تعالى العظيمة فيها. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1520 - وقال: "اقْرَأُوا القُرْآنَ، فإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ شَفِيعًا لِأصْحابهِ، اقْرأُوا الزَّهْراوَيْن: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَوْمَ القِيامَةِ كأنَّهُما غَمامَتانِ أو غَيايَتانِ أو فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ أَصْحابهِما، اقْرأُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا يَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ". قوله: "اقرأوا الزهراوين"، (زهراوين): تثنية زهراء، والزهراء: تأنيث أزهر، والأزهرُ: المضيءُ شديد الضوء، سمَّى البقرة وآل عمران الزهراوين؛ لأنهما نوران، ولا شكَّ أن نورَ كلام الله أشدُّ وأكثرُ ضياء، وكلُّ سورة من سور القرآن زهراءُ؛ لما فيها من نورِ بيانِ الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاءِ الصدورِ وتنويرِ القلوب وتكثيرِ الأجر لقارئها. قوله: "كأنَّهما غَمامتان أو غيايتان أو فِرْقانِ من طيرٍ صواف تحاجَّانِ عن أصحابهِما"، (الغمامة): السحابة. (الغياية): بياءين المنقوطة من تحتها بنقطتين، وهي ظلُّ السحاب. (الفِرْق): جماعة من الطير. (صوافَّ): جمع صافة، وهي الجماعة التي تقف على الصفِّ، وجماعة

الطير ترفع أجنحتها بعضها بجنب بعض. (الطير): جمع طائر، وقد يُستعمَل الطير على الواحد. و (أو) في (أو غيايتان أو فرقان) يحتمل أن تكون للشك من الراوي، ويحتمل أن تكون للتخيير في تشبيهِ هاتين السورتين بغمامتين أو غيايتين أو فِرقين؛ يعني: إن شئتَ شبههما بغمامتين، وإن شئتَ شبههما بغيايتين، وفِرقين من الطير، يجيئان فوق رأس قارئهما يوم القيامة تُظِلانه عن حرِّ الشمس يومئذ. قوله: "تحاجَّان عن أصحابهما"؛ يعني: تدفعان الجحيم والزبانية والأعداء عن الذين قرؤوهما في الدنيا، وتشفعان لهم عند الله، وجعلُ صورتِهِما كالغمامتين يحتمل أن يكون لها عظمةٌ وخوفٌ في قلوب أعداء قارئهما. قوله: "ولا يستطيعها البَطَلَةُ"، (البطلة): جمع باطل، والباطل: ضد الحق، والباطل: الكسلان، يحتمل أن يكون معناه: لا يقدر الكسلان أن يتعلمَ سورة البقرة لطولها، ويحتمل أن يكون معناه: أن أهل السحر والباطل لا يجدون التوفيقَ لتعلُّمها ودِرايتها. روى هذا الحديث بُريدةُ. * * * 1521 - وقال: "يُؤْتى بالقُرْآنِ يومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الذينَ كانُوا يَعْمَلُونَ بهِ تَقْدُمُهم سُورَةُ البَقَرَةِ وآلُ عِمْرانَ، كأنَّهما غَمامَتانِ أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بَيْنَهُما شَرْقٌ، أو كأَنَّهُمَا فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ صاحِبهِما". قوله: "يُؤتَى بالقرْآن يومَ القيامة وأهلِهِ الذين كانوا يعملونَ به"، هذا إعلامٌ بأنَّ من قرأ القرآن ولم يعملْ به - أعني: لا يحرِّمُ حرامَهُ، ولا يحلِّلُ حلاله، ولا يعتقد عظمته وحرمته - لم يكن القرآن شفيعًا له يوم القيامة، وليس له حظٌّ من تلاوته.

قوله: "تقدمُهُ سورةُ البقرة وآل عمران"؛ يعني: يجعل الله للقرآن صورةً تجيء يوم القيامة بحيث يَراه النَّاسُ؛ ليشفع لقارئه، كما يجعل الله لأعمالِ العباد خيرِها وشرها صورةً تُوضَعُ في الميزان بحيث يراه الناسُ، ويقبلُ المؤمنُ هذا بالإيمان؛ لأنه ليس للعقل إلى مثل هذا سبيلٌ. وقوله: "تقدمه سورة البقرة" هذا يدلُّ على أنَّ هاتين السورتين أعظمُ من غيرهما؛ لأنهما أطولُ، والأحكام فيهما أكثرُ. قوله: "كأنهما غمامتان أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شرقٌ"، (الشرق) بسكون الراء: الضوءُ والانفراجُ؛ يعني: بينهما فاصلة من الضوء، يحتمل أن تكون هذه الفاصلةُ بينهما لتمييزِ إحدى السورتين من الأخرى، كما فُصِل بين السورتين في المصحف بالتسمية. قيل: إنَّما جُعِلتا كالظُّلتين؛ لتكونَ أخوفَ وأشدَّ تعظيمًا في قلوب خصمائهما؛ لأنَّ الخوف في الظلةِ أكثرُ. روى هذا الحديث نوَّاسُ بن سَمعان. * * * 1522 - وعن أُبيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبا المُنْذِرِ!، أَتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِنْ كتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ: الله ورسُولُه أعلَمُ، قال: "يا أَبا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيةٍ مِنْ كتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فَضَرَبَ بِيَدهِ في صَدْرِي وقال: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ يا أَبا المُنْذِرِ". ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، إنَّ لهذِهِ الآيةِ لِسانًا وشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ ساقِ العَرْشِ".

قوله: "يا أبا المنذرِ! أتدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظمُ؟ "، (أبو المنذر): كنية أُبيَّ بن كعب. كان أبيٌّ يعلمُ أيَّ آية أعظم حين سأله رسول الله - عليه السلام - عن ذلك، ولكن لم يجبه تعظيمًا لرسول الله عليه السلام، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أولَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه. ويحتمل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّعِ أنَّ رسول الله - عليه السلام - يخبره بآية أخرى أنها أعظم، أو يخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر النبيُّ السؤالَ علم أن النبي - عليه السلام - يطالبه بالجواب، ويريدُ امتحانَ حفظه ودرايته فيما أخبره - عليه السلام - قبل هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسي؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلَّا الله، وبيانَ كونه حيًا قيومًا، وأن لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن ملك السماوات والأرض له، وبيانَ قهره وعظمته بحيثُ لا يقدر أحدٌ على الشفاعة إلَّا بأمره، وبيانَ أنه يعلمُ جميعَ الأشياء؛ ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ غيرُه إلَّا هو إلَّا بتعليمه، وبيانَ أن كرسيَّه عظيم بحيث السماوات والأرض فيه كحلقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظُ السماوات والأرض بحيث لا يصلُ إليه ثقل وتعب، وبيانَ أنه أعلى من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعةً في آية سوى هذه الآية. قوله: "فضربَ في صدري"؛ أي: ضربَ رسولُ الله - عليه السلام - يده على صدري من التلطُّف، "فقال: ليَهْنِكَ العلمُ"؛ أي: ليكن العلم هنيئًا مريئًا، هذا دعاءٌ له، وإخبارٌ بأنه عالم. * * * 1523 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنّه قال: وَكَّلَني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحِفظِ زَكاةِ رمَضانَ، فَأتاني آتٍ، فجَعَلَ يَحْثو مَنَ الطَّعامِ، فأخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى

رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دَعْني، إنِّي مُحْتاجٌ، وعَلَيَّ عِيالٌ، ولي حاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قال: فَخَلَّيْتُ عنهُ، فأصْبَحْتُ فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هُرَيْرَةَ، ما فعلَ أسِيرُكَ البارِحَةَ؟ "، قلتُ: يا رسولَ الله!، شكا حاجةً شَدِيدَةً وعِيالاً، فرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قال: "أما إنَّهُ سَيَعُودُ"، فَرَصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ، وقلت: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دَعْني، فإنِّي مُحْتاجٌ، وعليَّ عَيالٌ، ولا أَعُودُ، فرَحِمْتُهُ فخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هُرَيْرَةَ، ما فعلَ أَسِيرُكَ البارحةَ؟ "، قلتُ: يا رسُولَ الله، شَكا حاجَةً وعِيالاً، فرحِمتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فقالَ: "أما إنَّهُ كَذَبَكَ، وسَيَعُودُ"، فرصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا آخِرُ ثَلاثٍ مَرَّاتٍ، أنَّك تَزْعُمُ لا تعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قال: دَعني أُعَلِّمُكَ كَلماتٍ يَنْفَعُكَ الله بها: إذا أَوَيْتَ إلى فَراشِكَ، فاقرَأْ آيةَ الكُرْسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتَّى تَخْتِمَ الآيةَ، فإنَّكَ لا يَزالُ عَلَيْكَ مِنَ الله حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتَّى تُصْبحَ، فَخَلَّيْتَ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فقال لي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعلَ أسِيرُكَ؟ "، قلتُ: زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُني كَلِماتٍ يَنْفَعُني الله بها، قال: "أما إنَّهُ صَدَقَكَ وهو كذوبٌ، أتَعْلَمُ مَنْ تخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ؟ "، قال: "ذاكَ شيطانٌ". قوله: "يحفظ زكاة رمضان"؛ يعني: جمع زكاة الفطر؛ ليفرقها رسولُ الله - عليه السلام - على الفقراء. وهذا دليلٌ على جواز جمع الجماعة زكاةَ فطرِهم، ثم وكَّلوا أحدًا ليفرِّقها على الفقراء. قوله: "فجعل"؛ أي: فطفِقَ "يحثو"؛ أي: ينثرُ ويأخذُ "من الطعام"؛ أي: من الزكاة التي كنتُ أحفظُها؛ يعني: يأخذ من تلك الزكاة، ويجعل في ذيلِهِ، أو في وعائِهِ.

قوله: "لأرفعنَّكَ إلى رسولِ الله عليه السلام"؛ يعني: لأذهبن بك إلى رسولِ الله عليه السلام؛ ليقطعَ يدك؛ لأنك سارق. قوله: "فخليت عنه"؛ أي: تركته. قوله: "أما أنه"؛ أي: اعلمْ أنه "سيعود". قوله: "فرصدته"؛ أي: انتظرته. قوله: "أمَا إنه صدَقَكَ وهو كَذوبٌ"؛ يعني: صدقك في هذا التعليم؛ فإنه من قرأ آية الكرسي يصيرُ محفوظًا من شرِّ الأشرار ببركتها، ولكنه كذَّابٌ في سائرِ أقواله وأفعاله؛ لأنه إبليس قلَّما يصدرُ منه صدقٌ. وهذا الحديثُ يدلُّ على أن تعلمَ العلم جائزٌ ممن لم يعملْ بما يقول بشرط أن يَعلَمَ المتعلمُ كونَ ما يتعلَّمه حسنًا، وأمَّا إذا لم يعلم حسنَهُ وقبحَهُ، لا يجوز أن يتعلَّمَ إلَّا ممَّن عرفَ ديانته وصلاحه. * * * 1524 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: بَيْنَما جِبْريل عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فقال: هذا بابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتحَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ إلى الأرضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا اليْومَ، فَسَلَّمَ فقال: أَبْشِرْ بنورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يَؤْتَهُما نَبيٌّ قَبْلَكَ: فاتحة الكِتابِ وخَواتِيمَ سُورَةِ البقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إلاّ أُعْطِيتَهُ. قوله: "سمعَ نَقِيضًا"؛ أي: سمع رسولُ الله - عليه السلام - صوتًا من قبل السماء، فرفع رسولُ الله عليه السلام رأسَهُ، فقال له جبريلُ: فُتِحَ الآن بابٌ من أبواب السماء، لم يُفتَحْ هذا البابُ قبل هذه الساعة ... إلى آخر الحديث. قوله: "وخواتيم سورةِ البقرةِ"؛ يعني: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] ... إلى آخر السورة.

قوله: "إلا أُعطِيتَهُ"؛ يعني: أعطيت ثوابَ ما تقرأ، أو أُعطِيت ما تسألُ من الله الكريم من حوائجك في الدنيا والآخرة. * * * 1525 - عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لمَّا أُسْرِيَ برسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - انْتُهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فأُعْطِيَ ثَلاثًا: الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وخَوَاتِيمَ سُورةِ البقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ. قوله: "وغُفِرَ لمن لا يشركُ بالله من أمته شيئًا المُقحِماتُ": مفعول ثانٍ لـ (غفر) والمفعول الأول (لمن لا يشرك). و (المُقحِمات): جمع مُقحِمة، وهي اسم فاعل من (أقحم): إذا أدخل شيئًا في موضعِ بالعُنفِ، و (أقحم): إذا أهلك، والمراد ها هنا بالمقحمات: الذنوب الكبائر التي تُدخِلُ صاحبَها النار؛ يعني: أعطى الله نبيَّه الشفاعةَ لأهل الكبائر. * * * 1526 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآيتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقَرَةِ منْ قَرَأَ بِهِمَا في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ". قوله: "آيتانِ من آخرِ سورةِ البقرةِ مَنْ قرأ بهما في ليلةٍ كفتاه"، أراد بهاتين الآيتين: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] ... إلى آخر السورة. (كفتاه)؛ أي: دفعتا عن قارئهما شرَّ الإنس والجن، وهو من (كفى يكفي كفاية): إذا دفعَ عن أحد شيئًا، وأغناه. روى هذا الحديث أبو مسعودٍ الأنصاريُّ. * * *

1527 - وقال: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ". قوله: "مَنْ حفظَ عشرَ آياتٍ من أولِ سورةِ الكهفِ عُصِمَ من الدجَّالِ"؛ يعني: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وقرأها، حفظَهُ الله تعالى من فتنةِ الدجَّالِ ببركتها. روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ. * * * 1528 - وقال: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ في لَيْلَةٍ ثُلُثَ القرآنِ؟ "، قالوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ القُرْاَنِ؟، قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ". قوله: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثُلثَ القرآنِ", (تعدل)؛ أي: تكون مثل "ثلث القرآن"؛ يعني: من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فكأنَّه قرأَ ثُلثَ القرآن، فيُعطَى ثوابَ من قرأ ثلث القرآن. قال المفسِّرونَ في تفسير هذه السورة في معنى هذا الحديث: إنما قال رسولُ الله عليه السلام: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثُلثَ القرآن"؛ لأن القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها: توحيد الله وصفاته. والثاني: تكليف العباد من الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام. والثالث: المواعظ والقصص التي يتَّعظُ بها. و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحدُ هذه الأقسامِ الثلاثة، فتكون ثلثَ القرآنِ. روى هذا الحديث أبو سعيد الخُدريُّ. * * *

1529 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رجُلاً على سَرِيَّةٍ وكان يَقرَأُ لأِصْحَابهِ في صَلاَتِهِمْ، فيَخْتِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سَلُوهُ، لأِيَّ شيءٍ يَصْنَعُ ذلك؟ "، فَسَأَلوهُ فقالَ: لأِنَّها صِفَةُ الرَّحْمنِ، وأَناَ أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَها، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْبرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ". قوله: "بعثَ رجلًا على سَريَّة"؛ أي: جعل رجلًا أميرَ الجيش. "فكان يقرأ لأصحابه"؛ يعني: كان إمامًا لهم في الصلوات، فيقرأُ في جميعِ الصلوات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. * * * 1531 - وعن عُقبة بن عامِر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألمْ تَرَ آياتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". قوله: "لم يُرَ مثلهُنَّ قطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "؛ يعني: لم تكنْ آياتُ سورةٍ كلُّهنَّ تعويذٌ للقارئ من شرِّ الأشرار غيرَ هاتين السُّورتين، ففي التعويذِ قال عليه السلام: "لم يُرَ مثلهن". وسببُ نزول هاتين السورتين: أن غلامًا من اليهود كان يخدُمُ رسولَ الله عليه السلام، فقال له اليهود: أعطنا مُشاطَة محمد عليه السلام؛ لنسحرَ محمدًا؛ أي: الشعور التي نزلت من رأسه ولحيته بالمشط، وأعطنا بعضَ أسنانِ مشطه؛ لنسحرَ محمدًا - عليه السلام - بهما، فأعطاهم الغلامُ ما طلبوا منه، فسحر لبيدُ بن الأعصمِ اليهودي رسولَ الله - عليه السلام - بتلك المُشاطة وأسنان المشط، وتغيَّرَ رسول الله - عليه السلام- من ذلك، وظهر مرضٌ بحيث يذوبُ بدنُهُ وينتثرُ

شعرُ رأسه، ولا يدري سببَ مرضه، وانتهت حاله إلى أنه يظن شيئًا أنه فعلَهُ، ولم يفعلْهُ. فبقيَ على هذه الحالة ثلاثةَ أيام، فكان يومًا نائمًا، فأتاه ملكان، فجلس أحدُهما عند رأسه، والآخرُ عند رجله، فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبَّ؟ يعني: وأي شيء معنى طُبَّ؟ فقال: سُحِر؛ يعني: معنى طُبَّ سُحِر، قال: ومن سحَرهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فبم طَبَّه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: أين هو؟ قال: هو في جُفَّ طلعةٍ تحتَ راعوفةٍ في بئر ذَرْوانَ. (في جُفَّ طَلْعةٍ)؛ أي: في قِشْرة طلعِ نخلةٍ. (تحت راعوفة)؛ أي: تحت حجرِ الراعوفةِ الذي يكون في البئر، يقعدُ عليه الرجلُ؛ ليأخذ الماءَ من البئر. وإنما قال الملكان هذا؛ ليعلمَ رسول الله - عليه السلام - ذلك، فعلم رسولُ الله عليه السلام؛ لأنَّ عينَهُ تنام وقلبُهُ لا ينام. فلمَّا انتبهَ رسولُ الله عليه السلام، قال لعائشة: أما علمتِ أنَّ الله أخبرني بدائي، ثم بعثَ عليًا والزبير وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم -، فنزحوا - أي: نزعوا - ماءَ تلك البئر، وماؤها كنُقاعةِ الحناء؛ يعني: كأنه أُلقِي فيها الحناء، فأخرجوا ذلك الجُفَّ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا وترٌ معقودةٌ فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فجاء جبريلُ لرسولِ الله عليه السلام بالمعوذتين، فقال جبريلُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ على هذه العُقَدِ هاتين السُّورتين، فقرأهما رسولُ الله عليه السلام، فكلَّما قرأ آية انحلت عقدة، ويجدُ رسولُ الله عليه السلام خفةً، وعددُ آيات هاتين السورتين إحدى عشرة، فلمَّا ختمَ السورتين انحلت جميعُ العقد، فوجدَ رسولُ الله - عليه

السلام - صحةً تامة. قيل: يا رسول الله! فلا نأخذُ لبيدَ بن الأعصمِ؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله، وأكرهُ أن أُثير - أي: أهيج - على الناسِ شَرًا. * * * 1532 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَوَى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَع كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فيهِمَا، فَقَرَأَ فيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا ما اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا على رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وما أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثَ مَرَّاتٍ. قوله: "إن رسولَ الله - عليه السلام - كانَ إذا أوَى إلى فراشِهِ كلَّ ليلةٍ جَمَعَ كَفَّيهِ، ثمَّ نفثَ فيهما، فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم يمسح بهما" ... إلى آخره. "أوى إلى فراشِهِ"؛ أي: دخل فراشَهُ. قوله: "فقرأ فيهما: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "، الفاء للتعقيب، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنه - عليه السلام - نفث في كفَّيه أولاً، ثم قرأ، هذا لم يقل به أحدٌ، وليس فيه فائدةٌ، ولعل هذا سهوٌ من الكاتب، أو من الراوي؛ لأن هذا الحديثَ في "صحيح البخاري" بالواو في قوله: "وقرأ فيهما". وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ النفثَ بعد تلاوة القرآن أو التعويذَ على الأعضاء مستحبٌّ؛ لوصول بركة القرآن واسم الله إلى بشرة القارئ والمقروء عليه. ومعنى النفث: إخراج الريح من الفم مع شيء من الرِّيقِ. * * *

مِنَ الحِسَان: 1533 - عن عبد الرَّحَمن بن عَوْفٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ تَحْتَ العَرْشِ يَوْمَ القيامَةِ: القُرْآنُ يُحَاجُّ العِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وبَطْنٌ، والأَمَانَةُ، والرَّحِمُ تُنادِي: ألا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَني قَطَعَهُ الله". "يُحاجُّ العبادَ"؛ يعني: يخاصمُ من لم يعملْ به ولم يعظَّم قدرَهُ، ويعاونُ من عمل به وعظَّم قدرَهُ. قوله: "له ظهرٌ وبطنٌ"، ذكرنا بحثَ هذا في (باب العلم) في قوله: "أُنزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ". * * * 1534 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُقَالُ لِصاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ، وارْتَقِ، ورَتَّلْ كَما كُنْتَ تُرَتَّلُ في الدُّنْيَا، فإنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُها". قوله: يُقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارتقِ ورتِّلْ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلَكَ عند آخرِ آيةٍ تقرأُها". قال الخطابي: قد جاء في الأثر: أنَّ عددَ آيِ القرآن على قدرِ دَرَجِ الجنة، فيقال للقارئ: اقرأ وارتق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن؛ فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن، استولى على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جُزءًا منها كان رُقيُّه في الدرج على قدر ذلك، فيكونُ منتهى الثوابِ عند منتهى القراءة. (رقى وارتقى): إذا صعد. (رتَّل ترتيلاً): إذا قرأ قراءةً مبيَّنةً حرفًا حرفًا على التأني والسكون. استولى؛ أي: غلب وقدر، أقصى؛ أي: أبعد.

روى هذا الحديث عبدُ الله بن عمرو. * * * 1535 - وقال: "إنَّ الذي لَيْسَ في جوفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنَ كالبَيْتِ الخرِبِ"، صحيح. قوله: "إنَّ الذي ليسَ في جوفِهِ شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الخَرِبِ"؛ يعني: عمارةُ القلوب بالإيمان والقرآن وذكر الله، فمَنْ خلا قلبُهُ من هذه الأشياء، فقلبُهُ خرابٌ لا خيرَ فيه، كما أنَّ البيتَ الخربَ لا خيرَ فيه. روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 1536 - وقال: "يَقُولُ الرَّبُّ تعالَى: مَنْ شَغَلَهُ القُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ما أُعْطِي السَّائِلِينَ، وفَضْلُ كَلاَمِ الله تعالى على سائرِ الكَلامِ كَفَضْلِ الله على خَلْقِهِ", غريب. قوله: "مَنْ شَغلَهُ القرآنُ عن ذِكري ومَسألتي، أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السَّائلين"؛ يعني: من اشتغل بقراءة القرآن، ولم يفرغ إلى الذكر والدعاء، أعطاه الله مقصودَهُ ومرادَهُ أحسنَ وأكثرَ مما يعطي الذين يطلبون من الله حوائجَهُم؛ يعني: لا يظننَّ القارئُ أنه إذا لم يطلبْ من الله حوائجَهُ لا يعطيه، بل يعطيه أكملَ الإعطاء، فإنه مَنْ كان لله، كان الله له. روى هذا الحديث أبو سعيدٍ. * * * 1537 - وقال: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بهِ حَسَنةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ

أَمْثَالِها، لاَ أَقُولُ آلم حَرْفٌ، ألِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ"، غريب. قوله: "مَنْ قرأَ حَرْفًا من كتابِ الله فلهُ بهِ حسنةٌ"؛ يعني: من قرأ حرفًا من القرآنِ، فقد عملَ حسنةَ، ومَنْ عمل حسنةً، فله عشرُ أمثالها، فمن تلفَّظَ بقوله: {الم} يُحصِّلُ بألِفٍ عشرَ حسنات، وبلامٍ عشرَ حسنات، وبميمٍ عشرَ حسنات، فيكون المجموع ثلاثينَ حسنة، وعلى هذا القياس جميعُ القرآن. روى هذا الحديثَ ابن مسعودٍ. * * * 1538 - عن الحارِث، عن عليًّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَلا إنَّها سَتَكُونُ فِتْنَةٌ"، فقلتُ: ما المَخْرَجُ مِنْهَا يا رسولَ الله؟، قال: "كِتاب الله، فيهِ نَبَأُ ما قَبْلَكُمْ، وخَبَرُ ما بَعْدَكُمْ، وحُكْمُ ما بَيْنَكُمْ، هُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ الله، وهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وهُوَ الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الذي لا تَزِيغُ بهِ الأهواءُ، ولا تَلْتَبسُ بهِ الأَلْسِنَةُ، ولا تَشْبَعُ مِنهُ العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَة الرَّدِّ، ولا تَنْقَضي عَجَائبُهُ، هُوَ الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إذْ سَمِعْتُهُ حَتَّى قالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، ومَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، ومَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، ومَنْ دَعَا إليْهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مستقيمٍ"، إسناده مجهولٌ. قوله: "فما المخرج؟ " (المخرَج): الخروج؛ يعني: فما طريقُ الخروج والخلاص من تلك الفتنة؟ "فقال: كتاب الله"؛ أي: الطريقُ التمسُّكُ والعمل بالقرآن. "فيه نبأُ ما قبلكم"؛ يعني: في القرآن خبرُ ما قبلكم من حكاياتِ وقصصِ الأمم الماضية والأنبياء وغيرها.

"وخبرُ ما بعدَكم"؛ أي: ما يكون بعدكم من ذكرِ الجنةِ والنارِ، وأحوالِ القبرِ والعَرَصَات، وخبرِ خروج دابة الأرض، وغيرها. "وحكم ما بينكم": من الحلالِ والحرامِ، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وغيرها. "وهو الفصلُ"؛ أي: هو الفاصل القاطع بين الحقِّ والباطل. "ليس بالهزل"؛ أي: ليس بالباطل، كما قال الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. "مَنْ تركَهُ من جبارٍ"؛ أي: من أعرضَ عن القرآن من التكبر، "قصمَهُ الله"؛ أي: كسره الله. هذا إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ ترك العملَ بآية أو بكلمة من القرآن، أو ترك قراءَتها من التكبر والإعراض، يكون كافرًا، ومن تركَهُ من العجز والضعف والكسل مع اعتقاد تعظيمِهِ، لا إثمَ عليه، كمَنْ تركَ العملَ بآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ترك العمل بآية المُداينةِ؛ يعني: لا يكتب القَبالةَ عند إعطاء الدين، وآيةُ المداينة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...} [البقرة: 282] إلى آخر الآية. قوله: "ومن ابتغى الهُدى في غيرِهِ أضلَّه الله"، (ابتغى)؛ أي: طلب؛ يعني: من طلب الصراط المستقيم في غير كلام الله وكلام رسوله فهو ضالٌّ، يجوزُ أن يكونَ قوله: (أضله الله تعالى) دعاءٌ على من طلب الهُدَى في غير القرآن، ويجوزُ أن يكون إخبارًا؛ يعني: ثبت الضلالة. "وهو حبل الله المتين"، (الحبل): العهد والذمة، (المتين): القوي؛ يعني: القرآنُ كحبل بين الله وبين عباده، فمن تمسَّك بالقرآن أوصله إلى الله. "وهو الذكر الحكيم"، (الذكر): ما يُتذكَّر به؛ أي: ما يتلفظ به.

(الحكيم): المُحكَم، وهو مفعول من (أحكم): إذا بالغ في إصلاح شيء وشدِّه؛ يعني: القرآن قوي ثابت لا يُنسَخُ إلى يوم القيامة، ولا يَقدِرُ جميعُ الخلق على أن يأتوا بآية مثله. قوله: "لا تزيغُ به الأهواء"؛ أي: لا تميل به الأهواء؛ أي: بسببهِ أهلُ الأهواء؛ يعني: لا يصير بالقرآن أحدٌ مبتدعًا وضالاً، بل يصير الناس بالقرآن مهتدين، ومن صار مبتدعًا وضالاً إنما صار بتلك الصفةِ لعدمِ اتباعه القرآنَ، أو لعدمِ [أو] قصورِ فهمهِ معانيَ القرآن. ويحتمل أن تكون الباء في (به) للتعدية، وحينئذ يكون تقديره: لا يزيغُهُ أهلُ الأهواء؛ يعني: لا يقدر أهل الأهواء على تبديله وتغييره. و (الأهواء): البدع والضلالات. قوله: "ولا تلتبسُ به الألسنةُ"، (التبس): معناه: اشتبه واختلط؛ يعني: لا تختلطُ الألسنة المختلفة بالقرآن؛ يعني: لا يدخلُ لكلِّ لسان من التركي والزنجي وغيرهما في القرآن، بل لا يقرأُ إلا على لسان العرب، ويقرأ جميعُ الناس على لسان العرب كما أنزل، ولا يجوزُ لأحدٍ تغييره عن هذا اللفظ. وقيل: معناه: لا يتعسَّرُ على الألسنة، ولا تتحيَّرُ ألسنةُ المؤمنين بتلاوة القرآن، بل يتيسَّرُ ويسهلُ على ألسنتهم تلاوةُ القرآن، كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ...} [مريم: 97] إلى آخر الآية. قوله: "ولا يَخلُقُ عن كثرةِ الردِّ"، خلَق يَخلُق: إذا بلي. (كثرة الرد)؛ أي: كثرة التلاوة؛ يعني: لا يَبلى بكثرة القراءة، بل يصيرُ كلَّ مرة يقرأ به القارئ أكثرَ لذَّة وجدَّة. قوله: "ولا تنقضي عجائبُهُ"؛ أي: ولا تنتهي معانيه العجيبة وفوائده الغزيرة؛ يعني: لا ينتهي أحدٌ إلى كُنْهِ معانيه.

قوله: "لم تنتَهِ الجنُّ إذا سمعته حتَّى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا} " ... إلى آخره. (لم تنته)؛ أي: لم تقف ولم تلبث بعدما سمعته إلا آمنوا به؛ لما رأوه من حُسنِ ألفاظه وكثرة معانيه؛ لأنهم عرفوا أن هذا الكلامَ لا يشبهُ كلامَ المخلوقين. * * * 1539 - وقال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وعَمِلَ بما فيهِ أُلْبسَ والِداهُ تاجًا يومَ القيامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ في بُيوتِ الدُّنْيَا لو كانَتْ فيكُمْ، فما ظَنُّكُمْ بالذي عَمِلَ بهذا؟! ". قوله: "لو كانت فيكم"؛ يعني: لو كانت الشَّمسُ في بيت أحدِكم كيف يكونُ ضَوْءها؟ يكون ضوءُ ذلك التاج أكثرَ من ضوء الشمس لو كانتْ في بيت أحدكم. قوله: "فما ظنُّكم بالذي عَمِلَ بهذا"؛ يعني: إذا لبس أبو القارئ العامل به وأمه ببركة القارئ العاملِ تاجًا صفته هكذا، فكيف يكون ثوابُ ذلك القارئ العامل؟ يعني: لا يخطرُ في خاطرِ أحدِكم كُنْهُ ثوابِ ذلك القارئ العامل. روى هذا الحديث سُهيلُ بن معاذ الجُهَني، عن أبيه، عن النبي عليه السلام. * * * 1540 - وقال: "لو كانَ القُرآنُ في إهَابٍ ما مَسَّتْهُ النَّار". قوله: "لو كان القرآنُ في إهابٍ ما مسَّتهُ النار". (الإهاب): الجلد، قيل: هذا في عصر رسول الله عليه السلام، لو أُلقِي مصحفُ القرآنِ في عهده في النار لا تحرقه النار، وهذا معجزةٌ له كسائر معجزاته،

وقيل: معناه: من كان القرآنُ في قلبه لا تحرقُهُ نارُ جهنم، هكذا قال أحمد بن حنبل. روى هذا الحديث عقبةُ بن عامر. * * * 1541 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حلالَهُ وحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ، وشَفَّعَهُ في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ لهُ النَّار"، غريب ضعيف. قوله: "فاستظْهَرَهُ"، (استظهره): إذا حفظ القرآن، و (استظهر): إذا طلب المُظاهرة، وهي المَعونة، و (استظهر): إذا احتاط في الأمر وبالغ في حفظه وصلاحه، وهذه المعاني الثلاثة جائزةٌ في هذا الحديث؛ يعني: من حفظَ القرآن، وطلبَ القوة والمعاونة في الدين منه، واحتاطَ في حفظ حرمته واتباع أوامره ونواهيه. قوله: "وشفَّعَهُ" بتشديد الفاء؛ أي: وقَبلَ شفاعته. * * * 1543 - وقال: "تَعَلَّمُوا القُرْآنَ واقْرَؤوهُ، فإنَّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وقامَ بِهِ كمثَلِ جِرابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ بكُلِّ مَكانٍ، ومثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وهو في جَوْفِهِ كمَثَلِ جِرابٍ أُوكئَ على مِسْكٍ". قوله: "كمثل جِرابٍ مَحْشوٍّ مِسكًا تفوحُ ريحُهُ على كل مكانٍ"، (مَحْشو)؛ أي: مملوء. (يفوح)؛ أي: تظهر وتصلُ رائحته. يعني: صدرُ القارئ كجِرابٍ، والقرآنُ في صدره كالمِسكِ في الجِراب،

فإن قراءته تصلُ البركة منه إلى بيته وإلى السامعين، ويحصلُ منه استراحةٌ وثوابٌ إلى حيث يصل إليه صوتُهُ، فهو كجرابٍ مملوءٍ من المسك؛ إذا فُتِحَ رأسُهُ تصلُ رائحة المسك إلى كلِّ مكان حوله. قوله: "ومن تعلَّمه فرقَدَ"؛ يعني: ومن تعلم القرآنَ، ولم يقرأ، لم تصل بركته منه؛ لا إلى نفسه ولا إلى غيره، فيكون كجراب مشدود رأسه، وفيه مسك، لا تصل رائحةٌ منه إلى أحد. قوله: "أُوكِئَ"؛ أي: شُدَّ رأسه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1544 - وقال: "مَنْ قَرَأَ: {حم} المُؤْمِنْ إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، وآيَةَ الكُرْسِيِّ حينَ يُصْبحُ حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُمْسِيَ، ومَنْ قَرَأَ بهُما حِينَ يُمسي حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُصْبح"، غريبٌ. قوله: "حُفِظَ بهما"؛ أي: حفظ من الآفات ببركة آية الكرسي وأول {حم} المؤمن. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1545 - وقال: "إنَّ الله كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِأَلْفَيْ عام، أَنْزَلَ فيهِ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، ولا تُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها الشَّيْطانُ", غريبٌ. قوله: "كتب كتابًا"؛ أي: أمر بكتبَةِ القرآنِ في اللوحِ المحفوظِ.

"قبلَ أن يخلقَ السماوات والأرض بألفي عامٍ". قوله: "أنزلَ فيه آيتين"؛ أي: أنزل من جملة ذلك الكتاب - أي: القرآن - آيتين من آخر سورة البقرة، وهما: {آمَنَ الرَّسُولُ ...} [البقرة: 285] إلى آخر السورة. روى هذا الحديث النعمانُ بن بشير. * * * 1546 - وقال: "مَنْ قَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"، صحيحٌ. قوله: "عُصِم"؛ أي: حُفِظ. روى هذا الحديث أبو الدَّرداء. * * * 1547 - وقال: "إنَّ لِكُلِّ شيءٍ قَلْبًا، وقَلْبُ القُرْآنِ يس، ومَنْ قَرَأَ يَس كَتَبَ الله لَهُ بِقِرَاءَتِها قِراءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ"، غريبٌ. قوله: " {يس} قلب القرآن". (قلب الشيء): خالصه؛ يعني: {يس} خالصُ القرآن، والمودعُ فيه المقصود من الاعتقاد، وإنما كان كذلك؛ لأن أحوالَ البعث والقيامة مذكورةٌ فيها مُستوفاة مُستقصاة بحيث لم يكنْ في سورة سواها مثل ما ذكر فيها، والاعتقاد بالبعث وأحوال القيامة هو أصلُ المقصود في الدين. روى هذا الحديث أنس. * * *

1548 - وقال: "إنَّ الله تعالَى قَرَأَ طه ويس قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأَرْضَ بِألْفِ عامٍ، فلمَّا سَمِعَتِ المَلاَئِكَةُ القُرْآنَ قالت: طُوبى لأِمَّةٍ يَنْزِلُ هذا عَلَيْهَا، وطُوبَى لأجوافٍ تَحْمِلُ هذا، وطُوبَى لأِلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بهذا". قوله: "طوبى لأجواف تحمل هذا". (طُوبى): أصله طيبى، من (طاب طيب)، فقُلِبت الياء واوًا؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ يعني: الراحةُ والطيبُ حاصلٌ لهم. وقيل: المراد بطوبى هنا: طوبى بالجنة، وهي شجرةٌ في الجنة في كلِّ بيت من بيوت الجنة منها غصنٌ؛ يعني: يحصل هذا الشجر والطيب لمن يحفظ القرآن ويقرأه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1549 - وقال: "مَنْ قَرَأَ حم الدُّخانَ في لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ"، غريب. وقال: "من قَرأَ الدُّخَان في ليلةِ الجُمُعَةِ غُفِرَ له"، غريب. قوله: "أصبحَ يستغفرُ له سبعونَ ألفَ ملكٍ"؛ يعني: يطلب المغفرة له سبعونَ ألفَ ملكٍ من حين قرأها إلى الصبح. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1551 - وعن العِرْباضِ بن سَارِية: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقْرَأُ المُسَبحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، يقولُ: "إنَّ فِيهِنَّ آيةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ"، غريب.

قوله: "يقرأ المُسبحات"، (المسبحات): كلُّ سورةٍ أولُها (سبَّحَ) أو (يسبحُ) أو (سبحْ). * * * 1552 - وقال: "إنَّ سُورَةً في القُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حتَّى غُفِرَ لَهُ، وهيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". قوله: "شفعت لرجل"، هذا يحتمل أن يكون قد مضى في القبر؛ يعني: كان رجل يقرأ سورة الملك، ويعظَّم قدرها، فلمَّا مات شَفِعت له حتَّى دُفعَ عنه عذابُ القبر، ويحتمل أن يكون الماضي هنا بمعنى المستقبل؛ أي: تشفعُ لمن قرأها. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1553 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: ضَربَ بعضُ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِبَاءَهُ على قَبْرٍ وهو لا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فإذا فيهِ إنسانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} حتَّى خَتَمَها، فَأَتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرَهُ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ المانِعَةُ، هِيَ المُنْجيَةُ، تُنْجيهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"، غريب. قوله: "خِباءه"؛ أي: خيمته. "وهو لا يحسِبُ"؛ أي: لا يظن. "فإذا فيه إنسانٌ"، (إذا) هنا للمفاجأة؛ يعني: سمع ذلك الرجل من تحت ذلك الموضع صوتَ أحدٍ يقرأُ سورةَ الملك. "فأتى النبيَّ"؛ أي: أتى صاحبُ الخيمة إلى النبي عليه السلام، فأخبره بما سمع.

"هي المانعةُ"؛ أي: هذه السورة تمنعُ العذاب من قارئها. * * * 1555 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا زُلْزِلَتِ} تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تِعْدِلُ رُبْعَ القُرْآنِ". قوله: " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدلُ نصفَ القرآن، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثلثَ القرآن، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربعَ القرآن". إنما قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن؛ لأنه ذكر فيها أحوال الآخرة، وأحوالُ الآخرة نصفٌ بالنسبة إلى الدنيا. وأما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلث القرآن فقد ذكرنا شرحه. وأما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن؛ فلأنها منسوخُ الحكمِ ثابتُ التلاوة، وهذا قسم من أقسام القرآن الأربعة: أحدها: منسوخ الحكم ثابت التلاوة، كهذه السورة. والثاني: منسوخ الحكم والتلاوة، قال ابن مسعود: كان سورة الأحزاب بقدر سورة النساء، فبتنا ليلةً، فلما أصبحنا وجدنا مصاحفنا قد ذهب منها معظم سورة الأحزاب، وذهب أيضًا عن خواطرنا بحيث لا ندري منها كلمة، فقصصنا ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال عليه السلام: "رُفِعَت البارحةَ إلى السماء"، وبقي من تلك السورة ما نقرأه الآن. فهذا وأشباهه منسوخُ الحكم والتلاوة. والثالث: منسوخ التلاوة ثابت الحكم، كآية الرجم، قال عمر بن الخطاب: كُنَّا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله

والله عزيز حكيم. والمراد بالشيخ والشيخة: المحصن من الرجل والمرأة، فهذه الآية نُسِخت تلاوتها، ولكنَّ حكمَها ثابتٌ. والرابع: ثابت التلاوة والحكم، كسائر القرآن، وليس في القرآن سورة كلُّها منسوخٌ ثابتُ التلاوة غير {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. * * * 1558 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أرادَ أنْ ينامَ على فِراشِهِ، فنَامَ عَلَى يمينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ مائَةَ مَرَّةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا كانَ يَوْمُ القيامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: يا عَبْدِي!، ادْخُلْ، على يِمينِكَ الجَنَّةُ"، غريبٌ. قوله: "ادخلْ على يمينك الجنةُ"؛ يعني: إذا أطعْتَ رسولي، واضطجعتَ على يمينك في فراشك، وقرأتَ السورة التي فيها صفاتي، فأنت اليومَ من أصحاب اليمين، فاذهب إلى جانب يمينك إلى الجنةِ. * * * 1560 - عن فَرْوَة بن نَوْفَلٍ، عن أبيه: أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله!، عَلِّمْني شَيْئًا أقولُهُ إذا أوَيْتُ إلى فِراشي، فقال: "اقْرَأْ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فإنَّها بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ". قوله: "اقرأ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ"؛ يعني: أمر الله تعالى رسولَهُ في هذه السورة أن يجيبَ الكفار بأني لا أعبدُ ما تعبدون، فهذا براءةٌ من الشِّركِ، فمن قرأ هذه السورة عن اعتقاد صحيح، فقد بَرِئ من الشرك. وهذا الحديث يدلُّ على أن الإنسان يستحبُّ له إذا نام أن يجدَّدَ إيمانه، كما يستحبُّ عند النزع، فإن التلفظَ بكلمتي الشهادة عند الموت ليس

بواجب، بل هو مستحبٌّ؛ لأن المؤمن مقرٌّ بقلبه بما أمر الله تعالى، والإيمانُ ثابتٌ في قلبه، فلو لم يتلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت فلا بأسَ عليه، ولهذا لا نحكمُ بكفر من مات ولم نسمعْ منه كلمتي الشهادة عند النزع من المسلمين. رواه فَرْوةُ بن نوفل بن معقل الأشجعيُّ. * * * 1561 - وقال عُقْبة بن عامِرٍ - رضي الله عنه -: بَيْنَا أنا أَسِيْرُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ الجُحْفَة والأَبْوَاءِ إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فجعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتَعَوَّذُ بـ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ويقول: "يا عُقبَةُ!، تَعَوَّذْ بهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلِها". قوله: "الجُحْفة والأبوَاءِ": هما اسما موضعين. "غَشِينا"؛ أي: جاءنا. "فجعل رسول الله عليه السلام"؛ أي: طفِقَ. قوله: "فما تعوَّذ متعوِّذٌ بمثلها"؛ يعني: ليس مثل هاتين السورتين، بل هاتان السورتان أفضلُ التعاويذ. * * * 1563 - عن عُقْبة بن عامِرٍ قال: قُلْتُ: يا رسولُ الله!، أقرأُ سُورَةَ هُودٍ أو سورةَ يوسُف؟، قال: "لنْ تَقرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ الله مِنْ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". قوله: "أقرأُ سورةَ هود"، الهمزة للمتكلم، وكان أصله: أأقرأ؟ الهمزة الأولى للاستفهام، فحُذِفت همزة الاستفهام للعلم بها.

فصل

قوله: "لن تقرأَ شيئًا أبلغَ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} "؛ يعني: لن تقرأ سورة أبلغَ وأتمَّ في التعوُّذِ من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. * * * 1562 - عن عبد الله بن خُبَيْب قال: خَرَجْنَا في لَيْلَةِ مَطَرٍ وظُلْمةٍ شديدة نَطْلُبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأدْركْنَاهُ، فَقالَ: "قُلْ"، قُلْتُ: ما أقولُ؟، قال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُصْبحُ وحَينَ تُمْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ". قوله: "تكفِيكَ من كلِّ شيء"؛ يعني: تدفعُ هذه السورة عنك شرَّ كل ذي شرٍّ. روى هذا الحديث عبد الله بن حبيب الجُهَني المدني. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل) 1564 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَاهَدُوا القُرآنَ، فَوَالذي نفسي بيدِهِ لهَو أَشَدُّ تَفَضِّيًا مِنَ الإِبلِ في عُقُلِها". قوله: "تعاهدوا القرآن"؛ أي: داوموا على قراءته حتى لا تنسَوهُ. قوله: "أشد تَفصِّيًا"؛ أي: فِراراً، (التفصِّي): الخروج من ضيقٍ. "العُقُل": جمع عِقال، وهو ما يشد به أحد ركبتي البعير إلى الأخرى؛ يعني: لو لم يكن البعير مشدودًا لفرَّ، فكذلك القرآن لو لم يقرأه الرجل لفرَّ

من صدره ونسيه. روى هذا الحديث أبو موسى. * * * 1565 - وقال: "اسْتَذْكِرُوا القُرآنَ، فإنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرَّجالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِها". قوله: "استذكِرُوا القرآنَ"؛ أي: تذكروه وداوموا على ذكره وتلاوته. "النعم" هنا: الإبل. روى هذا الحديث ابن مسعودٍ. * * * 1566 - وقال: "مَثَلُ صاحبِ القُرآنِ كمثَلِ صاحِبِ الإِبلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَها، وإنْ أَطْلَقَها ذَهَبَتْ". قوله: "كمثَلِ صاحبِ الابلِ المُعقَّلةِ"، (المعقلة): المشدودة. "إن عاهد عليها"؛ أي: داوم على حفظ تلك الإبل. "أطلقها"؛ أي: خلاها. روى هذا الحديث ابن عمرَ. * * * 1567 - وقال: "اقرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتَلفتْ عليهِ قُلُوبُكُمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقومُوا عنهُ". قوله: "اقرؤوا القرآنَ ما ائتلفتْ قلوبُكم"؛ يعني: اقرؤوا القرآنَ ما دام لكم منه ذوقٌ، وخواطرُكم له مجموعةٌ، فإذا حصل لكم ملالةٌ وتفرقُ القلوبِ،

فاتركوه، فإنه أعظمُ من أن يقرأه أحدٌ من غير حضورِ القلبِ. روى هذا الحديث جُندُبُ بن عبد الله. * * * 1568 - وسُئلَ أنسٌ - رضي الله عنه -: كيفَ كانتْ قِراءَةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال: كانَتْ مَدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يمدُّ بـ {بِسْمِ اللَّهِ}، ويَمُدُّ بـ {الرَّحْمَنِ}، ويمُدُّ بـ {الرَّحِيمِ}. قوله: "كانت مَدَّاء" (مَدَّاء): تأنيث أمد، و (أمدُّ) نعت المذكر، من (مدَّ)؛ يعني: كانت قراءته كثيرة المد. "ثم قرأ"؛ يعني: قال قتادة: لما سُئِل أنسٌ عن قراءة رسولِ الله عليه السلام، فقال: كانت مداء، ثم قرأ أنس: " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومدَّ {بِسْمِ اللَّهِ}، ومدَّ {الرَّحْمَنِ}، ومدَّ {الرَّحِيمِ} "؛ ليعلمَ الحاضرون كيفيةَ قراءةِ رسول الله عليه السلام. وأعلم أن للمدِّ حدًا، وحروفُ المد ثلاثة: الألف، والواو الساكنة التي قبلها ضمة، والياء الساكنة التي قبلها كسرة، فإذا كان واحد من هذه الحروف وبعدهما همزةٌ يمدُّ ذلك الحرف، وفي قدره اختلفَ القرَّاء؛ فبعضهم يمدُّ بقدر ألف، وبعضهم يمدُّ بقدر ألفين، وبعضهم يمدُّ بقدر ثلاث ألفات، وبعضهم يمدُّ بمقدار أربع ألفات، وبعضهم يمدُّ بقدر خمس ألفات. وإن كان بعدها تشديدٌ يمدُّ بقدر أربع ألفات بالاتفاق. وإن كان بعدها ساكن يمدُّ بقدر ألفين بالاتفاق. مثال الهمز: {بِمَا أُنْزِلَ} و {قَالُوا آمَنَّا} {وَفِي آذَانِهِمْ}. مثال التشديد: {أَتُحَاجُّونِّي} بمدِّ الألف؛ لتشديد الجيم، وبمد الواو؛ لتشديد النون.

مثال الساكن: {ص وَالْقُرْآنِ} تمدُّ الألف؛ لسكون الدال بعدها، وكذلك تمد الواوُ في {يَعْلَمُونَ} والياءُ في {نَسْتَعِينُ} عند الوقف على النون. وإذا كان بعد حروف المدِّ حرفٌ غيرُ الهمز والمشدد وغير الساكن، لم يمدَّ حرفُ المد إلا بقدر خروجها من الفم، نحو: {إِيَّاكَ} لا تمدُّ الألف إلا بقدر خروجها من الفم؛ لأن ما بعدها كافٌ، وهي متحركة. وكذلك: {يَعْلَمُونَ} و {نَسْتَعِينُ} عند الوصل؛ لأن النون متحركةٌ في الأصل، وكذلك جميع الأمثلة. وإذا عرفت هذا فاعلم أنَّ مدَّهُ بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن إلا بقدر خروج حرف المدِّ من الفم؛ لأنه ليس بعد الألف همزة ولا تشديد ولا ساكن. و {الرَّحِيمِ} يمدُّ عند الوقف بقدر الألفين، وعند الوصل بقدر خروج الياء من الفم. ونعني بقدر الألف: قدرَ مدِّ صوتِكِ إذا قلت: ياء، أو ثاء، وما أشبهَ ذلك. * * * 1569 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقُرآنِ". 1570 - وقال: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بالقُرآنِ يَجْهَرُ به". قوله: "وما أَذِنَ الله لشيء ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن"؛ يعني: ما استمع إلى شيء كاستماعه إلى صوتِ نبيًّ قرأ الكتاب المنزَّلَ إليه بصوت رفيع. والمراد بالقرآن هنا: جميع الكتب المنزلة.

(الأَذَن) بفتح الهمز والذال: الاستماع. يعني: ما أحبَّ الله صوتًا مثلَ حبه صوتَ القرآن في ديننا، وصوت التوراة في دين موسى، وكذلك كلُّ كتاب منزل قبل نسخِ ذلك الكتاب. وفي التغني في هذا الحديث وأشباهه أربعةُ أوجه: أحدها: رفع الصوت. والثاني: الاستغناء بالقرآن عن غيره؛ يعني: من قرأ القرآن صار غنيًا، ولا حاجةَ إلى كتاب آخر لم يكن مُستنبَطاً من القرآن أو موافقًا لأحكام القرآن. والحديثُ مستنبطٌ من القرآن: لأن الله تعالى قال في حقِّ الرسول عليه السلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] , وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. والوجه الثالث: التغني الذي هو عادةُ الرُّكبان، وهو ترديدُ الصوت وتلوينه بحيث لا يُخِلُّ بالمعنى، فاختار رسول الله - عليه السلام - أن يتركَ العربُ التغنيَ بالأشعار، ويعتادوا قراءة القرآن على الصفة التي كانوا يعتادونها في قراءة الأشعار. والرابع: تحسين الصوت وتطييبه بالقراءة من غير ترديدِ الصوتِ. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1571 - وقال: "ليسَ مِنَّا مَنْ لمْ يتغَنَّ بالقُرآن". قوله: "ليسَ مِنَّا من لم يتغنَّ بالقرآنِ"؛ يعني: ليس من متابعينا من لم يتغنَّ بالقرآن، وقد ذكرنا معنى التغني والأقوالَ الواردة فيها.

وقال الشافعي: لا بأسَ بالألحان وترديد الصوت بالقرآن، واختار سفيانُ ابن عُيينةَ: أن التغني هو الاستغناء بالقرآن عن غيره. روى هذا الحديث أبو هريرة وسعدُ بن أبي وقَّاص. * * * 1572 - وقال عبد الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المِنْبَرِ: "اقْرَأْ عليَّ"، قلتُ: أَقْرَأُ عليكَ وعليكَ أُنْزِلَ؟، قال: "إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فقرأْتُ سورةَ النِّساءَ حتَّى أتيتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: "حَسْبُكَ الآن"، فالتفتُّ إليه، فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفانِ. قوله: "اقرأ عليَّ"؛ يعني: اقرأ حتى أستمع إليك، فإني أحب أن أسمعَ القرآنَ من غيري، وهذا دليلٌ على أن استماعَ القرآن سُنةٌ. قوله: "حسبك الآن"؛ يعني: إذا وصلت إلى هذه الآية لا تقرأ شيئًا آخر، فإني مشغولٌ بالتفكُّر في هذه الآية وبالبكاء. ولتتعلم الأمةُ استماعَ القرآن عن رسول الله، فإنه استمع مع (¬1) التدبر والتفكر في معناه بحيثُ جرت دموعه من تعظيمِ خطابِ الله تعالى. قوله: " {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} "؛ يعني: فكيف حال الناس في يومٍ تحضرُ أمةُ كلِّ نبيٍّ، ويكون نبيهم شهيدًا بما فعلوا من قبولهم ذلك النبي، أو ردهم إياه؟ وكذلك يفعلُ بك يا محمد وبأمتك. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "عن"، وفي "ش": "عند"، والصواب ما أثبت.

"تَذرِفان"؛ أي: تقطران الدمع. * * * 1573 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أقرأَ عليكَ القُرآنَ"، قال: الله سَمَّاني لكَ؟!، قال: "نعمْ"، قال: وقَدْ ذُكِرْتُ عندَ ربِّ العالَمِينَ؟!، قال: "نعمْ"، فذرفَتْ عَيْنَاهُ. وفي روايةٍ: "أَمَرَني أنْ أقرأَ عليكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ". قوله لأبيٍّ: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآنَ"؛ يعني: أن أقرأ حتى تسمعَهُ مني، وتعرفَ كيفيةَ قراءتي، وتصحيحَ الحروف، وتجويدَ اللفظ، ومن هذا جرى بين المقرئين سنةُ أن يقرأ الأستاذ أولاً حتَّى يسمعَ التلميذُ، ثم يقرأ التلميذُ. قوله: "الله سماني؟! " تقدير الكلام: (أالله) بهمزتين؛ الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة (الله)، فقُلِبت الهمزة الثانية ألفًا، فصار (الله) بالمد، ويجوز (الله) بغير مدٍّ على أنه حُذِفت همزة الاستفهام؛ للعلم بها. قوله: "فذرفت عيناه"؛ يعني: بكى أُبيٌّ من أجل أنه رأى نفسَه أحقرَ من أن يذكره ربُّ العالمين. قوله: "أمرني ربي أن أقرأَ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} "، قيل: سببُ تخصيصِ قراءة هذه السورة من بين السور: أن في هذه السورة قصةَ أهل الكتاب، وأبيٌّ كان من علماء اليهود؛ ليعلمَ أبيٌّ حالَ أهل الكتاب، ويعلمَ خطابَ الله معهم. * * *

1574 - وقال ابن عُمر - رضي الله عنهما -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُسَافَرَ بالقُرآنِ إلى أرضِ العَدُوِّ. وفي روايةٍ: قالَ: "لا تُسافِرُوا بالقُرآنِ، فإنِّي لا آمَنُ أَنْ ينالَهُ العَدُوُّ". قوله: "أن ينالَهُ العدوُّ"؛ يعني: أن يصيب الكفارُ مصحفَ القرآن ويُحقِّروه، أو يحرقوه، أو يلقوه في مكان نجس. * * * مِنَ الحِسَان: 1575 - عن أبي سَعيد الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: جلَستُ في عِصابةٍ من ضُعفاءِ المُهاجرينَ، وإنَّ بعضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ ببعضٍ مِنَ العُرْيِ، وقارِئٌ يَقْرأُ علينَا، إذْ جاءَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقامَ عَلَيْنَا، فلمَّا قامَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَكَتَ القارِئُ، فسلَّمَ، ثمَّ قال: "مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟ " قُلنا: كُنَّا نستَمِعُ إلى كِتابِ الله، فقال: "الحمدُ لله الذي جعلَ مِنْ أُمَّتي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبرَ نفسِي مَعَهُمْ", قال: فجلسَ وَسْطَنَا ليَعْدِلَ بنفسِهِ فينا، ثمَّ قال بيدِهِ هكذا، فتحلَّقُوا، وبرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لهُ، فقال: "أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صعَالِيكِ المُهاجِرينَ بالنُّورِ التَّامُ يومَ القِيامَةِ، تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قبلَ أَغنِيَاءِ النَّاسِ بنصْفِ يومٍ، وذلكَ خمسُمائةِ سنَةٍ". قوله: "إن بعضَهم ليستترُ ببعض من العُرْيِ": هؤلاء أهلُ الصفة ليس لهم من الثيابِ إلا قليلٌ؛ مَنْ كان ثوبُهُ أقلَّ من ثوب صاحبه يجلسُ خلف صاحبه حتى لا يراه أحدٌ. قوله: "فقامَ علينا"؛ أي: قام رسولُ الله - عليه السلام - فوق رؤوسنا. "بغتة"؛ يعني: كنا غافلين عن مجيئه، فإذا نظرنا، فإذا هو قائمٌ فوق رؤوسنا.

قوله: "فسلَّم"؛ يعني: فسلم رسولُ الله - عليه السلام - علينا. "جعل من أمتي مَنْ أُمرتُ أن أصبرَ معهم"؛ يعني: الحمدُ لله الذي جعلَ من أمتي زُمْرةً صلحاء فقراء مُقرَّبين عند الله تعالى، ومن غاية قربهم إلى الله تعالى أمرني الله أن أصبرَ معهم - أي: أكون معهم، وأحبس نفسي معهم - بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، قال المفسرون: معناه: يتعلمون القرآن والأحكام منك يا محمد في أول النهار وآخره، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}؛ يعني: يطلبون رضا الله، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]؛ يعني: لا تجاوزْ بصرَكَ عنهم إلى (¬1) الأغنياء. نزلت هذه الآية في فقراء المهاجرينَ حين قال كفارُ قريش لرسول الله عليه السلام: أخرِج الفقراءَ من عندك حتى نجالسَكَ، ونؤمن بك، ففعل رسول الله عليه السلام ذلك حرصًا على إيمانهم، فنزلت هذه الآية، ونهاه عن ذلك. قوله: "ليعدِلَ بنفسه فينا"؛ يعني: لنراه جميعًا، فإنه لو لم يجلسْ وسطنا، لرآه بعضُنا دون بعض. قوله: "ثم قال بيده هكذا"؛ يعني: أشار إلى أن اجلسوا على الحلقة، فبهذا عُلِمَ كونُ جلوسِ الجماعة على الحلقة سُنةً. قوله: "وبرزت وجوهُهم له"؛ أي: ظهرت وجوهُهم لرسول الله عليه السلام؛ يعني: جلسوا على الحلقة بحيث يَرى النبي - عليه السلام - وجهَ كلِّ واحد منهم. "أبشروا" بفتح الهمزة وكسر الشين؛ أي: افرحوا. "الصعاليك": جمع صعلوك، وهو الفقير. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "في"، والصواب ما أثبت.

"بالنور التام"؛ يعني: حظُّ الفقراء في القيامة أكثرُ من حظ الأغنياء؛ لأن الأغنياء وجدوا راحةً في الدنيا، واشتغلوا بتحصيل المال، والفقراءُ لم تحصل لهم راحةٌ في الدنيا، فزيدت حظوظهم التي فاتت عنهم في الدنيا مع حظوظهم الأخروية، فحصل لهم ضعْفَا ما حصل للأغنياء، وإنما دخل الفقراءُ الجنةَ قبل الأغنياء؛ لأن الأغنياءَ وُقِفوا في العَرَصَات للحساب، وسُئِلوا من أين حصَّلوا المال؟ وفي أي شيءٍ صرفوه؟ ولم يكنْ للفقراء مالٌ حتَّى يُوقَفوا ويُسأَلوا عنه. يعني رسولُ الله - عليه السلام - بالفقراء: الفقراءَ الصابرين الصالحين، وبالأغنياء: الأغنياءَ الشاكرين المؤدِّين حقوقَ أموالهم. * * * 1576 - وقال: "زَينُوا القُرآنَ بأَصْوَاتِكُمْ". قوله: "زينوا القرآنَ بأصواتكم", قال الخطابي: قد جاء عن البراء بن عازبٍ عن رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث روايتان: أحدهما: هذا. والثانية: "زينوا أصواتَكم بالقرآنِ". وقال: هذه الرواية أصحُّ؛ يعني: اشتَغِلوا بالقرآن؛ فإنَّ قراءةَ القرآن زينةٌ للصوت ولصاحبه. وقالوا: تقدير: زينوا القرآنَ بأصواتكم: زينوا أصواتكم بالقرآن أَيضًا؛ فإن الأصوات وأصحاب الأصوات يتزيَّنون بالقرآن، ولا يتزيَّنُ القرآنُ بالأصوات. * * * 1577 - وقال: "مَا مِنْ امرِئٍ يقرأُ القُرْآنَ، ثُمَّ يَنْساهُ إلَّا لقيَ الله يومَ القيامَةِ أَجْذَمَ".

قوله: "ما من امرئ يقرأ القرآنَ ثمَّ ينساه إلا لقيَ الله يوم القيامة أجذمَ"، (الأجذم): مقطوع اليد. قال ابن الأعرابي: معناه: لقيَ الله خاليَ اليدِ من الخير، وقيل: معناه: لقيَ الله مقطوعَ الحُجَّة؛ يعني: لا حجةَ له ولا عذرَ له في نسيان القرآن؛ يعني: ينكِّسُ رأسَهُ عند الله من الاستحياء عن استخجال نسيانِ كلامِهِ. روى هذا الحديث سعدُ بن عُبادةَ. * * * 1578 - عن عبد الله بن عَمْرٍو: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ القُرآنَ في أقلَّ مِنْ ثَلاثٍ"، صحيح. قوله: "لم يفقَهْ مَنْ قرأ القرآنَ في أقلَّ من ثلاثٍ"؛ يعني: لا يقدرُ الرجل أن يتفكَّرَ أو يتدبر في معنى القرآن لو ختم القرآن في ليلة أو ليلتين؛ لأنه يقرأ على العجلة والملالة، بل ينبغي أن لا يختمَ القرآنَ إلا في ثلاث ليال أو أكثر، حتى يقرأَ على التأني، ومن طيب النفس ونشاطها، ويتفرَّغَ للتدبر في معناه. * * * 1579 - وعن عُقْبة بن عامِرٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجاهِرُ بالقُرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمُسِرُّ بالقُرآنِ كالمُسِرُّ بالصَّدقةِ"، غريب. قوله: "الجاهِرُ بالقرآن كالجاهرِ بالصدقةِ، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة"؛ يعني: كما أن الجهر والسر بالصدقة جائزان، فكذلك في القرآن، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] الحاصل: أن قراءةَ القرآن كصلاة النافلة، فكما أن إخفاءَ صلاة النافلة أفضلُ،

فكذلك إخفاءُ قراءة القرآن، وهذا في غيرِ الصلوات المفروضات، فإن الجهرَ في صلاة الصبح والركعة الأولى والثانية من المغرب والعشاء أَوْلَى اقتداءً برسول الله عليه السلام، ولو قرأ جماعة في مسجد سبعًا أو أكثر من القرآن جهرًا؛ ليعلمَ بعضُهم بعضًا اللحن والخطأ، وليستمعَ إليهم جماعةٌ لينالوا ثوابَ الاستماع، وليرغبَ جماعةٌ في تعلُّمِ القرآن، وليحصلَ للمستمعين ذوقُ أصوات القارئين، وذوقُ معاني القرآن وإظهار الدين، فإذا كان نيَّتهم هذه الأشياء، فالجهرُ أولى، كما أن الأذان في أيِّ موضع أعلى أفضل؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قال لأبي بكر: "ارفعْ من صوتِكَ"، ولأنه قال عليه السلام: "زينوا أصواتَكم بالقرآنِ". * * * 1581 - عن يَعْلى بن مَمْلَك: أنَّه سألَ أُمَّ سلَمةَ عنْ قِراءَةِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هي تَنْعَتُ قِراءَةً مَفَسَّرةً حرفًا حرفًا. قوله: "فإذا هي تَنْعَتُ"؛ أي: تصفُ، (نعت): إذا وصف. "مُفسَّرة"؛ أي: مبينة؛ يعني: قالت: كان رسول الله عليه السلام يقرأ القرآنَ على التأني بحيث يمكنُ عدُّ حروفِ ما يقرأ. * * * 1582 - ورُوي أنّها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقطِّعُ قِراءَتَهُ يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثمَّ يَقِفُ، ثمَّ يقولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثمَّ يقِفُ، والأوَّل أصحُّ. قولها: "يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقفُ": إنَّما كان رسول الله - عليه السلام - يقفُ على الآية؛ ليتبينَ للمستمعين رؤوسُ الآيِ، ولو لم يكنْ لهذه العلةِ لَمَا وقفَ على {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولا على {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ لأن

فصل

الوقفَ على هذين الموضعين قَطْعُ الصفةَ عن الموصوف، وهذا غيرُ صواب، ولهذا لم يستحسن القراءُ الوقفَ على رأس آية تتعلق بما قبلها أو بما بعدها لتمام معناها. قوله: "الأول أصح"؛ أي: الرواية الأولى عن أم سلمة أصحُّ من هذه الرواية. * * * فصل (فصل) مِنَ الصَّحَاحِ: 1583 - قال عُمر بن الخطَّاب: سَمِعْتُ هِشامَ بن حَكِيم بن حِزَامٍ يقرأُ سورةَ الفُرقانِ على غيرِ ما أَقرَؤُهَا، وكان رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قْرَأَنِيها، فجئْتُ بِهِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنِّي سمعتُ هذا يقرأُ سُورَةَ الفُرقانِ على غيرِ ما أقرأْنِيها، فقالَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْرَأْ"، فقرأَ القِراءَةَ التي سَمِعْتُهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا أُنْزِلَتْ"، ثمَّ قالَ لي: "اقْرَأْ"، فقَرَأتُ، فقال: "هكذا أُنْزِلَتْ"، إنَّ هذا القُرآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فاقْرَؤُوا ما تيسَّرَ منه". من الصِّحَاح: "فجئت به"؛ يعني: قلت لهشام تعالَ معي حتى نأتيَ رسولَ الله عليه السلام، ونسأله أن قراءتي صحيحة أم قراءتك؟ "فقرأ القراءة التي سمعته"، الضمير الغائب في (سمعته) يرجع إلى هشام، وهذا هو المفعول الأول لـ (سمعت)، ومفعوله الثاني محذوف، وتقديره: سمعته يقرأ. في "صحيح مسلم": "سمعته يقرأ".

قوله: "أنزلت"؛ أي: أنزلت هذه السورة. "على سبعةِ أحرفٍ"؛ أي: على سبع قراءات، وقد ذُكِرَ بحث القراءات السبعة في (باب العلم). * * * 1584 - وقال ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: "سمعتُ رجُلاً قرأَ آيةٍ، وسمِعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأُ خِلافَها، فجئْتُ بهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ، فعَرَفْتُ في وَجْهِهِ الكَراهِيَةَ، فقال: "كِلاكُما مُحْسِن، فلا تَخْتَلِفُوا، فإن مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فهَلَكُوا". قوله: "فعرفتُ في وجهه الكراهيةَ"، إنما كره رسول الله - عليه السلام - اختلافَ ابن مسعود مع ذلك الرجل؛ لأن الاختلافَ في القرآن غيرُ جائز؛ لأنَّ كلَّ لفظ من القرآن إذا جاء قراءته على وجهين أو أكثر، فلو أنكر أحدٌ واحدًا من ذينك الوجهين أو الوجوه، فقد أنكر القرآن، وإنكارُ القرآن غيرُ جائز، فإذا اختلف اثنان في لفظ أنه يقرأ هكذا، فلا يجوزُ اختلافهما فيه ولا القول فيه بالرأي والاجتهاد؛ لأن قراءةَ القرآن سُنةٌ متبعةٌ، بل طريقُهما أن يسألا عن ذلك اللفظِ من هو عالمٌ بالقراءات. * * * 1585 - وقال أُبيُّ بن كعب - رضي الله عنه -: كُنْتُ في المسجِدِ، فدخلَ رَجُلٌ يُصَلَّي، فقرأَ قِراءَةً أنكرتُها عليهِ، ثمَّ دَخَلَّ آخرُ فقرأَ قراءةً سِوَى قِراءةِ صاحِبهِ، فلمَّا قَضَيْنَا الصَّلاةَ دَخَلْنَا جَميعًا على رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إِنَّ هذا قرأَ قِراءةً أنكرتُها عليهِ، ودخلَ آخرُ فقرأَ سِوَى قِراءةِ صاحِبهِ، فأمَرَهُمَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقرآ، فحسَّنَ شَأْنَهُمَا، فَسُقِطَ في نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ ولا إِذْ كُنْتُ في الجَاهِلِيَّةِ، فلمَّا رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قَدْ غشِيَنِي ضَرَبَ في صَدْرِي، فَفِضْتُ

عَرَقًا، وكأنِّي أنْظُرُ إلى الله تعالى فَرَقًا، فقال لي: "يا أُبَيُّ، أُرْسِلَ إليَّ: أَنِ اقْرَأ القُرآنَ على حَرْفٍ، فردَدتُ إلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فردَّ إليَّ الثانيَةَ: اقْرَأْهُ على حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إليهِ: أنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فَرَدَّ إليَّ الثالثةَ: اقْرَأْهُ على سبعةِ أَحْرُفٍ، ولَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مسأَلَةٌ تَسْأَلُنِيها، فقلتُ: اللَّهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتي، اللَّهمَّ اغفِرْ لأُمَّتي، وأَخَّرْتُ الثالثةَ ليَوْمٍ يَرْغبُ إليَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ حتَّى إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ". قوله: "فسُقِطَ في نفسي من التكذيبِ، ولا إذْ كنتُ في الجاهليةِ"؛ يعني: وقع في خاطري من تكذيبِ النبيَّ - عليه السلام - في تحسينه "شأنهَما" - أي: قراءتهما - تكذيبًا أكثرَ من تكذيبي إياه قبل الإسلام؛ لأني تعجبتُ من تحسين قراءتين مُختلفتين، [فـ]ـــفي عقلِ الإنسانِ أنَّ كلَّ لفظين مختلفين لا يكونان صحيحين، بل يكون أحدُهما صحيحًا، والآخرُ فاسدًا. قوله: "ما قد غشيني"؛ أي: دخلَ في قلبي من التكذيبِ، عَلِمَ خاطري بالمعجزةِ. قوله: "ضربَ في صدري"؛ أي: ضربَ صدري بيده، يحتمل أن يكون هذا الضربُ للتأديبِ وإخراجِ الوسوسة الشيطانية عن قلبه ببركة يده، ويحتمل أن يكون هذا الضربُ للتلطفِ. قوله: "ففِضْتُ عَرَقًا"، (فاض يفيض فيضًا): إذا أجرى الماء، (عرقًا) منصوب على التمييز، وتقديره: فاض عرقي فأخَّرَ (العرقَ)، ونصب على التمييز؛ يعني: جرى عرقي من الخوف والاستحياء من النبي - عليه السلام - لمَّا عرفَ خاطري. قوله: "كأنما أنظرُ إلى الله فَرَقًا" (فرقًا): منصوب على التمييز، و (الفَرَق): الخوف؛ يعني: فكما أن المذنبَ إذا قدرَ في نفسه ينظر إلى الله تعالى

يحصلُ له خوفٌ لا حدَّ له، فكذلك لمَّا عرف رسول الله - عليه السلام - خاطري حصلَ لي خوفٌ واستحياءٌ شديدٌ من الله ومن الرسول. قوله: "أرسلَ إليَّ"؛ يعني: أرسل الله جبريلَ إليَّ، وأمرني "أن اقرأَ القرآنَ على حرفٍ، فرددتُ" جبريل إلى حضرة الله تعالى، وقلت: قل لربي: "أن يهوِّنَ على أمتي"؛ أي: يسهل على أمتي بأن يأمرني أن أقرأ بأكثر من قراءة واحدة، فجاء جبريلُ عليه السلام، وقال: يأمرك ربك أن تقرأ على سبع قراءات. قوله: "ولك بكلِّ ردَّةٍ رددتُكَهَا مسألةٌ"؛ يعني: بكل مرة طلبتَ مني أن أهوِّنَ على عبادي، فرددتك، وما أجبت مسألتك لك، ثم أعطيتكها مسألتها. وهذا يدلُّ على أن مَنْ طلب من الله الكريم فلم يعطه لا بدَّ وأن يعطيه ما سأله؛ إما في الدنيا في وقت آخر، وإما في الآخرة. وقد جاء في الحديث بمثل ما قلنا، وسنذكر بعدَ هذا في (كتاب الدعوات)، فقد جاء ردُّ النبي - عليه السلام - ثلاث مرات، وأمره الله تعالى أن يسأله بكلِّ مرةٍ مسألةً، فقال: "اللهمَّ اغفرْ لأمتي" مرتين، وأَخَّرَ الثالثة إلى يوم القيامة، وهي الشفاعةُ في يوم يحتاج إلى شفاعتي جميعُ الخلق. * * * مِنَ الحِسَان: 1587 - عن أُبيَّ بن كَعْبٍ قال: لَقِيَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جِبريلَ فقال: "يا جِبْرِيلُ!، إنِّي بُعِثْتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيينَ، منهُمُ العَجُوزُ والشَّيْخُ الكَبيرُ والغُلامُ والجارِيَةُ والرَّجُلُ الذي لمْ يقرَأْ كِتابًا قَطُّ"، قال: "يا مُحَمَّدُ! إنَّ القُرآنَ أُنْزِلَ على سبعةِ أَحْرِفٍ". وفي روايةٍ: ليسَ منها إلَّا شافٍ كافٍ.

وفي روايةٍ عن أُبَيٍّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ جِبريلَ ومِيكائيلَ أتيانِي فقعدَ جِبريلُ عنْ يَمِينِي، وميكائيلُ عنْ يَسَارِي، فقالَ جِبريلُ: اقْرَأْ القُرْآنَ على حَرْفٍ، وقال مِيكائيلُ: اسْتَزِدْهُ، فاسْتَزَدْتُهُ حتَّى بلغَ سَبْعةَ أحْرُفٍ، وكُلُّ حرفٍ شافٍ كافٍ". قوله عليه السلام: "يا جبريلُ إنِّي بُعِثتُ على أمة أميين ... " إلى آخره. يعني: لو أقرأ على قراءة واحدة لا تقدرُ أمتي أن تقرأها؛ لأن من الناسِ من تجري ألسنتُهم على الإمالةِ، ولا يقدرون على التفخيم، ومنهم من جرى ألسنتُهم على التفخيم، ولا يقدرون على الإمالةِ، ومنهم من جرى ألسنتُهم على الإدغامِ، ومنهم من جرى ألسنتُهم على الإظهار، وغير ذلك مما شرحناه في (كتاب العلم)، فأريد أن أقرأ على أكثر من قراءة واحدة؛ لتتيسَّرَ على أمتي القراءة. قوله: "ليس منها إلَّا شافٍ كافٍ"؛ يعني: كل قراءة منها تشفي صدرَ القارئين، وتشفي من العلل والأمراض، وتحصل مرادهم وتكفيهم في الدرجات والثواب. قوله: "إن جبريل وميكائيل أتياني ... " إلى آخره. اعلم أن هذا كان بأمر الله تعالى، فإن جبريلَ لا يقدر أن يزيدَ على قراءة إلى سبع قراءات إلا بأمر الله، فإن الله قال لجبريل: قل لمحمد: أن يقرأ على قراءة، فإذا استزاد فزدْهُ سبعَ قراءات، وقال لميكائيل: قل لمحمد: ازدده؛ أي: اطلبْ من جبريل أن يزيد لك على قراءة. * * * 1588 - عن عِمْران بن حُصَيْن: أنَّه مَرَّ على قاصًّ يقرَأُ ثم يَسأَلُ،

فاسْترجَعَ، ثمَّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ الله بهِ، فإنَّهُ سَيَجيءُ أقوامٌ يقرَؤونَ القُرآنَ يسأَلُونَ بِهِ النَّاسَ". قوله: "على قاصًّ" بتشديد الصاد؛ أي: على رجل يقول القصص، و"يقرأ" القرآن، "ويسألُ" الناس شيئًا من مال الدنيا بالقرآن. "فاسترجعَ"؛ أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا الكلام يقال عند نزول مصيبة، وهذا مصيبة؛ لأنه من علامات القيامة، ولأنه بدعةٌ، وظهورُ البدعة بين المسلمين مصيبةٌ. قوله: "فليسأل الله به"؛ يعني: فليسأل من الله الجنةَ واللقاءَ، وليعوذَ به من النَّار، وصورته: أن يقرأ القرآن، فإذا فرغَ يدعو، ويسأل الله الجنة، ويسأل ما يشاء من أمر الدين والدنيا، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يقول: يا رب! بحق القرآن أن تعطيني كذا وكذا. ° ° °

9 - كتاب الدعوات

9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

[9] كِتابُ الدَّعَوَاتِ (كِتَابُ الدَّعَوَاتِ) قوله: "الدعوات" بفتح العين: جمع دعوة، وكلُّ (فَعْلة) إذا جُمِعَتْ على (فَعَلات) تكون عينها مفتوحة في الجمع إن كانت اسمًا، وإن كانت صفةً نحو: ضخمة، أو اسمًا ولكن عينها واوًا نحو: جوزة، أو ياء نحو: بيضة، أو مدغمة نحو: سَلَّة، فجمعها على (فَعْلات) ساكنة العين. مِنَ الصِّحَاحِ: 1589 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نبَيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فتعجَّلَ كُلُّ نَبيٍّ دَعْوَتَهُ، وإنَّي اختَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتي يومَ القيامَةِ، فهيَ نائلةٌ - إنْ شاءَ الله - مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتي لا يُشْرِكُ بالله شيئًا". قوله: "لكلِّ نبيًّ دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجَّلَ كلُّ نبيًّ دَعوتَهُ"، اعلم أن جميعَ دعوات الأنبياء مستجابةٌ، والمراد بهذا الحديث: أن كلَّ نبي دعا على أمته بالإهلاك كما أن نوحًا - عليه السلام - دعا على أمته حتى غرقوا بالطوفان، وصالحًا دعا على أمته حتى هلكوا بالصيحة؛ يعني: صاح عليهم جبريل حتى ماتوا، وكذلك شعيب وموسى وغيرهم. وأما نبينا - عليه وعليهم السلام - لم يدعُ على أعدائه بالإهلاك، بل قال:

"اللهمَّ اهدِ قومي؛ فإنَّهمْ لا يَعلمونَ"، فأُعطِي قبول الشفاعة يوم القيامة عوضًا عمَّا لم يدع على أمته، وصبر على أذاهم، ويعني بالأمة فيما ذكرنا: أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، فإن أَحَدًا من الأنبياء لم يدعُ على مَنْ أجابه من أمته، بل دعا على من كفر به. قوله: "وإني اختبأت"؛ أي: سترت. (الاختباء): الستر؛ يعني: أخَّرت دعوتي إلى يوم القيامة لأشفعَ لأمتي. "فهي نائلةٌ"؛ أي: شفاعتي واصلة وواجدة كلَّ مَنْ مات من أمتي غير كافر. (نال ينال نيلاً) على وزن (علم يعلم): إذا وجد ووصل. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 1590 - وقال: "اللهمَّ إنَّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لنْ تُخْلِفَنيهِ، فإنَّما أنا بشرٌ، فأيُّ المُؤمِنينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ لَعَنْتُهُ جَلَدْتُهُ فاجْعَلْهَا لهُ صلاةً، وزكاةً، وقُرْبةً تُقَرِّبُهُ بها إليكَ يومَ القيامَةِ". قوله: "إنِّي أتَّخِذُ عندكَ عهدًا"؛ أي: أطلب منك. "لن تُخْلِفَنيهِ"؛ أي: أرجو أن لا تردني فيما أطلبُ منك، ويحتمل أن يكون معناه: أُوقِنُ أنك لن تردنيه، فإن دعاء الأنبياء لا يرد. "فإنما أنا بشر"؛ يعني: أنا بشرٌ يصدرُ مني ما يصدر من البشر من الشتم والضرب وغير ذلك ممَّا يصدرُ من الإنسان عند الغضب. "فأيُّ المؤمنين آذيتُهُ ... " إلى آخره. معنى: "جلدته"؛ أي: ضربته. "فاجعلها"؛ أي: فاجعلْ تلك الأذيةَ والشتمةَ واللعنةَ والجلدةَ.

"له"؛ أي: لمن لعنته وشتمته. "صلاةً"؛ أي: دعاء خير. "وزكاةً"؛ أي: تطهيرًا له من الذنوب. يعني: اجعل إيذائي سببًا لتطهيرِهِ من الذنوبِ، وسببَ أن تعطيه قربة إليك، رُوِي أنه - عليه السلام - خرج من حجرته إلى الصلاة، فتعلَّقت عائشةُ بذيله، وطلبت منه شيئًا، وألحت في ذلك الطلب، وتجذبُ ذيلَهُ، فقال عليه السلام: "قطع الله يدك"، فخلَّته عائشةُ، وجلست في حجرتها مغضبةَ ضيقةَ الصدر لقوله عليه السلام: "قطع الله يدك"، فلمَّا رجعَ - عليه السلام - إلى عائشة فرآها ضيقةَ الصدر، فعلم سبب ضيق صدرها، فقال: "اللهمَّ إنِّي أتخذُ عندك عهدًا ... " إلى آخر الحديث؛ ليطيب قلبها بما دعا لها بالخير، والسنة لمن دعا على أحد بالشر أن يدعو له بالخير؛ ليجبرَ دعاءُ الخير دعاءَ الشر، وتبرأَ ذمتُهُ بما دعا له بالخير عمَّا دعا له بالشر. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1591 - وقال: "إذا دَعَا أحدُكُمْ فلا يَقُلْ: اللَّهمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ، ولْيَعْزِمْ مسأَلَتَهُ، إنَّهُ يفعلُ ما يشاءُ، لا مُكْرِهَ لَهُ". وفي روايةٍ: "ولكن لِيَعْزِمْ، ولْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ، فإن الله لا يَتَعاظمُهُ شيءٌ أَعْطاهُ". قوله: "إذا دعا أحدُكُم فلا يقلْ: اللهمَّ اغفرْ لي إنْ شئتَ ... " إلى آخره، نهى عن قول: (إن شئت) في الدعاء؛ لأن هذا شكٌّ في قبول الدعاء، ولأن لفظ

(إن شئت) إذا قلته لأحد معناه: إني جعلت الخيرة إليك؛ يعني: لم يكن قبلَ قولك: (إن شئت) مختارًا، بل لو لم تقلْ: (إن شئت) كان يلزمُ عليه قَبولُ الدعاء؛ شاء أو لم يشأ، فإذا قلت: (إن شئت) جعلته مخيرًا، وهذا لا يجوز في حقَّ الله تعالى، فإنه لا حكمَ لأحد عليه، وليس لأحد أن يكرهه، بل هو فعَّال لما يريد، فكيف يجوزُ أن يقال: (إن شئت)، بل يعزم السائل مسألته، وليسألْ من غير شكًّ وتردد، بل ليكن مُستيقِنًا في قبول الدعاء، فإن الله تعالى كريم لا بخلَ عنده، وقدير لا يعجزُ عن شيء. قوله: "لا مكره"؛ يعني: لا يقدر أحدٌ أن يكرهه على أمرٍ، ولا حكمَ لأحد عليه، بل يفعلُ ما يشاء، فإذا لم يكن له مُكرِهٌ، ولم يكن لأحد عليه حكمٌ، فلا يجوزُ أن يقال له: اغفر لي إن شئت. قوله: "لا يتعاظمُهُ شيءٌ أعطاهُ": الضمير في (أعطاه) يرجع إلى (شيء)؛ يعني: لا يَعظُم عليه إعطاءُ شيء، بل جميع الموجودات والمعدومات في أمره يسير، يقال: تعاظمَ زيدًا هذا الأمرُ؛ أي: كبر عليه وعسر عليه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1592 - وقال: "يُسْتَجابُ للعبدِ ما لمْ يَدْعُ بإثْمٍ أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لمْ يَسْتَعْجِلْ"، قيلَ: يا رسُولَ الله، ما الاسْتِعْجَالُ؟، قال: "يقولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وقدْ دَعَوتُ، فلم أَرَ يُسْتَجَابُ لي، فيَسْتَحْسِرُ عندَ ذَلِكَ، ويَدع الدُّعَاءَ". قوله: "ما لم يدعُ بإثمٍ"؛ يعني: ما لم يقل: اللهمَّ انصرني على قتلِ فلانٍ، وهو مسلمٌ، وليس مستوجبًا للقتل، أو: اللهمَّ ارزقني الخمر أو الفلانة، وهي محرمة عليه، وهو يريد زناها.

قوله: "أو قطيعة رحم"؛ يعني: أو يدعو بالقطع بينه وبين أقاربه مثل أن يقول: اللهمَّ أبعدْ بيني وبين أبي أو أمي أو أخي، وما أشبه ذلك. فإن هاتين الدعوتين - أعني: الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم - لا تقبل. قوله: "ما لم يستعجل"؛ يعني: يُقبَل دعاؤه بشرط أن لا يستعجلَ. قوله: "يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَ أن يستجاب لي"؛ يعني: يقول الداعي: دعوت مرة ومرتين وأكثر، ولم أر قَبولَ دعائي، فيملُّ من الدعاء، ويتركُ الدعاء، فمن كان له ملالةٌ من الدعاء لا يقبل دعاؤه؛ لأنَّ الدعاءَ عبادةٌ؛ حصلت الإجابة، أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يملَّ من العبادة. وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأتِ وقته، فإن لكلِّ شيءٍ وقتًا مقدَّرًا في الأزل، فما لم يأتِ وقته لا يكون ذلك الشيء موجودًا، وإما لأنه لم يُقدَّر في الأزل قبول دعائه، وإذا لم يقبل دعاؤه يعطيه الله في الآخرة من الثواب عوضه، وإما يؤخَّر قبول دعائه؛ ليلحَّ ويبالغ في الدعاء، فإنه تعالى يحبُّ الإلحاحَ في الدعاء، فإذا كان تأخيرُ إجابة الدعاء لأحد هذه الأشياء، فلا ينبغي للمؤمنِ أن يتركَ الدعاء. قوله: "فيستحسر"؛ أي: فيمل، (الاستحسار): الفتور والتعب. قوله: "ويَدَعُ الدعاءَ"؛ أي: ويترك الدعاء. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1593 - وقال: "دَعوةُ المَرءِ المُسلمِ لأخِيهِ بظهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابَةٌ، عندَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بخَيْرٍ قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ به: آمينَ، ولكَ بمِثْلهِ".

قوله: "دعوةُ المرءِ المسلم لأخيهِ بظهرِ الغيبِ مستجابةٌ"؛ يعني: إذا دعا مسلمٌ لمسلم بخيرٍ في غيبته يستجابُ دعاؤه؛ لأن هذا الدعاءَ خالصٌ لله تعالى، وليس لرياءٍ ولطمعِ عوضٍ، وما كان لله يكون مقبولًا. قوله: "ولك بمثله"؛ يعني: يقول له الملك: لك مثلُ ما دعوتَ لأخيك. روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ. * * * 1594 - وقال: "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنَّه لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجابٌ". قوله: "اتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنهُ ليسَ بينهُ وبينَ الله حجابٌ"؛ يعني: احذرْ دعوةَ المظلومِ؛ يعني: لا تظلم أحدًا حتى لا يدعوَ عليك، فإن المظلومَ إذا دعا على الظالم يقبلُ الله دعاؤه؛ لأنَّ قَبولَ دعائه نصرةُ المظلومِ، والله تعالى وعدَ بنصرةِ المظلوم. روى هذا الحديث ابن عباس. في (كتاب الزكاة) في حديث: أن رسول الله - عليه السلام - لمَّا بعث معاذًا إلى اليمن قال له حديثًا طويلًا، وهذا الحديثُ بعضُ ذلك الحديث. * * * 1595 - وقال: "لا تَدْعُوا على أنفُسِكُمْ، ولا تَدعُوا على أولادِكُمْ، ولا تَدعُوا على أموالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ الله ساعةً يُسألُ فيها عَطاءٌ فَيُسْتَجابُ لكُمْ". قوله: "لا تدعوا على أنفسِكم"؛ يعني: لا تدعوا دعاءَ سُوءٍ على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم؛ مخافةَ أن توافق دعوتُكم ساعةَ إجابةٍ، فيُستجاب دعاؤكم السوء، ثم تندموا على ما دعوتم، ولا تنفعكم الندامةُ؛ يعني: لا تدعوا بسوء، بل ادعوا بخير.

قوله: "يُسأل فيها عطاء"، (العطاء): ما يعطى من خير أو شر، وأكثرُ استعمال (عطاء) يكون في الخير، والمعنى هنا: يُسألُ فيها مسألةً. روى هذا الحديث جابر. * * * مِنَ الحِسَان: 1596 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". قوله: "الدعاء هو العبادة"، (هو) في (هو العبادة) للحصر، ظاهرُهُ يدلُّ على أن لا عبادةَ إلا الدعاء، ولكن معناه: الدعاءُ معظمُ العبادة، كما قال عليه السلام: "الحجُّ هو العرفة"؛ أي: معظم أركان الحج العرفة. يعني: الدعاء هو العبادةُ، سواء استُجيبَ للداعي دعاؤُهُ أو لم يُستجَب؛ لأن الدعاءَ إظهارُ العبدِ العجزَ والاحتياجَ عن نفسه، والاعترافُ بأن الله تعالى قادرٌ على إجابة الدعاء، كريمٌ، غنيٌّ، لا بخلَ له، ولا فقرَ، ولا احتياجَ له إلى شيء حتى يحفظَه لنفسه، ويمنعَهُ عن عباده، وهذه الأشياءُ عينُ العبادةِ، بل مخُّ العبادة. روى هذا الحديث النعمانُ بن بَشيرٍ. * * * 1598 - وقال: "ليسَ شيءٌ أكرمَ على الله مِنَ الدُّعاءِ"، غريبٌ. قوله: "ليسَ شيءٌ أكرمَ على الله من الدُّعاءِ"؛ يعني: ليس عبادةٌ أكرمَ على الله من الدعاء، وعلَّته ما ذكرناه.

روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1599 - وقال: "لا يَرُدُّ القَضاءَ إلاَّ الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العُمْرِ إلاَّ البرُّ". قوله: "لا يردُّ القضاءَ إلا الدعاءُ"، وهذا مثل حديث التَّداوي؛ جاءت الرُّخصةُ في التداوي، ولكن لا ينفعُ دواءٌ داءً إلا ما قدَّر الله تعالى أن ينفع، فإن كلَّ داءٍ قُدِّرَ أن يزولَ بدواء، وإلا فلا، فكذلك كلُّ قضاء قُدِّر أن يندفع بدعاء يندفعُ، وكلُّ قضاءٍ لم يقدَّر أن يندفعَ لا يندفعُ. وكذلك قوله: "لا يزيد في العمر إلا الدعاء"؛ كلُّ عمرٍ قُدِّر أن يزيد بالدعاء يزيد، وكلُّ عمر لم يقدر أن يزيد لا يزيد البتة؛ لأن ما قُدِّر في الأزل لا يتغير. روى هذا الحديث سلمانُ الفارسي. * * * 1600 - وقال: "إنَّ الدُّعاءَ ينفعُ مما نزلَ، ومما لمْ ينزِلْ، فعلَيْكُمْ - عِبادَ الله - بالدُّعاءِ". قوله: "الدعاءُ ينفعُ ممَّا نزلَ، وممَّا لم ينزلْ"؛ يعني: الدعاءُ يدفعُ البلاءَ النازلَ، ويدفعُ البلاءَ الذي يريد النزولَ. قوله: "فعليكم عبادَ الله بالدعاءِ"، (عليكم) كلمة الإغراءِ والتَّحريضِ؛ يعني: الزموا يا عباد الله الدعاءَ. روى هذا الحديث ابن عمرَ. * * *

1601 - وقال: "ما مِنْ أحَدٍ يَدْعُو بِدُعاءٍ إلاَّ آتَاهُ الله ما سألَ، أوْ كَفَّ عنه مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، ما لمْ يَدْع بإثْمٍ، أوْ قَطِيعَةِ رَحِم". قوله: "آتاه الله تعالى ما سألَ، أو كفَّ عنه من السُّوءِ مثلَهُ"؛ يعني: إذا سأل الله أحدٌ شيئًا؛ فإن جرى في الأزل تقديرُ إعطائه ما سأل أعطاه، وإن لم يجرِ التقدير دفعَ الله عنه البلاءَ عوضَ ما منع ممَّا سأل. روى هذا الحديث عبادةُ بن الصَّامِتِ. * * * 1602 - وقال: "سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فإن الله يُحِبُّ أنْ يُسأَلَ، وأفضلُ العِبادَةِ انتِظارُ الفَرَجِ"، غريب. قوله: "سلُوا الله من فضلِهِ؛ فإنَّ الله يحبُّ أن يُسألَ"؛ يعني: اطلبوا قضاءَ حوائجكم من الله؛ لأنه كريمٌ يحبُّ أن يُسأل؛ أي: تطلبُ منه الحاجات؛ فإنه غنيٌّ قادرٌ على قضاء الحوائج، وهو كريم، والكريم يُحبُّ أن تُطلَبَ منه الحوائج. قوله: "وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفَرَج"؛ يعني: إذا نزلَ بأحد بلاءٌ، فترك الشكايةَ، وصبر، وانتظر الفرجَ، وهو ذهابُ البلاء والحزن، فهذا أفضلُ العبادة؛ لأن الصبرَ في البلاء والانقيادَ لقضاء الله أفضلُ العبادة. وقوله عليه السلام: "أفضل العبادة انتظار الفرج" عقيب قوله: "يحب أن يسأل" مفهومه: أنه ادعوا الله لإذهابِ البلاء والحزن، وانتظروا الفرج، ولا تستعجلوا في طلب إجابة الدعاء، ولا تتركوا الدعاء بتأخير إجابةِ دعائِكم. روى هذا الحديث ابن مسعودٍ. * * *

1603 - وقال: "مَنْ لمْ يَسْأَلِ الله يَغْضَبْ عليهِ". قوله: "مَن لم يسألِ الله يَغضَبْ". (الغضب من الله): إرادةُ إيصالِ العقوبة إلى من غضب عليه؛ يعني: الله تعالى يغضبُ على من لم يطلبْ منه حاجةً؛ لأن ترك طلبِ الحاجة منه كِبْرٌ واستغناء، ولا يجوز للعبد تركُ عرضِ حاجته على الله تعالى، بل ليعرضْ حاجته على الله، وليطلبْ منه قضاءه؛ ليكونَ هذا اعترافًا من العبد بفقره وعجزه، وبقدرة الله على قضاء الحوائجِ وبكرمه وغناه. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 1604 - وقال: "مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بابُ الدُّعاءِ فُتِحَتْ له أبوابُ الرَّحمةِ، وما سُئِلَ الله شيئًا - يعني أَحَبَّ إليهِ - مِنْ أنْ يُسألَ العَافِيةَ". قوله: "وما سُئِلَ الله شيئًا - يعني: أحبَّ إليه - مِن أن يُسألَ العافيةَ"، (العافية) و (المعافاة) جاء في اللغة: أن معناهما دفعُ العَفاءِ، وهو الهلاكُ، والمعنى اللائق بالعافية هنا: أن يكون للرجل كفافٌ من القوت، وصحةُ البدن، واشتغالُهُ بأمر دينه، وتركُهُ ما لا ضرورةَ له فيه، ولا خيرَ له فيه. يعني: أحب شيء سأل العبدُ ربَّه، وهو أن يسأله أن يُيسِّر له أمرَ دينه، ويعطيه الكفاف والصحة، ولا يسأل المالَ الكثيرَ والجيشَ والأتباعَ والحكمَ وغير ذلك من الفضول. روى هذا الحديث عبد الله بن عمرَ. * * *

1605 - وقال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَجيبَ الله لهُ عِندَ الشَّدائِدِ فلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ"، غريب. قوله: "مَنْ سرَّه"؛ أي: من أراد أن يَقبلَ الله دعاءَهُ. "عند الشدائد"، وهي: جمع شديد، وهي الحادثة والمشقة. "فليكثرِ الدعاءَ في الرخاءِ"، وهو: ضد الشدة، وهذا إشارةٌ إلى أن الرجل ينبغي أن يذكرَ الله ويعبدَهُ في جميع الأوقات. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 1606 - وقال: "ادْعُوا الله وأنتُمْ مُوقِنُونَ بالإجَابَةِ، واعْلَمُوا أنَّ الله لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً مِنْ قَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ"، غريب. قوله: "ادعُوا الله وأنتم مُوقِنونَ"، الواو في (وأنتم) واو الحال؛ يعني: ليكنِ الداعي ربَّه على يقين بأنه تعالى يُجيبُه؛ لأنَّ ردَّ الدعاء؛ إمَّا لعجزٍ في إجابته، أو لعدم كرمٍ في المدعو، أو لعدمِ علمِ المدعوِّ بدعاء الداعي، وهذه الأشياءُ منفيةٌ عن الله تعالى؛ فإنه - جلَّ جلاله - عالمٌ كريمٌ قادرٌ، لا مانعَ له من الإجابة، فإذا علم الداعي أنه لا مانعَ لله في إجابة الدعاء، فليكن مُوقِنًا بالإجابة. فإن قيل: قد قلتم: إن الداعيَ ليكن موقنًا بالإجابة، واليقينُ إنما يكون إذا لم يكن الخلافُ في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يُستجابُ وبعضه لا يُستجابُ، فكيف يكون للداعي يقينٌ؟ قلنا: الداعي لا يكونُ محرومًا عن إجابة الدعاءِ البتة؛ لأنه يُعطى ما يُسأل، وإن لم تكن إجابةُ دعائه مقدرةً في الأزل لا يُستجابُ دعاؤه فيما يسأل، ولكن يُدفَعُ عنه [من] السوءِ مثل ما يسأل، كما جاء في الحديث، أو

يُعطى عوضَ ما سأل يومَ القيامة من الثواب والدرجة؛ لأن الدعاءَ عبادةٌ، ومن عمل عبادةً لا يُجعَل مَحرومًا من الثواب. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 1607 - وقال: "إذا سأَلْتُمُ الله فاسْأَلُوهُ بِبُطونِ أَكُفِّكُمْ، ولا تسأَلُوهُ بظُهُورِها". قوله: "إذا سألتُمُ الله فاسألوه ببطونِ أكفِّكم، ولا تسألوهُ بظُهُورِها"، (الأكف): جمع كف، العادةُ فيمن طلب شيئًا من أحدٍ أن يبسطَ ببطن كفَّه ويمدها إليه، والداعي طالبٌ قضاءَ حاجةٍ من الله الكريم، فليبسطْ بطنَ كفه، وليرفعها إليه متواضعًا متخشعًا، ولا يرفع ظهرَ كفِّه إليه؛ لأن رفعَ ظهر الكفِّ إشارةٌ إلى الدفع، لا إلى الطلبِ، ومن أراد دفعَ بلاء فليرفعْ ظهرَ كفِّه، كما فعل رسول الله - عليه السلام - في الاستسقاءِ، وحين دعا بدفع الحَرْقِ والهدمِ ونزولِ العذابِ. روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 1608 - ويُروى: "فإذا فَرَغْتُمْ فامْسَحُوا بها وجُوهَكُمْ". قوله: "فإذا فرغتُمْ فامسحُوا بها وجُوهَكم"؛ يعني: فإذا فرغتم من الدعاءِ، فامسحُوا ببطونِ أكفِّكم وجوهكم. وعلته: أنه نزلتِ الرحمةُ على بطنِ كفِّ الداعي، فليمسحْ بها وجهه؛ لتصلَ البركةُ والرحمة إلى وجهه، وهذا شيءٌ يقبله المؤمن عن الاعتقاد تصديقًا

لرسول الله - عليه السلام - فيما قاله. * * * 1609 - وقال: "إنَّ ربَّكُمْ حَييٌّ كريمٌ، يَسْتحيي من عبْده إذا رفع يدَيهِ إليه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا". قوله: "إن ربكم حييٌّ كريمٌ يَستحيي من عبدِهِ إذا رفَع يديه إليه أن يردَّهما صِفرًا". (الصِّفْر) بكسر الصاد وسكون الفاء: الخالي؛ يعني: من رفع يده إلى ربه، فقد أظهرَ غايةَ عجزه واحتياجه، وأظهرَ واعتقد كرمَ ربه، ومن فعل هذا، فقد أوجبَ الله تعالى على نفسه كرمًا قضاءَ حاجته، فإن الكريمَ لا يردُّ السائل محرومًا. روى هذا الحديث أنسٌ وسلمانُ. * * * 1611 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ الجَوامِعَ مِنَ الدُّعاءِ، ويَدَعُ ما سِوَى ذلك. قوله: "قالت عائشةُ: كانَ رسولُ الله - عليه السلام - يستحبُّ الجوامعَ من الدعاءِ ويَدَعُ ما سِوَى ذلك". (يدع)؛ أي: يترك، والمراد بـ (الجوامع): ما كان لفظه قليلًا، ومعناه مجموعًا فيه خيرُ الدنيا والآخرة نحو أن يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} * * *

1612 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أسْرَعَ الدُّعاءِ إجابةً دعوةُ غَائبٍ لغَائِبٍ". قوله: "إنَّ أسرعَ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائبٍ لغائبٍ"؛ يعني: إذا دعا أحدٌ لغائب يُستجابُ دعاؤه له؛ لأنه بعيدٌ عن الرياء والطمع، بل لا يدعو غائبٌ لغائب إلا خالصًا لله، وما كان خالصًا لله يكون مقبولًا. روى هذا الحديث عبد الله بن عمر. * * * 1613 - وقال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: اسْتَأْذَنْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العُمْرَةِ، فأذِنَ لي وقال: "أشْرِكْنَا - يا أُخَيَّ - في دُعائِكَ، ولا تَنْسَنَا"، فقالَ كلمةً ما يَسُرُّني أنَّ لي بها الدُّنيا. قوله: "فقال كلمةً"؛ يعني: فقال لي رسولُ الله - عليه السلام - كلمةً. قوله: "ما يسرُّني أن لي بها الدنيا"، (ما) للنفي، والباء في (بها) للبدل؛ يعني: لو كان لي جميعُ الدنيا بدل هذه الكلمة ما فرحت به، بل كنت بهذه الكلمة أشدَّ فرحًا من أن تكون لي الدنيا، والكلمةُ التي فرح بها عمرُ يحتمل أن تكون قوله - عليه السلام - لعمر: "يا أُخَيَّ"، ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام: "أشرِكْنا في دعائك"؛ فإن طلبَ رسول الله - عليه السلام - من عمر أن يُشرِكَ خيرَ المخلوقات في دعائه تعظيمٌ لعمر، ومنصبٌ له. وهذا تعليمٌ للأمة؛ فإنه - عليه السلام - مع علوِّ شأنه، وكونه خيرَ المخلوقات، رغبَ في دعاء عمر، فأنْ نرغبَ في الدعاءِ أولى وأليقُ. * * * 1614 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حينَ يُفْطِرُ،

والإِمامُ العادِلُ، ودعوةُ المَظْلومُ يَرفَعُهَا الله فوقَ الغَمامِ وَيُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتي لأَنْصُرَنَّكَ ولو بعدَ حينٍ". قوله: "ثلاثةٌ لا تردُّ دعوتهم ... " إلى آخره. اعلم أن سرعة قَبولِ الدعاء إنما تكونُ لصلاح الداعي، أو لتصرُّعه في الدعاء، و"الصائمُ" يقبل دعاؤه؛ لأنه فرغَ من عبادةٍ محبوبةٍ إلى الله تعالى، وهي الصوم، كما قال رسول الله - عليه السلام - حكايةً عن الله تعالى: أنه قال: "الصَّومُ لي". وأما "الإمام" فلأنَّ عدله أفضلُ العبادات؛ لأن عدلَ ساعةٍ يدركُ عبادةَ ستين سنة. وأما "المظلوم" فلأنه لمَّا لحقته نار الظلم، واحترقت أحشاؤه، خرج منه الدعاءُ عن التضرع، وصار مُضطرًا إلى قبول الدعاء، ودفع الظلم عنه، فيقبل الله دعاءه، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. قوله: "يرفعُها الله فوقَ الغَمامِ"، الضمير في (يرفعها) يرجع إلى دعوة المظلوم، والمراد بقوله عليه السلام: (يرفعها فوق الغمام) أنه يرفعها حتى تجاوزَ الغمامَ، وهو السحاب، وتجاوزُ السماءَ حتى تصلَ إلى حضرة الله تعالى، فيقول الله: "وعزتي لأنصرنك" أيها المظلوم "ولو بعد حين". يعني: لا أضيعُ حقك، ولا أردُّ دعاءك، ولو مضى زمانٌ طويل؛ لأني حكيمٌ، لا أعجَّل عقوبة العباد، فلعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاءِ الخصومِ والتوبةِ. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1615 - وقال: "ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَاباتٍ لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالِدِ،

2 - باب ذكر الله - عز وجل - والتقرب إليه

ودعوةُ المُسافِرِ، ودعوةُ المَظْلُومِ". قوله: "ثلاثُ دعواتٍ مُستجاباتٍ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ المظلوم". قبولُ دعوة الوالد والمسافر لما ذكرناه من أنه يخرج الدعاءُ عن التضرع. ولفظ الحديث في كتاب أبي عيسى الترمذي: "دعوة الوالد على ولده"؛ يعني: دعاء الشرِّ، وإنما يكون قبول هذا الدعاء إذا صدر عن الولد عقوقٌ؛ أي: مخالفة أمر الوالد فيما يجب على الولد طاعته، فإذا خالفه الولد، يكون الوالدُ مظلومًا، فيستجابُ دعاؤه، كما ذكرنا في المظلوم، وتقاسُ على الوالد الوالدةُ. وقيل: بل دعاءُ الوالدِ أسرعُ إجابةً من دعاء الوالدة؛ لأن الوالدةَ لها رحمةٌ وشفقةٌ بالولد، لا تريد قبول دعائها. وأما المسافر فيحتمل أن يكون دعاؤه بخير لمن يطعمه طعامًا، ويخدمه، فيدعو له، فيُقبل دعاؤه؛ لأن الغالبَ من حال المسافر: أن يكون مُحتاجًا، ومُضطرًا إلى طعام، فإذا أطعمه أحدٌ، يكون دعاءُ المسافر له عن الصدق وخلوص النية، فتسرعُ إجابته، ويحتمل أن يكون دعاؤه بشرًّ لمن يؤذيه، ويمنع حقَّه من الطعام والماء عند الاضطرار، فيُقبل دعاؤه؛ لأنه مضطرٌ منكسرُ القلب. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 2 - باب ذِكْرِ الله - عز وجل - والتَّقرُّبِ إليهِ (باب ذكر الله - عز وجل - والتقرُّب إليه) مضى شرحُ هذا في الحديث الأول في (كتاب العلم).

1617 - وقال: "سَبَقَ المُفَرِّدونَ"، قالوا: وَمَا المُفَرِّدونَ يا رسولَ الله؟، قال: "الذَّاكِرُونَ الله كثيرًا والذَّاكِرَاتُ". قوله: "سبقَ المُفرِّدونَ": بَيَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات، وكان حقيقةُ التفريد في اللغة: جعلَ الرجلِ نفسَهُ فردًا ممتازًا بذكر الله عمَّن لا يذكرُ الله، أو جعلَ ربه فردًا بالذكر، وترك ذكر من سواه. روى هذا الحديث أبو هريرةَ. * * * 1618 - وقال: "مَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّه والذي لا يذكرُ مثَلُ الحيِّ والميتِ". قوله: "مثلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكرُ مثلُ الحيِّ والميتِ"؛ يعني: الحي تحصلُ منه طاعة، والميت لا تحصلُ منه طاعة، فالذاكرُ ربَّه هو الحيُّ على الحقيقة؛ لأن الحيَّ من له تلذُّذٌ وحياة، والتلذذ والحياة الحقيقي هو ذكرُ الله تعالى وطاعتُهُ؛ لأنَّ الذكرَ يُحيي القلوبَ، ويوجِبُ له الجنةَ، ولقاءَ الله ورضاه، وهذه الأشياءُ هي الحياةُ الحقيقية، ومن خلا من الذكرِ، فهو ميتٌ؛ لأنه خالٍ عمَّا يُحيي قلبَه، وعما يوجب له الحياة الأبدية، وهو ذكرُ الله وطاعته. روى هذا الحديث أبو موسى. * * * 1619 - وقال: "يقولُ الله تعالى: أنا عندَ ظَنَّ عَبْدِي بي، وأنا معَه إذا ذَكَرَني، فإنْ ذَكَرَني في نْفسِهِ ذَكَرْتُهُ في نْفسِي، وإنْ ذَكَرَني في ملأٍ ذَكَرْتُهُ في ملأٍ خير منهم".

قوله حكاية عن الله أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي"، هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون معناه: أني مطلعٌ على قلب عبدي، وأعلمُ أن فيه ذكري، ومَحبتي، وتعظيمَ أمري، ورضاه بقضائي وقدري، أو يكون في قلبه خلافُ هذه الأشياء، فإذا علم العبد أني مطلعٌ على قلبه، فليكنْ في قلبه ما أُحبُّه وأُثيبُهُ عليه جدًا، ولا يغفلُ عني، فيحرم من رضائي وثوابي. والاحتمال الثاني: أن يكون معناه: أني أعطي العبدَ ما يظن بي، فإن اعتقدني كريمًا، أكرمت عليه، وإن اعتقدني غفورًا غفرت له، وإن اعتقدني رحيمًا رحمته. و (الظن) هنا بمعنى: اليقين والاعتقاد، لا بمعنى: الشكِّ. قوله: "وأنا معهُ إذا ذكرني"؛ أي: أنا عالمٌ به، ولا يَخفَى عليَّ شيءٌ. "فإن ذكرني في نفسِهِ"؛ أي: في السرِّ. "ذكرته في نفسي"؛ أي: أوجبت له، وأثبتُّ له الثوابَ بحيث لا يعلمُ أحدٌ من الملائكة. "وإن ذكرني في ملأ"؛ أي: بينَ جماعةٍ. و (الملأ): الجماعة الأشراف. "ذكرته في ملأ"؛ أي: بين الملائكة. "خير منهم"؛ أي: الملائكة خير من الجماعة التي ذكرني بينهم. واختلف في أن الملائكة خير من البشر أم لا؟ وما عليه المعتبرون من الأئمة، وهذا هو المختارُ: أن خواصَّ البشر - أعني: الأنبياءَ - خيرٌ من خواصِّ الملائكة، وأما عوامُّ البشر ليسوا خيرًا لا من خواصِّ الملائكة، ولا من عوامهم. روى هذا الحديثَ أبو هريرةَ. * * *

1620 - وقال: "مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا وأَزِيدُ، ومَنْ جاءَ بالسَيئةِ فجَزاءُ سيئةٍ مثلُها أو أَغفِرُ، ومَنْ تَقَرَّبَ شِبرًا منِّي تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، ومَنْ تَقَرَّب منِّي ذِراعًا تقرَّبْتُ منهُ باعًا، ومَنْ أَتاني يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، ومَنْ لَقِيَنِي بقُرابِ الأَرضِ خَطيئةً لا يُشْرِكُ بي شيئًا لَقِيتُهُ بمِثلِها مغفرةً". قوله: "أو أَغْفِرُ"؛ يعني: إن شئتُ جازيتُ المسيءَ لا أجازيه بكلِّ شيء إلا جزاء سيئة فقط، وإن شئت أغفر له تلك السيئةَ؛ فإني غفورٌ رحيم. قوله: "ومن تقرَّبَ مني شِبرًا، تقرَّبت منه ذِراعًا ... " إلى آخره. (التقرُّب): طلب القُربةِ، وطلبُ قُربةِ العبد من الله يكون بالطاعة، فمن كانت طاعتُهُ وصفاءُ قلبه أكثرَ، كانت قربته من الله أكثر. يعني بهذه الألفاظ المذكورة في هذا الحديث: أن ثوابي أكثرُ من طاعة العبد، وتوفيقي إياه أكثرُ من سعيه؛ يعني: فإن فعلَ خيرًا قليلاً، جازيته به ثوابًا كثيرًا، وإن طلب مني التوفيقَ والاستعانةَ على الطاعة أعطيتُهُ أضعافَ ما طلب. (المشي): الذهاب المعهود. و (الهرولة): الذهاب مع الإسراع؛ يعني: العَدْو. "ومَنْ لقيني"؛ أي: جاءني يومَ القيامة. "بقُرابِ الأرضِ"؛ أي: بمِلء الأرضِ. لا يجوزُ لأحد أن يغترَّ بهذا الحديث ويقول: إذا قال الله تعالى: "مَنْ لقيني بقُرابِ الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيتُهُ بمثلها مغفرة"، فأُكْثِرُ الخطيئةَ حتى يكثِرَ الله مغفرته، وإنما قال الله بهذا؛ كي لا ييأسَ المذنبون من رحمته، ولا شك أن الله له مغفرةٌ وعقوبةٌ، ومغفرتُهُ أكثرُ، ويغفرُ كثيرًا من [ذنوب] المذنبين، وإن كانت ذنوبهم كثيرة، ويُعذَّب كثيرًا من المذنبين

بذنوبهم، ولا يعلم أحدٌ أنه من الذين يغفرُ الله من ذنوبهم، أو من الذين يعذبهم الله بذنوبهم، فإذا كان الأمر كذلك فليرجُ الرجل مغفرةَ الله، وليخَفْ عقابَهُ، والله أعلم. روى هذا الحديث أبو ذرٍّ. * * * 1621 - وقال: "إنَّ الله تعالى قال: مَنْ عَادَى لِيْ وَلِيًّا فقد آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افتَرَضْتُ عليهِ، وما يَزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فإذا أَحببْتُهُ، كنتُ سَمْعَهُ الذي يَسمعُ به، وبصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَه النبي يَبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطِيَنَّهُ، ولئنْ استَعاذَ بي لأُعيذَنَّهُ، وما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعَلُهُ تَرَدَّدِي عن نفْسِ المُؤمنِ، يَكْرَهُ المَوتَ، وأنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه، ولا بُدَّ له مِنه". قوله - عليه السلام - حكايةً عن الله تعالى: أنه قال: "مَنْ عادَى لي وليًا، فقد آذنته بالحربِ"؛ يعني: من أغضب وآذى واحدًا من أوليائي. "فقد آذنته"؛ أي: أعلمته بأني سأحاربه؛ أي: سأقهره وأعذبه. و (أولياء الله): هم المطيعون له، وليس المراد بالوليِّ هنا: الولي المعهود بين المشايخ، بل كلُّ مُتَّقٍ داخلٌ في هذا الحديث؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]. قوله: "وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه"؛ أي: بأداء ما فرضتُ عليه؛ يعني: أداءُ الفرائض أفضلُ من أداء السنن والنوافل؛ لأن أداءَ الفرائض طاعةُ الله والإتيان بأوامره، وترك أداء الفرائض عصيانُ الله، ولا شكَّ أن الإتيانَ بأوامر الله واجتنابَ عصيانِهِ أحبُّ إليه من أداء النوافل الذي

لم يأمر به الله، ولم يعصِ أحدٌ الله بترك النوافل، بل فعل النوافل موجبٌ للثواب، وتركُهُ غيرُ موجبٍ للعقابِ. قوله: "وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه". مثال المؤدي للفرائض والنوافل جميعًا كمن عليه دينٌ لأحد، فإذا أدَّى دينه موفرًا كاملًا عن غير مطلٍ يحبُّه، ولو أدَّى دينه، وزادَ عليه شيئًا من ماله غيرَ ما وجب عليه، لا شكَّ أن آخذَ الدين أشدُّ حبًا له بأخذ الدين والشيءِ الزائد من أخذ الدين، فكذلك مَنْ أدَّى فرائضَ الله تعالى يحبُّه الله، ومن أدَّى الفرائضَ والنوافلَ يزيدُ حبُّ الله له، فبقدرِ ما زاد من النوافل يزيدُ حبُّ الله له، حتى صار عبدًا مخلصًا مرضيًا لله تعالى، فإذا صار مرضيًا محبوبًا لله، يكون الله سمعَهُ الذي يسمع به ... إلى آخر الكلمات. سُئِلَ الشيخُ أبو عثمان الحِيْرِيُّ عن هذه الكلمات فقال: معناه: كنتُ أسرعَ إلى قضاء حوائجه من سمعِهِ في الاستماع، وبصرِهِ في النظر، ويدِهِ في اللمس، ورجلِهِ في المشي. وقال الخطَّابيُّ: معناه: توفيقه في الأعمال التي باشرها بهذه الأعضاء؛ يعني: يتيسَّرُ عليه فيها سبيلُ ما يحبُّه ويعصمه عن موافقة ما يكره من استماعٍ إلى اللغوِ بسمعه، ونظرٍ إلى ما نهى الله عنه ببصرِهِ، وبطشٍ بما لا يحلُّ بيده، وسعي في الباطل. حاصل كلام الخطابي: أن معناه: أني أوفِّقه حتى لا يسمعَ إلا ما أحبه، ولا يبصر إلا ما أحبه، ولا يستعمل يديه ورجليه إلا فيما أحبه. قوله: "وما تردَّدتُ في شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفسِ المؤمنِ". (تردَّد الرجل): إذا تحيَّرَ بين الفعلين؛ لعدم علمه بأنَّ الأصح فعلُ هذا أم هذا، وهذه من صفة الخلق، وأما الخالق منزهٌ عن التردُّدِ بهذا المعنى.

وذكر في "شرح السنة": [أنه] له وجهان: أحدهما: أن معناه: أني أرسلتُ إلى المؤمن ما يقرَّبهُ إلى الهلاك من المرض والجوع والعطش والسقوط من العلو إلى السفل البعيد، ثم حفظته وشفَيْتُه من الأمراض، ودفعتُ عنه الجوعَ والعطشَ، ففعلتُ به هذا مرةً بعدَ أخرى، ولم أهلكه حتى يبلغ أجله، ومن قَرُبَ أن يفعل فعلًا، ثم تركه، يقال: (بدا له تردُّدٌ)، فكذلك إذا أرسل الله إلى المؤمن ما يقرِّبه إلى الهلاك، ثم حفظه عن الهلاك، فكأنه قرب أن يهلكه ولم يهلكه، فهذا يشبهه فعلُ المتردَّد، ولكن ليس في حق الله تعالى بأنه عالم بما كان وما يكون، وبما فعل وبما يفعل، ولا يخفى عليه شيء. والوجه الثاني: أن يكون (التردد) بمعنى: الترديد، وهو جعلُ أحدٍ مترددًا بين أمرين، ومعناه هنا في هذا الوجه: أني ما ردَّدتُ الملائكةَ الذين يقبضون أرواحَ الناس ويهلكونهم في شيء ترديدًا مثلَ ترددي إيَّاهم في قبض أرواح المؤمنين؛ يعني أقول لهم: اقبضوا روح فلان، ثم أقولُ لهم: أخِّروه، كما جاء أنه تعالى بعثَ ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، وأمره بقبضِ روحِهِ، فلما جاء ملكُ الموت وقال له: أجب ربك؛ يعني: أطعني حتى أقبض روحَكَ، فلطمه موسى، وفَقَأَ عينَهُ، فرجع ملك الموت إلى ربه وقال: يا رب! أرسلتني إلى من لا يريدُ الموتَ، فلطمني، وفقأ عيني، فردَّ الله إليه عينه فقال له: اذهبْ إلى موسى، وقل له: إن كنتَ تريدُ الحياةَ، فضعْ يدَك على متن ثورٍ، فما وارت يدك من شعره، فاإنك تعيشُ بها سنة، فقال موسى عليه السلام: ثم مَه؟ أيُّ: أي شيء يكون بعد ذلك؟ فقال: الموت؛ يعني: تموت بعد ذلك، فقال: الآنَ من قريب؛ يعني: فإذا كان عاقبتي الموت، فأمتني عن قريب. قوله: "يكره الموتَ وأنا أكرهُ مساءتَهُ"، (المساءة): الأحزان، والمراد بها

ها هنا: شدة الموت، وليس المراد بها: نفس الموت؛ لأن الموت يوصل المؤمن إلى رحمة الله تعالى ولقائه، فكيف يكره الله للعبد الموت الذي يوصله إلى رحمته؟! يعني: يكره المؤمنُ الموتَ، وأنا أكره له أيضًا شدةَ الموت، فأؤخِّر موته؛ يعني: لا أهلكه بما يلحقه أولًا من أسباب الموت من المرض والسقوط وغير ذلك، ولا بما يلحقه ثانيًا وثالثًا، بل أشفيه من الأمراض، وأحفظه من الهلاك، حتى يَكمُلَ له ما كُتِبَ من العمر. وفي بعض الروايات بعد قوله: (وأنا أكره مساءته): "ولا بدَّ له منه"؛ يعني: وبعد تأخيرِ عمره ونجاته من الأمراض والمهلكات، لا بدَّ له من الموت، ولا يخلصُ منه، فإني قدَّرت لكلَّ نفسٍ الموتَ. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1622 - وقال: "إنَّ للهِ ملائكةً يَطُوفونَ في الطُّرُقِ يلتمِسُونَ أهلَ الذِّكرِ، فإذا وَجَدُوا قَومًا يذكرونَ الله تَنَادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، قال: فَيَحُفُّونَهم بِأَجنِحَتِهم إلى السَّماء الدُّنيا، فإذا تَفَرَّقُوا عَرجُوا إلى السَّماءِ، قال: فيَسْألُهم الله وهو أَعلَمُ بهم: مِنْ أينَ جئتُم؟، فيقولونَ: جِئْنَا مِنْ عِندِ عِبادِكَ في الأَرضِ، قال: فيسألُهم ربُّهم وهو أَعْلَمُ بهم: ما يقولُ عبادي؟، قالوا: يُسَبحونَكَ، ويُكَبرُونَكَ، ويَحمدُونَكَ، ويُهَلِّلُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، قال: فيقول: هل رَأَوْنِي؟ قال: فيقولونَ: لا والله ما رَأَوْك، قال: فيقولُ: كيفَ لو رَأَوْنِي؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانوا أَشَدَّ لكَ عِبادةً، وأشدَّ لكَ تَمْجيدًا، وأكثرَ لكَ تَسْبيحًا، قال: فيقولُ: فما يسأَلوني، قالوا: يَسألونَك الجنَّةَ، قال: وهل رَأَوْهَا؟، قال: فيقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْهَا؟ قال: يقولونَ: لو أنَّهم رَأَوْها كانوا أشدَّ عليها حِرْصًا، وأشدَّ لها طَلَبًا، وأعظمَ فيها

رغبةً، قال: فيقولُ: فَمِمَّ يتَعَوَّذونَ؟، قال: يقولونَ: من النَّار، قال: فهل رَأَوْها؟ قال: يقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْها؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْها كانوا أَشَدَّ منها فِرارًا وأشدَّ لها مخافةً، قالوا: ويَستغفِرُونَكَ، قال: فيقولُ: فأُشْهِدُكم أَنِّي قد غفَرتُ لهم، وأَعطيتُهم ما سَأَلوا، وأَجَرْتُهم مما استَجارُوا، قال: يقولُ مَلَكٌ مِنَ الملائكةِ: ربِّ فيهم فُلانٌ ليسَ مِنْهُم، إنَّما جاءَ لحَاجَةٍ". وفي روايةٍ: "يقولونَ: ربِّ فيهم عبدٌ خطَّاءٌ، إنَّما مَرَّ فجلَسَ معَهم، قال: فيقولُ: ولهُ غفَرتُ، هُم القَومُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُم". قوله: "يلتمسون أهلَ الذكر"؛ يعني: يطلبون من يذكر الله من بني آدم؛ ليزورُوهم، ويدعوا لهم، ويستمعوا إلى ذكرهم. "تنادَوا"؛ أي: ينادي بعضُ تلك الملائكة بعضًا، ويقولون: (هلموا)؛ أي: تعالوا "إلى حاجتكم"؛ أي: إلى ما تطلبون من استماعِ الذكرِ، فإنا قد وجدنا جماعةً من أهل الذكر. قوله: "هلموا" هذا اللفظُ يجوز أن يُجعَل في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث (هَلُمَّ): بفتح الميم على لفظ الواحد، ويجوز أن يُصرَّفَ كـ (مُدَّ)، وهو أمرُ حاضرٍ من (المدِّ). قوله عليه السلام: "فيحفونهم بأجنحتهم"، (الحُفوف): الاجتماعُ والاشتمال حول الشيء. (الأجنحة): جمع جناح، والباء للتعدية؛ يعني: يديرون أجنحتهم حولَ جماعةِ الذاكرين. قوله: "إلى السماء"؛ يعني: يقف بعضُهم فوقَ بعض إلى السماء الدنيا.

"فإذا تفرقوا"؛ يعني: فإذا تفرَّقَ الذاكرون. "التمجيد": ذكرُ (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وأصلُ لُغته: ذكرُ الله بالعظمة. "وأجرتهم": هذا اللفظُ من (أجار يُجير إجارة): إذا أمَّنَ أحدًا ممَّا يخافُ، و (الاستجارة): طلب الأمان. قوله: "ليس منهم"؛ يعني: كان فيهم رجلٌ ليس من الذاكرين، بل كان يمرُّ لشُغلٍ، فجلس بينهم، يريد ذلك الملك بهذا اللفظ: أنه لا يستحقُّ المغفرةَ؛ لأنه ليس من الذاكرين. قوله تعالى: "وله غفرت"؛ يعني: غفرت لهذا العبد أيضًا ببركة الذاكرين. "فإنهم قوم لا يَشقَى بهم جليسُهم"؛ أي: لا يُحرَم جليسُهم من الثواب، بل من جلس معهم يجدُ ببركتهم الثوابَ. وفي هذا ترغيبٌ للعباد في مجالسةِ الصلحاءِ؛ لينالوا نصيبًا من بركتهم وثوابهم. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1623 - عن حَنْظَلة الأُسَيديِّ قال: انطلقتُ أنا وأبو بكْرٍ حتَّى دخلْنَا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قلتُ: نافَقَ حَنْظَلةُ!، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا ذَاكَ؟ "، قلتُ: نكُونُ عندَكَ تُذَكِّرنا بالنارِ والجنةِ كأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فإذا خرجْنا عافَسْنا الأزْوَاجَ والأولادَ والضَّيْعَاتِ نَسِيْنا كثيرًا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفْسي بيدِهِ، لو تَدُومونَ على ما تَكُونُونَ عندي وفي الذِّكرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الملائكةُ على فُرُشِكُم

وفي طُرقِكُم، ولكن! يا حنظلةُ ساعةً وساعةً" ثلاثَ مرَّاتٍ. قوله: "نافق حنظلة"؛ أي: صار منافقًا. و (المنافق): من يظهرُ الإسلامَ، وفي قلبه شيء آخر. قوله عليه السلام: "وما ذاك؟ "؛ أي: وأي شيء قولك؟ يعني: لأي سبب تقول: نافق حنظلة؟ قوله: "كأنا رأيَ عين"، (رأي عين): مصدرٌ أُقيم مقام أسماء الفاعلين، والمصدر يقام مقام اسم الفاعل والمفعول والواحد والتثنية والجمع؛ أي: كأنا رائين الجنة والنار وأهوال القبر والقيامة بالعين. قوله: "عافسنا الأزواجَ والأولادَ"؛ أي: خالطناهم. يعني: إذا كنتُ عندكَ كنتُ على غاية الحضور والخوف من الله وصفاء القلب، وإذا خرجت من عندك أكون على غير حضور، وهذا الفعل كفعل المنافقين. (الضَّيْعاتُ): الأراضي والبساتين، والحِرَفُ أيضًا. قوله: "لو تدومونَ على ما تكونون عندي وفي الذِّكرِ"؛ يعني: لو كنتم في غيبتي مثل ما كنتُم عندي من صفاء القلب والدوام على الذكرِ والخوفِ من الله تعالى، "لصافحتكم الملائكة"؛ يعني: لزارتكم الملائكة، ولعله - عليه السلام - أراد بمصافحة الملائكة إياهم علانية؛ لأن الملائكةَ يصافحون أهلَ الذكر. قوله: "ساعة وساعة"؛ يعني: لا يكون الرجل منافقًا بأن يكون في وقتٍ على غاية الحضور وصفاء القلب وفي الذكر، وفي وقتٍ لا يكون بهذه الصفة، بل لا بأسَ في وقت بأن يكون ساعة في الذكر، وساعة في الاستراحة والنوم

والزراعة ومعاشرة النساء والأولاد، وغير ذلك من المُباحاتِ. * * * مِنَ الحِسَان: 1624 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا أُنَبئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأَزكَاها عندَ مَلِيكِكُم، وأَرْفَعِها في دَرجاتِكُم، وخيرٍ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم مِن أن تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فتضْرِبُوا أعناقَهُم ويَضْرِبُوا أعناقَكُم؟ "، قالوا: بلى، قالَ: "ذِكْرُ الله". قوله: "وأزكاها"؛ أي: أطهرها وأتمها. "المليك": الملك، والمراد به ها هنا: هو الله تعالى. قوله: "من أن تلقوا عدوكم"؛ يعني: من الجهاد مع الكفار. روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ. * * * 1625 - وعن عبد الله بن بُسْرٍ قال: جاءَ أعرابيٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟، فقال: "طُوبَى لمَنْ طالَ عمرُه وحَسُنَ عَمَلُه"، قال: يا رسولَ الله، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟، قال: "أنْ تُفَارِقَ الدُّنيا ولِسانُكَ رطْبٌ مِن ذكرِ الله". قوله عليه السلام في جواب الأعرابي: "طُوبى لمن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ"؛ يعني: خير الناس من طال عمره وحسن عمله. قوله: "ولسانُكَ رطْبٌ من ذكر الله"؛ أي: ولسانك متحرِّكٌ بذكر الله. و (رطب اللسان): عبارة عن جريان اللسان بالكلام، و (جف اللسان):

عبارة عن السكوت. * * * 1626 - وقال: "إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنَّةِ فارتَعُوا"، قالوا: وما رياضُ الجنةِ؟، قال: "حِلَقُ الذكرِ". قوله: "إذا مررتُمْ برياضِ الجنةِ فارتعوا ... " إلى آخره. (الحَلَق) بفتح الحاء واللام: جمع حَلَقَة. يعني: إذا مررتم بجماعةٍ يذكرون الله، فاذكروا الله أنتم أيضًا موافقةً لهم، فإنهم في رياضِ الجنة، وأيُّ خصلةٍ توصلُ العبد إلى الجنة، فهي روضةٌ من رياض الجنة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1627 - وقال: "مَنِ اضطَجعَ مَضْجَعَاً لم يَذْكُرِ الله فيه؛ كانَ عليهِ تِرَةً يومَ القيامَةِ، ومَنْ قَعَدَ مَقْعدًا لم يَذْكرِ الله فيه كانَ عليه تِرَةً يومَ القيامَةِ". قوله: "ومن اضطجعَ مضجعًا لم يذكرِ الله فيه كانَ عليه تِرَةً يومَ القيامة"، (الترة): النقصان، من وتر يتر وَتْرًا وتِرة: إذا نقص، والمراد بها ها هنا، وفي الحديث الذي بعده: التَّبعة، وهي الماخذة بجُرْم، وحقيقة هذا: أن شكر الله على نعمه واجبٌ، والمضطجعُ والمجلسُ أيضًا عليه من نِعمِ الله تعالى؛ لقوله تعالى مِنَّة على العباد: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] وقال أيضًا: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]؛ أي: لينة بحيثُ يمكنكم الاستقرارُ والترددُ والزراعةُ فيها، فإذا كان الزمان والمكان لله تعالى، فمن استوفى حظَّه من مكان

بأن جلسَ فيه واضطجعَ، يجبُ عليه قضاء شكره على الحقيقة بأن يذكر الله ويصلِّي على نبيه فيه، وهذا كمن جلس في دار واحد، وجبَ عليه الاستحلالُ والأجرةُ. والوجوب الذي قلناه هنا من وجوب شكر الله هو بمعنى الحَقِّيَّة، لا بمعنى الوجوب الذي لو تركه العبد يكون عاصيًا. روى هذا الحديث والذي بعده أبو هريرةَ. * * * 1630 - وقال: "كُلُّ كلامِ ابن آدمَ عليه لا لَهُ إلاَّ أَمْرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن مُنْكَرٍ، أو ذِكرًا للهِ"، غريب. قوله: "كلُّ كلامِ ابن آدم عليه لا لهُ"؛ يعني: كل كلام ابن آدم يكون وَبالاً عليه، ويُؤاخذُ به يوم القيامة. (لا له)؛ يعني: ليس له نفعٌ. "إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكرًا لله"، والمراد بذكر الله هنا: ليس التسبيح والتهليل وما أشبه ذلك من الكلمات فقط، بل ما فيه رضا الله من كلامٍ، كتلاوة القرآن، والصلاة على النبي عليه السلام، والدعاء للمؤمنين، وما أشبه ذلك. وقد يكون بعض الكلام لا عليه ولا له؛ لأن الكلام ثلاثة أقسام: ما هو شرٌّ، وما هو خيرٌ، وما هو مباحٌ؛ لا شرٌّ ولا خيرٌ، كما يقول أحد لأحد: تعال، أو قم، أو ما أكلتَ؟ أو ما صنعتَ؟ وما أشبه ذلك، ففي الشرِّ إثمٌ، وفي الخير أجرٌ، وفي المباح عفوٌ؛ لا إثمٌ فيه ولا أجر.

روت هذا الحديث أمُّ حبيبة. * * * 1631 - وقال: "لا تُكْثِرُوا الكلامَ لغيرِ ذِكْرِ الله، فإن كَثْرَةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله قَسْوةٌ للقَلْبِ، وإن أَبْعَدَ الناسِ مِنَ الله القلْبُ القاسي". قوله: "فإن كثرةَ الكلامِ بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب"، (القسوة): شدة القلب، وشدة القلب: عبارة عن عدم قَبولِ ذكر الله والخوف والرجاء وغير ذلك من الخصال الحميدة. يعني: كثرة: الكلام فيما ليس له فيه رضا الله تعالى تجعلُ القلب قاسيًا على الشرح الذي ذكرناه في قسوة القلب، لا شك أنه يكون بعيدًا من نظر الله؛ فإنَّ الله ينظرُ بنظر الرحمة إلى قلبٍ فيه الخصالُ المرضيةُ لله تعالى. قوله: "وإن أبعدَ الناس من الله تعالى القلبُ القاسي": هذا الكلامُ يحتاج إلى إضمارٍ وتقديرٍ، فتقديره: إن أبعدَ قلوبِ الناسِ من الله القلبُ القاسي، فحُذِف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون تقديره: وإن أبعد الناس من الله من له القلب القاسي. روى هذا الحديث ابن عمرَ. * * * 1632 - عن ثَوْبان قال: لما نزلتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كُنَّا مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أَسْفَارِهِ، فقالَ بعضُ أصحابهِ: لو علمنَا أيُّ المالِ خيرٌ فَنتَّخِذَهُ؟، فقال: "أَفْضَلُه لسانٌ ذَاكِرٌ، وقلبٌ شاكِرٌ، وزوجةٌ مؤمِنَةٌ تُعِينُهُ على إيمانِهِ". قوله: "أفضلُهُ لسانٌ ذاكرٌ ... " إلى آخره.

3 - باب أسماء الله تعالى

الضمير في (أفضله) يعود إلى (المال)؛ فإن قيل: قد قالت الصحابة: لو علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه؟ فأجابهم رسول الله عليه السلام: بأن أفضل المال لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ شاكر، وزوجة مؤمنة، وهذه الأشياءُ ليست من المال، فإن المال في عرف الناس: الذهب والفضة والعقار والنعم والأقمشة وغير ذلك من متاع الدنيا. قلنا: المال هو ما ينفعُ مالكه، ولا شيءَ أنفع للرجل من ذكر الله تعالى، ومن شكر القلب، ومن الزوجة المؤمنة التي تعينُ الرجلَ على دينه بأن تذكِّره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات إذا نسي أو غفل، وتمنعه من الزنا، وهذه الأشياء موجبة لرضا الله تعالى، [وهو]، موجبٌ للجنة، ولا أنفع للرجل من خلودِهِ في الجنةِ. * * * 3 - باب أَسْماءِ الله تعالى (باب أسماء الله تعالى) مِنَ الصِّحَاحِ: 1633 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا مائةً إلاَّ واحِدًا، مَنْ أَحصاهَا دخلَ الجنَّة" وفي رواية: "وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ". روى هذا الحديث والذي بعده أبو هريرة. قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا"، لا يدلُّ هذا الحديثُ على أنه ليس لله اسم غيرُ هذه التسعة والتسعين يقبله ولا ينكره، والضابط: أن أسماءَ الله تعالى

وصفاته قديمة أزلية أبدية، لا طريقَ للمخلوقات إلى معرفة أسماء الله تعالى وصفاته إلا بتعريف الله عبادَه؛ إما بالقرآن أو بألفاظ رسول الله عليه السلام، ولا يجوزُ لأحد أن يذكرَ الله باسم أو صفة لم يكن مذكورًا في القرآن، ولا في الحديث. قوله: "هو وِتْر يحبُّ الوترَ"؛ يعني: إنما كان أسماء الله تعالى وِتْرًا، وليس بشفع؛ لأنه تعالى وِتْرٌ؛ أي: فرد ليس له زوجٌ ولا شريكٌ، فيجب أن يكون عدد أسمائه وِترًا. * * * مِنَ الحِسَان: 1634 - قال: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحصاها دَخلَ الجنَّة: هوَ اللهُ الذي لا إله إلَّا هوَ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمُقِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ، الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ، الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَالِي، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، الْعَفُوُّ، الرَّؤُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ، الْمُغْنِي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ،

الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ"، غريب. قوله: "من أحصاها دخل الجنة"، قال الخطابي: فيه أربعُ احتمالات: أحدها: أن يكون معناه العَدُّ والحفظ؛ يعني: من قرأها وحفظها لفظًا من أولها إلى آخرها دخلَ الجنة. الاحتمال الثاني: أن يكون معنى الإحصاء: الطاقة؛ يعني: من طاق أن يَعمَلَ ويعتقِدَ بموجب كلِّ لفظ. مثاله: إذا قال: الرحمن الرحيم، اعتقد أنه رحمن رحيم، يرجو رحمته، ولا يقنط من رحمته، وإذا قال: القهار، يعلم قهره ويخاف منه، وإذا قال: الرزاق، يعلم أنه لا رازقَ سواه، فلا يخافُ من عدم الرزق، ولا يغتمُّ لأجل الرزق، وكذلك جميع هذه الكلمات؛ يتأملُ في معنى كل واحد، ويعملُ بموجبه. الاحتمال الثالث: أن يكون معنى الإحصاء: العقل والمعرفة؛ يعني: من عرف وعقل معانيها. الاحتمال الرابع: أن يكون معنى الإحصاء: القراءة؛ يعني: من قرأها في القرآن؛ أي: من ختم القرآن من أوَّله إلى آخره حتَّى تلفَّظَ بجميع هذه الأشياء في أثناء القرآن، فإن جميعَ هذه الأسماء موجودةٌ في القرآن. قال أبو عبد الله الزبيري رحمة الله عليه: طلبتُ أسماءَ الله المذكورة في القرآن، فوجدتها مئة وثلاثة عشر، ولكن بعضها مكرَّرٌ، مثل: الغافر والغفور، والعليم والعالم، والقدير والقادر، فلمَّا حذفتُ منها المتكرر بقي تسعة وتسعون اسمًا، كما جاء في الحديث. فإذا عرفت هذا فالمختارُ هو الوجه الأول والثاني، وعلى الوجه الثاني يحتاجُ قارئُها إلى معرفة معانيها؛ ليعتقدها ويعمل بموجبها، ونحن نذكرُ معنى

كلِّ لفظ مشكل. "هو الله": (هو) مبتدأ، و (الله) خبره، "الذي لا إله إلا هو" صفة (الله)، و (الرحمن الرحيم) خبر بعد خبر، وكذلك إلى آخرها. واختلف في لفظ (الله) تعالى؛ قال بعضهم: هو لفظ غيرُ مشتق، وقيل: بل مشتق من (أله): إذا فزع إلى أحد وعبَدَ، وكان أصل (الله) على هذا القول (إله)، فأُدخِل عليه الألف واللام الأصلية للتعريف، وحُذِفت الهمزة الأصلية، وأُدغِمت لام التعريف في اللام الأصلية، فقيل: (الله)، ومعناه: المعبود والملجَأُ الذي يَفزَع ويَلجَأ إليه العبادُ، وغُلِّظَ اللام منه عند التلفظِ به تعظيمًا لهذا الاسم، وليكون فرقٌ بينه وبين التلفظ باللات؛ التي هي اسم صنم؛ لأن (اللات) عند الوقف يصير: (اللاه)، فيشبه لفظة (الله)، ففُخَّم وغُلِّظ لفظ (الله) للفرق، وتغليظه إنما يكون إذا كان قبله حرفٌ مفتوح نحو: أنَّ الله، أو مضموم نحو: رسلُ الله، وأما إذا كان قبله حرف مكسور، يرقَّقُ عند التلفظ نحو: بالله، ولله، وإنما يُرقَّقُ ها هنا؛ لأن الترقيق أقربُ إلى الكسر في التجانس، والتغليظُ بعد الكسر ثقيلٌ. "الرحمن الرحيم": هما اسمان مشتقان من (الرحمة)، وفيهما مبالغة؛ أي: كثير الرحمة، والمبالغةُ في (الرحمن) أكثر، ولهذا يقال عند الدعاء: يا رحمن الدنيا! ويا رحيم الآخرة! يعني: رحمته في الدنيا تعمُّ المسلم والكافر وجميع الحيوانات بأن يرزقهم، وفي الآخرة رحمتُهُ خاصةٌ للمسلمين. "القدوس": الطاهرُ والمنزَّهُ عن الشركاء، وعن صفاتِ المُحدَثات. "السلام": ذو السلامة من كل عيبٍ وآفةٍ ونقصٍ. "المؤمن": الذي أمَّنَ عبادَهُ من الظلم؛ لا يظلمهم، بل ما فعل بهم؛ إما فضل وإما عدل.

"المهيمن": الشاهد الصادق؛ يعني: الله تعالى شاهدٌ على عباده؛ أي: عالم بما يفعلون ويقولون. "العزيز": الغالب على المخلوقات، وهم عاجزون تحت أمره وتقديره. "الجبار": الذي جَبَرَ الخلق؛ أي: جعلهم مُسخَّرين تحت أمره، ويحتمل أن يكون من (جبر): إذا أصلحَ حال أحد؛ أي: يصلح حال العباد بأن يرزقهم ويحفظهم من الآفات. "المتكبر": المتعالي عن أن تدركَهُ العقولُ والأوهام، والمتكبر أيضًا: المتفرد بالعظمة. "البارئ" بالهمز بعد الراء: اسم فاعل من برأ: إذا خلق. "المصور": الذي أظهرَ ويظهرُ صورَ الحيوانات على وجهٍ يتميَّز كلُّ واحد عن الباقي. "الفتاح": الحاكم بالحقِّ بين عباده. "القابض الباسط"؛ يعني: هو الذي يقبضُ الرزق عمَّن يشاء، ويبسطُ على من يشاء، كما تقتضيه الحكمة. "الخافض الرافع"، (الخفض): ضد الرفعة؛ يعني: هو الذي يوقع الجبابرة على التراب، ويرفع المؤمنين والمطيعين بأن يقرِّبهم من رحمته، ويرفع درجاتهم. "الحكم": الحاكم؛ يعني: هو الذي يحكم بين عباده. "العدل": معناه: العادل في الحكم، لا يظلم أحدًا. "اللطيف": البَرُّ بعباده، يُحْسِنُ إليهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. "الخبير": العالم بحقيقة الأشياء.

"الحليم": الذي لا يعجِّل عقوبةَ المذنبين، بل يؤخِّر عقوبتهم لعلهم يتوبون إليه. "الشَّكور": هو الذي يقبل القليل من الطاعة، ويُثيب عليه الثوابَ الكثير. "العلي": العالي فوق خلقه بالقدرة والقوَّة، لا بالمكان والجهة. "الحفيظ": الحافظ الذي يحفظ السماواتِ والأرضَ وما فيهنَّ. "المُقيت": القادر ومعطي قوت الحيوانات. "الحَسيب": الكافي لخلقه؛ يعني: هو حَسْبُهم، ولا يحتاجون إلى غيره. و (الحسيب): المحاسب أيضًا؛ يعني: يحاسب عباده يومَ القيامة بما فعلوا. "الجليل": العظيم. "الكريم": المُكْرِم؛ أي: المُحْسِن على خلقه. "الرقيب": الذي لا يغيب عن علمه شيء. "المجيب": هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. "الواسع": الذي وُسِّعَ رزقُه على جميع خلقه. "الحكيم": هو المُحْكِم لخلقه - بكسر الكاف في المُحْكِم -؛ يعني: الذي أحسن تدبير المخلوقات؛ يعني: خلق كل شيء على وجه الحكمة جَلَّ وعلا. "الودود": الذي يَوَدُّ؛ أي: يحب المطيعين. "المجيد": الواسع العطاء. "الباعث": الذي يبعث الخلق؛ أي: يُحييهم بعد الموت. "الشهيد": الذي لا يغيب عن علمه شيء.

"الحق": الذي تُحقِّق وتُيقن وجودُه من غير شك. "الوكيل": القائم بمصالح عباده، الكافل بأرزاقهم. "القوي": الشديد القوة الذي لا يلحقه عجزٌ. "المتين": الناصر الذي ينصر المؤمنين. "الحميد": المحمود الذي لا يستحقُّ الحمدَ إلا هو. "المُحْصي": الذي أحصى كلَّ شيء؛ أي: علم جميع الأشياء بحيث لا يغيب عن علمه شيء. "المبدئ": الذي خلق الأشياء من العدم جَلَّ وعلا. "المعيد": الذي يعيدهم من الحياة إلى الممات، ومن الممات إلى الحياة. "المُميت": الذي لم يزل موجودًا ولا يعترضه الموتُ. "القيُّوم": الدائم البقاء. "الواجد": الغني. "الماجد": مثل (المجيد). "الواحد": المتفرد بالبقاء والذات، لا شريك له. "الأحد": هو المتفرد في الصفات لا يشاركه في صفاته أحد. "الصمد": الذي يُصْمَد؛ أي: يُقصد في الحوائج. "المقتدر": مثل (القادر). "المقدِّم": الذي يقدم أولياءه على غيرهم بأن يوفِّقَهم بالطاعة حتى يحصَّلوا قربَه.

"المؤخِّر": الذي يؤخِّر بعضَ عباده بأن خذلهم ولم يوفِّقْهم حتى اشتغلوا بحظوظ أنفسهم، وتركوا الآخرة. "الأول": الذي ليس قبله شيء. "الآخِر": الذي ليس بعده شيء. "الباقي": بعد فَناء خَلْقِه. "الظاهر": الذي ظهر شواهد وجوده بخلق السماوات والأرض وما بينهما. "الباطن": المحتجب عن أبصار الخلق. "الوالي المتعالي": هو مالك الأشياء. "البَرُّ": المحسن إلى عباده الثواب، قابلُ توبةِ العبيد مرةً بعد أخرى. "المنتقم": المبالغ في العقوبة بعضَ خلقه. "العفو": كثير العفو. "الرءوف": كثير الرحمة والشفقة على عباده. "ذو الجلال والإكرام": أي: هو أهلٌ أن يُجِلَّه ويُكْرِمَه عبادُه بأن يطيعوه، وقيل معناه: هو الذي يُجِلُّ ويُكْرِم عبادَه المؤمنين. "المُقْسط": العادل في الحكم. "الجامع": الذي يجمع الخلق يوم القيامة. "المغني": الذي جَبَر (¬1) حالَ عبادِه بأن يرزقَهم ويقضي حوائجهم؛ بحيث لم يفتقروا إلى أحد سوى الله تعالى. "المانع": الذي يمنع ويدفع عن أوليائه مَنْ قصدَهم بسوء. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "من جبر: إذا أصلح؛ أي: أصلح حال العباد".

"الضار النافع": الذي يضر من يشاء وينفع من يشاء. "النور": هو الذي ينوِّر السماوات والأرض، وينور قلوب المؤمنين بنور الإيمان. "البديع": أي: المُبدع، وهو أبدع الأشياء؛ أي: أوجدها من العَدَم. "الباقي": الذي لا يجوز عليه الزوال. "الوارث": الذي يرث الأرض ومَنْ عليها؛ أي: يُميت أهلَها، ويبقى مُلْكُه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40]. "الرشيد": الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم. "الصَّبور": الذي لا يُعاجل عقوبةَ المذنبين. اعلم أنه قد جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام أسماء من أسماء الله تعالى غير ما ذكروا وهو: الربُّ، المَنَّان، البارئ، الكافي، الدائم، المولى، النصير، الجميل، الصادق، المُحيط, المُبين، القريب، الفاطر، العلاَّم، المَليك، الأكرم، المدبر، الوِتر، ذو المعارج، ذو الطَّول، ذو الفَضْل. (المنان): الذي يكثر المَنَّ على عباده، وهو النعمة. (البادئ): بمعنى المُبدئ، وقد ذُكر. (المحيط): الذي أحاط علمُه بجميع الأشياء بحيث لا يَعْزُبُ عن علمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. (المبين): له معنيان؛ أحدهما: يعني: الظاهر، وقد ذُكر. الثاني: بمعنى المبين؛ أي: مُوجد الأشياء من العدم، ومبين طريقَ الرُّشْد عن الغَيِّ للعباد.

(القريب): أي القريب بالعلم. (الفاطر)؛ أي: الخالق. (المليك)؛ أي: المالك. (الأكرم): يريد به: أنه أكرم الأكرَمِين. و (المدبر): هو الذي يعرف تدبير ملكه ويُصَرِّفه على وجه الحكمة. (ذو المعارج): المعارج جمع مَعْرَج، وهو موضع العُروج، وهو الصعود؛ أي: هو الذي عُرِج إليه بأعمال عباده وبأرواحهم بأمره. (الطَّول): الفضل. * * * 1636 - وعن أَنسٍ - رضي الله عنه - قال: كنتُ جالسًا معَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المَسجدِ، ورجلٌ يُصلي، فقال: اللهمَّ إني أسألُكَ بأنَّ لكَ الحَمْد، لا إلهَ إلاَّ أنتَ الحنَّانُ المنَّانُ، بديعُ السَّماواتَ والأرضَ، يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، يا حيُّ يا قَيُّومُ أسأَلُكَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعَا الله باسمِهِ الأعظم الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وإذا سُئِلَ به أَعطَى". قوله في حديث أنس: "الحنَّان المنان": ذُكر المنان، وأما الحنَّان: فهو كثير الحنان بعباده، والحَنَان: الرحمة والشفقة. قوله: "دعا الله باسمه الأعظم": قيل: الأعظم هنا بمعنى: العظيم، وليس أفعل التفضيل؛ لأن جميع أسمائه عظيم، وليس بعضها أعظم من بعض. وقيل: بل هو أفعل التفضيل؛ لأن بعض أسمائه تعالى أعظم من بعض، فكلُّ اسم أكثر تعظيمًا لله فهو أعظم من اسم فيه أقل تعظيمًا له، فـ (الرحمن)

أعظم من (الرحيم)؛ لأن الرحمن أكثر مبالغة من الرحيم، والخالق أعظم من المهيمن؛ لأنه لا شريك له في وصفه بالخالقيَّة. وأما في وصفه بالمهيمن؛ له شريك بالمخلوقات؛ لأن معنى المهيمن: هو الشاهد الصادق، والشاهد الصادق كثير من الناس؛ مثل الأنبياء والأولياء وغيرهم، والملائكة كلُّهم صادقون، وعلى هذا فقِسْ أسماءَ الله تعالى؛ فإذا تأمَّلْتَ تعرفْ أنَّ لفظة (الله) أعظم من لفظة (الرب)؛ فإنه لا شريك في تسميته بالله، لا بالإضافة ولا بدون الإضافة، وأما (الرب) فإنه يقال للمخلوقات بالإضافة كما يقال: فلان ربُّ البيت، وربُّ المال. * * * 1638 - قال: "دَعْوةُ ذي النُّونِ إذ دَعَا وهُوَ في بطْنِ الحُوتَ: لا إلهَ إلاَّ أنتَ سُبحانَكَ إنِّي كنتُ من الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ إلاَّ استجابَ لهُ". قوله: "دعوة ذي النون": أراد بذي النون: يونس صلوات الله عليه. قوله: "إني كنت من الظالمين"، وقصة هذا: أن الله بعث يونس - عليه السلام - إلى أهل نَيْنَوى من أرض المَوْصِل فدعاهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا، فأوحى الله إليه: أن أخبرْهم أن العذاب يأتيهم بعد ثلاثة أيام، فخرج يونسُ مِنْ بينهم، فظهر سحابٌ أسودُ ودَنَا حتى وقف فوق بلدهم وظهر منه دخان، فلما أيقنوا أنه سينزل عليهم العذاب خرجوا مع أزواجهم وأولادهم ودوابهم إلى الصحراء، وفَرَّقوا بين الأولاد والأمهات من الإنسان والدواب، ورفعوا أصواتَهم بالتضرُّع والبكاء، وآمنوا وتابوا عن الكفر والعصيان، وقالوا: يا حي حين

لا حي! يا حي محيي الموتى! يا حي! لا إله إلا أنت، فأذْهَبَ الله عنهم العذابَ، فدنا يونسُ يومًا من بلدهم بعد ثلاثة أيام ليعْلَمَ كيف حالهم هل بقي منهم أحدٌ أم أُهلكوا جميعًا بالعذاب، فرأى من البعد أن البلد معمور كما كان وأهله أحياء فاستحيا وقال: قد قلت لهم إن العذاب ينزل عليكم بعد ثلاثة أيام، وقد مضى ثلاثة أيام ولم ينزل عليهم العذاب، فذهب ولم يعلم أنه نزل عليهم العذاب ودُفِعَ عنهم، فسار حتى أتى سفينة وركبها، فلما ركبها وقفت السفينةُ، فبالغوا في إجرائها فلم تَجْرِ. فقال الملاَّحون: ها هنا عبد آبق حتى وقفت السفينة - فإن عادة السفينة الوقوف إذا كان فيها عبد آبق - فأقرعوا بين أهل السفينة فخرجت القُرعة على يونس، فقال يونس عليه السلام: أنا الآبق، فألقى نفسَه في البحر فالتقمه حوتٌ بأمر الله تعالى. وإنما قال: أنا الآبق؛ لأنه خرج من بين قومه بغير أمر الله تعالى، فصار بمنزلة العبد الآبق، فأمر الله تعالى ذلك الحوتَ أن يحفظَه، فلبث في بطنه أربعين يومًا، وسار به إلى النيل، ثم إلى بحر فارس، ثم إلى دِجلة، ودعا يونسُ - عليه السلام - ربَّه فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: أنا من الظالمين بخروجي من بين قومي قبل أن تأذَن لي بالخروج من بينهم، فاستجاب الله له، فأمر الحوتَ بإلقائه إلى أرض نَصِيبين، وهو اسمُ بلدٍ من الشام. روى هذا الحديثَ ودعوةَ ذي النون سعدُ بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -، والله أعلم. * * *

4 - باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

4 - باب ثواب التَسبيح والتَحميد والتَهليل (باب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) مِنَ الصِّحَاحِ: 1639 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ". وفي روايةٍ: "أَحَبُّ الكلامِ إلى الله أربعٌ: سُبْحانَ الله، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ، لا يَضُرُّكَ بأيهِنَّ بَدَأْتَ". "لا يضرك بأيهن بدأت"؛ يعني: إن بدأت بـ (سبحان الله) جاز، وإن بدأت بـ (الحمد لله) جاز، وكذلك إن بدأت بـ (لا إله إلا الله) أو بـ (الله أكبر) جاز. روى هذا الحديث سَمُرة بن جُنْدُب. * * * 1640 - وقال: "لأَنْ أقولَ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبرُ أَحَبُّ إليَّ مما طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ". قوله: "مما طلعت عليه الشمس"؛ أي: من الدنيا وما فيها من الأموال. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1641 - وقال: "مَنْ قالَ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّتْ

خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ". قوله: "حطَّت خطاياه": أي: أُسقطت وأُزيلت عنه خطاياه. روى هذا الحديثَ والذي بعده أبو هريرة. * * * 1644 - وقال: "أيعْجِزُ أحدُكُم أنْ يَكسِبَ كلَّ يوْمٍ ألفَ حسنةٍ، يُسَبحُ مائةَ تسبيحةٍ، فيُكتَبَ لهُ ألفُ حسَنةٍ، أو يُحَطُّ عنهُ ألفُ خَطيئةٍ". قوله: "يسبح مئة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة"؛ يعني: الحسنة بعشر أمثالها، فإذا سَبَّح مئة مرة يكتب ألف حسنة. "أو يحط عنه ألف خطيئة"؛ يعني: إن شاء الله يَكتب ألفَ حسنة، وإن شاء يَحُطُّ عنه ألفَ خَطيئة، وذلك بمشيئة الله تعالى. روى هذا الحديثَ سعدُ بن أبي وقَّاص. * * * 1645 - وسُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكلامِ أفضلُ؟ قال: "ما اصطَفَى الله لملائكَتِهِ: سبحانَ الله وبحمدِهِ". قوله: "ما اصطفى الله الملائكة"؛ أي: اختار؛ يعني: ما اختار الله من الذِّكر لملائكته وأمرَهم بقوله، والدوامِ عليه، من غاية فضيلته. روى هذا الحديثَ أبو ذر. * * * 1646 - وعن جُوَيرية: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ مِن عندِها بُكْرةً حينَ صلَّى

الصُّبحَ وهي في مَسجِدِها، ثم رجعَ بعدَ أنْ أَضْحَى وهي جالسةٌ، فقال: "مازلتِ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟ "، قالت: نعَمْ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقَدْ قُلتُ بعدَكِ أربعُ كلماتٍ ثلاثَ مرَّاتٍ، لو وُزنَتْ بما قلتِ منذُ اليومِ لَوَزنَتْهُنَّ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ عددَ خلقِهِ، ورِضَا نفْسِهِ، وَزنَةَ عرشِهِ، ومِدَادَ كلماتِهِ". قوله: "وعن جُويرية: أن النبي - عليه السلام - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها"؛ يعني: خرج رسول الله عليه السلام من عندها إلى المسجد حين أراد أن يصلِّي الصبح. "وهي في مسجدها"؛ أي: في موضع صلاتها، أي: في موضعٍ هَيَّأتْهُ للصلاة. "بعد أن أضحى"؛ أي: بعد أن صلى صلاةَ الضحى. قوله: "بعدك"؛ أي بعد أن خَرَجَتْ مِنْ عندكَ. قوله: "بما قلت هذا اليوم"؛ أي: بجميع ما قلت من الذَّكر في هذا اليوم. قوله: "لوزنتهن"؛ أي: لغلَبت عليهنَّ، ولزادت عليهن. "سبحان الله وبحمده عدد خلقه": (سبحان الله وبحمده)؛ أي: بحمده أحمَدُه وأسبحه. (عدد خلقه): منصوب على المصدر؛ أي: أعُدُّ تسبيحه وتحميده عدد خلقه؛ أي: بعدد كلِّ واحد من مخلوقاته. "ورضا نفسه"؛ أي: أقول التسبيح والتحميد له بقدر ما يرضى، وكما يرضاه، خالصًا مُخْلِصًا له. "وزنة عرشه"؛ أي: أسبحه وأحمده بثقل عرشه وبمقدار عرشه.

"ومداد كلماته": المداد: مثل المَدَد، وهو الزيادة والكثرة. قال الفَرَّاء: المداد جمع مد - بضم الميم - وهو مكيال يسع رطلًا وثلث رطل. والمراد بكلا الوجهين: المقدار؛ يعني: أسبحه وأحمده بمقدار كلماته، والمراد بكلماته: كتبه وصُحُفه المنزلة على أنبيائه، وكلماته أيضًا: جميع أمره بأن يقول لشيء كُن فيكون، وأمرُه بإيجاد الأشياء لا نهايةَ له. روى هذا الحديثَ ابن عباس عن جُويريةَ زوجةِ النبيَّ عليه السلام، واسم أبيها: الحارث بن أبي ضرار. * * * 1647 - وقال: "مَن قال: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ ولهُ الحَمْدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، في يومِ مائةَ مَرَّةٍ؛ كانَتْ لهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَتْ لهُ مائةُ حَسَنةٍ، ومُحِيَتْ عنهُ مائةُ سَيِّئةٍ، وكانَ لهُ حِرزًا مِنَ الشيْطانِ يومَهُ ذلكَ حتى يُمسيَ، ولَمْ يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عملَ أكثرَ منه". قوله: "عدل عشر رقاب"، (العَدْل): المِثْل؛ أي: له من الثواب مِثْلُ عِتقِ عشر رقاب. قوله: "ومُحيت"؛ أي: أُزيلت. "كانت له حِرزًا من الشيطان"؛ أي: كانت هذه الكلمة أو هذه التهليلة حِرزًا؛ أي: حفظًا أو مَنَعًا من الشيطان. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

1648 - وقال: "لا حول ولا قوةَ إلاَّ بالله العَليِّ العظيم كَنْزٌ من كُنوزِ الجنَّةِ". قوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة". (الحول) قيل: الحِيلة، وقيل: الحركة؛ يعني: لا حركةَ ولا استطاعة إلا بتوفيق الله، وقيل: لا دفعَ للمكروهات ولا إعطاءَ للعطيَّات إلا بتوفيق الله ودفعِه وإعطائه. وإنما قال: (كنز من كنوز الجنة)؛ لأن الكنز المال الذي يحفظه الرجلُ لوقتٍ يَحتاج إليه، وقولُه هذه الكلمات خير الكنوز؛ لأنها تحصل الجنةُ لقائلها، ولا شك أن الجنة خيرُ الكنوز. روى هذا الحديثَ أبو ذر. * * * مِنَ الحِسَان: 1649 - قال: "مَن قالَ: سُبحانَ الله العَظيم وبحمدِهِ؛ غُرِسَت لهُ نخلةٌ في الجنَّةِ". قوله: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده"؛ يعني "غرست له نخلة في الجنة" بكل مرَّة قالها، وإنما خَصَّ النخل من الأشجار؛ لأنها أنفعُ الأشجار وأطيبُها. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1650 - وقال: "ما مِن صباحٍ يُصْبحُ العِبادُ إلاَّ منادٍ يُنادي: سَبحُوا

الملِكَ القُدُّوس". قوله: "سبحوا الملك القدوس"؛ أي قولوا: سبحانَ الملك القدُّوس، أو قولوا: سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح. (القدوس): الطَّاهر عن أوصاف المخلوقات. روى هذا الحديثَ الزبيرُ بن العوَّام. * * * 1651 - وقال: "أفضلُ الذِّكر: لا إلهَ إلَّا الله، وأفْضَل الدُّعاءِ: الحَمْدُ لله". قوله: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"، وإنما كان (لا إله إلا الله) أفضل الذكر؛ لأن في هذه الكلمة إثباتُ الأُلوهية لله ونفيُها عن غيره، وليس هذا المعنى في ذِكرٍ سوى (لا إله إلا الله)، ولا يصح الإيمان إلا بهذا اللفظ أو ما يؤدِّي معناه. وإنما سمى قول (الحمد لله) أفضل الدعاء؛ لأن الدعاء عبارة عن أن يذكر العبدُ ربَّه ويطلبَ منه شيئًا، وكلا المعنيين موجودٌ في قول الرجل: (الحمد لله)، فإنَّ من قال: (الحمد لله) فقد دعا الله وطلب منه الزيادة؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1652 - وقال: "الحَمْدُ للهِ رأْسُ الشُّكرِ، ما شَكَرَ الله عبدٌ لا يَحْمَدُهُ". قوله: "الحمد لله رأس الشكر، ما شكر الله عبدٌ لا يحمَدُه".

(الحمد): الثناء على الله بصفاته وبإنعامه على العباد؛ كقول الرجل: الحمد لله على علمه وقدرته وفضله وإنعامه عليَّ، والشكر لا يكون إلاَّ في الإنعام، فلا يقال: شكرتُ الله على علمه وقدرته، بل يقال: شكرت الله على فضله وإنعامه عليَّ. وإذا كان الحمدُ أعمَّ، فلا بد أن يكون أفضلَ من الشكر. وقيل: (الحمد): الرضا بقضاء الله وقدره. و (الشكر) ثلاثة: الشكر بالقلب: وهو أن يعتقد الرجل أن النعمة من الله. وشكر باللسان: وهو أن يتحدث بما أنعم الله عليه لا على سبيل التفاخر؛ مثل أن يقول: قد أعطاني الله كذا من المال والولد والعلم والشُّهرة، وله الحمد على ما أنعم عليَّ. وشكر بالعمل: وهو أن يؤدَّي الزكاة، ويُحسن إلى الناس، ويعلِّم الناس العلم إن كان عالمًا، أو يُعين الناس إن كان صاحبَ قدرة ومنصب، ويستعمل أعضاءه على وجه يرضاه الله. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عَمرو. * * * 1653 - وقال: "أوَّلُ مَن يُدعَى إلى الجنَّةِ يومَ القيامةِ: الذينَ يحمَدُونَ الله في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ". قوله: "أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله في السراء والضراء". (السراء): الغنى، و (الضراء): الفقر، وقيل: السراء: الراحة والفرح، والضراء: المشقة والغَم.

يعني: أول من يدعى إلى الجنة الذين يرضون عن الله بما أجرى عليهم من الحُكْم غنى كان أو فقرًا، مشقة كانت أو راحة، هذا هو الكمال في العبودية. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 1654 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقال مُوسَى: يا ربِّ، علِّمني شيئًا أَذْكُرُكَ بهِ، قال قُل: لا إلهَ إلاَّ الله، لو أنَّ السَّماواتِ السَّبع وعامِرَهُنَّ غيرِي، والأَرَضيْنَ السَّبعَ وُضعْنَ في كِفَّةٍ، ولا إلهَ إلاَّ الله في كِفةٍ لَمَالَتْ بهنَّ لا إلهَ إلاَّ الله". قوله: "وعامرهن غيري"، أراد بالعامر: الساكن. وعامر المكان: مَنْ عمل عمارة وصلاح ذلك المكان؛ إما بالسكون فيه، أو بإصلاحه؛ يعني: لو أن جميع السماوات ومَنْ فيهن مما سوى ذكر الله، وكذلك الأراضي ومن فيهن مما سوى ذكر الله وُضعْن في إحدى رأس الميزان، ووضعت كلمة لا إله إلا الله في الرأس الآخر "لمالت"؛ أي؛ لرَجَحت (لا إله إلا الله). قوله: "غيري": هذا مشكل على تأويل العامر بالساكن؛ فإن الله ليس بساكن السماوات والأرض، بل لا مكان له أصلاً، وطريق دفع هذا الإشكال بأن يقول: معنى العامر: المصلح، فإن الله تعالى مصلح السماوات والأرض ومَنْ فيهن، والملائكة في السماوات هم مصلحو السماوات بسكونهم فيهنَّ، وأهل الأرض مصلحو الأرض، فإذا كان أهل السماوات والأرض مصلحي السماوات والأرض بهذا التأويل، صحَّ قولُه: (وعامرهنَّ غيري). ويحتمل أن يكون تأويله: وما فيهن غير كلامي وذكري، فحذف المضاف وهو الكلام والذكر.

روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * 1655 - وعن أبي سَعيد الخُدْري، وأبي هُريرة - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ: لا إلهَ إلاَّ الله والله أكبرُ؛ صَدَّقَهُ ربُّه، قالَ: لا إلهَ إلاَّ أنا، وأنا أكَبَرُ، وإذا قالَ: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شريكَ له، يقولُ الله: لا إلهَ إلاَّ أَنا وحدِي لا شَريكَ لي، وإذا قالَ: لا إلهَ إلا الله لهُ الملكُ وله الحمدُ، قال: لا إلهَ إلاَّ أنا، ليَ الملكُ، وليَ الحمدُ، وإذا قالَ: لا إلهَ إلاَّ الله، لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله، قالَ: لا إلهَ إلا أنا، لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلاَّ بيَ"، وكانَ يقولُ: "مَن قالَها في مرَضهِ، ثم ماتَ لم تَطْعَمْهُ النارُ". قوله: "وكان يقول"؛ أي: وكان رسول الله - عليه السلام - يقول: "من قالها"؛ أي: من قال هذه الكلمة. * * * 1656 - وعن سَعْد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -: أنه دخلَ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ وبينَ يَدَيْهَا نَوًى، أو حَصًى تُسَبحُ به، فقالَ: "ألا أخبرُكِ بما هوَ أَيْسَرُ عليكِ مِن هذا وأفْضَل؟، سُبحانَ الله عدَدَ ما خلقَ في السَّماءِ وسبحانَ الله عددَ ما خلقَ في الأَرضِ، وسبحانَ الله عددَ ما بينَ ذلكَ، وسبحانَ الله عددَ ما هوَ خالِقٌ، والله أكبرُ مثْلَ ذلكَ، والحَمْدُ للهِ مثلَ ذلكَ، ولا إله إلاَّ الله مثلَ ذلكَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله مثلَ ذلكَ"، غريب. قوله: "وبين يديها نوى أو حصا تسبح به". (النوى): جمع نواة، وهي: عظمة التمر.

و (الحصا): جمع حَصَاة، وهي: الحجرة الصغيرة. (تسبح به)؛ أي: تقول: سبحان الله، أو ذكرًا آخر بعدد كلِّ نَواة أو حَصَاة مرةً. قوله: "أو أفضل" شك الراوي أن رسول الله عليه السلام قال: "أيسر عليك، أو قال: أفضل". قوله: "سبحان الله عدد ما خلق في السماء"؛ يعني: إذا قال هذه الألفاظ فكأنه قال: سبحان الله بعدد كل نفس، أو كل شيء في السماوات والأرض من المخلوقات مرة، فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى عَدِّ التسبيح بالنَّوى والحصا. * * * 1657 - وقال: "مَن سَبَّحَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِي كانَ كَمَنْ حَجَّ مائةَ حَجَّةٍ، ومَنْ حَمِدَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائة بالعَشِيِّ كانَ كَمَنْ حمَلَ على مائةِ فرَسٍ في سَبيلِ الله، ومَنْ هَلَّلَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِي كانَ كَمَنْ أعتقَ مائةَ رقبةٍ مِن وَلَدِ إسماعيلَ، ومَن كبَّرَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِي لم يأْتِ في ذلكَ اليومِ أحدٌ بأكْثرَ ممَّا أتَى به إلاَّ مَن قالَ مثلَ ذلكَ، أو زادَ على ما قالَ"، غريب. قوله: "ومن هلل الله"؛ أي: من قال لا إله إلا الله. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. * * * 1658 - وقال: "التَّسبيحُ نِصْفُ الميزانِ، والحَمْدُ للهِ يَمْلَؤُهُ، ولا إلهَ إلاَّ الله ليسَ لها حجابٌ دونَ الله حتَّى تَخْلُصَ إليهِ"، غريب.

قوله: "سبحان الله نصف الميزان"؛ يعني: ثواب قول الرجل: (سبحان الله) يملأ إحدى كِفَّتي الميزان، و (الحمد لله) يملأ الكِفة الأخرى. قوله: "حتى تخلص"؛ أي: حتى تصل. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. * * * 1659 - وقال: "ما قال عَبْدٌ: لا إلهَ إلاَّ الله مُخلِصًا قطُّ إلاَّ فُتِحَتْ له أبوابُ السَّماءَ حتَّى تُفضيَ إلى العَرشِ ما اجتَنَب الكَبَائرِ"، غريب. قوله: "حتى يفضي إلى العرش"؛ أي: حتى يصل إلى العرش، والحديث المتقدم يدل على أنه يجاوز من العرش حتى يصل إلى الله تعالى، والمراد بهذا وأمثاله: سرعة القبول وكثرة الثواب. قوله: "ما اجتنب الكبائر": قيَّدَ سرعة القَبول وكمال الثواب باجتناب الكبائر لأجل الثواب، فإن الثواب يحصل للقائل سواء اجتنب الكبائر أو لم يجتنب، ولكن ثواب من يجتنب الكبائر أكمل ممن لم يجتنب، فإن السيئة لا تُحْبط الحسنة، بل تحبط الحسنةُ السيئةَ؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1660 - وقال: "لَقِيْتُ إبراهيمَ صلوات الله عليهما ليلةَ أُسريَ بي، فقال: يا محمدُ، أَقرِئْ أُمَّتَكَ مني السَّلامَ، وأَخبرْهم: أنَّ الجنَّةَ طَيبةُ التُّربةِ، عَذْبةُ الماءِ، وأنَّها قِيْعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سُبحانَ الله، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبرُ"، غريب.

قوله: "ليلة أسري بي"؛ أي: ليلة المعراج. "أقرأ أمتك مني السلام"؛ أي: أوصل. "طيبة التربة": التراب؛ أي: ترابها طيب. "عذبة الماء"؛ أي: ماؤها حُلْو طيب. "وأنها قيعان"، (القيعان): جمع القاع، وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر؛ يعني: الجنة طيبة ينبغي لكل أحد أن يرغَب فيها، وأشجارها وقصورها وجميع نعيمها يحصل بالعمل الصالح، فمن كان عمله الصالح أكثر يكون ملكه أكثر، ونعيمه في الجنة أكثر. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 1661 - عن يُسَيْرةَ - كَانت مِنَ المُهاجِرَاتِ - قالت: قالَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكنَّ بالتسبيح، والتَّهليل، والتقديسِ، واعْقِدْنَ بالأَنامِلِ، فإنَّهُنَّ مَسْؤُولاتٍ مُستَنْطَقَاتٌ، ولا تَغْفُلْنَ، فتُنْسَينَ الرَّحمَة". قوله: "عليكن" هذه كلمة التحريض والإغراء؛ يعني: الْزَمْنَ. "التسبيح والتهليل والتقديس". (التقديس): قول الرجل: سبُّوح قدوس رب الملائكة والروح. وليس المراد تحريضهن على هذه الألفاظ الثلاثة فقط، بل المراد منه جنس الذَّكر أيَّ لفظٍ كانَ. قوله: "واعقدن بالأنامل"؛ يعني: اعدُدن عددَ مرات التسبيح بأصابعكنَّ. "فإنهن مسؤولات"؛ أي: فإن الأصابع بل جميع الأعضاء المكتسبة يُسأل عنها يوم القيامة بأي شيء استُعملت، وهذا تحريض على استعمال الرجل

5 - باب الاستغفار والتوبة

أعضاءه في الخيرات وحفظِها عن السيئات. قوله: "مستنطقات"؛ أي: يخلق الله في الأعضاء النطق حتى تشهد بما عملت؛ كقوله تعالى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20]، والمراد بالجلود هنا: الفُروج، وقال في آية أخرى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. قوله: "ولا تغفلن فتنسين الرحمة"؛ يعني: ولا تتركن الذَّكر، فإنَّكنَّ إنْ تركتنَّ الذكر حرمتنَّ ثوابَ الذكر، فإن الله تعالى قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. * * * 5 - باب الاستِغفار والتَّوبة (باب الاستغفار والتوبة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1662 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إِنِّي لأَستغفِرُ الله وأتوبُ إليهِ في اليومِ أكثرَ من سَبْعينَ مرَّةً". قوله عليه السلام: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". هذا تحريض للأمة على التوبة والاستغفار، فإنه - عليه السلام - مع كونه معصومًا، وكونه خيرَ المخلوقات يستغفر ويتوب إلى ربه في كل يوم أكثرَ من سبعين مرة، فكيف بالمذنبين؟ واستغفاره - عليه السلام - ليس من الذَّنْب، بل من اعتقاده أن نفسه قاصرةٌ

في العبودية عما يليق بحضرة الجلال، فإن الله تعالى قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]. قيل في تفسيره: ما عرفوا الله حقَّ معرفته، وقيل: ما عظَّموه حقَّ تعظيمه، وما عَبَدُوه حقَّ عبادته. وقوله - صلى الله عليه وسلم - خلفَ الصلوات المكتوبات: (أستغفر الله) ثلاث مرات، إشارة إلى أن الصلاة اللائقة بحضرتك يا ربي لا تصدر من عبادك المخلوقين، فإن المخلوقَ كيف يعرف الخالق حقَّ معرفته، وكيف يعظِّمه حق تعظيمه، وكيف يعبده حق عبادته؟ روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1663 - وقال "إنه لَيُغَانُ على قَلْبي، وإنِّي أَستَغْفِرُ الله في اليومِ مائةَ مرَّةٍ". قوله: "إنه ليغان على قلبي"، الضمير في (إنه) للشأن والحديث، (الغين): الستر، (يغان) مضارع مجهول، (على قلبي) مفعول أقيم مقام الفاعل؛ يعني: لَيستر قلبي ويمنعه عن الحضور شيءٌ من السهو الذي لا يخلو منه البشر والاشتغال بالأزواج والأولاد وما يجري في خواطر البشر. قال أهل التحقيق: معناه: كان رسول الله عليه السلام يحب أن يكون قلبه أبدًا حاضرًا له تعالى بحيث لا يَغْفُل لَمْحة، فلما اشتغل بشيء من أحوال الدنيا كالتكلم مع أحد والأكل والشرب والنوم ومعاشرة الأزواج يلوم نفسه بترك كمال الحضور ويعده تقصيرًا ويستغفر منه. روى هذا الحديثَ والذي بعده أبو هريرة. * * *

1665 - وقالَ فيما يَروي عن الله تعالَى أنه قال: "يا عِبَادِي!، إنَّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسي، وجعلْتُهُ بينَكم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادي!، كلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أَهْدِكُم، يا عِبادِي!، كُلُّكُم جَائِعٌ إِلّا مَنْ أَطعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعمُوني أُطْعِمْكُم، يا عِبادي!، كلُّكم عارٍ إلَّا مَن كسَوْتُه، فاسْتَكْسُوني أَكْسُكُم، يا عِبَادي!، إنَّكم تُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفرُ الذُّنوب جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم، يا عِبَادي!، إِنَّكم لنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، ولنْ تَبلُغوا نفْعي فَتَنْفَعُوني، يا عِبَادي!، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكُمْ وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلْكي شيئًا، يا عِبَادي، لو أنَّ أَوَّلَكم وآخِرَكُم وانْسَكُم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلكَ من ملكي شيئًا، يا عِبَادي!، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَكم قامُوا في صَعيدٍ واحدٍ، فسأَلُوني، فأعطَيْتُ كلَّ إنْسانٍ مَسْأَلتَهُ، ما نقَصَ ذلكَ مما عِنْدي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البَحرَ، يا عِبَادي!، إنَّما هي أَعمالُكم أُحْصِيها علَيكُم، ثم أُوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وجدَ خَيْرًا فليَحْمَدِ الله، ومَن وجدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلَّا نفسَه" رواهُ أبو ذَرٍّ، وكان أبو إدريس الخوْلانيُّ إذا حدَّث بهذا الحديثِ جَثَا على رُكبتيْهِ. قوله: "حرمت الظلم على نفسي"؛ يعني: حرمت على نفسي أن أظلم أحدًا؛ يعني: أن أعذب أحدًا بلا ذنب، أو أضيع أجر المحسنين. قوله: "لن تبلغوا ضري فتضروني"؛ أي: فإنْ تضروني؛ يعني: لن تَقْدِروا أن تُوصلوا إليَّ ضرًا، ولن تقدروا أن توصلوا إليَّ نفعًا؛ يعني: إن أحسنتم يحصلْ نفعها لكم ولا نفع لي من عبادتكم، وإن أسأتم فعلى أنفسكم إثمُ سيئاتكم ولا يلحقني ضررُ سيئاتكم.

قوله: "كانوا على أتقى قلب رجل"؛ يعني: كانوا على غاية التقوى، لا تزيد تقواكم في ملكي شيئًا. قوله: "كانوا على أفجر قلب رجل"؛ يعني: على غاية الكفر والفجور، لا يُنقص كفرُهم وفجورُهم من ملكي شيئًا. قوله: "الصعيد": وجه الأرض. "المخيط": الإبرة. قوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم"، (أعمالكم): تفسير لضمير المؤنث في قوله: (إنما هي)؛ يعني: إنما نحصي أعمالكم؛ أي: نَعُدُّ ونكتب أعمالَكم من الخير والشر. "ثم أفيكم إياها"؛ أي: ثم أُعطيكم جزاء أعمالكم. (التوفية): إعطاء حق أحد على التمام. "فمن وجد خيرًا فليحمد الله"؛ يعني: فليعلم أنه من فضل الله؛ لأنه هو الذي وفَّقَه حتى عمل الخير. "ومن وجد غير ذلك"؛ أي: وجد غير الخير؛ أي: شرًا. "فلا يلومنَّ إلا نفسه"؛ لأنه صَدَر من نفسه. روى هذا الحديثَ أبو ذر. * * * 1666 - وقال: "كانَ في بني إسْرائيلَ رجلٌ قتَلَ تسْعةً وتِسْعينَ إنسانًا، ثم خَرَجَ يَسأَلُ، فاَتى راهِبًا، فسأَلَهُ، فقالَ لَهُ: أَلي تَوبةٌ؟، قال: لا، فقتَلَهُ، وجعَل يَسأَلُ، فقالَ لَهُ رجلٌ: ائْتِ قَريةَ كذا وكذا فإنَّ فيها قومًا صالحين، فأَدْرَكَهُ المَوتُ في الطَّريقِ، فَنَأَى بَصَدْرِهِ نَحوَها، فاختصمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ

وملائكةُ العَذابِ، فأَوْحَى الله إلى هذه: أنْ تَقَرَّبي، وإلى هذه: أنْ تَبَاعِدي، وقال: قِيسُوا ما بينَهما، فَوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشبرٍ، فَغُفِرَ لهُ". قوله: "ثم خرج يسأل"؛ أي: ثم يخرج من بيته أو بلده يتردَّد البلاد ويسأل الناس أنه: "هل له توبة؟ "؛ أي: هل تُقبل توبتُه بعد أن قتل تسعة وتسعين إنسانًا؟ قول الراهب في جوابه: "لا"؛ أي: لا تقبل توبتك. في هذا إشكال؛ لأنا لو نقول: لا تقبل توبته، فقد خالفنا نصوص الشرع، فإنه تعالى يقول: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104]. وإن قلنا: تقبل توبته، فقد خالفنا أيضًا أصل الشرع، فإن حقوق الآدميين لا تقبل فيها التوبة، بل توبته أداؤها إلى مستحقيها أو الاستحلال منها. ودَفْعُ الإشكالِ بأن نقول: تقبل توبة العبد وإن كان عليه حقوق لآدميين، ونعني بقبول توبته: أن الله تعالى لا يطرده من بابه بأن لا يقبل طاعته وحيراته بعد القتل المحرَّم وغيرِه من الذنوب، بل لا يضيع شيئًا من طاعته وخيراته التي عملها قبل القتل المحرم وغيره من الذنوب، ولا ما يعمله بعد ذلك، بل يُثيبه بما عمل من الطاعات والخيرات ويغفر الذنوب التي بينه وبينه تعالى. وأمَّا ما عليه من حقوق الآدميين فهو في مشيئة الله تعالى إن شاء يُرضي بكَرَمٍ خُصماءه، كان شاء أخذه بحقوقهم. "ائت قرية كذا وكذا"؛ يعني: قال له أحد: ائت القرية الفلانية، فإن بها عالمًا يُفتيك بقَبول توبتك فقصد تلك القرية "فأدركه الموت"؛ يعني: فمات في الطريق قبل أن يصل إلى تلك القرية. "فَنَاء بصدره نحوها"، (ناء)؛ أي: بَعُدَ، وناء به: إذا أبعده، وناء بصدره، يعني: أبعد صدره عن القرية الأولى وأقبل إلى القرية الثانية؛ يعني:

حوَّل صدره واستقبل بوجهه إلى القرية التي قصدها للتوبة. "فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب"؛ يعني: قالت ملائكة الرحمة نحن نذهب به إلى الرحمة لأنه تائب؛ لأنه توجَّه إلى هذه القرية للتوبة، وقالت ملائكة العذاب: نحن نذهب به إلى العذاب لأنه قتل مئة نفس ولم يتب بعد؛ لأنه لم يصل إلى القرية التي كان قصدها للتوبة. "فأوحى الله"؛ أي: أمر الله تعالى. "إلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قصدها إلى التوبة. "أن تقربي"؛ أي: تقربي من هذا الميت لتكون المسافة بينه وبينك أقل. "وإلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قتل فيها الراهب. "تباعدي"؛ أي: تباعدي لتكون المسافة بينه وبينك أبعد. "وقال قيسوا ما بينهما"، (قيسوا)؛ أي: قدِّروا وانظروا إلى أيِّ القريتين أقرب. "فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له"، (إلى هذه) إشارة إلى القرية التي قصدها للتوبة، وهذا تحريض للمذنبين على التوبة، ومَنْعُهم عن اليأس عن رحمة الله تعالى، بل لا مرجع ولا مآب للمطيعين والعاصين إلا باب مولاهم الكريم، فإنه لا مولى سواه، ولا نصيرَ ولا مخلِّصَ من العذاب سواه، ولا مجير، ولا تظننَّ أن الله إذا غفر له أضاع ما عليه من حقوق الآدميين، بل سيُرضي يومَ القيامة خصماءَه بفضله ورحمته. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * 1667 - وقال: "والذي نفْسي بيدِهِ لِو لَمْ تُذْنِبُوا لَذهبَ الله بكم، ولَجَاءَ

بقَومٍ يُذْنِبُونَ، فيستغفِرُونَ الله، فيغفِرُ لهم". قوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". الباء في (بكم) للتعدية، و (بقوم) للتعدية. لا يظنن قومٌ أن هذا الحديث يحرض الناس على الإذناب، ويُجوِّز الإذناب، بل سبب صدور هذا الحديث من رسول الله عليه السلام: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان قد غلب عليهم خوف الله، واستولى على قلوبهم تعظيم الله تعالى، بحيث اشتغلوا بالكلَّية بالعبادة والتقوى، حتى قال جماعة: نحن نَفِرُّ من بين الناس إلى رؤوس الجبال كي لا يَشْغَلَنا الناسُ عن عبادة الله، ولا يحدثوننا فيحصل لنا إثمٌ بالمحادثة، وقال جماعة: نحن نَخْصي أنفسنا، وقال جماعة: نحن نعتزل النساء، وقال جماعة: نحن لا نأكل الأطعمة اللذيذة ولا نلبس الثياب الجديدة. وقال بعضهم: أنا أصلي الليل ولا أرقدُ، وقال بعضهم: أنا أصوم النهار ولا أفطر، فزجرهم رسولُ الله عليه السلام عن هذه الأشياء بقوله عليه السلام: "ليس منَّا مَنْ خصى ولا منِ اخْتَصى". وبقوله: "مَنْ رَغِبَ عن سنَّتي فليس مني". وبقوله: "لا تشدِّدوا على أنفسِكم"، ثم قال لهم هذا الحديث؛ أعني: "لو لم تذنبوا" تسليةً لخواطرهم وإزالةً لشدة الخوف عن صدورهم، ومنعهم عن اليأس من رحمة الله، وتحريضهم على الرجاء إلى رحمة الله تعالى، وإظهار كرم الله ورحمته، وتعليمهم أنَّ الله تعالى يحبُّ الاستغفارَ والتوبة. روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

1668 - وقال: "إنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ لِيتوبَ مُسِيءُ النهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ مِن مَغْرِبها". قوله: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار". (بسط اليد) عبارة عن الطلب؛ لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئًا من أحد يبسُط إليه كَفَّه، فخاطب رسول الله عليه السلام الصحابةَ بما هو المتعارَفُ بينهم؛ يعني: يدعو المذنبين إلى التوبة في الليل والنهار ما لم تطلُع الشمس من المغرب، فإذا طلعت الشمس من المغرب لا تقبل التوبة. روى هذا الحديثَ أبو موسى. * * * 1669 - وقال: "مَن تابَ قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمسُ مِنْ مَغرِبها تابَ الله عليهِ". قوله: "إذا اعترف"؛ أي: إذا أقرَّ بكونه مذنبًا وعَرَفَ ذنبَه. "ثم تاب"؛ أي: ثم ندم على ما فعل من الذنوب الماضية، وعزم فيما بعد ذلك أنه لا يعود إلى الإذناب. "تاب الله عليه"؛ أي: قبل الله تعالى توبته وغفر ذنبه. روت هذا الحديثَ عائشةُ. * * * 1670 - وقال: "إنَّ العَبْدَ إذا اعتَرفَ، ثمَّ تابَ؛ تابَ الله عليهِ". قوله: "من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، روى هذا الحديث أبو هريرة.

مفهوم هذا الحديث وأشباهه: أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب، واختلف الأئمة في هذا؛ فقال جماعة: إنه لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة، ودليلهم: مفهوم هذا الحديث وأشباهه من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا المعنى. وقال جماعة: بل هذا مخصوص لِمَنْ شاهد طلوع الشمس من المغرب، فمن شاهد لا تقبل توبته إن كان مذنبًا، ولا يقبل إيمانه إن كان كافرًا؛ لأن الإيمان والتوبة بالغيب مقبول، وأمَّا بالمشاهدة غير مقبول، فإن جميع الأمم التي أُهلكت بالعذاب؛ كقوم ثمودَ وصالح ولُوط وغيرِهم آمنوا حين رأَوا عذابَ الله ولكن لا يقبل إيمانهم، وقد آمن فرعونُ حين غَرِق في البحر، ولكن لم يقبل إيمانه، بل أجيب بقوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]، وتقديره: الآن تؤمن وقد عصيتَ قبلُ. فعند القائلين بأن هذا مخصوص لمن رأى طلوع الشمس من المغرب: لو وُلد بعد ذلك شخصٌ أو كان في ذلك الوقت شخصٌ غيرُ بالغ ثم بلغ، أو كان كافرًا فآمن أو مذنبًا فتاب = فيقبل إيمانه وتوبته؛ لأنه لم يشاهد طلوع الشمس من المغرب حتى يكون إيمانه وتوبته عن مشاهدة. وقد جاء في بعض الروايات عن رسول الله عليه السلام: أن الشمس تطلع من المغرب ثلاثة أيام، والأصحُّ أنها تطلع يومًا واحدًا ثم تطلع من المشرق على حالها إلى يوم القيامة، ولا يكون بين طلوعها من المغرب وبين القيامة، فلم يثبت حديث متواتر بحيث يحصل العلم واليقين به، ولكن قد جاء في بعض الروايات: أن رجلين شبيبين يلتقيان فيقول أحدهما للآخر: متى ولدت؟ فيقول: أخبرني أهلي: ولدت حين طلعت الشمس من المغرب. وقد جاء في حديث صحيح: أن: "أولُ الآيات خروجًا طلوعُ الشمس من مغربها".

والمختار من هذين القولين: أن من رأى طلوع الشمس من المغرب، أو ولد بعد ذلك وبلغ وسمع من جماعة حصل له يقين بقولهم: إن الشمس طلعت من المغرب = لا يقبل إيمانه ولا توبته. ومن لم ير طلوع الشمس من المغرب ولم يسمع طلوعها من المغرب من جماعة حصل له يقينٌ بقولهم = يُقبل إيمانه وتوبته. * * * 1671 - وقال: "لَلَّهُ أَشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبْدِهِ حينَ يَتُوبُ إليه مِن أَحدِكم كانَ مَعَهُ راحلَتُهُ بأَرضٍ فَلاَةٍ، فانفلَتَتْ منهُ، وعليها طَعامُهُ وشرابُهُ، فأَيسَ منها، فأَتَى شجرةً، فاضطَجَعَ في ظِلِّها قد أَيسَ مِنْ راحِلَتِهِ، فبَينَما هوَ كذلك إذ هُوَ بها قائمةً عندَهُ، فأَخَذَ بخِطَامِها، ثم قالَ مِن شدَّة الفَرَحِ: اللهمَّ أنتَ عَبْدي، وأنا ربُّكَ، فأخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفرَحِ". قوله: "لله أشد فرحًا"، (الفرح) في صفة الله تعالى والضحك: عبارة عن الرضا؛ يعني: لله أشد رضًا بتوبة عبده مِنْ فرحِ أحدكم إذا وجد راحلته بعد اليأس منها. "بأرض فلاة"؛ أي: مَفَازة بعيدة. "فانفلتت"؛ أي: نَفَرت وفَرَّت. "وعليها طعامه وشرابه"؛ يعني: زاده وماؤه على ظهرها؛ يعني: يكون حزنه على غاية الشدة بذهاب الراحلة وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء. "إذ هو بها قائمة"، (إذ) للمفاجأة، و (قائمة) حال من الراحلة؛ يعني: حضر الرجل بتلك الراحلة في حال كونها قائمة عنده من غير تردُّد في طلبها. "بخطامها"؛ أي: بزِمامها.

"أخطأ من شدة الفرح"؛ يعني: أراد أن يحمَد الله بما أنعم عليه من رد راحلته إليه وقصد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك) فسبق لسانُه وأخطأ وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) من غاية الفرح؛ يعني: كما أن فرح هذا الرجل على غاية الشدة، فكذلك رضا الله بتوبة عبده. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 1672 - وقال: "إنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فقالَ: ربِّ، أذَنَبْتُ ذنْبًا، فاغفِرْهُ، فقالَ ربُّه: أَعَلِمَ عَبْدي أنَّ لهُ رَبَّاً يغْفِرُ الذَّنبَ ويأخذُ بِهِ؟، غفرتُ لعَبْدي، ثم مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذْنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ، أذنبتُ ذَنْبًا آخر، فاغفِرْهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عَبْدي أن لهُ ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ، ويأْخذُ بِهِ؟، قد غَفَرتُ لعَبْدي، ثمَّ مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ أذنَبْتُ ذنبًا آخرَ، فاغفرهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عبدي أنَّ لَهُ ربًّا يغفرُ الذَّنْبَ ويأخذُ به؟، غفرتُ لعبدي، فليَعمَلْ ما شاء". قوله: "إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: رب أذنبت فأغفر لي". هذا وما تكرر من هذا الجنس في هذا الحديث وأشباهه: توبة من ذلك العبد، ومعنى التوبة: الندامة على ما فعل، والعزم على أن لا يعود إلى مثل ما فعل، فإذا كان نيةُ المذنبِ هذا فقد صحَّت توبتُه وغُفِرَ ذنبُه إن لم يكن من حقوق الآدميين، فإن تاب أحدٌ على هذه الصفة ثم اتفق وقوعُه في الذنب ثم تاب = غُفِر له، وإن فعل ذلك ألفَ مرَّةٍ وأكثر، بشرط أن تكون نيته في التوبة أن لا يعودَ إلى الذنب. قوله: "فليعمل ما شاء"؛ يعني: فليعمل ما شاء من الذنوب التي بينه

وبيني مما لا يتعلق بحقوق الآدميين ثم لِيتُبْ على الشرط المذكور فإنه يُغفر. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1673 - عن جُنْدُبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَ: "إنَّ رجُلاً قال: والله لا يغفرُ الله لفُلانٍ، وإنَّ الله قالَ: مَنْ ذا الذي يتَأَلَّى عليَّ أَنَّي لا أَغفِرُ لفُلانٍ؟! فإنَّي قد غفَرتُ لفلانٍ، وأحبَطْتُ عَمَلَكَ"، أو كما قال. قوله: "من ذا الذي"؛ أي: مَنِ الذي "يتألَّى"؛ أي: يَحْلِف. قوله: "وأحبطت عملك"؛ أي: أبطلتُ قَسَمَكَ؛ أي: جعلتُ حلفَك كاذبًا أيها الحالف على أني لا أغفر عبدي فلانًا. وهذا الحديث يحكم بأنه لا يجوز الحكمُ بأن الله تعالى لا يغفر لفلان أو يعذِّب فلانًا، وكذلك لا يجوز أن يقال: يغفر الله لفلان جَرْمًا؛ لأن أحدًا لا يعلم مشيئةَ الله وإرادتَه في عباده، بل نرجو للمُطيع ونخاف على العاصي، وإنما نجزم القولَ في حقِّ مَنْ جاء فيه نصٌّ عن رسول الله عليه السلام. * * * 1674 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيدُ الاستِغفارِ أنْ تقولَ: اللهمَّ أنتَ ربي، لا إله إلَّا أنت، خَلَقْتَني، وأنا عبدُك، وأنا على عَهْدِكَ ووعدِكَ ما استَطَعْتُ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لكَ بنعمتِكَ عليَّ، وأَبُوءُ بذَنْبي، فاغفِر لي، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ، قالَ: ومَن قالَها مِن النَّهارِ مُوْقِنًا بها، فماتَ مِن يَومِه قبلَ أنْ يُمسيَ فهوَ مِن أهلِ الجنَّةِ، ومَن قالَها مِن اللَّيلِ وهو مُوقِنٌ بها، فماتَ قبلَ أنْ يصبحَ فهو مِن أهلِ الجنَّةِ".

قوله: "وأنا على عهدك ووعدك"؛ أي: أنا مقيم على الوفاء بما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيتك وما عاهدتني؛ أي: أمرتني في كتابك وبلسان نبيك وأنا مُوقن بما وعدتني من البعث والنُشور وأحوال القيامة والثواب والعقاب. "ما استطعت"؛ أي: بقدْرِ طاقتي؛ أي: لا أقدِرُ أن أعبُدك كما تحبُّ وترضى، ولكن أجتهد بقدْرِ طاقتي. قوله: "أبوء لك بنعمتك علي"، (البوء): الإقرار؛ أي: أنا مُقِرٌّ ومعترف بأنك لَمُنْعمٌ عليَّ، وأبوء بأنَّي مذنبٌ. قوله: "موقنًا بها"، موقنًا: منصوب على الحال؛ يعني: مَنْ قرأ هذا الدعاءَ عن اليقين والاعتقاد ومات فقد مات مؤمنًا، ومن مات مؤمنًا يدخل الجنةَ لا محالة. روى هذا الحديثَ شدَّادُ بن أَوس. * * * مِنَ الحِسَان: 1675 - قال: "قالَ الله تعالى: يا ابن آدمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غفَرتُ لكَ على ما كانَ فيكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ، لو بلغَتْ ذنوبُك عَنانَ السَّماءِ، ثم استغفرتَني غفَرتُ لكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ، إنَّك لو أَتيتَني بقُرابِ الأَرضِ خَطايا، ثم لَقِيْتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأَتيتُكَ بقُرابها مغفرةً"، غريب. قوله: "ما دعوتني ورجوتني"، (ما) للدوام؛ يعني: ما دُمتَ تدعوني وترجو مغفرتي ورحمتي ولا تَقْنَطُ من رحمتي فإنِّي أغفر لك. "ولا أبالي"؛ أي: ولا أتعظَّم على مغفرتك وإن كانت ذنوبُك كثيرةً.

قوله: "على ما كان فيك"؛ أي: أغفر لك على ما كان فيك من الذنوب. "لو بلغت ذنوبك عنان السماء"، (العنان): جمع عَنَن، وهو ما ظهر منها؛ يعني: لو كانت ذنوبك بحيث تملأ ما بين الأرض والسماء. "قراب الأرض"؛ أي: مِلءَ الأرض. روى هذا الحديثَ أبو ذر - رضي الله عنه -. * * * 1676 - وقال: "مَن عَلِمَ أَنَّي ذُو قُدرةٍ على مَغفرةِ الذُّنوبِ غَفَرتُ لهُ، ولا أُبالي، ما لم يُشركْ بي شَيئًا". قوله: "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب". هذا الحديث يشير إلى أن اعتراف العبد بكون الله تعالى قادرًا على مغفرة الذنوب سببٌ لغفران الذنوب، وهذا نظير قوله: "أنا عند ظن عبدي بي"، وقد تقدم شرحُه في باب: ذكر الله تعالى. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 1677 - وقال: "مَن لَزِمَ الاستِغفارَ جعَلَ الله لهُ من كلِّ ضيْق مَخْرَجًا، ومِن كلِّ همًّ فَرَجًا، ورَزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسِبُ". قوله: "من لزم الاستغفار"؛ أي: من داوم على الاستغفار. "جعل الله له من كل ضيق مخرجًا"؛ أي: طريقًا؛ أي: يُخرجه من كل أمر عسير. "فرجاً"؛ أي: خَلاصًا وإذهابًا لغمه.

"من حيث لا يحتسب"؛ أي: من حيث لا يرجو ولا يجري في خاطره. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عباس. * * * 1678 - وقال: "ما أَصَرَّ مَن استَغفرَ وإِنْ عادَ في اليومِ سَبْعينَ مرَّةً". قوله: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة". (الإصرار): الثبات والدوام على المعصية؛ يعني: من عمل معصية ثم استغفر وندم على ذلك خرج عن كونه مُصِرًّا على المعصية؛ لأن المصر هو الذي لم يستغفر ولم يندَم على الذنب. روى هذا الحديثَ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. * * * 1679 - وقال: "كلُّ بنيْ آدمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التوَّابُونَ". قوله: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". هذا لفظ يعُمُّ جميعَ بني آدم حتى الأنبياء، ولكن الأنبياء خارجون من هذا الحديث؛ لأن الأنبياء معصومون. واختلف الناس في أنهم معصومون عن الكبائر والصغائر جميعًا، أم هم معصومون من الكبائر دون الصغائر؟ فمن قال: هم غير معصومين عن الصغائر، دليلهم: عصيانُ آدمَ ربَّه في أكل الشجرة، وكَذباتُ إبراهيمَ - كما يأتي في موضعه - وغيرُهما مما نُقل من زَلاَّت الأنبياء. ومن قال: بعضهم معصومون عن الصغائر كما هم معصومون عن الكبائر، حملوا هذه الزلات المنقولةَ عن الأنبياء - عليهم السلام - على الخطأ

والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى الزلَّة، وهذا هو الأولى؛ لأن في هذا تعظيمًا للأنبياء عليهم السلام، وقد أُمرنا بتعظيمهم وحُسْنِ الاعتقاد فيهم. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 1680 - وقال: "إنَّ المُؤمنَ إذا أذنَبَ كانتْ نُكتةٌ سَوداءُ في قَلْبهِ، فإنْ تابَ، واستَغْفرَ صُقِلَ قلْبُه، وإنْ زادَ زادَتْ حتى تَعْلُوَ قلْبَه، فذلِكُم الرَّانُ الذي ذكرَ الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "، صحيح. قوله: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه"، (كان) تامة هنا، ومعناه: حدثت، (النكتة): الأثر؛ يعني: يحدُث من الذنب في القلب أثرٌ أسودُ مثلُ قطرة مِدادٍ تقطُر في القِرْطاس. "فإن تاب واستغفر صُقل قلبه"؛ أي: أُزيلت تلك النكتة عن قلبه، وإن لم يتب تقطر (¬1) بكل ذنب نكتة. "حتى تعلو قلبه"؛ أي: حتى يغلِبَ سوادُ تلك النكتِ على نور قلبه وتستُرَ ظلمةُ تلك النكت نورَ قلبه، فإذا صار نورُ قلبه مستورًا عَمِيَ قلبُه، ولا يُبصر شيئًا من العلم والحكمة، ولا يفهم خيرًا، وتزول عن قلبه الرحمةُ والشفقة، ويثبُتُ في قلبه الظلمُ والفتن وإيذاءُ الناس والجَرَاءةُ على المعاصي. قوله: "فذلكم الران"، ضمير المخاطَب في (ذلكم) للصحابة؛ يعني: أخاطبكم وأخبركم بأنَّ سَتْرَ سوادِ نكتِ الذنوب نورَ القلب هو الرَّانُ "الذي ذكره الله تعالى" في "قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " - ران يَرِين رَينًا: إذا غلب الذنب على القلب -. ¬

_ (¬1) في "ش": "تظهر".

هذه الآية مذكورةٌ في حق الكفار، ولكن ذكرها رسول الله عليه السلام في هذا الحديث تخويفًا للمؤمنين لكي يحترزوا عن كثرة الذنوب كي لا تسوَدَّ قلوبُهم كما اسودَّت قلوبُ الكفار، فإن المؤمن لا يصير كافرًا بكثرة الذنوب، ولكن يصير قلبُه مسوَدًّا بكثرة الذنوب، وإذا صار قلبُه مسودًا بكثرة الذنوب، فقد شابه الكافرَ في اسوِداد القلب من الذنوب، ولم يشابهْهُ في الكفر. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1681 - وقال: "إنَّ الله يَقْبَلُ توبةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ". قوله: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". (ما) للدوام، و (غرغر): إذا تردد الروح في الحلق؛ أي: ما لم تصل روحه إلى حلقه. قبضُ الروحِ يبتدأ من أصابع رجليه وينزع إلى حلقه حتى يخرج من رأسه، وإنما يبتدئ قبض الروح من الرجل ليكون نزع الروح من قلبه ولسانه آخِرًا ليكون لسانُه ذاكرًا، وليتوب ولِيوصِ ويستحل من الناس عن المظالم والغيبة ليكون آخِرَ عُمُرِه بالخير، فإن الرجل إذا عرف أَمَارت الموتِ لا شك أنه يَفْزَعُ إلى التوبة والاستحلال والوصية وذكرِ الله تعالى. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يقبل التوبة ما لم يعاينِ الرجلُ ملكَ الموتِ؛ يعني: ما لم يتيقنِ الموتَ، فإذا تيقن الموتَ بأن رأى مَلَكَ الموت أو عَلِمَ خروجَ الرُّوحِ من بعض أعضائه لا تُقبل توبته، وهذا مثلُ البحث المذكور في طلوع الشمس من مغربها، فقد تقدَّم في هذا الباب. وقال محيي السنة في "معالم التنزيل": في {وَلَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ ...} إلى

آخر الآية: أنه لا يقبل توبةَ عاصٍ، ولا إيمانَ كافرٍ إذا تيقن الموت، قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، وكذلك لم يقبل إيمانَ فرعونَ حين أدركه الغرقُ. وهكذا ذكر في "تفسير اللباب" و"الوسيط". وقيل: يقبل التوبة ما لم تبلغ الروح الحلقوم. وهذا الخلاف في التوبة من الذنوب، أما لو استحل أحدًا عليه له مظلمة فحلَّله، صحَّ تحليلُه بلا خلاف، وكذلك لو أوصى بشيء، أو نَصَّبَ أحدًا على أطفاله، أو عَمَلِ خيرٍ، صحَّت وصيَّتُه بلا خلاف. وتأويل (ما لم يغرغر) على قول ابن عباس ومَنْ تابعه: أنه ما لم يتيقنِ الموتَ؛ لأن كثيرًا من الناس لم يَرَوا ملكَ الموت ولم يعلموا خروجَ الروح من أعضائهم حتى تبلغ الروح الحلقوم، فمن لم يعرف قبض روحه تقبل توبته وإيمانه بلا خلاف ما لم يتيقن الموت، وإن بلغت الروح الحلقوم. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو. * * * 1682 - وقال: "إنَّ الشَّيطانَ قال: وَعِزَّتِكَ يا ربِّ، لا أَبْرحُ أُغْوي عبادَكَ ما دامَتْ أرواحُهم في أَجْسادِهم، فقالَ الربُّ - عز وجل -: وعِزَّتي وجَلالي، وارتفاعِ مكاني، لا أَزالُ أَغفِرُ لهم ما استَغْفرُوني". قوله: "لا أبرح"؛ أي: لا أزال؛ أي: أبدًا. "أغوي عبادك": أي: أُضلُّهم وآمرهم بالكفر والعصيان. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * *

1683 - وقال: "إنَّ الله تعالى جعَلَ بالمَغربِ بابًا عَرْضُه مَسِيْرةُ سَبْعينَ عامًا للتَّوبةِ، لا يُغْلَقُ ما لم تَطْلُعِ الشَّمسُ مِن قِبَلِهِ، وذلكَ قولُه تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ". قوله: "إن الله جعلَ بالمغرب بابًا ... " إلى آخره. يعني: تدخل توبة التائبين في ذلك الباب، فمن تاب قبل أن يُغْلق ذلك البابُ تترك توبتُه حتى تدخلَ في ذلك الباب، ومن تاب بعد أن أغلق تردُّ توبته. "من قِبَله"؛ أي: من جانب الباب. قوله: " {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} "؛ أي: بعض العلامات التي يُظْهِرُها ربُّك إذا قَرُبت القيامة. قوله: " {أوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "؛ يعني: لا ينفع نفسًا أن تعمل طاعةً وتوبةً في ذلك الوقت. روى هذا الحديثَ صفوانُ بن عَسَّال. * * * 1684 - وقال: "لا تَنْقطِعُ الهِجْرةُ حتى تَنقطِعَ التَّوبةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها". قوله: "لا تنقطِعُ الهجرةُ حتى تنقطع التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلُعَ الشمسُ من مغربها". أراد بالهجرة ها هنا: الانتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الشرك إلى دار الإسلام، ومن المعصية إلى التوبة. روى هذا الحديثَ معاوية. * * *

1685 - وقال: "إنَّ رجلَينِ كانا في بنيْ إسرائيلَ مُتحابَّيْنِ، أحدُهما مُجتهِدٌ في العِبادَةِ والآخرُ مُذْنِبٌ، فجعَلَ المُجتهِدُ يقولُ: أَقْصِرْ عمَّا أنتَ فيهِ، فيقولُ: خَلِّني وَرَبي، حتى وجَدَهُ يومًا على ذنْبٍ استعظمَهُ، فقال: أَقْصِرْ، فقالَ: خَلِّني وَرَبي، أَبُعِثتَ عليَّ رَقِيبًا؟ فقال: والله لا يغْفرُ الله لكَ أبدًا، ولا يُدخِلُكَ الجنَّةَ، فبعثَ الله إليهما مَلَكًا، فقبَضَ أَرواحَهما، فاجتمعا عنْدَه، فقالَ للمُذنِبِ: اُدخُلْ الجنَّةَ برحمتي، وقالَ للآخرِ: أتَستطِيعُ أنْ تَحْظُرَ على عَبْدي رحمتي؟ فقالَ: لا يا ربِّ، قال: اذهبُوا بهِ إلى النارِ". قوله: "متحابين"؛ أي: يجري بينهما المودة والمحبة. "مجتهد"؛ أي: مُبالغ. "في العبادة، والآخرُ يقول مذنب"؛ أي: يقول الآخر: أنا مذنب، ويحتمل أن يكون معناه: ويقول النبيُّ - عليه السلام -: الآخرُ مذنب. قوله: "فجعل"؛ أي: طَفِق ذلك المجتهد في العبادة يقول للمذنب: "أقصِرْ"؛ أي: اترك "ما أنت عليه" من الإذناب. "فيقول"؛ أي: فيقول المذنب: "خلِّني وربي"؛ أي: مع ربي، فإنه غفور رحيم. "أبعثت علي رقيبًا؟ "؛ يعني: أُرسلتَ عليَّ حافظًا؟! استفهامٌ بمعنى الإنكار؛ يعني: ما أمرك الله أن تحفظني. "فقال"؛ أي: فقال الزاهد للمذنب: "والله لا يغفر الله لك أبدًا"؛ لأنك مذنب. "فبعث الله إليهما مَلَكًا فقبض أرواحَهما"، وهذا تصريح بأنه تعالى قد يأمر مَلَكًا غيرَ ملكِ الموت بقبض بعض الأرواح؛ لأنه قال: (بعث إليهما ملكًا) ولم يقل: ملك الموت.

"فاجتمعا عنده"؛ أي: أُحْييا بعد الموت كما يُحْيا سائرُ الأموات في القبور لجواب المنكر والنكير. "وقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي"، أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإذا ظننتني غفورًا رحيمًا فقد غفرتُ لك ورحمتُك. "أن تحظُر"؛ أي: أن تحرِّم. قوله: "اذهبوا به إلى النار"، والضمير في (اذهبوا) ضمير للملائكة، [و] إدخاله النار لمجازاته على قَسَمه بأن الله تعالى لا يغفر المذنب، لأن هذا حكم على الله، وجعل الناس آيسًا من رحمة الله، وحكم بكون الله غير غفور، فإن اعتقد أنه يعلم الغيب بأن الله لا يغفر فقد كَفَر، ويخلَّد في النار، وإن لم يكن اعتقاده هذا فقد أذنب ذنبًا كبيرًا بأن جعل أحدًا آيسًا من رحمة الله تعالى، فيبقى في النار بقدر هذا الذنب، ثم يخرج منها ويدخل الجنة كسائر المذنبين. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1687 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قوله: {إلاَّ اللَّمم}: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ تَغْفِرِ اللهمَّ تَغفرْ جَمَّاً ... وأَيُّ عَبْدٍ لكَ لا أَلَمَّا" غريب. قوله: " {إِلَّا اللَّمَمَ} ": هذا استثناء من قوله: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}؛ (كبائر الإثم): كل ذنب فيه حَدٌّ، و (الفواحش): الزنا خاصة، و (اللمم): الصغائر؛ يعني: ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فإنهم لا يقدرون أن يجتنبوه، فإن الأمم غير معصومين عن الصغائر، والصغائر تُغفر لهم بالتوبة والطاعات.

قوله: "إن تغفِرِ اللهمَّ تغفر جَمًّا ... وأي عبد لك لا ألمَّا" (جمًا)؛ أي: كثيرًا، (ألم): إذا نزل بالذنب، و (ألم): إذا فعل اللَّمم؛ يعني: اللهم إن تغفرْ ذنوبَ عبادك فقد غفرتَ ذنوبًا كثيرة، فإنَّ جميعَ عبادِك كلَّهم خطَّاءون. وهذا مثل قوله: "كلُّ بني آدمَ خَطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائين التوابون"، وقد ذكر بحثه قبيل هذا، وهذا البيت؛ أعني: إن تغفر اللهمَّ، من أشعار أُميةَ بن أبي الصَّلت قرأه رسولُ الله عليه السلام استشهادًا بأن المؤمن لا يخلو من اللَّمم. * * * 1688 - عن أبي ذَرًّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقولُ الله تعالى: يا عبادِي!، كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَنْ هدَيْتُهُ، فَسَلوني الهُدَى أَهْدِكم، وكلُّكم فُقراءُ إلَّا مَن أَغْنَيتُ، فَسَلُوني الرِّزْقَ أَرزُقْكم، وكلكُّم مُذنِبٌ إلا مَنْ عافَيْتُ، فمَن عَلِمَ منكم أني ذُو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفرَني غَفَرتُ لهُ، ولا أبالي، ولو أنَّ أَوَّلَكم وآخِرَكم، وحَيَّكم وميتكم، ورَطْبَكم ويابسَكم، اجتمعُوا على أَتْقَى قلْبِ عبدٍ مِن عِبَادي ما زادَ ذلكَ في مُلْكي جَناحَ بعَوضَةٍ، ولو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وحَيَّكم ومَيتَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا على أشقَى قلْبِ عبْدٍ مِن عبادي ما نقصَ ذلكَ من مُلْكي جَناحَ بَعُوضَةٍ، ولو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وجِنَّكُم وإِنْسَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا في صعيدٍ واحدٍ، فسأَلَ كلُّ سائلٍ مِنكم ما بلغَتْ أُمنيَّتهُ، فأَعطيتُ كلَّ سائلٍ منكم مَسْأَلتَهُ ما نقَصَ ذلكَ مِن مُلْكي إلَّا كما لو أنَّ أحدكم مَرَّ بالبَحرِ، فغَمَسَ فيه إبرْةً، فَرفَعَها، ذلكَ بأنَّي جَوادٌ ماجدٌ، أَفْعلُ ما أُريدُ، عطائي كلامٌ، وعَذابي كلامٌ، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أردتُ أنْ أقولَ لهُ: كُنْ، فيكونُ".

قوله: "حيَّكم وميّتَكم ورَطْبكُم ويابسَكم"، يحتمل أن يريد بالرطب: البحر، وباليابس: البَر؛ يعني: أهل البر والبحر، ويحتمل أن يريد بالرطب: الصَّغار، وباليابس: الكبار؛ يعني: صغاركم وكباركم، ويحتمل أن يريد بالرطب: النبات والشجر، وباليابس: الحجر والمَدَر؛ يعني: لو صار كلُّ ما في الأرض من النبات والشجر والحجر والمَدَر آدميًا. قوله: "ما بلغت أمنيته"، (الأمنية): الاشتهاء والإرادة؛ يعني: كل حاجة تجري في خاطره. قوله: "ذلك بأنَّي جواد ماجد"، (ذلك) إشارة إلى قضاء حوائجهم. (الجواد): كثير الجُود والكرم. (الماجد): واسع العطاء؛ يعني: إنما أقضي حوائجَ العباد؛ لأن من صفاتي (الجواد الماجد)، فكيف لا يقضي حوائجهم من هو جواد ماجد؟! قوله: "عطائي كلام وعذابي كلام"؛ يعني: لا ينقُص من خزائني شيء، ولا يلحقني بأن أقضي حوائجَ العباد وأوجدَ المعدومات تعبٌ؛ لأن إيجادي المعدومَ وإعطائي السائلَ ما يريدُ وتعذيبي الكفارَ وغيرَ ذلك مما أُرِيْدُ فعلَه ليس إلا الأمر، والمراد بالكلام: الأمر؛ يعني: إذا أردتُ شيئًا أقول له: كن فيكون، من غير تأخير. * * * 1689 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَرَأَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}، قال: "قالَ ربُّكم: أنا أَهْلٌ أنْ أُتَّقَى، فمَن اتَّقاني فأَنا أهل أَنْ أَغفِر لهُ". قوله: " {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} "؛ يعني الله هو المستحق أن يتقيه

فصل

المخلوقات؛ أي: يخافونه ويحذرون مخالفتَه، وهو أهل أن يغفر لِمَنْ خافه. (الاتقاء): الحذر. * * * 1691 - ورُوي عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قالَ: أَستغفِرُ الله الذي لا إلهَ إلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليهِ؛ غُفِرَ لهُ وإنْ كانَ فَرَّ مِن الزَّحْفِ"، غريب. قوله: "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه". (الحي) و (القيوم): منصوبان؛ لأنهما صفتان للفظة (الله)، وهو منصوب بانه مفعول (أستغفر)، ولا يجوز أن يكونا صفتين للضمير في (إلا هو)؛ لأن المضمَر لا يوصف. قوله: "غفر له وإن كان فر من الزحف"، و (الزحف): اجتماع الجيش في وجه العدو، والمراد ها هنا بقوله: (وإن كان فر من الزحف) يعني: وإن كان فر من حرب الكفار، حيث لا يجوز الفرار بأن لا يزيد عددُ الكفار على مِثْلَي عددِ جيش المسلمين، والفرارُ من الكفار - حيث لا يجوز الفرار - من الكبائر. وهذا الحديث يدلُّ على أن الكبائر تُغفر بالتوبة والاستغفار. روى هذا الحديثَ أبو يَسَار مولى النبيَّ عليه السلام، واسمه زيد. * * * فصل (فصل) مِنّ الصَّحَاحِ: 1692 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا قَضَى الله الخَلْقَ؛ كتبَ كِتابًا فهوَ عندَهُ

فَوْقَ عَرْشِه: إنَّ رَحْمتِي سَبقَتْ غَضَبي". وفي روايةٍ: "غلَبَتْ غَضَبي". قوله: "لما قضى الله الخلق"؛ أي: لمَّا قدر الله المخلوقات. قوله: "كتب كتابًا"؛ يعني: كتب في اللوح المحفوظ: "إن رحمتي سبقت غضبي"، ومعنى (سبقت): [أكثر]؛ يعني: رحمتي أكثر من غضبي؛ يعني: ما أغفر من ذنوب المؤمنين أكثر ممَّا أعذِّبهم به. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1693 - وقال: "إنَّ للهِ مائةَ رَحْمةٍ، أَنْزَلَ مِنها رحمةً واحدةً بينَ الجنِّ والإِنْسِ والبَهائِم والهَوامَّ، فَبها تتعَاطَفُونَ، وبها تتَراحمُونَ، وبها تَعطِفُ الوحشُ على وَلَدِها، وأخَّر تِسْعًا وتسعينَ رحمةً يَرحَمُ بها عِبادَهُ يومَ القِيامةِ". وفي روايةٍ: "فإذا كانَ يومُ القِيامةِ أَكْمَلَها بهذهِ الرَّحمةِ". قوله: "فبها يتعاطفون"؛ أي: يُوصل الرأفةَ والشفقةَ بعضُهم إلى بعض، (التعاطف) مثل التراحمُ؛ يعني: كل راحة ورحمة تصل من آدمي إلى آدمي أو من جِنٍّ إلى جن، أو من حيوان إلى آخر من جنسه أو غير جنسه، كلُّ ذلك نتيجة تلك الرحمة التي أنزلها الله بين خلقه. قوله: "أكمَلَها بهذه الرَّحمة"؛ يعني: يضم الرحمة التي أنزلها في الدنيا إلى التسعة والتسعين من الرحمة التي أخَّرها حتى يصيرَ المجموعُ مئةَ رحمة، فيرحم بها عباده من الأنبياء والمؤمنين. روى هذا الحديثَ سَلْمان الفارسيُّ.

1694 - وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو يَعلَمُ المؤمنُ ما عندَ الله من العُقوَبَةِ ما طَمِعَ بجنَّتهِ أَحدٌ، ولَو يَعلمُ الكافِرُ ما عندَ الله مِن الرحمةِ ما قَنِطَ مِن جَنَّتهِ أحدٌ". قوله: "لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبة ما طَمِعَ بجنَّته أحدٌ". جاء هذا الحديث في بيان كثرة عقوبته ورحمته كي لا يغترَّ المؤمن برحمته فيأمَن من عذابه، فإنه لو أمن من عذابه يصير كافرًا، أو قال بعد هذا: (ولو يعلم الكافر ...) إلى آخره: كي لا ييأس مؤمن من رحمته بكثرة ذنوبه، وكي لا يخاف كافرٌ من الإيمان بعد سنينَ كثيرةٍ كان في الكفر، فإنه يُغفر له ما فعل في الكفر في سنين كثيرة إذا دخل في الإسلام، وليس المراد منه: إن مات في الكفر يُغفر [له]، أو يُخرج من النار في وقت من الأوقات، بل لا يخرج من النار أبدًا وإن كانت رحمة الله كثيرة واسعة، بل لا ينال رحمتَه يومَ القيامة إلا المؤمنون. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1695 - وقال: "الجنةُ أَقْربُ إلى أحدِكُم من شِرَاكِ نَعْلِه، والنَّارُ مثْلُ ذلكَ". قوله: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"؛ يعني: من عمل عملًا صالحًا تكون الجنة قريبةً منه، ومن عمل سوءًا تكون النار قريبةً منه. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 1696 - وقال: "قالَ رجلٌ لَمْ يَعملْ خَيْرًا قطُّ لأهلهِ، وفي روايةٍ: أَسَرفَ

رجلٌ على نْفسِه، فلمَّا حضَرَهُ المَوتُ أَوصَى بنيهِ: إذا ماتَ؛ فحَرَّقوهُ، ثم اذْرُوا نصْفَه في البرِّ، ونصفَهُ في البَحرِ، فَوَالله لئِن قَدَرَ الله عليهِ ليُعذِّبنهُ عَذابًا لا يُعذِّبُه أَحَدًا مِن العالَمينَ، فلمَّا ماتَ فعَلُوا ما أَمَرَهم، فأَمرَ الله البَحْرَ، فجمعَ ما فيهِ، وأَمرَ البرَّ، فجمَعَ ما فيهِ، ثم قالَ لهُ: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: مِن خَشْيَتِكَ يا ربِّ، وأنتَ أعلمُ! فغَفَرَ لهُ". قوله: "ثم اذْرُوا نصفه"؛ أي: ثم فرِّقوا نصف رَماده؛ ذَرَا يَذْرو: إذا فرَّق البَذْر والتراب على وجه الأرض. قوله: "لئن قدر الله عليه"، وهذا الرجل كان مبتدعًا؛ لأنه اعتقد بأن الله تعالى ليس بقادر على الجزئيات؛ أي: على الأشياء الحقيرة القليلة مثلِ جمع ما في وجه الأرض وما في وجه الماء من الأجزاء المحترقة لهذا الشخص وإحيائه على هذه الصفة. قوله: "فغفر له"، وهذا يدل على أن غفران المبتدعين جائز، ولا يجوز القطع على تعذيب المبتدعين، بل هم في مشيئة الله إن شاء عذَّبهم وإن شاء غفر لهم، وكان سببَ مغفرةِ هذا الرجل خوفُه من الله تعالى وتعظيمُه لله وتحقيرُه للمذنب، وتحقيرُ المذنب نفسَه وتعظيمُ ربه وصفٌ يحبُّه الله، فلهذا غفر له. روى هذا الحديثَ معاويةُ بن جُنْدُب. * * * 1697 - وقال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: قَدِمَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ مِنَ السَّبْي قد تَحَلَّبَ ثَديُها تَسعَى، إذا وَجَدَتْ صبيًا في السَّبْي أخذَتْهُ، فأَلصَقَتْهُ ببَطْنِها، وأرضعَتْهُ، فقالَ لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أترَوْنَ هذهِ طارِحَةً ولدَها في النارِ؟ "، قلنا: لا وهي تقدرُ على أنْ لا تَطْرَحَهُ، قال: "لَلَّهُ أرحمُ بعبادِهِ من هذه بولدِها".

قوله: "قد تحلَّب ثَدْيُها"؛ أي: تكثَّر لبن ثديها بحيث يجري اللبن من ثديها. قوله: "إذا وجدت صبيًا في السَّبي أخذته وألصقتْهُ ببطنها"؛ يعني: من غاية رحمتها وشفَقَتها بولدها الغائب إذا وجدت صبيًا أجنبيًا أخذته وأرضعته. قوله: "أترون هذه طارحةً وَلدَها"، (الطرح): الإسقاط؛ يعني: أتظنون وتعلَمون أن هذه المرأة تُلقي ولدها في النار مع شدة شفقتها وحنينها. قولهم: "وهي تقدر على أن لا تطرحه"، الواو في (وهي) للحال؛ يعني: في حال اختيارها لا تُلقيه في النار. * * * 1698 - وقال: "لن يُنجيَ أَحَدًا منكم عملُه! "، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلَّا أنْ يتغمَّدَنيَ الله منهُ بِرَحْمتِهِ، فسدِّدوا، وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيئًا مِن الدُّلْجةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا". قوله: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه"؛ يعني: لن يتخلَّص أحدٌ منكم من النار بعمله، ولن يدخل الجنةَ بعمله إلا بفضلِ الله ورحمته. اعلم أن اعتقادَ أهلِ السنة: أن الكسبَ ليس سببَ جلب الرزق، بل الرزق من الله تعالى، فَرُبَّ مُكْتسبٍ ومُبالغٍ في الكسب لا يحصُل له الرزقُ إذا لم يرزقه الله، وربَّ تاركٍ للكسب ومشتغل بالعبادة وغيرِها فيرزقه الله رزقًا حسنًا، ولكنَّ الناسَ مأمورون بالكسب لمعاونة بعضهم بعضًا، ولتكون أسبابُهم الدُّنيوية مُهيَّأة من الزراعة والعمارة والحِرَف وغيرها من غير أن يعتقدوا حصولَ الرزق من الكسب، بل بحصول الرزق من الله الكريم. فكذلك الناسُ مأمورون بالأعمال الصالحة من غير أن يعتقدوا التخليصَ من الجحيم، ودخول جنة النعيم بأعمالهم، بل بفضل الله ورحمته، فإن جميعَ

طاعات الرجل لو قُوبلت بشَربة ماء سقاه الله إيَّاها في الدنيا لنقَصَ عملُه عنها، فإذا نقصَت طاعتُه عن شكر أقل ما رزقه الله في الدنيا، فكيف يدخل الجنة بعمله؟ قوله: "إلا أن يتغمدني الله"، (التغمُّد): الستر؛ يعني: إلا أن يُلْبسني الله لباسَ رحمتِه فأدخلَ الجنةَ برحمته. "فسددوا"؛ أي: اجعلوا أعمالكم مستقيمةً على طريق الحق. (التسديد): جعل الشيء مستقيمًا. "وقاربوا"؛ أي: اطلبوا قربة الله بطاعته بقدْر ما تطيقون؛ يعني: لا تشددوا على أنفسكم بالمبالغة في الطَّاعات بأن لا تناموا ولا تستريحوا ولا تأكلوا، فإنَّ أحدكم لن يدخلَ الجنةَ بعمله، فإذا لم يكن دخولُه الجنة بعمله فَلِمَ يشدِّد على نفسه في الطاعات، بل يكون كمسافرٍ قصد سفرًا بعيدًا فإنه لو عَدَا عَدْوًا شديدًا لتعب وانقطع عن السفر ولم يبلغ المَقْصِد، بل طريقه أن يمشي في أوَّل النهار إلى ارتفاع الشمس، ثم يستريح إلى بعد العصر، ثم يمشي إلى الليل، ثم يستريح، ثم يمشي في آخر الليل، فإذا قطع المسافة على هذه الصفة يبلُغُ المقصدَ، فكذلك المؤمن فليعمل الفرائض والسنن وشيئًا من التطوعات ويستريح ساعة فساعة. (المقاربة): طلب القربة من أحد، والدُّنو منه. معنى (اغدوا): امشُوا في أول النهار. "وروحوا"؛ أي: امشوا في آخر النهار. "وشيء من الدُّلجة"؛ تقديره: وليكن في مشيكم شيءٌ من الدُّلجة؛ أي: ليقع بعض طاعتكم في الليل. (الدُّلجة) - بضم الدال -: آخر الليل.

"القصدَ القصدَ تبلُغوا"؛ أي: الزموا القصد في العمل حتى تبلُغوا المنزل. و (القصد): الوسط؛ أي: لا تفريط ولا إفراط في العمل؛ يعني: التفريط والإفراط مذمومان، وخيرُ الأمورِ أوساطُها. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1699 - وقال: "لا يُدْخِلُ أَحدًا منكم عملُهُ الجنَّةَ، ولا يُجيرُه مِن النَّارِ، ولا أنا، إلا برحمةِ الله تعالى". قوله: "ولا يجيره"؛ أي: لا يخلَّصه ولا يُنجيه. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 1700 - وقال: "إذا أَسلَمَ العبْدُ فحَسُنَ إسلامُهُ يُكفِّرُ الله عنهُ كلَّ سيئةٍ كانَ زلَفَها، وكانَ بَعْدُ القِصاصُ: الحسَنةُ بعَشْرِ أَمثالِها إلى سبعمائةِ ضعْفٍ، والسَّيئةُ بمِثْلِها إلا أنْ يَتَجاوَزَ الله عنها". قوله: "فحسُنَ إسلامُه"؛ يعني: يكون الإسلام محبوبًا ومرضيًا له ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن النفاق في قلبه، فإذا كان كذلك "يكفِّر الله"؛ أي: يستر الله ويعفو "كلَّ سيئة" من الكفر والمعاصي والقتل وأكل أموال الناس بالباطل. "كان زَلَّفها" - بتشديد اللام -؛ أي: قدَّمها على الإسلام؛ أي: ما فعله قبل الإسلام. قوله: "وكان بعدُ القصاصُ" بضم الدال، (والقِصَاصُ) - بضم الصاد -

والتقدير: كان بعدَ الإسلامِ القصاصُ؛ يعني: قد غفر له ما فعل قبل الإسلام ولكن يطالب بعد الإسلام بما فعل من السيئات وما عليه من حقوق الآدميين. قوله: "والحسنة بعشر أمثالها"؛ يعني: وكانت الحسنة بعد الإسلام بعشر أمثالها؛ بخلاف قبل الإسلام؛ فإنه إذا عمل حسنةً في الكُفر ثم أسلم يعطى بكلِّ حسنة ثواب حسنة واحدة. * * * 1701 - وقال: "إنَّ الله كتبَ الحسَناتِ والسِّيئاتِ، فمَنْ همَّ بحسنةٍ فلمْ يَعملْها كتَبها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله لهُ عندَهُ عشرَ حسَناتٍ إلى سَبْعمائةِ ضعْفٍ إلى أَضعافٍ كثيرةٍ، ومَنْ همَّ بسِّيئةٍ فلم يعمَلْها كتبَها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ هوَ همَّ بها فَعَمِلَهَا كتَبها الله له سيئةً واحدةً". قوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات"؛ يعني: إن الله كتب في اللوح المحفوظ. "فمن هَمَّ"؛ أي: قصد أن يعمل حسنة. "فلم يعملها" لعذرٍ؛ مثل أن ينوي إعطاء صدقة فلم ييسر له ذلك لعدَم المال، أو لعدم الفقير، أو لعذرٍ آخرَ، كتب الله ذلك الهمَّ والقصدَ حسنة، وإن عملها كتب الله له عشر حسنات ويزيد إلى ما شاء الله. "ومن همَّ أن يعمل سيئة فلم يعملها" خوفًا من الله، كتب تلك السيئة حسنة؛ لأن تركَ السيئةِ من خوف الله حسنةٌ، كان عَمِلَ تلك السيئةَ كتب له سيئة واحدة؛ بخلاف الحسنة؛ فإنه إذا عَمِلَ الحسنةَ كتَبَ له بكلِّ حسنة عشرَ حَسَنات إلى سبع مئة ضعف ويزيد، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ رحمتَه أكثرُ من غضبه.

روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * مِنَ الحِسَان: 1702 - وقال: "إنَّ مثَلَ الذي يعمَلُ السيئاتِ، ثمَّ يعمَلُ الحسَناتِ كمثَلِ رجُلٍ كانتْ عليهِ دِرْعٌ ضَيقةٌ قد خنقَتْهُ، ثم عمِلَ حسَنةً فانفكَّتْ حَلْقَةٌ، ثم عمِلَ أخرَى فانفكَّت حَلْقَةٌ أُخْرَى حتى تَخْرُجَ إلى الأَرضِ". قوله: "إنَّ مَثَل الذي يعمل السيئاتِ ثم يعملُ الحسناتِ كمثَل رجلٍ كانت عليه دِرْعٌ ضيقة ... " إلى آخره. يعني: عمل السيئات يضيق صدرَ الرجل ورزقَه، ويحيره في أمره فلا ييسر له أموره ويسوِّد قلبه، ويبغِّضه في أعين أحبائه، وإذا عمل الحسناتِ تزيلُ حسناتُه سيئاتِه، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. فإذا زالت سيئاتُه انشرحَ صدرُه، وتوسَّع رزقُه، وطاب قلبُه، وتيسَّرَ له كلُّ أمرٍ، وصار محبوبًا في قلوب الناس، فهذا هو المراد من الحديث. "خَنَقْته"؛ أي: عُصِرَ حَلْقُه وتَرقُوته من ضيق تلك الدِّرع. "فانفكت"؛ أي: انحلَّت وتوسَّعت. "حتى تخرج إلى الأرض"؛ أي: حتى يسقُطَ الدِّرع إلى الأرض ويخرج ذلك الرجل من ضيق تلك الدرع. روى هذا الحديثَ عُقبةُ بن عامر. * * * 1703 - عن أبي الدَّرداءِ - رضي الله عنه -: أنه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُصُّ على المِنْبَرِ

وهو يقولُ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟، فقالَ الثانيةَ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثانيةَ: وإنْ زنى وإنْ سرَقَ؟ فقالَ الثالثةَ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثالثةَ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟ قال: "وإنْ رَغِمَ أَنْفُ أبي الدَّرداء". قوله: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، (مقام ربه)؛ أي: خاف من القيام بحضرة ربه يومَ القيامة؛ يعني: مَنْ يخاف الله في معصيته فتركها يعطِه الله بستانين في الجنة، وإن زنى وإن سرق في وقت وتاب لم يُبْطِلْ زناه وسرقتُه ثوابَ خوفِه من الله في معصية أخرى غيرِ تلك الزَّنْية والسَّرِقة. * * * 1704 - عن عامرٍ الرَّامِ أنه قال: بينا نحنُ عندَه - يَعني: عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أَقْبَلَ رجلٌ عليهِ كِساءٌ وفي يدِهِ شيءٌ قد التَفَّ عليهِ، فقال: يا رسولَ الله!، مَرَرْتُ بغَيْضَةِ شجَرٍ، فسمعتُ فيها أصواتَ فِراخِ طائرٍ، فأَخذتُهنَّ، فوَضعتُهنَّ في كِسَائي، فجاءَتْ أُمُّهنَّ، فاستدارَتْ على رأْسِي، فكشَفتُ لها عنهنَّ، فوَقَعَت عليهنَّ، فلفَفْتُهنَّ بكِسائي، فهُنَّ أُولاءِ معي، فقال: "ضَعْهنَّ"، فوضعتُهنَّ، وأَبَتْ أُمُّهنَّ إلَّا لُزومَهنَّ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَعجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الأَفراخِ فِراخَها؟ فَوَالذي بعثَني بالحقِّ لَلَّهُ أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الأَفْراخِ بفِراخِها، اِرْجِعْ بهِنَّ حتَّى تضَعَهنَّ مِن حَيْثُ أَخَذْتَهنَّ، وأُمُّهنَّ معهنَّ"، فرَجَعَ بهنَّ. قوله: "بغَيضَةِ شجرٍ"، (الغيضة): الغابة وهي مجتَمع الأشجار. والشجر: اسم الجنس يقع على القليل والكثير، وواحدها: شجرة. "الفراخ" جمع فَرخ، وهو: ولد الطير. "فاستدارت" بمعنى: دارت.

6 - باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام

"فكشفتُ لها عنهنَّ"؛ أي: فأذهبتُ الكِساء عن وجه الفِراخ حتى رأتْهُنَّ أمُّهنَّ. "وأبَتْ أمُّهنَّ إلا لزومَهنَّ"؛ يعني: فلما وضعها عند رسول الله عليه السلام فكشف الكِساء عن الطائر وفِراخِها، فما طارت أمُّها، بل ثبتت معهن من غاية رحمتِها بهنَّ، والله أعلم. * * * 6 - باب ما يقُول عند الصَّباح والمَسَاء والمَنام (باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام) 1705 - عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمسَى قال: "أَمسَيْنا، وأَمسَى المُلكُ للهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلَّا الله وحدَه لا شَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ، ولهُ الحَمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، اللهمَّ إنَّي أسألُكَ مِن خَيْرِ هذهِ الليلةِ وخَيْرِ ما فيها، وأَعُوذُ بكَ مِن شَرِّها وشَرِّ ما فيها، اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ مِن الكَسَلِ، والهرَمِ، وسُوءِ الكِبْرِ، وفِتنْةِ الدُّنيا، وعَذابِ القَبْرِ"، وإذا أَصبَحَ قالَ ذلكَ أيضًا: "أصبحنا، وأصبَحَ الملكُ للهِ"، وفي روايةٍ: "ربِّ أعوذُ بكَ مِن عَذابٍ في النَّارِ، وعَذابٍ في القَبْرِ". "أمسينا وأمسى المُلك لله، والحمد لله"، و (الحمد لله) عطف على (أمسينا وأمسى الملك): إذا دخل في المساء وهو أول الليل، وأمسى: إذا صار؛ يعني: دخلنا في المساء، وصِرْنا نحن وجميع المُلك وجميع الحمد لله. قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الكَسَل والهرَم وسوء الكِبَر"، (الكسل): عدم نهوض النفس إلى الخير، وقلة الرغبة فيه مع وجود الاستطاعة، فالعاجز

معذور؛ لأنه لا استطاعة له، والكسلان غير معذور لوجود الاستطاعة له. و (الهرم) و (الكبر) - بفتح الباء -: طول العمر، وأعاذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الهرم وسُوءِ الكِبَر، والمراد بهما: طول العمر بحيث يصير الرجل خَرِفًا، وإن صار خرفًا يصير حقيرًا ذليلًا عند الناس، ويصير عاجزًا عن الحركة ويحتاج إلى معاونة الناس، وهو مَرَضٌ، بل أشدُّ الأمراض. قال الخطَّابي رحمة الله عليه: وروي "سوء الكِبْر" بسكون الباب، والأول أصح. هذه عبارته؛ يعني: الرواية الصحيحة "وسوء الكِبر" بفتح الباء لا بسكونها، ومن روى بسكون الباء: معناه التكبر، وهو مذموم أيضًا. قوله: "وإذا أصبح قال ذلك أيضًا"؛ يعني قال: (أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله ... إلى قوله: من الهرم والكبر) إلا أنه أبدل الليلةَ باليوم فقال: (اللهم إني أسألك من خير هذا اليوم وخير ما فيه). قوله: "وفي رواية: رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر"؛ يعني: قرأ بعد قوله: (من الهرم والكبر): (رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر). * * * 1706 - عن حُذيفةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِن اللَّيلِ وضَعَ يدَه تحتَ خدِّه، ثم يقول: "اللهمَّ باسمِكَ أَموتُ وأَحيا"، فإذا استَيْقَظَ قالَ: "الحمدُ للهِ الذي أَحيانا بعدَ ما أَماتَنا، وإليهِ النُّشورُ". قوله: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا"، قال الخَطَّابي: هذا مجاز؛ لأن الحياة غيرُ زائلة عند النوم، لكن جعل السكون عن الحركات وزوال القوة عند النوم بمنزلة الموت فقال: (بعدما أماتنا)؛ أي: رَدَّ علينا القوة والحركة بعد أن أزالهما مِنَّا بالنوم.

"وإليه النشور"؛ أي: وإليه المآب والرجوع بعد الموت للحساب والجزاء يومَ القيامة. * * * 1707 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَوَى أحدُكم إلى فِراشِهِ، فليَنْفُضْ فِراشَه بداخِلةِ إزارِه، فإنَّه لا يَدري ما خلَفَهُ عليهِ، ثم يقول: بِاسْمِكَ ربي وضَعتُ جَنْبي، وبكَ أرفعُهُ، إنْ أَمسكتَ نفْسي فارحَمْها، وإنْ أَرسلْتَها فَاحْفَظْها بما تَحفَظُ بهِ عِبَادَك الصَّالحين". وفي روايةٍ: "ثم لْيَضْطَجِعْ على شِقِّهِ الأَيمَنِ، ثم ليقل: باسمِكَ". وفي روايةٍ: "فليَنفُضْهُ بصَنِفَةِ ثَوبه ثلاثَ مرَّاتٍ، وليَقُلْ: إنْ أَمسكْتَ نفْسي فاغْفِر لَها". قوله: "إذا أوى"؛ أي: إذا دخل. "فلينفُضْ فراشه"؛ أي: فليحرِّكه ليسقُطَ ما فيه من ترابٍ وغيرِه، وإنما قال هذا لأنَّ رسم العرب تركُ الفراش في موضعه ليلًا ونهارًا. "بداخلة إزارِه"؛ أي: بالوجه الذي يلي الباطنَ من إزاره المشدودِ في وسطه وبذيل قميصه، وإنما قيَّد نفضَ الفراش بداخلة إزاره؛ لأنَّ الغالبَ في العرب إن لم يكن لهم إزارٌ أو ثوبٌ غيرُ ما عليهم، وإنما قيد نفض الفراش بداخلةِ الإزار؛ لأن هذا أيسر، ولكشف العورة أستر. قوله: "فإنه لا يدري ما خلفه عليه"، (خلفه): إذا قام مقامه بعده. "عليه"؛ أي: على الفراش؛ يعني: لا يدري ما وقع وحصل في فراشه بعدما خرج هو منه إلى أن يعودَ إليه؛ يعني: يمكن أن يكون في الفراش تراب أو قَذَاة أو شيء من الهَوامَّ المُؤْذِية.

"فإن أمسكت نفسي"؛ أي: فإن قبضتَ روحي في النوم. "وإن أرسلتها"؛ أي: وإن رُددتُ إلى الحياة وأيقظتَني من النوم. "فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" من أهل الطاعة. قوله: "باسمك"؛ أي: يقول: "باسمك ربِّ وضعتُ جنبي .... " إلى آخر الدعاء. قوله: "بصَنِفة ثوبه"؛ أي: بطرف ثوبه. (الصَّنِفة): طرف الإزار الذي هَدَبٌ. قوله: "وإن أمسكت نفسي فاغفر لها"؛ يعني: إذا اضطجع يقول: "باسمك ... " إلى آخر الدعاء، إلا أنه يقول: "فإن أمسكتَ نفسي فأغفر لها" بدل قوله: "فارحمها". روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1708 - عن البَرَاء بن عازِبٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَوَى إلى فِراشِه نامَ على شقَّه الأَيمنِ، ثم قال: "اللهم أَسلَمْتُ نفْسي إليكَ، ووَجَّهتُ وَجْهي إليكَ، وفَوَّضْتُ أَمْرِي إليكَ، وألجأْتُ ظَهْري إليكَ، رَغْبةً ورَهْبةً إلَيكَ، لا مَلْجَأَ، ولا مَنْجَا منكَ إلَّا إليكَ، آمنْتُ بكِتابكَ الذي أَنْزَلْتَ، وبنبيكَ الذي أَرسلتَ"، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قالَهنَّ، ثم ماتَ تحتَ ليلَتِهِ ماتَ على الفِطْرةِ". وفي روايةٍ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لرجُلٍ: "إذا أويتَ إلى فِرَاشِكَ فَتوَضَّأ وُضُوءَك للصَّلاةِ، ثم اضْطَجِعْ على شقَّكَ الأَيمَنِ، ثم قلْ: اللهمَّ أسلَمْتُ نفْسي إليكَ - بهذا - وقال: "فإنْ مِتَّ مِنْ لَيلتِكَ مِتَّ على الفِطْرةِ، وإنْ أَصبْحَتَ أَصبْتَ خيرًا".

قوله: "ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك بهذا"؛ أي: ثم ادعُ بهذا الدعاء إلى أن تختم الدعاء. "الفطرة": الإسلام. * * * 1709 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَوَى إلى فِراشِه قالَ: "الحَمْدُ للهِ أَطْعَمنا، وسَقانا، وكَفانا، وآوَانا، فكَمْ مِمَّن لا كافِيَ لهُ، ولا مُؤوِيَ له". قوله: "وكفانا"؛ أي: دفع عنَّا شرَّ المؤذيات، وحفظنا وهيَّأ أسبابنا. قوله: "وآوانا" بمد الهمزة؛ أي: جعل لنا مساكن، ورزقنا المساكن. قوله: "فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي"، (الكافي) و (المؤوي) هو الله؛ يعني: يكفي شر بعض الخلق عن بعض، ويهيئ لهم المأوى والمسكن؛ يعني: الحمد لله الذي كفانا وآوانا، فكم مِنْ خَلق الله لا يكفيهم الله شرَّ الأشرار، بل تَركَهم حتى غَلَبَ عليهم أعداؤهم، وكم مِنْ خلق لم يجعلِ الله لهم مأوى ومسكنًا، بل تركهم يتأذَّون في الصحارى في البرد والحر. * * * 1710 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ فاطِمَةَ أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَشْكُو إليهِ ما تَلْقَى في يَدِها مِن الرَّحا، وبَلَغها أنه جاءَهُ رَقيقٌ، فلم تُصادِفْه، فذكرَتْ ذلكَ لعائشةَ رضي الله عنها، فلمَّا جاءَ أخبرَتْه عائشةُ، قال: فجاءَنا وقد أَخَذْنا مَضاجِعَنا، فذهبنا نقُومُ، فقالَ: "على مَكانِكُما"، فجاءَ فقَعدَ بَيْني وبينَها، حتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِه على بَطْني، فقال: "ألا أدُلُّكُما على خَيرٍ مما سأَلتُما؟ إذا أخذْتُما مَضْجَعَكُما فسَبحا ثلاثًا وثلاثينَ، واحمَدا ثلاثًا وثلاثينَ، وكَبرا أربعًا وثلاثينَ، فهو خيرٌ لكُما مِن خادِمٍ".

قوله: "ما تلقى في يدها من الرَّحى"؛ يعني: ما ترى وتجد من مشقة إدارة الرَّحى بيدها. قوله: "وبلغها"؛ أي: وبلغ فاطمةَ خبرُ حصول عَبيد من السَّبي عند رسول الله عليه السلام، فأتته لتسأله رقيقًا ليعينَها بالخدمة، فإنها تتأذى بتفرُّدها في خدمة أهل بيتها. "فلم تصادفه"؛ أي: فلم تجد فاطمةُ رسولَ الله عليه السلام. "فذكرت ذلك لعائشة"؛ يعني: فقالت فاطمة لعائشةَ: أخبري رسولَ الله عليه السلام أني جئته لأسألَه رقيقًا. "فذهبنا نقوم"؛ أي: طَفِقْنا لنقوم من مضاجِعنا إلى خدمته. "فقال على مكانكما"؛ أي: فقال لهما رسول الله عليه السلام: كونا واثْبُتا على مكانكما ولا تقوما. "حتى وجدت برد قدمه على بطني"، هذا يدل على شيئين: أحدهما: أنهما كانا تحت لِحَاف واحد، والثاني: أن عليًا كان عُرْيانًا. "ألا أدلُّكما على خير مما سألتما"؛ أي: ممَّا طلبتما من رقيق، وهذا تحريض على الصبر على مشقة الدنيا ومكارِهها من الفقر والمرض وغير ذلك. * * * 1713 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ أبو بكرٍ: يا رسولَ الله!، مُرْني بشيءٍ أَقولُه إذا أصبحتُ وإذا أَمْسيتُ، قالَ: "قلْ: اللهمَّ عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، فاطِرَ السَّماواتِ والأَرضِ، رَبَّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكَه، أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شرِّ نَفْسِي، ومِن شَرِّ الشَّيطانِ وشِرْكه، قُلْهُ إذا أصبحتَ، وإذا أمسَيْتَ، وإذا أَخَذْتَ مَضْجَعَك".

قوله: "مليكه"، (المليك): القادر. * * * 1714 - وقال: "ما مِن عَبْدٍ يقولُ في صباحِ كلِّ يومٍ ومساءِ كلِّ ليلةٍ: باسم الله الذي لا يَضُرُّ مع اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ، ولا في السَّماءِ، وهو السميعُ العَليمُ، ثلاثَ مراتٍ، فيضرَّهُ شيءٌ". وفي روايةٍ: "لم تُصِبْه فَجْأةُ بلاءٍ حتى يُصْبحَ، ومَن قالَها حينَ يُصْبحُ لم تُصِبْه فَجأةُ بلاءٍ حتى يُمسِيَ". قوله: "لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء"؛ يعني: إذا ذكر الرجلُ اسمَه على طعام عن اعتقاد حَسَن ونية خالصة لا يضرُّه ذلك الطعامُ، ولو ذَكَر اسمَه على وجهِ عدُوٍّ لا يظفر عليه عَدُوُّه، وكذلك جميعُ الأشياء. روى هذا الحديثَ عثمان - رضي الله عنه -. * * * 1715 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: لم يكُنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَع هؤلاء الكلِمات حين يُمسي وحين يُصبحُ: "اللهمَّ إنَّي أسأَلُك العافيةَ في الدُّنيا والآخرة، اللهمَّ إنَّي أسألك العَفْوَ والعافيةَ في ديني ودُنيايَ وأهلي ومالي، اللهمَّ احفظْني من بين يديَّ ومِنْ خَلْفي، وعن يميني وعن شِمالي، ومنْ فوقي، اللهمَّ استُرْ عوراتي، وآمِنْ رَوعاتي، اللهم احفظْني مِن بين يديَّ ومِنْ خلْفي، وعن يميني وعن شمالي، ومِن فَوْقي، وأعوذُ بعظمتِكَ أنْ أُغتالَ مِنْ تحتي" يعني: الخَسْفَ. قوله: "ومن سوء الكفر"؛ أي: ومن شر الكفر، وذنب الكفر، وإثمه وشُؤمه. * * *

1717 - وعن بعضِ بناتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعَلِّمُها فيقولُ: "قُولي حينَ تُصبحينَ: سبُحانَ الله وبحمدِه، لا قوةَ إلا بالله، ما شاءَ الله كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لم يَكُنْ، أَعلَمُ أنَّ الله على كلَّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ الله قد أَحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْمًا، فإنَّه مَن قالَها حينَ يُصبحُ حُفِظَ حتى يُمْسِيَ، ومَن قالَها حينَ يُمسِي حُفِظَ حتى يُصبحَ". قوله: " {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} "؛ أي: نزِّهوه عما لا يليق بعظمته وكبريائه، وقولوا ما به تعظيمٌ له، وقيل: صلوات الله " {حِينَ تُمْسُونَ} "؛ أي: صلاة المغرب والعشاء، " {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ": أي: صلاة الصبح. " {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ": أي: هو محمود عند أهل السماوات والأرض، وقيل: معناه: أنه يحمَدُه أهلُ السماوات وأهلُ الأرض. " {وَعَشِيًّا} "؛ أي: صلاة العصر. " {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} "؛ أي: حين تدخلون في وقت الظهر؛ يعني: صلاة الظهر. " {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} "؛ أي: الإنسان من النطفة، والدجاجَ من البيضة، والنخل من النَّواة، والمؤمن من الكافر. " {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} "؛ أي: النطفة من الإنسان، والبيضة من الدجاج، والنواة من النخل، والكافر من المؤمن. " {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} "؛ أي: يُخرج النبات منها بالمطر بعد يَبَسِها. " {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} "؛ أي: كإخراج الحي من الميت، وكإحياء الأرض بعد موتها، تُخرجون من قبوركم يومَ القيامة. قوله: "أدرك ما فاته في يومه ذلك"؛ يعني: يحصل ثواب ما فات

منه من وِرْد وخير. * * * 1719 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قالَ إذا أَصبحَ: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، ولهُ الحمدُ، وهوَ على كلَّ شيءٍ قديرٌ؛ كانَ لهُ عِدْلُ رقَبةٍ مِن ولدِ إِسْماعيلَ، وكُتِبَ لهُ عَشْرُ حسَنات، وحُطَّ عنه عشرُ سَيئاتٍ، ورُفِعَ له عَشْرُ درَجاتٍ، وكانَ في حِرْزٍ مِن الشَّيطانِ حتى يُمسِيَ، وإنْ قالَها إذا أَمسَى كانَ لهُ مِثْلُ ذلك حتى يُصْبحَ". قوله: "أسر إليه"، الإسرار والإعلان والإخفاء، وهو من الأضداد، وكلا المعنيين مُحتمل ها هنا. قوله: "اللهمَّ أجِرْني"، هذا أمر مخاطب مِنْ: أجار يُجير إِجارةً: إذا خَلَّصَ أحدًا مما يخاف. قوله: "كتب له جوار منها"، (الجوار): البراءة التي تكون مع الرجل في الطريق، حتى لا يمنَعه أحدٌ المرور، والمراد به ها هنا: أنه خلَّصه الله منها. * * * 1720 - عن الحَارِث بن مُسلِم بن الحَارِث التَّميميِّ، عن أَبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أَسَرَّ إليهِ فقالَ: "إذا انصَرفْتَ مِن صلاةِ المَغربِ فقُلْ قبلَ أنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا: اللهمَّ أَجِرْني من النارِ سَبْعَ مرَّاتٍ، فإنَّكَ إذا قُلْتَ ذلكَ ثُم مِتَّ في ليلتِكَ كُتِبَ لكَ جِوَارٌ منها، وإذا صلَّيْتَ الصُّبحَ فَقُلْ كذلكَ، فإنك إذا مِتَّ في يَومِكَ كُتِبَ لكَ جِوَارٌ منها". قوله: "يَدَع"؛ أي: يترك. "استر عوراتي"؛ أي: ما فيَّ من العيوب والخَلَل والتقصير.

"وآمن رَوعاتي"؛ أي: مما أخافه. (الروع): الخوف. "اللهمَّ احفظني من بين يدي ... " إلى آخر الكلمات؛ يعني: اللهم ادفعْ عنِّي المُؤْذيات والبلاء من الجوانب السِّتَّة. "أُغتال"؛ أي: أَهْلَك. * * * 1721 - وقال: "مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ: اللهمَّ أَصبَحْنا نُشهِدُكَ ونُشهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وملائكَتَكَ وجَميعَ خَلْقِكَ: أنَكَ أنتَ الله، لا إلهَ إلا أنتَ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لكَ، وأنَّ مُحمَّدًا عبدُكَ ورسولُك، إلا غفَرَ الله لهُ ما أصابَهُ في يومِه ذلكَ مِن ذَنْبٍ، وإنْ قالَها حينَ يُمسي غفَرَ الله لهُ ما أَصابَ في تلكَ اللَّيلةِ مِن ذَنْبٍ"، غريب. قوله: "نشهدك"؛ أي: نجعلكَ شاهدًا على إقرارنا بوحدانيَّتك في الأُلوهية والرُّبوبية. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 1722 - وقال: "ما مِن عَبْدٍ مُسلمٍ يقولُ إذا أَمسَى وإذا أَصبَحَ ثلاثًا: رَضيْتُ بالله ربًّا، وبالإسلامِ دِيْنًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبَيًّا إلا كانَ حقًا على الله أنْ يُرضيَهُ يومَ القيامةِ". قوله: "كان على الله حقًا أن يُرضيه يومَ القيامة"، (حقًا) خبر (كان)، و (أن يُرضيه) اسم (كان)، والتقدير: كان إرضاؤه حقًا على الله يوم القيامة، وحقًا معناه: واجبًا، ولا يجب على الله تعالى شيءٌ إلا أنه إذا وَعَدَ بشيء، أو إذا

قال شيئًا لا يُخْلِفُ وعدَه، فيكون كالواجب عليه، وإذا عَمِلَ عبدٌ عملًا صالحًا يعطيه ثوابَ عملِه تفضُّلًا ورحمةً منه، كمن يؤدِّي واجبًا. روى هذا الحديثَ ثَوبانُ مولى رسولِ الله عليه السلام. * * * 1726 - وقال: "مَن قالَ حينَ يَأْوي إلى فِرَاشِه: أَستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هوَ الحيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليه، ثلاثَ مرَّاتٍ؛ غَفَرَ الله له ذنُوبَه، وإنْ كانَتْ مِثْل زَبَدِ البحرِ، أو عَددَ رَمْلِ عالِجٍ، أو عددَ ورَقِ الشَّجَرِ، أو عددَ أيامِ الدُّنيا"، غريب. قوله: "أو عددَ رملِ عَالِج": اسم وادٍ بعيدِ الطُّول والعَرْض، كثيرِ الرَّمْل من أرض العرب. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * 1727 - وقال: "ما مِن مُسلِمٍ يأخذُ مَضْجَعَهُ بقِراءةِ سُورةٍ مِن كتابِ الله إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، فلا يَقْرَبُهُ شَيءٌ يُؤْذيهِ، حتى يَهُبَّ متى هَبَّ". قوله: "حتى يهب"؛ أي: حتى يستيقظَ من النوم. روى الحديثَ شَدَّادُ بن أَوس. * * * 1728 - عن عبد الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَّتانِ لا يُحصِيهما - وفي روايةٍ: لا يُحافِظُ عليهما - رجُلٌ مُسلِمٌ إلا دَخَلَ الجنَّةَ، أَلاَ وَهُمَا يَسيرٌ، ومَنْ يَعملُ بهما قليلٌ: يُسَبحُ الله في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عَشْرًا، ويحمدُه

عَشْرًا، ويُكبرُه عَشْرًا"، قال: فأَنا رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعقِدُها بيدِهِ، قال: "فتلكَ خَمْسونَ ومائةٌ باللِّسانِ، وألفٌ وخَمْسمائةٍ في المِيزانِ، وإذا أَخَذ مَضْجَعَهُ يُسَبحُه ويحمدُه وبُكَبرُه مائةً". وفي روايةٍ: "يكبرُ أَربعًا وثلاثينَ، ويحمدُه ثلاثًا وثلاثينَ، ويسبحُ ثلاثًا وثلاثينَ، فتلكَ مائةٌ باللَّسانِ، وألفٌ في المِيْزانِ، فأَيُّكم يَعمَلُ في اليومِ واللَّيلةِ ألفَينِ وخمسمائةِ سَيئةٍ؟ " قالوا: فكيفَ لا نُحصِيْها؟ قال: "يأْتي الشَّيطانُ أَحَدَكم وهو في صَلاتِهِ فيقولُ: اذكُرْ كذا، اذْكُرْ كذا، حتى يَنفَتِلَ، فلَعَلَّهُ أنْ لاَ يفعَلَ، ويأتيهِ في مضجَعِهِ فلا يَزالُ يُنَوِّمُهُ حتى ينامَ". قوله: "خُلَّتان"؛ أي: خصلتان. "لا يحصيهما"؛ أي: لا يعمل بهما، أراد بالخُلَّتين الذِّكر بهؤلاء الكلمات الثلاثِ خلفَ الصلواتِ المكتوبة، وعند الاضطجاع، فتلك خمسون ومئة باللسان؛ يعني: التسبيح عشر خلف الصلوات الخمس يكون خمسين، والتحميد مثله، والتكبير مثله، يكون المجموع مئة وخمسين. قوله: "وألف وخمس مئة في الميزان"؛ يعني: تكون الحسنة بعشر أمثالها، فالمئة تكون ألفًا، والخمسون تكون خمس مئة. قوله: "فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مئة سيئة"؛ يعني: إذا أتى بهؤلاء الكلمات خلف الصلوات وعند الاضطجاع يحصل له ألفا حسنةٍ وخمس مئة حسنة، فيعفى عنه بعدد كل حسنة سيئة، فأيكم يكون ذنبه في كل يوم وليلة ألفين وخمس مئة؛ يعني: يصير مغفورًا. قوله: "فيقول اذكر كذا"؛ يعني: يوقع الشيطان في قلبه الوساوس والنسيان والأشغال الدنيوية.

"حتى ينفتل"؛ أي: ينصرف ويفرُغ من صلاته، فينسى هذا الذكر فلا يأتي به. قوله: "ينوَّمه"؛ أي: يلقي النوم عليه حتى ينام، فلا يأتي بهذا الذكر. * * * 1729 - عن عبد الله بن غَنَّام: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قالَ حينَ يُصبحُ: اللهمَّ ما أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وحْدَكَ لاَ شَريكَ لك، فَلَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكرُ، فقد أَدَّى شُكْرَ يَومِهِ، ومَن قالَ مثلَ ذلكَ حينَ يُمسي فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ". قوله: "ما أصبح بي من نعمة"؛ أي: ما حصل لي من نعمة، أو حصلت لأحد من جميع المخلوقات، فهو منك وشاكرك عليه. * * * 1730 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كانَ يقولُ إذا أَوَى إلى فِرَاشِهِ: "اللهمَّ ربَّ السَّماواتِ، وربَّ الأرضِ، وربَّ كلِّ شيءٍ، فالِقَ الحَبَّ والنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوراةِ والإِنْجيلِ والقُرْآن، أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ كلِّ ذي شرًّ أنتَ آخِذٌ بناصيتها، أنتَ الأَوَّلُ فليسَ قَبْلَكَ شيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَك شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليسَ فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطِنُ فليسَ دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عني الدَّيْنَ، وأَعِذْنِي مِنَ الفَقْرِ". قوله: "فالق الحَبِّ والنَّوى"، (الفلق): الشق، و (النوى): جمع نواة، وهي عَظْم النخل؛ يعني: يا من شَقَّ الحَبَّ والنَّوى، فأخرجَ منها الزرع والنخيل.

قوله: "أنت آخذٌ بناصيته"، هذا عبارة عن القدرة والغَلَبة؛ يعني: أعوذ بك من شرِّ كلِّ شيء أنت قادر عليه؛ أي: من شر جميع الأشياء؛ لأن الله تعالى قادر على جميع الأشياء، وإنما كنَّى عن القدرة بقوله: (أنت آخذ بناصيته)؛ لأنَّ مَنْ أخذ بناصية أحد، فقد قَهَره وقَدَر عليه غايةَ القدرة. * * * 1731 - عن أبي الأَزْهَرِ الأَنْمَارِيِّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أخذَ مَضْجَعَهُ من اللَّيلِ قال: "بسمِ الله وضعتُ جَنْبي، اللهمَّ اغفرْ لى ذَنْبي، واخْسَأْ شَيْطاني، وفُكَّ رِهَاني، وثَقِّلْ مِيْزاني، واجعَلْني في النَّدِيِّ الأَعلَى". قوله: "اخسأ شيطاني": أي: أبعد شيطاني. "وفك رهاني": أمر مخاطب من الفك وهو تخليص الرهن عن يد المرتهن. (الرهان): جمع رهن، والرهن: هو المال المحبوس عند المرتهن في حقه؛ يعني: خلص رقبتي عن حقوق الآدميين، وعن حقوقك يا ربَّ، وعن الذنوب. "واجعلني في النَّدِيِّ الأعلى"، (النَّديَّ): المجلس، والمراد به: أهل الندي الأعلى، وهم الملائكة، والندي الأعلى: السماوات؛ يعني: واجعلني مع الملائكة، ويُروى لا من الطريق هذا الكتاب: "في النداء الأعلى"، والمراد به: نداء أهلِ الجنةِ أهلَ النار في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. والنداء الأسفل: نداء أهل النار أهلَ الجنة في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50].

وأراد به في هذه الرواية: أن يجعله الله من أهل الجنة مع الأنبياء. روى هذا الحديثَ أبو الأزهر الأَنْماري. * * * 1733 - عن بُرَيْدَة - رضي الله عنه - قال: شَكَا خالدُ بن الوليدِ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله!، ما أَنامُ اللَّيلَ مِن الأَرَقِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَوَيتَ إلى فِراشِكَ فقلْ: "اللهمَّ ربَّ السَّماوَاتِ السَّبْع وما أَظَلَّتْ، وربَّ الأرضَيْنَ وما أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّياطينِ وما أَضَلَّتْ، كُنْ لي جارًا مِنْ شرِّ خَلْقِكَ كُلَّهم جميعًا، أنْ يَفْرُطَ عليَّ أحدٌ منهم، أو أنْ يَبغِيَ، عزَّ جارُك، وجلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلَهَ غَيْرُكَ، لا إله إلَّا أنتَ"، ضعيف. قوله: "ما أنام الليل من الأَرَق"، و (الأرق): مفارقة النوم الرجل من وسوسة أو حزن أو غير ذلك. قوله: "وما أظلت"؛ أي: ما أوقعت السماوات ظلَّهن عليه. قوله: "وما أقلت"؛ أي: وما رفعته الأرضون؛ أي: ما خلق على الأرضين. قوله: "وما أضلت"؛ أي: وما أضلهم الشياطين من الإنس والجن، ومن وسوسة الشياطين في صدورهم. "كن لي جارًا"؛ أي: حافظًا. "أن يفرط عليَّ أحدٌ منهم، أو أن يبغي"، (الفَرَط): الإسراع، ويعدى بـ (على)، يقال: فَرَط عليه: إذا قصده مسرعًا. وبغى يبغي: إذا ظلم؛ يعني: احفظني أن يسرع عليَّ أحدٌ من خلقك

7 - باب الدعوات في الأوقات

بالإيذاء، أو أن يظلِمَني. "عز جارك"؛ أي: مَنِ التجأ إليك صار عزيزًا محفوظًا عن شر الأشرار. * * * 7 - باب الدَّعَوَاتِ في الأَوْقاتِ (باب الدعوات في الأوقات) مِنَ الصِّحَاحِ: 1734 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ أَحَدَهُمْ إذا أرادَ أنْ يأتيَ أهلَه قال: بسمِ الله، اللهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ، وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتَنَا، فإنه إنْ يُقَدَّر يينَهما ولدٌ في ذلك لم يَضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا". "إذا أراد أن يأتي أهله"؛ أي: إذا أراد أن يجامع زوجته. روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 1735 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ عندَ الكَرْبِ: "لا إله إلا الله العَظيمُ الحَليمُ، لا إلة إلا الله ربُّ العَرْشِ العَظيمُ، لا إلهَ إلا الله ربُّ السَماواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمُ". قوله: "عند الكرب:"؛ أي: عند الغم. "لا إله إلا الله العظيم الحليم ... " إلى آخره، وهذا الذكر في وقت الغم إعلام بأنه لا يقدِرُ أحدٌ أن يُزيل الغمَّ إلا الله. * * *

1736 - عن سُليمان بن صُرَد أنه قال: استَبَّ رجُلانِ وأَحدُهما يسُبُّ صاحبَه مُغْضَبًا قد احمَرَّ وَجْهُه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعلَمُ كلمةً لو قالَها لَذَهَبَ عنهُ ما يَجِدُ: أَعوذُ بالله مِن الشيطانِ الرجيم". قوله: "استب رجلان"؛ أي: يسبُّ أحدُهما الآخر؛ أي: يشتُمه. قوله: "لذهب عنه ما يجد" من الغضب. روى هذا الحديث سليمان بن صُرَد. * * * 1737 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمِعْتُم صياحَ الدِّيَكةِ فسَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فإنَّها رأَتْ مَلَكًا، واذا سَمِعتُم نَهيقَ الحِمارِ فتعوَّذوا بالله مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، فإنَّها رأَتْ شيطانًا". قوله: "إذا سمعتم صياح الديكة ... " إلى آخره. (الديكة): جمع الديك. هذا الحديث يدلُّ على نزولِ الرحمة والبركة عند مرور أهل الصلاح؛ فيستحب عند ذلك طلب الرحمة والبركة من الله الكريم، ونزولِ الغضب والعذاب على أهل الكفر فيستحب الإعاذة عند مرورهم خوفَ أن يصيبَه شؤمُهم. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1738 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا استَوَى على بَعيرِهِ خارِجًا إلى السفَرِ كبَّرَ ثلاثًا، ثم قال: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، اللهمَّ إنَّا نسأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا البرَّ والتَّقَوْى،

ومِنَ العمَلِ ما تَرْضَى، اللهمَّ هَوِّنْ علَينا سفَرَنا هذا، واطْوِ لَنَا بعدَه، اللهمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفَةُ في الأهلِ، اللهمَّ إني أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثاءِ السَّفَرِ، وكآبَةِ المَنْظَرِ، وسُوءِ المُنْقَلَبِ في المالِ والأهلِ"، وإذا رجَعَ قالَهُنَّ، وَزَادَ فيهنَّ: "آيبونَ تائبُونَ عابدُونَ لربنا حامِدُونَ". قوله: " {كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} "، (الإقران): الإطاقة؛ يعني: لا طاقة لنا ولا قوة لنا بركوب الدواب لولا تسخير الله إيَّاها لنا، فنسبحه ونحمَدُه على مِنَّة النعمة، كما نسبحه ونحمده على سائر النعم. قوله: "واطو لنا بُعْدَهُ"، طوى يطوي: إذا لَفَّ الثوب وغيره؛ يعني: قَرِّبْ لنا بُعْدَ هذا السفر. "أنت الصاحب في السفر"؛ أي: أنت حافظنا ومُعيننا في السفر. "والخليفة في الأهل"، (الخليفة): من يقوم مقام أحد في إصلاح أموره؛ يعني: أنت الذي تصلح أمورنا في أوطاننا، وتحفظ أهل بيوتنا في غَيبتنا. "الوَعْثاء": المشقة. "وكآبة المنظر، وسوء المُنقلب": في المال والأهل، وتقدير هذا: وكآبة المنظر في المال والأهل وسوء المنقلب في المال والأهل. (الكآبة): الغم، (المنظر): النظر، (المُنْقلب): الرجوع؛ يعني: نعوذ بك من أن يصيبنا غَمٌّ بسبب أن نرى في أهلنا وأموالنا مكروهًا بتلف بعضهم أو مرضهم وغير ذلك من المكاره، ونعوذ بك من سوء المنقلب إلى الأهل بأن يصيبنا خسرانٌ في سفرنا، أو يصيبنا مرض وموت في طريقنا عند رجوعنا إلى أهلينا. قوله: "قالهن"؛ يعني قال: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر ... " إلى قوله: "في المال والأهل"، وزاد على هذه الكلمات:

"آيبون"؛ أي: نحن آيبون؛ أي: راجعون من السفر بالسلامة، ونحن "تائبون" إلى ربنا، ونحن (عابدون) ربنا، و"لربنا حامدون" على هذه النعم. * * * 1739 - عن عبد الله بن سَرجِس - رضي الله عنه - أنه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعْثاءِ السَّفَر، وكآبَةِ المُنْقَلَبِ، والحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، ودَعوةِ المَظلومِ، وسُوءِ المَنْظرِ في الأَهل والمالِ. قوله: "والحَور بعد الكَور"، (الحور): النقصان، (والكور): الزيادة؛ أي: نعوذ بك من نقصان الحال والمال بعد زيادتها وتمامها؛ أي: من أن ينقلب حالنا من السراء إلى الضراء، ومن الصحة إلى المرض. * * * 1740 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن نزلَ مَنزلًا، ثم قال: أعوذُ بكَلِماتِ الله التامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّه شَيءٌ حتَّى يرتَحِلَ من مَنْزلِهِ ذلك". "أعوذ بكلمات الله التامات"؛ أي: بأسمائه وصفاته؛ لأن كل واحد من أسمائه وصفاته تام لا نقص فيه؛ لأنها قديمة، والنقصان إنما يكون في المُحْدَثات لا في القديم. روت هذا الحديثَ خولة بنت حكيم. * * * 1741 - وقال أَبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، ما لَقِيْتُ من عَقْربٍ لَدَغَتْنِي البارحةَ!، قال: "أمَا لو قلتَ حينَ أَمسَيْتَ: أَعُوذُ بكَلِماتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ؛ لم تَضُرَّك".

قوله: "ما لقيت": (ما) ها هنا للاستفهام؛ بمعنى التعظيم؛ أي: لقيت شدة عظيمة من لَدْغ عقرب. * * * 1742 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا كانَ في سَفَرٍ وأَسْحَرَ يقولُ: "سَمعَ سامِعٌ بحمدَ الله وحُسْنِ بَلائِه علَينا، رَبنا صاحِبنا، وأَفْضلْ عَلَينا، عائذًا بالله من النَّارِ". قوله: "أن النبي عليه السلام إذا كان في سفر وأسحر يقول: سمع سامع بحمد الله، وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا، وأفضل علينا عائذًا بالله من النار". (أسحر): إذا دخل في وقت السحر. قال في "كتاب الغيث": معنى (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه)؛ أي: شهد شاهد، وحقيقتُه: ليسمع السامع، وليشهد الشاهد على حمدنا لله - عز وجل - على نعمه. هذه عبارته. البلاء ها هنا النعمة، الواو في (وحسن بلائه) عطف على (بحمد الله)، واللام في (ليسمع السامع وليشهد الشاهد) لام الأمر؛ يعني: ليسمع وليشهد من يسمع أصواتنا بحمد الله تعالى، وباعترافنا على حسن نعمه علينا، وبأنه هو المنعم المتفضل علينا. قوله: "ربنا صاحبنا"؛ يعني: يا ربنا! كن معنا بالحفظ والنصرة. قوله: "عائذًا"؛ أي نحمَدُك ونسبحك في حال كوننا عائذين بك من النار. * * * 1743 - وقال ابن عُمر: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قفَلَ من غَزْوٍ أو حَجٍ أو عُمْرة يُكَبرُ على كلِّ شَرَفٍ من الأَرضِ ثلاثَ تكبيراتٍ، ثم يقولُ: "لا إلهَ إلا

الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ، ولهُ الحمدُ، وهُوَ على كل شيءٍ قديرٌ، آيبُونَ تائبُونَ عابدُونَ ساجِدُونَ، لِرَبنا حامِدُونَ، صدَقَ الله وَعْدَهُ، ونصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَم الأَحزابَ وَحْدَه". قوله: "قفل"؛ أي: رجع على كل شَرَف؛ أي: كل موضع مرتفع. "آيبون"؛ أي: نحن آيبون؛ أي: راجعون من السفر إلى أوطاننا، وكذلك تقدير ما بعده. * * * 1745 - قال عبد الله بن بُسر: نَزَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أَبي، فَقَرَّبنا إليهِ طَعامًا ووَطْيةً، فأكلَ منها، ثمَّ أُتِيَ بتَمْرٍ، فكانَ يأكُلُه، ويُلْقِي النَّوَى بينَ أُصبَعَيْهِ ويجمعُ السَّبابَةَ والوُسْطَى، وفي روايةٍ: فجَعَل يُلْقي النَّوَى على ظَهْرِ أُصبعَيْهِ السَّبابة والوُسطَى، ثم أُتِيَ بشَرابٍ، فَشَرِبَهُ، فقال أَبي - وأخَذَ بِلِجامِ دابَّتِهِ -: ادْعُ الله لنا، فقال: "اللهمَّ بارِكْ لهم فيما رزقْتَهم، واغفر لهم، وارْحمْهم". قوله: "طعامًا ووطيئة"، قال صاحب "المغيث": الناس يروون هذا اللفظ (وطبة) بالباء المنقوطة تحتها بنقطة، وهذا تصحيف، وإنما هي (وطيئة) بوزن وثيقة. قال الجبان: هي طعام من التمر كالحيس، سميت بذلك؛ لأنه يوطئ باليد؛ أي: يضرب ويدلك، و (وطيئة) ها هنا صفة لقوله (طعامًا). "فجعل يلقي"؛ أي: فطَفِق يُسْقِط نوى التمر بظهر إصبعيه؛ أي: يضعها من فيه على ظهر إصبعيه السبابة والوسطى ثم يلقيها.

مِنَ الحِسَان: 1746 - عن طَلْحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأَى الهلالَ قال: "اللهمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمنِ والإِيمانِ، والسَّلامةِ والإِسلامِ، ربي ورَبُّكَ الله"، غريب. قوله: "أهِلَّه"؛ أي: أطْلِعْه وأخرجه من مطلعه. "علينا بالأمن والإيمان" هذه الباء يحتمل أن تكون باء السبب؛ أي: واجعله سبب أمن وإيمان، وأراد بالإيمان ها هنا: ثبات الإيمان ودوامه، ويحتمل أن تكون باء المصاحبة والمعية؛ أي: أهلَّه علينا مع الأمن ودوام الإيمان؛ أي: اجعله مصاحبًا للأمن علينا. * * * 1747 - عن عبد الله بن عُمر، عن أَبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن رجُلٍ رأى مُبتَلًى فقال: الحمدُ لله الذي عافَاني ممَّا ابتلاكَ بهِ، وفضَّلنِي على كثيرٍ ممَّن خَلَقَ تَفْضيلًا إلَّا لم يُصِبْهُ ذلكَ البلاءُ كائنًا ما كان"، غريب. قوله: "كائنًا ما كان"، (كائنًا): نصب على الحال؛ أي: في حال ثباته وبقائه، ما كان؛ أي: (ما كان) باقيًا في الدنيا. * * * 1749 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جلَسَ مَجلِسًا فكثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقالَ قبلَ أنْ يقُومَ: سُبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفِرُكَ، وأتوبُ إليك إلَّا غُفِرَ لهُ ما كانَ في مَجْلسِهِ ذلك". قوله: "فكثُر فيه لَغَطُه"، (اللغط): الصوت؛ يعني: تكلم بما فيه إثم،

مما لم يكن غيبة إنسان أو بهتانًا. * * * 1751 - وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ودَّعَ رجلًا أَخَذَ بيدِهِ، فلا يَدَعها حتى يكونَ الرَّجلُ هُوَ يدَعُ يدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَقُولُ: "أَستَودِعُ الله دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وَآخِرَ عَمَلِك"، وفي روايةٍ: "وخَواتِيمَ عَمَلِكَ". قوله: "فلا يدعها"؛ أي: فلا يترك رسولُ الله عليه السلام يَد ذلك الرجلِ من غاية التواضع حتى يترك ذاك الرجلُ يدَ رسول الله عليه السلام. قوله: "أستودع الله دينك وأمانتك وآخر عملك"، (الاستيداع): طلب حفظ الوديعة من أحد؛ يعني: أسأل الله أن يحفظ دينك وأمانتك وآخر عملك حتى يَختِم عملك بالخير؛ أي: حتى تموت بالإيمان والعمل الصالح. * * * 1753 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، إني أُريدُ سَفَرًا، فَزَوِّذنِي، فقال: "زَوَّدَكَ الله التَّقوى"، قال: زِذني، قال: "وغفرَ ذنبَكَ"، قال: زِدنِي بأَبي أنتَ وَأُمَّي، قال: "ويَسَّرَ لك الخَيْرَ حيثُما كُنْتَ"، غريب. قوله: "فزودني"، هذا أمر مخاطبة من التزويد، وهو إعطاء الزاد؛ يعني به ها هنا: أودع لي. * * * 1755 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافَرَ، فأقبلَ الليلُ؛ قال: "يا أَرضُ، ربي وربُّكِ الله، أَعوذُ بالله مِن شَرَّكِ، وشرَّ ما فيكِ،

وشَرِّ ما خُلِقَ فيكِ، وشرِّ ما يَدِبُّ علَيكِ، وأَعوذُ بالله مِن أسدٍ وأَسْوَدَ، ومِن الحَيَّةِ والعَقْربِ، ومِن ساكنِ البلَدِ، ومِن والدٍ وما ولَدَ". قوله: "يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك ... " إلى آخره. يعني: إذا كان خالقي وخالقُك هو الله تعالى، فهو المستحق أن نلتجئ إليه، ونعوذ به من شر المُؤذيات، (من شرك): أراد من الخسف ومن السُّقوط عن موضع مرتفع. قوله: "ومن شر ما فيك"؛ أي: من شر ما فيك من الضُرِّ بأن يخرج منك ماء فيهلك أحدًا، أو يخرج نبات فيصيب أحدًا ضررٌ من أكله، أو تخرج أعضاء أحد بشرك. "ومن شر ما خلق فيك"؛ أي: ومن شر حيوان مؤذٍ في بطنك. قوله: "ومن شر ما يَدِب"؛ أي: من شر ما يمشي على ظهرك من الحيوانات. قوله: "وأسود، ومن الحية والعقرب"، أراد بالأسود: الحية الكبيرة السوداء، وأراد بالحية: كل حية غير الأسود، وأراد بساكن البلد: الجن، البلد: كل موضع بلد فيه حيوان؛ أي: أقام فيه حيوان وإن لم يكن هناك عمارة، وأراد بـ (الوالد): إبليس عليه اللعنة، (وما ولد): الشياطين. * * * 1756 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غَزا قال: "اللهمَّ أنتَ عَضُدِي ونصَيْري، بكَ أَحُولُ، وبك أَصُولُ، وبك أُقاتِلُ". قوله: "أنت عضدي ونصيري"، (العضد): القوة والمعين؛ يعني: أنت قوتي وناصري.

"بك أحول وبك أصول"، (الحول): الفرق بين شيئين، والحول: التردُّد أيضًا. و (الصول): الحملة على العدو؛ يعني: بقوتك ونصرتك إياي أفرق بين الحق والباطل، والكفر والإسلام، وأتردد وأحمل على الكفار. * * * 1757 - وعن أَبي مُوسَى - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خافَ قومًا قال: "اللهمَّ إنَّا نجعلُكَ في نُحورِهم، ونَعوذُ بِك من شُرورِهم" قوله: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم"، (النحور): جمع نحر، وهو الصدر؛ يعني: اللهم إنا نجعلك في إزاء أعدائنا حتى تدفعهم عنا، فإنه لا حول ولا قوة لنا، بل القوة والقدرة لك. * * * 1758 - عن أُم سلمة رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ أذا خرجَ من بيتِهِ قال: "بسمِ الله، توكَّلْتُ على الله، اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ نَزِلَّ أو نضَلَّ، أو نظْلِمَ، أو نُظْلَمَ، أو نَجْهلَ أو يُجْهَلَ علينا"، صحيح. وفي روايةٍ: قالتْ أُم سلَمة رضي الله عنها: ما خرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن بيتي قَطُّ إلَّا رَفَعَ طَرفَهُ إلى السَّماء فقال: "اللهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ مِنْ أنْ أَضلَّ أو أُضَلُّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ". قوله: "أو نجهل"، (الجهل): نقيض العلم؛ يعني: أو نجهل أمور الدين، أو معرفة الله، أو حقوق الله وحقوق الناس، أو نفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء، وإيصالِ الضرر إليهم.

قوله: "أو يجهل علينا"؛ يعني: أو يفعل الناس بنا فعل الجهال من إيصال الضرر إلينا. * * * 1762 - عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تَزَوَّجَ أحدُكم امرأةً أو اشتَرى خادِمًا فليقلْ: اللهمَّ إنَّي أسألُكَ خيرَها وخَيْرَ ما جَبَلْتَها عليه، وأعوذُ بكَ مِنْ شرِّها، ومِنْ شرِّ ما جَبَلْتَها عليهِ، وإذا اشترى بَعيرًا فلْيَأْخذْ بِذِروةِ سَنامِهِ وليقلْ مثلَ ذلك". ويُروى في المَرأةِ والخادمِ: "ثمَّ لْيَأْخُذْ بناصِيَتِها، وليدْعُ بالبَرَكَةِ". قوله: "جبلتها": خلقتها. "بذروة سنامه"؛ أي: بأعلى سنامه. * * * 1763 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سَمِعتُم نُبَاحَ الكِلابِ ونَهِيْقَ الحَمِيْرِ بالليلِ فتعَوَّذُوا بالله من الشيطانِ، فإنَّهنَّ يَرَيْنَ ما لا تَرَوْنَ"، صحيح. قوله: "فإنهن يَرين ما لا ترون"؛ أي: فإنهن يرين إبليس والشياطين والجن وأنتم لا ترونهم، فإذا سمعتم أصواتهن فتعوَّذوا بالله من الشيطان الرجيم حتى يحفظكم الله من شر ما يرين. * * * 1764 - عن أبي بَكْرَة، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَعَواتُ المَكْروبِ: اللهمَّ رحمتَكَ أَرجُو، فلا تَكِلْنِي إلى نفْسي طَرفَةَ عَيْنٍ، وأَصلِح لي شَأْني كلَّهُ، لا إلهَ إلا أنتَ".

"دعوات المكروب"، (المكروب): المحزون، أراد بالدعوات: الكلمات التي يدعو بهنَّ مَنْ أصابه غمٌّ لينفرج غمُّه. "فلا تكلني إلى نفسي"، وَكَل يَكِل: إذا فوَّض أمره إلى أحد؛ يعني: احفَظني عن الآفات والمؤذيات، واقضِ حوائجي، ولا تتركني إلى نفسي لحظة؛ فإن نفسي أشد عداوةً لي من جميع الأعداء، وإن نفسي عاجزة لا تقدِر على قضاء حاجتي. * * * 1765 - عن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه - قال: قَالَ رجلٌ: همومٌ لَزِمَتنيِ وديونٌ يا رسولَ الله؟ قال: "أفلا أُعَلِّمُكَ كلامًا إذا قُلْتَه أَذْهَبَ الله هَمَّكَ، وقَضَى عَنْكَ دينَكَ؟ قال: قلتُ: بلىَ، قال: "قل إذا أَصبَحتَ وإذا أَمسَيْتَ: اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وأَعوذُ بك من الجُبن والبُخْلِ، وأَعوذُ بكَ مِنْ غَلبةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجالِ"، قال: ففعلْتُ ذلك، فأذهَبَ الله هَمِّي، وقَضَى عني دَيْنِي. قوله: "هموم لزمتني وديون"؛ أي: هموم وديون لزمتني. (الهموم): جمع هم، وهو الحزن. * * * 1766 - وعن عليًّ - رضي الله عنه -: جاءَهُ مكاتَبٌ فقال: إنَّي قد عَجزْتُ عن كِتَابتي، فَأَعِنِّي، قال: ألا أُعَلَّمُكَ كلِماتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لو كَانَ عليكَ مثْلُ جبَلٍ كبيرٍ دَينًا أدَّاه الله عنكَ؟ قل: "اللهمَّ اكفِني بحَلالِكَ عن حَرامِك، وأَغنِنِي بفَضْلِكَ عمَّن سِواكَ". قوله: "عَجَزْت عن كتابتي"، (الكتابة): المال الذي كاتب به السيد عبده؛

يعني: بَلَغَ وقتُ أداءِ الكتابة، وليس لي مالٌ. * * * 1759 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قال إذا خرَجَ من بيتِهِ: بسمِ الله توكَّلتُ على الله، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله العَليَّ العظيم؛ يُقالُ له: هُدِيتَ، ووُقيتَ، وكُفِيتَ، فَيتنحَّى عنه الشَّيطان، ويقولُ شيطانٌ آخَرُ: كيفَ لكَ برجُلٍ هُدِيَ، وكُفِيَ، ووُقِيَ". قوله: "فيقال له هديت"؛ أي: فينادي مَلَك: يا عبد الله! فإذا ذكرت اسم الله فقد هُديت؛ أي: رزقت إصابة الحق ووجدان الطريق المستقيم، ويسَّرَ لك أمورك. "وكفيت"؛ أي: ودفع عنك همك. "ووقيت"؛ أي: حُفِظت من شر أعدائك من الشيطان. "فيتنحى عنه الشيطان"؛ أي: يبتعد عنه إبليس عليه اللعنة، ويحتمل أن يريد بالشيطان ها هنا: شيطانه الموكل عليه. "ويقول شيطان آخر: كيف لك برجل هدي"؛ يعني: يقول شيطان آخر للشيطان الموكَّل على قائل هذه الكلمات: كيف تقدر على إضلال هذا الرجل؛ فإنه حُفِظَ من شر الشياطين ببركة اسم الله تعالى؟! * * * 1761 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رَفَّأ الإنسان إذا تزوَّجَ قال: "باركَ الله لك، وباركَ عَليكَ، وجمَعَ بينَكما في خَيْرٍ". قوله: "إذا رفأ": إذا تزوج.

8 - باب الاستعاذة

(الترفئة) - مهموز اللام -: التهنئة، وهي أن يدعو لمن تزوج امرأة. * * * 8 - باب الاستِعاذَة (باب الاستعاذة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1767 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعَوَّذوا بالله مِن جَهْدِ البَلاءَ، ودَرَكِ الشَّقاءِ، وسوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأَعداءِ". "من الصحاح". قوله: "من جهد البلاء"، (الجهد) - بفتح الجيم -: بمعنى المشقة. قوله: "ودرك الشقاء"، (الدرك): واحد دَرَكات جهنم، والشقاء بمعنى الشَّقاوة؛ يعني: ونعوذ بك من موضع أهل الشقاوة وهو جهنم، أو من موضع يحصُل لنا فيه شقاق، والدَّرَك بمعنى: الإدراك أيضًا، وهو وجدان الشيء، وبلوغ شيء إلى شيء أو إلى مكان، فعلى هذا يكون معناه: ونعوذ بك من أنْ تبلغَنا الشقاوةُ. قوله: "وسوء القضاء"، هذا مِثْلُ قوله: "وقنا شر ما قضيت". "وشماتة الأعداء"؛ أي: نعوذ بك من أن تلحقنا مصيبةٌ في ديننا أو دنيانا يفرَحُ بها أعداؤنا. * * * 1768 - وقال أنَسٌ - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ مِن الهَمِّ

والحَزَنِ، والعَجْزِ والكسلِ، والجُبن والبخلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ". قوله: "ضَلَع الدَّين"؛ أي: ثِقَل الدَّين. * * * 1769 - وعن عائشة - رضي الله عنها -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أَعُوذُ بك مِن الكَسَلِ والهَرَمِ، والمَغْرَمِ والمَأْثَمِ، اللهمَّ إنَّي أَعُوذُ بكَ مِن عَذابِ النارِ، وفتنةِ النارِ، وفِتْنةِ القَبْرِ، وعذابِ القَبْرِ، وشرِّ فِتْنةِ الغِنَى، وشرِّ فِتنةِ الفَقْرِ، ومن شرَّ فِتْنةِ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ، اللهمَّ اغسلْ خَطايايَ بِماء الثَّلْجِ والبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبي كما يُنَقَّى الثَّوبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطايَايَ كما باعدْتَ بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ". قوله: "والمغرم"، (المغرم): الغرامة، وهو وجوب خسران، أو نقصان مال، ولزوم دين على أحد. "المأثم": الإثم. "وفتنة النار" (الفتنة): التحريق؛ أي: من أن تحرقني النار. "وفتنة القبر"؛ أي: ومن التحيُّر في جواب المنكر والنكير. "وشر فتنة الغنى"، (الفتنة) هنا: الامتحان والبلاء؛ أي: ومن بلاء الغنى وبلاء الفقر؛ أي: ومن الغنى والفقر الذي يكون بلاء ومشقة، ومن أن يحصل منا شر إذا امتحَنَ الله إيَّانا بالغنى والفقر، بأن لا نؤدَّي حقوق الأموال، ونتكبر بسبب الغنى، وبأن لا نصبرَ على الفقر. * * * 1770 - وعن زيد بن أَرقَم - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ

إني أعوذُ بكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبن والبُخلِ والهَرَمِ، وعذابِ القبرِ، اللهمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواها، وزَكَّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومَوْلاَها، اللهمَّ إني أَعوذُ بِكَ من عِلْمٍ لا ينفَعُ، ومِن قلْبٍ لا يَخْشَعُ، ومِن نفسٍ لا تَشْبَعُ، ومِن دَعْوةٍ لا يُسْتجاب لها". قوله: "والجبن والبخل والهرم"، (الجبن): هذا ضد الشجاعة، وهو أن يخاف الرجل أن يدخل على محاربة الكفار، ومن خاف أن يطلب الأمور العظيمة المرضية في الشرع، مثل من خاف أن يحصل في العلم حتى يبلغ درجة الفتوى فهو جبان، إلا أن يكون له عذر من قلة التفهم والحفظ، واشتغاله بتحصيل القوت وغير ذلك. (البخل): ترك أداء الزكاة والكفارات والنذر، وترك ضيافة الأضياف، ورد السائلين، ومنع العلم إذا طلب الناس منه ما يحتاجون إليه في دينهم. والمراد بـ (الهرم): صيرورة الرجل خَرِفًا من كثرة السن. قوله: "آت نفسي تقواها"؛ أي: ارزقها الاحتراز عما يضرُّها ويُهْلِكها في الآخرة. "وزكها"؛ أي: طهِّرها عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة. قوله: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"؛ يعني: مِنْ علمٍ لا أعملُ به، ولا أعلِّمه الناس، ولا تصِلُ بركتُه إلى قلبي، ولا تبدِّل أفعالي وأقوالي وأخلاقي المذمومة إلى المرضية، ويحتمل أن يكون مراده: ليس مما يحتاج إليه في الدين، وليس في تعليمه إذن في الشرع. "ومن قلب لا يخشع"؛ أي: لا يخاف الله. "ومن نفس لا تشبع"؛ أي: ومن نفس حريصة على جمع المال والمَنصب.

1771 - وقال عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما -: كانَ مِنْ دُعاءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ من زَوالِ نِعمتِكَ، وتَحَوُّلِ عافيتِكَ، وفُجاءَةِ نِقْمَتِكَ، وجميعِ سَخَطِكَ". قوله: "ومن تحول عافيتك"؛ أي: ومن تبدُّل ما رزقتني من العافية إلى البلاء. قوله: "وفجأة نِقمتك"؛ (الفجأة): الإتيان بغتة، (النقمة): الغضب والعذاب. * * * 1772 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما عَمِلتُ، ومِن شرِّ ما لم أَعَمَلْ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من شرِّ ما عملت ومن شر ما لم أعمل": المراد من استعاذته من شرِّ ما عمل: طلب العفو والغُفران منه عما عمل، ومراده من الاستعاذة من شر ما لم يعمل: التجاؤه إليه ليحفظه من فعلٍ مذموم بعد ذلك اليوم. * * * 1773 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبكَ آمنتُ، وعليكَ تَوَكَّلْتُ، وإليكَ أنَبْتُ، وبكَ خاصمْتُ، اللهمَّ إنِّي أعوذُ بعِزَّتِكَ لا إلهَ إلا أنتَ أنْ تُضلَّني، أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، والجنُّ والإنسُ يَموتُونَ". قوله: "وإليك أنبت"، (الإنابة): الرجوع إلى الله تعالى.

"وبك خاصمت"؛ أي: وبإعانتك إيَّاي أخاصم أعداءك وأحاربهم. * * * مِنَ الحِسَان: 1774 - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بِكَ من الأَربَعِ: من عِلْمٍ لا ينفعُ، ومِن قَلْبٍ لا يَخشعُ، ومِن نفْسٍ لا تَشبعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسْمَعُ". قوله: "ومن دعاء لا يسمع"؛ أي: لا يستجاب له. * * * 1775 - وعن عُمر - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ مِن خمسٍ: مِن الجُبن، والبُخْلِ، وسُوءِ العُمُرِ، وفِتْنَةِ الصَّدْرِ، وعذابِ القَبْرِ. قوله: "وسوء العمر"، (العمر): - بضم الميم وسكونها - وهو بمعنى: سوء الكِبَر، وقد مضى بحثه. "وفتنة الصدر"؛ أي: ومن قساوة القلب والوساوس وحب الدنيا، وما يجري على القلب من الخواطر المذمومة. * * * 1776 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الفَقْرِ، والقِلَّةِ، والذِّلَّةِ، وأَعوذُ بِكَ من أنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذل"، (الفقر): الاحتياج والطلب، وأراد بالفقر ها هنا: فقر القلب، وكل قلب يطلب شيئًا، ويحتاج إلى شيء، ويحرص على شيء، فهو فقير وإن كان صاحبه كثير المال؛ يعني: من كان قلبه حريصًا على جمع المال، وهذا مثل قوله: "ونفس لا تشبع".

وأراد بـ (القلة): قلة المال، بحيث لا يكون له كَفاف من القُوت وَيعجَز عنه وظائف العبادات من الجوع وجوع العيال. وأراد بـ (الذلة): أن يكون ذليلًا بحيث يستخفُّه الناس ويُحقِّرونه ويَعيبونه. والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة. * * * 1777 - وعنه: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بِكَ من الشِّقاقِ، والنِّفاقِ، وسُوءِ الأَخْلاقِ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق". (الشقاق): المشاقة، وهو المخالفة والمجادلة بالباطل؛ أي: من مخالفة الحق ومخالفة أهل الحق والنفاق إظهار شيء من النفس وإضمار خلاف ذلك في القلب، ويدخل في هذا الرياء في العبادات، وإظهار محبةِ أحدٍ وإبطان عداوته في القلب، كلُّ ذلك مذموم، بل ليكن المسلمُ ظاهره وباطنُه موافِقَين. و (سوء الأخلاق): إيذاء أهل الحق، وإيذاء الأهل والأقارب، وتغليظ الكلام عليهم بالباطل، وعدم تحمُّلهم، وعدم عفو ما يجوز عفوه من خَطيئة صَدَرت منهم. * * * 1778 - وعنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بِكَ من الجُوعِ، فإنه بِئْسَ الضَّجيعُ، وأعوذُ بكَ من الخِيانَةِ، فإنها بِئستِ البطانَةُ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة".

(الضجيع): المُضَاجع، وهو الذي ينام معك في فراش واحد؛ أي: بئس الصاحب. وأراد بـ (الجوع) هنا: الجوع الذي يمنعه عن أداء وظائف العبادات، وليس المراد جميع أنواع الجوع؛ فإن الجوع في وقتٍ دون وقت محمودٌ؛ فإنه يكسِر النفس، وَيجْلي القلبَ، ويزيد الفِطنة، ويحصِّل الثواب. و (البطانة): من تكون محبته في قلبك، وما كان يلازم قلبَك من محبةٍ شيءٌ واحد، ومن كان رفيقك في الخَلْوة؛ يعني: الخيانة بئس الشيء الذي يكون في قلب الإنسان، ويجري على خاطره. (الخيانة): نقصان حق أحد من مال وعِرْض على الحقيقة. * * * 1779 - وعن أَنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أَعوذُ بكَ من البَرَصِ، والجُذامِ، والجُنونِ، ومِنْ سييِّء الأَسْقامِ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من البَرَص والجُذام والجنون ومن سيء الأسقام". (البرص): بياض الأعضاء على وجه العلة. (الجُذام): علة يَذْهَبُ معها شعورُ الأعضاء، ويتفتَّت اللحم، ويجري الصَّدِيد من الأعضاء، ويُخْرِجُ الناسُ صاحبَ البرص والجذام مِنْ بينهم. وأراد بـ (سيئ الأسقام): الأمراض الفاحشة؛ مثل الاستسقاء والسَّل والمرض الطويل. والحاصل: أن كل مرض يحترز الناس من صاحب ذلك المرض، ولا ينتفعون منه ولا ينتفع منهم، ويعجَز بسبب ذلك المرض عن حقوق الله

وحقوق المسلمين = يستحب الاستعاذة من ذلك المرض. * * * 1780 - وعن قُطْبة بن مالكٍ قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنَّي أعوذُ بكَ من مُنْكَراتِ الأَخلاقِ، والأعمالِ، والأهواءِ". قوله: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء". (المنكرات): جمع منكر، وهو ما لا يُعرف حُسْنُه في الشرع، ويُستعمل فيما عُرف قُبحه في الشرع؛ يعني: اللهم إني أعوذ بك من كل فعل وقول وخُلق قبيح. و (الهوى): المحبة والاشتهاء. روى هذا الحديثَ قُطْبة بن مالك. * * * 1781 - عن شُتَيرِ بن شَكَلِ بن حُمَيدٍ، عن أبيه قال: قلتُ: يا نبيَّ الله!، علَّمني تَعْويذًا أتعوَّذُ به، قال: "قل: اللهم إنَّي أعوذُ بِكَ من شَرِّ سَمْعي، وشرِّ بَصرَي، وشرِّ لِساني، وشَرِّ قَلْبي، وشرِّ مَنِييِّ". قوله: "قل أعوذ بك من شر سمعي"؛ يعني: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي حتى لا أسمع شيئًا تكرهه، وشرِّ بصري حتى لا أُبصر شيئًا تكرهه، وشرِّ لساني حتى لا أتكلم بشيء تكرهه، وشرِّ قلبي حتى لا أعتقد شيئًا تكرهه، وشر منيي؛ أي: وشر غلبة منيي حتى لا أقع في الزنا صغيرًا أو كبيرًا، فإنَّ المني إذا غَلَبَ يحمِلُ الرجل على النظر المحرَّم، وغير ذلك من مقدَّمات الزنا حتى يحمله على الزنا، وهذا استعاذة من صرف المني في الزنا.

وأما في المنكوحة والجارية المملوكة فموجِبٌ للثواب، كما قال النبي عليه السلام: "وفي بُضْع أحدكم صَدقة"، وقد ذكر شرحه في: (باب فضل الصدقة). روى هذا الحديثَ شُتَير. * * * 1782 - وعن أَبي اليَسَر: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يدعو: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من الهدْمِ، وأَعوذُ بِكَ مِنَ التَرَدِّي، ومن الغَرَقِ، والحَرَقِ والهَرَمِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يتَخَبَّطني الشَّيْطانُ عِنْدَ المَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ في سَبيلِكَ مُدبرًا، وأعوذُ بِكَ أَنْ أَموتَ لَدِيغًا"، وزِيْدَ في بعض الرِّوايات: "والغَمِّ". قوله: "من الهدم"؛ أي: من أن يقع على جدار أو سقف أو غير ذلك. "التردِّي": السُّقوط من علو إلى سفل. "الحرق" - بفتح الحاء والراء -: النار، قاله أهل اللغة. "وأن يتخبَّطني الشيطان عند الموت"، (التخبُّط): إفساد العقل والدين؛ يعني: وأن يُفْسِد الشيطانُ عليَّ ديني عند الموت بأن يُؤْيسني من رحمة الله، أو يؤمِّنني من عذاب الله، أو يوسوِسني بحيث أغفُل عن كلمة الشهادة، وما أشبه ذلك، وكان الرسل عليهم السلام مأمونين عن مثل هذه الأشياء، ولكن هذا تعليم لأمته من (أن أموت في سبيلك مدبرًا)؛ أي: من أن أفر من حرب الكفار وحيث لا يجوز الفرار، بأن لا يزيد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين. "اللديغ"، فعيل بمعنى المفعول من اللَّدغ، وهو: لَسْع الحية. روى هذا الحديثَ أبو اليَسَر. * * *

1783 - عن مُعاذٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "استعيذُوا بالله من طَمَعٍ يَهْدي إلى طَبَعٍ". قوله: "استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طبع"، قال أبو عبيدة: الطبع: العيب والدَّنسَ، وكلُّ شيئين في دين ودنيا فهو طبع؛ يعني: من الحرص الذي يجر إلى صاحبه الذُّلَّ والعَيب. * * * 1784 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيَدي، فنظرَ إلى القمَرِ، فقال: "يا عائشةُ، استعِيْذي بالله {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} وهذا غاسِقٌ إذا وَقَبَ". قوله لعائشةَ حين نظرَ إلى القمر: "استعيذي بالله {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}، هذا غاسقٌ إذا وَقَبَ". (غَسَقَ): إذا أَظْلَمَ، (وَقَبَ): إذا دخلَ ظلامُ الليل، تكون فيه الآفاتُ من تَفَرُّقِ الجِنِّ على أبواب البيوتِ والسِّكك، وَيخْطَفُون الناسَ، ويكون في الليل أيضًا السارق، ويكثر فِسْقُ الفُسَّاقِ، وغير ذلك، وإذا أظلمت السماءُ بكسوفِ الشمس أو خُسوفِ القمر، واشتدادِ السحابِ والرِّيح، لا يُؤْمَنُ من نزول العذاب، فإذا كانت الآفات والعذابُ غيرَ مأمونةٍ عند ظهور الظلام، فيُستحَبُّ الاستعاذةُ بالله من الآفات والعذاب عند ظهور الظلام. قوله: "هذا غاسقٌ إذا وقب"، هذا إشارةٌ إلى القمرِ، وأراد بقوله: (وَقَبَ) دخولَ القمرِ في موضعِ غيبوبته. ذكر في "الفائق" أنه أراد بقوله: (إذا وقب): خسوفَ القمر، يعني إذا خَسَفَ استعيذي بالله من الآفات والبلاء. * * *

9 - باب جامع الدعاء

1786 - عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعلِّمُهم مِن الفَزَعِ: "أعوذُ بكَلِماتِ الله التامةِ من غضَبهِ وعقابهِ، وشَرِّ عِبادِهِ، ومِن هَمَزاتِ الشَّياطينِ، وأنْ يَحْضُرونِ". قوله: "من همزات الشياطين"؛ أي: من وساوس الشياطين وإلقائهم الفتنةَ والاعتقاداتِ الفاسدةَ في قلبي. قوله: "وأن يحضرون"؛ يعني: أن يجنِّبني الشياطينَ في الصلاة وقراءة القرآن، وقيل: عند الموت. * * * 9 - باب جامع الدُّعاءِ (باب جامع الدُّعاء) مِنَ الصِّحَاحِ: 1788 - عن أبي مُوسَى الأَشْعَري - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يَدعُو: "اللهمَّ اغْفِرْ لي خطيئَتِي، وجَهْلِي، وإسْرافي في أَمْري، وما أنتَ أعلَمُ بهِ مني، اللهمَّ اغْفِرْ لي جِدِّي وهَزْلي، وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عِندي، اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أنتَ أَعلمُ بهِ مِنِّي، أنتَ المُقدِّمُ، وأنتَ المُؤخِّرُ، وأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ". "اللهم اغفر لي جِدِّي وهَزْلي وخَطَئِي وعَمْدي". (الجِدُّ): نَقِيضُ الهَزْل.

(الهَزْلُ): المُزاحُ والتكلُّمُ بالباطلِ؛ يعني: اغفر لي ما ليس لك فيه رضًا من أفعالي وأقوالي وضمائري مما كان جدًا أو هزلًا أو خطأً أو عمدًا. "وكلُّ ذلك عندي"؛ أي: كلُّ هذه الأنواع تَصْدُرُ عني. * * * 1789 - وعن أبي هريرة قال - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ أَصلِحْ لي دِيْني الذي هو عِصْمَةُ أَمْري، وأَصْلِحْ لي دُنْيايَ التي فيها مَعاشِي، وأصْلِحْ لي آخرتي التي فيها مَعادِي، واجعلْ الحَياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعلْ الموتَ راحةً لي من كلَّ شَرًّ". قوله: "اللهمَّ أصلِحْ لي ديني الذي هو عِصْمةُ أمري". (العِصمَةُ): الحِفْظُ؛ يعني اللهم احفظْ ديني عن الخَطَأِ والزَّلَل والرِّياء، وعما لا يليقُ ولا تُحِبُّه، فإنه عِمادُ أمري، فإن فَسَدَ دينهُ فَسَدَ جميعُ أموره وخابَ وخَسِر. "وأصلِحْ لي دنيايَ التي فيها مَعَاشي"؛ يعني: احفظْ من الفساد ما أحتاجُ إليه من الدنيا، وهذا سؤالُ إنباتِ الزَّرْع والأشجارِ والبركةِ فيها، ونماءِ المواشِي، ونبوعِ المياهِ من الأرض، ونزولِ المطر، واتِّباعِ الناسِ إياه، وإيقاعِ الأُلْفة والمَحَبَّةِ بينه وبين أزواجِه وأولادِه والمسلمين، ودَفْعِ أعدائِه، وغيرِ ذلك مما يَحتاجُ إليه في الدنيا. "وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي". (المَعَادُ): مصدرٌ مِيميٌّ، أو مكانٌ مِن (عاد) إذا رَجعَ؛ يعني: ارزقني عملًا يقربني إليك حتى يكونَ عيشي طَيبًا، يعني في الآخرة.

"واجعل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ"؛ يعني: اجعلْ حياتي سببَ زيادةِ طاعتي، يعني: اجعل عمري مصروفًا فيما تُحِبُّ، وَجنِّبني ممَّا تكرَهُ. "واجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شَرًّ"؛ يعني: اجعلْ موتي بالشهادةِ والاعتقادِ الحسنِ والتَّوبةِ، وكلَّ نيةٍ وخصْلَةٍ تحبُّها، حتى يكونَ موتي سبب خلاصي من مشقَّةِ الدنيا وحصولي على راحةِ ما بعدَ الموت. * * * 1791 - وعن عليًّ - رضي الله عنه - قال: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قلْ: اللهمَّ اهدِني وسدِّدني، واذْكُرْ بالهُدَى: هدايتَكَ الطَّريقَ، وَبالسَّدادِ: سَدادَ السَّهْمِ". قوله عليه السلام لعليًّ - رضي الله عنه -: "اللهمَّ اهدِني وَسَدِّدْني، واذْكُرْ بالهُدَى: هِدايتَك الطريقَ، وبالسَّداد: سَدادَ السهم". والسَّدادُ الأول مجرورٌ بالعطف على (بالهدى)، والسَّدادُ الثاني منصوبٌ لأنه مفعولُ (اذكر) وتقديرُه: واذكرْ بالسَّدَاد سَداد السَّهْم. (السَّدَاد): الاستقامةُ؛ يعني: أسألُ الله الاستقامةَ، وإذا سألتَ الهُدَى فيكونُ في خاطرك: هدايتُك الطريقَ؛ أي: مشيُك واستقامتُك إذا مشيتَ إلى مَوْضعٍ؛ يعني: فكما إذا مشيتَ إلى موضعٍ لا تَعْدِلُ يمينًا ويسارًا، بل يكونُ مستقيمًا على الطَّرِيقِ، فكذلك اسْأَلِ الله الهُدَى الذي لا تَعْدِلُ معه عن طريقِ الشَّرْع إلى الباطل، وإذا سألتَ السَّدَاد في القَوْلِ والفِعْل، فليكُنْ في خاطِرك سَدادُ السَّهْمِ؛ يعني: فكما أنَّ السَّهْمَ يَقْصِدُ الهدفَ مستقيمًا لا يَعْدِلُ يمينًا ويسارًا، فكذلك اسأَلِ الله تعالى سَدادًا لا تَعْدِلُ معه عن الحقِّ إلى الباطل البتَّةَ، ذكر الخَطَّابيُّ هذا المعنى في شَرْحِ هذا الحديثِ. * * *

مِنَ الحِسَان: 1794 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو يقولُ: "ربِّ أعِنِّي، ولا تُعِنْ عليَّ، واَنْصُرْنِي، ولا تَنْصُرْ عليَّ، وامكُرْ لي، ولا تَمْكُرْ عليَّ، واَهدِنِي، ويَسِّرْ الهُدَى لي، واَنْصُرْنِي على مَنْ بَغَى عليَّ، ربِّ اَجعلني لكَ شاكرًا، لك ذاكِرًا، لك راهِبًا، لك مِطْواعًا، لك مُخْبتَاً، إليك أوَّاهًا مُنِيبًا، ربِّ تقبَّلْ توبَتي، واَغسل حَوْبَتِي، وأَجِبْ دعوَتي، وثَبتْ حُجَّتِي، وسَدِّدْ لِساني، واَهدِ قَلْبي، واَسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْري". قوله: "ولا تُعِنْ عليَّ"؛ يعني: ولا تغلِبْ عَلَيَّ أعدائي، أعان زيدٌ عَمْرًا إذا نَصَرَه، وأعان زيدٌ على عمرٍو إذا نَصَرَ أعداءَ عمروٍ حتى حاربوا عَمْرًا، ومثلُه: "وانصُرني ولا تَنْصُرْ عَلَيَّ". فإن قيل: فإذا كان معناهما واحدًا، فأيُّ فائدةٍ في التكرار؟. قلنا: أكثرُ استعمالِ الإعانةِ في الدعاءِ في طلبِ إعانةِ الله على الذَّكرِ والطاعة، وأكثرُ استعمالِ النُّصرةِ في طلبِ النُّصْرَةِ على الأعداء. فقوله: "أعنِّي ولا تُعِنْ عَلَيَّ"؛ معناه وفِّقْني لذكرِك وشُكرِك وعبادتِك، ولا تُغَلَّبْ عليَّ مَن يَمنعُني عن طاعتِك من شياطينِ الإنس والجِنَّ. قوله: "وانصُرْني ولا تَنْصُرْ عليَّ"؛ معناه: اللهم غَلِّبني على الكفَّارِ ولا تُغَلَّبْهم عليَّ. "وامكُرْ لي ولا تَمْكُرْ عليَّ". (المَكْرُ): الحِيلةُ والتفكُّرُ في دَفْعِ العدوَّ على وجهٍ لا يَعرِفُ العدوُّ طريقَه. ومعنى هذا الكلام: اللهم اهدني على طريقِ دفعِ العَدُوِّ، ولا تَهْدِ العدوَّ على طريقِ دَفْعٍ عن نَفْسِه.

"الراهبُ": الخائفُ، مِن رَهِبَ يَرْهَبُ: إذا خاف. (المِطْوَاعُ): كثيرُ الطَّوْعِ، وهو الطَّاعة. "المُخْبتُ": المتضرِّعُ والمتواضعُ. "الأَوَّاه": الذي يُكْثِرُ قولَ (أَوَّهْ)، وهذا اللفظُ يقولُه النادِمُ على فعل الذنوبِ والمُقَصِّرُ على الطاعة. (المُنِيب): الذي يَرْجِعُ إلى الله ويلتجِئُ إليه، (أواهًا منيبًا) منصوبان معطوفان على (شاكرًا مخبتًا) وما قبلَه، وتقديرُه: اجعلني أَوّاهًا مُنيبًا إليك. (الحوبة): بفتح الحاء: الزَّلَّةُ والخطيئة، و (الحَوْبُ) بفتح الحاء وبضمِّها: الإثمُ، هكذا قال أهل اللغة. (الحُجَّةُ) ما يَغْلِبُ به الرجلُ على خَصمِه من الدليل على قوله، يعني: اللهمَّ قَوِّ دليلي وبرهاني على إثبات الدِّين، وسَدِّد لساني؛ أي: سَدِّد وَقوِّمْ لساني على التكلُّم بالصدق والصَّواب. "واسْلُلْ"؛ أي: أخرجْ وانزِعْ سخيمة صدري - أي: حِقْدَ صدري - والبغضَ الموجودَ في قلبي على المسلمين. * * * 1795 - عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبر، ثمَّ بَكَى فقال: "سَلُوا الله العفوَ والعافيةَ، فإنَّ أحدًا لم يُعْطَ بعدَ اليقين خيرًا مِنَ العافية"، غريب. قوله: "قامَ رسولُ الله عليه السلام على المِنْبرِ ثمَّ بَكَى فقال: سَلُوا الله العَفْوَ والعافيةَ"، ذُكِرَ بحثُ العافية في (كتاب الدَّعَوات)، وبكاؤُه كان لِما عَلِمَ بعِلْمِ الوَحْي من وقوعِ الأمةِ في الفتن وغَلَبةِ الشهوةِ عليهم، وحِرصِهم على جمعِ المالِ

والجاه، وسألهم أن يَلْتَجِئوا إلى الله بأن يسألوا العفوَ والعافيَة ليعصمَهم من الفتن. قوله: "بعدَ اليقين"؛ أي: بعدَ الإيمان. * * * 1798 - عن عبد الله بن يَزِيْدٍ الخَطْميِّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كانَ يقولُ في دعائه: "اللهمَّ ارزقني حُبَّكَ، وحُبَّ مَن ينفعُني حُبَّهُ عندَكَ، اللهمَّ ما رزقتَني ممَّا أُحِبُّ فاجْعَلْهُ قوةً لي فيما تُحِبُّ، اللهم ما زَوَيْتَ عنِّي مما أُحِبُّ فاجْعَلْهُ فَراغًا لي فيما تُحِبُّ". قوله: "ما زَوَيْتَ عنَّي مما أحبُّ فاجعلْه فراغًا لي فيما تُحِبُّ". (زَوَيْتَ): أي صَرَفْتَ ومَنَعْتَ عني مما أُحِبُّ من المال والجاه والأولاد، فاجعلْه سببَ فراغي فيما تُحِبُّ من العبادة؛ يعني: اجعلْني مشتغِلاً في طاعتك، ولا تجعلْني مشتغِلاً في الدنيا. روى هذا الحديثَ عبد الله بن يزيد الخَطْمِي. * * * 1799 - عن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: قَلَّما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقومُ مِنْ مَجْلِسٍ حتَّى يَدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ لأصحابهِ: "اللهمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيِتِكَ ما تَحُولُ بِهِ بَيْنَنا وبيْنَ مَعاصِيْكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا بِهِ جَنَّتَكَ، ومِنْ اليَقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنا مُصِيبَات الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنا بأَسْماعِنَا وأَبْصارِنَا وقُوَّتِنَا ما أَحيَيْتَنا، واجْعَلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجْعَلْ ثأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنا، وانْصُرْنَا على مَنْ عادانَا، ولا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا في ديننا، ولا تَجْعَلِ الدُّنْيا أكْبَرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا تُسَلِّط علينا مَنْ لا يَرحَمُنا"، غريب. قوله: "ما تَحُولُ"؛ أي: ما تفرِّقُ وتُبعِدُ به؛ أي: بذلك الخوفِ بيننا وبينَ

المعاصي؛ أي: غَلِّبْ علينا خوفَك حتى لا نَعصِيَك من شدَّةِ خوفِك. "تُهَوِّن"؛ أي: تُسَهِّل "به"، بذلك اليقين. "علينا"؛ ما يصيبنا من الغَمِّ والمرضِ والجِراحَةِ وتَلَفِ المالِ والأولادِ، يعني: مَن عَلِمَ يقينًا أنَّ ما يصيبُه من المُصِيبات في الدنيا يُعطِيه الله تعالى عِوَضَه في الآخرة الثوابَ، لا يغتَمُّ بما أصابه من المصيبات في الدنيا، بل يفرَحُ بذلك من غايةِ حِرصِه على تحصيلِ الثوابِ، نسألُكَ مثلَ هذا اليقين. "ومتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّتِنا"؛ يعني: اصرِفْ أعضاءَنا عن المعاصي، واستعمِلْها في طاعتك حتى يكونَ لنا بها نَفْعٌ. "ما أَحْييتَنا"؛ أي: مدةَ حياتِنا. "واجعلْه الوارثَ مِنَّا"، الضميرُ في (واجعلْه) يعودُ إلى مصدر (مَتِّعْنا)، وهو التمتيع، (الوارِثُ): الباقي من الأولاد والأقاربِ بعد الموت (¬1)، أراد بـ (الوارث) هنا: السمعَ والبصرَ، وبـ (الميت) فتور الأيدي والأرجل وسائر القوى، يعني: أبْقِ علينا قوةَ أسماعِنا وأبصارِنا بعد ضَعْفِ أعضائنا الأخرى إلى وقتِ الموتِ حتى لا نُحرَمَ من سماعِ كلامِك والمواعظِ والأخبارِ، وما في سماعِه لنا نَفْعٌ، ولذلك حتى لا نُحرَمَ مِن أبصارِنا ما فيه لنا خيرٌ واعتبار، وهذان العضوان أنفعُ الأعضاءِ الظاهرةِ للرجلِ في آخرته، وتقديرُه: ومتِّعنا تمتيعًا باقيًا معنا إلى الموت، هكذا شرحَ هذا الحديثَ الخَطَّابيُّ. قوله: "واجعلْ ثَأْرَنا على مَنْ ظَلَمَنا". (الثَّأْرُ): أن يقتلَ الرجلُ قاتلَ أبيه أو غيرِه من الأقارب، والمرادُ به ها هنا: الحِقدُ والغضبُ والغَلَبة، أي: اجعلْ غضَبنا وحِقدَنا على الكُفَّار، أو مَن ظَلَمَنا ¬

_ (¬1) في "ش": "الميت".

من المسلمين حتى نستوفِيَ حُقوقَنا. "ولا تَجْعَلْ مُصِيبتَنا في دِيننا"؛ أي: ولا توصِلْ إلينا ما يَنْقُصُ به دينُنا وطاعتُنا من اعتقادِ سوءٍ، أو أَكْلِ حرامٍ، أو فترةٍ في العبادةِ وما أشبهَ ذلك. "ولا تَجْعلِ الدُّنيا أكبرَ هَمَّنا". (الهَمُّ): القَصدُ والحُزْنُ؛ يعني: ولا تجعلْ أكبرَ قَصْدِنا وحُزْننا لأجلِ الدنيا، بل اجعلْ أكبرَ قصدِنا وحُزْنِنا مصروفًا في عَمَلِ الآخرة. "ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا"، (المَبْلَغُ): الغايةُ التي يَبْلُغُها الماشي والمحاسب فيقفُ عندها، يعني: ولا تجعلِ الدنيا غايةَ عِلْمنا؛ يعني: لا تجعلْنا بحيثُ لا نعلَمُ ولا نفكِّرُ إلا في أحوالِ الدنيا، بل اجعلنا متفكِّرين في أحوال الآخرة، ومتفحِّصين عن العلوم التي تتعلَّقُ بأمور الآخرة. "ولا غايةَ رَغْبتنا"؛ يعني ولا تجعلِ الدنيا غايةَ رغبتِنا بحيثُ لا نرغبُ إلا في الدنيا، بل اجعلنا راغبين في الآخرة مُعرِضين عن الدنيا. "ولا تُسَلِّطْ علينا مَنْ لا يَرحَمُنا"؛ يعني: لا تجعلِ الكُفَّارَ علينا غَالبين، ويحتملُ أن يكونَ معناه: ولا تَجْعَلِ الظالمين علينا حاكِمين، فإنَّ الظالمَ لا يَرْحَمُ الرَّعِية. * * * 1800 - عن أبي هُريرةَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهمَّ انْفَعْنِي بما عَلَّمْتَنِي، وعَلِّمْني ما يَنْفَعُني، وزِدْنِي عِلْمًا، الحَمْدُ لله على كُلِّ حالٍ، وأَعُوذُ بالله مِنْ حالِ أهْلِ النَّارِ"، غريب. قوله: "من حال النار"؛ أي: مِن شِدَّةِ النارِ وغَلَبَتِها. * * *

1797 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأَنْزَلَ الله يومًا، فَمَكَثْنا سَاعةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: "اللهمَّ زِدْنَا ولا تَنْقُصْنا، وأكْرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأعْطِنَا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنَا ولا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وأَرضنَا وارْضَ عَنَّا"، ثُمَّ قال: "أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ، مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ"، ثُمَّ قرأَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ عَشَرَ آياتٍ. قوله: "سُمِعَ عند وَجْهِه" دَوِيٌّ "كَدَويِّ النَّحْل". (الدَّويُّ): الصوتُ الذي لا يُفهَمُ منه شيءٌ، وهذا الصوتُ هو صوتُ جبريلَ عليه السلامُ يبلِّغُ إلى رسولِ الله عليه السلام الوحيَ، ولا يُفْهِمُ الحاضرين مِن صوتِه شيئًا. "فسُرِّيَ"؛ أي: أُذْهِبَ عنه ذلك الاشتغالُ والاستغراقُ باستماعِ الوَحْيِ. "ولا تُهِنَّا"؛ أي: ولا تُذِلَّنا، وأصلُه: "ولا تُهْوِنْنَا"، فنُقِلَتْ كسرةُ الواو إلى الهاء، وحُذفت الواوُ لسكونها وسكونِ النون الأولى، ثم أُدغمتِ النونُ الأُولى في الثانية. "وآثِرْنا"؛ أي: اخترْنا، وهو أمر مخاطَب مِن (آَثَر): إذا اختارَ أحدٌ شيئًا. "ولا تُؤْثِر"؛ أي: ولا تختَرْ علينا أحدًا، فتُعَزِّزَه وتُذِلَّنا؛ يعني: ولا يَغْلِبْ علينا أعداؤنا. قوله: "مَنْ أَقامَهنَّ"؛ أي: من عَمِلَ بهنَّ. هذا آخرُ (جامعِ الدعاء)، ويتلوه (كتاب المناسك)، وإلى ها هنا مجلَّدٌ تامٌّ، والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمَّد وآله أجمعين. ° ° °

10 - كتاب المناسك

10 - كِتَابُ المَنَاسِكِ

[10] كِتابُ المَنَاسِكِ (كتاب المناسك) "المناسك": جمع مَنْسك بفتح السين وكسرها، وهو مصدر ميميٌّ، أو مكان، من نسَكَ يَنْسُكُ: إذا فعلَ عبادةً، والمرادُ ها هنا بالمناسك: الإتيانُ بأفعالِ الحَجَّ. مِنَ الصِّحَاحِ: 1801 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها النَّاسُ: قَدْ فَرَضَ الله عليكُمْ الحجَّ فَحُجُّوا"، فقالَ رَجلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكَتَ حتَّى قالَها ثلاثًا، فقال: "لو قلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَمَا اَسْتَطَعْتُمْ". قوله: "قد فرضَ الله عليكم الحَجَّ". (الحَجُّ) في اللغة: القَصدُ، والمراد به ها هنا: قَصْدُ الكَعْبة، وقَصدُ أفعالٍ مخصوصةٍ معلومةٍ، كما يأتي كلُّ واحدٍ منها في موضعه. قوله: "لو قلت: نَعَم، لوجبت"، ضميرُ المؤنَّث في (لوجَبتْ) مقدَّرٌ؛ أي: لوجَبَت الحُجَّةُ، أو لوجَبَت هذه العبادةُ، وفي بعض الروايات: (لوجبَ)

بغير تاء؛ أي: لوجبَ الحَجُّ. * * * 1802 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العَمَلِ أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ بالله ورسولِهِ"، قيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قال: "الجهادُ في سَبيلِ الله"، قيلَ ثُمَّ ماذا؟ قال: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". قوله: "وحجٌّ مبرورٌ"، (المبرورُ): مفعولٌ مِن (بَرَّ) إذا أحسنَ، وقيل: الطاعة. و (حجٌّ مبرورٌ): أي: مقبول، وعلامة كونِه مقبولًا إتيانُ الرجلِ بجميع أركانِه وواجباتِه معَ إخلاصِ النية، واجتنابُ ما نُهِيَ عنه في الحَجِّ. * * * 1803 - وقال: "مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقَ رَجَعَ كيَوْمِ وَلَدتْهُ أُمُّهُ". قوله: "مَنْ حَجَّ لله فلم يَرفُثْ ولم يَفْسُقْ"، قال ابن عباس: الرَّفَثُ: التكلُّمُ بذكر الجِماع، وقال ابن مسعود: الرَّفَثُ: الجِمَاع. وأما (الفسوقُ) فهو المعاصي، وقيل: اللَّغْوُ، مثل الشَّتم وكلِّ كلامٍ مُحَرَّم، يعني من حَجَّ بحيث يجتنبُ جميعَ ما فيه إثمٌ من القول والفِعل غُفِرَتْ ذُنوبه، وقد ذكرنا بحثَ ما غُفِرَ في الحجِّ في (كتاب الإيمان) في حديث عمرو بن العاص. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 1804 - وقال: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بَيْنَهُما، والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزاءٌ إلَّا الجَنَّةَ".

قولُه: "العُمْرة إلى العُمْرة كَفَّارةٌ لما بينَهما"، هذا مِثلُ قولِه: "الجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ"، وقد ذُكِر في (كتاب الجمعة)، وفي أول (كتاب الصلاة). روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 1805 - وقال: "إنَّ عُمْرَةً في رَمَضانَ تَعْدِلُ حَجَّةً". قوله: "عُمْرة في رمضانَ تعدِلُ حَجَّةً"؛ أي: تقابلُ وتماثِلُ في الثواب، وإنما عَظُمَ ثوابُ العمرةِ في رمضانَ؛ لأن رمضانَ شهرٌّ شريفٌ، والزمانُ إذا كان شريفًا يكون ثوابُ الطاعةِ فيه أكثرَ من ثوابِ الطاعةِ في زمان غيرِ شريفٍ. روى هذا الحديثَ ابن عباس وجابر. * * * 1806 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحاءِ، فَرَفَعَتْ إليه امرأةٌ صَبيَّاً، فقالَتْ: ألِهَذا حَجٌّ؟ قال: "نعم، ولكِ أَجْرٌ". قوله: "لقيَ رَكْبًا بالرَّوْحَاء"، (الرَّكْبُ): جمعُ راكب، (الرَّوْحَاءُ): اسمُ مَوْضع. "فرفعتْ إليه امرأةٌ صَبيًّا"؛ أي: أخرجَتْه من مِحَفَّتِها وقالت: ألهذا حَجٌّ؟ فقال: نَعَم، ولك أجر. هذا صريحٌ بصحَّةِ حَجِّ الصبيِّ، وحصولِ الثوابِ له ولأبيه وأمِّه وغيرِهما ممن حَجَّ به، وهذا الصبيُّ إذا بلغَ ووجدَ الاستطاعةَ يجبُ عليه الحَجُّ؛ لأنَّ الحجَّ الواقعَ في الصبي يكونُ نافلةً. وقال بعضُ أهل العراق: حجُّ الصبيَّ لا يكون محسوبًا بل هو لَغْوٌ،

وهذا خلافُ الحديث. * * * 1807 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ اَمْرَأَةً مِن خَثْعَمَ قالَتْ: يا رسولَ الله! إن فَريضةَ الله على عبادِهِ في الحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي شَيْخًا كبيرًا لا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عنه؟ قال: "نعم"، وذلكَ في حَجَّةِ الوداع. قوله: "أنَّ امرأةً مِن خَثْعَمَ"، (خَثْعَمَ): اسمُ قبيلة. "إنَّ فريضةَ الله على عبادِه في الحَجِّ أدركتْ أبي شيخًا" (شيخًا): منصوب على الحال، يعني وجبَ الحجُّ على أبي لحصولِ المالِ له. "لا يَثْبُتُ على الرَّاحلة"، أي: لا يقدِرُ على ركوب الدَّابَّةِ لضَعْفِه، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نَعَمْ. هذا دليلٌ على وجوبِ الحَجَّ على الزَّمِنِ والشَّيْخِ العاجِز عن الحَجِّ بنفسه، وهذا قولُ الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنْ وجدَ المالَ وأسبابَ الحَجَّ ثمَّ صارَ زَمِنًا أو شيخًا عاجزًا لا يَسْقُطُ عنه الحَجُّ بل يَستنيب من يَحُجُّ عنه، وإذا زَمِنَ أو صار شيخًا عاجزًا ثم وجدَ المالَ لا يجبُ عليه الحَجُّ، هذا كلُّه عند أبي حنيفة. وقال مالك وأحمد: لا يجوزُ الحَجُّ عن الحيَّ سواءٌ وجدَ المالَ قبل العَجْز أو بعدَه، وأمَّا عن الميتِ يجوزُ سواءٌ أوصى به أو لم يوصِ. وعند الشافعي وأبي حنيفةَ ومالك: إن أوصى به الميت يجوز الحجُّ عنه وإلا فلا، هذا الخلافُ في النافلة أو في الحج الواجب عليه.

1808 - قال: وقال رجلٌ: إنَّ أُختي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ وإنَّها ماتَتْ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كانَ عليها دَيْنٌ، أَكُنْتَ قاضيَهُ؟ " قال: نعم، قال: "فاَقْضِ دَيْنَ الله، فهو أَحَقُّ بالقَضاءِ". قوله: "قال: وقال رجل"؛ أي: قال ابن عباس، "وقال رجلٌ: إن أختي نَذَرتْ أن تحجَّ، وإنها ماتت، فقال النبي عليه السلام: "لو كان عليها دينٌ أكنت قاضيَه؟ قال: نعم، قال: فاقضِ الله، فهو أحقُّ بالقضاء". قوله: "فاقض الله"؛ أي: فاقض دَيْنَ الله، وإنما يجبُ عليه أن يحجَّ عنها بنفسِه أو بنائبٍ إذا تركتْ مالًا، أما إذا لم تتركْ مالًا لا يلزمه أن يحجَّ عنها، وكذلك قضاءُ دَينها، إنما يجبُ إذا تركتْ مالًا، فإن الميتَ إذا تركَ مالًا يقدَّمُ تجهيزُ دفنِه، ثم تقضى ديونُه، ثمَّ تؤدَّى زكاتُه الواجبةُ عليه، ثم يُحَجُّ عنه ما يجبُ عليه من حَجَّة الإسلام أو النَّذْر أو القضاء، ثمَّ يُعطَى الموصَى له إذا كانت ثلثَ ماله أو أقلَّ، ثمَّ يُقسم ما بقيَ من مالِه بين وَرَثته، يجبُ مراعاة هذا الترتيبِ، وهذا الحديثُ يدلُّ على جواز حَجِّ الرجل عن المرأة، والحديث الذي قبلَه يدلُّ على جواز حجَّ المرأةِ عن الرجل. وقال بعضُ أهل العلم: لا يجوزُ أن تحجَّ المرأةُ عن الرجل؛ لأنها تَلْبَسُ من الثياب في الحجِّ ما لا يجوزُ للرجل، فلا يكونُ حَجُّها مثلَ حَجَّه. * * * 1809 - وقال: "لا يَخلُوَنَّ رجُلٌ بامرأَةٍ، ولا تُسافِرَنَّ امرأةٌ إلَّا ومعها مَحْرَمٌ"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! اكْتُتِبْتُ في غَزْوَة كذا وكذا، وخَرَجَتْ اَمْرَأَتي حاجَّةً، قال: "اذهَبْ فاَحْجُجْ مع اَمرأَتِكَ". قوله: "اكتُتِبْتُ في غَزْوةِ كذا"، وكذا يعني: كَتَبني أمراؤُك ونوَّابك في

الديوان أن أخرجَ مع الجيش إلى الناحية الفلانية للغَزْو، وامرأتي خرجتْ إلى الحجَّ، وليس معها أحدٌ من المحارم، فقال له رسول الله عليه السلام: "لا تخرجْ إلى الغزو، واخرجْ مع امرأتِكَ إلى الحَجِّ". روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 1810 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: اسْتَأْذَنْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الجِهَادِ، فقال: "جِهادُكُنَّ الحَجُّ". قوله: "جِهادُكُنَّ الحَجُّ"؛ يعني لا جهادَ عليكن إلا الحجَّ إذا وجدتنَّ الاستطاعةَ. * * * 1811 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُسافرُ امرأةٌ مَسِيْرةَ يومٍ وليلةٍ إلَّا ومعها ذُو رَحمٍ مَحْرَمٍ". قوله: "لا تسافرُ امرأةٌ مسيرةَ يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو رَحِمٍ مَحْرَم"، هذا الحديث يدلُّ على عَدمِ لزومِ الحَجِّ على المرأة إذا لم يكن معها ذو مَحْرَمٍ لها، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: يلزمُها إذا كانت معها جماعةٌ من النساء، وقال الشافعي: يلزمُها إذا كانت معها امرأةٌ ثقةٌ تأمَنُ معها على نفسها، وفي الجملة: لا يجوزُ للمرأة الخروجُ من بيتها إلى موضعٍ لا تأمنُ على نفسها، قَلَّتِ المسافةُ أم كَثُرَت. * * * 1812 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: وَقَّتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهلِ المدينةِ ذا

الحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، ولأِهْلِ نَجْدٍ قَرنَ المَنازِلِ، ولأهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غيرِ أَهْلِهِنَّ لمَنْ كانَ يُريدُ الْحَجَّ والعُمْرَةَ، فَمَنْ كانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أهْلِهِ، وكذاكَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْها. قوله: "وَقَّتَ"؛ أي: بيَّنَ هذا الموضعَ للإحرام. قوله: "فهنَّ لهن"؛ أي: هذه المواضعُ ميقاتٌ من مرَّ بهنّ، سواءٌ كان من أهل ذلك البلد أو من غير أهلِه. قوله: "لمن كان يريدُ الحَجَّ والعُمْرة"، في هذا دليلٌ على أنَّ مَنْ مرَّ بميقات ولم يقصِدِ الحجَّ والعمرة، فإذا مرَّ على الميقاتِ عَزَمَ حجًّا أو عمرةً جازَ له أن يُحْرِم من حيث عَزمَ، ولا يَلْزَمُه دَمٌ. وقال أحمد: يلزمُه دمٌ إن لم يَعُدْ إلى الميقات، ويدلُّ على هذا أيضًا على أن ميقاتَ الحجَّ والعمرة واحدٌ. قوله: "فمن كان دونهن"؛ أي: فمن كان بيتُه أقربَ إلى مكة. "فمُهَلُّه" بضم الميم؛ أي: موضعُ إهلاله؛ أي: إحرامِه "من أهله"؛ أي: من بيتِه لا يَلْزَمُ عليه أن يَمْشِيَ إلى الميقات. "وكذاك"، (وكذاك)؛ أي: وكذلك يُحْرِمُ كلُّ شخصٍ من بابِ دارهِ إذا كانت دارُه بين الميقات وبين مكَّةَ. "حتى أَهْلُ مكةَ يُهِلُّون"؛ أي: يُحْرِمون. "منها"؛ أي: من بطن مكة، فإن خرجَ المكِّيُّ من مكةَ وأحرمَ قبل أن يخرجَ من أرضِ الحرم لزِمَه دمٌ في أحد القولين، وفي القول الثاني لا يَلْزَمُه الدَّمُ إلا إذا أُخْرِجَ من أرض الحَرَم ثمَّ أَحْرمَ هذا في إحرام الحجِّ. أما في إحرام العمرة لزمَ للمكيِّ أن يخرجَ من أرض الحرَمِ إلى أرض

الحِلَّ، ثم يُحْرِم بالعمرة. * * * 1814 - وقال أنس: اعْتَمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعَ عُمَرَ، كُلَّهُنَّ في ذي القَعْدَةِ إلَّا التي كانَتْ مع حجَّته: عُمرةً من الحُدَيْبيَّة في ذي القَعْدَة، وعُمْرةً من العام المُقبل في ذي القَعْدَةِ، وعمرةً مِنْ الجِعْرانَةِ حيثُ قَسمَ غَنائِمَ حُنَيْنٍ في ذي القَعْدَةِ وقبلَ أنْ يحُجَّ، وعُمْرَةً مع حَجَّتِهِ". قوله: "أَربَعَ عُمَرٍ"، العُمَرُ: جمعُ عُمْرة. قوله: "عمرةٌ من الحُدَيْبيَة"؛ يعني: أحرمَ بعمرةٍ من الحُدَيْبيَة، والأفضلُ أن يخرجَ المكَّيُّ لإحرامِ العمرة إلى الجِعْرَانة، فإن لم يخرجْ إليها فإلى التنعيم، فإن لم يخرجِ المَكِّيُّ إليها فإلى الحُدَيْبيَة، فإن خرجَ إلى أولِ أرضِ الحِلِّ وأحرمَ وعاد جاز. * * * 1817 - وعن عليًّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَلَكَ زادًا وراحِلَةً تُبلِّغُهُ إلى بَيْتِ الله ولم يَحُجَّ فلا عليهِ أن يموتَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرانِيًّا، وذلكَ أنَّ الله تباركَ وتعالَى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ". قوله: "من مَلَكَ زادًا وراحلةَ تُبَلِّغُه إلى بيت الله ولم يَحُجَّ فلا عليه أن يموتَ يهوديًا أو نصرانيًا". (فلا عليه)؛ أي؛ فلا مبالاة؛ أي: فلا تفاوتَ عليه، شبَّهَ من لم يحجَ مع الاستطاعة باليهود والنصارى؛ لأن الحجَّ في دِين اليهود والنصارى غيرُ واجب، فإن تركَ مسلمٌ الحجَّ منكِرًا لوجوبه فهو كافرٌ كاليهود والنصارى، وإن تركَ مع الاعتراف بوجوبه فليس بكافرٍ ولكنه عاصٍ مشابهٌ لليهود والنصارى في ترك

الحَجِّ لا في الكفر، وإنما قال عليه السلام هذا التشبيهَ للتهديدِ وتقبيحِ شأنِه. * * * 1818 - وقال: "لا صَرُورَةَ في الإِسلامِ". قوله: "لا صَرُورَةَ في الإِسلام"، وفسَّرَ الصَّرُورَة على وجهين: أحدهما: أن الصَّرُورَةَ هو الرجلُ الذي تركَ النكاح ومجالسةَ الناسِ وسكنَ الجِبالَ كما هو عادة الرهبان، فقال عليه السلام: "لا صَرُورةَ في الإسلام"؛ يعني: لا يجوزُ أن يعملَ مسلمٌ عملَ الرهبانِ. والتفسير الثاني: أن الصَّرُورَةَ هو الرجلُ الذي لم يحجَّ قطُّ، فقال عليه السلام: "لا صَرُورَةَ في الإِسلام"؛ يعني: لا يجوزُ لأحدٍ أن يتركَ الحجَّ مع الاستطاعة، ومن لم يَحُجَّ عن نفسه لا يجوزُ أن يحجَّ عن غيره عند الشافعيِّ وأحمدَ، ويجوز عند أبي حنيفة ومالك، ومَنْ عليه حَجَّةُ الإِسلامِ لا يجوزُ أن يُحْرِم بغير حَجَّةِ الإِسلام، فإنْ أَحْرَمَ بغير حَجَّةِ الإِسلامِ وقعَ حَجُّه عن حَجَّةِ الإِسلام عند الشافعيَّ. وقال أبو حنيفة ومالك: يقعُ حَجُّه عما نوى نَذْرًا كان أو نافلةً أو حَجَّةَ الإسلام. روى هذا الحديث: "لا صَرُورَةَ في الإِسلام" ابن عباس. * * * 1819 - وقال: "مَنْ أَرادَ الحَجَّ فّلْيُعَجِّلْ". قوله: "من أراد الحجَّ فليُعَجِّلْ"، معناه: منْ وجبَ عليه الحَجُّ فليعجِّلْ، وهذا أمرُ استحبابِ لأنَّ تأخيرَ الحَجِّ جائزٌ مِن وَقْتِ وجوبه إلى آخرِ العمر.

روى هذا الحديثَ عليٌّ - رضي الله عنه -. * * * 1820 - وقال: "تابعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فإنَّهُمَا يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كما يَنْفي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، وليسَ للحَجَّةِ المبرُورَةِ ثَوابٌ إلا الجَنَّةُ". قوله: "تابعوا بين الحجِّ والعُمْرة"؛ يعني: إذا حَجَجْتُم فاعتمروا عَقِيبَه. "فإنهما يَنْفِيان الفَقْرَ والذنوبَ"؛ أي: يُزِيلان. "كما يَنْفي الكِيْرُ خَبَث الحديد"، (الكِيْرُ): ما يَنفُخُ فيه الحدَّادُ لاشتعال النار لتصفية الحديدِ من الخَبَث، وهو غِشُّ الحديدِ وغيرِه. اعلم أن الحجَّ واجبٌ على مَن وجدَ الزادَ والراحلةَ وأَمِنَ الطريقَ، وفي العمرة خلافٌ، فعند الشافعيِّ وأحمدَ واجبةٌ، وعند أبي حنيفةَ ومالكٍ سُنَّةٌ. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 1822 - وعنه قال: سألَ رَجُلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الحَاجُّ؟ قال: "الشَّعِثُ التَّفِلُ"، وقال آخَر: أيُّ الحَجِّ أفْضَلُ؟ قال: "العَجُّ والثَّجُّ"، فقال آخَر: ما السَّبيلُ؟ قال: "زادٌ وراحِلَةٌ". قوله: "ما الحاجُّ"، (ما) للاستفهام؛ يعني: ما صفةُ الذي يَحُجُّ؟ فقال: "الشَّعِثُ"؛ أي: المُتَفرِّقُ شعرُه مِن عَدَمِ غَسْلِ الرأس. و"التَّفِلُ"؛ وهو الذي رائحتُه كريهةٌ من عدمِ استعمالِ الطَّيبِ؛ يعني: إذا أحرمَ الرجلُ لا يمتشِطُ رأسَه ولحيتَه كي لا ينتِفَ الشَّعْرَ، فإن امتشَطَ ولم ينتِفِ

الشعرَ فلا بأسَ، وإن نتفَ لَزِمَه دمٌ بثلاث شعرات أو أكثر، وفي شعرةٍ مُدٌّ في قول، ودرهمٌ في قول، وثلثُ درهم في قول، ويجب في شعرتين مثلُ ما يجبُ في شعرة، وأما استعمال الطَّيْبِ فحرامٌ، ويجبُ فيه دمُ شاةٍ. قوله: "العَجُّ والثَّجُّ". (العَجُّ): رفعُ الصوتِ بالتلبية، والتلبيةُ واجبةٌ عند الإحرام في قول أبي حنيفة وأحدِ قولَي الشافعيَّ، فمن تركَها لزمَه دمُ شاةٍ، وعند الآخرين سنة، ويُستحَبُّ رفعُ الصوت بالتلبية في سائر الأحوال وفي المساجد. وقال مالك: لا يُرفَعُ الصوتُ في المساجد إلا في المسجد الحرام ومسجدِ منًى. وأما الثَّجُّ فمعناه: إراقةُ دمِ القُرْبَانِ والهَدْيِ. قوله: "ما السَّبيل"؛ يعني: أيُّ شيءٍ يوجبُ المشيَ إلى مكةَ، فقال عليه السلام: "الزادُ والراحلةُ"؛ أي وجودُ الزادِ والمركوبِ. * * * 1823 - عن أبي رَزِين العُقَيْلي: أنَّهُ أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، إنَّ أبي شَيْخٌ كَبيرٌ لا يستطِيعُ الحَجَّ والعُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، قال: "حُجَّ عَنْ أَبيكَ، واعْتَمِرْ"، صحيح. قولُه: "لا يستطيعُ الحَجَّ والعمرة ولا الظَّعْنَ". (الظَّعْنُ): الذهابُ؛ يعني: لا يستطيعُ أن يفعلَ أفعالَ الحَجِّ والعمرة، ولا يستطيع الذهابَ، ويحتملُ أن يريدَ بقوله: (ولا الظَّعْنَ) ركوبَ الدابَّةَ؛ لأنه قد جاء الظَّعْنُ والاضطعان بمعنى ركوبِ الدَّابَّة. * * *

1825 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهلِ المَشْرِقَ العَقِيقَ. قوله: "وَقَّتَ لأهل المشرقِ والعَقِيق"، أراد بـ (أهل المشرقِ) كلَّ مَنْ جاءَ إلى مكةَ من طريقِ بغدادَ والكوفة. و (العَقِيق): اسمُ موضعٍ في هذا الطريق قبلَ الوصولِ إلى ذات عِرْقٍ. * * * 1826 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ العِراقِ ذاتَ عِرْقٍ. قولُها: "وَقَّتَ لأهلِ العِراق"، أراد بأهلِ العراق أهلَ المَشْرِقِ، وقد ذكرناهم؛ يعني: بيَّنَ لأهل المَشْرِقِ ميقاتين: العقيقَ وذاتَ عِرقٍ، فمن أحرمَ من العَقِيقِ جازَ، ومن لم يُحْرِمْ من العَقِيقِ وجاوزَها حتى وصلَ إلى ذاتِ عِرْقٍ فأحرمَ مِن ذاتِ عِرقٍ جاز ولا شيءَ عليه. * * * 1827 - عن أُمِّ سلَمَةَ: أَنَّها سَمِعَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةِ أو عُمْرَةٍ مِنَ المَسْجدِ الأَقْصَى إلى المَسجِدِ الحرامِ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وما تأَخَّرَ، أو وجَبَتْ له الجَنَّةُ". قوله: "مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةٍ أو عُمْرَةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجدِ الحرامِ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبه وما تأَخَّرَ أو وَجَبَتْ له الجَنَّةُ"، هذا الإحرام إنْ كان بالحَجِّ يجب أن يكونَ في أشهرِ الحَجِّ وهو شوال وذو القَعْدة وذو الحجَّة إلى فَجْرِ يومِ العيد، وإن كان بالعمرة يجوزُ في جميع السَّنَةِ، وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أن مسافة ما بينَ أولِ موضعِ الإحرامِ وبين مكة إذا كانَ أبعدَ يكون الثوابُ

2 - باب الإحرام والتلبية

أكثرَ، وفيه إشارةٌ إلى أن المسجدَ الأقصى ليس موضعًا لحجةِ الناسِ كما كان أهلُ الكتاب يفعلونَه؛ لأنه لو كان هو الموضعَ المحجوجَ لما أمر الشارعُ بالإحرام منه وقَصْدِ المسجدِ الحرام. قوله: "أو وَجَبتْ له الجنةُ"، هذا شكٌّ من الراوي في أن النبي عليه السلام قال: "غُفِرَ له أو وَجَبت له الجنةُ". * * * 2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية (باب الإحرام والتلبية) 1828 - قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كنتُ أُطَيبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرامِهِ قَبْل أنْ يُحرِمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ بطيبٍ فيه مِسْكٌ، كأنَّي أَنْظُرُ إلى وَبيْصِ الطَّيبِ في مَفْرِقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ. قول عائشةَ: "كنت أطيبُ رسولَ الله عليه السلام لإحرامه قبل أن يُحْرِمَ"؛ يعني: يجوزُ أن يطيبَ نفسَه قبل أن يُحرِمَ، فإذا أحرمَ حَرُمَ عليه استعمالُ الطَّيبِ في بدنه وثيابه، فإن استعملَ طِيبًا لَزِمَه شاةٌ. قولها: "ولحِلِّه قبلَ أن يطوفَ بالبيت". (الحِلُّ): الخروج من الإحرام؛ يعني: إذا رمى المُحْرِمُ يومَ العيد سبعَ حَصَياتٍ بجمرةِ العقبة جاز أن يُطَيَّبَ بما شاء من الطِّيب قبل أن يطوفَ طوافَ الفرض.

قولها: "كأني أنظرُ إلى وَبيصِ الطِّيبِ في مفارِقِ رسولِ الله عليه السلام". (الوَبيصُ): اللَّمعانُ؛ يعني: يبقى أثر الطَّيْبِ الذي أجعلُه عليه قبلَ الإحرام إلى ما بعد الإحرام، وهذا دليلٌ على أن الطِّيْبَ الذي استعمله المُحْرِمُ قبل الإحرام لو بقيَ أثرُه من الجِرْمِ والرائحةِ واللونِ إلى ما بعد الإحرام جاز، وهذا قول الشافعي. وفي قول مالك: كرهَ أن يبقى أثرُه بعدَ الإحرام، وفي قول أبي حنيفة: لو بقيَ جِرْمُ الطيب بعد الإحرام لزمَه شاةٌ. * * * 1829 - وقال ابن عمر: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلَبدًا يقولُ: "لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ"، لا يَزِيدُ على هؤلاءِ الكلِماتِ. قوله: "يُهِلُّ مُلَبدًا"، (يُهِلُّ)؛ أي: يرفَعُ صوتَه بالتلبية، (ملبدًا): بكسر الباء اسم فاعل، وبفتحها اسم مفعول من التلبيد وكلاهما محتمَلٌ ها هنا. و (التلبيدُ): هو إلصاقُ شعورِ الرأسِ بالصَّمْغ ونحوِه كي لا يتفرقَ شعرُ الرأس، وكي لا يدخلَ الغبارُ والهوامُّ بين الشعرِ، وهذا جائزٌ للمُحْرِم. وقال أبو حنيفة: لزمَه دمٌ إن لَبَّدَ بما ليس فيه طِيبٌ؛ لأنه كتغطية الرأس، ولزمَه دَمَانِ إنْ لَبَّد بشيء فيه طِيب. قوله: "لبَّيكَ اللهم لَبَّيك"، أصلُه: إلْبَابَيْنِ، فنُقلت فتحة الباء إلى اللام، وحُذِفت الهمزة، ثم حُذفت الألف لسكونها وسكونِ الباء الأولى، وأُدغمت الباء في الثانية، ثمَّ أضيفَ إلى كاف الخطاب، فحذفت النون للإضافة فصار: لَبَّيك، وتقديرُه: ألْبَيْتُ يا ربِّ بخدمتك إِلْبابًا بعد إلْبابٍ؛ أي: أقمتُ بخدمتك قيامًا بعد قيام.

قوله: "إنَّ الحمدَ والنعمَة لك"؛ يجوزُ بكسر الهمزة وفتحها، فمن كسرها جعلها ابتداءَ كلام، وجعل الحمدَ غير مختصًّ بالتلبية؛ أي: إن الحمدَ والنعمةَ لك في جميع الأحوال، وفي جميعِ الأزمان، وفي جميع أفعالي وأقوالي، ومن فتح الهمزة علَّقَ الحمدَ بالتلبية. وتقديره: لبيك بأن الحمد والنعمة لك؛ أي: أقمتُ بخدمتك لأجل أنك المستحقُّ للحمد. قوله: "والمُلْكَ، لا شريكَ لك"، (المُلْكَ): معطوفٌ على (الحمد)، وتقديرُه: إن الحمدَ والنعمةَ والمُلْكَ لك، وليس لك شريكٌ في المُلْكِ. * * * 1830 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَدخَلَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ واَسْتَوَتْ به ناقتُهُ قائمةً أهلَّ منْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ. قوله: "إذا أَدخلَ رِجْلَه في الغَرْزِ". الغَرْزُ: الحَلْقةُ التي يُدخِلُ الفارسُ رجلَه فيها إذا ركبَ، ويُسمَّى رِكابًا. والغَرْزُ: رِكاب من الخَشَب، ويُستَعملُ فيما كان من الحديد أيضًا. قوله: "واستَوتْ به ناقتُه". (استوى): إذا استقامَ، والباء للتعدية؛ أي: جَعَلَتْه ناقتُه مستقيمًا على ظهرِها؛ أي: فلمَّا ركبَها واستقرَّ على ظهرها أَهَلَّ؛ أي: أحرم؛ يعني: رفع صوتَه بالتلبية ونوى الإحرام، وهذا إشارةٌ إلى أن وقتَ نية الإحرام وأَوَّلِ التَّلْبية أولُ تحرُّكِ الرجلِ للذهابِ من الميقات للحج، والقولُ المختار أنه ينوي الإحرامَ بعد التسليم من رَكعتي الإحرام لحديث ابن عباس أن رسول الله عليه السلام كان يُحرم إذا فرغَ من صلاتِه بذي الحُلَيفة. * * *

1831 - وقال أبو سَعيد - رضي الله عنه -: خَرَجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نَصْرُخُ بالحَجِّ صُراخًا. قوله: "ونَصْرُخُ بالحَجِّ"؛ أي: نرفَعُ أصواتَنا بالتلبية. * * * 1832 - وقال أنَسٌ - رضي الله عنه -: كنتُ رَديفَ أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه -، وإنَّهُمْ لَيصرُخُونَ بِهِما جميعًا: الحَجِّ والعُمْرَةِ. قول أنس: "كنتُ رَدِيفَ أبي طَلْحةَ، وإنَّهم لَيَصرُخُونَ بهما جميعًا: الحَجِّ والعمرةِ". يعني: سمعتُ من الصحابة أنهم يُلبُّون، ويقولُ كلُّ واحد: أحرمتُ بالحج والعمرة يعني القِران، والقرانُ أن ينويَ الحج والعمرة معًا، ويفعلَ أفعالَ الحج، ويُدخِلَ أفعالَ العمرة تحتَ أفعالِ الحج، ويحصُلَ له الحجُّ والعمرةُ جميعًا. * * * 1833 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالحجِّ، وأَهَلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ فَحَلَّ، وأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحجَّ أو جَمَعَ الحَجَّ والعُمْرَةَ فلَمْ يَحِلُّوا حتَّى كانَ يَوْمُ النَّحْرِ. قولها: "فأمَّا مَن أَهَلَّ بالعُمْرة فَحَلَّ"؛ يعني: من أَهَلَّ بالعمرة قبل الحج حَلَّ إن خرجَ من العمرة، فإذا طاف بالكعبة وسعى بين الصَّفا والمَرْوة وحلقَ حَلَّ له جميعُ المحظورات في الإحرام، ثمَّ إذا كان يومُ عرفةَ أحرم بالحج. قولها: "حتى كان يومُ النَّحْر"؛ يعني من أَحرَمَ بالحجَّ مُفْرِدًا أو بالقِرَان لم يحلَّ له شيءٌ من محظورات الإحرام، حتى إذا رمى جمرة العقبة يومَ النحرِ سبعَ

حَصَيات فحينئذ يحلُّ له التطيُّبُ والقَلْمُ ولُبْسُ المَخِيطِ والحَلْقُ، وبقي تحريمُ مباشرةِ النساءِ وَقَتْلُ الصيد إلى أن يطوفَ طوافَ الفَرْض. واعلم أن العلماء اختلفوا في أفضلِ أنواعِ الحَجِّ، فقال الشافعيُّ ومالك: الإفرادُ أفضلُ، وهو أن يُحْرِمَ بالحجِّ ويُتِمَّه، ثمَّ يحرمَ بالعمرة لحديث عائشةَ وحديث جابر. وقال أحمد بن حنبل: التمتُّعُ أفضلُ لحديث ابن عمرَ أن رسول الله عليه السلام تمتَّعَ. والتمتُّعُ: أن يُحرمَ بالعمرة ويفرغ، ثم يحرِمَ بالحج من جوف مكة. وقال أبو حنيفة: إن القِرانَ أفضلُ لحديث أنس، وقد ذُكِرَ قُبيلَ حديثِ عائشة هذا. واعلم أن رسول الله عليه السلام لم يَحُجَّ بعد وجوب الحجِّ إلا مرةً واحدةً، وهو حجُّه في السنة العاشرة، ويسمَّى حجَّةَ الوداع، واختلفَ الصحابةُ في أن حجَّه إفرادٌ أو تمتُّعٌ أو قِرَانٌ، فروى بعضُهم أن إحرامَه كان بالحج، فلما فرغَ منه أحرمَ بالعمرة. وروى بعضهم أنه أحرم بالعمرة فلما فرغَ منها أحرمَ بالحج، وروى بعضهم أنه أحرم بهما جميعًا، ويسمَّى حجُّه على هذه الصفة قِرانًا. قال الخَطَّابي: طعنَ جماعةٌ من الجُهَّالِ والملحِدين في أصحاب الحديث، وقالوا: إذا أثبتُّم أن رسول الله عليه السلام لم يحجَّ إلا حَجَّةَ الوداعِ فكيفَ كان في حَجَّةٍ واحدةٍ مفرِدًا ومتمتِّعًا وقارنًا؟. فأجابهم الخَطَّابي: وقال الشافعي في تأويل هذا إنَّ رسولَ الله عليه السلام لم يَحُجَّ بنفسه إلا نوعًا واحدًا، وهو إما إفراد أو تمتُّعٌ أو قِران. وما رُويَ عنه من الأنواع الثلاثةِ واحدٌ، منها فَعَلَه بنفسه، والباقي أَمَرَ به

الصحابة ليتبيَّنَ جوازُ الأنواع الثلاثة، وما أمرَ به أصحابَه أُضيفَ إليه، وإضافةُ ما أَمَر به الآمرُ إلى الآخر جائزٌ مُطَّرِدٌ، كما يقال: قتل الأمير فلانًا، وقد أمرَ بقتلِه، وضرب فلانًا، وقد أمر بضرْبه. ورويَ أن رسول الله عليه السلام رجمَ ماعزَ بن مالك، وقد أمر برَجْمه ولم يكن هو حاضرًا، ثم رُوِيَ أنه عليه السلام قطعَ يدَ السارق، وقد أمر بقطعه، ولم يكن هو حاضرًا ثَمَّ، ونحوُ ذلك كثيرٌ، فإذا كان كذلك لم يكن في هذه الروايات تناقضٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 1835 - عن زيَد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنَّهُ رَأَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإحرامِهِ واغْتَسَل. قوله: "تَجَرَّدَ لإحرامه واغتسلَ"؛ يعني: تجرَّدَ عن الثياب المَخِيطةِ، ولبسَ إزارًا أو رداءً للإحرام، والغُسْلُ للإحرام سُنَّةٌ، وهو أن يغتسلَ أولًا ثمَّ يُحْرِمَ. * * * 1836 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَّدَ رَأْسَهُ بالغِسْل. قوله: "لَبَّدَ رأسَه بالغِسْل". (لَبَّدَ): أي: أَلْزَقَ رأسَه بالغِسْل - بكسر الغين - وهو الخِطْمِيُّ. * * * 1837 - عن خَلَّاد بن السَّائبِ، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتاني جِبْرِيلُ فأَمَرَني أن آمُرَ أَصْحَابي أَنْ يَرفَعُوا أصواتَهُمْ بالإحرام والتَّلْبيَةِ". قوله: "أتاني جبريلُ فأمرني أن آمرَ أصحابي أن يرفَعُوا أصواتَهم بالإحرام

والتَّلْبية"، وقع في هذا الحديثِ سهوٌ من النَّسَّاخين في قوله: (بالإحرام والتلبية)؛ ولفظُ هذا الحديث في "معالم السنن": "بالإهلال، أو قال بالتلبية"؛ يعني: شكَّ الراوي أن رسول الله عليه السلام قال: "أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال". ومعناهما واحد. ولفظ "شرح السنة": "أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال". وقال محيي السنة بعد هذا: (يريد أحدَهما)، فإذا شرحَه محيي السنة بقوله: (يريد أحدَهما) علمنا أن لفظَ المصابيح سَهْوٌ من النَّسَّاخين. * * * 1838 - عن سَهْل بن سَعْدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبي إلَّا لَبَّى ما عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ مِنْ حَجَرٍ أو شَجَرٍ أو مَدَرٍ حتَّى تَنْقَطِعَ الأرْضُ مِنْ ها هُنا وها هُنا". قوله: "إلا لبَّى مَن عن يمينِه وشمالِه"، (مَنْ) ها هنا بمعنى (ما)؛ لأنه يفسِّره بقوله: "من حجرٍ أو شجرٍ أو مدَرٍ"، وكلُّ ذلك ليس بعقلاءَ، فإذا لم تكن هذه الأشياء للعقلاء تكون (مَن) بمعنى (ما)؛ لأن (مَنْ) للعقلاء، و (ما) للجمادات وللحيوانات غيرِ العقلاء. قوله: "تنقطع الأرضُ مِن ها هنا وها هنا"؛ يعني: إلى منتهى الأرض من جانبِ الشرقِ، وإلى منتهى الأرض من جانب الغَرْب؛ يعني: يوافقُه في التلبية كلُّ رَطْبٍ ويابس في جميع الأرض. * * * 1840 - عن عُمارة بن خُزَيْمَة بن ثابتٍ، عن أَبيه، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ كانَ إذا فرَغَ من تَلْبيتةِ سألَ الله رِضْوانَهُ والجَنَّةَ، واَستَعْفاهُ برحمتِهِ مِنَ النَّارِ.

3 - قصة حجة الوداع

قوله: "واستعفاه"؛ أي: طلبَ العفو، وهو التجاوزُ؛ يعني: طلبَ أن يخلِّصَه برحمتِه من النار. * * * 3 - قِصَّةُ حجة الوداع (باب حجة الوداع) 1841 - قال جابرُ بن عبد الله - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكَثَ بالمدينةِ تِسْعَ سِنين لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذِّنَ في النَّاسِ بالحَجِّ في العَاشِرَةِ، فَقَدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، فَخَرَجْنا مَعَهُ حَتَّى إذا أَتَيْنا ذا الحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْرٍ، فأرْسَلَتْ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ أَصنَعُ؟ قال: "اَغْتَسِلِي، واَسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي"، فَصَلَّى - يعني رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ في المسجِدِ، ثمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حتَّى إذا اَسْتَوَتْ بِهِ ناقَتُهُ على البَيْدَاءِ، أَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ: "لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لا شَرِيكَ لكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ"، وقال جابر: لَسْنَا نَنْوِي إلَّا الحَجَّ، لَسْنا نَعْرِفُ العُمْرَةَ، حتَّى إذا أتَيْنَا البَيْتَ مَعَهُ اَسْتَلَمَ الرُّكْنَ وطافَ سَبْعًا: رَمَلَ ثلاثًا، ومشى أرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إلى مَقامِ إبراهيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فَصَلَّى ركعَتَيْنِ جَعَلَ المَقامَ بينَهُ وبَيْنَ البَيْتِ. ويُروى: أنَّه قَرَأَ في الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فاَسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الباب إلى الصَّفا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفا قرَأَ: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أَبْدَأُ بما بَدَأَ الله به"، فَبَدَأَ بالصَّفا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ حتَّى رأَى البَيْتَ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وكَبَّرَهُ، وقال: "لا إله إلَّا الله وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ،

لا إله إلاَّ الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا بينَ ذلك، قالَ مِثْلَ هذا ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نزَلَ فمشَى إلى المَرْوَةِ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتَّى اَنْصَبَّتْ قدماهُ في بَطْنِ الوادي سَعَى، حتَّى إذا أصْعَدتْ قدمَاهُ مَشَى، حتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ والنَّاسُ تَحتَهُ فقال: "لَوْ أَنَّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمري ما اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وجَعَلْتُها عُمْرَةً، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ليَسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"، فقامَ سُراقَةُ بن جُعْشُمٍ فقال: يا رسولَ الله!، أَلِعَامِنا هذا أمْ للأبَدِ؟ فَشَبَّكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَصابعَهُ وقال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ"، مَرَّتَيْنِ، "لا بلْ لأَبَدِ الأَبَدِ"، وقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ ببُدْنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ماذا قُلْتَ حينَ فَرَضْتَ الحَجَّ؟ "، قالَ: قُلْتُ: اللهمَّ إنَّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإنَّ مَعِيَ الهَدْيَ"، قال: "فأَهْدِ، وامكُثْ حرامًا، فلا تَحِلُّ"، قال: فكانَ جماعَةُ الهَدْيِ الذي قَدِمَ بِهِ عَليٌّ مِنَ اليَمَنِ والذي أَتَى بِهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مائَةً، قال: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وقَصَّرُوا، إلاَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فلمَّا كانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فَأَهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكِبَ النَّبيُّ، فَصَلَّى بها الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ والفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قليلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بنمِرَةَ، فَسَارَ، فَنَزَلَ بها، حتَّى إذا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بالقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوادي، فخَطَبَ النَّاسَ، وقال: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ اَبن رَبيعَةَ بن الحارِث - كانَ مُسْتَرْضعًا في بني سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - ورِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعةٌ، وأَوَّلُ ربًا أَضَعُ مِنْ رِبَانا رِبَا عَبَّاسِ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ، فإنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاَتَّقُوا الله في النِّسَاءِ، فإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله، واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، ولَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ ذلكَ

فاَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ، وقَدْ تَرَكْتُ فيكُمْ مَا لنْ تَضلُّوا بَعْدَهُ إِن اَعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ الله، وأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ "، قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فقال بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءِ، ويَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: "اللهمَّ اَشْهَدْ، اللهمَّ اَشْهَدْ، اللهمَّ اَشْهَدْ" ثَلاَثَ مرَّات، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ، ثُمَّ أقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أقامَ فَصَلَّى العَصْرَ، ولَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شيئًا، ثُمَّ رَكِبَ حتَّى أَتَى المَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ ناقَتِهِ القَصْوَاءِ إلى الصَّخَرَاتِ، وجَعَلَ حَبْلَ المُشاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، واَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ واقفًا حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ أُسامَةَ خَلْفَهُ، ودَفَعَ حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ بأَذَانٍ واحِدٍ وإقامَتَيْنِ، ولم يُسَبحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اَضْطَجَعَ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَصَلَّى الفَجْرَ حينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بأَذَانٍ وإقامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرامَ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَحَمِدَ الله وكَبَّرَهُ وهَلَّلَهُ ووَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ واقِفًا حَتَّى أسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَع قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ الفَضْلَ بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - حتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قليلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّريقَ الوُسْطَى التي تَخْرُجُ على الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ التي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فرماهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حصَاةٍ منها مِثْلَ حَصَى الخَذْفِ، فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الوادِي، ثُمَّ اَنْصَرَفَ إلى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثلاثًا وسِتِّينَ إبلًا بيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَر ما غَبَرَ، وأَشْرَكَهُ في هَدْيهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ ببَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا، وشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَفَاضَ إلى البَيْتِ، فَصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بني عَبْدِ المُطَّلِبِ يَسْقُونَ على زَمْزَمَ، فقالَ: "انْزَعوا بني عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ على سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا، فَشَرِبَ منهُ. "ثم أَذَّنَ"؛ أي: ثمَّ نادَى وأَعْلَمَ، "في الناس"؛ أي: بينَ الناس بأني أريدُ

الحجَّ، "في العاشرة"؛ أي: في السنة العاشرة من الهجرة. قولُه: "رَمَلَ ثلاثًا". (الرَّمَلاَن): مشيٌ بالسرعة بين العَدْوِ والمَشْيِ؛ يعني: أسرَع في ثلاثة أطواف، ومشى على السكون في الأربعة الباقية من السبعة. قولُه: " {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "؛ يعني: السُّنَّةُ لمن فرغَ من الطواف بالبيت أن يُصَلِّيَ في مقامِ إبراهيم رَكعتين، ثم خرجَ من الصَّفا؛ يعني: خرج من الباب المقابل للصفا إلى الصفا. قوله: "ابدؤوا بما بدأ الله به"؛ يعني: ابدؤوا بالصفا؛ لأن الله بدأَ بذكرِ الصَّفَا في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. (الشعائرُ): جمع شعيرة، وهي العلامة التي جُعِلَتْ وأُظْهِرَتْ للطاعات المأمورةِ في الحجَّ، كالوقوف والرَّمْيِ والطَّوَاف والسَّعْي. "رَقِيَ"؛ أي: صَعِدَ. "وَحَّدَ"؛ أي: قال: لا إله إلا الله. "أَنْجَزَ وَعْدَه"؛ أي: وفى بما وعَد من فتحٍ ونُصرةِ عبده محمد عليه السلام، ثم دعا بين ذلك، فلما فرغ من قوله: "وهزم الأحزاب وحده" دعا بما شاء، ثم قال مرة أخرى هذا الذكرَ، ثم دعا حتى فعل ثلاثَ مرات. قوله: "ثم نزل": من الصفا "ومشى إلى المروةِ": في أرضٍ مستويةٍ، "حتى انصَبَّتْ قدماه"؛ أي: حتى وصلَ إلى موضعٍ منخفِضٍ منحدِرٍ "في بطن الوادي"، فإذا وصلَ إلى هذا الموضع سعى سعيًا شديدًا، "حتى إذا صَعدتْ قدماه"؛ يعني: حتى إذا انحدرتْ قدماه؛ أي: وصلَتْ إلى موضعٍ منخفضٍ. "فمشى"؛ أي: سارَ على السكون، "ففعل على المروة كما فعل على

الصَّفَا"؛ يعني: رَقِيَ على المروة، وقرأ من الذكر والدعاء كما فعل على الصَّفا، "حتى إذا كان آخرُ طَوَافه على المَرْوة"؛ يعني: سعى بين الصَّفَا والمَرْوة سبعَ مَرَّات، وكان آخر السبعة بالمروة. قوله: "لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أَسُقِ الهدي وجعلتها عُمْرةً"؛ يعني: لو كان العزمُ الذي ظهرَ لي في هذه الساعة حصلَ لي عند خروجي من المدينة لما استصحبتُ الهَدْيَ معي، بل جئتُ بغير هَدْيٍ، وجعلتُ إحرامي مصروفًا إلى عُمْرةٍ وفرغتُ منها، ثم أحرمتُ إحرامًا آخَر للحَجِّ، ولكن لمَّا كان معي الهَدْيُ لم أقدِرْ أن أجعلَ ما أحرمتُ به عمرة، فمن لم يكن منكم معه هديٌ وأحرمَ بالعمرة فليخرُجْ من إحرامه بعد فراغِه من أفعالِ العمرة، وقد أبيحَ له ما حُرِّمَ عليه بسبب الإحرام حتى يستأنفَ إحرامًا للحَجِّ. اعلم أن أبا حنيفةَ قال: مَنْ أحرمَ بالعمرة وكان معه الهديُ لا يجوز له أن يخرجَ من الإحرام بعد فراغه من أفعال العمرة، بل يَلزَمُه أن يُدخلَ الحج في العمرة ويتمَّ الحجَّ، وإن لم يكن معه هديٌ جاز له أن يخرجَ من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة ثم يستأنفَ إحرامًا للحجِّ وذلك لقولِه عليه السلام: (لو أني استقبلت من أمري ...) إلى آخره. وقال الشافعي: يجوز لمن أحرمَ بالعمرة أن يخرجَ من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة، سواءٌ كان معه هديٌ أو لم يكن، وتأويلُ هذا الحديث أنه استحبابٌ غيرُ لازم، وقد قلنا: إنَّ الصحابةَ اختلفوا في أن النبي عليه السلام كان مفرِدًا في حَجِّه، أو متمتِّعًا أو قارنًا، وأصحُّ الروايات عند الشافعي وأبي حنيفة، وكثيرٍ من أهل العلم أنه كان متمتِّعًا، هكذا أورده محيي السنة. قوله: "لو استقبلتُ من أمري"؛ أي: لو علمتُ قبلَ هذا ما استدبرتُ؛ أي: ما علمتُ بعد وصولي إلى هذا المكان.

قوله: "دخلتِ العمرةُ في الحجِّ مرتين لا بل لأبدٍ"، يريد بدخولِ العمرة في الحج القِرانَ؛ يعني: يجوز أن يحجَّ بالعمرة ثم يدخلَ الحجَّ في إحرام العمرة حتى يكون قارنًا، فهذا يجوزُ إلى يوم القيامة، ويحتملُ أن يريدَ بدخول العمرة في الحجِّ دخولَ العمرة في أيام الحج، يعني: يجوز أن يحرمَ بالعمرة في أيام الحج ويفرُغَ منها، ثم يُحرِم بالحج، ولم يجوِّزْ هذا الفعلَ أهلُ الجاهلية، بل يحسَبون العمرةَ في أيام الحج من أعظم الكبائر، فقال رسول الله عليه السلام: "دخلت العمرة في الحج حتى يعلموا جَوازه". قوله: "ببُدُنِ النبيِّ عليه السلام". (البُدُن) بضم الباء والدال وبضم الباء وسكون الدال: جمعُ بَدَنة، وهو ما يُذبَح في الحجِّ، وما للقُرْبان من الإبل. قوله: "اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"، هذا يدلُّ على جواز تعليقِ إحرامِ الرجل على إحرامِ غيرِه كما في هذا الحديث. قوله: "فإنَّ معي الهَدْيَ، فلا تَحِلُّ"؛ يعني: إذا عَلَّقْتَ إحرامك بإحرامي، فإن أحرمتُ بالعمرة ومعي الهَدْيُ فلا يَحِلُّ أن تخرجَ من العمرة، بل أدخلت الحج في العمرة فلا تخرج من الإحرام كما لا أخرج حتى نفرُغَ من العمرة والحج. قوله: "فحَلَّ الناس"؛ يعني: خرجَ من الإحرام مَنْ أحرمَ بالعمرة ولم يكن معه هَدْيٌ بعد الفراغ منها وقَصَّروا، فأما مَنْ أحرمَ بالحَجِّ وجمع بين الحَج والعمرة - أعني: كان قارنًا - لم يخرجْ من الإحرام. "فلمَّا كان يومُ التروية"، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، خرجوا جميعًا من مكة إلى مِنًى، ويُسمَّى هذا اليوم يومَ التروية. (الترويةُ): سقيُ الماءِ بَقدْرِ زوالِ العَطَش، والترويةُ: التفكُّر، قيل: يسمَّى

يومُ الثامن من ذي الحجة يومَ التروية؛ لأن إبلَ الحُجَّاج رُوِيَتْ في هذا اليومِ بعدَ عطشِها في الطريق. وقيل: سُمِّيَ يومَ التروية؛ لأن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ليلةَ ثامن ذي الحجة ذَبْحَ إسماعيل، وجعلَ يومَ الثامن يروي؛ أي: يُفَكِّرُ في رُؤْياه أنه كيف يصنع؟ حتَّى جزَمَ عزمَه يوم العاشر بذبح إسماعيلَ عليه السلام. قوله: "فأهلوا بالحج"؛ أي: أحرمَ بالحجِّ مَنْ خرجَ من الإحرام بعد الفراغ من العمرة، وركبَ النبيُّ عليه السلام؛ يعني: ركبَ النبيُّ عليه السلام وسار من مكة إلى منًى يومَ التروية، وصلَّى بمنًى في هذا اليوم الظهرَ، وكان هناك حتى صلَّى الفجرَ يومَ التاسع. قوله: "بنمِرَة"، (نَمِرَة): اسمُ موضعٍ قريبٍ من عَرَفَة. "زاغَتِ الشمسُ"؛ أي: مالت الشمس، فدخلَ وقتُ الظُّهر. "فأمر بالقَصْوَاءِ"؛ أي: أمرَ بعضَ أصحابه بإحضارِ القَصْواءِ، وهي ناقةٌ له - صلى الله عليه وسلم - مقطوعةُ الأذن. "فرُحِلَتْ"؛ أي: وُضعَ عليها الرَّحْلُ. "بطن الوادي": موضعٌ بعَرَفَة. قوله: "كحرمة يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا"؛ أي: في ذي الحِجَّة. (يومكم هذا)؛ أي: يوم عَرَفة، والمراد به أيام الحج كلُّها؛ يعني يُحرَّمُ في هذه الأيام على المُحْرِمين قتلُ الصَّيد، والطِّيبُ، ولُبْسُ المَخِيط، وغيرُها، ويُحَرَّمُ في يوم العيد وأيام التَّشرِيق الصَّوْمُ أيضًا. (في شهركم هذا)؛ أي: في ذي الحجة.

(في بلدكم)، إشارة إلى مكة وحواليها من أرض الحَرَم؛ يعني: دماؤكم وأعراضكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كالقتل المُحرَّم وغيرِه من الفواحش في هذا اليومِ والشهرِ والبلدِ، محرَّمٌ أشدَّ التحريم، فالمُحرَّم في الأشهرِ الحُرُم هو القتالُ، وقد نُسِخَ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. وأما المحرَّمات في مكة فيأتي في حرمِ مكةَ بحثُه. قوله: "ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية موضوعٌ تحتَ قَدَمَيَّ"؛ يعني: عفوتُ كلَّ شيءٍ فعلَه رجلٌ قبلَ الإسلام؛ يعني: لا يؤاخذُه بعد إسلامه بما فعلَه في الجاهلية، ودماءُ الجاهلية موضوعةٌ؛ يعني: لا قصاصَ ولا ديةَ ولا كفارةَ على مَنْ قتلَ أحدًا في الكفر بعد ما أسلم. قوله: "وإنَّ أولَ دمٍ أضعُ من دمائنا"؛ يعني عفوت القصاص والدية والكفارة عمن قُتِلَ من أقاربنا حتى تعلموا أنه لا فرق في حكم الله بين من قتل قرشيًّا أو غيره في الكفر، فإذا أسلم فلا شيء عليه، كابن ربيعة بن الحارث. قوله: "دم ابن ربيعة بن الحارث وكان مسترضعًا"؛ أي: وكان صغيرًا في قبيلة بني سعد له ظِئرٌ تُرْضعُه، فقتلته هُذَيل. (الاسترضاعُ): استئجار أحدٍ للإرضاع. قوله: "وربا الجاهلية موضوعةٌ"؛ يعني: كلُّ قرض أعطاه الرجلُ ليأخذَ أكثرَ مما أعطاه فقد سقطت الزيادة، ولا يجوزُ له أن يأخذَ إلا ما أعطاه وتحرمُ عليه الزيادةُ. قوله: "فاتقوا الله في النساء"؛ يعني: اتقوا الله في أمر النساء فلا تؤذوهنَّ بالباطل، "فإنكم أخذتموهن بأمانةِ الله"؛ يعني: هنَّ إماءُ الله، فإذا تزوجتموهنَّ فكأنَّ الله أعطاكموهنَّ بالأمانة، فإذا آذيتموهنَّ بالباطل فكأنكم نقضتُم عهدَ الله، وخُنْتُم في أمانة الله، "واستحلَلْتُم فروجهنَّ بكلمة الله"؛ أي: تزوجْتموهنَّ بحكمِ

الله وأمرهِ، وإذا تزوجتموهنَّ بحكم الله وبأمر الله فكأنهنَّ بحكمه، فإذا تزوجتموهن بحكم الله فكأنهن مودَعاتٌ وأماناتٌ من الله عندكم. قوله: "ولكم عليهنَّ أن لا يوطِئْنَ فرشَكُم أحدًا تكرهونه". (وَطِئ): إذا ضربَ شيئًا بالرِّجْل، وأوطَأ يُوطِئ إذا حملَ وأمرَ أحدًا بوضْعِ الرِّجْلِ على شيءٍ؛ يعني: ولكم من الحقِّ والأمرِ عليهن ألاَّ يأذَنَّ ولا يتركْنَ أحدًا أن يدخلَ بيوتكم مِمَّن لا محرميةَ بينَه وبينهنَّ، ومنْ كان بينه وبينهن محرميةٌ أيضًا لا يجوزُ أن يتركْنَه ليدخلَ إلا بإذنكم. "فإن فَعلنَ ذلك"؛ أي: فإن أَذِنَّ في دخولِ بيوتكم مَن لا ترضون بدخوله "فاضربوهنَّ ضربًا غيرَ مُبَرِّح"، (التبريحُ): الإيذاءُ؛ يعني: ضربًا لا يقتلُهنَّ، ولا يكسرُ أعضاءَهنَّ، ولا يَلْحَقُهُنَّ منه ضررٌ شديدٌ. قوله: "وأنتم تُسْأَلون عني"؛ يعني: يسألكم ربُّكم يومَ القيامة أن محمدًا عليه السلامِ. هل بلَّغكم رسالتي؟ فما تقولون في ذلك اليوم؟ "يَنْكُتُها"؛ أي: يُشِيُر بها "إلى الناس"؛ يعني: اللهمَّ فاشهد على عبادك، فإنهم أقرُّوا بأني قد بلغتهم رسالتك. قوله: "ثم أَذَّنَ بلالٌ فأقامَ فصلَّى الظهرَ، ثم أقامَ فصلَّى العصر"، اعلم أن الجمعَ بين الظهر والعصرِ يجوزُ بعَرفَةَ لمن كان بينَه وبين وطنه مسافةُ القَصْر، فأما مَن كان بينه وبين وطنه أقلُّ من مسافة القَصْر فلا يجوزُ عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، ويجوز عند مالك، وكذلك البحثُ في الجَمْع بين المغرب والعشاء بمزدلفةَ، فإن صلَّى كلَّ صلاة في وقتها جاز. وقال أبو حنيفة: إن صلَّى المغرب قبل أن يصلَ إلى المزدلفة عليه الإعادة. قوله: "ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا"؛ يعني: لم يُصَلِّ بين الظهر والعصر شيئًا من السُّنَن والنوافل كي لا يقطعَ الجمع؛ لأن الموالاةَ بين الصلاتين واجبٌ،

ولا يجوزُ التفريق بينهما إلا بقدْرِ الإقامة. قوله: "وجعلَ حَبْلَ المُشَاةِ بين يديه"، و (حَبْلُ المُشَاةِ): اسمُ موضعٍ من الرَّمْلِ مرتفعةٍ كالكثبان، وإنما أضافها إلى الماشي لأنه لا يقدر أن يصعَدَ إليها إلا الماشي. قوله: "وأَرْدَفَ"؛ أي: وأَرْكَبَ. "ودَفَعَ"؛ أي: ذهبَ. "ولم يُسَبح"؛ أي: ولم يصلِّ بين المغرب والعشاء، "شيئًا" من السنن والنوافل. "حتَّى أَسْفَرَ"؛ أي: حتى أضاءَ، "جِدًّا"؛ أي: على الحقيقة؛ أي: حتى أضاء إضاءةً تامة. قوله: "حتى أتى بطن الوادي مُحَسِّرٍ، فحرَّكَ قليلًا". بطن مُحَسِّر ووادي مُحَسِّر كلاهما واحدٌ، وهو اسم موضعٍ من مزدلفةَ ويسمَّى مُحَسِّرًا بكَسْرِ السينِ؛ لأن التحسيرَ الإتعابُ، وهذا الموضعُ يحسِّرُ السالِكين ورواحلَهم لسرعتهم في هذا الموضع، وسبب تحريك لنبيِّ عليه السلام ناقتَه في هذا الموضعِ اشتياقُه إلى منًى، أو إسراعُه في أداء العبادات المأمورةِ بمنًى، وهذا كما جاء أنه عليه السلام إذا رجعَ من عرفةَ ورأى المدينة حَرَّكَ دابَّتَه مِن حبِّ المدينة. قوله: "حَصَى الخَذْف"، (الحَصَى): جمعُ حصاةٍ، وهي الحَجرُ الصغير، (الخَذْفُ): الرميُ برؤوس الأصابع؛ يعني: رمى بالحِجارِ الصِّغَارِ بقدْرِ ما يَرميه الرجلُ برؤوسِ أصابعِه؛ يعني: بقدْرِ الباقِلاَّءِ ونواةِ التمر، والموضعُ الذي رمى فيه في هذا اليوم - أي: يوم النَّحْر - وهو جَمرةُ العَقَبة.

"ثم انصرف"؛ أي: رجع من جَمْرة العَقَبة "إلى المَنْحَر"، وهو الموضعُ الذي يُنْحَرُ؛ أي: يُذْبَحُ فيه الهديُ والأُضحيةُ، "فنحرَ ثلاثًا وستين بيده"؛ يعني: نحرَ رسولُ الله عليه السلام ثلاثًا وستين أُضْحِيةً بيده، وإنما نحرَ هذا القَدْرَ؛ لأن عمرَه في ذلك الوقت ثلاثٌ وستون سنةً، فنحرَ عن كلِّ سنةٍ أُضْحِيةً. ثم "أعطى عليًا - رضي الله عنه - فنحرَ ما غَبَرَ"، (غبَر)؛ أي: بقيَ؛ يعني أعطى رسولُ الله عليه السلام عليَّ بن أبي طالب من إبلِ ضحاياه إلى تمامِ مئةٍ، وهو سبعةٌ وثلاثون. "وأَشْرَكَه في هَدْيهِ"؛ أي: وأشركَ رسولُ الله عليه السلام عليًا في هَدْيهِ؛ أي: أعطاه بعضَ الهدايا لينحرَه عن نفسه؛ لأنه لم يكن له هَدْيٌ في تلك الحَجَّة. "ببَضْعةٍ" بفتح الباء؛ أي: بقِطْعة. قوله: "فأكلا من لَحْمِها وشَرِبَا من مَرَقِها"، الضميرُ المؤنَّثُ يعود إلى القِدْر؛ لأنها مؤنثٌ سماعي، وإنما أكلا لأن ما نحره عليه السلام كانَ تطوُّعًا، وكلُّ هَدْيٍ أو أُضْحِيةٍ يجوزُ أن يأكلَ صاحبُه منه إذا كان تطوُّعًا، وإن كان واجبًا لا يجوزُ عند الشافعيِّ سواءٌ وجبَ بالتمتُّع أو القِران أو جزاء الصيد أو النَّذْر وغيره. وقال أبو حنيفة: إن وجبَ بالتمتع أو القِران يجوزُ أن يأكلَ منه، وإن وجب بسبب آخرَ فلا يجوز أن يأكل منه. وقال مالك: إن وجب بقتل الصيد أو بالنَّذْر أو بالحَلْقِ لدفع القَمْلِ لا يجوز أن يأكل منه، وإن وجب بسببٍ آخرَ يجوزُ أن يأكلَ منه. قوله: "فأفاضَ إلى البيت"؛ أي: مشى إلى الكعبة لطوافِ الفَرْضِ. قوله: "فأتى بني عبدِ المطَّلِب"، يعني عباس بن عبد المطلب، ومتعلقيه

"يَسْقُون على زمزم"؛ يعني ينزعون الماءَ من بئر زمزم ويسقُون الناس. "فلولا أن يغلبَكم الناسُ على سِقايتكم لنزعتُ معكم"؛ يعني: هذا عملٌ صالحٌ، وأرغبُ فيه من كثرة ثوابه إلا أن أخاف لو أنزع الماء بنفسي من هذا البئر لوافقني خلقٌ كثيرٌ ولرغب فيه خلق كثير وازدحموا عليه حتى يخرجوكم منه، فلأجل هذا السبب لا أنزع. "فناولوه"؛ أي: أعطَوه دلوًا فشربَ منه، فصار الشرب من بئر زمزم سُنَّةً. قصة حفر بئر زمزم: قال عبد المطلب جدُّ النبي عليه السلام: بينما أنا بين النائم واليقظان إذ هتفَ بي هاتفٌ، وأمرني بحفر بئر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: بئرٌ لا يَنزِفُ ماؤها ولا ينقصُ فورانُها، يسقي الحجيجَ الأعظم مدى الدهر، ويتبرَّكُ به المُقيمُ والقادم، فخرجتُ مسرِعًا، وقد صحَبني ولدي الحارثُ، ولم يكن لي يومئذ ولدٌ غيرُه، وأتيتُ الحارثَ فوجدتُ غرابًا ينقُرُ بين إسافٍ ونائلةَ، فعمدتُ إلى ذلك الموضع وحفرتُه بأسهلِ ما يكون من غير لحوقِ مشقَّةٍ، فلمَّا بدا لي الماءُ كالعين الغزيرة الفَوَّارةِ كَبَّرْتُ، وحمدتُ الله على ما أنعمَ به عليَّ. شرح مُشْكِلاتِ هذه القصة: "هتفَ بي هاتفٌ"؛ أي: دعاني. "لا ينزفُ"؛ أي: لا يفنى. "فورانُها"؛ أي: غليانها وغلبتُها. "يسقي الحجيجَ الأعظمَ"؛ يعني: تشربُ منه القافلةُ العظيمةُ التي تحجُّون بيت الله. "يَنْقُرُ"؛ أي: يحفرُ في الأرض لأعلمَ أن ذلك الموضع موضع بئر زمزم.

"إسافٌ ونائلةُ": اسما صنمين كانا في ذلك الموضع. "الغزيرة"؛ الكثيرةُ، (الفَوَّارة) مثل الفَوَران. * * * 1842 - وقالت عائشة رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ولَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُما". وفي روايةٍ: "فلا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ بنحْرِ هَدْيهِ، ومَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ". وقالَتْ: فَحِضْتُ، ولَمْ أَطُفْ بالبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَلَمْ أَزَلْ حائِضًا حتَّى كانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، ولَمْ أُهِلَّ إلاَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أنْقُضَ رَأْسي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بالحَجِّ، وأَتْرُكَ العُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ حتَّى قَضَيتُ حَجَّتي، بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحمنِ بن أَبِي بَكْرٍ، وأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكانَ عُمْرَتِي مِنَ التَّنْعِيم، قالت: فَطَافَ الذينَ كانُوا أَهَلُّوا بالعُمْرَةِ بالبيتِ وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا بَعْدَ أن رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وأَمَّا الذينَ جَمَعُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإنَّما طافُوا طَوَافًا واحِدًا. قوله: "ومن أهلَّ بعمرةٍ ولم يُهْدِ فليَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بعمرةٍ وأهدى فلْيُهِلَّ بالحجِّ مع العمرة"؛ يعني: من أحرم بالعمرة ومعه الهَدْيُ فليُدْخِلِ الحجَّ في العمرة ليكونَ قارنًا، وقد تقدَّم بحث هذا في الحديث المتقدِّم. "ثمَّ لا يَحِلُّ حتى يحلَّ منهما"؛ يعني: لا يخرج من الإحرام، ولا يحلُّ له شيءٌ من محظورات الإحرام حتى يُتِمَّ أفعالَ العمرة والحجِّ جميعًا؛ أي: حتى

يفعلَ ما يفعلُه القارِنُ. قوله: "حتى يَحِلَّ بنحر هَدْيه"؛ أي: حتى يأتيَ يومُ العيدِ، فإنه لا يجوزُ نَحْرُ الهَدْيِ قبل يوم العيد. قولها: "فأمرني رسول الله عليه السلام أن أنقضَ من رأسي"؛ يعني: كنت أحرمتُ بالعمرة فحضتُ، فلم أقدرْ على الطواف والسعي للعمرة، فأمرني رسول الله عليه السلام أن أخرجَ من إحرام العمرة، وأتركَ العمرة، وأستبيحَ محظوراتِ الإحرامِ، وأُحْرِمَ بعد ذلك بالحجِّ، وأُتِمَّ الحجَّ، فإذا فرغَ من الحجِّ أحرم بالعمرة، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس هذا الحديث أنه عليه السلام أمرَها بتركِ العمرة، بل معناه أنه أمرها بتركِ أعمالِ العمرة بين الطَّوَاف والسَّعْي، وأمرها أن تدخلَ الحجَّ في العمرة لتكون قارِنةً، وأما عمرتُها بعد الفراغ من الحجِّ كانت تطوُّعًا لتطيبَ نفسُها؛ كي لا تظنَّ لحوقَ نقصانٍ عليها بتركها أعمالَ عمرتِها الأولى. ويجوزُ للقارنِ طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ للعمرة والحجِّ عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لزمَه أن يطوفَ طوافين: أحدُهما: قبل الوقوف بعرفة للعمرة، والثاني: بعد الوقوف للحج. قولها: "ثم طافوا طوافًا بعد أن رجعوا مِن مِنًى"؛ يعني: طاف الذين أفردُوا العمرةَ عن الحجِّ طوافين: طوافًا للعمرة، وطوافًا بعد أن رجعوا للحجِّ في يوم النَّحْرِ بعد أن رجعوا من مِنًى إلى مكة. "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافًا واحدًا" يومَ النَّحْرِ للحج والعمرةِ جميعًا. * * *

1843 - وقال عبد الله بن عُمر: تَمَتَّعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فساقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وبدأَ فَأَهَلَّ بالعُمْرَة، ثمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ فتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فكانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، ومِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قالَ للنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فإنَّهُ لاَ يَحِلُّ من شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضيَ حَجَّهُ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ، ولْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةً إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ"، فَطَافَ حينَ قَدِمَ مَكَّةَ، واَسْتَلَمَ الرُّكْنَ أوَّلَ شيءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثلاثةَ أطْوافٍ، ومشَى أرْبعًا، فَرَكَعَ حينَ قَضَى طَوافُهُ بالبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فاَنْصَرَفَ، فَأَتى الصَّفَا، فطافَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وأَفاضَ فطافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وفعَلَ مِثْلَ ما فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ ساقَ الهَديَ مِنَ النَّاسِ. قوله عليه السلام في حديث ابن عمر: "ثم ليُهِلَّ بالحج". و (لِيُهِلَّ)؛ يعني: من قدمَ العمرةَ وأتمَّها وخرَج ثم أحرمَ بالحجِّ فهو متمتِّعٌ، ولزمه دمٌ لتقديمه العمرةَ على الحجِ في أشهر الحج، فمن لم يجد الهَدْيَ فليصُمْ ثلاثةَ أيام في الحج قبل يوم النَّحْرِ، وسبعةَ أيامٍ إذا رجع إلى وطنه، وكذلك يَلزمُ دمٌ على القارن، وإنما يلزمُ على المتمتِّع إذا كانت عمرتُه في أشهرِ الحج، وإذا حجَّ في تلك السنة، وإذا أحرم بالحج من جوف مكةَ، ولا يخرج لإحرام الحج إلى الميقات، وإذا كان من غيرِ حاضري المسجدِ الحرام، واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فقال مالك: هم أهل مكة. وقال أبو حنيفة: من كان وطنُه في الميقات أو بينَ الميقات وبين مكة.

وقال الشافعي: مَنْ كان بين وطنِه وبين مكةَ أقلُّ من مسافةِ القَصْرِ فهو من حاضري المسجد الحرام. قوله: "واستلم الرُّكْنَ"؛ أي: مسحَ الحجرَ الأسودَ بيده. قوله: "ثم خبَّ ثلاثة أَطْوافٍ، ومشى أربعًا". (خبَّ): أي: أسرعَ في ثلاثِ مرات ومشى على السكون في أربع مرات، وسبب إسراعِه في الثلاثةِ الأُوَل إظهارُ الجَلاَدة والرُّجولية عن نفسه، وعمن معه من الصحابة كي لا يظنَّ الكفارُ أنهم عاجزون ضعفاءُ، ولهذا لم يُسَنَّ الرَّمَلُ إلاَّ أولَ ما تقدمُ مكةَ، فأما بعد ذلك فكلُّ طوافٍ يطوفُه فلا رَمَلَ فيه، بل يمشي في المرات السبع، ولو ترك الرَّمَلَ فلا شيءَ عليه إلا عند سفيانَ الثوري رحمه الله فإنَّه يوجبُ عليه دمًا. * * * 1844 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذِهِ عُمْرَةٌ اَسْتَمْتَعْنَا بِها، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الهَدْيُ فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، فإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القيامَةِ". قوله: "هذه عُمرةٌ استَمْتَعْنا بها، فمن لم يكنْ عندَه الهَدْيُ فليَحِلَّ الحِلَّ كلَّه، فإن العمرةَ قد دخلت في الحجِّ إلى يوم القيامة". ومعنى (الاستمتاع) هنا: تقديمُ العمرةِ والفراغُ منها، واستباحة محظوراتِ الإحرامِ بعد الفراغِ من العمرةِ حتى يُحْرِمَ بعد ذلك بالحج. قد قلنا فيما تقدم أنه اختلفت الرواياتُ في أن رسولَ الله عليه السلام كان متمتِّعًا أو قارنًا أو مفرِدًا، فمن قال: كان متمتِّعًا هذا الحديث ظاهرٌ على قوله؛ لأنه يكون معناه: استمتعتُ بأن قدمتُ العمرةَ على الحج، ومن قال: كان قارنًا يحتاجُ إلى تأويل.

4 - باب دخول مكة والطواف

قوله: "استمتعنا"؛ ومعناه على قوله: استمتع من امرأته بتقديمِ العمرةِ على الحجِّ من أصحابي فأضاف فعلهم إلى نفسه؛ لأنَّ فِعْلَ مَن فعلَ شيئًا بأمره كفعلِه، كما روي أنه - عليه السلام - رجم ماعزًا، وقد أمرَ برجْمه، لا رَجَمه هو بنفسه. قوله: "فإن العمرةَ قد دخلتْ في الحجِّ إلى يومِ القيامة"؛ يعني: تقديم العمرة على الحجِّ ليس مختصًّا بهذه السنة، بل يجوزُ في جميع السِّنين. * * * 4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطَّواف (باب دخول مكة والطواف) مِنَ الصِّحَاحِ: 1845 - قال نافِع: إنَّ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - كانَ لا يَقدَمُ مَكَّةَ إلاَّ باتَ بذِي طُوَى حثَّى يُصْبحَ، ويَغْتَسِلُ، وَيدْخُلُ مَكَّةَ نهارًا، وإذا نَفَرَ مَرَّ بذِي طُوًى، وباتَ بها حتَّى يُصْبحَ، ويَذْكُرُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يفعلُ ذلك. قوله: "إلا بات بذي طُوَى"، (ذي طُوَى): اسم بئر عند مكة في طريق أهل المدينة، يعني: إن وصل إلى ذلك الموضع في الليل، لم يدخل مكةَ في الليل، بل بات في ذلك الموضع حتى أصبحَ واغتسلَ، ثم دخلَ مكةَ، فالأفضلُ في دخول مكة أن يدخلَ نهارًا ليرى البيتَ من البعد، ويدعوَ كما يجيءُ بعد هذا؛ فلو دخلَ ليلًا يفوت عنه هذه السنة. * * *

1847 - عن عُرْوَةُ بن الزُّبَيْر: قَدْ حَجَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَخْبَرَتْنِي عائشةُ رضي الله عنها أنَّ أَوَّلَ شيءٍ بدأَ بِهِ حينَ قَدِمَ أَنَّهُ توضَّأَ، ثُمَّ طافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فكانَ أَوَّلَ شيءٍ بدأَ بِهِ الطَّوافُ بالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ مِثْلَ ذلك. قوله: "أول شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ أنه توضَّأَ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكنْ عُمْرةٌ"؛ يعني: بدأ بالطَّواف حين دخلَ مكةَ. قوله: "ثم لم تكن عمرة"؛ أي: لم يكنْ مُحْرِمًا بالعمرة بل كان مُحْرِمًا بالحج، فعلم من هذا أن السُّنَّة للحاجَّ الابتداءُ بالطواف قبل أن يصنعَ شيئًا آخر، ويسمَّى هذا الطوافُ طوافَ القُدُوم. * * * 1848 - وقال ابن عمر: كانَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طَافَ في الحَجِّ أو العُمْرَةِ أَوَّلَ ما يَقْدَمُ سَعَى ثلاثةَ أَطْوافٍ، ومشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. قوله: "ثم سجد سجدتين"؛ أي: يصلِّي ركعتين. * * * 1849 - وقال: رَمَلَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا، ومَشى أَرْبَعًا، وكانَ يَسْعَى بين المِيْلَينِ بَطْنَ المَسِيلِ إذا طَافَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. قوله: "من الحَجَر إلى الحَجَر"؛ أي: ابتدأ من الحجر الأسود، وأسرع حتى وصل إلى الحجر الأسود، فعلَ كذلك ثلاثَ مرات. قوله: "وكان يسعى بَطْنَ المَسِيل"، (بطنُ المسيلِ): اسمُ موضعٍ بين

الصَّفا والمَرْوة، يعني: إذا نزل من الصَّفَا يمشي على السكون، حتى وصل إلى بطنِ المَسِيل، ثم يسعى سعيًا شديدًا، حتى يصلَ إلى آخرِ بطنِ المَسِيل. * * * 1850 - وقال جَابرِ - رضي الله عنه -: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الحَجَرَ فَاَسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى على يمينِهِ، فرَمَلَ ثَلاثًا، ومشَى أَرْبَعًا. قوله: "ثم مشى على يمينه"؛ يعني: المشيُ على يمينِ الحجرِ الأسود واجبٌ، يعني: يدورُ حولَ الكعبة بحيثُ تكونُ الكعبةُ على يساره، فلو دار على يسارِ الحجر بحيث تكون الكعبةُ على يمينه، أو توجَّهَ بوجهه إلى الكعبةِ في جميع الطَّواف لم يصحَّ طوافُه. وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه -: لو لم يُعِدْ ذلك الطواف حتى خرجَ من مكةَ أجزأَه ذلك الطوافُ، وعليه دم. * * * 1852 - وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لَمْ أَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ. قوله: "لم أر النبي - عليه السلام - يستلمُ من البيت إلا الركنين اليمانيين"، وإنما استلم - عليه السلام - الركنين اليمانيين؛ لأنهما بقيا على بناءِ إبراهيم عليه السلام، وأراد بالركنين اليمانيين الركنين اللَّذين على جانب اليَمَن، ولم يَسْتَلِم الركنين اللَّذين على جانب الشام؛ لأنهما لم يبقيا على بناء إبراهيم عليه السلام. * * *

1853 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: طافَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ على بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. قوله: "طاف النبي - عليه السلام - على بعير"، هذا يدلُّ على أن الطوافَ راكبًا يجوزُ، ولكنَّ طوافَ الراجلِ أفضلُ، وإنما طافَ رسول الله - عليه السلام - راكبًا ليراه الناسُ، ليسألوه ما يحتاجون إليه من المسائل. قوله: "يستلم الرُّكْنَ"؛ أي: الحجر الأسود. "بمِحْجَن"؛ أي: بعصًا معوجِّ الرأس مثل الصَّوْلَجان. * * * 1856 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَذْكُرُ إلاَّ الحَجَّ، فلمَّا كُنَّا بِسَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأَنا أَبْكِي، فقالَ: "لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ "، قلتُ: نعم، قال: "فإنَّ ذلكَ شيءٌ كَتَبَهُ الله على بناتِ آدَمَ، فاَفْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أنْ لا تَطُوفِي بالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي". قول عائشة: "لا نذكر إلا الحج"، لا ننوي ولا نُحْرِمُ إلا بالحجِّ. قولها: "بسَرِف"؛ سَرِف - بفتح السين المهملة وكسر الراء المهملة -: اسم موضع بينه وبين مكة عشرةُ أميال. "طَمِثْتُ"؛ أي: حِضْتُ. وقوله: "نَفِسْتِ"، بفتح النون وكسر الفاء، نَفِسَ على بناء المعروف: إذا حاض، ونُفِسَ على بناء المجهول: إذا وَلَدتْ. "فافعلي ما يفعلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تطوفي بالبيت حتى تَطْهُري"؛ يعني: يجوز للحائض جميعُ أفعال الحاجِّ غيرَ الطوافِ؛ لأن الطوافَ لا يجوز بغير الوضوء، فكيف يجوز للحائض؟

ولأن الكعبة في المسجد، وطوافَها لُبثٌ في المسجد، ولا يجوز اللُّبثُ في المسجد للحائض والنُّفَساء والجُنُب، ولا يفوتُ الطَّوَاف، بل إذا طَهُرت المرأة من الحيض تطوفُ؛ لأن أولَ وقتِ طوافِ الفَرْضِ بعد نصفِ ليلةِ العيد، وآخرَه غيرُ مؤقَّت، بل يجوز في أيِّ وقتٍ شاء. * * * 1857 - وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ - رضي الله عنه - في الحَجَّةِ التي أَمَّرَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا قبْلَ حَجَةِ الوَداعِ يَوْمَ النَّحْرِ في رَهْطٍ يُؤَذِّنُ في النَّاسِ: أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفُ بالبَيْتِ عُرْيانٌ. قوله: "أَمَّره النبي عليه السلام"، بتشديد الميم؛ أي: جعلَه أميرَ قافلةِ الحجِّ في السنة التاسعة من الهجرة، الضميرُ في (عليها) يعودُ إلى الحَجَّة. * * * مِنَ الحِسَان: 1858 - سُئِلَ جابر - رضي الله عنه - عَنِ الرَّجُلِ يَرى البَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟، قال: قد حَجَجْنَا معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ نَكُنْ نَفْعَلُهُ. قول جابر: "قد حججنا مع النبي عليه السلام، فلم نكنْ نفعله"؛ يعني: لم يرفع النبي - عليه السلام - يديه عند رؤية الكعبة، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك. وقال أحمد وسفيان الثوري: يرفع اليدين مَن رأى البيتَ، ويدعو. * * * 1860 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّوَافُ حَوْلَ

البَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ إلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فيهِ فلا يَتَكَلَّمَنَّ إلاَّ بِخَيْرٍ". ووقفَه الأكثَرون على ابن عباس. قوله: "الطوافُ حولَ البيت مثلُ الصلاة"؛ يعني: كما أن الصلاةَ لا تجوزُ إلا بالوضوء وستْرِ العورة، وطهارةِ البدَن عن النجاسة، فكذلك الطوافُ لا يجوزُ إلا بهذه الأشياء، فإن طافَ مُحْدِثًا أو مكشوفَ العورة أو نَجِسًا لا يجوزُ طوافه. وقال أبو حنيفة: لَزِمَ الإعادةُ؛ فإن لم يُعِد حتى خرجَ من مكة؛ لَزِمَ دمُ شاةٍ، وصحَّ طوافُه، ويجوزُ الكلامُ في الطَّوافِ، بخلافِ الصلاة. * * * 1861 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبن، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بني آدَمَ"، صحيح. قوله: "نزلَ الحجرُ الأسودُ من الجَنَّة وهو أشدُّ بياضًا من اللَّبن، فسوَّدتْه خطايا بني آدم". معنى هذا: أنه جاء في الحديث: أنَّ مَسْحَ الحجرِ الأسودِ يُنقِّي الذنوبَ حتى انتقلت ذنوبُ الحُجَّاجِ من أبدانهم إلى الحَجَر الأسود، فصار أسودَ، وهذا شيءٌ يقبلُه المؤمنُ بالإيمان تصديقًا لقول النبيِّ عليه السلام. وفي هذا الحديث فوائدُ كثيرة: إحداها: تخويفُ الأمة، فإنَّ الرجلَ إذا عَلِمَ أن الذنبَ يسوِّدُ الحجرَ يحترزُ مِن الذنب كي لا يسْودَّ بدنُه بشؤم الذَّنْب. والثانية: تحريضُ الأمة على التوبة كي لا يجتمعَ الذنبُ عليهم فتسْوَدَّ أبدانُهم.

والثالثة: ترغيبُهم على مَسْحِ الحجر الأسود؛ لينالوا بركَته، ولتنتقلَ ذنوبُهم من أبدانهم إليه. والرابعة: امتحانُ إيمانهم، فإنْ كان كاملَ الإيمان يَقبَلُ هذا بلا تردد، وضعيف الإيمان يتردَّد فيه، والكافر يُنْكِرُه. * * * 1862 - وعنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحَجَرِ: "والله لَيَبْعَثَنَّهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، ولِسانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ على مَنِ اَسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ، وعلى مَنِ استلَمَهُ بغير حقٍّ". قوله: "يشهَدُ على من استلمَه بحقٍّ"، (على) ها هنا بمعنى اللام؛ لأن (اللام) للنفع و (على) للضرر، يعني: منِ استلمَه عن اعتقادٍ صحيحٍ، وإعزازٍ له، يشهدُ له بخير، ومن استلمَه عن نية الاستهزاء والاستخفافِ يشهَد عليه بِشَرٍّ، ويكون خصمَه يومَ القيامة، وعلى هذا جميعُ المساجد والبقَاع. فمن عظَّم موضعًا شَرَّفَه الله يكون ذلك شفيعًا، ومن حقَّره وفعلَ فيه فِعلًا يتعلَّقُ بالاستهزاء والاستخفاف يكون ذلك الموضع خَصْمًا له يوم القيامة. * * * 1863 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الرُّكْنَ والمَقَامَ ياقُوتَتَانِ مِنْ ياقُوتِ الجَنَّةِ طَمَسَ الله نُورَهُمَا، ولَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهما لأَضَاءَا مَا بين المَشْرِقِ والمَغْرِبِ". قوله: "طمسَ الله نورَهما"؛ أي: أذهبَ الله نورَهما، وعِلَّةُ إذهابِ الله نورَهما؛ ليكون إيمانُ الناس بكونِهما حقًا، ومعظَّمًا عند الله إيمانًا بالغيب، ولو

لم يُطْمَسْ نورُهما؛ لكان الإيمانُ بهما إيمانًا بالشهادة؛ أي: بالمرئي، ولم يكن الإيمان بحقيقتهما إيمانًا بالغيب، والإيمان الموجِبُ للثواب هو الإيمان بالغيب. * * * 1864 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّهُ كانَ يُزَاحِمُ على الرُّكْنَيْنِ، وقال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ مَسْحَهُمَا كفَّارَةٌ لِلخَطايَا"، وسَمِعَتْهُ يقولُ: "مَنْ طافَ بهذا البيتِ أُسْبوعًا يُحْصِيهِ، فيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وما وَضَعَ رَجُلٌ قَدَمًا ولا رَفَعَهَا إلا كتَبَ الله لَهُ بها حَسَنَةً، ومَحَا عَنْهُ بِهَا سَيئَةً ورَفَع لَهُ بها دَرَجَةً". قوله: "يزاحِمُ على الرُّكْنين"؛ يعني: يوقِعُ نفسَه بين الخَلْقِ المجتمعِ عند الحَجَر الأسود، والركنِ اليماني، ويدفَعُ الناسَ بمسحهما. قوله: "من طافَ بهذا البيت أسبوعًا"، (الأسبوعُ): من السبت إلى الجمعة. "يحصيه"؛ أي: يَعُدُّه، يعني: يطوف بالبيت سبعةَ أيام متواليةٍ بحيثُ يَعُدُّه، ولا يتركُه بين الأيام السبعة يومًا، ثم صلَّى على أثر الطَّوافِ كلَّ يومٍ ركعتين "كان كعِتْق رقبة". قال مجاهدٌ وسعيد بن جُبير: الطوافُ بالبيت أفضلُ من الصلاة النافلة. * * * 1866 - عن صَفِيَّةَ بنت شَيْبَة قالتْ: أخْبَرَتْنِي بنتُ أَبي تُجْراةَ قالتْ: دَخَلْتُ مع نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دارَ آلِ أبي حُسِيْنٍ نَنْظُرُ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وإنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعِي، وسَمِعْتُهُ يقولُ: "اَسْعَوْا، فإنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ".

قولها: "وإن مئزَره ليدورُ من شِدَّةِ السَّعْي"؛ يعني: مئزرُه يدورُ حولَ رِجليه، ويلتفُّ برجليه من شِدَّةِ عَدْوِه. "فإن الله كتبَ عليكم السَّعْيَ"؛ أي: فرضَ عليكم السَّعْيَ بين الصَّفَا والمروةِ، ومن لم يَسْعَ لم يَصِحَّ حَجُّه عند الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: السعيُ بين الصَّفَا والمروةِ تطوُّعٌ، وليس من أركانِ الحج. * * * 1867 - عن قُدَامَةَ بن عبد الله بن عَمَّارٍ قال: رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ على بَعِيرٍ، لا ضَرْبَ ولا طَرْدَ، ولا إلَيْكَ إلَيْكَ. قوله: "لا ضَرْبَ ولا طَرْدَ، ولا إليكَ إليكَ"؛ يعني: ليس عادةُ النبي عليه السلام كعادةِ الملوك بأن يَضْرِبَ ويَطْرُدَ الناسَ من حوالَيه، بل يمشي عنده كلُّ مَنْ شاء من الفقير والغنيِّ، والصغير والكبير. قوله: "ولا إليك إليك"؛ يعني: لا يقال لأحد: ابعد ابعد. * * * 1868 - عن ابن يَعْلَى، عن أبيه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ بالبَيْتِ مُضْطَبعًا ببُرْدٍ أَخْضَرَ. قوله: "طاف بالبيت مُضْطَبعًا ببُرْدٍ أخضرَ"، (الاضطباع): أن يَجعلَ وسطَ ردائه تحت عاتقِه الأيمن، ويطرحَ طرفيه على عاتقه الأيسر، وفعلَ هذا لإظهارِ الرجولية كما قلنا في الرَّمَل، والاضطباعُ في الطَّوافِ والسَّعْيِ سُنَّةٌ. * * *

5 - باب الوقوف بعرفة

5 - باب الوُقُوفِ بِعَرَفةَ (باب الوقوف بعرفة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1870 - عن محمد بن أبي بَكْر الثَّقَفِي: أنَّهُ سألَ أَنَسَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - وهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إلى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ في هذا اليَوْمِ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال: كانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ، فلا يُنْكَرُ عليهِ، ويُكَبرُ المُكَبَّرُ مِنَّا، فلا يُنْكَرُ علَيْهِ". قوله: "وهما غَاديَانِ من مِنًى إلى عَرَفَةَ: كيف كنتم تصنعون في هذا اليومِ مع رسول الله عليه السلام، فقال: كان يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فلا يُنْكَرُ عليه". يعني: محمد بن أبي بكرٍ الثقفي، وأنس بن مالك يجيئان يومَ عَرَفَة من مِنًى إلى عرفةَ للوقوف، فسأل محمدُ بن أبي بكرٍ الثقفي أنسَ بن مالك: كيف صنعتم مع رسول الله - عليه السلام - في هذا اليوم؟ - أي: في يوم عرفة -، فقال: بعضنا يُهِلُّ؛ أي: يلبي، فلا يعيبُه أحد. اعلم أن قولَه: "ويكبر منَّا المكبر فلا ينكَرُ عليه" هذا رخصةٌ، يعني: لا إثمَ في التكبير، بل يجوزُ كسائر الأذكارِ، ولكنْ ليس التكبيرُ في يومِ عرفةَ سُنَّةً للحاج، بل السنة للحاج: التلبيةُ إلى رمي جمرةِ العقبة يومَ النحر، وأمَّا لغير الحاجِّ في سائر البلاد التكبيرُ يوم عرفة سُنةٌ عَقِيبَ الصلوات من صبحِ يومِ عرفةَ إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، لِمَا روى جابر بن عبد الله: أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي صلاة الغداة يوم عرفة، ثم يستدبر إلى القبلة فيقول: "الله أكبر الله أكبر، الله كبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، ثم يكبر دبر كل صلاة إلى صلاة العصر من آخر أيام التَّشْريق.

وفي قول: يبتدئ بالتكبير من ظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وفي قولٍ: يبتدئُ بالتكبير من مغربِ ليلةِ العيد إلى صبحِ آخر أيام التشريق، ويُستحبُّ التكبيرُ عَقيبَ صلواتِ الفرض والنَّفْل في هذه الأيام. * * * 1871 - عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَحَرْتُ ها هنا، ومِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ، فاَنْحَرُوا في رِحَالِكُمْ، ووَقَفْتُ هَا هُنَا، وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ". قوله: "نَحَرتُ ها هنا، ومنًى كلُّها مَنْحَرٌ، فانحروا في رِحالِكم، ووقفتُ ها هنا وعَرَفةُ كلها مَوْقِفٌ"، (المَنْحَرُ): موضعُ نَحْر الإبل، يعني: لا يختصُّ نحرُ الهَدْيِ بالمكان الذي نُحِرَتْ فيه، بل يجوزُ نَحْرُ الهَدْيِ في أيِّ موضعٍ كان من أرض الحَرَم، فمنًى كلُّها من أرض الحرم. وكل دمٍ وجبَ على المُحْرِم وجبَ ذبحُه في الحَرَم، ويفرَّقُ لحمُه على مساكينِ الحرم؛ فإن ذبح خارجَ الحرم فأصحُّ القولين: أنه لا يجوز، وفي قولٍ: يجوز، ولكن يجبُ تفريق اللحم على مساكين الحرم. وكذلك يجوزُ الوقوف بأيِّ موضع كان من أرض عَرَفةَ، ولو وقف خارجَ أرضِ عرفَةَ لا يجوزُ وقوفُه عن وقوفِ عَرَفَةَ. * * * 1872 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة، وإنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهِي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقولُ: ما أَرادَ هَؤُلاَءِ؟ ". قوله: "وإنه ليدنو" الضمير في (إنه) يعودُ إلى الله.

(ليدنو): أي: ليَقْرُب. فبعض أهل السنة لا يقول في معنى هذا وأشباهه، وبعضُهم يقول: معناه: دنوُّ رحمتِه، أو نزولُ خِطَابه مع الملائكة. "يباهي بهم الملائكةَ"، الضمير في (بهم) يعود إلى الحُجَّاج، و (المباهاةُ): المفاخرةُ، ومعنى هذا الكلام: أنه تعالى يُعِزُّهم، ويظهرُ فضلَهم وشرفَهم بينَ الملائكة، "فيقول: ما أرادَ هؤلاءِ؟ "؛ أي: فيقولُ الله: أيَّ شيء يريدُ هؤلاءِ الحُجَّاج، فإنْ أرادوا رحمتي ومغفرتي فقد غفرتُ لهم ورحِمْتُهم. هذا الحديث مطلَقٌ، وقد جاء كما قُلْنا في حديثٍ آخرَ. * * * مِنَ الحِسَان: 1873 - عن عَمْرو بن عبد الله بن صفْوان، عن خالٍ له يُقال له: يَزِيْد بن شَيْبَان أنَّه قال: كُنَّا في مَوْقِفٍ لنا بعَرَفَةَ يُباعِدُهُ عَمْروٌ مِنْ مَوْقِفِ الإِمامِ جِدًا، فأَتَانَا ابن مِربَع الأنصَارِيُّ، فقال: إنِّي رسُولُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْكُمْ، يقولُ لَكُمْ: "قفوا على مَشاعِرِكُمْ، فإنَّكُمْ على إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبيكُمْ إبراهيمَ عليه السلام". قوله: "يباعدُه عمرٌو عن موقف الإمام جِدًا"، الضميرُ في (يباعده) يعودُ إلى الموقِف الذي وقفَ فيه يزيدُ بن شيبان. يعني: قال عمرُو بن عبد الله: سمعتُ خالي يزيدَ بن الشيبان أنه قال: كنا وقفْنا في موضعٍ بعرفةَ، قال عمرو: وكان بين ذلك الموقفِ وبينَ موقفِ إمام الحُجَّاج مسافةٌ بعيدة، فجاء ابن مِرْبَع، واسمه يزيد، ولم يعرف أنه روى عني هذا الحديث. "فقال: إني رسولُ رسولِ الله"؛ يعني: أرسلني رسول الله - عليه السلام -

إليكم، ويقول: قِفُوا في أيِّ موضعٍ شئتم من عرفة، سواءٌ كان من أرضِ الحَرَم أو غيره، بشرطِ أن يكونَ من أرض عرفة. "المشاعر": جمع مَشْعَر، وهو المَعْلَم أو غيره؛ أي: موضعُ العبادة. "فإنكم على إرثٍ"، أي: بقية "من إرثِ أبيكم إبراهيمَ"؛ أي: من بقية أفعالِ إبراهيم، يعني: وقوفُ عرفة، وبنيانُ أرضها وحدودها مما بناه إبراهيم - عليه السلام - للحجاج. * * * 1874 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وكُلُّ المُزْدَلِفَة مَوْقِفٌ، وكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ". قوله: "كلُّ مُزْدَلِفةَ موقِفٌ"، (المُزْدَلِفةُ): أصلُها: مزتلفة، وأبدلت التاء دالًا، ومعناه: موضع اجتماع الناس، والمبيتُ بمُزدلِفة ليلةَ العيدِ سُنَّةٌ في قولِ، وفي قولٍ: هو واجب، فمن ذهبَ من مُزْدَلِفةَ نصفَ الليل؛ لَزِمَه دمٌ في القول الذي يقولُ بالواجب وإنْ ذهبَ بعدَ نصفِ الليل؛ فلا شيءَ عليه. وقال أبو حنيفة: لو ذهبَ قبلَ الصبح؛ لَزِمَه دمٌ. وقوله: "كل مزدلفةَ موقفٌ"؛ معناه: في أيِّ موضعِ من مواضعِ مزدلفةَ بات الرجلُ يجوزُ. قوله: "وكل فِجَاجِ مكَة طريقٌ ومَنْحَر"؛ يعني: من أيِّ طرقِ مكةَ يدخلُ الرجل مكةَ جاز، وفي أيِّ موضعِ ينحرُ الهَدْيَ من حوالي مكة في الطريق وغيرها جاز؛ لأنها من أرض الحَرَم. * * *

1875 - عن خالد بن هَوْذَة قال: رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ عَرَفَةَ على بَعِيرٍ قائمًا في الرِّكابَيْنِ. قوله: "قائمٌ في الرِّكَابين"، تقديره: هو قائمٌ في الرِّكابين، قائمٌ خبر مبتدأٍ محذوف، ومعنى هذا الكلام: أنه - عليه السلام - رفَع مَقْعَده من ظهر البعيرِ، وقامَ على الرِّكابين؛ ليراه الناسُ، ويسمعُوا كلامَه من البُعْد. و (الرِّكابُ): الحَلْقة التي يُدخِلُ الفارسُ رجلَه فيها. روى هذا الحديث: خالد بن هَوْذَة. * * * 1876 - عن عَمْرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وخَيْرُ ما قُلْتُ أَنَا والنَّبيُّونَ من قَبْلِي: لا إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ". قوله: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عَرَفَة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلا إله إلا الله وحده ... " إلى آخره. هذا الحديث يشير إلى أن قول: (لا إله إلا الله) من الدعاء، وهو ثناءٌ، فكيف يكون دعاءً؟. جواب هذا الإشكال: أن من ذكرَ الله فقد دعا الله بأي لفظٍ ذكرَه، ولأنَّ مَنْ ذكرَ الله يعطيه الله حاجتَه، وإن لم يطلبْ منه قضاءَ حاجته باللَّفظ؛ لقوله - عليه السلام - حكايةً عن الله: أنه قال: "من شَغَلَه ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضلَ ما أُعْطِي السائلين"، فإذا كان الذكرُ سببَ قضاء الحوائج وتحصيلِ الثواب، فهو كالدعاء. * * *

1877 - عن طَلْحَةَ بن عُبَيْد الله بن كَرِيْز - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رُؤِيَ الشَّيْطانُ يَوْمًا هو فيهِ أَصغَرَ، ولا أَدْحَرَ ولا أَحْقَرَ ولا أَغْيَظَ منهُ يومَ عَرَفَةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وتَجَاوُزِ الله تعالَى عنِ الذُّنُوبِ العِظامِ، إلاَّ ما كانَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ"، فقيلَ: وما رَأَى مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ؟، فقال: "إنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ وهو يَزَعُ الملائِكَةَ"، مُرسَلٌ. قوله: "ما رُئِيَ الشيطانُ يومًا هو فيه أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظُ منه يومَ عرفة". الضميرُ في (منه) يعود إلى الشيطان، و (يوم عرفة) منصوبٌ على الظرف؛ أي: الشيطانُ في يوم عرفَة أبعدُ مرادِه منه في سائر الأيام. (أدْحَر) بالحاء المهملة؛ أي: أبعدُ من رحمة الله، ومن مرادِه. وفي بعض النسخ: (أدخر) بالخاء المعجمة، وهو سهوٌ؛ لأن محيي السنة - رحمة الله عليه - شرحَ هذا اللفظَ في "شرح لسنة" بـ (أبعد). وقال: معنى (أدحر): أبعدُ من رحمة الله، ولو كان أدخر - بالخاء المعجمة - لفسره بـ (أذلَّ)، ولم يفسِّره بـ (أبعد). قوله: "ولا أغيظ"؛ أي: ولا أشدُّ غيظًا، يعني: يصيرُ الشيطان يوم عرفةَ ذليلًا وحقيرًا وكثيرَ الغيظ؛ لأنه يرى نزولَ الرحمةِ الكثيرةِ على المسلمين، وهو يكرهُ نزول الرحمة الكثيرة على المسلمين، ويحبُّ نزول الغضب والعذاب، فلما رأى أن الله تعالى يفعل بالمسلمين خلافَ ما يحبُّ الشيطان يصيرُ الشيطان حقيرًا. قوله: "إلا ما كان من يوم بدرٍ"؛ يعني: الشيطانُ في يوم عرفةَ أحقرُ منه في سائر الأيام إلا يومَ بدْر، فإنه كان في يوم بدرٍ أحقرَ منه في يوم عرفةَ؛ لأنه رأى نزولَ الملائكة لمَدَدِ المسلمين، فلمَّا رأى نزولَ الملائكة وانهزامَ

المشركين، وصيرورتَهم عاجزين مقتولين صارَ حقيرًا؛ لأنه يطلبُ إعزازَ المشركين، وغلبتهم على المسلمين، فلم يحصُلْ مطلوبُه. قوله: "يَزَعُ" - بفتح الزاي المعجمة -: كان أصلُه: يوزع فسقطت الواو، ومعناه: يهيئُ ويرتِّبُ صفوفَ الملائكةِ للحرب. روى هذا الحديث: طلحةُ بن عبد الله بن كَرِيز. * * * 1878 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يومُ عَرَفَةَ إنّ الله يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقول: اَنْظُرُوا إلى عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ مِنْ كَل فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فتقُولُ الملائِكَةُ: يا ربِّ! فُلانٌ كانَ يُرهِّقُ، وفُلانٌ وفُلانةٌ، قال: يقولُ الله - عز وجل -: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ". قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَا مِنْ يَوْمٍ أكثرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ". قوله: "إن الله ينزلُ إلى السماء الدنيا"، فبعضُ أهلِ السنةِ لا يفسِّرُ هذا الكلامَ ويقول: لا نعلَمُ معناه، وبعضُهم يفسِّر: بأنه يُنْزِلُ رحمتَه، ويقرِّبُ فضلَه وغفرانَه إلى الحُجَّاج. قوله: "أَتَوني شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّين من كلِّ فجٍّ عَمِيق". (الشُّعْثُ): جمع أشعثَ، وهو متفرِّقُ شعر الرأس من عدمِ غسلِ الرأس، كما هو عادةُ المُحْرِمين. (الغُبْرُ): جمع أغبر، وهو الذي التصقَ الغُبارُ بأعضائه، كما هو عادة المسافرين. (الضَّاجِّين): جمع ضَاجٍّ، وهو اسم فاعل من ضَجَّ: إذا رفع الرجلُ

6 - باب الدفع من عرفة والمزدلفة

صوتَه، والمراد ها هنا: رفعُ الصوتِ بالتلبية، (من كلِّ فجٍّ): أي: من كلِّ طريق (عميقٍ): أي: بعيد. هذه الكلمات أعني: شعثًا وما بعده منصوباتٌ على الحال. قوله: "فتقول الملائكة: يا ربِّ! فلانٌ كان يُرَهِّقُ، وفلانة"، (يُرَهِّقُ) - بضم الياء وفتح الراء المهملة وتشديد الهاء وفتحها -: ينسَبُ إلى فعل المعاصي، وَيرهَقُ - بفتح الياء وسكون الراء المهملة وفتح الهاء -: إذا فعل المعاصي أيضًا. تقول الملائكة: يا ربِّ! فلان وفلانة يفعلان المعاصي، وليسا بأهلٍ أن تغفرَ لهما، فقال الله: قد غفرتُ لهما؛ فإن الحجَّ يهدِمُ ما كان قبلَه من الذنوب. * * * 6 - باب الدَّفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة (باب الدفع من عرفة والمزدلفة) الدَّفْعُ: الذَّهابُ مع كثرة. 1879 - عن هِشَام بن عُرْوةَ، عن أَبيه أنه قال: سُئِلَ أُسامةُ: كيفَ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسِيْرُ في حَجَّةِ الوَداعِ حينَ دَفَعَ؟، قال: كانَ يَسيرُ العَنَقَ، فإذا وجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قوله: "كيف كان رسول الله يَسيرُ"؛ أي: يسيرُ على سرعة أو على سكون؟ قوله: "يسير العَنَق" - بفتح العين المهملة وفتح النون -: سيرٌ متوسِّطٌ. "فَجْوةً"؛ أي: موضعا فسيحًا خاليًا عن زحمة الناس.

"نَصَّ"؛ أي: ساق دابَّته سوقًا شديدًا، يعني: إذا كان في الطريق ازدحامُ الناس يسير سيرًا غيرَ سريع، كي لا يتأذَّى الناس بصدْمةِ دابته، وإذا وجد في الطريق موضعًا خاليًا أسرع. * * * 1880 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّه دَفَع مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وراءَهُ زَجْرًا شَديدًا، وضَرْبًا للِإبلِ، فأَشَارَ بسوْطِهِ إلَيْهِمْ، وقال: "يا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فإنَّ البرَّ لَيْسَ بِالإِيْضَاعِ". قوله: "فإن البرَّ ليس بالإيضاع"؛ (الإيضاعُ): الإسراع، يعني: الإسراعُ ليس من البرِّ إذا كثُرَ الناسُ في الطريق، فإن الإسراعَ في مثل هذه الحالة يؤذي الناس بصدمة الدوابِّ والرِّحالِ، ولا خير في هذا، بل الخيرُ في الذهاب على السكون في مثل هذه الحالة. * * * 1881 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أَنَّ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَة إلى المُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدَلِفَة إلى مِنًى، فكِلاهُما قال: لَمْ يَزَلِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبي حتَّى رمى جَمْرَةَ العَقَبةَ". قوله: "لم يزل النبي - عليه السلام - يلبي حتى رمى جمرة العَقَبة"، (جمرة العقبة): الموضعُ الذي يرمي فيه الحجاج في يوم العيد، وفي يوم العيد لا يُرمى في غير هذا الموضع. هذا الحديث يدلُّ على أن التلبية من وقت الإحرام إلى رميِ جمرة العقبة في يوم العيد مأمورٌ، وقد ذكرنا أن التلبية سُنَّةٌ في قول، واجبٌ في قول. * * *

1882 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: "جَمَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَغرِبَ والعِشاءَ بجَمْعٍ، كُلُّ واحدةٍ مِنهُمَا بإقامةٍ، ولَمْ يسبحْ بينَهُمَا، ولا على إثْرِ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا. قوله: "جمع النبي - عليه السلام - المغربَ والعشاءَ بجَمْعٍ"، (بجمع)؛ أي: بمُزْدَلِفةَ، و (جَمْع): اسم مُزْدَلِفة، سمي به لاجتماع الناسِ فيه، أو للجَمْعِ بين صلاة المغرب والعشاء كلُّ واحدٍ منهما بإقامة. اعلم أنه اختُلِفَ في الأذان والإقامة إذا جُمِعَ بين المغربِ والعشاء بمُزْدَلِفة. قال الشافعي: يقيمُ لكلِّ واحدٍ منهما ولا يؤذِّن. وقال أبو حنيفة: يؤذِّن ويقيمُ للمغرب ويقيم للعشاء. وقال مالك: يؤذِّن ويقيم لكلِّ واحدٍ منهما. وقال سفيان الثوري: يقيم للمغرب، ولا يقيم للعشاء، ولا يؤذِّنُ لا للمغرب ولا للعشاء. هذا بحثُ الجمع بين المغرب والعِشاء. فأما الجَمْعُ بين الظهر والعصر بعَرَفَة؛ فقد أجمعوا على أنه يؤذِّنُ ويقيم للظهر، ولا يؤذِّن للعصر. وأما في الإقامة للعصر خلافٌ؛ فقال الشافعي: يقيم للعصر، وقال أبو حنيفة: لا يقيم. قوله: "ولم يسبحْ بينهما"؛ أي: ولم يُصَلِّ بين المغرب والعشاء شيئًا من السُّنَن والنوافل. "ولا على إثر كلِّ واحدةٍ منهما"؛ أي: ولم يُصَلِّ بعد كلِّ واحدة منهما، وهذا تكرارٌ من الراوي؛ لأنه لمَّا قال: ولم يسبحْ بينهما عُلِمَ أنه لم يصلِّ بعد المغرب، فلم يحتج إلى أن يقول: ولا على إثر كلِّ واحدةٍ منهما، بل حقُّه أن

يقول: ولا على إثر العشاء. وهذا الحديث صريحٌ بأنه لا تُصلَّى السننُ الرواتبُ عند الجمع بين الصلاتين، وعند القصْر؛ لأن الجمعَ والقَصْرَ إنما يكون للتخفيف عن المسلمين، فإذا خفَّف عليهم الفرائضَ، فالتخفيفُ بوضع السنن عنهم أولى. * * * 1883 - وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: ما رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلاةً إلاَّ لِمِيْقاتِهَا إلاَّ صلاتَيْنِ: صلاةَ المغرِبِ والعِشاءَ بِجَمْعٍ، وصلَّى الفَجْرَ يومئذٍ قَبْلَ مِيقاتِهَا. "ما رأيت رسولَ الله - عليه السلام - صلى صلاةً إلا لميقاتها إلا صَلاَتين: صلاةَ المَغْرِب وصلاةَ العِشاء بجَمْع"؛ يعني: صلى جميع الصَّلَوات في أوقاتها إلا صلاةَ المغرب؛ فإنه تركَها ولم يُصَلِّها في وقتها حتى صلاها في وقت العشاء بمزدلفة، والصلاة الثانية صلاة الفجر؛ فإنه صلاَّها بمزدلفةَ قبل ميقاتها. يعني: قبل وقتها الذي صلاَّها فيه كلَّ يوم، فإنه صلاَّها كلَّ يوم بعدَ ما ذهب بعدَ الصبح مقدارَ ظهور الضياء فيه، وصلاَّها يوم العيد بمزدلفة حين طَلَعَ الفجر، وإنما عجَّلَ صلاةَ الفجر في هذا اليوم؛ ليسير إلى المَشْعَر الحرام، ويقفَ فيه ويدعو، ويفرغ قبل طلوع الشمس؛ ليعجِّلَ السير إلى مِنًى، ويشتغلَ بالرمي والنَّحْر والحَلْق. * * * 1884 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنا مِمَّنْ قَدَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةَ المُزْدَلِفَةِ في ضَعَفَةِ أهلِهِ. قوله: "أنا ممَّن قدَّمه النبي عليه السلام في ضَعَفَةِ أهلِه"، (الضَّعَفَة):

جمعُ ضعيف، يعني: بعثني رسول الله - عليه السلام - مع ضعفاءِ أهلهِ من النساء والصبيان قبل الصبحِ ليلةَ العيد كي يسيروا بلا عَجَلةٍ ولا زَحْمةٍ إلى مِنًى. * * * 1885 - وعن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما، عن الفَضْلِ بن عبَّاس، وكانَ رَديفَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قال في عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وغَداةِ جَمْعٍ للنَّاسِ حينَ دَفَعُوا: "عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ"، وهو كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، وهو مِنْ مِنًى، قال: "عَلَيْكُمْ بحَصَى الخَذْفِ الذي يُرْمَى بِهِ الجَمْرَةُ"، وقال: لَمْ يَزَلْ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُلَبي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبة. قوله: "وكان رديفَ رسول الله عليه السلام"؛ أي: وكان فَضْلُ بن عباسٍ راكبًا خلفَ رسول الله عليه السلام على ناقته. "أنه يقول في عشية عَرفةَ وغداة جَمْعٍ"؛ يعني: إذا رجعَ من عرفةَ إلى مزدلفةَ ليلةَ العيد، وإذا ذهب من مزدلفة غداةَ يوم النَّحْر إلى مِنًى قال لهم: عليكم بالسكينة كي لا يتأذَّى أحدٌ بصدمتكم. "وهو كافٌّ ناقَتَه"، بتشديد الفاء؛ أي: وهو مانعٌ ناقتَه عن السرعة. "عليكم بحصى الخَذْف"، (الحصى): جمع حصاة، وهي الحجَرُ الصغير، (الخَذْف): الرميُ برؤوس الأصابع، يعني: ارمُوا الأحجارَ الصِّغارَ، ولا ترمُوا الحجارَ الكِبار، كي لا يتأَذَّى الناس، ولا يضيقَ طريقُهم. * * * 1886 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: أفاضَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَمْعٍ وعلَيْهِ السَّكينةُ، وأَمَرَهُمْ بالسَّكِينَةِ، وأَوْضَعَ في وادي مُحَسِّر، وأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بمثلِ حَصَى الخَذْفِ، وقال: "لَعَلِّي لا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذا".

قوله: "لَعَلِّي لا أراكم بعد عامي هذا"، (لعلِّي): كلمةُ الترجِّي، وتُستعمَلُ بمعنى الظنِّ، وبمعنى عسى؛ أي: تعلَّمُوا مني أحكامَ الدِّين، فإني أظنُّ أن لا أراكم في السنة التي تأتي بعد هذه السنة. يعني فراقه من دار الدنيا إلى دار العُقْبى، وقد كان كما ظنَّه، فإنه فارقَ الدنيا في تلك السنة في الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول في السنة العاشرة من الهجرة، جزاه الله عنا وعن جميع المسلمين ما هو به أولى من الوسيلة والزُّلْفَى. * * * مِنَ الحِسَان: 1887 - عن محمد بن قَيْس بن مَخْرَمَة قال: خَطَبَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أَهلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرفةَ حينَ تكون الشَّمسُ كأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وجُوهِهِمْ قبلَ أنْ تغرُبَ، ومِنَ المُزْدَلِفَةِ بعدَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حينَ تكون كأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وجُوهِهِمْ، وإنَّا لا نَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ونَدْفَعُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ قبلَ أنْ تَطلُعَ الشَّمسُ، هَدْيُنا مُخالِفٌ لِهَدْي أَهْلِ الأَوْثانِ والشِّرْكِ". "إن أهل الجاهلية كانوا يَدْفَعُون من عَرفَةَ"؛ يعني: حتى تكونَ الشمسُ كأنها عمائمُ الرجالِ في وجوههم، يريدُ بقوله: (كأنها عمائمُ الرجال): أن الشمسَ عند الغروب يخلطُ نورُها بظِلِّ الجبال والأشجار، ويشبهُ نورَ الشمسِ بين الظِّلِّ عمائمَ الرجال الواقعِ ظِلُّها وأثرُها على الوجوه. يعني: كانَ أهلُ الجاهلية يذهبون من عرفَةَ قبل أن تغربَ الشمسُ، ومن مزدلفة قبل أن تطلُعَ الشمس، وفي دين الإسلام لا يذهبُ الحُجَّاجُ من عرفةَ إلا بعد غروب الشمس، ويذهبون من مزدلفةَ قبلَ طلوع الشمس، فمن ذهب من عرفةَ قبل غروب الشمس، فلا شيءَ عليه، وفي قولٍ: يجبُ عليه دمُ شاةٍ.

"وهَدْيُنا"؛ أي: وسيرتُنا ودينُنا مخالفٌ لسيرة عَبَدَةِ الأوثان وأهلِ الشرك. * * * 1888 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قَدَّمَنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ المُزدَلِفَةِ أُغَيْلِمَةَ بني عَبْدِ المُطَّلِبِ على حُمُراتٍ، فجعلَ يَلْطَخُ أَفخاذَنا، ويقول: "أَبنيَّ! لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطلُعَ الشمسُ". قول ابن عباس: "قدَّمَنا رسولُ الله - عليه السلام - ليلةَ المزدلفةِ أُغَيْلِمَةَ بني عبد المطَّلب على حُمُرات، فجعلَ يَلْطَخُ أفخاذَنا ويقول: أُبَيْنِيَّ! لا ترمُوا الجمرةَ حتى تطلُعَ الشمسُ". "ليلةَ المُزْدَلِفَة"؛ أي: الليلةَ التي كنَّا فيها بالمزدلفةِ، وهي ليلة العيد. "أُغَيْلِمَة"؛ منصوب على أنه بَدَلٌ، أو عطفُ بيان للضمير في (قدَّمَنا)، و (أُغَيْلِمَة): تصغيرُ غِلْمَة شاذٌّ، وقياسها: غُلَيْمَة، وغِلْمَة جمعُ غلام، والمراد بالغِلْمَة هنا: الصبيان والشُّبَّان. "على حُمُرَات"؛ أي: راكبين على حُمُرَاتٍ، وهي جمع حُمُر بضم الحاء والميم، وهي جمع حِمَار. "فجَعَلَ"؛ أي: فطَفِقَ النبيُّ عليه السلام. "يَلْطَخُ"، بالطاء المهملة والخاء المعجمة؛ أي: يضرِبُ يدَه على أفخاذِنا ضربًا خفيفًا للتَّلَطُّف. "أُبَيْنِيَّ"، بضمِّ الهَمْز وفتح الباء، وبعده ياء ساكنة، وبعد الياء نون مكسورة، وبعد النون ياء مشددة. قال سيبويه: هو تصغيرُ (اِبنى) بالقصر بوزن (سَلْمَى)، وهو اسمٌ مفرَدُ اللفظ مجموعُ المعنى.

قوله: "لا ترمُوا الجمرةَ حتى تطلُعَ الشمسُ"؛ يعني: بعثَ رسول الله - عليه السلام - صبيانَ أهلِه ونساءَهم قبلَ الصبح ليلةَ العيد إلى مِنًى، وقال: لا ترمُوا جَمْرةَ العَقَبة في هذا اليوم - أي: يوم العيد - إلا بعد طلوع الشمس، وهذا هو الأفضلُ، فإن رَمَى أحدٌ جمرةَ العَقَبة بعد نصفِ ليلةِ العيد جازَ عند الشافعي. ولا يجوزُ عند أبي حنيفة ومالكٍ وأحمدَ قبلَ الصبح، ويجوزُ بعد الصبح بالاتفاق. هذا بحثُ رميِ جمرة العقبة يومَ العيد، وأما الرَّميُ في أيام مِنًى: فلا يجوز إلا بعدَ زوالِ الشمس. * * * 1889 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: أرسَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأُمِّ سَلَمَةَ ليلةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، ثمَّ مَضَتْ فأَفاضَتْ، كانَ ذلكَ اليومُ اليومَ الذي يكونُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَها. قولها: "ثم مَضَت"؛ أي: ثم ذهبتْ من مِنًى. "فأفاضت"؛ أي: فطافَتْ بالكعبة. * * * 1890 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يُلَبي المُعْتَمِرُ حتَّى يَفْتِتحَ الطَّوافَ، ويُروى: حتَّى يَسْتَلِمَ الحَجَرَ. ورفعه بعضهم. "يُلَبي المُعْتَمِر"؛ يعني: يلبي الذي أحرمَ بالعمرةِ من وقت إِحرامه إلى أن يفتتح؛ أي: يبتدِئُ بالطواف ثم يتركُ التَّلْبية.

7 - باب رمي الجمار

قوله: "ورفعه بعضهم"؛ يعني: أكثر العلماء: أن هذا الحديثَ عبارةُ ابن عباس. وقال بعضهم: بل هذا مرفوعٌ عن النبي عليه السلام؛ أي: منقولٌ عنه، وهذا اللفظُ لفظُ رسول الله عليه السلام يرويه ابن عباس، والله أعلم. * * * 7 - باب رَمْيِ الجِمَار (باب رمي الجمار) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 1891 - قال جابر - رضي الله عنه -: رأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمي على راحلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، ويقولُ: "لِتَأْخُذُوا عنِّي مناسِكَكُمْ، فإِنِّي لا أدْرِي لَعَلِّي لا أحُجُّ بعدَ حَجِّي هذا". قوله: "يَرْمِي على راحلته"؛ أي: يرمي وهو راكبٌ على ناقته، وهذا يدلُّ على أن رميَ الجِمار يجوزُ راكبًا. "لتأخذُوا عني مناسِكَكم"؛ أي: تَعْلَمُوا منِّي أحكامَ الحجِّ. * * * 1893 - وقال: رمَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجَمْرَةَ يومَ النَّحْرِ ضُحًى، وأمَّا بعدَ ذلك فإذا زالتِ الشَّمْسُ. "فأمَّا بعدَ ذلك، فإذا زالت الشَّمْسُ" أراد بقوله: (بعدَ ذلك): أيام

التَّشْريق، فإن رَمْيَ أيامِ التشريق لا يجوزُ إلا بعد الزوال. * * * 1894 - عن عبد الله بن مَسْعُود: أنَّهُ انتهَى إلى الجَمْرَةِ الكُبْرى، فجعَلَ البَيْتَ عَنْ يسارِهِ ومِنى عَنْ يمينِهِ، ورمَى بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ، ثمَّ قال: هكذا رمَى الذي أُنْزِلَتْ عليهِ سُورةُ البَقَرَةِ. قوله: "هكذا رمى الذي أُنْزِلَت عليه سورةُ البقرة"؛ يعني به: رسولَ الله عليه السلام، وإنما خصَّ سورةَ البقرة بالذِّكْر مع أن جميع القرآن قد أُنزلَ عليه؛ لأن أحكامَ الحجِّ في سورة البقرة، يعني: هكذا رمى مَن أُنزلتْ عليه أحكامُ الحجِّ، وهو محمدٌ رسول الله عليه السلام. * * * 1895 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الاستِجْمارِ تَوٌّ، ورَمْيُ الجِمارِ تَوٌّ، والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَوٌّ،، ووإذا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ". أي: وِتْرٍ. قوله: "الاستجمارُ تَوٌّ"، (الاستجمارُ): الاستنجاءُ بالحَجَر، (التَوُّ): الوِتْر؛ يعني: فليستنجِ الرجلُ بثلاثةِ أحجارٍ، أو خمسٍ، أو ما شاء، وليكنْ بالوِتْر. "ورَمْيُ الجِمَار تَوٌّ"؛ يعني: الرميُ إلى كلِّ موضعٍ من جمرةِ العقبةِ وغيرها، فليكنْ سبعَ حَصَيَاتٍ، وكذلك الطوافُ والسعيُ بين الصَّفا والمَرْوة، فليكنْ سبعَ مرات، وقد ذكرْنا شرحَ الاستجمار في (باب أدب الخَلاء). * * *

مِنَ الحِسَان: 1896 - عن قُدَامَة بن عبد الله بن عاِمرٍ قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرمي الجَمْرَةَ يومَ النَّحْرِ عَلَى ناقَةٍ له صَهْباءَ، ليسَ ضَرْبٌ، ولا طَرْدٌ، وليسَ قِيلُ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ. قوله: "على ناقةٍ صَهْباءَ"؛ أي: حمراءَ، وقد ذكرْنا شرحَ هذا. قوله: "ليس ضَرْبٌ ... " إلى آخره؛ في السَّعْيِ بين الصَّفَا والمَرْوة. * * * 1897 - وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما جُعِلَ رَمْيُ الجِمارِ، والسَّعْيُ بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ لإقامَةِ ذِكْرِ الله"، صحيح. قولها: "إنما جُعِلَ رميُ الجمَار والسعيُ بين الصَّفَا والمَرْوَة"؛ سُنَّة. * * * 1898 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلنا: يا رسُولَ الله، أَلا نَبني لكَ بناءً يُظِلُّكَ بِمنًى؟، قال: "لا، مِنًى مُناخُ مَنْ سَبَقَ". قولها: "ألا نَبني لك بناءً يُظِلُّكَ بمِنًى، قال: لا، مِنًى مُناخُ مَنْ سَبقَ"، أَلا: الهمزةُ في (أَلاَ) للاستفهام، و (لا) للنفي. (يُظِلُّكَ): أي: يُوقِعُ ظِلَّه عليك، ويَقيك من حرِّ الشمس. (المُنَاخ): موضعُ إناخةِ الإبلِ؛ أي: أبراكها، يعني: أفتأذَنُ أن نبنيَ لك بيتًا في مِنًى؛ ليكون ذلك أبدًا تسكن (¬1) فيه، فقال عليه السلام: لا؛ لأن مِنًى ¬

_ (¬1) في "ت": "تكن".

8 - باب الهدي

ليس مختصًّا بأحد، وإنما هو موضعُ العبادة من الرمي وذبحِ الهَدْيِ والحَلْق وغيرها من العبادات. فلو أجاز البناءَ هناك؛ لكثرت الأبنيةُ، ويضيقُ المكان، وهذا مثلُ الشوارعِ ومقاعدِ الأسواق، وكما لا يجوز البناءُ فيها كي لا يتضيَّقَ على الناس، فكذلك لا يجوزُ في مِنًى. وعند أبي حنيفة: أرضُ الحَرَم موقوفةٌ؛ لأن رسول الله - عليه السلام - فتح مكة قَهْرًا، وجعلَ أرضَ الحَرَم موقوفةً، فلا يجوز أن يتملَّكَها أحدٌ. وقال الخَطَّابي: إنما لم يأذن النبيُّ - عليه السلام - في البناء لنفسِه، وللمتأخِّرين بمِنًى؛ لأنها دارٌ هاجروا منها لله، فلم يختاروا أن يعودُوا إليها، ويَبنوا فيها. * * * 8 - باب الهَدْي (باب الهدي) مِنَ الصِّحَاحِ: 1899 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: صلَّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعا بناقَتِهِ، فَأَشْعَرَها في صَفْحَةِ سَنامِها الأَيْمَن، وَسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَها نَعْلَيْنِ، ثُمَّ ركِبَ راحِلَتَهُ، فلمَّا اسْتَوَتْ بِهِ على البَيْداءِ أَهَلَّ بالحَجِّ. قوله: "صلَّى رسول الله - عليه السلام - الظُّهْرَ بذي الحُلَيفة"؛ يعني: خرج من المدينة للحجِّ، فلما وصلَ إلى ذي الحُلَيفة - وهو ميقاتُ أهل المدينة - صلَّى الظهر، وأشعرَ ما معه من الهَدْيِ.

والإشعارُ والتقليدُ سُنَّتان في الإبل والبقر، و (الإشعارُ): أن يضربَ بحديدةٍ على جانِبِ اليمنى من سَنام الإبل والبقر، حتى يسيلَ الدمُ. و (التقليدُ): أن يعلِّقَ بعنقها نَعْلَين، وفي الغنم: يُسَنُّ التقليدُ دون الإشعار؛ لأن الغنمَ ضعيفةٌ، لكن تقليدَ الغنمِ بشيءٍ خفيفٍ كخرق الأيدي والأرجل من قِرْبةٍ يابسة. وعند أبي حنيفة: الإشعارُ بِدْعَة، والغرضُ من الإشعار والتقليدِ إظهارُ كونِ الإبل والبقرِ والغنمِ أنها هَدْيٌّ كي لا يَقْصِدَها أحدٌ بالغَصْب والسرقة. قوله: "وسَلَتَ الدَّمَ"؛ أي: بسطَ الدَّمَ على سَنَامها؛ ليكونَ أثرُ الإشعارِ أكثرَ ظهورًا. * * * 1902 - وعنه قال: نَحَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِسائِهِ بَقَرَةً في حَجَّتِهِ. قول جابر: "ذبحَ رسول الله - عليه السلام - عن عائشةَ بقرةً"؛ أي: لأجل عائشةَ ذبحَ بقرةً، وفَرَّقَ لحمَها على الفقراء. * * * 1903 - وقالت عائشة رضي الله عنها: فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَها وأَشْعَرَها وأَهْداها، فما حَرُمَ عليه شيءٌ كَانَ أُحِلَّ له. قولها: "فَتَلْتُ قلائدَ بُدْنِ النبيِّ - عليه السلام - بيديَّ، ثم قلَّدَها وأشعرَها وأهداها، فما حَرُمَ عليه شيءٌ كان أُحِلَّ له". "القلائد": جمع قِلاَدة، وهي ما يعلَّقُ بالعُنُق، والمرادُ به ها هنا: ما ذَكَرْنا في الإشعارِ والتقليد.

"وأهداها"؛ أي: بعثَها إلى مكة. قولها: "فما حرم عليه شيء كان أُحِلَّ له"، هذا الحديثُ يدلُّ على أن من بعثَ هَدْيًا إلى مكة لا يكونُ حكمُه حكمَ المُحْرِم في تحريم لُبْسِ المَخِيط وغيرِه مما حُرِّمَ على المُحْرِم، بل لا يُحَرَّمُ عليه شيءٌ مما حُرِّمَ على المُحْرِم؛ لأنه جالسٌ في بيته، ولم يكن مُحْرِمًا، فإذا لم يكن مُحْرِمًا، فكيفَ يُحرَّمُ عليه شيءٌ؟. وإنما قالت عائشةُ هذا الكلامَ؛ كي لا يَظُنَّ أحدٌ أنه يُحَرَّمُ على مَن بعثَ هَدْيًا إلى مكةَ شيءٌ مما حُرِّمَ على المُحْرِم. * * * 1904 - وقالت: فَتَلْتُ قَلائِدَها مِن عِهْنٍ كانَ عِنْدي، ثُمَّ بعثَ بها مَعَ أبي. قولها: "مِن عِهْنٍ كان عندي"؛ أي: مِن صوفٍ مصبوغٍ كان في بيتي. * * * 1906 - وسُئِلَ جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عَنْ رُكُوبِ الهَدْي؟، فقال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ارْكبْها بالمعرُوفِ إذا أُلجِئْتَ إليها، حتَّى تَجِدَ ظَهْرًا". قولُه: "اركبْها بالمعروف"؛ يعني: بوجهٍ لا يَلْحَقُه ضَرَرٌ. "إذا أُلْجِئْتَ إليها"؛ أي: إذا اضْطُرِرْتَ واحتجْتَ إلى ركوبها. "حتى تَجِدَ ظَهْرًا"؛ أي: مركوبًا آخر. اعلم أن ركوبَ الهَدْيِ جائزٌ عند الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ بوجهٍ لا يلحقُها ضَرَرٌ شديدٌ، سواءٌ كان معه مركوبٌ آخرُ أو لم يكنْ.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز ركوبُ الهَدْيِ إلا إذا اضْطُرَّ إلى ركوبها بأنْ لم يجد مركوبًا غيرها، فإن نَقَصَ منها شيءٌ بسبب الركوبِ لزمَه أن يتصدَّقَ بقدْرِ النقصانِ من الدراهمِ أو الطعامِ على مساكينِ الحَرَم عنده. * * * 1907 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بَعَثَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسِتَّ عَشَرَةَ بَدَنَةً مَعْ رَجُلٍ وأمَّرَهُ فيها، فقال: يا رسُولَ الله، كيفَ أصنعُ بما أُبْدِعَ عَلَيَّ منها؟، قال: "انْحَرْها، ثُمَّ اصْبُغ نَعْلَيْها في دَمِها، ثمَّ اجْعَلْها عَلَى صَفْحَتِها، ولا تأْكُلْ منها أنتَ ولا أحدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ". قوله: "بعث رسولُ الله - عليه السلام - بسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً مع رجلٍ، وأمَّرَه فيها، فقال: يا رسولَ الله! كيف أَصْنَعُ بما أُبْدِع عليَّ منها؟ قال: انْحَرْها ثم اصْبُغْ نَعْلَيها في دَمِها، ثم اجعلْه على صَفْحَتِها، ولا تأكُلْ منها أنت ولا أحدٌ من أهلِ رُفْقَتِك"؛ يعني: أرسل رسول الله - عليه السلام - ستَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً من المدينة إلى مكةَ مع رسول، وأمَّره؛ أي: جعلَه أميرًا وحاكمًا عليها لينحرَها بمكة، ويفرِّقَ لحْمَها على مساكينِ الحَرَم وغيرِهم من الفقراء. قوله: "أُبْدِعَ" الجَمَلُ وغيرُه على بناء المجهول: إذا وقفَ في الطريقِ وعجزَ عن السير، وأُبْدِعَ الرجلُ أيضًا: إذا وقفتْ راحِلَتُه. قوله: "ثمَّ اصبُغْ نعليها في دمها"؛ أي: اجعل نعلَيها في دمِها، "ثم اجعله"؛ أي: ثم اضرْبه على جانبِ اليمينِ من سَنَامها؛ ليعلمَ مَن يمرُّ في الطريق أنه هَدْيٌ، فإنْ كان محتاجًا يأكلُ منها، وإن لم يكنْ محتاجًا لم يأكلْ منها. قوله: "ولا تأكلْ منها أنت ولا أحدٌ من رفقتك"، إنما نهاهم عن أَكْلِها كي لا يَتَّهِمَهم أحدٌ أنهم نَحَرُوها لأنفسهم، ولم يكنْ قد أُبْدِع في الطريق. * * *

1909 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنّه أتَى على رجُلٍ قد أناخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُها، فقال: ابْعَثْهَا قِيامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "ابْعَثْها قِيَامًا مُقيَّدةً"؛ أي: لا تَدَعْ الإبلَ مضطجِعةً، بل انحرْها قائمةً مقيَّدَةً يديها، فإن سنةَ رسولِ الله - عليه السلام - في نحر الإبل هكذا، والذبْحُ مضطجِعًا إنما كان في البَقَر والغَنَم. * * * 1910 - وقال عليّ - رضي الله عنه -: أَمَرَني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقُومَ على بُدْنِهِ، وأنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِها وجُلُودِها وأَجِلَّتِها، وأنْ لا أُعْطِىَ الجَزَّارَ مِنها، قال: "نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنا". قوله: "أن أَقومَ على بُدْنِه"؛ أي: أن أقومَ على نَحْرِ هَدْيهِ. "وأن أتصدَّقَ بلحمها وجلودِها، وأَجِلَّتِها"، (الأَجِلَّةُ): جمع جِلاَل، وهو جمع جُلِّ الجَمَل والفَرَس. "الجَزَّار": الذي يَنْحَرُ الجَمَل، وهو القَصَّاب. واعلم أنه لا يجوزُ أن يعطَى شيئًا من الهَدْيِ والأُضْحِيةِ بالأُجْرة، ويجوزُ باسمِ الصَّدَقة، وقد ذكرْنا بحثَ هذا الحديثِ في حديثِ قصةِ حَجَّةِ الوداع في قوله: "فأكلا من لحمها وشربا من مَرَقِها". * * * 1911 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: كُنَّا لا نأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنا فَوْقَ ثَلاثٍ، فَرَخَّصَ لنا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُوا وتَزَوَّدُوا"، فأَكَلْنَا وتَزَوَّدْنا. قوله: "كُنَّا لا نأْكُلُ لحومَ بُدْنِنا فوقَ ثلاثٍ، فرخَّصَ لنا رسولُ الله عليه السلام".

اعلم أن الهَدْيَ والأُضحيةَ إن كانتْ واجبةً لا يجوزُ لصاحبها أن يأكلَ منها شيئًا البتَّةَ، وإن كان تطوُّعًا بعد ثلاثة أيام، وجازَ لهم أن يأكلُوا في ثلاثةِ أيام، ثم رخَّصَ لهم - عليه السلام - أن يأكلُوا من التطوُّع متى شاؤوا في ثلاثة أيام وبعدَها، والواجبُ عليهم أن يطعموا الفقراءَ من لحمها أولَ شيءٍ، والمستحَّبُّ أن يطعموهم الثُّلُثَ والنِّصْف. * * * 1912 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى عامَ الحُدَيْبيَةِ في هدايا رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جَملًا كانَ لأبي جَهْلٍ، في رأْسِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ يَغيظُ بِذلِكَ المُشْرِكينَ. ويروى: بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ. قوله: "أَهْدَى"؛ أي: أَرْسَلَ إلى مكةَ للعمرة. "عامَ الحُديبية"؛ أي: في السنة التي جاء رسول الله - عليه السلام - من المدينة إلى مكةَ للعُمْرة، فحبَسه مشركو مكةَ بالحُدَيبية، ومنعُوه وأصحابَه أن يدخلُوا مكةَ. وتأتي قصة الحديبية في (كتاب الصلح) من (باب الجهاد). "في هدايا"؛ أي: في جملةِ الإبلِ التي أرسلَها رسولُ الله عليه السلام. "كان جمل أخذه رسولُ الله - عليه السلام - من أبي جهل في غزو البدر، وكان في أنفها بُرَةٌ من فِضَّة"؛ (البُرَةُ) بتخفيف الراء: ما يكونُ في أنفِ الجمل يُشَدُّ به الزِّمام. "يَغِيظُ"؛ أي: يوصِلُ الغيظَ والأذى إلى قلوبِ المشركين في نَحْرِه - عليه السلام - ذلك الجَمَلَ، يعني: ليُرِيَ المشركين أنَّ ما هو الأعزُّ عندهم من المال

هو حقيرٌ عند المؤمنين. * * * 1913 - عن جابر - رضي الله عنه - أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، والجَزُورُ عنْ سَبْعَةٍ". قوله: "البَدَنَةُ عن سبعةٍ، والجَزُورُ عن سَبْعَةٍ"، (البَدَنَة)، ما يُهَيَّأ للأُضْحِيةِ من الإبل، و (الجَزُور): ما يُذْبَحُ للَّحْم. يعني: يجوزُ أن يشترِكَ سبعةُ أنفسٍ في أُضحيةِ جَمَلٍ، أيَّ نوعٍ كان من الإبل، إذا كان له خمسُ سنين، ولم يكنْ مَعِيبًا. * * * 1914 - وعن ابن عباس قال: كُنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فحَضَرَ الأَضْحَى، فاشْتَرَكْنا في البَقَرَةِ سَبْعَةً، وفي الجَزُورِ عَشَرةً"، غريب. قول ابن عباس: "كنَّا مع رسولِ الله - عليه السلام - في سَفَرٍ فحَضَر الأَضْحَى". ذكرنا شرحَ هذا الحديثِ في (فضل الأُضْحية) في صلاة العيد. * * * 1915 - عن ناجِيَة الخُزَاعيِّ أنَه قال: قُلتُ: يا رسول الله، كيفَ أصْنعُ بما عَطِبَ مِنَ البُدْنِ؟، قال: "انْحَرْها، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَها في دَمِها، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وبينها فَيَأكُلُونها". قوله: "بما عَطِبَ"؛ أي: وقفَ في الطَّرِيقِ، وعَجِزَ عن السَّير.

روى هذا الحديث: ناجيةُ الخزاعي. * * * 1916 - عن عبد الله بن قُرْطٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أفْضَلَ الأيّامِ عِنْدَ الله يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ". وقال: أُتِيَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببَدَناتٍ خَمْسٍ أو سِتٍّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إليه بِأيّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فلمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها، قال: فَتَكَلَّمَ بكَلِمةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْها، فسألتُ الذي يَليهِ فقال: قال: "مَنْ شاءَ فَلْيَقْتَطِعْ". قوله: "إن أفضلَ الأيامِ عندَ الله يومُ النَّحْر ثم يومُ القَرِّ". (يوم النَّحرِ): يومُ عيد الأَضْحى، و (يوم القَرِّ): يوم الذي بعده سُمِّيَ يومَ القَرِّ؛ لأن الحُجَّاجَ قد فرغوا من التردُّد من أفعال الحَجِّ في ذلك اليوم. قوله: "أُتِيَ رسولُ الله - عليه السلام - ببَدَنَاتٍ خَمْسٍ أو ستٍّ، فطفقْنَ يَزْدَلِفْنَ إليه بأيَّتِهنَ يبدَأ، فلما وجَبَتْ جُنُوبُها، قال: فتكلَّمَ بكلمةٍ خَفِيَّةٍ لم أَفْهَمْها، فسألتُ الذي يَلِيه فقال: قال: مَنْ شاءَ فلْيَقْتَطِعْ". (يزدَلِفْنَ)؛ أي: يَقْتَرِبن؛ أي: يسعَى كلُّ واحدٍ من تلك البُدْنِ إلى رسول الله - عليه السلام - لينحرَها رسولُ الله - عليه السلام - قبلَ الباقيات، وهذا من معجزاتِ النبيِّ عليه السلام تَقْبَلُ الحيواناتُ وُصولَ يدِ رسول الله - عليه السلام - إليها شَرَفًا لها. (وَجَبَتْ)؛ أي: سقطتْ البَدَنَةُ التي نَحَرَها إلى الأرض. قال فتكلَّمَ بكلمةٍ؛ أي: قال الراوي: فتكلَّم رسولُ الله - عليه السلام - حين نحرَها بكلمةٍ ما فهمتُها؛ لكوني بعيدًا. (فسألتُ الذي يَلِيه)؛ أي: كان واقفًا عندَه عن تلك الكلمة، فقال ذاك

9 - باب الحلق

الرجل: قال رسول الله - عليه السلام - حين نَحَرَها: (من شاء فليقتطعْ)؛ أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابعثْ هذا الهَدْيَ للمحتاجين، مَن شاء فليقتطع. روى هذا الحديث: عبد الله بن قرط. 9 - باب الحلق (باب الحلق) مِنَ الصِّحَاحِ: 1917 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أَنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَلَقَ رَأْسَهُ في حَجَّةِ الوَداعِ وأُناسٌ مِنْ أصْحابهِ، وقَصَّرَ بعضُهُمْ. قوله: "حَلَقَ رسولُ الله - عليه السلام - رأسَه في حَجَّةِ الوَداع وأناسٌ مِن أصحابه، وقصَّرَ بعضُهم". هذا الحديثُ يدلُّ على جواز الحَلْقِ والتقصير، و (التقصيرُ): أن يقصَّ بعضَ شعرِ رأسه، و (الحَلْقُ) أفضلُ من التقصير كما يأتي من الدعاء للمُحَلِّقين ثلاثَ مرات، وللمقصِّرين مرةً، وأقلُّ ما يُجْزِى في الحَلْقِ أو التقصير ثلاثُ شَعْراتٍ. وقال أبو حنيفة: لا يجوزُ أقلُّ من حَلْقِ رُبْعِ الرأسِ أو تقصيرِه. * * * 1918 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: قال لي مُعاوية: إنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رأْسِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ المَرْوَةِ بمِشْقَصٍ. قوله: "قال لي معاويةُ"؛ أي: معاوية بن أبي سفيان.

قوله: "عند المَرْوَة"، هذا يدلُّ على أنه - عليه السلام - كان مُحْرِمًا بالعمرة؛ لأن الحَلْق والتقصيرَ عند المَرْوَة إنما يكونُ في العمرة، وأما في الحجِّ يحلِقُ ويُقَصَّرُ بمِنًى بمِشْقَص، وهو نَصْلٌ طويلٌ عريضٌ له حِدَّةٌ. * * * 1921 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتَى مِنًى، فأتَى الجَمْرَةَ فَرمَى بها، ثُمَّ أتَى مَنْزِلَهُ بِمنًى، ونَحَرَ نُسُكَهُ، ثُمَّ دَعا بالحَلاَّقِ، وناوَلَ الحالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعا أبا طَلْحَةَ الأَنْصارِيَّ فأعْطاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ ناوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ، فقال: "احلِقْ" فَحَلَقَهُ، فأعْطاهُ أبا طَلْحَةَ الأَنْصارِيَّ فقال: "اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ". قوله: "فأتى الجَمْرةَ فرماها"، أراد بهذه الجمرة: جمرة العقبة، يعني: رمى يومَ العيدِ جمرةَ العَقَبة، ثم أتى منزله بمِنًى. "ونَحَرَ نُسُكَه"؛ أي: هَدْيَه. "وناولَ الحالِقَ شِقَّه الأيمنَ"، (ناولَ)؛ أي: أعطى، يعني: أعطى الحلاقَ الجانب الأيمنَ من شعرِ رأسِه فحلقَه، هذا يدلُّ على كون الحَلْقِ في الحجّ ركْنًا من أركان الحجِّ في أصحِّ القولين للشافعي. وفي قوله الآخر: أنه استباحةُ محظور؛ أي: كان الحَلْقُ على الرجلِ حرامًا بالإحرام، فصار مباحًا، إن شاء فَعَلَه، وإن شاء تَرَكَه. وقال أبو حنيفة: الحَلْقُ ليس بركنٍ، ولكنه واجبٌ يجبُ بتركه دمٌ، ويدلُّ هذا الحديثُ على أن البَدَاءة في الحَلْقِ وغيرِه باليمنى مسنونٌ. قوله: "اقسِمْه بين الناس"؛ يعني: أعطِ كلِّ واحدٍ من أصحابي بعضَ شعوري ليحفظَه؛ أي: ليصلَه بركةُ شَعْرِي.

1922 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أُطَيبُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ بطِيبٍ فيه مِسْكٌ. قولها: "ويومَ النَّحْرِ قبلَ أن يطوفَ بالبيت"، اعلم أنه إذا قلنا: الحَلْقُ ركنٌ تكون أسبابُ التحلُّل - أي: الخروجُ من الإحرام - ثلاثة: رميُ يوم العيد، والحَلْقُ، وطوافُ الفَرْضِ. فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة يحصلُ له التحلُّل الأول، وحلَّ له جمع محرمات الإحرام سوى النساء، فإذا فعل الثالث، حل له النساء أيضًا. وإن قلنا: إن الحلقَ ليس بركنٍ تكونُ أسباب التحلُّلِ اثنين: رميُ يومَ العيد، والطَّواف، فإذا فعلَ واحدًا منها؛ حصلَ له التحلُّل الأول، وإذا فعل الثاني حصلَ له التحلُّل الثاني، ولا ترتيبَ في فعل أسباب التحلُّل، بل أيُّ فعلٍ منها قُدِّمَ أو أُخِّرَ؛ فلا بأس. وإذا عرفتَ هذا؛ فقولُ عائشةَ: (ويومَ النحر قبل أن يطوف)؛ معناه: إذا رمى - عليه السلام - جمرةَ العقبة حلَّ له الطِّيبُ، فأُطَيبُه قبلَ أن يطوفَ. * * * 1923 - وعن ابن عمر رضي عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بمِنًى. قوله: "أفاض يومَ النَّحْر ثم رجعَ فصلَّى الظهرَ بمنًى"؛ يعني: ذهب رسول الله - عليه السلام - يومَ العيدِ من مِنًى إلى مكةَ، فطافَ طوافَ الفَرْضِ، ثم رجعَ في ذلك اليوم، فصلَّى الظهرَ بمِنًى. * * *

فصل

1924 - عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ تَحْلِقَ المرْأةُ رَأْسَها. قولها: "أن النبي - عليه السلام - نهى أن تَحْلِقَ المرأةُ رأسَها"؛ يعني: السُّنَّةُ للمرأة أن تقصِّرَ شعرَها؛ أي: تقطعَ قليلًا من شعرها، وإنما نهاهُنَّ عن الحَلْقِ؛ لأن شعرَهنَّ زينةٌ وتلذُّذٌ لأزواجهنَّ، والحَلْقُ ربما يُبَغِّضُهُنَّ إلى أزواجِهنَّ. فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل) (من الصحاح): 1926 - عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ في حَجَّةِ الوَداعِ بِمِنًى للنَّاسِ يسأَلُونَهُ، فجاءَ رجُلٌ فقال: لم أَشعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أذْبَحَ، فقال: "اذْبَحْ ولا حَرَجَ"، فجاءَهُ آخَرُ وقال: لم أَشعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أَرْمِيَ، فقال: "ارْمِ ولا حَرَجَ"، فَما سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أو أُخِّرَ إلاَّ قال: "افْعَلْ ولا حَرَج". وفي روايةٍ: "أتاهُ رجُلٌ فقال: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أرْميَ، قال: "ارْمِ ولا حَرَجَ"، وأتاهُ آخَرُ فقال: أفَضْتُ إلى البَيْتِ قَبْلَ أنْ أرْميِ، فقال: "ارْمِ ولا حَرَجَ". قوله: "لم أشعُرْ فحَلَقْتُ قبلَ أن أذبحَ، قال: اذبحْ ولا حَرَجَ". (لم أَشْعُرْ)؛ أي: لم أعلمْ، ظَنَّ هذا الرجلُ أن ذبحَ الهَدْيِ يجبُ تقديمُه

على الحَلْق، فقدَّمَ الحَلْقَ على الذَّبح، وظنَّ أنه قد أخطأ، فقال رسول الله - عليه السلام -: لا بأس بتقديم الحلق على الذبح. اعلم أن أعمالَ يومِ النَّحْر أربعة: الرميُ، والذبحُ، والحَلْقُ والطَّوَاف. فعند أبي حنيفة ومالك: هذا الترتيب واجبٌ، فلو قدَّم شيئًا منها على شيءٍ لَزِمَه دمُ شاةٍ. وعند الشافعي وأحمد: هذا الترتيب سُنَّةٌ؛ فلو قدَّمَ شيئًا منها على شيءٍ فلا شيءَ عليه بدليلِ هذا الحديثِ. أما السعي؛ فلا يجوزُ تقديمُه على الطَّوَاف، بل يجبُ تأخيرُه على الطَّوَاف، فإن سعى بعد طوافِ القُدُوم فلا يلزمُه الإعادةُ بعد طوافٍ آخرَ، وإن لم يسعَ بعد طوافِ القُدُوم فإن سعى بعد طوافِ الفَرْضِ فهو المرادُ، وإن سعى قبلَ طوافِ الفَرْض، ثم طاف بعدَه لم يُجْزِئْه، بل يلزمُه الإعادةُ بعد الطَّوَاف، إلا عند عطاء؛ فإنه يُجْزِئُ السعيُ قبل الطَّوَاف. * * * 1927 - عن ابن عباس أنّه قال: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَلُ يومَ النَّحْرِ بمِنًى، فيقول: "لا حَرَجَ"، فسَأَلَهُ رجُلٌ فقال: رَمَيْتُ بعدَما أَمْسَيْتُ، فقال: "لا حَرَجَ". قوله: "كان النبي - عليه السلام - يُسأل يومَ النَّحْر بمِنًى فيقول: لا حَرَجَ، فسأله رجل فقال: رميتُ بعد ما أمسيتُ، فقال: لا حرج". أراد بقوله: (أمسيت)؛ أي: بعدَ العصر. واعلم أن آخرَ وقتِ رمْيِ يومِ النَّحْر غروبُ الشمس مِن يومِ النَّحْر، فإذا غربتِ الشمسُ فاتَ رميُ يومِ النَّحْر، ولَزِمَه في قولٍ دَمٌ. وأما أولُ وقتِ رَمْيِ هذا اليومِ بعدَ نصفِ ليلةِ النحرِ عند الشافعيِّ، وبعدَ

10 - باب الخطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق والتوديع

طلوعِ فجر يوم النحر عند أبي حنيفة ومالك وأحمدَ. * * * 10 - باب الخُطْبة يومَ النَّحر، ورَمْي أَيَّام التَّشريق والتَّوديع (باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق والتوديع) مِنَ الصِّحَاحِ: 1929 - عن أبي بَكْرة - رضي الله عنه - عنه قال: خَطَبنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ، قال: "إنَّ الزَّمانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وشَعْبانَ"، ثُمَّ قال: "أيُّ شَهْرٍ هذا؟ فقُلْنا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ، قال: "ألَيْسَ ذا الحِجَّةِ؟ " قلنا: بَلَى، قال: "فأَيُّ بَلَدٍ هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟ " قُلْنا: بَلَى، قال: "فأَيُّ يَوْمٍ هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قُلْنا: بَلَى، قال: "فإنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أعْمالِكُمْ، أَلا فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ، ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: نَعَمْ، قال: "اللهمَّ اشْهّدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامِعٍ". قوله: "الزمان قد استدارَ كهيئَتهِ يومَ خَلَقَ الله السماواتِ والأرضَ". (الزمانُ): الدهرُ، (استدار)؛ أي: دارَ، (كهيئته)؛ أي: على الترتيب الذي خَلَقَ الله الدهرَ عليه. اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون بتحريمِ الأشهرِ الحُرُم، وهي رَجَبٌ

وذو القَعْدة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، ولا يقاتلون في هذه الأشهرِ، إلا أنهم إذا وقعَ لهم حربٌ شديدةٌ وضرورةٌ في قتال، بدَّلُوا الأشهرَ الحُرُمَ إلى غيرها، وأمروا مناديًا ليناديَ في القبائل: ألا إنا أَخَّرْنا رجَبًا إلى رمضان، عَنوا بذلك أنا لا نحاربُ في رجب، ونتركُ الحربَ بدلَه في رمضان، وأَخَّرْنا ذا الحِجَّةِ إلى المُحَرَّم، والمُحَرَّمَ إلى صَفَر، وصَفَرَ إلى الرَّبيع الأولِ. وإذا أَخَّرْوا ذا الحِجَّة إلى شهرِ آخرَ أَخَّرُوا الحَجَّ من ذي الحِجَّةِ إلى شهرٍ آخرَ، وهكذا يؤخِّرون الحَجَّ من شهرٍ إلى شهرٍ حتى بلغَ دَوْرُ تأخيرِ ذي الحِجَّةِ على حسابهم إلى ذي الحِجَّة، فالسَّنَةُ التي حجَّ فيها رسول الله - عليه السلام - في حَجَّةِ الوداعِ هي السُّنَةُ التي وصلَ ذو الحجة إلى موضعِه، فقال رسول الله - عليه السلام - في خطبته في الحجِّ هذا الحديثَ، وقال: (ألا إن الزَّمانَ قد استدارَ كهيئته). يعني: أمرَ الله أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت، فاحفَظُوا جَعْلَ الحَجِّ في هذا الوقت، ولا تبدِّلُوا الشهرَ بالشهرِ كعادةِ أهلِ الجاهلية. قوله: "ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبان"، قال الخَطَّابي: أضافَ رجبًا إلى مضرَ؛ لأنهم يعظِّمونه تعظيمًا أشدَّ من سائر العرب، وإنما قال: الذي بين جمادى وشعبان ليبين أن رجبًا في الشرع هو الشهر الذي بين جُمَادى وشعبان؛ لا ما يؤخِّره العربُ إلى وقتٍ آخرَ، مثل أنْ سَمَّوا رمضانَ برجب، وسمَّوا شوالاً برمضان، يؤخِّرون بعضَ الشهورِ من موضعه إلى موضعٍ آخر. قوله: "أليس البلدة"، (البلدةُ): اسم مكة. "وأَعراضكُم"، (الأَعراض) جمع عِرْض - بكسر العين وسكون الراء - وهو الأوصاف التي يمدح ويذم الرجل بها. يعني: حرم الله عليكم أن يغتاب بعضكم بعضًا، وأن يشتم ويذكر مسلم مسلمًا بسوء. "وستلقون ربكم"؛ يعني: ستبعثون وتحضرون يوم القيامة.

"فيسألكم" عما فعلتم "ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاَّلًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض"؛ يعني: إذا فارقتُ الدنيا فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تظلموا أحدًا، ولا تتحاربوا مع المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، فإن هذه الأفعال من الضلالة. والمراد بـ (الضلالة): العدول عن الحق إلى الباطل. "فليبلِّغ الشاهد الغائب"؛ يعني: فليبلِّغ مَنْ سمع كلامي وحضر لِي ما سمع مني إلى الغائبين، "فربَّ مُبَلَّغ" بفتح اللام؛ أي: فربَّ غائب إذا بلغه كلامي "أوعى" له؛ أي: يكون أشدُّ حفظًا لكلامي، ومداومة على قراءته ومراعاته ممَّن سمع كلامي. وهذا تحريض على تعليم الناس أحاديث النبي - عليه السلام - وغيره من العلوم الشرعية، فإنه لولا التعليم والتعلم لانقطع العلم بين الناس. * * * 1930 - عن وَبَرَةَ قال: سَألْتُ ابن عُمَرَ: مَتَى أَرْمي الجمارَ؟، قال: إذا رمَى إمامُكَ فارْمِهْ، فأَعَدْتُ عَلَيْهِ المسألَةَ، فقال: كُنَّا نتَحَيَّنُ، فإذا زالَت الشَّمْسُ رَمَيْنا. قوله: "إذا رمى إمامُكِ"؛ يعني: اقتدِ في الرَّمي بمَنْ هو أعلمُ منك بوقت الرمي، فإذا رمى الناس فارمِ أنت. قوله: "نتَحَيَّنُ"؛ أي: نطلب الحين، وهو الوقت؛ أي: ننتظر دخول وقت الرمي. "فإذا زالت الشمس رمينا"؛ يعني: رمينا جِمَارَ أيام التشريق بعد زوال الشمس.

1931 - وعن سَالِم، عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: "أنَّهُ كانَ يَرْمي جَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبع حَصَياتٍ يُكَبرُ على إثْرِ كُلِّ حَصاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حتَّى يُسْهِلَ، فيقُومُ مُسْتَقْبلَ القِبْلَةِ طَويلًا، ثم يَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمي الوُسْطَى بِسَبع حَصَياتٍ يُكَبرُ كُلَّما رَمَى بحَصاةٍ، ثُمَّ يَأخُذُ بِذاتَ الشِّمالِ، فيُسْهِلُ، ويقُومُ مُسْتَقبلَ القِبْلة، ثُمَّ يَدْعُو، ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ويَقُومُ طَويلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوادِي بِسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبرُ عِنْدَ كُلِّ حَصاةٍ، ولا يَقِفُ عِنْدَها، ثُمَّ يَنْصَرفُ، فيقول: هكذا رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَل. قوله: "جَمْرَةَ الدنيا"، (الدُّنيا): تأنيث (الأدنى)، ومعناه: الأقرب؛ يعني: يرمي في الموضع الأول من المواضع الثلاثة. "ثم يتقدم"؛ أي: ثم يذهب قليلًا من ذلك الموضع. "حتى يُسْهِلَ"؛ أي: حتى يبلغ إلى موضعٍ سَهْلٍ لَينٍ، وبَيْنَ الموضع الذي رمى فيه وبَيْنَ هذا الموضع السهل قليل. "ثم وقف ودعا طويلًا ثم يأخذُ بذاتِ الشِّمال"؛ أي: يذهب على جانب شمال الجمرة الوسطى حتى وصل إلى موضع سهل. * * * 1932 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنًى مِنْ أجْلِ سِقايَتِهِ، فأَذِنَ لَهُ. قوله: "استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - عليه السلام - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له"، يجوز لمن هو مشغول بإسقاء الماء من سِقاية العباس لأجل الناس أن يترك المبيت بمنى ليالي منى، ويبيت بمكة لشغل الإسقاء، وكذلك يجوز لرعاء الإبل، ولمن له ضرورة، وعذر شديد في ترك المبيت بمنى ليالي منى.

فإن ترك المبيت بمنى ليالي منى بغير عذر؛ لزمه في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، وفي ثلاث ليال دم عند الشافعي، وقال مالك: يلزمه بكل ليلة دم، وقال أبو حنيفة: من ترك المبيت بمنى ليالي منى أثم ولا شيء عليه. ويجوز لأصحابِ الأعذار أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر، ويتركوا رمي اليوم الأول من أيام التشريق، ثم يرموا في اليوم الثاني من أيام التشريق رميَ يومِ الماضي ويوم الحاضر، يبتدئون بالرمي القضاء، ثم بالرمي الأداء. * * * 1933 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَ إلى السِّقايَة، فاسْتَسْقَى، فقال العبَّاسُ: يا فَضْلُ، اذْهَبْ إلى أُمِّكَ، فائْتِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِشَرابٍ مَنْ عِنْدِها، فقال: "اسْقِني"، فقال: يا رسُولَ الله، إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيَهُمْ فِيهِ، فقال: "اسْقِني"، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فيها، فقال: "اعْمَلُوا، فإنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ", ثُمَّ قال: "لولا أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حتَّى أَضَعَ الحَبْلَ على هذه"، وأشَارَ إلى عاتِقِهِ. قوله: "اسْقِني"؛ أي: اسْقِني من هذه السِّقاية. قوله - عليه السلام -: "اسقني" بعد ما قال العباس: "إنهم يجعلون أيديهم فيه": دليلٌ على أن الماء الطاهر لا يصير نجسًا بجعل الناس أيديهم فيه، حتى تُتَيقَّن نجاسةُ يد واحد من الذين غمسوا أيديهم في الماء، فحينئذ ينجس إن كان الماء دون القلتين، فإن كان قلتين لا ينجس إلا بالتغيير. قوله: "لولا أن تُغْلَبُوا لنزلْتُ حتى أضَعَ الحبلَ على هذه"؛ يعني: قصدت أن أنزل من دابتي، وأضع الحبل على عاتقي، وأستقي الماء من زمزم وأسقي الناس، إلا أني خشيتُ إن فعلتُ هذا أن يرغبَ في استقاء الماء خلقٌ كثير

حين علموا كثرة فضله وثوابه، وحينئذ لا يترك الناس هذا الفعل، بل أخرجوكم من هذا العمل، وفعلوا هذا الفعل بأنفسهم. * * * 1934 - وقال أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيْتِ، فطافَ به. قول أنس: "إن النبي - عليه السلام - صلَّى الظهرَ والمغربَ والعِشاءَ ثم رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثم ركب إلى البيتِ فطافَ به"، (رقد)؛ أي: نام، (المُحَصَّب) بتشديد الصاد وفتحها: موضع التَّحْصِيب، وهو الرمي، والمراد بـ (المُحَصَّب) ها هنا: موضع قريب إلى الأبطح، و (الأبطح): موضع قريب إلى مكة. يعني: صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر إلى العشاء في اليوم الآخر من أيام التشريق، ونام ساعة من الليلة التي بعد أيام التشريق، ثم ركب ومشى إلى مكة، فطاف طواف الوداع. فعند ابن عمر - رضي الله عنهما -: نزول المُحَصَّب في هذه الليلة سُنَّةٌ. وعند ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -: ليس من السُّنة؛ أي: ليس من العبادات؛ لأن رسول الله - عليه السلام - نزل في هذا الموضع؛ لأنه أيسر من خروجه إلى مكة، لا لأن النزول في هذا الموضع عبادة. * * * 1935 - وسُئِلَ أنَسٌ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَرْوِيَةِ؟، قال: بمِنًى، قيل: فأَيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟، قال: بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ قال: افْعَلْ كما يَفْعَلُ أُمَراؤُك.

قوله: "سئل أنس عن النبي - عليه السلام -؛ أَيْنَ صلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قال: بمِنًى، قيل: فأينَ صلَّى العصر يوم النَّفْرِ؟ قال: بالأَبطح"، قد قلنا شرح يوم التَّرْوِية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة. يعني: السُّنة أن يجتمع الحَاجُّ في اليوم الثامن من ذي الحجة بمنى، ويصلون فيه الظهر إلى العشاء، ويبيتون فيها إلى غد، وهو يوم عرفة، ويذهبون غدًا إلى عرفة. والمراد بـ (النَّفْرِ) ها هنا: اليوم الثالث من أيام التشريق، يسمى اليوم الأول من أيام التشريق يوم القَرِّ، واليوم الثاني يسمى النَّفْرِ الأول، واليوم الثالث: يسمى النَّفْرِ الثاني، وسمي اليومُ الثاني النَّفْرَ الأول؛ لأنه يجوز للحُجَّاج أن ينفروا؛ أي: يذهبوا من منى. وكذلك اليوم الثالث من أيام التشريق يُسمَّى النَّفْرَ الثاني؛ لأن مَنْ لم ينفر في الثاني ينفر في اليوم الثالث، الحُجَّاج مخيَّرون فمن شاء نفر في اليوم الثاني، ومن شاء في الثالث، فمَنْ نفَّرَ في اليوم الثالث قبل غروب الشمس، سقط عنه مبيت ليلة النفر الثاني، وسقط عنه أيضًا رمي اليوم الثالث، وهو النفر الثاني ومَنْ لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس؛ لزمه أن يبيت ليلة النفر الثاني، وأن يرميَ اليوم الثالث. قوله: "بالأَبْطَح"، أراد بـ (الأَبطح): المُحَصَّب، وقد ذكر قبيل هذا بحثه، وبين المُحَصَّب، والأبطح: مسافة قليلة، فمن شاء نزل بالمُحَصَّب، ومن شاء نزل بالأبطح. قوله: "كما يفعل أمراؤك": أراد بـ (الأمراء): من اقتدى به الناس. * * *

1936 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: نُزُولُ الأَبْطَح لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إنَّما نزَلَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأنَّهُ كانَ أسْمَحَ لِخُروجِهِ إذا خَرَجَ. قولها: "كان أَسْمَحَ لخروجه"؛ أي: كان أسهل لخروجه من منى إلى مكة لطواف الوداع. * * * 1937 - وقالت: أحْرَمْتُ مِنْ التَّنْعِيم بعُمْرَةٍ، فدَخَلْتُ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتي، وانْتَظَرَني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالأَبْطَحِ حتَّى فَرَغْتُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ، فَمَرَّ بالبَيْتِ، فطافَ بهِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَدِينَةِ. قول عائشة رضي الله عنها: "فدخلتُ مكةَ فقضيْتُ عمرتي"؛ أي: أتمَمْتُ عمرتي، وهذه العمرة هي العمرة التي خرجت منها بسبب حيصها، وقد ذكرناه بعد قصة حجة الوداع. قولها: "فطاف"؛ أي: فطاف بالبيت طواف الوداع. * * * 1938 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ في كُلِّ وَجْهٍ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بالبَيْتِ"، إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحائِضِ. قوله: "كان الناسُ ينصرفونَ في كلِّ وجهٍ"؛ يعني: إذا فرغوا من الحجِّ يذهبون إلى أوطانهم، ولم يطوفوا طواف الوداع، فنهاهم رسول الله - عليه السلام - عن الذهاب حتى يكون آخر عهدهم بالبيت، حتى يطوفوا طواف الوداع في انشغالهم، ولا يجوز لهم المُكْثُ بعد طواف الوداع، فإن مَكَثَ بعد طواف

الوداع لشغلٍ غير شدِّ الرَّحل على الرَّاحلة، فليعِدْ طواف الوداع، وطوافُ الوداعِ واجبٌ في أصح القولين، فإن تركه لزمه دم. قوله: "إلا أنه خُفِّفَ عن الحائض"؛ يعني: جُوِّزَ للحائض تركَ طواف الوداع. * * * 1939 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: حاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فقالتْ: ما أُراني إلاَّ حابستَكُمْ, فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْرَى، حَلْقَى، أطافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قيل: نَعَمْ، قال: "فانْفِري". قول صَفِيَّة رضي الله عنها: "ما أُرَاني إلا حابسَتَكُمْ"؛ أي: ما أظنُّ نفسي إلا أني قد مَنَعْتُ الناس عن الخروج إلى المدينة حتى أطْهُرَ وأطوف طواف الوداع، وإنما قالت هذا؛ لأنها ظنت أن طواف الوداع واجب عليها، فبيَّنَ رسول الله - عليه السلام - بعد هذا أنها إذا طافَتْ يوم النحر طواف الفرض جازَ لها أن تنفرَ - إذا حاضت - من غير طواف الوداع. قوله لصفية: "عَقْرَى حَلْقَى": قال الخطابي: هكذا رُوي على وزن (فَعْلى) بفتح الفاء مقصور الألف، وحقه أن يكون منونًا ليكونَ مصدرًا؛ أي: عقرها الله عقرًا وحلقها حلقًا. ومعنى (العَقْر): التجريح والقتل وقطعُ عَقِبِ الرجل، و (الحَلْق): إصَابة الوجَع في الحَلْقِ، أو ضرب شيء على الحَلْقِ. بل جاء هذان اللفظان على الأصل، وهو (فَعلى) تأنيث (فَعْلان)، كـ (عطشى) تأنيث (عَطْشان)؛ أي: جعلها الله تعالى (عَقْرى)؛ أي: عاقرًا؛ أي: التي لا تلد، وجعلها الله (حَلْقى)؛ أي: صاحبة وَجع الحَلْق.

وعلى جميع الأحوال، هذا دعاء لا يُرَاد وقوعه، بل عادة العرب التكلم بمثل هذا على سبيل التلطف. * * * 1940 - عن عَمْرو بن الأَحْوَص قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في حَجَّةِ الوَداعِ: "أيُّ يَوْمٍ هذا؟ "، قَالُوا: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ، قال: "فَإنَّ دِمَاكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا، أَلا لا يَجْني جانٍ إلاَّ عَلَى نفسِهِ، أَلا لا يَجْني جانٍ عَلَى وَلَدِهِ، ولا مَوْلُودٌ عَلَى والِدِهِ، ألا وإنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أَيسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هذا أبَدًا، ولَكِنْ سَتكُونُ لهُ طاعَةٌ فِيما تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَسَيَرْضَى بهِ"، صحيح. قوله: "أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومُ الحجِّ الأكبر"، قال ابن عباس: (يوم الحج الأكبر): يوم عرفة، قوله: "موافق لهذا الحديث"؛ لأن هذه الخطبة كانت يوم عرفة، وسُمِّيَ يومُ عرفة يومَ الحج؛ لأنه مَنْ أدرك عرفة فقد أدرك معظم الحج. وسمي بـ (الحج الأكبر)؛ لأن يوم الجمعة حج المساكين، فيوم الجمعة يوم الحج، ويوم عرفة يوم الحج، ولكن يوم عرفة حجٌ أكبر من يوم الجمعة. وقيل: (الحج الأكبر): الذي حج فيه رسول الله - عليه السلام -؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين، وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم تجتمع قبله ولا بعده هذه الأشياء. قوله: "فإن دمائكم" ذكر شرحه في (حجة الوداع) في (باب الإحرام). قوله: "ألا لا يَجْنِي جانٍ ... " إلى آخر الحديث، قد ذكر شرحه في الحديث الذي قبيل (باب الإيمان بالقدر). * * *

1941 - عن رافِع بن عَمْرو المُزَني قال: رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ بمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى على بَغْلَةٍ شَهباءَ، وعليٌّ يُعَبرُ عنهُ، والنَّاسُ بينَ قائِمٍ وقاعِدٍ. قوله: "على بَغْلَة شَهباء"؛ أي: راكبٌ على بغلة بيضاء. "وعليٌّ يعبرُ عنه"؛ يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفسِّرُ كلامه؛ أي: يرفع صوته بما يسمع من كلام رسول الله - عليه السلام -؛ ليسمع الناس، فإن في الناس يومئذ كثرة لا يسمع بعضهم كلام رسول الله - عليه السلام -. "والناس بين قَائمٍ وقَاعدٍ"؛ يعني: كان بعض الناس قائمًا، وبعضهم قاعدًا. * * * 1942 - عن أَبِي الزُّبَيْر، عن عائشة، وابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَ طَوافَ الزِّيارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ إلى اللَّيْلِ. قولهما "أنَّ رسول الله - عليه السلام - أَخَّرَ طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحْرِ إلى الليل"، طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وطواف الرُّكن كلها واحد. واعلم أنَّ أول وقت طواف الإفاضة عند الشافعي: بعد نصف ليلة العيد، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: بعد طلوع الفجر يوم النحر، وأما آخره: فأي وقت طاف جاز سواء طاف في يوم النحر وفي أيام التشريق أو بعدَهَا. * * * 1944 - وعن عائشةَ رضيَ الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ العَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ النِّسَاءَ"، ضعيف منقطع.

قولها: "إذا رمى أحدُكُمْ جَمْرَةَ العقبةِ حَلَّ له كل شيء" ذكر بحث هذا في (باب الحلق). * * * 1945 - عن القاسم، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أفاضَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مِنًى، فَمَكَثَ بها لَياليَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمي الجَمْرَةَ إذا زالَتِ الشمسُ، كُلُّ جَمْرَةٍ بسبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ، ويقِفُ عندَ الأُولَى والثانيةِ، فيُطيلُ القِيامَ، ويتضَرَّعُ، ويَرْمِي الثالِثَةَ، فلا يقِفُ عِنْدَها. قولها: "أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه"؛ أي: طافَ طوافَ الفرضِ في آخرِ يوم النَّحر. * * * 1946 - عن أَبِي البَدَّاح بن عاصِم بن عَدِيٍّ عن أبيه قال: رَخَّص رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرِعاءَ الإِبلِ في البَيْتُوتَةِ أنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُوهُ في أَحَدِهِما. قوله: "رخَّص رسول الله - عليه السلام - لِرِعاءِ الإبل في البَيْتُوتَةِ"؛ يعني: رخص لهم أن يتركوا المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق؛ لأنهم مشغولون في رَعي الإبل وحفظها. قوله: "أن يَرمُوا يومَ النَّحْرِ، ثم يجمعوا رميَ يَوْمَيْنِ بعدَ يومِ النَّحْرِ، فيرمُوه في أَحَدِهِما"؛ يعني: رخَّص لهم أن يرموا يومَ النَّحْرِ جمرة العقبة، ثم لم يرموا الأول من أيام التشريق، ثم يرموا في اليوم الثاني من أيام التشريق رَمْيَ يَومَيْنِ؛ رَمْيَ القضاء ورَمْيَ الأداء.

11 - باب ما يجتنبه المحرم

فإن أرادوا أن يرموا في اليوم الأول من أيام التشريق رمي هذا اليوم، ورمي اليوم الثاني؛ حتى لا يجيئوا في اليوم الثاني إلى منى، فهل يجوز أم لا؟ فلا يجوز عند الشافعي ومالك؛ لأن اليوم الثاني لم يجب عليهم في اليوم الأول، فلا يجوز أداء الفرض قبل وجوبه، وأجازه بعضهم. * * * 11 - باب ما يجتنبه المحرم (باب ما يجتنبه المحرم) مِنَ الصِّحَاحِ: 1947 - عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رجُلًا سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيابِ؟، فقال: "لا يَلْبَسُوا القُمُصَ، ولا العَمائِمَ، ولا السَّراوِيلات، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفَافَ، إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسَ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْهُما أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، ولا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرانٌ ولا وَرْسٌ". وفي روايةٍ: "ولا تَنْتَقِبِ المرْأةُ المُحْرِمَةُ، ولا تَلبَسُ القُفَّازَيْن". قوله: "لا تلبسوا القُمُصَ"، (القُمُصُ): جمع قَمِيصٍ، وهو الثوب المخيط. "البَرَانِسُ": جمع بُرْنُسٍ، وهو قَلَنْسُوَة من لِبْدٍ، يقال بالفارسية: بُرْطُلَّة، وسَرْفَغَانة (¬1). قوله: "وليقطعهما أسفل من الكعبين"؛ يعني: يصير مثل مِدَاس، فإن ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "برطوله وبلغاري"، ولعل الصواب ما أثبت.

المحرم لا يجوز له لبس شيء مخيط، والخف مخيط. قوله: "مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولا وَرْسٌ"، (الورس): شيء أصفر يشبه الزعفران؛ يعني: لا يجوز للمحرم استعمال الطِّيْبِ، والزعفران طِيْبٌ. قوله: "ولا تنتقب المرأة المحرمة"، (الانتقاب): ستر الوجه بالنقاب، وهو شيء تستر النساء به وجوههن. قوله: "ولا تَلْبَس القُفَّازَيْن"، (القُفَّاز): شيء مثل كيس، تستر المرأة به أصابعها وكفيها إلى الكوع. يجوز للمرأة المحرمة أن تستر جمع أعضائها بالمخيط وغير المخيط، إلا أنها لا تستر وجهها، فإن أرادَتْ ستر وجهها عن الناس سَدَلَتْ على وجهها بما يستر وجهها، ولكن متجافيًا عن وجهها، لا يصل إلى بشرة وجهها، ولا تلبس القفازين، في أحد القولين. ولا يجوز للرجل ستر رأسه بالمخيط وغيره. * * * 1948 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ وهو يَقُولُ: "إذا لَمْ يَجِدِ المُحْرِمُ نَعْلَيْنِ لَبسَ خُفَّيْنِ, وإذا لَمْ يَجدْ إزارًا لَبسَ سَراوِيلَ". قول ابن عباس عن النبي عليه السلام: "إن المحرم إذا لم يجد نعلين لبس خفين"، ولم يذكر: (وليقطعهما) كما ذكرنا في حديث ابن عمر، ولكن المراد منه: لبس خفين، وليقطعهما مما أسفل من الكعبين، كما ذكر في حديث ابن عمر؛ لأن الحديث الطويل شرح للحديث المختصر. * * *

1949 - عن يَعْلَى عن بن أُمَيَّة قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالجعْرانَةِ إذْ جاءَهُ رجُلٌ أعْرابيٌّ عَلَيهِ جُبَّةً وهو مُتَضَمِّخٌ بِالخَلُوقِ، فقال: يا رسُولَ الله، إِنِّي أَحْرَمْتُ بالعمرةِ وهذِهِ عليَّ، فقال: "أمَّا الطَّيبُ الذي بِكَ فاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وأمَّا الجُبَّةُ فانْزِعْها، ثمَّ اصْنَعْ في عُمْرَتِكَ كما تَصْنعُ في حَجِّتِكَ". قوله: "وهو مُتَضَمِّخٌ"؛ أي: مُتَطَيبٌ ومُتَلَطِّخٌ. "بالخَلُوْقِ": وهو نوع من الطِّيب، وقد ذكر في (باب مخالطة الجنب). قوله: "أما الطَّيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجُبَّة فانزعها" أمره بغسل الطِّيب الذي في بدنه، وأمره بخلع الجُبَّة، لأنها مخيطة، ولا يجوز للمحرم لبس المخيط، ولم يأمره بالفدية لأنه استعمل الطِّيب ولبس الجُبَّة، وهو جاهل تحريمه. فَمَنْ لبسَ مخيطًا أو تَطَيَّبَ أو ادَّهَنَ ناسيًا، أو جاهلًا بالتحريم، فلا شيء عليه عند الشافعي، ولزمه دم عند أبي حنيفة. قوله: "ثم اصنع في عُمْرَتِكَ كما تصنعُ في حَجِّك"؛ يعني به: أن الإحرام والطواف والسعي والحلق في العمرة ركن كما في الحج، ويحرم في العمرة ما يحرم في الحج من لبس المخيط وغيره. وليس المراد: أن جميع أفعال العمرة متساوية لأفعال الحج؛ لأن في الحج: وقوف عرفة، ورمي الجمارِ، والمبيت بمنى، وليس شيء من هذه الأشياء في العمرة. * * * 1950 - عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ، ولا يَخْطُبُ".

قوله: "لا يَنْكِح المحرِمُ ولا يُنْكِحْ ولا يَخْطُبْ" قال الخطابي: الرواية الصحيحة: "لا يَنْكِحِ المحرم" - بكسر الحاء - على النهي؛ يعني: كان أصله: (لا ينكحْ) بجزم الحاء، فكُسِرت لسكونها وسكون لام التعريف بعدها. (ولا يُنْكِحْ) بضم الياء وكسر الكاف وجزم الحاء، نَكَحَ: إذا تزوج لنفسه، وأَنْكَحَ: إذا زَوَّجَ الرجلُ امرأةً بالولاية أو الوكالة، وخَطَبَ يَخْطُبُ: إذا طلب امرأة للنكاح، ولكن ينكح بعد. فمذهب الشافعي ومالك وأحمد: أنه لا يجوز للمحرم أن يُزوِّجَ الرجلَ لا بنفسه ولا بوكالة، ولا أن يُزَوِّج امرأة، فإن عُقِدَ نكاحٌ والزوجُ أو الزوجةُ أو الوليُّ محرمٌ بالحج أو العمرة، فالنكاح باطل عندهم. وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يُزوج. وأما قوله: "ولا يَخطُب" فهذا نهي تنزيه، وإن خطب في حال الإحرام امرأة، ولم يعقد نكاحها في حال الإحرام لا إِثْمَ عليه. * * * 1951 - ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ. قوله: "أن النبي - عليه السلام - تَزَوَّجَ ميمونةَ وهو محْرِمٌ": اختلف الرُّواة في أن رسول الله - عليه السلام - تزوَّجَ ميمونةَ في حال الإحرام أو قبل الإحرام، كما يأتي بعد هذا؟ * * * 1952 - وعن يَزِيْد بن الأَصَمِّ ابن أخت مَيْمُونة، عن مَيْمُونة: أنَّ

رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وهو حَلالٌ. قال الإمام رحمه الله: والأكثرون على أنَّه تزوَّجها حَلالًا. قوله: "تزوَّجها حلالًا"، (حلالاً): منصوب على الحال؛ أي: في حال كونه حلالاً؛ أي: في وقتٍ لم يكن محرمًا. * * * 1953 - عن أبي أَيُّوب - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وهو مُحْرِمٌ. قوله: "أن النبي - عليه السلام - كان يغسل رأسه وهو محرم" يجوز للمحرم أن يغتسل ويغسل رأسه بالخِطْمِيِّ وغيره. وكره أن يغمس المحرمُ رأسَه في الماء كي لا يشتبه بِمَنْ ستر رأسه، وكذلك يجوز للمحرم أن يحتجم بشرط أن لا يقطع شعرًا، فإن قطع شعرة لزمه مُد، وفي الشعرتين مدان، وفي ثلاث شعرات أو أكثر دم شاة. * * * 1955 - وعن عُثْمان - رضي الله عنه - حدَّث عن رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: في الرجُلِ إذا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وهو مُحْرِمٌ ضَمَّدَهُما بالصَّبرِ. "إذا اشتكى عَيْنَيْهِ"؛ أي: إذا تألَّم وحصل له أنينٌ من وجع عينيه. "ضمدهما"؛ أي: اكتحل عينيه بالصَّبر - بكسر الباء - وهو شيء أحمر يُجعل في العَين بمنزلة الكحل، يجوز للمحرم أن يجعل في عينيه الصَّبر والكحل وغيرهما إذا لم يكن فيه طِيب، وكره أحمد الاكتحال للمحرم، وفيه قول للشافعي. * * *

1956 - وقالت أُمُّ الحُصَيْن: رَأَيْتُ أُسامَةَ وبلالًا، وأَحَدُهُما آخِذٌ بخِطامِ ناقَةِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والآخَرُ رافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الحَرِّ، حتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ. قولها: "بخِطَامِ ناقَةِ رسول الله - عليه السلام -"؛ أي: بِزِمَامِ ناقَتِهِ. "والآخَرُ رافعٌ ثوبَه يستُرُهُ من الحَرِّ"؛ يعني: جعل ثوبًا على رأس رسول الله - عليه السلام - مثل ظل بحيث لم يصل الثوب إلى رأس رسول الله - عليه السلام -، بل هو مرتفع عن رأسه حتى لا يؤذيه حَرُّ الشمس، ويجوز للمحرم أن يقف تحت ظل شجر أو ثوب أو غيرهما. * * * 1957 - عن كَعْب بن عُجْرَة "أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِهِ وهو بالحُدَيْبيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وهو مُحْرِمٌ، وهو يُوقِدُ تَحْتَ القِدْرِ وَالقَمْلُ يَتَهافَتُ على وَجْهِهِ، فقال: "أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ "، قال: نَعَمْ، قال: "فاَحْلِقْ رَأْسَكَ، وأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ - والفَرْقُ ثَلاثَةُ أَصْوُع - أو صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو انسُكْ نَسِيكَةً". قوله: "يُوْقِدُ تحتَ قِدْرٍ"؛ أي: يجعل ويُشعِلُ النار تحت قِدْرٍ ليطبخ طعامًا. "والقَمْلُ يَتَهَافَتُ على وَجْهِهِ"، (يتهافت)؛ أي: يتساقط القمل من رأسه على وجهه من الكثرة. "هَوَامُّكَ"؛ أي: ما يكون في رأسك من القمل. (الهَوَامُّ): جمع هَامَّةٍ، وهي الدَّابة التي تدبُّ؛ أي: تسير على السكون مثل القمل والنمل وغيرهما، وقد ذكر شرحه في (كتاب الجنائز) في قوله: "مِنْ شيطان وهَامَّة".

قوله: "فاحلق رأسك ... " إلى آخر الحديث. اعلم أن كل مُحرِمٍ حلق شعرًا من أعضائه، أو من الرأس أو غيره؛ إن كان بغير عذر أَثِمَ ولزمته الفديةُ، وإن كان بعذر، مثل أن يؤذيه القمل، أو يكون على رأسه جراحة يحلق ما عليها وما على حواليها من الشعر للمداواة = لم يأثم، ولكن تلزمه الفدية، وفديته إن كانت شعرة مُدٌّ في قولٍ، ودرهمٌ في قول، وإن كان شعرتين فمدان أو درهمان، وإن كان ثلاث شعرات أو أكثر، فهو مُخَيَّرٌ بين إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، وبين أن يصوم ثلاثة أيام، وبين أن يذبح نسيكة - أي: شاة - ويفرق لحمها بين مساكين الحرم. وقال أبو حنيفة: إن أطعم البر أطعم ست مساكين كل مسكين نصف صاع، وإن أطعم من التمر أو الزبيب أطعم كل مسكين صاعًا. * * * 1958 - عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى النِّساءَ في إِحْرَامِهِنَّ عَنِ القُفَّازَيْنِ، والنِّقَابِ، وما مَسَّ الوَرْسُ، والزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيابِ، ولْتَلْبَسْ بَعْدَ ذلكَ ما أَحَبَّتْ مِنْ ألْوَانِ الثِّيابِ مُعَصْفَرٍ، أو خَزًّ، أو حُلَلٍ، أو سَرَاوِيلَ، أو قَمِيصٍ، أو خُفٍّ". قوله: "مُعَصْفَر"؛ أي: مصبوغ بالعُصْفُر، وهو المُرِّيقُ، وهو شيء يقال بالفارسي: كُرْكُم (¬1)، وإنما جاز هذا؛ لأنه ليس بطِيبٍ، بخلاف الزعفران. "الحُلَل": جمع حُلَّةٍ، وهو رداء وإزار [أ] وقميص وسراويل من القطن. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "خسك"، ولعل الصواب ما أثبت.

12 - باب المحرم يجتنب الصيد

1959 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بنا ونحنُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْرِمَاتٌ، فإذا حاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَها مِن رَأسِها عَلى وَجْهِهَا، فإذا جاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ. قولها: "فإذا حاذَوْنَا سَدَلَت"؛ أي: وصل الرُّكبان، وهو جمع راكب؛ أي: محاذاتنا ومقابلتنا، (تَدَلَّتْ) أصله: تَدَلَّيَتْ، فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون التاء. ومعناه: أرسلت إحدانا جلبابها على وجهها بحيث لم يمس الجلباب بشرة الوجه؛ كي لا يرانا الركبان. * * * 1960 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَدَّهِنُ بالزَّيْتِ وهُوَ مُحْرِمٌ غَيْرَ المُقَتَّتِ. يعني: غير المُطيَّب. قوله: "غيرَ المُقَتَّتِ" بالقاف والتاءين المنقوطتين من فوق بنقطتين؛ أي: غيرَ المُطَيَّبِ؛ أي: ليس فيه طِيب، فإن كان فيه طِيب حرم استعماله في جميع البدن، وإن يكن فيه طِيب حرم استعماله في الرأس واللحية دون سائر الأعضاء، والله أعلم. * * * 12 - باب المُحرِم يَجتنِب الصَّيد (باب المحرم يجتنب الصيد) مِنَ الصِّحَاحِ: 1961 - عن الصَّعْب بن جَثَّامة: أنَّهُ أَهْدَى لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وحْشِيًّا

وهو بالأَبْوَاءِ - أو بَوَدَّانَ - فَرَدَّ عليهِ، فلمَّا رأَى ما في وَجْهِهِ قال: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ". قوله: "أهدى لِرسول الله - عليه السلام - حمارًا وحشيًا وهو بالأَبْوَاء أو بِوَدَّان فَرَدَّ عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نَرُدَّهُ عليك إلا أَنَّا حُرُم"، (أهدى)؛ أي: أرسل إليه، (الأَبواء والوَدَّان): موضعان. (فرد عليه)؛ أي: لم يقبل رسول الله - عليه السلام - ذلك الحمار منه، (فلما رأى ما في وجهه)؛ يعني: فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وجه صاحب الحمار من أثر التأذي؛ برده - عليه السلام - الحمار إليه، فاعتذر إليه رسول الله - عليه السلام - وقال: (إنا لم نَرُدَّه)، يعني: لم نَرُدَّهُ عليه لتكبر أو لقلة حرمتك عندنا، بل لأن هذا صيد، ونحن محرمون، ولا يحلُّ الصيدُ على المحرم الحُرُم - بضم الحاء والراء - جمع حَرَام، وهو الذي أحرم بالحج والعمرة. * * * 1962 - عن أَبِي قَتَادَةَ: أنَّهُ خَرَجَ معَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَخَلَّفَ مَعَ بعضِ أَصْحَابهِ وهم مُحْرِمُونَ، وهو غيرُ مُحْرِمٍ، فرَأَوْا حِمارًا وَحْشيًا قَبْلَ أَنْ يراهُ، فلمَّا رأَوهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رآهُ أبو قَتادَةَ، فرَكِبَ فَرَسًا له، فسأَلَهُمْ أنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فأَبَوْا، فتَنَاوَلَهُ، فحَمَلَ عليهِ فَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَكَلَ، فأكلُوا، فَنَدِمُوا، فلمَّا أَدْركُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، سأَلُوه قال: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شيء؟ " قالوا: مَعَنا رِجْلُهُ، فأَخَذَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَكَلَها. وفي روايةٍ: فلمَّا أَتَوْا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ "، قالوا: لا، قال: "فكُلُوا ما بَقِيَ مِنْ لَحْمِها". قوله: "فتخلف"؛ أي: فتأخر أبو قتادة مع جماعة عن رسول الله - عليه

السلام - قليلًا في الطريق (فرأوا)؛ أي: فرأى الذين أحرموا "حمارًا وحشيًا قبلَ أن يراه" أبو قتادة. "تركوه"؛ أي: لم يقولوا: هذا حمار، بل سكتوا "حتى رآه أبو قتادة"، وإنما سكتوا عن دلالة أبي قتادة على الحمار؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يصيد، ولا أن يدل أحدًا على الصيد. "فسأَلَهُم"؛ أي: فطلب منهم أبو قتادة "أن يُنَاولوه"؛ يعني: أن يعطوه سوطه، "فأَبَوا"؛ أي: فامتنعوا أن يعطوه سوطه؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يُعِيْنَ أحدًا في قتل الصيد، (المناولة): الإعطاء، و (التناول): الأخذ، "فتناوله"؛ أي: أخذ أبو قتادة سوطه، "فحَمَلَ"؛ أي: ركَّض فرسه نحو الحمار الوحشي، "فعقره"؛ أي: فقتله، (العقر): القتل، وقطع عَقِبِ الرجل، والجراحة، وكل ذلك محتمل ها هنا. "فندموا"؛ أي: فندم المحرمون عن أكل لحم ذلك الحمار الوحشي. "فأخذها" الضمير يعود إلى الرِّجْلِ؛ لأن الرِّجْلَ مؤنث سماعي. "فأكلَهَا": وهذا يدل على أن المحرم يجوز له أن يأكل من لَحْمِ صَيْدٍ صاده غير محرم، إذا لم يصد ذلك الصائد لأجل المحرم، فإن صاد لأجل المحرم لا يجوز لذلك المحرم أن يأكل من ذلك الصيد. * * * 1963 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَمْسٌ لا جُنَاحَ على مَنْ قَتَلَهُنَّ في الحَرَمِ والإحْرامِ: الفَأرَةُ، والغُرابُ، والحِدَأَةُ، والعَقْرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ". "خمسٌ"، أي: خمس حيوانات، "لا جُنَاح"؛ أي: لا إثم "على مَنْ قتلَهُنَّ

في الحرم"، يعني: سواء كان ذلك القاتل في حرم مكة أو المدينة، أو في حالة الإحرام. "الفأرَةُ والغُرابُ والحِدَأَةُ والعقرَبُ والكلب العقور"، (الحِدَأةُ): طير يسلب من الناس الخبز وغيره، ويقتلُ الطيورَ الصغارِ والفأرةَ، ويكسر الكوز، و (الكلب العقور): الذي يعض الإنسان ويجرحهم. والحديث صريح على قتل هذه الخمسة، وقد جاء في حديث بعد هذا: "الحية". لا خلاف عند العلماء في قتل ما نُصَّ على قتله في الحديث، وأما ما لم يأت في قتله حديث؛ فأجاز الشافعي قتل ما لا يؤكل لحمه، إلا أنه يستحب قتل ما يضر كهذه الأشياء المذكورة، وكالأسد والذئب والخنزير وغيرها، ويكره قتل ما لا يضر أحدًا، لكن لو قتله فلا جزاء عليه سواء كان في الحرم أو في حال الإحرام، إلا ما تولد من مأكول وغير مأكول كالمتولد بين الضبع والذئب، فإنه يحرم أكله، ولكن لا يلزم على قاتله الفداء. وقال مالك: كل ما يضر الناس من الدواب مثل الأسد والفهد والنمر والذئب، فهو كالكلب العقور، فيجوز قتله، فأما ما لا يضر كالهرة البرية وكالنسر من الطيور وما أشبه ذلك؛ فلو قتله لزمه الجزاء. وأجاز أبو حنيفة سوى ما جاء في الحديث قتل الذئب، وأوجب الكفارة فيما عداه كالفهد والنمر والخنزير، وجميع ما لا يؤكل لحمه. * * * 1964 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ: الحَيَّةُ، والغُرابُ الأَبْقَعُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ، والحُدَيَّا".

قوله: "خمس فواسق"، (الفواسق): جمع فاسقة، وهي المُضرَّة من الدواب والطيور، و (الغراب الأبقع): الذي لونه أبيض وأسود. (الحُدَيَّا): تصغير حِدَأَة، فلما صُغِّرَتْ صارت حُدَيْئَةَ، فقلبت الهمزة ياء فصارت: حُدَيَّةَ - بياء مشددة - ثم حذفت التاء وأقيمت الألف مكانها؛ لأن الألف تدل على التأنيث مثل: حُبْلَى. * * * 1965 - عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ في الإِحْرَامِ حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أوْ يُصادَ لَكُمْ". قوله: "لحمْ الصَّيد لكم في الإِحرَامِ حلالٌ ما لم تَصيدوه أو يُصاد لكم"؛ يعني: كل صَيدٍ ذَبَحَهُ غيرَ مُحْرِم يجوز للمحْرِم أكلُه إذا لم يُصد لأجل المحْرِم، ولا بِدلالته وإعانته. (أو) بمعنى إلا أن، و (ما لم تصيدوه) استثناء في المعنى، فكأنه قال: لحم الصيد لكم في الإحرام حلالٌ، إلا أن تصيدوه، أو إلا أن يصاد لكم؛ فإنه لا يحلُّ لكم في هاتين الحالتين. ونصب (يصاد) لأجل أنَّ (أو) بمعنى: إلا أن. واعلم أن حلالاً إذا صاد لأجل محرم، لا يجوز لذلك المحرم أكلَ لحم ذلك الصيد، وإن لم يأمره المحرمُ بالصيد ولا أَذِنَ له. * * * 1966 - عن أَبِي هُريرة - رضى الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجَرَادُ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ".

قوله: "الجراد مِنْ صَيْدِ البحر"؛ يعني: كما أنه يجوز للمحرم قتل صيد البحر يجوز له قتل الجراد، ولا ضمان عليه، وبهذا قال أهل الظاهر، وعن أبي سعيد الخدري رواية هكذا، وأما الأئمة الأربعة قالوا: لا يجوز للمحرم قتل الجراد، ويلزمه بقتله قيمته، ويأتي شرحه في (الأطعمة). * * * 1967 - عن أَبِي سَعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ العَادِي". قوله: "يقتل المحرمُ السَّبع العادي" الذي يقصد الإنسان والمواشي بالقتل والجراحة كالأسد والذئب والنمر وغيرها، وقد ذكر بحثه قبيل هذا. * * * 1968 - عن عبد الرَّحمن بن أبي عَمَّار قال: سألتُ جابر بن عبدِ الله - رضي الله عنه - عَنِ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هِيَ؟، قال: نعمْ، فقلتُ: أَتُؤْكَلُ؟، قال: نعمْ، فقلتُ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. صحيح. قوله في حديث الضَّبُعِ: "أَصَيْدٌ هِيَ"، بهذا الحديث قال الشافعي وأحمد، وأجازا أكل لحمها، وأوجبا الكفارة على المحْرِم بقتلها. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز أكل الضَّبُعِ للحديث الذي بعد هذا، وهو قوله - عليه السلام -: "أَوَيَأكلُ الضَّبُعَ أحدٌ؟ ". * * *

13 - باب الإحصار وفوت الحج

13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجِّ (باب الإحصار وفوت الحج) مِنَ الصِّحَاحِ: 1971 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قَدْ أُحْصِرَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ وجامَعَ نِسَاءَهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ حتَّى اَعْتَمَرَ عامًا قابلًا. قوله: "أُحْصِرَ رسول الله - عليه السلام - فحلَقَ وجامَعَ نساءَهُ ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلاً"، (الإحصَار): الحبس والمنع؛ يعني: أحرم رسول الله - عليه السلام - بالعمرة في السنة السادسة من الهجرة، فأتى من المدينة إلى مكة ليعتمر، فلما بلغ حُديبية، منعه كفار مكة من دخول مكة، فخرجَ رسول الله - عليه السلام - من الإحرام وحلقَ، وحلَّ له ما حرم عليه بسبب الإحرام، ونحر هديه، ورجع إلى المدينة، وعاد في السنة السابعة وقضى عمرته. فمن أحرم بحجٍ أو عمرة، فأُحْصِرَ عن إتمامه لزمه أن يذبح شاة حيث أحصر، ويفرق لحمه هناك عند الشافعي، ويخرج من الإحرام ويرجع. ثم إن كان ذلك الحج أو العمرة فرضًا عليه بقي ذلك الفرض في ذمته، وإن كان تطوعًا لم يلزمه القضاء عند الشافعي ومالك. وقال أبو حنيفة: لزمه القضاء. وقال أيضًا: دم الإحصار لا يُذبح إلا بمكة، فيصير المحصر على إحرامه، ويبعث شاة مع أحد إلى مكة، ويوكِّله في نحره، فلما نحره يخرج ذلك المحصر من الإحرام. * * *

1973 - وقال مِسْوَر بن مَخْرَمَة: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أنْ يحْلِقَ، وأمرَ أصْحَابَهُ بذلك. قول المِسْوَر: "أن رسول الله - عليه السلام - نحر قبل أن يحلق"، (المِسْوَر) بن مخرمة، يريد: أنَّ أداء الكَفَّارة يجب أن يكون مُقَدَّمًا على الحلق ولبس المخيط وغيرهما من مُحرمات الإحرام. وهذا الحديث من قصة الحديبية أيضًا. * * * 1974 - وقال ابن عُمر - رضي الله عنهما -: ألَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إنْ حُبسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الحَجِّ طافَ بالبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شيءٍ حَتَّى يَحُجَّ عامًا قابلًا، فيُهْدِي، أَوْ يَصُومَ إنْ لم يَجِدْ هَدْيًا. قوله: "أليسَ حَسْبُكُمْ"؛ أي: ألم يَكْفِكُمْ بسُنة رسول الله عليه السلام؛ أي: قول رسول الله عليه السلام: "إن حُبس أَحَدُكُم عن الحجِّ طافَ بالبيت وبالصَّفا والمروة". يعني: إن مُنِعَ أحدُكُمْ بعدو عن وقوف عرفة، ولم يُمنع عن الطواف والسعي؛ فعليه أن يطوف ويسعى، ويخرج من الإحرام، وهل يلزم القضاء؟ فعلى ما ذكرناه في أول هذا الباب، وأما الفدية فتلزمه، كمن فاته الحج. والفدية [في] الفوات والإحصار دم شاة، فإن لم يجد؛ فعليه صوم عشرة أيام.

1975 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: دَخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلى ضُبَاعَةَ بنتِ الزُّبَيْرِ، فقال لها: "لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟ "، قالت: والله ما أَجدُني إلاَّ وَجِعَةً، فقال لها: "حُجِّي، واَشْتَرِطي، وقُولي: اللهمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي". قولها: "لعلك أردْتِ الحج"، أي: تريدين أن تَحجي. "فقالت: والله ما أجدُني إلا وَجِعة"؛ يعني: أجد في نفسي ضعفًا من المرض، ولا أدري أقدر على إتمام الحج أم لا. "فقال لها: حُجِّي واشترطي، وقولي: اللهم مَحِلَّي حيث حبستني"، (المَحَل) بفتح الميم والحاء: مصدر ميمي، و (المَحِلَّ) بفتح الميم وكسر الحاء: زمان ومكان، كلها من (حلَّ) بفتح الحاء في الماضي وكسرها في الغابر: إذا خرج من الإحرام. يعني: أحرمي بالحج، وقولي: اشترطت أن أخرج من الإحرام حيث مرضْتُ وعجزْتُ عن إتمام الحج. وهذا الحديث يدل على أنه يجوز لكل محرم أن يشترط الخروج من الإحرام بعذر يعترضه، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي. وقال غيرهما: لا يجوز له الخروج بالشرط. * * * 1976 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبَدِلُوا الهَدْيَ الذي نَحَرُوا عامَ الحُدَيْبيَةِ في عُمْرَة القَضَاءِ. قوله: "أن رسول الله - عليه السلام - أمر أصحابه أن يُبْدِلُوا الهديَ الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء"؛ يعني: بنحر الهدي للإحصار، فلما جاؤوا في السَّنة القابلة لقضاء تلك العمرة أمرهم أن ينحروا بدل ما نحروا في

السنة المتقدمة، وسببه: أنهم نحروا عام الحديبية خارج الحرم، والنَّحْرُ خارج الحرم غير جائز عند الشافعي، وجائز عند أبي حنيفة. فلما نحروا عام الحديبية خارجَ الحرم أمرهم أن ينحروا بدل تلك الهدايا في سنة القضاء في الحرم. * * * 1977 - عن الحَجَّاجِ بن عَمْرو الأَنْصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كُسِرَ أو عَرِجَ أو مَرِضَ فقدْ حَلَّ، وعليهِ الحَجُّ مِنْ قَابلٍ"، ضعيف. قوله: "مَنْ كُسِرَ أو عَرِجَ أو مَرِضَ؛ فقد حلَّ وعليه الحجُّ من قَابل"؛ يعني: مَنْ حَدَثَ له بعد الإحرام مانع غير إحصار العدو، وعجز عن إتمام أركان الحج كالمرض وغيره، يجوز له أن يترك الإحرام، ويرجع إلى وطنه؛ ليجيء في سنة أخرى بعد ما زال ذلك العذر، ويقضي ذلك الحج كالمحصر، وهذا قول أبي حنيفة. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يجوز الخروج من الإحرام بغير عذر الإحصار، بل يصبر على الإحرام، فإن زال العذر قبل فوات الحج؛ فهو المراد، وإن زال بعد فوات الحج؛ لزمه أن يخرج من الإحرام بأفعال العمرة، وحكمه في القضاء ما ذكرناه في الإحصار. * * * 1978 - عن عبد الرحمن بن يَعْمَرَ الدِّيْلي قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحَجُّ عَرَفَة، مَنْ أدركَ عَرَفَة ليْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلوعِ الفَجْرِ فقدْ أَدْرَكَ الحجَّ، أيَّامُ مِنًى ثلاثةٌ، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ".

14 - باب حرم مكة حرسها الله

قوله: "الحجُّ عَرَفَةُ، مَنْ أدركَ عرفةَ ليلةَ جَمْعٍ قبل طُلوع الفجر فقد أدرك الحجَّ"؛ يعني: معظم الحج عرفة؛ أي: مَن حضر بعرفة (ليلة جَمْعٍ)؛ أي: في ليلة المزدلفة؛ يعني: ليلة العيد "فقد أدرك الحج"؛ لأن وقوف عرفة يفوت، وباقي أركان الحج لا تفوت، فإذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج؛ لأنه يمكنه أن يفعل باقي أركان الحج متى شاء. * * * 14 - باب حرَم مكَّة حرَسَها الله (باب حرم مكة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1979 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لا هِجْرَةَ، ولكِنْ جِهادٌ وَنيَّةٌ، فإذا اَسْتُنْفِرْتُمْ فاَنْفِرُوا"، وقالَ يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ، فهو حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيهِ لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لِيْ إلا ساعةً مِنْ نَهارٍ، فهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ الله إلى يَوْمِ القيامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا يَلتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاهُ"، فقال العبَّاسُ: يا رسولَ الله، إلاَّ الإذْخِرَ، فإنَّه لقَيْنِهِمْ ولِبُيوتِهِمْ، قال: "إلاَّ الإِذْخِر". قوله: "لا هِجْرَةَ ولكن جهادٌ ونية"؛ يعني: كانت الهجرة من مكة إلى المدينة فرضًا على كل مَنْ أَسلمَ قبلَ فتح مكة؛ لأن المسلمين لم يقدروا على إظهار دينهم بين مشركي مكة، فلما فُتحت مكة رُفِعَتِ الهجرة؛ لأنه لم يبقَ خوف العدو ومنعهم عن إظهار المسلمين دينهم، ويبقى فرض الجهاد والنية

الخالصة في محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والدِّين، وتبقى الهجرة بالنية عن المعاصي إلى التوبة. قوله: "وإذا استنفرتم فانفروا"؛ يعني: وإذا خرجتم إلى الجهاد فاخرجوا؛ أي: إذا أمركم أمراؤكم بالخروج إلى الغزو فاخرجوا حيث ما كنتم. قوله: "ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهار"، قيل: هذا عطف على قوله: "لم يحلَّ القتال فيه لأحدٍ قبلي". ومعناه: ولم يحلَّ القتال لي فيه إلا ساعة، وهو حين فتح مكة؛ فإنه حلَّ له أن يقتل المشركين، وهذا يدل على أن مكة فتح عنوة؛ أي: قهرًا، وبهذا قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -. وقيل: بل قوله: "ولم يحلَّ لي" كلام مستأنف، ومعناه: ولم يحلَّ لي دخول مكة بغير إحرام إلا يوم فتح مكة، وليس أُنه أُحلَّ لي القتال فيه. وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد، وهم يقولون: فتحت مكة صلحًا. وفائدة هذا الخلاف: أن من قال: فتحت عنوة: أنه لا يجوز بيع دور مكة ولا إجارتها؛ لأنها موقوفة؛ لأن رسول الله - عليه السلام - جعلها وقفًا بعدما أخذها من الكفار. ومن قال: فتح صلحًا: يجوز بيعها وإجارتها؛ لأنها مملوكة لأصحابها؛ لأن رسول الله - عليه السلام - لم يأخذها، بل تركَهَا في أيديهم. قوله: "ولا يُعْضَدُ شَوْكُهُ"؛ أي: لا يقطعُ شجر حرم مكة، والمراد منه: شجر لا يغرسه الآدميون مما لا شوك له يؤذي الناس، فإن قلع شجرة يغرسها الآدميون، أو شجرة ذات شوك يؤذي الناس، فلا شيء عليه، وفي قطع شجرة كبيرة مما لا يغرسه الآدميون ولا يُؤذى الناس بشوكها، لزمه بقرة، وفي شجرة صغيرة، لزمه شاة، قَدْرُ صِغر الشجر وكِبرها يتعلقُ بالعُرْفِ.

قوله: "ولا يُنَفَّرُ صيدُهُ"؛ يعني: لا يجوز لأحدٍ قتل صيد الحرم ولا تنفيره ولا إيذاؤه، فإنْ قتلَ صيدًا لزمه مثله، إن كان له مثل من النعم، والنعم: الإبل والبقر والغنم، وإن لم يكن له مثل لزمه قيمته، وهو مخيَّرٌ من أن يذبح مثله من النعم ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وبين أن يخرج قيمته طعامًا ويفرقه عليهم، وبين أن يصوم بكل مُد من الطعام الذي هو قيمة ذلك الصيد يومًا. ويجب بقتل حمامة الحرم والفاختة والقُمْري شاة، أو قيمته من الطعام، أو يصوم عن كل مد يومًا، وجزاءُ صيدٍ يقتلُهُ المُحْرِمُ في غير الحَرَمِ، وجزاءُ صيدِ الحَرَمِ سواء قتله مُحْرم أو غير مُحْرِم سواء. قوله: "ولا يلتقط لُقَطَتَهُ إلا مَنْ عَرَّفها"، (اللُّقَطُ): ما يؤخذ من مالٍ ضَلَّ عن صاحبها. فأظهر قولي الشافعي: أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ لُقَطَةَ الحرم، ليتملكها، بل يلزمه أن يحفظها أبدًا ليجيء مالكها. وقوله الآخر: أنه يعرِّفها سَنة، فإن لم يأتِ صاحبها فله أن يتملكها بعد السَّنة كلقطة غير الحرم، وبهذا القول قال أبو حنيفة ومالك وأحمد. قوله: "ولا يُخْتَلَى خلاه"، (اختَلَى) بالخاء المعجمة، وهو ناقص، وليس بمهموز، ومعناه: قطع الخَلاء وهو الحشيش؛ يعني: لا يجوز قطع حشيش الحرم، فإن قطعه لزمه قيمته، ويجوز أن ترعاه الدواب عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة، وما له الشوك يجوز قطعه كيلا يضر الناس. قوله: "إلا الإذْخِرَ فإنه لِقَيْنِهِمْ"، (الإذخر): نبت عريض الأوراق، (القين): الحداد، يعني: استثنى رسول الله - عليه السلام - الإذخر عن التحريم، فإنه يحتاج إليه الناس، فإنهم يجعلونه في قبورهم، وفي شقوق بيوتهم، ويحرقه الحدادون بدل الحطب والفحم. * * *

1980 - وفي روايةٍ: "لا تُعْضَدُ شَجَرتُها، ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَها إلاَّ مُنْشِدٌ". قوله: "إلا منشدٌ"؛ أي: إلا مُعَرِّفٌ، ومعنى هذا المعنى: العلم. واعلم أن الشافعي كره نقلَ ترابِ الحرم وحجره وشجره إلى غير الحرم، ولا يكره نقل ماء زمزم للتَّبرك. قوله: "ولا يَلتقِطُ لُقَطَتَهُ إلا مُعَرِّف"، وقد ذكر. * * * 1981 - وعن جَابرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ". قوله: "ولا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السِّلاح" أراد بـ (حمل السلاح) ها هنا: المحاربة مع المسلمين، أما حمل السلاح للبيع والشراء والمحاربة مع الكفار، فيجوز. * * * 1982 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وعلى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فلمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فقال: إنَّ ابن خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فقال: "اقْتُلْهُ". قوله: "وعلى رأسه المِغْفَرُ" (المِغْفَرُ): شبه قَلَنْسُوَة من الدرع، وهذا يدل على جواز دخول مكة لرسول الله - عليه السلام - بغير إحرام؛ لأنه لو كان محرمًا؛ لكان رأسه مكشوفًا. ولا خلاف في الساعة الأولى من يوم فتح مكة جاز له دخول مكة بغير إحرام، وأما بعد ذلك فلا يجوز عند أبي حنيفة وفي أحد قولي الشافعي، ويجوز

عند مالك وفي القول الثاني للشافعي. قوله: "فلمَّا نَزَعَهُ"؛ أي: فلمَّا رفع المغفر عن رأسه وجلس. "فجاءه رجل وقال: إن ابن خَطَلٍ متعلِّقٌ بأستار الكعبة"؛ يعني: تعلَّق بلباس الكعبة؛ كي لا يقتله أحد، فأمر رسول الله - عليه السلام - بقتله، وإنما أمر بقتله، وما قَبلَ توبته وأمانَه؛ لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول الله - عليه السلام - في أمرٍ مع رجل من الأنصار، فقتل في الطريق ذلك الرجل الأنصاري، وأخذ ما معه من المال، وهرب من المدينة إلى مكة، فلما دخل رسول الله - عليه السلام - مكة يوم الفتح تعلق بأستار الكعبة؛ ليؤمنه رسول الله - عليه السلام -، فلم يقبل رسول الله - عليه السلام - أمانه، وأمر بقتله بقصاص ذلك الرجل الأنصاري. وهذا يدل على أن مَنْ قال: إنَّ مَنْ عليه حق آدمي من القصاص أو المال، والتجأ بالحرم لا يفيده دخول الحرم، بل يقتل بالقصاص ثَمَّ، وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، بل لا يباع منه القوت، ولا يترك أن يشرب الماء حتى يضطر ويخرج من الحرم، فيقتص منه خارج الحرم. * * * 1984 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فإذا كانُوا ببَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ"، قالتْ: يا رسُولَ الله!، كيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وفيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهَمْ؟، قال: "يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِم". قوله: "يغزو جيشٌ الكعبةِ"؛ أي: يقصد جيشٌ الكعبةَ في آخر الزمان ليخربها.

قوله: "بيداءَ من الأرض"؛ يعني: فلما بلغوا في طريقهم بأرض بيداء، وهي برية بعيدة. "يخسف بأولهم وآخرهم"؛ أي: دخلوا قعرَ الأرض كلهم جميعًا بشؤم قصدهم تخريب الكعبة. قولها: "كيفَ يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم"، (الأسواق): جمع سُوقٍ أو سُوْقَةٍ، فإن كان جمع سُوق، فتقديره: وفيهم أهل أسواقهم، وإن كان جمع سُوْقَةٌ، فلا حاجة إلى التقدير؛ لأن السُّوقَة بمعنى الرَّعية. "ومَنْ ليس منهم"؛ أي: ليس في الكفر والقصد بخراب الكعبة، بل هم ضعفاء وأُسراء. قوله: "ثمَّ يُبعثون على نيَّاتهم"؛ يعني: يهلك هناك أخيارهم وأشرارهم، والأخيار يهلكون بشؤم الأشرار، لكن يبعث كل واحد منهم على نيته يوم القيامة، فإن كانت نيته الإسلام والخير فهو من أهل الجنة، وإن كانت نيته الكفر فهو من أهل النار. * * * 1985 - وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ". قوله: "يُخَرِّبُ الكعبةَ ذو السُّوَيقَتَيْنِ من الحبشة"؛ يعني: يخرِّبُ الكعبة في آخر الزمان ملك كافر من الحبشة. (السُّوَيقَتَيْن): تثنيةٌ، واحدتها: سُويقة، وهي تصغير ساق، والسَّاق مؤنث سماعية، والمؤنث السماعية إذا صغرت ردت في تصغيرها الهاء المقدرة فيما قبل التصغير.

وإنما صغر ساقيه؛ لأن ساقيه دقيقتان قصيرتان. * * * 1986 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "كأنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُها حَجَرًا حَجَرًا". قوله: "كأني به أسودَ أفحجَ"، (أسود أَفحج) مجروران؛ لأنهما بدل من الهاء في (به)، وفُتحا؛ لأنهما غير منصرفين. ومعنى (أفحج)؛ أي: بعيد ما بين رجليه في المشي. قوله: "كأني به"؛ يعني: حاصل ومحيط بحضرته انظر إليه من غاية علمي به وبصورته، والمراد بهذا الرجل: هو الذي تقدم ذكره. الضمير في "يقلعها" راجع إلى الكعبة. * * * مِنَ الحِسَان: 1987 - عن يَعلَى بن أُميَّة - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْتِكَارُ الطَّعامِ في الحَرَمِ إِلحَادٌ فيهِ". قوله: "احتكارُ الطعامِ في الحرمِ إلحادٌ فيه"، (الاحتكار): حبس القوت إلى وقت الغلاء، وهذا منهي عنه، وشروطه ثلاثة: أحدها: أن يكون قوتًا. والثاني: أن يشتري ذلك القوت في وقت يحتاج إليه الناس لأقواتهم. والثالث: أن يحفظه ليبيعه إذا اشتدَّ غلاؤه. فإذا اجتمعت هذه الشروط تكون في سائر البلاد حرامًا، وفي مكة أشد تحريمًا.

ومعنى "إلحَادٌ": الميل عن الحق إلى الباطل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] الضمير في {فِيهِ} يعود إلى المسجد الحرام، والمراد به: جميع مكة، الظلم وجميع المعاصي في مكة أشد إثمًا منه في سائر البلاد؛ لحرمة ذلك الموضع. * * * 1988 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَكَّةَ: "ما أطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحَبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوني مِنْكِ ما سَكَنْتُ غَيْرَكِ"، صحيح. قوله: "ما أطيَبَكِ من بلد وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرَجُوني منك ما سكنتُ غيرك"، (ما أطيبكِ)، (ما) للتعجب، و (أطيب) فعل ماض وفاعله فيه مضمر، وهو ضمير (ما)، والكاف مفعوله، وهي مكسورة؛ لأنها ضمير مكة، فـ (ما) مبتدأ، وهذه الجملة خبره، و (أحبَّك) معطوف على (أطيبك). خاطب رسول الله - عليه السلام - عام الفتح مكة، وقال لها هذا الحديث، وإنما قاله - عليه السلام -؛ لغلبة حبِّ الكعبة وحَرَمِ الله ومسكن آبائه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - على قلبه. يعني: لولا أخرجني من مكة كفار قريش ما ينبغي لي أن أسكن بلدًا غيرها؛ لأنه ليس في الأرض بلد أشرف منها، والبلد إذا كان أشرف يكون توطنه أفضل، وترك الأفضل بالاختيار غير مرضي. * * * 1989 - عن عبد الله بن عَدِيِّ بن الحَمْراء قال: رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - واقِفًا على الحَزْوَرَةِ، فقال: "والله إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ الله، وأَحَبُّ أرْضِ الله إلى الله،

15 - باب حرم المدينة على ساكنها الصلاة والسلام

ولَوْلاَ أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خَرَجْتُ". قوله: "على الحَزْوَرَةِ"، (الحَزْوَرة) بفتح الحاء المهملة والزاي المعجمة وإسكانها وبفتح الواو بعدها راء مهملة: اسم سوق بمكة. ذكر في "الغيث" أن الشافعي قال: إن الناس يشددون الحديبية والحزورة، وهما مخففان؛ يعني: لا تشديد في هذين اللفظين. * * * 15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام (باب حرم المدينة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1990 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المَدِينَةُ حَرامٌ ما بَيْنَ عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، يَسْعَى بها أدْناهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فعلَيْهِ لعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلَ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ومَنْ والَى قَوْمًا بغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". وفي روايةٍ: "وَمَنْ اَدَّعَى إلى غَيْرَ أبيهِ، أوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". قوله: "المدينة حَرام ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فمن أحدث فيها حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ"،

(عَيْرٌ وثَوْرٌ): جبلان بالمدينة كل واحد منهما على طرف من المدينة. يعني: حرمت من عير إلى ثور أن لا يقتل ما بينهما من الصيد، وأن لا يقطع من الشجر، وهذا التحريم يوجب الإثم لمن قتل صيدًا أو قطع شجرًا، ولكن لا جزاء عليه عند مالك والشافعي في قوله الجديد. وفي القديم: تسلب ثياب القاتل، أو قاطع الشجر، ثم السلب لمن سلبه؛ أي: أخذ ثيابه، وقيل: لبيت المال، وقيل: يفرق على مساكين المدينة، يستوي مجاور المسجد وغيرهم. وعند أبي حنيفة: لا يحرم حرم المدينة، بل هو كسائر الأراضي. قوله: "فمن أحدث فيها حدثًا"؛ أي: من فعل في المدينة فعلًا جديدًا؛ أي: بدعة سيئة. "أو آوى محدثًا"؛ معنى (آوى): هَيَّأ مسكنًا لأحد، وأنزله مسكنًا، والمراد بـ (آوى) هنا: قوَّى وأعان. (محدثًا): يُروى بكسر الدال وفتحها، فالكسر معناه: واضع بدعة والفتح معناه: الفعل الذي وُضع جديدًا؛ أي: فعل البدعة. يعني: من فعل في المدينة بدعة أو أعان واضع بدعة، أو قوى وأظهر بدعة وضعها أحد، فعليه لعنة الله، وإنما حدث بهذا الحديث، وبين لحوق لعنة الله عليه؛ لأن الموضع إذا كان شريفًا يكون إثم الذنوب فيه أكثر من إثم ذنب في موضع غير شريف. قوله: "لا يقبل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"، (الصَّرْفُ): النافلة، و (العَدْل): الفريضة، والمراد منه: نفي الكمال، وقيل: (الصرف): التوبة، و (العَدْل): الفداء.

يعني: لا تقبل منه التوبة والفداء بعد الموت، وأما قبل الموت تقبل التوبة والفداء، ويريد بالفداء: جزاء الصيد والشجر، أو التصدق والإعتاق؛ ليحصل له الثواب، فيدفع بالحسنة السيئة. قوله: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، (الذمة): الأمان؛ يعني: أمان واحد من المسلمين كأمان كلهم، (يسعى بها أدناهم)؛ أي: يسعى بذمة المسلمين (أدناهم)؛ أي: أقل المسلمين في القدر والمنصب وهو العبد. يعني: إذا جاء واحد أو عدد قليل من دار الحرب إلى دار الإسلام من غير أمان ولا رسالة، يجوز قتلهم وأخذ أموالهم، فإن أعطاهم الأمان واحد من المسلمين، وإن كان عبدًا، يجب على جميع المسلمين قَبول أَمانه، ويحرم قتل ذلك الكافر وأخذ ماله، سواء كان ذلك العبد مأذونًا من جهة المولى في الجهاد، أو لم يكن عند الشافعي ومالك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد، إذ لم يكن مأذون في الجهاد، وشرط الأمان أن يكون الذي يعطي الأمان من المسلمين بالغًا عاقلًا، وأن يكون العدد الذي يعطيهم الأمان من الكفار قليلًا بحيث لا يلحق المسلمين منهم ضرر بعذر الأمان. أما الجمع الكثير من الكفار: لا يجوز أمانهم إلا للسلطان أو نائبه. قوله: "فمن أَخْفَرَ مسلمًا"، (الإخْفَار): نقض العهد؛ يعني: إذا أعطى مسلم كافرًا الأمان، فمن نقض أمان ذلك المسلم، وقتل ذلك الكافر، وأخذ ماله "فعليه لعنة الله"؛ لأن إبطال أمان المسلم إبطال حكم الله ورسوله، وإبطال حكم الله ورسوله يوجب اللعنة. قوله: "ومن والى قومًا بغير إذن مواليه"، (الموالاة): جَرَيان المحبة والمودَّة بين اثنين، والمراد بـ (الموالاة) ها هنا: أن يقول عتيق لغير معتقه: أنت

مولاي ولك ولايتي ويضم نفسه إليه، ويكون معه، هذا الفعل حرام؛ لأن قطع الولاء من المعتق، ونقله إلى غير المعتق، كنقل النسب إلى أجنبي، مثل أن يقول ابن زيد: أنا ابن عمرو، مع علمه بأنه ابن زيد، فكما أن أخذَ مال أحد، وإعطاءه غير مالكه محرم، فكذلك نقل الولاء والنسب إلى من ليس له الولاء والنسب محرم، بل هذا أشد تحريمًا. فإذا عرفت هذا فاعرف أن قوله: "بغير إذن مواليه" يوهم أن الموالاة بإذن مولاه تجوز، وليس الحكم كذلك، بل لا تجوز الموالاة بإذنه وغير إذنه أصلًا؛ لأنه لو جاز نقل الولاء عن المولى بإذنه؛ لجاز للمولى أن يبيع الولاء أو يهبه، ولا يجوز هذا أصلًا؛ لأن الولاء حق الشرع كالنسب. وإنما قال - عليه السلام -: "بغير إذن مولاه" لأنه إذا استأذن مولاه في موالاة غيره لم يأذن له. قوله: "من ادعى إلى غير أبيه"؛ أي: من انتسب إلى غير أبيه، كما يقول ابن زيد: أنا ابن عمرو. قوله: "أو تولَّى غير مواليه": هذا مثل قوله: "من والى قومًا"، وقد ذُكر. * * * 1991 - عن سَعْدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أُحَرِّمُ ما بَيْنَ لابَتَيِ المَدِينَةِ أنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أو يُقْتَلُ صَيْدُها"، وقال: "لا يَدَعُها أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْها إلاَّ أَبْدَلَ الله فيها مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ولا يَثْبُتُ أَحَدٌ على لأُوَائِها وَجَهْدِهَا إلاَّ كُنْتُ لهُ شفيعًا أو شَهيدًا يومَ القِيامَةِ". قوله: "أُحرِّم" الهمزة للمتكلم. "ما بين لابتي المدينة"، (لابتي) أصله: لابتين، فسقطت نونه للإضافة، وهو

تثنية لابة، وهي موضع فيه حجارة صغار سود، وأراد بـ (لابتي المدينة): طرفيها. "أن تقطع عضاهها"، (العضَاه): جمع عضه بفتح العين وكسرها كل شجر له شوك، وتحريم قتل الصيد، وقطع الشجر والنبات في مكة والمدينة؛ ليكون لساكنيها بهما ألفة وأنس، وتفرج بالنظر إلى الصيود والأشجار والنبات. قوله: "لا يدعها"؛ أي: لا يترك المدينة "أحدٌ رغبةً عنها"، أَي: يميل عن المدينة ويفارقها، وينتقل إلى بلد آخر، رغبَ عن الشيء: إذا أعرض عنه، ورغب في الشيء: إذا مال إليه ورضي به. قوله: "إلا أَبدل الله فيها"؛ أي: خلف (¬1) الله في المدينة بدل الذي انتقل منها إلى غيرها، أو وُفِّق لأحد أن ينتقل من بلد آخر إلى المدينة. "من هو خير منه"؛ أي: من هو خير من الذي ترك المدينة، وهذا بيان فضل المدينة وفضل ساكنها. قوله: "ولا يثبتُ أحدٌ على لأوَائِها"؛ أي: مشقتها من قلة القوت، وشدة الحرارة، وعدم الأطعمة اللذيذة. "وجَهْدِهَا"؛ أي: مكروهها. "إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا" شكَّ الراوي أنه - عليه السلام - قال: شفيعًا أو قال: شهيدًا. ومعنى قوله: (شهيدًا): أنه - عليه السلام - يشهد لذلك الصَّابر على لأواء المدينة أنه مؤمن مخلِصٌ محب لرسول الله - عليه السلام -؛ لأنه وافقه في توطن المدينة، وجعل المدينة معمورة؛ لأن المدينة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أضافها إلى نفسه بقوله مرارًا: "مدينتنا". ¬

_ (¬1) في "ت" و"ق": "خلق".

ومَنْ جعل مدينة أحد وداره معمورة؛ فقد أحبه، فتوطُّن المدينة من محبة رسول الله - عليه السلام -، وقال - عليه السلام -: "من أحبني كان معي في الجنة". * * * 1993 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ النَّاسُ إذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ جَاؤُوا بهِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا أَخَذَهُ قال: "اللهمَّ بارِكْ لنا في ثَمَرِنَا، وبارِكْ لنا في مَدِينَتِنَا، وبارِكْ لَنَا في صَاعِنَا، وبارِكْ لَنَا في مُدِّنا، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ صلوات الله عليه عَبْدُكَ وخَلِيلُكَ ونبَيُّكَ، وإنَّي عَبْدُكَ ونبَيُّكَ، وإنَّه دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ للمَدِينَةِ بِمِثْلِ ما دعاكَ لِمَكَّةَ، ومِثْلِهِ مَعَهُ"، قال: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لهُ، فَيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ. قوله: "ثم يدعو أصغرَ وَليدٍ له فيعطيهِ ذلك الثَّمر"، و (الوليد) بمعنى الولد؛ يعني: إذا فرغ من الدعاء يدعو أصغر طفل من أهل بيته ويعطيه ذلك الثمر؛ ليفرح ذلك الطفل بذلك الثمر، فإن فرح الأطفال بالثمر الجديد أشدُّ من فرح الكبار. البركة: كثرة الخير. قوله: "باركْ لنا"؛ أي: أكثر خيرنا في المدينة من صدور الطاعة والقيام بأمر الله تعالى من الجهاد وغيره، وكَثِّرْ خيرَ ثمارنا ومدينتنا وصاعنا. * * * 1994 - وعن أبي سَعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ إبراهيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرامًا، وإنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ حَرامًا ما بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أنْ لا يُهَرَاقَ فيها دَمٌ، ولا يُحْمَلَ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ، ولا تُخْبَطَ فيها شَجَرَةٌ إلاَّ لِعَلْفٍ".

قوله: "حرام ما بين مَأزِمَيْها" تثنية (مَأْزِم)، وهو الموضع الضيق من الجبلين، المراد بـ (مأزميها): جانبا المدينة. قوله: "أن لا يُهْرَاق" بسكون الهاء؛ أي: لا يسفكُ فيها دم حرام؛ يعني: لا يحارب فيها، فإن قيل: سفك الدم الحرام محرم في جميع المواضع، فأي فائدة في تخصيص المدينة؟ قلنا: سفك الدم الحرام والمحاربة محرم في جميع المواضع، وفي سكَّة المدينة أشد تحريمًا؛ لأن الموضع إذا كان شريفًا يكون الذنب فيه أكثر إثمًا، والطاعة فيه أكثر ثوابًا. والغرض من هذا الحديث: بيان تغليظ إثم الذنوب في المدينة. قوله: "ولا تُخْبَطَ"؛ أي: ولا يضرب شجر؛ لتتساقط الأوراق، (الخَبْطُ): ضرب الشجر لتتساقط أوراقه. * * * 1995 - ورُوي أنَّ سعدًا وَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أو يَخْبطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ العَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أنْ يَرُدَّ ما أَخَذَ مِنْ غُلامِهِمْ، فقال: مَعَاذَ الله أنْ أَرُدَّ شَيْئًا نفَّلَنِيهِ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "نَفَّلَنيه" بتشديد الفاء؛ أي: أعطانيه، (التنفيل): إعطاء النفل - بفتح الفاء - وهو الغنيمة، يعني بقوله (نفَّلنيه): أمر رسول الله - عليه السلام - بسلب ثياب من قطع شجرًا، أو قتل صيدًا في حرم المدينة، فإذا أخذت ثياب عبدكم بأمر رسول الله - عليه السلام - لا أردها عليكم. * * * 1996 - وقالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا قَدِمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبلالٌ، فجِئْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: "اللهمَّ حَببْ إلَيْنَا المَدينَةَ كَحُبنا مَكَّةَ أوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْها لَنَا، وبارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها، واَنْقُلْ

حُمَّاهَا، فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ". قولها: "وُعِكَ أبو بكر"، وُعِكَ وحُمَّ كلاهما على بناء المجهول، معناه: أخذتْهُ الحُمَّى. قوله: "اللهم حَببْ إلينا المدينة كحُبنا مكةَ أو أشد": هذا يدل على أن مَنْ كره بلدًا لا يوافقه هواه، وكذلك من كره طعامًا لا يوافقه ذلك الطعام، وكذلك لو لم يكرهه ولكن لا يألف به بعدُ لا يوافقه ذلك الطعام أيضًا. ألا ترى أن الغالب من حال الغرباء أن لا يوافقهم هواء البلدان الغريبة، فإن مَنْ كان من بلدٍ حار يفسد مزاجه في بلد بارد، وكذلك بالعكس، وكذلك لو كان بين بلدين تفاوت يسير في الحرارة أو البرودة يتغير مزاج الرجل بانتقال أحدهما إلى الآخر. فدعا رسول الله - عليه السلام - أن يحبب الله إليهم المدينة؛ ليحصل لهم بها ألفة؛ ليوافقهم هواها، وتطمئن قلوبهم بتوطنها، كي لا تلتفت قلوبهم إلى مكة، فإن التفات القلوب تشويش الصدور، ومع تشويش الصدور لا يصفو للرجل العيش. قوله: "وصحِّحها"؛ أي: وصحح هواء المدينة لنا، واجعل نزولنا فيها سببًا للصحة والعافية. "وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفَة" وإنما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقل حمى المدينة إلى الجحفة؛ لأن الجحفة في ذلك الوقت كانت اليهود تسكنها. * * * 1998 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَّحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أطَاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ

لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ العِراقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كَانُوا يَعْلَمُونَ". قوله: "يُفتحُ اليمن فيأتي قوم يُبسُّونَ فيتحمَّلون بأهليهم": بَسَّ يَبُسُّ بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر، وأَبَسَّ يُبسُّ: إذا سار سيرًا شديدًا، وقيل: ساق الدابة سوقًا سهلًا. أخبر رسول الله - عليه السلام - في أول زمان الهجرة إلى المدينة بأن ستفتح اليمن فيرتحل قوم من اليمن إلى المدينة، حتى يكثر أهل المدينة. "والمدينة خير لهم" من غيرها، وكذلك الشام والعراق تفتح فيأتي منهما قوم إلى المدينة، وأراد بالعراق الكوفة إلى أول أرض خراسان. روى هذا الحديث: سفيان بن أبي زهير، وأنس بن عياض كلاهما عن رسول الله - عليه السلام -. * * * 1999 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ: يَثْربَ، وهيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيد". قوله: "تأكل القُرَى"، (القرى): جمع قرية، يعني: أمرني ربي أن أنزل المدينة، والمدينة تأكل جميع المدائن والبلدان؛ يعني: أهل المدينة تخرب كل بلد لم يسلم أهله، وتجعل أهل كل بلد مطيعين لله، منقادين للدين. وقيل: معناه: يأخذ أهل المدينة أموال أهل كل بلد من الكفار على سبيل القهر والغلبة. قوله: "تنفي الناس"؛ يعني: تخرج كل مَن لا يليق بتوطن المدينة من الكفار وأهل الكتاب، وقد ظهر هذا في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فإنه أخرج

من أرض الحجاز كل كافر من الذميين وغيرهم. وقيل: المراد: أن المدينة تهلك من قصدها بالأذية، ولهذا لا يمكن للدجال دخولها. روى هذا الحديث: أبو هريرة. * * * 2003 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "على أنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، ولا الدَّجَّالُ". قوله: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"، (الأنْقَابُ): جمع نَقْبٍ، وهو الطريق بين الجبلين، يعني: وكَّل الله تعالى ملائكة على طرائق المدينة؛ ليدفعوا عنها الدجال والطاعون، وهو الوَبَاء. روى هذا الحديث: أبو هريرة. * * * 2000 - وقال: "إنَّ الله تَعَالَى سَمَّى المَدِينَةَ طَابَةَ". "سمى المدينة طيبة": لعل المدينة سميت طيبة لطيبها (¬1) بحضور رسول الله - عليه السلام - وأصحابه والتابعين، وتطهيرهم إياها من خبث الكفار، وتطهيرها من الطاعون والدجال وغير ذلك من الفتن. روى هذا الحديث: جابر بن سمرة. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "لتطيبها".

2001 - وقال: "إنَّمَا المَدِينَةُ كالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَها، وتَنْصَعُ طَيبُهَا". قوله: "وتَنْصَعُ طَيبَها"، (نَصَعَ) بفتح الصاد في الماضي والغابر: إذا صار الشيء خَالصًا، (التنصيع): التخليص والتَطييب. يعني: تجعلُ المدينةُ الصالحَ طاهرًا من الذنوب والأخلاق المذمومة؛ يعني: صلحاؤها يكونون على غاية الصلاح. روى هذا الحديث سمرة بن جندب * * * 2002 - وقال: "لا تقومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِي المَدِينَةُ شِرَارَها كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". قوله: "لا تقوم السَّاعة حتى تَنفي المدينةُ شرارَها"؛ يعني: يأتي زمان قبل القيامة يكونون فيه أهل المدينة كلهم مسلمين صلحاء، ولعلها صارت بهذه الصفة في زمن خلافة عمر، فإنه أخرج منها أهل الكتاب (¬1)، وأظهر العدل والاحتساب، واستقام الإسلام. روى هذا الحديث: أبو هريرة. * * * 2004 - وقال: "ليسَ مِنْ بَلَدٍ إلّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إلاَّ مَكَّةَ والمَدِينَةَ، لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابها إلاَّ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ صافِّينَ يَحْرُسُونهَا، فَيَنْزلُ السَّبْخَةَ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ". ¬

_ (¬1) في "ش": "الكفر".

قوله: "سيطؤها"؛ أي: سيدخلها، و (الوَطْءُ): ضرب شيء بالقدم، ويستعمل في المشي. قوله: "يحرسونها"؛ أي: يحفظونها. قوله: "فينزل السَّبخَةَ" بكسر الباء: اسم موضع قريب من المدينة؛ يعني: يريد الدَّجَال أن يدخل المدينة، فتمنعه الملائكة فينزل السَّبخَةَ. "فترجفُ المدينةُ بأهلِهَا"؛ أي: تحرِّكُهُم؛ أي: يُلقي مَيْلُ الدَّجَال في قلب من ليس بمؤمن خَالصًا، فيخرج من المدينة إلى الدَّجَال، ويؤمن به. روى هذا الحديث: أنس - رضي الله عنه -. * * * 2005 - وقال: "لا يَكِيدُ أهْلَ المَدِينَةِ أَحَدٌ إلَّا انْمَاعَ كلما يَنْمَاعُ المِلْحُ في المَاءِ". قوله: "لا يَكيدُ أهلَ المدينة أحدٌ إلا انمَاعَ"، (لا يكيد)؛ أي: لا يَمْكُرُ بهم، ولا يقصدهم بالأذى، (انمَاعَ)؛ أي: ذَابَ كما يذوب (الملح في الماء)، يعني: يهلك كما يهلك الملح في الماء. روى هذا الحديث: أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 2006 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلي الله عليه وسلم - كانَ إذا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ راحِلَتَهُ، وإنْ كانَ على دابَّةٍ حَرَّكها، مِنْ حُبها.

قوله: "نظر إلى جُدُرَاتِ المدينة"، (الجُدُرَاتُ): جمع جُدُر، وهو جمع جِدَار. "أَوْضَعَ"؛ أي: ركض، وهو لازم ومتعد، وهو ها هنا متعد، و"الرَّاحلة": تستعمل فيما يحمل الرَّحل من الإبل، و"الدابة" تستعمل في الفرس والبغل والحمار. يعني: إذا كان على جَملٍ أسرعها، وإذا كان على فرس أيضًا أسرعها (¬1)؛ ليكون وصوله إلى المدينة قريبًا؛ من غاية حُبه إيَّاها. أظهر رسول الله - عليه السلام - حبَّ المدينة؛ ليوقِعَ عظمة المدينة وحرمتها قلوبِ في الناس؛ ليعظموها ويحفظوا حرمتها. ويحتمل أن يكون حبها لِحُبِّ أهلها من الأزواج والأولاد والصحابة. * * * 2007 - وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَلَعَ لهُ أُحُدٌ، فقال: "هذا جَبَلٌ يُحِبنا وَنُحِبُّهُ!، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ عليهِ السَّلامَ حرَّمَ مَكَّةَ، وإنَّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لاَبَتَيْهَا". قوله: "طَلَعَ له أُحُدٌ فقال: هذا جَبَل يحبنا ونحبُّه" قال الخطابي: يريد أهلَ أُحُدٍ من الشهداء والأحياء (¬2) حواليه؛ أي: هم يحبُّونا ونحبُّهم. وقال محيي السنة: يريد نفس أُحُد، فإنه لا بُعْدَ ولا عَجَبَ أن يحبَّ الجَمَادُ الناسَ، فإنَّ الأرض إذا عمل إنسانٌ عليها عملًا صالحًا، تحبُّ تلك البقعة ذلك الرجل الصالح، وإذا عمل سيئة تبغضه، كما قال تعالى في آل فرعون إذ ¬

_ (¬1) في "ش": "يعني: إذا كان على جمل أو فرس أو بغل أو غيرها أسرعها". (¬2) في "ت": "والأخيار".

أغرقوا: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]؛ أي: لم يعملوا خيرًا حتى تحبَّهم الأرض والسماء، وتبكيان عليهم عند هلاكهم، بل فرحتا بموتهم. * * * مِنَ الحِسَان: 2009 - رُوي: أنَّ سعدَ بن أبي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ في حَرَمِ المَدِينَةِ، فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ، فَجَاءَ مَواليهِ، فَكَلَّمُوهُ فيهِ، فقال: إنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - حَرَّمَ هذا الحَرَمَ، وقال: "مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فيهِ فَلْيَسْلُبْهُ"، فلا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكِنْ إنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إلَيْكُمْ ثَمَنَهُ" ويُروى: "مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبَهُ". قوله: "إن شئتُمْ دفعْتُ إليكم ثمنَهُ"، دفع الثمن إليهم تبرع منه عليهم؛ لأن السَّلب لو لم يكن جائزًا لما فعله سعد مع عِظَمِ شأنه، ولو كان جائزًا لا يلزمه أن يردَّ ما أخذ؛ وإذًا لم يلزمه قيمته أيضًا، وهذا غرامة ألزمها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على من قتل صيدًا أو قطع شجرًا، كما أوجب جزاء الصيد على من قتل صيدًا في حرم مكة، وكما أوجب بقرة أو شاة على من قطع شجرًا في الحرم، كما ذُكِر. * * * 2010 - وروى الزُّبَير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ صَيدَ وَجٍّ وعِضاهَهُ حِرْمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّه. ووجٌّ ذكروا أنَّها من ناحية الطَّائف. قوله: "إن صَيْدَ وَجٍّ وعِضَاهَهُ حِرْمٌ" (الحِرْمُ) والحَرَامُ بمعنى المُحرَّم. قال الخطابي: لا أعلم سببَ تحريم وَجًّ، فلعلَّه - عليه السلام - حَرَّمها؛ ليصير حمى للمسلمين؛ أي: مرعى لأفراس الغزاة، لا يرعاها غيرهم.

وسبب تحريم صيد ذلك الموضع، وقطع أشجاره: ليكون لمَنْ سكنه من الغزاة، ولمَنْ مَرَّ به وسكن هناك أيامًا بفَرَحٍ وأُنْسٍ؛ فإن الإنسان يطمئن قلبه بمَسْكَنٍ فيه صيود وأشجار. وهل يبقى تحريمه أبدًا، أو صار مباحًا بعدما انقرض الزمان الذي عَيَّنَهُ رسول الله - عليه السلام - لتحريم وَجٍّ إن عين زمانًا، أو بعدما انقرض أولئك الغزاة إن عين جماعة؟ ففيه خلاف. قال الخطابي: ويحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم، وفي مدة محصورة، ثم نُسخ، فعاد: الأمرُ إلى الإباحة كسائرِ بلادِ الحِلِّ، هذا لفظ الخطابي. ثم قال محيي السنة بعد هذا: وفي هذا المعنى: (النَّقيع) بالنون، وهي حمى حماه رسول الله - عليه السلام - لإبل الصدقة، ونِعَم الجزية، فيجوز الاصطياد؛ لأن المقصود منه منع عامة الناس من رعيه، لا منعهم عن قتل الصيد. فلو أتلف شيئًا من شجره؟ قال صاحب "التلخيص": عليه غرم ما أتلف كحشيش الحرم، ولا يجوز بيع النَّقيع، ولا بيع شيء من أشجاره كالموقوف. * * * 2013 - وعن جَرِيْر بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلي الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله تعالَى أَوْحَى إليَّ: أَيَّ هؤُلاءِ الثَّلاثَةِ نَزَلْتَ فَهيَ دَارُ هِجْرَتِكَ: المَدِينَة، أو البَحْرَيْن، أو قِنَّسْرِين". قوله: "أو قِنَّسْرِين"، وهذا بلد بالشام (¬1). ¬

_ (¬1) هنا تنتهي النسخة الخطية للمكتبة التيمورية، والمرموز لها بـ "ت".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجاء في آخر المجلد الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية ما نصه: "تم شرح عبادات كتاب المصابيح في شهر الله المعظم رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة"، ثم جاء بعدها: "تم المجلد الأول من المفاتيح في شهر شوال على يدي أفقر عباد الله محمد بن عيسى سنة خمس وستين وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين".

11 - كتاب البيوع

11 - كِتابُ البُيُوعِ

1 - باب الكسب وطلب الحلال

[11] كِتابُ البُيُوعِ (كتاب البيوع) (¬1) 1 - باب الكَسْب وطلَب الحَلال مِنَ الصِّحَاحِ: 2014 - قال رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "ما أَكلَ أحدٌ طَعامًا قطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ، وإنَّ نَبيَّ الله داودَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأْكلُ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ". قوله: "ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يديه": هذا الحديث تحريضٌ على الكسب الحلال؛ فإن الكسبَ فيه فوائدُ كثيرةٌ: إحداها: إيصال النفع إلى المكتسب بأخذ الأجرة إن كان العملُ لغيره، وبحصول الزيادة على رأس المال إن كان العملُ تجارة، فكذلك الزراعةُ وغرسُ الأشجار. والثانية: إيصال النفع إلى الناس: بتهيئة أسبابهم من حَوك ثيابهم وخياطتها وغيرهما من الحِرف، وبحصول أقواتهم بأن يشتروا من الأقوات والثمار، وكذلك جميع الأشياء مما يحصل بسعي الناس. ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ النسخة الخطية والمرموز لها بـ "م"، وهي مجهولة المصدر.

والرابعة: أن النفسَ تنكسر بالكسب ويقلُّ طغيانُها ومرحُها. وكلُّ واحدٍ من هذه الأشياء خصالٌ حميدةٌ في الشرع، ينال الرجلُ بها الدرجةَ الرفيعةَ. وشرطُ المكتسب: أن يعتقدَ الرزقَ من الله الكريم، ونسبةُ الكسب إلى الرزق كنسبة الطعام إلى الشِّبَع؛ فإن الشبعَ لا يحصل من الطعام، بل من الله، فرُبَّ أَكلةٍ تُشبع الآكِلَ إذا قدَّر الله فيها الشبعَ، وربُّ أَكلةٍ لا تُشبع إذا لم يُقدِّر الله فيها الشبعَ، فكذلك رُبَّ مكتسبٍ يحصل له مالٌ إذا قدَّر الله له المال، ورُبَّ مكتسبٍ لا يحصل له المالُ إذا لم يقدَّر الله له المال. قوله: "إن نبيَّ الله داود - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من عمل يديه"؛ يعني: يعمل الدِّرعَ ويبيعها ويأكل ثمنَها. هذا الحديثُ لبيان فضيلة الكسب؛ يعني: الاكتسابُ من سُنَنِ الأنبياء، وسُنَنُ الأنبياء فيها سعادةُ الدنيا والآخرة. فإن قال قائل: الكسبُ ليس بسُنَّةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يكن منسوبًا إلى الكسب؟ قلنا: بل هو سُنَّةٌ؛ لأن تحريضَ الناس على الكسب صريحُ رضاه بالكسب، وكلُّ فعلٍ رَضيَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو سُنَّةٌ. وأما قوله: لم يكن رسولُ الله منسوبًا إلى الكسب، فهذا عدمٌ، والعدمُ ليس بسُنَّةٍ؛ يعني: عدمُ اكتسابه لا يدل على أن عدمَ الكسبِ سُنَّةٌ. ألا ترى أن النبيَّ - صلي الله عليه وسلم - لم يغسل ميتًا، ومع ذلك غسلُ الميت فرضٌ على الكفاية؟! ولم يؤذِّن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك الأذانُ سُنَّةٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ به.

روى هذا الحديثَ المقدامُ بن معدي كرب. * * * 2015 - وقال: "إنَّ الله طَيبٌ لا يقبلُ إلا طَيبًا، وإنَّ الله أَمَرَ المُؤمنينَ بما أَمَرَ به المُرْسَلينَ، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ لذلِكَ؟ ". قوله: "إن الله طيب"؛ أي: طاهرٌ منزَّهٌ عن صفات الحدوث وعن الظلم، فإذا كان منزَّهًا عن الظلم لا يَقبَل صدقةً من مالٍ مغصوبٍ أو حرامٍ من جهةٍ أخرى، بل لا يَقبَل إلا الطيَّبَ، وهو الحلالُ. قوله: "وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين"؛ يعني: لا فرقَ بين الرُّسل وبين الأمم في طلب الحلال واجتناب الحرام، بل يجب على جميع الناس طلبُ الحلال واجتنابُ الحرام. "ثم ذكر الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَيه إلى السماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُه حرامٌ، ومَشربُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذي بالحرام؛ فأَنَّى يُستجاب لذلك؟! "، (يطيل السفر)؛ أي: يمشي من مكانٍ بعيدٍ إلى مكةَ لزيارة بيت الله، (أشعث): متفرَّق الرأس من عدم الغسل كعادة الحجاج، (الأغبر): الذي أصابه غُبارٌ في الطريق، (يمدُّ يدَيه)؛ أي: يرفع يدَيه إلى الله يسأله حوائجَه، قوله: (يا رب! يا رب!)؛ يعني: يقول ذاك الرجلُ عند الدعاء: يا ربِّ! (ومَطعمُه حرام): الواو للحال؛ يعني: في حال كونه آكِلَ الطعامِ الحرامِ، قوله: (وغذي بالحرام)؛ أي: رُبي بالحرام، (فأنى يستجاب)؛

أي: مِن أين يُستجاب لذلك الدعاء؟! يعني: فلمَّا ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فضيلةَ الكسب، وفساد أكل الحرام، وفضيلةَ أكل الحلال ذكرَ بعد ذلك الرجلَ الذي يطيل السفرَ؛ أي: ذكرَ حالَ الذي يطيل السفرَ في حال كون مَطعمِه حرامًا، وبيَّن أن دعاءَ من يكون طعامُه وشرابُه ولباسُه حرامًا قلَّ ما يُستجابُ له. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2016 - وقال: "يَأْتِي على النَّاسِ زمانٌ لا يُبالي المَرءُ ما أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الحلالِ أَمْ مِنَ الحَرامِ". قوله: "يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ ما أَخَذَ منه؛ أَمِنَ الحلالِ أم مِنَ الحرام"، الضمير في (منه) ضمير شيءٍ غيرِ مذكورٍ هنا، والمراد: به المال. وقد جاء هذا الحديث برواية أخرى، وفيه لفظ: "المال"؛ يعني: لا يبالي بما أخذ من المالِ أحلالٌ هو أم حرامٌ، بل ليس له التفاتٌ إلى الفرق بين الحلال والحرام. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2017 - وقال "الحَلاَلُ بَينٌ، والحَرَامُ بَينٌ، وَبَينَهُمَا أُمورٌ مُشتَبهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنْ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ، ومَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلاَ وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ".

قوله: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ"؛ يعني: بعضُ الأشياء ظاهرٌ كونُه حلالًا؛ مثل النبات والأشجار في الموات، ومثل ماء البحر والأنهار والعيون في الموات، ومثل ما عَلِمَ الرجلُ كونَه حلالًا، وبعضُ الأشياء ظاهرٌ كونُه حرامًا؛ كالخمر وأخذ مال أحدٍ بغير حقًّ وغير ذلك، وبعضُ الأشياء مُشبَّهٌ كونهُ حلالًا أو حرامًا. ومعنى (اشتبه): خَفِيَ؛ أي: خَفِيَ عليه كونُه حلالًا أو حرامًا؛ مثل أن يأتيك من بعض ماله حلالٌ، وبعض ماله حرامٌ، وأعطاك شيئًا من ماله بعِوَضِ ما اشترى منك، أو بالصدقة أو الضيافة، وأنت لا تعلم أنه من ماله الذي هو حلالٌ أم من ماله الذي هو حرامٌ؛ فهذا هو مالُ الشُّبهة، هذا إذا كان مالُه الحلالُ متميزًا عن ماله الحرام، وأنتَ لا تعلم أن ما أعطاك هو مِن أيهما، أما إذا خُلِطَ الحرامُ بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر صار جميعُ ذلك المخلوط حرامًا في حقِّ مَن يعرف كونَ ذلك المال مخلوطًا من الحلال والحرام، فإذا عرفتَ هذه القاعدةَ فاعرف أن الحرامَ واجبٌ اجتنابُه، والشُّبهةَ مكروهٌ أخذُها، ولكن ليس بحرامٍ. واعلم أنَّا نحكم بحلال أموال جميع المسلمين والكفار لمُلَّاكهم، ولمَن أخذه مِن مُلاَّكهم بطِيب أنفسهم، إلَّا من تيقنَّا كونَ ماله حرامًا، مثل ثمن الخمر، والكلب، والخنزير وأجرة المُغنِّي غناءً حرامًا، وأجرة الزانية، وغير ذلك مما تيقنَّا بكونه حرامًا، فإنَّا نَحكم حينَئذٍ بكونه حرامًا، وما لا نعرف كونَه حرامًا، ولكن نعرف أن له مالًا حلالًا وحرامًا نَحكم بكونه ماله الشُّبهة، وما سوى ذلك فهو حلالٌ، ومالُ الكفَّار يجوز للمسلمين أخذُه إذا كانوا حربيين؛ أي: ليس بينهم وبين المسلمين ذِمَّةٌ وعهدٌ. قوله: "فمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استَبْرَأ لدِينِه وعِرْضه"، (اتقى)؛ أي: حَذِرَ

واجتَنَبَ، (استبرأ لدينه وعرضه)؛ أي: طلبَ الطهارةَ لدِينِه وعِرْضه، و (العِرض): يحتمل أن يكون بمعنى النفس هنا، ويحتمل أن يكون بمعنى الصفات؛ يعني: طهَّر دِينَه وبدنَه وصفاتِه من العقوبة، ومِن أن يشتمَه ويذمَّه أحدٌ لقلة المبالاة بالشُّبهات؛ فإنَّ مَن أكلَ الشُّبهاتِ يمكن أن يأكلَ مالًا حرامًا وهو لا يدري كونَه حرامًا، فيجب له العقوبةُ، ولا يكون معذورًا عند الله تعالى بأكل الحرام ولا يدري كونَه حرامًا، وكذلك ينسبه الناسُ إلى ترك التقوى وقلة المبالاة بطلب الحلال. قوله: "ومَن وقع في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرام"؛ يعني: مَن لم يجتنبِ الشُّبهاتِ يمكن أن يقعَ في الحرام بطريقَين: أحدهما: أن يأكلَ حرامًا وهو يظنُّه حلالًا، والثاني: أن يقسوَ قلبُه بأكل الشُّبهاتِ، فإذا قسا قلبُه بأكل الشُّبهات يجترئ بأكل الحرام ولا يبالي. "الحمى": الروضة التي أَمَر السلطانُ ألا يرعاها أحدٌ؛ ليرعاها مَن أراد السلطان. "يوشك"؛ أي: يسرع ويَقرُب. "أن يرتعَ فيه"؛ أي: يرعاه. قوله: "ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمًى"، (ألا) معناه: اعلم، يقال للواحد والأكثر، والمذكر والمؤنث، وبهذا اللفظ من غير تغيير؛ يعني: كلُّ مَلِكٍ من الملوك يحمي حِمًى؛ أي: يحفظُ روضةً، ويمنع الناسَ عن أن يرتعوه، فكذلك الله تعالى يحمي حِمًى، وينهى الناسَ عن أن يدخلوه ويَقْرَبوه، وهو المحَّرمات، فكما أن مَن دخلَ حِمَى المَلِك يستحقُّ أن يعذِّبَه ذلك المَلِكُ، فكذلك مَن فعلَ شيئًا مما حرَّمه الله استحقَّ أن يعذَّبَه الله، فإن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفرَ له. قوله: "وإن في الجسد لَمُضغةً إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا

فسدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب"، (المُضغة): قطعة لحم، مَثَلُ القلب كمَثَلِ فتيلة السِّراج؛ فالفتيلة تحتاج إلى أربعة أشياء: النار، والدُّهن، ونظافة المِسْرَجة، وهي الظَّرف الذي فيه الدُّهن والفتيلة، والرابع عدم المزاحم، فلو لم يكن على الفتيلة نارٌ لم يكن لها نورٌ، ولو كانت عليها نارٌ ولم يكن لها دهُنٌ ينطفئ نورُها عن قريبٍ، ولو كان لها نارٌ ودهُنٌ، ولكن يكون ظَرفُها ملوثًا بالوسخ والدُّرْدِي لا يكون نورُها على الكمال، ولو كان ظرفُها نظيفًا ولكن يكون لها مزاحمٌ - ونعني بالمزاحم: الريح - فإن كانت الريحُ شديدةً تُطفئ نورَها، وإن لم تكن شديدةً لا تُطفئها، ولكن تحرِّكها ويفرَّق نورُها، فلا يكون نورُها كاملًا، فإذا اجتمعت هذه الأشياءُ فقد كملَ نورُها، ويُنوَّر البيتُ، ورأى الحاضرون ما في البيت، وميزوا بين ما فيه النفعُ والتلذُّذُ من الأطعمة والثياب وغير ذلك مما في البيت، وبين ما فيه الضرُّ والهلاكُ كالحية والعقرب، وكشوكٍ وسكِّينٍ وسيفٍ واقعٍ في البيت، فيتمتَّعوا بما فيه النفعُ، واحترزوا عما فيه الضرُّ والهلاكُ، وإن لم يكن السِّراجُ لَمَا ميَّزوا بين النافع والضارَّ، فربما يضعُوا أقدامَهم على حيةٍ أو عقربٍ أو شوكٍ، فيهلكوا أو أصابهم مضرَّة ذلك. فالقلبُ مِثْلُ الفتيلة، والصدرُ مِثْلُ المِسْرَجةِ، والإيمانُ مِثْلُ النارِ. والإتيانُ بالأوامر مِثْلُ الدُّهنِ، وحبُّ الدنيا وأكلُ الحرام والبغضُ والحسدُ والعداوةُ، وغير ذلك من المناهي مثلُ وسخِ المِسرَجة، والاعتقاداتُ الفاسدةُ مِثْلُ الريحِ، فإن كان الاعتقادُ شِرْكًا، أو تحريمَ حلالٍ، أو تحليلَ حرامٍ، أو إنكارَ واجبٍ يُطفِئ نورَ الإيمان بالكلية. وإن كان الاعتقادُ بدعةً لا يُطفِئ نورَ الإيمان بالكلية، ولكن يَنقصُ نورَها، فإذا اجتمع للقلب نارُ الإيمان، ودُهنُ الإتيان بالأوامر، ونظافةُ مِسْرَجة الصدر عما لا يليق، وعدمُ مزاحم ريح الاعتقادات الفاسدة؛ فقد كملَ نورُ القلب،

وظهرَ للرجل بنور القلب حقيقةُ الأشياء، فيفرِّق الأعمالَ النافعةَ من الضارَّةِ، والمُنجِيةَ من المُهلِكةِ، فيعمل المُنجِيةَ والنافعةَ، ويَدَعُ المُهلِكةَ والمُضرَّةَ؛ فهذا صلاحُ الجسدِ، وهذا الصلاحُ نتيجةُ صلاحِ القلب. وإن فسدَ القلبُ بأن ينعدمَ شيءٌ من هذه الأشياء يسودُّ القلبُ، ويُظلم بيتُ الصدر، فلا يعرف الرجلُ المُنجِيَ من المُهلِكِ، ويتخبَّط في الأعمال، فربما يكون جميعُ أعماله قبيحًا، أو أكثرُها قبيحًا؛ وهذا فسادُ الجسدِ، وهو نتيجةُ فسادِ القلب. روى هذا الحديثَ نُعمان بن بَشير. * * * 2018 - وقال: "ثَمَنُ الكلبِ خَبيثٌ، ومَهْرُ البَغِيِّ خَبيثٌ، وكَسْبُ الحَجَّامِ خَبيثٌ". قوله: "ثمنُ الكلبِ خبيثٌ"؛ أي حرامٌ؛ لأنه لا يجوز بيعُ الكلب، ولا ضمانَ على مُتلِفِه، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعُه، ويَضمنُه مُتِلفُه، وقال مالك: لا يجوز بيعُه، ولكن يَضمنُه مُتِلفُه. قوله: "ومَهْرُ البَغيِّ حرامٌ"، (البغي): الزانية، و (مَهرُها): ما يعطيها الزاني ليزنيَ بها، وهو حرامٌ بالإجماع، وجماعةٌ من العوام يقولون: ذلك حلالٌ, حتى يقولون: أفضلُ مالٍ ينفقُه الرجلُ في سبيل الحجِّ مَهْرُ البَغِيِّ، وهذا كفرٌ؛ لأن مَن اعتقدَ تحليلَ شيءٍ هو مُحرَّمٌ بالإجماع فقد كفرَ. قوله: "كَسْبُ الحجَّامِ خبيثٌ"، (الخبيث) ها هنا بمعنى: المكروه؛ لأن رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - أتى أبا طَيبةَ ليحجمَه، وأعطاه الأجرةَ، ولو كان كسبُه حرامًا لم يُعطِه رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم - الأجرةَ؛ لأنه لا يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يُعطيَ شيئًا حرامًا، أو يأمرَ أحدًا بكسبٍ حرامٍ.

وقال أهل الظاهر: هو حرامٌ؛ لأن ظاهرَ الخبيثِ الحرامُ أو النجسُ؛ ليس على هذا القول أحدٌ من الأئمة الأربعة. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2019 - وعن أبي مَسْعُود الأَنْصاري - رضي الله عنه -: أَنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ. قوله: "نهى عن ثمن الدم" (¬1)، اعلم أن الدمَ حرامٌ أكلُه وبيعُه بالإجماع. قوله: "وحُلوان الكاهن"؛ أي: أجرة الكاهن، (الكاهن): مَن يُخبر عن شيءٍ غائبٍ، أو عن شيءٍ سيحدث، أو عن طالعِ أحدٍ بالسَّعد والنَّحس، والدولة والمحنة، وكلُّ ذلك حرامٌ؛ لأن كلَّ ذلك إخبارٌ عن الغيب، ولا يعلم الغيبَ إلا الله أو مَن يُخبره الله عن شيءٍ غائبٍ، كما أَخْبَرَ أنبياءَ الله عن الأشياء الغائبة بأن أخبرَهم الله، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، {فَلَا يُظْهِرُ}؛ أي: فلا يُطلِع على الغيب أحدًا إلا مَن شاء الله مِن رُسلِه، فإنه أطلعَهم على بعض علوم الغيب؛ ليكونَ لهم معجزةً. وإذا ثبت تحريمُ الكهانة تكون أجرتُه حرامًا، ومَن اعتقد كونَ الكهانة حقًّا فقد كفر؛ لأنه خالَفَ قولَ الله تعالى واعتقدَ شريكًا لله في علم الغيب، ومِن العوام والمنجِّمين مَن يزعم أن معرفةَ النُّحوسة والسعادة، والفقر والغناء، وغير ذلك يُعرَف بالنجوم؛ لأنه جعلَ الله لكل نجمٍ خاصيَّةً في طلوعه وغروبه، فبعضُ ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والحديث إنما هو في النهي عن ثمن الكلب.

النجومِ يدلُّ طلوعُه على كثرة المال للإنسان، وبعُضها يدلُّ على الفقر والمرض، وغير ذلك من الأحوال. ويقولون: هذا مثل للأدوية والنبات، فإثه خَلَقَ في كل أدويةٍ ونباتٍ نفعًا أو ضرًّا، فبعضُها يَقتل، وبعضُها يُمرض، وبعضُها يَشفي، وغير ذلك من أنواع النفع والضُّرِّ. فنقول: هذا القياسُ خطأ؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بالمداواة بالأدوية وبعض النبات، وداوَى نفسَه وأهلَه، وبيَّن خاصيةَ بعض النبات والأدوية. فعَلِمْنا بفعله وقوله - صلي الله عليه وسلم - جوازَ المداواة وخاصيةَ بعض النبات، وأما معرفةُ الأشياء بالنجوم فلم يَرِدْ مِن الشارع في ذلك رخصةٌ، بل وردَ النهيُ والزجرُ عن ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أتى عرَّافًا، فسأله عن شيءٍ لم يُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلةً"، وبقوله: "مَن اقتبسَ علمًا من النجوم اقتبسَ شُعبةً من السِّحر"، وبقوله: "مَن أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقول فقد بَرِئ مما أنزَل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -". وهذه الأحاديثُ من (باب الكهانة)، وكم مِثلُ هذه الأحاديث ورد في الزجر عن الكهانة وعن إتيان الكاهن، يأتي شرحها في (باب الكهانة) إن شاء الله - عز وجل -. واعلم أنه يجوز تعلُّمُ علمِ النجوم بَقْدرِ ما يُعرَف به الأوقات. وروى هذا الحديثَ - أعني: حديث النهي عن ثمن الدم - أبو مسعود الأنصاري. * * * 2020 - وعن أبي جُحَيْفَةَ: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ البَغِيِّ، ولَعَنَ آكِلَ الرِّبا، ومُوكِلَه، والواشِمةَ، والمُسْتَوْشِمةَ، والمُصَوِّرَ.

قوله: "ولعن آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَه"، فـ (الآكِل): هو الذي يُعطي المالَ ويأخذ زيادةً على ما أَعطَى، و (المُوكِل): هو الذي يُعطي الزيادةَ، ويأتي بحث الربا. قوله: "والواشمة والمُستوشِمة"، (الواشمة): المرأة التي تَشِمُ الوَشْمَ على يد امرأةٍ، و (المُستوشِمة): المرأة التي تطلب أن يُجعَل على يدها وشمٌ، وكذلك حكمُ الرجال. والوَشْم: أن تغرزَ امرأةٌ إبرةً على يدها أو يد غيرها حتى يخرجَ منها دمٌ، ثم تلقي على تلك الجراحة شيئًا من دخان الشحم حتى يسودَّ، أو من ماءٍ معصورٍ من الخضراوات حتى تخضرَّ، وهذا الفعلُ حرامٌ؛ لأنه تغييرُ خلقِ الله، ولأن هذا مِن فعلِ الفُسَّاق والجُهَّال. قوله: "والمُصوِّر": الذي يصنع صورَ الحيوانات، ويأتي بحثُه في موضعه إن شاء الله تعالى. * * * 2021 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عامَ الفَتْحِ وهو بمَكَّةَ: "إنَّ الله ورسُولَهُ حَرَّمَ بَيع الخَمْرِ والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ"، فقيل: يا رَسُولَ الله!، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فإنَّهُ يُطْلَى بها السُّفُنُ ويُدْهَنُ بها الجُلُودُ ويَسْتَصْبحُ بها النَّاسُ؟، فقال: "لا، هو حَرامٌ"، ثُمَّ قالَ عِنْدَ ذلِكَ: "قاتلَ الله اليَهُودَ، إنَّ الله لمَّا حَرَّمَ شُحُومَها جَمَلوها ثُمَّ باعوها فَأَكَلُوا ثَمنَها". 2022 - عن عمرَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "قاتَلَ الله اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا". قوله: "والأصنام"، وهي جمع: صَنَم، وهو ما يعبده الكفَّار من حَجَرٍ وغيره.

قال الخطابي: كما لا يجوز بيعُ الصنم لا يجوز بيعُ كلِّ شيءٍ مصوَّرٍ إذا كانت صورتُه مقصودةً، والشيءُ الذي فيه الصورةُ تبعًا للصورة، أما إذا كان المقصودُ ذلك الشيءَ الذي فيه لا الصورةَ يجوز بيعُه، مثل: آنيةٍ أو بابٍ أو بيتٍ فيها صورةُ حيوان، والمُحرَّم إنما هو تصويرُ صورة الحيوان، أما تصويرُ صورةِ غير الحيوان فلا بأسَ به (¬1). قوله: "أرأيتَ شحومَ الميتة"؛ يعني: ما حكمُ شحومٍ تُذابُ ويُطلَى بها السُّفُنُ ويُصلَح بها الجلودُ لتصيرَ لينةً، ويَستصبح بها الناسُ، هل يجوز أم لا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا". واعلم أنه مَن اشترى شحومَ الميتة لهذه الأشياء لا يجوز البتةَ، وإن كان له دابةٌ ميتةٌ، أو ألقى أحدٌ دابةً ميتةً فأخذ شحمَها وأذابَه وطَلَى أسفلَ سفينته أو جانبًا منها لا يَصِلُ إلى بدن الذي يركب تلك السفينةَ، ولا إلى ثيابه؛ يجوز، ويجوز الاستصباحُ بالدُّهن النَّجِس، ولا يجوز بيعُه. قوله: "قاتَلَ الله اليهودَ! إن الله لمَّا حرَّم شحومَها أَجمَلُوها ثم باعوها، فأكلوا ثمنَها"، (القتل): اللعن، والقتل: هو القتل المعروف، وكلا المعنيَينِ محتملٌ هنا. الضمير في (شحومها) يعود إلى غير المذكور هنا، والمراد منه: البقر والغنم، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]، ¬

_ (¬1) قلت: في كلام الشارح - رحمه الله - غموض؛ لأنه نمل كلام الخطابي بالمعنى، قال الخطابي في "أعلام الحديث" (2/ 588): "ويدخل في النهي عنه - أي عن بيع الصور - كلُّ صورة مصورة في رَقٍّ أو قرطاسٍ أو نحوهما مما يكون المقصود منه الصورة وكان الظرف تبعًا له، فأما الصور المصورة في الأواني والقِصَاع فإنها تبعٌ لتلك الظروف بمنزلة الصور المصورة على جُدُر البيوت وفي السقوف وفي الأنماط والستور؛ فالبيع فيها لا يفسد"

الضمير في {عَلَيْهِمْ}: لليهود، وفي {شُحُومَهُمَا}: للبقر والغنم. والضمير في (شحومها) في الحديث: ضمير للبقر، وضمير (الغنم) كل واحدٍ منها على الحِدَةِ؛ لأنه لو أراد كلاهما لقال: شحومهما, كما في القرآن. والبقر والغنم: اسم الجنس، واسم الجنس يجوز تأنيثُه؛ لأنه في المعنى جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ. والضمير في (أجملوه) و (باعوه): ضمير الشحم، لا ضمير الشحوم، وإن كان المذكورُ في الحديث هو الشحومَ لا الشحمَ. ويجوز في مثل هذا الموضع أن يذكَّر الجمعُ ثم يذكَّر بعد ذلك ضميرُ فردٍ من ذلك الجمع، فإن الشحمَ فردٌ من الشحوم، فذكَّر ضميرَ الشحم بعد ذكر الشحوم، ومعنى (أجملوه): أذابوه؛ يعني: كانت اليهودُ يُذيبون الشحمَ ويقولون: إذا أُذيبَ الشحمُ قد يُزال عنه اسمُ الشحم، وصار اسمه وَدَكًا، وإنما حُرِّمَ علينا الشحمُ لا الوَدَكُ، فيجوز لنا بيعُ الوَدَك وأكلُه، فبيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فسادَ هذا التأويل، بل إذا حُرِّمَ عليهم الشحمُ فلا يحلُّ بأن يتبدَّل اسمُه. * * * 2023 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ. قوله: "نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور": مضى بحث بيع الكلب، وأما بيعُ السِّنَّور؛ فكَرِهَ أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد لظاهر هذا الحديث، ولم يَكْرَه غيرُهم، وما نُقل عن أحدٍ تحريمُ بيعِه. قال الخطابي: ورد النهي عن بيع السِّنَّور لمعنيين: أحدهما: أنه حيوانٌ وحشيٌ لو رُبطَ لا يُنتفَع به؛ لأن انتفاعَه أخذُ الفأرة، ولو رُبطَ لا يمكنه أخذُ الفارة، فلا يُنتفَع به، ولو لم يُربَط ربما ينفر، فيضيع مالُ

الرجل الذي صرفَه في ثمنه. والمعنى الثاني: أنه لو لم يُنْهَ عن بيعه لَتَبَايَعَ الناسُ عليه، فيشتريه مَن له ثمنُه، فينتفع به، ويُحرَم من انتفاعه الفقراءُ الذين ليس لهم مالٌ يشترونه، فنهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعه؛ لئلا يتملَّكَه الناسُ، فيحُرَم بعضُ الناس عن انتفاعه، بل نهاهم لينتفعوا به كلُّهم، فينتقل السِّنَّور من بيتٍ إلى بيتٍ، ويأخذ الفأرةَ؛ كيلا يتأذى الناس بكثرة الفأرة، وهذا النهي ليس نهيًا يمنع انعقادَ بيعه، بل نهيٌ لمصلحة الناس. * * * 2024 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَ له بصاعٍ من تَمرٍ، وأَمَرَ أهلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عنهُ مِنْ خَرَاجِهِ. قوله: "وأمرَ أهلَه أن يخفِّفوا عنه من خَرَاجه"؛ يعني بـ (أهله): ساداته، وساداته قد وضعوا عليه خراجًا؛ يعني: قالوا له: أَعِطنا كلَّ شهرٍ كذا من المال، والباقي من كسبك لك، فلما حجمَ رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - فأمر ساداته أن ينقصوا من ذلك الخراج شيئًا. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2025 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبكُمْ، وإنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبكُمْ". وفي رواية: "إِنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبهِ، وإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبهِ". قوله: "وإن أطيبَ ما أكلتُم مِن كسبكم، وإن أولادَكم مِن كسبكم":

(أطيب)، أفعل التفضيل من: الطيب، وهو الحلال، وهو أحسنُ الحلالات ما تكسبون بأيديكم. و (أولادكم من كسبكم)؛ يعني: حصل لكم الأولادُ بواسطة تزوُّجِكم، وإن كان أولادُكم من جملة أكسابكم فيجوز لكم أن تأكلوا من كسَب أولادِكم؛ لأن كسبَ أولادِكم ككسبكم، وإنما يجوز للآباء الأكلُ من مال الأولاد إذا كانوا محتاجين، وليس لهم مالٌ، وإذا كان كذلك يجب نفقتُهم وكسوتُهم على أولادهم، فيجوز لهم الأكلُ من مال أولادهم برضاهم وغير رضاهم، وفي حضورهم وغيبتهم، وإذا لم يكونوا محتاجين فلا يجوز لهم الأكلُ من مال أولادهم إلا بطِيب أنفسهم. * * * 2026 - وعن عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالًا حَرَامًا، فَيَتَصَدَّقَ مِنهَ فيُقْبَلَ مِنْهُ ولا يَنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكَ له فيهِ، ولا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كانَ زادَهُ إلى النَّارِ، إنَّ الله لا يَمْحُو السَّيئَ بالسَّيئِ ولكن يَمْحُو السَّيّئَ بِالحَسَنِ، إنَّ الخَبيثَ لا يمحوُ الخَبيثَ". قوله: "إن الله لا يمحو السيئَ"؛ يعني: التصدُّقُ بالمالِ الحرامِ سيئةٌ، فلا يُزيل الله سيئةَ العمل بهذه السيئة؛ أعني: التصدُّقَ بالمال الحرام. * * * 2027 - وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لحمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ، وكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ كانَتِ النَّارُ أوْلَى بِهِ". قوله: "لا يدخل الجنةَ لحمٌ نبتَ من السُّحت"، (السُّحت): الحرام؛ يعني: لا يدخل الجنةَ مَن أكلَ الحرامَ، وغُذي بالحرام، حتى يُحرَق بالنار اللحمُ الذي نبتَ بالحرام، فإذا طُهِّرَ بالنار من الحرام يدخل الجنةَ، هذا ليس بقطعيٍّ؛ يعني: دخوله

النار، بل ربما يكون له حسنةٌ تُدفَع حسنتُه إلى الذي أكلَ مالَه، فتتبرأ ذِمتُه عن المظلمة، وربما يُرضي الله تعالى خصمَه بكرمه ورحمته، حتى لا يحتاج إلى دخول النار، وحينَئذٍ يكون تأويلُ هذا الحديث: أنه قال - صلى الله عليه وسلم - للزجر والتهديد. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 2028 - عن الحسنِ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مالا يَرِيبُكَ، فإن الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وإنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ". قوله: "دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"، (أراب يُريب) و (راب يَرِيب): إذا أَوقعَ أحدًا في الشك، ولفظة (إلى) متعلقة بفعل محذوف؛ أي: اترك ما شككتَ فيه، واذهب إلى ما لا شك فيه؛ يعني: خُذْ ما أيقنتَه حسنًا وحلالًا، واتركْ ما شككت في كونه حسنًا أم قبيحًا، وفي كونه حلالًا أم حرامًا. قوله: "فإن الصدقَ طمانينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ"، (الطمأنينة): السكون، و (الرِّيبة): الشك والتهمة؛ يعني: إذا سمعتَ صدقًا يسكن قلبُك بذلك، وإذا سمعتَ كذبًا لا يستقرُّ ذلك الكلام في قلبك؛ يعني: خُذْ من الأفعال والأقوال والأموال ما اطمأنَّ قلبُك بكونه حقًّا، ودَعْ ما شككتَ في كونه حقًّا أم باطلًا. * * * 2029 - عن وَابصَةَ بن مَعبدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا وَابصَةُ! جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البرِّ والإِثْمِ"؟، قلتُ: نَعَمْ، قال: فَجَمَعَ أَصابعَهُ فَضَرَبَ بها صَدْرَهُ وقال: "اِسْتَفْتِ نفسَكَ واَسْتَفتِ قَلْبَكَ، ثلاثًا، البرُّ ما اَطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ نفسُك واَطْمَأَنَّ إلَيْهِ قلبُك، والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ".

قوله: "فجمع أصابعَه فضرب بها صدرَه"، الضميران يعودان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أشار إلى صدره وقال: يا وابصةُ! فما سَكَنَ قلبُك على أنه حقٌّ فخُذْ؛ فإن في سكون القلب علامةَ كونِ ذلك الشيء حقًّا، وما شككت في كونه حقًّا أم باطلًا فاتركْه، "وإن أفتاك الناس"؛ أي: وإن قال لك الناس: إنه حقٌّ فلا تأخذْ بقولهم، فإن بعضَ الناس يُوقِع بعضًا في الغلط وفي أكل الشُّبهة وفي أكل الحرام. مثال هذا: أن المفتي يفتي بأن كلَّ مالٍ لم يُتيقَّن كونُه حرامًا جازَ لك أكلُه، فإن ترى رجلًا له مالٌ حلالٌ وحرامٌ فلا تأكلْ من ماله شيئًا، وإن أفتاك المفتي؛ من خوف أن تأكلَ الحرامَ؛ لأن الفتوى غيرُ التقوى، فإن الفتوى: الحكم على ظاهر الأشياء، والتقوى: الاحتياط في الأمور بأن يجتنبَ الرجلُ من الشُّبهاتِ، أو يعدل عنها إلى ما يَتيقَّن كونَه حلالًا. قوله: "استفتِ"؛ أي: اطلبِ الفتوى. قوله: "حاكَ"؛ أي: تردَّد، من (حاكَ يَحِيكُ): إذا تردَّد شيء في القلب، ولم يستقرَّ القلب عليه. * * * 2030 - عن عَطِيَّة السَّعْدِيِّ - رضي الله عنه - أنّه قال، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتَّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ". قوله: "حتى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا لِمَا به بأسٌ"؛ يعني: حتى يتركَ ما ليس به إثمٌ؛ من خوف أن يقع فيما فيه إثمٌ، فإن المتقي يترك بعضَ الحلالات من خوف أن يقع في الشُّبهة، ويتركُ الشُّبهةَ من خوف أن يقع في الحرام، ويتركُ التكلُّم ببعض المباحات من خوف أن يتكلم بفحشٍ أو كذبٍ، ويترك روايةَ

حديثٍ لا يعرف راويه، أو يعرفه ولكن لا يعتمد على روايته؛ من خوف أن يكونَ ذلك الحديثُ موضوعًا. روى هدا الحديثَ عطية السَّعدي. * * * 2031 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الخَمْرِ عَشْرةً: عَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَهَا، وشَارِبَها، وحَامِلَهَا، والمَحْمُولَة إِلَيْهِ، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، وآكِلَ ثَمَنِهَا، والمُشْتَرِيَ لها، والمُشْتَرَاةَ لَهُ. قوله: "ومُعتصِرها"؛ أي: الذي يطلب عصرَها. "والمحمولة إليه"؛ أي: الذي يحمل أحدٌ الخمرَ لأجله. "والمشتري لها، والمشترَى له"؛ أي: الذي يشتري الخمرَ بالوكالة لأحدٍ، والذي اشتراها الوكيلُ له؛ أي: المُوكِّل. * * * 2032 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ الله الخَمْرَ، وشَارِبَهَا، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، ومُبْتَاعَهَا، وعَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَها، وحَامِلَهَا، والمَحْمُولَة إلَيْهِ". قوله: "ومبتاعَها"؛ أي: مشتريَها. * * * 2033 - وعن مُحَيصَةَ - رضي الله عنه -: أنَّه اِسْتَأْذَنَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في إِجَارَةِ الحَجَّامِ فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قال: "اِعْلِفْهُ ناضحَكَ وأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ".

قوله: "استأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في إجارة الحجَّام": ذكرنا بحث كسب الحجَّام. قوله: "اعلِفْه ناضحك"، (الناضح): الجَمَل الذي يُستقَى به الماء؛ يعني: اصرِفْ ما تكسب بالحجامة في علف دوابك ونفقة عبيدك وإمائك، فإن فيه كراهيةً؛ لأنه حصل باستعمال النجاسة، وهو التلوُّث بالدم، ويُقاس على هذا أكلُ حرافة يتلوَّث صاحبُها بالنجاسة مثل: الدَّباغين، والكنَّاسين وغيرهم. روى هذا الحديثَ المُحيصة. * * * 2035 - وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعُوا القَيْنَاتِ ولا تَشْتَرُوهُنَّ ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، وثَمَنُهُنَّ حرامٌ، وفي مِثلِ هذا أُنْزِلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ". (ضعيف). قوله: "لا تبيعوا القَيْنَاتِ"، (القينات) جمع: قَيْنَة، وهي الجارية المغنِّية، وسبب النهي: أن الغناءَ حرامٌ؛ لأنها مُهيجةٌ لميل الزِّنا في الطباع، وخاصة إذا كانت بصوت النساء، وإذا كان الغناءُ سببَ الوقوع في الزنا يكون حرامًا. قوله: "ولا تعلِّموهن"؛ أي: ولا تعلِّموهن هذه الصنعةَ. قوله: "وفي هذا أُنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "، قال مكحول: مَن اشترى جاريةً ضرَّابةً ليمسكَها لغنائها وضربها مقيمًا حتى يموتَ لم أُصلِّ عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]. أراد مكحول بقوله: ضرَّابة؛ أي: تضرب الطنبورَ وغيرَه من آلة الملاهي. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}؛ أي: وبعض الناس

2 - باب المساهلة في المعاملة

يشتري بالغناء والأصوات المحرَّمة التي تلهيه عن ذكر الله تعالى وتوقعه في الزنا. 2034 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ الزَّمَّارَةِ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وكسب الزَّمارة": التي تزمر بالناي، وهو حرام؛ لأن النايَ من عادة شاربي الخمر، أعاذنا الله منها. * * * 2 - باب المُساهلةِ في المُعاملةِ (باب المساهلة في المعاملة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2037 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ الله رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اَشْتَرَى، وإذا اَقْتَضَى". قوله: "سَمْحًا"؛ أي: سَهْلًا. قوله: "إذا اقتضى"؛ أي: إذا طلبَ دَينًا له على غريمٍ يكون طلبُه بالرِّفق، ولا يطلب بالعنف. روى هذا الحديثَ جابر. * * * 2038 - وقال: "إنَّ رَجُلًا كانَ فيمَنْ قبلَكُمْ أتاهُ المَلَكُ ليَقْبضَ رُوحَهُ، فقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟، قال: ما أعلَم شيئًا، قيلَ لهُ: انْظُرْ، قال:

ما أَعْلَمُ شَيْئًا غَيرَ أَنِّي كُنْتُ أُبايعُ النَّاسَ في الدُّنْيَا وأُجازِيهِم، فأُنْظِرُ المُوسِرَ وأتجاوَزُ عن المُعْسِرِ، فأدخَلَهُ الله الجنَّة. وفي روايةٍ: "قالَ الله: أنا أحَقُّ بِذا مِنْكَ، تَجاوَزُوا عَنْ عَبْدِي". قوله: "قيل له: هل عملتَ من خيرٍ؟ " هذا السؤال منه في القبر. قوله: "وأجازيهم"؛ أي: فأَحسِن إليهم. "فأُنظِر المُوسِر"؛ أي: فأُمهل الغني؛ يعني: إذا كان لي دَينٌ على أحدٍ لم كن أُضيق عليه، بل كنت أخَّرته عن وقت الأداء إلى وقت آخر، وإن كان له قدرةٌ على الأداء. "وأتجاوز عن المُعسِر"؛ أي: وأُبرئ ذِمتَه عن دَيني. قوله: "أنا أحقُّ بذا"؛ أي: أنا أَولى بهذا الكرم والتجاوُز، فإذا جاوزتَ عن عبادي وساهلتَهم في المعاملة فقد جاوزتُ عن ذنبك. روى هذا الحديثَ أبو مسعود الأنصاري. * * * 2039 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلِفِ في البَيْعِ؛ فإنَّهُ يُنَفِّقُ ويَمْحَقُ". قوله: "وإياكم وكثرةَ الحَلِف في البيع"؛ أي: احذروا من كثرة الحَلِف في البيع؛ فإن كثرةَ الحَلِف في البيع "ينفِّق"؛ أي: يجعل المتاعَ رابحًا حلوًا في نظر المشتري، ولكن "يمحق"؛ أي: ينفي البركةَ من الثمن. روى هذا الحديثَ أبو قتادة. * * *

2040 - وفي روايةٍ: "الحَلفُ مَنْفَقَةٌ للسِّلْعَةِ ومَمْحَقَةٌ للبَرَكَةِ". قوله: "مَنفْقَة" بفتح الميم؛ أي: جاعلُ المتاعِ رابحًا. "للسلعة": المتاع. قوله: "مَمْحَقة" بفتح الميم؛ أي: مُزِيلة مُذْهِبة للبركة. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2041 - وعن أبي ذرّ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ الله يومَ القِيامَةِ ولا يَنْظُرُ إليْهِمْ ولا يُزَكِّيهِمْ ولهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ". قالَ أبو ذَرٍّ: خابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يا رَسُولَ الله؟، قال: "المُسْبلُ إزارَهُ، والمنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلفِ الكاذبِ". قوله: "لا يكلمهم الله"؛ أي: ما يُسمعهم ما يسرُّهم من الكلام، بل يُسمعهم ما يُحزنهم. قوله: "ولا ينظر"؛ أي: ولا ينظر إليهم بنظر الرحمة. "ولا يزِّكيهم"؛ أي: ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، بل يعذِّبهم بها. قوله: "المُسبل"؛ أي: الذي أَسبلَ ثوبَه؛ أي: طوَّل ذيلَه بحيث يجرُّ على الأرض من الكِبْر. قوله: "والمنَّان"، يريد بـ (المنَّان): الذي يعطي الناسَ شيئًا ويمنُّ عليهم؛ أي يقول: أعطيتُ فلانًا كذا؛ ليُظهرَ سخاءَ نفسه، وإذلالَ وتحقيرَ ذلك الفقير. قوله: "والمنفِّق"؛ أي: الذي يُرَوِّج متاعهَ بالحَلف الكاذب، مثل أن يقول البائع للمشتري: اشتريتُ هذا بمئة دينار والله، ولم يشترِها بمئة، بل بأقل من مئة،

وإنما يحلف أنه اشتراه بمئة دينار؛ ليظنَّ المشتري أن ذلك المتاعَ يساوي مئةَ دينارٍ أو أكثرَ، فيرغب في شرائه. * * * 2043 - عن قيسِ بن أبي غَرَزةَ - رضي الله عنه - قال: مَرَّ بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إنَّ البَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغوُ والحَلِفُ فشُوبوهُ بالصَّدَقَةِ". قوله: "إن البيعَ يحضره اللَّغوُ والحَلِف"؛ يعني: البائعُ قد يتكلم بكذبٍ، وقد يَحلِف على ذلك. "فشُوبُوه"؛ أي: فاخلطوا ذلك اللَّغوَ والحَلِفَ بالصدقة؛ فإن الصدقةَ تُطفِئ غضبَ الربِّ، و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. * * * 2044 - عن عُبَيْد بن رِفاعَةَ، عن أبيه - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التُّجَّارُ يُحْشَرُونَ يومَ القِيامَةِ فُجَّارًا إلا مَنِ اتَّقَى وبَرَّ وصَدَقَ". قوله: "إن التجَّارَ يُحشَرون يومَ القيامة فجَّارًا"؛ يعني: التجَّار فُجَّار بكثرةِ حَلِفهم الكاذبة، وكثرةِ تكلُّمهم بالكذب؛ ليروَّجوا متاعَهم، وكثرةِ غفلتِهم عن ذِكر الله وعن الصلاة، واشتغالِهم بالمعاملة، وكثرةِ جريان الهَذَيان والفُحش واللهو يينهم، وهذه الأشياء فجورٌ، وصاحبُها فاجرٌ، إلا من احترز من هذه الأشياء. قوله: "إلا مَن اتقى"؛ أي: مَن خاف الله، فلا يترك ذِكرَ الله وأوامَره، ولا يفعل المناهي. "وبرَّ"؛ أي: أحسنَ؛ فلا يؤذي أحدًا ولا يُوصِل ضررًا إلى أحدٍ في بيعٍ وشراءٍ، و"صَدَقَ" في ثمن المتاع، والله أعلمُ وأحكمُ. * * *

3 - باب الخيار

3 - باب الخِيَارِ (باب الخيار) مِنَ الصِّحَاحِ: 2045 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَبَايعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما بالخِيَارِ على صاحِبهِ ما لمْ يتفرَّقَا إلَّا بَيْعَ الخِيارِ". وفي روايةٍ: "إذا تَبَايَعَ المُتَبَايعَانِ فَكُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا بالخِيارِ مِنْ بَيْعِهِ ما لم يتفَرَّقَا، أوْ يَكُونُ بَيْعُهُما عن خِيار، فإذا كَانَ بيعُهُما عن خِيارٍ فقدْ وَجَبَ". وفي روايةٍ: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتفَرَّقا أو يَخْتَارَا". قوله: "المتبايعانِ كلُّ واحدٍ منهما بالخيار"، أراد بـ (المتبايعان): البائع والمشتري؛ يعني: إذا انعقد البيعُ يثبت للبائع والمشتري خيارُ الفَسخ بفسخ البيع، كلُّ واحدٍ منهما متى شاء برضا صاحبه وغير رضاه، سواءٌ في ذلك المبيع خسرانٌ أو ربحٌ، وثبوتُ خيار المجلس ثابثٌ لهما - وإن لم يشترطا الخيارَ - ما دام في المجلس، فإذا تفرَّقا أو أحدُهما من المجلس بحيث حالَ بينهما حائلٌ أو لم يَحُلْ بينهما، ولكن بَعُدَا بحيث لا يُعتاد تكلُّم أحدِهما الآخرَ من بُعْدِ المسافة؛ انقطع خيارُ المجلس. قوله: "إلا بيعَ الخيار"؛ يعني: خيارُ المجلس ثابتٌ ما داما في المجلس، إلا أن يكون بيعًا أسقطا أو أحدُهما خيارَه في المجلس، بأن يقولا: أَسقَطْنا الخيارَ، أو يقول أحدهما: أسقطتُ الخيارَ؛ أي: ألزمتُ البيعَ، فإذا أَسقَطَا خيارَهما لم يكن لهما بعدَ ذلك فسخُ البيع وإن كانا في المجلس، فإن أسقطَ أحدُهما الخيارَ دون الآخر سقط خيارُ المُسقِط، وبقي خيارُ الآخر، ما داما في المجلس.

وقيل: معنى قوله: (إلا بيعَ الخيار): إلا بيعًا شَرَطَا فيه الخيارَ ثلاثةَ أيامٍ فما دونَها، فإنه يثبت لهما الخيارُ في ذلك القَدْر وإن تفرَّقا من المجلس، وخيارُ المجلس الذي ذكرنا أنه ثابتٌ من غير شرطهما في مذهب الشافعي وأحمد. وأما عند أبي حنيفة ومالك: لا يثبت خيار المجلس ما لم يشترطا. قوله: "أو يكون بيعُهما عن خيارٍ"، معنى هذا كمعنى قوله: (إلا بيعَ الخيار)، وقد ذُكر. قوله: "البيعانِ بالخيار ما لم يتفرَّقا، أو يختارا": (البيعان): بكسر الياء وتشديدها: البائع والمشتري؛ يعني بقوله: (أو يختار)؛ أي: اختارا لزومَ المبيع وإسقاطَ خيارهما؛ يعني: لهما الخيارُ ما لم يتفرَّقا من المجلس، وما لم يُسقِطَا خيارَهما، فإذا اختارا لزوم البيع سقطَ خيارُهما وإن كانا في المجلس بعدُ. * * * 2046 - وعن حكيمِ بن حزامٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتفَرَّقا، فإنْ صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما". قوله: "فإن صَدَقا وبيَّنَا"؛ يعني: فإن صدقَ البائعُ في صفة المَبيع، وبيَّن ما فيه من عيبٍ ونقصٍ، وكذا المشتري فيما يُعطي في عِوَضِ المَبيع. "بُورِك"؛ أي: أُكثر نفعُ البائع في الثمن، ونفعُ المشتري في المَبيع. "وإنْ كَتَمَا" عيبَ متاعهما، "وكذبا" في صفات ذلك "مُحِقَتْ"؛ أي: نُفِيَتْ وأُزيلَتْ بركةُ بيعهما. * * *

2047 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قالَ رجُلٌ: يا رسولَ الله، إنَّي أُخدَعُ في البُيوعِ، فقال: "إذا بايَعْتَ فَقُلْ لا خِلاَبةَ" فكانَ الرجُلُ يقولُهُ. قوله: "قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أُخدَع في البيوع، فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلابَة، فكان الرجل يقوله"، اسم هذا الرجل حَبَّان ابن مُنقِذ، وقد قلَّت معرفته بالمعاملة مِن كِبَر سنِّه، فجاء أهلُه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكوا إليه لخرفه الغبن، وطلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - أن يَحجرَ عليه، فحجر عليه في البيع، فقال الرجل: يا رسولَ الله! لم يكن لي صبرٌ عن البيع، فرفع عنه الحَجْر وقال: (إذا بايعتَ قل: لا خِلابَة)، وكان الرجل إذا بايَعَ بيعًا قال: لا خِلابَة؛ يعني: لا خديعةَ، (الخِلابة): الخديعة؛ يعني: أبيعُ هذا بشرط أن أردَّ الثمنَ وأستردَّ المَبيعَ إذا ظهرَ لي غُبن فيه. واختُلف في أن هذا الشرط كان خاصةً لذلك الرجل، أم لجميع مَن شرطَ هذا الشرط؟ فعند أحمد: يثبت الرُّد به لمَن شرطَ هذا الشرط؛ أي: لمَن قال في وقت البيع: لا خِلابَة، أو يقول هذا المعنى بلسان آخر. وعند الشافعي وأبي حنيفة: لا يثبت الخيارُ بالغُبن، سواءٌ قال هذا اللفظَ أو لم يقل. وعند مالك: يثبت الخيارُ لمَن لا بصيرةَ له بمعرفة المتاع من العاقدين، سواءٌ شرطَ هذا الشرطَ أو لم يشرط، وأما إذا شرطَ المتبايعان أو أحدُهما خيارَ ثلاثةِ أيامٍ فما دونَها جازَ، ويثبت له الخيارُ في القَدْر الذي شَرَطَ، وأولُ وقت خيار الشرط من وقت العقد في أصحِّ القولَين، ومِن أول تفرُّقهما من المجلس في القول الثاني، ولا يجوز له الشرطُ أكثرَ من ثلاثة أيام، فإنْ شَرَطَ فسدَ البيعُ عند الشافعي وأبي حنيفة.

وقال مالك: يجوز بقَدْر الحاجة إليه؛ أي: بقَدْر ما يمكن للعاقد معرفةُ المَبيع، وذلك يختلف باختلاف الأشياء؛ ففي الثوب يومان أو ثلاثٌ، وفي الحيوان أسبوعٌ، وفي الدُّور شهرٌ، وفي الأرض سَنةٌ، ولا يجوز شرطُ الخيار في كل عقدٍ يُشترَط فيه قبضُ العِوَضَين في المجلس، مثل عقد الصَّرف وبيع الطعام بالطعام، ولا فيما يُشترَط قبضُ أحد العِوَضَين، وهو عقد السَّلَم؛ لأن القبضَ شرطٌ فيه لكي يتفرَّقا عن عقدٍ لازمٍ لا علاقةَ بينهما. * * * مِنَ الحِسَان: 2048 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتَفَرَّقا إلَّا أنْ يكونَ صَفْقَةَ خِيارٍ، ولا يَحِلُّ لهُ أَنْ يُفارِقَ صاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ". قوله: "إلا أن يكون صفقةَ خيارٍ"، معنى هذا كمعنى قوله (إلا بيعَ الخيار)، وقد ذكرنا. قوله: "ولا يحلُّ له أن يُفارِقَ صاحبَه خشيةَ أن يستقيلَه"، (الاستقالة): طلب الإقالة، والإقالة: إبطال البيع بعد انعقاده؛ أي: الفَسخ، والمستعمل في الإقالة: أن يرفع العاقدان البيعَ بعد لزومه بتراضيهما، وليس لعاقدٍ أن يفسخَ البيعَ بعد اللزوم إلا بتراضي الآخر، والفَسخ يُستعمل في رفع العقد في زمان الخيار؛ يعني: لا ينبغي للمتقي أن يقوم من المجلس بعد العقد، ويخرج من ذلك المجلس؛ من خوف أن يفسخَ العاقدُ الآخرُ البيعَ بخيار المجلس؛ لأن هذا يشبه خديعةً، فإنْ فعلَ جازَ، ولكن فعلَ بخلاف التقوى، بل التقوى أن يصبرَ على المكث في المجلس حتى يجتهدَ صاحبُه في أخذ المتاع أو الفسخ، فإذا مضى

4 - باب الربا

زمانٌ يُعتاد أن يجلس المتعاقدان فيه فحينَئذٍ لا بأسَ في التفرق. * * * 2049 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُتفَرَّقُ عَنْ بَيْعٍ إلَّا عَن تَراضٍ". قوله: "لا يتفرَّق عن بيعٍ إلا عن تراضٍ": معنى هذا الحديث كمعنى الحديث الذي قبله. * * * 4 - باب الرِّبا (باب الرِّبا) مِنَ الصِّحَاحِ: 2051 - عن عُبادةَ بن الصَّامِت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والمِلْحُ بالمِلْح، مِثْلًا بمِثْلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فإذا اَخْتَلَفَتْ هذِهِ الأصنافُ - وفي روايةٍ: إذا اختلف النوعان - فَبيعُوا كيفَ شِئْتُم إذا كَان يَدًا بِيَدٍ". قوله: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفضَّةُ بالفضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثْلًا بمِثْلِ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأجناسُ فبيعُوا كيف شئتُم إذا كان يدًا بيدٍ". معنى (الرِّبا): الزيادة. اعلم أن مالَ الرِّبا المذكور في هذا الحديث ستةٌ، ولكن ليس مالُ الرِّبا

مخصوصًا بهذه الستة، وإنما ذكر هذه الستة ليُقاسَ عليها غيرُها. واعلم أن مالَ الرِّبا أربعةٌ: الذهب والفضة والمأكول والمشروب. فالذهبُ والفضةُ: مالُ الرِّبا، سواءٌ كانا مضروبين أو غيرَ مضروبَين، حليًا أو آنيةً أو غيرَها. وأما المأكول: فكلُّ ما يُؤكَل على وجه القُوت أو التفكُّه أو المداواة فهو مالُ الرِّبا، والمشروب أيضًا: مالُ الرِّبا وإن كان شيئًا يُشرَب للتداوي، والمِلحٍ من المأكولات. وقال الشافعي ومالك: علَّة الرِّبا في الذهب والفضة: النقدية، ومعنى النقدية: أنه يُباع ويُشترَى بالذهب والفضة، وعلَّة الرِّبا عندهما في المأكول والمشروب: الطعم. فالذهبُ عندهما مالُ الرِّبا، سواءٌ بوزنٍ ومكيالٍ أم لا، وكلُّ ما ليس بالذهب والفضة والمأكول والمشروب ليس بمالِ الرِّبا، فيجوز أن يُباع نقدًا ونسيئةً، وزائدًا وناقصًا، فيجوز أن يُباع مَنُّ قطنٍ بمَنِّ قطنٍ أو أكثرَ نقدًا ونسيئةً. وقال أبو حنيفة: علَّة الرِّبا في الذهب والفضة: الوزن، وفي المأكول والمشروب: الكَيل، فكلُّ ما يُوزَن ويُكَالُ فهو مالُ الرِّبا عنده، حنى الجصُّ والنُّورةُ والحديدُ والقطنُ وغيرُهما. فإذا عرفتَ هذا فاعرِفْ أنه إذا بِيعَ مالُ الرِّبا بمالِ الرِّبا؛ فإن كانا من جنسٍ واحدٍ كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والحِنطة بالحِنطة، فلا يحلُّ إلا بثلاث شرائط: أن يكونا مِثْلَين في الوزن فيما يُوزَن وفي الكَيل فيما يُكَال، وأن يكون قبضُ العِوَضَين قبل التفرُّق من المجلس، وأن يكون قبضُ العِوَضَين في الحال لا بعدَ زمان، تُسمى نسيئةً، فإن فُقِدَ شرطٌ من هذه الشروط فهو ربا، وأكلُ الرِّبا من الكبائر.

وإن كان العِوَضَانِ كلاهما من مال الربا، ولكنَّ جنسَهما مختلفٌ كبيع الفضة بالذهب، أو الحِنطة بالشعير جازَ أن يكون بينهما تفاضلٌ، فيجوز بيعُ دينارٍ من الفضة بدينارَين من الذهب، أو بالعكس، وكذا يجوز بيعُ قفيزٍ من شعير بقفيزَي حِنطةٍ، أو بالعكس، ولكن تجب مراعاة شرطَين: أحدهما: أن يكون قبضُ العِوَضَين قبل التفرُّق من المجلس. والثاني: أن يكون قبضُهما في الحال، فإن كان أحدُ العِوَضَين من مال الربا، والآخر من غير مال الربا كالذهب بالحديد، والحِنطة بالقطن، أو كانا مالَ الربا إلا أن أحدَهما نقدٌ، والآخرَ مطعومٌ كبيع الذهب بالحِنطة، كلُّ ذلك يجوز متفاضلًا وحالًا ونسيئةً. وفي مذهب أبي حنيفة: يجوز بيعُ الخبز بالحِنطة وبالدقيق متفاضلًا، وبيعُ الرُّطَب بالتمر، والعِنَب بالزَّبيب. ويجوز عند مالك وأحمد بيعُ الحِنطة بدقيقها، ويجوز بيعُ الرُّطَب بالرُّطَب، والعِنَب بالعِنَب، كلُّ ذلك مِثْلًا بمِثْلٍ، وبجوز بيعُ الخبز بالخبز عند مالك إذا عُلِمَ كونُهما متماثلَين بالاجتهاد، وإن لم يُوزَن. قوله: "مِثْلًا بمِثْلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيد"، أراد بقوله: (يدًا بيدٍ): الحلول؛ يعني: لا يجوز أن يمضيَ زمانٌ بعد قبض أحد العِوَضَين، وقبلَ قبض العِوَضِ الآخر. وأما قوله: (مثلًا بمِثْلٍ سواءً بسواءٍ): يحتمل أن يكون (سواءً بسواءٍ) تأكيدًا لقوله: (مِثْلًا بمِثْلٍ)؛ لأن معنى المِثْل والسَّواء واحدٌ، ويحتمل أن يريد بقوله: (مِثْلًا بمِثْلٍ) أن يكون العِوَضانِ مِثْلَين في الوزن أو الكيل، ويريد بقوله: (سواءً بسواءٍ) أن يكون مجلسُ تقابُضِ العِوَضَين واحدًا، حتى لو قبضَ أحدُ المتبايعين أحدَ العِوَضَين في المجلس، وقبضَ الآخرَ في مجلسٍ آخرَ لا يجوز،

وإن كان بينهما جدارٌ، مع أن هذا القَدْرَ من الزمان لا يُعَدُّ نسيئةً. قوله: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعُوا كيف شئتُم إذا كان يدًا بيدٍ"؛ يعني: إذا كان العِوَضانِ مالَ الربا، وكلاهما نقدٌ، ولكنَّ جنسَهما مختلفٌ كبيع الذهب بالفضة، أو كانا مطعومَين ولكنَّ جنسَهما مختلفٌ، كبيع الحِنطة بالشعير؛ يجوز التفاضُلُ بينهما، ولكن يجب قبضُ العِوَضَين في الحال وفي المجلس. * * * 2053 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بمِثْلِ، ولا تُشِفُّوا بعضَها على بعضٍ، ولا تَبيعُوا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، ولا تُشِفُّوا بعضَها على بعضٍ، ولا تَبيعُوا منها غائِبًا بناجِزٍ". وفي رواية: "لا تَبيعُوا الذَّهبَ بالذَّهَبِ ولا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلَّا وَزنًا بِوَزنٍ". قوله: "ولا تُشِفُّوا"، أَشفَّ يُشِفُّ: إذا فضَّل شيئًا على شيءٍ؛ أي: إذا بعتُم الذهبَ بالذهبِ لا يجوز أن يكون بينهما تفاضُلٌ، بل يجب أن يكونا متماثلَين حتى لو باع خاتمًا من ذهبٍ قيمتُه عشرةُ دنانيرَ من كثرة نقوشه بدينارٍ وحبةٍ من الذهب لا يجوز، بل لا يجوز إلا بدينارٍ. قوله: "ولا تبيعوا منها غائبًا بناجزٍ"، (الناجز): ضد الغائب، والضمير في (منها) يعود إلى الفضة، وحكم الذهب كحكم الفضة؛ يعني: لا يجوز بيعُ ذهبٍ حاضرٍ بذهبٍ غائبٍ، بل يلزم قبضُ العِوَضَين في الحال وفي المجلس، وكذلك حكم جميع أموال الرِّبا. قوله: "ولا تبيعوا الذهبَ بالذهب، ولا الوَرِقَ بالوَرِقَ إلا وزنًا بوزنٍ":

هذا يبين أن الذهبَ والفضةَ مما يُوزَن لا مما يُكَال، ويبين أيضًا أن الموزونَ من مال الرِّبا لا يجوز أن يُباعَ كيلًا، وكذا المَكيلُ من مال الرِّبا لا يجوز أن يُباعَ وزنًا إذا كان العِوَضانِ من جنسٍ واحدٍ، أما إذا اختلف جنسُهما يجوز أن يُبَاعَا كيلًا ووزنًا، فيجوز أن يُباعَ الذهبُ بالفضة كيلًا أو جُزافًا، وكذا الحِنطة بالشعير، ويجوز وزنًا أو جُزافًا. ونعني بـ (الجُزاف): أن تُباعَ صُبْرةٌ بصُبْرة من غير كيلٍ ووزنٍ. * * * 2054 - وعن معْمَرِ بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنت أسمعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطَّعَامُ بالطَّعامِ مِثْلًا بمِثْلٍ". قوله: "الطعام بالطعام مِثْلًا بمِثْلٍ"، (الطعام): الحِنطة، هذا هو الأصل في اللغة، فإن أراد هنا بالطعام: الحِنطة، يُقاس على الحِنطة جميعُ أموال الرِّبا إذا اتفق جنس العِوَضَين، وإن أراد بالطعام هنا: ما يُطعَم لا تخصيصَ الحِنطة فتأويله: أن يكون العِوَضَانِ متفقَين في الطعم والجنسية، أما إذا اتفقا في الطعم دون الجنسية لا يجب بيعُ أحدهما بالآخر مِثْلًا بمِثْل، بل يجوز أن يكون أحدُهما زائدًا. قوله: "مِثْلًا": وجه نصب (مِثْلًا) أن يكون حالًا أو تمييزًا، وكذلك ما أشبه هذا كقوله: (سواءً بسواءٍ، ويدًا بيدٍ). * * * 2055 - وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ والوَرِقُ بالوَرِقِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ, والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ".

قوله: "هاءَ وهاءَ"، قال الخطابي: وأصحابُ الحديث يقرؤون: (ها وها) بالقصر، والصواب: (هاءَ وهاءَ) بالمد وفتح الهمزة، إلى ها هنا لفظه. واعلم أن معنى (هاء): خُذْ؛ يعني: لا يجوز بيعُ مال الرِّبا إلا يدًا بيدً، يقول البائع للمشتري: خُذْ المَبيعَ، ويقول المشتري للبائع: خُذْ عِوَضَ المَبيع، في الحال وفي المجلس. * * * 2056 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ وأبي هريرةَ - رضي الله عنهما - أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعمَلَ رَجُلًا عَلَى أهلِ خَيْبَرَ، فجاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيبٍ، فقال: "أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكذا؟ " قال: لا والله يا رسُولَ الله، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هذا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بالثَّلاثَةِ، فقال: "لا تَفْعَلْ، بعْ الجَمْعَ بالدَّرَاهِم، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّراهِم جَنِيبًا". قوله: "استعملَه"؛ أي جعله عاملًا وحاكمًا على أهل خَيبر وأراضيها. قوله: "بتمر جَنيب"، (الجنيب): نوعٌ من التمر، وهو تمرٌ جيدٌ من خيار التمر. قوله: "لا تفعل"؛ أي: لا تشترِ الجنيبَ بتمرٍ آخرَ إلا مِثْلًا بمِثْل، وإن كان أحدُهما أجودَ من الآخر، بل إن أردت أن تبيعَ أحدَهما بآخرَ متفضلًا فبعْ أحدَهما بالذهب أو الفضة أو بجنس آخر، ثم اشترِ تمرًا آخرَ بذلك الشيء. مثل: أن يبيعَ زيدٌ صاعًا من تمر جيدٍ من عمروٍ بدرهمٍ، وجرى بينهما الإيجابُ والقَبولُ، ولا يحتاج قبضَ الدرهم، ثم يشتري زيدٌ من عمرٍو بذلك الدرهم صاعَين من تمرٍ رديءٍ؛ يجوز هذا البيع. * * * 2057 - وعن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ بِلالٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ،

فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مِنْ أينَ هذا؟، قال: كانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ ردِيءٌ فَبعْتُ مِنْهُ صاعَيْنِ بصاعٍ، فقال: "أوَّهْ عَيْنُ الرِّبا، عَيْنُ الرِّبا، لا تَفْعَلْ، ولكنْ إذا أردْتَ أنْ تَشْتَرِي فَبعِ التَّمْرَ ببَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ". قوله: "أوَّه": بتشديد الواو وسكون الهاء: كلمةُ تحسُّرٍ وندامةٍ على لحوق ضررٍ بأخذ عين الرِّبا، هذا الفعلُ مَحضُ الرِّبا، بل إذا أردت أن تبيع التمرَ بالتمر متفاضلًا فبعِ التمرَ الرديءَ بالدراهم أو الذهب، ثم اشترِ بتلك الدراهم أو الذهب تمرًا جيدًا. * * * 2058 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ عبدٌ فبايَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَى الهِجْرَةِ فلم يَشْعُرْ أَنَّهُ عبدٌ فجاءَ سَيدُهُ يُريدُهُ، فاَشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، ولمْ يُبايعْ أَحَدًا بعدَهُ حتَّى يسأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ أَمْ حُرٌّ. قوله: "فاشتراه بعبدَين أسودَين"؛ يعني: دفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَين أسودَين بدل ذلك العبد إلى سيده، وهذا يدل على أن بيعَ غيرِ مالِ الرِّبا يجوز متفاضلًا. * * * 2059 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لا يُعْلَمُ مكِيلَتُها بالكَيْلِ المُسمَّى مِنَ التَّمْرِ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصُّبرة من التمر لا يُعلَم مَكِيلَتُها بالكَيل المُسمَّى من التمر"؛ يعني: لا يجوز بيعُ مال الرِّبا بمال الرِّبا إذا كانا من جنسٍ واحدٍ، إلا بعد تيقُّن كونِهما متماثلَين في الكيل إن كانا مما يُكَالُ، وفي الوزن إن كانا مما يُوزَن، فإن كان كلاهما أو أحدُهما مجهولًا لم يَجُزْ، وإن

خرجا متماثلين بعد أن يُكَالا أو يُوزَنا، وهذا يجب ما إذا كانا من جنسٍ واحدٍ، فإن لم يكونا من جنسٍ واحدٍ جازَ أن يكونا مجهولَين. * * * 2060 - عن فَضَالَةَ بن عُبَيْد - رضي الله عنه - قال: اَشْتَرَيْتُ يومَ خَيْبَرَ قِلادَةً باثْنَيْ عَشَرَ دِينارًا، فيها ذَهَبٌ وخَرَزٌ، ففصلْتُها، فوجدت فيها أكثرَ من اثْنَيْ عَشَرَ دِينارًا، فذكرتُ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تُباعُ حَتَّى تُفَصلَ". قوله: "لا تُباع حتى تفصَّل"؛ يعني: لا تُباعُ القلادةُ حتى يُميَّز ما فيها من الذهب مما فيها من الخرز، وأما إذا مُيز ذهبُها يُباع بالذهب متماثلًا. * * * مِنَ الحِسَان: 2061 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إلَّا أَكَلَ الرِّبا، فإنْ لم يَأْكُلْهُ أصابَهُ مِنْ بُخَارِهِ"، ويُروى: "مِنْ غُبَارِهِ". قوله: "أصابه من بُخَاره"، (البُخار): شبه دخان يخرج من القِدْر عند الطبخ؛ يعني: إذا كان آخرُ الزمان يكون أكثرُ الناس يأكلون الرِّبا، فإن لم يأكل أحدٌ الرِّبا أصابه نصيبٌ من الإثم بأن يكون شاهدًا؛ أي: عقدَ الرِّبا, أو كاتبًا لَقَبَالَةِ الرِّبا، أو يأكل من ضيافة أكل الرِّبا ومن هديتهم مع العلم بأنه مالُ الرِّبا. * * * 2062 - وعن عُبادةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبيعُوا

الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرِقِ، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشَّعِيرَ بالشَّعِيرِ، ولا التَّمْرَ بالتَّمْرِ، ولا المِلْحَ بالمِلْح إلَّا سَواءً بسَواءً، عَيْنًا بعَيْنٍ، يدًا بيدٍ، ولكِنْ بيعُوا الذَّهَبَ بالوَرِقِ، والوَرقَ بالذَّهَبِ، والبُرَّ بالشَّعِيرِ، والشَّعِيرِ بِالبُرِّ، والتَّمْرَ بالمِلْحِ، والمِلْحَ بالتَّمْرِ، يدًا بيَدٍ كيفَ شِئْتُمْ". قوله: "سواءً بسواءٍ": مِثْلًا بمِثْلٍ. قوله: "عينًا بعينٍ"؛ أي: حاضرًا بحاضرٍ، ولا يجوز بيعُ حاضرٍ بغائبٍ. قوله: "يدًا بيدٍ"؛ أي: ليكنْ قبضُ العِوَضَينِ في المجلس. قوله: "كيف شئتم"؛ أي: يجوز التفاضلُ بين العِوَضَين إذا اختلف جنساهما. * * * 2063 - عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بالرُّطَبِ، فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ "، فقال: نعم، فنهاهُ عنْ ذلكَ. قوله: "أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ " هذا استفهام بمعنى التقرير؛ يعني: يجب أن يكونَ العِوَضَانِ متماثلَين إذا اتَّحد جنسُهما، فإذا علمتَ أن الرُّطَبَ ينقص إذا يبس فلا تَبعْه بالتمر؛ لأنهما ليسا متماثلَين. * * * 2064 - وروى سعيدُ بن المُسَيب مُرْسلًا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بالحَيَوانِ. قال سعيدٌ: كانَ مِنْ مَيْسِرِ أهْلِ الجَاهِليَّةِ. قوله: "نهى عن بيع اللحم بالحيوان": لا يجوز بيعُ اللحم بحيوانٍ

مأكولٍ عند الشافعي، سواءٌ كان ذلك الحيوان من جنس ذلك اللحم أو من غير جنسه، وهل يجوز بيعُ اللحم بحيوانٍ غيرِ مأكولٍ كبيع اللحم بعبدٍ أو حمارٍ؟ فيه قولان؛ الأصح: أنه لا يجوز، ويجوز بيعُ اللحم بالحيوان عند أبي حنيفة، سواءٌ كان الحيوانُ مأكولًا أو غيرَ مأكولٍ، من جنس اللحم أو غير جنسه. قوله: "من مَيْسِر أهل الجاهلية"؛ يعني: هذا من فعل أهل الجاهلية، كانوا يقطعون قطعةً من اللحم بحيوانٍ، فربما يضرُّ ذلك المشتري؛ لكون الحيوان أكثرَ قيمةً من ذلك اللحم. * * * 2065 - عن الحسنِ عن سَمُرَة - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيع الحَيَوانِ بالحَيَوانِ نَسِيئَةً". قوله: "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً"، قال الخطابي: تأويل هذا الحديث أن يكون كلا الحيوانَين من نسيئةٍ، مِثل: أن يقول زيدٌ لعمرٍو مَثَلًا: بعتُ منك فرسًا بفرسٍ صفتُه كذا، أو يحمل صفة كذا، أو ليس الحيوانانِ حاضرَينِ؛ فلا يجوز هذا البيعُ؛ لأنه بيعُ الدَّين بالدَّين، وهذا غيرُ جائزٍ، ونعني بالدَّين: ما يكون في الذَّمة، ولو لم يكن مشارًا إليه. أما لو كان أحدُ الحيوانَين حاضرًا والآخرُ في الذمة، كما يقول زيدٌ لعمرٍو: بعتُ منك هذا الفَرَسَ بجَمَلٍ صفتُه كذا، وبفَرَسٍ صفتُه كذا؛ أي: يعطيني ذلك الجَمَل أو ذلك الفَرَس بعد شهرٍ، جازَ هذا البيعُ عند الشافعي، سواءٌ كان الحيوانانِ من جنسٍ واحدٍ أو من جنسين، وسواءٌ باع واحدًا بواحدٍ، أو واحدًا باثنين أو أكثر. وعند مالك: إن اختلف جنساهما جازَ، وإن اتفق جنساهما لم يَجُزْ.

5 - باب المنهي عنها من البيوع

وعند أبي حنيفة وأحمد: لم يَجُزْ، سواءٌ كانا من جنس أو من جنسين. * * * 2066 - وعن عبدِ الله بن عمرِو بن العاص - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ أنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفَدَتِ الإِبلُ، فأمَرَهُ أنْ يأْخُذَ على قَلائِصِ الصَّدَقَةِ، فكانَ يأْخُذَ البعيرَ بالبعيرَيْنِ إلى إبلِ الصَّدَقَةِ. قوله: "أن يُجهِّز جيشًا"؛ يعني: أن يُهيئ أسبابَ جيشٍ من المركوبات والسلاح؛ يعني: يعطي مَن ليس له مركوبٌ وسلاحٌ المركوبَ والسلاحَ. قوله: "فنفدَتِ الإبلُ"؛ أي: فَنِيَ؛ يعني: أعطى كلَّ رجلٍ جملًا، وبقي بعضُ الرجال وليس لهم مركوبٌ، ولم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبلٌ فيعطيهم، فأمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بن عمرٍو على قلائص الصدقة؛ يعني: أمرَه أن يستقرضَ عددًا من الإبل، حتى يتمَّ جهازُ ذلك الجيش، وكان يستقرض الإبل لترديدها من الإبل الزكاة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (القلائص) جمع: قَلُوص، وهي الناقة الشابة. * * * 5 - باب المنهيِّ عنها من البيوع (باب المَنهي عنها من البيوع) مِنَ الصِّحَاحِ: 2067 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُزَابنةِ أَنْ يَبيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إن كان نَخْلًا بِتَمْرٍ كيْلًا، وَإِنْ كان كَرْمًا أَنْ يَبيعَهُ بِزَبيبٍ كيْلًا، وَإِنْ

كان زَرْعًا أَنْ يَبيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عن ذلك كُلِّهِ، ويُروى: المُزَابنةُ أَنْ يُبَاعَ ما في رؤوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِكَيْلٍ مُسَمَّى إن زَادَ فَلِي وَإنْ نَقَص فَعَلَيَّ. "عن المُزَابنة"، (المُزَابنة): بيعُ الرُّطَب بالتمر، وبيعُ العِنَب بالزَّبيب كيلًا. قد قلنا: بيعُ الرُّطب بالتمر والعِنَب بالزَّبيب جائزٌ عند أبي حنيفة، ولا يجوز عند الشافعي ومالك وأحمد، لا بالكيل ولا بالوزن إذا لم يكن الرُّطَب على رأس النخل، أما إذا كان الرُّطَبُ على رأس النخل، ويبيعه بالتمر فهو العَرَايا، ويأتي بحثه. * * * 2068 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُخابَرةِ والمُحاقَلَةِ والمُزابنةِ، فالمُحاقَلةُ: أَنْ يَبيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بمائَةِ فَرْقٍ حِنْطَةٍ، والمُزَابنةُ: أَنْ يَبيعَ التَمرَ في رؤُوسِ النَّخْلِ بمائَةِ فَرَق، والمُخابَرَةُّ: كِراءُ الأرضِ بالثُّلُثِ والرُّبعِ. قوله: "والمُحَاقَلَة"، (المُحَاقَلَة): أن يبيعَ الرجلُ الزرعَ بمئة فَرْقِ حِنطةٍ؛ يعني: أن يبيعَ الزرعَ بعد اشتداد الحَبِّ بجنسه على وجه الأرض، فهذا مَنهيٌّ عنه؛ لأن الحِنطةَ اليابسةَ بالحِنطة القائمة على الزرع، أو الشعيرَ اليابسَ بالشعير القائم لا يُعرَف يقينًا أنهما متماثلان. قوله: "بمئة فَرْق": تقييدُه بالمئة غيرُ مشروط، بل لا يجوز لا بالمئة ولا بأقل ولا بأكثر. و (الفَرْق) بسكون الراء وفتحها: مكيال بالمدينة يَسَعُ ستةَ عشرَ رطلًا، وكذلك البحث في المُزابنة؛ لأن بيعَ الرُّطَبِ بالتمر لا يُعرَف أنهما يكونان متماثلَين بعد جفاف الرُّطَب، أو متفاضلين.

وأما (المُخَابَرَة): فهو أن يُعطيَ الرجلُ أرضَه إلى غيره ليزرعَها؛ ليكونَ البَذرُ من الزرع؛ ليأخذَ صاحبُ الأرض بكِراءِ أرضه رُبع الغَلَّة أو ثُلثها، وما أشبه ذلك. وهذه المعاملة على أربعة أنواع: أحدها: أن يكون الأرضُ والبَذرُ من واحدٍ، والعملُ والبقرُ من آخرَ. والثاني: أن تكون الأرضُ من واحدٍ، والبَذرُ والبقرُ والعملُ من واحدٍ. والثالث: أن تكون الأرضُ والبَذرُ والبقرُ من واحدٍ، والعملُ من واحدٍ؛ فهذه الأنواعُ الثلاثةُ جائزةٌ عند أحمد والقاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وإن كانت الأرضُ والبقرُ من واحدٍ، والبَذرُ والعملُ من واحدٍ لا يجوز عندهم أيضًا، وعند الآخرين: لا يجوز في شيءٍ من هذه الأنواع. * * * 2069 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلةِ والمُزابنةِ والمُخابَرَةِ والمُعاوَمَةِ وعَنِ الثُّنْيَا، ورخَّصَ في العَرَايا. قوله: "والمُعَاوَمَة"، (المُعَاوَمَة): أن يبيعَ الرجلُ ثمرةَ بستانه سنتَين أو أكثرَ، أو يبيعَه سَنةً قبلَ أن تظهر ثمارُه، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه بيعُ ما لم يُخلَق، فهو كبيع الولد قبل أن يخلق. قوله: "وعن الثُّنيا"، (الثُّنيا) بضم الثاء الاستثناء: وهو أن يبيعَ شيئًا ويستثنيَ منه جزءًا غيرَ شائعٍ، مثل أن يقول: بعتُ منك هذه الدابةَ إلا يدَها أو رِجلَها، أو بعتُ منك ثمرةَ هذه البستان إلا بعضَها، أو إلا كذا هنا وكذا صاعًا، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأن المستثنى مجهولٌ، وإذا كان المستثنى مجهولًا يكون المستثنى منه وهو المبيعُ مجهولًا، فإن استثنى جزءًا شائعًا كالنصف والثلث

وغيرهما جازَ؛ لأنه إذا قال: بعتُ هذا الشيءَ إلا ثُلثَها، فعُلِمَ أن المَبيعَ هو الثُّلثانِ، وثُلثا ذلك الشيءِ معلومٌ، فتكون ثمرةُ ذلك البستانِ مشتركًا بين البائع والمشتري؛ ثلثُها للبائع، وثلثانِ للمشتري. قوله: "ورخَّص في العرايا"، (العَرَايا) جمع: (عَرِيَّة) بتشديد الياء، وهي أن يبيع الرجلُ الرُّطَبَ على رأس النخل بالتمر على وجه الأرض، والقياسُ بطلانُ هذا البيعِ؛ لأن بيعَ الرُّطَبِ بالتمر غيرُ معلومٍ كونُهما متماثلَين، ولكن جاؤوا - فقراءَ المدينة - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسولَ الله! قد نهيتَ عن بيع الرُّطَب بالتمر، وليس عندنا الذهبُ والفضةُ نشتري به الرُّطَبَ، ونشتهي الرُّطَبَ، وعندنا التمرُ، فرخَّص لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتروا الرُّطَبَ بالتمر بخمسِ شرائط: إحداها: أن يكون الرُّطَبُ على رأس النخل. والثانية: أن يَخرصَ الرُّطَبَ خارصٌ ويُقدِّره تمرًا، مثل أن يقول: إذا يبسَ يكون قَدْرُه مئَة مَنٍّ مَثَلاً. الثالثة: أن يُسلِّمَ المشتري التمرَ تحت النخيل إلى البائع، ويُسلِّمَ البائعُ النخلَ مع الرُّطَب إلى المشتري؛ ليأكلَ من الرُّطَب ما شاء وكما شاء. والرابعة: أن يكون التمرُ بقَدْرِ ما خرصَ الخارصُ الرُّطَبَ بتقدير الجفاف؛ ليكونا متماثلَين. الخامسة: أن يكون التمرُ بقَدْر ما خرصَ قَدْرَ الرُّطبِ المخروصِ بتقدير الجفاف أقل من ثمان مئة مَنٍّ، وهل يجوز ثمان مئة مَنٍّ؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن الراوي شك أنه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص في خمسةِ أَوسُق أو فيما دون خمسة أَوسُق، وخمسة أَوسُق ثمان مئة مَنٍّ، فإذا تردَّد الراوي فالظاهرُ أنه يكون خمسةَ أَوسُق؛ لأنه حدٌّ معلومٌ، وحدودُ الشرع كلُّها

معلومةٌ، فكذا ها هنا. وأما دون خمسة أَوسُق مجهولٌ، وليس في الشرع مجهولٌ. والوجه الثاني: أنه لا يجوز خمسةُ أَوسُق؛ لأن العرايا رخصةٌ، والرخصةُ إذا شكَّ فيها نأخذ بالاحتياط، فالاحتياطُ فيما دون خمسة أَوسُق لا في خمسة أَوسُق، وهذا كمسح الخُفِّ إذا شك أنه انقضى مدتُه أو لا، يأخذ بالاحتياط وهو انقضاءُ المدة، ويُشترط أن يكون المشتري في العرايا ممن لا يَقِدر على شراء الرُّطَب بالذهب والفضة، أم لا؟ فيه خلاف؛ الأصح: أنه لا يُشترَط ذلك، بل يجوز للأغنياء معاملةُ العرايا كالفقراء. * * * 2071 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ في بيعِ العَرايا بخَرْصِها من الثَّمْرِ فيما دُونَ خَمْسَةِ أوسقٍ، أوْ في خَمْسةِ أوسقٍ، شكَّ داوُدُ". قوله: "شكَّ داود"، أراد بـ (داود) هذا: داود بن الحصين، وهو يروي الحديثَ عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة، شكَّ داود أنه سمع خمسة أَوسُق أو دون خمسة أَوسُق؟ * * * 2072 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -: "نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن بَيْعِ الثِّمارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُها، نَهَى البائِعَ والمُشْتَرِي" ويروى: "نَهَى عَن بَيْعِ النَّخْلِ حتَّى تَزْهُوَ، وعَنِ السُّنْبُلِ حتَّى يَبْيَضَّ ويأمَنَ العاهَةَ". قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدوَ صلاحُها، نهى البائعَ والمشتري"، (بدوُّ الصلاح): عبارة عن ظهور أهلية الأكل بظهور الحلاوة فيها،

ويعرف بأن يتغير لونُ الثمار، بأن يحمرَّ أو يصفرَّ، بيعُ الثمار بعد بدوِّ الصلاح جائزٌ بشرط القطع، والشرطُ الإبقاءُ إلى الجفاف، ويجوز مطلقًا أيضًا. ونعني بالمُطلَق: ألا يُذكَر شرطُ القطع ولا شرطُ الإبقاء، وإذا أُطلق يكون حكمُه حكمَ الإبقاء، يجب على البائع أن يتركَه إلى الجفاف بعد بدوِّ الصلاح، وأما قبل بدو الصلاح لا يجوز إلا بشرط قطع الثمار عند الشافعي وأحمد، ويجوز عند أبي حنيفة ومالك. قوله: "نهى البائعَ والمشتري"؛ يعني: البائعَ أن يبيعَ الثمارَ قبلَ بدوِّ الصلاح؛ لأن الثمارَ قبل بدوِّ الصلاح يغلب عليه الهلاكُ من البرد أو الحرارة أو الريح؛ لأنه لا يطيق شيئًا من هذه الأشياء لصغرها، وإذا غلب عليه الهلاكُ فبأيِّ شيءٍ يأخذ البائعُ الثمرَ مع احتمال تلف الثمار؟! فحينَئذٍ لا يبقى للمشتري شيءٌ في مقابلة الثمن، ونهى المشتري عن هذه الشراء؛ كيلا يتلفَ ثمنُه بتقدير تلف الثمار. قوله: "حتى تُزْهِيَ"؛ أي: حتى تحمرَّ. "وعن السنبل حتى يبيضَّ"؛ يعني: نهى عن بيع الزرع حتى يشتدَّ حَبُّه، فإذا اشتدَّ حَبُّه جاز بيعه إن كان شيئًا حَبَّاتُه ظاهرةٌ في سنبله كالشعير، وإن كانت حبَّاتُه مستورةً كالحِنطة فلا يجوز على الأصح. قوله: "ويَأمَنَ العاهةَ"، (العاهة): الآفة؛ يعني: إذا بدا بدوُّ الصلاح في الثمار أَمِنَ من الآفة، وكذلك الزرعُ إذا اشتدَّ حَبُّه أَمِنَ الآفةَ غالبًا. * * * 2073 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ الثِّمارِ حتَّى تُزْهِيَ. قيل: وما تُزْهِي؟ قال: حتَّى تحمَرَّ. قال: أَرَأَيْتَ إذا منعَ الله الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أحدُكُمْ مالَ أَخِيهِ؟ ".

قوله: "إذا منعَ الله الثمرةَ"؛ يعني: إذا أَرسلَ الله آفةً بتلك الثمرة ويُتلفُه، فلم يَجُزْ لأحدكم أن يأخذَ الثمرَ، ولم يحصل للمشتري بمقابلة الثمر نفعٌ. * * * 2074 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: "نَهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وأمَرَ بوَضْعِ الجَوَائِحِ". قوله: "نهى عن بيع السِّنين"، معنى هذا كمعنى النهي عن المعاومة، وقد تقدم قُبيلَ هذا. قوله: "وأمر بوضع الجوائح"، (الجوائح) جمع: جائحة، وهي الآفة؛ يعني: إذا باع أحدُ ثمارَ شجرِه وسلَّم الثمارَ مع الشجر إلى المشتري، وأصابها جائحةٌ، فتلفتْ أو تلفَ بعضُها لزمَ البائعَ ألا يأخذَ الثمنَ من المشتري إنْ تلفَ، وإنْ أُتلفَ بعضُها يترك بقَدْرها من الثمن، وإنْ أخذَ الثمنَ لزمَه أنْ يردَّ إليه الثمنَ، وهذا مذهب أحمد. وقال مالك: يترك ثلثَ الثمن، وأما مذهب الشافعي وأبي حنيفة: لا يلزمه أن يترك شيئًا من الثمن، بل هذا أمرُ استحبابٍ؛ لأن المَبيعَ إذا تلفَ في يد المشتري يكون من ضمان المشتري، هذا بحيث ما إذا تلفَ الثمنُ بعد تسليمه إلى المشتري، فإنْ تلفَ قبلَ تسليمه إلى المشتري فهو من ضمان البائع بالاتفاق، وكذا شرح الحديث الذي بعد هذا. * * * 2075 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمرًا فأصابَتْهُ جائِحَةٌ فلا يَحِلُّ لكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيئًا، بمَ تَأْخُذُ مالَ أَخِيكَ بغَيْرِ حَقّ؟ ".

وقوله: "فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئًا": فإن كان قبلَ تسليم الثمار إلى المشتري يكون من ضمان البائع، ولا يحلُّ له أن يأخذَ الثمنَ بلا خلاف، وإن كان بعدَ تسليم الثمار إلى المشتري فتأويله عند الشافعي وأبي حنيفة: أنه تهديد، أو معناه: فلا يحلُّ لك في الورع والتقوى أن تأخذَ الثمنَ إذا تلفت الثمارُ. * * * 2076 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنّه قال: "كانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعامَ في أعلَى السُّوقِ فَيَبيعُونَهُ في مكانِهِ، فَنهاهُمْ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبيعُوهُ في مكانِهِ حتَّى يَنْقُلُوهُ". قوله: "كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق، فيبيعونه في مكانه، فنهاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه"، (ابتاع): إذا اشترى؛ يعني: إذا اشترى أحدٌ شيئًا لا يجوز له أن يبيعَه من آخرَ حتى يقبضَ ذلك الشيءَ، سواءٌ فيه المنقولُ والعقارُ، فإن باعَه قبلَ أن يقبضَه بطلَ البيعُ الثاني عند الشافعي، وجوَّز أبو حنيفة بيعَ العقار قبل القبض، وجوَّز مالك بيعَ غير الطعام قبل القبض، وجوَّز أحمد بيعَ غير المَكيل والموزون قبل القبض. والقبض في العقار: التخلية؛ يعني: يخليها البائعُ من متاعه، ويقول للمشتري: سلَّمتُها إليك، والقبض في المنقولات: النقل من موضع البيع إلى موضع آخر. * * * 2077 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اَبْتَاعَ طَعامًا فلا يَبعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" ويُروى: "حَتَّى يَكْتَالَه". قوله: "حتى يَستوفيَه"؛ أي: حتى يقبضَه ويأخذَه من البائع.

قوله: "حتى يكتالَه"؛ أي: حتى يأخذَه بالكيل، اكتال: إذا أخذَ ما اشتراه بالكيل. * * * 2078 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "أمَّا الذِي نَهَى عَنْهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطَّعامُ أنْ يُباعَ حتَّى يُقْبَضَ. ولا أَحْسِبُ كُلَّ شَيءٍ إلاَّ مِثلَهُ". قوله: "ولا أَحسِبُ كلَّ شيءٍ إلا مِثْلَه"؛ يعني: ولا أظنُّ كلَّ شيءٍ إلا مِثْلَ الطعام في أنه لا يجوز للمشتري أن يبيعَه حتى يقبضَه من البائع الذي اشتراه منه. * * * 2079 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلَقَوْا الرُّكبانَ لِبَيْعٍ، ولا يَبعْ بعضُكُمْ على بَيْعِ بعضٍ، ولا تناجَشُوا ولا يَبعْ حاضرٌ لبادٍ، ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بعدَ ذلكَ فهوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْن بعدَ أَنْ يَحْلُبَها، إنْ رَضيَهَا أَمْسَكَها، وإنْ سَخِطَهَا رَدَّها وصاعًا مِنْ التَّمرِ". قوله: "ولا تَلقَّوا الرُّكبانَ لبيعٍ"، كان أصله: لا تتلقيوا، فقُلبت الياءُ ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، وحُذفت الألف لسكونها وسكون واو الجمع، وحُذفت التاء الأولى؛ لأن اجتماعَ التاءَين ثقيلٌ، ولو لم تُحذف جازَ، إلا أن الروايةَ في هذا اللفظ جازت بتاءٍ واحدةٍ، ثم حُركت واو الجمع بالضم؛ لسكونها وسكون ما بعدها من الراء؛ لأن لامَ التعريف أُدغمت في الراء فصارت الراءُ مشددةً، فكأنه اجتمع الراءُ الأولى ساكنةً والثانيةُ متحركةً، ومعنى التلقِّي: استقبال؛ يعني: إذا سمعتُم أن عِيرًا تجيء بمتاعٍ يريدون بيعَه، فلا تخرجوا من البلد إليهم؛ ليشتروا ذلك المتاعَ قبل أن يدخلوا البلدَ، لأنكم لو فعلتُم هذا الفعلَ

ليحرم كثيرٌ من أهل البلد من ذلك المتاع مع احتياجهم إلى ذلك المتاع، فإن خالَفَ أحدٌ المنهي، وخرجَ إليهم واشترى من ذلك المتاع؛ صحَّ البيعُ بلا خلافٍ، إلا أنه مكروهٌ عند الشافعي ومالك وأحمد، وأثبت الشافعي الخيار للبائع إذا دخل البلد، وعلم أنه كذب في سعر البلد وغبنه في الثمن. قوله: "ولا يَبعْ بعضُكم على بيعِ بعض"، وصورة هذا: أن زيدًا مَثَلاً باعَ متاعًا من عمرٍو، هما في مجلس العقد، أو بينهما خيارُ ثلاثةِ أيامٍ، فجاء بكر وقال: افسَخْ هذا البيعَ لأبيعَ منك متاعًا أجودَ من هذا بأقل من هذا الثمن، فيفسخ عمرٌو بيعَ زيدٍ، ويشتري متاعَ بكرٍ، فالفعلُ الذي فعلَه بكرٌ مُحرَّم؛ لأنه ألحقَ ضررًا بزيدٍ وآذاه، ولكن البيعَ الذي جرى بين بكرٍ وعمرٍو صحيحٌ مع الإثم. قوله: "ولا تَنَاجَشُوا"، (التناجُش): التفاعُل من النَّجْش، وهو تنفير الصيد من موضعه، والمراد منه ها هنا: الزيادةُ على الثمن المسمَّى؛ لإغراء المشتري على أن يزيدَ هو أيضًا في الثمن. وصورة هذا: أن عمرًا يريد أن يشتري متاعًا من زيدٍ، وذكرَ الثمنَ، ولكن لم يجرِ بينهما لفظُ العقد والإيجاب والقَبول بعدُ، فجاء بكرٌ وقال: أنا أشتري هذا المتاعَ بأكثرَ مما يشتريه عمرٌو، وليس مرادُ بكرِ من الزيادة أن يشتريَه، وإنما يريد أن يغترَّ عمرٌو بقوله ويزيدَ على ثمنه، فالفعل الذي فعلَه يكون مُحرَّمًا؛ لأنه ألحقَ ضررًا بعمرٍو؛ لأنه زادَ على الثمن، ولكن لو اغترَّ عمرٌو بقول بكرٍ، وزاد على الثمن واشترى ذلك المتاعَ صح الشِّراء بلا خلافٍ، فإنْ فعلَ بكرٌ هذا الفعلَ من غير إذن زيد لم يكن لعمرٍو خيارُ الفسخ بلا خلافٍ، وإنْ فعلَه بإذن زيدٍ فلعمرٍو خيارُ الفَسخ عند الشافعي إذا تبيَّن لعمرٍو أن زيدًا أمرَ بكرًا بالزيادة على الثمن ليُغرِّرَ عمرًا.

قوله: "ولا يَبعْ حاضرٌ لبادٍ"، (الحاضر): الساكن في البلد، و (البادي): الساكن في البادية. وصورة هذا: أن رجلاً أتى من البادية إلى بلدٍ ومعه متاعٌ يريد بيعَه في البلد، فجاءه دلاَّلٌ من أهل البلد وقال لمَن أتى من البادية: لا تَبعْ متاعَك بنفسك، فإنك لو بعتَه بنفسك يشتريه أهلُ البلد منك رخيصًا، واتركْه عندي حتى أبيعَه لك قليلًا قليلًا، بثمنٍ كثيرٍ، فالفعلُ الذي يفعله ذلك الدلاَّل محرَّم؛ لأنه يُفوِّت الربحَ والرزقَ على الناس، لكنَّ بيعَه صحيحٌ. قوله: "ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ"، صرَّى يُصرِّي تصريةً: إذا شَدَّ ضرعُ الناقة وغيرها حتى يجتمعَ فيه اللبن ولم يحلبها؛ ليظنَّ المشتري أن لَبنها كثيرٌ، وهذا الفعلُ محرَّم؛ لأنه تغريرٌ يُغَرُّ به المشتري، فإذا اشترى أحدُهم ناقةً أو شاةً أو بقرةً مُصَرَّاةً، فإذا حَلَبَها وعلمَ أن لبنها لم يكن كما ظنَّه، فله الخيارُ إلى ثلاثة أيام بين أن يمسكَها وبين أن يردَّها ويردَّ معها بدلَ ما حلبَ من لبنها صاعًا من تمر. وعند أبي حنيفة: لا يثبت له خيارٌ. قوله: "فهو بخير النَّظرَين"؛ يعني: ينظر في أن إمساكَه خيرٌ له أو ردَّه؟ يفعل ما هو خيرٌ له من هذَين الشيئَين. قوله: "وإن سخطَها"، (سخط): إذا غضب؛ يعني: فإن لم يَرْضَ بها ردَّها. * * * 2080 - ورُوِيَ: "مَنِ اشْتَرى شاةً مُصَرَّاةً فهوَ بالخِيارِ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإِنْ رَدَّهَا ردَّ مَعَها صاعًا مِنْ طَعامٍ لا سَمْرَاءَ". قوله: "ردَّ معها صاعًا من طعامٍ لا سَمْراء"، (السَّمْراء): الحِنطة، وأراد

بـ (الطعام) هنا: التمر؛ يعني: ردَّ معها صاعًا من تمرٍ، لا من الحِنطة ولا من غيرها من سائر الحبوب، وإنما خصَّ التمرَ بالرد بدل اللبن؛ لأن طعامَ العرب كان التمرَ واللبن غالبًا، فمن حيث إن طعامَهم هذان الشيئان غالبًا أقامَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مقامَ اللبن. * * * 2081 - وقال: "لا تَلَقَّوُا الجَلَبَ، فَمَنْ تلقَّاهُ فاَشْتَرَى مِنْهُ، فإذا أَتَى سيدُهُ السُّوقَ فهوَ بالخِيَارِ". قوله: "لا تَلَقَّوا الجَلَبَ"، أراد بـ (الجلب): العِير بالعين المهملة، وهو مثل: "لا تلقَّوا الركبانَ"، وقد مضى بحثه. قوله: "سيده"؛ أي: صاحبه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2082 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهبَطَ بها إلى السُّوقِ". "لا تَلقَّوا السِّلَعَ حتى يُهبَطَ بها إلى السوق"، (السلع) جمع: سلعة، وهي المتاع. أَهبطَ: إذا أَسقطَ شيئًا، (حتى يُهبَط): بضم الياء وفتح الباء؛ أي: حتى يسقط المتاعُ من ظهر الدواب في السوق؛ يعني: لا تلَّقوا الركبانَ، بل اتركوهم حتى يدخلوا السوقَ، ثم اشتروا متاعَهم بسعر البلد. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * *

2083 - وقال "لا يَبعْ أَحَدُكُمْ على بَيْعِ أخِيهِ، ولا يَخْطُبِ الرَّجُلُ على خِطْبَةِ أخِيهِ حتَّى يترُكَ الخاطِبُ قبلَهُ أو يأْذَنَ لهُ الخاطِبُ". قوله: "ولا يَخطُبِ الرجلَ على خِطبة أخيه"؛ يعني: إذا طلبَ رجلٌ امرأةً للتزُّوج، ورَضيَتِ المرأةُ ووليُّها به، لا يجوز لغيره أن يخطبَ تلك المرأةَ حتى يتركَها الخاطبُ الأولُ، أو يَأذَنَ للخاطب الثاني في تزُّوجِها، فإن خالَفَ الخاطبُ الثاني هذا النهيَ وتزوَّج تلك المرأةَ صحَّ النكاحُ وأَثِمَ. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 2084 - وقال: "لا يَسُمِ الرَّجُلُ على سَوْمِ أخِيهِ المُسلمِ". قوله: "ولا يَسُمِ الرجلُ على سَومِ أخيه المسلم", (السَّوم): تقويم المتاع، والسَّوم: البيع، سام: إذا بيَّن ثمنَ البيع، واستام: إذا طلب معرفةَ ثمن المَبيع وضايق في الثمن، والمراد بـ (السَّوم) في الفقه وفي الحديث: أن يريد أحدٌ بيعَ متاعه من أحدٍ وجرى بينهما تقريرُ الثمن، فجاء الآخر قبلَ البيع وزادَ على ذلك الثمن، ويشتري ذلك المَبيع، فهذا الفعلُ مُحرَّمٌ، ولكن البيعَ صحيحٌ. فقوله: (لا يسُمِ الرجلُ على سَومِ أخيه) معناه: لا يدخلُ الرجلُ على شراء أخيه، ولا يزيد عليه في الثمن ليشتريَه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2085 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبيعُ حاضرٌ لبادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ الله بعضَهُم منْ بعضٍ".

قوله: "دَعُوا الناسَ يرزقُ الله بعضَهم من بعضٍ"، (دَعُوا)؛ أي: اتركوا؛ يعني: لا يجوز لحاضر أن يمنعَ الباديَ من أن يبيعَ متاعَه كيف يشاء في السوق، فإنه لو منعَه عن البيع وقال: دَعْ متاعَك عندي لأبيعَه قليلًا قليلًا وأزيدُ في ثمنه فقد فوَّت ربحَ الناس ورزقَهم، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس)؛ أي: اتركوا الناسَ ليبيعوا متاعَهم رخيصًا؛ ليرزقَ الله بعضَ الناس بواسطة بعضٍ. * * * 2086 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لِبْسَتَيْنِ وعنْ بَيْعَتَيْن، نَهَى عَنِ المُلامَسَةِ والمُنابَذَةِ في البَيْعِ، والمُلامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآخَرِ بيَدِهِ باللَّيل أو بالنَّهارِ ولا يُقَلِّبُهُ إلاَّ بذلِكَ، والمُنابَذَةُ أنْ يَنْبذَ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ بثَوْبهِ وينبذَ الآخرُ ثَوْبَهُ، ويكُونَ ذلكَ بَيْعَهُما عنْ غَيْرِ نَظَرٍ ولا تَراضٍ، واللِّبْسَتَيْنِ: اشْتِمالُ الصَّمَّاءِ، والصَّمَّاءُ أنْ يجعلَ ثوْبَهُ على أحَدِ عاتِقَيْهِ فيَبْدُوَ أحَدُ شِقَّيْهِ ليسَ عليهِ ثوبٌ، واللِّبْسَةُ الأُخرَى احتِباؤُهُ بثَوْبهِ وهو جالِسٌ ليسَ على فرجِهِ منهُ شَيءٌ. قوله: "نهى عن لِبْسَتَين وعن بَيعتَين"؛ يعني: نهى عن أن يَلبَسَ الرجلُ على صورة الصمَّاء، ونهى عن أن يَلبَسَ على صورة الاحتباء، ويأتي ذكرهما، ونهى أن يبيعَ على صورة المُلامَسَة، وعن أن يبيعَ على صورة المُنَابَدَة، ويأتي ذكرهما. قوله: "ولا يَقلبُه إلا بذلك"؛ يعني: لا يلمسُ ذلك المتاعَ إلا للبيع؛ يعني: لم يُرِدِ المشتري ذلك المتاعَ، ولم يَجْرِ بينهما إيجابٌ وقَبولٌ, بل قال البائع: إذا لمستَ المتاعَ فقد وجبَ لك البيعُ بكذا دينار، فلمسَه المشتري على أن يكون اللمسُ بيعًا؛ هذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه تعليقُ البيعِ إلى اللمس، وتعليقُ البيعِ غيرُ جائزٍ، وأن الإيجابَ والقَبولَ يكون بالقول لا بفعل اللمس.

قوله: "والمُنَابَذَة: أن ينبذَ الرجلُ إلى الرجل بثوبه، وينبذَ الآخرُ ثوبَه"؛ يعني: باعَ أحدُهما ثوبَه من الآخر، وباع الآخرُ ثوبَه ثمنًا من ذلك الثوب؛ يعني: بادَلاَ ثوبًا بثوبٍ من غير أن يجريَ بينهما إيجابٌ وقَبولٌ في اللفظ، بل جعلا مجردَ النبذ بيعًا، وهذا باطلٌ؛ لأن الفعلَ لا يكون بيعًا، بل البيعُ هو الإيجابُ والقَبولُ باللفظ، وكذلك إذا قال رجل لآخر: إذا نبذتُ إليك هذا الثوبَ فقد وجبَ لك البيعُ بكذا دينار، لا يجوز؛ لِمَا ذكرنا. قوله: "عن غير نظر"؛ يعني: من غير أن يرِيَ كلُّ واحدٍ ثوبًا لآخرَ، فلا يجوز؛ لأنه إذا لم يَرَه يكون البيعُ غائبًا، وبيعُ الغائبِ لا يجوز. قوله: "ولا تراضٍ": فالتراضي غيرُ معتبرٍ بينهما، بل المعتبرُ الإيجابُ والقَبولُ، ورؤيةُ المَبيع قبل الإيجاب والقَبول - وإن لم يَجْرِ بينهما الإيجاب والقَبول، ولو لم يَرَ المَبيعَ - لا يجوز البيعُ وإن تراضَيَا. وجوَّز أبو حنيفة بيعَ ما لم يَرَه المشتري، وفيه قول للشافعي. "الاحتباء": أن يجلس الرجلُ على مقعده ورُكبتاه منصوبتانِ، والمراد ها هنا: أن يأخذ ثوبَه على ساقه بحيث أن يكون ثوبُه مجموعًا عند ساقه كإزارٍ ملفوفٍ، وعورتُه ظاهرةٌ، وليس على عورته شيءٌ من ثوبه، فهذانِ النوعان - غير الصمَّاءِ والاحتباءِ - حرامانِ؛ لأن عورتَه ظاهرةٌ، وكشفُ العورةِ حرامٌ، وفِعلُ هذَين النوعَين مِن لبسِ أهل الجاهلية، فنهاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. * * * 2087 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْ بَيْعِ الحَصاةِ وعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ.

قوله: "نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغَرَر"، (الحصاة): الحَجَر الصغير، وصورة بيع الحصاة: أن يقول البائع للمشتري: ارمِ حصاةً فكلُّ ثوبٍ وقعتْ حصاتُك عليه فقد وجبَ بيعُه لك بكذا، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه تعليقٌ، أو كان ثوبًا واحدًا وقال البائع: ارمِ حصاةً إلى هذا الثوب، فإذا وقع حصاتُك عليه فقد وجبَ بيعُه لك بكذا دينار، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه تعليقٌ، وتعليقُ البيعِ لا يجوز، ولأن المَبيعَ في المسألة الأولى مجهولٌ؛ لأنه لا يدري بأي تلك الثياب تقع الحصاةُ. وأما (الغَرَر) فمعناه: الخطر، وهو الذي لا يُدرَى صلاحُه وفسادُه، وصور بيع الغَرَر كثيرة، منها: بيع المجهول، وبيع ما لا يُقَدر على تسليمه، وبيع الغائب. * * * 2088 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: "نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلةِ، وكانَ بَيْعًا يتَبايَعُهُ أهلُ الجاهِليَّةِ، كانَ الرجُلُ يَبْتاعُ الجَزُورَ إلى أنْ تُنْتَجَ الناقةُ، ثمَّ تُنْتَجُ التي في بَطنِها". قوله: "نهى عن بيع حَبَل الحَبَلة"، (الحبَلة) بفتح الباء فيهما، معناه: نِتاجُ النِّتاج؛ أي: ولد الولد، ولهذا صورتان: إحداهما: أن البائعَ يقول للمشتري: إذا ولدت هذه الناقةُ ثم حملتْ؛ أي: حملتْ ولدُها، وولدت فقد بعتُ منك ولدَ ولدِها بكذا، فهذا البيعُ كان أهلُ الجاهلية يفعلونه، وهذا باطلٌ؛ لأنه يقع المعدوم. والصورة الثانية: أن يبتاع؛ أي: يشتري متاعًا ويقول: اشتريتُ منك هذا المتاعَ بمئة دينار مؤجَّلًا إلى أن تلدَ هذه الناقةُ ويحبلَ ولدُها وتلدَ، وهذا البيعُ

باطلٌ؛ لأنه مؤجَّلٌ إلى أجلٍ مجهولٍ. * * * 2089 - وقال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ عَسْبِ الفَحْلِ. قوله: "نهى عن عَسْبِ الفحل"، (العَسْب): كِرَاء الفحل لينزوَ على الأنثى، وهذا مَنهيٌّ عنه؛ لأن نزوانَ الفحلِ على الأنثى غيرُ مقدورٍ لصاحبه، ولأنه ربما يَنْزُو ولم يُنزلِ المَنيَ، وربما يُنزل المنيَ فلا يكون منه النِّتاجُ، وكلُّ ذلك علَّةُ بطلانِ كِرَاءِ الفحل. وجوَّز مالكٌ كِراءَ الفحل. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 2090 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ ضرابِ الجَمَلِ، وعَنْ بَيْعِ الماءِ والأرضِ لِتُحْرَثَ. قوله: "نهى عن بيع ضرابِ الجَمَلِ"، (الضَّرَاب): نزوان الفحل على الأنثى، ومعنى هذا كمعنى ما ذُكر قُبيلَ هذا. قوله: "وعن بيع الماء والأرض لتُحرَثَ": والنهي عن بيع الماء والأرض للحراثة إنما يكون إذا أعطى الرجلُ أرضَه أحدًا ليكونَ منه الأرضُ والماءُ، ومن الآخر البَذرُ والحراثةُ؛ ليأخذَ صاحبُ الأرض بعضَ ما يحصل من الحبوب، هذا هو المُزَارَعَةُ والمُخَابَرَةُ، وقد ذُكر قبل هذا أنه باطلٌ، إلا عند القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن، فإن دفعَ أرضَه للحراثة بقَدْرٍ معلومِ من الدراهم والدنانير إلى مدةِ معلومةٍ فيجوز، ويُسمى هذا العقدُ إجارةَ الأرض،

لا مُخابرةً ولا مُزارعةً. * * * 2091 - وقال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الماءِ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء"؛ يعني: كان له ماءٌ في ظرف، فذلك الماءُ مملوكٌ له بلا خلاف، فإن فضلَ عن حاجته وطلب إنسانٌ ما فضلَ عن حاجته ليشتريَه أو ليسقيَ دابةً - غيرَ الخنزيرِ والكلبِ العَقُورِ - لا يجوز له منعٌ، بل يلزمُه أن يعطيَه ما فضل من مائه عن حاجته بلا ثمنٍ إن لم يكن للطالب ثمنٌ، فإن كان له ثمنٌ يجوز له ألا يعطيَه إلا بثمن، ولكن الأولى ألا يبيع، بل يعطيه بلا ثمنٍ، فإن كان الماءُ يخرج من عينٍ من مَوَاتٍ لا يجوز لأحدٍ أن يمنعَ أحدًا من ذلك، ولا أن يبيعَ تلك العينَ من أحدٍ؛ لأن العينَ في المَوَاتِ لا تكون مُلكَ أحدٍ، ويأتي باقي بحث المال في (باب إحياء المَوَات). روى هذا الحديثَ جابر، وهو من باقي الحديث المتقدم. * * * 2092 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُباعُ فَضْلُ الماءِ ليُباعَ بهِ الكَلأ". قوله: "لا يُباعُ فضل الماء ليُباعَ به الكلأ"، قال الخطابي: تأويل هذا الحديث: أن رجلًا إذا حفرَ بئرًا في مَوَاتِ فمَلَكَ تلك البئرَ، فإذا جاء قومٌ لينزلوا في تلك المَوَاتِ ويرعوا نباتَها، وليس هناك ماءٌ إلا البئر التي حفرَها ذلك الرجلُ، فلا يجوز لذلك الرجل أن يمنعَ أولئك القوم مِن شربِ ماءِ تلك البئرِ، ولا يجوز له أن يأخذَ ذلك الماءَ؛ لأنه لو منعَهم عن ذلك الماء لا يمكن لأولئك القوم أن يَرْعَوا نباتَ تلك المَوَات، فكأنه منعَهم عن نبات المَوَات، ولا يجوز

لأحدٍ أن يمنعَ أحدًا من نبات المَوَات؛ لأنه مباحٌ. وبهذا الحديث حكم الشافعي ومالك، وقالا: لا يجوز لذلك الرجل منعُ أولئك القوم من ذلك الماء، ولا يجوز له أخذُ الثمن من ذلك الماء. * * * 2093 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فنالَتْ أصابعُهُ بلَلاً، فقالَ: "ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ "، قال: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رسُولَ الله، قال: "أفلا جعَلْتَهُ فوقَ الطَّعامِ حتَّى يراهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فليسَ مِنِّي". قوله: "مَن غَشَّ فليس منّا"، (الغش): ستر حالِ شيءٍ على أحدٍ؛ يعني: إظهارُ شيءٍ على خلاف ما يكون ذلك الشيء في الباطن، كهذا الرجل؛ فإنه جعلَ الحِنطةَ المبلولةَ في الباطن واليابسةَ على وجه الصُّبرة؛ ليرى المشتري ظاهرَ الصُّبرة ويظنَّ أن جميعَ الصُّبرةِ يابسٌ، فهذا الفعلُ هو الغشِّ والخيانة، وهو مُحرَّمٌ؛ لأنه إضرارٌ بالناس، فإذا علمَ المشتري أن باطنَ المبَيع معيبٌ فله الخيارُ في ردِّ المَبيع وإمساكِه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليس منا"؛ يعني: فليس من متابعينا والمقتدين بسيرتنا؛ لأن المكرَ والخديعةَ ليس من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمَن فعلَ المكرَ والخديعةَ فقد فعلَ معصيةً، ولا يخرج بذلك الفعل عن الإسلام، بل هو مسلمٌ ناقصٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 2094 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ الثُّنْيا إلاَّ أنْ يُعلَمَ. قوله: "نهى عن الثُّنيا إلا أن يُعلَم"؛ يعني: لا يجوز استثناءُ بعضِ المَبيع

إلا أن يكون معلومًا، فإن قال: بعتُ منك هذا الفَرَس إلا بعضَها، أو إلا يدَها أو رِجلَها لم يَجُزْ؛ لأن المستثنى مجهولٌ، فإن قال: إلا نصفَها أو ثلثَها صحَّ البيعُ؛ لأن المستثنى معلومٌ، والمستثنى منه وهو المَبيع أيضًا معلومٌ، وهو النصف الباقي أو الثلثان. * * * 2096 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الكالئِ بالكالئِ. قوله: "نهى عن بيع الكالِئ بالكالِئ"، (الكالئ): الدَّين، وصورته: أن يكون لزيدٍ على عمرٍو ثوبٌ من صوفٍ، ولبكرٍ على عمرٍو أيضًا عشرةُ دراهمَ، فقال زيدٌ لبكرٍ: بعتُ منك ثوبي الذي على عمرٍو بدراهمِك العشرةِ التي على عمرٍو، فقال بكر: قبلتُ هذا البيعَ، لم يَجُزْ؛ لهذا النهي، فإن باعَ الدَّينَ بالعين مثل أن يكون لزيدٍ على عمرٍو عشرةُ دراهمَ، فقال زيدٌ لبكرٍ: بِعْنِي ثوبَك هذا بدراهمي العشرة التي على عمرٍو، فقال بكرٌ: بعتُ، أو قال زيدٌ لبكرٍ: بعتُ ثوبي الموصوفَ من صفته كذا الذي لي على ذِمَّةِ عمرٍو منك بهذه الدراهم، فقال بكر: قبلتُ، فهل يصح هذا البيع أم لا؟ فالمذهبُ بطلانُه، وفي قول: يصح، فإن باعَ الدَّينَ ممن عليه مثل أن يكون لزيدٍ على عمرٍو ثوبٌ موصوفٌ، فباع زيدٌ ذلك الثوبَ من عمرٍو بدراهمَ حاضرةٍ، أو بدراهمَ في ذِمَّتِه أو شيءٍ آخرَ يجوز، بشرط أن يُحضرَ عمرٌو ثمنَ ذلك الثوب الذي في ذِمَّتِه في المجلس. * * * 2097 - عن عَمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ العُرْبانِ.

قوله: "نهى عن بيع العربان"، وفيه ست لغات: عُرْبان وأُرْبان وعُرْبون وأُرْبون - بضم العين والهمزة فيهن وإسكان الراء - وعَرَبون وأَرَبون - بفتح العين والهمز والراء فيهما - وصورته: أن يشتري أحدٌ سلعةً من أحدٍ ويعطيه قليلاً من ثمنه ويقول: أمشي وأتفكَّر، فإن اخترتُ هذا المتاعَ آتيك بباقي ثمنه، وإن ندمتُ أردُّه عليك ولك ما أَعطيتُ من الثمن مجانًا، فجوَّز هذا البيعَ أحمدُ، وأبطلَه الباقون. * * * 2098 - وعن عليٍّ قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ المُضْطَرِّينَ وعنْ بَيْعِ الغَرَرِ. قوله: "نهى عن بيع المُضطرِّين"، (بيع المُضطرِّين) نوعان: أحدهما: أن يُكرِهَه ظالمٌ على بيعِ شيءٍ، فيضطرُّ إلى بيعه من خوف ذلك الظالم، فهذا البيعُ باطلٌ. والثاني: ألا يُكرِهَه أحدٌ على بيعه، ولكن يُضطر إلى بيعِ شيءٍ من أجل دَينٍ كان عليه أو من أجل نفقةٍ أو مُؤْنَةِ سفرٍ، فيحتاج إلى بيعه رخيصًا من أجل الضرورة، فلو اشترى أحدٌ منه ذلك المتاعَ رخيصًا صحَّ البيعُ، ولكن الأَولى ألا يشتريَ منه إلا بثمنِ المِثْل. * * * 2099 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رجلًا سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ عَسْبِ الفَحْلِ، فنهاهُ، فقال: إنَّا نُطْرِقُ الفَحْلَ فنُكْرَمُ، فرَخَّصَ لَهُ في الكَرامَةِ. قوله: "فقال: إنا نُطرِق فنُكرَم"؛ أي: فقال الرجل: إنَّا نُنزي الفحلَ على

الأنثى فيعطينا صاحبُ الأنثى شيئًا من المال، من غير أن نشَترطَ أخذَ مالٍ، فرخَّص له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ المال إذا أعطاه صاحبُ الأنثى من غير أن يجريَ بينهما شرطٌ في أخذ العِوَض عن إنزاء الفحل. (الإطراق): إعارةُ الفحل للإنزاء. * * * 2100 - وعن حَكيمِ بن حِزامٍ قال: نهاني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ ما ليسَ عِندِي. قوله: "نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندي"؛ يعني: عن بيع ما ليس في مُلكي وفي قدرتي، ولا يجوز بيعُ العبد الآبق؛ لأنه لا قدرَة للبائع على تسليم المَبيع، ولا يجوز للرجل أن يبيعَ مالَ غيره بغير إذنه، فإن باعَه من غير إذنه بطلَ البيعُ في قولٍ جديدٍ للشافعي، وإن أجازَ مالكُ ذلك المتاعِ للبيع بعد ذلك. وقال أبو حنيفة والشافعي في قوله القديم: هذا البيعُ موقوفٌ على إجازة المالك، فإن أجازَ تبيَّن صحةُ البيع، وإن لم يَجُزْ تبيَّن بطلانُ البيع. * * * 2101 - وقال حَكيمٌ: يا رسُولَ الله، يأْتيني الرجُلُ فيُريدُ مني البَيْع ليسَ عِندي، فأبتاعُ لهُ مِنَ السُّوقِ؟، قال: "لا تَبعْ ما ليسَ عِندَكَ". قوله: "يأتيني الرجل، فيريد مني البيعَ ليس عندي، فأبتاع له من السوق"، هذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما: أن يشتريَ له مِن أحدٍ متاعًا فيكون دلاَّلًا.

والثاني: أن يبيعَ متاعًا من الطالب قبل أن يكون ذلك المتاعُ مُلكَه، ثم يشتري ذلك المتاعَ من السوق ويدفع إلى المشتري، فإن كان يشتري للطالب من السوق بالدلالة، مثل أن يقول لزيدٍ مثلًا: بغْ متاعَك الفلاني من عمرٍو، فقال: بعتُ بكذا دينار، أو قال عمرو: اشتريتُه؛ صحَّ البيعُ. وإن باعَ من نفسِه متاعًا معينًا من الطالب قبل أن يتملَّك ذلك المتاعَ، مثل أن يأخذ متاعًا من السوق قبل أن يشتريَه، ثم يبيع ذلك المتاع من طالبٍ، فلمَّا جرى بينه وبين الطالب الإيجابُ والقَبولُ يجيء إلى مالك ذلك المتاع ويشتريه منه، ثم يدفعه إلى المشتري، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه باعَ ما ليس في مُلكه وقتَ البيع، أما لو باعَ شيئًا موصوفًا بأن قال: بعتُ منك ثوبًا طولُه كذا وعَرضُه وصفتُه كذا بكذا دينارٍ، فقال المشتري: اشتريتُ منك ثوبًا موصوفًا بما ذكرتَه من الصفات، ثم بعدَ جريان العقد بينهما يجيء البائعُ ويشتري من السوق ثوبًا موصوفًا بتلك الصفات، ويدفع ذلك الثوبَ إلى المشتري، جازَ؛ لأنه لم يَبعْ عينًا ليست في مُلكه، بل باعَ شيئًا موصوفًا، وبيعُ الشيءِ الموصوفِ يصحُّ وإن لم يكن الشيءُ الموصوفُ موجودًا عند العقد. * * * 2102 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعتَين في بيعةٍ": فسَّروا (بَيعتَين في بيعة) على وجهين: أحدهما: أن يقول الرجل لصاحبه: بعتُ منك عبدي بعشرةٍ نقدًا، أو بعشرين نسيئةً إلى شهر، فقال المشتري: قبلتُه بعشرةٍ نقدًا، أو يقول: قبلتُه بعشرين نسيئةً إلى شهر، فالبيعُ باطلٌ؛ لأن الثمنَ مجهولٌ عند البائع حين يوجب

البيع؛ لأنه لا يعلم أن المشتري بأي الثمنَين يقبل البيعَ، وشرطُ الثمن أن يكون معلومًا عند البائع والمشتري قبل الإيجاب والقَبول. والوجه الثاني: أن يقول: بعتُ منك هذا العبدَ بكذا، على أن تبيعني ثوبَك هذا بكذا، فهذا البيعُ باطلٌ؛ لأنه بيعُ عبدٍ وشرطٌ؛ لأن البائعَ لم يرضَ بما ذكر من ثمن العبد إلا بشرط أن يشتريَ الثوبَ، فكأنه جعلَ ثمن العبد شيئَين: أحدهما ما ذُكر من الثمن، والثاني شراء الثوب، فربما لا يبيع صاحبُ الثوبِ الثوبَ، فحينَئذٍ يبطل بعضُ ثمن العبد، وإذا بطلَ البعضُ بطلَ الكلُّ، فلأنه ربما ينفسخ بيعُ الثوب بسببٍ، أو يجد فيه عيبًا، فيردُّه، وحينَئذٍ لا يُعرَف ثمنُ العبد؛ لأنه جعل ثمنَ العبد شيئَين، فإذا بطلَ أحدُهما يصير الباقي مجهولاً، ولأنه جاء النهي عن بيعٍ وشرطٍ في الحقيقة. * * * 2103 - وعن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ صَفْقَةً واحِدةً". قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعتَين في بَيعةٍ صفقةً واحدةً"، (الصفقة): البيع، سُمي العقدُ بيعًا وصفقةً؛ لأن عادةَ العرب عند البيع بوع كل واحد من العاقدَينِ يدَه إلى صاحبه، ويضعُ يدَه على يد صاحبه. و (الصفقة) أيضًا معناه: ضربُ اليد على اليد؛ يعني: يضعُ البائعُ يدَه على يدِ المشتري، والبوع: مد اليد، وكان أصل البيع: البوع، فقُلبت الواوُ ياءً؛ لأن الياءَ أخفُّ من الواو؛ يعني: النهي عن بَيعتين في بَيعةٍ إنما كان يكون إذا كان الإيجابُ والقَبولُ للبَيعتَين واحدةً، أما لو كان لكل واحدٍ من البَيعتَين إيجابٌ وقَبولٌ منفردٌ لا بأسَ، وإن كان مئةَ بَيعةٍ في مجلسٍ واحدٍ.

مثاله أن يقول زيدٌ لعمرٍو: بعتُ منك هذا العبدَ بألف دينار، فيقول عمرو: قبلتُ البيعَ، ثم يقول عمرٌو لزيدٍ: بعتُ منك هذا الثوبَ بعشرةِ دنانيرَ، فيقول زيدٌ: قبلتُ البيعَ، صحَّ البَيعتان. * * * 2104 - وقال: "لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ، ولا شَرْطانِ في بَيْعٍ، ولا رِبحُ ما لمْ يُضْمَنْ، ولا بَيْعُ ما ليسَ عِندَكَ". (صحيح). قوله: "نهى عن بيعٍ وسَلَفٍ"، قال الخطابي: صورةُ هذا: أن يقول أحدٌ لصاحبه: بعتُ منك هذا الشيءَ بكذا دينار على أن تقرضَني كذا دينارًا، ومعنى (السَّلَف) هنا: معنى القَرْض، هذا تأويله. والفقهاء يقولون صورةُ السَّلَف مع البيع: أن يقول الرجل لصاحبه: بعتُ منك هذا الثوبَ، وجَريبَ حِنطةٍ صفتُها كذا إلى شهرٍ بعشرة دراهم مثلاً، فقال المشتري: قبلتُ، فهذا بيعٌ وسَلَفٌ، فهل يصحُّ هذا العقد؟ فيه قولان؛ الأصحُّ أنه صحيحٌ. قوله: "ولا شرطانِ في بيعٍ": ولا فرق بين شرطَين أو أكثر من شرط واحدٍ في بيعٍ، بل كلُّها فاسدٌ. وقال أحمد: إن شرطَ في المَبيع شرطًا واحدًا صحَّ، وإن شرطَ شرطَين أو أكثرَ لم يصحَّ؛ لهذا الحديث. مثاله: لو اشترى ثوبًا وشرطَ المشتري على البائع قِصَارتَه لم يصحَّ عند جميع العلماء، إلا أحمد؛ فإنه صحيحٌ، وإن شرطَ مع القِصَارة خياطتَه، مثل أن يقول: اشتريتُ منك هذا الثوبَ بشرط أن تقصرَه؛ أي: تَغسلَه وتَخيطَه لي قميصًا لم يصحَّ بالاتفاق؛ لأنه شرطَ في هذا البيع شرطَين. قوله: "ولا ربحُ ما لم يُضمَن"؛ يعني: لا يجوز أن يبيعَ الرجلُ ما ليس في

ضمانه، مثل: أن يشتريَ أحدٌ متاعًا، فباعَه من آخرَ قبل أن يقبضَه، هذا البيعُ باطلٌ؛ لأن المَبيعَ في ضمان البائع ما لم يَقبضْه المشتري، وإذا لم يكن المَبيعُ في ضمان المشتري لم يكن مُلكُه تامًا، فلا يجوز له أن يبيعَه من آخرَ. روى هذا الحديثَ عمرو بن العاص. * * * 2105 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: كنتُ أَبيعُ الإِبلَ بالبَقِيعِ بالدَّنانيرِ، فآخذُ مكانَها الدَّراهِمَ، وأَبيعُ بالدَّراهِمِ وآخُذُ مكانَها الدَّنانيرَ، فأَتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ ذلكَ لهُ، فقال: "لا بأْسَ بأنْ تأخُذَها بسِعْرِ يومِها ما لَمْ تتَفَرَّقَا وبينَكُما شيءٌ". قوله: "كنت أبيعُ الإبلَ بالبقيع بالدنانير، فآخُذُ مكانَها الدراهمَ" (البقيع): اسم موضع في المدينة. اعلم أنه إذا كان ذلك حقٌّ على ذِمَّة أحدٍ من جهة أن تُقرضَه، أو أَتلفَ لك شيئًا جازَ أن تأخذَ عِوَضَ ذلك جنسًا غير جنس ذلك، فإن كان قد اشترى منه شيئًا سَلَمًا لم يَجُزْ أن يأخذَ عَوِضَ ذلك جنسًا آخرَ، وإن بعتَ منه متاعًا هل يجوز لك أن تأخذَ بدلَ الثمن جنسًا غيرَ جنسِ ذلك الثمن؟ مثل: أن يكون الثمنُ ذهبًا فتأخذ بدلَه الفضةَ، أو كان الثمنُ فصةً فتأخذ بدلَها الذهبَ. ففي الجديد للشافعي، ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد: أنه يجوز. قوله: "لا بأسَ أن تأخذَها بسعر يومها"؛ يعني: يجب أخذُ الدراهم بدلاً عن الدنانير بقيمة الوقت، ولا يجوز الزيادةُ. قوله: "ما لم تَفْتَرِقا وبينكما شيءٌ"؛ يعني: يُشترط أن يُقبَض العِوَضُ في المجلس، فإن قال: بادلتُك الدراهمَ التي لي عليك من ثمن متاعي الفلاني بكذا

دينارًا، وتفرَّقا قبلَ أن يقبضَ تلك الدنانيرَ في المجلس بطلَ الاستبدالُ. * * * 2106 - عن العَدَّاءِ بن خالدِ بن هَوْذَةَ، أخرجَ كِتابًا: هذا ما اشترَى العَدَّاءُ ابن خالدِ بن هَوْذَةَ منْ محمَّدٍ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، اشترَى منهُ عبدًا أوْ أمَةً، لا داءَ ولا غائِلةَ ولا خِبْثةَ، بَيْعَ المُسْلِمِ المُسْلِمَ. (غريب). قوله: "أخرجَ كتابًا: هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هَوْذَة من محمَّدٍ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، اشترى منه عبدًا - أو: أَمَةً -، لا داءَ ولا غائلةَ ولا خِبْثةَ، بيعَ المسلمِ المسلمَ"؛ يعني: أخرجَ هذا الرجلُ قَبَالَةً قد كُتِبَ فيها هذا الألفاظ. شك الراوي أنه اشترى عبدًا أو أَمَةً. قوله: "لا داء"؛ أي: بشرط ألا يكون فيه داءٌ؛ أي: مرضٌ وعيبٌ. "ولا غائلة"، (الغائلة) ها هنا فسَّروها: بالمسروق، بشرط ألا يكون هذا العبدُ مسروقًا، فإنه إذا كان مسروقًا يقول: أن تملك ثمن بالمشترى؛ لأنه ربما يموت في يده، ويأتي صاحبه ويأخذ قيمته من المشتري، فيلحقه ضررٌ ويرجع المشتري على البائع بالثمن، ولا يرجع إليه بما زاد من قيمة العبد على الثمن، مثل: أن يشتريَه بمئة دينار، وارتفع قيمتُه حتى بلغ مئتَي دينار، فيلزمه أن يدفعَ إلى مالك العبد مئتَي دينار، ولا يأخذ من البائع إلا مئةَ دينار، والباقي من ضمانه؛ لأنه هلكَ في يده. قوله: "ولا خِبْثة"، (الخِبْثة): بكسر الخاء وسكون الباء، وهو ولدُ الزِّنا، والعبدُ الذي فيه شُبهةٌ بأن كان أبوه مسلمًا فارتَّد، وحصل هذا الولد في حال رِدَّة أبيه، فدخل الغزاةُ في دار الحرب وأُخذ هذا الولدُ، فإنه لا يجوز استرقاقُ هذا الولد في حال رِدَّة أبيه، ولا يصح بيعُه في أصحِّ القولَين؛ لأن فيه شائبةً للإسلام.

(ولا خِبثَة): عطف على ما قبله؛ يعني: بشرط ألا يكون هذا العبدُ ممن لا يجوز بيعُه. قوله: "بيعَ المسلم المسلمَ"؛ يعني: بيعًا مشروطًا بجميع شرائطه، كبيع المسلم من المسلم؛ يعني: كما يجري بين المسلمين، وهذا الحديث يدل على جواز كتابة الصُّكوك، و (الصُّكوك) جمع: صَكًّ، وهي القَبَالَة، وقد أتى في القرآن الأمرُ بكتابة القَبَالَة، وهي أمر ندب، لا أمرُ وجوبٍ، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وفُسِّر هذا الدَّين بالسَّلَم. * * * 2107 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - باعَ حِلْسًا وقَدَحًا، فقال: مَنْ يشتري هذا الحِلْسَ والقَدَحَ؟، فقال رجلٌ: آخُذُهُما بدِرْهَمٍ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَمٍ؟ "، فأَعطاهُ رجُلٌ دِرْهَمَيْنِ فباعَهُما منهُ. قوله: "مَن يزيدُ على درهم؟ فأعطاه رجلٌ درهمَين، فباعهما منه": هذا دليلُ جوازِ الزيادة على الثمن، وليس هذا السَّومَ على السَّوم، وإنما السَّومُ على السَّوم: أن يرضى البائعُ بما قال المشتري من الثمن، ثم يزيد أحدٌ على الثمن الذي رضي به البائع، أمَّا لو عيَّن طالبٌ ثمنًا ولم يرضَ البائعُ به جازَ الزيادةُ على ذلك، ويُسمي هذا بيعَ مَن يزيد. وقصة هذا: أن رجلاً سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صدقةً، فقال: "هل لك شيء؟ " فقال: ليس لي إلا حِلْسٌ وقَدَحٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِعِ القدحَ والحِلسَ وكُلْ ثمنَهما، فإذا لم يكن لك شيءٌ فاطلُبْ حينَئذٍ الصدقةَ"، فباعهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

فصل

فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل) (من الصحاح): 2108 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ابْتاعَ نخلاً بعدَ أن تُؤبَّرَ فثمَرَتُها للبائِعِ إلاَّ أنْ يشتَرِطَ المُبْتاعُ، ومَنِ ابْتاعَ عَبدًا ولهُ مالٌ؛ فمالُهُ للبائِعِ إلاَّ أنْ يشتَرِطَ المُبْتاعُ". قوله: "مَن ابتاع نخلاً بعد أن تُؤبَّر فثمرتُها للبائع"، (التأبير): أن يُشقق طلعُ النخل، ويُوضَع فيه شيءٌ من طلع فحال النخل، فتَصلُح ثمرتُه بإذن الله تعالى، وإن لم يُوضَع فيه شيءٌ من ذلك تَفسُد الثمرةُ، فإذا باع أحدٌ نخيلاً بعد أن يكون طلعُها أو بعضُ طلعِها متشققًا، سواءٌ وُضعَ فيها شيءٌ من طلع فحال النخل أو لم يوضع، تكون ثمارُ النخيل للبائع، إلا أن يقول المشتري: أَشتري النخيلَ مع الثمار، وباعَها البائعُ مع الثمار، فحينَئذٍ تكون الثمارُ مع النخيل للمشتري، وإن لم يتشقق الطلعُ لا جميعُه ولا بعضُه يكون الطلعُ للمشتري؛ لأنه كأغصان الشجر، إلا أن يقول البائع: بعتُ النخيلَ بلا طلعٍ، فحينَئذٍ يكون الطلعُ للبائع، وما قلنا هو مذهب الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: يكون الطلعُ للمشتري، وإن كان متشققًا تبعًا للشجر، إلا أن يقول البائع: بعتُ النخيلَ بغير الثمار. قوله: "ومَن ابتاع عبدًا وله مالٌ فمالُه للبائع، إلا أن يشترطَ المُبتاع"؛ يعني: إذا كان في يدِ العبدِ مالٌ، فباع السيدُ العبدَ يكون مالُه للبائع لا للمشتري؛ لأن العبدَ لا يكون له مالٌ، بل مالُه لسيده.

قوله: "إلا أن يَشترطَ المُبتاعُ"؛ يعني: إلا أن يقول المشتري: أشتري هذا العبدَ مع ما في يده من المال، وباعَه السيدُ مع ماله، فحينَئذٍ يكون المال مع العبد للمشتري إن كان ذلك معلومًا مَرئيًا للبائع والمشتري، وإن باعَه السيدُ مع ماله، والمالُ مجهولُ، بطل البيعُ. * * * 2109 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه كانَ يَسيرُ على جَمَلٍ لهُ قَدْ أعْيا، فمرَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فضَرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يَسِيرُ مثلَهُ، ثُمَّ قال: "بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ". قال: فبعْتُهُ فاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلى أهْلي، فلمَّا قَدِمْتُ المدِينةَ أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَني ثمنَهُ. ويُروى: فأعطاني ثمنَهُ وردَّهُ عليَّ. ورُوي: أنَّهُ قالَ لِبلالٍ: "اقْضهِ وزِدْهُ"، فأَعْطاهُ وزادَهُ قِيرَاطًا. قوله: "قد أَعْيَا"؛ أي: قد عجزَ ذلك الجَمَل عن السير، فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأصابه بركةُ يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصار قويًا حسنَ السَّير. قوله: "فاستثنيتُ حُملانَه إلى أهلي"؛ يعني: قلت: أبيعُه بشرط أن أُحملَه رَحْلِي إلى أهلي، وهذا خاصة لجابر أم يجوز لكل أحدٍ بيعُ دابةٍ أو غيرها، ويشترط أن ينتفعَ بها مدةً معلومةً بعد البيع؟ فمذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه خاصة بجابر، ولا يجوز لغيره، بل فسدَ البيعُ بهذا الشرط. وقال أحمد: يجوز لكل أحدٍ. وقال مالك: إن كانت مدةُ الانتفاع قريبةً كمدة استثناء جابر يجوز، وإن كانت مدةً بعيدةً لا يجوز. قوله: "وزادَه قيراطًا"، (القِيراط) أصله: قرراط، فقُلبت الراء الأولى ياءً، وكذلك (الدينار) أصله: دننار، فقُلبت النونُ الأولى ياءً، وُيرَدُّ المقلوبُ فيهما إلى الأصل في الجمع، فيقال: قراريط ودنانير.

والقيراط: نصف دانق، والدانق: سُدس درهم وحَبَّتان وثلاثة أرباع حَبَّة ونصف عُشرِ شَعيرة. * * * 2110 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءتْ بَريرَةُ فقالتْ: إنِّي كاتَبْتُ على تِسْعِ أَواقٍ في كُلِّ عامٍ وُقِيَّةٌ فأعِينيني، فقالت عائشةُ: إنْ أحبَّ أهلُكِ أنْ أعُدَّها لهم عَدَّةً واحِدةً وأعْتِقَكِ فَعلتُ ويكونُ وَلاؤُكِ لي. فذهبَتْ إلى أهلِها، فأبَوْا إلاَّ أَنْ يكونَ الوَلاءُ لهُمْ. فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذيها وأَعْتِقيها". ثُمَّ قامَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فحمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال: "أمَّا بعدُ، فما بالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُروطًا ليسَتْ في كِتابِ الله، ما كانَ مِنْ شَرْطٍ ليسَ في كِتابِ الله فهوَ باطِلٌ وإنْ كانَ مائةَ شَرْط، فقضاءُ الله أَحَقُّ، وشَرْطُ الله أَوْثَقُ، وإنَّما الوَلاءُ لمنْ أَعْتَقَ". قولها: "كاتبتُ"؛ أي: اشتريتُ نفسي على تسعِ أواقٍ، (الأواقي) - بتشديد الياء وتخفيفها - جمع: أُوقيَّة بضم الهمز، ووُقيَّة، وكلاهما بتشديد الياء، وهي أربعون درهمًا. قولها: "فأَعِينيني": وهي أمر مخاطبة من: الإعانة، وهي النُّصرة؛ يعني: أعطيني شيئًا. قولها: "أن أعدَّها"؛ يعني: أعطي تلك الأواقي مرةً واحدةً في ثمنك وأشتريك من مواليك، وإنما قالت: (أن أعدَّها)، ولم تقل: أن أديها؛ لأن عادةَ أهل المدينة في ذلك الوقت المعاملةُ بعدد الدراهم، وكانوا يقولون: بعتُ منك هذا الشيءَ بكذا من الدراهم، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعاملوا بالوزن. قولها: "فأَبَوا إلا أن يكون الولاءُ لهم"؛ يعني: أبى ساداتُها أن يبيعوها إلا

بشرط أن يعتقها ويكون ولاؤها لهم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذِيها وأَعتقِيها"؛ يعني: اشترِيها وأَعتقِيها، وفي رواية: "خُذِيها واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاءُ لمَن أَعتق". قال المصنف - رحمة الله عليه - في "شرح السُّنَّة": هذه الرواية - أعني قوله: "واشترطي لهم الولاء" - تفرَّد بها هشام، ولم يَرْوِه باقي الرواة، فلم يكن صحيحًا؛ لأنه لا يجوز أن يُظَنَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرَ عائشةَ بأن تشترطَ شرطًا لا يجوز؛ لأنه إذا اشترطت عائشة لهم الولاء، ولم يحصل لهم الولاء، بل يكون الولاء لمَن أَعتق، فيكون تغريرًا وخداعًا، وهذا لا يليق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا عرفتَ هذا فاعلم أنه اختُلف في جواز البيع بشرط الإعتاق؛ فالأصح من قولَي الشافعي: أن البيعَ والشرطَ صحيحانِ، وفي قول آخر، وبه قال أبو حنيفة: إن البيعَ باطلٌ، فإذا صححنا البيعَ؛ فإن أَعتقَ المشتري العبدَ فهو المراد، وإن لم يُعتق في قولٍ: يُجبَر عليه، وفي قول: كان البائعُ بالخيار بين الفسخ وبين الرضا بترك الإعتاق، فإن باعَ بشرط الإعتاق على أن يكون الولاءُ للبائع، فالمذهب: أن البيعَ باطلٌ، وفي قول آخر: أن البيعَ صحيحٌ، والشرطَ باطلٌ، ويكون الولاءُ لمَن أَعتق. واعلم أن بريرةَ كانت مُكاتَبةً، وقد اشترتها عائشةُ، فهل يجوز بيعُ المُكاتَب أم لا؟ فيه خلاف؛ فقال مالك وأحمد: يصح بيع المُكاتَب، ولكن لا تبطل الكتابة؛ بل لو أدَّى المُكاتَب المالَ إلى المشتري عتقَ بالكتابة، ويكون الولاء للبائع لا للمشتري. وقال الشافعي: لا يجوز بيع المُكاتَب إلا أن يشترطَ البائعُ على المشتري إعتاقَ المُكاتَب كما في قصة بريرة، فإن عائشةَ اشترتْها وأعتقتْها، وقيل: رضيت بريرة بأن تشترطَ عائشةُ فسخَ الكتابة منها؛ لعجزها عن أداء المال، فعلى هذا لم يكن مُكاتَبةٌ عند شراء عائشة إياها.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز بيعُ المُكاتَب أصلاً. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ"، ليس المراد منه: ما ليس في القرآن فهو باطلٌ؛ لأن كثيرًا من الأحكام ليس في القرآن، بل ثبت بالحديث، بل معناه: ليس في حكم الله وأمره، وكل ما أمرَ به النبيُّ أو نَهَى عنه فهو حكم الله وأمره. * * * 2111 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الوَلاءِ وعنْ هِبتِهِ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهِبَتِه"؛ يعني: لا يجوز بيعُ الولاء ولا هبتُه؛ لأنه حقٌّ كالنَّسَب، وكما لا يجوز نقلُ النَّسَب مثل أن يقول ابن زيدٍ: أنا ابن عمرٍو، وتركَ نسبتَه إلى أبيه، وينسب نفسَه إلى غيره، فكذلك الولاءُ لا يجوز نقلُه إلى غير المُعتِق؛ لأنه من حقوق العتق، فمَن أعتقَ عبدًا فله ولاؤُه. * * * مِنَ الحِسَان: 2112 - عن مَخْلَدِ بن خُفافٍ قال: ابْتَعْتُ غُلامًا فاسْتَغْلَلْتُهُ، ثُمَّ ظَهَرْتُ منهُ على عَيْبٍ، فقَضَى عليَّ عُمرُ بن عبدِ العزيزِ بردِّ غَلَّتِهِ، فراحَ إليهِ عُرْوَةُ فأخبَرَهُ أنَّ عائِشةَ رضي الله عنها أخْبَرَتْني: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضَى في مِثْلِ هذا أنَّ الخَراجَ بالضَّمانِ، فقَضَى لي أنْ آخُذَ الخَراجَ. 2113 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخَراجُ بالضَّمانِ".

قوله: "ابتعت"؛ أي: اشتريت "غلامًا، فاستغللتُه"؛ أي: أخذتُ غلَّتَه؛ أي: وجدتُ منه فوائدَ بأن استخدمتُه وآجرتُه وأخذتُ أجرتَه مدةً، "ثم ظهرتُ"؛ أي: اطلعتُ ورأيتُ به عيبًا، فرددتُه إلى بائعه بذلك العيب، فقضى عليَّ عمرُ بن عبد العزيز بأن أردَّ معه أجرتَه للمدة التي كان في يدي. "فراح": فمشى "إليه عروة بن الزبير، فأخبره: أن عائشةَ أخبرته: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الخَراجُ بالضَّمَان"، أراد بـ (الخراج): ما حصل المشتري من نفع المَبيع، وأراد بقوله: (الخراج بالضمان): أنه لا يجب على المشتري ردُّ ما حصل له من فوائد المَبيع؛ لأنه كان قبلَ الردِّ في ضمان المشتري، ونفقةُ المَبيع عليه، فإذا كان نفقةُ المَبيع ومُؤنته عليه تكون فوائدُه له. قوله: "فقضى لي أن آخذَ الخراجَ"؛ يعني: فلما سمع عمرُ بن عبدِ العزيزِ هذا الحديثَ من عروة، فقضى لي أن آخذَ غلةَ العبد التي رددتُها مع العبد. وهذا يدل على أن القاضي إذا أخطأ في حكم، ثم بان له الخطأ يلزمُه أن ينقضَ حكمَه، كما نقض عمرُ بن عبد العزيز. * * * 2114 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اخْتلَفَ البَيعانِ فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ، والمُبْتاعُ بالخِيارِ". وفي روايةٍ: "البيعانِ إذا اخْتَلفا والمبيعُ قائِمٌ وليسَ بينَهُما بَينَةٌ، فالقَوْلُ ما قالَ البائعُ، أو يتَرادَّانِ البَيْعَ". قوله: "إذا اختلف البيعانِ فالقولُ قولُ البائع، والمُبتاعُ بالخيار"، (البيعان): البائع والمشتري؛ يعني: إذا اختلف البائع والمشتري في قَدْر الثمن، أو

في شرط الخيار، أو الأجل، أو غيرهما من الشروط؛ فمذهب الشافعي: أن البائعَ يحلف: أنْ ما بعتُه بكذا؛ بل بعتُه بكذا، ثم المشتري مخيَّر بين أن يرضَى بما حَلَف عليه البائع، وبين أن يَحلِف: إني ما اشتريتُ إلا بكذا، وهذا معنى قوله: (والمبتاع بالخيار). فإذا تحالَفَا؛ فإن رضي أحدُهما بقول الآخر فهو المراد، وإن لم يرضَيَا على شيءٍ واحدٍ فسخَ القاضي بينهما العقدَ، سواءٌ كان المَبيعُ باقيًا أو لم يكن. وعند مالك وأبي حنيفة: لا يتحالفان عند هلاك المَبيع، بل القولُ قولُ المشتري مع يمينه، ولا تحالُفَ عند أبي حنيفة إذا اختلفا في شرط كالخيار والأجل والرَّهن، بل القولُ قولُ مَن ينفي الشرطَ مع يمينه. قوله: "وفي رواية أخرى: والمَبيعُ قائمٌ"؛ يعني: إن كان المَبيعُ باقيًا عند النزاع فالقولُ قولُ البائع يحلف، فإذا حلف فالمشتري مخيَّرٌ بين أن يرضى بما حلَف عليه البائع، وبين أن يحلف على ما يقول، فإذا حلفَ يُفسَخ بينهما العقدُ ويُرَدُّ المَبيعُ، وإن لم يكن المَبيعُ باقيًا عند النزاع فالقولُ قولُ المشتري مع يمينه، ولم يَحلِفِ البائعُ. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك. * * * 2115 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أقالَ أخاهُ المسلِمَ صَفْقَةً كَرِهَها، أقالَهُ الله عَثْرَتَهُ يومَ القِيامَةِ". قوله: "مَن أقالَ أخاه المسلمَ صفقةً كرهَها أقالَ الله عثرتَه يومَ القيامة"، (أقال)؛ أي: أبطلَ "صفقةً"؛ أي: عقدًا، "كرهها"؛ أي: ندمَ فيها "أقالَ الله"؛ أي: عفا الله "عثرته"؛ أي: خطيئته؛ يعني: إذا ندمَ المشتري بعد لزوم العقد،

6 - باب السلم والرهن

وأراد أن يردَّ المَبيعَ لا يجوز له أن يردَّه إلا برضا البائع، فإن لم يفسخ البائعُ البيعَ فلا شيءَ عليه، وإن فسخَ عفا الله عنه ذنبَه يومَ القيامة، كما حصَّل مرادَ المشتري، فكذلك لو ندمَ البائعُ وأراد أن يأخذَ المَبيعَ بعد لزوم العقد لم يكن له ذلك إلا برضا المشتري، فإنْ فسخَ المشتري البيعَ وردَّ عليه المَبيعَ عفا الله ذنبَه. روى هذا الحديثَ شُرَيح الشامي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ (باب السَّلَم والرَّهْن) مِنَ الصِّحَاحِ: 2116 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وهُمْ يُسْلِفونَ في الثِّمارِ السَّنةَ والسَّنتَيْنِ والثلاثَ، فقالَ: "مَنْ أسْلَفَ في شيءٍ فليُسْلِفْ في كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ معلُومٍ إلى أَجَلٍ معلُومٍ". قوله: "وهم يُسلِفون في الثمار"، (الإسلاف): إعطاءُ الثمنِ في مَبيعٍ إلى مدةٍ؛ يعني: يعطون الثمنَ في الحال، ويشترون الثمارَ إلى سَنةٍ أو أكثرَ. فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَسلَفَ في شيءٍ فَلْيُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ"، (التسليف) بمعنى: الإسلاف، أمرَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبينوا قَدْرَ ما يشترون بالسَّلَم بالكيل والوزن، وأن يبينوا أَجَلَه، ويجب تسليمُ الثمن في مجلس العقد، ويجب أن يُوصفَ ما اشتراه بالسَّلَم بجميع الصفات. * * *

2117 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى طَعَامًا مِنْ يَهوديٍّ إلى أَجَلٍ ورَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَديدٍ. 2118 - وقالت: تُوفِّي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ودِرعُهُ مَرهونةٌ عِنْدَ يهوديٍّ بثلاثينَ صاعًا من شعيرٍ. قول عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهودي إلى أجلٍ، ورَهَنَه درعًا من حديد"؛ يعني: كان الثمنُ مؤجَّلاً، ورَهَنَ بالثمن دِرْعَه. ففي هذا بيانُ جوازِ الرَّهن، وأركانُ الرَّهنِ ثلاثةٌ: الإيجابُ، والقَبولُ، والقبضُ. فالإيجابُ: أن يقول الراهن: رهنتُ منك هذا الشيء بما لك عليَّ؛ وبيَّن الدَّينَ، والقَبولُ: أن يقول المُرتهِن: قبلتُ هذا الرهنَ، والقبض: أن يُسلِمَ الراهنُ المرهونَ إلى المُرتهِن، والرهنُ قبل القبض جائزٌ؛ يعني: يجوز للراهن ألا يُسلمَ الرهنَ إلى المُرتهِن، وبعدَ القبض لازمٌ؛ يعني: لا يجوز للراهن أن يأخذ الرهنَ من المُرتهِن إلا بعد أداء جميع الدَّين، إلا برضا المُرتهِن. * * * 2119 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ بنفَقتِهِ إذا كانَ مَرْهُونًا، ولبن الدَّرِّ يُشْرَبُ بنفَقتِهِ إذا كانَ مَرْهُونًا، وعَلَى الذي يَرْكَبُ ويَشربُ النفقَةُ". قوله: "والظَّهرُ يُركَب بنفقته إذا كان مرهونًا"، (الظهر) مركوب؛ يعني: إذا رهنَ أحدٌ دابةً جازَ للمُرتهِن أن يركبَها، ويحملَ عليها حملَه، بسبب أن نفقتَها؛ أي: علفَها عليه؛ يعني: إذا كان علفُها على المُرتهِن يكون منافعُها للمُرتهِن لا للراهن. قوله: "ولَبن الدَّرِّ يُشرَب بنفقته إذا كان مرهونًا"، وتقديره: ولَبن ذاتِ

الدَّرِّ، الدَّرُّ: اللَّبن؛ يعني: يَشربُ لَبن ذاتِ الدَّرِّ مَن يُنفق عليها؛ أي: يعلفُها "إذا كان مرهونًا"، وهو الراهنُ. قوله: "وعلى الذي يَركب ويَشرب النفقةُ"؛ يعني: نفقتُها على المُرتهِن، كما أن رَكوبَها ولبنها له. وقال أحمد: للمُرتهِن أن ينتفعَ بالرهن باللبن والرَّكوب فقط. وقال الشافعي وأبو حنيفة: جميع منفعة الرَّهن للمُرتهِن. * * * مِنَ الحِسَان: 2120 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صاحبهِ الذي رهنَهُ، لهُ غُنْمُهُ، وعليهِ غُرْمُه". قوله: "لا يغلق الرهنُ الرهنَ من صاحبه الذي رَهَنَه"، (أَغلَقَ يُغلِقُ): إذا شدَّ وأَحكمَ شيئًا بشيءٍ، و (الرَّهن) الأول: المصدر، و (الرَّهن) الثاني بمعنى: المرهون؛ يعني: لا يُمنعُ الرَّهنُ المرهونُ من مالكه بحيث تزول عنه منفعتُه، وتسقط عنه نفقتُه، بل يكون المرهونُ كالباقي في مُلك الراهن. "له غُنْمُه"؛ أي: منفعتُه وفوائدُه. "وعليه غُرْمُه"؛ أي: نفقتُه وضمانُه؛ يعني: إن هلكَ الرَّهنُ في يد المُرتهِن فقد هلكَ من ضمان الراهن، لا من ضمان المُرتهِن، ولا شيءَ على المُرتهِن، ولا يسقط من دَينه شيءٌ. وقال أبو حنيفة: إن كان قيمةُ الرهن أقلَّ من الدَّين يسقط بقَدْر قيمته من الدَّين، وإن كان مساويًا للدَّين يسقط جميعُ دَينه، وإن كان قيمتُه أكثرَ من الدَّين يسقط دَينُه، ولا يلزمه ضمانُ ما زاد على الدَّين. * * *

2121 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المِكْيالُ مكْيالُ أهلِ المدينَةِ، والميزانُ ميزانُ أهلِ مَكَّةَ". قوله: "المِكيالُ مِكيالُ أهلِ المدينةِ، والمِيزانُ مِيزانُ أهلِ مكةَ"، يريد بهذا: أن ما يُكالُ مما يتعلق به حق الله، كزكاة النبات والثمار وزكاة الفطر؛ يجب أن تكون مقدارًا بمكيال المدينة، وما يُوزَن مما يتعلق به حق الله تعالى كقَدْر الدِّية، فإنها ألفُ دينارٍ ذهبًا، أو اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ فضةً، وكزكاة الذهب والفضة؛ يجب أن تكون مقدارًا بوزن مكة. يعني: لا تجب الزكاةُ في النبات والثمر والعنب، حتى تبلغَ الحبوبُ المصفاة، والتمرُ والزبيبُ ثلاثَ مئة صاعٍ بصاع المدينة، ويجب في زكاة الفطر عن كل رأسٍ صاعٌ بصاعِ المدينة، وصاعُ المدينة خمسةُ أرطالٍ وثُلثُ رَطلٍ، وكلُّ رَطلٍ مئةٌ وثلاثون درهمًا، ولا تجب الزكاة في الذهب حتى يبلغَ عشرين دينارًا، ولا في الفضة حتى يبلغَ مئتَي درهمِ بوزن مكةَ، وكلُّ عشرةِ دراهمَ سبعةُ دنانير، وكلُّ دينارٍ أربعةٌ وعشرون طَسُّوجًا، وكلُّ طَسُّوجٍ ثلاثُ حَبَّاتٍ، وكلُّ حَبَّةٍ شَعيرتانِ. هذا هو المراد من هذا الحديث. وليس المراد منه: أن لا يجوز المعاملةُ إلا بمكيال المدينة ووزن مكة، بل يجوز المعاملةُ في كل بلد بمكيال ذلك البلد ووزنه. * * * 2122 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأَصحابِ الكيلِ والميزانِ: "إنكم قد وُلِّيتم أمرَين هَلَكَ فيهما الأممُ السَّالِفةُ قبلَكمْ". قوله لأصحاب الكيل والميزان: "إنكم قد وُلِّيتُم أمرَين هلك فيهما الأممُ

7 - باب الاحتكار

السابقةُ قبلَكم"، (ولَّيتم أمرَين)؛ يعني: جُعلتم حُكَّامًا في أمرَين، وهو الكيل والميزان، وفي العدل فيهما الأجرُ، وفي الظلم فيهما الهلاكُ، كما هلك قومُ شعيب لمَّا أَخسروا فيهما، وكانوا إذا أخذوا حقوقَهم أتمُّوا الكيلَ والوزنَ، وإذا ما أَعطَوا ما عليهم أَنقصوا الكيلَ والميزانَ. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 7 - باب الاحتِكارِ (باب الاحتكار) مِنَ الصِّحَاحِ: 2123 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ احتكَرَ فهوَ خاطِئٌ". قوله: "مَن احتكَرَ فهو خاطِئ"، (الاحتكار): ادِّخار المتاع لبيعه في وقته الغلاء. ومذهب مالك: الاحتكارُ غيرُ جائزٍ في جميع الأمتعة من الطعام وغيره. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد: الاحتكارُ مخصوصٌ بالطعام، ويجوز في غيره، فشرطُ الاحتكارِ ثلاثةٌ: أن يكون طعامًا. وأن يشتريَه في وقتٍ يحتاج إليه الناس لقُوتهم. وأن يحفظه ليبيعَه بزيادةٍ من سعره. فإن فُقِدَ شرطٌ من هذه الشروط لا يكون الاحتكارُ حرامًا.

روى هذا الحديثَ مَعْمَر بن عبد الله بن نَضْلة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2124 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: كانتْ أموالُ بني النَّضيرِ ممَّا أفاءَ الله عَلَى رسُولِهِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، يُنفِقُ عَلَى أهلِهِ منها نَفقةَ سنةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بقيَ في السِّلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سَبيلِ الله. قوله: "كانت أموالُ بني النَّضير مما أفاء الله على رسوله للرسولِ خاصةً، يُنفق على أهله منها نفقةَ سَنةٍ، ثم يجعل ما بقي في السِّلاح والكُراع عُدَّةً في سبيل الله"، (بنو النضير): اسم طائفة من اليهود ديارهم كانت قريبةً من المدينة، فأمرَ الله تعالى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم من ديارهم، وخُصَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بديارهم، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، يُنفق منها على عياله، ثم ما فضل صرفَه في سبيل الله بأن يشتريَ من السلاح والكُراع - وهو الفَرَس - للغُزَاة. (أفاء)؛ أي: أعادَ، هذا هو لغةً، أفاء هنا: أَعطَى. قوله: (العُدَّة) بضم العين: ما يُهيَّأ من السلاح وغيره للغزو، وما يُهيَّأ للسفر وغيره، وتناسُب إيراد هذا الحديث في هذا الباب إنما حبسُ الغلَّة سَنَةً؛ يعني: فإذا حبسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطعامَ لأهله نفقةَ سنةٍ لهم فقد عُلِمَ أن حبسَ الطعام للنفقة ليس من الاحتكار، بل جائزٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 2125 - عن عمرَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجالِبُ مَرْزُوقٌ، والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ".

قوله: "الجالب مرزوقٌ، والمُحتكِرُ ملعونٌ"؛ يعني: التاجرُ الذي يبيع ويشتري الأمتعةَ والدوابَّ مرزوقٌ؛ أي: يحصل له الربحُ من عير إثمٍ، و (المُحتكِر): وهو الذي يشتري الطعامَ في وقت الغلاء؛ ليحفظَه مدةً، ليبيعَه بقيمةٍ كثيرةٍ فهو ملعونٌ؛ أي: آثمٌ وبعيدٌ من الخير ما دام في ذلك الفعل، ولا تحصل له البركةُ. * * * 2126 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: غَلا السِّعْرُ على عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالُوا: يا رسُولَ الله! سَعِّرْ لنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله هُوَ المُسعِّرُ القابضُ الباسِطُ الرَّازِقُ، وإنِّي لأرجُو أنْ ألقَى ربي وليسَ أحدٌ مِنْكُمْ يطلُبني بمَظْلَمَةٍ بدَمٍ ولا مالٍ". قوله: "سعِّرْ لنا"، (التسعير): وضعُ سعرٍ على متاعٍ، والسعر: القيمة؛ يعني: مُرْ لنا ببيع الطعام أو غيره بثمنٍ رخيصٍ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله هو المُسعِّر"؛ أي: الموسِّع للرزق من الطعام وغيره بين الخلق، فإن الله إذا أكثرَ البركةَ والرزقَ بين الخلق تصير قيمةُ الأشياء رخيصةً، ولا يَقدِر أحدٌ غيره أن يوسِّعَ الرزقَ. قوله: "القابض"؛ يعني: هو الذي يقبض الرزقَ؛ أي: يُقلِّل الرزقَ، ويجعل مَن يَشاء فقيرًا. "وهو الذي يبسط الرزقَ"؛ أي: يوسِّعه على مَن يشاء. قوله: "وإني لأرجو أن ألقَى ربي وليس أحدٌ منكم يَطلُبني بمَظلمةٍ"؛ يعني: إن أمرت ببيع السلع رخيصةً في حالة أن يشتريَها أصحابُها في وقت الغلاء تكون قد ألحقتَ بأصحابها ضررًا وخسرانًا، فيكون ذلك مظلمةً لهم عليَّ فلا

8 - باب الإفلاس والإنظار

أُسعِّر؛ كيلا يكونَ لأحدٍ عليَّ مظلمةٌ. * * * 8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ (باب الإفلاس والإنظار) مِنَ الصِّحَاحِ: 2127 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجُلٍ ماتَ أو أفْلَسَ، فأدْرَكَ رجُلٌ مالَهُ بعَيْنهِ فهوَ أَحَقُّ بهِ مِنْ غَيْرِهِ". قوله: "أيُّما رجلٍ أفلسَ، فأدركَ رجلٌ مالَه بعينه فهو أحقُّ من غيره"؛ يعني: إذا باعَ رجلٌ متاعًا من أحدٍ، فأفلسَ المشتري وحَجَرَ عليه القاضي، ولم يصل ثمنُ ذلك المتاع إلى البائع يجوز للبائع أن يفسخَ البيعَ، ويأخذَ مَبيعَه، وليس لأحدٍ من غُرماء المُفلِس أن يمنعَ البائعَ من الفسخ، وذلك إذا بقي المَبيعُ في مُلك المُفلِس، ولم يَزُلْ عن مُلكه ببيعٍ أو هبةٍ، ولم يَرْهَنْه، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له الفَسخُ، بل هو كسائر الغُرماء. * * * 2128 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: أُصِيبَ رجُلٌ في عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثِمارٍ ابْتاعَها، فكثُرَ دَيْنُهُ. فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقُوا عليهِ". فتصدَّقَ النَّاسُ عليهَ فلمْ يبلُغْ ذلكَ وفاءَ دَيْنِهِ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لغُرمائِهِ: "خُذُوا ما وَجَدْتُمْ وليسَ لكُمْ إلاَّ ذلكَ".

قوله: "أُصيب رجلٌ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمارٍ ابتاعَها، فكَثُرَ دَينُه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدَّقوا عليه, فتصدَّق الناسُ عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دَينِه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغُرمائه: خُذُوا ما وجدتُم، وليس لكم إلا ذلك"، (أُصيب)؛ أي: أُلحق إليه خسرانٌ بأن أصابت جائحةٌ ثمرةَ اشتراها لغرمائه، ولم يقضِ ثمنَ ذلك الثمرة، فطالَبَه بائعُ الثمرة بثمنها، ولم يكن له مالٌ يؤدِّيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "تصدَّقوا على هذا الرجل"، فتصدقوا عليه، فلم يجتمع مِن تصدُّقِهم ما يقضي به دَينَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: "خذوا ما وجدتُم، وليس لكم إلا ذلك". معنى هذا الكلام: أنه ليس لكم زجرُه وحبسُه؛ لأنه ظهرَ إفلاسُه، وإذا ثبت إفلاسُ الرجلِ لا يجوز حبسُه بالدَّين، بل يُخلَّى ويُمهَل إلى أن يحصلَ له مالٌ، فيأخذ الغُرماءُ بعد ما حصل له مالٌ ديونَهم. وليس معنى قوله: "وليس لكم إلا ذلك": أنه ليس لكم إلا ما وجدتُم، وبطل ما بقي لكم من ديونكم، بل بقي ما بقي من ديونكم تأخذونها بعد الإنظارِ وحصولِ المال للمُفلِس. * * * 2130 - وقال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنْجيَهُ الله تعالى مِنْ كُرَبِ يومِ القيامَةِ فَليُنفِّسْ عنْ مُعْسِرٍ أو يضَعْ عنهُ". قوله: "فَلْيُنفِّس عن مُعسر"، (التنفيس): إذهاب الغَمِّ؛ يعني: فَلْيُمهِلْ مُعسِرًا إلى مدةٍ يجد مالًا. قوله: "أو يضع عنه": أو يُبرئه عن دَينه. روى هذا الحديثَ والحديثَين بعدَه أبو قتادة. * * *

2131 - وقال: "مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ عنهُ أنجاهُ الله مِنْ كُرَبِ يومِ القِيامَةِ". 2132 - وقال: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وضعَ عنهُ أظلَّهُ الله في ظِلِّه". قوله: "أظلَّه الله في ظلِّه"؛ يعني: نظرَ الله إليه يومَ القيامة بنظر الرحمة، ووقاه من حَرِّ يوم القيامة بأن وقَّفه في ظل العرش. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2133 - عن أبي رافعٍ - رضي الله عنه - قال: اسْتَسْلَفَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا، فجاءَتْهُ إبلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ. قال أبو رافِع: فأمَرني أنْ أقضيَ الرجُلَ بَكْرَهُ، فقلتُ: لا أَجِدُ إلا جَمَلًا خِيارًا رَبَاعيًّا، قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْطِهِ إيَّاهُ، فإنَّ خيرَ النَّاسِ أحسَنُهُمْ قضاءً". قوله: "استسلف"؛ أي: استَقرضَ. "بَكْرًا"؛ أي جملًا شابًا. "الرَّبَاعي": ما له سبعُ سنين. * * * 2134 - ورُوي: أنَّ رجُلًا تقاضَى علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاغْلظَ لهُ، فهَمَّ بهِ أصحابُهُ، فقال: "دعُوهُ فإنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالًا". قوله: "أن رجلاً تَقَاضَى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأغلَظَ له، فهمَّ أصحابُه به، فقال: دعوه؛ فإن لصاحبِ الحقِّ مقالًا"، (تقاضى)؛ أي: طلبَ قضاء الدَّين. (فأغلظ له)؛ يعني: فقال له في وجهه كلامًا شديدًا مؤذيًا.

(فهمَّ أصحابُه)؛ أي: قصدَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضربوا ويؤذوا ذلك الرجلَ، من أجل أنه غلَّظ الكلامَ على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه)؛ أي: اتركوه؛ (فإن لصاحبِ الحقِّ مقالًا)؛ يعني: يجوز له أن يُغلظ الكلامَ. هذا بيانُ جواز إيذاء مَن عليه حقٌّ، ولم يُؤذِه مع القدرة، ويأتي باقي بحثه في حسان هذا الباب. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2135 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ، فإذا أُتْبعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فلْيَتْبَعْ". قوله: "مَطْلُ الغني ظلمٌ، فإذا أُتبع أحدُكم على مليء فَلْيَتَبَعْ"، (المَطْل): تأخير أداء الحق من يومٍ إلى يومٍ. "أُتبع" بضم الهمز وكسر الباء: إذا أُحيل. "المَلِيء": الغَنِيُّ. "فَلْيَتبَعْ" بفتح الياء والتاء وتشديدها وكسر الباء: إذا مشى خلفَ أحدٍ واقتدى به، والمراد ها هنا: قَبول الحوالة؛ يعني: إذا كان لك حقٌّ على أحدٍ، فتطلبه وهو غنيُّ، ويؤخِّر أداءَ حقِّك من يومٍ إلى يومٍ؛ فهو ظالمٌ بهذا التأخير، فإذا أحالك إلى غنيٍّ فاقبَلْ تلك الحوالةَ؛ ليصلَ إليك حقُّك من المُحَالِ عليه، وتَبْرَأَ ذِمَّةُ المُحِيل ويخرجَ عن إثم المَطْل. * * *

2136 - عن كَعْبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: "أنَّهُ تقاضَى ابن أبي حَدْرَد دَيْنًا لهُ عليهِ، فارتفعَتْ أصواتُهُما، فخرجَ إلَيْهِما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونادَى كَعْبَ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، فأشارَ بيَدهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قال: قدْ فعلتُ. فقال: "قُمْ فاقْضهِ". قوله: "أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَد"، (أنه)؛ أي: أن كعبًا تَقَاضَى؛ أي: طلبَ حقَّه من ابن [أبي] حَدْرَد، فارتفعت أصواتُهما في الخصومة، فأشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كعب: أن ضَعِ الشطرَ، (الشطر): النصف؛ يعني: أبرِئه من نصف دَينك، واطلبِ النصفَ الباقي؛ فإنه مُعسِر، فقال كعب: فعلت. "فقال": رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن [أبي] حَدْرَد: "قُمْ فاقضه"؛ يعني: فإذا تركَ نصفَ حقِّه فأدِّ نصفَ حقِّه الباقي بلا مهلةٍ، وهذا لم يكن حكمًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعبٍ بترك نصف حقِّه، بل أمرَه على سبيل البرِّ والمُساهَلَة. * * * 2137 - عن سَلَمةَ بن الأكْوَعِ: أنَّه قال: كُنَّا عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أُتيَ بجَنازةٍ فقالُوا: صَلِّ عليها، فقال: "هلْ عليهِ دَيْنٌ؟ " قالوا: لا. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بجَنازةٍ أُخرَى، فقال: "هلْ عليه دَيْن؟ " قِيل: نعمْ. قال: "فهلْ تركَ شيئًا؟ " قالوا: ثلاثةَ دَنانيرَ. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بالثالثة، فقالَ: "هلْ عليهِ دَيْن؟ " قالوا: ثلاثةُ دَنانيرَ. قال: "هلْ تركَ شيئًا؟ " قالوا: لا، قال: "صلُّوا على صاحِبكُمْ". قال أبو قَتادة: صلِّ عليهِ يا رسول الله وعليَّ دَينُهُ، فصلَّى عليهِ. قوله: "إذ أُتي بجنازة ... " إلى آخره. العلَّة في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُصلِّ على المديون: تغليظٌ للدَّين، وإظهارُ كونه شَينًا؛ لأن الناسَ إذا رَأَوا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ على مديونٍ لم يكن له تركُه علموا أن الدَّينَ قبيحٌ، فاحترزوا منه.

ويحتمل أن يكون سببُ امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المديون: أنه لو صلَّى عليه لصار مغفورًا بدعائه، وحينَئذٍ يدخل الجنةَ، ولم يكن لصاحب الدَّين التعلُّق به؛ لأنه مغفورٌ، وحينَئذٍ يضيع حقُّ صاحب الدَّين. قول أبي قتادة: "صلِّ عليه يا رسولَ الله وعليَّ دَينُه": يدل على أن الضمانَ عن الميت جائزٌ، سواءٌ تركَ الميتُ تَرِكَةً أم لا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الضمانُ عن الميت الذي لم يترك مالًا يَفِي بدَينِه. * * * 2138 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذَها يُريدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ الله - عز وجل -". قوله: "مَن أخذَ أموالَ الناس يريد أداءَها أدَّى الله عنه"؛ يعني: مَن استقرضَ قرضًا عن احتياج، وهو يقصد أن يؤدِّيَه، ويجتهد ويُبالغ في طلب شيءٍ يؤدِّي به ذلك القرضَ أعانه الله على أدائه، وإن لم يتيسر له ما يؤدِّي ذلك الدَّينَ حتى يموتَ، المَرجوُّ من الله الكريم أن يُرضيَ خصمَه بفضله. ومَن استقرض لا عن ضرورةٍ، ولكن ليس له قصدُ أدائه؛ لم يُعِنْه في أدائه، ولم يُوسَّع رزقُه، بل يَتلَفُ مالُه؛ لأنه قصدَ إتلافِ مالِ مسلمٍ من غيرِ قصدِ ردِّ عِوَضٍ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2139 - عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رجلٌ: يا رسُولَ الله! أَرَأَيْتَ إنْ

قُتِلْتُ في سبيلِ الله صابرًا مُحْتَسِبًا مُقْبلاً غيرَ مُدْبرٍ يُكفِّرُ الله عنِّي خَطايايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ" فلمَّا أدْبَرَ ناداهُ، فقال: "نعمْ إلاَّ الدَّيْنَ، كذلكَ قال جِبريلُ". قوله: "محتسبًا"؛ أي: لطمع ثواب الله لا للرِّياء. قوله: "إلا الدَّين": هذا يدل على أن الشهيدَ يُغفَر له الذنوبُ الصغائرُ والكبائرُ، إلا الدَّينَ، والمراد بالدَّين: حقوقُ الآدميين من دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ أعني: تطويل اللسان في عرضهم بالغِيبة والبهتان والقذف، وغير ذلك من حقوق الآدميين، فإنه لا يُعفَى بالتوبة، بل الطريقُ الاستحلالُ منهم، أو دفعُ حسناتِ الظالم إلى المظلوم بقَدْر حقِّه، أو عناية الله في حق الظالم بأن يتوبَ ويتضرَّعَ إلى الله، ويبالغَ في الأعمال الصالحة، حتى يرضَى الله عنه وُيرضيَ خصمَه من خزانة كرمه. * * * 2140 - وقال: "يُغْفَرُ للشَّهيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلاَّ الدَّيْنَ". قوله: "يُغفَر للشهيد كلُّ ذنبٍ إلا الدَّينَ"؛ يعني: يَغفر الله ذنوبَ الشهيد صغيرةً كانت أو كبيرةً سوى حقوق الآدميين، وقد تقدَّم بحث هذا. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. * * * 2141 - وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤْتَي بالرَّجُلِ المُتَوفَّى عليهِ الدَّيْنُ، فيَسأَلُ: "هلْ تركَ لدَيِنهِ قَضاءً؟ " فإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تركَ وفاءً صلَّى عليهِ، وإلاَّ قال للمُسِلمينَ: "صلُّوا على صاحبكُمْ" فلمَّا فتحَ الله عليه الفُتوحَ

قامَ فقال: "أنا أوْلَى بالمُؤمِنينَ مِنْ أنفُسِهِمْ، فمنْ تُوفِّيَ مِنَ المُؤمِنينَ فتركَ دَيْنًا فعليَّ قضاؤهُ، ومَنْ تركَ مالاً فَهوَ لِوَرَثَتِهِ". قوله: "ومَن ترك دَينًا فعليَّ قضاؤُه": إن أراد - صلى الله عليه وسلم - بأني أقضي ذلك الدَّينَ من خالص مالي فهو تبرُّعٌ وإحسانٌ إلى مَن مات وعليه دَينٌ، إن أراد قضاءَه من بيت المال فهو أيضًا مستحبٌّ، وليس بواجبٍ، ولا يجوز أداءُ دَين الميت من سهم الغُرَماء من الزكاة. * * * مِنَ الحِسَان: 2143 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقةٌ بدَيْنِهِ حتَّى يُقْضَى عنهُ". قوله: "نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بدَينه"؛ يعني: لا يدخل الجنةَ، ولا تدخل روحُه بين أرواح الصالحين، أو لا تجد روحُه لذةً ما دام عليه دَينٌ؛ حتى يُقضَى عنه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2144 - وقال: "صاحِبُ الدَّيْنِ مأْسُورٌ بدَيْنِهِ يَشْكُو إلى ربهِ الوَحْدَةَ يومَ القِيامَةِ". قوله: "صاحبُ الدَّين مأسورٌ بدَينه يشكو إلى ربه الوحدةَ يومَ القيامة"، (المأسور): المحبوس. "يشكو إلى ربه الوحدةَ"؛ يعني: يكون تَعبُه وعذابُه من الوحدة؛ يعني:

حُبسَ يومَ القيامة فردًا وحيدًا، لا يُؤذَن له في دخول الجنة ولا في مصاحبة الصالحين، بل يعذَّب حتى يخرج من عُهدة الدَّين؛ بأن يُدفَع من حسناته بقَدْر الدَّين إلى مُستحِقِّ الدَّين، أو يُوضَع من ذنوب مُستحِقَّ الدَّين عليه بقَدْر الدَّين، أو يُرضي الله خصمَه من فضله إن شاء. روى هذا الحديثَ البراءُ بن عازب. * * * 2145 - ورُوي أنَّ مُعاذًا كانَ يدَّانُ، فأتَى غُرَماؤُه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فباعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مالَهُ كُلَّهُ في دَيْنِهِ حتَّى قامَ مُعاذٌ - رضي الله عنه - بغيرِ شيءٍ، مرسل. قوله: "أن معاذًا كان يدَّانُ"؛ أي: يستقرضُ ويشتري في الذِّمَّة. (أدَّانَ يدَّانُ): إذا استقرضَ وعامَلَ في الذمَّة، وأصله: اِدْيَيَنَ، فقُلبت الياءُ ألفًا، وقُلبت الياءُ دالاً وأُدغمت الدالُ الأولى فيها. قوله: "فأتى غُرماؤُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: أَتَوه وطلبوا منه قضاءَ ديونهم، فباع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مالَ معاذٍ، وقَضَى منه ديونَهم، ولم يبقَ لمعاذٍ شيءٌ من ماله، بل صرفَ جميعَ ماله في الديون. يجوز للقاضي أن يَحجرَ على المُفلِس إذا طلب غُرماؤه منه الحَجَرَ، ويبيع مالَ المُفلسِ ويَقسِم بين غُرمائه على قَدْرِ ديونهم. * * * 2146 - عن عمرِو بن الشَّريدِ - رضي الله عنه -، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ". قوله: "ليُّ الواجدِ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبتَه"، (اللَّيُّ): المَطْل، (الواجد):

الغَنِيُّ؛ يعني: إذا كان على غنيٍّ دَينٌ، ولم يُؤدِّ ذلك الدَّينَ ويدفعْ مع القدرة (يُحِلُّ عِرضَه)؛ أي: يجوز لصاحب الحق أن يُؤذيَه بالكلام، مثل أن يقول: أنتَ ظالمٌ، أنتَ سيئ القضاء، وما أشبه ذلك ما لم يكن قَذْفًا وفُحْشًا، (وعقوبته)؛ أي: يُحلُّ عقوبتَه بأن يحبسَه القاضي حتى يؤدِّيَ الدَّينَ، فإن لم يؤدِّ مع القدرة واستطابَ السجنَ جاز للقاضي أن يضربَه حتى يؤدِّيَ الدِّينَ. * * * 2147 - وعن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجَنازةٍ ليُصلِّيَ علَيْها، فقال: "هَلْ عَلَى صاحِبكُمْ مِنْ دَيْنُ؟ " قالوا: نعم، قال: "هَلْ تركَ وفاءً؟ " قالوا: لا، قال: "صلُّوا على صاحِبكُمْ". قالَ عليُّ بن أبي طالِبٍ - رضي الله عنه -: عَلَيَّ دَيْنُهُ. فتقدَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى عليهِ. وقال: "فكَّ الله رِهانَكَ مِنَ النَّارِ كما فكَكْتَ رِهانَ أخيكَ المُسلمِ، ليسَ مِنْ عَبدٍ مُسلمٍ يَقضي عنْ أخيهِ دَيْنَهُ إلاَّ فكَّ الله رِهانَهُ يومَ القِيامَةِ". قوله: "فكَّ الله رِهانَك"، (الرِّهان) جمع: رَهْن، وهو شدُّ شيءٍ بشيءٍ, وانغلاق عينِ مالٍ بدَينٍ، واشتغال ذِمَّة أحدٍ بحقٍّ؛ يعني: فكَّ الله اشتغالَ ذِمَّتك، وأَبْرَأَ الله ذِمَّتَك عن حقوق الآدميين وعن الآثام والأوزار. * * * 2149 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أعظمَ الذُّنوبِ عندَ الله أنْ يلقاهُ بها عبدٌ بعدَ الكبائِرِ التي نَهَى الله عنها أنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وعليهِ دَيْنٌ لا يدَعُ له قضاءً". قوله: "أن يلقاه بها عبدٌ بعدَ الكبائر ... " إلى آخره.

فاعل (يلقى): (عبد)، ومفعوله: الهاء في (يلقاه)، وهو يرجع إلى الله تعالى، والضمير في (بها) يعود إلى الدَّين. فإن قيل: [لِمَ] جعل الكبائرَ أشدَّ من الدَّين مع أن الدَّينَ حقُّ الآدمي، وما بين العبد وبين الله كالذنوب أقربُ إلى النجاة من حق الآدمي؟ قلنا: لأن فعلَ الكبائر عصيانُ الله، وأخذَ الدَّينِ ليس بعصيانٍ، بل الاقتراضُ والتزامُ الديون بالمعاملات جائزٌ، فإذا كان التزامُ الدَّين جائزًا فلا جرمَ يكون أمرُه أسهلَ من أمر الكبائر التي هي مَنهيَّةٌ عنها، ومع أن التزامَ الدَّين جائزٌ شدَّد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الإثمَ على مَن ماتَ وعليه دَينٌ، ولم يترك من المال ما يقضي دَينَه؛ كيلا تضيعَ حقوقُ الناس بأن يقرضَ بعضُهم بعضًا، ولم يؤدِّ ديونَهم. قوله: "لا يَدَعُ له قضاء"؛ أي: لا يترك لذلك الدَّين مالًا يُقضَى به ذلك الدَّينُ. * * * 2150 - عن عمرِو بن عَوْفٍ المُزَنيِّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصُّلْحُ جائِزٌ بينَ المُسلمينَ إلّا صُلْحًا حرَّمَ حلالًا أَوْ أحلَّ حرامًا، والمُسلِمونَ على شُروطِهِمْ إلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حلالًا أو أحلَّ حرامًا". قوله: "الصُّلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا". * * *

9 - باب الشركة والوكالة

9 - باب الشَّركةِ والوَكالةِ (باب الشَّرِكة والوكالة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2151 - عن زُهرةَ بن مَعبدٍ: أنَّهُ كانَ يخرُجُ بهِ جَدُّهُ عبدُ الله بن هشامٍ إلى السُّوقِ فيشتري الطَّعامَ، فيلقاهُ ابن عُمَرَ وابن الزُّبَيْرِ فيقولان له: أَشْرِكنا، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد دَعا لكَ بالبرَكَةِ، فيشركهما، فربَّما أصابَ الراحلةَ كما هيَ فيَبعَثُ بها إلى المنزِلِ. وكانَ عبدُ الله بن هشامٍ - رضي الله عنه - ذهبتْ بهِ أمُّهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فمسحَ رأسَهُ ودَعا لهُ بالبركةِ. قوله: "كان يخرج به جدُّه عبد الله بن هشام إلى السوق، فيشتري الطعامَ"؛ يعني: يخرج زُهرةُ بن مَعبد مع جدَّه عبدِ الله بن هشام، فيشتري عبدُ الله بن هشامٍ الطعامَ، فربما يلقى ابن عمر وابن زُبير عبدَ الله ابن هشام، ويقولان له: "أَشرِكْنا" فيما اشتريتَ؛ "فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لك بالبركة"، فيُشركهما، وهذا يدل على جواز الشَّرِكة. قوله: "فربما أصاب الراحلةَ كما هي"؛ يعني: ربما يجد دابةً مع متاعٍ على ظهرها يشتريها عبدُ الله بن هشام من صاحبها، ويُرسلها إلى بيته؛ يعني: تتيسَّر له المعاملةُ، ويجد الربحَ في المعاملة ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2152 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالتِ الأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقسِمْ بَيننا وبينَ إِخْواننا النَّخيلَ، قال: "لا، تَكفونَنا المَؤونةَ ونَشْرَكُكُمْ في الثَّمَرَةِ"، قالوا: سَمِعنا وأطَعْنا

قوله: "اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ... " إلى آخره؛ يعني: لمَّا هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، وتركوا أموالهم وأوطانهم بمكة، فقالت الأنصار: يا رسول الله! قد جاءنا إخواننا المهاجرون وليس لهم مال، ولنا النخيل، فجَعَلْنا نخيلنا بيننا وبينهم، فاقسمه بيننا، فقال رسول الله: "لا"، أي: لا نقسم النخيل بينكم. "تكفوننا المؤونة"؛ أي: ادفعوا عنَّا - أي: عن المهاجرين - مؤونة العمارة، فإن المهاجرين لا يطيقون ولا يعرفون عمارة النخيل، بل احفظوا نخيلكم وأصلحوها، واعملوا عليها ما نحتاج إليه من العمارة، فما يحصل من الثمار نقسمه بينكم، "فقالوا: سمعنا وأطعنا". وفي هذا الحديث: بيانُ استحباب معاونة الإخوان ودفعِ المشقَّة عنهم، فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أشركهم في الثمار دون النخيل. وفيه: بيانُ صحة الشركة؛ لأنهم قالوا: أشركنا، فلو لم تكن الشركة صحيحةً لَمَا قالوا: (أشركنا). * * * 2153 - عن عُروةَ بن أبي الجَعْد: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاهُ دِينارًا ليَشتريَ لهُ شاةً، فاشترَى له شاتَيْنِ، فباعَ إحداهُما بدينارٍ وأتاهُ بشاةٍ ودينارٍ، فدَعا لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيْعِهِ بالبَركَةِ، فكانَ لو اشترَى تُرابًا لرَبحَ فيهِ. قوله: "أعطاه دينارًا ليشتري له شاة، فاشترى له شاتين، فباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فدعا له". هذا الرجل يسمَّى عروة بن أبي الجعد البارقي. وفي هذا الحديث إشكالٌ من وجهين:

أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلَّه بشَرْي شاة، فاشترى شاتين. وجواب هذا: أن مثل هذا التصرف جائز؛ لأن فيه ربحًا؛ لأنه وكَّله بشري شاة تساوي دينارًا، فاشترى شاتين تساوي كلُّ شاةٍ دينارًا. والإشكال الثاني: أنه باع إحدى شاتين من غير أن يكون وكيلًا في البيع، فاختلف في تأويل هذا: فقيل: هذا بيعٌ بلا إذن، وكان موقوفًا - أي: غيرَ محكوم بصحته وفساده - حتى أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تبيَّن صحته. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قوله القديم: أن من باع مال أحد بغير إذن صاحبه فهو موقوفٌ، فإن رضي مالكه به حُكم بصحته، وإن لم يرض حُكم بفساده. وقال الشافعي على قوله الجديد، وهو الأصح: إنه لا يجوز بيع مال أحدٍ بغير إذنه، وإن رضي المالك بعد ذلك به. بل تأويل هذا الحديث: أن عروة كان وكيلًا مطلقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع المعاملات من البيع والشَّرْي، فلمَّا كان وكيلًا في جميع ما يبيع ويشتري لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصح بيعه إحدى الشاتين. * * * مِنَ الحِسَان: 2154 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - رفَعَه قال: "إنّ الله - عز وجل - يقولُ: أنا ثالثُ الشَّريكَيْنِ ما لمْ يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَهُ خرجْتُ منْ بينِهِما". قوله: "قال: إن الله - عز وجل - يقول: أنا ثالث الشريكين"؛ يعني: إن الله تعالى يقول: أنا مع الشريكين أرزقهما وأحفظُ أموالهما وأعطيهما الربح، ما لم يكن

لأحدهما خيانة. "فإذا خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما"؛ أي: تركت إعطائي إياهما الربح، وأرفع البركة من أموالهما. * * * 2155 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أدِّ الأَمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ". قوله: "أدَّ الأمانة إلى من ائتمنك"، (ائتمن): إذا جعل أحدًا أمينًا وحافظًا على ماله أو شيءٍ آخر؛ يعني: مَن أودع عندك وديعةً، سلِّم تلك الوديعة إليه من غير نقصٍ وتصرُّف، ولا تَخُنْ فيه وإن خانك صاحبه؛ يعني: لا تفعل بالناس بمثل ما يفعلون بك من السوء، بل أَحْسِنْ إلى مَن أساء إليك. * * * 2156 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أردتُ الخُروجَ إلى خَيْبَرَ فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمتُ عليهِ فقال: "إذا أتيتَ وكِيلي فخُذْ منهُ خمسةَ عشرَ وَسْقًا، فإن ابتغَى منكَ آيةً فضَعْ يدكَ على تَرْقُوَتِهِ". قوله: "إذا أتيتَ وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا"؛ يعني: إذا وصلت إلى عاملي في خيبر، فخذ منه خمسة عشر وسقًا من التمر. "فإن ابتغى"؛ أي: وإن طلب "منك آية"؛ أي: علامةً ودليلًا على أني أمرتك بهذا، "فضع يدك على ترقوته"؛ لأني قلت له: إن الآية التي بيني وبينك إذا جاءك أحد وطلب منك شيئًا عن لساني أن يضع يده على ترقوتك، فإن يضع يده على ترقوتك فاعلم أنه يَصْدُقُ فيما يقول عني.

10 - باب الغصب والعارية

واعلم أن مثل هذا هو العرف الجاري بين الناس، فبعضهم تكون العلامة بينهم بأن يأخذ إصبعه الإبهام أو الوسطى، وبعضهم يضع يده على كفه، وما أشبه ذلك مما كان تقريرهم، فإن لم يقبل الوكيل تلك الآية، فلا شيء عليه من حيث الشرع. مثاله: جاء زيد إلى عمرو الذي هو وكيل بكر، ويقول: قال بكر لك: أعطني كذا بالعلامة الفلانية التي بينك وبينه، فإن صدَّقه عمرو في تلك العلامة وأعطاه ذلك الشيء جاز، وإن لم يصدقه مع صحة العلامة، فليس عليه شيء، بل يلزم على زيد إقامةُ البينة على ما يقول، والله أعلم. * * * 10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ (باب الغصب والعارية) مِنَ الصِّحَاحِ: 2157 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أخذَ شِبرًا مِنَ الأرضِ ظُلمًا فإنَّهُ يُطَوَّقُهُ يومَ القِيامَةِ مِنْ سَبع أرَضين". قوله: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا، فإنه يُطوَّقُه يوم القيامة من سبع أرضين"؛ يعني: خلق الله قَدْرَ تلك الأرض المغصوبة طولًا وعرضًا وغلظة من وجه الأرض إلى تحت الأرض السابعة، وجعلها طوقًا في عنقه ليعذبه ثقلُها. روى هذا الحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. * * *

2158 - وقال: "لا يَحلُبن أحدٌ ماشيةَ امرئٍ بغير إذنِهِ، أيُحبُّ أحدُكُمْ أنْ تُؤْتَى مَشْربتُهُ فتُكْسَرَ خِزانَتُهُ، فيُنتقَلَ طعامُهُ؟ فإنَّما تَخزُنُ لهم ضُروعُ مَواشِيهمْ أطعِماتِهِم". قوله: "أيحب أحدكم أن تؤتَى مَشْربتُه فتكسر خزانتُه، فينتقل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم"، (المشربة) بضم الراء: الغُرفة - بضم الغين - وهي بيت فوقاني. قوله: "فإنما تَخزنُ لهم ضروعُ مواشيهم أطعماتِهم"، (ضروع): فاعل (تخزن)، و (أطعماتهم) مفعوله؛ يعني: ضروعُ مواشيهم بمنزلةِ خزانتهم، فمَن حلب مواشيهم فكأنه كسر خزانتهم؛ يعني: كما؟ لا تحبون أن يأتي أحدكم خزائنكم ويسرق ما فيها، فكذلك لا تجوَّزوا حلبَ مواشيهم، فإن ضروعها بمنزلة خزائنهم، فيها طعامهم وهو اللبن. روى هذا الحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. * * * 2159 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ بعضِ نسائهِ، فأرسلَتْ إحدَى أمَّهاتِ المُؤمنينَ بصَحْفَةٍ فيها طعامٌ، فضرَبتِ التي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها يدَ الخادِمِ فسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فانفلَقَتْ، فجمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثمَّ جَعَلَ يجمَعُ فيها الطعامَ ويقول: "غارَتْ أمُّكُمْ"، ثُمَّ حبسَ الخادِمَ حتَّى أُتي بصَحْفةٍ مِنْ عِند التي هو في بيتها، فدفعَ إلى التي كُسِرَتْ صَحْفَتُها وأمسكَ المكسُورة في بيت التي كسرتها. قوله: "إحدى أمهات المؤمنين"؛ يعني: إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فضربت التي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم"؛ يعني: أرسلت

زوجةٌ من زوجات النبي طعامًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضربت زوجتُه التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها يدَ الخادم، "فسقطت الصحفة" - وهي قصعةٌ كبيرة - فانكسرت. قوله: "فانفلقت"؛ أي: انشقت وانكسرت. "الفِلَق" بكسر الفاء: جمع فَلْقة، وهي القطعة. "ثم جعل"؛ أي: طفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ويقول: غارت أمكم"؛ يعني: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غارت أمكم أيها المؤمنون؛ يعني: فعلت هذه الزوجة ما فعلت من كسر الصحفة من غيرتها؛ يعني: استنكفت وغارت أن تقبل هدية الضرة، وقالت: لست محتاجة إلى أن ترسل إلي أو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إذا كان في بيتي، فلأجل هذه الغيرة كسرت الصحفة. قوله: "ثم حبس الخادم"؛ يعني: منع الخادم من أن يرجع حتى أخذ صحفةً من بيت الزوجة التي كسرت الصحفة، وإعطاءها الخادم ليذهب بها إلى التي أرسلت الصحفة. وهذا بيانُ لزومِ الضمان على مَن أتلف مالَ أحد. وفي هذا الحديث: بيانُ لزومِ الغيرة في نفس الإنسان، فإن أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - مع صحبتهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَخْلون عن الغيرة، فلا يليق لأحد أن يعاتب أحدًا على الغيرة، فإنها مركَّبةٌ في نفس البشر بحيث لا يقدر الرجل أن يدفعها عن نفسه، كالغضب وغيره من صفات النفس. * * * 2160 - عن عبد الله بن يزيدَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه نَهَى عن النُّهبةِ والمُثْلةِ.

قوله: "نهى عن النهبة والمثلة"، (النهبة): المالُ الذي أُخذ بالغارة؛ يعني: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ كلُّ واحدٍ من الجيش ما وجده من الغنيمة من الكفار، بل يلزم عليهم أن يجمعوا الغنيمة عند الإِمام حتى يقسم بين الجيش على حكم الشرع. ويحتمل أن يريد بـ (النهبة): أخذ مال المسلمين قهرًا. (المثلة): قطع أعضاء المقتول؛ يعني: نهى إذا قتلوا كافرًا أن يقطعوا أعضاءه، فكذلك إذا قُتل مسلمٌ بالقصاص، أو رُجم بحدِّ الزنا، أو صُلب قاطع الطريق، لا يجوز قطع أعضائه؛ لأن الغرض إزالة الحياة، فإذا أزيلت حياته فلا فائدة في قطع الأعضاء. * * * 2161 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ في عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ماتَ إبراهيمُ ابن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالنَّاسِ ستَّ ركعات بأربعِ سجَداتٍ، فانصرفَ وقد آضَتِ الشمسُ، وقال: "ما مِنْ شيءٍ تُوعَدُونَهُ إلَّا وقدْ رأيتُهُ في صلاتي هذه، لقدْ جِيءَ بالنَّارِ وذلكَ حينَ رأَيْتُمُوني تأخَّرْتُ مخافةَ أنْ يُصِيبني مِنْ لَفْحِها، وحتَّى رأيتُ فيها صاحِبَ المِحْجَنِ يجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، وكان يَسرِقُ الحاجَّ بمِحْجَنِهِ، فإنْ فُطِنَ لهُ قال: إنَّما تَعَلَّقَ بِمِحْجَني، وإنْ غُفِلَ عنهُ ذهبَ بهِ، وحتَّى رأيتُ فيها صاحِبةَ الهِرَّةِ التي ربطَتْها فلمْ تُطْعِمْها ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشاشِ الأرضِ حتَّى ماتَتْ جُوعًا، ثمَّ جِيءَ بالجنَّةِ وذلكَ حينَ رأَيْتُمُوني تقدَّمْتُ حتَّى قُمْتُ في مَقامي، ولقدْ مدَدْتُ يَدِي وأنا أُرِيدُ أنْ أتَناوَلَ منْ ثَمَرِها لتنظُرُوا إلَيْهِ ثمَّ بدا لي أنْ لا أفعلَ". قوله: "فصلى بالناس ستَّ ركعات بأربع سجدات": أراد بالركعات

ها هنا: الركوعات؛ يعني: صلى ركعتين في كلِّ ركعةٍ ثلاثُ ركوعاتٍ وسجدتين. وقد ذكرنا بحث صلاة الخسوف قبل الجنائز. "فانصرف"؛ أي: فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة "وقد أضاءت الشمس"؛ أي: رجعت الشمس، وذهب كسوفها. قوله: "ما من شيء توعدونه"؛ يعني: ليس شيء وعدتم بمجيئه من الجنة والنار وغيرهما من أحوال القيامة إلا عُرض عليَّ. قوله: "وذلك حين رأيتموني تأخرت" كأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما كان هو واقفًا في صلاة الكسوف تأخَّر عن مصلَّاه، ثم تقدم إلى مصلَّاه ومدَّ يده كأنه يقطف (¬1) شيئًا بيده، فلمَّا فرغ من الصلاة قال - صلى الله عليه وسلم -: عُرضت علي النار فتأخَّرت من خوف أن يصيبني لفحها؛ أي: تحريقها، وعرضت علي الجنة فمددت يدي أن آخذ عنقودًا من ثمرها لأريكم ثمر الجنة، فبدا لي رأيٌ أن لا آخذ. قوله: "حتى رأيت فيها"؛ أي: في النار "صاحب المحجن" وهو خشبٌ طويلٌ على رأسه حديدةٌ مُعْوَجَّةٌ. "القُصب" بضم القاف والصاد المهملة: الأمعاء، وهو آلة البطن. "الخشاش" بفتح الخاء وكسرها: حشرات الأرض كالحية والفأرة وغيرهما. * * * 2162 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: كانَ فَزَعٌ بالمدينةِ فاستعارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا منْ أبي طَلْحَةَ، فرَكِبَ، فلمَّا رجعَ قال: "ما رأَيْنا مِنْ شَيءٍ وإنْ وجدناهُ لَبَحْرًا". ¬

_ (¬1) في "ق": "يقصد".

قوله: "كان فزع"؛ يعني: قد وقع في المدينة فزعٌ وصياحٌ بأنَّ جيش الكفار قد وصل إلى قرب المدينة، "فاستعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا من أبي طلحة"، وخرج مع الجيش من المدينة ليحاربوا الكفار، فظهر أنه لم يكن لذلك الفزع حقيقة، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما رأينا من شيء وان وجدناه لبحرًا"، أي: وإنَّا وجدنا هذا الفرس لبحرًا. (البحر): الفرس السريعُ العَدْوِ. وهذا الحديث يدل على جواز الاستعارة. * * * 2163 - عن سعيدِ بن زيدٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ أحْيا أَرْضًا مَيتةً فهي لهُ، وليسَ لعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ"، مرسل. قوله: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"؛ يعني: من عَمَر أرضًا غير مملوكةٍ لمسلم، ولم يَجْرِ عليها عمارةُ مسلم ولا ذمَّيًّ، ولم يتعلق لمصلحة بلدٍ أو قرية بأن يكون مَرْكَضَ خيلهم، أو محطَّ ثلجهم وترابهم، فإذا كان كذلك صارت تلك الأرض ملكًا له، سواءٌ كان بإذن السلطان، أو بغير إذنه، خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال: لا بد من إذن السلطان. ثم الأرضُ التي أحياها الرجل إنما تصير ملكًا له إذا تم عمارتها، وإتمام العمارة يختلف باختلاف الأبنية، فإن كان دارًا فلا يملكها حتى يَحُوطَ حول تلك الأرض ويجعلَ لها سقفًا، وإن كان حظيرةَ يحتاج إلى إدارة الحائط حول تلك الأرض، ولا يحتاج إلى السقف، وإن كان بئرًا فيحتاج إلى وصولها إلى الماء، وإن كانت مزرعةً فيحتاج إلى إصلاح التراب، وإجراءِ الماء، ونثر البذر عليها. قوله: "وليس لعرق ظالم حق"، (ظالم): صفة (عرق)، ويجوز أن

يكون مضافًا إليه. وصورته: أن يغصب أحد أرضًا، فزرع فيها زرعًا، أو غرس فيها شجرًا، فليس له حقٌّ في إبقاء زرعه وشجره، بل يجوز لمالك الأرض أن يقلع زرعه وشجره. * * * 2164 - وقال: "ألا لا تظلِمُوا، ألا لا يحِلُّ مالُ امرئٍ إلا بطيبِ نفسٍ منهُ". قوله: "ألا لا تظلموا" (الظلم): وضع شيء في غير موضعه، ويدخل في هذا النهي أخذ أموال الناس بالباطل، وإيذاؤهم، وشتمهم، وغيبتهم، وضربهم بغير حق، وغير ذلك من الإضرارات بالمسلمين. روى هذا الحديث [أبو حرَّة الرقاشي، عن عمه]. * * * 2165 - وعن عِمرانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغارَ في الإسلامِ، ومَنِ انتَهَبَ نُهْبةً فليسَ مِنَّا". قوله: "لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإِسلام" أما (الجلب والجنب): قد يستعملان في الزكاة وفي المسابقة، أما في الزكاة فقد ذكرنا شرحها في آخر الباب الأول من الزكاة، وأما في المسابقة: معنى (الجلب): أنه لا يجوز أن يأمر أحدُ المسابقين جماعةً أن يجلبوا؛ أي: يصوِّتوا ليركض فرسُه من أصواتهم، فإن هذا مكرٌ وحيلة. وأما (الجَنَب): فهو أن يستصحب أحد المسابقين معه فرسًا ليركبه إذا

تعب وانقطع في الطريق الفرسُ الذي ركبه أولًا، فهذا لا يجوز أيضًا. وأما (الشغار): فصورتُه أن يقول رجل لآخر: زوَّجتك ابنتي على أن تزوَّجني ابنتك، ويكون بُضعُ كلَّ واحدةٍ منهما صداقًا للأخرى، وهذا النكاح باطلٌ في الإِسلام، وكان أهل الجاهلية يفعلونه. ووجه فساده: أنهما اشترطا جَعْلَ البُضع مهرًا، وخلاَ نكاحهما عن المهر. وممن قال ببطلان نكاح الشغار: الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: النكاح صحيح، ولكل واحدة من المرأتين مهر المثل. هذا إذا لم يسمَّيا مهرًا، قال الشافعي: لو سُمِّي لهما أو لإحداهما صَدَاقٌ فليس بالشغار المنهيِّ عنه، والنكاحُ ثابتٌ، والمهرُ فاسد، ولكلَّ واحدة منهما مهرُ مِثْلِها، ووجهُ فساد المسمَّى عند تسمية المسمَّى: أنه نكاح على شرطٍ، فإن الأول قال: زوَّجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بكذا دينار، ولَفَظَه على الشرط، والشرطُ في النكاح يُفسد المسمَّى ويوجب مهر المِثْل. قوله: "ومن انتهب نهبة فليس منا": مضى ذكرُ بحثِ هذا في هذا الباب. * * * 2166 - وعن السَّائِب بن يَزيدَ، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يأْخُذْ أحَدُكُمْ عصا أخيهِ لاعِبًا جادًّا، فمنْ أخَذَ عصا أخيهِ فليرُدَّها إليهِ". قوله: "لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبًا جادًا": لاعبًا جادًا هما منصوبان على الحال؛ يعني: لا يجوز لأحدكم أن يأخذ عصا أخيه المسلم في حال اللعب ولا في حال الجد. ويجوز أن يكون معناه: لا يأخذها في حال اللعب، ثم يقصد إمساكها لنفسه على الجد؛ يعني: يُظْهِرُ أنه أخذها باللعب، وفي نيته عدمُ ردها.

وهذا الحديث ليس تخصيصًا بالعصى، بل المراد منه: كلُّ شيء حتى العصا، وإن كان شيئًا حقيرًا. * * * 2167 - وعن الحَسَنِ عن سَمُرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وجدَ عَيْنَ مالِه عندَ رجُلٍ فهوَ أحقُّ بهِ ويتَّبعُ البيعُ من باعَهُ". قوله: "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه"، (البيع) - بتشديد الياء - هنا المشتري؛ يعني: مَن اشترى متاعًا، وجاء رجلٌ وادعى أنه مال سرقة، أو غَصَبه البائع، وأقام المدَّعي بينةً على ما يقول، يدفع ذلك المتاع إلى المدَّعي، ويتبع المشتري البائعَ ويأخذ ثمنه؛ لأنه غاصبٌ. * * * 2168 - وقال: "على اليدِ ما أخَذَتْ حتَّى تُؤَدَّيَ". قوله: "على اليد ما أخذت حتى تؤدي"؛ يعني: مَن أخذ مال أحدٍ بغصبٍ أو عاريةٍ أو وديعةٍ لزمه ردُّه، وفي الغصب لزمه ردُّه وإن لم يطلبه مالكه، وفي العارية: إن عيَّن مدةً لزمه ردُّه إذا انقضت تلك المدة، ولو طلبه مالكه قبل انقضاء تلك المدة لزمه ردُّه، وإن لم يعين مدةً لا يلزمه ردُّه، إلا إذا طلبه مالكه. وفي الوديعة: لا يلزم المودَعَ ردُّه إلا إذا طلب المالك. روى هذا الحديث سمرة بن جندب. * * * 2169 - عن حَرامِ بن سعدِ بن مُحَيصةَ: أنَّ ناقَةً للبراءِ بن عازبٍ دَخَلَتْ حائِطًا فأفسَدَتْ، فقضَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ على أَهْلِ الحوائِطِ حِفْظَها بالنَّهارِ،

وأنَّ ما أفسَدَتِ المَواشي باللَّيْلِ ضامِنٌ على أَهلِها. قوله: "أن على أهل الحوائط ... " إلى آخره. يعني: ما أتلفت المواشي بالنهار لم يلزم مالكَها ضمانُ ما أتلفت، وإن أتلف بالليل لزمه الضمان؛ لأن العادة حفظ المواشي بالليل وإرسالُها بالنهار، وهذا إذا لم يكن مالكها معها، وإن كان مالكها معها لزمه ضمان ما أتلفت ليلًا كان أو نهارًا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها فمها، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن معها مالكها لم يضمن ليلًا كان أو نهارًا، وإن كان معها مالكها، فإن كان يسوقها فعليه ضمان ما أتلفت بكلِّ حال، وإن كان قائدَها أو راكبها، فعليه ضمانُ ما أتلفت بفمها أو يدها, ولا يجب ضمانُ ما أتلفت برجلها بكلِّ حال. * * * 2170 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّجْلُ جُبَارٌ". 2171 - وقال: "النَّارُ جُبَارٌ". قوله: "الرجل جبار، والنار جبار"، (الجُبار): الهَدْر، وهو الذي لا مؤاخَذَة به، أراد بـ (الرجل جبار): أن دابة لو ضربت أحدًا برجلها، أو أفسدت شيئًا برجلها, لا مؤاخذة به، وفي هذا تفصيلٌ، وقد ذكر في الحديث المتقدم. وأما قوله: "والنار جبار" معناه: أن مَن أوقد نارًا على سطحه أو في بيته على وفق العادة، ولم يتعدَّ، ولم يُسرف في الإيقاد، فوقعت قطعةٌ من تلك النار في بيت جاره فأفسدت ماله، لا شيء عليه؛ لأنه تصرَّفَ في ملكه من غير عدوانٍ في اشتعال النار. * * *

2172 - عن الحسنِ عن سَمُرةَ - رضي الله عنهما -: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أَتَى أحدُكُمْ على ماشِيةٍ فإنْ كانَ فيها صاحبُها فلْيَستأْذِنْهُ، وإنْ لمْ يكُنْ فيها فَلْيُصوتْ ثلاثًا، فإنْ أجابَهْ أَحَدٌ فلْيَستأْذِنْهُ، فإنْ لمْ يُجِبْهُ أحدٌ فليَحتلِبْ ولْيَشْرَبْ ولا يَحْمِل"، غريب. قوله: "فليحتلب وليشرب ولا يحمل"؛ يعني: إذا أتى أحدكم ماشية في الصحراء، ولم ير هناك أحدًا "فليصوِّت"؛ أي: فليناد وليقل بصوتٍ رفيع: يا صاحب هذه المواشي، فلينادِ هكذا ثلاث مرات، فإن لم يجبه أحد جاز له أن يحلب من اللبن ويشرب بقدر حاجته، ولا يحمل شيئًا، وإنما يجوز له هذا إذا كان مضطرًا يخاف الموت من الجوع، أو يخاف انقطاعه عن السبيل، فحينئذٍ يجوز له شرب اللبن، ويردُّ قيمتَه إلى مالكه عند القدرة. وقيل: لا يلزمه ردُّ قيمته. وقال أحمد: جاز له أن يشرب من لبن الماشية في الصحراء، وإن لم يكن مضطرًا. * * * 2173 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دخلَ حائِطًا فلْيَأْكُلْ ولا يَتَّخِذْ خُبنةً"، غريب قوله: "من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذ خبنة"، (الخبنة): ما يحملُ بالذيل؛ يعني: من دخل بستان أحدٍ جاز له أكل الثمار من غير أن يحمل شيئًا. وبحث هذا الحديث كبحث الحديث المتقدم. * * *

2174 - وعن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فقال: "مَنْ أصابَ بفيهِ مِنْ ذي حاجَةٍ غيرَ متَّخذٍ خُبنةً فلا شيءَ عليهِ". قوله: "من أصاب بفيه"؛ أي: من أكل الثمرة من الشجرة، وإنما ذكر الفم ليُعْلَم أنه لا يجوز العمل، (بفيه)؛ أي: بفمه. وبحث هذا كبحث المتقدم. * * * 2176 - عن أُميَّةَ بن صَفْوانَ عن أبيه: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعارَ منه أدْراعَهُ يومَ حُنَيْنٍ فقال: أَغَصْبًا يا محمَّدُ؟ قال: "لا، بَلْ عاريَةٌ مضمُونَةٌ". قوله: "بل عارية مضمونة" كان صفوان بن أمية كافرًا، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دخول المدينة ليسمع كلام الله وحديث رسول الله، ويعلم أحكام الدين، على شرطِ إن اختار الدين أسلم، وإن لم يختر رجع إلى وطنه من غير أن يُلحق به المسلمون ضررًا، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الشرط، فاستعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه في حالة كفره أدراعه، فظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ أدراعه على أن لا يردها عليه، "فقال: أغصبًا يا محمَّد؟ "؛ أي: أتغصب غصبًا؟ "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل عارية مضمونة"؛ يعني: إن بقيتْ أردُّها عليك، وإن تلِفَتْ أعطيك قيمتها. فمذهب الشافعي وأحمد: على أن العارية إذا تلفت يجب ضمانها على المستعير، ومذهب أبي حنيفة: فإنه لا يجب ضمانها. * * * 2177 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "العارِيَةُ مُؤدَّاةٌ، والمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، والدَّيْنُ مَقْضيٌّ، والزَّعِيمُ غارِمٌ".

قوله: "العارية مؤدَّاة"؛ يعني: يجب ردُّ العارية إذا طلبها المالك إن كانت باقية. "والمنحة مردودة"، (المنحة): الشاة أو الإبل أو البقر التي يدفعها مالكها إلى أحد ليشرب لبنها مدة، فيجب ردُّها إلى مالكها إذا شرب لبنها، وإذا طلبها مالكُها ردَّها متى شاء. "والدَّين مقضيٌّ"؛ أي: يجب أداء الدين إذا أتى وقت أدائه. "والزعيم غارم"، (الزعيم): الضامن، و (الغارم): مَن لزمه غرامةٌ؛ يعني: مَن ضمن دينَ أحدٍ لزمه أداءُ ذلك الدين. * * * 2175 - وعن رافعِ بن عمرٍو الغِفاريَّ قال: كنتُ غُلامًا أرمي نَخْلَ الأنصارِ، فأُتيَ بيَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا غُلامُ لِمَ تَرمي النَّخْلَ"؟ قلت: آكُلُ، قال: "فلا تَرْمِ وكُلْ ممَّا سقطَ في أسفَلِها". ثمَّ مسحَ رأسَهُ وقال: "اللهمَّ أشْبعْ بَطْنَهُ". قوله: "كنت غلامًا"؛ أي: كنت صبيًا. "أرمي نخل الأنصار"؛ يعني: أرمي بحجرٍ على نخل الأنصار. قوله: "كل مما سقط" إنما أجاز له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل مما سقط من الرطب تحت النخل؛ لأنه كان جائعًا، وإن لم يكن مضطرًا إلى أكله لم يجز له أن يأكل مما سقط؛ لأنه مِلكُ مالكِ النخل، فهو كالرطب على رأس النخل، فكما لا يجوز أكل ما على رأس النخل، فكذلك لا يجوز أكل ما سقط تحت الشجرة، والله أعلم. * * *

11 - باب الشفعة

11 - باب الشُّفْعَةِ (باب الشفعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2178 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشُّفْعَةُ فيما لمْ يُقْسَم، فإذا وقعَتِ الحُدُودُ وصُرِفَتَ الطُّرُقُ فلا شُفعة". قوله: "الشفعة فيما لم يقسم"؛ يعني: الشفعةُ ثابتةٌ في ملكٍ مشتركٍ، وصورةُ الشفعة: أن يشترك اثنان في أرضٍ أو دار، فباع أحدُهما نصيبه، فللشريك أن يأخذ ذلك المبيع ويدفعَ إلى المشتري الثمن. قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق"؛ يعني: فإذا قُسم المِلْكُ المشترك، وأُفرد نصيب كلَّ واحد من الشريكين، فظهر حدُّ ملك كل واحدٍ منهما، وصُرفت طريق أحدهما عن الآخر. "فلا شفعة"؛ يعني: إذا باع أحد الشريكين بعد القسمة نصيبه ليس للآخر أن يأخذه بالشفعة؛ لأنه جارٌ بعد القسمة لا شريك، ولا تثبت الشفعة للجار عند الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: الشفعة ثابتة للجار. * * * 2179 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَةِ في كلِّ شِرْكَةٍ لمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أو حائِطٍ، لا يَحِلُّ له أنْ يبيعَ حتَّى يُؤذِنَ شَريكَهُ، فإنْ شاءَ أخذَ وإنْ شاءَ تركَ، فإذا باعَ ولمْ يُؤْذِنْهُ فهوَ أحقُّ بهِ.

قوله: "ربعة أو حائط"، الرَّبْعُ والرَّبْعة: الدار، والحائط: البستان؛ يعني: الشفعة مختصة بما لم يمكن نقله كالأرض والدار والبستان، ولا تجوز الشفعة في المنقولات كالدواب والأمتعة. قوله: "لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن"، آذَنَ يُؤْذِن؛ أي: أعلم؛ يعني: إذا أراد أحد الشريكين بيع نصيبه، فليعرض على الشريك بيعه، فإن شاء اشتراه وإن شاء تركه، فإن عَرَضَ البيعَ على الشريك وقال الشريك: لا رغبة لي في شراءه، فباع الشريك نصيبه، جاز للشريك أن يأخذ الشفعة، وإن قال قبل البيع: لا رغبة لي في شرائه، أو قال: بعه، فإني لا آخذ الشفعة. وقال الحكم والشعبي: إذا أخبره قبل البيع ولم يرغب في شرائه، فباعه من أحد، بطلت شفعته. * * * 2180 - وقال: "الجارُ أحقُّ بسَقَبهِ". قوله: "الجار أحق بسقبه", (السَّقَب): القرب؛ يعني: جارك أحقُّ وأولى من غيره بسبب قرب داره إلى دارك. وليس في هذا الحديث بيانٌ في أن الجار أحقُّ بسبب قربه في أيَّ شيء، أحق في أخذ الشفعة، أو في البرَّ والإحسان إليه وإعانتك إياه. وقال أبو حنيفة: المراد به الشفعة، ولهذا أثبت الشفعة للجار. * * * 2181 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمنعْ جارٌ جارَهُ أنْ يغرِزَ خشَبةً في جِدارِهِ".

قوله: "لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبةً في جداره؛ يعني: إذا احتاج رجلٌ أن يضع طرف جذعه على حائط جاره، لا يجوز للجار أن يمنعه، فإن منعه يُجبره القاضي عليه، وبهذا قال أحمد والشافعي في قوله القديم. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في قوله الجديد، وعليه الفتوى: إنه يجوز للجار أن يمنع وضع جذوع الجار على جداره. وهذا الحديث محمولٌ على الندب والاستحباب. * * * 2182 - وقال: "إذا اخْتَلَفْتُمْ في الطَّريقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سبعةَ أذْرُعٍ". قوله: "إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع"؛ يعني: إذا كان طريقٌ يمرُّه كلُّ أحد، وأراد أن يقعد في طرف تلك الطريق ليبيع، أو يبنيَ بناء عليه، أو يغرسَ شجرًا، ومنعه جماعةٌ، جُعل عرضُ الطريق سبعة أذرع؛ لأن هذا القَدْرَ مما يحتاج إليه الناس للمرور، فإذا جُعل عرضه هذا القَدْر جاز لكلَّ أحدٍ أن يتصرف فيما عدا هذا القدر، وكذلك إذا كان طريقٌ في مواتٍ، وأرَاد أحدٌ أن يُحيي جانبي تلك الطريق، ليَجْعَلْ عرضَ الطريق سبعة أذرع، والباقي يجوز له أن يحييه. أما الطريق في السكة المنسدَّةِ الأسفل، فهو يتعلُّق باختيارِ أهل السكة؛ لأن السكة ملكٌ لهم، فإن اختلفوا في قَدْرِ عرضه، فيُجعل عرضه بقَدْرِ ما لا يتضرر أهل السكة في المرور. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

من الحسان: 2183 - قالَ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ باعَ مِنْكُمْ دارًا أو عَقَارًا قَمِنٌ أنْ لا يُبارَكَ لهُ إلَّا أنْ يَجعلَهُ في مِثْلِهِ". قوله: "من باع منكم دارًا أو عقارًا قمنٌ أن لا يبارك له إلا أن يجعله في مثله"، (قمن)؛ أي: حقيقٌ وجديرٌ؛ يعني: بيع الأرض والدور وصرفُ ثمنها إلى المنقولات غيرُ مستحبٍّ؛ لأن الأرض والدور كثيرةُ المنافع مديدةُ النبات قليلةُ الآفة، لا يسرقها سارقٌ، ولا تلحقها غارة، بخلافِ المنقولات، فالأولى أن لا تباع الأرض والدور، فإن باعها فالأولى صرفُ ثمنها إلى أرضٍ أو دار. روى هذا الحديث سعيد بن حريث القرشي. * * * 2185 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشَّريكُ شَفْيعٌ، والشُّفْعَةُ في كلِّ شيءٍ"، ويُروَى عن ابن أبي مُلَيكةَ مُرسلًا. "والشفعة في كل شيء"؛ يعني: الشفعة ثابتةٌ في كلِّ شيء مشترك حتى المنقولات، ولم نر أحدًا من الأئمة الأربعة قال بثبوت الشفعة في المنقولات. * * * 2186 - عن عبدِ الله بن حُبَيْشٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قطعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأْسَهُ في النَّارِ". وقال أبو داودَ: هذا الحديثُ مُختصرٌ، يعني: "منْ قطعَ سِدرةً في فَلاةٍ يَسْتَظِلُّ بها ابن السبيلِ والبهائُم غشْمًا وظُلمًا بغيرِ حقِّ يكونُ لهُ فيها، صَوَّبَ الله رأسَهُ في النَّار".

12 - باب المساقاة والمزارعة

قوله: "صوَّب الله رأسه"؛ أي: ألقى الله رأسه. "في فلاة"؛ أي: في بادية. "غشمًا"؛ أي: بغير حق. وهذا الحكم ليس مختصًا بالسدر، بل كلُّ شجرٍ يستفيد الناس بالجلوس تحته يَحْرُمُ قطعه. * * * 12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ (باب المساقاة والمزارعة) (المساقاة): أن يعطي الرجل بستانًا من النخيل أو الكرم أحدًا ليعمل فيها السقيَ وغيرَه مما به صلاحُ الشجر؛ ليكون للعامل شطر الثمر؛ أي: نصف الثمر، أو ما يتشارطان من الثلث أو الربع، هذا العقد جائز عند الأئمة غير أبي حنيفة. ثم اختلف الذين يجوَّزون هذا العقد، فجوَّز الشافعي في أحد قوليه، ومالك، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن: في جميع الأشجار. ولم يجوِّز الشافعي في أظهر قوليه في غير النخل والكرم. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 2187 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دفَع إلى يهودِ خَيْبَرَ نخلَ خَيْبَرَ وأرضَها على أنْ يعتَمِلُوها مِنْ أموالِهِمْ ولرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شَطْرُ ثَمَرِها.

ويُروى: عَلَى أنْ يعمَلُوها وَيزْرعُوها ولهمْ شَطْرُ ما يخرُجُ منها. قوله: "أن يعملوها من أموالهم"؛ يعني: أن يعملوا في النخيل من أموالهم؛ يعني: آلات العمل كالمِسْحاة والفأس والمِنْجَل وغيرها، هذه الأشياء من مال العامل. * * * 2188 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: كُنَّا نُخابرُ ولا نَرَى بذلكَ بأْسًا حتَّى زعمَ رافِعُ بن خَدِيج أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْها فتَركْناها مِنْ أجْلِ ذلكَ. قوله: "كنا نخابر" بحث المخابرة والمزارعة قد ذكرناه في (باب المنهي عنها من البيوع). * * * 2189 - عن حَنظلةَ بن قَيْسٍ عن رافعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنهما - قال: أخبرني عمَّايَ أنَّهمْ كانوا يُكرونَ الأرضَ على عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بما يَنْبُتُ على الأربعاءِ, أو شيءٍ يَستثنيهِ صاحبُ الأرضِ، فنهانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذلكَ، فقلتُ لِرَافعٍ: فكيفَ هيَ بالدَّراهِم والدَّنانيرِ؟ فقال: ليسَ بها بأْسٌ. فكانَ الذي نَهىَ منْ ذلكَ ما لو نظرَ فيهِ ذو الفَهمِ بالحَلالِ والحَرامِ لمْ يُجيزوهُ لما فيهِ مِنَ المُخاطَرَةِ. قوله: "وكان الذي نُهي من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه؛ لما فيه من المخاطرة"؛ يعني: لو دفع رجلٌ أرضه إلى رجلٍ ليزرعه من بذر نفسه؛ ليكون لصاحب الأرض بعضُ ما يخرج من الزرع، فربما لا يخرج، ولا يحصل من الزرع شيء، فحينئذ لا يكون لصاحب الأرض شيء، فيكون عليه ضررٌ بتعطيل أرضه مدةً من غير عوض، فهذا هو المخاطرة.

أما لو دفع أرضه بأجرةٍ معلومة من الدراهم والدنانير، فيجوز؛ لأنه لا خطر فيه. * * * 2190 - وعن رافِعٍ قال: كانَ أحدُنا يُكري أرضَهْ فيقول: هذهِ القِطعةُ لي وهذهِ لك، فرُبَّما أخرَجَتْ ذِه ولمْ تُخْرِجْ ذِه، فنهاهُمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كان أحدنا يُكري أرضه فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أَخرجتْ ذِهْ، ولم تُخْرِج ذه"؛ يعني: يدفع الرجل أرضه إلى رجل ليزرعه من بذر نفسه، ويقول صاحب الأرض للزرَّاع: ما يخرج من هذه القطعة لي بكِرى أرضي، وما يخرج من الباقي لك، فربما يخرج زرعُ قطعة صاحب الأرض ولم يخرج زرع قطعة صاحب البذر، فيلحق الضرر لصاحب البذر، أو بالعكس، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المعاملة. قوله: "ذه"؛ أي: هذه القطعة. * * * 2191 - وعن طاوُسٍ - رضي الله عنه - قال: إنَّ أعلَمَهُمْ أخبرَني - يعني: ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ ينهَ عنهُ، ولكنْ قالَ: "أنْ يمنحَ أحدُكُمْ أخاهُ خيرٌ لهُ منْ أنْ يأخُذَ عليهِ خَرْجًا معلومًا". قوله: "إن أعلمهم"؛ أي: إنَّ عبد الله بن عباس الذي هو أعلمُ أهل المدينة، ولعل طاوسًا قال هذا الكلام في وقت لم يَبْقَ مَن هو مثلُ ابن عباس. قوله: "أن يمنح"؛ أي: أن يُعطي "أحدكم" أرضه "أخاه" بلا أجرة ليزرعها "خيرٌ له من أن يأخذ" أجرة منه. * * *

2192 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانتْ لهُ أرضٌ فلْيَزْرَعْها أو لِيَمْنَحْها أخاهُ، فإنْ أَبَى فلْيُمْسِكْ أرضَهُ". قوله: "من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه"؛ يعني: ينبغي أن يحصل للإنسان نفعٌ من ماله، فمن كانت له أرض فليزرعها حتى يحصل له نفع من الزرع، أو ليعطها أخاه ليحصل له ثوابٌ، فإن لم يفعل شيئًا من هذين الشيئين (فليمسك أرضه)، هذا توبيخٌ لمن له مال ولم يَحْصل له منه نفعٌ. * * * 2193 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - ورأَى سِكَّةً وشيئًا مِنْ آلةِ الحَرْث، فقال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يَدخُلُ هذا بيتَ قومٍ إلَّا أدخلَه الله الذُّلَّ". قوله: "عن أبي أمامة ورأى سكة وشيئًا من آلة الحرث فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يدخل هذا بيتَ قومٍ إلا أدخله الذل" الواو في (ورأى سكة) للحال؛ أي: قال هذا الكلام حين رأى سكة. (السكة): الحديدةُ التي تُشقُّ بها الأرض عند الحراثة. وهذا الحديث ظاهره يدل على أن الحراثة والزراعة تُوْرِثَ المَذَلة. وليس كذلك، بل الحراثةُ والزراعة وإصلاح الأملاك والعمارات مستحبةٌ، وفيها ثوابٌ؛ لحصول النفع منها إلى الناس، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث كيلا يشتغل الصحابة - رضي الله عنهم - بالعمارات ويتركوا الجهاد، فإنهم لو تركوا الجهاد يغلب الكفار عليهم، وأيُّ ذلٍّ أشد من أن يغلب الكفار على المسلمين، ويأخذوا أموالهم وأزواجهم وأولادهم ويقتلوهم؟. * * *

13 - باب الإجارة

مِنَ الحِسَانِ: 2194 - عن رافِعٍ بن خَدِيجٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ زرعَ في أرضِ قومٍ بغيرِ إذنِهِمْ فليسَ لهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ ولهُ نَفَقَتُهُ"، غريب. قوله: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيءٌ وله نفقته"؛ يعني: ما حصل من الزرع يكون لصاحب الأرض، وليس لصاحب البذر إلا بذره، وبهذا قال أحمد. وأما غير أحمد قالوا: ما حصل من الزرع فهو لصاحب البذر، وعليه أجرة الأرض من يوم غصب الأرضَ إلى يوم تفريغ الأرض. * * * 13 - باب الإجارة (باب الإجارة) 2196 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتجَمَ وأعطَى الحجَّامَ أجْرَهُ، واسْتَعَطَ". قوله: "واستعط"؛ أي: أدخل الدواء في أنفه، هذا الحديث يدل على صحة الاستئجار، وجواز المداواة. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 2197 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعثَ الله نبيًّا إلَّا رَعى الغَنمَ"، فقال أصحابُهُ: وأنتَ؟ فقال: "نعم، كنتُ أرْعَى على قَراريطَ لِأهلِ مكَّةَ".

قوله: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم ... " إلى آخر الحديث. وعلةُ رعيهم - عليهم السلام - أنهم إذا خالطوا الغنم زاد لهم الحِلْمُ والشفقة، فإذا صبروا على مشقة رعي الغنم، وأُعلموا اختلاف طباع كلَّ فرد من الغنم، وصبروا على جمعها مع تفرُّقها في المرعى والمشرب، وعرفوا ضعفها واحتياجها إلى النقل من موضعٍ إلى موضعٍ للرعي والشرب، فإذا عرفوا هذه الأشياء علموا أن مخالطة العوامِّ من الناس كمخالطة الغنم في اختلاف طباعهم، وقلةِ عقول بعضهم، ولحوقِ المشقَة من الأمة إليهم، فلا تنفر طباعهم, ولا تملُّ نفوسهم من دعوتهم إلى الدين؛ لأنهم اعتادوا تحمُّل الضرر والمشقة. قوله: "على قراريط" جمع قيراط، وأصله: قرراط، فقلبت الراء الأولى ياء؛ يعني: استأجرني أهل مكة على رعي الغنم كلَّ يوم بقيراط، وقد ذُكر قَدْرُ القيراط في (باب المنهي عنها من البيوع) في (فصل حديث جابر). * * * 2198 - وقال: "قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خَصْمُهمْ يومَ القِيامَةِ: رجلٌ أعطَى بي ثمَّ غَدَرَ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثَمنَهُ، ورجلٌ استأجَرَ أجِيرًا فاسْتوفَى منهُ ولم يُعطهِ أجرَهُ". قوله: "أعطى بي"؛ أي: أعطى عهدًا ويمينًا؛ أي: حلف بي مع أحد، وجرى بينه وبين ذلك الرجل عهدٌ على أن يحفظ مصالحه وحقه، ثم غدر ونقض عهده بلا جُرمٍ من جانبه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2199 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ نفرًا مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرُّوا بماءٍ

فيهمْ لَديغٌ، فعَرَضَ لهمْ رجلٌ مِنْ أهلِ الماءِ فقال: هلْ فيكُمْ مِنْ راقٍ؟ إنَّ في الماءِ رجُلًا لدِيغًا. فانطلقَ رجلٌ منهم فقرأَ بفاتِحَةِ الكتابِ على شاءٍ فبرأَ، فجاءَ بالشاءِ إلى أصحابهِ فكرِهُوا ذلكَ وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجْرًا، حتى قَدِمُوا المدينةَ فقالوا: يا رسولَ الله! أخذَ على كتابِ الله أجرًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحقَّ ما أخذْتُمْ عليهِ أجْرًا كتابُ الله". وفي روايةٍ: "أصبتُمْ، اقْسِمُوا واضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا". قوله: "مروا بماء"؛ أي: مروا بقبيلةٍ نازلةٍ عند عينِ ماءٍ. "لديغ"؛ أي: ملدوغ؛ أي: مَن لسعته حية. "فعرض لهم"؛ أي: فاستقبلهم رجلٌ من تلك القبيلة. "راقٍ": اسم فاعل من رقى يرقي: إذا قرأ رقية. "انطلق"؛ أي: ذهب فقرأ بفاتحة الكتاب. "على شاء"، (الشاء): جمع شاة، وهي الغنم؛ يعني: قال ذلك الرجل لهم: أَرْقي هذا اللديغَ بشرطِ أن تعطوني كذا رأسًا من الغنم، فاشترطوا هذا الشرط. "فقرأ عليه فاتحة الكتاب فبرئ ببركة كلام الله"؛ أي: صحَّ من ذلك الوجع. ولهذا قال الشافعي ومالك: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والرُّقْية إذا كانت الرقية بكلام الله وباسمه تعالى، والدعوات. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والرقية. قوله: "أصبتم"؛ أي: فعلتم صوابًا وحقًا. و"اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا"؛ يعني: اقسموا وبينوا لي نصيبًا من هذه الشاء، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام؛ لتطمئن قلوبهم باستحلال أخذ

الأجرة على الرقية؛ لأنه لو لم يكن حلالًا وموافقًا للتقوى لم يقل: اضربوا لي معكم سهمًا. * * * مِنَ الحِسَان: 2200 - عن خارجةَ بن الصَّلْتِ عن عمِّه أنَّه مرَّ بقومٍ فقالوا: إنَّكَ جِئْتَ مِنْ عندِ هذا الرَّجلِ بخَيرٍ، فارْقِ لنا هذا الرجُلَ، وأتوه برجلٍ مَجنونٍ في القُيودِ، فرقاهُ بأمِّ القُرآنِ ثلاثةَ أيَّامٍ غُدْوَةً وعَشِيَّةً، كُلَّما خَتَمها جمعَ بُزاقَهُ ثمَّ تَفَلَ، فكأنَّما أُنْشِطَ مِنْ عِقالٍ، فأعطوهُ مئةَ شاةٍ فأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: فذكرَ لهُ فقال: "كُلْ فَلَعَمْري لَمَنْ أكلَ برُقْيَةِ باطلٍ لقدْ أكلْتَ برُقيةِ حقٍّ". قوله: "جئت من عند هذا الرجل"؛ يعني: إنك تجيء من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بخير"؛ أي: بالقرآن وذكرِ الله "فارْقِ لنا هذا الرجل" المجنون. قوله: "ثم تفل"؛ أي: ثم نفخ ببزاقه فيه. قوله: "كأنما أنشط"؛ أي: حُلَّ عقاله؛ أي: فتح عقاله؛ أي: حبلُه المشدودُ به؛ أي: رفع عنه ذلك الجنون. قوله: "فلَعَمْري لَمَنْ أكل برقيةِ باطلٍ لقد أكلتَ برقيةِ حق", (لعَمري) بفتح العين؛ أي: حياتي قَسَمي، اللام في (لَعَمري) للتأكيد، و (عَمري) بفتح العين وضمِّها بمعنى واحد، ولكن لا يستعمل في القسم إلا مفتوحَ العين. فإن قيل: لا يجوز القسم بغير اسم الله تعالى وصفاته، فلِمَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَمري"؟!. قلنا: ليس المراد به القسم، بل يجري هذا اللفظُ في كلامه على رسم العرب، وهذا كقوله لمعاذ: "ثكلتك أمك"، ولحفصة: "عَقْرَى حَلْقَى"، ولم يُرِدْ به الدعاء؛ لأنه لو أراد الدعاء لكان كما قال، ومعلومٌ أنه لم يكن كما قال - صلى الله عليه وسلم -.

14 - باب إحياء الموات والشرب

اللام في (لَمَن) جوابُ القسم. يعني: من الناس مَن يَرقي رقيةَ باطلٍ ويأخذ عليها عوضًا، أما أنت فقد رقيت رقية حق، وهي كلامُ الله تعالى، وأخذت عليه أجرة، وهذه الأجرة حلالٌ لأنها عوضُ شيءٍ هو حقٌّ. و (رقية الباطل): أن يكون فيها باطلٌ، كذكر الجنِّ والكواكب، والاستعانة بالشمس والقمر والنجوم والجن. * * * 2201 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْطُوا الأجيرَ أجْرَهُ قبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ". 2202 - و"وأعْطُوا السَّائِلَ وانْ جاءَ على فَرَسٍ"، مرسل. قوله: "أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه"؛ يعني: لا يجوز تأخير أجر الأجير ولا تأخيرُ حقِّ ذي حقًّ إذا بلغ وقت أخذ حقه، ولا يجوز أيضًا ردُّ السائل وإن كان فارسًا؛ لأن الصدقة يجوز دفعها إلى الأغنياء والفقراء، ولأن الفارس ربما انقطع زادُه، واحتاج إلى القوت، ولم يكن له طريقٌ إلا السؤال. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 14 - باب إحياء المَوَاتِ والشّرْبِ (باب إحياء الموات) مِنَ الصِّحَاحِ: 2204 - وقال: "لا حِمَى إلَّا لله ورسُولِهِ".

قوله: "لا حمى إلا لله ولرسوله"، (الحِمى) بكسر الحاء: بمعنى المَحْمِي، وهو المحفوظ، ويجوز أن يكون مصدرًا ومعناه: الحفظ، والمراد من الحِمَى في الشرع: أن يحفظ موضعًا عن أن ترعاه ماشيةٌ ليكثر نباته، والحِمَى كان جائزًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، ولصالح المسلمين. ومع أنه يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يحمي لنفسه لا يحمي، وإنما حمى البقيع -وهو موضعٌ بالمدينة - لترعاه إبل الزكاة والجزية، وخيلُ جيش الغزاة، ولم يجوِّز لمن بعده من الخلفاء وغيرهم من الملوك أن يحموا لأنفسهم، وهل يجوز لهم أن يحموا لمصالح المسلمين من رعي إبل الزكاة والجزية وخيل الجيوش أم لا؟. فالأصح: أنه يجوز لهم. روى هذا الحديث الصَّعْبُ بن جَثَّامة، والله أعلم. * * * 2205 - وعن عُرْوَةَ قال: خاصَم الزُّبيرُ رجُلاً مِنَ الأنصارِ في شَريجٍ مِنَ الحَرَّةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اِسْقِ يا زُبيرُ ثمَّ أَرسِلِ الماءَ إلى جارِكَ". فقال الأنصاريُّ: أنْ كانَ ابن عمَّتِكَ؟ فتلوَّنَ وَجْهُهُ ثمَّ قال: "اِسْقِ يا زُبيرُ ثمَّ احْبسْ الماءَ حتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، ثمَّ أرسِلْ الماءَ إلى جارِكَ". فاسْتَوْعَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للزُّبير حقَّهُ في صَريح الحُكْمِ حينَ أحفَظَهُ الأنصاريُّ، وكانَ أشارَ عليهِما بأمرٍ لهُما فيهِ سَعَةٌ. قوله: "خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراجٍ من الحرة"، (الشِّراج) بكسر الشين: جمع شرج، وهو مسيلُ الماء من الحَرَّة - أي: من بين الحجارة - إلى الموضع السهل. يعني: كانت أرض الزبير أعلى من أرض الأنصاري، وكانت كلتا الأرضين

يُسقيان من ماءٍ جارٍ في وادٍ، فتنازع الزبير والأنصاري في تقديم السقي، فترافعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك" هذا دليلٌ على أن مَن كانت أرضه أعلى فهو أحق بسقي أرضه أولًا، ثم يرسل الماء إلى الأسفل. قوله: "فقال الأنصاري: إن كان ابن عمتك"؛ يعني: لأجل أن الزبير ابن عمتك حكمت له بأن يسقي أرضه قبلُ؟. "فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغضب فقال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر"، (الجَدْر) - بفتح الجيم وسكونِ الدال المهملة - والجدار بمعنًى واحد؛ يعني: إذا سقيتَ أرضك فاحبس الماء في أرضك حتى يصل الماء إلى أصل الجَدْر من كثرة امتلاء الأرض من الماء، ثم أرسل الماء ليجري إلى أرض جارك. قوله: "فاستوعب"؛ أي: أتم، (الاستيعاب): التعميم؛ يعني: أعطى حقَّ الزبير تامًا بصريح الحكم بأن قال: (حتى يرجع الماء إلى الجدر). قوله: "حين أَحْفَظَه"؛ أي: حين أغضبه. قوله: "وكان أشار عليهما"؛ يعني: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار عليهما؛ أي: قال للزبير قبل أن أَحْفَظَه الأنصاريُّ: أتم حق الزبير من السقي، وكان هذا القَدْرُ حقَّ الزبير قبل أن أغضب الأنصاريُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجوز أن يقال: لم يكن هذا القدر حق الزبير في أول الأمر، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير هذا القَدْرَ بعد ما أغضبه الأنصاري؛ لأن هذا الظن بالنبي كفرٌ. * * *

2206 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَمنعُوا فَضْلَ الماء لتَمنعُوا فَضْلَ الكَلأِ". قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلأ". وصورة هذا: أن يحفر أحد بئرًا في مَوَات على قصدِ أن يشرب ويسقيَ مواشيه منها، فلا يجوز له أن يمنع أحدًا، أو ماشيةً، أن يشرب من ماء تلك البئر؛ لأنه إذا منع الناس من شرب ذلك الماء، فلا ينزل أحدٌ قرب تلك البئر؛ لأنه إذا منع الناس ولم ترع ماشيته قرب ذلك الموضع، فيحرموا من كلأ مباحٍ في ذلك الموضع، فكان سبب منعهم من تلك البئر مانعًا لرعي الكلأ المباح، ولا يجوز لأحد أن يمنع أحدًا من رعي الكلأ المباح. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2207 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بيعِ فضلِ الماءِ. قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء"؛ يعني: عن بيع فضل الماء ممن أراد أن يشرب أو يسقي دابة، فأما إن أراد أن يسقي الزرع جاز لصاحب الماء أن لا يعطيه إلا بعوضٍ. * * * 2207/ م - وعنِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يُكَلِّمُهُمْ الله يومَ القيامةِ ولا ينظرُ إليهم: رجلٌ حَلفَ على سِلْعةٍ، لقد أَعْطَى بها أكثرَ مما أَعْطَى وهو كاذبٌ، ورجلٌ حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ بعدَ العصرِ لِيَقْتَطِعَ بها مالَ رجلٍ مُسلمٍ، ورجلٌ مَنَعَ فضلَ ماءٍ, فيقولُ الله تعالى: اليومَ أمنعُكَ فضلي كما مَنَعْتَ فضلَ ماءٍ لم تعملْ يداك".

قوله: "لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب"؛ يعني: جاء رجل ويشتري متاعه بمئة، فحلف أن رجلًا أعطاني قبل هذا بهذا المتاع مئة وعشرين، وهو كاذبٌ في هذا الكلام، وإنما يحلف ليغرَّ المشتري، وبظنَّ أن المتاع يساوي مئة وعشرين؛ ليشتريه بهذا القَدْر. قوله: "لم تعمل يداك"؛ يعني: منعت الناس عن شرب مائك مع أن الماء خرج بقدرتي لا بسعيك، فإني لو لم أُخرج الماء لم يَخرج بسعيك وإن بالغت في الحفر. * * * 2209 - وعن الحسنِ، عن سَمُرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَحاطَ حائِطًا على الأرضِ فهو له". قوله: "من أحاط حائطًا على الأرض فهو له"؛ يعني: من أدار حائطًا حول أرضٍ مواتٍ لحظيرةِ غنمٍ أو غيرِه صار ذلك الموضع ملكًا له. * * * 2210 - عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقطعَ للزُّبيرِ نخيلًا. قولها: "أقطع للزبير نخيلًا" يحتمل أن يكون معنى هذا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطعه مَواتًا ليغرس فيه النخل، ويحتمل أن يكون نخيلًا من أملاك الكفار، أو من مِلْكِ مسلمٍ مات ولم يخلَّف وارثًا، فوقع في بيت المال، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها الزبير؛ لأنه كان ممَّن يستحق مال بيت المال؛ لكونه مقاتلًا في سبيل الله. * * *

2211 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقطعَ للزُّبيرِ حُضْرَ فرسِه، فأجْرى فرسَه حتى قامَ، ثم رَمَى بسَوْطِه فقال: "أَعطُوه مِن حيثُ بلغَ السَّوْطُ". قوله: "أقطع للزبير حضر فرسه"؛ أي: بقَدْرِ عَدْوِ فرسه؛ يعني قال: أعطوه من الأرض قَدْرَ ما جرى فرسه، حتى وقف ولم يَقْدِر أن يمشي بعد ذلك، فرمى الزبير سوطه، فوقع سوطه في موضع، وقال: أعطني يا رسول الله إلى حيث وقع فيه سوطي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطوه إلى حيث وقع فيه سوطه". وهذا دليل على أنه يجوز للإمام أن يُقطع أحدًا مواتًا، فإذا أقطع أحدًا مواتًا، لا يملك ذلك الموات بمجرد الإقطاع، بل إنما يملكه بالإحياء. * * * 2213 - وعن أبيضَ بن حَمَّالٍ المَأرِبيِّ: أنَّه وفدَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستَقطَعَه المِلحَ الذي بمأرِبَ فأَقطعَه إيَّاهُ، فلمَّا ولَّى قال رَجُلٌ: يا رسولَ الله! إنما أَقطعْتَ له الماءَ العِدَّ، قال: "فرجَعَه منه"، قال: وسأله ماذا يُحمى من الأراكِ؟ قال: "ما لم تَنَلْه أخفاف الإبلِ". قوله: "وفد"؛ أي: أتى. "فاستقطعه"؛ أي: طلب منه إقطاع معدن الملح الذي بمأرب، وهو اسم ناحية. قوله: "إنما أقطعتَ له الماء العِدَّ"، (العِد) بكسر العين: المُهَيَّأ، و (الماء العد): الماء الدائم الذي لا ينقطع، كعينٍ أو نهر؛ يعني: المعدن الذي أقطعْتَه له شيءٌ مهيَّأٌ لا يحتاج إلى عمل وتعب، بل شيءٌ كان الناس ينتفعون بملحه، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه. وفي هذا: بيان أن المعدن الظاهر الذي مقصوده ظاهرٌ يشترك فيه الناس

من غير عملٍ لا يجوز إقطاعه، بل يُترك بحاله حتى ينتفع الناس به، وذلك كالملح والقير والنفط وغيرها. فأما المعدن الباطن الذي لا يظهر مقصوده إلا بالعمل، كمعدن الذهب والفضة والفيروزج وغيرها، يجوز إقطاعه أحدًا ليعمل فيه ويأخذ من فوائده. وفي هذا الحديث: بيانُ أن الحاكم إذا حكم بشيء ثم تبين له أن الحق في غيره، فعليه أن يرجع عن ذلك الحكم، ويحكم بالثاني؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع عن ذلك الإقطاع لمَّا أُخبر أن ذلك المعدن معدن ظاهر. قوله: "وسأله ماذا يحمى من الأراك؟، قال: ما لم تنله أخفاف الإبل"، (نال ينال): إذا أصاب، أراد بالحِمَى هنا: الإحياءُ، لا الحِمَى؛ لأنَّا قد بينا في أول هذا الباب أن الحمى لا يجوز لأحد لأجل نفسه. وفي هذا دليل: على أن الإحياء لا يجوز بقرب العمارة، وما يتعلق بعمارة البلد، وما يحتاج أهل البلد إليه من رعي مواشيهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما لم تنله أخفاف الإبل)؛ أي: ليكن الإحياءُ في موضعٍ بعيدٍ لا تصلُ إليه مواشي أهل البلد للمرعى. * * * 2214 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ شركاءُ في ثلاثٍ: في الماءِ، والكَلأِ، والنَّارِ". قوله: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار"؛ يعني: الماء الذي يجري في نهرٍ ليس ملكًا لأحد، أو في عينٍ مباحة، فالناسُ كلُّهم شركاءُ في هذا الماء، يأخذ كلُّ واحد ما شاء منه، وليس لأحد أن يمنع أحدًا منه، وكذلك الكلأ الذي نبت في مواتٍ.

وأما النار فقيل: المراد منه: حجر النار الذي يكون في المَوات, لا يُمنع أحدٌ من أخذه لتُقدح منه النار. وقيل: بل المراد منه النار؛ يعني: من أراد أن يستصبح مصباحًا من نار لا يمنعه صاحبُ النار؛ لأنه لا ينقص من عين النار شيء، فكذلك لو أراد أحد أن يجلس بنور تلك النار في موضعٍ هو ملكه، أو مواتٍ، وليس بملك صاحب النار، لا يجوز لصاحب النار أن يمنعه من الجلوس؛ لأنه لا ينقصه من عين تلك النار شيء، فأما له: أن يمنع مَن يأخذُ من خشبه أو جمره أو فحمه أو رماده شيئًا. روى هذا الحديث أبو خداش، عن رجل، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2215 - وعن أسمرَ بن مُضَرَّسٍ أنه قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فبايعتُه فقال: "مَن سَبقَ إلى ماء لم يسبقْهُ إليه مُسلمٌ فهوَ لهُ". قوله: "من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له"؛ يعني: من وصل إلى ماء مباحٍ أو غيره من المباحات كالحشيش والحطب والحجر وغيرها "فهو له"؛ يعني: ما أخذه يصير ملكًا له، وأما ما بقي في ذلك الموضع لا يصير ملكًا له. * * * 2216 - ورُوِيَ عن طاوسٍ مُرسَلًا أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن أَحيا مَواتًا مِنَ الأرضِ فهو له، وعادِيُّ الأرضِ للهِ ولرسولِهِ، ثم هي لكم مِنِّي". قوله: "وعاديُّ الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني" أراد بـ (عادي الأرض): التي بقيت من قوم عاد بعد ما أهلكهم الله؛ يعني: جميعُ ملك

السماوات والأرض لله تعالى، وأعطاني الله كل الأرض ليس لها مالك، ثم أعطيتكم إياها؛ يعني: أذنت لكم، وجوَّزتُ لكم أن تُحْيوا وتَعْمُروا كلَّ أرضٍ ليس لها مالك، ولم يَجْرِ عليها مِلْكُ مسلمٍ. * * * 2217 - ورُوِيَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقطعَ لعبدِ الله بن مسعودٍ الدُّورَ، وهي بينَ ظَهْرانيَ عِمارةِ الأنصارِ مِن المنازلِ والنخلِ، فقالَ بنو عبدِ بن زُهرَة: نَكَّبْ عنَّا ابن أُمِّ عبدٍ، فقالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلِمَ ابتَعَثَني الله إذًا؟ إنَّ الله لا يُقَدِّسُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ للضَّعيفِ فيهم حَقُّهُ". قولهم: "نكِّبْ"؛ أي: اصرف وادفع عنَّا. "ابن أم عبد"؛ يعني: عبد الله ابن مسعود؛ يعني: وصل إلينا ضررٌ بما أقطعت عبد الله بن مسعود؛ لأنه بين عماراتنا فاستردَّه عنه. "فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلم ابتعثني الله"؛ يعني: فلمَ بعثني الله إلى الخلق بالرسالة إذا لم أنصر الضعيف؛ يعني: ابن مسعود ضعيفٌ فقير، وأنتم أقوياء، فلا أترك معاونته ولا أستردُّ ما أعطيتُه لأجل رضاكم. قوله: "لا يقدِّس"؛ أي: لِمَا يظهر من الذنوب والآفات. ويحتمل أن يريد بقوله: (لا يقدس)؛ أي: لا يطهِّر، ولا يَعذر، ولا يصطفي لمحبته قومًا لا ينصرون الضعيف الذي بينهم. روى هذا الحديث [يحيى بن جعدة]. * * * 2218 - عن أبي صِرْمَةَ - رضي الله عنه - صاحبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن

ضارَّ أَضَرَّ الله بهِ، ومَن شاقَّ شَقَّ الله عليه". قوله: "من ضار أضر الله به"؛ أي: من أوصل ضررًا إلى مسلم أوصل الله إليه ضررًا. "ومن شاق شق الله عليه"، (الشق): تفريق الجماعة، وإيصالُ مشقةٍ إلى أحد؛ يعني: مَن فرق جماعة المسلمين فرق الله أمره، ومن أوصل مشقةً إلى أحد أوصل الله إليه مشقة. * * * 2219 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في سيلِ المهْزُور، أن يُمسَكَ حتى يبلغَ الكعبينِ، ثم يُرسلَ الأعلى على الأسفلِ. قوله: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل"، (سيل مهزور) بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة: وادي بني قريظة، كان يجري فيه الماء، ويسقي منه جماعةٌ مزارعهم، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي مَن أرضه الأعلى أولًا، حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل، وكذلك على هذا الترتيب إلى حيث يبلغ. * * * 2220 - عن سَمُرةَ بن جُندُبٍ - رضي الله عنه -: أنه كانت لهُ عَضَدٌ مِن نخلٍ في حائطِ رَجُلٍ من الأنصارِ، ومعَ الرَّجلِ أهلُه، وكان سَمُرَةُ - رضي الله عنه - يدخلُ عليه فيتأذَّى به، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك لهُ، فطلبَ إليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَبيعَهُ فأبى، فطلبَ أنْ يُناقلَه فأَبى، قال: "فهَبْهُ لهُ ولك كذا"، أمرًا قَدْ رَغَّبهُ فيهِ فأبى، فقال: أنتَ مُضارٌّ، فقالَ للأنصاري: "اِذهبْ فاقطَعْ نخلَهُ".

15 - باب العطايا

قوله: "كانت له عضد"؛ أي: صف. قوله: "فيتأذى به"؛ أي: فيتأذَّى الأنصاري بثمره إذا دخل لإصلاح نخيله، أو لقطف ثماره. قوله: "فطلب أن يناقله"؛ يعني: طلب منه أن يبادله؛ يعني: أن يترك نخيله في هذا البستان، ويأخذ نخيلاً مثله في موضع آخر. قوله: "ولك كذا"؛ أي: ولك كذا من الثواب من القصور والبساتين في الجنة. قوله: "أنت مضارٌّ"؛ يعني: فإذا لم تقبل هذه الأشياء، فلست تريد إلا إضرار الناس، ومَن يريد إضرار الناس جاز دفعُ ضرره، ودفعُ ضررك أن يُقطع شجرك. فبدليل هذا الحديث: مَن كان له شجرٌ في أرضِ أحدٍ، لا يجوز له دخول تلك الأرض إلا بإذن صاحب الأرض، فإن لم يرض صاحب الأرض بدخوله أرضَه يخيَّر صاحب الأرض بين أن يشتري شجره، أو يأخذ منه أجرة دخوله أرضَه، فإن لم يرض صاحب الشجر بواحدٍ من هذين الشيئين يُقطع شجره مجانًا إن غرسه غصبًا، أو أَجْرَى الماءُ بذْرَ صاحب هذا الشجر إلى أرض صاحب الأرض، فإن كان قد استعار صاحب الأرض أرضه ليغرس صاحب الشجر فيها شجره لم يجز أن يقطعه مجانًا, ولكن جاز له أن يقطعه ويعطي التفاوتَ بين ما كان الشجر قائمًا، وبين ما كان مقطوعًا. * * * 15 - باب العطايا (باب العطايا) قوله: "العطايا": جمع عطية، وهي ما يُعْطَى.

مِنَ الصِّحَاحِ: 2221 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ عمرَ - رضي الله عنه - أصابَ أرضًا بخيبرَ، فأَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ أرضًا بخيبرَ، لم أُصِبْ مالًا قطُّ أَنْفَسَ عندي منه، فما تَأْمُرُ به؟ قال: "إنْ شئتَ حَبَّسْتَ أصلَها وتصدَّقتَ بها"، فتصدَّقَ بها عمرُ: أنَّه لا يباعُ أصلُها ولا يوهَبُ ولا يورَثُ، وتصدَّقَ بها في الفقراءِ، وفي القُربى، وفي الرِّقابِ، وفي سبيل الله، وابن السَّبيلِ، والضَّيْفِ، لا جُناحَ على مَنْ وَليَها أنْ يأكلَ منها بالمعروفِ، ويُطعِمَ غيرَ مُتمَوِّلٍ. وقال ابن سيرينَ: غيرَ مُتأَثَّلٍ مالًا. "أصاب أرضًا بخيبر"؛ يعني: حصل له من أرض خيبر نصيبٌ بالغنيمة. كانت خيبر للكفار، فأخذها المسلمون، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين. قوله: "أنفَس" بفتح الفاء؛ أي: أعزَّ وأفضل. قوله: "فما تأمرني به"؛ يعني: أريد أن أجعله لله، فبأيَّ طريق أجعلُه لله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت حبَّست أصلها"، (التحبيس والتسبيل): جَعْلُ الشيء وَقْفًا. قوله: "وتصدقت"؛ أي: تجعله وقفًا لا يباع أصلها، وتتصدَّق بما حصل منها من الثمار والحبوب. "القربى" تأنيث أقرب، وهو أفعل التفضيل، يحتمل أن يريد بـ (القربى): أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أقرباء نفسه. "وفي الرقاب" وهي جمع رقبة، يحتمل أن يريد بالرقاب: المكاتَبين، وهم الذين اشتروا أنفسهم إلى أجلٍ ليكسبوا ويؤدُّوا قيمتهم؛ يعني: شَرَطَ عمر أن تؤدَّى ديون المكاتَبين من غلة هذا الوقف، ويحتمل أن يريد بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ}: أن يُشترى بغلة هذا الوقف عبيدٌ ويعتقوا. "في سبيل الله" أراد به: الغزاة؛ يعني: يُدفع من غلة هذا الوقف السلاح

والفرس والنفقة إلى الغزاة. "وابن السبيل" أراد به: المسافرين. "لا جناح"؛ أي: لا إثم "على من وليها"؛ أي: مَن قام بحفظها وإصلاحها جاز له أن يأكل منها ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة. "غير متموِّل": "قال محمَّد بن سيرين رحمه الله: معناه: غير متأثِّلٍ مالًا"، (التأثُّل): جعلُ شيء أصلًا، واتخاذُ رأس مالٍ؛ يعني: لا يجوز له أن يأخذ ذخيرةً لنفسه، بل لا يجوز له غيرُ القوت والكسوة. * * * 2223 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُمْرَى ميراثٌ لأهلِها". قوله: "العُمْرَى ميراث لأهلها" اعلم أن صورة العُمرى أن يقول رجل لآخر: أَعْمَرْتُك هذه الدار، أو: جعلتُها لك عمرَك، فإن اقتصر على هذا القَدْر ولم يقل: ولورثتك من بعدك، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد: أنه تكون له تلك الدار، ولورثته من بعده. وقال مالك: تكون له في حياته، وإذا مات ترجع إلى المُعْمِر - أي: المعطي - إن كان حيًا، وإلى ورثته إن كان ميتًا. فأما إذا قال: أعمرتُك هذه الدار، ولعقبك مِن بعدك، فإذا ذكر العَقِبَ تكون له في حياته، ولورثته من بعد موته، ولا ترجع إلى المعطي بالاتفاق، ولا بد من قبول المُعْمَر له كالهبة. * * *

2224 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى له ولعَقِبهِ، فإنها للذي أُعطِيَها, لا ترجعُ إلى الذي أَعطاها, لأنه أَعطَى عطاءً وقعَتْ فيهِ المواريثُ". قوله: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"؛ يعني: تفسير العمرى ملكًا للمدفوع إليه، فإذا صار ملكًا له يكون بعد موته لورثته كسائر أملاكه، ولا يرجع إلى الدافع كما لا يجوز الرجوع في الموهوب. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2226 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُعْمِرُوا ولا تُرقبوا، فمن أعْمرَ شيئًا أو أَرقَبَهُ فهو سبيلُ الميراثِ". قوله: "لا تعمروا ولا ترقبوا" هذا نهيُ إرشاد؛ يعني: لا تهبوا أموالكم مدةً، ثم تأخذونها، بل إذا وهبتم شيئًا زال عنكم، ولا يرجع إليكم سواءٌ كان بلفظ الهبة أو العمرى أو الرقبى، وصورة العمرى ذكرناها. فأما الرقبى: فهي أن يقول: أرقَبْتُك هذه الدار، فإن متَّ قبلي عادت إليَّ، وإن متُّ قبلك استقرتْ لك، فمذهب الشافعي وأحمد: جوازها، وشرط الرجوع فاسد، بل تكون للمدفوع إليه في حياته ولورثته مِن بعده. وقيل: الرقبى باطل. وقال أبو حنيفة: جائزة، وتكون للمدفوع إليه في حياته، وإذا مات تعود إلى الدافع إن كان حيًا، وإلى ورثته إن كان ميتًا. ولو قال: كسوتك هذا الثوب، فهو هبة تحتاج إلى قبول، ولو قال: أَخْدَمْتُك هذا العبد، أو حملتك [على] هذا الفرس، فقيل: هو هبة إذا قبل.

فصل

وقيل: بل عارية، ولمالكه أن يرجع فيه، فإن لم يرجع فيه حتى مات يعود إلى ورثته، ولا يجوز للمدفوع إليه بعد موت الدافع استعماله، وهذا القول هو الأظهر. * * * 2227 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُمْرى جائزةٌ لأهلِها، والرُّقبى جائزةٌ لأهلِها". قوله: "العمرى جائزة لأهلها"؛ يعني: العمرى جائزة لمن جعلت له العمرى، وتصير ملكًا له كما ذكرنا، وكذا الرُّقبى. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل) (من الصحاح): 2228 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عُرِضَ عليهِ ريحانٌ فلا يردَّه، فإنه خفيفُ المَحْمَلِ طيَّبُ الرِّيحِ". "من عرض عليه ريحان، فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الريح"؛ يعني: إذا أعطاكم أحدٌ شيئًا خفيف المنَّة فاقبلوه ولا تردُّوه، كيلا يتأذى المعطي، فإن في قبوله مَطْيبةٌ لقلبه، وليس عليكم به منةٌ؛ لأنه شيءٌ حقير. قوله: "خفيف المحمل"؛ أي: قليل المنة. وفي الحديث إشارة إلى حفظ قلوب الناس بقبول هداياهم، وأيضًا إشارة

إلى استحباب استعمال الطَّيب. * * * 2230 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العائدُ في هِبَتِه كالكلبِ يعودُ في قَيْئِهِ، ليسَ لنا مَثَلُ السَّوْءِ". قوله: "ليس لنا مثل السوء"؛ يعني: لا يجوز لأمتي أن تهب شيئًا ثم ترجعَ فيه، فيكون مَثَلُه كمَثَل كلبٍ يقيء ثم يأكله، وهذا مثلُ سوء، ولا يختر أحدٌ مَثَلَ السوء لنفسه. * * * 2231 - عن النُّعمانِ بن بشيرٍ: أنَّ أباهُ أتَى بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غُلامًا، فقال: "أَكُلَّ وَلَدِك نحلْتَ مثلَه؟ " قال: لا، قال: "فارجِعْه". ورُوِيَ أنَّه قال: "أَيَسُرُّكَ أنْ يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى، قال: "فلا إذًا". ويُروى أنه قال: "فاتَّقوا الله واعدِلُوا بينَ أولادِكم". ويُروى أنه قال: "لا أَشهدُ على جَوْرٍ". قوله: "أكلَّ ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه"، نحلت؛ أي: أعطيت. قوله: "فارْجِعْه"؛ أي: اسْتَرِدَّ الغلامَ الذي أعطيت هذا؛ لأنك لو أعطيت بعض أولادك ولم تعط الباقين؛ لوقع في خواطرهم لك بغضٌ، ووقع بين أولادك بغضٌ وعداوة، وما هو سبب حصول العداوة والبغض لا يجوز، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إرشادٌ وتنبيهٌ على ما هو أَوْلى وأقرب للتقوى. أما لو فعل أحدٌ هذا؛ يعني: أعطى بعض أولاده شيئًا دون الباقين، فقد صحَّت العطية، ولم يكن له إثم، وبهذا قال أكثر العلماء؛ لأنه يجوز للرجل أن يهب في صحته جميع ماله من أجنبيٍّ، فإذا صح من الأجنبي يصحُّ من الولد.

ولأن أبا بكر - رضي الله عنه - أعطى عائشة عشرين وسقًا من التمر دون سائر أولاده، وفضَّل عمر - رضي الله عنه - ابنه عاصمًا بإعطاء شيءٍ دون سائر أولاده. وقال طاوسٌ وداودُ وأحمدُ وإسحاقُ بن راهويه: لا يجوز تفضيل بعض أولاده على بعض، ولو فعل لم يَصِرْ ذلك الموهوبُ ملكَ ذلك الولد، بل يجب عليه التسوية بينهم، إلا أن طاوسًا وداود يقولان: يجب التسوية بين أولاده الذكور والإناث. وقال أحمد وإسحاق: يعطي أولاده للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أشهد على جور" عند مَن لا يجوَّزُ التفضيلَ بين الأولاد معناه: الظلم، وعند مَن يجوَّز معناه: الميل من بعض ولده إلى بعضٍ في الإعطاء، ومَن يجوِّز يكره. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2232 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لواهبٍ أنْ يرجعَ فيما وَهَبَ إلا الوالدَ مِن ولدِهِ". قوله: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد من ولده"؛ يعني: لا يجوز لمن وهب شيئًا أن يسترده إلا الوالد، فإنه يجوز له أن يسترد ما وهب من ولده؛ لأن مال ولده كمال نفسه، واسترداده ما وهب من ولد نوعُ سياسةٍ وتأديبٍ للابن، فإنه ربما يرى من الولد شيئًا غيرَ مرضيًّ، فيحتاج إلى تأديبه بمثل هذا، وربما يصير محتاجًا إلى ما وَهَب، واستردادُ ما وَهَب وصَرْفُه إلى نفسه أولى مِن أكل مال ولده، وفي معنى الوالد جميع الأصول كالأم والأجداد والجدات، وبهذا قال الشافعي ومالك. وقال أبو حنيفة: إن وهب الرجل شيئًا من ولده، أو من ذي رحمٍ مَحْرمٍ

له، لا يجوز الرجوع، وإن وهب من أجنبي جاز له الرجوع إذا لم يأخذ منه عوضًا، وهذا عكس مذهب الشافعي. روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 2234 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ أعرابيًا أهدَى لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْرَةً، فعَوَّضهُ منها ستَّ بَكْراتٍ فتَسَخَّطَ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فحمِدَ الله وأَثنَى عليه ثمَّ قال: "إنَّ فلانًا أَهْدى إليَّ ناقةً، فعوَّضْتُه منها ستَّ بَكْراتٍ فظَلَّ ساخِطًا! لقد هَمَمْتُ أنْ لا أَقبلَ هديةً إلا مِن قُرَشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثَقَفيٍّ، أو دَوْسيٍّ". قوله: "ست بكرات"، (البَكْرات): جمع بَكْرة، وهي الشابةُ من الإبل. قوله: "لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي"؛ يعني: لقد قصدت أن لا أقبل الهدية إلا من قومٍ في طباعهم كرمٌ لا يمنُّون (¬1) بما أعطوا, ولا يتوقَّعون عوضًا، بل يَعُدُّون ما أَعطوه منةً وفضلاً مِن قابل عطيتهم على أنفسهم. * * * 2235 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أُعطيَ عطاءً فوَجَدَ فليَجْزِ بِهِ، ومَنْ لم يَجِدْ فليُثْنِ، فإن مَنْ أَثنَى فقد شكرَ، ومَن كَتَمَ فقد كَفَرَ، ومَن تَحَلَّى بما لم يُعْطَ كانَ كَلابسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". قوله: "مَن أُعطي عطاء"؛ يعني: مَن أَحسن إليه أحدٌ إحسانًا من مالٍ أو فعلٍ أو قولٍ حسن، فليكن عارفًا حقَّه على نفسه، فإن وجد مالًا فليُحْسِن إليه بالمال، أو ليقابل فعله وقوله الحسن بمثله، فإن عجز عن مقابلته بالمال والفعل ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يمنعون".

"فليثن عليه"؛ أي: فليَدْعُ له بخير، وليشكر له، ولا يجوز له كتمانُ نعمته، فإنَّ مَن لم يشكر الناس لم يشكر الله. قوله: "فقد كفر"؛ أي: فقد ترك أداء حقه، وهو من كفران النعمة، لا من الكفر الذي هو نقيض الإيمان. قوله: "مَن تحلَّى"؛ أي: مَن تَزيَّنَ. "بما لم يعطَ" بفتح الطاء. "كلابس ثوبي زور" قصة هذا: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرةً، فهل عليَّ جُناحٌ أن أتشبَّع بما لم يعطني زوجي؟ فأجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث. معنى (تشبَّع): أظهر الشِّبَعَ، وليس فيه الشبعُ، والمراد به: إظهار ما لم يعطها زوجها. قوله: (كلابس ثوبي زور)؛ أي كان كمَن كذب كذبتين، أو أظهر شيئين كاذبين؛ أحد الكذبين تكلُّمها بقولها: أعطاني زوجي، والثاني: إظهارها أنَّ زوجي كان يحبني حبًا أشدَّ من حبه ضرتي؛ لأن هذا المعنى في ضمن قولها: أعطاني زوجي، موجود. قال الخطابي: كان في العرب رجلٌ يلبس ثوبين كثياب المعاريف؛ ليظنه الناس أنه رجل معروفٌ محترم؛ لأن المعاريف لا يكذبون، فلما رآه الناس على هذه الهيئة يعتمدون على قوله وشهادته، وهو في نفسه كان رجلًا كذابًا يشهد بشهادة الزور، ويقبل الناسُ شهادته لأجل تشبُّه نفسه بالصادقين، فكان ثوباه سببَ زوره، فسمَّي ذينك الثوبين ثوبي زور، فشبه هذه المرأة بذلك الرجل. * * *

2236 - وقال: "مَنْ صُنِعَ إليه مَعْروفٌ فقال لفاعِلِه: جزاكَ الله خيرًا، فقد أبلغَ في الثناءِ". قوله: "فقد أبلغ في الثناء"؛ يعني: فقد بالغ في أداء شكره. روت هذا الحديث أسماء بنت أبي بكر. * * * 2237 - وقال: "مَنْ لم يَشْكرِ النَّاسَ لم يشكرِ الله". قوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" هذا تحريضٌ على معرفة حقوق الناس؛ لأن المعطي اثنان: أحدهما: الرجل الذي أعطاك، والثاني: هو الله تعالى؛ لأن الله تعالى قدَّر إيصالَ الأرزاق إلى العباد بالأسباب والوسائط: يرزق بعضَهم بواسطة حرفة، وبعضهم بواسطة تجارة، وبعضهم بواسطة زراعة، وبعضهم بواسطة تصدُّقٍ عليه وإعطاءِ الزكاة والسؤال، وغير ذلك. فالمعطي في الظاهر هو الذي أعطاك شيئًا، وفي الحقيقة هو الله, فإذا كان المعطي لعطائك اثنين، فلو تركت شكر مَن أعطاك في الظاهر كره الله عدم أداء شكر ذلك الرجل منك، فلا يقبل الله شكرك إياه، أو لا يقبل كمال شكرك إياه؛ لأنك خالفت أمره بتركك شكرَ مَن أمرك بشكره. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2238 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ أتاهُ المهاجرونَ فقالوا: يا رسولَ الله! ما رأيْنا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مواساةً مِن قليلٍ، مِن قومٍ نزلْنا بينَ أَظْهُرِهم، لقد كَفَوْنا المؤنةَ وأشرَكُونا في

المَهْنَإ، حتى لقدْ خِفْنا أنْ يَذْهَبُوا بالأجرِ كلِّه، فقال: "لا، ما دَعَوْتُم الله لهم، وأَثنَيتُم عليهم"، صحيح. قوله: "لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ": المهنأ: كلُّ ما يأتيك من المال من غير تعب؛ يعني: أشركونا في ثمار نخيلهم، ودفعوا عنا مؤنة السقي والإصلاح، سقوا النخيل وأصلحوها بأنفسهم، وأعطونا نصف التمر. قولهم: "حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله"؛ يعني: خشينا أن يعطيهم الله تعالى ما حصل لنا من أجر الهجرة من مكة إلى المدينة، ومن أجر عباداتنا كلها، من كثرة إحسانهم إلينا. قوله: "لا، ما دعوتم الله لهم"؛ يعني: لا يكون أجركم كله لهم ما دمتم تدعون لهم بالخير، فإن دعاءكم لهم عوضٌ عما دفعوا إليكم من المال. * * * 2239 - وعن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَهادَوْا فإنَّ الهدِيَّةَ تَذهبُ بالضَّغائنِ". 2240 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَهادَوا فإن الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدرِ، ولا تحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو بشقَّ فِرْسَنِ شاةٍ". قوله: "تهادوا"؛ أي: ليعط بعضكم بعضًا الهدية، فإن الهدية تحصل في قلب المدفوع إليه محبةَ الدافع، وتزيل عن قلبه بغضه وعداوته. "الضغائن": جمع ضغينة، وهي الحقد الشديد. قوله: "وحر الصدر"؛ أي: الغل والحقد. قوله: "لا تحقرن جارة لجارتها, ولو بشقِّ فِرْسِنِ شاةٍ"، (الفِرْسِن): ظِلْفُ

الشاة؛ يعني: لتُعْطِ كلُّ جارة جارتَها نصيبًا مما عندها من الطعام، وإن كان شيئًا قليلًا. * * * 2241 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ لا تُردُّ: الوَسائدُ، والدُّهنُ، واللَّبن"، غريب. قيل: أرادَ بالدُّهنِ: الطِّيبَ. قوله: "ثلاث لا تُردُّ: الوسائد والدهن واللبن"؛ يعني: إذا أعطاكم أحدٌ وسادة لتجلسوا عليها أو تتكئوا عليها فاقبلوها، وكذلك إذا أعطاكم أحد طيبًا أو لبنًا فاقبلوه؛ لأن المنة فيهن قليل، ولأنكم لو لم تقبلوا هذه الأشياء يتأذى المعطي منكم، ويحصل بينكم بغض وعداوة. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويُثيب عليها؛ أي: يعطي عوضها. أما قبول هديته؛ فلتطيبَ قلوب المسلمين، وأما دفعُ عوضها إليهم، فكيلا يكون لأحد عليه منةٌ ونعمة. * * * 2242 - عن أبي عثمانَ النَّهديِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُعطِيَ أحدُكم الرَّيْحانَ فلا يرُدَّه، فإنه خرجَ مِن الجنةِ"، مرسَلٌ. قوله: "إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يردَّه، فإنه خرج من الجنة"، (الريحان): كلُّ نبتٍ له رائحة طيبة. "خرج من الجنة"؛ يعني: أصل الطيب في الجنة، وخلق الله الطيب في الدنيا ليتذكر العباد بطيب الدنيا طيبَ الآخرة، ويرغبوا في الجنة، ويزيدوا في الأعمال الصالحة؛ ليصلوا بها إلى الجنة، وليس المراد أن ريحان الدنيا

16 - باب اللقطة

خرج عينه من الجنة. * * * 16 - باب اللُّقَطَة (باب اللقطة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2243 - عن زيدِ بن خالدٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهُ عن اللُّقَطَةِ؟ فقال: "اِعْرِفْ عِفاصَها ووِكاءَها ثم عَرِّفْها سَنَةً، فإنْ جاءَ صاحبُها وإلا فَشَأنَك بها"، قال: فَضالَّةُ الغَنَم؟ قال: "هي لكَ أَوْ لأخيكَ أو للذئبِ"، قال: فَضالَّةُ الإِبلِ؟ "قال: مالَكَ ولها؟ معَها سِقاؤُها وحِذاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشجرَ حتى يَلقاها ربُّها". وفي رِوايةٍ: "ثم استَنْفِقْ، فإنْ جاءَ ربُّها فأدِّها إليه". "اعرف عفاصها ووكاءَها"، (العفاص): جلدٌ أو غيره يُستر به رأس القارورة أو غيرها، (الوكاء): الحبل الذي يشد به شيء؛ يعني: تأمَّل وانظر إلى ظرف ما وجدت من اللقطة، وإلى جميع صفاتها وقَدْرِها وجنسها، حتى لو جاء أحدٌ ويصفها ويطلبها منك، تعرف أنه صادق في وصفها أو كاذب. "ثم عرفها"؛ أي: نادِ عليها في الأسواق والمحافل، واذكر جنسها في التعريف، ولا تذكر جميع أوصافها كيلا يدَّعيها كلُّ أحد، ففي الأسبوع الأول عرِّفها في كل يوم مرتين، مرةً في أول النهار، ومرةً في آخر النهار، وفي الأسبوع الثاني في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، فإن جاء بعد السنة مالكها رُدَّها إليه، وإن لم يجئ صاحبها مَلَكَها الملتقط غنيًا كان أو فقيرًا في قول الشافعي.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز للغني أن يتملكها بعد السنة، بل يتصدق بها. قوله: "فشأنك بها"؛ أي: فالزم شأنك؛ يعني: افعل بها ما شئت بعد السنة، إن شئت تملَّكْها، وإن شئت لا تتملَّكْها، بل اتركها لتكون في يدك أمانة ليجيء صاحبها. قوله: "فضالة الغنم"؛ يعني: ما حكم غنم وجد في صحراء؟. فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها: "لك، أو لأخيك، أو للذئب"؛ يعني: إن أخذتها فهي لك، وإن لم تأخذها يأخذها رجل آخر، وإن تركها الناس يأخذها الذئب؛ يعني: لا يجوز إضاعتها حتى يأخذها الذئب، بل خذوها، فإذا أخذتم، فإن شئتم فكلوها، والقيمة في ذمتكم إلى أن يجيء صاحبها، وإن شئتم فاحفظوها وأنفقوا عليها بالتبرع، ويجوز بيعها وحفظ ثمنها، وتعرِّفُها؛ أي: تعرف الغنم سنة، ثم يتملك ثمنها بعد السنة. فإن أكلها فهل يجب عليه تعريفها، أم لا يعرفها، بل يسكت فإن جاء صاحبها يدفع قيمتها إليه؟ ففيه وجهان: أصحهما: إن كان قيمتها أكثر من دينار أحمر يجب التعريف، وإن كان قَدْرَ دينار أو أقل لا يجب. والغنم وكلُّ ما لا يقدر على دفع صغار السباع عن نفسه إذا وُجد في الصحراء هذا حكمه، وإن وجد في بلدٍ يلزمه أن يعرِّفها سنة كسائر اللقطات، وإن وَجد حيوانًا يقدر على دفع صغار السباع عن نفسه كالإبل والبقر والخيل والحمار، فإن وجد في صحراء لا يجوز لأحد أن يأخذها، بل يتركها إلى أن يأتيها صاحبها، فإن أخذها الإمام ليحفظها لصاحبها جاز، ولا يجوز لغيره أن يأخذه إلا (¬1) للحفظ، ولا للتملك، وإن وجد في بلد جاز أخذها وتعريفها سنة، ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: "لا".

ثم يتملكها بعد السنة. قوله: "ما لك ولها؟ معها سِقاؤها" (ما) في (ما لك) للاستفهام أو للنفي كلاهما جائز، وأراد بسقائها: معدتها؛ يعني: الإبل تقدر على دفع صغار السباع عن نفسها، وتقدر أن تَرِدَ الماء، وإذا شربت الماء تصبر عن الماء مدة، فلا يجوز لأحد أن يأخذها، بل يتركها إلى أن يأتيها صاحبها؛ لأن العادة جارية بإرسال الحيوان الكبير في الصحراء يرتع ليأتيها صاحبها، فلا تكون ضالة. قوله: "ثم استنفق" هذه الرواية متصلةٌ بقوله: (فاعرف عفاصها ووكائها، ثم عرِّفها سنة، ثم استنفق، فإن جاء ربها فأدها إليه). ومعنى قوله: "ثم استنفق"؛ يعني: بعدما عرَّفْتَها سنةً جاز لك أن تصرفها إلى نفسك، فتأخذها بالملكية. * * * 2244 - وقال: "مَن آوَى ضالَّة فهو ضالٌ، ما لم يُعَرِّفْها". قوله: "مَن آوى ضالةً فهو ضالٌّ"؛ يعني: مَن أخذ لقطةً ولم يعرِّفها وتملَّكَها وتصرَّفَ فيها قبل التعريف فهو ضال؛ أي: فقد مال عن الحق إلى الباطل، وصار عاصيًا. روى هذا الحديث زيد بن خالد. * * * 2245 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عثمانَ التَّيمِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن لُقَطَةِ الحاجِّ. قوله: "نهى عن لقطة الحاج"؛ يعني: لا يجوز التقاط لقطة حرم مكة

للتملُّك بعد التعريف سنة، بل يلزم على الملتقط أن يحفظها أبدًا لمالكها. وقال أبو حنيفة: لا فرق بين لقط الحرم وغيرها من البلاد. * * * من الحِسان: 2246 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه سُئلَ عن الثمَرِ المُعلَّقِ، فقال: "مَنْ أصابَ بفيهِ مِن ذي حاجةٍ غيرَ متَّخِذٍ خُبنةً فلا شيءَ عليهِ، ومَنْ خرجَ بشيءٍ منهُ فعليهِ غرامةُ مِثْلَيْهِ والعقوبةُ، ومَنْ سرقَ منه شيئًا بعدَ أن يُؤْوِيَه الجَرِينُ، فبلغَ ثمنَ المِجَنِّ فعليهِ القطعُ" - وذكرَ في ضالَّةِ الإبلِ والغنم كما ذكرَ غيرُهُ - قال: وسُئِلَ عن اللُّقَطَةِ فقال: "ما كانَ منها في الطريقِ المِيتاءِ والقريةِ الجامعةِ فعرِّفْها سنةً، فإنْ جاءَ صاحبُها فادفَعْها إليه، وإنْ لم يأتِ فهوَ لكَ، وما كانَ في الخَرابِ العاديِّ ففيهِ وفي الرِّكازِ الخُمُسُ". قوله: "سئل عن ثمر المعلق" ذكر هذا الحديث في آخر (باب الغصب). قوله: "ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة" تأويل (غرامة مثليه): أنه زجرٌ ووعيد، وإلا الشيءُ المتلَفُ لا يضمن بقيمته مرتين، بل مرة واحدة. وحكم عمر بن الخطاب بإيجاب غرامة مثليه عملًا بظاهر الحديث، وبه قال أحمد. وقيل: قد كان في أول الإسلام إيجابُ غرامة مثلي ثمن المتلَف تغليظًا، ثم نُسخ وبقي إيجابُ غرامةِ مثلِ قيمته مرة واحدة. قوله: "ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين"؛ يعني: بعد أن جُمع التمر في موضع، و (الجرين): الموضع الذي يجمع فيه التمر لييبس؛ يعني: إذا

جمع التمر صار في الحرز، فمن سرق منه شيئًا بلغ ربع دينار وجب عليه القطع. قوله: "إذا بلغ قيمة المجن": وإنما قيَّد بقيمة المجن [لأنه] كان يساوي في ذلك الوقت ربع دينار، وتخصيص القطع بالسرقة عن الجرين إنما كان لأن الثمار كانت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرها غير محروز؛ لأنه قلما كان للبساتين حائطٌ أو حافظ، فإذا لم يكن محرزًا لم يجب القطع فيمن سرق منها شيئًا، أما لو كان بستان له حائط أو حافظ؛ كان محروزًا، فيجب القطع منها مَن سرق منها ما يساوي ربع دينار فصاعدًا. قوله: "وسئل عن اللقطة فقال: ما كان منها في الطريق المِيْتَاء والقرية الجامعة فعرِّفْها سنة، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهو لك، وما كان في الخراب العادي ففيه وفي الركاز الخمس" هذا من تمام الحديث المتقدم، و (الطريق المِيتاء): الطريق العام، ومجتمعُ الطريق؛ يعني: مَن وجد لقطة في طريقٍ يمرُّ عليها الناس أو في قرية أو بلد أو موضعٍ يمكن أن يوجد صاحبها؛ يعرِّفُ سنة، فإن لم يأت صاحبها يتملكها من (¬1) وجدها. قوله: "وما كان في الخراب العادي، ففيه وفي الركاز الخمس" أراد بهذا أن ما يُعْرَفُ كونُه من مالِ الكفار العاديين بأن يوجد فيه أثرٌ يدل على أنه من أموالهم يجب فيه الخمس، سواء كان ذهبًا أو فضة أو غيرهما من الأواني والأقمشة. وأراد بـ (الركاز): الذهب والفضة خاصة. وفيما كان غير الذهب والفضة خاصة من أقمشة الكفار يوجد في الأرض خلافٌ مذكورٌ في الفقه: أنه هل يجب فيه الخمس أم لا؟. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "ما".

2247 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وجدَ دينارًا فأتَى بهِ فاطمةَ فسألَتْ عنهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا رزقُ الله" فأكلَ منهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكلَ عليٌّ وفاطمةُ - رضي الله عنهما -، فلمَّا كانَ بعدَ ذلكَ أتتْ امرأةٌ تَنْشُدُ الدِّينار، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عليُّ! أَدِّ الدينارَ". قوله: "فسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: سأل عليٌّ - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيَّ شيء أفعل بهذا الدينار؟ فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يشتري به طعامًا، فاشترى به طعامًا، فأكل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمره بإمساكه وتعريفه سنة. وهذا يدل على أن اللقطة إذا كانت دينارًا أحمر أو أقلَّ لا يجب تعريفه سنة، بل يعرَّفه في ذلك المكان في تلك اللحظة بأن ينادي مرةً إن كان هناك أحد، ويقول: من ضاع منه شيء، فإن لم يجد صاحبها جاز له أكلها وصرفُها بما شاء، فإن جاء بعد ذلك صاحبها يجب ردُّ بدله إليه، وإن لم يأت صاحبها لم يكن عليه إثم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: "هذا رزق الله". * * * 2248 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضالَّةُ المُسلمِ حَرقُ النَّارِ". قوله: "ضالة المسلم حرق النار"، (الحرْق) بجزم الراء: لهبُ النار واشتعاله؛ يعني: ضالة المسلم سبب اشتعال نار جهنم بواجدها إن تملَّكها واجدُها وكتمها ولم يعرَّفها، أو التقط لقطةً لا يجوز التقاطها، مثلَ ضالة الإبل في الصحراء، فإنه لا يجوز أخذها. روى هذا الحديث الحسن، عن مطرف بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

17 - باب الفرائض

2250 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: رخَّصَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العَصا والسَّوطِ والحَبلِ وأَشباهِهِ، يلتقِطُه الرَّجلُ ينتفعُ بهِ. قوله: "رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به"؛ يعني: هذه الأشياء وأمثالها مما كان حقيرًا يُعلم أن صاحبه لا يطلبه زمانًا كثيرًا، فإذا وجدها أحد نظر إلى حوله، فإن وجد هناك أحدًا، يخبره بما وجد، فإن قال: لي، فليدفعه إليه، وإن قال: ليس لي، أو نظر هناك ولم يجد ثَمَّ أحدًا، فليأخذ ذلك الشيء الحقير، ومِلْكُه من غير تعريف، فإن جاء صاحبه بعد ذلك لزمه ردُّه إليه، أو ردُّ قيمته. * * * 2251 - عن المِقْدامِ بن مَعْدِ يْكَرِبَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا لا يحِلُّ ذو نابٍ من السَّباعِ، ولا الحمارُ الأهليُّ، ولا اللُّقطةُ مِن مالِ مُعاهدٍ إلا أَنْ يستغنيَ عنها صاحبُها". قوله: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع ... " إلى آخر الحديث، قد ذكر بحث هذا الحديث في (باب الاعتصام) في الحديث الثالث من الحسان. * * * 17 - باب الفرائضِ (باب الفرائض) مِنَ الصَّحَاحِ: 2252 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أَوْلى بالمؤمنينَ مِنْ

أنفسِهم، فمَن ماتَ وعليه دَيْنٌ ولم يتركْ وفاءً فعليْنا قضاؤُه، ومَنْ تركَ مالًا فلِوَرَثتِهِ". وفي روايةٍ: "مَنْ تركَ دَيْنًا أو ضَياعًا فليَأتِني فأنا مَوْلاهُ". وفي روايةٍ: "مَن تركَ مالًا فلِوَررثَتِهِ، ومَن تَرَكَ كَلًّا فإلينا". قوله: "ومن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه" هذا تبرعٌ منه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجب أداء دين الميت إلا من تركته، فإن لم يكن له تركةٌ لم يجب قضاؤه، لا من بيت المال، ولا من مال المسلمين، بل يستحب. قوله: "ومن ترك دينًا أو ضياعًا، فليأتني فأنا مولاه"، (الضِّياع) بكسر الضاد: جمع ضائع، كالجياع جمع جائع، و (الضَّياع) بفتح الضاد: مصدرٌ يقع على الجمع وغيره. يعني: مَن مات وترك مَن احتاج إلى النفقة والكسوة والتربية كالأطفال والزَّمْنَى، ولم يكن له مال يصرف على عياله، وجب نفقتهم وكسوتهم في بيت المال. قوله: "ومن ترك كلًا فإلينا"، (الكَلُّ): العيال؛ يعني: مَن ترك عيالًا فإلينا تربيتهم، وهذا مِثْلُ ما تقدم. * * * 2253 - وقال: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقيَ فهوَ لأوْلى رجلٍ ذَكَرٍ". قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"؛ يعني: يقدَّم نصيب صاحب الفرض على نصيب العصبة، فإذا أُعطي صاحب الفرض فرضَه، فما بقي من سهام أصحاب الفروض دفع إلى أولى رجلٍ؛ أي: أقرب

رجل من عصبات الميت، وأصحاب الفروض والعصبات مذكورةٌ في كتاب الفرائض في الفقه، وليس هذا موضع شرحه. قوله: "فلأولى رجل ذكر" قد ذُكِرَ الذَّكَرُ بعد الرجل احترازًا عن الخنثى المُشْكِلِ، فإنه لا يُجعل عصبةً ولا صاحبَ فرضٍ جزمًا، بل يُعْطَى القَدْرَ المتيقَّنَ، وهو القَدْرُ الأقل من تقدير الذكورة والأنوثة، ويحتمل أن المراد بالذَّكَر بعد الرجل بيانُ أن العصبة ترث صغيرًا كان أو كبيرًا إذا كان ذكرًا، بخلاف عادة الجاهلية، فإنهم لا يعطون الميراث مَن هو ضعيفًا، بل يعطون مَن هو في حدِّ الرجولية والمحاربة. روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 2254 - وقال: "لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافرَ، ولا الكافِرُ المُسلِمَ". قوله: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" اتفق أهل العلم على العمل بهذا الحديث، إلا معاذَ بن جبلٍ، ومعاويةَ بن أبي سفيان، ومن الفقهاء إسحاق بن راهويه؛ فإنهم قالوا: يرث المسلمُ الكافرَ، ولا يرث الكافرُ المسلمَ، والمرتدُّ لا يرث أحدًا، ولا يرثه أحدٌ، لا من المسلمين، ولا من الكفار، ومالُه في بيت المال. قال أبو حنيفة: ما اكتسبه في الإسلام لورثته المسلمين، وما اكتسبه في الكفر لبيت المال. روى هذا الحديث أسامة بن زيد. * * * 2255 - وقال: "مَوْلى القومِ مِن أنفسِهم".

قوله: "مولى القوم من أنفسهم"، (المولى): يقع في اللغة على المُعْتِق وعلى العتيق، وفسر العلماء المولى في هذا الحديث بالمُعْتِق؛ يعني: المُعْتِقُ يرثُ العتيقَ إذا لم يكن للعتيق أحدٌ من عصباته النَّسَبية، ولا يرث العتيقُ المُعْتِقَ إلا عند طاوس. روى هذا الحديث أنس بن مالك. * * * 2256 - وقال: "إنَّما الوَلاءُ لِمَن أَعتقَ". قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"؛ يعني: مَن أعتق مملوكًا، أو عَتَقَ عليه بأن اشترى أحدًا من أصوله أو فروعه، أو أدى مكاتَبُه دينَ الكتابة فعتق عليه، يكون ولاؤه له، سواء كان المُعْتِقُ رجلًا أو امرأة. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 2257 - وقال: "ابن أختِ القومِ منهم". قوله: "ابن أخت القوم منهم" اعلم أن ابن الأخت من ذوي الأرحام، ولا يرث ذوو الأرحام إلا عند أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله. وإنما يرث ذوو الأرحام إذا لم يكن للميت عصبةٌ، ولا ذو فرضٍ. وذوو الأرحام عشرة أصناف: ولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخ، وبنت العم، والخال، والخالة، وأب الأم، والعم لأم، والعمة، وولد الأخ من الأم ومن أدلى بهم، وأَوْلاهم أولاد البنت، ثم أولاد الأخت وبنات الأخ، ثم العم للأم، والعمات، والأخوال، والخالات.

وإذا استوى اثنان منهم في درجة، فأَولاهم بالميراث من هو أقرب إلى صاحب فرض أو عصبة، وأب الأم أولى من ولد الأخ من الأم، ومن بنات الأخ وأولاد الأخت. روى هذا الحديث - أعني حديث: "ابن أخت القوم منهم" - أنس. * * * 2258 - وقال: "الخالةُ بمنزِلَةِ الأُمِّ". قوله: "الخالة بمنزلة الأم"، (الخالة): من ذوي الأرحام، وقد ذكرنا بحثهم. روى هذا الحديث ابن مسعود. * * * مِنَ الحِسَان: 2259 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارثُ أهلُ مِلَّتينِ شَتَّى". "لا يتوارث أهل ملتين شتى"؛ أي: متفرقة، ووزنه: فَعْلَى؛ يعني: لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ. روى هذا الحديث ابن عمرو. * * * 2260 - وقال: "القاتِلُ لا يِرثُ". قوله: "القاتل لا يرث" روى هذا الحديث أبو هريرة. ومعناه: أن القاتل لا يرث من المقتول، والعمل على هذا الحديث عند العلماء جميعهم، سواءٌ كان القتل عمدًا أو خطأً، من صبيًّ أو مجنون، أو غيرهما.

وقال مالك: إذا كان القتل خطأً لا يمنع الميراث. وقال أبو حنيفة: قتل الصبي لا يمنع من الميراث. * * * 2261 - عن بُرَيدةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعلَ للجَدَّةِ السُّدسَ إذا لم تَكُنْ دونَها أمُّ. قوله: "للجدة السدس إذا لم يكن دونها أمٌّ"؛ يعني: إذا لم يكن هناك أم الميت، ترث الجدة السدس، فإن كان هناك أم لا ترث الجدة شيئًا: لا أمُّ الأم، ولا أمُّ الأب، ولا أمُّ الجد. * * * 2262 - وقال: "إذا استهلَّ الصبيُّ صُلِّيَ عليهِ وَوُرِّثَ". قوله: "إذا استهل الصبي صلي عليه وورث"؛ يعني: إذا مات رجل وخلَّف امرأة حاملًا، وقف نصيب الحمل من مال أبيه حتى ينفصل من أمه، فإن انفصل ولم يظهر منه شيء من علامات الحياة، يكون نصيبه الموقوف لورثة الميت وقتَ موته: إن كان صاحبَ فرضٍ يعطى فرضه كاملًا، وإن كان عصبة يعطى ما بقي من فرض أصحاب الفروض، ولا يعطى الولد المنفصل ميتًا من الميراث شيئًا. وإن انفصل واستهل - أي: رفع صوته بالبكاء - أو ظهر منه علامةٌ تدلُّ على حياته يقينًا، صلِّي عليه، ودُفع إليه نصيبه الموقوفُ من مال أبيه، ثم إذا مات بعد أن عُرفت حياته انتقل نصيبه إلى ورثته الموجودين وقت موته بعد استهلاله، وقد بينَّا كيفية قسمة ميراث الحمل في أول كتابنا المسمى بـ: "غاية المقاصد في علم الفرائض".

روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2264 - وقال: "أنا مَولى مَن لا مَولى لهُ، أَرِثُ مالَه وأَعْقِلُ له وأَفُكُّ عانَهُ، والخالُ وارِثُ مَن لا وارِثَ له، يرثُ مالَه ويعقِلُ عنه ويفكُّ عانَهُ". قوله: "أنا مولى مَن لا مولى له، أرثُ ماله، وأعقل له، وأفك عانيه، والخال وارث من لا وارث له، يرث ماله، ويعقل عنه، ويفك عانيه"؛ يعني: مَن مات ولا وارث له يكون ماله لبيت المال، وإذا جنى أحد على أحد جنايةً خطأ، وليس للجاني عصبةٌ، يجب ما عليه من الدية على بيت المال؛ لأن بيت المال كعصبة الرجل، فكما أن بيت المال يرث مالَ مَن مات ولا وارث له، فكذلك يعقل عنه إذا جنى جناية. ومعنى يعقل: يؤدي عَقْلَه؛ أي: الدية اللازمةَ عليه. قوله: "ويفك عانيه"، وفي رواية: "ويفك عانه"، وأصله: عانيَه أيضًا، فحذفت الياء في هذه الرواية. ومعنى العاني: الأسير، ومعنى الفك: الإعتاق؛ أي: أُعتق ذمته المشغولة بالدية؛ يعني: أؤدِّي الدية عنه، وهذا شرح (أعقل له). وفي "معالم الخطابي" و"شرح السنة" روايتان: في رواية: "وأفك عانيه"، وليس في هذه الرواية: "وأعقل له، وأفك عانيه"، فإذا كان كذلك؛ فقد علمنا أن (أعقل له) شرح: (وأفك عانيه) هكذا فسر الخطابي. قوله: "والخال وارث من لا وارث له ... " إلى آخره، (الخال): من ذوي الأرحام، فعلى قولِ توريث ذوي الأرحام يرث الخال ابن أخته إذا مات ولم يخلِّف عصبةً، وإذا جنى ابن أخته ولم يكن له عصبةٌ، يؤدِّي الخال الدية عنه كالعصبة.

روى هذا الحديث المقدام الكندي. * * * 2265 - وقال: "تَحوزُ المرأةُ ثلاثَةَ مواريثَ: عَتيقَها، ولَقيطَها، وولدَها الذي لا عنت عنه". قوله: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عنه"، (تحوز)؛ أي: تجمع؛ يعني: المرأة إذا عتقت عبدًا، فإذا مات العبد العتيق ولم يكن له وارثٌ، يرث مُعْتِقُه مالَه، وإذا لاعن الرجل ولده انتفى الولد عنه ووجب الحدُّ على المرأة، فإذا لاعنت المرأة سقط عنها الحد، ولكن لا يثبت نسبُ الولد لأبيه بلعانه، بل يبقى النسب منفيًا عن أبيه، فإذا مات الولد لا يرثه أبوه، ولكن ترثه أمه فرضها؛ لأنه لا شك في أن الولد انفصل منها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولقيطها" لا يرث الملتقِطُ من اللقيط، إلا عند إسحاق ابن راهويه. روى هذا الحديث واثلة بن الأسقع. * * * 2266 - عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ عاهَرَ بحُرَّةٍ أو أَمَةٍ، فالولدُ ولدُ زِنا لا يَرِثُ ولا يُورَثُ". قوله: "عاهر"؛ أي: زنى. قوله: "لا يرث ولا يورث"؛ يعني: لا يرث ذلك الولد من الواطئ ولا من أقاربه، ولا يرث الواطئ ولا أقاربه من ذلك الولد؛ لأنه أجنبي من الواطئ وإن كان من نطفته.

وأما الأم: ترث من ذلك الولد، ويرث الولد منها. * * * 2267 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ مَولى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ماتَ ولم يَدَعْ ولدًا ولا حَميمًا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَعطُوا ميراثَه رجلًا مِن أهلِ قريتِهِ". قولها: "أن مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يدع ولدًا ولا حميمًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعطوا ميراثه رجلًا من أهل قريته"، (المولى) ها هنا: العتيق. "ولم يدع"؛ أي: ولم يترك. "حميمًا"؛ أي: قريبًا. واعلم أن العتيق إذا مات ولم يخلِّف صاحبَ فرض ولا عصبةً من نسبه، فمالُه كله لمُعْتِقِه، وإن خلَّف صاحبَ فرض، فما بقي بعد فرضِ صاحب الفرض فلِمُعْتِقِه، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفع مال عتيقه إلى رجلٍ من قريته تفضُّلًا وتبرُّعًا منه على أهل قرية عتيقه. * * * 2268 - وعن بُرَيدَةَ قال: ماتَ رجلٌ مِن خُزاعَةَ فأُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بميراثِهِ فقال: اِلتمسُوا لهُ وارثًا، أو ذا رَحمٍ، فَلَمْ يَجِدُوا فقال: "أعطُوه الكُبْرَ مِنْ خُزاعةَ"، ويُروَى: "انظُروا أكبرَ رجلٍ مِن خُزاعة". قوله: "التمسوا"؛ أي: اطلبوا. قوله: "أو ذا رحم"؛ يعني: أو قريبًا له غيرَ أصحاب الفروض والتعصيب، وهذا (¬1) على قول مَن يعطي ذوي الأرحام الميراثَ ظاهرٌ، وأما على قول مَن لم ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "وهذا يدل"، والصواب المثبت.

يعط ذوي الأرحام الميراث؛ فتأويله: أن ماله انتقل إلى بيت مال المسلمين، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاكمًا يصرف مال بيت المال فيما رأى فيه المصلحة، فرأى ها هنا صرف مال الميت في ذوي الأرحام تبرعًا منه عليهم. قوله: "أعطوه الكُبر من خزاعة"، (الكُبر) بضم الكاف وسكون الباء: بمعنى الأكبر، ومعناه هنا: سيد القوم ورئيسهم، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفع مال الميت إلى سيد القوم ومقتداهم تبرعًا منه - صلى الله عليه وسلم - وتفضلًا عليه، لا بطريق الميراث. * * * 2269 - وعن عليًّ - رضي الله عنه - قال: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أعيانَ بني الأُمَّ يتوارثونَ دونَ بني العَلَّاتِ، الرجلُ يرثُ أخاهُ لأَبيهِ وأمِّهِ، دونَ أخيهِ لأبيهِ. قوله: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعيان بني الأم والأب يتوارثون دون بني العَلات" اعلم أن معنى (الأعيان): الإخوة والأخوات من الأب والأم، و (العَلَّات): الإخوة والأخوات من الأب، و (الأخياف): الإخوة والأخوات من الأم، فإذا مات رجل وترك أخًا من الأب والأم، وأخًا من الأب، فميراثه لأخيه من الأب والأم دون أخيه من الأب، وإن كان له أخٌ من الأب والأم، وأخٌ من الأب، وأخٌ من الأم، فلأخيه من الأم السدس بالفرض، وإن كان له أخوان من الأم أو أكثر، فلأخويه أو لأخوته من الأم الثلث، والباقي لأخيه من الأب والأم بالتعصيب، ولا شيء لأخيه من الأب؛ لأن الأخ من الأب عصبة، وهو لا يرث مع وجود الأخ من الأب والأم. قوله: "الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه"؛ يعني: يرث الميتَ أخوه من الأب والأم دون أخيه من الأب إذا اجتمعا، فإن لم يكن له أخ من الأب والأم يرثه أخوه من الأب. * * *

2271 - وقال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - في بنتٍ، وبنتِ ابن، وأُختٍ لأبٍ وأمًّ: أقضي فيهنَّ بما قَضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: للبنتِ النِّصفُ، ولابنةِ الابن السُّدُسُ تَكمِلةَ الثُّلُثَين، وما بقي فَلِلأُخْتِ. قوله: "وما بقي للأخت"؛ يعني: الأخت من الأب والأم دون الأخت من الأب إذا اجتمعتا؛ لأن الأخت من الأب والأم كالأخ من الأب والأم، والأخت من الأب كالأخ من الأب، فكما أن الأخ من الأب لا يرثه مع الأخ من الأب والأم، فكذلك الأخت من الأب لا ترث مع الأخت من الأب والأم إذا اجتمعتا مع البنات، أو بناتِ الابن، فإن لم تكن الأخت من الأب والأم، فما بقي من فرض البنات، أو بنات الابن، فللأخت من الأب. * * * 2272 - وعن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ ابن ابني ماتَ فما ليَ مِنْ ميراثِه؟ قال: "لكَ السُّدُسُ"، فلمَّا ولَّى دعاهُ قال: "لك سُدُسٌ آخرُ"، فلمَّا ولَّى دعاهُ قال: "إنَّ السُّدُسَ الآخرَ طُعْمَةٌ لك"، صحيح. قوله: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ "، (ما) للاستفهام، وصورة هذه المسألة: ترك الميت بنتين وهذا السائلَ، فللبنتين الثلثان، فبقي ثلث، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السائل سدسًا بالفرض؛ لأنه جد الميت، ولم يدفعه إليه سدسًا آخر كيلا يظن أن فرضه الثلث، وتركه حتى ولى؛ أي: ذهب "فدعاه فقال: لك سدسٌ آخر، فلما ولَّى دعاه وقال: إن السدس الآخِر" بكسر الخاء "طُعمة لك"؛ أي: اعلم أن السدس الثاني طعمةٌ له، ومعنى (الطعمة) هنا: التعصيب؛ يعني: رزقٌ لك وليس بفرضٍ لك.

وإنما قال للسدس الذي ورثه بالتعصيب طعمة، ولم يقل للسدس الذي ورثه بالفرض طعمة؛ لأن الفرض لا يتغير، وأما التعصيب يتغير بالزيادة والنقصان، وربما لم يبق نصيب العصبة، فلما لم يكن التعصيب شيئًا مستقرًا ثابتًا على حالةٍ واحدة سماه: (طُعمة)؛ أي: هذا رزقٌ رَزَقَك الله بسبب عدم كثرة أصحاب الفروض، فإنه إن كثرت أصحاب الفروض لم يبق لك هذا السدس الأخير. * * * 2273 - عن قَبيْصَةَ بن ذُؤيبٍ أنه قال: جاءَتْ الجدَّةُ إلى أبي بكرٍ - رضي الله عنه - تسألُه ميراثَها، فقال لها: ما لَكِ في كتابِ الله شيءٌ، وما لَكِ في سنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ، فارجِعي حتى أسألَ الناسَ، فسألَ، فقالَ المغيرةُ بن شُعبةَ - رضي الله عنه -: حَضَرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السُّدُسَ، فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: هلْ معكَ غيرُكَ؟ فقال محمدُ بن مَسْلَمةَ مثلَ ما قالَ المغيرةُ، فأَنفَذَهُ لها أبو بكرٍ - رضي الله عنه -، ثم جاءَتْ الجَدَّةُ الأُخرى إلى عمرَ - رضي الله عنه - تسألهُ ميراثَها، فقال: هو ذلكَ السُّدُسُ، فإنْ اجتمعْتُما فهو بينَكُما، وأَيَّتُكما خَلَتْ بهِ فهوَ لها. قوله: "فأنفذه لها أبو بكر - رضي الله عنه - " الضمير المذكَّر الغائب في (أنفذه) ضمير السدس؛ يعني: أعطى الجدةَ السدس. قوله: "هو ذلك السدس"، (السدس): عطفُ بيان لـ (ذلك)، ولفظة (هو) ضمير لنصيبها؛ يعني: نصيبك السدس. قوله: "فإن اجتمعتما" هذا الخطاب للجدة من طرف الأم والجدَّةِ من طرف الأب. قوله: "خلت"؛ أي: تفرَّدت بالسدس؛ يعني: فإن كانت واحدةٌ منكما، ولم تكن الأخرى، فالسدس لها، فإن اجتمعتما فالسدس بينكما. * * *

2274 - وعن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال في الجَدَّةِ معَ ابنها: أَطعَمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سُدُسًا معَ ابنها. ضعيف. قول ابن مسعود في الجدة مع ابنها: "أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدسًا مع ابنها"؛ يعني: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ أبِ الميت سدسًا مع وجود أب الميت، مع أنه لا ميراث لأم أب الميت مع أب الميت. ومذهب ابن مسعود: أن الجدة غير وارثة، سواءٌ كانت من قِبَلِ الأم، أو قبل الأب، وسواءٌ كان معها مَن هو أقربُ منها إلى الميت، أو لم يكن. فقال ابن مسعود: فكلُّ ما أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجدةَ شيئًا، فإنما أعطاها تبرعًا وتفضُّلًا عليها لا بطريق الميراث. * * * 2275 - عن الضَّحَّاكِ بن سُفيانَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إليه أنْ وَرَّثْ امرأةَ أَشْيَمَ الضبابي مِن دِيَةِ زوجِها. صحيح. قوله: "أنْ ورِّثْ امرأة أشيم الضبَابيِّ من دية زوجها"؛ يعني: المرأة ترث نصيبها من دية زوجها كما ترث من ماله، وكذا يرث الزوج من دية زوجته كما يرث من مالها. وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لا يورِّث الزوج من دية زوجته، ولا الزوجة من دية زوجها. * * * 2276 - وعن تميمٍ الدَّارِيِّ قال: سَألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما السُّنةُ في الرجلِ من أهلِ الشركِ يُسْلِمُ على يدَيْ رجلٍ مِن المسلمينَ؟ فقال: "هو أَوْلَى

الناسِ بمَحياهُ ومَماتِهِ". ليس بُمتَّصلٍ. قوله: "ما السنَّة"؛ أي: ما حكم الشرع في الرجل من أهل الشرك يُسْلِمُ على يدي رجل من المسلمين، فقال: هو أولى الناس بمَحْيَاه ومماتِه. ومَن أسلم على يد غيره لا يصير مولًى له عند أبي حنيفة والشافعي ومالك والثوري، ويصير مولًى له عند عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، والليث بن سعد بهذا الحديث. دليل الشافعي وأتباعه: قوله: "الولاء لمَن أَعْتَقَ، ومَن لم يُعْتِقْ فلا يكون له ولاؤه"، وحديث تميمٍ الداري يحتمل أنه كان في بدء الإسلام؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالإسلام والنصرة ثم نسخ ذلك، ويحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هو أولى الناس بمحياه ومماته) يعني بالنصرة في حال الحياة، وبالصلاة بعد الموت، فلا يكون له حجة. * * * 2278 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رَجُلًا ماتَ ولم يَدَعْ وارثًا إلا غلامًا كانَ أَعتقَهُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هل لهُ أحدٌ؟ " فقالوا: لا، إلا غلامٌ لهُ كانَ أَعتقَهُ، فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ميراثَه لهُ. قوله: "أن رجلًا مات ولم يدع وارثًا إلا غلامًا كان أعتقه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل له أحد؟ قالوا: لا، إلا غلام له كان أعتقه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ميراثه له" اعلم أن المُعْتِقَ يرث من العتيق كما ذكرنا، ولا يرث العتيقُ من المُعْتِق، ولنا دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مال الميت في هذا الحديث إلى عتيقه تبرعًا وتفضلًا عليه؛ لأن الميت لم يترك أحدًا يرثه، فماله انتقل إلى بيت المال، فأنعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماله على هذا العتيق، هذا مذهب جمهور العلماء.

18 - باب الوصايا

وقال شريح وطاوس: يرث العتيق من المُعْتِق، كما يرث المُعْتِقُ من العتيق. * * * 2277 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرثُ الولاءَ مَنْ يرثُ المالَ". قوله: "يرث الولاء من يرث المال" هذا لفظٌ عامٌّ والمراد به الخاص، ومعناه: كلُّ عصبة ترث مال الميت، فإذا كان ذلك الميت أعتق عبدًا أو أمةً انتقل ولاء العتيق إلى عصبةِ مُعْتِقِه، ولا ينتقل إلى بنت المُعْتِقِ وإن كان ترث مال أبيها؛ لأن البنت ليست عصبةً، بل العصبةُ الذكورُ دون الإناث، ولا ترثُ النساء بالولاء إلا إذا أعتقن عتيقًا، أو أعتق عتيقُهن أحدًا، فإنهن يرثن من عتيقهن أو عتيقِ عتيقهنَّ، والله أعلم. * * * 18 - باب الوصايا (باب الوصايا) مِنَ الصِّحَاحِ: 2279 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حقُّ امرِئٍ مُسلمٍ لهُ شيءٌ يُوصي فيه، يبيتُ ليلتينِ إلا ووَصيَّتُه مكتوبةٌ عندَهُ". قوله: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"؛ يعني: لا ينبغي له أن يترك الوصية إن كان له شيء يوصي به، بل

الأَولى والأحوطُ أن يكتب كتابًا، كم ماله، وكم له على الناس من الديون والأمانات، ويسمي كلَّ واحد ممن عندهم دَينه وأمانته، ويسمِّي قدْرَ الدين والأمانة وجنسهما وصفتهما، ويكتب أيضًا ما للناس عليه من الدين والأمانة، ويبين كلَّ واحد باسمه وصفته، ويسمي أيضًا جنس الديون والأمانات وصفاتها، ويكتب أيضًا إن أوصى بأن يعطى من ماله شيءٌ إلى الفقراء ومصارف الخير، وإنما يكتب لأنه ربما يموت بغتةً ولا يقدر على الوصية، فيبقى حق الناس على ذمته من الديون والأمانات، ويضيع ماله عليهم أيضًا من الديون والأمانات؛ لأن الغالب أن الورثة لم يعرفوا جميع أحواله ومعاملاته. قوله: "يبيت ليلتين": هذا تأكيدٌ في استحباب كَتْبِ الوصية؛ لأن قَيْدَ ليلتين غيرُ مقصود؛ يعني: لا ينبغي له أن يَمضي عليه زمانٌ - وإن كان قليلًا - إلا ووصيتُه مكتوبة. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 2280 - عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: مرضتُ عامَ الفتح مَرَضًا أَشفيْتُ على الموتِ، فأتاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُني فقلتُ: يا رسولَ الله إنَّ لي مالًا كثيرًا، وليسَ يرثُني إلا ابنتِي، أَفَأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: "لا"، قلتُ: فثُلُثَي مالي؟ قال: "لا"، قلت: فالشَّطرُ؟ قال: "لا"، قلت: فالثُّلثُ؟ قال: "الثُّلثُ، والثلثُ كثيرٌ، إنَّكَ أنْ تذرَ ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِن أنْ تذرَهم عالةً يتكفَّفُونَ الناسَ، وإنك لن تُنفِقَ نفقةً تبتَغي بها وجهَ الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللُّقمةَ ترفعُها إلى في امرأتِكَ". قوله: "أشفيت"؛ أي: قربت.

"وليس يرثني إلا ابنتيَّ" قال الخطابي: معناه: ليس لي وارثٌ من أصحاب الفروض إلا ابنتان، وليس المراد منه أنه لا وارثَ له غير ابنتيه، بل كان له عصبةٌ كثيرة. "أفأوصي بمالي كله"؛ يعني؛ أي: جوِّز لي أن آمُرَ بالتصدُّق بجميع مالي على الفقراء. قوله: "فالشطر"، (الشطر): النصف. قوله: "فالثلث" هذا الحديث بيان أنه لا يجوز لمَن مرض مرضًا مخوفًا أن يوصي أو يهب أو يعطي بيده شيئًا من ماله أكثر من الثلث، فإنه لا حكم له إلا في الثلث، فلو أوصى أو وهب أو أعطى أحدًا شيئًا في مرضه بأكثر من الثلث، فهو موقوفٌ فيما زاد على الثلث على إجازة الورثة، فإن شاؤوا أجازوا، وإن شاؤوا رادُّوا فيما زاد على الثلث، وليس لهم ردُّ الثلث، بل الثلثُ يجري من غير إجازتهم، وإن لم يكن له وارث وأوصى بأكثر من الثلث، جاز الثلث وبطلت الوصيةُ فيما زاد على الثلث [وهو] حق بيت المال. قوله: "والثلث كثير": هذا يبنى على أن الوصية بالثلث جائزةٌ ولكنْ غيرُ مستحبةٍ، وفي هذا تفصيل، وهو أنه إن كان ورثته فقراءَ فالوصيةُ بالثلث غيرُ مستحبةٍ، بل الأَولى أن يوصي بأقل من الثلث، وإن كان ورثته أغنياء، أو لم يكن له وارث، فالمستحبُّ أن يوصي بثلث كامل. قوله: "إنك إن تذر" (إن) حرف الشرط، و (تذر) مجزومٌ به، (وَذَر يَذَرُ): إذا تَرَك، ولا يستعمل من هذا اللفظ غيرُ المضارع والأمرُ والنهي. يعني: أن توصي بقليل وتتركَ باقيَ مالك لورثتك حتى يصيروا به أغنياء خيرٌ لك من أن توصي بكثير وتترك قليلًا لورثتك، فيكونون فقراء، ولا يكفيهم ما تركت لهم من أموالك.

قوله: "عالة"؛ أي: فقراء، رجل عائل؛ أي: فقير، وقومٌ عالةٌ؛ أي: فقراء. قوله: "يتكففون الناس"، (تكفَّف): إذا مدَّ كفَّه في طلب شيءٍ من أحد، وتكفَّفه أيضًا: إذا طلب كفًا من الطعام. قوله: "تبتغي"؛ أي: تطلب. يعني بآخِرِ هذا الحديث: إن ما تترك من مالك لورثتك يكون لك صدقة، [و] التصدُّق على الأقارب أفضل من التصدق على الأجانب. * * * مِنَ الحِسَان: 2281 - رُوِيَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسَعدٍ: "أَوْصِ بالعُشْرِ"، قال: فما زلتُ أُناقِصُهُ حتى قال: "أوْصِ بالثُّلثِ، والثُّلثُ كثيرٌ". قوله: "فما زلت أناقصه" * * * 2282 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبتِهِ عامَ حَجَّةِ الوداعِ: "إنَّ الله قد أَعطَى كلَّ ذي حقًّ حقَّهُ، فلا وَصيَّةَ لوارثٍ، الولدُ للفِراشِ، وللعاهِرِ الحَجَرُ، وحسابُهم على الله". 2283 - ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا وصيةَ لوارثٍ إلا أنْ يشاءَ الورثَةُ"، منقطعٌ. قوله: "إن الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث" كانت الوصية للأقارب فرضًا قبل نزول آية الميراث، فلما نزلت آية الميراث بطلت الوصية للوارث؛ يعني: فإذا بيَّن الله نصيب كلِّ وارثٍ من الميراث لا يجوز له

الوصية، فإن أوصى أحد لوارث بشيء من ماله بطلت تلك الوصية وإن أجازت باقي الورثة، وفي قولٍ: إذا أجازت باقي الورثة تلك الوصيةَ صحت. قوله: "الولد للفراش"؛ يعني: لو وطئ رجلٌ امرأةً بالزنا يكون الولد للأم، ولا ينسب إلى الزاني، ولا يرث الزاني من ذلك الولد، ولا الولد من الزاني، بل يرث ذلك الولد من أمه، وترث أمه منه إن كانت الأمُّ حرة، وإن كانت أمةً يكون ذلك الولد مملوكًا لسيد الأمة، ولا يرث ذلك الولد من أمه، ولا الأم منه؛ لأن المملوك لا يرث أحدًا، ولا يرثه أحد، بل ماله لسيده. قوله: "وللعاهر الحجر"، (العاهر): الزاني؛ يعني: لا حقَّ للزاني في ذلك الولد، بل يُرجم الزاني إن كان محصَنًا، ويُجلد إن لم يكن محصنًا، كما يأتي بحث حد المحصن في حد الزنا. وقيل: معنى قوله: (وللعاهر الحجر) الحرمانُ من الميراث، يقال للمحروم: لك التراب، وفي يدك التراب، ولك الحجر، وفي يدك الحجر، كل ذلك كنايةٌ عن الحرمان؛ يعني: ليس لك نصيب إلا التراب والحجر. قوله: "وحسابهم على الله"؛ يعني: نحن نقيم الحد على الزناة، وحسابهم على الله، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم. هذا مفهوم الحديث، وقد جاء: أنَّ مَن أُقيم عليه الحد في الدنيا لا يعذَّب بذلك الذنب في القيامة، فإن الله تعالى أكرمُ مِن أن يثنِّي العقوبة على مَن أقيم عليه الحد. ويحتمل أن يريد بقوله: (وحسابهم على الله): مَن زنا أو أذنب ذنبًا آخر، ولم يُقم عليه الحد، فحسابه على الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه. * * * 2284 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إنَّ الرَّجُلَ

ليعملُ، والمرأةَ، بطاعةِ الله ستينَ سنةً، ثم يحضرُهما الموتُ فيُضارَّانِ في الوصيَّةِ فتجبُ لهما النارُ"، ثم قرأ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}. قوله: "إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار"؛ يعني: ربما يعمل الرجل والمرأة ستين سنة أو أكثر بالأعمال الصالحة، ثم يوصي عند الموت وصيةً باطلةً، بأن يوصي للوارث، أو يوصي لأجنبيًّ بأكثر من الثلث، فيأثم بهذه الوصية؛ لأن مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إثمٌ موجب للعقاب، فبعض الناس يوصي بهذه الوصايا الباطلة وهي إثم، وبعضهم يبيع أو يهب جميع ماله لواحد من ورثته، كيلا يرث وارث آخر من ماله شيئًا، ولا يرث بيت المال ما بقي من صاحب فرض، فهذا كلُّه مكروه وفرارٌ من حكم الله، بل الأولى بالتقوى أن يوصي بما قَسَم الله المال بين الورثة. قوله تعالى: " {غَيْرَ مُضَارٍّ} "؛ أي: تُدفع الوصية إلى الموصَى له بشرط أن يكون الموصي غيرَ مضارٍّ؛ أي: غيرَ موصلٍ مضرةً إلى الورثة بأن يوصي بأكثر من ثلث المال، لا يدفع ما زاد على الثلث إلا بإجازة الورثة. ° ° °

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المَفَاتِيْحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ [4]

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م

12 - كتاب النكاح

12 - كِتابُ النِّكَاحِ

[12] كِتابُ النَّكَاحِ (كتاب النكاح) مِنَ الصِّحَاح: 2285 - عن عبدِ الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشرَ الشَّبابِ مَن استطاعَ منكُم الباءَةَ فليتزوَّجْ، فإنه أَغَضُّ للبَصَرِ وأَحْصَنُ للفرج، ومَنْ لم يستطعْ فعليهِ بالصَّومِ فإنه لهُ وِجاءٌ". قوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، (الشباب): جمع شاب، (الباءة) بالمد: النكاح، و (الباءة) في الحقيقة: المنزل، سمِّي النكاح باءةً؛ لأنه يهيئ للنكاح منزلًا، فأُطلق اسم المنزل على ما هو سببُ تهيئة المنزل. قوله: "من استطاع منكم الباءة" أي: مَن استطاع منكم التزوُّجَ بوجدان أسبابه من النفقة والكسوة، ولا بد من هذا التأويل؛ لأنه لو أراد باستطاعة الباءة مجردَ استطاعة النكاح، يلزم تناقضٌ بين هذا وبين قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"؛ لأنه لو كان كلُّ مَن يقدر على المجامعة مأمورًا بالتزوج، لم يكن مأمورًا بكسر الشهوة بالصوم؛ لأن الرجل لا يخلو: إما أن يكون له اشتهاء النكاح، أو لم يكن، فإن لم يكن فلا يؤمر لا بالنكاح، ولا بكسره بالصوم؛ لأن المعدوم وهو اشتهاءُ النكاح كيف يُكْسر؟ وإن كان مشتهيًا للمجامعة لا يؤمر بكسر الشهوة، بل يؤمر بالتزوُّج؛ لأن الحديث قد جاء للترغيب في النكاح لتكثُر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

فقد ثبت بما قررنا أن مراد الحديث: أنَّ مَن قدر على تحصيل نفقة المرأة وكسوتها فليتزوج، ومن لم يقدر على النفقة والكسوة فعليه كسر شهوته بالصوم. وقوله: "فليتزوج" هذا أمرُ ندبٍ واستحبابٍ لا أمرُ إيجابٍ عند أكثر العلماء، وقال داود الظاهري: إنه أمرُ إيجابٍ. وهذا الأمر إنما يتوجَّه إلى مَن تاقت نفسه؛ أي: غلبت شهوتُه، فإنَّ مَن تاقت نفسه إلى النكاح فيستحبُّ له النكاح، ويجب عند داود، ومن لم تتق نفسه إلى النكاح، فتركُ النكاح والتخلِّي إلى العبادة أولى له. وقال أبو حنيفة: بل النكاح له أولى. قوله: "أغض للبصر"، (الغضُّ): إلصاق أحد جفني العين بالأخرى. قوله: "أحصن" وهو من الإحصان، وهو الحفظ. و (أغض) و (أحصن): أفعل التفضيل؛ يعني: مَن تزوَّج فقد حفظ عينه عن النظر إلى امرأة أجنبية، وحفظ فرجه عن الحرام. قوله: "وجاء"، (الوجاء): دقُّ خصية الفحل، والمراد به ها هنا: كسرُ الشهوة بالصوم. * * * 2286 - وقالَ سعدُ بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -: رَدَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمانَ بن مظعونٍ التَّبَتُّلَ ولو أَذِنَ له لاختصَيْنا. قوله: "رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل"، (التبتل): الانقطاع عن الشيء، ويستعمل في الانقطاع عن النساء، وهو المراد ها هنا؛ يعني: استأذن عثمان بن مظعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترك التزوج، والاعتزالِ عن النساء، فمنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الراوي: "ولو أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترك التزوج لاختصينا"؛

أي: لجعل كلُّ واحد منا نفسه خصيًا، كيلا يحتاج إلى النساء. * * * 2287 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُنْكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولحَسَبها وجَمالِها، ولدينِها، فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ ترِبَتْ يداك". قوله: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، (الحسب) بفتح السين: ما يكون في الرجل وآبائه من الخصال الحميدة في العرف، أو في الشرع؛ يعني: الناس يتزوجون المرأة لهذه الخصال الأربع كلِّها، أو لبعضها، (فاظفر) أيها المؤمن؛ أي: فاطلب وتزوَّجْ امرأة صالحة، ولا تطلب امرأة لها مال وجمال، وأب شريف، ولم يكن لها صلاح، فإن اجتمع مع الصلاح الخصال الباقية أو بعضها، فتلك نعمةٌ على نعمةٍ، وإن لم يكن لذات المال والجمال والحسب صلاح فاتركها. "تربت يداك"؛ أي: صرتَ محرومًا من الخير إن تركت الصلاح، وطمعت في شيء آخر. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2288 - وقال: "الدُّنيا مَتاعٌ، وخيرُ متاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ". قوله: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"، (المتاع): ما يُتمتع به؛ أي: ما يُنتفع به، وأراد بـ (الدنيا): ما في الدنيا مما ينتفع به؛ يعني: مالُ الدنيا خلق لبني آدم لينتفعوا به، وخير ما يَنتفع به الرجلُ المرأةُ الصالحة، فإنه يتلذَّذُ منها، وتكون له سكنًا وأنيسًا، وتحفظ عينه وفرجه من الحرام، وتُعينه على دينه بأن تمنعه عن الكَلِّ في الطاعات، ويحصل له منها أولاد يطيعون الله، وتزيد بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأيُّ متاع من أمتعة الدنيا يكون نفعها مثل نفع المرأة الصالحة؟.

روى هذا الحديث عبد الله بن عمر. * * * 2289 - وقال: "خيرُ نساءٍ رَكِبن الإبلَ صالحُ نساءِ قريشٍ، أَحْناهُ على وَلدٍ في صِغَرِه وأَرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يدِهِ". قوله: "وخير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذاتِ يدِهِ" الضمير في (أحناه) و (أرعاه) ينبغي أن يكون مؤنَّثًا؛ لأنه يرجع إلى النساء، ولكن جعله مذكرًا بتأويل الشخص؛ أي: أحَنُّ شخصٍ على ولده، وأرعى شخصٍ على زوج في ماله؛ يعني: تكون شفقة نساء قريش ومحافظتُهن [على] أزواجهن وصبرهن على فقرهم أكثر من جميع نساء العرب غير قريش. والمراد بـ (ذات اليد): المال. وتحدَّثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث حين خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ هانئ بنت أبي طالب، فلم تُجبه، واعتذرت إليه وقالت: يا رسول الله! إني مشتغلة بخدمة أيتامي، فلم أقدر على خدمتك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطييبًا لقلبها، وتحسينًا لشفقتها على أولادها: (خير نساء العرب نساء قريش)، والمراد بـ (من ركب الإبل): العرب. * * * 2290 - وقال: "ما تركتُ بعدِي فتنةً أَضَرَّ على الرِّجالِ مِن النِّساءِ". قوله: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجالِ مِن النساءِ"، فيها يفتتن بها الرجال، لأن تلذذهم بهن أكثر من سائر التلذذات، لميل الطباع إليهن أكثر مما تميل إلى غيرهن من التلذذات، فربما يقع الرجل في الحرام، وربما يقع بين الرجال مقاتلةٌ وعداوةٌ بسبب النساء، بأن يقول رجل: أنا أتزوج هذه المرأة، ويقول الآخر: بل أنا أتزوجها.

روى هذا الحديث أسامة بن زيد. * * * 2291 - وقال: "إنَّ الدُّنيا حُلْوةٌ خَضرةٌ، وإنَّ الله مُستَخلِفُكم فيها فينظرُ كيفَ تعملونَ، فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النساءَ، فإنَّ أولَ فِتْنِة بني إسرائيلَ كانتْ في النساءِ". قوله: "إن الدنيا حلوة خضرة"؛ يعني: طيبةٌ مزيَّنة في عيونكم وقلوبكم، لا يشبع الناس من الدنيا. قوله: "وإن الله مستخلفكم"، (الاستخلاف): إقامةُ أحدٍ مقام أحدٍ؛ يعني: جعل الله الدنيا في أيديكم، فينظر: هل تتصرفون كما يحبُّ ويرضى، بالتصدق، وأداء الزكاة، ووجوب البر، أم تعصونه بصرف ما أعطاكم من المال في الفواحش. قوله: "فاتقوا الدنيا"؛ أي: احذروا من الاغترار بما في الدنيا من الدولة والمال، فإنه فانٍ، وإنكم ستحاسبون يوم القيامة حتى بالنقير والقطمير. قوله: "واتقوا النساء"؛ أي: احذروا أن تميلوا إلى النساء بالحرام، أو تقبلوا قولهن فيما يقلن لكم، فإنهن ناقصات العقل، لا خير في كلامهن غالبًا، فميزوا الخير من الشر من كلامهن، واقبلوا الخير ودعوا الشر. قوله: "فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" قصة هذا: أن رجلًا من بني إسرائيل اسمه عاميل طلب منه ابن أخيه - وقيل: ابن عمه - أن يزوِّجه ابنته، فلم يزوجها منه، فقتله لينكح بنته، وقيل: لينكح زوجته. وهذا الرجل هو الذي نزلت فيه قصة ذبح البقرة كما ذكر في القرآن، وهذا القتل كان بسبب تلك المرأة. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * *

2292 - وقال: "الشُّؤمُ في المرأةِ، والدَّارِ، والفرسِ". وفي روايةٍ: "الشُّؤمُ في ثلاثٍ: في المرأةِ، والمَسْكَنِ، والدابةِ". قوله: "الشؤم في المرأة والدار والفرس" قيل: شؤم المرأة سوءُ خلقها، وقلةُ صلاحها وطاعتها، وشؤم الدار ضيقُها وسوء جوارها، وقيل: كونها غيرَ حلالٍ بأن تكون مغصوبةً، ولم تُؤدَّ شروط البيع فيها، وشؤم الفرس: بأن يكون جَموحًا، وقيل: بأن لا يغزو عليه. وقيل: هذا كلُّه إرشادٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمةَ بجواز بيع الدار التي يكره الرجل سكناها، وبيع الفرس الذي لا يوافقه، وتطليق المرأة التي لا يكون له بها ألفة. ويأتي بحث باقي هذا الحديث في (باب الفأل والطيرة). روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 2293 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: كنَّا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوةٍ، فلمَّا قَفَلْنا كنَّا قريبًا مِن المدينةِ، قلتُ: يا رسولَ الله! إني حديثُ عهدٍ بعُرسٍ، قال: "تزوَّجتَ؟ " قلتُ: نعم، قال: "أبكْرٌ أَمْ ثَيبٌ؟ " قلتُ: بل ثيبٌ، قالَّ: "فهلا بكرًا تلاعبُها وتلاعبُك؟ " فلمَّا قدِمنا ذهبنا لندخلَ فقال: "أَمهِلوا حتى ندخلَ ليلًا - أي عِشاءً - لكي تمتشِطَ الشَّعِثَةُ وتَستَحِدَّ المُغِيبَةُ". قوله: "قفلنا"؛ أي: رجعنا. "حديث عهد بعرس"؛ أي: تزوُّجي جديد. قوله: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك"؛ يعني: لمَ لمْ تتزوَّجْ بكرًا تكثر ملاعبتك إياها، وملاعبتها إياك؟. هذا الحديث يدل على أنَّ تزوُّج البكر أولى، وتأتي علَّته.

ويدل أيضًا على أن ما يجري بين الزوجين من الملاعبة مرضيٌّ للشارع، وهو سنةٌ؛ لأنها سبب زيادة الألفة والنشاط، ومَهيجِ الشهوة التي هي سبب الولادة. قوله: "لكي تمتشِط الشعِثة"؛ أي: لتُصلح شعرها بالمشط، (الشعثة): متفرقةُ الشعر. قوله: "وتستحدَّ المغيبة"؛ أي: لتستعمل الحديد؛ أي: الموسى، (المُغيبة) بضم الميم وكسر الغين: المرأة التي غاب عنها زوجها. يعني: من السنة أن لا يدخل المسافر بيته إلا بعد أن يبلغ الخبر بقدومه إلى أهله؛ لتزين زوجته نفسها وتَطَيَّب؛ لأنه لو دخل عليها زوجها على غفلة منها ربما يجدها شعثة وسخة كريهة الرائحة، فيحصل للزوج منها نفرة الطباع. قوله: (وتستحد المغيبة) صريحٌ على أن السنة حَلْقُ عانتهن كالرجال، وليس عليهن نتفُ عانتهن كما هو عادتهن. * * * 2295 - وقال: "إذا خطبَ إليكم مَنْ تَرْضَونَ دينَهُ وخلُقَهُ فزوِّجُوه، إنْ لا تفعلُوهُ تَكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ". قوله: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"؛ يعني: إذا طلب أحدٌ منكم أن تزوِّجوه امرأةً من أولادكم أو أقاربكم، فانظروا فإن كان مسلمًا صالحًا حسن الخلق فزوِّجوه؛ لأنكم لو لم تزوِّجوا نساء أقاربكم إلا من معروفٍ صاحبِ مال وجاه وغير ذلك من الصفات التي يميل إليها أبناء الدنيا، يبقى أكثر نساءكم بلا زوج، ويبقى أكثر الرجال بلا زوجة، وحينئذ يميل الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، ويكثر الزنا، ويلحق الأولياءَ العارُ بنسبة الزنا إلى نسائهم. وربما تغلب غيرةٌ على أقاربهم بما سمعوا من نسبة الزنا إليهن، فيقتلوهن، ويقتلون من قصدهن بالفواحش، وهذا كله فسادٌ عريض، وفتنة كبيرة.

وهذا الحديث دليل مالك، فإنه يقول: لا يراعى في الكفاءة إلا الدِّين وحده. ومذهب غيره: أنه يراعى في الكفاءة أربع أشياء: الدين، والحرية، والنسب، والصنعة؛ يعني: لا تزوَّج المسلمة من كافر، فإن زوِّجت فالنكاح باطل، ولا تزوَّج الصالحة من فاسقٍ، ولا الحرةُ من عبد، ولا المشهورةُ النسبِ من خاملِ النسب، ولا بنتُ تاجرٍ أو من له حرفةٌ طيبةٌ ممَّن له حرفةٌ خبيثة أو مكروهةٌ عند الناس، فإن رضيت المرأة ووليُّها بغير كفءٍ ممن ذكرنا؛ صحَّ النكاح (¬1)، وإن رضيَتِ المرأةُ بغير كُفءٍ ولم يَرضَ الولي، أو رضيَ الولي ولم تَرضَ المرأةُ؛ فالنَّكاحُ باطلٌ، وإن كان لها أولياءُ بدرجةٍ واحدةٍ ورضيَتِ المرأةُ وبعضُ الأولياءِ دونَ بعضٍ؛ فالنَّكاحُ باطلٌ أيضًا. وفي قولٍ: البراءة من العيوب التي هي: البَرَصُ والجُذَامُ والجنونُ والجَبُّ؛ مُعتبَرةٌ في الكفاءة أيضًا، وفي قولٍ: اليَسارُ مُعتبَرٌ أيضًا؛ يعني: لو كان الزوجُ مُعسِرًا (¬2) والمرأةُ غنيةً أو من قومٍ أغنياءَ، ليس الزوجُ بكُفءٍ لها. واعلمْ أن الكفاءةَ مُعتبَرةٌ في الزوج؛ يعني: لا تُزوَّجُ امرأة شريفةٌ بهذه الخِصال من زوجٍ خسيسٍ، أمَّا لو كان الزوجُ شريفًا بهذه الخِصال، والمرأةُ دونَه في هذه الخِصال فلا بأسَ، حتى لو زَوَّجَ الرجلُ من ابنه الصغير الشريف امرأةً هي دونَه في هذه الخِصال جاز، إلا أنه لا يجوز أن تكونَ المرأةُ أَمَةً أو بها برصٌ أو جُذَامٌ أو جنونٌ أو رَتَقٌ أو قَرَنٌ، والرَّتَق والقَرَن: عَيبانِ يكونان في الفَرج لا يمكن أن يُجامعَ تلك المرأةَ. ولا يجوز أن تُزوَّجَ مسلمةٌ من كافرٍ بالاتفاق، سواءٌ رضيَتِ المرأةُ والأولياءُ أو لم يَرضَوا. ¬

_ (¬1) إلا تزويج المسلمة من كافر، فلا يصح ولو رضيت المرأة ووليُّها، كما سيأتي. (¬2) في "ق": "فقيرًا".

رَوى هذا الحديثَ أبو حاتم المزني، ولم يَروِ هو غيرَ هذا الحديث. * * * 2296 - وقال: "تزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإني مُكاثِرٌ بكم الأمَمَ". قوله: (تزوَّجوا الوَلُودَ الوَدُودَ؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ)، (الوَدُود): التي تَشتدُّ محبتُها للزوج، ويَشتركُ في هذا الوزن المُذكَّرُ والمُؤنثُ، (الوَلُود): التي تَكثُر ولادتُها، يعني: تَزوَّجوا امرأةً تعرفون كونَها شديدةَ المحبة لزوجها؛ لأنَّ المرأةَ إذا اشتدَّت محبتُها لزوجها تُلاعِبُ زوجَها، وتَطيبُ نفسُها، فيَكثُر جريانُ الوَطء بينهما ويَكثُر الأولادُ بينهما، وإذا كثُر الأولادُ تَكثُر أمَّةُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (إني مُكاثرٌ بكم الأمم)، (المُكَاثرة): المُفَاخرةُ بكثرة الأتباع والأهل؛ يعني: أُفاخر الأنبياءَ بكثرة أمَّتي وأقول: أنا أكثرُ الأنبياء أمَّةً. هذا الحديثُ صريحٌ بتأكيدِ استحباب التزوُّج، وفضيلةِ امرأةٍ وَلُودٍ على غيرها، وفضلِ كثرةِ أولاد الرجل والمرأة، وكثرةِ ثوابهما وهذا أفضل طاعة؛ لأنَّ مَن حصل منه أولادٌ فقد حصَّلَ مرادَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتحصيلُ مراد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ القُرَب، وفي تكثير الأولاد تكثيرُ عِباد الله، ولا شكَّ أنَّ تكثيرَ مَن يُطيع الله من أفضل القُرَب. فإن قيل: إن كانتِ المرأةُ ثيبًا عُرف كونُها وَدُودًا وَلُودًا في نكاح زوجها الأول، فيَعرف الرجالُ بعد ذلك كونَها وَدُودًا ولودًا فيتزوَّجونها، وأمَّا إذا كانت بِكرًا فكيف يُعرَف كونُها وَدُودًا وَلُودًا حتى يَتزوجَها الرجالُ؟ قلنا: يُعرَف كونُها وَدُودًا ووَلُودًا بأقاربها، فإن كانت نساءُ أقاربها ولودًا تكونُ هي كذلك؛ لأنَّ الغالبَ سرايةُ طبائع نساء الأقارب من بعضهنَّ إلى بعضٍ، وتشبه بعضُهنَّ بعضًا.

رَوى هذا الحديثَ مَعقِلُ بن يَسَار. * * * 2297 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عُوَيْمٍ: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالأبكارِ، فإنَّهنَّ أعذَبُ أَفواهًا، وأَنْتَقُ أَرحامًا، وأَرضَى باليسيرِ"، مرسلٌ. "عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذبُ أفواهًا، وأَنتَقُ أرحامًا، وأرضى باليسير"، (عليكم): هذه كلمة الإغراء والتحريض، يُحرِّض النبي - صلى الله عليه وسلم - الأُمَّة بتزوُّجِ الأبكار؛ لأنهنَّ أعذبُ أفواهًا من الثيبات، ومعنى الأعذب: الأطيب، والأفواه: جمع فُوه وهو الفم، ولكن الفُوه غيرُ مُستعمَل في المفرد، بل المُستعمَلُ في المفرد: الفم، وفي الجمع: الأفواه، ومعنى الكلام يحتمل أمرَين: أحدهما: أن يكونَ كنايةً عن طِيب قُبْلة البكْر؛ فإنه لا شكَّ أنَّ البكْرَ أكثرُ شبابًا ومَلاحةً من الثيب. والثاني: أن يكونَ كنايةً عن طيب الكلام وعدم السَّلاطة والتفحُّش في الكلام؛ فإنَّ الغالبَ أن يكونَ استحياءُ البكْر أكثرَ من الثيب، وإذا كان استحياؤها أكثرَ، [فإنها] تستحيي من التكلم بالفحش ومن السَّلاطة. قوله: (وأنتق أرحامًا)، (أنتق): أفعل التفضيل، من (نتَقَتِ) المرأةُ: إذا كثرت أولادها؛ يعني: أرحامُهنَّ أكثرُ قَبولًا للنُطفة والحمل: إمَّا لقوَّةِ حرارة أرحامهنَّ، أو لشدةِ شهوتهنَّ وميلهنَّ إلى الأزواج وشدةِ ميل الأزواج إليهنَّ، وهذه الأشياءُ سببُ الحمل، ولكنَّ الأسبابَ ليست مُؤثِّرةً إلا بأمر الله تعالى؛ فإنَّا نرَى بعضَ الأبكار لا تَلدُ أصلًا، ونَرى بعضَ الثيبات تَلدُ كثيرًا. (وأرضى باليسير)؛ يعني: يكون رضاها بقلة الطعام والكسوة والتنعم أكثر

2 - باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات

من رضا الثيب؛ فإنَّ الثيبَ إذا قلَّ استحياؤها تَطلبُ أطعمةً لذيذةً وكسوةً رفيعةً، وأَتعبَتِ الزوجَ بالكلف والإذلال. * * * 2 - باب النَّظَرِ إلى المَخطوبةِ وبيانِ العَورات (باب النظر إلى المخطوبة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2298 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تزوَّجتُ امرأةً من الأنصارِ، قال: "فانظرْ إليها، فإنَّ في أَعْيُنِ الأنصارِ شيئًا". قوله: "تزوجت امرأة من الأنصار، قال: فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا" هذا الحديثُ رخصةٌ من الشارع بجواز نظر الرجل إلى المرأة التي يريد خِطبتَها، ولا يَنظرُ إلا إلى ما ليس بعورةٍ منها، وهو: الوجهُ والكفَّانِ ظاهرُهما وباطنُهما، ولا يحتاج إلى إذنها في ذلك. وقال مالك: لا يجوز النظرُ إليها إلا بإذنها. والأَولى أن يَنظرَ إليها قبلَ أن يَطلبَها، حتى لو لم يوافقْه تزوُّجُها وتَرَكَها لا تتأذَّى به المرأةُ وأهلُها؛ فإنه لو طلبها أولًا ثم نَظرَ إليها فربما لا تُوافقُه ويَتركُها، فتتأذَّى به المرأةُ وأهلُها، ولو طلبَها أولًا ثم نظَرَ إليها، ولم تُوافقْه وتَركَها، لم يكنْ به بأسٌ. وقوله في أول هذا الحديث: (تزوَّجتُ امرأةً): لعل المرادَ بالتزوُّج ها هنا: الخِطبةُ لا النِّكاحُ؛ لأنَّ النظرَ بعدَ النَّكاح لا يُفيد، لأنه لو نظَرَ إليها بعد النكاح ولم تُوافقْه، لا

يجوز له الفسخُ إلا بعيوبٍ خمسةٍ، وهي: جنونُها وجُذَامُها وبَرَصُها ورتَقُها وقَرَنُها. والرَّتَق: ضيقُ الفَرج بحيث لا يمكن مجامعتُها، والقَرَن: ظهورُ قطعةِ لحمٍ في باطن الفَرج تمنع المجامعة. قوله: (فإن في أعين الأنصار شيئًا)؛ يعني: يكون في عيون الأنصار شيءٌ من العيب، مثل الحَوَلِ أو شيءٍ من البياض، وهذا يدلُّ أنَّ الرجلَ إذا سألَ أحدًا عن حال امرأة يريد تَزوُّجَها، أو عن حال رجل تريد امرأةٌ أن تَتزوَّجَه، جاز له أن يَصدُقَ فيما علم من عيب تلك المرأة أو الرجل، ولم يكنْ ذلك غيبةً، بل هو نصحٌ وإرشادٌ للسائل؛ كيلا يقعَ في مكروهٍ وشكٍّ. * * * 2299 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباشرِ المرأةُ المرأةَ فتَنْعَتَها لزَوجِها كأنه ينظرُ إليها". قوله: (لا تُبَاشر المرأةُ المرأةَ، فتَنعتَها لزوجها كأنه يَنظرُ إليها)، (المُبَاشرة): إيصال كلِّ واحدٍ من الشخصَين بَشَرتَه إلى بشرة صاحبه، ويُكنى به عن المُجَامَعة والمُلامَسة، والمراد به ها هنا: النظرُ؛ يعني: لا تَنظر المرأةُ إلى امرأةٍ وتصفها لزوجها بما رأت منها من حسن بشرتها، فيقع في قلب زوج الواصفة عشقُ الموصوفة، ويَلحقه شغفٌ وتحيُّرٌ من محبَّتها، وهذا نهيٌ أن تَصفَ المرأةُ حسنَ امرأةٍ عند زوجِها أو رجلٍ آخرَ؛ كيلا يميلَ الرجالُ إلى الأجنبيات بما سمعوا من أوصافهنَّ. رَوى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 2300 - وقال: "لا ينظرِ الرَّجلُ إلى عورةِ الرَّجلِ، ولا المَرأةُ إلى عورةِ المَرأةِ، ولا يُفضي الرَّجلُ إلى الرَّجلِ في ثوبٍ واحدٍ، ولا تُفضي المرأةُ إلى المرأةِ في الثوبِ الواحدِ".

قوله: "لا ينظر الرجلُ إلى عورة الرجل، ولا المرأةُ إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجلُ إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تُفضي المرأةُ إلى المرأة في الثوب الواحد"، (أَفضَى): إذا وصل شيءٌ إلى شيءٍ؛ يعني: لا يجوزْ أن يَضطجعَ رجلانِ تحتَ ثوب واحدٍ مُتجرِّدَين؛ فإنه إذا وَصلَت بشرةُ الرجل إلى الرجل لا يُؤمَن من هيجانِ شهوتهما وظهورِ فاحشةٍ بينهما، وكذلك المرأتانِ إذا وقعت بشرةُ إحداهما إلى الأخرى لا يُؤمَن هيجانُ شهوتهما وظهورُ فاحشةٍ بينهما، وهي أن تُجامعَ إحداهما على بشرة الأخرى، ومجامعتُهما مسحُ إحداهما فَرجَها بفَرجِ الأخرى، وهذا حرامٌ، إلا أنه من الصغائر لا من الكبائر، ويجب به التعزيرُ دونَ الحَدِّ. وفي هذا الحديث: بيانُ تحريم النظر إلى ما لا يجوز. واعلمْ أنَّ نظرَ الرجل إلى عورة الرجل حرامٌ، وعورةُ الرجلِ ما بين سُرَّته إلى ركبتَيه، وكذلك يَحرمُ نظرُ المرأةِ إلى عورة المرأة، وعورةُ المرأة في حقِّ المرأة ما بين سُرَّتها وركبتَيها، وعورةُ المرأة في حقِّ مَحَارمها كأبيها وابنها وغيرِهما من رجال أقاربها ممن يَحرم النَّكاحُ بينهما ما بين السُّرَّة والرُّكبة أيضًا، وأمَّا المرأةُ في حقِّ الرجلِ الأجنبيِّ فجميعُ بدنِها عورةٌ إلا وجهَها وكفَّيها، ولا يجوز النظرُ إلى وجهِها وكفَّيها أيضًا إلا عند حاجةٍ، كسماعِ إقرارٍ وتَحمُّلِ شهادةٍ عليها، أو أراد الرجل أن يَخطِبَها. رَوى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * 2301 - وقال: "ألا لا يَبيتَنَّ رجلٌ عندَ امرأةٍ ثَيبٍ إلا أن يكونَ ناكِحًا أو ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ". قوله: "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحًا أو ذا رحم

مَحْرمٍ" والمراد بالبَيتوتة ها هنا: التخلِّي ليلًا كان أو نهارًا؛ يعني: لا يجوز أن يخلو رجل بأمرأة، إلاَّ أن يكون الرجل زوجَها أو مَحْرَمًا لها. ولا يجوز تخلِّي الرجل بالمرأة الأجنبية بِكْرًا كانت أو ثيبًا، وإنما قيَّدَ النهيَ بالثيب لمبالغةِ الاحترازِ عن الثيب؛ فإنَّ خوفَ الفاحشة من الثيب أكثرُ، لأنَّ الرجلَ يخاف من أقارب المرأة في إزالة بكارتها؛ لأنَّ إزالةَ البَكَارة شيءٌ له علامةٌ تُعرَف، بخلاف وطء الثيب؛ فإنه لا علامةَ له، فإذا لم يكن له علامةٌ تُعرَف فقلما يَحترزُ الرجلُ عنه. رَوى هذا الحديثَ جابرُ بن عبدِ الله. * * * 2302 - وقال: "إيَّاكم والدُّخولَ على النساءِ"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَموُ الموتُ". قوله: "وإيَّاكم والدخولَ على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ الموتُ"؛ يعني: احذروا من أن تدخلوا في بيتٍ فيه امرأةٌ ليست هي من مَحَارمكم، وليس هناك غيرُها؛ فإنَّ الشيطانَ يُوقِعُ بينكم فاحشةً. قوله: (أرأيت الحَموَ)، (الحَمْوُ): واحد الأحماء، وهم أقارب الزوج، قيل: المراد منه ها هنا: أخو زوج المرأة؛ فإنه ليس بِمَحرمٍ لها، وقيل: المراد منه أبو زوجها؛ فإنه مَحرمٌ لها، ولكنْ مَنهيٌّ عن الدخول عليها في الخلوة مبالَغةً لتحريم دخول مَن ليس بِمَحرمٍ لها، فلا يجوز دخولُ أخي زوج المرأة عليها، ولا دخولُ زوجِ المرأة على أختها؛ فإنه لا مَحرميَّةَ بينهم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمو الموت) يعني: دخولُ الحَمو على المرأة في الخلوة سببُ الموت، وأشدُّ من الموت؛ فإنه حرامٌ، وارتكابُ الحرام سببُ الهلاك في الدنيا والآخرة، كما أنَّ الموتَ هلاكٌ، وهذا نظير قولهم: الأسدُ الموتُ؛ يعني:

لقاءُ الأسدِ ومقاربتُه سببُ الموت. رَوى هذا الحديثَ عقبةُ بن عامر - رضي الله عنه -. * * * 2303 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ أمَّ سلمةَ رضي الله عنها استأذَنَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحِجامَةِ فأمرَ أبا طَيبةَ أن يَحْجِمها، قال: حسِبتُ أنه كان أخاها من الرَّضاعةِ، أو غلامًا لم يحتلمْ. قوله: "حسِبتُ أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلامًا لم يَحتلمْ" يعني: لو لم يكن صبيًا غيرَ مُحتلِمٍ أو مَحرَمًا لها لم يُجوِّزْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكشفَ أمُّ سَلَمةَ بدنَها للحجَّام، فإن كان لامرأةٍ وجعٌ شديدٌ يقول الطبيب: لا بدُّ لها من الحِجامة أو الفَصد، أو بها جراحةٌ يُحتاج إلى مداواتها، جاز للحجَّامِ أن يَنظرَ إليها، حتى جاز النظرُ إلى فَرجِها. * * * 2304 - عن جريرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفُجْأَةِ؟ فأمرني أن أصرِفَ بصَري. قوله: "سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرِ الفجأةِ، فأمرني أن أصرفَ بصري"؛ يعني: قلت: إذا وقع بصري على امرأة بغتة بغير اختياري فما حكمه؟ قال: فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصرفَ بصري؛ يعني: أَمرَني أن لا أَنظرَ مرةً ثانيةً؛ يعني: النظرةُ الأولى مَعفوٌّ عنها إذا كان بغيرِ اختيارِهِ، وأمَّا النظرةُ الثانيةُ فغيرُ مَعفوٍّ عنها؛ لأنها باختياره. * * * 2305 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المرأةَ تُقبلُ في صورةِ شيطانٍ وتُدْبرُ في صورةِ شيطانٍ، إذا أحدُكم أعجبَتْهُ المرأةُ فوقعَتْ في

قلبهِ فلْيَعمِدْ إلى امرأتِهِ فلْيُواقِعْها، فإن ذلك يردُّ ما في نفسِه". قوله: "إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورةِ شيطانٍ ... " إلى آخره؛ يعني: النظرَ إلى قُبل المرأة ودُبرها. والمراد: النظرُ إلى جميع بدنها فتنةٌ، تُوقعُ الرجلَ في الفتنة والميل إليها، فلا يَنظرْ إليها باختياره، فإنْ وَقعَ نظرُه إليها، ومالَ قلبُه فَلْيَمنع نفسَه من اتِّباعها وقضاءِ شهوتِه منها، بل لِيَقصدْ بيتَه، وَلْيُجامِعِ امرأتَه، فإذا جامَعَ زوجتَه تُكسَرُ شهوتُه، فإذا انكسرَت شهوتُه يَزولُ ميلُه إلى تلك المرأةِ ببركةِ مُوافقةِ أمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله في هذا الحديث: "أعجبته"؛ أي: صارت حسنةً ومحبوبةً في قلبه. * * * مِنَ الحِسَان: 2306 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطبَ أحدُكم المرأةَ فإن استطاعَ أن ينظرَ إلى ما يدعُوهُ إلى نِكاحِها فليفعَلْ". قوله: "إذا خطب أحدُكم المرأةَ، فإن استطاعَ أن يَنظرَ إلى ما يَدعُوه إلى نكاحِها فَلْيَفعلْ"؛ يعني: فإن استطاع أن يَنظرَ إلى وجهها وكفَّيها؛ لِيكونَ نظرُه إليها مُحرِّضًا له على نكاحها بأن يَميلَ قلبُه إليها، فَلْيَنظرْ؛ فإنَّ هذا النظرَ مُستحَبٌّ؛ لأنه سببُ تحصيلِ النكاح، والنكاحُ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، وما هو سببُ تحصيلِ السُّنَّة يكون سُنَّةً، وكذلك جميعُ الأفعال؛ فما كان منها مُوجبًا وسببًا لخيرٍ فهو خيرٌ، وما هو مُوجِبٌ وسببٌ لشرٍّ فهو شرٌّ. * * * 2307 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ - رضي الله عنه - قال: خطبتُ امرأةً فقالَ لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هلْ نظرتَ إليها؟ " فقلتُ: لا، قال: "فانظرْ إليها فإنه أَحْرَى أن يُؤدَمَ بينَكُما".

قوله: "فإنه أَحرَى أن يُؤدَمَ بينكما"، (أَحرَى)؛ أي: أَجدَر وأَليَق، (أَدَمَ يُؤدَم) على وزن: (أَفعَلَ يُفعَل): إذا وقعـ[ــت]، الأُلفةُ بين الشخصَين. النظرُ إلى المرأة قبلَ النكاح يُوقع الأُلفةَ بين الزوجَين؛ لأنه إذا نَظرَ، فإن مالَ قلبُه إليها وتزوَّجَها، يكون تزوَّجَها عن معرفةٍ ورؤيةٍ، وكلُّ فعلٍ يكون عن معرفةٍ وتجربة، لا تكون بعدَه مَلامَةٌ غالبًا، وإن لم يَنظرْ إليها فربما يُظنُّها جميلةً، فإذا تَزوَّجَها عن هذا الظنِّ، فربما لا تكون كما ظَنَّها، فيكون بعدَ ذلك نادمًا على تزوُّجِها، ولا يكونُ له بها أُلفةٌ. * * * 2308 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ رأى امرأةً تُعجبُهُ فليقُمْ إلى أهِلِه، فإنَّ معَها مثلَ الذي معَها". قوله: "فَلْيَقمْ إلى أهله"؛ يعني: فَلْيُجامع امرأتَه؛ فإنَّ مع امرأته فَرجًا مثلَ فَرجِ تلك المرأة؛ يعني: إذا جامَعَ امرأتَه تُكسَرُ شهوته بإنزال منيه، ويَزول عز نفسه غلبةُ شهوتِه التي حصلَت في نفسه برؤية تلك المرأة، وهذا أمرٌ بأكلِ الحلالِ واستمتاعِ الحلالِ، ونهيٌ عن اتِّباعِ الحرام. * * * 2309 - عن عبدِ الله - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "المرأةُ عورةٌ فإذا خرجَتْ استشرفَها الشَّيطانُ". قوله: "استَشرَفَها الشيطانُ"، (استشرف): إذا نظرَ إلى شيء عن الاحتياط والتأمل، ومعناه هنا: أنَّ شياطينَ الإنس نظروا إليها؛ لأن الطِّباعَ مائلةٌ إلى النساء أكثرُ مما تميلُ إلى غير النساء، أو معناه: حَمَلَ الشيطانُ الرجالَ وأَوقَعَ في قلوبهم أن يَنظروا إليها. * * *

1210 - وعن بُرَيْدةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "يا عليُّ! لا تُتْبعِ النَّظرةَ النظرةَ، فإنَّ لكَ الأولى وليسَتْ لكَ الآخِرةُ". قوله: "لا تُتبعِ النظرةَ النظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخرة"؛ يعني: إذا وقع نظرُك إلى امرأةٍ بغير اختيارك [فـ]ـاحفظْ نظرَك، ولا تَنظرْ إليها مرةً أخرى؛ فإنَّ لك النظرةَ الأولى؛ يعني: لا إثمَ عليك في النظرة الأولى؛ لأنها لم تكنْ باختيارك، وليست لك النظرة الأخيرة؛ يعني: يكون عليك إثمٌ بالنظرة الأخيرة؛ لأنها باختيارك. * * * 2310 - عن عَمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا زَوَّجَ أحدُكم عبدَه أَمَتَهُ فلا ينظرْ إلى عَورتِها". وفي روايةٍ: "فلا ينظرْ إلى ما دونَ السُّرَّةِ وفوقَ الرُّكبةِ". قوله: "إذا زوَّجَ أحدكم عبدَه أمَتَه فلا يَنظرْ إلى عورتِها"؛ يعني: إذا زوَّجَ الرجلُ عبدَه أمَتَه صارت الأمَةُ أجنبيةً من السيد؛ لأنَّ المرأةَ لا تحلُّ للزوج وللسيد معًا، وإذا صارت أجنبيةً من السيد لا يجوزُ للسيد أن يَنظرَ إليها؛ إلا فيما ليس بعورةٍ منها، وهو فوقَ السُّرَّة وتحتَ الرُّكبة؛ لأنَّ الأصحَّ أنَّ عورةَ الأَمَة هذا القَدْرُ كعورة الرجل. وقيل: ما يظهرُ منها في حالَ الخدمةِ والتردُّدِ ليس بعورة، والباقي عورةٌ. وقيل: بل الأَمَةُ كالحرَّة؛ جميعُ بدنها عورةٌ إلا وجهَها وكفَّيها، وهذا الوجهُ بعيدٌ. * * * 2312 - وعن جَرْهَدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَمَا علِمتَ أنَّ الفَخِذَ عَورةٌ؟ ".

قوله: "أمَا علمتَ أنَّ الفخذَ عورةٌ؟ "، وقد ذكرْنا: أنَّ عورةَ الرجل ما بين السُّرة والرُّكبة. واعلمْ أنَّ الفخذَ إذا كان اسمَ قبيلةٍ خاؤها ساكنةٍ، وإذا كان اسمَ العضو [فـ]ـخاؤها مكسورةٌ، وقيل: يجوز تسكينُ الخاء وكسرُها في اسم القبيلة وفي العضو المعروف كلاهما. رَوى هذا الحديثَ جَرْهَد. * * * 2314 - وقال لمَعْمَرٍ: "يا مَعْمَرُ غَطِّ فَخِذَيك فإن الفَخِذَينِ عَورةٌ". قوله: "يا مَعمرُ! غَطِّ فَخذَيك"، (غطَّ): أمرُ مُخاطَبٍ مُذكَّرٍ، من (التغطية)، وهي السَّتر. معنى هذا الحديث ظاهرٌ، ونزيده بيانًا، وهو: أنَّ سترَ العورة في الصلاة واجبٌ، سواء كان المُصلَّي في موضعٍ هناك أحدٌ أو في موضعٍ خالٍ بلا خلاف، وأمَّا في غير الصلاة [فـ]ـيجبُ سترُ العورة إن كان هناك أحدٌ بلا خلافٍ، وإن كان في موضعٍ خالٍ [فـ]ـفيه قولان: الأصحُّ أنَّ السترَ واجبٌ؛ لأنَّ الله تعالى أَولى بأن يُستحيَى منه، وكذا الملائكةُ. وفي قولٍ: لا يجب؛ لأنَّ السترَ من البشر واجبٌ، لا من غيره. * * * 2315 - وقال: "إيَّاكم والتعرِّيَ، فإنَّ معَكم مَن لا يفارقُكم إلا عندَ الغائِطِ، وحينَ يُفضي الرَّجلُ إلى أهلِهِ، فاستحْيُوهم وأكرِمُوهم". قوله: "إيَّاكم والتعرِّي"؛ يعني: احذروا من كشفَ العورة؛ فإنَّ الملائكةَ معكم لا يُفارقونكم إلا عند تغوُّطِكم ومُجامعتِكم النساءَ، فإذا كانوا معكم

فاستَحيُوهم، ولا تَكشفوا عوراتِكم عندَهم، وأكَرِمُوهم بأنْ تُعظِّمُوهم، وتعظيمُهم أن تَستحيُوهم. وهذا يدلُّ على ستر العورة في الخَلوة أيضًا، ولا يجوز كشفُ العورة إلا عند الضرورة لقضاءِ الحاجة، والمُجامعةِ، وحلقِ العانة، ومُداواةِ العورة إذا كان بها علَّةٌ. رَوى هذا الحديثَ ابن عمرَ - رضي الله عنه -. * * * 2316 - وعن أمِّ سلَمَةَ رضي الله عنها: أنها كانت عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونةَ، إذ أقبَلَ ابن أُمِّ مكتومٍ فدخلَ عليهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبا منه"، فقلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ هو أَعمى لا يُبصِرُنا؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَمْياوانِ أنتما، أَلستُما تُبصِرانِه؟ ". "أفعَمياوانِ أنتما؟! ألستُما تُبصرانِه؟! "، (عَمياوان): تثنية عَمياء، وهي تأنيث (أعمى). هذا الحديثُ يدلُّ على أنه لا يجوز للمرأة النظرُ إلى الرجل الأجنبي، كما لا يجوز للرجل أن يَنظرَ إلى المرأة الأجنبية. ويأتي حديث في (باب عِشرة النساء) يدلُّ على جواز نظرة المرأة إلى الرجل الأجنبي، وهو أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على باب حُجرته، وعائشةُ وقفَت خلفَه تنظرُ إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد. فهذان الحديثانِ متناقضانِ؛ فعَملَ بعضُ الفقهاء بالحديث الأول، وتأويلُ الحديثِ الثاني: أنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - حينَئذٍ لم تكنْ بالغةً، وغيرُ البالغة لم تكنْ مُكلفةً، وبعضُهم عَملَ بالحديث الثاني وقال: بل هي بالغة حينئذ، تأوَّلَ الحديثَ الأول على التقوى والورع.

والفتوى على أنه يجوز للمرأة النظر إلى الرجل الأجنبي فيما فوقَ السُّرَّة وتحتَ الرُّكبة، بدليل أنَّ نساءَ الصحابة يحضرون الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ولا بدَّ أن يَقعَ نظرُهنَّ إلى الرجال، فلو لم يجزْ لهنَ النظرُ إلى الرجال لم يُؤمَرْنَ بحضور المساجدِ والمُصلَّى لصلاة العيد، ولأنه أُمرَتِ النساءُ بالحجاب عن الرجال، ولم يُؤمَرِ الرجالُ بالحجاب؛ يعني: لم يُؤمَرِ الرجالُ بأن يَستروا أنفسَهم ووجوهَهم بالجلباب، وأُمرَتِ النساءُ بأن يَحجبن أنفسَهنَّ بالجلباب. وهذا البحثُ الذي ذكرناه فيما إذا لم يكنِ النظرُ عن الشهوة، فأمَّا نظرُ المرأة بالشهوة إلى الرجل فحرامٌ، وما قلنا من تحريم نظر الرجل إلى المرأة يستوي فيه النظرُ بالشهوة وغيرُها. * * * 2318 - وعن عمرَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَخلُونَّ رجل بامرأةٍ، فإنَّ الشَّيطانَ ثالثُهما". قوله: "لا يَخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ"؛ أي: بامرأة أجنبيةٍ. "فإنَّ الشيطانَ ثالثُهم"؛ أي: فإنَّ الشيطانَ يكون معهما، ويُهيج شهوةَ كلِّ واحدٍ منهما، ويُلقي محبةَ كلِّ واحدٍ منهما في قلب الآخر حتى يُوقعَهما في الزِّنا. * * * 2319 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَلِجُوا على المُغِيباتِ، فإن الشَّيطانَ يجري من أحدِكم مَجْرى الدَّمِ". قوله: "لا تَلِجُوا على المُغِيبَات"، (المُغِيبَة): المرأةُ التي غاب عنها زوجُها؛ يعني: لا تدخلوا على النساء الأجنبيات في موضعٍ خالٍ؛ فإنَّ الشيطانَ معكم وأنتم لا تعلمون. وربما يثق الرجلُ بتقوى نفسه، ويَظنُّ أنَّ نفسَه لا تميل إلى المرأة التي

3 - باب الولي في النكاح واستئذان المرأة

يدخل عليها من غاية تقواه، أو من غاية حقِّ زوجِ تلك المرأة وأقاربها عليه، فيُدخلُ الشيطانُ في نفسه محبةَ تلك المرأة بغتةً، ويوقِعُه في الزِّنا. * * * 2320 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتى فاطِمةَ بعبدٍ قد وَهَبَهُ لها، وعلى فاطمةَ ثوبٌ إذا قَنَّعَتْ به رأسَها لم يبلُغْ رِجلَيْها، وإذا غَطَّت به رِجلَيْها لم يبلُغْ رأسَها، فلمَّا رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما تَلْقَى قال: "إنه ليسَ عليكِ بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُكِ". قوله: "إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمةَ - رضي الله عنها - بعبدٍ قد وَهبَه لها، وعلى فاطمةَ ثوبٌ إذا قنَّعَتْ به رأسَها لم يَبلغْ رِجلَيها، وإذا غطَّتْ به رِجلَيها لم يَبلغْ رأسَها، فلما رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما تَلقَى قال: إنه ليس عليك بأسٌ؛ إنما هو أبوك وغلامُك"، و (قنَّعت)؛ أي: ستَرَت. قوله: (ما تلقى)؛ أي: ما يرى من التحيُّر والخجل، ومشقة جرِّ الثوب من الرجل إلى الرأس، ومن الرأس إلى الرجل. هذا الحديثُ صريحٌ بجواز نظر الرجل إلى ما فوقَ السُّرَّة وتحتَ الرُّكبة من نساء مَحارمِه، وصريحٌ أيضًا بأنَّ عبدَ المرأة من مَحارمِها. * * * 3 - باب الوليَّ في النَّكاح واستِئذانِ المَرأةِ (باب الولي في النكاح) مِنَ الصِّحَاحِ: 2321 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْكَحُ الثَّيبُ

حتى تُستَأمرَ، ولا تُنْكَحُ البكرُ حتى تُستَأذنَ، وإذنُها الصُّموتُ". "لا تُنكَحُ الثيبُ حتى تُستأمَرَ، ولا تُنكَحُ البكرُ حتى تُستَأذَنَ، وإذنُها الصُّمُوتُ"، (الاستئمار): طلبُ الأمر، و (الاستئذان): طلبُ الإذن، وكلاهما قريبُ المعنى؛ يعني: لا يجوز للولي أن يُزوِّجَ المرأةَ الثيبَ البالغةَ بغير إذنها، فإنْ زوَّجَها بغير إذنها فالنكاحُ باطلٌ بالاتفاق، بل لا بدَّ من أن تأذنَ وليَّها بالنطق في تزويجها. وأمَّا البكرُ فإن كان وليُّها غيرَ أبيها وجَدَّها يجوز بعد البلوغ بإذنها، وإذنُها السكوتُ، وبغير إذنها لا يجوز بالاتفاق. فأمَّا إن كان وليُّها أباها أو جَدَّها [فـ]ـلا يجوز أيضًا بغير إذنها عند أبي حنيفةَ؛ لهذا الحديث، ويجوز عند الشافعيَّ ومالكٍ وأحمدَ. فإن كانتِ المرأةُ غيرَ بالغةٍ جاز تزويجُها لجميع أوليائها؛ ثيبًا كانت أو بِكرًا عند أبي حنيفةَ، إلا أنه إنْ زوَّجَها أبوها أو جدُّها, لم يكنْ لها الخِيارُ إذا بلَغَتْ، وإنْ زوَّجَها غيرُ الأب والجد، ثبتَ لها الخِيارُ إذا بلَغَتْ. وعند الشافعيِّ: إن كانت ثيبًا غيرَ بالغةٍ لم يَجزْ لأحدٍ تزويجُها، وإن كانت بِكرًا جاز للأبِ والجدَّ تزويجُها, ولم يَجزْ لغيرهما. * * * 2322 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأيمُ أَحَقُّ بنفسِها من وَلِيها، والبكرُ تُستَأذَنُ في نفسِها، وإذنُها صمَاتها". ويروى: "الثَّيبُ أحقُّ بنفسِها من وَلِيها، والبكرُ تستأمرُ". ويروى: "البكرُ يستأذنُها أبوها، وأذنُها صُمَاتُها". قوله: "الأيمُ أحقُّ بنفسها من وليها"، (الأيم): التي لا زوجَ لها؛ يعني: يجوز للمرأة البالغة العاقلة أن تُزوَّجَ نفسَها من زوجٍ بإذنِ الوليِّ وغيرِ إذنِه؛ بِكرًا كانت أو ثيبًا، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال أبو ثَور: إنْ زوَّجَتْ نفسَها بإذن الوليِّ

جاز، ولا يجوز بغير إذنه، وعند الشافعي وأحمد: إنْ زوَّجَتِ المرأةُ نفسَها بَطَلَ النكاحُ، سواءٌ كان بإذن الوليَّ وغيرِ إذنه. * * * 2323 - عن خَنْساءَ بنتِ خِذامٍ: أنَّ أباها زوَّجَها وهي ثَيبٌ فكرِهَتْ، فأتَتْ رسولَ الله فردَّ نكاحَها. قوله: "إنَّ أباها زوَّجَها وهي ثيبٌ، فكرَهَتْ، فأتَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ نكاحَها": هذا دليلٌ على أنه لا يجوزُ تزويجُ الثيب البالغة بغير إذنها. * * * 2324 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَها وهي بنتُ سبعِ سنينَ، وزُفَّتْ إليه وهي بنتُ تسعِ سنينَ، ولُعَبُها معَها، وماتَ عنها وهي بنتُ ثمانِ عَشْرةَ سنةً. قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: "إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَها وهي بنتُ سبعِ سنين": هذا دليلٌ على أنه يجوز للأب تزويجُ بنته الصغيرة بالاتفاق؛ لأنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - زوَّجَها أبوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذُكر قولُ أبي حنيفةَ في جواز تزويج الصغيرة لجميع الأولياء. قوله: "زُفَّت إليه"؛ أي: أُرسلَتْ إليه، إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (الزَّفاف): إرسالُ المرأة إلى بيت زوجها، وتسليمُها إليه. * * * مِنَ الحِسَان: 2325 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ".

قوله: "لا نكاحَ إلا بوليًّ"؛ يعني: كلُّ امرأةٍ زوَّجَتْ نفسَها، أو وكَّلَتْ أجنبيًا حتى يُزوَّجَها فالنكاحُ باطلِ، وبهذا قال الشافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفة: يجوز للمرأة أن تُزوِّجَ نفسَها، وقال مالك: إن كانت المرأة دَنِيَّةً - أي: غير شريفة - جاز أن تُزوجَ نفسَها، أو تُوكِّلَ مَن يُزوِّجُها، وإن كانت شريفةً - أي: معروفةَ النَّسَب -[فـ]ـلا بدَّ مِن أن يُزوَّجَها وليُّها. * * * 2326 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيُّما امرأةٍ نَكَحَتْ بغيرِ إذنِ وليها فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ، فإن دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ من فَرجِها، فإن اشتَجَروا فالسُّلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له". قوله: "نَكَحَتْ بغير إذن وليها، فنكاحُها باطلٌ"؛ يعني: أيما امرأةٍ زوَّجَتْ نفسَها بغير إذن وليها، فنكاحُها باطلٌ، وبهذا قال أبو ثَور، وهو يقول: إنْ زوَّجَتْ نفسَها بإذن وليها جاز نكاحُها، وإن كان بغير إذن وليها، فنكاحُها باطلٌ. وقال أبو حنيفة: يجوز نكاحُها، سواءٌ كان بإذن وليها أو غيرِ إذنه. وقال الشافعي وأحمد: بَطَلَ نكاحُها بإذن الولي وغير إذنه، بل لا يَنعقدُ نكاحٌ إلا أن يَعقدَه الوليُّ أو وكيلُ الوليَّ. قوله: "فإن دَخلَ بها، فلها المَهرُ بما استَحلَّ من فَرجِها"، معنى (استَحلَّ) هنا: استَمتَعَ؛ يعني: فلها المَهرُ بإزاء دخولِه بها، وهذا النَّكاحُ فيه شُبهةٌ؛ لأنه إمَّا أن لا يَعلمَ بطلانَ هذا النَّكاح، فيكون شُبهةً، وإمَّا أن يَعلمَ بطلانَه، ولكنه نكاح اختَلفَ في صحته العلماءُ، وكلُّ نكاحٍ اختَلفَ في صحته العلماءُ وجبَ المَهرُ بالدخول بها في ذلك النكاح؛ لأنَّ اختلافَ العلماء شُبهةٌ، فإن وَلدَتْ، فالولدُ ولدُه، ولا يجب عليه الحَدُّ. قوله: "فإن اشتَجَروا، فالسلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له"، ومعنى (اشتَجَرَ):

اختَلَفَ، والمراد بالاشتجار: عضلُ الوليَّ المرأةَ من التزويج، والعَضْلُ: المنعُ، هكذا فسَّره الخطَّابي؛ يعني: إذا طلَبَتِ المرأةُ البالغةُ من الوليَّ بأن يُزوَّجَها من كُفءٍ، فمنعَ الوليُّ تزويجَها، فالسلطانُ أو القاضي يُزوِّجُها؛ لأن مَن مَنع حَقَّ ذي حقًّ فالقاضي يأخذُ الحقَّ من المُمتنِع، ويُوصله إلى المُستحِقَّ، فكذلك ها هنا؛ الوليُّ مُمتنِعٌ والمرأةُ مُستحِقَّةُ النكاح، فالقاضي يُزوِّجُها، وتزويجُها إيصالُ حقِّها إليها، وإنما قال: (فالسلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له)؛ لأنَّ المرأةَ إذا امتَنعَ وليُّها من تزويجها فكأنه لا وليَّ لها، فالسلطانُ وليُّها. * * * 2327 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البغايا اللاتي يُنْكِحْنَ أنفسَهُنَّ بغيرِ بَينَةٍ" والأصحُّ أنه موقوفٌ على ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -. قوله: "البَغَايا: اللاتي يُنكحْنَ أنفسَهنَّ بغير بينةٍ"، (البَغَايا): جمع بَغِيَّة، وهي الزانية، من (البغَاء) بكسر الباء: وهو الزِّنا، والمراد بالبينة ها هنا: الشاهدُ عند قوم، والوليُّ عند آخرين. فعلى التأويل الأول معناه: النساء اللاتي يُزوِّجْنَ أنفسَهنَّ بغير شهودٍ فهنَّ زانياتٌ، فإنْ كان بحضور شاهدَين صحَّ نكاحُهنَّ، وبهذا قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ المرأةَ عندَه يجوز لها تزويجُ نفسِها, ولا حاجةَ إلى الوليَّ. وعلى التأويل الثاني معناه: أنَّ النساءَ اللاتي يُزوِّجْنَ أنفسَهنَّ فهنَّ زانياتٌ، وبهذا قال الشافعيُّ؛ لأنَّ المرأةَ عنده لا يجوزُ لها أن تزوجُ نفسِها، بل يُزوِّجُها وليُّها أو وكيلُه. * * * 2328 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليتيمةُ تُستَأمرُ في نفسِها، فإن صمتَتْ فهو إذنُها، وإن أَبَتْ فلا جوازَ عليها".

4 - باب إعلان النكاح والخطبة والشرط

قوله: "اليتيمةُ تُستأمَرُ في نفسِها، فإن صَمَتَتْ فهو إذنُها، وإن أَبَتْ فلا جوازَ عليها"، أراد باليتيمة ها هنا: البكرَ البالغةَ التي مات عنها أبوها وجدُّها قبل البلوغ، فحين مات أبوها وجدُّها كانت يتيمةً، فلما بلَغَتْ خَرجَتْ عن أن تكونَ يتيمةً؛ لأنه لا يُتْمَّ بعدَ البلوغ، ولكنْ سَمَّاها ها هنا يتيمةً باسم ما كانت عليه قبل البلوغ؛ يعني: إذا كانت المرأة بِكرًا بالغة، وليس لها أبٌ ولا جدٌّ، [فـ]ـلا يجوز لأحدٍ تزويجُها إلا بإذنها بالاتفاق، وإذنها سكوتها. وإنما قلنا: إن المراد بهذه اليتيمةِ اليتيمةُ البالغة؛ لأنه شرطَ رضاها واستئمارَها، ورضا غير البالغة واستئمارها غيرُ معتبر بالاتفاق. * * * 2329 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما عبدٍ تزوَّجَ بغيرِ إذنِ سيدِهِ فهو عاهرٌ". قوله: "أيُّما عبدٍ تزوجَ بغير إذنِ سيدِه فهو عاهِرٌ", (العاهِر): الزاني. لا يجوز نكاحُ العبد بغير إذن سيدِه عند الشافعيَّ وأحمدَ لهذا الحديث، ولا يَصيرُ العَقدُ صحيحًا عندهما بأن أجازَ السيدُ العَقدَ بعدَ النَّكاح. وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: إن أجازَ السيدُ بعدَ العَقدِ، صحَّ العَقدُ. * * * 4 - باب إعلانِ النكاحِ والخِطبةِ والشَّرطِ (باب إعلان النكاح) مِنَ الصِّحَاحِ: 2330 - عن الرُّبيعِ بنتِ مُعَوِّذِ بن عفراءَ رضي الله عنها: أنها قالت: جاء

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فدخلَ حينَ بني عليَّ، فجلسَ على فراشي، فجعلَتْ جُوَيرياتٌ لنا يَضرِبن الدُّفَّ ويندُبن مَن قُتِلَ من آبائي يومَ بدرٍ، إذ قالت إحداهُنَّ: وفينا نبيٌّ يعلمُ ما في غدٍ فقال: "دَعي هذه وقُولي ما كنتِ تقولينَ". قوله: "عن الرُّبَيع بنت مُعوِّذ بن عفراء: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاء، فدخل حين بني عليَّ، فجَلس على فراشي"، (بني عليَّ) علي بناء المجهول؛ أي: سُلَّمتُ وزُفِفتُ إلى زوجي. "فجعلت جُوَيرياتٌ"؛ أي: طَفِقْنَ "يَضربن الدف"، وهذا دليلٌ على جواز ضربَ الدُّفِّ عند النكاح والزَّفاف. "ويَندُبن مَن قُتل من آبائي"، (النَّدْب): عدُّ خِصال الميت؛ يعني: يَصفْنَ شجاعةَ آبائي، ويَقُلْنَ مرثيتَهم عند ضرب الدُّفِّ، وهذا دليلٌ على أن التكلمَ بشعرٍ وكلامٍ ليس فيه فحشٌ وكذبٌ جائزٌ. قوله: "إذ قالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غدِ"؛ يعني: قالت إحداهنَّ في أثناء ضرب الدُّفِّ هذا الكلامَ، وهو قولها: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غد؛ يعني: يُخبر عن الزمان المستقبل، فيكون كما أَخبرَ، فمنعَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن التكلم بهذا الكلام، وقال: "دعي هذه"؛ أي: اتركي هذه الحكايةَ أو القصةَ، "وقولي ما كنت تقولين"؛ أي: قُولي ذكرَ المقتولين. وعلَّةُ نهيه - صلى الله عليه وسلم - تلك الجاريةَ عن التكلم بقولها: (وفينا رسولُ الله يَعلمُ ما في غد): أنه - صلى الله عليه وسلم - كرهَ أن يقولَ أحدٌ: إنه - صلى الله عليه وسلم - يَعلمُ الغيبَ مطلقًا؛ لأنَّ الغيبَ لا يَعلمُه إلا الله، بل يجب أن يُقال: يَعلمُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الغيب ما أَخبرَه الله به. ويُحتمَل أن تكونَ كراهيته ذلك الكلام أن وصفَه - صلى الله عليه وسلم - في أثناء ضربِ الدُّفِّ، وفي أثناء مَرثيةِ أولئك المقتولين لا يليق بمنصبهِ - صلى الله عليه وسلم -، بل هو أجلُّ

وأشرفُ من أن تذكر هذه العبارة في أثناء ضربِ الدُّفِّ. * * * 2331 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: زُفَّتْ امرأةٌ إلى رجلٍ من الأنصارِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانَ معَكم لهوٌ؟ فإنَّ الأنصارَ يُعجِبُهم اللهوُ". قوله: "ما كان معكم لهوٌ؟ " (ما) للنفي، ومعناه: الاستفهام, والأَولى أن يُقالَ: حُذِفَ من هذا الكلام همزةُ الاستفهام لدلالة الحال عليه، والتقدير: أمَا كان معكم لهوٌ؟ وهذا رخصةٌ في اللهو عند العُرس، والمراد باللهو: ضربُ الدُّفِّ وقراءةُ شِعرٍ ليس فيه إثمٌ. ورَوى ابن سِيرين: أنَّ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا سمع صوتًا أو دُفًّا قال: ما هذا؟ فإن قالوا: عرسٌ أو خِتانٌ، صَمَتَ؛ يعني: تركَهم على حالهم، ولم يَنهَهُم عن ذلك. * * * 2332 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: تَزَوَّجَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شوَّالٍ، وبنى بي في شوَّالٍ، فأيُّ نساءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ أَحْظَى عندَه مني؟. قول عائشة رضي الله عنها: "تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال"؛ أي: نكَحَني في شوال. "وبنى بي"؛ أي: أَدخلَني بيتَه، وضمَّني إليه في شوال. قولها: "أَحظَى"؛ أي: أكثرُ وأَوفَى نصيبًا منه - صلى الله عليه وسلم -. أرادت بهذا الحديث: أنَّ العَوَامَّ كانوا يقولون: التزوُّجُ بين العبدَين ليس بمحمودٍ، فذَكرَتْ عائشةُ هذه الحكايةَ إنكارًا عليهم؛ يعني: فلو لم يكنِ التزوُّجُ بين العيدَين محمودًا لَمَا تزوَّجَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، والتزوُّجُ بين العيدَين حرامٌ

لِمَن أَحرَمَ بالحجِّ من أول شوال، ومِن حين أَحرَمَ الرجلُ بالحجَّ أو العُمرة، حَرُمَ عليه التزوُّجُ، ولا يَنعقدُ النَّكاحُ في الإحرام؛ هذا في المُحْرِم، وأمَّا في غير المُحْرِم، فلا بأسَ عليه بالتزوُّجِ والزَّفاف بين العيدَين. * * * 2333 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أحقُّ الشروطِ أن تُوفُوا به ما استحلَلْتُم به الفُرُوجَ". قوله: "أحقُّ الشروطِ أن تُوفُوا به ما استَحللتُم الفُرُوجَ"؛ يعني: الوفاءُ بالشروطِ حقٌّ، وأحقُّها بالوفاء شروطُ النَّكاح. وشروطُ النَّكاح قسمانِ: أداءُ المَهر؛ عَينًا كان أو في الذِّمَّة، وأداءُ النفقةِ والكسوةِ، والعدلُ بين النساء لو كان لرجل أكثرُ من زوجة، فالوفاءُ بهذه الأشياء واجب بالاتفاق، ومعنى الشروط في هذه الأشياء الحقوقُ؛ يعني: حقوقَ النَّكاح. القسم الثاني: أن يَشرُطَ أهلُ الزوجة على الزوج أن لا يُخرجَها من بلدِها إلى بلدٍ آخرَ، ومن بيتِ أقاربها إلى بيتِ أجنبيًّ، أو مِن محلتِها إلى محلته، أو أن لا يَنكحَ عليها زوجةً أخرى، وما أشبه ذلك، فالوفاءُ بهذه الشروطِ وأشباهِها غيرُ واجبٍ عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وواجبٌ عند ابن مسعود، وبه قال أحمد. رَوى هذا الحديثَ عقبةُ بن عامر - رضي الله عنه -. * * * 2334 - وقال: "لا يخطُبْ الرَّجلُ على خِطْبةِ أخيهِ حتى ينكِحَ أو يترُكَ". قوله: "لا يَخطِبُ الرجلُ على خِطبةِ أخيه حتى يَنكحَ، أو يترُكَ"؛ يعني: إذا طلَبَ أحدٌ امرأةً أن يتزوَّجَها، فأجابه وليُّها حيث لا يُشترطُ رضا الزوجة؛ بأن كانت بِكرًا ووليُّها أبوها أو جدُّها، وحيث شُرِطَ رضا الزوجة؛ فيعتبر أن تجيبَ الطالبَ

الزوجةُ ووليها، فحينئذ يحرم أن يتزوج تلك المرأة أحد حتى يتركَ الطالبُ الأولُ تزوُّجَها، أو يَأذَنَ للطالبِ الثاني في تزوُّجِها، فإن تزوَّجَ الثاني تلك المرأةَ بغير إذنِ الأولِ، صحَّ النَّكاحُ، ولكنْ يَأثمُ. رَوى هذا الحديثَ ابن عمرَ - رضي الله عنهما -. * * * 2335 - وقال: "لا تَسألِ المرأةُ طلاقَ أختِها لتَستفرِغَ صَحفتَها ولتَنكِحَ، فإنَّ لها ما قُدَّرَ لها". قوله: "لا تَسألِ المرأةُ طلاقَ أختها"، الأختُ هنا: يُحتمَل أن تكونَ أختَها من النَّسَب، ويُحتمَل أن تكونَ أختَها في الإِسلام؛ يعني: لا ينبغي لامرأة أن تقولَ لرجل: طلَّقْ زوجتَك وتَزوَّجْني؛ فإنَّ ذلك من الإضرار والخديعة. قوله: "لِتَستفرِغَ صحفتَها"؛ أي: لتجعلَ قصعتَها خاليةً من الطعام؛ أي: لتَحرِمَها وتَمنعَها من النفقة والكسوة، وتقومَ مَقامَها في وجدان النفقة والكسوة وغيرهما من التلذُّذات. قوله: "ولتَنكح" هذا يَحتمل وَجهَين: أحدهما: أن يكونَ معناه: ولتَدخل على تلك المرأة، ولتَنكح زوجَها، ولا تسأل طلاقَها؛ ليكونَ جميعُ مالِ ذلك الرجل للطالِبة؛ فإنَّ الله يُوصل إليها ما قُدَّر لها من الرزق، سواءٌ كانت منفردةً في زوجيةِ ذلك الرجل، أو مع زوجةٍ أخرى. والوجه الثاني: أن يكونَ معناه: ولتَنكحْ زوجًا آخرَ، ولتَترك ذلك الرجلَ؛ كي لا تُلحقَ ضررًا بزوجها. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * *

2336 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشِّغارِ. والشِّغارُ: أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابنتَه على أن يزوِّجَه الآخرُ ابنتَه، وليسَ بينَهما صَداقٌ. قوله: "نَهَى عن الشِّغار"، قد ذُكر شرحُه في (باب الغصب) في قوله: "لا جلب". * * * 2337 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا شِغارَ في الإِسلامِ". قوله: "لا شِغارَ في الإِسلام"؛ يعني: كان أهلُ الجاهلية يَفعلونه، أمَّا في الإِسلام فلا يجوز. رَوى هذا الحديثَ ابن عمرَ - رضي الله عنهما -. * * * 2338 - وعن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مُتْعَةِ النِّساءِ يومَ خيبرَ، وعن أكلِ لُحومِ الحُمُرِ الإِنسيَّةِ. قوله: "نَهَى عن مُتعةِ النساءِ يومَ خَيبرَ، وعن أكلِ لحومِ الحُمُرِ الإنسيَّةِ"، صورة المتعة: أن يَتزوَّجَ الرجلُ امرأةً إلى مدةٍ معلومةٍ، مثل أن يقولَ: تزوَّجتُ هذه المرأةَ شهرًا، ويقول الوليُّ: زوَّجتُكَها، فإذا انقضى ذلك الشهرُ، ارتفَعَ النَّكاحُ، ولا يحتاج إلى الطلاقِ، رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين في هذا النَّكاح عامَ أَوْطاس، وهو غزوٌ؛ لمَّا رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه شبان مُشتهين النَّكاحَ، وخاف منهم الوقوعَ في الفتنة، فرخَّص لهم، ثم قال: "يا أيُّها الناسُ! إني قد كنتُ أَذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإنَّ الله قد حرَّمَ ذلك إلى يوم القيامة"، ومعنى الاستمتاع ها هنا: نكاح المُتعة.

وأَجمَعَ أهلُ السُّنَّة على تحريم نكاح المُتعة، وكذلك أهلُ البدع إلا الشيعةَ. وكذلك كان لحمُ الحمارِ الإنسيَّ حلالًا، ثم حرَّمَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2339 - وعن سلَمَةَ بن الأكَوعِ قال: رَخَّصَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أوطاسٍ في المُتعَةِ ثلاثًا ثم نَهى عنها. قول سَلَمة بن الأكوع: "رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أَوْطاسٍ في المُتعةِ ثلاثًا، ثم نَهَى عنها"؛ يعني: ثلاثةَ أيام؛ يعني: مدةُ هذه الرخصةِ في ذلك الغزو ثلاثةُ أيامٍ، لا جميعُ مدةِ هذه الرخصةِ؛ لأنَّ جميعَ مدةِ هذه الرخصةِ كانت أكثرَ من ثلاثةِ أيامٍ؛ لأنَّ الخطَّابيَّ قال: رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح المُتعة في بدء الإِسلام، ونسخَها في حَجَّةِ الوداعِ. * * * مِنَ الحِسَان: 2340 - عن أبي الأحَوصِ عن عبدِ الله - رضي الله عنه - قال: علَّمنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التشهُّدَ في الصَّلاةِ، والتشُّهدَ في الحاجةِ، فذكرَ التشهُّدَ في الصَّلاةِ كما ذكرَ غيرَه، والتشهَّدُ في الحاجةِ: "إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه", ويقرأُ ثلاثَ آياتٍ قصيرة - ففسَّرَه سفيانُ الثوريُّ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ", ويُروى عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - في خُطبةِ

الحاجةِ من النَّكاحِ وغيره. قوله: "علَّمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التشهدَ في الصلاة، والتشهدَ في الحاجة"، وأراد بالتشهد: كلَّ كلامٍ فيه الثناءُ على الله تعالى، وفيه كلمتا الشهادة؛ يعني: أَمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقَرأَ التشهدَ في الصلاة، وهي: التحيَّاتُ ... إلى آخره، والتشهدَ عند الحاجةِ والنكاحِ؛ يعني: إذا كان لنا حاجةٌ أو شغلٌ عند أحدٍ، أَمرَنا إذا وصلْنا إلى ذلك الأحد أن نَقولَ قبلَ ذكرِنا حاجتَنا: الحمدُ لله نَعبدُه ونَستعينُه ... إلى آخر ما ذكر في هذا الحديث. * * * 2341 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ خُطبةٍ ليسَ فيها تَشَهُّدٌ فهي كَاليَدِ الجَذْماءِ" غريب. وفي رِوايةٍ: "كلُّ كلامٍ لا يُبدأُ فيه بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فهو أَجْذَمُ". قوله: "كلُّ خِطبةٍ ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجَذماء"، (الخِطبة) بكسر الخاء: طلبُ التزوُّج؛ يعني: كلُّ طلبِ تزوُّجٍ، أو: كلُّ عقدٍ، لم يُبدَأ فيه بـ (الحمد لله رب العالمين) فهو كاليد الجَذماء، والجَذماء: المقطوعة؛ يعني: كما أنَّ اليدَ المقطوعةَ لا منفعةَ فيها. ولا قوةَ لِمَن قُطعَتْ يدُه، فكذلك كلُّ أمرٍ لم يُبدَأ فيه بـ (الحمد لله) لا ثباتَ له ولا خيرَ فيه. وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "كل كلام لم يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أَقطع"؛ أي: فهو مقطوعٌ لا نظامَ فيه. * * * 2342 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

"أعلِنُوا هذا النَّكاحَ واجعَلُوه في المساجدِ، واضرِبُوا عليه بالدُّفوفِ", غريب. 2343 - وعن محمَّدِ بن حاطبٍ الجُمَحِيِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَصْلُ ما بينَ الحلالِ والحرامِ: الصوتُ والدُّفُّ في النَّكاحِ". قوله: "أَعلِنُوا هذا النَّكاح" هذا إشارةٌ إلى نكاح المسلمين؛ يعني: أَعلِنُوا نكاحَكم، بأن تجعلوه في المساجد، وأن تضربوا الدُّفوف فيه؛ لأنه لو جَرى النَّكاحُ ولم يَجرِ الإعلانُ، فلم يَدرِ الناسُ بالنَّكاح، وربما رَأَوا رجلًا مُتخلَّيًا بامرأته؛ فيُطالبونه بالإتيان ببينة النَّكاح، فعجزَ عن الإتيان بالبينة؛ فيضربونهما ويَنسبونهما إلى الزِّنا، ويَقعُ الناسُ بسببهما في الغِيبة والبُهتان. كما جاء في الحديث الذي بعده: أنَّ الفرقَ بين الحلال والحرام في النكاح: هو الصوتُ وضربُ الدُّفِّ، ليس المرادُ منه: أنه ليس فرقٌ بين الحلال والحرام في النكاح إلا الصوتُ والضربُ، فإنَّ الفرقَ يَحصلُ بحضور الشُهود عقد النكاح؛ ولكن مرادَه: أنَّ الغالبَ أن يَخفى على الجيران والأباعد جريانُ النكاح في خلوةٍ وإن كان هناك شهود، فالسُّنَّةُ إعلانُ النكاح بضرب الدُّفِّ، وأصواتِ الحاضرين بالتهنئة، أو نغمةٍ في إنشادِ شِعرٍ لا إثمَ فيه. ويجوز ضربُ الدُّف وإنشادُ الشِّعر ورفعُ الصوت عند النكاح في المساجد، وهذا الحديث مُخصَّص لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن رفعِ الأصواتِ وإنشادِ الشِّعر في المساجد؛ يعني: يجوز في النكاح رفعُ الأصوات وضربُ الدُّفَّ في المساجد، ولا يجوز في غير النَّكاح. * * * 2346 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ جاريةً من الأنصارِ زُوِّجَتْ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أرسَلْتُم معهم مَن يقولُ: أَتيناكُم أَتيناكُم ... فَحَيَّانا وحَيَّاكُم"

5 - باب المحرمات

قوله: "ألا أَرسلتُم معهم مَن يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم". 2344 - عن الحَسَنِ، عن سَمُرَة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما امرأةٍ زَوَّجها وليَّانِ فهي للأوَّلِ منهما، ومَن باعَ بيعًا من رجلينِ فهو للأوَّل منهما". قوله: "أيُّما امرأةٍ زوَّجَها وليَّانِ فهي للأول منهما", مثاله: كان لامرأةٍ أخوانِ، فزوجَاها من شخصَين، فإن وقعَ النَّكاحانِ معًا فهما باطلانِ، وإن وَقَعَا متعاقبَين؛ فإن عُلِمَ السابقُ منهما، فالسابقُ صحيحٌ، والثاني باطلٌ، وإن لم يُعرَفِ السابقُ منهما، فهو كما إذا وَقَعَا معًا حتى يَبطلا معًا. وقال مالك: لو عُلِمَ التقدُّمُ والتأخُّرُ؛ فإنْ وَطِئ الثاني، لم يُفرَّقْ بين الثاني وبينها. * * * 5 - باب المُحرَّماتِ (باب المحرمات) مِنَ الصِّحَاحِ: 2347 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُجمَعُ بينَ المرأةِ وعمَّتِها, ولا بينَ المرأةِ وخالتِها". قوله: "لا يُجمَع بين المرأةِ وعمَّتِها, ولا بين المرأةِ وخالتِها"؛ يعني: لا يجوز للرجل أن يَنكحَ عمَّةَ زوجتِه ولا خالتَها ما دامتْ تلك الزوجةُ في نكاحه، فإذا ماتَتْ تلك المرأةُ أو طلَّقَها بائنًا، جاز له أن يَنكحَ عمَّتَها أو خالتَها، وكذلك لا يجوز أن يَنكحَ أختَ زوجتِه ما دامتِ الزوجةُ في نكاحِه. * * *

2348 - وقال: "يَحْرُمُ من الرَّضاعةِ ما يَحرُمُ من الوِلادةِ". قوله: "يَحرُمُ من الرَّضاعة ما يَحرُمُ من الولادة"؛ يعني: كلُّ امرأةٍ يكون بينك وبينها قرابةٌ من النَّسَب بحيث لا يجوزُ لك تزوُّجُها، فلو كانت تلك القرابةُ بينك وبينها من الرَّضاع، لا يجوز لك أيضًا أن تتزوَّجها، فإذا أُرضعتَ لبن امرأةٍ صارَتْ تلك المرأةُ أمَّك من الرَّضاع، ولا يجوز لك أن تتزوَّجَها، كما لا يجوز لك أن تَتزوَّجَ أمَّك التي ولدَتْك، وبناتُ المرأةِ التي أَرضعَتْك صِرْنَ أخواتِك من الرَّضاع، وهن مُحرَّمات عليك كأخواتِك من النَّسَب، وكذلك باقي الأمثلة. رَوَتْ هذا الحديثَ عائشةُ رضي الله عنها. * * * 2351 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحرِّمُ الرضْعةُ والرَّضعتانِ". قوله: "لا تُحرِّم الرَّضعةُ أو الرَّضعتانِ". رَوَتْ هذا الحديثَ أمُّ الفَضل. * * * 2352 - وقال: "لا تُحرِّمُ المَصَّةُ والمصَّتانِ". 2353 - و"لا تُحرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ". قوله: "لا تُحرِّم المَصَّةُ والمَصَّتانِ، ولا تُحرِّمُ الإمْلاجةُ والإمْلاجتانِ". رَوى هذا الحديثَ عبدُ الله بن الزُّبير، عن عائشة رضي الله عنها. (الإمْلاجة) بكسر الهمزة و [بـ]ـالجيم معناها: المَصَّة، و (أَملَجَ): إذا مصَّ. ويُروَى: "ولا تُحرَّمُ المَلْحةُ والمَلْحتانِ" بالحاء المهملة، وهي بمعنى المَصَّة أيضًا.

وفي عبارة هذا الحديث تساهلٌ من المُصنِّف أو النُّسَّاخ؛ لأنه جاء في "الصِّحاح": "لا تُحرِّم المَصَّةُ والمَصَّتانِ"، ويُروَى: "لا تُحرِّمُ الإمْلاجةُ والإمْلاجتانِ". يعني: هاتانِ العبارتانِ جاءتا بروايتَين، لا بروايةٍ واحدةٍ؛ لأنه لو كان بروايةٍ واحدةٍ يكون تكرارًا؛ لأنَّ المَصَّةَ والإمْلاجةَ بمعنًى واحدٍ، وكيف يجوز التكرارُ في حديثٍ واحدٍ وفي روايةٍ واحدةٍ؟! واعلمْ أنَّ مذهبَ الشافعيِّ، وإحدى الروايتين عن أحمدَ: أنه لا تَثبتُ حُرمةُ الرَّضاعة بأقلِّ من خمسِ رَضَعاتٍ، ومذهبَ مالكٍ وأبي حنيفةَ: أنه تَثبتُ الحُرمةُ بقليلِ الرَّضاعِ وكثيرِه، وقال داود: تَثبتُ بثلاثِ رضعاتٍ، وقيل: لا تَثبتُ بأقلَّ من عشرِ رضعاتٍ. * * * 2354 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ فيما أُنزِلَ من القرآن: (عَشْرُ رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحَرِّمْنَ)، ثم نُسِخنَ بـ (خمسٍ معلوماتٍ)، فتُوفيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يُقرأُ من القرآنِ. قول عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل من القرآن: عشرُ رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمْنَ، ثم نُسخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ"؛ يعني: كانت في القرآن آية فيها: أنَّ المُحرِّمَ من الرَّضاع عشرُ رَضَعات، ثم نُسخَتْ تلاوة تلك الآيةُ، ونُسخَتْ من حُكمِها خمسُ رَضَعاتٍ، وبَقيَتْ خمسُ رَضَعاتٍ، فبقي الحُكمُ فيها: أنَّ المُحرِّمَ خمسُ رَضَعاتٍ لا عشرٌ. وليس في لفظ القرآن أنَّ المُحرِّمَ عشرُ رَضَعاتٍ أم خمسٌ، بل نُسِخَتْ تلاوةُ آيةِ الرضاعِ مُطلقًا، وبقي حُكمُ تحريمُ خمسِ رَضَعاتٍ، وهذه الآيةُ كآية الرَّجم؛ فإنه نُسخَتْ تلاوتُها، وبقي حُكمُها.

قولها: "فتُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يُقرَأُ من القرآن"، الواو في (وهي): واو الحال، والضمير في (وهي): ضمير آية: أنَّ المُحرِّمَ عشرُ رَضَعات؛ يعني: كان الناس يقرؤون تلك الآيةَ حتى تُوفَّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا معنى ظاهرِ لفظِها, ولكن ليس مرادُها هذا المعنى؛ لأنَّ تلك الآيةَ لو كان الناسُ يقرؤونها حتى تُوفَّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن لا تكونَ منسوخةً؛ لأنَّ النسخَ لا يُتصوَّر بعدَ وفاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بل مرادها: أنَّ الناسَ كانوا يقرؤون تلك الآيةَ إلى قُربِ وفاةِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فنُسخَتْ قبلَ وفاتِه - صلى الله عليه وسلم - بزمانٍ يسيرٍ. * * * 2355 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندَها رجلٌ فكأنه كرِهَ ذلك فقالَتْ: إنه أخي، فقال: "انظُرْنَ ما إخْوانُكُنَّ، فإنَّما الرَّضاعةُ من المَجاعَةِ". "عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخلَ عليها وعندَها رجلٌ، فكأنه كرهَ ذلك ... " إلى آخره. وفي بعض نسخ "المصابيح": "أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: انظرِي ما إخوانُكنَّ؟ " وهذا خَبطٌ من الناسخ؛ لأنه غيرُ مستقيم في المعنى وفي الرواية؛ أمَّا في المعنى فلأنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: (انظرِي) خطابُ واحدةٍ، وقولَه: (إخوانُكنَّ) خطابُ جماعةِ، وهذا متناقضٌ، وأمَّا في الرواية فلأنه لم يُنقَلْ في "الصَّحاح": (انظرِي) بالياء، بل (انظرْنَ) بالنون. وقوله: (ما إخوانُكنَّ) قد رُوي بلفظة: (ما)، وقد رُوي بلفظة: (من)، فمَن رَوى بلفظة (مَن) فظاهرٌ، ومَن رَوى بلفظة (ما) فهو في معنى (مَن)؛ لأنَّ (مَن) للعقلاء، و (ما) لغيرهم. معنى هذا الكلامُ أنه ليس كلُّ مَن ارتضعَ لبن أمَّهاتِكنَّ يَصيرُ أخاكُنَّ، بل

شرطُ صيرورته أخاكُنَّ أن تكونَ الرَّضاعةُ من المَجَاعة؛ يعني: يجب أن يكونَ الرَّضاعُ في وقتٍ يُشبعُ الرَّضاعُ الولدَ، وذلك يكون في الصِّغر؛ فإنَّ الصغيرَ تكون معدتُه ضعيفةً ضيقةً يَكفيه اللَّبن ويُشبعُه اللَّبن، ولا يحتاج إلى طعامٍ آخرَ، فيَنبتُ لحمُه بذلك اللَّبن ويَقوى، ويَعظمُ عظمُه ويَصير كجزءٍ من المُرضعة، فيكون ولدُها كسائر أولادها الذين وَلدَتْهم، وإذا كَبرَ الولدُ لم يَكفِه اللَّبن، ولم يُشبعْه، بل يحتاج إلى طعامٍ آخرَ، وإذا لم يَكفِه اللَّبن لم يصير ولدَ المُرضعة؛ لأنه لم يَقوَ، ولم يَعظمْ عظمُه، ولم يَنبتْ لحمُه بمجرد لبنها. واختُلف في حدِّ مدةٍ يصير الرَّضاعُ فيها مُحرَّمًا؛ فمذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ: أنَّ غايتَها سنتانِ، ومذهبُ مالكٍ: سنتانِ وبعدَها إلى مدةٍ قريبةٍ، ومذهبُ أبي حنيفةَ: ثلاثون شهرًا، وعندَ بعض العلماء: ثلاثُ سنين. * * * 2355/ م - وعن عُقبةَ بن الحارث: أنه تزوَّجَ ابنةً لأبي إهابِ بن عَزيزٍ، فأتَت امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُ عُقبةَ والتي تَزَوَّجَ بها، فقالَ لها عقبةُ: ما أعلمُ أنكِ أرضعْتِني ولا أخبرتِني! فأرسلَ إلى آلِ أبي إهابٍ فسأَلَهم، فقالوا: ما علمْنا أرضعَتْ صاحبتَنا! فركبَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ فسألَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ وقد قيلَ؟ " ففارقَها ونكحَتْ زَوجًا غيرَهُ. "عن عقبة بن الحارث: أنه تزوج بنتًا لأبي إهابِ بن عَزيز ... " إلى آخره، فالمُشكِل في هذا الحديث: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (كيف وقد قيل؟!) أي: كيف يجوز لك إمساكُها في نكاحِك وقد قيل: إنك أخوها من الرَّضاع؟! يعني: فارِقْها. وهذا الحُكمُ منه - صلى الله عليه وسلم - للوَرَع، وإلا لا يُقبَلُ في الشرعِ قولُ المُرضعة؛ لأنَّ شهادةَ الإنسان على فعل نفسه غيرُ مقبولةٍ.

فإن لم تقلْ: إني أَرضعتُ فلانًا أو فلانةً، بل قالت: أَشهدُ أنَّ بين فلان وفلانة رضاعًا، فهل تُقبَلُ شهادةُ امرأةٍ واحدةٍ؟! قال أحمدُ: تُقبَل ولكنْ تحلف، وقال مالكٌ: تُقبَل شهادةُ امرأتَين، وقال الشافعيُّ: تُقبَل شهادةُ أربعِ نسوةٍ أو رجلَين أو رجلٍ وامرأتَين، وقال أبو حنيفةَ: تُقبَل شهادةُ المُرضعة وحدَها، وأمَّا غيرُ المُرضعة فلا تُقبَل عندَه، إلا شهادةُ رجلَين أو رجلٍ وامرأتَين. * * * 2356 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنينٍ بعثَ جيشًا إلى أوْطاسٍ فأَصابُوا سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تحرَّجُوا من غِشيانِهِنَّ مِن أجلِ أزواجِهِنَّ من المشركينَ، فأَنزلَ الله - عز وجل -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فَهُنَّ حلالٌ لكم إذا انقضَتْ عِدَّتُهنَّ. قوله: "فأصابوا سبَايا"، (السَّبَايا) جمع سبيَّة، وهي (فَعِيلة) بمعنى: مفعولة، من (سَبَى يَسبي): إذا أغار: نساءُ الكفارِ وأولادهم. قوله: "تحرَّجوا"؛ أي: تجنَّبوا، (التحرُّجُ): التجنُّب من الإثم. "الغَشَيان": المُجَامَعة؛ يعني: وجدوا في ذلك الغزو سَبَايا من نساء الكفار، فقسمُوهنَّ بينهم، وكان بعضُهم يَطَأ مَن وقعَتْ في نصيبه من السَّبيَّة، وبعضُهم يَعتقدُ تحريمَ وطئهنَّ؛ لأجل أنَّ لهنَّ أزواجًا من الكفار، وقال: كيف يجوز وطءُ امرأةٍ لها زوجٌ؟! فنَزل قولُه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]؛ النساء ها هنا: النساءُ اللاتي لهنَّ أزواجٌ، وهذا معطوفٌ على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ يعني: هؤلاء المذكوراتُ في هذه الآية مُحرَّماتٌ عليكم، والنساءُ اللاتي لهنَّ أزواجٌ أيضًا مُحرَّمات على غير أزواجِهنَّ، {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ يعني: إلا

ما أخذتُم من نساء الكفَّار، فإنهنَّ مُحلَّلاتٌ لكم، وإنْ كان لهنَّ أزواجٌ من الكفَّار؛ فإنه يَنقطعُ النَّكاحُ بينهنَّ وبينَ أزواجِهنَّ من الكفَّار بعدَما أخذتُموهنَّ. * * * مِنَ الحِسَان: 2357 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ تُنكَحَ المرأةُ على عَمَّتِها، أو العَمَّةُ علي بنتِ أخيها، والمرأةُ على خالتِها، والخالةُ علي بنتِ أُختِها، "لا تُنْكَحُ الصُّغرَى على الكُبرَى، ولا الكُبرى على الصغرَى". قوله: "لا تُنكَحُ الصُّغرى على الكُبرى، ولا الكُبرى على الصُّغرى"، أراد بالصَّغرى: بنتَ أخي المرأة، وأراد بالكبرى: عمَّتَها، وكذلك بنتُ أختِ المرأةِ هي الصُّغرى، وخالتُها هي الكُبرى. يعني: لا يجوز أن تُنكَحَ بنتُ أخي المرأةِ على المرأةِ، ولا تُنكَحُ عمَّةُ المرأةِ عليها, ولا أن تُنكَحَ بنتُ أختِ المرأةِ عليها, ولا أن تُنكَحَ خالتُها عليها حتى يُطلِّقَ التي في نكاحِه أو تموتَ. وعلتُهُ أنَّ تحريمَ الجمعِ بين الأختَين، وبين المرأة وعمَّتِها، وبين المرأة وخالتِها: أنَّ الأختَين من الرَّحِم، وكذلك المرأةُ وعمَّتُها وخالتُها من ذواتِ الرَّحِم، فلو جَمَعَ بينهما في النَّكاح، لَظَهرَتْ بينهما عداوةٌ وقطيعَةُ الرَّحِم، ولا يجوز ما هو سببُ قطعِ الرَّحِم. * * * 2358 - وعن البَراء بن عازبٍ قال: مَرَّ بي خالي ومعَهُ لواءٌ فقلتُ: أينَ تذهبُ؟ قال: بعثني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةَ أبيهِ آتيهِ برأسِه.

وفي روايةٍ: فأَمرني أنْ أضرِبَ عُنُقَهُ وآخُذَ مالَه. قوله: "ومعه لواءٌ": كان ذلك اللواءُ علامةَ كونه مبعوثًا من جهة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر. قوله: "فأَمرَني أن أَضربَ عنقَه وآخذَ مالَه" تأويل هذا: أنَّ ذلك الرجلَ تزوَّجَ زوجةَ أبيه معتقدًا حِلَّ هذا النَّكاح، فإذا اعتقد حِلَّ شيءٍ مُحرَّمٍ كَفَرَ، وجاز قتلُه وأخذُ مالِه، وأمَّا لو تزوَّجَ أحدٌ امرأةَ أبيه أو واحدةً من مَحارمه جاهلًا تحريم نكاحِها - يعني: لم يعلمْ أنه حرامٌ تزوُّجُها - لم يَصِرْ كافرًا، وكذلك لو تزوَّجَها عالمًا تحريمَ نكاحِها, ولكنْ [لا] يَعتقدُ تحريمَها، فُسِّقَ بهذا النكاح، وفُرَّقَ بينهما وعُزَّرَ، ولكنْ لا يجوز قتلُه ولا أخذُ مالِه، وهذا إذا لم يَجرِ بينهما دخولٌ، فإن جرى دخولٌ؛ فإنْ عَلمَ تحريمَه فهو زانٍ، وحُكمُ الزاني لا يخفى، وإنْ جَهلَ تحريمَه فهو واطئٌ بالشُّبهة، ولا يجب عليها الحَدُّ، ويجب عليه مهرُ المِثل، ويَثبتُ نسَبُ الولد. * * * 2359 - وعن أمَ سلَمَةَ قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحَرِّمُ من الرَّضاعِ إلا ما فتَقَ الأمعاءَ في الثَّدي، وكانَ قبلَ الفِطامِ". قوله: "لا يُحرَّم من الرَّضاع إلا ما فتَقَ الأمعاءَ [في الثَّدي] , وكان قبلَ الفِطام"، أراد بقوله: (ما فتَقَ الأمعاءَ): أن يَصلَ اللَّبن إلى الجوف، وهنا احترازٌ عن إن تقيَّأ الولدُ اللَّبن قبلَ الوصول إلى الجوف، فإنه لا يحصل به التحريمُ. ويُحتمل أن يريدَ بفَتقِ الأمعاءِ: أن يَشربَ اللَّبن في زمانٍ يكون اللَّبن له غذاءً، وذلك قبل سنتَين. و (الفَتْق): هو الشَّقُّ، و (الأمعاء): جمع المِعَى، وهو موضع الطعام من البطن.

قوله: "وكان قبل الفِطام"؛ يعني: قبل الحَولَين، أو قبلَ الحَولَين ونصفِ الحَول، أو قبلَ ثلاث سنين، على اختلاف الأقوال. * * * 2360 - وعن حَجَّاجِ بن حَجَّاجِ الأسلميِّ، عن أبيه: أنه قال: يا رسولَ الله! ما يُذهِبُ عني مَذَمَّةَ الرَّضاعِ؟ فقال: "غُرَّةٌ، عبدٌ أو أَمَةٌ". قوله: "ما يُذهب عني مَذمَّةَ الرَّضاع", (المَذِمَّة) بفتح الذال وكسرها: الذِّمام، وهو الحُرمة والحقُّ، وقيل: (المَذِمَّة) بكسر الذال: الحُرمة والحقُّ، و (المَذَمَّة) بفتح الذال: بمعنى الذَّم، وهو اللَّوم؛ يعني: أيُّ شيءٍ أفعلُ لِمُرضعتي حتى يَسقطَ عني حقُّها وحرمتُها التي أَثبتَتْها عليَّ بإرضاعها إيَّاي؟ فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطِها عبدًا أو أَمَةً يَخدمُها؛ ليَرفعَ عنها كلفةَ الخدمة؛ ليكونَ جبرَ ما فعلَتْ بك من الرَّضاع والتربية. * * * 2361 - عن أبي الطُّفَيل قال: كنتُ جالسًا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ أَقبلَت امرأةٌ، فبسطَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رِداءَهُ حتى قعدَتْ عليهِ، فلمَّا ذهبَتْ قيلَ: هذه أرضَعَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "فبَسط النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رداءَه حتى قعدَتْ عليه": هذا إشارةٌ إلى تعظيم أمِّ الرَّضاع، وعلى هذا القياس ينبغي تعظيمُ مَن أثبتت عليك حقًا. * * * 2362 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ غيلانَ بن سلَمَة الثَّقفيَّ أسلمَ، وله عشرُ نسوةٍ في الجاهليَّةِ فأَسْلَمْنَ معَهُ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمسِكْ أربعًا، وفارِق سائرَهُن".

قوله: "أَمسِكْ أربعًا، وفارِقْ سائرَهنَّ"، وفي هذا الحديث ثلاث أبحاثٍ: أحدها: أنَّ أنكحةَ الكفَّار صحيحةٌ إذا أسلموا, ولا يُؤمَرُون بإعادة النكاح إلا إذا كان في نكاحهم مَن لا يجوز الجمعُ بينهنَّ من النساء كأختَين, أو العمَّةِ وبنتِ أخيها، أو الخالةِ وبنتِ أخيِها، أو كانت في نكاحهم مَن لا يجوز نكاحُها كالمَحَارم، أو تزوَّجَها في العِدَّة أو بشرطِ الخِيارِ أيامًا؛ إذا بقي عند الإِسلام من مدة العِدَّة أو الخِيار شيءٌ. الثاني: أنه لا يجوز تزوُّجُ أكثرَ من أربعِ نسوةٍ. الثالث: أنه إذا قال: اختَرتُ فلانةً وفلانةً للنكاح، ثبتَ نكاحُهنَّ، وحصلَتِ الفُرقةُ بينه وبين ما سوى الأربعِ، من غير أن يُطلَّقَهنَّ، أو يقول: فارقتُهنَّ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفارِقْ سائرَهنَّ" معناه: اتركْ سائرَهنَّ، وليس المرادُ منه: وجوبَ اللفظ بالفراق أو الطلاق. ومذهبُ الشافعيَّ ومالكٍ وأحمدَ: أنه يجوز له أن يختارَ أربعًا من جملتهنَّ، سواءٌ تزوَّجَ الأربعَ المختارةَ أولًا أو آخرًا، وكذلك لو أَسلَمَ وتحتَه أختانِ وأَسلَمَتَا معه، كان له أن يختارَ إحداهما، سواءٌ كانت المُختارةُ تزوَّجَها أولًا أو آخرًا. وقال أبو حنيفة: إنْ تزوَّجَهنَّ معًا لا يجوز له أن يختارَ واحدةً منهنَّ، وإن تزوَّجَهنَّ متعاقبات كان له أن يختارَ الأربعَ الأُولياتِ، ولا يجوز له أن يختارَ الأُخرياتِ، وكذلك الأختَين إن تزوَّجَهما معًا؛ لا يجوز أن يختارَ واحدةً منهما، وإن تزوَّجَهما متعاقبتَين، فله أن يختارَ الأُولى منهما دونَ الأخيرة. * * * 2365 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: أسلَمَت امرأةٌ فتزوَّجَتْ، فجاءَ زوجُها إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! إنَّي قد أسلمتُ وعَلِمَتْ بإسلامي، فانتزَعَها

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجِها الآخِرِ، ورَدَّها إلى زوجِها الأولِ. ورُوِيَ أنه قال: إنَّها أسلَمَت معي، فرَدَّها عليهِ. قوله: "إني قد أَسلَمتُ وعلمَتْ بإسلامي"؛ يعني: قال زوجُها الأولُ: قد أَسلمتُ معها أو قبل انقضاء عِدَّتِها، فلما قال الزوجُ هذا الكلامَ انتَزعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزوجةَ من زوجِها الآخِرِ، وردَّها إلى زوجِها الأولِ بلا تجديدِ نكاحٍ، بل حَكَمَ بأن النكاحَ بينها وبين زوجها الأول باقٍ، ونكاحَ الزوج الثاني باطلٌ. والضابطُ في هذه المسألة: أنه لا يخلو إمَّا أن يُسلمَ الزوجانِ معًا، أو يُسلمَ أحدُهما قبلَ الآخر، فإن أَسلَمَا معًا ثبتَ النكاحُ بينهما، سواءٌ كانا أَسلَمَا قبلَ الدخول أو بعدَه، وإن أَسلَمَ أحدُهما قبلَ الآخر فانظرْ؛ فإن أَسلَمَ الزوجُ أولًا؛ فإن كانت زوجتُه كِتابيَّةً فالنكاحُ باقٍ بحاله؛ لأنه يجوز للمسلم تزوُّجُ الكِتابيَّة، وإن كانت زوجتُه على كفرِ غيرِ أهلِ الكتاب، فإن كان إسلامُه قبلَ الدخول، انفسَخَ النكاحُ بينهما في الحال، وإن كان إسلامُه بعدَ الدخول، وُقِفَ النكاحُ على انقضاء العِدَّة، فإنْ أَسلَمَتِ الزوجةُ قبلَ انقضاء العِدَّة، بقي النكاحُ، وإن لم تُسلِمْ حتى انقضَتْ عِدَّتُها، تبيَّنَ ارتفاعُ النكاحِ بينهما من حين إسلامِ الزوج، هذا بحيث ما إذا أَسلَمَ الزوجُ أولًا، فإذا أَسلمَتِ الزوجةُ أولًا؛ فإن كان إسلامُها قبل الدخول، انفسخ النكاح في الحال، سواء كان زوجها كتابيًا أو كافرًا آخرَ غير الكتابي، وإن كان إسلامها بعد الدخول، وُقِف النكاح حتى انقضاء العِدَّة؛ فإن أسلم الزوج قبلَ انقضاء عِدَّتِها، بقي النكاح، وإن لم يُسلمْ حتى انقضَتْ عِدَّتُها، تبيَّنَ ارتفاعُ النكاح من حين إسلامها. * * * 2366 - وروي أنَّ جماعةً من النِّساء رَدَّهُنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنَّكاحِ الأوَّلِ على

أزواجِهِن، عندَ اجتماعِ الإِسلامينِ في العدة بعدَ اختلافِ الدِّينِ والدَّارِ، منهُن: بنتُ الوليدِ بن المغيرةِ، كانَتْ تحتَ صفوانَ بن أميةَ فأَسلَمَتْ يومَ الفتح، فهرَبَ زوجُها من الإِسلام، فبَعَثَ إليه ابن عمِّه وهبُ بن عُميرٍ برداءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا لصفوانَ، فلمَّا قَدِمَ جعلَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَسْييَر أربعةِ أشهرٍ حتى أَسلمَ، فاستقرَّتْ عندَه، وأسلَمَتْ أمُّ حكيمٍ بنتُ الحارثِ بن هشامٍ، امرأةُ عِكرمَةَ بن أبي جهلٍ يومَ الفتحِ بمكةَ، وهربَ زوجُها من الإِسلام حتى قَدمَ اليمنَ، فارتحلَتْ أمُّ حكيم حتى قَدِمَتْ عليهِ اليمنَ، فدعَتْهُ إلى الإِسلامِ فأسلَمَ، فثبَتا على نكاحِهما. قوله: "عند اجتماع الإِسلامَين"؛ يعني: بشرط أن يكونَ إسلامُ الزوجَين معًا، أو يكونَ إسلامُ المتأخرِ قبلَ انقضاء العِدَّة. قوله: "بعد اختلاف الدِّين والدار"؛ يعني: إذا أَسلَمَا قبلَ انقضاء العِدَّة ثبتَ النكاحُ بينهما، سواءٌ كانا على دِينٍ واحدٍ كاليهوديَّين أو النصرانيَّين، أو وثنيَّين، أو مجوسيَّين، أو أحدُهما كان على دِينٍ والآخرُ على دِينٍ آخرَ، وسواءٌ كانا في دار الإِسلام، أو كانا في دار الحرب، أو كان أحدُهما في دار الإِسلام والأَخرُ في دار الحرب؛ بأن يَفرَّ من دار الإِسلام إلى دار الحرب، هذا مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ. وقال عمر بن عبد العزيز مع جماعة: إنَّ الفُرقةَ بينهما بنفسِ إسلامِ أحدِهما، سواءٌ فيه قبلَ الدخول أو بعدَه. وقال أبو حنيفةَ: لا تحصل الفرقةُ بينهما إلا بأحد ثلاثةِ أشياءَ: انقضاءِ العِدَّة، أو عرضِ الإِسلام على الآخر مع الامتناعِ عن الإِسلام، أو ينتقل أحدُهما من دار الإِسلام إلى دار الحرب أو بالعكس، وسواءٌ عنده الإِسلامُ قبلَ الدخول وبعدَه. "جعلَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تسييرَ أربعة أشهر"؛ يعني: أمنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صفوانَ

6 - باب المباشرة

أربعةَ أشهرٍ أن يكونَ بين المسلمين، فيَنظرَ في أفعال المسلمين، فإن شاء أَسلمَ، وإن لم يشأ يَرجعْ إلى دار الحرب من غير أن يُلحقَهُ أحدٌ بضررٍ، فلبث بين المسلمين زمانًا، فرَزقَه الله الإِسلامَ قبلَ أن تَنقضيَ عِدَّةُ زوجته، فقرَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نكاحَهما. * * * 6 - باب المُباشَرةِ (باب المباشرة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2367 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كانت اليهودُ تقولُ: إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبرِها في قُبُلِها كانَ الولدُ أَحْوَلَ، فنزلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قوله: "إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبرِها في قُبلِها"؛ يعني: يقف خلفَها ويُولج في فَرجها, لا في دُبرِها؛ فإنَّ الوطءَ في الدُّبُر مُحرَّمٌ في جميع الأديان. قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]؛ يعني: يجوز لكم مُجامَعةُ نسائكم كيف شئتُم؛ قائما، أو قاعدًا، أو مضطجعًا، أو من القُبُل إلى فَرجها، أو من خلفها إلى فَرجها، وعلى أيِّ حال شئتُم؛ بشرط أن يكونَ الإيلاجُ في الفَرج، لا في االدُّبُر، ولا في حال الحَيض. * * * 2368 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: كنا نعزِلُ والقرآنُ يَنْزِلُ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ فلمْ يَنْهَنا.

قوله: "كنَّا نَعزلُ والقرآنُ يَنزلُ، فبلغ ذلك نبيَّ الله، فلم يَنهَنا"، (العَزْل): أن يُنزلَ الرجلُ منيَّه خارجَ الفَرج؛ يعني: لا يترك إنزالَ المني في الفَرج خشيةَ الولد؛ يعني: كنَّا نفَعلُ هذا الفعلَ في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَنهَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولم يَنزلْ في القرآن نهيٌ عمَّا فعلْنا؛ يعني: لو لم يكنْ جائزًا لَنهانا القرآنُ أو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. قال مالك وأحمد: العَزلُ جائزٌ عن أَمَته، وأمَّا عن زوجتِه الحرَّةِ, فلا يجوز إلا بإذنها، وعن زوجتِه الأَمَةِ، فلا يجوز إلا بإذن سيدها. وقال الشافعي: يجوز العَزلُ عن المملوكة، سواءٌ كانت تلك المملوكةُ مملوكتَه أو زوجتَه، وأمَّا عن الزوجة الحرَّة، فله فيه قولانِ. * * * 2369 - عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنَّ لي جاريةً هي خادمتُنا وأنا أَطوفُ عليها وأكَرَهُ أن تحمِلَ؟ فقال: "اعزِلْ عنها إن شئتَ، فإنه سَيَأتِيها ما قُدَّرَ لها"، فَلِبَث الرجلُ ثم أتاهُ فقال: إنَّ الجاريةَ قد حَبلَتْ، فقال: "قد أخبرتُكَ أنه سيأتِيها ما قُدِّرَ لها". قوله: "وأنا أَطوفُ عليها"؛ أي: أُجامعُها. قوله: "سيأتيها ما قُدِّر لها"؛ يعني: إنْ قدرَ الله تعالى لها حملًا [فـ]ـستَحملُ، سواءٌ عَزلتَ عنها أو لم تَعزلْ؛ فإنَّ العَزلَ لا يَمنعُ تقديرَ الله تعالى. * * * * 2370 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: خرجْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةِ بني المُصْطَلِقِ فاصبنا سبيًا فاشتَهَيْنا النِّساءَ وأحببنا العزلَ، فكنا نعزِلُ

ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ أَظهُرِنا قبلَ أن نسأَلَهُ، فسأَلْناهُ عن ذلكَ؟ فقال: "ما عليكم أن لا تَفْعَلُوا، ما مِن نَسَمَةٍ كائنةٍ إلى يومِ القيامةِ إلا وهي كائنةٌ". قوله: "بين أظهرنا"؛ أي: بيننا. قوله: "ما من نَسَمة"؛ أي: ما من إنسانٍ؛ يعني: كلُّ إنسانٍ قدَّر الله تعالى أن يُوجدَ سيوجد، ولا يَمنعُه العَزلُ. * * * 2371 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن العَزْلِ، فقال: "ما مِن كلِّ الماءِ يكونُ الولدُ، وإذا أرادَ الله خلقَ شيءٍ لم يمنَعْه شيءٌ". قوله: "ما مِن كلِّ الماء يكون الولد"؛ يعني: يجوز العَزلُ؛ لأنَّ العَزلَ لا يمنع حصولَ الولد الذي قدَّرَه الله تعالى. * * * 2372 - وعن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ: أنَّ رجلًا جاءَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أَعزِلُ عن امرأتي، فقال: "لِمَ تفعلُ ذلك؟ " قال: أُشفِقُ على ولدِها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ذلكَ ضارًا ضَرَّ فارسَ والرومَ". قوله: "أُشفق على ولدها"؛ يعني: امرأتي تُرضع ولدَها، وإني أخاف أنْ لو وطأتُها ولم أَعزلْ عنها لَحَملَتْ، وحينَئذٍ يَضرُّ الولدَ الإرضاعُ في حال الحَمل. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارسَ والرُّومَ"؛ يعني: تُرضع نساءُ الفرس والروم أولادَهنَّ في حال الحَمل، فلو كان الإرضاعُ في حال الحَمل مُضرًّا، لأَضرَّ أولادَهنَّ. وهذا إشارةٌ منه - صلى الله عليه وسلم - إلى جواز وطءِ النساء وتركِ العَزل عنهنَّ في

حال إرضاع الولد. * * * 2373 - وعن جُدامةَ بنتِ وَهْبٍ رضي الله عنها قالت: حَضَرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أناسٍ وهو يقولُ: "لقدْ هَمَمتُ أنْ أَنهَى عن الغِيلةِ، فنظرتُ في الرومِ وفارسَ فإذا هم يُغِيلُونَ أولادَهم، فلا يَضُرُّ أولادَهم"، ثم سألُوه عن العزلِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلكَ الوَأْدُ الخَفيُّ". قوله: "هَمَمتُ"؛ أي: عَزمتُ وقَصدتُ. "الغِيلة" بكسر الغين المعجمة: اسمٌ من (أَغالت تُغِيلُ إغالةً) , و (أَغَيلَتْ تُغْيل إغيالاً): إذا أَرضعَتِ المرأةُ ولدَها في حال الحَمل، فهي مُغِيلٌ بغيرها، و (الغِيلة) بكسر الغين المعجمة: اسم ذلك الفعل؛ أي: اسم الإرضاع في حال الحمل. قوله: "ذلك الوَأدْ الخَفِيِّ", (الوأد): دفنُ حيًّ في القبر؛ يعني: العَزْلُ قتلُ نفسٍ بحيث لا تُرَى؛ يعني: إذا منع الرجلُ إنزالَ المنيَّ في الفَرج، فكأنه منع أن يُخلَقَ إنسانٌ، ومنعُ خلقِ إنسانٍ كإزالةِ الرُّوح من حيًّ وإفناءِ حيٍّ. هذا يدلُّ على منع جواز العَزْل، وذلك دليلُ مَن لم يُجوِّزِ العَزْل. وهذا الحديثُ عند مَن لم يُجوَّزِ العَزْل مُحكَمٌ ووعيدٌ على مَن فعلَ العَزْل، ومَن جوَّزَ يقول: إمَّا أن يكونَ هذا الحديثُ منسوخًا، أو تهديدًا؛ لبيان أنَّ الأَولى تركُ العَزْل. * * * 2374 - عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ

أعظمَ الأمانةِ عندَ الله يومَ القيامةِ: الرَّجلُ يُفضي إلى امرأتِهِ وتُفضي إليه ثم يَنشُرُ سِرَّها". وفي روايةٍ: "إنَّ مِنْ أَشَرِّ الناسِ عندَ الله منزِلةً يومَ القيامةِ". "إنَّ أعظمَ الأمانة ... " إلى آخره؛ يعني: أفعالُ الرجل وأقوالُه عند المرأة كأمانةٍ مُودَعةٍ عندها، فإنْ أَفشَتْ شيئًا مما كرهَه، فقد خانَتْ الأمانة، وكذلك أفعالُ المرأة وأقوالُها عند الرجل كأمانةٍ مُودَعةٍ عنده، فإنْ أَفشَى شيئًا مما كرهَتْه فقد خان. وكذلك السِّرُّ الذي يجري بين شخصَين غيرِ الزوجَين ينبغي أن يَحفظَ كلُّ واحدٍ منهما سرَّ صاحبه. * * * 2375 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: أُوحيَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...} الآية، أَقْبلْ وأَدبر واتَّقِ الدُّبرَ والحَيْضَةَ. قوله: "أَقبلْ وأَدبرْ"؛ يعني: يجوز لك أن تأتِيَ امرأتَك من قُبُلِها إلى فَرجِها، ومن خلفِها إلى فَرجِها أيضًا كما ذكرنا. أراد بـ (الحَيضة): المُجامَعةَ في حال الحَيض. * * * 2378 - وقال: "إنَّ الذي يأتي امرأةً في دُبُرِها لا ينظرُ الله تعالى إليه". 2379 - ويُروى: "لا ينظرُ الله إلى رجلٍ أَتَى رَجُلاً أو امرأةً في الدُّبرِ". (إنَّ الذي يأتي امرأتَه في دُبُرِها لا يَنظرُ الله إليه)؛ يعني: لا يَنظرُ الله إليه بنظر الرحمة حتى يتوبَ، وهذا إنْ فعلَه بأجنبيةٍ حُكمُه حكمُ الزِّنا، وإنْ فعلَه

بامرأتِه أو أَمَتِه، فهو مُحرَّمٌ، ولكن لا يُجلَدُ ولا يُرجَمُ، ولكنْ يُعزَّرُ؛ لأنه وطءُ شُبهةٍ بثبوت حقَّه على المرأة، فهو كما إذا وَطِئ أحدٌ أَمَةً مشتركةً بينه وبين غيره. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 2380 - عن أسماءَ بنتِ يزيد قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَقتُلوا أولادَكَم سِرًا فإنَّ الغَيْلَ يُدرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُهُ". قوله: "لا تقتلوا أولاكم سِرًّا؛ فإنَّ الغَيلَ يُدرك الفارسَ، فيُدَعثِرُه", (الغَيْل) بفتح الغين المعجمة: اللَّبن الذي أَرضعَتْه المرأةُ ولدَها في حال الحَمل. (دَعثَرَ): إذا أَسقطَ وخرَّبَ؛ يعني: إذا حَملَتِ المرأةُ ولها لَبن يَفسد لَبنها في حال الحَمل، فإذا أَرضعَتِ الولدَ من ذلك اللَّبن يصير الولدُ ضعيفًا، وتقلُّ قوتُه. ونهيُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإرضاع في حال الحمل؛ لأنه إضعافٌ للولد، وإضعافُ الولدِ كإهلاكِه، وهذا الإهلاكُ إهلاكٌ لا يَراه أحدٌ؛ فلهذا قال: (لا تقتلوا أولادكم سرًّا). ويُحتمَل أنَّ هذا النهيَ يتوجَّهُ للرجال؛ يعني: لا تُجامِعُوا في حال الإرضاع؛ كي لا تَحملَ نساؤكم، فيُهلك الإرضاعُ في حال الحَمل أولادَكم. فنَهَى في هذا الحديث عن الغَيْل، ولم يَنهَ عنه في حديث مُتقدِّمٍ في هذا الباب، والوجهُ أن نقول: هذا النهيُ نهيُ تنزيهٍ، لا نهي تحريمٍ. * * *

فصل

فصل مِنَ الصِّحَاحِ: (فصل) (من الصحاح): 2381 - عن عروةَ، عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها في بَريرةَ: "خُذِيها فأَعتِقِيها" وكان زَوْجُها عبدًا، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارَتْ نفسَها, ولو كان حرًّا لم يُخيرها. "بَرِيرة": اسم جارية اشترتْها عائشةُ - رضي الله عنها - وأَعتقَتْها، وكان لها زوجٌ مملوكٌ، فلما أُعتِقت خيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أن يُفسَخَ النكاحُ، وبين أن لا يُفسَخَ، فإذا أُعتِقت أَمَةٌ؛ فإن كان زوجُها مملوكًا، فلها الخِيارُ بالاتفاق، وإن كان زوجُها حرًّا، فلا خِيارَ لها عند الشافعيِّ ومالكٍ - رضي الله عنهما - وأحمدَ رحمه الله، ولها الخِيارُ عند أبي حنيفةَ رحمه الله، وإن أُعتِق الزوجانِ معًا، فلا خِيارَ، وإن أُعتِق الزوجُ، فلا خِيارَ له، سواءٌ كانت زوجتُه مملوكةً أو حرَّةً. * * * 2382 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: كانَ زوجُ بَريرةَ عبدًا أسودَ يقالُ له: مُغِيث، كأنَّي أنظرُ إليهِ يطوفُ خَلْفَها في سِكَكِ المدينةِ يبكي، ودُموعُهُ تسيلُ على لِحْيَتِهِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للعباسِ: "يا عبَّاسُ! ألا تَعْجَبُ من حُبِّ مُغيثٍ بريرَةَ ومن بُغض بريرةَ مُغيثًا؟ " فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو راجعتيه"، فقالت: يا رسولَ الله! تَأْمُرُني؟ قال: "إنَّما أنا أشفعُ"، قالت: لا حاجةَ لي فيه. قوله: "يطوف خلفَها"؛ يعني: يمشي خلفَها من حبها، ويتضرَّع عندها؛ لترجعَ إلى نكاحه.

"السِّكَك": جمع سِكَّة، وهي الدَّرْب. قوله: "لو راجعته": جوابُ (لو) محذوفٌ، تقديره: لو راجعتِه لَكان لكِ ثوابٌ. قولها: "تأمرُني؟ ": همزة الاستفهام فيه مُقدرةٌ؛ يعني: أتأمرُني حتى يجبَ عليَّ الإتيانُ بأمرك؛ فإنَّ أمرَك واجبٌ، وتاركَه عاصٌ، أم تَشفَعُ حتى يكونَ قَبولُ شفاعتك مُستحَبًّا، وتاركُ المَستحَبَّ لا يكون عاصيًا؟ * * * مِنَ الحِسَان: 2383 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها أرادَتْ أن تُعتِقَ مَمْلوكَينَ لها زوجينِ، فسألَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَمرَها أن تَبدأَ بالرَّجلِ قبلَ المرأةِ. "عن عائشةَ رضي الله عنها: أنها أرادتْ أن تُعتقَ مملوكَين ... " إلى آخره؛ يعني: كان لها عبدٌ وأَمَةٌ، وكانت الأَمَةُ زوجةَ العبد، وأرادت أن تُعتقَها، فسألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّها تُعتِق أيَّهما ابتداءً؟ فأَمرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن تبدأَ بعتق الزوج؛ لأنها لو أَعتقَتْ أولاً الزوجةَ، فيُفسَخُ النكاحُ، ولو أَعتقَتْ أولاً الزوجَ، لا يُفسَخُ النكاحُ، فالإعتاقُ على وجهٍ يُبقِي النكاحَ بينهما أَولى من الإعتاق على وجهٍ يَفسَخُ النكاحَ. * * * 2384 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن بريرةَ عُتِقتْ وهي عندَ مُغيثٍ، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لها: "إن قَرِبَكِ فلا خيارَ لك". قوله: "إنْ قَرُبَك فلا خِيارَ لك"؛ يعني: لك خِيارُ الفسخِ ما لم يُترَك أن يَطأَك زوجُك، فإنْ تسلَّمْتِ للوطء، بَطَلَ خِيارُك، وبهذا الحديث قال الشافعيُّ في قولٍ، وفي قولٍ: لها الخِيارُ إلى ثلاثة أيام، وفي قولٍ: فلو أخَّرتْ هي الفسخَ

7 - باب الصداق

بعدَ أن علمَتْ بعتقها، بَطَلَ خِيارُها. * * * * 7 - باب الصَّداق (باب الصَّداق) مِنَ الصّحَاحِ: 2385 - عن سَهْلِ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَتْهُ امرأةٌ فقالَتْ: يا رسولَ الله! إنَّي وهبتُ نفسي لكَ فقامَتْ طويلاً، فقامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! زَوِّجنِيها إن لم تكنْ لكَ بها حاجةٌ، فقال: "هل عندَكَ من شيءٍ تُصْدِقُها؟ " قال: ما عندي إلا إزاري هذا، قال: "فالتَمِسْ ولو خاتَمًا من حديدٍ"، فالتَمَسَ فلم يَجِدْ شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلْ معكَ من القرآنِ شيءٌ؟ " قال: نعم، سورةُ كذا، وسورةُ كذا، فقال: "قد زَوَّجتُكَها بما مَعَكَ من القرآنِ". ويُروى: "قد زَوَّجتُكَها، فعَلَّمْها". قوله: "جاءتْه امرأةٌ، فقالت: يا رسول الله! إني وهبتُ نفسي لك ... " إلى آخره. ففي هذا الحديث فوائدُ كثيرةٌ: إحداها: أنه إذا قالت المرأةُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني وهبتُ نفسي منك، يَصحُّ النكاحُ بشرط أن يَقبَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والدليلُ على أنَّ قَبولَه - صلى الله عليه وسلم - شرطٌ: أنه لمَّا سكتَ - صلى الله عليه وسلم - عن جواب المرأة، قال ذلك الرجل: يا رسول الله! زوَّجْنِيها إنْ لم يكنْ لك فيها حاجةٌ، فلو صارت المرأةُ زوجةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرَّدِ قولها: إني وهبتُ نفسي منك، لَمَا جاز أن يَلتمسَها الرجلُ، ولَمَا زوَّجَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الرجل من غيرِ طلاقٍ.

فمذهبُ الشافعيِّ: أنَّ انعقادَ النكاح بلفظ الهِبة من خصائص النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى لو قالت امرأةٌ لرجلٍ: وهبتُ نفسي منك، لا يَصحُّ النكاحُ، بل لا يَنعقدُ النكاحُ في غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا بلفظ الإنكاحِ والتزويجِ، أو بمعناهما في سائر اللغات. وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاحُ بلفظ الهِبة والبَيع وسائر الألفاظ في حقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيره. الفائدة الثانية: أنه يصحُّ نكاحُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بلا وليًّ، وفي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَجُزْ أن تُزوِّجَ المرأةُ نفسَها، أو تُوكِّلَ أجنبيًّا في أن يُزوِّجَها؛ بل يجب ان يُزوِّجَها وليُّها عند الشافعيِّ، وجوزَ أبو حنيفةَ أن تُزوِّجَ المرأةُ نفسَها. الفائدة الثالثة: أن الصَّداقَ يجوز أن يكون قليلاً أو كثيرًا، ولم يكنْ له قَدْرٌ معينٌ، بل يتعلقُ برضا الزوجَين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل عندك مِن شيءٍ تُصدِقُها؟ ", وهو مذهب الشافعيِّ وأحمدَ. وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يتقدَّر الصَّداقُ بنصابِ السرقة، وهو عشرةُ دراهمَ عند أبي حنيفةَ، وربعُ دينارٍ عند مالكٍ. وذكرُ الصَّداق في النكاح مُستحَبٌّ، ولو لم يُذكَرِ الصَّداقُ لَصحَّ النكاحُ. الفائدة الرابعة: أن التختُّمَ بخاتم الحديد جائزٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فالتمِسْ ولو خاتمًا من حديدٍ". الفائدة الخامسة: أنه يجوز جعل تعليمِ القرآن صَداقًا، ويُبَيَّنُ قَدرُ ما يُعلِّمُها من السور. الفائدة السادسة: أن القاضي يجوز له تزويجُ المرأة الكبيرة برضاها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لذلك الرجل: "قد زوَّجتُكها", فعَلِّمْها.

رجعنا إلى شرح ألفاظ هذا الحديث: "تُصدقُها" مضارع (أَصدَقَ إصداقًا): إذا سَمَّى صَداقَ امرأةٍ في وقت النكاح. قوله: "ما عندي إلا إزاري"؛ يعني: ليس لي شيءٌ إلا إزاري هذا. وقد جاء في رواية أخرى: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن أعطيتَها إيَّاها جلستَ بلا إزارٍ"، الضميرُ في (أعطيتَها) ضميرُ الإزار؛ لأنها مُؤنَّثٌ سماعيٌّ، وفي (إيَّاها) ضميرُ المرأة؛ يعني: لا يمكنك أن تَجعلَ إزارَك صَداقًا لها. "فالتمسْ"؛ أي: فاطلبْ شيئًا آخرَ. * * * 2386 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها وسُئلَت عن صَداقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: قالت: كانَ صَداقُه لأزواجِه ثنتَيْ عشرةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا، قالت: أَتدرونَ ما النَّش؟ نصفُ أُوقيَّة، فتِلكَ خَمْسُ مِئَةِ درهم". قولها: "أتدري ما النشُّ؟ "، (النشُّ): نصفُ أُوقيةٍ، و (الأُوقية): أربعون درهمًا. * * * مِنَ الحِسَان: 2387 - قال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه -: ألا لا تُغالوا صَدُقَةَ النِّساءِ، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدُّنيا وتَقوى عندَ الله، لكانَ أَوْلاكُم بها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ما علمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نكحَ شيئًا من نسائِهِ ولا أَنْكَحَ شيئًا من بناتِه على أكثرَ من اثنتي عَشْرَةَ أُوقِيَّةً.

قوله: "لا تُغالُوا صَدُقةَ النساء"؛ أي: لا تُكثروا مَهرَ النساء. قوله: "مَكرُمةً"؛ أي: كرمًا ومروءةً وشرفًا. * * * 2388 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعطى في صَداقِ امرأتِه مِلءَ كفيهِ سَوِيقًا أو تمرًا فقد استحَلَّ". قوله: "مَن أَعطَى في صَداق امرأته ملءَ كفَّيه سَوِيقًا أو تمرًا، فقد استَحلَّ": قد ذُكر في أول هذا الباب: أنه يجوز أن يكونَ الصَّداقُ قليلًا أو كثيرًا، ويجوز أن لا يُذكَر الصَّداقُ في النكاح، إلا أنه إذا تزوَّجَ بغير الصَّداق، يجبُ مَهرُ المِثل عند الدخول. وقوله: (فقد استَحلَّها): ذَكر هذا على رسم غالب الناس؛ فإنهم يتزوَّجون على الصَّداق، وليس معناه: أنه لو لم يَذكرِ الصَّداقَ، لم تَحِلَّ المرأةُ، بل لو أَذنَتِ المرأةُ البالغةُ العاقلةُ في أن يُزوِّجَها وليها بلا مَهرٍ، صحَّ النكاحُ. * * * 2389 - وعن عامرِ بن رَبيعةَ - رضي الله عنه - قال: "أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُل من بني فَزَارَةَ ومعَهُ امرأةٌ لهُ فقالَ: إنَّي تزوَّجتُها بنعلَينِ، فقال لها: أَرَضيتِ؟ قالت: نعم، ولو لم يُعطِني لَرَضيْتُ، قال: شأنُكَ وشأنُها". قوله: "شأنَك وشأنَها"؛ أي: الزَمْ شأنَك وشأنَها؛ أي: اشتَغِل بأمرِك وأمرِها؛ يعني: اشتَغِلْ بالأفعال التي ينبغي أن تكونَ بين الزوج والزوجة. * * *

2390 - عن عَلْقَمَةَ، عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنهما -: أنَّه سُئلَ عن رجلٍ تزوَّجَ امرأةً ولم يَفرِضْ لها شيئًا ولم يَدخلْ بها حتى ماتَ؟ فقال ابن مسعودٍ: لها مِثلُ صَداقِ نسائِها، وعليها العِدَّةُ، ولها الميراثُ، فقامَ مَعْقِلُ بن سِنانٍ الأشْجَعِيُّ فقال: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بِرْوَعَ بنتِ واشِقٍ الأشجَعيَّةِ امرأةٍ منا بمثلِ ما قَضَيْتَ، ففرِحَ بها ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -. قوله: "عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه سُئل عن رجلٍ تزوَّج امرأةً ولم يَفرضْ لها شيئًا ... " إلى آخره. (الفَرْضُ): التقدير؛ يعني: تزوَّجَها ولم يُسمِّ لها مَهرًا، ثم مات الزوجُ قبلَ أن يَدخلَ بها، فاجتهدَ ابن مسعود في هذه المسألة شهرًا، ثم قال: لها صَداقُ نسائها, ولها الميراثُ، وعليها العِدَّةُ؛ فإن يكنْ صوابًا فمِنَ الله، وإن يكنْ خطأ فمنِّي ومن الشياطين. ففي قول ابن مسعود دليلُ جوازِ الاجتهاد؛ فإنه حكمَ في هذه المسألة باجتهاده حتى شهد مَعقِلُ بن سِنان: أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه حكمَ في هذه المسألة بمثل ما حكمَ به ابن مسعود - رضي الله عنه -، ففرح ابن مسعود بكونِ اجتهادِه موافقًا لحكم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -: إنه لا مَهرَ لها؛ لأنه لم يَدخلْ بها الزوجُ، ولها الميراثُ، وعليها العِدَّةُ. وللشافعي قولانِ: أحدُهما يقول ابن مسعود، والثاني يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ومذهبُ أبي حنيفةَ وأحمدَ كقول ابن مسعود. هذا إذا مات الزوجُ قبلَ الفَرض والدخول، أمَّا إذا دخلَ بها قبلَ الفَرض، وَجَبَ لها مَهرُ المِثل بلا خلافٍ، ومَهرُ المِثل هو: مَهرُ نساءٍ من نسائها في المال

8 - باب الوليمة

والجمال والثُّيُوبة والبَكَارة من نساء عصباتها، كأخواتها من الأب والأم أو من الأب أو عمَّتِها أو بنتِ عمِّها. فإن طلَّقَها قبلَ الدخول والفَرض، فلها المُتعةُ، وهو شيءٌ يُقدِّرُه الحاكمُ باجتهاده؛ على المُوسِع قَدْرُه، وعلى المُقتِر قَدْرُه، مثل أن يُعطيَها ثوبًا أو خمارًا أو خاتمًا. * * * 8 - باب الوَليمةِ (باب الوليمة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2391 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى على عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ أثرَ صُفْرةٍ فقال: ما هذا؟ قال: إني تزوَّجتُ امرأةً على وزنِ نَواةٍ من ذهبٍ، قال: "باركَ الله لكَ، أَوْلِمْ ولو بشاةٍ". قوله: "رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صُفرة"؛ يعني: رأى على عبد الرحمن بن عوف أثرَ صُفرة الزَّعْفَران، فكرهَ - صلى الله عليه وسلم - تلك الصُّفرة منه؛ لأنَّ استعمالَ الزَّعْفَران والخَلُوق وما كان له لونٌ لا يجوز للرجال؛ لأنه تشبُّهٌ بالنساء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هو؟! يعني: لِمَ استعملتَ هذه الصُّفرة؟ فقال عبد الرحمن: تزوَّجتُ، فلما قال عبد الرحمن: تزوَّجتُ، سكتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمرْه بغسل ذلك الأثر. قال الخطَّابيُّ: لأنَّ ذلك كان قليلًا، فعفا عنه، وقيل: بل استعمالُ الزَّعْفَران عند التزوُّج جائزٌ. قوله: "على وزن نواة" (النَّواة): خمسةُ دراهم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بارَكَ الله لك": هذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدعاءَ للمُتزوَّج سُنَّةٌ.

قوله: "أَولِمْ": هذا أمرُ مُخاطَبٍ، من (أَولَمَ يُولِمُ): إذا هيَّأ طعامًا للناس عند العُرس؛ أي: الزَّفاف، وعند الخُرْسِ: وهو السلامة من الولادة، وعند الإعذار: وهو الخِتان، وعند القدوم من السفر، وعندما تحدث له نعمةٌ، وأن يَذبحَ للولد يومَ السابع من ولادته شاتَين للغلام وشاةً للجارية؛ وآكدُها عند العُرس، وقيل: هو واجبٌ. * * * 2392 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: ما أَوْلَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أحدٍ من نسائِه ما أَوْلَمَ على زينبَ، أَوْلَمَ بشاةٍ. قوله: "ما أَولَمَ"؛ أي: مثلَ ما أَولَمَ، أو قَدْرَ ما أَولَمَ. "على زينب"؛ يعني: أَولَمَ على زينبَ أكثرَ مما أَولَمَ على سائر نسائه. * * * 2393 - وقالَ: أَوْلَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ بني بزينبَ بنتِ جحشٍ فأَشبعَ الناسَ خُبْزًا ولَحْمًا. قوله: "حين بني بزينب"، (بني بناءً)، و (زَفَّ زَفافًا): إذا دخل الرجلُ بيتَ زوجته، أو أُرسلَتِ الزوجةُ إلى بيت زوجها، يُقال: بني على امرأته، وبنى بامرأته: إذا اجتمع معها أولَ مرة. * * * 2394 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعتقَ صفيَّةَ وتزوَّجَها، وجعلَ عِتْقَها صَداقَها، وأَوْلمَ عليها بحَيْسٍ.

قوله: "أَعتَقَ صفيَّةَ وتزوَّجَها، وجعل عِتقَها صداقَها، وأَولَمَ عليها بِحَيْس"، (الحَيس): التمرُ المخلوطُ مع السَّمن. اعلمْ أنَّ أحمدَ قال: لو أَعتَقَ أحدٌ أَمَتَه على أن يَتزوَّجَها، ويكون عِتقُها صَداقَها، جاز، فإذا قال السيد: أُعتقُك على أن تَكوني زوجتي، ويكون عِتقُك صَداقَك، صحَّ النكاحُ عنده، ولا يحتاج إلى لفظٍ آخرَ، بل صارت بهذا اللفظ زوجةً له، وصار عتقُها صَداقَها. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: لم يَجُزْ هذا الشَّرط، بل إذا قال: أَعتقتُك على أن أتزوَّجَك، ويكونَ عتقُك صَداقَك، عَتَقَتْ، ولكن لو أراد تزوُّجَها، يجب استئنافُ النكاح بمَهرٍ جديدٍ، ولا يجوز أن تكونَ قيمتُها إصداقَها، وقال الشافعي: عتقت إذا أَعتَقَها بهذا الشَرط، ولكنْ يجب استئنافُ النكاح، فإنْ تزوَّجَها بقيمتها، ويكون الزوجانِ راضيَين بذلك، جاز، وإن لم تفِ الأَمَةُ بهذا الشَّرط؛ يعني: لم ترضَ بأن تتزوَّجَ به، لم تُجبَرْ، ولكنه يَرجعُ السيدُ عليها بقيمتها. وتأويلُ الحديث عند مالكِ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ - رضي الله عنهم -: أنَّ الإعتاقَ وجعلَ العَتق صَداقًا من خواصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2395 - وقال: أقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ خيبرَ والمدينةِ ثلاثَ ليالٍ، يبنى عليهِ بصَفيّةَ، فدعوتُ المسلمينَ إلى وليمتِهِ وما كانَ فيها من خبزٍ ولا لَحْمٍ، وما كانَ فيها إلا أن أَمرَ بالأنطاعِ فبُسِطَتْ فأُلقيَ عليها التمرُ والأقِطُ والسَّمْنُ. "وقال: أقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: قال أنس. "الأقط": الرائب الذي يُجعَل في كيسٍ أو زَنبيلٍ، حتى يذهبَ ماؤه ويصير غليظًا مثل العجين، ثم ربما يُجعَل قطعًا، ويُجعَل يابسًا. * * *

2397 - عن عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دُعي أحدُكم إلى الوَليمةِ فليأتِها". وفي روايةٍ: "فليُجِبْ، عُرْسًا كانَ أو نحوَه". قوله: "فَلْيُجِبْ، عرسًا كان أو نحوه"؛ يعني: فَلْيُجبِ الداعيَ إلى أيِّ ضيافةٍ كانت؛ إذا لم تكنْ هناك معصيةٌ. قال مُحيي السُّنَّة رحمه الله: إجابةُ الداعي إلى ضيافةٍ غيرِ الوليمةِ مُستحبَّةٌ، وفي إجابة الوليمة قولانِ في أنها: واجبةٌ أو مُستحبَّةٌ، والوجوبُ والاستحبابُ إنما يكون إذا لم يكنْ هناك معصيةٌ، ولم يكنْ هناك مَن يتأذَّى بحضوره. * * * 2399 - وقال: "شرُّ الطَّعامِ طَعامُ الوَليمةِ، يُدعَى لها الأغنياءُ ويُترَكُ الفقراءُ, ومَنْ تركَ الدَّعوةَ فقد عصَى الله ورسولَه". قوله: "شرُّ الطعام طعامُ الوليمة": إنما كان طعامُ الوليمة شرَّ الطعام إذا دُعِي لها الأغنياءُ وتُرِك الفقراءُ, أما إذا دُعِي لها الأغنياءُ والفقراءُ جميعًا، لم تكنْ شرَّ الطعام؛ بل تكون رضًا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "ومَن ترك الدعوةَ فقد عصى الله ورسولَه"؛ أي: مَن ترك إجابةَ الدعوة؛ يعني: مَن دعاه صاحبُ الوليمة إليها, ولم يُجبْ مِن غير عذرٍ فقد خالَفَ أمرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا خالَفَ أمرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد خالَفَ أمرَ الله، فمَن قال: إجابةُ الوليمة واجبة، تمسكَ بظاهر هذا الحديث، ومَن قال: هي سُنَّةٌ، تأوَّلَ هذا الحديثَ على تأكيدِ الاستحبابِ. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * *

2400 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رجلٌ من الأنصارِ يُكْنَى أبا شُعيبٍ، كانَ له غلامٌ لحَّامٌ فقال: اِصنَعْ لي طعامًا يكفي خمسةً، لَعَلِّي أَدعو النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خامسَ خمسةٍ، فصنعَ له طُعَيمًا ثم أتاهُ فدعاهُ، فتبعَهم رجلٌ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا شُعَيبٍ إنَّ رَجُلًا تبعَنا، فإنْ شئتَ أذِنْتَ له وإنْ شئت تركتَه" قال: لا بل أذنتُ له. قوله: "لَحَّام"؛ أي: بائع اللحم. قوله: "خامس خمسة"؛ يعني: يكون دونَه أربعةُ أنفس، ويكون عددُهم مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خمسةً. قوله: "إن شئتَ أذنتَ له، وإن شئتَ تركتَه": هذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يَدخلَ دارَ أحدٍ بضيافةٍ أو غيرها إلا بإذنه، ولا يجوز لأحدٍ دعاه المُضيفُ أن يدعوَ أحدًا بغير إذن المُضيف. * * * مِنَ الحِسَان: 2402 - وعن سَفِينَة: أنَّ رَجُلاً ضافَ عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - فصنَعَ له طعامًا، فقالَتْ فاطمةُ رضي الله عنها: لو دَعَوْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلَ مَعَنا، فدَعَوْهُ، فجاءَ فوَضَعَ يَدَيْه على عِضادَتَيْ البابِ، فرأى القِرامَ قد ضُرِبَ في ناحيةِ البيتِ فرجعَ، قالت فاطمةُ رضي الله عنها: فتَبعتُه، فقلتُ: يا رسولَ الله! ما رَدَّكَ؟ قال: "إنَّه ليس لي أو لنبيٍّ أنْ يدخلَ بيتًا مُزَوَّقًا". قوله: "إن رجلًا ضاف عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -"، معنى الضيافة هنا: أنَّ ذلك الرجلَ أَهدَى طعامًا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وليس معناه: أنه دعا عليًّا إلى بيته؛ لأنه لم يُذكَرْ أنَّ ذاك الرجلَ دعا عليًّا وفاطمةَ، ولم يُذكَرْ أيضًا: أنه أَذنَ لعليٍّ أن

يدعوَ فاطمةَ، ولم يُذكَرْ أيضًا: أنه أَذنَ لعليًّ وفاطمةَ أن يَدعُوَا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. فثبت بهذه الدلائل أنَّ معنى الضيافة هنا: أنه صنع طعامًا، وأَرسلَ ذلك الطعامَ إلى بيت عليٍّ - رضي الله عنه -، فلما حصل ذلك الطعامُ في بيت علي، صار ملكًا لعلي وفاطمة - رضي الله عنهما -، فلهما أن يَدعُوَا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قولها: "لو دعونا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، جوابُ (لو) محذوفٌ، وتقديره: لو دعوَنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَكان حسنًا، ولَكان خيرًا. قوله: "عِضَادتَي الباب" هذا تثنية: عِضَادة، وهي عَضُد الباب. قوله: "فرأى القِرَام"؛ أي: السَّتر. "مُزوَّقًا"؛ أي: مُزيَّنًا، قال الخطَّابي: كان ذلك القِرَامُ مُزيَّنًا؛ أي: مُنقَّشًا. وقيل: بل لم يكن ذلك السَّترُ مُنقَّشًا, ولكن ضُرِبَ مثلَ حَجَلَةِ العَروس، سُتِرَ به الجدارُ، وهذا شيءٌ فيه رُعونةٌ يُشبهُ أفعالَ الجَبَابرة، فلهذا لم يَدخلْ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك البيتَ، وهذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا تُجاب دعوةٌ يكون فيها منكرٌ. * * * 2403 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دُعي إلى وليمةٍ فلم يُجبْ فقد عَصَى الله ورسولَه، ومن دخلَ على غيرِ دعوةٍ دخلَ سارقًا، وخرجَ مُغِيرًا". قوله: "ومَن دخل على غير دعوةٍ دخل سارقًا، وخرجَ مُغِيرًا"؛ يعني: مَن دخل ضيافةَ أحدٍ من غير أن يَأذنَ له المُضيفُ في الدخول فكأنه سارقٌ؛ يعني: فكما أنَّ السارقَ آثمٌ في دخول بيت غيره، فكذلك هذا الرجلُ، فإنْ أكلَ من تلك الضيافة شيئًا، أو حملَ منها، فهو كالذي يُغِيرُ؛ أي: يأخذ مال أحدٍ بالغصب. بل لا يجوز للضيف أخذُ الزَّلة (¬1) إلا إذا عَرف رضا المالك يقينًا بقرينةٍ، فإنْ عَرف ¬

_ (¬1) الزَّلة: اسم لما تحملُ من مائدة صديقك أو قريبك. انظر "القاموس المحيط" مادة (زلل).

عدمَ الرضا، فهي حرامٌ، وإنْ شكَّ في أنه راضٍ أم لا؟ فالظاهرُ التحريمُ. وقيل: إذا وَضعَ المُضيفُ عند الضيف طعامًا، صار ملكَ الضيف؛ إن شاء أكله، وإن شاء أطعمَه أحدًا، وإن شاء حملَه إلى بيته، وإن أَجلسَ المُضيفُ الضيفَ على مائدته [فـ]ـلا يجوز للضيف أن يأخذَ، ويجوز أن يأكلَ أو يُطعمَ أحدًا، بشرط أن يكونَ ذلك الرجلُ من أهل تلك المائدة، ولا يجوز لذلك الأحد أن يحملَ ما أعطاه، بل له أن يأكلَه لا غير. * * * 2404 - ورُوِيَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اجتمعَ الدَّاعيانِ فأَجِبْ أقربَهما بابًا، وإنْ سبقَ أحدُهما فأجبْ الذي سبقَ". قوله: "إذا اجتمعَ الداعيانِ"؛ يعني: إذا دعاك اثنان؛ كلُّ واحد منهما إلى ضيافته، فإنْ دَعَوَاك معًا، فأَجِبْ مَن دارُه أقربُ إليك؛ لأنَّ مَن دارُه أقربُ إليك حقُّه آكدُ، وإنْ دعاك أحدُهما قبلَ الآخر، فالذي دعاك أولًا أَولى بالإجابة، وإن كان داره الأبعد منك. رَوى هذا الحديثَ حُمَيدُ بن عبد الرحمن الحُمَيدي. * * * 2405 - وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طعام أولِ يومٍ حقٌّ، وطعامُ اليومِ الثاني سُنةٌ، وطعامُ اليومِ الثالثِ سُمعةٌ، ومن سَمَّعَ سَمَّعَ الله به". قوله: "طعامُ أولِ يوم حقٌّ، وطعامُ اليومِ الثاني سُنَّةٌ، وطعامُ اليومِ الثالثِ سُمعةٌ؛ ومَن سَمَّعَ سَمَّعَ الله به"؛ يعني: إذا جعلَ أحدٌ ضيافةَ الوليمة أو غيرها ثلاثةَ أيامٍ، فضيافةُ اليومِ الأولِ حقٌّ؛ أي: واجبٌ في قولٍ، وسُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ في

9 - باب القسم

قولٍ، وإنما سَمَّاه حقًّا لكونه واجبًا أو سُنَّةً مُؤكَّدةً. وضيافةُ اليوم الثاني سُنَّةٌ؛ لأنه فعلَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأذن فيها. وضيافةُ اليوم الثالث مكروهةٌ؛ لأنه لم يأتِ في الحديث استحبابُها، بل نَهَى عنها؛ لأنها سُمعةٌ ورياءٌ؛ يعني: يَفعلُها الرجلُ لِيُقالَ: أضافَ فلانٌ الناسَ ثلاثةَ أيام؛ لِيَنشرَ ذكرَ كرمه. قوله: "سُمعة"، (السُّمعة): الشُّهرة، وهي: ما يحبُّ الرجلُ أن يُسمِعَها الناسَ، و (سَمَّع تسميعًا): إذا شهَّرَ أحدًا؛ يعني: مَن شهرَ نفسَه بكرمٍ أو غيره فخرًا ورياءً شهَّرَ الله يومَ القيامة بين أهل العَرَصات بأنه مُراءٍ كذَّابٌ. رَوى هذا الحديثَ ابن مسعود - رضي الله عنه -. * * * 2406 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن طعامِ المُتُبارِيَيْنِ أنْ يُؤكلَ. قوله: "نهى عن طعام المُتباريَين"، (المُتباري): الَّذي يَفعل فعلًا ليكونَ مثلَ صاحبه؛ وليَنشرَ ذكرَه مثلَ ما انتشرَ من ذكر صاحبه، أو ليَغلبَ ذكرُه على ذكرِه، فأكلُ طعام هذين الرجلَين منهيٌّ [عنه]؛ لأنه للرِّياء، لا لله. * * * 9 - باب القَسْمِ (باب القَسْمِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 2407 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قُبضَ عن تسعِ نِسوَةٍ،

فكان يقسِمُ مِنهنَّ لثمانٍ. قوله: "قُبض"؛ أي: تُوفِّي وفي نكاحِه تسعُ نسوةٍ. "يَقسِم"؛ أي: يَبيتُ عند ثمانٍ منهنَّ على التناوب، وإنما قسَمَ لثمانٍ، ولم يَقسِمْ لتسعٍ؛ لأنَّ سَودةَ وَهبَتْ نَوبَتَها من عائشةَ. * * * 2409 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يسألُ في مرضهِ الذي ماتَ فيهِ: "أينَ أنا غدًا، أينَ أنا غدًا؟ " يريدُ يومَ عائشةَ، فأَذِنَ له أزواجُه أنْ يكونَ حيثُ يشاءُ فكانَ في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها حتى ماتَ عندَها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أين أنا غدًا؟ "؛ يعني بهذا اللفظ: أين أكونُ غدًا؟ عندَ امرأةٍ أخرى أم عندَ عائشةَ؟ فعلَمَتْ زوجاتُه: أنه يريد أن يكونَ عند عائشةَ قَدْرَ ما يشاء، فكان عند عائشةَ حتى تُوفِّي - صلى الله عليه وسلم -. والتسويةُ بين النساء في القَسْم لم تكن واجبةً عليه، بل يُسوِّي بينهنَّ تفضُّلًا وكرمًا؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]؛ يعني: كلُّ زوجةٍ من زوجاتك تريد أن تكونَ معها فلا حرجَ عليك، وكلُّ زوجةٍ لا تريد أن تكونَ معها فلا حرجَ عليك، هذا هو المختار عند الغَزَاليِّ. والأصحُّ عند مُحيي السُّنَّة: أنَّ القَسْمَ كان واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم - بدليلِ هذا الحديث؛ فإنه لو لم يكنِ القَسْمُ بين النساء عليه واجبًا، لم يَحتجْ إلى إذن نسائه في أن يكونَ عند عائشة رضي الله عنها. * * *

2411 - عن أبي قِلابةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: من السُّنَّةِ إذا تزوَّجَ البكْرَ على امرأتِهِ أقامَ عندَها سبعًا ثم قَسَمَ، وإذا تزوَّجَ الثَّيبَ أقامَ عندَها ثلاثًا ثم قَسَمَ. قال أبو قِلابةَ: ولو شئتُ لقلتُ: إنَّ أنسًا رفعَهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "من السُّنَّة إذا تزوَّج البكر ... " إلى آخره. فمذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ: أنَّ الرجلُ إذا كانت له زوجةٌ، فتزوَّج جديدةً؛ فإن كانت الجديدةُ بِكرًا، أقام عندها سبعَ ليالٍ وأيامَهنَّ، وإن كانت ثيبًا، أقام عندها ثلاثَ ليالٍ وأيامَهنَّ، وذلك لِتَستأنسَ الجديدةُ بالزوج، وليَحصلَ بينهما انبساطٌ، وإنما فُضلت البكرُ على الثيب؛ لأنَّ استحياءَ البكر أكثرُ، فتحتاج في ارتفاع استحيائها إلى زمانٍ أكثرَ من زمان الثيب. ومذهبُ أبي حنيفةَ: أنه لا تفضيلَ للجديدة على القديمة، سواءٌ كانت الجديدة بِكرًا أو ثيبًا. قوله: "ثم قسم"؛ يعني: بعدما فرغَ من سبعِ البكر يَقسِم؛ أي: يُسوِّي بين القديمة والجديدة، وإذا فرغَ من ثلاثِ الثيب يَقسِم بين القديمة والجديدة. قول أبي قِلابة: "لو شئتُ لَقلتُ: إنَّ أنسًا رفعَه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -" معناه: لم يَقلْ أنسٌ: إني سمعتُ هذا الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قال: من السُّنَّة، ولكن لو شئتُ لَقلتُ: لم يَقلْ أنسٌ هذا الحديثَ من اجتهاده، بل سمعَه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأني أعتقدُ أنَّه لا يُحدِّث بشيءٍ إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2412 - عن أبي بكرِ بن عبدِ الرَّحمنِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ تزوجَ أمَّ سلمةَ وأصبَحَتْ عندَه قالَ لها: "ليسَ بكِ على أهلِكِ هَوانٌ، إنْ شئتِ سبَّعْتُ عندَكِ وسبَّعْتُ عندَهنَّ، وإنْ شئتِ ثلَّثْتُ عندَكِ ودُرْتُ"، قالت: ثَلِّث. ويُروَى أنَّه قال لها: "للبكْرِ سَبْعٌ وللثَّيبِ ثلاثٌ".

قوله: "ليس بك على أهلك هوانٌ"، (الهَوان): المَذلَّة؛ أي: ليس على أهلك هَوانٌ بسببك؛ يعني: أنتِ لستِ خسيسةً يَلحقُ أهلَك هَوانٌ بسببك؛ بل لك حُرمةٌ؛ يعني: حقُّ البكر الجديدة سبعٌ، وحقُّ الثيب ثلاثٌ، فلا تَظنِّي أنَّ مُكثي عندك ثلاثًا لا سبعًا من أجل هَوانِكِ، بل هذا حُكمُ الشَّرع. قوله: "إن شئتِ سبَّعتُ عندك، وسبَّعتُ عندهنَّ"، (التسبيع): جعلُ الشيءِ سبعًا؛ يعني: إن طلبتِ مني أن أَجعلَ مقامي عندك سبعًا، بَطَلَ حقُّك من الثلاث بسبب طلبك شيئًا غيرَ شرعيٍّ، بل إذا قمتُ عندك سبعًا، أقضي هذه السبعَ للباقيات، وإن قنَعتِ بحقِّك - وهو الثلاثُ - أَقمتُ عندك، ثم "دُرتُ"؛ أي: ثم أُسوِّي بينك وبينهنَّ في النَّوبة، ولا أَقضي الثلاثَ. * * * 2413 - رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقسِمُ بينَ نسائِه فيَعدِلُ ويقول: "اللهمَّ هذا قَسْمي فيما أَمْلِكُ، فلا تَلُمْني فيما تَملِكُ ولا أَمْلِكُ". قوله: "فلا تَلمْني فيما تَملكُ ولا أَملكُ"؛ يعني: أُسوِّي بين نسائي في القَسْم، ولكن لا أَقدِر أن أُسوِّيَ بينهنَّ في المحبة؛ لأنَّ المحبةَ في القلب، والقلبَ ليس مقدوري، بل أنتَ القادرُ عليه وعلى كلِّ شيءٍ، (فلا تَلمْني)؛ أي: فلا تُؤاخذْني في التفاوت بينهنَّ في حبي. اعلمْ أنَّ الرجلَ غيرُ مُؤاخَذٍ بالتفاوت بين نسائه في الحبِّ؛ لأنَّ الحبَّ غيرُ مقدورٍ عليه، والرجلُ لا يُؤاخَذُ بما لم يكنْ قادرًا عليه. رَوى هذا الحديثَ أبو قِلابةَ، عن عبد الله بن زيد، عن عائشة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2414 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا كان عندَ الرَّجلِ

10 - باب عشرة النساء وما لكل واحدة من الحقوق

امرأتانِ فلم يَعدِلْ بينَهما، جاءَ يومَ القيامةِ وشِقُه ساقِطٌ". قوله: "وشِقُّه ساقطٌ"؛ يعني: يكون أحدُ جنبَيه مجروحًا أو ساقطًا بحيث يَراه أهلُ العَرَصات؛ ليكونَ هذا زيادةً له في التعذيب؛ لأنَّ الإفضاحَ أشدُّ العذاب. * * * 10 - باب عشرةِ النِّساءِ وما لكلِّ واحدةٍ من الحقوقِ (باب عشرة النساء) مِنَ الصِّحَاحِ: 2415 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استَوصُوا بالنساءَ خيرًا فإنهنَّ خُلِقْنَ من ضلَعٍ، وإنَّ أَعْوَجَ شيءٍ في الضلَعِ أعلاهُ، فإنْ ذهبتَ تُقيمُهُ كسَرتَهُ، وإنْ تركتَهُ لم يزلْ أعوَجَ". (استوصوا): أمرُ مُخاطَبٍ من (استَوصى) بمعنى: (أَوصَى): إذا أَمرَ واحدًا بشيءٍ، ويُعدِّى بالباء، واستَوصَى أيضًا: إذا قَبلَ وصيةَ أحدٍ، وها هنا يُحتمَل أن يكونَ معناه: مُرُوا النساءَ بالخير، فنَقلَ الباءَ من قوله: (خيرًا)، وأَدخلَها إلى (النساء)، أو يُحتمَل أن يكونَ معناه: أَرِيدُوا الخيرَ بالنساء؛ أي: ادعوا لهنَّ بالخير والصلاح، ولا تَغضبُوا عليهنَّ إذا فعلْنَ فعلًا غيرَ مَرضيٍّ؛ فإنهنَّ خُلِقْنَ من شيءٍ أعوجَ؛ لأنهنَّ من حوَّاءَ، وخُلقت حوَّاءُ من أعوجِ ضلعٍ في جنبِ آدمَ، وهو الضلعُ الأعلى، فإذا كُنَّ خُلقْنَ من شيءٍ أعوجَ يكون ما يصدر منهنَّ أعوجَ لا محالةَ. قوله: "فإذا ذهبتَ"؛ أي: فإن طَفِقتَ. "تُقيمه"؛ أي: تجعله مستقيمًا. "كسرتَه"؛ أي: فإن أردتَ أن تجعلَ الضلعَ مستقيمًا لم تَقدرْ، بل تَكسرُه.

يعني: فإن أردتَ أن تكونَ المرأة مستقيمةً في الفعل والقول لم يكنْ، بل الطريقُ أن تَرضَى باعوجاجِ فعلِها وقولِها، وتأخذَ منها حظَّك مع اعوجاجها؛ والرِّضا باعوجاجِ فعلِها وقولِها إنما يجوزُ إذا لم يكنْ فيه إثمٌ ومعصيةٌ، فإذا كان فيه إثمٌ ومعصيةٌ [فـ]ــلا يجوز الرِّضا به، بل يجب زجرُها حتَّى تتركَ تلك المعصيةَ. قوله: "وإن تركتَه لم يَزلْ أعوجَ": الضمير في هذا وما قبله ضمير الضلع، ويريد به النساءَ؛ يعني: وإن تركتَ النساءَ على حالِهنَّ من الاعوجاج، ولم تُطلِّقْهنَّ، لم يزل معهن اعوجاجُهنَّ، ويحصل لك منهنَّ الاستمتاعُ مع اعوجاجِهنَّ. * * * 2416 - وقال: "إنَّ المرأةَ خُلِقَت مِن ضلَعٍ لن تستقيمَ لكَ على طريقةٍ، فإنْ استمتعتَ بها، اسْتَمْتَعْتَ بها وبها عِوَجٌ، وإنْ ذهبتَ تُقيمُها كَسَرْتَها، وكَسْرُها طلاقُها". قوله: "لن تستقيمَ لك على طريقةٍ"؛ يعني: لا تُوافقك فيما تشاء فيما تأمرُها؛ بل إن تُوافقْك مرةً، تُخالفْك مرةً أخرى. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2417 - وقال: "لا يَفْرَكْ مُؤْمنٌ مُؤْمِنةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخرَ". قوله: "لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً"، (فَرِكَ): إذا أبغض؛ يعني: لا يُبغضِ الزوجُ زوجتَه بأن يَرى منها سوءَ أدبٍ، فإنه إن صدرَ منها فعلٌ غيرُ مَرضيٍّ له يَصدرْ منها أفعالٌ مَرضيَّةٌ له، فَلْيَعفُ عنها أفعالَها غيرَ المَرضيَّةِ لأجل أفعالِها المَرضيَّةِ. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

2418 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لولا بنو إسرائيلَ لم يَخْنَزِ اللَّحمُ، ولولا حوَّاءُ لم تَخُنْ أُنثى زَوجَها الدَّهرَ". قوله: "لولا بنو إسرائيلَ لم يَخنَزِ اللحمُ، ولولا حوَّاءُ لم تَخنْ أنثى زوجَها الدهرَ"، (خَنِزَ اللحمُ): إذا أنتنَ. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2419 - وقال: "لا يَجْلِدْ أحدُكم امرأتَه جَلْدَ العبدِ ثم يجامعُها في آخرِ اليومِ". وفي روايةٍ: "يَعمِدُ أحدُكم فيجلدُ امرأتَه جَلْدَ العبدِ فلعلَّه يضاجعُها في آخر يومِهِ"، ثم وَعَظَهم في ضَحِكِهِم للضَّرطَةِ فقال: "لِمَ يضحَكُ أحدُكم مما يفعلُ؟ ". قوله: "لا يَجلدْ"؛ أي: لا يَضربْ. "جلدَ العبد"؛ أي: كما يُجلَد العبدُ. "ثم يُجامعها في آخر اليوم": اعلمْ أنَّ ضربَ العبيد والإماء جائزٌ للتأديب إذا لم يتأدَّبوا بالكلام الغليظ، وإذا لم يَتأدَّبوا إلا بالضرب؛ فَلْيكنِ الضربُ لتركِهم فرضًا من فرائض الله أو خدمةِ السيد إذا كانت تلك الخدمةُ جائزةً في الشرع، والعفوُ عنهم أَولى. فإذا عرفتَ هذا فاعرفْ أنَّ قولَه: (لا يَجلدْ أحدُكم امرأتَه جلدَ العبد) هذا كان قبلَ أمرِه - صلى الله عليه وسلم - بضربهنَّ، ثم أَمرَ بضربهنَّ، كما يأتي في هذا الباب. قوله: "ثم وعظَهم في ضحكهم للضَّرْطة"؛ يعني: وعظَ الناسَ وخوَّفَهم، ونهاهم عن الضحك حين سمعوا ضَرطةً، وقال: "لِمَ يَضحكُ أحدُكم مما يَفعل؟! "

يعني: لا يخلو الإنسانُ من الضَّرْطة؛ فإنها ريحٌ، والريحُ يُلازم الإنسانَ، ولا ينبغي أن يضحكَ أحدٌ ممَّن صدر منه ضَرطةٌ. رَوى هذا الحديثَ - أعني الروايةَ الأولى والثانية - عبدُ الله بن زَمَعَة. * * * 2420 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: كنتُ أَلْعَبُ بالبناتِ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ لي صَواحِبُ يَلعبن معي، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ يَنْقَمِعْنَ منه فَيُسَرِّبُهُنَّ إليَّ فيَلْعَبن معي. قولها: "ألعبُ بالبنات"، (البنات): اللُّعَبُ، وهي: جمع (لُعبة) بضم اللام، وهي ما يُلعَب به، والمراد بها ها هنا: ما تَلعبُ به الصبيات. قولها: "يَنقمِعْنَ"، قُمِع: إذا كُسِر وقُهِر، وانقمَعَ: إذا انكسَر؛ يعني: يَنهزمْنَ وَيفررْنَ استحياءً من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قولها: "فيُسرِّبُهنَّ"؛ أي: فيُرسلُهنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليَّ؛ لِيَلعبن معي، والمراد بهذا الحديث: إظهارُ حسنِ أخلاقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2421 - وقالت: والله لقد رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقومُ على بابِ حُجْرَتي، والحَبَشَةُ يلعبونَ بالحِرابِ في المسجدِ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَستُرني بردائِهِ لِأنْظُرَ إلى لَعِبهم بين أذُنِهِ وعاتقِهِ، ثم يقومُ من أجلي حتَّى اكونَ أنا التي أَنصرِفُ، فاقدِرُوا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السِّنِّ، الحريصةِ على اللهوِ. قولها: "والحبشةُ يلعبون بالحِرابِ في المسجد"، (الحبشة): جماعةٌ معروفةٌ من الناس، الواحد: حَبَشيٌّ، و (الحِراب): جمع حَرْبة، وهي رمحٌ قصيرٌ.

يعني: وقفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على باب المسجد لأجلي، ووقفتُ خلفَه، فأنظرَ من بين عاتقه وأذنه إلى لَعِبهم. وهذا الحديثُ يدلُّ على استحبابِ مداراة النساءَ والتلطُّفِ بهنَّ، ويدلُّ أيضًا على جوازِ نظرِ المرأةِ إلى الرجلِ الأجنبيِّ فيما فوقَ السُّرَّة وتحتَ الرُّكبة، ويدلُّ أيضًا على جوازِ لُعَبٍ هي طاعةٌ في المسجدِ وغيرِه؛ فإنَّ اللَّعبَ بالحِراب وبجميع آلات الحرب طاعةٌ؛ لأنه يُعلِّمُ الجهادَ، والجهادُ طاعةٌ، وإنما يجوز اللَّعب بآلات الحرب إذا علمَ الرجلُ: أنَّه لا تَلحقه جراحةٌ، ولا يُلحق بصاحبه جراحةً. قولها: "فاقدرُوا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السنِّ"؛ يعني: تدبَّروا وتفكَّروا في جاريةٍ قليلةِ السنِّ الحريصةِ على اللَّعب، كم يكون قَدرُ مكثِها في النظر إلى اللَّعب! يعني: يكون ذلك القَدرُ كثيرًا، حتَّى تَعلموا حسنَ معاشرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع زوجاته، وتلطُّفه بهنَّ. * * * 2422 - وقالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأَعلمُ إذا كنتِ عني راضيةً وإذا كنتِ عليَّ غَضْبَى! فقلتُ: مِن أينَ تعرفُ ذلكَ! فقالَ: إذا كنتِ عنِّي راضيةً فإنك تقولينَ: لا وربِّ مُحمَّدٍ، وإذا كنتِ غَضْبَى قلتِ: لا وربِّ إبراهيمَ"، قالت، قُلتُ: أَجَلْ، والله يا رسولَ الله، ما أهجرُ إلا اسمَكَ. قوله: "غَضْبَى": هذا اللفظ تأنيث: (غَضبان)، يُقال للرجل: غَضبان، وللمرأة: غَضْبَى. قولها: "أجلْ"؛ أي: نعم، لا أَهجرُ إلا اسمَك؛ يعني: إذا غضبتُ عليك لا أتركُ حبَّك، ولا أتركُ إلا اسمَك؛ يعني: لا أَذكرُك باللسان مدةَ غضبي. وجهُ إيرادِ هذا الحديثِ في هذا الباب: بيانُ خُلُقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه يَعرفُ

الغضبَ منها ولا يَهجرُها، ولا يَضربُها، ولا يُؤذيها، بل يَصبرُ حتَّى يزولَ الغضبُ عنها. * * * 2423 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرَّجلُ امرأتَه إلى فراشِه فأبَتْ فباتَ غضبانَ لَعَنَتْها الملائكةُ حتى تُصْبحَ". وفي روايةٍ: "إلا كانَ الَّذي في السَّماءِ ساخِطًا عليها حتَّى يَرْضَى عنها". قوله: "إلا كان الذي في السماءِ ساخطًا"؛ يعني: يكون الله تعالى عليها غضبانَ؛ لأنَّ إيذاءَ الزوجِ والغضبَ عليه عصيانٌ الله تعالى، وهذا إنما يكون إذا لم يكن غضبُ الزوجةِ بسبب ظلمِ الزوجِ عليها، فأمَّا إذا كان الجُرمُ للزوج، بأن يُؤذيها ويَظلم عليها، فلم يكنْ على الزوجة بأسٌ بأن تغضبَ على زوجها. * * * 2424 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في خُطبةِ حَجَّةِ الوَداعِ: "اتَّقُوا الله في النِّساءِ فإنَّكَم أخذتُمُوهُنَّ بأمانِ الله، واستَحْلَلتم فروجَهُنَّ بكلمةِ الله، ولكم عليهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ فاضرِبُوهنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولَهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعروفِ". قوله: "اتقوا الله في النساء": قد ذُكر هذا الحديثُ في قصة حَجَّة الوداع. * * * 2425 - وعن أسماءَ: أنَّ امرأة قالت: يا رسولَ الله! إنَّ لي ضَرَّةً، فهل عليَّ جناحٌ إنْ تَشَبَّعتُ من زوجي غيرَ الذي يُعطيني؟ فقال: "المُتَشَبعُ بما لم يُعْطَ كلابسِ ثَوْبَيْ زورٍ".

قوله: "المُتشبع بما لم يُعطَ كلابسِ ثَوبَي زُور": ذُكر شرحُ هذا الحديث في (باب العطايا). * * * 2426 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: آلَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن نسائِهِ شهرًا، وكانَتْ انفكَّت رِجْلُه فأقامَ في مَشْرُبةٍ تسعًا وعشرينَ ليلةً ثم نزلَ، فقالوا: يا رسولَ الله! آلَيْتَ شهرًا فقال: "إنَّ الشَّهرَ يكونُ تسعًا وعشرينَ". قوله: "آلَى رسولُ الله ... " إلى آخره؛ يعني: حلفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يَدخلَ [على] واحدةٍ من نسائه شهرًا، وكنَّ يُؤذينَه، فعَزَلَهنَّ، وجلس في غرفة المسجد. قوله: "انفكَّت رِجلُه"؛ أي: تألَّمت مِفصلُ قدمه. قوله: "في مَشرُبة"؛ أي: في غرفة. قوله: "إن الشهرَ يكون تسعًا وعشرين" يومًا، إنما لم أُقِمْ ثلاثين يومًا؛ لأني حلفتُ شهرًا، وقد ظهرَ الهلالُ بعد تسعٍ وعشرين، فإذا ظهرَ الهلالُ فقد تمَّ الشهرُ. اعلمْ أنَّه إذا حلفَ أحدٌ أن لا يَفعلَ هذا الفعلَ هذا الشهرَ، فإذا ظهرَ الهلالُ تمَّ يمينُه، سواءٌ كان يمينُه في أول الشهر أو أثنائه، أمَّا إذا لم يُعينِ الشهرَ، بل قال: شهرًا؛ لزمَه أن يتركَ الفعلَ الذي حلفَ عليه ثلاثين يومًا من وقت يمينه، فإن كان يمينُه في أول الشهر، فظهرَ الهلالُ بعدَ تسعٍ وعشرين يومًا، لزمَه أن يترك ذلك الفعلَ يومًا آخرَ بعد ظهور الهلال، حتَّى يُتِمَّ ثلاثين يومًا من وقت يمينه، وكذلك النَذرُ في الصوم. * * *

2427 - وقال جابرٌ: عَزَلَهن شهرًا، أو تِسْعًا وعشرينَ ثم نزلَتْ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} - إلى قوله - {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، فبدأ بعائشةَ رضي الله عنها فقال: "يا عائشةُ إني أريدُ أنْ أعرِضَ عليكِ أمرًا، أُحِبُّ أنْ لا تَعْجَلي فيهِ حتى تَستشيري أَبَوَيْكِ! " قالت: وما هو يا رسولَ الله؟ فتلا عليها هذه الآيةَ، فقالت: أَفيكَ يا رسولَ الله أَستشيرُ أَبَوَيَّ؟ بل أختارُ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ، وأسألُكَ أنْ لا تُخبرَ امرأةً مِن نسائكَ بالذي قلتُ، قال: "لا تسألُني امرأةٌ منهنَّ إلا أَخبرتُها، إن الله لم يبعَثني مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكن بعثَني مُعلِّمًا مُيسِّرًا"، قوله: "ثم نزلت هذه الآية"؛ يعني: كانت زوجاتُه يُؤذينَه ولا يَرضَيْنَ بفقره، فنَزلت هذه الآيةُ؛ يعني: قلُ يا محمدُ لزوجاتك: إني اخترتُ الفقرَ في الدنيا؛ فمَن لم تَرضَ منكنَّ بفقري فَلْتَخترْ، وَلْتَأتيني حتَّى أُمتَّعَها - أي: حتَّى أُعطيَ مَهرَها - وأُسرَحَها سراحًا جميلًا؛ أي: وأُطلِّقَها طلاقًا لا ضررَ فيه ولا إيذاءَ، ومَن رضيَ بفقري وأرادتِ الآخرةَ، فإن الله سيُعطيها عوضَ مشقَّتها أجرًا عظيمًا. قوله: "حتى تستشيري أَبوَيك"؛ يعني: لا تَعجلي في جوابي من تِلقاء نفسِكِ، بل أستَشِيري أبوَيك؛ ليكونَ جوابُك إياي عن رضاك ورضا أبوَيك. قولها: "أسألك أن لا تُخبرَ امرأة"؛ يعني: وأَطلبْ منك أن لا تُخْبرَ واحدةً من زوجاتك بأني رضيتُ بنكاحك، ومرادُها في هذا الكلام: أنَّ نساءَه لو علمْنَ أنَّ عائشةَ رضيَتْ بنكاحه، لَوافقْنَها بالرِّضا بنكاحه، ولو لم يَعلَمْنَ أنَّ عائشةَ رضيَتْ بنكاحه، فلعلَّهنَّ يَختَرْنَ فراقَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيُفرَد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعائشة. قوله: "مُعنِّتًا"؛ أي: مُؤذيًا ومُوقعًا أحدًا في أمرٍ شديدٍ. "ولا مُتعنِّتًا"؛ أي: ولا طالبًا لزَلَّة أحد، الزَّلة: الخطأ والإثم.

فلما قرأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيةَ عليهنَّ، فاختارَتِ الزوجاتُ التسعُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والدارَ الآخرةَ، ورضينَ بالفقرِ وتركِ زينة الدنيا، فبَقينَ في نكاحه حتى تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما اختَرْنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نزل قولُه تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]؛ يعني: فلما اقتضى كرمُهنَّ أنْ يَتركْنَ زينةَ الدنيا وَيختَرْنَك اقتضَى كرمُنا القديمُ أن نُحرِّمَ عليك أن تتزوَّجَ بامرأة غيرِهنَّ بعدَما اختَرْنَ الله ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -، {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} يعني: ولا أن تُطلَّق واحدةً منهنَّ، وتتزوَّجَ بدل المُطلَّقة امرأةً أخرى. وقيل: نُسخت هذه الآيةُ بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51]، معناها عند هذا القائل: إباحةُ التزوُّج له غيرَهنَّ. * * * 2428 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: كُنْتُ أغارُ على اللائي وَهَبن أنفسَهن لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: أَتَهَبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزلَ الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}، قلتُ: ما أَرَى ربَّكَ إلا يُسارعُ في هَواكَ. قولها: "أغار": هذا نفسُ مُتكلِّمٍ (¬1)، من (الغَيرة). * * * مِنَ الحِسَان: 2429 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها كانت معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، قالت: فسَابقتُه فسَبقتُه على رِجْلَيَّ، فلمَّا حَمَلتُ اللحمَ سابقتُه فسبَقَني، ¬

_ (¬1) أي: على صيغة المتكلم.

قال: "هذه بتلكَ السَّبَقَةِ". قولها: "فسابقتُه"؛ أي: عدوتُ وركضتُ وماشيتُ معه؛ لنَنظرَ أيُّنا أسرعُ عَدْوًا. "فسبقتُه"؛ أي: فغلبتُ عليه في العَدْو، وتقدَّمتُ عليه. "فلما حملتُ اللحمَ"؛ أي: فلما سمنتُ. قوله: "هذه بتلك السَّبْقة"؛ يعني: تقدُّمي عليك في هذه النَّوبة في مقابلة تقدُّمِكِ عليَّ في النَّوبة الأولى. والمرادُ بإيراد هذا الحديث: بيانُ حسن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أو تلطُّفه بنسائه؛ لتقتديَ به أمَّتُه. * * * 2430 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكم خيرُكم لأهلِهِ، وأنا خيرُكم لأهلي، وإذا ماتَ صاحِبُكم فدَعُوه". قوله: "خيرُكم خيرُكم لأهله"؛ يعني: خيرُكم مَن هو أحسنُ أخلاقًا على أهله. قوله: "إذا مات صاحبُكم فدَعُوه"؛ يعني: لِيُحسِنْ كلُّ واحدٍ منكم على أهله، فإذا مات واحدٌ منكم فاتركوه؛ أي: فاتركوا ذكرَ مساوئه؛ يعني: لا تذكروه بعد الموت بأخلاقه المذمومة وأفعاله القبيحة؛ فإنَّ تركَ ذكر مساوئه والعفوَ عنه من حسن أخلاقكم. ويُحتمَل أن يكونَ معناه: فاتركوا محبتَه بعد الموت، ولا تُعلِّقوا قلوبَكم بأن تجلسوا على مصيبته، والبكاء عليه. * * *

2432 - وقال: "لو كنتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسجُدَ لأَحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أنْ تسجُدَ لزَوجِها". قوله: "لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحد ... " إلى آخره؛ يعني: لا يجوز لأحد أن يسجدَ لغير الله، ولو جاز أن يسجدَ أحدٌ لغير الله لأَمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها. وإنما ذُكر هذا الحديثُ لبيانِ أنه لا يجوزُ السجودُ لغير الله، ولبيانِ تأكيد حقِّ الزوج على الزوجة. يَروي هذا الحديثَ معاذُ بن جبل. * * * 2433 - وقال: "أيُّما امرأةٍ ماتَتْ وزوجُها عنها راضٍ، دخلَت الجنةَ". قوله: "أيُّما امرأةٍ ماتت، وزوجُها عنها راضٍ، دخلت الجنة": ذُكر هذا الحديثُ أيضًا لتأكيد حقِّ الزوج على الزوجة؛ لبيانِ ثوابِ طاعةِ الزوجةِ زوجَها. وظاهرُ هذا الحديث يُنبئ: أنَّ طاعةَ الزوجة زوجَها تَكفيها، وليس كذلك؛ بل تحتاج إلى طاعة الله أولًا، من أداء الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الفرائض، ويجب عليها أيضًا تركُ المناهي. رَوى هذا الحديثَ قيسُ بن عبادة الأنصاريُّ وأمُّ سَلَمة. * * * 2434 - وعن طَلْقِ بن عليِّ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرَّجُلُ زوجتَه لحاجتِه فلْتَأتِهِ، وإنْ كانَتْ على التنُّورِ". قوله: "وإن كانت على التنُّور"؛ يعني: وإن كانت تَخبز، وقد ضَربت

الخبزَ على التنُّور. يعني: إذا دعاها الزوجُ، فَلْتَأتِه وإن كان خبزُها يحترقُ في التنُّور، وهذا بشرط أن يكونَ ذلك الخبزُ للزوج؛ لأنَّ الزوجَ إذا دعاها في هذه الحالة، فقد رضيَ بإتلافِ مالِهِ، وتلفُ المالِ أسهلُ من وقوع الزوج في الزِّنا إن لم تُجبْه الزوجةُ. * * * 2435 - عن معاذٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُؤذي امرأةٌ زوجَها في الدُّنيا إلا قالَتْ زوجتُه من الحورِ العِينِ، لا تؤذِيهِ قاتَلكِ الله، فإنما هوَ عندَكِ دخيلٌ، يُوشِكُ أنْ يُفارِقَكِ إلينا"، غريب. قوله: "لا تُؤذي امرأةٌ زوجَها في الدنيا إلا قالت زوجتُه من الحُور العِينِ: لا تُؤذيه قاتلَك الله! فإنما هو عندك دَخيلٌ، يُوشك أن يُفارقَك إلينا"، وإنما تَعرف زوجتُه من الحُور العِين ما يجري بينه وبين زوجته في الدنيا بأنْ رفعَ الله تعالى الحجابَ بين الحُور العِين وبين أزواجهنَّ في الدنيا، حتَّى يَعلَمْنَ ما يجري بينهم وبين زوجاتهم في الدنيا، كما رفعَ الله الحجابَ بين الأولياء حتى يعلموا مِن المَشرق ما يجري في المَغرب. قولها: "قاتلك الله": هذا خطابٌ مع كلِّ امرأةٍ تُؤذي زوجَها المسلمَ، سواءٌ كانت مسلمةً أو كِتابيةً. قولها: "فإنما هو عندك دخيل"؛ أي: غريبٌ، "يوشك"؛ أي: يَقرُب "أن يُفارقك إلينا"؛ أي: عن قريبٍ يتركُك بأن يموتَ ويصلَ إلينا؛ يعني: أنتِ زوجتُه في الدنيا، ونحن زوجاتُه في الآخرة، فإن كانت هذه المرأةُ كِتابيةً فلا إشكالَ في هذا الحديث؛ لأنَّ الكِتابيةَ تُخلَّد في النار كسائر الكفَّار، ولا تكون زوجتَه في الآخرة؛ لأنه يكون في الجنة. وأمَّا إذا كانت مسلمةً فالحديثُ على

هذا التقدير مُشكِلٌ؛ لأنها تَدخل الجنةَ كزوجها، فكيف يُفارقها؟! فدفعُ هذا الإشكالِ بأن تقولَ: معنى هذا الحديث: إنك أيتُها المرأةُ التي تُؤذي زوجَك في الدنيا إيذاؤك زوجَك عصيانُ الله تعالى، وعصيانُ الله سببُ دخول النار، ودخولُك النارَ فراقٌ بينك وبين زوجك مدةَ بقائك في النار إلى أن تَخرجي من النار، وتَدخلي الجنةَ، وتَصلِي إلى زوجك. * * * 2436 - عن حكيمٍ بن مُعاويةَ القُشَيريِّ، عن أبيه قال: قلتُ: يا رسولَ الله ما حقُّ زوجةِ أحدِنا عليهِ؟ قال: "أنْ تُطعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتَكْسُوَها إذا اكتسَيْتَ، ولا تَضْرِب الوجْهَ، ولا تُقَبحْ، ولا تَهجُرْ إلا في البيتِ". قوله: "أن تُطعمَها إذا طعمتَ": ليس معنى هذا الحديث: أنك إذا طعمتَ أَطعِمْها، وإذا لم تَطعَمْ فلا تُطعِمْها، بل يجب على الزوج إطعامُ الزوجة وكسوتُها كما هو مُبيَّنٌ في الفقه، سواءٌ طَعِمَ الزوجُ أم لم يَطعَمْ، وإنما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلامَ؛ لأنه كانت عادةُ بعضِ العربِ: أنهم يأكلون ويشربون ويلبسون، ويتركون أهلِيهم جائعين عارِين، فنهاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن تلك العادة. قوله: "ولا تضربِ الوجهَ": هذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على جواز ضربهنَّ على وفق الشرع، بأن يَفعلْنَ فاحشةً، أو يَتركْنَ الصلاةَ، أو يُخالفْنَ أمرَ الأزواج، ولا يجوز الضربُ على الوجه، لا في الآدميِّ ولا في غيرِه. قوله: "ولا تُقبحْ" بتشديد الباء؛ أي: ولا تَقلْ لها قولًا قبيحًا؛ أي: ولا تَشتُمْها. قوله: "ولا تَهجُرْ إلا في البيت"؛ يعني: لو غضبتَ عليها لا تخرجْ من البيت، ولا تتركْها في البيت الخالي؛ فإنها ربما تخافُ من البيت الخالي، وربما

يَقصدُها رجلٌ بفاحشةٍ وغير ذلك، بل إذا غضبتَ عليها ففارِقْها من فراشها إلى ناحيةٍ من ذلك البيت. * * * 2437 - وعن لَقيطِ بن صَبرة قال: قلتُ يا رسولَ الله! إنَّ لي امرأةً في لسانِها شيءٌ - يعني البَذَاء - قال: "طلِّقْها"، قلتُ: إنَّ لي منها وَلَدًا ولها صُحبةٌ، قال: "فَمُرْها - يقولُ عِظْها - فإنْ يَكُ فيها خيرٌ فستَقْبَلُ، ولا تضرِبن ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أُمَيَّتَكَ". قوله: "في لسانها شيءٌ"؛ يعني: في لسانها بَذَاءٌ؛ يعني: تُؤذيني بلسانها، "البَذَاء": الفُحش. قوله: "فمُرْها؛ يقول: عِظْها"، (يقول) هنا معناه: يريد؛ يعني: يريد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فمرها): عِظْها؛ يعني: مُرْ، أمرٌ من (أمر)، ومعنى (أَمرَ) هنا: وَعَظَ. قوله: "ولا تضربن ظعينتَك ضربَك أُمَيتَك"، (الظعينة): الزوجة، (الأُمَيَّة): تصغير أَمَة. * * * 2438 - وعن إياسِ بن عبدِ الله: أنَّه قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تضرِبُوا إماءَ الله". فأتاهُ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا رسولَ الله! ذَئِرَ النِّساءُ على أزواجِهنَّ، فأذِنَ في ضَربهِنَّ، فأَطافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثيرٌ كلُّهنَّ يَشتكينَ أزواجَهنَّ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أطافَ بآلِ مُحمَّدٍ سبعونَ امرأةً كلُّهن يشتكينَ أزواجَهنَّ، ولا تِجِدُونَ أولئكَ خيارَكم". قوله: "لا تضربوا إماء الله ... " إلى آخره، (الإماءُ) هنا: الزوجات.

"ذَئِرَ النساءُ"؛ أي: اجترَأْنَ ونشَزْنَ. قوله: "فأطافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثيرٌ"؛ يعنىِ: اجتمعت نساءٌ كثيرٌ على باب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَشتكينَ كثرةَ ضرب أزواجهنَّ. قوله: "ولا تجدونَ أولئكَ خيارَكم"؛ يعني: ليس مَن ضربَ زوجتَه خيرٌ ممن لا يضرب زوجتَه؛ بل الَّذي لا يضربُ زوجتَه خيرٌ من الَّذي يضربها. في هذا الحديث ثلاثةُ أشياءَ: أحدها: النهي عن ضرب النساء. والثاني: الإذن في ضربهنَّ. والثالث: بيان خيريَّة مَن لا يضربُ زوجتَه على مَن يضربُ زوجتَه. اعلمْ أنَّ ترتيبَ هذه الأشياء الثلاثة: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ضربهنَّ أولًا، فلما ذَئِرَ النساءُ، أَذنَ في ضربهنَّ؛ كيلا يَنشزْنَ [على] أزواجهنَّ، ولا يَغلبن عليهم، فبقي هذا الحُكمُ؛ أعني: أنَّ ضربَهنَّ جائزٌ إذا نشَزْنَ [على] أزواجهنَّ، أو تَركْنَ أوامرَ الله، أو فَعلْنَ شيئًا من المناهي. وتأويل قوله: (ولا تجدون أولئك خيارَكم) أنَّ الصبرَ معهنَّ والعفوَ عن سوء أدبهنَّ خيرٌ من ضربهنَّ، مع أنَّ ضربَهنَّ جائزٌ، وهذا في نشوزهنَّ؛ فإن النُّشوزَ معناه: تركُ حقٍّ الزوج، والزوجُ لو رضيَ بترك حقِّه يكون خيرًا، وإنما لا يجوز للزوج أن يَرضَى بتركِ المرأة شيئًا من أوامر الله تعالى أو فعلِـ[ــها] شيئًا من المناهي. * * * 2439 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس مِنا مَن خَبَّبَ امرأةً على زَوْجِها أو عبدًا على سيدِه" أي: أفسدَ. قوله: "مَن خبَّبَ امرأةً على زوجها"، (التخبيب): الإفساد، والمراد به

ها هنا: أن يُوقعَ أحدٌ عداوةَ زوجِ امرأةٍ في قلبها، بأن يَذكرَ مساوئَه عندها، ويَحملَها على أن تُؤذيَه، وتطلبَ الطلاقَ منه، وفي العبد بأن يَذكرَ مساوئَ السيد عنده، ويَحملَه على أن يُقصِّرَ في الخدمة، وأن يَطلبَ بيعَه، أو يَحملَه على الفرار منه. * * * 2440 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن أَكْملِ المؤمنينَ إيمانًا أحسنْهم خُلُقًا، وألطَفُهم بأهلِهِ". 2441 - وقال: "أَكْمَلُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخِيارُكم خيارُكم لنِسائهم"، صحيح. قوله: "من أكملِ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وألطفُهم بأهله"؛ يعني: مَن كان خُلقُه أحسنَ يكون إيمانُه أكملَ. وهذا الحديث دليلُ مَن قال: الإيمانُ يزيد بالطاعة ويَنقص بالمعصية، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ. رَوت هذا الحديثَ عائشةُ والذي بعدَه أيضًا. * * * 2442 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن غزوةِ تبوكَ، أو حُنَينٍ؛ وفي سَهْوتِها سِتْرٌ فَهَبَّت ريحٌ فكشفَتْ ناحيةَ السَّترِ عن بناتٍ لعائشةَ - لُعَبٍ - فقال: "ما هذا يا عائشةُ؟ " قالت: بناتي، ورَأَى بَينهنَّ فَرَسًا له جناحانِ من رِقاعٍ، فقال "ما هذا الَّذي أَرَى وَسطَهنَّ؟ " قالت: فرسٌ، قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحانِ، قال: "فرسٌ لهُ جناحانِ! " قالتُ: أَما

11 - باب الخلع والطلاق

سمعتَ أنَّ لسليمانَ خيلًا لها أجنحةٌ، قالت: فضَحِكَ حتَّى رأيتُ نَواجِذَهُ. قولها: "وفي سَهْوَتِها (¬1) "؛ أي: وفي صُفَّة بيتِنا. * * * 11 - باب الخُلعِ والطلاقِ (باب الخلع والطلاق) مِنَ الصِّحَاحِ: 2443 - عن ابن عَّباسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ امرأةَ ثابتِ بن قيسٍ أَتَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! ثابتُ بن قيسٍ ما أَعتِبُ عليهِ في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكنْ أَكْرَهُ الكفرَ في الإِسلامِ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"أتَرُدِّينَ عليهِ حديقَتَهُ؟ " قالت: نعم، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِقْبَلِ الحديقةَ، وطلِّقْها تطليقة". قوله: "ما أَعتب"؛ أي: ما أَغضب، "ولكن أَكرهُ الكفرَ في الإسلام" الكُفر ها هنا من كُفران النعمةِ، أو بمعنى العِصيان؛ يعني: ليس بيني وبينه ألفةٌ ومحبةٌ، وأكرهُه في القلب، وكراهيتي إياه مع إنعامه عليَّ بالنفقة غيرُ مَرضيٍّ لله تعالى، وما أريد أن يصدرَ مني في الإسلام شيءٌ يكون غيرَ مَرضيٍّ لله تعالى، فأُحبُّ أن يُطلِّقَني. قوله: "أتَردِّين عليه حديقتَه"؛ يعني: أتَعطين الحديقةَ التي أعطاكها في المَهر حتى يُطلِّقَك؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزوجها: "اقبلْ الحديقةَ وطلِّقْها" على عِوض الحديقة. ¬

_ (¬1) في "م" و"ش" و"ق": "بهوتنا".

اعلمْ أنَّ الخُلْعَ مُعاوضةٌ يُشترَط فيه تراضي الزوجَين، ولا يجوزُ أن يُجبَرَ أحدُهما على الخُلْع، ويجوز الخُلْعُ فيما تَراضَى الزوجانِ من قليلِ المالِ وكثيرِه؛ فلو قال الزوجُ: طلَّقتُك على كذا دينارًا، أو على أن تُعطيني كذا، فقبلَتِ الزوجةُ؛ وَقَعَ الطلاقُ بائنًا بلا خلافٍ. أمَّا لو قال: خالَعتُك على كذا، فقالت: قبلتُ؛ حصلَتِ الفُرقةُ بينهما، واختُلِفَ في أنَّ هذه الفُرقةَ طلاقٌ أم فَسخٌ؟ فمذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ وأصحُّ قَولَي الشافعيُّ: أنَّه طلاقٌ بائنٌ، كما لو قال: طلَّقتُكِ، ومذهبُ أحمدَ وأحدُ قولَي الشافعيَّ: أنه فسخٌ. والفرقُ بين الطلاق والفَسخ: أنَّه لو لم يُطلِّقْها قبلَ ذلك، فلما اختَلعَها انقطعَ النكاحُ بينهما، فلما جَدَّدَ نكاحَها بعد ذلك تعود إلى نكاحها بثلاثِ تطليقات، فلو كان الخُلْعُ طلاقًا وَقعَ بالخُلْع طلقةٌ، فلما جَدَّدَ نكاحَها تعود إلى نكاحه بطلقتَين. * * * 2444 - عن عبد الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما -: "أَنَّه طلَّق امرأةً له وهي حائضٌ، فذكرَ عمرُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فتغَيَّظَ فيهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "لِيُراجِعْها، ثم ليُمْسِكْها حتى تَطْهُرَ، ثم تحيضَ فتَطهُرَ، فإِنْ بَدا لهُ أنَّ يُطلِّقَها فليُطلِّقْها طاهرًا قبلَ أنْ يَمَسَّها، فتِلكَ العِدَّةُ التي أمرَ الله أنَّ تُطَلَّقَ لها النساءُ". وفي روايةٍ: "مُرْهُ فليُراجِعْها، ثم ليُطلِّقْها طاهِرًا أو حامِلًا". قوله: "إنه طلَّق امرأةً له وهي حائضٌ ... " إلى آخره. "فتغيَّظ"؛ أي: غضب، ووجه تغيُّظه: أنَّ الطلاقَ في الحَيض بدعةٌ؛ لأنَّ الطلاقَ في الحَيض يُطوِّل عِدَّةَ المرأة؛ لأنه تنقضي عِدَّتُها إذا دخلَتْ في الحَيضة الرابعة، فلو طلَّقَها في الطُهر، تنقضي عدتُها إذا دخلَتْ في الحَيضة الثالثة.

قوله: "لِيُراجعْها"؛ يعني: لِيَقلْ: راجعتُها إلى نكاحي؛ لِيزولَ عنه إثمُ التطليق في حال الحَيض، ثم إذا راجعَها لِيُمسكْها حتَّى يمضيَ عليها بعدَ الرجعة طُهرانِ أو أكثرُ، ثم إن شاء طلَّقَها، وإنما يُشترَط أن يمضيَ عليها بعدَ الرَّجعة طُهرانِ؛ لأنه لو طلَّقَها في الطُهرِ الذي يأتي بعد الرَّجعة تكونُ رَجعتُها لأجل الطلاق، ولو لم يُطلِّقْها بعدَ الرَّجعةِ حتَّى يمضيَ عليها طُهرانِ لم تكنِ الرَّجعةُ لأجل الطلاق؛ لأنه لو كان لأجل الطلاق لَطلَّقَها في الطُهر الأول بعدَ الرَّجعة. قوله: "فإن بدا له"؛ يعني: فإن بدا له إرادةُ التطليق. قوله: "فليُطلِّقها طاهرًا قبل أن يَمسَّها"؛ أي: قبلَ أن يُجامعَها في الطُّهر الَّذي يُطلِّق فيه، وإنما اشتُرط أن يُطلِّقَها قبلَ أن يُجامعَها في ذلك الطُّهر؛ لأنَّ التطليقَ في طُهرٍ جامَعَها فيه بدعةٌ، لأنه يُورِث الندامةَ، لأنَّ الرجلَ ربما طلَّقَ على ظنٍّ أنَّ المرأةَ لم تكنْ حاملًا، فلما علمَ بعد الطلاق أنها حاملٌ ندمَ، وطلاقُ البدعة ليس إلا التطليق في الحَيض، أو في طُهر جامَعَها فيه. قوله: "فتلك العِدَّة التي أَمر الله أن يُطلَّقَ لها النساءُ"؛ أي: الطلاقُ في الطُّهر الذي لم يُجامِعْها فيه هو طلاقُ السُّنَّة، وتلك الحالةُ هي الحالةُ التي أَمر الله الرجالَ أن يُطلِّقوا النساءَ فيها. * * * 2445 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: خَيَّرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاختَرْنا الله ورسولَه، فلم يُعَدَّ ذلكَ علينا شيئًا. قول عائشة: "خيَّرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختَرْنا الله ورسولَه، فلم يُعَدَّ ذلك علينا شيئًا": سببُ تكلُّمِ عائشةَ بهذا الكلام: أنه قال أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وزيدُ بن ثابت - رضي الله عنهما -: إنَّ مَن قال لزوجته: اختاري نفسَك أو إياي، فقالت لزوجها: اخترتُك؛ أنه وقعَ طلاقٌ رَجعيٌّ، وبه قال مالكٌ.

وقالت عائشة مع جماعةٍ من الصحابة: لم يقعِ الطلاقُ، فقالت عائشة: فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خيَّرَنا بين الطلاق وبين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب: 28] إلى آخر الآية، فاختَرْنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُعَدَّ ذلك؛ أي: فلم يحكمْ علينا بطلاقٍ بأن قلْنا: اختَرْنا الله ورسولَه، ومذهبُ الشافعيَّ وأبي حنيفةَ كمذهب عائشةَ. وأمَّا لو قال الزوجُ لامرأته: اختاري نفسَك وإياي، فقالت: اختَرتُ نفسي؛ وقعَ به طلاقٌ رَجعيٌّ عند الشافعيِّ وأحمدَ، وطلاقٌ بائنٌ عند أبي حنيفةَ، وثلاثُ تطليقاتٍ عند مالكٍ. * * * 2446 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - في الحرامِ: يُكَفَّرُ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ". قول ابن عباس في الحَرام: "يُكفَّر"؛ يعني: لو قال أحدٌ لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ، أو: حرَّمتُك؛ فإن نَوَى به الطلاق فهو طلاقٌ، وإن نَوَى به الظِّهارَ فهو ظِهارٌ، وإن لم يَنوِ شيئًا، أو نَوَى تحريمَ ذاتها، لم يكنْ طلاقًا ولا ظِهارًا، ولا تَحرُم عليه، بل يجب عليه كفَّارةُ اليمين بمجرَّدِ هذا اللفظ. ولو قال لأَمَتِه هكذا، فإن نَوَى العتقَ عَتقَتْ، وإن لم يَنوِ شيئًا، أو نَوَى تحريمَ ذاتها، لم تَحرُمْ عليه، وتجبُ عليه كفَّارةُ اليمين، ولو قال لطعام: هذا عليَّ حرامٌ، أو: حرَّمتُه على نفسي، لم يَحرُمْ عليه، ولم يجبْ عليه شيءٌ، وهو مذهبُ الشافعيِّ، وقال أبو حنيفةَ: لفظُ التحريم يمينٌ، فإذا قال لامرأته أو جاريته: أنتِ عليَّ حرامٌ، أو: حرَّمتُك فهو كما لو قال: والله لا وطِئتها، فلو وَطِئها، لزمَه كفَّارةُ اليمين، ولو قال لطعام: هذا عليَّ حرامٌ، أو: حرَّمتُه عليَّ، فلو أكلَه، لزمَتْه كفَّارةُ اليمين، وقال أحمد: لفظُ الحَرام في المرأة ظِهارٌ، وقال

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لفظُ الحَرام في المرأة يقع به طلاقٌ رجعيٌّ، وبه قال الزُّهريُّ، وقال مالك: يقع به ثلاثُ تطليقاتٍ. قوله تعالى: " {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} "، (الأسوة) بضم الهمزة وكسرها: المُتابعة؛ يعني: قال ابن عباس: تلفَّظ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الحَرام، فأَوجبَ الله عليه الكفَّارة، وعليكم متابعتُه. واختُلف في سبب تلفُّظ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بلفظ التحريم؛ قيل: كان له - صلى الله عليه وسلم - جاريةٌ اسمُها: مارية، فوَطِئها، فاطَّلعتْ عليه حفصةُ، فغضبَتْ، فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضبي واسكتي؛ فإني حرَّمتُها عليَّ"، فنَزلت: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1]. قال المُفسِّرون: وجبَتْ عليه بلفظ التحريم كفَّارةُ اليمين. وقيل: بل حرَّمَ عسلًا على نفسه، كما يأتي بعدَ هذا عن عائشةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينبَ ... إلى آخره. * * * 2447 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَمْكُثُ عندَ زينبَ بنْتِ جَحْشٍ، وشربَ عندَها عَسَلًا، فتَواصَيْتُ أنا وحَفْصَةُ: أنَّ أَيَّتَنا دخلَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلْتَقُلْ: إني أَجِدُ منكَ ريحَ مَغافيرَ، أَكَلْتَ مَغافيرَ؟ فدخلَ على إحداهُما فقالَتْ لهُ ذلكَ، فقالَ: "لا بأسَ، شربتُ عسلًا عندَ زينبَ بنتِ جحشٍ، فلَنْ أعودَ له، وقد حَلَفْتُ، لا تُخْبري بذلكَ أحدًا! " يبتغي مرضاةَ أزواجِهِ، فنزلت: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}. "فتواصيتُ أنا وحفصةُ"؛ أي: اشترطنا وقرَّرنا. قولها: "إني أجدُ منك ريحَ المَغَافيرِ"، (المَغَافير): جمع مُغْفُور، وهو شيءٌ يشبه الصَّمْغ، يكون على شجرٍ، وله حلاوةٌ، ولريحِهِ نَتَنٌ.

وإنما قالت هذا الكلام لكي لا يدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيتَ زينبَ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحترزُ عن أكل شيء يكون له رائحةٌ كريهةٌ مُنكَرةٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأسَ! شربتُ عسلًا"، وجاء في رواية أخرى: أنها قالت: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، (العُرْفط): شجر المَغَافير؛ يعني: أكلتِ النحلةُ التي منها هذا العسل من شجر العُرْفُط، فلهذا يوجد منك ريحُ المَغَافيرِ بأن شربتَ ذلك العسل. قوله: "لا تُخبري بذلكَ أحدًا": إنما قال ذلك كي لا تعرفَ زوجاتُه وغيرُهنَّ: أنَّه أكل شيئًا له رائحةٌ كريهةٌ. * * * مِنَ الحِسَان: 2448 - عن ثوبانَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما امرأةٍ سألَتْ زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّةِ". قوله: "أيُّما امرأةٍ سألَتْ زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ, فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة"، (في غير ما بأس)؛ أي: من غير أن يكونَ في مضاجعتِها الزوجَ بها ضررٌ. هذا زجرٌ عن طلب المرأة الطلاقَ من غير ضرورة. * * * 2450 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "لا طلاقَ قبلَ نكاحٍ، ولا عَتاقَ إلَّا بعدَ مِلْكٍ، ولا وِصالَ في صيامٍ، ولا يُتْمَ بعدَ احتلامٍ، ولا رَضاعَ بعدَ فِطامٍ، ولا صَمْتَ يومٍ إلى الليلِ". قوله: "لا طلاقَ قبل نكاح": فلو قال رجلٌ لامرأة قبل أن يَنكحَها:

طلَّقتُك، أو قال لها: إن دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ، ولم يقل: إذا نكحتك فأنت طالق، ولم يقلْ أيضًا: إذا دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ بعد أن نكحتُك؛ لم يقعِ الطلاقُ باتفاقٍ. وكذا لو قال لعبد قبل أن يملكَه: أعتقتُك، أو قال: إن دخلتَ الدارَ فأنتَ حرٌّ، ولم يقلْ: بعد أن ملكتُك؛ لم يُعتقْ. ولو قال لامرأة: إذا نكحتُك فأنتِ طالقٌ، أو قال لعبد: إذا ملكتُك فأنتَ حرٌّ، ثم نكح تلك المرأة، وملك ذاك العبد؛ لم يقعِ الطلاقُ، ولم يُعتقِ العبدُ عند الشافعي. وكذلك لو قال: أي ما امرأةٍ أتزوجُها فهي طالقٌ، أو قال: أي عبدٍ أملكُه فهو حرٌّ، فهذا الكلام لغوٌ عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يقع الطلاقُ ويحصل العَتقُ إذا أضافَ حصولَ الطلاقِ بعدَ النكاحِ والعتقَ بعدَ المُلك، سواءٌ عيَّنَ امرأةً وعبدًا، أو لم يُعينْ بأن قال: أي ما امرأةٍ أتزوَّجُها فهي طالقٌ، أو: أي عبدٍ أملكُه فهو حرٌّ. وقال مالك: إنْ عيَّنَ امرأةً، أو امرأةً في بلدةٍ معينةٍ، أو عيَّنَ مدةً بأن قال: أي ما امرأةٍ أتزوَّجُها إلى شهرٍ أو إلى سنةٍ فهي طالقٌ؛ وقع الطلاقُ، وإن لم يُعينْ شيئًا من هذه الأشياء لم يقعِ الطلاقُ. وقال أحمد: إنْ علَّقَ الطلاقَ بشيءٍ من هذه الأشياء، [فـ]ـلن يجوزَ له تزوُّجُ تلك المرأة، فإن خالَفَ وتزوَّجَ لم نُفرِّقْ بينهما. قوله: "ولا يُتمَ بعد احتلام"؛ يعني: مَن بلغَ من الذكور والإناث زالَ حكمُ اليُتمِ عنه، وخرج عن كونه يتيمًا حتَّى لا يتصرفَ الوليُّ في ماله، ويجوزُ منه ما جاز من البالغين، ولا يجوزُ منه ما لا يجوزُ من البالغين، بل صار حكمُه

مطلقًا حكمُ البالغين. قوله: "ولا صَمتَ يومٍ إلى الليل"؛ يعني: لا يجوز أن يسكتَ الرجلُ من أول اليوم إلى الليل؛ لأنَّ السكوتَ من كلامٍ لا إثمَ فيه ليس بقُربةٍ، والسكوتُ من كلامٍ فيه قُربةٌ لله تعالى، كتربيةِ أحدٍ خيرًا والوعظِ وإسكانِ الفتنة بين الناس وما أشبه ذلك، فلا وجهَ للسكوت من مثل هذه الأشياء، وإنما القُربةُ في السكوت من كلامٍ فيه إثمٌ، لا من جميع الكلام. * * * 2451 - عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذرَ لابن آدمَ فيما لا يَملكُ، ولا عِتقَ فيما لا يملكُ، ولا طلاقَ فيما لا يملكُ، ولا بيعَ فيما لا يملكُ". قوله: "لا نذرَ لابن آدم فيما لا يملكُ"؛ يعني: لو قال أحدٌ: لله تعالى عليَّ أن أُعتقَ هذا العبد؛ ولم يكنْ مالكًا لذلك العبد وقتَ النذر، لم يَصحَّ هذا النذرُ، حتى لو ملك ذلك العبدَ بعد ذلك، لم يُعتقْ عليه. * * * 2452 - عن رُكانَةَ بن عبدِ يزيدَ: أنَّه طَلَّقَ امرأتَه سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، ثم أَتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي طلقتُ امرأتي البتَّةَ، ووالله ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله ما أَردتَ إلا واحدةً؟ " فقال رُكانةُ: والله ما أردتُ إلا واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلَّقَها الثانيةَ في زمانِ عمرَ، والثالثةَ في زمانِ عثمانَ. قوله: "أنَّه طلق امرأته سُهَيمة البتَّة"، (سُهَيمة): اسم امرأته, (البتَّة):

القطع، وطلاقُ البَتِّ أن يقول: طلَّقتُ امرأتي البتَّةَ، أو يقول: بَتَتُ طلاقَها، أو يقول لامرأته: أنتِ مَبتوتةٌ، ففي جميع ذلك يتعلَّق بنيَّته، ولا يقع أكثرُ ممَّا نوى؛ فإن نَوى عددًا وقع ذلك العددُ، وإن لم يَنوِ عددًا وقعـ[ــت] طَلْقةٌ واحدةٌ، ويكون الطلاقُ رجعيًا إن كان بعد الدخول وكان بغير عِوضٍ، هذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نَوى ثلاثًا يكون ثلاثًا، وإن نوَى اثنين، أو لم يَنوِ شيئًا، أو نَوى واحدةً، وقع في هذه الصور الثلاث طَلْقةً بائنةً. وقال مالك: وقع الثلاثُ، سواءٌ نَوى واحدةً أو أكثرَ أو لم يَنوِ شيئًا. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أردتَ إلا واحدة؟ " وهذا تحليفٌ منه - صلى الله عليه وسلم - لرُكانَةَ؛ يعني: قلْ: والله لم يكنْ في نيَّتي إلا طَلْقةٌ واحدةٌ. قوله: "فردَّها عليه رسول الله"؛ يعني: أمرَه بالرجعة، بأن يقول: راجعتُها إلى نكاحي. * * * 2453 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ وهَزْلُهن جِدٌّ: الطَّلاقُ، والنِّكَاحُ، والرَّجعةُ"، غريب. قوله: "ثلاثٌ جدُّهنَّ جدٌّ ... " إلى آخره، الحكمُ كما هو في هذا الحديثِ بالاتفاقِ، حتى لو نكحَ أو طلَّقَ أو أعتقَ وقال: كنتُ لاعبًا أو هازلًا، لم يَنفعْه هذا اللفظُ، بل لزمَه النكاحُ والطلاقُ والعتاقُ، وكذلك البيعُ والهِبةُ وجميعُ التصرفات؛ وإنما خصَّ هذه الثلاثةَ بالذكر؛ لأنَّ هذه الثلاثةَ أمرُها أعظمُ وآكدُ. * * *

2455 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوهِ والمغلوبِ على عقلِه"، غريب. قوله: "كلُّ طلاقٍ جائزٌ؛ إلا طلاقَ المَعتوهِ والمغلوبِ على عقلِهِ"، (المَعتوه): ناقص العقل، و (المغلوب على عقله): عامٌّ بين السَّكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُه بالمرض، والمُغْمَى عليه؛ يعني: كلُّ مَن طلَّقَ وقع طلاقُه إلا هؤلاء، وكذلك الصبي. * * * 2457 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلاقُ الأَمَةِ تطليقتانِ، وعِدَّتُها حيضتانِ". قوله: "طلاقُ الأَمَة تطليقتان، وعِدَّتها حَيضتان"، وبهذا الحديث قال أبو حنيفة: الطلاقُ يتعلق بالمرأة؛ فإن كانت أَمَةً يكون طلاقُها اثنين، سواءٌ كان زوجُها حرًّا أو عبدًا، وإن كانت المرأةُ حرَّةً يكون طلاقُها ثلاثًا، سواءٌ كان زوجُها حرًّا أو عبدًا. وقال الشافعي ومالك وأحمد: الطلاقُ يتعلَّق بالرجل؛ فطلاقُ العبد اثنان، وطلاقُ الحرِّ ثلاثٌ، ولا نظرَ إلى الزوجة. وعِدَّة الأَمَة على نصف عِدَّة الحرَّة فيما له نصفٌ؛ فعدَّة الحرَّة ثلاثُ حِيَضٍ، وعدَّةُ الأَمَة حَيضتانِ؛ لأنه لا نصفَ للحَيض، وإن كانت تعتدُّ بالأشهر، فعدَّةُ الأَمَة شهرٌ ونصفٌ، وعدَّةُ الحرَّة ثلاثةُ أشهرٍ. * * *

12 - باب المطلقة ثلاثا

12 - باب المُطلَّقَةِ ثلاثًا (باب المطلقة ثلاثًا) مِنَ الصِّحَاحِ: 2458 - عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: جاءتْ امرأةُ رِفاعةَ القُرَظيِّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنِّي كنتُ عندَ رِفاعةَ فطلَّقَني فَبَتَّ طلاقي، فتزوجتُ بعدَهُ عبدَ الرحمنِ بن الزبيرِ، وما مَعه إلا مثلُ هُدْبَةِ الثَّوبِ فقال: "أَتُريدينَ أنْ ترجِعي إلى رِفاعةَ؟ لا، حتَّى تَذُوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ". قوله: "جاءت امرأةُ رِفاعةَ القُرَظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، المراد بهذا الحديث: أنَّ الحرَّ إذا طلَّق امرأتَه ثلاثًا، أو طلَّق العبدُ تطليقتين، [فـ]ــلا يجوز له أن يتزوَّجَ تلك المرأةَ إلا بعد أن تنقضيَ العِدَّة منه، وتتزوجَ المرأةُ بزوجٍ آخرَ، ويُجامعَها، وأقلُّه تغييبُ الحَشَفة، ثم يُطلِّقها الزوجُ الثاني، وتعتدَّ منه، فحينئذٍ يحلُّ للزوج الأول أن يَنكحَها. قولها: "وما معه إلا مثلُ هدبة الثوب"، (الهُدَب والهُدبة): طُرَّة الثوب؛ يعني: لا يقدر الزوجُ الثاني على الجِماع؛ لعدم نُهوض ذَكَره. قوله: "حتى تذوقي عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ"، (العُسَيلة): تصغير العَسَل، والعَسَل مؤنثٌ سماعي، والمؤنثُ [الـ]ــسماعيُّ إذا صُغِّرت تلحقها التاءُ، والمراد بالعُسَيلة: التلذُّذ؛ يعني: حتَّى تجدي منه لذةً، ويجد منك لذةً بتغييب الحَشَفة، ولا يُشترَط إنزالُ المنيِّ. * * *

مِنَ الحِسَان: 2459 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُحلِّلَ والمُحَلَّلَ له. قوله: "لعنَ رسولُ الله المُحلِّلَ والمُحلَّلَ له"، (المحلِّل) بكسر اللام الأولى: الزوج الثاني للمُطلَّقة ثلاثًا، والمُحلَّل له: الزوج الأول. فإن شرطَ في وقت العقد التحليل بأنْ قال الوليُّ للزوج الثاني: إني أُزوِّجُك ابنتي، أو: زوَّجتُك ابنتي أو أختي على أنك إذا وطِئتَها أو حللَّتَها، [فـ]ــلا نكاحَ بينها وبينك، أو: زوَّجتُكها؛ لتُحلَّلَها للزوج الأول، فإذا شُرِطَ هذا الشرطُ مقترنًا بالعقد، فالنكاحُ باطلٌ بالاتفاق. وهذا الحديثُ مُتوجِّهٌ لمن فعلَ نكاحًا على هذه الصورة، وإن شُرِطَ هذا الشرطُ قبل العقد، ولم يُشترَطْ مقترنًا بالعقد، بل عُقِدَ النكاحَ مع الزوج الثاني بأنْ قال الوليُّ: زوَّجتُك ابنتي أو أختي بكذا دينارًا، فقال الزوج: قبلتُ نكاحَها؛ صحَّ هذا النكاحُ، ويجوز للزوج الأول أن يَنكحَ هذه المرأةَ بعد أن يُطلِّقَها الزوجُ الثاني وتنقضيَ عدَّتُها منه، إلا أنَّه مكروهٌ، هذا عند الشافعي وأبي حنيفة، وأمَّا عند مالكٍ وأحمدَ فلا يجوز. * * * 2460 - قال سليمانُ بن يسارٍ: أدركتُ بِضْعَةَ عَشَرَ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّهم يقولُ: يوقَفُ المُولي. قوله: "كلُّهم يقول: يُوقَف المُؤلِي"، (المُؤلِي): الَّذي حلفَ أن لا يطأَ امرأتَه مدةً؛ فإن كان تلك المدةُ أربعةَ أشهرٍ فما دونها، فهو حالفٌ وليس بِمُؤلٍ؛ أعني: لو وطِئ قبلَ مضيِّ مدة الحلف، تجبُ عليه كفارةُ اليمين، وإن لم يطأها

حتى تنقضيَ مدةُ الحلف، [فـ]ـلا كفَّارةَ عليه؛ لأنه وفَى بيمينه، وليس للمرأة مطالبتُه بشيءٍ. فأمَّا إذا حلفَ أن لا يطأَها مدةً هي أكثرُ من أربعة أشهر، أو حلفَ أن لا يطأَها أبدًا، فحكمُه أن يُمهَل ذاك الرجلُ أربعةَ أشهرٍ؛ فإن وطِئ، تجب عليه كفَّارةُ اليمين، وإن لم يطأْها حتى تمضيَ أربعةُ أشهرٍ، يُوقَفْ، ويُطالَبْ بالوطء أو بالطلاق، هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهرٍ وقعَ عليها طَلْقةٌ بائنةٌ من غير أن يُطلِّقَها الزوجُ، ومن غير أن يُطالَبَ بالوطء. * * * 2461 - وعن أبي سَلَمَة: أنَّ سلمانَ بن صَخْرٍ - ويقالُ له: سلمةُ بن صَخْرٍ - البياضيَّ جعلَ امرأتَه عليهِ كظَهْرِ أُمِّه حتَّى يمضيَ رمضانُ، فلمَّا مَضَى نصفٌ من رمضانَ وقعَ عليها ليلًا، فأتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك لهُ، فقالَ لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْتِقْ رقبةً"، فقال: لا أجِدُها، قال: فَصُمْ شهرينِ متتابعَيْنِ، قال: لا أستطيعُ، قال: "أَطعِمْ ستينَ مسكينًا" قال: لا أَجِدُ، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروةَ بن عمروٍ: "أَعطِهِ ذلكَ العَرَقَ - وهو مِكْتَلٌ يأخذُ خَمسةَ عشرَ صاعًا، أو ستةَ عشرَ - ليُطعِمَ ستينَ مِسكينًا". ويُروَى: "فأطعِمْ وَسْقًا من تمرٍ بينَ ستينَ مسكينًا". قوله: "جعلَ امرأتَهُ عليه كظهرِ أمِّه حتَّى يمضيَ رمضانُ، فلمَّا مضى نصفٌ من رمضانَ، وقعَ عليها ليلًا": هذا ظِهارٌ مؤقتٌ، والظِّهارُ المُؤقتُ أن يقولَ الرجلُ لامرأته: أنتِ عليَّ كظَهر أُمِّي شهرًا أو مدةً معينةً، فلا يجب عليه الكفارةُ إلا بالوطء قبل مضيَّ تلك المدة، فإن لم يَطأْها حتَّى تمضيَ تلك المدةُ، فلا كفَّارةَ عليه، والمرأةُ حَرامٌ عليه حتَّى تمضيَ تلك المدةُ، فلو وطِئ في أثناء

فصل

تلك المدة، كفَّرَ بما قدرَ عليه من الكفَّارات المذكورة في هذا الحديث، وحلَّتْ له امرأتُه. والظِّهارُ المُطلَق: أن يقول: أنتِ عليَّ كظَهر أمِّي؛ ولم يبينْ مدةً، فها هنا تجب عليه الكفَّارةُ بالعَود، والعَود عند الشافعي: هو أن يُمسكَ امرأتَه بعد الظَّهار زمانًا يمكنه أن يُطلِّقَها فيه، ولم يطلِّقها، فإذا مضى بعد الظِّهار هذا القَدْرُ، ولم يُطلِّقْها، حرُمَت عليه حتَّى يُكفِّرَ. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: العَود: هو العزمُ على الوطء, فإذا عزم بعد الظِّهار على الوطء، وجبت عليه الكفَّارةُ، وحرُمَت عليه حتَّى يَكفِّرَ. والكفَّارةُ: أن يُعتقَ رقبةً مؤمنةً سليمةً من العيوب المُضرَّة بالعمل، قال الشافعي ومالك وأحمد: يُشترَط أن تكونَ الرقبةُ مؤمنةً، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكونَ كافرةً، فإن لم يَجدِ الرقبةَ، فَلْيَصمْ شهرَين متتابعَين، فإن لم يستطعْ، فَلْيُطعمْ ستين مسكينًا كلَّ مسكينٍ مُدًّا عند الشافعي ومالك وأحمد، وستين صاعًا عند أبي حنيفة. قوله: "مِكْتل"؛ أي: زَنْبيل. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 2463 - عن معاويةَ بن الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ يا رسولَ الله! إنَّ جاريةً لي كانتْ تَرعى غنمًا لي، ففَقَدْتُ شاةً مِنَ الغنمِ فسألتُها، فقالت: أكلَها الذئبُ، فأسِفتُ عليها، وكنتُ مِن بني آدمَ فلطمتُ وجهَها، وعليَّ رَقَبةٌ، أَفَأُعتِقُها؟ فقالَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أينَ الله؟ " فقالت: في السَّماءِ، قال: "مَنْ أنا؟ " قالت: أنتَ رسولُ الله، قال: "أَعتِقْها فإنَّها مؤمنةٌ".

13 - باب اللعان

قوله: "فأَسِفتُ"؛ أي: فحزنتُ. قوله: "وعليَّ رقبةٌ"؛ يعني: علمتُ أنَّ ضربي إياها إثمٌ؛ لأنه كان بلا ذنبٍ منها، فأريد أن أُعتقَها؛ ليزولَ عني ذلك الإثمُ، وكان قد وجبت عليَّ قبل هذا إعتاقُ رقبةِ عن كفَّارةٍ، أفيجوز أن أُعتقَ هذه الجاريةَ عن تلك الكفَّارة؟ فسألها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: هل هي مؤمنةٌ أم لا؟ فلمَّا علم أنها مؤمنةٌ، أجازَ إعتاقَها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ ": ليس هذا الكلامُ منه - صلى الله عليه وسلم - لتعريف مكان الله؛ فإنَّ الله مُنزَّهٌ عن المكان، بل ليَعرفَ أنَّ الجاريةَ من الذين يتخذون الأصنامَ آلهةً أم من المؤمنين؟ فإن كانت من المشركين يتبينُ كفرُها بأن تشيرَ إلى صنمِ بلدٍ أو قومٍ، فلما أشارت إلى السماء، علم أنها ليست من الذين يتخذون الأصنامَ آلهةً. فإن قيل: ينبغي أن ينهاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإشارة إلى السماء؛ لأنه ليس له مكانٌ. قلنا: إنما لم يَنهَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإشارة إلى السماء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنَّ مُرادَها بالإشارة إلى السماء نسبةُ الله إلى العلو، لا إثباتُ مكان الله تعالى. * * * 13 - باب اللِّعَانِ (باب اللعان) مِنَ الصِّحَاحِ: 2464 - عن سهلِ بن سَعْدٍ السَّاعديِّ قال: إنَّ عُوَيْمرًا العَجْلانيِّ قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ رجلًا وَجَدَ معَ امرأتِه رجلًا أَيقتُلُه فتقتلُونَه، أَمْ كيفَ يفعلُ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أُنزِلَ فيكَ وفي صاحبتِكَ فاذَهبْ فأتِ بها"، قال

سهلٌ: فَتلاعَنَا في المسجدِ وأنا مَعَ الناسِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فَرَغا قال عُوَيمرٌ: كذبتُ عليها يا رسولَ الله إِنْ أَمسكتُها، فطلَّقَها ثلاثًا، ثم قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُرُوا! فإنْ جاءَتْ بهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنينِ، عظيمَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فلا أحسِبُ عُوَيمِرًا إلا قد صَدَقَ عليها، وإنْ جاءَتْ بهِ أُحَيمِرَ كأنه وَحَرَةٌ، فلا أَحسِب عُوَيمرًا ألا قد كذبَ عليها"، فجاءَت بهِ على النَّعتِ الذي نعتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن تصديق عُوَيمرٍ، فكانَ بعدُ يُنسَبُ إلى أمِّه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أُنزل فيك وفي صاحبتك"؛ يعني: أَنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إلى آخر الآيات، معنى (يَرمون): يقذفون بالزِّنا؛ يعني: مَن قال لامرأته: زَنيتِ، أو: أنتِ زانيةٌ؛ وجبَ عليه جلدُ ثمانين سَوطًا، إلا أن يأتِيَ بأربعةِ رجالٍ عُدولٍ يشهدون أنهم رأَوا تغييبَ حَشَفة الزاني في فَرج الزانية، فإن لم يكن شهودٌ بهذه الصفة، فله أن يَدفعَ الحدَّ عن نفسه باللِّعان، واللِّعانُ أن يقولَ أربعَ مراتٍ: أشهدُ بالله أني لَمِنَ الصادقين فيما رميتُها به من الزِّنا، وإن كان قد نفى ولدًا يجب عليه في كلِّ مرةٍ أن يقولَ بعد هذا: وأنَّ هذا الولدَ من الزِّنا ليس مني، ويقول بعد المرة الرابعة: عليَّ لعنةُ الله إن كنتُ من الكاذبين. فحينَئذٍ بانَتْ منه، وحرُمتْ عليه على التأبيد، وانتفى عنه الولدُ، وسقط عنه حدُّ القَذْف، ووجب على المرأة حدُّ الزِّنا. فإن أرادت أن تدفعَ عن نفسها الحدَّ، فطريقُها أن تُلاعنَ بعد لِعان الزوج؛ بأن تقولَ أربعَ مراتِ: أشهدُ بالله أنه لَمِنَ الكاذبين فيما رماني به من الزِّنا، وتقول بعد الرابعة: وعليَّ غضبُ الله إن كان من الصادقين. ولا فائدةَ للِعانها إلا إسقاطُ حدِّ الزِّنا عنها. هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا حدَّ على الزوج،

بل يتعيَّنُ عليه اللِّعان. واختلفوا في وقت وقوع الفُرقةِ بين الزوجين؛ فقال مالك وأحمد: إذا تلاعَنَ الزوجانِ كلاهما، وقعت الفُرقةُ بينهما، وقال الشافعي: وقعت الفُرقةُ بينهما بمجرد لِعان الزوج، وقال أبو حنيفة: إنما تقع الفُرقةُ بتفريق الإمام بينهما بعد تلاعُنِهما. واتفقوا في أنَّ الفُرقةَ بينهما مُؤبَّدةٌ؛ لا يجوز للزوج أن يَنكحَها أبدًا إذا لم يُكذِّبِ الزوجُ نفسَه بعد اللعان، فلو كذَّبَ الزوجُ نفسَه بعد اللَّعان، جاز للزوج أن يَنكحَها عند أبي حنيفةَ وحدَه. ويجوز اللِّعان بين كلِّ زوجين عند الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللِّعانُ إذا كان الزوجانِ رقيقَين أو ذِمِّيَّين، أو كان أحدُهما رقيقًا أو ذِمِّيًّا أو محدودًا في القَذْف. قوله: "كذبتُ عليها إن أمسكتُها، وطلَّقها ثلاثًا"؛ يعني: إن أمسكتُها في نكاحي، ولم أُطلِّقْها فقد كذبتُ فيما قلتُ من قذفِها، فطلَّقَها ثلاثًا. قال مُحيي السُّنَّة: لا حاجةَ إلى تطليقه؛ لأنَّ الفُرقةَ قد وقعت بينهما باللِّعان، إلا أنَّ الرجلَ كان جاهلًا بوقوع الفُرقة باللِّعان، فلهذا طلَّقَ. وقال عثمانُ البَتِّيُّ: لا تقع الفُرقةُ بينهما باللِّعان، بل يحتاج إلى التطليق. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن جاءت به أَسحمَ، أدْعَجَ العينين، عظيمَ الأَلْيَتَين، خَدلَّجَ الساقَين"، (الأسحم): الأسود، (أدعَج العينين)؛ أي: أسود العينين، (خَدَلَّج الساقين)؛ أي: غليظ الساقين، والضمير في (به) يعود إلى الحَمْل، وكان الرجلُ الذي نُسِبَ الزِّنا إليه بهذه الصفات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان الولدُ بهذه الصفات، عُلِمَ أنه من ذاك الزاني. قوله: "وإن جاءت به أُحَيمر كأنه وَحَرَة"، (أُحَيمر): تصغير أحمر، (الوَحَرَة)

بفتح الراء والحاء المهملة: دُوَيبةٌ حمراءُ تَلزَق على الأرض، كان عُويمر - الذي هو زوجُ هذه المرأة - أحمرَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان الولدُ أحمرَ، فإنه ليس من الرجل الذي نُسِبَ إليه الزِّنا، بل هو من عُويمرٍ. * * * 2466 - وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للمُتلاعِنَيْنِ: "حِسابُكما على الله، أحدُكما كاذِبٌ لا سبيلَ لكَ عليها"، قال: يا رسولَ الله! مالي؟ قال: "لا مالَ لَكَ، إنْ كنتَ صدَقتَ عليها فهو لها بما استحْلَلتَ مِن فرجِها، وإنْ كنتَ كذبتَ عليها فذاكَ أبعدُ وأبعدُ لكَ منها". قوله: "لا سبيلَ لك"؛ يعني: لا يجوز لك أن تكونَ معها، بل حُرَّمتْ عليك أبدًا. قوله: "مالي؟ "؛ يعني: إذا حصلت الفُرقة، فأين ذهب ما أعطيتُها من المَهر؟ فأجابه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ المَهرَ في مقابلة وَطئِك إياها. قوله: "وإن كنتَ كذبتَ عليها، فذاك أبعد"؛ يعني: وإن كذبتَ في أنها زَنَتْ، فأيضًا مَهرُك في مقابلة وَطئك إياها، كما أنك لو صدقتَ في أنها زَنَتْ، بل عَودُ المَهر إليك فيما إذا كذبتَ عليها أبعدُ؛ لأنه إذا لم يَعُدِ المَهرُ إليك مع أنك لم تكذبْ، فلأنْ لا يعودَ إليك مع أنك كذبتَ أَولى. * * * 2467 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ هِلالَ بن أُميَّةَ قذفَ امرأتَه عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بشَريكِ بن سَحْماءَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "البَينَةُ أو حدٌّ في ظهرِكَ"، فقال هلالٌ: والذي بعثَكَ بالحقِّ إني لَصادِقٌ فليُنزِلَنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام وأنزلَ عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - فقرأ حتَّى بلغ - {إِنْ كَانَ

مِنَ الصَّادِقِينَ}. فجاءَ هلالٌ فشَهِدَ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الله يعلمُ أنَّ أحدَكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟ "، ثم قامَتْ فشهِدَتْ، فلما كانَت عندَ الخامسةِ وَقَفوها وقالوا: إنَّها مُوجِبةٌ! قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: فتَلَكَّأَتْ ونكصَتْ حتَّى ظَنَنا أنها تَرجِعُ، ثم قالت: لا أَفْضَحُ قَومي سائرَ اليومِ، فمَضَتْ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْصِرُوها! فإنْ جاءَت به أَكَحَلَ العينينِ، سابغَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقينِ فهو لشريكِ بن سَحْماءَ"، فجاءَت به كذلكَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مَضَى مِن كتابِ الله لكانَ لي ولها شأنٌ". قوله: "قذف امرأتَه عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بشَريك"؛ يعني: قال: إنَّ شَريكًا وَطِئها بالزِّنا. قوله: "البينةَ أو حدًّا"؛ يعني: أَقِمْ أربعةَ شهودٍ بأنها زَنَتْ، أو انقَدْ لحدِّ القَذْف، وقولنا: (انقَدْ): أمرُ مُخاطَب، من (انقادَ): إذا استَسلَمَ وأطاعَ. قوله: "فتلَكَّأت"؛ أي: توقَّفت. "ونَكصَت"؛ أي: انقلَبَت، ورجعت على عقبَيها؛ يعني: سكنَتْ بعد الكلمة الرابعة حتى ظننَّا أنها ندمَتْ على اللِّعان. قولها: "لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم"؛ يعني: فقالت: لا أفضحُ قومي في جميع الدهر، بأن أرجعَ عن اللِّعان، وأُثبتَ على نفسي الزِّنا. "فمضَتْ"؛ أي: أتَمَّت اللِّعانَ بأن قالت الكلمةَ الخامسةَ. قوله: "لولا ما مضى من كتابِ الله لَكانَ لي ولها شأنٌ"، (شأن): اسمُ (كان)، و (لي) خبرُها، و (الشأن): الأمر؛ يعني: لولا أنَّ القرآنَ حكمَ بأنه لمَّا تلاعَنَ الزوجانِ، لم يكنْ عليهما حدٌّ ولا تعزيرٌ، وإلا لأَقمتُ عليها حدَّ الزِّنا؛ لأنَّ الولدَ يُشبهُ الزاني.

وهذا دليلٌ على أنَّ القاضي إذا حكمَ بظاهر الشَّرع، لا يجوز التجسسُ عن الباطن، وإن كان هناك قرينةٌ تدلُّ على كذب المُدَّعِي أو المُدَّعَى عليه. * * * 2468 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال سعدُ بن عُبادةَ: لو وَجدتُ معَ أهلي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حتَّى آتيَ باربعةِ شهداءَ!؟ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، قال: كلا والذي بعثَكَ بالحقِّ، دمانْ كُنْتُ لأُعَاجِلُه بالسَّيفِ قبلَ ذلكَ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمَعُوا إلى ما يقولُ سَيدُكم، إنه لَغَيُورٌ وأنا أَغْيَرُ مِنه، والله أَغْيَرُ منِّي". قوله: "لم أمسَّه"؛ أي: لم أضربْه، ولم أقتلْه، حرفُ الاستفهام هنا مقدرةٌ، تقديره: ألم أمسَّه؟ قوله: "والله أغيرُ مني"، (الغَيرة): أن يَكرهَ ويَغضبَ الرجلُ الشَّركة في حقِّه؛ يعني: يَكرهُ ويَغضبُ أن يَتصرَّفَ غيرُه في مُلكِهِ، هذا هو الأصل، والمشهور عند الناس: أن يَغضبَ الرجلُ على مَن فعلَ بامرأته أو بقريب له فاحشة، أو نظر إليها، وفي حقِّ الله تعالى: أن يَغضبَ على مَن فعل مَنهيًّا. * * * 2469 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحدَ أَغْيَرُ مِن الله، فلذلكَ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِن الله، فلذلكَ مَدَحَ نفسَه". وفي روايةٍ: "ولا أحدَ أحبُّ إليهِ المِدْحَةُ مِن الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ومِن أجلِ ذلكَ وعدَ الله الجَنَّةَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذرُ مِن الله تعالى، من أجلِ ذلكَ بعثَ المُنذِرينَ والمُبَشِّرين".

قوله: "ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدحة"، (المِدْحة) بكسر الميم: بمعنى المَدح. اعلمْ أنَّ الحبَّ فينا والغضبَ والفرحَ والحزنَ وما أشبه ذلك: عبارةٌ عن تغيُّر القلب وغليانه، ويزيد [قدر] واحدٍ منَّا بأن يمدحَه أحدٌ، وربما ينقصُ قدرُه بترك المدح، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن صفات المخلوقات؛ بل الحُبَّ فيه معناه: الرِّضا بالشيء وإيصالُ الرحمة والخير إلى مَن أحبَّه، والغضبُ فيه؛ إيصالُ العذاب إلى مَن غضبَ عليه؛ يعني: مَن مدحَه أوصلَ إليه الرحمةَ والخيرَ. قوله: "وكذلك وعدَ الله الجنةَ"؛ يعني: وعدَ الله الجنةَ لمن مدحَه وأطاعَه؛ ليَمدحَه العبادُ ويطيعوه. قوله: "فمن أجل ذلك بعثَ المُنذرِين والمُبشِّرِين"؛ يعني: بعثَ الله النبيين ليُبشِّرَ المُطِيعين وليُخوَّفَ العاصين؛ ليعتذروا ويتوبوا عن معاصيهم، ليَقبَلَ عذرَهم وتوبتَهم. رَوى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 2470 - وقال: "إنَّ الله تعالى يَغارُ، وإنَّ المُؤمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ الله: أنْ يأتيَ المؤمنُ ما حرَّمَ الله". قوله: "إن الله تعالى يَغارُ"؛ أي: يغضب على مَن فعلَ فاحشةً. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2472 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ أعرابيًّا أَتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ

امرأَتي ولدَتْ غلامًا أسودَ، واني أَنكَرْتُه؟ فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل لكَ مِن إبلٍ؟ " قال: نعم، قال: "فما أَلوانُها؟ " قال: حُمْرٌ، قال: "هل فيها مِن أَوْرَقَ؟ " قال: إنَّ فيها لَوُرْقًا، قال: "فأنَّى تَرَى ذلكَ جاءَها؟ " قال: عِرْقٌ نزَعَها، قال: "ولعلَّ هذا عِرْقٌ نَزَعَه"، ولم يُرَخِّصْ له في الانتفاءِ منه". قوله: "إن فيها لوُرقًا"، (الوُرْق): جمع أورق، وهو من الإبل: ما فيه بياضٌ وسوادٌ. قوله: "فأنَّى ترى ذلك جاءها؟ "؛ يعني: إذا كانت ألوانُ إبلك الحُمرةَ، فمِن أين تَرى حصلت هذه الإبلُ الوُرْقُ؟ (ذلك) إشارةٌ إلى الأورق. قوله: "عرقٌ نزعَها": الضمير في (نزعَها) يعود إلى (الوُرْق). يعني: فكما أنَّ هذا عرقٌ نزعَها، فلونُ ولدِك أيضًا عرقٌ نزعَه، وهذا دليلٌ على عدم جواز اللِّعان بمجرد مخالفةِ لونِ الولدِ لونَ أبيه وأمِّه، أو بمخالفة صورتهما. * * * 2473 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كَانَ عُتبةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخيهِ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ: أنَّ ابن وَلِيدةِ زَمْعةَ مِنِّي فاقبضْهُ إليكَ، فلمَّا كانَ عامُ الفتح أَخَذَه سعدٌ فقال: إنه ابن أخي، وقالَ عبدُ بن زَمْعْةَ: أخي، فَتَساوَقا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله! إنَّ أخي كانَ عَهِدَ إليَّ فيه، وقال عبدُ بن زَمْعَةَ: أخي، وابن وَلِيدةِ أبي، وُلِدَ على فراشِهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لكَ يا عبدَ بن زَمْعَةَ، الولدُ للفِراشِ وللعاهِرِ الحَجَرُ"، ثم قالَ لِسَودةَ بنتِ زَمْعة: احتجِبي منه، لِما رَأَى مِن شَبَهِهِ بعُتبةَ، فما رآها حتى لَقيَ الله. ويُروى: "هو أخوكَ يا عبدُ".

قوله: "إن ابن وَليدةِ زَمْعَة مني"، (وليدة زَمْعَة)؛ أي: جارية زَمْعَة، و (زَمْعَة): أبو سَودةَ زوجةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: كان عُتبةُ وطِئ هذه الجاريةَ، وولدَتْ ابنًا، فظنَّ عُتبةُ أنَّ نسَبَ ولد الزِّنا ثابتٌ للزاني، فأوصى عُتبةُ بأخيه سعد، وأمرَه أن يقبضَ ذلك الابن إلى نفسه. قول عبدِ بن زَمْعَة: "إنه أخي"؛ يعني: قال ابن زَمْعَة، واسمه: عَبْدان: الابن الذي ولدَتْه وليدةُ أبي هو أخي، لأنَّ أبي كان يُجامعُها. قوله: "فتَساوَقا"؛ أي: أتَيَا معًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "عهد إليَّ"؛ أي: أوصاني وأمرَني. قوله: "الولدُ للفِراشِ"؛ يعني: الولدُ يتبعُ الأمَّ إذا كان الوطء زنا، هذا هو المراد هنا، وإذا كان أبُ الولد وأمُّه رقيقَين، أو أحدُهما رقيقًا فالولدُ يتبعُ الأمَّ أيضًا. قوله: "وللعاهِرِ الحَجَرُ"، (العاهِر): الزاني؛ يعني: يُرجَم الزاني إن كان مُحصَنًا، ويُجلَد إن كان غيرَ مُحصَن، ويُحتمَل أن يكونَ معناه: وللزاني الحِرمانُ من الميراث والنَّسَب، والحَجَرُ على هذا التأويل عبارةٌ عن الحِرمان، كما يُقال للمحروم: في يدِه الترابُ والحَجَرُ. قوله - صلى الله عليه وسلم - لسَودةَ: "احتَجِبي"؛ يعني: ظاهرُ الشرع أنَّ هذا الابن أخوك يا سَودةُ، ولكنَّ التقوى أن تحتجبي منه؛ لأنه يُشبه عُتبةَ. * * * 2474 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ وهو مسرورٌ فقالَ: "أَيْ عائشةُ! ألم تَرَيْ أنَّ مُجزِّرًا المُدْلِجيَّ دخلَ فرأى أسامةَ وزيدًا وعليهما قَطيفةٌ، قد غَطَّيا رُؤوسَهما وبدَتْ أقدامُهما، فقال، إنَّ هذه

الأقدامَ بعضُها مِن بعضٍ". قولها: "دخل عليَّ رسولُ الله ذات يوم"؛ أي: يومًا، و (الذاتُ) زائدةٌ. "وهو مسرورٌ"؛ أي: فَرِحٌ. "وعليهما قَطِيفةٌ"؛ أي: كِساء. "غطَّيَا"؛ أي: سَتَرا. وسببُ هذا الحديث: أنَّ أسامةَ بن زيدِ بن حارثةَ كان أسودَ غايةَ السَّواد، وأبوه كان أبيضَ غايةَ البياض، فتكلَّم الناسُ فيه، وقالوا: كيف يكون أسامةُ من زيدٍ مع اختلاف لونَيهما اختلافًا ظاهرًا؟! وكان يومًا أسامةُ وزيدٌ قد اضطجعا تحتَ كِساء، ورؤوسُهما غيرُ ظاهرةٍ، وأقدامُهما ظاهرةٌ، فقال مُجزِّز المُدلِجيُّ: هذه الأقدامُ بعضُها من بعضٍ؛ يعني: أسامة من زيد، ففرح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام، فصار هذا سُنَّةً؛ فإذا اشتبَه نسبُ ولدٍ على الناس، فَلْيَعرضوا ذلك الولدَ على القافة، والقافة: مَن تعرفُ نسبَ الولد، فمَن ألحقَتِ القافةُ نسبَ الولد به يكون الولدُ ابنه. واختلفوا أنَ القافةَ لتكنْ (¬1) من قبيلة المُدلِج، كما أنَّ المُجزِّزَ كان منهم، أو يجوز أن يكونَ من غيرهم إذا علمَ القيافةَ. والحُكمُ بالقِيافة مذهبُ الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز الحُكمُ بقول القافة. فقال أبو حنيفة: إذا اشتُبه ولدٌ بين رجلَين، أو بين امرأتَين، يُحكَم بأنه ولدُهما، وإن اشتُبه بين ثلاثةٍ رجالٍ أو نساءٍ أو أكثرَ، [فـ]ــلا يُحكَم بأنه ولدُهم. وقال أبو يوسف: إن اشتُبه بين رجلَين، يُحكَم بأنه ولدُهما، وإن اشتُبه بين امرأتين، لا يُحكَم. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والمراد: أن القافة يجب أن تكون ... والله أعلم.

وقال محمد بن الحسن: إن اشتبه بين جماعةٍ أو أقلَّ من الرجال والنساء، يُحكَم بأنه ولدُهم. * * * 2475 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ادَّعى إلى غيرِ أبيهِ وهو يعلمُ فالجنةُ عليهِ حرامٌ". قوله: "مَن ادَّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم - فالجنةُ عليه حرامٌ"؛ يعني: كلُّ ولدٍ لا يُعرَف أبوه على التعيين، فإن كان يدَّعيه واحدٌ أو اثنان، عُرِضَ ذلك الولدُ على القافة؛ ليتبينَ أباه، فإن لم تكن قافةٌ، تُرك الولدُ حتَّى يبلغَ، فينتسبُ بميل نفسه إلى أبيه؛ فغلَّظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إثمَ مَن انتسبَ إلى غير أبيه مع أنه يَعرف: أنَّ الذي يَنتسب إليه ليس بأبيه. قوله: "فالجنةُ عليه حرامٌ": هذا يَحتمل أن يكونَ جزاءَ مَن اعتقد أنَّ الانتسابَ إلى غير أبيه حلالٌ، فمَن اعتقد الحرامَ حلالًا كفرَ، وحُرمت عليه الجنةُ. ويُحتمَل أنَّ معناه: فالجنةُ عليه حرامٌ قبلَ أن يُعذَّبَ بقدرِ إثمِ الانتسابِ إلى غير أبيه، وهذا جزاءُ مَن لم يعتقد الانتسابَ إلى غير أبيه حلالًا. رَوى هذا الحديثَ سعد وأبو بَكْرَة. * * * 2476 - وقال: "لا تَرْغبُوا عن آبائِكم فمن رَغِبَ عن أبيهِ فقد كفَرَ". قوله: "لا تَرغبوا عن آبائكم"؛ يعني: لا تنتسبوا إلى غيرِ آبائكم، كما ذُكر. قوله: "فمَن رغبَ عن أبيه، فقد كفرَ": فإن اعتقدَ الانتسابَ إلى غير أبيه حلالًا، فلا شكَّ أنه كافرٌ، وإن لم يعتقدْه حلالًا، لم يكنْ كافرًا، وحينَئذٍ قولُه:

(فقد كفرَ) معناه: فقد جحدَ حقَّ أبيه ونعمتَه، وجحودُ النعمة: عصيان. رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2477 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لما نزلَت آيةُ المُلاعَنَةِ: "أيُّما امرأةٍ أَدخَلَتْ على قومٍ مَن ليسَ منهم فليسَتْ مِن الله في شيءٍ، ولن يُدخِلَها الله جنَّتَهُ، وأيُّما رَجُلٍ جَحَدَ ولدَهُ وهو ينظرُ إليه احتجبَ الله منه وفضحَه على رؤوسِ الخلائقِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ". ويُروى "وفَضَحَهُ على رؤوسِ الأَشهادِ". قوله: "فليست من الله في شيء"؛ يعني: أيةُ امرأةٍ وَلدتْ من الزِّنا، وهي تعلم كونَ الولد من الزِّنا، ثم قالت: هذا الولدُ من زوجي، فليست من الله في رحمةٍ وعفوٍ؛ يعني: لا تجد العفو. وبحث هذا الحديث كبحث الحديث المتقدم في أنها تعتقد الحِلَّ أم لا. قوله: "هو ينظر إليه"؛ أي: يَعلم أنه ولدُه ويُنكرُه مع العلم. قوله: "على رؤوس الأشهاد"، (الأشهاد): جمع شاهد، وهو يَحتمل أن يكونَ بمعنى: الحاضر؛ أي: الحاضرين يومَ القيامة، ويَحتمل أن يكونَ بمعنى: الشاهد، والمراد منه أيضًا: أهلُ القيامة؛ لأنهم يَشهدُ بعضُهم على بعضٍ. * * * 2478 - ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ لي امرأةً لا تَردُّ يَدَ لامِسٍ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طلِّقْها"، فقال: إني

أُحِبُّها، قال: "فأمْسِكْها إذًا". قوله: "لا تردُّ يَدَ لامسٍ"؛ أي: لا تمنع مَن يقصدُها بفاحشةٍ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأَمسِكْها"؛ أي: فاحفظْها ولازِمْها كي لا تفعلَ فاحشةً. وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ تطليقَ مثل هذه المرأة أَولى؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم الطلاقَ على الإمساك، فلو لم يتيسَّرْ تطليقُها بأن يكونَ يُحبُّها، أو يكونَ له منها ولدٌ يشقُّ مفارقةُ الولدِ الأمَّ، أو يكونَ لها عليه دَينٌ ولم يتيسَّرْ له قضاؤها، فحينَئذٍ يجوز له أن لا يُطلَّقَها؛ ولكن بشرط أن يمنعَها عن الفاحشة، فإذا لم يُمكنْه أن يمنعَها عن الفاحشة، يعصي بترك تطليقها. * * * 2479 - عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى: أنَّ كلَّ مستَلْحَقٍ استُلحِقَ بعدَ أبيهِ الذي يُدْعَى له ادَّعاهُ ورثَتُه، فقَضَى: أنَّ مَن كانَ مِن أَمَةٍ يملِكُها يومَ أصابَها فقد لحِقَ بمن استلحَقَهُ، وليسَ له مما قُسِمَ قبلَه مِن الميراثِ شيءٌ، وما أدركَ من ميراثٍ لم يُقْسَمْ فلهُ نصيبُه، ولا يُلحَقُ إذا كانَ أبوهُ الذي يُدعى لهُ أنكرَهُ، فإن كانَ مِن أَمَةٍ لم يملِكْها، أو مِن حُرَّةٍ عاهَرَ بها فإنه لا يَلحقُ ولا يرثُ، وإن كانَ الذي يُدعى له هو ادَّعاهُ فهو ولدُ زَنْيَةٍ، مِن حُرَّةٍ كانَ أو أَمَةٍ. قوله: "إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضَى أن كلَّ مُستلحَق ... " إلى آخر الحديث. (المُستلحَق) بفتح الحاء: الولد. "استُلحِق" علي بناء المجهول؛ أي: طلب وادَّعَى نسبَه. "يُدعَى له"؛ أي: يُنسَب إليه. ذكرَ هذا الحديثَ الخطَّابي وقال: في ظاهر هذا الحديث إشكالٌ كثيرٌ،

ورفعُ إشكالِه بأن يعلمَ سببَ تكلُّمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث: وهو أنَّ أهلَ الجاهلية كانت عادتُهم أنهم يُرسلون إماءَهم؛ ليَكتسبن لهم الأموالَ بالزِّنا، وكان ساداتُهنَّ يَطؤُونهن أيضًا، فلما ولدَتْ أَمَةٌ منهنَّ ولدًا، فربما يَدَّعي ذلك الولدَ الزاني وسيدُها؛ لأنهما يَطآنها جميعًا، فقضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الولدَ للسيد؛ لأنَّ الولدَ للفِراش، والأَمَةُ فِراشُ السيد كمنكوحتِه، فإن ادَّعاه الزاني وسكت السيدُ، فلم يدَّعِه السيدُ، ولم يُنكرْه حتى مات السيدُ، فلما مات السيدُ استَلحقَ ذلك الولدَ ورثتُه، لَحقَ بهم، فإنْ قُسِمَ الميراثُ في الجاهلية بين ورثة ذلك الميتِ قبل أن يَستَلحقَ ورثتُه ذلك الولدَ؛ لم يكن لذلك الولد شيءٌ من ذلك الميراث، لأنَّ ذلك الميراثَ وقعَت قسمتُه في الجاهلية، والإسلامُ يعفو عما وقع في الجاهلية، ولا يُؤاخِذ به، فإن لم يُقسم الميراثُ قبل أن يَستَلحقَ الورثةُ ذلك الولدَ، يكون الولدُ شريكًا للورثة في الميراث. هذا بحثُ ما إذا مات سيدُ الأَمَة، ولم يَدَّعِ الولدَ ولم يُنكرْه، فأمَّا إذا أنكرَ الولدَ، فلم يجزْ لورثته أن يَستلحقوا ذلك الولدَ بعد موته، فإن استَلحقوا، لم يَلحَقْ به. فإذا عرفتَ هذه القاعدةَ فاعرفْ أنَّ مقصودَ هذا الحديث ما ذُكر في هذا الشرح، وبعد ذلك نشرحُ كلَّ لفظٍ فيه إشكالٌ. قوله: "بعد أبيه الذي يُدعَى له"؛ يعني: بعد موت سيد تلك الأَمَة، والضمير في (أبيه) ضمير الولد؛ يعني: إذا كان الولدُ يَنسبُه الناسُ إلى سيد تلك الأَمَة، ولم ينكرْه أبوه حتَّى يموتَ؛ فيجوز استلحاقُ ورثته، هذا ظاهرُ الحديث، ولكن لا يُشترَط أن يَنسبَ الناسُ ذلك الولدَ إلى سيد الأَمَة، بل إذا لم يُنكر السيد ذلك، صحَّ استلحاقُ ورثته بعد موته، سواءٌ نسبَ الناسُ ذلك الولدَ إلى سيد الأَمَة، أو إلى الزاني، أو سكتوا عن نسبته؛ وإنما يصحُّ الاستلحاقُ إذا كانت الأَمَة ملكًا لسيدها الواطئ يومَ الوطء.

قوله: "ولا يَلحق إذا كان أبوه الذي يُدعَى له أنكرَه"؛ يعني: إذا قال السيد: ليس هذا الولدُ مني، [فـ]ــلا يجوز لورثته أن يَستلحقوا ذلك الولدَ بعد موت أبيهم؛ لأنَّ الولدَ انتَفى عن أبيهم بانكاره الولدَ، وإنما ينتفي الولدُ عنه إذا ادَّعى الاستبراءَ، وهو أن يقول: مضى عليها حَيضٌ بعد أن وطِئتُها، وما وطئتُها بعد مضي الحَيض حتى ولدَتْ، وحلفَ على الاستبراء، فحينَئذٍ ينتفي عنه الولدُ. قوله: "فإن كان الَّذي يُدعَى هو ادَّعاه، فهو ولدُ زَنْيةٍ من حرَّة كان أو أَمَة". * * * 2480 - عن جابرِ بن عَتيكٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِن الغَيْرَةِ ما يُحِبُّ الله، ومنها ما يُبْغِضُ الله، فأمَّا التي يُحبُّها الله: فالغَيْرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا التي يُبغِضُها الله: فالغَيْرةُ في غيرِ رِيبةٍ، وإنَّ مِن الخُيَلاءِ ما يُبْغِضُ الله، ومنها ما يحبُّ الله، فأمَّا الخُيَلاءُ التي يحبُّ الله: فاختيالُ الرجلِ عندَ القِتالِ واختيالُه عندَ الصَّدقةِ، وأمَّا التي يُبْغِضُ الله تعالى: فاختيالُهُ في الفخرِ". ويُروى: "في البَغْيِ". قوله: "فالغَيرة في الرِّيبة"، (الرَّيبة): التُّهمة؛ يعني: إذا علمَ الرجلُ أنَّ زوجتَه أو أَمَتَه أو غيرَهما من أقاربه تدخل على أجنبيًّ، أو يدخل أجنبيٌّ عليها، أو يجري بينهما مزاحٌ وانبساطٌ فها هنا موضعُ الرِّيبة؛ فينبغي للرجل أن لا يَرضَى بهذا، بل يدفعُ تلك المرأةَ عن الأجنبيِّ، ويدفع الأجنبيَّ عن الدخولَ عليها والانبساط معها؛ فإنَّ هذه الغَيرةَ يحبُّها الله. وأمَّا إذا لم يرَ عليها الدخولَ على أجنبيٍّ، ولا دخولَ أجنبيٍّ عليها، ولكن يقع في خاطره ظنُّ سوءٍ في حقِّها من غير أن يَرى بها أمارةَ فاحشةٍ فالغَيرةُ - أي: ظنُّ السوء - ها هنا ليسـ[ـت]، مما يحبُّها الله، بل يُبغضها الله؛ لأنَّ ظنَّ السوء في حقِّ الناس من غير أمارةٍ ظاهرةٍ مذموم.

14 - باب العدة

قوله: "فاختيالُ الرجل عند القتالِ، واختيالُه عند الصدقةِ"، (الخُيلاء): التكبُّر، والاختيالُ مثلُه؛ يعني: التكبُّرُ عند القتال محمودٌ، وهو: أن يَرى نفسَه عظيمةً قادرةً على القتال، ويُوقع نفسَه في الحرب، ويُظهر الشجاعةَ عن نفسه، ولا يَفرُّ كالعاجزين، وكذلك عند الصدقة؛ مثل أن يقولَ مع نفسه: إني أُعطي صدقةً كثيرةً كبيرةً؛ فإني غنيٌّ، ولي ثقةٌ وتوكُّلٌ على الله، ولا يطيع نفسَه بأن تأمرَه بالبخل، وتُخوِّفَه بأن يصيرَ فقيرًا. وأمَّا الاختيالُ في الفخر، فهو أن يقولَ: أنا أشرفُ من فلانٍ نسبًا وكرمًا. والمراد بـ (البغي) هنا: الاختيال. * * * 14 - باب العِدَّة (باب العدة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2481 - عن أبي سلمةَ، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ: أنَّ أبا عمروِ بن حفصٍ طلَّقَها البتَّةَ وهو غائبٌ، فأرسلَ إليها وكيلَه بشعيرٍ، فتَسَخَّطَتْهُ، فقال: والله ما لكِ علينا مِن شيءٍ، فجاءَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَتْ ذلكَ له، فقال: "ليسَ لكِ نفقةٌ"، فأَمَرَها أنْ تعتدَّ في بيتِ أُمِّ شَريكٍ، ثم قال: "تلكَ امرأةٌ يغشاها أصحابي، اعتدِّي عندَ ابن أُمِّ مكتومٍ فإنه رجلٌ أعمى، تَضعِينَ ثيابَكِ، فإذا حَلَلْتِ فآذِنيني"، قالت: فلمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لهُ أنَّ مُعاوِيَةَ بن أبي سُفْيانَ، وأبا جَهْمٍ خَطَباني؟ فقال: "أمَّا أبو جَهْمٍ: فلا يَضَعُ عَصاهُ عن عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاوِيةُ: فصُعْلوكٌ لا مالَ لهُ، انكِحي أُسامةَ بن زيدٍ"، فَكَرِهْتُهُ ثم قال: "انكِحي أُسامةَ

ابن زيدٍ"، فَنَكَحتُه فجعلَ الله فيهِ خيرًا واغتبَطْتُ". وفي روايةٍ: "فأمَّا أبو جَهْمٍ فرجلٌ ضَرَّابٌ للنِّساءِ". ورُوي: أنَّ زوجَها طلَّقَها ثلاثًا، فأتَتْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا نفقةَ لكِ إلا أنْ تكوني حامِلًا". قوله: "فأرسل إليها وكيلُه الشعيرَ، فسخطَتْه"؛ أي: غضبَتْ على الوكيل؛ يعني: أرسل وكيلُ زوجِها الشعيرَ للنفقة، فلم تَرضَ بتلك النفقة، إمَّا لكون تلك النفقة شعيرًا لا حنطةً، أو لكونه قليلًا، فقال ذلك الوكيل: ليس لك النفقةُ؛ لأنك مُطلَّقةٌ بائنةٌ، ولا نفقةَ للمُطلَّقة البائنةِ. قوله: "تلك امرأةٌ يغشَاها أصحابي"، (يغشَاها)؛ أي: يدخلُ عليها؛ يعني: لأمِّ شَريك أولادٌ وأقاربُ كثيرةٌ من الرجال يدخلون بيتَها، ولا يصلح بيتُها للمُعتدَّة؛ لأنَّ العِدَّةَ يجب أن تكونَ في موضعٍ خالٍ. قوله: "تضعينَ ثيابَكِ"؛ يعني: لا تلبسي ثيابَ الزينة، فإنه لا يجوز للمُعتدَّة أن تلبَسَ ثيابًا فيها زينةٌ. قوله: "فإذا حلَلتِ"؛ يعني: وإذا تَمَّتْ عِدَّتُك، "فآذِنيني"؛ أي: فأعلِمِيني انقضاءَ عدَّتِك. قوله: "فلا يضع عصاه عن عاتقه"، يريد: أنه يُكثر ضربَ النساء، فلا تُطيقين ضربَه. وهذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على جواز ذكر عيبٍ في الزوج؛ لتحترزَ الزوجةُ منه، كي لا تقعَ في مشقَّةٍ، وكذلك لو كان في المرأة عيبٌ من فعلٍ أو قولٍ أو قبحِ صورةٍ؛ جازَ له أن يذكرَ ذلك العيبَ للزوج، كي لا يقعَ الزوجُ في مشقَّةٍ. وقيل: المراد بقوله: (لا يضع عصاه عن عاتقه) أنه يُكثر المسافرةَ، فلا يكون

لك منه حظٌّ، وقيل: ضرَّابٌ للنساء، وقيل: كناية عن المجامعة؛ أي: كثير الجماع، وهذا بعيد. قوله: "فصُعلوك"؛ أي: فقير، وإذا كان فقيرًا، فلا تستريحين منه. قولها: "اغتَبطتُ"؛ أي: فرحتُ وربحتُ. قوله: "إلا أن تكوني حاملًا"؛ يعني: فإن كنتِ حاملًا، وجبَتْ لك النفقةُ حتى تَلِدي. * * * 2482 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ فاطمةَ كانتْ في مكان وَحْشٍ فخيفَ على ناحيَتِها، فلذلكَ رَخَّصَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، تَعني في النُّقْلَة. قولها: "في مكان وَحْش"، (الوَحِشُ) بسكون الحاء وكسرها: الخالي. "في النُّقْلة"، (النُّقْلَة) بضم النون؛ أي: في الانتقال من ذاك الموضع إلى موضعٍ آخرَ. * * * 2483 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: ما لِفاطمةَ أنْ لا تَتَّقي الله - يعني في قولها: لا سُكنَى ولا نفقةَ -. قولها: "ما لفاطمة"، (ما): استفهامٌ بمعنى الإنكار؛ يعني: ألا تتقي الله فاطمةُ بنتُ قيسٍ في نسبة الكذب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: نَقلَتْ فاطمةُ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نفقةَ لك ولا سُكنَى"، وما قال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، بل يجب للمُطلَّقة البائنة النفقةُ والسُّكنَى. وإنما أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ بالخروج من منزلها، وتعتدَّ في بيت ابن أمِّ

مَكتوم؛ لأنَّ مكانَها كان خاليًا تخافُ، فلأجل هذا أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الانتقال من موضعها، لا لأنه لا سُكنَى لها على الزوج. واختيارُ عائشةَ رضي الله عنها وجوبُ النفقة والسُّكنى للمُعتدَّة البائنة؛ حاملًا كانت أو حائلًا، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي ومالك: لها السُّكنَى بكل حال، وأمَّا النفقةُ فإن كانت حاملًا استحقَّتْ، وإلا فلا، وقال أحمد: لا نفقةَ لها ولا سُكنَى، إلا أن تكون حاملًا. وأمَّا المُتوفَّى عنها زوجُها فلا نفقةَ لها بلا خلافٍ، ولها السُّكنَى في قول مالك وأحمد وأصحِّ قولَي الشافعي، وفي القول الثاني للشافعي - وهو قول أبي حنيفة -: أنه لا سُكنَى لها. ولا خلافَ في المُطلَّقة الرَّجعية: أنَّ لها النفقةَ والسُّكنَى. * * * 2485 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: طُلِّقَتْ خالتي ثلاثًا، فَأرادَتْ أنْ تَجُدَّ نخلَها فزجرَها رجُل أنْ تَخْرُجَ، فأتَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "بلى فَجُدِّي نخلَكِ، فإنه عَسَى اْنْ تَصَدَّقي أو تَفْعلي معروفًا". قوله: "أن تَجدَّ نخلَها"، أي: أن تقطعَ ثمرَ نخلها. قوله: "بلى، فجُدِّي نخلَك"؛ يعني: لا يجوز للمُعتدَّة أن تخرجَ من منزل العِدَّة لغير عذرٍ، حتى تنقضيَ عدَّتُها، فإن خرجت بالنهار بعذرٍ جازَ، وخروجُ خالة جابر لجدِّ النخل عذرٌ؛ لأنه ليس لها مَن يَجُدُّ نخلَها، ولو لم تخرجْ لَتَلفتْ ثمرتُها، فرخَّصَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج لتحصيل المال؛ لأنَّ المالَ يحصل به خيرٌ لصاحبه بالتصدُّق وإخراج الزكاة، ولا يجوز إتلافُ ما فيه خيرٌ. قوله: "أن تصدَّقي"؛ يعني: لعلَّ ثمرةَ نخيلك تبلغُ نِصابًا، فتؤدِّي

زكاتَها، و (تصدَّقي) بمعنى: تُؤدِّي الزكاة. قوله: "أو تفعلي معروفًا"؛ يعني: أو تُعطي صدقةَ تطوُّعٍ. * * * 2486 - وعن المِسْوَر بن مَخْرَمَة: أن سُبَيْعةَ الأَسلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بعدَ وفاةِ زوجها بليالٍ - ويُروَى: وضعَتْ بأربعينَ ليلةً - فجاءَتْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنَتْه أنْ تَنكِحَ فأذِنَ لها فَنَكَحَتْ. قوله: "نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ ... " إلى آخره، (نُفست) بضم النون: إذا وَلدت المرأةُ، وبفتحها: إذا حاضَت. يعني: كانت حاملًا حين مات زوجُها، فوَلدت بعد موته بزمانٍ يسيرٍ، فأذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لها في النكاح؛ يعني: إذا وَلدت المرأةُ بعد وفاة الزوج، أو بعد الطلاق، فقد انقضت عدَّتُها، وجاز لها التزوُّجُ بزوجٍ آخرَ، وإن كان ولادتُها بعد الوفاة أو الطلاق بلحظةٍ (¬1). * * * 2487 - عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالت: جاءَتْ امرأةٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) جاء في النسختين الخطيتين المرموز لها بـ "ش" و"م" ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله القديمِ مقاله، العظيمِ إفضالُه، العميمِ نَوالُه، والصلاةُ على حبيبه المُرسَلِ مِن عندِه جلَّ جلالُه، أمَّا بعدُ: فإذا تَمَّتِ التتمَّةُ، وانضمَّتِ الكَرَاريسُ المتفرقةُ، فُقِدَ كُرَّاستانِ منها، والأحاديث المشروحةُ فيهما من هذا الحديث الذي في (باب العِدَّة) - وهو هذا: عن أمِّ سَلَمة قالت: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إنَّ ابنتي تُوفِّي عنها زوجُها، وقد اشتكَت عينَها - إلى (باب التعزير)، ثم شَرعتُ في إتمامها مستعينًا بالله تعالى".

فقالت: يا رسولَ الله! إِنَّ ابنتي تُوفِّيَ عنها زَوجُها، وقد اشتَكَتْ عينَها أَفَنَكْحُلُها؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا"، مرتينِ أو ثلاثًا، كلُّ ذلكَ يقولُ: "لا"، ثم قال: "إنما هي أربعةُ أَشْهُرٍ وعَشْرٌ، وقد كانَتْ إحداكُنَّ في الجاهليةِ تَرْمي بالبَعرةِ على رأسِ الحولِ". قولها: "تُوفِّي"؛ أي: مات، وأصلُه: تَوفَّاه الله؛ أي: استوفاه، فتُوفِّي؛ أي: وفَّاه أجَلَه المكتوبَ، ولم يَنقصْه شيئًا. "اشتكَت عينَها"؛ أي: وَجِعَتْ عينَها. "أفنَكحلُها؟ "؛ أي: نَكحلُها نحن، أو تأذن لها، فتَكتحل. "فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا، مرتين أو ثلاثًا"، (أو): شكٌّ من الرَّاوي؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجوز لها الاكتحالُ، قاله مرتين أو ثلاثَ مراتٍ للمبالغة. الظاهرُ أنَّ هذا الحديثَ مُستنَدُ أحمدَ رحمةُ الله عليه؛ فإنه لم يُجوِّز للمُتوفَّى عنها زوجُها الاكتحالَ بالإثمد في حالة الرَّمَد وفي غيره، ذكرَه الخِرَقيُّ في "مختصره"، وعند أبي حنيفة ومالك: يجوز لها الاكتحالُ به في الرَّمَد. وعند الشافعي: يجوز لها أن تَكتحلَ به ليلًا، وتمسَحه نهارًا إذا احتاجت إليه لرَمَدٍ، ذكره مُحيي السُّنَّة في "معالم التنزيل". قوله: "قد كانت إحداكنَّ في الجاهلية تَرمي بالبَعرة على رأس الحَول"، (البَعْرة) بسكون العين: واحدة البَعْر والأبعار، وهي رَوث البعير، (الحَول): السَّنة. وقال في "شرح السُّنَّة": معنى رميها بالبَعرة كأنها تقول: كان جلوسُها في البيت وحبسُها نفسَها سَنةً على زوجها أهونَ عليها من رمي البَعرة، أو هو يسيرٌ في جنب ما يجبُ من حقِّ الزوج، وكانت عدَّةُ المُتوفَّى عنها زوجُها حَولًا كاملًا، فنُسخ بأربعةِ أشهرٍ وعشرٍ.

وقيل: معناه: إظهارُ انقضاء العِدَّة بهذا الفعل المحسوس مِن قِبلها، أو أرادت أني تفرَّغتُ من العِدَّة كما يَتفرَّغ البعيرُ برمي البَعرة إذا أراد قضاءَ حاجته، أو لعلَّها تُقال لمجيء زوجٍ آخرَ؛ كما أنَّ البعيرَ إذا رمى البَعر يحتاج إلى غذاءٍ جديدٍ. * * * 2488 - عن أمِّ حبيبةَ، وزينبَ بنتِ جَحْشٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ تُحِدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ إلا على زوجٍ: أربعةَ أشهرٍ وعشرًا". قوله: "لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاث"؛ أي: ثلاث ليال، (أن تحدَّ): فاعلُ (لا يحلُّ)، و (تؤمن): صفةٌ لـ (امرأةٍ)، تقدير الكلام: لا يحلُّ لامرأةٍ مؤمنةٍ بالله واليوم الآخر الإحدادُ على ميتٍ. الظاهر: أنَّ المرادَ بالإحداد: الجزعُ والبكاءُ والتحرق على الميت أكثرَ من ثلاثِ ليالٍ؛ فقد جاء في خبرٍ آخرَ: "العَزاءُ ثلاثةُ أيام"، وأمَّا العِدَّةُ فإن كانت تُسمَّى إحدادًا، فالمراد غير هذا، بل المراد: تركُ الزينة فقط، كما قال مُحيي السُّنَّة رحمه الله: معنى الإحداد هو الامتناع من الزينة، يقال: أحدَّتِ المرأةُ على زوجها، فهي مُحِدَّة، وحَدَّتْ أيضًا، وحدود الله: ما يجب الامتناعُ دونها. * * * 2489 - وعن أمِّ عطيَّةَ رضي الله عنها، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُحِدُّ امرأةٌ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا، ولا تَلْبَسُ ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عَصْبٍ، ولا تكتحلُ، ولا تَمَسُّ طِيْبًا إلا إذا طَهُرت نُبذةً مِن

قُسْطٍ، أو أَظفارٍ". ويروى: "ولا تَختضبْ". قوله: "إلا ثوبَ عَصْب"، (العَصْب): نوع من البُرُود يُعصَب غزلُه، ثم يُصبَغ، ثم يُنسَج، فلا بأسَ بلبسه. قوله: "إلا إذا طَهُرت نبذةً من قُسط أو أظفار"، (النُّبذة): القطعة اليسيرة، (القُسط) بضم القاف: من عقاقير البحر، قال مُحيي السُّنَّة: هو عودٌ يُحمَل من الهند يُجعَل في الأدوية، و (الأظفار): شيءٌ طيبٌ أسودُ يُجعَل في الدُّخْنَة، لا واحدَ لها. ويُروَى: "نُبذةً من كُسْت أظفارٍ"، وأراد بالكُست: القُسط، وتُبدَل القافُ بالكاف، والطاءُ بالتاء، كما يُقال: كافور وقافور، ونُقل عن الأزهريِّ: أنه قال: واحدها: ظُفْر. * * * مِنَ الحِسَان: 2490 - عن زينبَ بنتِ كعبٍ: أنَّ الفُرَيعةَ بنتَ مالكِ بن سِنانٍ، وهي أختُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنها، أخبرَتْها أنها جاءَتْ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تسألُه أنْ تَرجِعَ إلى أهلِها في بني خُدْرةَ، فإنَّ زوجَها خرجَ في طلبِ أَعْبُدٍ له أَبَقُوا فقتلُوه، قالت: فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَرجِعَ إلى أهلي، فإنَّ زوجي لم يترُكْني في منزلٍ يملِكُهُ ولا نفقةٍ، فقالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فانصرَفْتُ حتى إذا كنتُ في الحُجْرةِ أو في المسجدِ دَعاني، فقال: "اُمْكُثي في بيتِكِ حتى يبلغَ الكتابُ أجلَهُ"، قالت: فاعتدَدْتُ فيه أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا. قوله: "حتى يبلغَ الكتابُ أجلَه"، و (الأَجَل): المدة؛ أي: حتى تنقضيَ العِدَّةُ؛ وإنما سُميت العِدَّةُ كتابًا؛ لأنها فريضةٌ من الله سبحانه، كما قال الله

تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 178]؛ أي: فُرض. قولها: "فاعتددتُ فيه"، الاعتداد ها هنا بمعنى: قضاء العِدَّة؛ أي: قضيتُ عِدَّتي بما أمرَني سبحانه. * * * 2491 - عن أمَّ سَلَمةَ قالت: "دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ توفي أبو سلَمةَ وقد جعلتُ على عَينيَّ صَبرًا فقال: "ما هذا يا أُمَّ سلمةَ؟ " فقلتُ: إنما هو صَبرٌ ليسَ فيه طِيبٌ، فقال: "إنه يَشُبُّ الوجهَ فلا تجعَليهِ إلا بالليلِ وَتَنْزَعِيهِ بالنَّهارِ، ولا تَمْتَشِطي بالطِّيبِ، ولا بالحِنَّاءِ فإنه خِضابٌ"، قلتُ: بأيِّ شيءٍ أَمْتَشِطُ يا رسولَ الله؟ قال: "بالسِّدر تُغَلِّفينَ به رأسَكِ". قولها: "وقد جعلتُ على [عينيَّ] صبرًا"، (الصَّبر) بكسر الباء: هذا الدواء المُرُّ، ولا يُسكَّن إلا في ضرورة الشعر. قيل: يجوز كلاهما على السَّويَّة كـ (كَتْف) و (كَتِف). قوله: "إنه يشبُّ الوجهَ"، تقول: (شبَبتُ النارَ والحربَ أُشبُّها شَبَبًا وشُبُوبًا): إذا أوقدتَها، يقال للجميل: إنه لَمشبوبٌ، قال الشيخ مُحيي السُّنَّة: أي: يُوقده ويُلوِّنه ويُحسِّنه. قوله: "ولا تمتشطي بالطِّيب"، (الامتشاط والمَشط): تسريحُ الشَّعر، الباء في (بالطيب): للحال؛ أي: لا تمتشطي في حالِ كونِ المُشط مُطيَّبًا. قوله: "بالسِّدر تَغلَّفين به رأسَك"، (تَغلَّفين) بفتح التاء: أصله: تتغلَّفين، فحُذفت إحدى التاءَين، ذكرُه الإمامُ شهابُ الدِّين التُّورِبشْتِيُّ - رحمه الله - في "شرحه". قال في "الصِّحاح": تَغلَّفَ الرجلُ بالغالية، وغَلَفَ بها لحيتَه غَلْفًا.

وقيل: هو بضم التاء من: التغليف، وهو جعلُ الشيءِ غلافًا لشيءٍ. حاصل الروايتَين: أنه إن رُوِي بفتح التاء فمعناه: لا تُكثري من الطِّيب على شَعرك حتى يصيرَ الطِّيبُ غلافًا للشَّعر، فيُغطي الشَّعرَ ويحويه كتغطيةِ الغلافِ المغلوفَ، وإن رُوِي بضم التاء فمعناه: لا تُمكِّني أن يُفعَل بك ذلك؛ أي: امتنعي وامنعي غيرَك منه. * * * 2492 - عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المُتَوفَّى عنها زوجُها لا تلبَسُ المُعَصفَرَ من الثِّيابِ، ولا المُمَشَّقةَ، ولا الحُليَّ، ولا تختَضبُ، ولا تكتَحِلُ". قوله: "لا تلبَس المُعصفَر من الثياب ولا المُمشَّقة"، (عُصفِرَ الثوبُ): إذا صُبغ بالعُصْفُر، وهو صِبْغٌ أحمرُ، يُقال له بالفارسية: خَسَك. قال في "الغريبين": (المِشْقُ): المَغْرَةُ، وثوبٌ مُمَشَّقٌ: مصبوغٌ بالمِشْق، والمَغْرَةُ: الطِّين الأحمر، وقد تُحرَّك الغينُ، ومعدنه ظَفَارِ. يعني: لا يجوز للمُتوفَّى عنها زوجُها أن تلبسَ ثيابَ الزينة والحُليَّ، ولا يجوز لها أيضًا أن تَطيَّبَ في بدنها ولا في ثيابها، ولا أن تأكلَ الأطعمةَ التي فيها طِيبٌ؛ يعني: الطعامَ المُزعفَرَ، ولا أن تكتحلَ بالإثمد من غير رَمَد - كما ذُكر قبلُ - إلى انقضاء عِدَّتها. * * *

15 - باب الاستبراء

15 - باب الاستبراء (باب الاستِبراء) الاستِبراء ها هنا: طلبُ براءةِ الرحمِ من النطفةِ. مِنَ الصِّحَاحِ: 2493 - عن أبي الدرداءِ - رضي الله عنه - أنَّه قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ مُجِحٍّ فسألَ عنها؟ فقالوا: أَمَةٌ لفلانٍ، قال: "أَيُلِمُّ بها؟ " قالوا: نعم، قال: "لقد همَمْتُ أنْ أَلعنَهُ لعنًا يدخلُ معَهُ في قبرِهِ، كيفَ يستخدِمُه وهوَ لا يحِلُّ لهُ؟ أَمْ كيفَ يوَرِّثُه وهو لا يحِلُّ له". قوله: "مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ مُجِحٍّ ... " إلى آخره، (المُجِحُّ) بتقديم الجيم على الحاء المهملة: الحاملُ المُقرِب؛ أي: الحامل التي قرُبت ولادتُها، قال في "الصِّحاح": أجحَّتِ المرأةُ: حَمَلتْ، وأصل الإجحاح للسِّباع، تقول: لكلِّ سَبُعةٍ إذا حَملَتْ، فأَقرَبَتْ، وعظُمَ بطنُها: قد أجحَّت، فهي مُجِحٌّ. قال الخطّابي في "معالمه": وفيه بيانُ أنَّ وطءَ الحَبَالى من السَّبَايا لا يجوز، حتى يَضعْنَ حملَهنَّ. وقوله: "كيف يُورثه وهو لا يَحلُّ له؟! أم كيف يَستخدمُه وهو لا يَحلُّ له؟! "، (كيف): استفهامٌ فيه معنى الإنكار، والمراد به: المنعُ عن الوطء قبل الاستِبراء، والاستِبراءُ واجبٌ، ولا يحصل ذلك إلا بالوَضْع؛ يعني: لا يجوز لأحد أن يُجامعَ جاريتَه الحاملَ قبل الوَضْع؛ لأنه إذا جامَعَها، [فـ]ـكيف يجوز له أن يَستعبدَ ولدَها ويُنزلَه منزلةَ العبيد؛ لاحتمال أنه خُلق من مائه؟! وكيف يجوز له أن يُشركَه في الميراث مع الوَرثة، ويَستلحقَه إلى نفسه؛ لاحتمال أنه من غيره؟!

وقال الخطَّابي أيضًا: يريد أنَّ ذلك الحَملَ قد يكون من زوجِها المُشرِكِ، فلا يحلُّ له استلحاقُه وتوريثُه، وقد يكون منه إذا وطِئها بأن تنفُشَ ما كان في الظاهر حَملًا، وتَعلَقَ من وطئه، ولا يجوز له نفيُه واستخدامُه، وفي هذا دليلٌ على أنه لا يجوز استرقاقُ الولد بعد الوطء إذا كان وضعُ الحَمل بعدَه بمدةٍ تبلغ أدنى مدة الحَمل، وهي ستةُ أشهر؛ يعني: إذا وضعَت الحَملَ بعدَما مضى من حين الوطء ستةُ أشهرٍ فصاعدًا، لم يجزْ له استرقاقُ ذلك الولد. * * * مِنَ الحِسَان: 2494 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -، رفَعَه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قال في سبايا أوْطاسٍ: "لا تُوطَأُ حاملٌ حتى تَضَعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَملٍ حتى تَحيضَ حَيْضةً". قوله في سَبَايا أَوطَاس: "لا تُوطَأ حاملٌ حتى تضعَ، ولا غيرُ ذات حملٍ حتى تحيضَ حَيضةً"، (السَّبَايا): جمع سَبيَّة بمعنى: مَسبيَّة، وهي امرأةٌ كافرةٌ أسيرةٌ, و (أَوطَاس): موضعٌ، (لا تُوطَأ): خبرٌ بمعنى النهي؛ يعني: لا تُجامعوا مَسبيَّةً حاملًا حتى تضعَ حملَها، ولا حائلًا ذاتَ قُرُوءٍ حتى تحيضَ حَيضةً كاملةً، وإن كانت لا تحيضُ لصغرها أو كبرها، فاستبراؤها يحصل بشهرٍ واحدٍ أو بثلاثةِ أشهرٍ، فيه قولانِ، أصحُّهما الأولُ. قال الخطَّابي: فيه من الفقه: أنَّ السَّبيَ يَنقض المُلكَ المتقدمَ، ويَفسخُ النكاحَ، وفيه دليلٌ على أنَّ استحداثَ المُلك يُوجِب الاستِبراءَ في الإمَاء؛ فلا تُوطَأ ثيبٌ ولا عذراءُ حتى تُستبرَئَ بحيضةٍ، ويدخل في ذلك المُكاتِبةُ إذا عجزت، فعادت إلى المُلك المُطلَق، وكذلك مَن رجعت إلى مُلكه بإقالةٍ بعد البيع، وسواءٌ كانت الأَمَةُ مُشترَاةً من رجلٍ أو امرأةٍ؛ لأنَّ العمومَ يأتي على ذلك أجمع.

وفي قوله: (حتى تحيضَ حَيضةً) دليلٌ على أنه إذا اشتراها وهي حائضٌ، فإنه لا يُعتَدُّ بتلك الحَيضة، حتى تُستبرَئَ بحيضةٍ مُستأنَفةٍ. * * * 2495 - وعن رُوَيْفِعِ بن ثابتٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنينٍ: "لا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يَسقي ماؤُه زَرْعَ غيرِه - يعني إتيانَ الحَبالَى -، ولا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يقعَ على امرأةٍ من السَّبْيِ حتى يستبرِئَها، ولا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يَبيعَ مَغْنمًا حتى يُقْسَمَ". قوله: "لا يحلُّ لامرئ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أن يسقيَ ماءَه زرعَ غيره ... " إلى آخره، (يؤمن بالله): صفةٌ لـ (امرئ)، و (أن يسقي): فاعل (لا يحلُّ)، (لا يقعُ على امرأةٍ)؛ أي: لا يُجامعها. يعني: لا يحلُّ لرجلٍ يؤمن بالله والبعث بعد الموت أن يُجامعَ حاملًا من السَّبي، وحائلًا منه حتى يستبرئها، كما ذكر في الحديث المتقدم، وأن يبيعَ شيئًا من الغنيمة أو يَهبَه قبل القِسمة، أمَّا المطعومُ فيَحلُّ له أكلُه قبلَ القِسمة. قال الخطَّابي رحمه الله: شبَّهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الولدَ إذا علقَ بالرَّحم بالزَّرع إذا نبتَ ورسخَ في الأرض. وفيه: كراهةُ وطء الحُبلى إذا كان الحَبَلُ من غير الواطئ على الوجوه كلِّها، وقد يَستدلُّ به مَن يَرى إلحاقَ الولد بالواطئَينِ إذا كان ذلك منهما في وقتٍ يمكن أن يَعلقَ من كلِّ واحدٍ منهما، وقالوا: قد شبَّهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الولدَ بالزَّرع؛ أي: فكما يزيدُ الماءُ في الزَّرع، كذلك يزيد المنيُّ في الولد. * * *

16 - باب النفقات وحق المملوك

16 - باب النَّفقاتِ وحَقِّ المَملوكِ (باب النفقات وحق المملوك) مِنَ الصِّحَاحِ: 2496 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ هِندًا بنتَ عتبةَ قالت: يا رسولَ الله! إنَّ أَبا سُفيانَ رجلٌ شَحِيحٌ، وليسَ يُعطيني ما يَكفيني وولدي إلا ما أَخذتُ منه وهوَ لا يَعلم، فقال: "خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ". قولها: "رجلٌ شَحيحٌ"، (الشَّحيح): فَعيل من (الشُّحِّ)، ومعناه: البخلُ مع حرصٍ، وذلك فيما كان عادةً لا عارضًا، كما قال الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]؛ أي: خُلقت معه، ذكرَه الراغبُ رحمه الله في "مفرداته". قوله: "خُذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف"، (المعروف): ما يَعرفُه الشرعُ ويأمرُ به. شرح هذا الحديث مذكورٌ في (باب الشَّرِكة). * * * 2497 - وقال: "إذا أَعْطَى الله أحدَكم خيرًا فليَبدَأْ بنفسِه وأهلِ بيتِهِ". قوله: "إذا أعطى الله أحدكم خيرًا، فَلْيبدأْ بنفسِهِ وأهلِ بيته"، الخير ها هنا: بمعنى المال؛ يعني: إذا رُزق أحدُكم مالًا، فَلْيَبدأ بالإنفاق على نفسه، وعلى مَن في نفقته من زوجته وأولاده وأبوَيه إذا كانا محتاجَين إليه، ثم على غيرهم. * * *

2498 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "للمَمْلوكِ طَعامُه وكِسوتُه، ولا يُكلَّفُ مِن العملِ إلا ما يُطيقُ". قوله: "للمملوك طعامُه وكسوتُه، ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يُطيق"؛ يعني: يجب على السيد نفقةُ رقيقه خبزًا وإدامًا؛ قدرَ ما يكفيه من غالب قُوت مماليك ذلك البلد وغالب الإدام والكسوة، ويُكلِّفُه [من] العمل ما يُطيق؛ أي: لا يأمرُه من العمل والخدمة إلا ما يُطيقه على الدوام. * * * 2499 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إخوانُكم خَوَلُكُم جَعلَهم الله تحتَ أيديكُم، فمن جَعلَ الله أخاهُ تحتَ يديهِ فليُطعِمْهُ مما يأكلُ، وليُلبسْهُ مما يلبَسُ، ولا يُكلِّفُهُ من العملِ ما يَغلِبُه، فإنْ كَلَّفَه ما يَغلِبُه فلْيُعِنْهُ عليهِ". قوله: "إخوانُكم جعلهم الله تحت أيديكم ... " إلى آخره؛ يعني: مماليكُكم إخوانُكم؛ لكنْ جعلَهم الله محكومين لكم، فيجب عليكم أن تُطعموهم من جنس ما تأكلونه، وتُلبسونهم من جنس ما تلبسونه، ولا تُكلِّفوهم من الأعمال ما يَغلبهم، فإن كلفتُمُوهم ما يغلبُهم، فينبغي أن تُعينوهم عليه رعايةً لحقوقهم. هذا معنى ظاهر الحديث. قال مُحيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة": هذا خطابٌ مع العرب الذين لَبُوسُ عامتِهم وأطعمتهم متقاربةٌ، يأكلون الجَشِبَ ويَلبَسون الخَشِنَ، فأمرَهم أن يُطعموا ويُلبسوا رقيقَهم ما يلبسون ويأكلون؛ فأمَّا مَن خالَفَ معاشَ السلف والعرب، فأكلَ رقيق الطعام، ولبسَ جيد الثياب، فلو واسَى رقيقَه كان أحسنَ، فإن لم يَفعلْ، فليس عليه لرقيقه إلا ما هو المعروف من نفقة رقيق بلده وكسوتهم.

قال في "الصِّحاح": طعام جَشِبٌ وجَشُوب - بالجيم - أي: غليظ. قوله: "ولا يُكلِّفه من العمل ما يغلبه"، قال في "شرح السُّنَّة": يعني - والله أعلم -: لا يُكلِّفُه إلا ما يُطيق الدوامَ عليه، لا ما يُطيقُ يومًا أو يومين أو ثلاثةً، ثم يعجز، وجملةُ ذلك: ما لا يضرُّ ببدنه الضررَ البَينَ. اعلمْ أنَّ لكلِّ واحدٍ من السيد والمملوك حقًّا على صاحبه؛ أمَّا حقُّ السيد على المملوك: فهو أن يَنقادَ لسيده، ويمتثلَ أمرَه في جميع الأوقات إلا أوقات الصلوات الخمس؛ فإنها حقُّ الله تعالى، وهو مُقدَّمٌ على حقِّ سيده، وأمَّا حقُّ المملوك على السيد: فهو أن يُطعمَه ويَكسوَه بالمعروف، ولا يُكلِّفَه من الأعمال ما لا يُطيق عليه، كما ذُكر قبلُ. * * * 2500 - وعن عبدِ الله بن عَمرٍو - رضي الله عنهما -: جاءه قَهْرَمانٌ له فقالَ: أَعطيتَ الرَّقيقَ قوتَهم؟ قال: لا، قال: فانطلِقْ فأَعطِهم فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يَحبسَ عَمَّن يملكُ قُوْتَه". وفي روايةٍ: "كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضَيعَ مَن يَقُوتُ". قوله: "وجاءه قَهرَمان له ... " إلى آخره، (القَهْرَمان): الوكيل، كأنه مُعرَّبٌ، أو مأخوذٌ من (القهر)؛ لأنَّ الوكيلَ مقهورُ الأمر بالنسبة إلى مُوكِّله. قوله: "كفى إثمًا أن تحبسَ عمَّن تملك قُوتَه"، (كفى): فعلٌ ماضٍ، وفاعله فيه مُضمَر فسَّره (إثمًا)؛ أي: كفى الإثم إثمًا حبسُك الطعام، و (أن) مع ما بعده: مبتدأ، و (كفى): خبرٌ مقدَّمٌ، مثل: بئس رجلًا زيد، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو (أن): فاعل (كفى)، و (إثمًا): نُصب على الحال أو التمييز؛ يعني: لو لم يكن لك إثمٌ إلا إثمَ منع القُوت عن المماليك والعِيال، أو تأخير

قُوتهم، لَكان يَكفيك ذلك الإثمُ؛ أي: لَكان ذلك الإثمُ عظيمًا. * * * 2501 - وقال: "إذا صَنعَ لأحدِكم خادِمُه طعامَه، ثم جاءَه بهِ، وقد وَليَ حرَّهُ ودُخانَه فَلْيُقعِدْه معَه، فَلْيأكلْ، فإنْ كانَ الطعامُ مشفُوهًا قليلًا فَلْيَضَعْ في يدِه منهُ أُكْلةً أو أُكُلَتَيْنِ". قوله: "إذا صنع لأحدكم خادمُه طعامَه ... " إلى آخره، (صنِعَ)؛ أي: فعلَ، يقال: صنعَ إليه معروفًا، وصنع به صنيعًا قبيحًا؛ أي: فعلَ، ذكره في "الصِّحاح". قوله: "ولِي حرَّه"؛ أي: تولَّى وقرُبَ. قوله: "فإن كان الطعامُ مشفوهًا قليلًا، فَلْيَضعْ في يده منه أُكلةً أو أُكلتَين"، قال في "شرح السُّنَّة": يُقال: (طعامٌ مشفوهٌ): إذا كثرُت عليه الأيدي، و (ماءٌ مشفوهٌ): كثيرٌ سائلوه، وأصل الكلمة مأخوذ من الشَّفة. و (الأُكْلة) بضم الألف: اللُّقمة، و (الأَكْلة) بالفتح: المرة الواحدة من الأكل. يعني: إذا طبخَ واحدٌ من خُدَّامكم طعامًا، ثم أتى به، وقد قاسَى الحرارةَ والدخانَ، فعليكم أن تُقعدوه معكم ليأكلَ، وإن كان الطعامُ قليلًا، فأعطوه لقمةً أو لقمتَين. * * * 2502 - وقال: "إنَّ العبدَ إذا نَصَحَ لسيدِه وأحسنَ عبادَةَ الله فلهُ أجرُهُ مَرَّتينِ"

قوله: "إن العبدَ إذا نصحَ لسيدِهِ، وأحسنَ عبادةَ الله، فله أجرُه مَرَّتين"، يُقال: نصحتُه ونصحتُ له، وزيادة اللام للمبالغة في نصيحة المَنصوح، ومعنى النصيحة: طلب الخير. يعني: العبدُ إذا طلب الخيرَ لسيده، وامتثل أمرَه، وأحسن طاعةَ ربه، يستحقُّ الأجرَ مرتين؛ مرةً لطاعة ربه تعالى، والأخرى لطاعته لسيده. * * * 2503 - وقال: "نِعِمَّا للمَمْلوكِ أن يَتَوفَّاهُ الله يُحْسِنُ عبادَةَ ربه وطاعةَ سيدهِ نِعِمَّا لهُ". قوله: "نِعمَّا للمملوك أن يتوفَّاه الله تعالى"، (توفَّاه الله)؛ أي: قبض روحَه، (ما) في (نعما): نكرةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ، و (نعم): فعل المدح، وفيه فاعله، و (ما): بمعنى (شيء)، نُصب على التمييز، و (أن يتوفَّاه): مخصوصٌ بالمدح، تقدير الكلام: نعم الشيء شيئًا للمملوك توفاه الله؛ يعني: نعم شيئًا وفاته في طاعة الله سبحانه، ثم في طاعة سيده؛ امتثالًا لأمر ربه تعالى. * * * 2504 - وقال: "أيُّما عبدٍ أَبَقَ فقد بَرِئَتْ منهُ الذِّمَّةُ". قوله: "أيُّما عبدٍ أَبَقَ فقد برِئت منه الذمَّةُ"، (أَبَقَ يَأبقُ): إذا فرَّ، (الذمَّة): العَهد، (أيُّما): للشرط، مبتدأ، و (ما)؛ زائدةٌ للتأكيد، و (أبق): خبرُه لا صفةُ (عبد)؛ لأن المُضافَ إليه لا يُوصَف، ولأنَّ المبتدأ يبقى بلا خبرٍ، وما بعدَه جوابُ الشرط، و (أبق): ماضٍ لفظًا ومستقبلٌ مجزومٌ معنًى. يعني: إن أبقَ إلى ديار الكفَّار وارتدَّ، فقد برِئت منه الذمَّةُ؛ أي: عهدُ

الإسلام، حتى يجوز قتلُه، وأن أبقَ إلى بلدٍ من بلاد الكفر - لا على نيَّة الارتداد -[فـ]ـلا يجوز قتلُه، بل قوله: (برِئت منه الذمَّةُ) معناه: التهديد والمبالغة في جوازِ ضربهِ. * * * 2505 - وقال: "أيُّما عبدٍ أَبَقَ من مواليهِ فقدْ كَفَرَ حتى يرجعَ إليهم". قوله: "فقد كفر"؛ أي: ستر نعمةَ السيدِ عليه. * * * 2506 - وقال: "إذا أَبَقَ العبدُ لم تُقبَلْ له صلاةٌ". قوله: "لم تُقبَل له صلاةٌ"؛ أي: لا يُقبَل كمالُ صلاته حتى يرجعَ إلى سيده. * * * 2507 - وقال: "مَن قَذَفَ مَملوكَهُ وهو بريءٌ مما قالَ، جُلِدَ يومَ القيامَةِ إلا أنْ يكونْ كما قال". قوله: "مَن قذفَ مملوكَه وهو بريءٌ ... " إلى آخره؛ يعني: إذا برِئ مملوكُه عما قذفَه سيدُه، جُلدَ سيدُه يومَ القيامة حدَّ القَذْف؛ إلا إذا كان السيدُ صادقًا في قذفه. * * * 2509 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: كنتُ أَضرِبُ غلامًا لي فسمعتُ مِن خلفي صَوْتًا: اعلمْ أَبا مسعودٍ! لَلَّهُ أَقْدَرُ عليكَ منكَ عليهِ، فالتَفَتُّ

فإذا هوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ يا رسولَ الله هوَ حُرٌّ لوجهِ الله فقالَ: "أَما لَو لَمْ تفعلْ للفَحَتْكَ النارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النارُ". قوله: "لَلَّهُ أقدرُ عليكَ منكَ عليه"؛ يعني: قدرةُ الله سبحانه عليك أتمُّ وأبلغُ من قدرتك على عبدك. (للهُ): مبتدأ، و (أقدرُ): خبرُه، و (عليك): متعلِّق بـ (أقدر) تعلُّقَ مفعولٍ به أيضًا، و (منك)؛ أي: من قدرتك، متعلِّقٌ أيضًا بـ (أقدر)؛ لأنه أفعل التفضيل، وهو في قوة فعلَين، يتعلَّقُ به حرفا جرٍّ، و (عليه): متعلِّق بقدرتك المُقدَّرَة بعد (مِن) في (منك) تعلُّقَ مفعولٍ به أيضًا، وإن كان المصدرُ لا يُحذَف ويبقى معمولُه، وإنما كان من جهة التقدير ذلك؛ لأنَّ المُقدَّرَ كالملفوظ. قوله: "لفحتْكَ النارُ"؛ أي: أحرقتْك النارُ. * * * مِنَ الحِسَان: 2510 - عن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجلٌ فقال: إنَّ لي مالًا وإنَّ والِدي يحتاجُ إلى مالي، فقال: "أنتَ ومالُكَ لوالِدِكَ، إنَّ أَولادَكم مِن أطيبِ كَسبكم، كُلوا مِن كسبِ أولادِكم". قوله: "أنتَ ومالُكَ لوالدك"؛ يعني: أنتَ ومالُك ثابتانِ لوالدِك؛ لأنَّ والدَك أصلُ وجودِك، وأنتَ خُلقتَ من مائه، فحينَئذٍ وجودُك له، وإنما قال: (مالُك لوالدك)؛ لأنَّ والدَك إذا كان مُحتاجًا، تجب نفقتُه في مالِك قدرَ ما يكفيه، وكذا الإعفاف؛ فإذا كان بصددِ أن يكونَ له استحقاقٌ ما في مالِكِ يومًا من الأيام، صار المالُ كأنه له، فيكون عامًّا يريدُ به الخاصَّ. قوله: "إن أولادكم من أطيب كسبكم، كُلُوا من كسب أولادكم"؛ فإنه

حلال، و (أطيب): أفعل التفضيل من (الطِّيب)، وهو الحلال؛ يعني: أولادُكم من أحلِّ أكسابكم وأفضلِها، كُلُوا مما كسب أولادُكم، فإنه حلالٌّ لكم، وإنما سُمِّي الولدُ أطيبَ كسبٍ وأحلَّه؛ لأنه أصلُه والسببُ الظاهرُ، ولم يكنْ قبلَه لأحدٍ، بخلاف كلِّ الأموالِ؛ لأنها زائلةٌ منتقلةٌ؛ كانت للغير، وسوف تنتقل إلى آخر، والولدُ لم يملكْه أحدٌ قبلَه، ولا يُملَك أبدًا. * * * 2511 - وعن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رَجُلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقيرٌ وليسَ لي شيءٌ، وَلي يتيمٌ، فقال: "كُلْ مِن مالِ يتيمِكَ غيرَ مُسرِفٍ، وَلا مُبادِرٍ، ولا مُتَأثِّلٍ". قوله: "ولي يتيمٌ"، (اليتيم): الطفل الذي لا أبَ له؛ أي: ولي يتيمٌ في حجري؛ لأني وَصِيٌّ أو قيمٌ له. قوله: "كُلْ من مال يتيمِكَ غيرَ مُسرِفٍ، ولا مُبادِرٍ، ولا مُتأثِّلٍ"، (المُسرِف): المُفرِط، (المُبادِر): السابق، (المُتأثِّل): اسم فاعل من (تأثَّل): إذا اتخذ شيئًا من أصل مالِهِ؛ يعني: يجوز لوصيِّ اليتيم أن يأكلَ من ماله إذا سعى فيه مقدارَ أجرةِ السعي إن كان محتاجًا، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]؛ أي: قدرَ أجرة السعي. (غير مُسرِف)؛ أي: غيرَ مُفرِط في الإنفاق على نفسه من ماله، (ولا مُبادِرٍ)؛ أي: مُسرِعٍ في أكل ماله مخافةَ أن يَبلغَ، فيَلزمَه تسليمه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]. (ولا مُتأثِّلٍ)؛ أي: مُتَّخِذٍ أصلَ مالِهِ من مال اليتيم. * * *

2512 - عن أمِّ سلمَةَ: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كانَ يقولُ في مرضه: "الصَّلاةَ وما مَلَكَت أَيْمانُكم". قوله: "الصلاةَ، وما ملكَت أيمانُكم"، (الصلاةَ): نُصب بفعلٍ مُقدَّرٍ؛ أي: احفظوها وراعوها، (وما ملكت أيمانُكم): عُطف عليها. وقيل: و (ما ملكت أيمانكم) عبارةٌ عن الزكاة، وإنما قال: أراد به الزكاةَ؛ لأنَّ القرآنَ والحديثَ إذا ذُكر فيهما الصلاةُ فالغالبُ أنه ذُكر بعدَها الزكاةُ، قال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وفي الحديث: "وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج"، و"تُقيم الصلاةَ المكتوبةَ، وتُؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ"؛ فقاسَ هذا المُبهَمَ بالمُعيَّنِ. وقيل: عبارةٌ عن المماليك؛ وهو الأظهرُ، وإيرادُ هذا الحديث في هذا الباب دليلٌ على أنه أراد به المماليكَ، وذكرُه عَقيبَ الصلاة إشارةٌ إلى أنَّ حقوقَ المماليك واجبةٌ على السادات، كما أنَّ الصلاةَ واجبةٌ عليهم؛ بحيث لا سعةَ في تركها. * * * 2513 - وقال: "لا يدخلُ الجنَّةَ سَيئُ المَلَكَةِ". قوله: "لا يدخلُ الجنةَ سيئُ المَلَكَة"، قال في "الصِّحاح": يُقال: ما في مِلْكِه شيءٌ، ومَلْكِه شيءٌ؛ أي: لا يملك شيئًا، وفيه لغة ثالثة: ما في مَلَكَته شيءٌ؛ بالتحريك، يقال: فلانٌ حسنُ المَلَكَة: إذا كان حسنَ الصنع إلى مماليكه. يعني: مَن أضاعَ حقوقَ المملوك، ولم يُراعِها، وأساء إليه، فلا يدخل الجنة، هذا تهديدٌ ووعيدٌ حتى لا يتركوا حقوق المماليك.

ويحتمل أن يريد: أنه لا يدخلُ الجنةَ حتى يقتصَّ ما ظلم. * * * 2514 - عن رافِع بن مَكِيثٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُسْنُ المَلَكَةِ يُمْنٌ، وسوءُ الخُلُقِ شُؤْمٌ، والصَّدقةُ تمنعُ مِيتةَ السوءِ، والبرُّ زيادةٌ للعُمُرِ". قوله: "والصدقةُ تمنع مِيتةَ السوء"، (المِيتة) بكسر الميم: نوعٌ من الموت، كـ (الجِلْسَة) و (الرِّكْبَة)؛ يعني: حالة يموت عليها الإنسان. يعني: الصدقةُ تدفع موتَ الفجأة، فإنه موتٌ سيئٌ؛ لأنَّ الشخصَ إذا أتاه الموتُ بغتةً لا يقدر على التوبةِ والاستحلالِ وردِّ المظالم والوصيةِ بذلك. قوله: "والبرُّ زيادةٌ للعمر"، (البرُّ): الإحسان؛ يعني: الإحسانُ إلى الخلق يزيدُ في العمر، والزيادةُ في العمر يُحتمَل أن تكونَ محسوسةً علَّقَها الله سبحانه في الأزل: إنَّ عُمرَ فلانٍ كذا سَنةً، ولو أَحسنَ، زِيدَ عليه كذا سَنةً، كما أنه قدَّرَ إذا مرض؛ لو داوى لشُفي، وإلا فيموت. ويُحتمَل أن يريد بالزيادة: البركة والخير في العمر؛ يعني: يُوفِّقُه في عمره لِمَا يَرضَى عنه من العمل. وقيل: الذي بُورك له في عمره: يُوفَّق للتدارك في ساعةٍ ما لا يتداركُ سواه في سَنةٍ من عمرِهِ. * * * 2515 - وقال: "إذا ضربَ أحدُكم خادِمَه فذَكَرَ الله فليُمْسِك". قوله: "فذكَّره الله فَلْيُمسِكْ"؛ يعني: إذا قال المضروب للضارب حالةَ الضرب: الله الله، فَلْيَتركِ الضربَ؛ عظمةً لذِكر الله سبحانه. * * *

2516 - وقال: "مَن فَرَّقَ بينَ والدةٍ وولدِها، فرَّقَ الله بينَهُ وبينَ أَحِبَّتِهِ يومَ القيامَةِ". قوله: "مَن فرَّق بين والدة وولدها"؛ يعني: التفريقُ بيَن جاريةٍ وولدِها بالبيع والهِبَة قبلَ سبع سنين لا يجوزُ؛ لأنه تفريقٌ مُحرَّمٌ، فأفسدُ البيع والهِبة، كالتفريق بين الجارية وحملِها، وبعد سبع سنين قولانِ، الأظهرُ: أنه جائز. * * * 2519 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه يَسَّرَ الله حَتْفَهُ وأدخَلَهُ جَنَّتهُ: رِفْقٌ بالضَّعيفِ، وشَفَقَةٌ على الوالدينِ، والإحسانُ إلى المَمْلوكِ"، غريب. قوله: "يسَّر الله حتْفَه"، (الحَتْف): الهلاك؛ يعني: يسَّر الله موتَه، وأزال عنه سكراتِه. "الرِّفقُ": المداراة. * * * 2521 - عن عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! كَمْ نعفو عن الخادِمِ؟ فَسَكَت، ثم أعادَ عليهِ الكلامَ فصمتَ، فلمَّا كانت الثالثةُ قال: "اُعفُوا عنه كلَّ يومٍ سبعينَ مرةً". قوله: "كم نعفو عن الخادم؟ "، (كم) ها هنا: منصوبٌ على الظَّرف؛ أي: كم مرةً نعفو عن المماليك؟! * * *

17 - باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر

2522 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لاءَمَكم مِن مَملُوكِيكُم فأَطعِمُوه ممَّا تأكلونَ، واكسُوهُ مما تكْتَسون، ومَن لم يُلائِمْكُم مِنهم فبيعوهُ، ولا تُعذِّبوا خَلْقَ الله". قوله: "مَن لاءَمَكم من مملوكيكم"، (لاءَمَ): وافَقَ، فاعَلَ من (الملاءمة) بالهمز؛ يعني: مَن كان موافقًا لرضاكم، فأَحسِنوا إليه، ومَن لم يكن موافقًا لرضاكم بأن كان مُسيئًا ومُقصِّرًا في الخدمة، فبيعُوه. * * * 17 - باب بلوغِ الصَّغيرِ وحضانتهِ في الصِّغَرِ (باب بلوغ الصغير وحَضَانته) قيل: (الحَضَانة): عبارةٌ عن القيام بتربيةِ طفلٍ لا يستقلُّ بأمره، وحفظِه عما يُهلكُهُ. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 2524 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: عُرِضْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أُحُدٍ وأنا ابن أَرْبَعَ عشرةَ سنةً فردَّني، ثم عُرِضْتُ عليهِ عامَ الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنةً فأَجازني. وقال عمرُ بن عبدِ العزيز: هذا فرْقُ ما بينَ المُقاتِلَةِ والذُّريةِ. قوله: "فأجازني"؛ أي: كتبَ لي الجائزةَ؛ يعني: أَثبتَ رزقي في ديوان الغزَاة. "المُقاتِلة"؛ أي: الزُّمرة المُقاتِلة، وهم الذين يُقاتلون، و"الذُّرِّيَّة": قيل: فُعْلِيَّة من (الذَّرِّ)، بلا تغيير.

وقيل: فُعْلُولة، أصله: ذُرُّورة؛ واوٌ وثلاثُ راءاتٍ، قُلبت الراءُ الأخيرةُ ياءً، كـ: (سَرَّيتُ) في (تسرَّرتُ)، ثم قُلبت الواوُ ياءً؛ لاجتماع الواو والياء والأُولى منهما ساكنةٌ، ثم أُدغمتِ الياءُ في الياء، فبقي ذُرِّيَّة. وقيل: أصله (ذُرِّيئة) بالهمزة، من (ذَرَأ): إذا خَلَق، قُلبت الهمزةُ ياءً، وأُدغمت في الياء، فعلى هذا أيضًا فُعْلِيَّة. * * * 2525 - عن البراءِ بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: صالَحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحُديبيةِ على ثلاثةِ أشياءَ، على أنَّ مَن أتاهُ مِن المشركينَ ردَّه إليهم، ومَن أَتاهم مِن المسلمينَ لم يَرُدُّوه، وعلى أنْ يَدخُلَها مِن قابلٍ ويُقيمَ بها ثلاثةَ أيَّامٍ، فلمَّا دَخَلَها ومَضَى الأجلُ خرجَ فتَبعَتْهُ ابنةُ حمزةَ تنادي: يا عمِّ يا عمِّ، فَتَناولها عليٌّ فأَخَذَ بِيَدِها، فاختصمَ فيها عليٌّ، وزيدٌ، وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أَنا أخذتُها وهي بنتُ عمِّي، وقال جعفرٌ: ابنةُ عمِّي وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: ابنةُ أَخي، فقضى بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتِها وقال: "الخالةُ بمنزِلَةِ الأُمِّ"، وقال لعليٍّ: "أنتَ مِنِّي وأنا منكَ"، وقال لجعفرٍ: "أَشْبَهتَ خَلْقي وخُلُقي"، وقال لزيدٍ: "أنتَ أَخونا ومولانا". قوله: "يا عمِّ"، أصله: يا عمِّي، فحُذفت الياءُ اكتفاءً بكسرة الميم. "تَناوَل": إذا أخذ. قوله: "وخالتُها تحتي"؛ أي: خالتُها زوجتي. * * * مِنَ الحِسَان: 2526 - عن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه عبدِ الله بن عمروٍ: أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إنَّ ابني هذا كانَ بَطني لهُ وعاءً، وثَدْيي له سِقاءً،

وحِجْري له حِواءً، وإنَّ أباهُ طلَّقني وأَرادَ أنْ ينزِعَه مني؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتِ أَحَقُّ بهِ ما لم تَنْكِحي". قولها: "وحِجْري له حِواء"، (حَجْر الإنسان) بفتح الحاء وكسرها: ذيله، و (الحِواء): اسم المكان الذي يحوي الشيء؛ أي: يجمعه، ذكره في "شرح السُّنَّة". ° ° °

13 - كتاب العتق

13 - كِتابُ العِتْقِ

[13] كِتابُ العِتقِ (باب العتق) مِنَ الصِّحَاحِ: 2529 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتقَ رقبةً مُسلمةً أعتَقَ الله بكلِّ عُضوٍ منها عُضْوًا منه من النارِ، حتى فَرْجَهُ بفَرجِهِ". قوله: "حتى فرجه بفرجه"، (حتى) ها هنا: حرف عطف؛ أي: حتى أعتق الله فرج المعتق من النار بإعتاق فرج المملوك من الرقِّ، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى) ها هنا للتحقير؛ لأن الفرج حقير بالنسبة إلى باقي الأعضاء. قال الخطَّابي: يستحبُّ عند بعض أهل العلم أن لا يكون العبد المعتق خصيًا، فيكون ناقص العضو؛ ليكون معتِقُهُ قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار بإعتاقه إياه من الرقِّ في الدنيا. * * * 2530 - وعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العملِ أَفضلُ؟ قال: "إيمانٌ بالله وجِهادٌ في سبيلِهِ"، قالَ: قلتُ: فأيُّ الرِّقابِ أَفضلُ؟ قال: "أَغلاها ثَمَنًا وأنفَسُها عندَ أهلِها"، قلتُ: فإنْ لم أَفعَلْ؟ قال: "تُعِينُ صانِعًا، أو تَصنعُ لأخْرَقَ"، قلتُ: فإنْ لم أَفعَلْ؟ قال: "تَدَع الناسَ مِن الشرِّ، فإنها صدقةٌ تَصَّدَّقُ

بها على نفسِك". قوله: "وأَنْفَسُها عند أهلها"، (الأَنفَسُ): الأحبُّ والأكرمُ، يُقال: هذا أنفسُ مالي؛ أي: أحبُّه وأكرمُه عندي، الضمير في (أنفسها) و (أهلها) يعود إلى (الرِّقاب). قوله: "تُعينُ صانعًا، أو تَصنعُ لأخرقَ"، قيل: الصنعة: ما يُصنَع، وحاصله: ما يَحدث ويتبيَّن، كما في جميع الصنائع. قال في "شرح السُّنَّة": (الأَخرَق): الذي ليس في يده صنعةٌ. حاصل الحديث: أفضلُ الأعمال الإيمانُ بالله سبحانه والجهادُ في سبيله، ثم إعتاقُ مملوكٍ أحبَّ إلى أهله وقيمتُه أرفعُ، ثم معاونةُ ذوي الحاجات والضعفاء، ثم دفعُ شرِّك عن الناس، فإنك إذا دفعتَ شرَّك عنهم، تصدَّقتَ به على نفسك. * * * مِنَ الحِسَان: 2531 - عن البَراءِ بن عازِبٍ - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: علِّمني عَمَلًا يدخِلُني الجنةَ، قال: "لئنْ كنتَ أَقْصَرْتَ الخُطبةَ لقد أَعْرَضْتَ في المسألةَ، اِعتِقْ النَّسمةَ، وفُكَّ الرَّقَبَةَ"، قال: أَوَلَيْسا واحدًا؟ قال: "لا، عِتْقُ النَّسمةِ أنْ تَفرَّدَ بعِتْقِها، وفَكُّ الرقبةِ أنْ تُعينَ في ثمنِها، والمنحةَ الوَكُوفَ، والفيءَ على ذي الرَّحمِ الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمَ الجائعَ، واسقِ الظَّمآنَ، وَأْمُرْ بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فَكُفَّ لسانَكَ إلا مِن خيرٍ".

"أقصَرتَ الخُطبة"؛ أي: جئتَ بها قصيرةً، و"أَعرَضتَ المسألةَ"؛ أي: جئتَ بها عريضةً؛ يعني: لفظُها قصيرٌ، ومعانيها كثيرةٌ. قوله: "أوليسا واحدًا"؛ يعني: أوليسَ إعتاقُ النَّسَمة وفكُّ الرَّقبة واحدًا؟ "النَّسمة": النفس والإنسان. قوله: "لا؛ عتقُ النسمة أن تَفرَّدَ بعتقها، وفكُّ الرَّقبة أن تُعينَ في ثمنها"؛ يعني: ليس إعتاقُ النَّسمة وفكُّ الرَّقبة واحدًا، بل المراد بالنسمة ها هنا: التفردُ بإعتاق الرقبة، وفك الرقبة في سائر مواضع: الإعتاق، وفي هذا: الشَّرِكة في إعتاق الرَّقبة. قوله: "والمِنْحة الوَكُوف، والفَيءُ على ذي الرَّحِم الظالم ... " إلى آخره، مِنْحة اللَّبن كالناقة والشاة: تُعطيها غيرَك يحلبُها، ثم يردُّها عليك، ذكره في "الصِّحاح". (الوَكُوف)؛ أي: غزيرةُ اللَّبن، ومنه: وَكَفَ البيتُ والدمعُ، ذكره في "شرح السُّنَّة". (الفيء): الرجوع. يعني: من جملة الأعمال المُؤدِّية صاحبَها إلى الجنة: إعطاءُ المِنْحة الفقراءَ؛ لينتفعوا بلبنها وصوفها ووبرها مدةً، ثم يردُّها على صاحبها، وكذلك الرجوعُ إلى ذي الرَّحم الظالم عليك بالإحسان والشفقة والصِّلة. قيل: الروايةُ في (المِنْحة) و (الفَيء) بالنَّصب على أنهما مفعولٌ به، تقديره: أعطِ المِنْحةَ والفَيءَ، وإن رُوي بالرفع، فهما مبتدآن، تقديره: ومنها المِنْحةُ والفَيءُ. * * *

2 - باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض

2 - باب إعتاقِ العَبْدِ المُشتَرَك وشراءِ القريبِ والعتقِ في المَرَضِ (باب إعتاق العبد المشترك، وشراء القريب، والعتق في المرض) مِنَ الصِّحَاحِ: 2533 - عن ابن عُمرَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَعتَقَ شِرْكًا لهُ في عَبْدٍ وكانَ لهُ مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ، قُوِّمَ العبدُ عليهِ قيمةَ عدلٍ، فأَعْطى شُرَكاءَهُ حِصَصَهم وعَتَقَ عليه العَبْدُ، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ". قوله: "مَن أعتق شِركًا له في عبدٍ ... " إلى آخره، (الشِّرك): النصيب، و"الحِصَص": جمع حِصَّة، وهي النصيب أيضًا. قال في "شرح السُّنَّة": في الحديث دليلٌ على أنَّ مَن أعتقَ نصيبَه من عبدٍ مُشترَكٍ بينه وبين غيره؛ وهو مُوسِرٌ لقيمة نصيب الشريك، يعتق كلُّه بنفس الإعتاق، ولا يتوقَّفُ على أداء القيمة، ولا على الاستسعاء - الاستسعاء: طلب السعي من المُكاتِب في تحصيل مالٍ يُؤدَّى إلى مُكاتِبه بسعي نفسه، على خلاف القياس، لكنَّ الشارعَ له تشوُّفٌ إلى العتق؛ فجوَّز هذا، كما جوَّزَ في العَرَايا لحاجة المساكين -، ويكون ولاءُهُ كلُّه للمُعتِق، وإن كان مُعسِرًا، عتقَ نصيبُهُ، ونصيبُ الشريك رقيقٌ لا يُكلَّف إعتاقه، ولا يُستسعَى العبدُ في فكِّه، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال مالك: لا يُعتَق نصيبُ الشريك بنفس اللفظ ما لم يُؤدِّ إليه قيمتَه، وقاله الشافعي في القديم. وقال أبو حنيفة: إن كان الشريكُ المُعتِقُ مُوسِرًا، فالذي لم يُعتِق بالخيار؛ إن شاء أَعتَقَ نصيبَ نفسه، وإن شاء استَسعَى العبدَ في قيمة نصيبه، فإذا أدَّى عتقَ، وكان الولاءُ بينهما نصفَين، وإن شاء ضَمِنَ المُعتِقُ قيمةَ نصيبه، ثم شريكُهُ

بعدما ضمن، رجعَ على العبد، واستسعاهُ فيه، فإذا أدَّاه عتقَ، وولاؤه كلُّه له؛ أي: للمُعتِق. * * * 2534 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَعْتَقَ شِقْصًا من عبدٍ عَتَقَ كلُّه إنْ كانَ له مالٌ، فإن لم يكنْ لهُ مالٌ استُسعيَ العبدُ غيرَ مَشقوقٍ عليهِ". قوله: "مَن أعتق شِقْصًا في عبد، أُعتق كلُّه"، (الشَّقْص والشَّقيص): النصيب. قوله: "إن لم يكنْ له مالٌ استُسعي العبدُ غيرَ مشقوقٍ عليه"، قال الخطَّابي: وقد تأوَّلَه بعضُ الناس، فقال: معنى السعاية: أن يُستسعَى العبدُ لسيده؛ أي: يُستخدمَ، ولذلك قال: (غيرَ مشقوق عليه)؛ أي: لا يُحمَّل فوقَ ما يلزمُه من الخدمة، بل يُقدَّر ما فيه من الرِّقِّ، لا يُطالَبُ بأكثرَ منه. معنى قول الخطَّابي: أي: يُستسعَى العبدُ لسيده؛ أي: لسيده الذي لم يُعتِق إن كان المعتِقُ مُعسِرًا. حاصل معنى هذا الحديث: أنَّ مَن أَعتقَ نصيبًا من عبدٍ مُشترَكٍ بينه وبين شريكه، عتقَ كلُّه إن كان مُوسِرًا، وإن كان مُعسِرًا، فلشريكِهِ أن يَستخدمَ العبدَ بقدر نصيبه فيه، ولا يُكلِّفَه فوق حقِّه. * * * 2535 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا أعتقَ ستةَ مَمْلوكينَ لهُ عندَ مَوْتِهِ، لم يكنْ لهُ مالٌ غيرُهم، فدَعا بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجَزَّأَهم أَثلاثًا ثم أَقرَعَ بينَهم، فأَعْتَقَ اثنينِ، وأَرَقَّ أربعةً، وقالَ لهُ قولًا شديدًا.

قوله: "فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرَع بينهم، فأعتقَ اثنين، وأرقَّ أربعةً، فقال له قولًا شديدًا"، يُقال: جزَّأت الشيءَ تجزئةً؛ أي: قسَّمتُه، وجعلتُه أجزاءً، و (أقرَعَ): إذا ضربَ القُرعةَ، وكيفيتُه: أن تُأخَذَ مثلًا ثلاثُ رِقاعٍ متساويةٍ، فيكتب في واحدٍ منها: عتقٌ، وفي الاثنين الباقيين: رِقٌّ، وتُدرَج في بنادقَ، وتُخرَج رقعةٌ واحدةٌ منها باسم أحد العبيد؛ فإن خرج سهمُ العتق، عتقَ ذلك العبدُ الذي خرج باسمه، ورقَّ الآخرانِ، وإن خرج سهمُ الرقِّ، رقَّ العبدُ الذي خرج باسمه، ويُخرجُ رقعةً أخرى باسم آخر؛ فإن خرج سهمُ العتق، عتقَ الذي خرج باسمه، ورقَّ الثالثُ، وإن خرج سهمُ الرقِّ، رقَّ الذي خرج باسمه، وعتقَ الثالثُ؛ وقِسْ على هذه الصورة ما ذُكر في الحديث. يُقال: أَرقَّ فلانًا: إذا جعلَه رقيقًا. قال في "شرح السُّنَّة": في هذا الحديث دليلٌ على أن العتقَ المُنجَّز في مرض الموت في حكم المُعلَّق بالموت في الاعتبار من الثُّلثِ، وفي أنَّ مَن لا يصحُّ له الوصيةُ، لا يصحُّ التبرعُ معه في مرض الموت. ويفترقان في حُكمَين: أحدهما: أنه يجوز له الرجوعُ عن المُعلَّق بالموت؛ لأنَّ المُلكَ لم يحصل للمُتبرَّع عليه قبل الموت، ولا يملك الرجوعَ عن المُنجَّز؛ لحصول المُلك له. والثاني: أن في المُنجَّز يُقدَّم الأسبقُ فالأسبقُ، وفي المُعلَّق بالموت لا يُقدَّم ما لم يُقيدْه. بيانه: لو قال في مرض موته لثلاثة أَعبُدٍ له: سالمٌ حرٌّ وغانمٌ حرٌّ وزيادٌ حرٌّ؛ ولم يَخرجْ من الثُّلثِ إلا واحدٌ منهم، عتقَ الأولُ، فإن خرج اثنان من الثلث، عتقَ الأولانِ. وفي المُعلَّق بالموت لو قال: إذا متُّ فسالمٌ حرٌّ وغانمٌ حرٌّ وزيادٌ حرٌّ؛

ولم يَخرجْ إلا واحدٌ منهم من الثُّلث، يُقرَعَ بينهم، فإن قيَّدَ بالتأخير، فقال: إذا متُّ فسالمٌ حرٌّ ثم غانمٌ ثم زيادٌ، أو قال: سالمٌ حرٌّ، وأَعتِقُوا غانمًا، ولم يَخرجْ إلا واحدٌ من الثُّلث، عتقَ الأولُ. وفي الحديث إثباتُ القُرعةِ بينهم إذا أَعتقَهم معًا في مرض موته أو بعد موته؛ ليتميز العتيق عن غيره، فإن كانوا ثلاثةً قيمتُهم سواءٌ أُقرِعَ بينهم بسهمَي رقٍّ وسهم حريةٍ، فمَن خرج له سهمُ الحرية، كان عتيقًا من وقت إنشاء العتق، وما اكتسبَ من ذلك الوقتِ فله، ورقَّ الآخرانِ. وإن كانوا ستةً، جزَّأهم على ثلاثة أجزاء على اعتبار القيمة، فإن كانت قيمتُهم متفاوتةً بأن كانت ثلاثةٌ منهم قيمةُ كلِّ واحدٍ مئةٌ، وثلاثةٌ قيمةُ كلِّ واحدٍ خمسون؛ ضُمَّ كلُّ واحدٍ ممن قلَّتْ قيمتُه إلى واحدٍ ممن كثرَتْ قيمتُه، ثم أُقرِع بينهم بسهمَي رقًّ وسهم حريةٍ. وإن لم تمكن التسويةُ بين الأجزاء في العدد بأن كانت قيمةُ واحدٍ مئةً، وقيمةُ اثنين مئةً، وقيمةُ ثلاثةٍ مئةً؛ جُعل الواحدُ جزءًا، والاثنين جزءًا، والثلاث جزءًا. وإن كانوا ثلاثةً قيمةُ واحدٍ مئةٌ وخمسون، وقيمةُ الآخر مئةٌ، وقيمةُ الثالث خمسون؛ أُقرِع بينهم بسهمَي رقٍّ وسهم حريةٍ؛ فإن خرجت القُرعةُ للذي قيمتُه مئةٌ وخمسون عتقَ ثلثاه وتمَّ الثُّلث، وإن خرجت القُرعةُ للذي قيمتُه مئةٌ، عتقَ كلُّه، وهو ثلثُ ماله، وإن خرجت القُرعةُ للذي قيمتُه خمسون، عتقَ كلُّه، ثم تُعاد القُرعةُ بين الآخرَين، فيُقرَع بينهما بسهم رقٍّ وسهم حريةٍ، فإن خرج سهمُ الحرية للذي قيمتُه مئةٌ، عتقَ نصفُه، وإن خرج للذي قيمتُه مئةٌ وخمسون، عتقَ ثلثُه. وذهب إلى الإقراع جماعةٌ من أهل العلم، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.

وذهب قوم إلى أنه لا يُقرَع، بل يُعتَق من كل عبدٍ ثلثُه، ويُستسعَى في ثُلثَيه للوَرَثة، حتى يعتقَ كله، وبه قال أصحابُ الرأي. * * * 2536 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجْزِي وَلَدٌ والِدَهُ إلا أنْ يَجِدَهُ مَملوكًا فيشتَرِيَهُ فيُعتِقَهُ". قوله: "لا يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجدَه مملوكًا؛ فيَشتريَه، فيُعتقَه"، قال في "شرح السُّنَّة": والعملُ على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا اشترى الرجلُ أحدًا من آبائه أو أمَّهاته، أو أحدًا من أولاده وأولاد أولاده، أو ملكَه بسببٍ آخرَ، يعتقُ عليه من غير أن يُنشِئَ فيه عتقًا. وقال أيضًا: قوله: (فيُعتقه) لم يُرِدْ به: أنَّ إنشاءَ الإعتاق شرطٌ، بل أراد به: أنَّ الشراءَ يُخلِّصه عن الرِّقِّ، فعلى هذا المعنى الفاء في (فيُعتقه) للسببيَّة؛ يعني: سببُ إعتاقِه شراؤه، ولا يحتاج إلى قوله: (أَعتقتُك) بعد الشراء، بل عَتَقَ بنفس الشراء. وذهب أهلُ الظاهر وبعضُ المُتكلِّمين: إلى أنَّ الأبَ لا يعتقُ على الابن؛ لأنَّ في الحديث: (فيَشتريَه، فيُعتقَه)؛ يعني: الفاء في (فيُعتقه) للتعقيب، لا للسببيَّة، وإذا صحَّ الشراءُ، ثبتَ المُلكُ، والمُلكُ يُفيدُ التصرُّفَ. و (مملوكًا): نُصب على الحال من الضمير المنصوب في (يجده)، وهو ضمير الوالد، والعامل فيه (يجد). * * * 2537 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا من الأنصارِ دَبَّرَ مملوكًا ولم يَكُنْ لهُ مالٌ غيرُه، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَن يَشتريهِ مِنَّي؟ فاشتراهُ نُعيمُ بن النَّحَّامِ العدويٌ بثمانمائةِ درهمٍ.

وفي روايةٍ: فاشتراهُ نُعيمُ بن عبدِ الله العدويُّ بثمان مئةِ درهمٍ، فجاءَ بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فدَفَعَها إليهِ، ثم قال: "ابدَأ بنفسِكَ فَتَصَدَّق عليها، فإنْ فَضَلَ شيءٌ فلأِهلِكَ، فإنْ فَضَلَ عن أهلِكَ شيءٌ فَلِذي قرابَتِكَ، فإنْ فَضَلَ عن ذي قرابَتِكَ شيءٌ فهكذا وهكذا، يقولُ: فبَيْنَ يَدَيْكَ وعن يميِنكَ وعن شِمالك". قوله: "دبَّر مملوكًا، ولم يكن له مالٌ غيرُه"، (التدبير): تعليقُ عتق مملوكه بموته؛ يعني: يقول له: إذا متُّ فأنت حرٌّ. وفي الحديث دليلٌ على أنَّ بيعَ المُدبر جائزٌ، وهو مذهب الشافعي وأحمد. وعند أبي حنيفة ومالك: لا يجوز بيعُه، لكن عند مالك: يجوز بيعُه بعد موته إذا كان على الميت دَينٌ يحيط بتَرِكتِهِ. * * * مِنَ الحِسَان: 2539 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَلَدت أَمَةُ الرَّجلِ منهُ فهي مُعتَقةٌ عن دُبُرٍ منهُ، أو بعدَه". قوله: "إذا ولدتْ أَمَةُ الرجل منه، فهي مُعتَقةٌ عن دُبُرٍ منه، أو بعدَه"، (أو): شكٌّ من الراوي، والضمير في (منه) عائدٌ إلى (الرجل)، و (دُبُرُ كل شيء): آخرُه؛ يعني: تُعتَق أمُّ الولد بعدَ موتِ سيدها. * * * 2540 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: بِعْنا أُمَّهاتِ الأولادِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، فلمَّا كانَ عمرُ نهانا عنه فانتَهَيْنا. قوله: "بِعْنا أمَّهاتِ الأولادِ على عهدِ رسول الله ... " إلى آخره، (العهد) ها هنا: الزمان.

قال الخطَّابي: يُحتمَل أن يكونَ ذلك مُباحًا في العصر الأول؛ أي: في ابتداء الإسلام، ثم نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك قبل خروجه من الدنيا، ولم يعلمْ به أبو بكر؛ لأنَّ ذلك لم يحدث في أيامه لقصرِ مدتها، ولاشتغالِه بأمور الدِّين ومحاربة أهل الرِّدة واستصلاحِ أهل الدعوة، ثم بقي الأمرُ على ذلك في عصر عمرَ مدةً من الزمان، ثم نهى عنه عمرُ حين بلغَه ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتهَوا عنه. * * * 2541 - عن ابن عمَر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتَقَ عبدًا ولهُ مالٌ فمالُ العبدِ له إلا أنْ يشترِطَ السيدُ". قوله: "فمالُ العبدِ له إلا أن يَشترطَ السيدُ"؛ يعني: فمالُ العبد المُعتَقِ للسيد، إلا إذا شرط السيدُ للعبد في إعتاقه. * * * 2542 - وعن أبي المَلِيحِ، عن أبيه: أنَّ رَجُلًا أعتقَ شِقْصًا مِن غلامٍ فذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ليسَ للهِ شَريكٌ". قوله: "ليس لله شريكٌ"؛ يعني: الأَولى أن يُعتقَ جميعَ عبده؛ فإنَّ العتقَ لله سبحانه، فإن أَعتقَ بعضَه وبقي الباقي على الرِّقِّ، فيكون أمرُ سيده نافذًا فيه؛ فهو كشريكٍ له تعالى صُورةً. * * * 2543 - عن سَفينَةَ قال: كنتُ مَملوكًا لأمِّ سَلَمَةَ فقالتْ: أُعتِقُكَ وأَشتَرِطُ عليكَ أنْ تخدُمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما عِشْتَ؟ فقلتُ لها: إنْ لَمْ تَشْتَرِطي عليَّ ما فارقتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما عِشتُ، فأعتقَتْني واشترطَتْ عليَّ.

قولها: "أَعتقتُكَ، وأشترطُ عليكَ أن تخدمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما عِشتَ"، (ما) في (ما عشتَ) للدوام، هذا لا يوجب الخدمة؛ لأنه وعدٌ، والوعد لا يلزمُه الوفاءُ به، وإنما كان وعدًا؛ لأنه عَتَقَ بقول سيدته: أَعتقتُك؛ فلفظُ (أشترط) قد وقع بعد عتقه. قال الخطَّابي: هذا وعدٌ عُبر عنه باسم الشرط، وأكثرُ الفقهاء؟ لا يُصحِّحون إيقاعَ الشرط بعد العتق؛ لأنه شرطٌ لا يُلاقي في مُلكًا، ومنافعُ الحرِّ لا يملكها غيرُه إلا بالإجارة أو ما في معناها. وقد اختلفوا في هذا؛ فكان ابن سيرين يُثبتُ الشرطَ في مثل هذا، وسُئل أحمدُ بن حنبلَ عنه، فقال: يشتري هذه الخدمةَ من صاحبه الذي اشتَرط له، قيل له: يشتري بالدراهم؟ قال: نعم. قال في "شرح السُّنَّة": لو قال رجلٌ لعبده: أَعتقتُك على أن تخدمَني شهرًا، فقبلَ؛ عتقَ في الحال، وعليه قيمةُ رقبتِهِ للمولى. * * * 2545 - عن أمِّ سَلَمَةَ قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ عندَ مُكاتَبِ إحداكُنَّ وَفاءٌ فلتَحْتَجِبْ منه". قوله: "إذا كان عند مُكاتَبِ إحداكنَّ وفاءٌ، فَلْتَحتجِبْ منه"؛ يعني: خاطَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةَ نسوةٍ، فقال: إذا قدر مُكاتَبُ إحداكنَّ على أداء النجومِ نجومِ الكتابة، ولم يُؤدِّ بعدُ، ينبغي أن تحتجبَ منه؛ من حيث الورعُ والاحتياطُ؛ لأنه بصددِ أن يعتقَ ساعةً فساعةً، بأن يُؤديَ نجومَ الكتابة، لكنه رقيقٌ بعدُ، هذا معنى قول مُحيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة". * * *

2546 - وعن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كاتَبَ عبدَه على مائةِ أوقيةٍ فأدَّاها إلا عَشْرَ أواقٍ - أو قال: عَشْرةَ دنانيرَ، ثم عَجَزَ فَهُوَ رَقيقٌ". قوله: "مَن كاتَبَ عبدَه على مئةِ أوقيةٍ ... " إلى آخره، في الحديث دليلٌ على أنَّ المُكاتَبَ إذا أدَّى نجومَ الكتابة إلا قليلًا منها، ثم عجز عن أداء ذلك الباقي، يعود رِقُّه كما كان. قوله: "عشرة أواق"، حقه: عشر أواق؛ لأن واحد (أواق): أوقية، وفيها تاء التأنيث. * * * 2547 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أصابَ المُكاتبُ حدًّا أو ميراثًا وَرِثَ بحسابِ ما عَتَقَ منه". وقال: "يُؤدِّي المكاتَبُ بحصَّةِ ما أدَّى ديةَ حُرٍّ، وما بقي ديةَ عبدٍ"، ضعيف. قوله: "إذا أصابَ المُكاتَب حدًّا أو ميراثًا ورثَ بحسابِ ما عَتَقَ منه"؛ يعني: إذا ثبت لمكاتَبٍ ديةٌ أو ميراثٌ يثبتُ له من الدِّية والميراث بحساب ما عتق من نفسه، كما لو أدَّى نصف مال الكتابة، ثم مات أبوه، وهو حرٌّ، وما خلَّف سواه، يرث من أبيه نصفُ مالِهِ؛ لعتق نصفه، وقياسُ الدِّية على الميراث، كما يأتي في الحديث الذي بعده شرحها، وهذا الحديثُ والذي بعده غيرُ معمولٍ بهما. قوله: "يُؤدِّي المُكاتَب بحصة ما أدَّى ... " إلى آخره، قال في "شرح السُّنَّة": وعامةُ أهل العلم على أنَّ المُكاتَب إذا قُتِلَ، وقد بقي عليه شيءٌ من

3 - باب الأيمان والنذور

النجوم، يجبُ على قاتله قيمتُهُ كالعبد؛ إلا إبراهيمَ النَّخَعيَّ، فإنه قال بظاهر الحديث، والآخرون لعلَّهم ذهبوا إلى أنَّ الحديثَ غيرُ ثابت. ومعنى الحديث: أنَّ المُكاتَبَ إذا أدَّى ثلثَ نجوم الكتابة مثلًا، فديتُه أثلاثٌ؛ ثلثٌ دِيةُ الحرِّ، وثلثانِ آخرانِ دِيةُ عبدٍ، وهي ثلثا قيمته، وهو غيرُ ثابت، كما ذُكر. * * * 3 - باب الأيمانِ والنُّذورِ (باب الأيمان والنُّذور) (الأيمان): جمع يمين، وهي: الحَلف، و (النُّذور): جمع نَذر، قيل: هو وعدٌ بطاعةٍ مؤكدٌ بعقدٍ. * * * مِنِ الصِّحَاحِ: 2548 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنه قال: كان أكثرُ ما كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحلِفُ: "لا، ومُقَلِّبِ القلوبِ". قوله: "لا، ومُقلِّبِ القلوب"؛ يعني: كان أكثرُ حلف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في النفي: (لا، ومُقلِّبِ القلوب)؛ وإنما حلف بهذا ليكونَ دليلًا على أنه يجوزُ أن يكونَ الحلفُ بصفاته الأفعالية، كما هو جائزٌ بذاته وصفاته الذاتية. * * *

2549 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن الله تعالى ينهاكمُ أن تحلِفُوا بآبائِكم، مَنْ كانَ حالِفًا فليحلِفْ بالله أو ليَصمُتْ". قوله: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، (ألا): كلمة تنبيه؛ أي: اعلَموا؛ يعني: اليمينُ بغير اسم الله سبحانه وصفاته منهيَّة؛ وإنما نُهيتْ لأنَّ الغرضَ من اليمين أن يُذكَرَ اسمُ الله تعالى أو صفاتُه؛ لتُؤثِّرَ عظمةُ الله في نفسه، حتى لا يأخذَ ما لا حقَّ له فيه، ويُؤدِّيَ ما عليه من الحقِّ؛ لأنه لا يُؤثِّر غيرُ اسم الله وصفاته في نفس الحالف، فلهذا ما جوَّز الشرعُ أن يُحلَف بغير ذاته وصفاته تعالى. وأمَّا ما ورد بخلاف ذلك مثل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في جواب الأعرابي: لا أزيدُ على هذا ولا أنقص: "أفلحَ - وأبيه - إن صدقَ"، وفي موضع آخر: "ذلك وأبي"؛ فقد تكلَّم بهما على عادة كلام العرب، لا على قصد القَسَم تعظيمًا. * * * 2550 - وقال: "لا تَحلِفُوا بالطَّواغي ولا بآبائِكم". قوله: "لا تحلفوا بالطَّواغي"، (الطَّواغي): جمع طاغية، وهي مصدر كـ (العاقبة)، و (الخاطئة)، ومعناها: الطُّغيان، والطَّواغي ها هنا: بمعنى الأوثان، وقد ورد: طاغية فلان، وطاغية فلان، يريد بها: الصَّنم، سُميت الأوثانُ طَواغيَ؛ لأنها سببُ الطغيان. وقيل: هذا خطاب لقومٍ قربَ عهدهم بالإسلام كانوا يحلفون بالطَّواغي؛ لكونهم معتادين بذلك في الجاهلية، فقد نُهُوا عن هذا الحَلف. * * *

2551 - وقال: "من حلفَ وقال في حَلفِهِ: بِاللاّتِ والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومَن قال لصاحِبه: تعالَ أُقامِرْكَ، فلْيَتَصدَّقْ". قوله: "مَن حلفَ، فقال في حلفه: باللات والعُزَّى! فَلْيَقلْ: لا إله إلا الله"، (اللات): اسم صنم كان لثقيف، و (العُزَّى): لسُلَيم وغطفان. قال الخطَّابي: فيه دليلٌ على أنَّ الحالفَ باللات والعُزَّى لا يلزمُه كفَّارة اليمين، فإنما يلزمُه الإنابةُ والاستغفارُ، وفي معناه إذا قال: أنا يهوديٌّ أو نَصرانيٌّ، أو: بريءٌ من الإسلام إن فعلتُ كذا، وهو قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: إذا قال: هو يهوديٌّ إن فعلَ كذا، فحنثَ، كان عليه كفَّارةُ يمين، وبه قال أحمد. وإنما قال الخطَّابي رحمه الله: لا يلزمُه إلا الإنابةُ والاستغفارُ؛ لأنه لا يجوز الحلفُ إلا بالله، فإذا حلفَ بالأصنام تعظيمًا لها، كَفَرَ، فإذا كفرَ، فعليه كلمةُ التوحيد والإنابةُ إلى الإسلام؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَه بكلمة التوحيد، فقال: (فليقل: لا إله إلا الله)، أمَّا إذا حلف باللات، ولم يعتقد تعظيمًا لها، فَسَقَ، فعليه الاستغفارُ فقط. قوله: "مَن قال لصاحبه: تعالَ أُقامِرْك فَلْيَتَصدَّقْ"، قال الخطَّابي: معناه: فَلْيَتَصدَّقْ بقدر ما جعله خطرًا في القِمار. (الخطر): المال الذي يريد أن يُقامرَه به. وقيل: يتصدق بشيءٍ من ماله كفَّارة لِمَا تكلَّم به. (أقامرْك): مجزوم جوابًا لقوله: (تعالَ)؛ لأنَّ في (تعالَ) معنى الشرط، تقديره: إن تأتِني أُقامِرْك. * * *

2552 - وقال: "من حلَفَ على مِلَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذِبًا فهوَ كما قالَ، وليسَ على ابن آدمَ نذرٌ فيما لا يملِكُ، ومَن قتلَ نفسَه بشيءٍ في الدُّنيا عُذِّبَ بهِ يومَ القيامةِ، ومَن لعنَ مُؤْمِنًا فهو كقتلِهِ، ومَن قَذَفَ مؤمنًا بكفرٍ فهوَ كقتلِهِ، ومَن ادَّعى دَعْوَى كاذِبةً ليَتَكَثَّر بها، لم يَزِدْهُ الله إلا قِلَّةً". قوله: "مَن حلفَ على مِلَّة غيرِ الإسلامِ كاذبًا فهوَ كما قالَ"؛ يعني: مَن حلف على مِلَّة من المِلَل الباطلة بأن قال: بالمِلَّةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ لأَفعلَنَّ كذا؛ فهو كما قال؛ أي: فهو صار من جملة أهل الدِّين الذي حلف به، سواءٌ كان صادقًا أو كاذبًا؛ لأنه عظَّم دِينًا باطلًا بأن حلف به، فأمَّا لو قال: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ؛ إن كان كاذبًا فهو كما قال؛ يعني: إن فعل ذلك فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ كما قال، وإن كان صادقًا - أي: إن لم يفعلْه - فلم يَرجعْ إلى الإسلام سالمًا، بل يحتاج إلى تجديدِ كلمةِ التوحيد؛ فعند الشافعي ومالك: لا كفَّارةَ عليه إذا فعل ذلك لتعظيمه؛ يعني: تعظيمُهُ ذلك لا يُقبَلُ الكفَّارةَ، وعند أبي حنيفة وأحمد: فعليه كفَّارةُ اليمين. قوله: "عُذِّب به يومَ القيامة"؛ أي: عُذِّب بذلك الشيء الذي قَتل به نفسَه. قوله: "ومَن لعن مؤمنًا فهو كقتلِه"، (هو): عائدٌ إلى اللَّعن الذي يدلُّ عليه (لعنَ)؛ يعني: مَن لعن مؤمنًا فلعنُه إياه كقتلِه من بعض الوجوه؛ وإنما شبَّه اللَّعنَ بالقتل؛ لأنه إذا قتلَه أذهبَ عيشَه الدُّنيويَّ له بإزهاقِ روحِهِ، وإذا لعنَه أذهبَ عِرضَه بلعنِه وشتمِه؛ فإذهابُ عِرضه كإذهابِ نفسِهِ، كلاهما يُوجب الإثمَ له، وكذلك "قذفُه مؤمنًا بكفرٍ" مثلُ قتله، كما ذُكِر. وقيل: تشبيه اللَّعن بالقتل، والقَذف بالكُفر من حيث إنَّ الجميعَ مُحرَّم؛ يعني: كما أنَّ القتلَ مُحرَّمٌ، فكذا اللَّعنُ والقَذفُ، فلهذا شبَّههما - صلى الله عليه وسلم - بالقتل.

وحملُ مثلِ هذا الحديث على الزَّجر والتهديد أَولى. قوله: "ومَن ادَّعى دعوى كاذبةً؛ لِيتَكثرَ بها، لم يَزِدْه الله إلا قلَّةً"، (كاذبة): صفة دعوى، (التكثُّر): طلب الكثرة، الضمير في (بها) يعود إلى الدعوى؛ يعني: مَن طلب كثرةَ المال بدعواه الكاذبة، لا يحصل له إلا قلةُ المال. * * * 2554 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبدَ الرحمنِ بن سَمُرةَ: لا تسألِ الإِمارةَ، فإنَّك إنْ أُوتيتَها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإنْ أُوتيتَها عن غيرِ مسألةٍ، أُعِنتَ عليها، وإذا حلفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيرًا منها، فكفِّرْ عن يمينِكَ وَائْتِ الذي هو خيرٌ". وفي روايةٍ: "فائتِ الذي هوَ خيرٌ وكفِّرْ عن يمينِكَ". قوله: "لا تسألِ الإمارةَ؛ فإنك إن أُوتيتَها ... " إلى آخره، السؤال ها هنا: بمعنى الطلب، (الإمارة): الحكم والولاية، (الإيتاء): الإعطاء؛ يعني: لا تطلبِ الإمارةَ والولايةَ، فإن أُعطيتَ الولايةَ، وُكِلتَ بها؛ يعني: خُلِّيتَ والولايةَ، وما أُعِنتَ على حُكمِكَ، وإن أُعطيتَها من غير طلبك إياها، "أُعنتَ عليها"؛ يعني: وُفِّقتَ لحكمك في الأمور المرضية ونفاذها. قوله: "وإذا حَلفتَ على يمينٍ، فرأيتَ غيرها خيرًا منها ... " إلى آخره؛ يعني: إذا حلفتَ على شيء، فرأيت غيره خيرًا منه؛ بأن حلفتَ على ترك مندوب أو فعل مكروه، فالأفضلُ أن يُكفِّرَ، ثم يُحنثَ نفسَه؛ أي: يفعل ذلك المندوبَ، أو لا يفعل ذلك المكروه، وإلا فحفظُ اليمين أَولى؛ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]؛ أي: احفظوها عن الحِنث. قال في "شرح السُّنَّة": اختلف أهل العلم في تقديم كفَّارة اليمين على

الحِنث؛ فمذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم إلى جوازه، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد؛ إلا أنَّ الشافعي يقول: إن كفَّرَ بالصوم قبل الحِنث لا يجوز، إنما يجوز تقديمُ العتق أو الإطعام أو الكسوة، كما يجوز تقديمُ الزكاة على الحَول، ولا يجوز تعجيلُ صوم رمضان قبل وقته. قوله: "وفي رواية: فائتِ الذي هو خيرٌ، وكفِّرْ عن يمينك"، وفي هذه الرواية التحنيثُ مُقدَّمٌ على التكفيرِ، بخلاف الرواية الأولى. * * * 2556 - وقال: "والله لأنْ يَلِجَّ أحَدُكم بيمينهِ في أهلِه، آثَمُ لهُ عندَ الله من أنْ يُعطيَ كفَّارتَه التي افترضَ الله عليهِ". قوله: "والله لأَنْ يلجَّ أحدُكم بيمينه في أهلِهِ ... " إلى آخره، لَجِجْتَ - بالكسر - تَلَجُّ لَجَاجًا، ولَجَاجةَ، فهو لَجُوجٌ، و (لجَجْتَ - بالفتح - تَلِجُّ) لغةٌ، ذكره في "الصِّحاح". يعني: إذا حلف أنه لا يفعلُ الشيءَ الفلاني، ويعرفُ أن فعلَ ذلك الشيء خيرٌ من إقامته على اليمين، ثم يلجُّ مع أهله، ولا يفعلُ ذلك تعلُّلًا باليمين؛ يكون إثْمُه أكثرَ في الوفاء على اليمين من فعلِ المحلوف عليه، وإعطاءِ الكفارة المفروضةِ عليه. * * * 2558 - وقال: "اليمينُ على نِيَّةِ المُسْتَحلِفِ". قوله: "اليمينُ على نيَّة المُستحلِف"، (النية): القصد، و (المُستحلِف): طالب الحلف؛ يعني: النظر في اليمين على نيَّة طالب الحلف واعتقاده، فالتأويلُ على خلاف قصد طالب الحلف لا يدفعُ إثمَ اليمين الكاذبة.

قيل: عند إبراهيمَ النَّخَعيِّ تفصيلٌ؛ فهو ينظر إلى أنه إن كان المُستحلِفُ ظالمًا، فالنيةُ على ما نواه الحالف، وإن كان مظلومًا، فالنيةُ على ما نواه المُستحلِف. * * * 2559 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنها قالت: لَغْوُ اليمينِ قولُ الإنسانِ: لا والله، وبَلَى والله، ورفَعَهُ بعضُهم عن عائشةَ رضي الله عنها. قولها: "لغوُ اليمينِ قولُ الإنسان: لا، والله! وبلى، والله! "؛ يعني: قولُ الإنسان: لا، والله! وبلى، والله! من غير أن يعتقدَ به قلبُه، كما هو عادةُ العرب في المكالمة = لا يُؤاخَذ به؛ فإنه مما يسبق إليه اللسان، وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: لغو اليمين عبارةٌ عن أن يحلفَ على شيءٍ مضى وهو كاذبٌ فيه، ولكن يظنُّ أنه صادقٌ فيه، فلا كفَّارةَ عليه ولا إثمَ. * * * مِنِ الحِسَان: 2561 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن حَلَفَ بغيرِ الله فقد أَشْرَكَ". قوله: "مَن حلفَ بغير الله فقد أشرَكَ"؛ يعني: مَن حلف بغير الله وصفاته مُعتقدًا له التعظيمَ فقد أشرَكَ؛ لأنه أشرَكَ المحلوفَ به مع الله فى التعظيمِ المُختصِّ به، وإذا لم يحلفْ به إلا من حيث العادةُ كما يقول: لا، وأبي! فلا بأسَ، هذا هو الظاهر. قال الشيخ في "شرح السُّنَّة": وفسَّر هذا الحديثَ بعضُ أهل العلم على التغليظ، وهذا مثل ما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الرِّياءُ شِركٌ"، وقد فسَّر بعضُ

أهل العلم: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] قال: لا يُرائي, وهذا التفسير يدلُّ على أنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "فقد أشرَكَ" شِركٌ دونَ شِركٍ، يريد به: الشِّركَ الخفيَّ. * * * 2562 - عن بُرَيدةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَلَفَ بالأَمانةِ فليسَ منا". قوله: "مَن حلف بالأمانة، فليس منَّا"؛ أي: فليس ممَّن اقتدى بطريقتنا. قيل: شدَّد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الكراهية بالحلف بالأمانة؛ لأنه من مُبتدَعاتِ أهلِ الكتاب. قال في "شرح السُّنَّة": وهذا أيضًا يُشبه أن يكونَ وعيدًا؛ لمَّا أنه حلفَ بغير الله، وإنما قال الشيخ رحمه الله: حلف بغير الله؛ لأنَّ الأمانةَ ليست من صفاته تعالى، وإنما هي أمرٌ من أمره، وفرضٌ من فروضه، فنُهوا عنه؛ لِمَا في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله وصفاته. ولا يجب به كفَّارةٌ عند الشافعي، وقال أصحاب الرأي: إذا قال: وأمانةِ الله! كان يمينًا تجب به الكفَّارةُ. * * * 2565 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: "كانتْ يمينُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حلفَ: لا، وأستغفِرُ الله". قوله: "إذا حلف: لا، وأستغفر الله"، قيل: إذا حلف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمينَ اللغو، وهي قوله: لا، والله! و: بلى، والله! كما ذُكر قبلُ، كان يقولُ: (وأستغفرُ الله) عَقيبَه؛ تداركًا لِمَا جرى على لسانه من غير قصد، ولو كان مَعفوًّا عنه كما نطقَ

به القرآنُ؛ ليكون دليلًا لأمَّته على الاحترازِ عنه. * * * 2566 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حلفَ على يمينٍ فقالَ: إنْ شاءَ الله، فلا حِنْثَ عليهِ"، وَوَقَفَهُ بعضُهم على ابن عمرَ - رضي الله عنهما -. قوله: "مَن حلفَ على يمينٍ، فقال: إن شاء الله؛ فلا حِنثَ عليه"، (الحِنثُ): الخُلْفُ في اليمين؛ يعني: مَن حلف على فعل شيء أو تركه، فقال عَقيبَه: إن شاء الله؛ فلا ينعقد يمينُه. يعني: لو فعلَ ذلك الشيء أو تركَه، لم يحنث، ولا فرقَ بين الأيمان كلِّها في ذلك؛ يعني: بالله! والطلاقِ! والعتاقِ! لكنَّ الخلاف في أنَّ الاستثناءَ إذا كان منفصلًا عنها يصحُّ أم لا؟ قال في "شرح السُّنَّة": واختلف أهل العلم في الاستثناء إذا كان منفصلًا عن اليمين؛ فذهب أكثرُهم إلى أنه لا يُعمَل به إلا أن يكون بين اليمين والاستثناء سكتةٌ يسيرةٌ، كسكتة الرجل للتذكر أو للقيء أو للتنفس، فإن طال الفصل، أو اشتغل بكلامٍ آخرَ بينهما، ثم استثنى، فلا يصحُّ. وذهب بعضُهم إلى أنَّ الاستثناءَ جائزٌ ما دام في المجلس. وقال أحمد: له أن يَستثنيَ ما دام في ذلك الأمر. وقال ابن عباس: له استثناءٌ بعد حينٍ؛ قال الخطَّابي: ولو كان الأمرُ على ما ذهب إليه، لَكان للحالفِ المَخرجُ من يمينه حتى لا تلزمَه كفَّارةٌ بحال، وقد ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًا منها، فَلْيَأتِ الذي هو خيرٌ، وَلْيُكفِّرْ عن يمينه"، ذُكر شرح الحديث الذي ذكرَه للاستدلال قبل هذا. * * *

فصل في النذور

فصل في النُّذورِ (فصل في النُّذور) (النُّذور): جمع نذر، قيل: هو وعدٌ بطاعة الله على شرطٍ؛ يعني: إيجاب طاعةٍ على نفسه على شرطٍ، كما لو قال: إن شفى الله مريضي، فله عليَّ إعتاقُ رقبة. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 2567 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنْذُروا فإنَّ النَّذرَ لا يُغْني من القَدَرِ شيئًا، وإنما يُستَخرَجُ بهِ مِن البخيلِ". قوله: "لا تنذروا؛ فإن النذرَ لا يُغني من القَدَر شيئًا"، أراد بهذا النهي: تأكيدًا لأمر النذر، وتحذيرًا عن التهاون به بعد لزومه؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لَمَا وجبَ على الناذرِ الوفاءُ بنذره؛ لأنه إذا كان مَنهيًّا عنه، يكون الإتيانُ به معصيةً، وتركُ المعصية واجبٌ، وكلُّ ما كان تركُه واجبًا، كيف يلزمُ الوفاءُ به؟! وإذا تقرَّر هذا فوجهُ الحديث: أنَّ النذرَ لا يردُّ القضاءَ السماويَّ، ولا يجلب لصاحبه نفعًا، ولا يدفعُ عنه ضرًا؛ بل معناه: أنه لا تنذروا على ظنِّ أنكم تنتفعون بشيءٍ لم يُقدِّرْه الله سبحانه، أو تدفعون عن أنفسكم به القضاءَ الأزليَّ الذي جرى عليكم، فإذا نذرتُم فأتوا بالمنذور؛ فإنَّ الذي نذرتُمُوه، لزم عليكم الوفاءُ به، هذا ما أورده الخطَّابي - رحمه الله - في "معالمه". قوله: "وإنما يُستخرَجُ به من البخيل"، (يُستخرَج) معناه: يخرج، الضمير في (به) يعود إلى النذر؛ يعني: يُخرَج المالُ من البخيل بواسطة النذر؛

يعني: مَن لم يكن فيه بخلٌ، فهو يعطي باختياره من غير واسطة النذر، ومَن كان فيه بخلٌ، فلا يعطي إلا إذا وجبَ عليه الإعطاءُ بالنذر. وفيه دليلٌ على وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يكن معصيةً، فإذا امتنعَ عن الوفاء بالنذر، ألزمَه الحاكمُ بالوفاء. * * * 2568 - وقال: "مَن نذرَ أنْ يُطيعَ الله فلْيُطِعْهُ، ومَن نذرَ أنْ يعصيَهُ فلا يَعصِه". قوله: "مَن نذرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْه، ومَن نذرَ أن يعصيَ الله فلا يَعصِه"، قال في "شرح السُّنَّة": فيه دليلٌ على أنَّ مَن نذرَ طاعةً يلزم الوفاءُ به، وإن لم يكن مُعلَّقًا بشيءٍ، وأنَّ مَن نذر معصيةً، فلا يجوز له الوفاءُ به، ولا تلزمُه به الكفَّارةُ، إذ لو كانت كفَّارةٌ لأشبهَ أن يبين، وهو قول الأكثرين، وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: إذا نذر في معصية، فكفَّارتهُ كفَّارةُ يمين. * * * 2569 - وقال: "لا وفاءَ لنذْرٍ في مَعصِيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ". وفي روايةٍ: "لا نذْرَ في معصيةِ الله". قوله: "ولا فيما لا يملك العبد"؛ يعني: لا يلزمُه الوفاءُ بنذرِ شيءٍ لا يملكه؛ فقال مالك والشافعي: لو نذرَ صومَ العيد، لم يجبْ عليه شيءٌ، وإن نذرَ نحرَ ولده فباطلٌ، وقال أبو حنيفة وأحمد: فعليه كفَّارةُ اليمين في النذر الثاني، وفي الأول: فعليه صومُ يومٍ آخرَ، هذا معنى ما أورده في "شرح السُّنَّة". * * *

2571 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: قال: بينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسألَ عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذرَ أنْ يقومَ ولا يقعدَ، ولا يَستظِلَّ، ولا يتكلَّمَ، ويصومَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْهُ فليتكلَّمْ وليستظِلَّ وليَقعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ". قوله: "فسأل عنه"؛ أي: سأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قيامه، لا عن اسمه. "فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقومَ ولا يقعدَ ... " إلى آخره، (أبو إسرائيل): رجل من قريش. تقول: استظلَّ بالشجرة؛ أي: استترَ بها وقعد في ظلَّها. وإنما أمرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن يُتمَّ صومَه فقط دون المنذورات الأُخَر؛ لأنَّ نذرَه كان على نوعَين: نذرُ طاعةٍ، ونذرُ معصيةٍ؛ فالصومُ كان نذرَ طاعةً، فأمرَه بالوفاء به، والباقي كان نذرَ معصيةٍ، فلم يأمرْه بالوفاء به. * * * 2572 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخًا يُهادَى بين ابنيْهِ فقال: "ما بالُ هذا؟ " قالوا: نذرَ أنْ يمشيَ، قال: "إنَّ الله - عز وجل - عَنْ تَعْذِيب هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وأَمَرَهُ أنْ يركبَ. وفي روايةٍ: "اركبْ أيُّها الشَّيخُ، فإنَّ الله غنيٌّ عنكَ وعن نذرِك". قوله: "رأى شيخًا يُهادَى بين ابنيه ... " إلى آخره، (المُهاداة): المشي بين الاثنين مُعتمِدًا عليهما من ضعفٍ أو تمايُلٍ؛ يعني: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شيخًا يمشي بين ابنيه مُعتمِدًا عليهما من الضعف، بحيث كان يجرُّ أخمصَيه على الأرض، فقال: ما حالُ هذا الشيخ؟ قالوا: نذرَ أن يمشيَ إلى بيت الله، فقال: مُرُوه فَلْيَركبْ؛ فإنَّ الله سبحانه لَغنيٌّ عن تعذيبه نفسَه، وعن نذره.

قال الخطَّابي: قد اختلف العلماء فيمَن نذر أن يمشيَ إلى بيت الله؛ فقال الشافعي: يمشي إن أطاقَ المشيَ، فإن عجز أراق دمًا وركب، وقال أصحاب الرأي: يركب ويُريق دمًا، سواءٌ أطاقَ المشيَ أو لم يُطِقْه. * * * 2573 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ سعدَ بن عُبادَةَ استفْتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كانَ على أُمَّهِ، فتُوفِّيَت قبلَ أنْ تَقْضيَه؟ فأفتَاه بأنْ يَقضيَه عنها. قوله: "استَفتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كانَ على أمِّه"، (استفتى)؛ أي: طلب الفتوى، "فتُوفِّيت"؛ أي: ماتت. فيه دليلٌ على أنَّ مَن مات وعليه حقٌّ من حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة والنذر؛ يجب أداؤها من التركة قبل الوصايا والميراث، كما يجب أداء ديون الآدمي، سواءٌ كان وصَّى بها أو لم يُوصِ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تُقضَى ما لم يُوصِ بها. وقال مالك: لا تُقضَى ما لم يُوصِ بها، فإذا أوصى يُقضَى من الثلث، لكنه يُقدَّم على سائر الوصايا، هذا معنى كلام "شرح السُّنَّة". * * * 2574 - وعن كعبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ يا رسولَ الله: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسِكْ بعضَ مالِكَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فإني أُمسِكُ سَهْمي الذي بخيبرَ. قوله: "إنَّ من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً"، (من توبتي): خبر (إن)، (أن أنخلعَ): اسمه، و (أن) مع ما بعده في تقدير المصدر، تقديره: من توبتي انخلاعي.

قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": الصواب أن يُروَى: (أنخلع)، من (الانخلاع)، بدل (أتخلَّعَ) من (التخلُّع)؛ وإنما قال: الانخلاع أصحُّ؛ لأنه مُطاوعٌ، خلعتُه فانخلعَ؛ أي: قَبلَ الخلعَ وانقادَ له، ولا يدلُّ التخلُّعُ على هذا، فلهذا عدل إليه، كأنه قال: ما أنا فيه يقتضي خلعَ مالي صدقة مكفرة، فينخلعُ منه بتَّةً، ولا يدل التخلُّعُ لا على الموجب الخالع المتقدم، ولا على بتِّ الخلع. * * * مِنَ الحِسَان: 2575 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمينِ". قوله: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفارتُه كفارةُ اليمين": هذا مُستنَدُ أبي حنيفةَ - رحمه الله - كما ذُكر قبلُ. * * * 2576 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لم يُسَمِّهِ فكفّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا في معصيةٍ فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا لا يُطيقُه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بهِ"، ووقَفه بعضُهم على ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -. قوله: "مَن نذرَ نذرًا لم يُسمِّه، فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ"؛ يعني: مَن نذر مطلقًا، فقال: للهِ عليَّ! ولم يُسمِّ شيئًا، فعليه كفَّارةُ اليمين، ذكرَه في "شرح السُّنَّة". * * *

2577 - عن ثابتِ بن الضَّحَّاك: أنه قال: أتَى رَجُلٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إني نذرتُ أنْ أنحر إبلاً ببُوانَةَ قال: "أكان فيها وَثَنٌ مِن أَوثانِ الجاهليةِ يُعْبَدُ؟ " قالوا: لا، قال: "فهلْ كانَ فيها عيدٌ مِن أعيادِهم؟ " قالوا: لا، قال: "أَوفِ بنذرِكَ فإنه لا نَذْرَ في معصيةِ الله، ولا فيما لا يملِكُ ابن آدمَ". قوله: "نذرتُ أن أنحرَ إبلاً ببُوانةَ"، (بُوانة) بضم الباء: اسم موضع، وقال الشاعر: أَيَا نَخْلَتَي وَادِي بُوانةَ حَبَّذا ... إذا نامَ حُرَّاسُ النَّخِيلِ جَنَاكُمَا ذكره في "الصِّحاح". قال في "شرح السُّنَّة": أسفلَ مكةَ دونَ يَلَمْلَم، يُقال: كان السائلُ كرْدَمَ بن سفيانَ الثقفيَّ. وفيه دليلٌ على أنَّ الوفاءَ بنذرٍ لا معصيةَ فيه واجبٌ. * * * 2578 - وعن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدَّه: أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذَرتُ أنْ أَضرِبَ على رأسِكَ بالدُّفَّ؟ قال: "أَوْفي بنذرِكِ"، قالت: إني نذرتُ أنْ أذبَحَ بمكانِ كذا وكذا - بمكانٍ كانَ يذبحُ فيهِ أهلُ الجاهليةِ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِصَنَمٍ؟ " قالت: لا، قال: "أَوْفي بنذرِك". قولها: "إني نذرتُ أن أضربَ على رأسِكَ بالدُّف، قال: أوفي بنذرك": ضربُ الدُّفَّ ليس من القُربات والطاعات التي وجب على الناذر الوفاءُ بها؛ بل من المباحات، كأكل الأطعمة اللذيذة، ولبس الثياب الناعمة وغير ذلك، لكنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَها بالوفاء به نظرًا إلى قصدها الصحيح، الذي هو إظهارُ الفرح والسرور بمَقدمِهِ الشريفِ سالمًا غانمًا ظافرًا على الأعداء، وذلك يُوجِب الفرحَ لأهل

الإيمان، والمساءةَ لأهل النفاق والكفر والطغيان، فصار ضربُ الدُّفَّ ها هنا كالطاعات، فلهذا قال: (أوفي بنذرك)؛ وكذا استُحِبَّ ضربُ الدُّفَّ أيضًا في النكاح؛ لِمَا فيه [من] إعلانٍ وإظهارٍ للطاعة، التي هي موافقةُ الأنبياء والمرسلين، وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: "اُهجُ قريشًا؛ فإنه أشدُّ عليهم من رشقِ النبلِ"؛ فإنه مثلُ ضربِ الدُّفِّ في الموضَعين؛ لأنه يُوجبُ غيظَ أعداء الله تعالى، وهو كعين الطاعة. * * * 2579 - عن أبي لُبابَةَ: أنَّه قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أَهْجُرَ دارَ قَوْمي التي أَصبتُ فيها الذنبَ، وأنْ أنخلِعَ مِن مالي كلَّه صَدَقةً، قال: "يُجْزِئ عنكَ الثُّلُثُ". قوله: "إن من توبتي أن أهجرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ ... " إلى آخره، (هجَر يهجُر هِجرانًا): إذا ترك، (أصاب): وجد؛ يعني: مِن جملة توبتي أن أتركَ الدارَ التي أذنبتُ فيها، وهي دار قومي، وإنما قال هذا فِرارًا عن موضع غلب عليه الشيطانُ بالذنب فيه، ومِن جملة توبتي أن أتصدَّقَ بجميع مالي شكرًا لقَبولِ توبتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجزئ عنكَ الثلثُ"، (يُجزئ): يكفي؛ يعني: تصدُّقُك بثلث مالك يكفيك. قيل: فيه دليلُ الصُّوفيةِ على إثبات الغَرَامةِ على مَن يُذنب ذنبًا في الطريقة، ثم يستغفر. قيل: إنَّ أبا لُبابةَ كان من بني قُريظة، وسببُ ذنبه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حاصَرَ يهودَ بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً، فسألوا الصلح كما صالَحَ إخوانَهم بني النَّضير؛ على أن يسيروا إلى أَذْرِعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبَوا وقالوا: أَرسِل إلينا أبا لُبَابةَ مروانَ بن

المنذر، وكان مُناصِحًا لهم؛ لأنَّ عيالَه ومالَه في أيديهم، فبعثَه إليهم، فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح؛ يعني: إن تَنزلوا على حكم سعد تُقتَلوا، قال أبو لُبابة: فما زالتْ قدماي حتى علمتُ أني قد خنتُ الله ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، فشدَّ نفسَه على ساريةٍ من سَواري المسجد وقال: والله لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا - يعني: أموت - أو يتوبَ الله عليَّ، فمكث سبعةَ أيام حتى خرَّ مغشيًّا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تِيب عليك، فحُلَّ نفسَك، فقال: لا، والله لا أحلُّها حتى يكونَ رسولُ الله هو الذي يحلُّني، فجاءه، فحلَّه بيده، فقال: إنَّ من تمامِ توبتي أن أهجرَ دارَ قومي ... إلى آخره، ذكرَه مولانا وسيدُنا صفيُّ الدِّين - رحمه الله - في "تفسيره". * * * 2580 - عن جابرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً قالَ يومَ الفتحِ: يا رسولَ الله! إني نذرتُ إنْ فتحَ الله عليكَ مكَّةَ أنْ أُصلَيَ في بيتِ المَقْدسِ ركعتينِ، فقالَ: "صلِّ ههنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقال: "صل ههنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقالَ: "شَأنُكَ إذًا". قوله: "شأنَك إذًا"، (شأنَك): نُصب على المفعول به، تقديره: الزَمْ شأنَك، (إذًا): جوابٌ وجزاءٌ لمُقدَّرٍ هنا، تقديره: فإذا فعلتَ الصلاةَ هناك فقد جازيتَ شرطَك النذر، وجوابٌ لقوله: نذرتُ هناك، فكيف تأمرُني ها هنا؟! فأجابه بإجابة ذلك؛ أي: افعلْ ذلك. وقوله: (شأنَك) فيه نوعٌ من الرمز، يشير إلى أنَّ الصوابَ ما فاته، وهو أنَّ النذرَ والوفاءَ به عبادةٌ، والصلاةُ عبادةٌ، ومكةُ أفضلُ من بيت المَقدس، فيكون أداءُ العبادة فيها أكملَ، فلما نبَّهه على الأكمل ولم يَقبلْه، وَكَلَ ذلك إلى شأنه وخيَّرَه.

وفيه نوعٌ تهديد ما. بقي أنَّ السائلَ كيف اجترأ على مخالفته؟! وكيف أذن له بعد أن نهاه؟! فَلْيُنظرْ فيه. * * * 2581 - وعن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ أختَ عُقْبةَ بن عامرٍ نَذَرت أنْ تحُجَّ ماشيةً فسُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيلَ: إنها لا تطيقُ ذلكَ، فقال: "إنَّ الله لغنيٌّ عن مَشْي أُختِكَ، فلتَرْكبْ ولتُهْدِ بَدَنَةً". وفي روايةٍ: "فأمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَرْكَبَ وتُهدِيَ هَدْيًا". وفي روايةٍ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لا يَصْنَعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، فلْتَحُجَّ راكِبَةً وتُكَفِّرَ يمينَها". قوله: "إنها لا تُطيق ذلك": الضمير في (إنها) يعود إلى أخت عقبة، وذلك إشارة إلى قوله: "أن تحج ماشية"؛ يعني: إلى حجِّها بالمشي. قوله: "فَلْتَركبْ وَلْتُهدِ بَدَنة"، (البَدَنة): ناقة أو بقرة تُنحَر بمكة، الفاء في (فَلْتَركب) جواب شرط مُقدَّر؛ يعني: إذا عجزت عن المشي إليها، فَلْتَركبْ، وَلْتُرسلْ بَدَنة إلى مكة؛ يعني: إذا أطاقت المشي [فـ]ـلا يجوز لها الركوب، هذا مُستنَدُ الشافعي. وقال أصحاب الرأي: يجوز للناذر أن يركبَ ويُريقَ دمًا، سواءٌ أطاق المشي أو لم يُطِقْه. قوله: "إن الله لا يصنعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا"، (الشقاء): المشقة والتعب، الفاء في "فَلْتَحجَّ" أيضًا جواب شرط مُقدَّر، وتقديره: إن عجزَتْ فَلْتَحجَّ. * * *

2582 - ورُوي: أن عُقْبَةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أُختٍ له نذرَتْ أنْ تَحُجَّ حافيةً غيرَ مُختمِرَةٍ؟ فقال: "مروها فلْتَخْتَمِرْ ولتَركبْ، ولتَصمْ ثلاثةَ أيامٍ". قوله: "نذرتْ أن تحجَّ حافيةً غيرَ مُختمِرة"، (حافية): حال من الضمير في (أن تحجَّ)، و (غيرَ مُختمِرة): حال بعد حال من الضمير المذكور. قوله: "مُرُوها فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَركبْ، وَلْتَصمْ ثلاثةَ أيام"، قال الخطَّابي: أمَّا أمرُه إياها بالاختمار والاستتار، فلأنَّ النذرَ لم ينعقدْ فيه؛ لأنَّ ذلك معصيةٌ، والنساءُ مأموراتٌ بالاختمار والاستتار. وأمَّا نذرُها المشي حافيةً، فالمشي قد يصحُّ فيه النذر، وعلى صاحبه أن يمشيَ إن قدرَ عليه، فإذا عجز ركبَ وأهدى هَدْيًا، وقد يحتمل أن تكونَ أختُ عقبة كانتَ عاجزةً عن المشي، بل قد رُوي ذلك من رواية ابن عباس. وأمَّا قولُه: (وَلْتَصمْ ثلاثةَ أيام)، فإنَّ الصيامَ بدلٌ من الهدي، خُيرتْ فيه كما خُير قاتلُ الصيد أن يفديَه بمثله إذا كان له مثلٌ، وإن شاء قوَّمَه وأخرجَه إلى المساكين، وإن شاء صام بدلَ كلِّ مُدٍّ من الطعام يومًا، وذلك قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، هذا كلُّه لفظُ الخطَّابي. * * * 2583 - وعن سعيدِ بن المُسيبِ: أنَّ أَخَوَيْنِ مِن الأنصارِ كانَ بينَهما ميراثٌ فسألَ أحدُهما صاحبَهُ القِسْمَةَ فقال: إنْ عُدتَ تسألُني القِسْمَةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ، فقالَ لهُ عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الكعبةَ غنيةٌ عن مالِكَ، كفِّرْ عن يمينِكَ وكلَّم أخاكَ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يمينَ عليكَ، ولا نذرَ في معصيةِ الربَّ، ولا في قَطيعةِ الرَّحِمِ، ولا فيما لا تملكُ".

قوله: "إن عدتَ تسألُني القِسمةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ"، (الرَّتاج، والرَّتَج) بالتحريك: الباب العظيم، ذكره في "الصِّحاح". قال في "شرح السُّنَّة": ومَن ذكر هذا لا يريد نفسَ الباب، إنما يريد به أن يكونَ مالُه هَدْيًا إلى الكعبة، فيضعه منها حيث نواه وأراده؛ هذا نذرٌ أخرجَه مخرجَ اليمين؛ لأنه قصد به منعَ نفسِهِ عن الفعل، كالحالف يقصد بيمينه منعَ نفسه عن الفعل، فذهب الشافعي - في أصحِّ أقواله - وأحمد وإسحاق إلى أنه إذا فعل ذلك الفعلَ، يجبُ عليه كفَّارةُ اليمين، كما لو حنثَ في يمينه. وذهب قومٌ إلى أنَّ عليه الوفاءَ بما سَمَّى، وهو المشهور من قول أصحاب الرأي، وبه قال مالك. ° ° °

14 - كتاب القصاص

14 - كِتَابُ القِصَاصِ

[14] (كِتابُ القِصَاصِ) (كتاب القِصَاص) (القصاص): القَوَد، قيل: (القِصَاص) فِعَال؛ إمَّا من (قصَّ الأثرَ)؛ أي: تتبَّعَه؛ لأنَّ الوليَّ يتبعُ القاتلَ في فعله، وإمَّا من (المُقاصَّة)، وهي المساواة والمماثلة. مِنَ الصَّحَاحِ: 2584 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّي رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيبُ الزَّاني، والتارِكُ لدينِهِ المُفارِقُ للجماعةِ". قوله: "إلا بإحدى ثلاثٍ"؛ أي: بإحدى ثلاثِ خِصالٍ. قوله: "المارق لدينه"، (المارق): اسم فاعل من (مَرَق السهمُ من الرمية)؛ أي: خرجَ من جانبها الآخر. قوله: "والتارك للجماعة"؛ أي: الذي ترك الإجماع. يعني: يحلُّ دماء هؤلاء الثلاثة؛ الأول: للقصاص، والثاني: للارتداد، والثالث: لترك الإجماع؛ لأنه مَن ترك الإجماع فكأنه قد ترك آيةً من كتاب الله تعالى. * * *

2585 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لنْ يزالَ المؤمنُ في فُسْحَةٍ مِن دينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا". قوله: "لن يزالَ المؤمنُ في فُسحةٍ من دِينهِ ما لم يُصبْ دمًا حرامًا"، (لن): لتأكيد نفي المستقبل، (الفُسحة): السعة، ومكان فسيح؛ أي: واسع، (ما) في (ما لم يُصبْ) للدوام، (أصاب): إذا وجد. يعني: المؤمن إذا لم يصدر منه قتلُ نفس بغير حقًّ تسهلُ عليه أمورُ دِينه، ويُوفَّق للعمل الصالح، وإذا صدر منه ذلك، تضيق عليه أمورُ دِينه، ويُشتَّت عليه شَملُه ما لم يَتبْ، أو لم يعفُ وليُّ الدم. * * * 2588 - عن المِقْدادِ بن الأَسودِ: أنه قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ لقيتُ رجلاً مِن الكُفَّارِ فاقْتَتَلْنا فضربَ إحدَى يديَّ بالسَّيفِ فقطعَها ثم لاَذَ مِنِّي بشجرةٍ، فقال: أسلمتُ للهِ، أَأَقْتُلُه بعدَ أَنْ قالَها؟ قال: "لاَ تقتلْهُ"، فقالَ: يا رسولَ الله! إنه قطعَ إحدى يديَّ! فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتلْهُ، فإنْ قَتَلْتَه فإنَّهُ بمنزِلَتِكَ قبلَ أَنْ تقتُلَهُ، وإنكَ بمنزِلَتِهِ قبلَ أنْ يقولَ كلمتَهُ التي قالَها". قوله: "فإن قتلتَه فإنه بمنزلتِكَ قبل أن تقتلَه، وإنكَ بمنزلتِهِ قبلَ أن يقولَ كلمتَه التي قالَ": يريد بالكلمة: كلمةَ الشهادة. قيل: ظاهرُ الحديث شُبهةُ الخوارج ومَن على مذهبهم في تكفير صاحب الكبيرة، وتأويلُ الحديث واجبٌ بدلائل منفصلة، منها قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكفَّرْه بذنبٍ، ولا تُخرِجْه عن الإسلام بعملٍ"؛ فتأويلُ الحديث: أنَّ التسويةَ بينهما من حيث إباحةُ الدم، لا من حيث الكفرُ؛ لأنَّ الكافرَ قبل ما تلفَّظَ بكلمة التوحيد كان مُباحَ الدم بالكفر، وقاتلُه بعدما أسلمَ يصير بمنزلته قبل ما أسلمَ؛ لأنه صار مُباحَ الدم

بالقِصاص، والتسويةُ بينهما في إباحة الدم. * * * 2589 - وعن أسامةَ بن زيدٍ - رضي الله عنه - قال: بعَثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُناسٍ من جُهَينةَ، فأتيتُ على رجلٍ منهم فذهبتُ أَطعنهُ فقالَ: لا إله إلا الله فطعنتُهُ فقتلتُه، فجئتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُهُ فقالَ: "أَقَتَلْتَه وقد شهِدَ أنْ لا إلهَ إلا الله؟ " قلتُ: يا رسولَ الله! إنَّما فعلَ ذلكَ تعوُّذًا، قال: "فهلَّا شَقَقْتَ عن قلبهِ". 2590 - ورواه جُنْدبٌ البَجَلِيُّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيفَ تصنعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَتْ يومَ القيامةِ" قالَهُ مِرارًا. قوله: "فذهبتُ أطعنه"، (ذهبت)؛ أي: طفِقتُ، (الطعن): الضرب بالرمح. قوله: "فجئتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: جئتُ قاصدًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "أقتلتَه وقد شهد أن لا إله إلا الله"، (وقد شهد): حال من الضمير المنصوب في (قتلتَه). قوله: "إنما فعل ذلك تعوُّذًا"؛ يعني: ما أسلمَ إلا مُستعيذًا من القتل بكلمة التوحيد، وما كان مُخلِصًا في إسلامه. قوله: "فهلا شققتَ عن قلبه"، الفاء في (فهلا): جواب شرط مُقدَّر، تقديره: إذا عرفتَ ذلك فهلا؛ أي: فلم لا شققتَ قلبَه؛ يعني: قال له في مَعرِض التوبيخ: إخلاصُه في الإسلام شيءٌ لا يُطَّلع عليه؛ لأنَّ محلَّه القلب، فبمَ عرفتَ ذلك؟! قال في "شرح السُّنَّة": وفيه دليلٌ على أنَّ الكافرَ إذا تكلَّم بالتوحيد، وجبَ الكفُّ عن قتله.

قال الشيخ رحمه الله: وهذا في الثَّنَوي الذي لا يعتقد التوحيدَ؛ إذا أتى بكلمة التوحيد يُحكَم بإسلامه، ثم يُجبَر على سائر شرائط الإسلام، فأمَّا مَن يعتقد التوحيد، لكنه ينكرُ الرسالةَ، فلا يُحكَم بإسلامه بمجرَّد كلمة التوحيد حتى يقول: محمَّدٌ رسولُ الله، فإذا قاله كان مسلمًا؛ إلا أن يكونَ من الذين يقولون: إنَّ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - مبعوثٌ إلى العرب خاصةً، فحينَئذٍ لا يُحكَم بإسلامه بمجرَّد الإقرارِ بالرسالة حتى يُقرَّ: أنه مبعوثٌ إلى كافة الخلق، ثم يُستحَبُّ أن يُمتحَن بالإقرار بالبعث والتبرُّؤ عن كل دِينٍ خالَفَ الإسلام. وذهب أكثرُ أهل العلم إلى قَبول توبة الكافر الأصلي والمُرتد، وذهب جماعةٌ إلى أن إسلام الزَّنديق والباطنيَّة لا يُقبَل، ويقتلون بكلَّ حال، وهو قول مالك وأحمد، وقالت طائفة: إذا ارتدَّ المسلمُ الأصليُّ، ثم أسلمَ، لا يُقبَل إسلامُه، فأمَّا الكافرُ الأصليُّ إذا أسلمَ ثم ارتدَّ، ثم عاد إلى الإسلام، يُقبَل إسلامُه، وظاهرُ الحديث دليلُ العامةِ على قَبول إسلام الكل. وفي قوله: (هلا شققتَ عن قلبه) دليلٌ على أن الحكمَ إنما يجري على الظاهر، وأنَّ السرائرَ مَوكولةٌ إلى الله - عز وجل -، وليس في الحديث: أنه ألزَمَ أسامةَ الدِّيةَ. قال أبو سليمان الخطَّابي: يشبه أن يكونَ المعنى فيه: أنَّ الأصلَ في دماء الكفار الإباحةُ، وكان عند أسامةَ أنه إنما تكلَّم بكلمة التوحيد مُستعيذًا من القتل، لا مُصدَّقًا به، فقتلَه على أنه مُباحُ الدم، وأنه مأمورٌ بقتله، والخطأُ عن المجتهد موضوعٌ، أو تأوَّل في قتله: أنه لا توبةَ له في هذه الحالة؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]. * * * 2591 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قتلَ مُعاهِدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنةِ، وإنَّ

ريحَها تُوجدُ مِن مَسيرةِ أربعينَ خريفًا". قوله: "مَن قتل مُعاهِدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنةِ"، (المُعاهد): الكافر الذي أجارَه واحدٌ من المسلمين، بأن يدخلَ في دار الإسلام لأجل تجارةٍ أو سماعِ كلامِ الله تعالى؛ بشرط أن لا يتضرَّرَ به المسلمون كالجاسوس، وينعقد الأمانُ بكلَّ لفظ يفيد مقصودَ الأمان، كقولك: أجرتُك، أو أمَّنتُك، ويجوز مدة الأمان إلى أربعة أشهر، وفيما فوق ذلك إلى السَّنة قولانِ، أصحُّهما: المنعُ قبل العهد. والأمان للكفار على قسمين: أحدهما: عهدٌ أبديٌّ، كمَن عُصم دمُه ومالُه لأجل الجزية. والثاني: مَن له عهدٌ مؤقتٌ، فإذا انقضت المدة صار حربيًّا مُباحَ الدم، كما كان قبل العهد. قال في "الغريبين": (لم يرح): يُروَى على ثلاثة أوجه: لم يَرَح، ولم يَرِح، ولم يُرِح بضم الياء، يُقال: رُحتُ الشيءَ أَرَاحُه، ورحتُه أَرِيحه، وأَرحتُه أُرِيحه: إذا وجدتُ رائحتَه. يعني: لم يدخل الجنة حتى يُعذَّبَ بقدر إثم قتل المُعاهد. وقيل: إنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لم يجدْ رائحة الجنة"؛ لأنَّ مَن استحقَّ دخولَ الجنة ما دام في موقف الحساب يجدُ رائحة الجنة ويستريحُ بها، فهو يُحرَم عن تلك الرائحة المريحة؛ لأجلِ ما صدرَ منه. قوله: "أربعين خريفًا"، (الخريف): السَّنة؛ وإنما غلَّظ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إثمَ مَن قتل مُعاهَدًا؛ لأنَّ مَن قتلَ مُعاهدًا، فقد استخفَّ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه مَن جوَّز للمسلمين أن يُدخلوا الكفَّارَ إلى دار الإسلام بالأمان. * * *

2592 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تردَّى مِن جبلٍ فقتلَ نفسَه فهو في نارِ جهنمَ يترَدَّى فيها خالدًا مُخلَّدًا فِيها أبدًا، ومَن تَحَسَّى سُمًّا فقَتَلَ نفسَه فسمُه في يدهِ يتحسَّاهُ في نارِ جهنمَ خالِدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومَن قتلَ نفسَهُ بحديدَةٍ فحديدتُه في يدهِ يَجَأ بها في بطنِهِ في نارِ جهنمَ خالِدًا مخلَّدًا فيها أبدًا". قوله: "يتردَّى فيه خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا"، تردَّى يتردَّى: إذا سقط، الضمير في (فيه) يعود إلى جهنم، (خالدًا مخلدًا): منصوبان على الحال من الضمير في (يتردَّى). يعني: مَن قتل نفسَه بالتردِية من مكان علوًّ، واستحلَّ هذا الفعل، يصير كافرًا، ويُعذِّب نفسَه بالتردية من مكان علو في نار جهنم خالدًا مُخلَّدًا، كما فعل بنفسه في الدنيا، وإذا لم يَستحلَّ هذا الفعلَ، ومات قبل التوبة، فهو إلى الله؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه. قوله: "ومَن تحسَّى سمًا": شربه. قوله: "يَجَأ به في بطنه"، (وَجَأهُ بالسكين)؛ أي: ضربَه. * * * 2593 - وقال: "الذي يخنُق نفسَه يخنُقُها في النَّار، والذي يطعنُها يطعنُها في النار". قوله: "يخنُق نفسه"، خنَقَه يخنِقُه - بكسر النون -: عصرَ حلقَه. * * * 2594 - عن جُندبِ بن عبدِ الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ فيمن كانَ قبلَكم رجلٌ به جُرحٌ فجزِعَ، فأخذَ سِكَّينًا فَحَزَّ بها يدَهُ فما رَقَأَ الدَّمُ حتى ماتَ،

قال الله تعالى: بادَرَني عبدِي بنفسِه فحرَّمتُ عليهِ الجنة". قوله: "فحزَّ بها يدَه"، حزَّه واحتزَّه: قطعه؛ أي: قطع يدَه بتلك السكين، (السكين): يُذكَّر ويُؤنَّث. قوله: "فما رَقَأ الدمُ حتى ماتَ"، رَقَأ الدمُ والدمعُ: سكَن وانقطع. * * * 2595 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ الطُّفيلَ بن عمرٍو الدَّوسيَّ لما هاجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، هاجرَ إليه وهاجرَ معَهُ رجلٌ مِن قومِهِ فمَرِضَ فجزِعَ، فأخَذَ مشاقِصَ له فقطَعَ بها بَراجِمَهُ فشخَبتْ يداهُ حتى ماتَ، فرآهُ الطُّفيلُ بن عمرٍو - رضي الله عنه - في منامهِ وهيئتُه حَسَنةٌ، ورآهُ مُغطَّيًا يدَيْهِ، فقالَ له: ما صنعَ بكَ ربُّكَ؟ فقال: غفرَ لي بهجرَتي إلى نبيهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: ما في أراكَ مُغَطَّيًا يديْكَ؟ قالَ، قيلَ لي: لن نُصلِحَ منكَ ما أَفْسَدْتَ، فقصَّها الطُّفيلُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ وَلِيَدَيْهِ فاغفِرْ". قوله: "فأخذ مَشَاقصَ له، فقطعَ بَرَاجِمَه"، (المَشَاقص): جمع مِشْقَص، وهو: نصل طويل عريض، وقيل: سكين. مفاصل الأصابع الأربعة: الأول الرَّوَاجب، ثم البَرَاجم، ثم البنان، ثم الأنامل، فالرواجب: جمع راجبة، وهي متصلة بالكف، والبراجم: جمع برجمة، وهي التي فوق الراجبة، والبنان: جمع بنانة، وهي: التي فوق البُرْجُمة، والأنامل: جمع أُنْمُلة، وهي: رأس الأصابع. قوله: "فشخَبَت يداه"؛ أي: سالَتَا دمًا. قوله: "وهيئتُه حسنةٌ"، (الهيئة): الصورة. قوله: "اللهم ولِيدَيه فاغفرْ": الفاء في (فاغفر) جواب شرط مُقدَّر؛ يعني:

إذا غفرتَ يا ربِّ لجميع جوارحه، فاغفر ليدَيه أيضًا برحمتك التي وسعَتْ كلَّ شيءٍ. * * * 2596 - عن أبي شُرَيْحٍ الكَعْبيَّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ثم أنتم يا خُزَاعَةُ قد قتلْتُم هذا القتيلَ مِن هُذَيْل وَأَنا والله عاقِلُهُ، مَن قَتَلَ بعدَه قتيلاً فأهلُه بينَ خِيرَتَيْنِ إن أَحَبُّوا قَتَلُوا، وإنْ أَحبُّوا أَخَذُوا العَقْلَ". قوله: "فأهلُه بين خِيَرتَين: إن أحبُّوا قَتلوا، وإن أحبُّوا أخذوا العَقْل"، (الخِيَرة) بكسر الخاء وفتح الياء: اسم بمعنى الاختيار، و (العَقل): الدِّية، قيل: عَقلتُ القتيل؛ أي: أعطيتُ دِيتَه، وقيل: مأخوذ من (عَقلتُ البعيرَ): إذا حبستُه بالعِقال، وقيل: مأخوذ من أن تُعقَل الإبلُ بفِناء وليِّ الدم. يعني: الخِيار إلى أولياء الدم بين القِصاص وبين أخذ الدِّية. قال الخطَّابي رحمه الله: فيه دليلٌ على أنَّ الدِّيةَ مُستحَقةٌ لأهله كلَّهم، ويدخل في ذلك الرجال والنساء والزوجات؛ لأنهم جميعًا أهلُه، وفيه دليلٌ على أنَّ بعضَهم إذا كان غائبًا أو طفلاً، لم يكنْ للباقين القِصَاصُ حتى يبلغَ الطفلُ ويقدَمَ الغائبُ؛ لأنَّ مَن كان له خِيارٌ في أمرٍ لم يجزْ أن يفتاتَ عليه قبل أن يختارَ؛ لأنَّ في ذلك إبطالَ خِياره، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: للكِبارِ أن يستوفوا حقَّهم في القَوَد، ولا ينتظروا بلوغ الصِّغار. * * * 2597 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ يهوديًّا رَضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حَجَريْنِ فقيلَ لها: مَنْ فعلَ بكِ هذا أَفُلانٌ؟ أَفُلانٌ؟ حتى سُمِّيَ اليهوديُ فأَوْمَأَتْ برأسِها، فجيءَ باليهوديَّ فاعتَرفَ، فأمرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ رأسُه بالحِجارةِ.

قوله: "رضَّ رأسَ جارية بين حَجرَين"، (الرَّضَّ): الكسر والدَّقَّ، (الجارية مِن النساء): مَن لم تبلغ الحُلم. قوله: "فأوْمَتْ"؛ أي: أشارت، وهذا اللفظُ مهموزٌ، أصله: أَومَأَتْ، فلُين، ثم حذف الهمزة، فصار: أَومَتْ. قال الخطَّابي رحمه الله: وفيه دليلٌ على وجوب قتل الرجل بالمرأة، وهو قول عوام أهل العلم إلا الحسنَ البصريَّ وعطاءً؛ فإنهما زَعَمَا أنَّ الرجلَ لا يُقتَل بالمرأة. وفيه دليلٌ على جواز اعتبار جهة القتل؛ فيُقتَصُّ من القاتل بمثل فعله، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أصحاب الرأي: لا يُقتَصُّ منه إلا بالسيف؛ فحاصل الخلاف: أنَّ المُماثَلةَ في صفة القتل مَرعيةٌ عند الشافعي ومالك وأحمد في القِصاص، سواءٌ قتلَه بمُحدَّد أو غيره من تخنيق وتجويع وغير ذلك، إلا إذا قتله بالسحر، فإنه يُقتَل بالسيف؛ لأن فعل السحر مُحرَّم، وكذا إذا قتله بسقي الخمر أو اللَّواط يُقتَل أيضًا بالسيف، وعند أصحاب الرأي إذا قتلَه بغير مُحدَّد يُقتَل بالسيف مطلقًا. وقال الخطَّابي: وفي هذا اللفظ - أعني: قوله: "فاعترف" - الشفاء والبيانُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل اليهوديَّ بإيماء المُدَّعِي أو بقوله، بل بقول المُدَّعَى عليه واعترافِهِ، وقد شغَّب - أي: شنَّع - بعضُ الناس في هذا حين وجد أكثر الروايات خاليًا عن هذه اللفظة، فقال: كيف يجوز أن يُقتَلَ أحدٌ بقول المُدَّعِي وبكلامه، فضلاً عن إيمائه برأسه؟! وأنكروا هذا الحديث، وأبطلوا الحكم في اعتبار جهة المماثلة، وقال: وهذا اللفظ لو لم يكن مروية في هذه القصة لم يكن جائزًا؛ لأنَّ مِن العلم الشائع المستفيض - أي: المشهور - على لسان الأمة؛ خاصَّهم وعامِّهم: أنه لا يُستَحقَّ دمٌ ولا مالٌ إلا ببينة، وقد يُروَى كثيرٌ من الحديث على

الاختصار؛ اعتمادًا على أفهام السامعين له والمُخاطَبين به. * * * 2598 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّه قال: كَسَرَتْ الرُّبَيعُ، وهي عمَّةُ أنسِ بن مالكٍ، ثَنِيَّةَ جاريةٍ من الأنصارِ فأَتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَ بالقِصاصِ، فقال أنسُ بن النّضر، عمُّ أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: لا والله لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُها يا رسولَ الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنسُ كتابُ الله القِصاصُ"، فرَضيَ القومُ وقَبلُوا الأَرْشَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مِن عبادِ الله مَنْ لو أَقسَمَ على الله لأبَرَّهُ". قوله: "لا، والله لا تُكسر ثنيَّتُها"، (لا): ردٌّ لأمره بالقِصاص على سبيل التعجُّبِ، لا على سبيل الإنكار؛ فإنَّ الكاسِرةَ كانت أشرفَ، (الثنِيَّة) واحدة الثَّنَايا من الأسنان. قوله: "يا أنسُ! كتابُ الله القِصاصُ"، قال في "شرح السُّنَّة": قيل: أراد به قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، وهذا على قول مَن يقول: إن شرائعَ الأنبياء - عليهم السلام - لازمةٌ لنا ما لم يَرد النسخُ في شرعنا. وقيل: هذا إشارة إلى قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وإلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] على قراءة مَن يقرؤه مرفوعًا على طريق الابتداء. وقيل: (كتاب الله) معناه: فرضَ الله الذي فرضَه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "إن مِن عباد الله مَن لو أقسمَ على الله لأَبرَّه"، (برَّ وأبرَّ): إذا صدَّق اليمين؛ أي: لو أقسم على الله بفعل شيء يفعل ذلك الشيء اختراعًا في الحال - ولو كان عظيمًا كفتق جبل - (لأَبرَّه)؛ أي: أحدَث ذلك الشيء وصدَّقه إكرامًا

له، وهذا من كرامات الأولياء، وفيه دليلٌ على وجود ذلك لقوله: (لأَبرَّه)، وفيه دليلٌ على توقير عباد الله وتعظيمهم الله ولو كانوا فقراء خاملين. * * * 2599 - وعن أبي جُحَيْفَةَ قال: سألتُ عليًا هل عِندَكم شيءٌ ليسَ في القرآنِ؟ فقال: والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ما عِندَنا إلا ما في القرآنِ، إلَّا فَهْمًا يُعطَى رجلٌ في كتابهِ، وما في الصَّحيفةِ! قلتُ: وما في الصَّحيفةِ؟ قال: العقلُ، وفِكاكُ الأسيرِ، وأنْ لا يُقْتَلَ مُسلمٌ بكافرٍ. قوله: "والذي فلَق الحبةَ وبرأَ النسمةَ! ما عندنا إلا ما في القرآن"، الواو في (والذي): واو القسم، و (ما عندنا): جواب القسم، (فلق): إذا شقَّ، و (برأ): إذا خلق، (النسمة): النفس والروح، كأنه قال: والذي خلقَ الرزقَ والمرزوقَ، وهذا مبالغةٌ في الحَلف، وإنما بالَغَ في الحَلف في سؤال السائل درءًا لتوهُّم مَن يتوهَّمُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خصَّ أهلَ بيته بشيء من العلوم، وحلف وقال: "ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فَهْمًا يُعطَى رجل"؛ يعني: ما عندنا غيرُ ما في القرآن، لكن الناس متفاوتون في الفهم والإدراك واستنباط المعاني، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنا قاسمٌ، والله يُعطي"؛ يعني: أنا مُبلَّغ للوحي السماوي إلى جميعهم من غير فرق, لكن الله سبحانه يُعطي الفهمَ مَن يشاء، ثم ذكر ما في الصحيفة التي كانت مُعلَّقةً بحمالة سيفه؛ إمَّا تورُّعًا واحتياطًا في يمينه، وإمَّا أن يكونَ منفردًا بسماع ذلك إن قيل: ما في الصحيفة أكثر مما في هذا الحديث؛ لأنه إذا سُئل عما فيها قال: "لعنَ الله مَن غيَّر مَنَارَ الأرض، لعنَ الله مَن تولَّى غيرَ مَواليه". قيل: إذا ثبت هذا يُحتمَل أنه حدَّث بجميع ما فيها ونسي الراوي غيرَ ما في هذا الحديث، أو حدَّث بمجالسَ متفرقةٍ، ويُحتمَل أنه اقتصر على ما في هذا الحديث في ذلك الوقت.

وقيل: أراد بالعقل في هذا الحديث أسنانَ ما يُؤدَّى من الإبل في الدَّية وعددها. قوله: "وفِكاكُ الأسير"، (الفكاك): ما يُفتَكُّ به، و (الافتكاك): التخليص، (الأسير): فَعيل بمعنى: مأسور، من (أَسَرَه يأسِرُه أسرًا): إذا شدَّه بالإسار، وهو القدُّ؛ لأنهم كانوا يشدُّونه بالقدَّ؛ يعني: مِن جملة ما في الصحيفة تخليصُ الأسير. * * * مِنَ الحِسَان: 2600 - عن عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَزَوالُ الدُّنيا أهونُ على الله مِن قتلِ رجلٍ مسلمٍ"، ووقَفَه بعضُهم، وهو الأصحُّ. قوله: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتل رجل مسلم"؛ يعني: الدنيا التي هي مَعبَرُ الإنسان إلى دارِ البقاء، ومَحلُّ تحصيل الأنبياء والأولياء أنواعَ القُربات من عالم الملكوت وممَّا عند الله تعالى مِنْ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطَرَ على قلب بشر، فلو أزالها واحدٌ مثلاً لَكان أهونَ على الله من إراقة دم مسلم؛ لأنَّ الدنيا مَعبَرٌ وطريقٌ، والمسلمُ هو المقصودُ مِن إيجاد الدنيا وخلقتها. قوله: "ووَقَفَه بعضُهم؛ وهو الأصحُّ"؛ يعني: وقفَ بعضُ أصحاب الحديث هذا الحديث على ابن عمرَ. * * * 2601 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -، وأبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنَّ أهلَ السماءَ والأرضِ اشتركُوا في دمِ مؤمنٍ لأَكبَّهم الله في النارِ"، غريب.

قوله: "لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكَبَّهم الله في النار": فالصوابُ: كبَّهم، قال في "الصَّحاح": كَبَّه لوجهه؛ أيا صرَعَه، فأَكبَّ هو على وجهه، وهذا من النوادر؛ أن يكونَ (أفعلَ) لازمًا، و (فعلَ) متعديًا، يُقال: كبَّ الله عدوَّ المسلمين، ولا يُقال: أكبَّ. وقال الزَّمخشري: لا يكون بناء (أفعلَ) مطاوعًا لـ (فعلَ)، بل همزةُ (أكبَّ) للصيرورة أو للدخول، فمعناه: صار ذا كبًّ، أو دخل في الكبَّ، ومُطاوع (فعل): انفعل، نحو: كبَّ فانكبَّ، وقطع فانقطع. و (لو) للمضيِّ، و (أنَّ) فاعلَ فعلٍ مُقدَّرٍ يُفسَّره ما في (أن) من معنى الثبوت، تقديره: لو ثبت أنَّ أهلَ السماء، و (أن): حرف المصدر، وهي مع الفعل الذي وقع في خبره على تقدير المصدر؛ يعني: لو ثبت اشتراك أهل السماء والأرض في إزهاق روح مؤمن لَصرَعَهم الله في النار. * * * 2602 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "يجيءُ المقتولُ بالقاتِلِ يومَ القيامةِ ناصيتُه ورأسُه بيدِه وأَوْداجُه تَشْخُبُ دمًا يقولُ: يا ربِّ قتلَني حتى يدُنِيَه مِن العَرشِ". قوله: "وأوداجهُ تَشخُبُ دمًا"، (الأوداج): جمع وَدَج، وهو: عرق في العنق، (تَشخُب)؛ أي: تَسيل. "حتى يُدنيَه من العرش"، (يُدنيَه)؛ أي: يُقرِّبه. * * * 2604 - عن أبي الدَّرداءِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ المؤمنُ مُعنِقًا صالحًا ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا، فإذا أصابَ دمًا حرامًا بَلَّحَ".

قوله: "لا يزال المؤمن مُعنِقًا صالحًا"، (مُعنِقًا)؛ أي: مُنبسِطًا في سيره؛ يعني: يوم القيامة، ذكره في "الغريبين". قيل: قول صاحب "الغريبين": (يوم القيامة) فيه ما فيه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد قيَّدَ قولَه: (لا يزال المؤمنُ مُعنِقًا) بقوله: "ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا"، وإصابةُ الدمِ الحرامِ في القيامة غيرُ جائزٍ [ة]؛ بل معناه: يكون مُوفَّقًا للطاعة ما لم يَقتل نفسًا بغير حقٍّ، فإذا قتلَها انقطعَ عنه التوفيقُ للخيرات. قال في "شرح السُّنَّة": أراد بالمُعنِق: خفيفَ الظَّهر، يُعنِق في مَشيهِ سيرَ المُخِفَّ، و (العَنَق): ضربٌ من السير وسيعٌ. وقيل: معنى مُعنِقًا؛ أي: ذا حُجَّةٍ ظاهرةٍ، ومنه: "المُؤذَّنون أطولُ الناس أعناقًا"؛ أي: أظهرُ حُجَّةٌ بالتوحيد. وقوله: "بلَّح" معناه: أعيَى وانقطع، يقال: (بَلَحَ الفرسُ): إذا انقطع جَريُه، و (بَلَحَتِ الرَّكِيَّة): انقطع ماؤها، (الرَّكِيَّة): البئر، ذكره في "شرح السُّنَّة"، قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": الرواية في هذا الحديث (بلَّح) بالتشديد. * * * 2605 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ ذنبٍ عسى الله أنْ يغفِرَهُ إلا مَن ماتَ مُشركًا، أو من يَقتُلُ مؤمنًا مُتعمِّدًا". قوله: "ومَن يَقتل مؤمنًا مُتعمدًا"؛ يعني: إذا كان مُستحِلًّا دمَه. * * * 2606 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقامُ الحدودُ في المساجدِ، ولا يُقادُ بالولدِ الوالدُ".

قوله: "لا تُقام الحدودُ في المساجد"؛ لأنَّ المساجدَ ما بنيت إلا للصلاة وقراءة القرآن والذَّكر وغير ذلك من العبادات، فإذا أُقيمت الحدودُ فيها فلا تخلو عن صخبٍ ولوثٍ بالدم وغيره، فإذا كان كذلك، فلا تُقام الحدودُ في المساجد؛ صيانةً لها وحفظًا لحرمتها، هذا على سبيل الأولوية، أمَّا لو التجأ مَن عليه القِصاص إلى الحَرَم، فجاز استيفاؤه منه في الحَرَم، سواءٌ كان القِصاصُ واجبًا عليه في النفس أو الطرف، فتُبسط الأنطاعُ، ويُقتَل في الحَرَم؛ تعجيلاً لاستيفاء الحقَّ، وعند أبي حنيفة لا يُستوفَى قِصاصُ النفس في الحَرَم، بل يُضيَّق عليه الأمرُ بحيث لا يُكلَّم ولا يُعامَل ولا يُطعَم حتى يخرجَ بنفسه، فيُقتَل. قوله: "ولا يُقاد بالولد الوالدُ"، قال في "شرح السُّنَّة": والعملُ عليه عند أهل العلم، قالوا: لا يُقاد أحدٌ من الوالدَين بالولد، ولا يُحدُّ بقذفه، ويُقاد الولدُ بالوالد، ويُحدُّ بقذفه، وإنما قال: لا يُقاد الوالدُ بالولد؛ لأنَّ الوالدَ سببُ وجوده، فلا يجوز أن يكونَ الولدُ سببًا لعدمه، وحُكمُ الأجداد والجدَّات مع الأحفاد حُكمُ الوالدَين مع الولد. * * * 2607 - عن أبي رِمْثَةَ - رضي الله عنه - قالَ: دخلتُ مع أبي على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأَى أبي الذي بظَهرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: دَعْني أُعالجُ الذي بظهركَ فإني طبيبٌ، فقالَ: "أنتَ رفيقٌ، والله الطبيبُ"، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هذا مَعَك؟ " قالَ: ابني فاشهدْ به، فقالَ: "أَما إنه لا يَجني عليكَ ولا تَجْني عليهِ". قوله: "فرأى أبي الذي بظَهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": أراد بالذي بظَهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خاتمَ النبوَّة، وظنَّ أنه سِلَعةٌ، و (السلعة): شيء ينتشر من جسم الإنسان يشبهُ الغُدَّة، فقال: "دعني أعالجُ الذي بظَهرك؛ فإني طبيب"؛ يعني: اتركْني أُداوي

ما بظهرك من الداء الذي ظهر؛ فإني أعرف الطبَّ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت رفيقٌ، والله الطبيب". قال في "شرح السُّنَّة": قوله: (أنت رفيق) معناه: أنت ترفق بالمريض، فتحميه مما يُخشَى أن لا يتحملَه بدنُه، وتُطعمه ما تَرى أنه أرفقُ به. (الطبيبُ) هو العالِمُ بحقيقة الداء والدواء القادرُ على الصحة والشفاء، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار، ثم تسميةُ الله تعالى به أن يُذكَرَ في حال الاستشفاء، مثل أن يقول: اللهم أنتَ المُصحِّح والمُمرِض والمُداوِي والطبيب، ونحو ذلك، فأمَّا أن يقولَ: يا طبيبُ! افعلْ كذا، كما يقول: يا حليمُ يا رحيمُ، فإنَّ ذلك مُفارقٌ لأدب الدعاء؛ فإنما الدعاءُ الثناءُ عليه بأبلغِ الألفاظ والمُختصِّ به، بخلاف الشائع المشترك بينه وبين غيره، ولأنَّ أسماءَه توقيفيةٌ، وأيضًا الطبيب عُرفًا: إنسان آخر سوف يمرض ويموت، فنُزِعَ عن لفط مُشعرٍ بنقصانٍ. * * * 2609 - عن الحسنِ، عن سَمُرَة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قتلَ عبدَهُ قتلْناهُ، ومَن جَدع عبدَهُ جَدَعْناهُ، ومَن أَخْصَى عبدَه أَخصيْناهُ". قوله: "مَن قتل عبدَه قتلْناه"، قال الخطَّابي: هذا زجرٌ؛ ليَرتدعوا فلا يُقدموا على ذلك، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في شارب الخمر: "إذا شربَ فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، ثم قال في الرابعةِ أو الخامسةِ: فإن عادَ فاقتلوه"، ثم لم يقتلوه حين جِيء به وقد شرب رابعًا أو خامسًا. وقد تأوَّلَه بعضُهم على أنه إنما جاء في عبدٍ يملكه مرةً، فزال عنه ملكُه، وصار كفُؤًا له بالحرية، فإذا قتلَه كان مقتولاً به، وهذا كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]؛ أي: مَن كنَّ أزواجًا قبل الموت. وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ هذا الحديثَ منسوخٌ.

قال في "شرح السُّنَّة": وذهب عامة أهل العلم إلى أنَّ طرَفَ الحرِّ لا يُقطَع بطرَف العبد، فثبت بهذا الاتفاق أن الحديثَ محمولٌ على الزَّجر والرَّدع، أو هو منسوخٌ. قال في "شرح السُّنَّة": "جدَعَ" الأنفَ واليدَ والأذنَ: قطعَها، خَصيتُ الفحلَ خِصاءً و"أَخصيتُه": سَلَلتُ خُصيَيه، ذكره في "الصِّحاح". * * * 2609/ م - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قتَلَ متعمِّدًا دفع إلى أولياءِ المقتولِ فإنْ شاءوا قَتَلُوا، وإنْ شاؤوا أخذُوا الدِّيَةَ وهي: ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ جَذَعَةً، وأربعونَ خَلِفَةً، وما صالَحوا عليهِ فهو لهم". قوله: "أربعون خَلِفة"، (الخَلِفة): الحامل. * * * 2610 - عن عليًّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمونَ تَتكافَأُ دماؤُهم، ويَسعَى بذِمَّتِهم أَدناهم، ويَرُدُّ عليهم أَقْصاهم، وهُم يَدٌ على مَنْ سِواهم، ألا لا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافرٍ، ولا ذُو عهدٍ في عهدِه". قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، قال في "شرح السُّنَّة": يريد أنَّ دماءَ المسلمين متساويةٌ في القِصاص؛ يُقاد الشريفُ منهم بالوضيع، والكبيرُ بالصغير، والعالِمُ بالجاهل، والرجلُ بالمرأة، وإذا كان المقتولُ شريفًا أو عالمًا، والقاتلُ وضيعًا جاهلًا لا يُقتَل به غيرُ قاتله، على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية؛ كانوا لا يرضَون في دم الشريف بالاستقادة من قاتله الوضيع حتى يقتلوا عِدَّةَ من قبيلة القاتل.

قوله: "ويسعى بذِمَّتهم أدناهم"، (أدنى): أفعل التفضيل من دَنَا يَدْنَأُ دَنَاءَةً: إذا سَفُلَ في فعْلِهِ ومَجَنَ، ذكره في "الصَّحاح"، و (أدنى) معناه ها هنا: مَن يَقِلُّ اعتباره وقَدره كالعَبيْدِ والنسوان. يعني: مَن أجارَ واحدًا من الكفار وأمَّنَه، ولو كان المُجير ممن يقلُّ قَدرُه واعتباره، لا يجوزُ لأحد أن يُبطلَ ذمَّتَه ويقتلَه؛ فمَن أبطلَ ذمَّتَه وقتله، لم يجد رائحة الجنة. قوله: "ويردُّ عليهم أقصاهم"، (أقصى): أفعل التفضيل، من (قصَى المكانُ يَقْصُو قُصُوًّا): إذا بَعُد. قال في "شرح السُّنَّة": معناه: أن يخرج الجيش، فيُنيخوا بقرب دار العدو، ثم تنفصل منهم سَرية، فيغنموا، يردُّون ما غنمُوه على الجيش الذين [هم] رِدءٌ لهم - أي: عونٌ - ولا يتفرَّدون به، بل يكونون جميعًا شركاء فيه، فأمَّا مَن أقامَ ببلدة ولم يخرج معهم فلا شِركةَ له فيه. قوله: "وهم يدٌ على مَن سواهم"؛ يعني: المسلمين، لا يسعهم التخاذل، بل يُعاون بعضُهم بعضًا على جميع الأديان والمِلل، ذكره في "الغريبين". قيل: جعلَهم كاليد الواحدة في التعاون والتناصر على مَن سواهم. قوله: "لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده"، قال الخطَّابي: فيه البيان الواضح أنَّ المسلمَ لا يُقتَل بأحد من الكفار، سواءٌ كان المقتولُ منهم ذِمَّيًّا أو مُعاهدًا أو مُستأمَنًا أو ما كان، وذلك أنه نفيٌ في نكرةٍ؛ فاشتمل على جنس الكفار عمومًا. وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال بظاهر الحديث جماعةٌ من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد

ابن حنبل وإسحاق، وقال الشَّعْبي والنَّخَعي: يُقتَل المسلمُ بالذَّمَّيَّ، وإليه ذهب أصحاب الرأي، وتأوَّلوا قوله: "لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ"؛ أي: بكافرٍ حربيًّ، دونَ مَن له عهدٌ وذِمَّةٌ من الكفار، وادَّعوا في نظم الكلام تقديمًا وتأخيرًا، كأنه قال: لا يُقتَل مؤمنٌ ولا ذو عهد في عهده بكافر، قالوا: ولولا أنَّ المرادَ به هذا لَكان الكلامُ خاليًا عن الفائدة؛ لأنه معلوم بالإجماع: أنَّ المُعاهدَ لا يُقتَل في عهده، ولم يجرِ حملُ الخبر (¬1) الخاص على شيء قد استُفيد معرفتُه من جهة العلم العام المُستفيض. قال في "شرح السُّنَّة": قوله: "لا يُقتَل مؤمن بكافر" كلامٌ تامٌّ مستقلٌّ بنفسه؛ فلا وجهَ لضمَّه إلى ما بعدَه وإبطالِ حُكم ظاهرِه، وقد رَوينا عن (صحيفة عليًّ): "أن لا يقتل مؤمن بكافر" من غير ذكر ذي العهد، فهو عامٌّ في حقِّ جميع الكفار أن لا يُقتَلَ به مؤمنٌ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ"، وكان الذَّمَّيُّ والمُستأمَنُ والحربيُّ فيه سواءً. وقال أيضًا في "شرح السُّنَّة": قوله: "ولا ذو عهد" وأراد به أنَّ ذا العهد لا يجوز قتلُه ابتداءً ما دام في العهد، وفي ذكر المُعاهَد أنه لا يُقتَل ابتداءً فائدةٌ: وهو أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسقطَ القَوَدَ عن المسلم إذا قتل الكافرَ أوجبَ ذلك توهينَ حُرمة دماء الكفار، فلم يُؤمَن من وقوع شبهة لبعض السامعين في حُرمة دمائهم، وإقدام المُسرِع من المسلمين إلى قتلهم، فأعادَ القولَ في حظر دمائهم دفعًا للشبهة، وقطعًا لتأويل المُتأوَّل. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "فلم يجز حمل خبر".

2611 - عن أبي شُرَيحٍ الخُزاعيِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن أُصيبَ بدمٍ أو خَبْلٍ - والخَبْلُ: الجُرْحُ - فهو بالخيارِ بينَ إحدَى ثلاثٍ، فإنْ أرادَ الرَّابعةَ فَخُذُوا على يَدَيْه، بينَ أنْ يَقتَصَّ، أو يَعفُوَ، أو يأخذَ العَقْلَ، فإنْ أخذَ مِن ذلكَ شيئًا ثم عَدا بعدَ ذلكَ، فلهُ النارُ خالِدًا فَيها مخلَّدًا أبدًا". قوله: "فإن أراد الرابعةَ فخُذوا على يدَيه: بين أن يَقتصَّ، أو يعفوَ، أو يأخذ العقل"، (بين أن يقتصَّ): بدل من قوله: (بين إحدى ثلاث)، الفاء في: (فإن أراد الرابعة) جواب شرط مُقدَّر، تقديره: إذا تقرَّر هذا فإن أراد الرابعةَ زائدةً على الثلاث. "فخُذوا على يدَيه"؛ أي: اعتَرِضوا عليه، ولا تُخلُّوا سبيلَه، واحبسوه عن ذلك. قوله: "فإن أخذَ من ذلك شيئًا، ثم عدا بعد ذلك فله النار"، (ذلك) إشارة إلى الخِصال الثلاث؛ يعني: إن أخذ شيئًا من الخصال الثلاث، ثم تجاوز بعد ذلك - يعني: طلب شيئًا آخرَ، كما أنه إذا عفا وأخذ الدية، ثم قتله - فله النارُ. * * * 2612 - عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قُتِلَ في عِمِّيَّةٍ، في رميٍ يكونُ بينَهم بالحجارةِ أو جَلْدٍ بالسِّياطِ أو ضَرْبٍ بعصًا، فهو خطأٌ، وعَقْلُه عَقْلُ الخَطَإ، ومَن قتلَ عمدًا فهو قَوَدٌ، ومَن حالَ دونَه فعليهِ لعنةُ الله وغضَبُه، لا يُقبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". قوله: "مَن قُتل في عِمِّيَّة في رمي يكون بينهم بالحجارة" قال في "الغريبين": قال أحمد بن حنبل: هي الأمر الأعمى كالعصبية لا يَستبين ما وجهه، وقال

إسحاق: هذا في تجارح (¬1) القوم، وقتل بعضهم بعضًا، وكان أصله من (التَّعْمِية) وهو: التلبيس. وقال في "شرح السُّنَّة": (عِمِّيَّة) فعيلة من العَمَى، ومعناه: أن يَترامَى القومُ، فيُوجَد منهم قتيلٌ لا يُدرَى مَن قاتلُه ويُعمَّى أمرُه؛ ففيه الدِّيةُ. قوله: "ومَن حال دونَه فعليه لعنةُ الله"، (حَالَ): إذا حجز ومنع، الضمير في (دونه) يعود إلى القاتل؛ يعني: مَن حجز بين القاتل ووليِّ الدم فعليه لعنةُ الله، و"لا يُقبل منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ": قيل: (الصَّرْف): التوبة، و (العَدْل): الفِدية، وقيل: (الصَّرْف): النافلة، و (العَدل): الفريضة. * * * 2613 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُعفي مَن قتلَ بعدَ أخْذِ الدَّيةِ". قوله: "لا أُعفي مَن قتلَ بعد أخذ الدِّية"، (أَعْفَى): إذا ترك؛ يعني: إذا أخذ وليُّ الدم الدِّيةَ، ثم قتلَ القاتلَ بعد ذلك، لا أعفو عن هذا الصنيع؛ بل أقتلُه بالقِصاص، وفي بعض النسخ: "لا يُعفَى" على بناء ما لم يُسمَّ فاعلُه من (العَفْوِ)، بدل: "لا أُعفي". * * * 2614 - عن أبي الدَّرداءِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما مِن رجلٍ يُصابُ بشيءٍ في جسدهِ فَتَصَدَّقَ به إلَّا رفَعَه الله بهِ درجةً، وحَطَّ عنهُ بهِ خطيئةً". ¬

_ (¬1) في "ق": "تخارج".

2 - باب الديات

قوله: "ما من رجل يُصاب بشيء في جسده، فتصدَّق به إلا رفعَه الله به درجة" (أصاب) مأخوذ من (أصابَ المطرُ): إذا نزل، ومعنى (أصاب)؛ أي: نزل به شيءٌ يكرهه كالجراحات والآفات وغير ذلك؛ يعني: ما من رجل جُنِي عليه، فعفى عن الجاني وترك القِصاص؛ طلبًا لرضا الله سبحانه إلا رفعَه الله بذلك العفو درجةً عنده، و"حطَّ": أسقط عنه بذلك ذنبًا من ذنوبه. * * * 2 - باب الدَّيَاتِ (باب الدَّيات) (الدِّيات): جمع الدَّية، وهي مصدر كأنها اسم للمال. 2616 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في جَنِينِ امرأةٍ من بني لِحْيانَ بغُرَّةٍ: عبدٍ أو أَمَةٍ، ثم إنَّ المرأةَ التي قَضَى عليها بالغُرَّةِ تُوفِّيَت، فقَضَى بأنَّ ميراثِها لِبنيها وزوجِها، والعَقْلُ على عَصَبَتِها. قوله: "قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لَحْيان بغُرَّةٍ عبدٍ أو أَمَةٍ"، (الجنين): الولد ما دام في البطن، والجمع: الأَجنَّة، و (الغُرَّة): بياض [في] الوجه، والمراد بها ها هنا: عبدٌ أو أَمَةٌ. قال فى "شرح السُّنَّة": والغُرَّة من كل شيء: أنفسه، والمراد من الحديث: النَّسَمة من الرقيق ذكرًا كان أو أنثى. وقال أبو عمرو بن العلاء: (الغُرَّة): عبدٌ أبيضُ أو أَمَةٌ بيضاءُ، سُمِّي غُرَّةً لبياضه، وذهب إلى أنه لا يُقبَل فيه العبدُ الأسودُ؛ ولم يقلْ به أحدٌ. وقيل: (الغُرَّة) قد فسَّرها الفقهاءُ بعبدٍ أو أَمَةٍ ثمنُه يبلغ عُشرَ الدِّية.

و"غُرةٍ عبدٍ أو أَمَةٍ" بالتنوين، والإضافةُ روايةٌ، قيل: رواية التنوين أكثرُ، ووجه التنوين: أنه يكون (العبدُ) عطفَ بيانٍ أو بدلاً، وإذا رُفع (العبدُ) فهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي عبدٌ، وإذا نُصب يُحتمَل أن يكونَ تمييزًا، ويُحتمَل أن يكونَ مفعولاً به؛ أعني: عبدًا أو أَمَةً. قوله: "والعَقل على عصبتها"، قيل: أراد بـ (العَقل) ها هنا: الغُرَّة التي هي جنين المضروبة، ويُحتمل أن المراد بالعَقل: الدِّيةُ المضروبة. * * * 2617 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: اقتتلَت امرأتانِ من هُذَيلٍ فرمَتْ إحداهما الأخرى بحَجَرٍ فقتلَتْها وما في بطنِها، فقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ دِيَةَ جنينِها غُرَّةٌ: عبد أو وَلِيدَةٌ، وقضَى بديَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، وَوَرَّثَها وَلَدَها ومَن معهم. قوله: "وقضى بدِية المرأة على عاقِلَتِها"، (العاقلة): العَصَبة، وهي القرابة مِن قِبَل الأب؛ وإنما سُمِّيت عاقلةً لأنها مأخوذةٌ من (العَقل) الذي هو بمعنى الشدِّ، وذلك أنَّ القاتلَ كان يأتي بالإبل فيَعقلُها، أي: يشدُها بالعِقال في فِناء المقتول. وقيل: سُمِّيت عاقلةً لأنها مأخوذة من (العَقل) وهو المنع، وبه سُمَّي العقلُ المُركَّب في الإنسان؛ لأنه يمنعه عما لا يَحسُن ولا يَجمُل. وليس ذلك بقياسٍ لمؤاخذة غير الجاني بجناية الجاني؛ ولكنَ أهلَ القاتل كانوا ينصرون الجاني منهم، ويمنعون أولياء المَجنيِّ عليه من طلب حقَّهم، فجعل الشرعُ تلك النصرةَ ببذل المال. واختصَّ بالخطأ وشبه العمد، لأنه مما لا يمكن الاحترازُ عنه، ويكثر ذلك،

ففي الإيجاب عليه يكون إجحافًا، فأوجب على العاقلة بطريق المواساة، وجعله عليهم مُؤجَّلاً إلى ثلاث سنين؛ نظرًا لهم في المواساة، ولم يوجب على مَن بينه وبين الجاني بَعضية؛ لأنه كنفسه. وعند أبي حنيفة: يجب على الإبعاض، ويجب في ماله إذا كان بالغًا عاقلاً ذكرًا ما يجب على واحدٍ من العاقلة. قال في "شرح السُّنَّة": إذا جنى على امرأةٍ حاملٍ، فألقَتْ جنينًا ميتًا يجب على عاقلة الضارب غُرَّةٌ عبدٌ أو أَمَةٌ من أي نوع كان من الأرِقَّاء، سواءٌ كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وإن سقط حَيًّا ثم مات، ففيه الدَّيةُ الكاملةُ، وإن ألقَتْ جنينَين ميتَين، فعليه غُرَّتانِ، ولِمُستحقَّها أن لا يَقبلَ مَعيبةً كالإبل في الدَّية، وله أن لا يَقبلَ دونَ سبع سنين أو ثماني سنين. وقال أبو حنيفة: يجب قَبولُ الطفل إذا كانت قيمتُها خمسَ مئةِ درهمٍ، وإذا عُدمت الغُرَّةُ ففيه نصفُ عُشْرِ دِية المسلم، وهي خمسٌ من الإبل في قول الشافعي، وقال مالك: ستُّ مئةِ درهمٍ، وقال أبو حنيفة: عليه غُرَّةٌ أو خمسُ مئةِ درهمٍ أو خمسون دينارًا. * * * 2618 - وعن المُغيرةِ بن شُعبةَ - رضي الله عنه -: أن ضَرَّتينِ رَمَتْ إحداهُما الأُخرى بعمُودِ فُسطاطٍ فأَلْقَتْ جنينَها، فقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنينِ غُرةً: عبدًا أو أَمَةً، وجعلَها على عاقلةِ المرأةِ، ويروى: فَقتَلَتها، فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دِيَةَ المقتُولةِ على عَصَبةِ القاتِلَةِ. قوله: "أن ضَرَّتيْنِ رَمَتْ إحداهما الأخرى بعمودِ فُسطاطٍ فأَلْقَتْ جنينَها"، (ضَرَّة المرأة): امرأة زوجها، سميت (ضَرَّة) لمُضَارَّتها الأخرى.

(الفسطاط): بيت من شعر، وفيه لغات: (فُسطاط) بضم الفاء، أو (فِسطاط) بكسرها، و (فُسَّطاط) بضم الفاء وتشديد السين، و (فِسَّطاط) بكسر الفاء وتشديد السين، و (فِستاط) بكسر الفاء وبالتاء المنقوطة فوقها بنقطتين بعد السين. * * * مِنَ الحِسَان: 2619 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألاَ إنَّ في قَتيلِ العمدِ الخطأ بالسَّوطِ أو العَصا مائةً من الإبلِ مُغلَّطةً، منها أربَعونَ خَلِفَةً في بُطونِها أولادُها". قوله: "ألا إن في قتيلِ العبد الخطأ بالسوط ... " إلى آخره، (ألا): كلمة تنبيه، و (قتل العبد الخطأ): عبارة عن شبه العمد، وفي الحديث دليل على إثبات العبد الخطأ في القتل، وعند بعضهم القتل قسمان: عمد مَحض، وخطأ مَحض، وشبه العمد لا يُعرف، وهو قول مالك. وأما استدلال أبي حنيفة بحديث ابن عمر على أن القتل بالمثقل شبه عمد لا يوجب القصاص، فليس له حجة في ذلك؛ لأن الحديث في السَّوط والعصا الخفيف الذي لا يقصد به القتل، فإذا حصل منه القتل يكون ذلك شبه عمد، فأما المُثقل الكبير فيلحق بالمحدد المُهيَّأ للقتل، هذا معنى كلام الشيخ في "شرح السنة". * * * 2620 - عن أبي بكرِ بن محمَّد بن عَمرِو بن حزمٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى أهلِ اليمنِ، وكانَ في كتابه: أنَّ مَن اعتَبَطَ مؤمِنًا

قتلاً فإنَّه قَوَدُ يدِهِ، إلا أنْ يَرضَى أولياءُ المقتولِ، وفيه: أنَّ الرَّجلَ يُقتَلُ بالمرأةِ، وفيه: في النَّفسِ الدِّيَةُ، مائةٌ مِن الإِبلِ، وعلى أهلِ الذَّهبِ ألفُ دينارٍ، وفي الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعُه الديةُ مائةٌ من الإِبلِ، وفي الأسْنانِ الدِّيةُ، وفي الشِّفتَيْنِ الدِّيةُ، وفي البيضَتَينِ الدِّيةُ، وفي الذَّكَرِ الدِّيةُ، وفي الصُّلْبِ الدِّيةُ، وفي العَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وفي الرِّجْلِ الواحدةِ نصفُ الديةِ، وفي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدَّيةِ، وفي الجائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيةِ، وفي المُنَقِّلَةِ خمسَ عشْرةَ من الإِبلِ، وفي كُلِّ إِصبَعٍ مِن أصابعِ اليدِ والرِّجْلِ عَشْرٌ من الإِبلِ، وفي السِّنِّ خَمسٌ من الإِبلِ. وفي رواية: وفي العينِ خَمسُونَ، وفي اليدِ خمسونَ، وفي الرِّجْلِ خمسونَ، وفي المُوضحَةِ خَمْسٌ. قوله: "منَ اعتَبَطَ مؤمنًا قتلاً فإنه قَوَدُ يدِهِ"، (عَبَطْتُ النَّاقة واعتبطتُها): إذا ذبحتُها وليس بها علة، فهي عَبيْطَة؛ يعني: مَنْ قتلَ مؤمنًا من غير جنايةٍ وجُرْمٍ موجبٍ ذلك (فإنه قود يده)؛ أي: فإن ذلك القتل موجبٌ للقصاص جزاءً لفعل يده الخاطئة. قوله: "وفيه: أنَّ الرجلَ يُقتل بالمرأة"، الضمير في (فيه) يعود إلى الكتاب. قوله: "وفي الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعُه الديةُ مئةٌ من الإبل"، (أُوْعِبَ جدعه)؛ أي: قطع الأنف من أصله. قوله: "وفي البيضتين الدية"؛ أي: في قطع البَيْضَتَيْن، (البَيْضَةُ) ها هنا: الخصية "الصُّلب": الظهر. قوله: "وفي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الديةِ"، (المَأْمُومَة): هي التي تبلغ أمَّ الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به، وتسمى أمه؛ لأنها بلغت أم الرأس. قوله: "وفي الجائفة ثلث الدية"، (الجائفة): وهي أن يضرب ظهره أو

بطنه أو صدره، فينفذه إلى جوفه، فإن خرجت من الجانب الآخر فهي: جائفتان. قوله: "وفي المنقَّلة خمسة عشر من الإبل"، (المنقَّلة) بكسر القاف: هي التي تنقل العظم. قوله: "وفي الموضحة خمس"، (الموضحة): هي التي توضح العظم؛ أي: تظهره. * * * 2624 - عن عمْروِ بن شُعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: خطبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتحِ ثم قال: "أيُّها الناسُ إنَّه لا حِلْفَ في الإِسلامِ، وما كانَ مِنْ حِلفٍ في الجاهليةِ فإنَّ الإِسلامَ لا يَزيدُه إلا شِدَّةً، المؤمنونَ يدٌ على مَن سِواهم، يُجِيرُ عليهم أَدْناهم، ويَرُدُّ عليهم أَقصاهُم، ويَرُدُّ سَراياهم على قَعِيدَتِهم، لا يُقتَلُ مؤمن بكافرٍ، دِيَةُ الكافرِ نِصفُ دِيةِ المسلم، ولا جَلَبَ ولا جَنَبَ، ولا تُؤخذُ صَدقاتُهم إلا في دُورِهم". ويروى: "دِيَةُ المُعاهِدِ نصفُ دِيةِ الحرَّ". قوله: "عامَ الفتح"؛ أي: فتح مكة. "لا حِلْفَ في الإسلام"، (الحِلف) بكسر الحاء: العهد بين قوم، (حالف): إذا عاهد، قيل: (الحِلف والمُحَالفة): عبارة عن جريان التحالف بين قوم في الجاهلية على أن سِلْمَ بعضهم سِلْمُ كلهم، وحَرْبَ بعضهم حربُ كلهم، وأن يرثَ بعضُهم بعضًا، ويغرم بعضهم بعضًا، فإذا جاء الإسلام دفع هذه القاعدة من أصلها وأبدلها بالمؤاخاة والأخوة، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

قوله: "ويردُّ سراياهم على قَعِيدَتِهم": المراد بـ (القَعيدة): الجيش الذين نزلوا قرب دار الحرب، والباقي مفسر قبل هذا. قوله: "ولا جَلَبَ ولا جَنَبَ" قد فسره الإمام مظهر الدين رحمه الله في (كتاب الزكاة). قوله: "ديةُ المعاهدِ نصفُ ديةِ الحُرِّ": قال في "شرح السنة": ذهب مالك وأحمد إلى أن ديته نصف دية الحر المسلم، غير أن أحمد قال: إذا كان القتل خطأ، فإن كان عمدًا لم يُقد به ويُضاعف عليه اثنا عشر ألفًا. وقال أصحاب الرأي: ديتُهُ مثلَ دية المسلم، وقال الشافعي: ديتُهُ ثلث دية المسلم، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأربعة الآلاف ثلث الدية. * * * 2627 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: كانت قيمةُ الدَّيَةِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان مئةِ دينارٍ، أو ثمانيةَ آلافِ درهم، وَدِيَةُ أهلِ الكتابِ يومَئذٍ النِّصفُ من دِيَةِ المسلمين. قال: فكانَ كذلكَ حتى استُخلِفَ عمرُ فقامَ خطيبًا فقال: إنَّ الإِبلَ قد غَلَتْ، فَفَرَضَها عمرُ - رضي الله عنه -: على أهلِ الذهبِ ألفَ دينارٍ، وعلى أهلِ الوَرِقِ اثني عَشَرَ ألفًا، وعلى أهلِ البقرِ مائتَي بقرةٍ، وعلى أهلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شاةٍ، وعلى أهلِ الحُلَلِ مائتي حُلَّةٍ، قال: وتَركَ دِيَةَ أهلِ الكتابِ لمْ يرفعْها. قوله: "حتى استُخلِفَ عمر"؛ أي: جعل خليفة. "فقام خطيبًا"؛ أي: وعظنا فقال: "إن الإبل قد غلت"، (الغلاء): ارتفاع السعر؛ أي: إن الإبل قد زادت قيمتها، "ففرضها عمر - رضي الله عنه -": فقدرها، و"الورق":

الفضة، و"الحُلَل": جميع حلة، وهي عبارة عن إزار ورداء. قال في "شرح السنة": وذهب الشافعي في القديم إلى أن التقدير الذي قدَّره عمر - رضي الله عنه - عند إعواز الإبل، فأوجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلاً من بني عدي قُتل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثنا عشر ألفًا. وذهب مالك وأحمد إلى أن الواجب في الدية مئة من الإبل أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم. وذهب أبو حنيفة إلى أنها مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. * * * 2629 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَوِّمُ دِيَةَ الخطأ على أهلِ القُرى أربعَ مئةِ دينارٍ إلى ثمان مئةِ دينار، أو عَدْلَها مِن الوَرِقِ، ويُقَوَّمُها على أَثمانِ الإِبلِ، فإذا غَلَتْ رَفَعَ في قيمتِها، وإذا هاجَتْ برُخْصٍ نَقَصَ مِن قيمتِها، وبلغَتْ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما بينَ أربع مئةِ دينارِ إلى ثمان مئةِ دينارٍ، أو عَدْلِها مِن الوَرِقِ ثمانيةِ آلافِ درهمٍ، قال: وَقَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أهلِ البقرِ مائتي بقرةٍ، وعلى أهلِ الشَّاءِ أَلْفي شاةٍ، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ العَقْلَ ميراثٌ بينَ ورثةِ القتيلِ، وقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ عَقْلَ المَرأةِ بينَ عَصَبَتِها ولا يَرِثُ القاتِلُ شيئًا. قوله: "يُقَوِّمُ ديَةَ الخطأ على أهل القرى أربع مئة دينار"، (التقويم): جعل شيء ذا قيمة معينة، (القُرى): جمع قرية. قوله: "وإذا هاجَتْ رُخْصٌ"، (هاج): ثار، و (ظهر الرُّخْصُ): ضد الغلاء، و (عَدلها) بفتح العين: مثلها.

وفيه دليل على أن الأصل في الدية الإبل، فإذا أعوزت تجب قيمتها ما بلغت، وهو قول الشافعي في الجديد، ذكره في "شرح السنة". قوله: "إن العَقْلَ ميراثٌ بين ورثةِ القتيل"، (العقل): الدية، بمعنى: ديةُ القتيل موروثةٌ، كما أن المالَ موروثٌ، يرثها ورثة القتيل من النسب والسبب جميعًا. قوله: "أنَّ عَقْلَ المرأةِ بين عصبَتِها، ولا يرثُ القاتلُ شيئًا"، (العصبة والعصابة): الجماعة؛ يعني: الدية التي تجب بجناية المرأة على العصبة الذين يسمون بالعاقلة، وليست كجناية العبد؛ فإن عاقلته لا تحمل عنه، بل يتعلق برقبته ودية الجاني الحر إذا كان خطأ تتحملها العاقلة وجوبًا، قد ذكر شرح العقل ومأخذه في أول الباب. * * * 2631 - وقال: قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العينِ القائمةِ السَّادَّةِ لمكانِها بثلثِ الديَةِ. قوله: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العين القائمة السَّادَّة لمكانها بثلث دية"، (العين القائمة السادة لمكانها): عبارة عن حدقة أعمى، ففي قلعها ثلث الدية عند إسحاق فإنه عمل بظاهر الحديث، وعند غيره من العلماء ما وجب إلا الحكومة. قال في "شرح السنة": معنى (الحكومة) أن يقال: لو كان هذا المجروح عبدًا كم كان ينتقص بهذه الجراحة من قيمته، فتجب من ديته بذلك القدر، وحكومة كل عضو لا يبلغُ بدَلَه المقدَّر، حتى لو جُرح رأسه جراحة دون الموضحة لا يبلغ حكومتها أرش الموضحة وإن قبح شينها. * * *

2633 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدَّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ طِبٌّ فهو ضامِنٌ". قوله: "منَ تَطَببَ ولم يُعلم منه طِبٌّ فهو ضامن": قال في "الصحاح": (المتطبب): الذي يتعاطى علم الطب؛ أي: يخوض فيه؛ يعني: مَنْ شرع في علم الطب ولا يكون مشهورًا فيه، فإذا عالج مريضًا فهو ضامن. وتلخيص البحث: أنَّ مَنْ عالجَ مريضًا وتعدَّى في علاجه، فمات المريض، صار ضامنًا، والذي تعاطى علمًا أو عملًا ولا يعرف ذلك فهو متعدي، فإذا تولد من فعله الهلاك، فهو ضامن لا محالة، ولكن يسقط عنه القصاص؛ لأنه ما عالج مستبدًا بل عالج بإذن المريض، فإذا كان مأذونًا من عنده تكون مرتبته مرتبة جناية الخطأ، فلهذا أوجب عامة الفقهاء دية جناية الطبيب على عاقلته، هذا معنى كلام الخطابي رحمه الله. * * * 2634 - عن عمران بن حصين: أنَّ غُلامًا لأُناسٍ فقراءَ قَطَعَ أُذُنَ غلامٍ لأُناسٍ أغنياءَ، فأَتَى أهلُهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إِنَّا أُناسٌ فقراءُ، فلَمْ يجعلْ عليهم شيئًا. قوله: "أنَّ غلامًا لأناسٍ فقراءَ قطعَ أُذُنَ غلامٍ لأُناسٍ أغنياءَ ... " الحديث، المراد بـ (الغلام الجاني): الحر لا الرقيق، والمراد بـ (جنايته): جناية خطأ، وعاقلته كانوا فقراء، والعاقلة لا يتحملون الدية إلا إذا كانوا ذوي قدرة وسَعَة، وإلا فليس على الفقراء شيء، فلهذا ما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئًا، أما الرقيق إذا جنى على رقيق أو على حرًّ فأرش جنايته يتعلق برقبته عند جميع العلماء، وفقر مولاه لا يدفع عنه ذلك. * * *

3 - باب ما لا يضمن من الجنايات

3 - باب ما لا يُضْمَنُ من الجنايات (باب ما لا يضمن من الجنايات) مِنَ الصَّحَاحِ: 2635 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْماءُ جُرْحُها جُبارٌ، والمَعدِنُ جُبارٌ والبئرُ جُبارٌ". قوله: "العَجماءُ جُرحها جُبَارٌ، والمَعدِنُ جُبارٌ، والبئرُ جُبار" قال الخطابي رحمه الله: (العَجمَاءُ): البهيمة، وسميت عجماء لعجمتها، وكل من لم يقدر على الكلام فهو أعجم، ومعنى (الجُبَار): الهدر، وإنما يكون جرحها هدرًا إذا كانت منفلتة عائرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق. وأما (البئر): فهو أن يحفر الرجل بئرًا في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان، فإنه هدر لا ضمان عليه فيه، وقد يتأول أيضًا بالبئر التي تكون بالبوادي، يحفرها الإنسان فيحييها بالحفر والإنباط، فيتردى فيها إنسان فيكون هدرًا. و (المعدن): ما يستخرجه الإنسان من معادن الذهب والفضة ونحوهما، فيستأجر قومًا يعملون فيها، فربما انهارت على بعضهم، يقول: فدمائهم هجر؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، فزال العنت عمن استأجرهم. * * * 2636 - وعن يَعْلى بن أُميَّةَ قال: غَزَوْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جيشَ العُسْرَةِ وكانَ في أَجيرٌ، فقاتلَ إنسانًا فَعَضَّ أحدُهما يدَ الآخرِ، فانتزَعَ المغضُوضُ يدَه مِن فِيْ العاضِّ فأنْدَرَ ثَنِيَّتَه فسقطَتْ، فانطلقَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَهدَرَ ثَنِيَّتَه وقال: "أَيَدَعُ يدَهُ في فيكَ تَقضمُها كالفَحْلِ؟ ".

قوله: "غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشَ العُسْرة"، قال ابن عرفة: سُمَّي جيشُ تبوك جيشَ العسرة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس إلى الغزو في حَمَارَّةِ القَيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إِبَّان ابتياع الثمر، ذكره في "الغريبين". (حَمَارَّة القيظ): شدة الحرارة، (إِبَّان) بمعنى حين. قوله: "فانتزعَ المعضوضُ يدَهُ مِنْ فِيِّ العَاضِّ فأَنْدَرَ ثنيَّتَهُ"، (انتزع ونزع) بمعنى واحد، (المعضوض) مفعول من عَضَّ: إذا أخذ بالسنِّ؛ يعني: جَرَّ الذي عُضَّتْ يده من فم ذلك العاض، فأسقط سنًا واحدة من أسنانه. قوله: "أَيَدَع يدَهُ في فيكَ تقضمُها كالفحل"، قال - صلى الله عليه وسلم - للعاضِّ على سبيل الإنكار: أيتركُ يدَهُ في فمك (تقضمها)؛ أي: تأكلها، كما يقضمها الفحل من الإبل. فيه دليل على أن دفع الصَّائل عن نفسه جائز، وإنه إذا لم يمكن الخلاص إلا بقتله كان دمه مهدرًا. * * * 2637 - وعن عبدِ الله بن عَمرٍو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن قُتِلَ دونَ مالِهِ فَهُو شَهيدٌ". قوله: "من قُتِلَ دونَ مالهِ فهو شهيدٌ"، (دون ماله)؛ أي: عند الدفع عن ماله. * * * 2638 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! أَرأيتَ إنْ جاءَ رجلٌ يُريدُ أخْذَ مالي؟ قال: "فلا تُعْطِه مالَكَ"،

قال: أرأيتَ إنْ قاتَلَني؟ قال: "قاتِلْهُ"، قال: أرأيتَ إنْ قتَلَني؟ قال: "فأنتَ شهيدٌ"، قال: أرأيتَ إنْ قتلتُه، قال: "هوَ في النَّارِ". قوله: "أرأيتَ إن جاءَ رجلٌ يريدُ أخذَ مالي"، (أرأيت)؛ معناه: أخبرني، وكذا (أرأيت) الذي بعده في هذا الحديث؛ معناه: أخبرني. قوله: "إنْ قتلتُه، قال: هو في النار" فيه دليل على أن دفع الصَّائل وإن هلك في الدَّفع مباح. * * * 2639 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لو اطَّلَعَ في بيتِكَ أَحدٌ ولم تَأذَنْ له، وخَذَفْتَه بحَصاةٍ فَفَقَأْتَ عينَهُ، ما كانَ عليكَ مِن جُناحٍ". قوله: "خذفته بحصاة ففقأت عينه"، (الخَذْفُ) بالخاء المنقوطة: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سَبَابَتَيْك. و (الحذف) بالحاء المهملة: رميك زيدًا بالعصا، والخذف - بالخاء المنقوطة - ها هنا. * * * 2640 - وعن سَهْلِ بن سَعدٍ: أنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ في جُحْرٍ مِن بابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بهِ رأسَهُ فقال: "لو أَعلمُ أنَّكَ تَنْظُرني لَطَعَنْتُ بهِ في عينِكَ، إنَّما جُعِلَ الاستِئْذانُ مِن أَجلِ البَصَرِ". قوله: "مِدْرًى يحكُّ به رأسه"، (المِدْرَى): قيل: هو الشيء شبه مِسَلَّةٍ تصلح به الماشطة قرون النساء، وقيل: هو شيء شبه سكين يُحَكُّ به الرأس. * * *

2641 - عن عبدِ الله بن مُغفَّلٍ - رضي الله عنه -: أنَّه رأى رَجُلاً يَخذِفُ فقال له: لا تَخذِفْ فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الخَذْفِ وقال: "إنه لا يُصادُ به صَيدٌ، ولا يُنْكَأُ به عدوٌّ، ولكنَّه قد يَكْسِر السِّنَّ ويَفقأُ العينَ". قوله: "ولا يُنْكَأُ به عدوٌّ"، نكَأتُ القَرحَةَ أنْكَؤُها نَكْأً: إذا قشرتها؛ يعني: لا يخرج عدو بحصى الخذف بل يكسر به الأسنان. و"يفقأ"؛ أي: يعمي به العيون. * * * 2642 - وقال: "إذا مرَّ أحدُكم في مسجِدنا، أو في سُوقِنا، ومعَه نَبْلٌ فليُمسِك على نِصالِها أنْ يُصيبَ أحدًا مِن المسلمينَ منها بشيءٍ". قوله: "فليمسِك على نِصالها أن يُصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء"؛ يعني: فليأخذْ نِصالها بيده؛ حذرًا من أن يصيب أحدًا من المسلمين من تلك النِّصال بشيء، أو كراهةَ أن يصيب. * * * 2643 - وقال: "لا يُشيرُ أحدكم على أخيهِ بالسِّلاحِ، فإنَّه لا يدري لعَلَّ الشَّيطانَ ينزِعُ في يدِه فيقَعُ في حُفرةٍ مِن النَّارِ". قوله: "لا يشيرُ أحدُكم على أخيه بالسلاح .... " إلى آخره، قال في "الصحاح": (نزَعَ) في القوس: مدها؛ يعني: لا ينبغي لأحدكم أن يشير إلى أخيه بالسلاح، لعلَّ الشيطان يجرُّ يدَ المشير إلى المشار إليه، فتقع يده مع السلاح عليه، فيقع المشير في النار، والضمير في (يده) يعود إلى (الأحد) الذي هو المشير. * * *

2647 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشِكُ إنْ طالَتْ بكَ مُدَّةٌ أنْ تَرَى قَومًا في أَيديهم سِياطٌ مثلُ أذنابِ البقرِ، يَغْدُونَ في غَضبِ الله، ويَرُوحونَ في سَخَطِ الله". ويُروى: "ويَروحونَ في لَعْنَتِهِ". قوله: "يوشِكُ إن طالَتْ بكَ مدةٌ أن ترى قومًا في أيديهم مثلَ أذنابِ البقر"، "يوشك"؛ أي: يسرع ويقرب، و"أن ترى": اسم (يوشك) ولا خبر له؛ لأنه ليس بناقص، "الغدو": نقيض الرواح، و"الرواح": من زوال الشمس إلى الغروب. يعني: قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: إن طال عمرُك يوشك أن ترى قومًا من خدمة الملوك والأمراء الظالمة، في أيديهم أخشاب أمثال أذناب البقر، يؤذون الناس بها، ويروعونهم ويسعون بين أيديهم، وعلى أعناقهم تلك الأخشاب، يطردون المارة بها عن الطرق، فهؤلاء القوم يَغْدُون في غضبِ الله، ويروحون في لعنته. * * * 2648 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صِنفانِ مِن أهلِ النَّارِ لم أَرَهُما: قومٌ معهم سِياطٌ كأَذنابِ البقرِ يضرِبُونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُمِيلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسُهنَّ كأَسنِمَةِ البُخْتِ المائلةِ، لا يَدخُلْنَ الجنَّةَ ولا يَجِدنَ ريحَها، وإنَّ ريحَها لتوجَدُ مِن مَسيرةِ كذا وكذا". قوله: "ونساء كاسياتٌ عارياتٌ"؛ يعني: أنهن يلبسن ثيابًا رقيقة، تحكي عن بشرتهن لمن ينظر إليهن، وإذا كان كذلك: فهن عاريات حقيقة كاسيات صورة، وقيل: كاسيات من نعمة الله تعالى، عاريات من شكره سبحانه. قوله: "مائلات مميلات": قال أبو بكر: قوله: (مائلات)؛ أي: زائغات عن استعمال طاعة الله وما يلزمهن من حفظ الفروج، و (مميلات): يُعَلَّمْنَ غيرَهُنَّ

الدخولَ في مثل فعلهن، يقول: أخبثَ فلانٌ فلانًا فهو مُخبث: إذا علمه الخبث فأدخله فيه، وفيه وجه آخر (مائلات): متبخترات في مشيهن، و (مميلات): يُمِلْنَ أكتافهن وأعطافهن، ذكره في "الغريبين". قوله: "رؤوسهن كَأسْنِمة البخت"، (الأَسْنِمَة): جمع سَنَام الإبل، (البُخت) بضم الباء: من الإبل، معرب، البَخَاتِي جمع: البُخْتِي. قيل: المراد أنهن يعظمن رؤوسهن بالخمر والعصائب حتى تشبه أسنمة البُخت. * * * 2649 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قاتَلَ أحدكم فليجتَنِبِ الوجْهَ، فإنَّ الله تعالى خَلَقَ آدمَ على صورَتِهِ". قوله: "إذا قاتَلَ أحدُكم فليجتنب الوجه فإن الله خلقَ آدم على صورَتِهِ"، (قاتل)؛ أي: حارب، (فليجتنب)؛ أي: فليحترز عن ضربهِ وجهَ مَنْ يقاتلُهُ، فإن الله سبحانه خلق ابن آدم على صورة آدم. ومعنى إضافة الصورة إلى آدم، وكل أحد خلق على صورة نفسه: التنبيهُ على اختراع عظيم في خلقه، إذ كل مخلوق قد تقدم له أمثال، فيُخلَقون على صورة أمثالهم المتقدمة، وأما آدم فاختُرِعَ خلقًا جديدًا عجيبًا، ملكيَّ الروح، حيوانيَّ الجسم، منتصبَ القامة، فلم يُوجد على مثال له تقدم. كأنه قال: ارتجل صورته اختراعًا لا تشبيهًا لمتقدم، ولا محاذيًا لخلق آخر لشيء له يشبهه، بل تولى القديمُ بنفسه خلقَ هذا الصورة إبداعًا جديدًا، وخَلْقًا عجيبًا، لم يسبقه ما يشبهه بصورة ما، وتعظيم وجه الإنسان ونسبته (¬1) إلى القديمِ ¬

_ (¬1) في "ق": "وتشبيه خلقه".

تعالى؛ إما لأنه أشرف جزء في الإنسان؛ إذ أكثر الحواس فيه، أو لأنه إذا عُدِمَ عدم الكل بخلاف بقية الأعضاء. فإن قيل: كيف المطابقة بعد النهي عن ضرب الوجه وبعد الإخبار بخلق آدم، وهذا ليس بآدم حتى يُنهى عن ضَرْبِ وجهه، إذ ضرب وجه آدم محرَّمٌ، بل جميع أعضائه لما ذكر من خلقه إياه؟ قيل: فيه إضمار كأنه قال: هذا المضروب من أولاد آدم، فاجتنبوا ضرب وجهه العضو الأشرف منه؛ احترامًا لهذا الوجه الذي يشبه وجه آدم عليه السلام. * * * مِنَ الحِسَان: 2650 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرِّجْلُ جُبارٌ". 2651 - وقال: "النَّارُ جُبارٌ". قوله: "الرِّجلُ جُبَارٌ"، "والنار جُبارٌ"، قال الخطابي: ذهبَ أصحابُ الرأي إلى أن الراكب إذا رَمَحَتْ دابتُهُ إنسانًا برجلها - أي: ضربت برجلها - فهو مهدر - أي: باطل -، وإن نَفَخَتْهُ بيدها - أي: ضربته - فهو ضامن، قالوا: وذلك أن الراكب يملك تصريفَهَا من قُدامها، ولا يملك ذلك منها فيما وراءها. وقال الشافعي: اليد والرجل سواء، لا فرق بينهما، وهو ضامن؛ لأنه إن كان فارسًا يقدر عليها من قدامها ومن ورائها جميعًا. * * * 2652 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كَشَفَ سِترًا

فأَدخَلَ بصرَهُ في البيتِ قبلَ أنْ يُؤذَنَ له فرأَى عَورةَ أهلِهِ فقد أَتَى حدًّا لا يَحِلُّ له أنْ يأتيَهُ، ولو أنَّه حينَ أَدخَلَ بصرَهُ فاستقبلَهُ رجلٌ ففقَأَ عينَهُ ما عَيَّرتُ عليهِ، وإنْ مرَّ الرَّجُلُ على بابٍ لا سِترَ له، غيرِ مُغلَقٍ، فنظرَ فلا خطيئةَ عليهِ، إنَّما الخطيئةُ على أهلِ البيتِ"، غريب. قوله: "مَنْ كَشَفَ سترًا فأدخل بصره في البيت ... " إلى آخره؛ يعني: مَنْ رَفَعَ سترَ بيتٍ، فنظر إلى مَنْ هو فيه مِن عورات أهله من غير إذن صاحبه. "فقد أتى حدًا"؛ أي: فقد فعل شيئًا يُوجب حدًا؛ يعني: أذنب ذنبًا صغيرًا، فيه يستحق التعزير والملامة؛ لأن فعل الذنب محرمٌ فمن ارتكب المحرم استحق الذنب والتعزير. قوله: "ففقأ عينه ما عَيَّرتُ عليه"، (التعيير) والتوبيخ واحد؛ يعني: من نظرَ إلى عورةِ أحدٍ في بيته بعد ما كشف ستر بيته من غير إذنه، أو نظر من ثقبه في ستر بيته أو في بابه، فإذا أعمى صاحبُ البيت عينَ الناظر في ذلك الوقت بشيء خفيفٍ كحصاة أو مِدرًى، فليس بضامن عند الشافعي، وعند أبي حنيفة ضامن. وقال بعضهم: إنما لا يضمن إذا زجَرَهُ فلم ينصرِفْ، هذا إذا كان الباب مغلقًا أو الستر مرسلًا (¬1)، فأما إذا كان الباب مفتوحًا أو الستر مرفوعًا، ونظر أحدٌ إلى من هو في ذلك البيت من النسوان، فلا ذنب عليه، فإن فعلَ به ما ذُكِرَ فهو ضامن. * * * 2654 - وعن الحسنِ، عن سَمُرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى أنْ يُقَدَّ السَّيْرُ بينَ أُصبَعَينِ. ¬

_ (¬1) في "م": "مغلقًا".

4 - باب القسامة

قوله: "نهى أن يُقَدَّ السَّيْرُ بين أُصبعين"، (القَدُّ): الشِّقُّ طولاً، و (السَّير): مَا يُقَدُّ من الجلد، (سُيُوْرُ) جمعه، هذا النهيُ نهيُ تنزيه، وإنما نهى مَنْ يفعل ذلك شفقةً له، كي لا يلحقه ضرر بذلك. * * * 2655 - وعن سعيدِ بن زيدٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتِلَ دونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ دمِهِ فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ مالِهِ فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ أهلِهِ فهو شَهيدٌ". قوله: "من قتل دون دينه فهو شهيد"؛ يعني: مَنْ قُتِلَ عند محافظة دينه، وعند محافظة نفسه، وذبِّ الصائل عنها، وعند حفظ ماله عن السارق، وعند محافظة أهله وحرمه عمن قصده، فهو شهيد إذا قُتِلَ عند كل واحدة من الأربعة المذكورة في الدفع. * * * 4 - باب القَسامة (باب القسامة) قال "شارح الوجيز": (القَسَامة) في اللغة: اسم الأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم، وفي الفقه: هي الأيمان، وهي اسم أُقيم مَقام المصدر يُقال: أَقْسَمَ إقْسَامًا وقَسَامَة، كما يقال: أَكْرَمَ إكرَامًا وكَرَامة. مِنَ الصِّحَاحِ: 2657 - عن رافعِ بن خَديجٍ، وسَهْلِ بن أبي حَثْمةَ: أنَّهما حدَّثا: أنَّ

عبدَ الله بن سَهْلٍ ومُحَيصَةَ بن مسعودٍ أَتَيا خيبرَ فتَفَرَّقا في النَّخلِ، فقُتِل عبدُ الله ابن سَهْلٍ، فجاءَ عبدُ الرحمنِ بن سَهْلٍ - رضي الله عنه -، وحُوَيصَةُ ومَحيصةُ ابنا مسعودٍ - رضي الله عنهما - إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فتَكلَّموا في أمرِ صاحبهم، فَبَدَأَ عبدُ الرحمنِ، وكانَ أصغرَ القومِ، فقالَ لهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كَبرِ الكُبْرَ" - يعني لِيَليَ الكلامَ الأكبرُ منكم - فتكلَّموا فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "استحِقُّوا قتيلَكُم - أو قال: صاحبَكُم - بأَيْمانِ خَمسينَ منكُم"، قالوا: يا رسولَ الله! أَمْرٌ لم نَرَهُ قال: "فتُبْرِئُكم يهودُ في أَيْمانِ خَمسينَ منهم"، قالوا: يا رسولَ الله! قومٌ كفارٌ، ففدَاهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قِبَلِهِ. وفي روايةٍ: "تَحلِفونَ خَمسينَ يَمِينًا وتستحِقُّونَ قاتِلَكُم - أو صاحِبَكُم -" فَوَداهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن عندِه بمئةِ ناقَةٍ". قوله: "فتكلموا في أمر صاحبهم"؛ يعني: قتيلهم. قوله: "كَبرِ الكُبْرَ"؛ أي: عظِّمْ من هو أكبرُ منك بأن تُفوض إليه الكلام. قال الخطابي: فيه إرشاد إلى الأدب في تقديم ذوي السنِّ والكبر. وفي رواية: "الكُبْرَ الكُبْرَ"، نُصِبَ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: قَدِّم الكُبْرَ. وفيه من الفقه: جوازُ الوكالة في المطالبة بالحدود، وفيه: جوازُ وكالة الحاضر، وذلك أن وليَ الدم إنما هو "عبدُ الرحمن بن سَهْلٍ" أخو القتيل و"حُوَيصَةُ ومَحَيصَةُ" ابنا عمه. قوله: "تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم" قال الخطابي: وفيه من الفقه: أن الدَّعوى في القسامة مخالفة لسائر الدَّعاوى، وأن اليمين بدأ فيها بالمُدَّعِي قبل المُدَّعَى عليه، وفيه دلالة على وجوب ردِّ اليمين على المدعي عند نكول المُدَّعَى عليه.

5 - باب قتل أهل الردة والسعاة بالفساد

وقد اختلف الناس فيمن يبدأ به في القسامة، فقال مالك والشافعي وأحمد: يُبدأ بالمُدَّعين قولاً بظاهر الحديث. وقال أصحاب الرأي: يبدأ بالمُدَّعى عليه على قضية سائر الدعاوَى، وهذا حكمٌ خاص جاءت به السنة لا يُقاس على سائر الأحكام، وللشريعة أن تخصَّ كما لها أن تعمَّ، ولها أن تخالف بين الأحكام المتشابهة في الصور كما لها أن توفق بينها. قوله: "فودَاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: أعطاه الدِية. * * * 5 - باب قتلِ أهل الرِّدَّةِ والسُّعاةِ بالفسادِ (باب قتل أهل الردة والسعاة بالفساد) و (السُعاة): جمع السَّاعي. مِنَ الصِّحَاحِ: 2658 - عن عِكرِمةَ قال: أُتيَ عليٌّ بزنادِقةٍ فأَحرقَهم، فبلَغَ ذلكَ ابن عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لَمْ أُحَرِّقهم لِنهيِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُعَذِّبُوا بعذابِ الله"، وَلَقَتَلْتُهُم لقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلُوه". قوله: "أُتِيَ عليٌّ بزنادقةٍ فأحرقَهم"، (الزنَادِقة): جمع زنديق، وهو الذي يُخفي الكفر، وأصل (الزنادقة): زناديق، فحذفت منها الياء وعوضت منها الهاء، ومعنى التعويض هنا: عدم اجتماعهما لا لمناسبة بينهما، بل هذه معاقبة لفظته متى حضر أحدهما دفع الآخر، ولو كان هو منه لوجب (¬1) منع صرف ¬

_ (¬1) في "ش": "ولو كان هو لوجب منه".

(زنادقة)، كما يمتنع صرف (زناديق). وقيل: (الزنديق) أصله: الزندي، كما يقول فلان: قرآني، ونصراني: إنجيلي، يُنسب كل واحد منهما إلى كتاب نبيه، و (زند) كتابٌ لهم؛ أي: للمجوس، أتى به زرادشت، وادَّعى أنه أتى به من السَّماء وأنه بخط الملائكة، والآخر بخط الله تعالى، ولمَّا وصلت العرب إلى هذا الاسم غيرته وعربته إلى الزنديق. وإنما سُموا بـ (الثنوية) لمقالتهم بالأثنوة؛ لأنهم يقولون: إن الله تعالى وهو بوذان تفكر في الأزل هل يخلق مثله أم لا؟ فحدث إبليس وهو المُسمَّى: أهَرْمَن عندهم، فنازع الحق تعالى، ثم اصطلحا على تقسيم العالم الأرضيات لإبليس، فالشرور والظلم منه، والسماويات لله تعالى، فالخيرات والنور منه. * * * 2660 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيخرجُ قومٌ في آخرِ الزَّمانِ حُدَّاثُ الأَسنانِ، سُفهاءُ الأحلامِ، يقُولونَ خَيْرَ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوزُ إيمانُهم حناجِرَهم يَمرُقونَ من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَمِيَّةِ، فأينما لقيتُموهُم فاقتُلوهُم، فإن في قَتْلِهم أجرًا لِمَن قَتَلَهم يومَ القيامَةِ". قوله: "حُدَّاثُ الأسنان سفهاءُ الأحلام"، (الحداث): جمع حَدَث (¬1)، و (الأسنان): جمع سِنٍّ، و (السفهاء): جمع سفيه، وهو الذي في عقله خفة؛ يعني: الذي لا يهتدي إلى عواقب الأمور ومصالح نفسه. ¬

_ (¬1) في "م" و"ق" و"ش": "حادث" ولعل الصواب ما أثبت.

قوله: "يقولون من خَيْرِ قَوْلِ البريَّة" يريد به نفسه - صلى الله عليه وسلم - أراد بـ (خير قول البرية): القرآن، و (البرية): الخلق، و (البرايا) جمع. قوله: "لا يجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم"، (الحناجر): جمع حنجرة، وهي الحلقوم؛ يعني: لا يكون إيمانهم عند الله تعالى مقبولاً مرضيًّا. قوله: "يمرقُون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِية"، يقال: (مَرَقَ السهمُ من الرَّمِيَّة مروقًا)؛ أي: خَرَجَ من الجانب الآخر. قال في "شرح السنة"؛ أي: يخرجون من الدين؛ أي: من طاعة الأئمة، و (الدين): الطاعة، وهذا نعت الخوارج الذين لا يدينون للأئمة، ويستعرضون الناس بالسيف. "الرَّمِيَّة": الصيد الذي تقصده فترميه، فـ (الرَّمية) فعيلة بمعنى مفعولة. قوله: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة": قال في "شرح السنة": إن قيل: كيف منع عمر - رضي الله عنه - عن قتلهم مع قوله: (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم)؟. قيل: إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا الناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نَجَمَ - أي: ظهر - من ذلك في زمان علي - رضي الله عنه -، فقاتلهم حتى قتل كثيرًا منهم. وكان ابن عمر يرى الخوارج شرار خلق الله وقال: إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. (يرى)؛ أي: يعتقد. وقال أيوب السختياني: إن الخوارج اختلفوا في الإسلام، واجتمعوا على السيف. معنى قول السختياني - والله أعلم -: أنهم اختلفوا في ماهية الإسلام وحقيقته، ثم رجع اختلافهم إلى أنهم يجب قتل مَنْ يخالفهم في الاعتقاد، فاتفقوا

على قتل من سواهم، واستحلوا دماء المسلمين بهذا الاتفاق. * * * 2661 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكونُ أُمَّتي فِرْقَتَينِ، فيخرجُ مِن بيِنِهما مارِقةٌ، يَلي قَتْلَهم أَوْلاهم بالحقِّ". قوله: "فيخرج من بينهما مَارِقةٌ يَلي قتلهم أولاهم بالحق"، (مارقة)؛ أي: فرقة مَارِقة، (يَلي)؛ أي: يقرب، (أولى): أفعل التفضيل، معناه: أقرب. يعني: يخرج من بين الفرقتين زمرة مارقة مَنْ يقومُ بقتلهم فهو أولاهم بالحق؛ أي: أولى المسلمين بالحق. * * * 2662 - عن جَرِيْرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ: "لا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّارًا يَضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ". قوله: "لا ترجِعُنَّ بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض"، (الرِّقاب): جمع رقبة. يتأول الخوارج هذا الحديث على الكفر، الذي هو الخروج عن الدين، ويستدلون بهذا الحديث على تكفير من ارتكب الكبيرة، وليس كذلك بل هو زجرٌ ووعيدٌ وتأوله أهل العلم فقال: معناه: لا تتشبهوا بالكفار في قتل بعضهم بعضًا، وقيل: هؤلاء أهل الردة الذين قتلهم أبو بكر، هذا قول محيي السنة في "شرح السنة". * * * 2663 - عن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التقى المُسلمانِ

فحَمَلَ أحدُهما على أخيهِ بالسِّلاحِ فهُما في جُرُفِ جَهنَّمَ، فإذا قَتَلَ أحدُهما صاحِبَهُ دَخلاها جميعًا". قوله: "إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما في جرت جهنم"، (المسلمان): فاعلُ فعلٍ مقدَّر، و (حمل) مفسرٌ لذلك المقدَّر، تقديره: وإذا حمل المسلمان حمل، (الجُرْفُ والجُرُفُ) مثل (عُسْرٌ وعُسُرٌ) ما تجري فيه السيول وأكلته من الأرض، والجمع: جِرَفَة، كـ (جُحْر وجِحَرَة). يعني: إذا حمل مسلمٌ على أخيه المسلم السلاح فهما قريبان من الهلاك، فكأنهما أوقفا في حرف جهنم. ومعلوم أن من وقف على حرف الوادي فهو متعرض للسقوط فيه في الشاهد فكذا في الغائب. قوله: "فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا": الفاء في (فإذا) جواب شرط مقدر؛ يعني: إذا ثبت ذلك، فإذا قتل أحد المسلمين صاحبه يدخلان جميعًا في جهنم؛ أما دخول القاتل في النار فظاهر، وأما دخول المقتول فلشغفه على قتل صاحبه واهتمامه بذلك، كما أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل في الحديث الذي بعده. * * * 2665 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ من عُكْلٍ فأَسْلَمُوا، فاجتَوَوْا المدينةَ فأَمَرهم أنْ يأتُوا إبلَ الصَّدقةِ فيشربُوا مِن أَبوالِها وأَلبانِها، فَفَعلوا فصَحُّوا، فارتَدُّوا وقتلُوا رُعاتَها واستاقُوا الإبلَ، فبَعثَ في آثارِهم فأُتيَ بهم،

فقطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعينَهم، ثُمَّ لم يَحْسِمْهم حتى ماتوا. ويروى: "فسَمِّروا أعينَهم". ويروى: فَأَمَرَ بمساميرَ فأُحمِيَتْ فَكَحَّلَهم بها، وطرَحهم بالحرَّة يَستسقونَ فما يُسْقَونَ حتَّى ماتوا. قوله: "قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من عُكْل فأسلموا فاجتَووا المدينة": (النفر) من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: كانوا ثمانية. قال في "الصحاح": (عُكْل) قبيلة وبلد أيضًا، يقال: (اجتوى البلد)؛ أي: كره المقام به وإن كان في نعمة؛ يعني: أسلم هؤلاء النفر، فما وافقهم ماء المدينة وهواءها، فمرضوا وكرهوا الإقامة بها. قوله: "فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها": فيه دليل لأحمد فإنه يقول بطهارة بول ما يؤكل لحمه، والأئمة الباقية يحملون الحديث على التداوي ويستدلون به في التداوي بالنجاسة عند الحاجة. قوله: "وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل"، (الرُّعاة): جمع الراعي، (استاق وساق) بمعنى واحد. يعني: هؤلاء الثمانية إذا شربوا أبوال الإبل وألبانها صَحَّتْ أبدانهم، ثم قتلوا رعاة الإبل مرتدين، وساقوا الإبل سارقين إلى ديارهم كفرانًا لأنعمه تعالى. قوله: "وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا"، و (سمل العين): فقؤها، يقال: سُمِلَتْ عينُه تُسْمَلُ: إذا فُقِئَتْ بحديدةٍ مُحمَّاة، ذكره في "الصحاح". (الحَسْمُ): القَطع، ومنه: حَسْمُ العِرْقِ؛ أي: كَيُّه لينقطع دم المحسوم. قوله: "فسَمَرُوا أعينهم"، (سَمَرَ): إذا كحل بمسامير محماة. قال ابن الأعرابي: "الحَرَّة" حجارةٌ سُودٌ بين جبلين، وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثلتهم لأنهم قطعوا أيدي الرعاة وأرجلهم، وفقأوا أعينهم، ففعل بهم ما فعلوا

بالرعاة قصاصًا بمثل صنيعهم، وهذا كان قبل النهي عن المُثْلة، فالآن لا تجوز المُثْلة بحال. * * * مِنَ الحِسَان: 2667 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عبدِ الله، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فانطلقَ لحاجتِهِ، فرأينا حُمَّرَةً معها فَرخانِ فأَخذنا فرخَيْها، فجاءتْ الحُمَّرةُ فجعلَتْ تُفَرِّشُ، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ فَجَّعَ هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها"، ورَأَى قريةَ نملٍ قد حرَّقناها قال: "مَن حرَّقَ هذه؟ " فقلنا: نحن، قال: "إنَّه لا ينبغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ، إلا رَبُّ النَّارِ". قوله: "فانطلق لحاجته"؛ أي: ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قضاء حاجته الإنسانية. قوله: "فرأينا حُمَّرَة معها فرخان"، (الحُمَّرَة): ضرب من الطير كالعصفور، و (الفرخ): ولد الطير. قوله: "فجعلت تُفَرِّش"، (جعلَتْ)؛ أي: طفقت، (تُفَرِّش) أصله: تتفرش، فحذفت إحدى التائين. قال في "الصحاح": تفرش الطائر: رفرف بجناحيه وبسطهما. قال في "الغريبين": معنى (تُفَرِّش)؛ أي: تَقْرب من الأرض، وتُرَفرف بجناحيها. قيل في رواية: "تعرش" بالعين؛ أي: تجعل جناحيها عريشًا لها، وهو عبارة عن حفظ الحُمَّرَة فرخيها. قيل: في (كتاب أبي داود): "فجعلت تفرُش أو تعرُش" بالضم، من

التفريش والتعريش. قال الخطابي: (التفريش) مأخوذ من فرش الجناح وبسطه، و (التعريش): أن ترتفع فوقهما وتظلل عليهما. قوله: "مَنْ فَجَعَ هذه بولدها"، (التَّفْجِيْعُ): الإيجاع، يقال: (فَجَعَتْهُ) المصيبةُ، و (فَجَّعَتْهُ)؛ أي: أوجعته؛ يعني: مَنْ أذى هذا الطائر بأخذ ولدها. قوله: "ردُّوا": أمر استحباب، لا أمر إيجاب؛ لأن اصطياد فرخ الطائر جائز. قوله: "قرية نمل"؛ أي: محلها، و (النَّمل): جمع نملة. * * * 2668 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكونُ في أُمتي اختلافٌ وفُرْقةٌ، قوم يحسِنُونَ القِيلَ ويُسيؤون الفِعلَ، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقِيَهم، يَمرُقونَ مِن الدِّينِ مُرُوقَ السَّهمِ مِن الرميَّة، لا يَرجِعونَ حتى يرتدَّ السَّهمُ على فُوقِه، هم شرُّ الخلقِ والخليقةِ، طُوبَى لمن قَتَلهم وقتلُوه، يَدْعونَ إلى كتابِ الله ولَيْسوا مِنا في شيءٍ، مَنْ قاتَلَهم كانَ أَوْلَى بالله مِنهم، قالوا: يا رسولَ الله ما سِيماهُم؟ قال: التَّحْلِيقُ". قوله: "قوم يحسنون القيل"، (القِيل): القول. قوله: "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم"، (التَّرَاقي): جمع تَرْقُوَة، وهي عظم وصل بين ثُغْرة النَّحر والعَاتِق؛ يعني: قرائتهم تظهر في الحناجر فحسب، بحيث يسمع منها أصوات مجردة، ولا مَدخل لها في قلوبهم؛ لكونها قاسية مظلمة لا تقبل ذلك. قوله: "لا يرجعون حتى يرتدَّ سهم على فُوْقِهِ"، (الفُوق): بضم الفاء موضع

الوتر من السهم، الأفواق جمع؛ يعني: لا يرجعون إلى طاعة الله ورسوله حتى يرجع السهم المرمي إلى فُوقه، عَلَّقَ رجوعهم إلى الدين بأمر مُحال؛ ليفهم أنهم لا يرجعون أبدًا إلى الدين، كما علق الله تعالى دخول الكفار الجنة بشيء مستحيل عقلاً وقال: "ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط". قوله: "هم شر الخلق والخليقة"، (الخلق والخليقة) واحد إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكرهما معًا للتأكيد، وقيل: أراد بـ (الخليقة) مَنْ خُلِقَ، وبـ (الخلق) من سيُخْلَق. قوله: "ما سيماهم؟ قال: التحليق"، (السِّيماء): العلامة، (التَّحليق): حلق شعر الرأس. فإن قيل: التحليق ركن أو واجب في الحج على خلاف فيه، أو سنة العلماء المحققين من المشايخ، فكيف وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الإباحة بذلك؟ قيل: التحليق لا محالة صفةُ مدح لكونه مندوبًا إليه، أو محبوبًا في نفسه، والشيء إذا كان مستحقًا للمدح لا يصير مذمومًا لكونه سمتًا لهم، وقد ذكر استيفاء الشرح في الحديث الثالث من الباب. * * * 2669 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: زنًا بعدَ إحصانٍ فإنَّه يُرجَمُ، ورجلٌ خرجَ مُحارِبًا للَّهِ ورسولِهِ فإنَّه يُقتَلُ أو يصلَبُ أو يُنفَى من الأرضِ، أو يَقتلُ نفسًا فيُقتَلُ بها". قوله: "زنًا بعد إحصانٍ فإنه يرجم"، (أحصنت المرأة): عفت، فهي محصنة - بكسر الصاد وفتحها -، ويعتبر في الإحصان ثلاث صفات: التكليف،

والحرية، والإصابة في نكاح صحيح، (الرجم): الرمي بالحجارة. يعني: مَنْ زنى بعد ما حصل له الإحصان، فهو يرمى بحجارة معتدلة حتى يموت. قوله: "خرج محاربًا لله ورسوله"؛ يعني به: قاطع الطريق، فقاطع الطريق إذا أخذ المال وقتل صاحبه، يقتل قتلاً واجبًا، لا كالقصاص الذي يَرِدُ فيه العفو، والفتوى أنه يُقتل ثم يُصلب ويترك ثلاثة أيام نَكَالاً وعبرة، فإذا قتل شخصًا ولم يأخذْ مالَه، يُقتل ولا يصلب، وإذا لم يصدر منه إلا تخويفُ الرفقة وسدُّ الطريق، يستحق التعزير بالحبس وغيره. * * * 2670 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يُرَوِّعَ مسلمًا". قوله: "لا يحل لمسلم أن يُرَوِّعَ مسلمًا"، (الترويع): التخويف. * * * 2671 - عن أبي الدَّرداءِ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أخذَ أرضًا بجِزْيَتِها فقد استقالَ هِجْرَتَه، ومَن نَزَعَ صَغارَ كافرٍ مِن عُنُقِهِ فجعلَه في عُنُقِه فقد ولَّى الإسلامَ ظهرَهُ". قوله: "من أخذ أرضًا بجزيتها فقد استقال هجرته"، (الجِزية): ما يُؤخذ من أهل الذمة، (جِزًى) جمع، قال الخطابي: معنى (الجزية) ها هنا: الخراج. ودلالة الحديث: أن المسلم إذا اشترى أرضًا خراجية من كافر؛ فإنَّ الخَراج لا يسقط عنه، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي إلا أنهم لم يَرَوا فيما

أخرجت من حَبٍّ عشرًا، أو قالوا: لا يجتمع الخراج مع العشر. وقال عامة أهل العلم: العشر عليه واجب فيما أخرجته الأرض من الحَب إذا بلغ خمسة أوسق. و (الخراج) عند الشافعي على وجهين: أحدهما: جزية، والآخر: بمعنى الكراء والأجرة، فإذا فتحت الأرض صُلحًا على أن أرضها لأهلها، فما وضع عليها من خَراج فمجراه مجرى الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، فمن أسلم منهم يسقط ما عليه من الخراج كما يسقط ما على رقبته من الجزية، ولزمه العشر فيما أخرجت أرضه. وإن كان الفتح إنما وقع على أن الأرض لنا ويؤدون في كل سنة منها شيئًا، فالأرض للمسلمين وما يؤخذ منهم عنها فهو أجرة الأرض، فسواء من أسلم منهم أو أقام على كفره. فعليه إذا ما اشترط عليه، ومن باع منهم شيئًا من تلك الأرضين فبيعه باطل؛ لأنه باع ما لا يملك، وهذا سبيل أرض السواد عنده - أي: عند الشافعي - هذا كله منقول من "المعالم" وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "استقال هجرته" لأنه حطَّ منصبه بوضعه على نفسه صَغَار أهل الذمة باشترائه أرضًا خراجية، فيطالب بالخَراج كما يطالب أهل الذمة، وسياق الحديث يدل على هذا التعليل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نزع صَغَار كافر من عنقه فجعله في عنقه، فقد ولَّى الإسلام ظهره"، (نزع): إذا جذب وجر، (الصَغار) بفتح الصاد: الذُّل، (ولَّى) أصله من (وَلِيَ): إذا قرب. يعني: مَنْ تحمل ذل كافر وجعله في عنقه فقد جعل الإسلام في جانب ظهره. * * *

2672 - عن جرِير بن عبدِ الله قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَرِيةً إلى خثعم، فاعتصمَ ناسٌ منهم بالسُّجودِ، فأسرعَ فيهم القتلُ، فبلغَ ذلكَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرَ لهم بنصفِ العَقْلِ وقال: "أنا بريءٌ مِن كلِّ مسلمٍ مُقيمٍ بينَ أَظْهُرِ المشركينَ"، قالوا: يا رسولَ الله! لِمَ؟ قال: "لا تَتَراءى ناراهُما". قوله: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى خَثْعَمَ، فاعتصم ناس منهم بالسجودِ، فأسرع فيهم القتل"، (بعث): أرسل، (السَّرية): قطعة من الجيش، (خَثْعَم): قبيلة. (اعتصم)؛ أي: تمسك وأخذ. يعني: جماعة من تلك القبيلة إذا رأوا الجيش شرعوا في السجود، فالجيش قتلوهم ولم يبالوا بسجودهم ظانين أنهم يستعيذون من القتل بالسجود، فإذا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم على القاتلين نصف ديتهم، وإنما لم يلزم عليهم الدية الكاملة؛ لأنهم قتلوا بجناية أنفسهم وجناية غيرهم بسبب أنهم أقاموا مسلمين في دار الحرب. قال في "شرح السنة": المسلم المضمون الدم لم يسقط ضمان دمه بالمقام فيما بين الكفار أصلاً، فلا يجوز أن ينتقض به الضمان. ألا ترى أن القاتل إذا عرف مسلمًا مقيمًا فيما بينهم فقتله من غير ضرورة، يجب عليه القصاص أو كمال الدية، ولا تجعل إقامته فيما بينهم مشاركة لقاتله في قتله، فتحتمل - والله أعلم - أن تكون الدية غير واجبة بقتلهم؛ لأن مجرد الاعتصام بالسجود لا يكون إسلامًا، فإنهم يستعملونه على سبيل التواضع والانقياد، فلا يحرم به قتل الكافر، فهؤلاء لم يحرم قتلهم بمجرد سجودهم، إنما سبيل المسلمين في حقهم التثبت والتوقف، فإن ظهر أنهم كانوا قد أسلموا ثم اعتصموا بالسجود فقد قتلوا مسلمًا مقيمًا بين أظهر الكفار ولم يعرفوا إسلامه، فلا دية عليهم غير أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر لهم بنصف الدية استطابة لأنفس أهلهم،

وزجرًا للمسلمين عن ترك التثبت عند وقوع الشبهة. قوله: "لا تتراءى ناراهما": قال في "الغريبين": لا يتَّسم المسلم بِسِمَةِ المشرك، ولا يتشبه به في هديه وشكله، ولا يتخلق بأخلاقه، من قولك: ما نارُ نعمك؛ أي: ما سمتها، وقرأت لأبي حمزة في تفسير هذا الحديث يقول: لا يجتمعان في الآخرة لبعد كل واحد منهما عن صاحبه. قال أبو عبيدة: يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لا يحل للمسلم أن يسكن بلاد المشركين، فيكون مسكنُ كل واحد منهما قريبًا من مسكن الآخر بحيث يرى كل واحد نار صاحبه. والثاني: أن المراد بها نار الحرب؛ أي: نار الطائفتين مختلفتان، فنار المسلمين تدعو إلى الله تعالى، ونار الكفرة تدعو إلى الشيطان فأنى تتفقان، فكيف يسكن المسلم في ديارهم، فإسناد الرؤية إلى النار مجاز. قال في "شرح السنة": جعل الرؤية للنار ولا رؤية لها، ومعناه: أن تدنوا هذه من هذه كما يقال: داري ينظر إلى دار فلان، وقيل: معناه: لا يستوي حكماهما يقول: كيف يساكنهم في بلادهم وحكم دينهما مختلف. قال ابن الأعرابي: النار ها هنا: الرأي، يقول: لا يشاورهم. * * * 2673 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِيمانُ قيَّدَ الفتْكَ، لا يفتِكُ مؤمنٌ". قوله: "الإيمانُ قيدُ الفَتْكِ لا يفتِكُ مؤمنٌ"، (الفتْكُ): قتلُ أحدٍ بغتةً، (قَيَّدَ): شدَّ ومنعَ؛ يعني: الإيمان يمنع صاحبه من قتل أحد بغتة، حتى يسأل عن إيمانه، كما يمنع المقيد قيده، فإذا كان كافرًا ينبغي أن يُدعى إلى الإسلام، فإن أبى يقتل.

قوله: "لا يفتِكُ" خبر بمعنى النهي. * * * 2674 - عن جريرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أَبَقَ العبدُ إلى الشِّركِ فقد حَلَّ دمُه". قوله: "إذا أبقَ العبدُ إلى الشركِ فقد حلَّ دمُه"، (أبق): إذا فرَّ وهرب؛ يعني: إذا هرب مملوك أحد إلى دار الشرك، فإذا ظفر أحد من المسلمين بقتله فلا شيء عليه. * * * 2675 - عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ يهوديةً كانتْ تشتُمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وتقعُ فيه، فخنقَها رجل حتى ماتَتْ، فأبطلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دمَها. قوله: "وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - دمَها". (وَقَعَ) في الناس (وقيعةً)؛ أي: اغتابهم، و (تقع فيه)؛ أي: تغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، (خَنَقَ يَخْنُقُ): إذا عَصَرَ حَلْقَهُ. وإنما أبطل - صلى الله عليه وسلم - دمها لكونها أبطلت ذمتها لشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصارت حربيةً بذلك، وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله تعالى ورسوله ودينه فهو حربي مباح الدم. 2676 - عن جُنْدُبٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ". قوله: "حدُّ الساحرِ ضربةٌ بالسيف"، قال في "شرح السنة": واختلف أهل العلم في قتل الساحر، روي عن عمرو بن دينار أنه سمع بَجَالَةَ تقول:

كتب عمر - رضي الله عنه -: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر. وروي عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ جاريةً لها سحرتْهَا، فأمرَتْ بها فَقُتِلَتْ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة، وغيرهم من أهل العلم، وهو قول مالك. وعند الشافعي: يُقتل السَّاحر إن كان ما يسحر به كفر، إن لم يتب، فإن لم يبلغ عمله الكفر، فلا يقتل، وتعلم السحر لا يكون كفرًا عنده إلا أن يعتقد قلب الأعيان منه، وذهب قوم إلى أن تعلمه كفر، وهو قول أصحاب الرأي. ° ° °

15 - كتاب الحدود

15 - كِتَابُ الحُدُودِ

[15] كِتَابُ الحُدُودِ (كِتَابُ الحُدُود) (¬1) (الحدود): جمع حَدٍّ، وهو المنع، يقال: حَدَدْتُ الرجلَ: أقمت عليه الحد؛ لأنه يمنعه عن المعاودة. مِنَ الصِّحَاحِ: 2677 - عن أبي هريرةَ، وزيدِ بن خالدٍ: أنَّ رَجُلينِ اختصَما إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ أحدُهما: اقضِ بينَنا بكتابِ الله، وقال الآخرُ: أجلْ يا رسولَ الله، فاقضِ بينَنا بكتابِ الله وائذنْ لي أنْ أَتكلَّمَ، قال: "تَكَلَّم"، قال: إنَّ ابني كانَ عَسِيفًا على هذا، فزنَى بامرأتِه فأَخبرُوني أنَّ على ابني الرَّجمَ، فافتدَيْتُ مِنهُ بمئةِ شاةٍ وبجَاريةٍ لي، ثم إني سألتُ أهلَ العِلْمِ فأَخبروني أنَّ على ابني جلدَ مئةٍ وتَغرِيبَ عامٍ، وإنَّما الرجمُ على امرأتِهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا والذي نفسي بيدِه لأَقضيَنَّ بينَكما بكتابِ الله تعالى، أَمَّا غَنَمُكَ وجاريتُكَ فردٌّ عليكَ، وأمَّا ابنك فعليهِ جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامٍ، وأمَّا أنتَ يا أُنَيْسُ فاغدُ على امرأةِ هذا فإنْ اعترفَتْ فارجمْها"، فاعترفَتْ فرجمَها. ¬

_ (¬1) في "ش": "باب الحدود".

قوله: "اقضِ بيننا"؛ أي: احكم بكتاب الله؛ أي: بحكم الله. "العَسِيفُ": الأجير، وإنما قال: "عسيفًا على هذا" ولم يقل: لهذا؛ نظرًا إلى جانب العَسِيْف، فإنَّ له على المستأجر الأجرة المسماة من جهة الخدمة والعمل، ولو قال: عسيفًا لهذا، لكان نظره إلى جانب المستأجر؛ لما يلزم له على العسيف العمل المسمى المعلوم. قوله: "ثم إني سألت أهل العلم"؛ أي: سألت العلماء عن هذه المسألة، فيه دليل على أن الاستفتاء من المفضول مع وجود الفاضل جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُنكر على السائل في ذلك. قوله: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بكتاب الله"، (أَمَا) كلمة تنبيه؛ يعني: تنبهوا. قال في "شرح السنة": قيل: المراد من (الكتاب): الفرض، يَقول: لأقضينَّ بينكما بما فرضه الله وأوجبه؛ إذ ليس في كتاب الله ذِكْرُ الرجم منصوصًا كذكر الجلد والقطع في السرقة، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض، قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي: فرضه. وقيل: (بكتاب الله)؛ أي: بحكم الله، وقوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41] أي: يحكمون. وقيل: ذِكْرُ الرجم وإن لم يكن منصوصًا عليه صريحًا، فإنه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] و (الأذى) يُطلق على الرَّجم وغيره من العقوبات، أو ضَمِنَ الكتابُ بأن يجعل لهنَّ سبيلاً، ثم بيَّنهُ عليه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقوله: "البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام": بيان حُكْم الكتاب.

وقد قيل: كان حكم الرجم منزلاً متلوًا فيما أنزل الله، فرفعت تلاوته، وبقي حكمه. وفيه دليل على أن للحاكم أن يبتدأ باستماع كلام أي الخصمين شاء، وفيه دليل على جواز الإجارة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر قوله: "إن ابني كان عسيفًا على هذا". وفي قوله: "أما غنمك وجاريتك فَرَدٌّ عليك"؛ أي: مردود، دليلٌ على أن المأخوذ بحكم البيع الفاسد، والصلح الفاسد مُستحق الرَّدِّ غير مملوك للآخذ. وفي قوله: "فإن اعترفت فارجمها" دليلٌ على أن مَنْ أقرَّ بالزنا على نفسه مرةً واحدة يُقام الحد عليه، ولا يشترط فيه التكرار، كما لو أقر بالسرِقة مرة واحدة يقطع، أو لو أقرَّ بالقتل مرة واحدة يُقْتَصُّ منه، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا يحدُّ ما لم يقر أربع مرات، غير أن أصحاب الرأي قالوا: ينبغي أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس، فإذا أقر أربع مرات في مجلس واحد فهو كإقرار واحد. قوله: "يا أُنيس" المراد به: الأنيس الأسلمي. قوله: "فاغدُ": أمر من غَدَا يَغْدُو: إذا مشى وقت الغَداة. * * * 2679 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الله تعالى بعثَ مُحمَّدًا بالحقِّ وأنزلَ عليهِ الكتابَ، وكان ممَّا أَنزلَ الله: آيةَ الرَّجمِ، فرجَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورَجَمْنا بعدَه، والرَّجمُ في كتابِ الله حقٌّ على مَنْ زَنَى إذا أُحْصِنَ، مِن الرجالِ والنساءِ إذا قامَتْ البينَةُ، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعترافُ.

قوله: "فكان مما أنزل الله تعالى آيةُ الرجم"، (الآية) اسم كان، (وما أنزل) خبره. فقول عمر - رضي الله عنه - وسكوت باقي الصحابة رضوان الله عليهم إجماع عند الشافعي على ثبوت الرجم بنصِّ آية رفعت تلاوتها من القرآن. قوله: "أو كان الحَبَلُ أو الاعتراف"، (الحَبَل): بفتح الباء: الحمل، و (الاعتراف): الإقرار. * * * 2680 - عن عُبادةَ بن الصَّامتِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلاً، البكرُ بالبكرِ جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائةٍ والرَّجمُ". قوله: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً"؛ أي: خذوا عنِّي هذا الحكم في حدِّ الزنا، وقد جعل الله لهن سبيلاً؛ أي: حَدًا واضحًا في حق المحصن وغيره، وإنما قال: "قد جعل الله لهن سبيلاً"، ولم يقل: لهم؛ لأنه تعالى قال في حق الزانيات: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] يعني: يأمر بشرع الحدِّ فيهن، فإذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرع الحد في الزناة تلفظ بما هو عبارة القرآن، وهو قوله: {لَهُنَّ سَبِيلًا}. * * * 2681 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا لهُ أنَّ رجلاً مِنهم وامرأةً زَنيَا، فقالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَجِدونَ في التوراةِ؟ " قالوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ، فقال عبدُ الله بن سَلاَم: كذبْتم، إنَّ فيها

الرجمَ، فأَتَوا بالتوراةِ فنَشَرُوها فوَضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بن سَلاَم: ارفَعْ يدَكَ فرفَعَ يَدَه، فإذا فيها آيةُ الرجمِ - ويروى: فإذا فيها آيةُ الرَّجمِ تلوحُ - فأَمَر بهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما. قوله: "أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ... " إلى آخره، قال في "شرح السنة": في هذا الحديث دليل على أن الذمي إذا أصاب بالنكاح الذي عقده على اعتقاده يصير محصنًا، وإن أنكحة الشرك يُعطى لها حكم الصحة ولولا ذلك لم يُقروا عليه بعد الإِسلام، ولم يجب الرجم عليهم بالزنا، وإذا كان لها حكم الصحة يحصل بها التحليل، حتى لو طلق امرأته الكتابية ثلاثًا، فنكحت ذميًا وأصابها حَلَّتْ لزوجها المسلم بهذه الإصابة، وكذلك المسلم إذا أصاب زوجته الكتابية يصير محصنًا، حتى لو زنى بعده يجب عليه الرجم، وهو مذهب الشافعي، وتأولوا هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمهما بحكم التوراة، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأن الله تعالى قال له: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، ولا يجوز أن يظن به - صلى الله عليه وسلم - أنه يتركُ حكمَ كتابه، وأمرَ الله تعالى بأن يحكم به، ويحكم بالمنسوخ، وإنما احتج عليهم بالتوراة استظهارًا. * * * 2682 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ وهو في المسجدِ فناداهُ: يا رسولَ الله! إنِّي زنيتُ، فأَعرضَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فتَنَحَّى لِشقِّ وجههِ الذي أَعرضَ قِبَلَه فقال: إنِّي زنيتُ فأَعرَضَ عنه، فلمَّا شَهِدَ أربعَ شهاداتٍ دعاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أَبكَ جنونٌ؟ " قال: لا، فقال: "أَحْصَنْتَ؟ " قال: نعم، يا رسولَ الله، قال: "اذهبُوا بهِ فارجمُوه".

قوله: "فتنحى لشقِّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه": قال في "شرح السنة": أي: قصد الجهة التي إليها وجهُهُ ونحا نحوها، من قولك: نحوتُ الشيء أنحُوه. * * * 2683 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ بالمصلَّى، فلمَّا أَذْلَقَتْه الحجارةُ فرَّ فأُدرِكَ فرُجِمَ حتى ماتَ، فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، وصلَّى عليهِ. قوله: "أَذْلَقَتْهُ الحجارة"؛ أي: بلغ منه الجُهد حتى قلق. و (الجُهد) بالضم: الطاقة، وقيل: مسته الحجارةُ بذلقها، و (ذلق) كل شيء: حده؛ أي: أصابته الحجارة بحدِّ طرفها. قال في "شرح السنة": يحتج بهذا الحديث من يشترط التكرار في الإقرار بالزنا حتى يقام عليه الحد، ويحتج أبو حنيفة لمجيئه من الجوانب الأربعة على أنه يشترط أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس، ومن لم يشترط التكرار قال: إنما رده مرة بعد أخرى بشبهة داخلة في أمره، ولذلك سأل: "أبكَ جُنون؟ "، فأخبر أن ليس به جنون، فقال: "أزنيت؟ "، قال: نعم، فأُمِرَ به فَرُجِمَ، فرده مرة أخرى للكشف عن حاله، لا أن التكرار فيه شرط. * * * 2684 - وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: "لمَّا أَتَى ماعِزُ بن مالكٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! زنيتُ فطهِّرْني، فقال لهُ: "لعلَّكَ قبَّلْتَ أو غَمَزْتَ أو نظرْتَ"، قال: لا يا رسولَ الله، قال: "أَنِكْتَها؟ " - لا يَكْني - قال: نعم، فعند

ذلك أمرَ بِرَجمِهِ. قوله: "لعلَّك قَبَّلْتَ أو غَمَزْتَ أو نظرْتَ؟ "، هذا دليل على أن مَنْ أقرَّ بما يوجب عقوبة لله تعالى على نفسه، فيجوز للإمام أن يُلَقِّنَهُ ما يسقط به عنه الحد. (النَّيْكُ): الجماع. قوله: "طهِّرني"؛ أي: طهِّرني بإقامة الحدِّ علي. * * * 2685 - عن بُريدَة قال: جاءَ ماعِزُ بن مالكٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! طهِّرني، فقال: "وَيْحَكَ، ارجعْ فاستغفر الله وتُبْ إليهِ"، قال: فرجعَ غيرَ بعيدٍ ثم جاءَ فقال: يا رسولَ الله! طهِّرني، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ذلكَ، حتى إذا كانتْ الرابعةُ قالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فممَّ أُطهِّرُكَ؟ " قالَ: مِن الزنا، فسألَ رسولُ الله: "أَبهِ جنونٌ؟ " فأُخبرَ أنَّه ليسَ بمجنونٍ، فقال: "أشربَ خمرًا؟ " فقامَ رجلٌ فاستَنْكَهَهُ فلم يجدْ منهُ ريحَ خمرٍ، فقال: "أَزَنيتَ؟ " قال: نعم، فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ، فلَبثُوا يومينِ أو ثلاثةً ثم جاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "استغفُروا لِماعزِ ابن مالكٍ، لقد تابَ توبةً لو قُسِمَتْ بينَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهم"، ثم جاءَتْه امرأةٌ مِن غامِدٍ من الأزْدِ فقالت: يا رسولَ الله! طهِّرني، فقالَ: "وَيْحكِ! ارجِعِي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: تُريدُ أنْ تُرَدِّدَني كما رَدَّدْتَ ماعِزَ بن مالكٍ، إنَّها حُبْلى مِن الزنا! فقال: "أنتِ؟ " قالت: نعم، قالَ لها: "حتى تَضَعي ما في بطنِكِ"، قال: فكَفَلَها رجلٌ من الأنصارِ حتى وضعَتْ، فأَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعَتْ الغامِديةُ، فقال: "إذًا لا نرجُمُها وندعُ ولدَها صغيرًا ليسَ له مَن تُرضعُه"، فقامَ رجلٌ مِن الأنصارِ فقال: إليَّ رَضاعُه يا نبيَّ الله، قال: فرجَمَها. ويروى أنَّه قالَ لها: "اذهبي حتى تَلِدي"، فلمَّا وَلَدَت قال: "اذهبي فأَرضعيهِ حتى تَفْطِميه"،

فلمَّا فطمَتْه أَتَتْه بالصبيِّ في يدِه كِسْرةُ خبزٍ فقالت: هذا يا نبيَّ الله! قد فطمْتُه وقد أكلَ الطعامَ، فدفعَ الصبيَّ إلى رجلٍ من المسلمينَ، ثم أمرَ بها فحُفِرَ لها إلى صدرها وأمَرَ الناسَ فرجمُوها، فيُقبلُ خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ فرَمَى رأسَها، فتَنَضَّح الدمُ على وجهِ خالدٍ فَسَبَّها، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مهلاً يا خالدُ! فوَالذي نفسي بيدِه لقد تابَتْ توبةً لو تَابَها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ لهُ"، ثم أَمَرَ بها فصلَّى عليها ودُفِنَتْ. قوله: "فاسْتَنْكَهَهُ": قال في "الصحاح": فاسْتَنْكَهْتُ الرجلَ فَنَكَهَ في وجهي يَنْكِهُ نَكْهًا: إذا أمرتُهُ بأن يَنْكَهَ، ليعلمَ أشاربٌ هو أم غيرَ شاربٍ، النَّكْهَةُ: ريحُ الفم. قوله: "فَكَفَلَهَا رجلٌ من الأنصار حتى وَضَعَتْ"، (كَفَلَهَا)؛ أي: ضمنها؛ يعني: صار كفيلاً لها وقائمًا بمصالحها حتى وضعت ولدها. قوله: "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا"، (إذًا) جواب وجزاء، (ندع)؛ أي: نترك؛ يعني: إذا وضعت ما في بطنها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إذن نؤخر رجمها حتى أرضعت ولدها. وفيه دليل على أنه إذا وجب الحدُّ على الحامل لا يقام عليها ما لم تضع الحمل؛ لأن الإذن في معاقبتها قبل الوضع إهلاك البريء بسبب المذنب، سواء كانت العقوبة لله تعالى أو للعباد. قوله: "فتقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها": وفي أكثر "نسخ المصابيح": "تقيل" على وزن (تفعل) بياء تحتها نقطتين؛ معناه: تتبع، وفي بعضها: "يقبل" على وزن (يَفعل) مضارع معروف من أقبل إقبالًا، فعلى هذا فكأن الراوي قال: رأيت خالدًا يقبل بحجر، على حكاية الحال، قيل: الثاني هو الرواية.

قوله: "فتنضَّحَ الدم": (تنضح يتنضح): إذا ترشش؛ يعني: وقع رشاش الدم من المرجومة على وجه خالد. قوله: "لو تابها صاحب مَكْسٍ لَغُفِرَ له". (المَكْسُ): الخيانة، و (الماكِسُ): العشار؛ يعني: الذي يأخذ العشور. * * * 2686 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال، سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُم فتَبَيَّنَ زناها فلْيَجْلِدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إنْ زَنَتْ فلْيجلِدْها الحدَّ ولا يُثرِّبْ، ثم إنْ زنَت الثالثةَ فتبيَّنَ زناها فليَبعْها ولو بحبْلٍ من شَعرٍ". قوله: "فليجلدْها الحدَّ ولا يثرِّبْ عليها"، (التثريب والتعيير) واحد؛ يعني: ينبغي أن يقام عليها الحد، ولا يقتصر على توبيخها ويترك الحد الواجب عليها، وقيل: إذا أقيم عليها الحدُّ فلا يجوز أن يعيرها أحد. قال في "شرح السنة": يجوزُ للسيد أن يقيم الحد على مملوكه من دون السلطان، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقيم المولى بنفسه بل يرفعه إلى الإمام. قوله: "فليبعها ولو بحبل من شعر"؛ يعني: إذا اعتادت الزنا فليبعها ولو بشيء قليل. قال في "شرح السنة": وفي الحديث دليل أن بيع غير المحجور بما لا يتغابن به الناس جائز، وفيه دليل على أن حد المماليك الجلد لا الرجم، وفيه دليل على أن الزنا عيب في المملوك يُرَدُّ به البيع، ولذلك حط من قيمته. * * *

2687 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: يا أيُّها الناسُ! أقيموا على أَرِقَّائِكُم الحدَّ، مَن أَحْصَنَ منهم ومَن لم يُحْصِنْ، فإنَّ أَمَةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زَنَتْ، فأَمَرَني أنْ أجلِدَها فإذا هيَ حديثُ عهدٍ بنفاسٍ، فخشيتُ إنْ أنا جلدتُها أنْ أقتُلَها، فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أحسنتَ". وفي روايةٍ قال: "دعْها حتى ينقطعَ دمُها ثم أَقِمْ عليها الحدَّ، وأقيمُوا الحدودَ على ما ملكَتْ أيمانُكم". قوله: "أقيموا على أَرِقَّائِكُم"، (الأَرِقَّاء): جمع رقيق، (الحدَّ): الجلد، والإحصان وعدم الإحصان في الرقيق سواء. قوله: (أقيموا) دليل على الوجوب على السادات إقامة الحد على المماليك إذا زنوا؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب. * * * مِنَ الحِسَان: 2688 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ ماعِزٌ الأسلَميُّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّه قد زنى - فذكر الحديثَ وقال - فلمَّا وجدَ مسَّ الحجارةِ فرَّ يشتدُّ حتى مرَّ برجلٍ معه لَحْيُ جملٍ فضَربَهُ بهِ وضَربَهُ الناسُ حتى ماتَ، فذَكرُوا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فرَّ فقال: "هلَّا تركتُموه". وفي روايةٍ: "هلَّا تركتُموه لعلَّه أنْ يتوبَ فيتوبَ الله عليهِ". قوله: "فَرَّ يشتدُّ"، (يشتد)؛ أي: يعدو. قوله: "لَحْيُ جملٍ"، (اللَّحي) بفتح اللام: منبتُ اللحية من الإنسان وغيره، ذكره في "الصحاح". * * *

2689 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لماعزٍ: "أَحَقٌّ ما بَلَغني عنكَ؟ " قال: وما بلغَكَ عني؟ قال: "بلغَني أنكَ وقعْتَ على جاريةِ آلِ فلانٍ"، قال: نعم، فشهدَ أربعَ شهاداتٍ فأَمَرَ به فرُجِمَ". قوله: "وقعت على جارية آل فلان"؛ أي: زنيت بها. * * * 2691 - وعن يزيدَ بن نُعيمٍ، عن أبيه: أنَّ ماعِزًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّ عندَه أربعَ مراتٍ، فأمرَ برجمِهِ وقال لهزَّالٍ: "لو سَتَرْتَه بثوبكَ كانَ خيرًا لك". قوله: "لو سترتَهُ بثوبكَ لكانَ خيرًا لك"، قيل: كناية عن التثريب على فعل هزَّال في هتك ستر ماعز؛ لأنه حرض ماعز على الإتيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغرضه من المجيء إليه - صلى الله عليه وسلم - فضيحَتَهُ، وهو أنه باعترافه على نفسه بالزنا؛ لأنه وقع على مولاة له اسمها فاطمة، وما فعل ذلك به إلا قصاصًا لفعله. * * * 2692 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعافَوا الحُدودَ فيما بينَكم فما بَلغني مِن حدٍّ فقد وَجَبَ". قوله: "تعافَوا الحدودَ فيما بينكم فما بلغني من حدٍّ فقد وَجَبَ"؛ يعني: الحدود التي بينكم ينبغي أن يعفوا بعضكم عن بعض قبل أن يبلغني ذلك؛ لأنه إذا بلغني ذلك وَجَبَ عليَّ إقامتُهُ عليكم، هذا الخطاب لغير الأئمة. * * * 2693 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقِيلُوا

ذَوي الهَيْئاتِ عَثَراتِهم إلا الحُدودَ". قوله: "أقيلوا ذوي الهَيْئَاتِ عثراتِهم": (أَقَاَلَ يَقِيْلُ): إذا عفا، (الهيئات): جمع هيئة، وهي صورة الشيء وشكله، يقال: فلان حسن الهيئة، (العثرات): جمع عثرة، وهي الزلة. قيل: أراد بـ (ذوي الهيئات): أصحاب المناصب والمروءات، وقيل: أهل الصلاح والورع؛ يعني: إن بدرت منهم زلة، فاعفوها عنهم، فإنها نادرة، والنادرة إذا كانت نادرة فهي بالعفو أولى. أما الحدود فلا يعفى عنها البتة فإنه - صلى الله عليه وسلم - استثنى الحدود عنها، واستثناء الحدود دليل على أن الخطاب للأئمة، فإنهم إذا بلغهم الحدود فلا يقدرون على عفوها. قال في "شرح السنة": وفيه دليل على جواز ترك التعزير، وأنه غير واجب، ولو كان واجبًا كالحد لاستوى فيه ذو الهيئة وغيره. * * * 2694 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرَؤوا الحدودَ عن المسلمينَ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنْ كانَ لهُ مَخْرَجٌ فخلُّوا سبيلَهُ، فإنَّ الإمامَ أنْ يُخطِئَ في العفوِ خيرٌ مِن أن يُخطِئَ في العقوبةِ" ولم يرفعْهُ بعضُهم وهو الأصحُّ. قوله: "ادرَؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استَطَعْتُم"، (درأ): دفع، و (استطاع): إذا أطاق، (ما) في (ما استطعتم) للدوام. قوله: "فإنَّ الإمام أن يُخطئَ في العفوِ خيرٌ من أن يُخطئَ في العقوبة"، (خَطِئَ): إذا أثم متعمدًا، و (أخطأ): إذا لم يتعمد.

قال الأزهري: قال غيره: (أخطأ) إذا سلك سبيل خطأ عامدًا أو غير عامد. لفظة: (فإن) علة للدرء، فـ: فإنَّ، ولأنَّ، وبأنَّ، وأنَّ مفتوح الهمزة: ترد للعلة. يعني: ادفعوا الحدود ما استطعتم قبل أن يصل إليَّ، فإن الإمام إذا سلك سبيل الخطأ في العفو الذي صَدَرَ منكم خيرٌ من أن يسلك الخطأ في الحدود، فإن الحدود إذا وصلت إليه وجبَ عليه الإنفاذ. * * * 2695 - عن وائلِ بن حُجْرٍ - رضي الله عنه - قال: استُكْرِهَتْ امرأةٌ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فدَرَأَ عنها الحَدَّ وأقامَهُ على الذي أصابَها، ولم يذكرْ أنَّه هل جعلَ لها مهرًا. قوله: "استُكْرِهَت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدَرَأَ عنها الحدَّ"، (استكره)؛ أي: أكره على الشيء، (العهد) ها هنا: الزمان. يعني: وقع أحدٌ على امرأة بالإكراه في زمان الوحي، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحدِّ الرجل، ولم يأمر بحدِّ المرأة لكونها مُكرهة. قوله: "ولم يَذكُرْ أنه جَعَلَ لها مهرًا" يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ للمكرهة مهرًا، ولم يذكره الراوي؛ لأن عدم ذكر الراوي أنه جعل لها مهرًا لا يدل على عدم وجوب المهر؛ لأنه ثبت وجوبه لها بإيجابه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه الأخر. * * * 2696 - عن علقمةَ بن وائلٍ، عن أبيه: أنَّ امرأةً خرجَتْ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تريدُ الصلاةَ، فتلقَّاها رَجُلٌ فتَجَلَّلَها فقَضَى حاجتَه منها، فصاحَتْ وانطلقَ، ومرَّتْ عِصابةٌ مِن المُهاجرينَ فقالَت: إنَّ ذلكَ فعلَ بي كذا وكذا،

فأخذوا الرَّجُلَ فأَتَوا بهِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "اذهبي فقد غفرَ الله لكِ"، وقالَ للرَّجُل الذي وقعَ عليها: "ارجمُوهُ"، وقال: "لقد تابَ توبةً لو تابَها أهلُ المدينةِ لَقُبلَ منهم". قوله: "فتلقَّاها رجل فتجلَّلها فقضى حاجته"، (تلقى): إذا استقبل، (تجلَّلها): إذا علاها، (قضى حاجته): أصابها. قوله: "فقال لها: اذهبي قد غفرَ الله لك"؛ يعني: ما أمر بحدِّها لكونها مكرهة، ولكنه أمر بحدِّ الذي وقع عليها لكونه محصنًا. * * * 2698 - عن سعيدِ بن سعدِ بن عُبادةَ: أنَّ سعدَ بن عُبادة أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ كانَ في الحيِّ مُخْدَجٍ سقيمٍ، فوُجِدَ على أَمةٍ مِن إمائِهم يَخْبُثُ بها فقال: "خُذُوا لهُ عِثْكالاً فيه مئةُ شِمْراخٍ فاضرِبُوهُ بهِ ضربةً". قوله: "أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ كان في الحيِّ مُخْدَجٍ سقيمٍ"، (المخدَج): ناقص الخلق، (سقيم): مريض. قوله: "فَوُجدَ على أمة من إمائهم يَخْبُثُ بها"؛ أي: فوجد واقعًا على أمة يزني بها. قوله: "خُذوا له عِثْكالاً فيه مئةُ شِمْراخٍ فاضربُوه به ضربة" واحدة بحيث تصبه الشماريخ كلها فيسقط عنه الحد، قال "في شرح السنة": (العِثْكَال والاِثْكَال): هو العِذْقُ الذي يسمى الكباشة، يقال: اِثكال واُثكَول وعِثكال وعُثكول، وأغصانه: شَماريخ، واحدها: شِمْرَاخ. قال الشافعي: هذا في مريض به مرض لا يرجى زواله، وإن كان به مرض يرجى زواله يُؤخر حتى يبرأ.

وكذلك لا يقام في الحرِّ والبرد الشديدين، بل يؤخر إلى اعتدال الهواء، هذا إذا كان غير محصن. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يضرب بالشماريخ ضربة واحدة بحيث تمسه الشماريخ كلها فيسقط الحد عنه. * * * 2699 - عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقُتلوه، الفاعِلَ والمفعولَ بهِ". قوله: "فاقتلوا الفاعل والمفعول به": قال في "شرح السنة": اختلف أهل العلم في حدّ اللواط، فذهب الشافعي في أظهر قوليه وأبو يوسف ومحمد: إلى أنَّ حدَّ الفاعل حد الزنا إن كان محصنًا يرجم، وإن لم يكن محصنًا يجلد مئة، وعلى المفعول به عند الشافعي على هذا القول جلد مئة وتغريب عام، رجلًا كان أو امرأة، محصنًا كان أو غير محصن؛ لأن التمكن في الدبر لا يحصنها، فلا يلزمها بها حد المحصنات، وذهب قوم إلى أن اللوطي يُرجم محصنًا كان أو غير محصن، وبه قال مالك وأحمد. القول الآخر للشافعي: أنه يُقتل الفاعل والمفعول به، كما جاء في الحديث، وقد قيل في كيفية قتلهما: هدم بناء عليهما، وقيل: رميهما من شاهق كما فعل بقوم لوط، وعند أبي حنيفة: يعزر ولا يحد. * * * 2700 - وقال: "مَن أَتَى بهيمةً فاقتُلُوهُ واقتلوها مَعَه". قوله: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه"، قال مالك والشافعي في أظهر قوليه وأحمد وأبو حنيفة: أنه يُعَزَّر، وقال إسحاق: يُقتل إن تعمد ذلك مع العلم بالنهي.

2 - باب قطع السرقة

و (البهيمة): قيل: إن كانت مأكولةً تُقتل، وإلا فوجهان: أحدهما: تقتل لظاهر الحديث. والثاني: لا تقتل للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. * * * 2703 - عن عَمْرَةَ، عن عائِشَةَ رضي الله عنها أنَّها قالت: لمَّا نزلَ عُذري قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ فذكرَ ذلكَ، فلمَّا نزَلَ أَمَرَ بالرَّجُلَيْنِ والمرأةِ فضُرِبُوا حدَّهم. قوله: "لما نزل عذري"؛ يعني: قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ} [النور: 11] الآيات في براءتي عما قاله أهل الإفك. قولها: "فلما نَزَلَ أمرَ بالرجُلَيْنِ والمرأة فضُربوا حدهم"؛ يعني: فلما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المنبر، أَمَرَ بحدِّ الرجلين: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، وأمر بحدِّ المرأة، وهي حمنة بنت جحش حدَّ القذف؛ لأنهم كانوا من أصحاب الإفك. * * * 2 - باب قَطْعِ السَّرِقَةِ (باب قطع السرقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2704 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطَعُ يدُ السَّارقِ إلا في رُبُعِ دينارٍ فصاعِدًا".

قوله: "إلا في ربع دينار فصاعدًا"، (الفاء) في (فصاعدًا) لعطف جملة على جملة. (فصاعدًا)؛ أي: زائدًا، نصب على الحال من المسروق المقدَّر؛ يعني: إذا وقع المسروق مرة ربع دينار، فيقع مرة أخرى في حال كونه زائدًا على الربع الذي هو نصاب القطع، فيجب القطع في كلتا المرتين. * * * 2705 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قَطعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَ سارقٍ في مِجَنٍّ، ثمنُه ثلاثةُ دراهمَ. قوله: "قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - يد سارق في مِجَنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم"، (المِجَن): الترس، مفعل من (جَنَّ): إذا ستر. قال الشيخ في "شرح السنة": اختلف أهل العلم فيما تقطع فيه يد السارق، فذهب أكثرهم إلى أن نصاب السرقة ربع دينار، وإذا سرق دراهم أو متاعًا يُقَوَّم بالدنانير، فإن بلغت قيمتها ربع دينار قطعت يده، وإن لم تبلغ فلا قطع، وبه قال الشافعي. وقال مالك: نصاب السرقة ثلاثة دراهم؛ فإن سرق ذهبًا أو متاعًا يقوَّم بالدراهم، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطعت يده، وإن لم يبلغ فلا قطع عليه. وقال أحمد: إن سرق ذهبًا فبلغ ربع دينار قطع، وإن سرق فضة وكان مبلغها ثلاثة دراهم قطع، وإن سرق متاعًا بلغت قيمته ثلاثة دراهم أو ربع دينار قطع؛ قولًا بالخبرين معًا. قال الخطابي: المذهب الأول في رد القيم إلى ربع دينار أصح، وذلك أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير، فجاز أن يقوَّم بها الدراهم، ولهذا كتب في

الصكوك قديمًا عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل، فَعُرِّفت الدراهم بالدنانير، وحُصرت بها. وأما تقويم المِجَنِّ بالدراهم، فقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن الشيء التافه - أي: القليل - قد جرت العادة تقويمها بالدراهم، وإنما تُقَوَّم الأشياء النفيسة بالدنانير؛ لأنها أنفس النقود، فتكون هذه الدراهم الثلاثة التي هي ثمن المِجَن تبلغ قيمتها ربع دينار، وقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قطع سارقًا في أترجة قُوِّمت ثلاثة دراهم، من صرف اثني عشر درهمًا بدينار، فدل على أن العبرة بالذهب، ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم. وقال أبو حنيفة: لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. * * * 2706 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعنَ الله السَّارقَ يسرقُ البيضةَ فتُقطَعُ يدُه، ويسرقُ الحبلَ فتُقطَعُ يدُه". قوله: "لعنَ الله السارقَ يسرقُ البيضةَ فتُقطع يدُه ويسرقُ الحبلَ فتُقطع يدُه": قال الأعمش: كانوا يَرَون أنه بَيْضُ الحديدِ والحَبْلُ، كانوا يرونَ أنه منها ما يساوي ثلاثة دراهم. ذكر في "شرح السنة": (يَرَوْنَ)؛ أي: يعتقدون، وقيل: كان هذا في الابتداء، وهو قطع اليد في الشيء القليل، ثم نسخ بقوله: "القطع في ربع دينار". قيل: المراد بـ (البيضة) بيضة الدجاج وغيره لا بيضة الحديد، فإن سياق الحديث يدل عليه، وهو قوله: (يسرق الحبل)؛ يعني: أنه يُعَوِّدُ نفسه في

السرقة، ولا يبالي بأخذ الشيء اليسير حتى يؤدي إلى سرقة ما هو نصاب في القطع فتقطع يده. * * * 2707 - عن رافعِ بن خَديجٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطْعَ في ثَمرٍ ولا كَثَرٍ". قوله: "لا قَطْعَ في ثمرٍ ولا كَثرٍ": قال في "شرح السنة": (الثمر): الرطب ما دام في رأس النخلة، فإذا صرم فهو الرطب. و (الكَثَر): جُمَّار النخل، وهو شحمُهَا، قيل: شحم النخل: شيء أبيض في وسط النخل يُؤكل، وقيل: هو الطلع أول ما يبدو وهو يؤكل أيضًا. وذهب أبو حنيفة إلى ظاهر هذا الحديث فلم يوجب القطع في سرقة شيء من الفواكه الرطبة سواء كانت محرزة أو غير محرزة، وقاس عليها اللحوم والألبان والأشربة والحبوب، وأوجب الآخرون القطع في جميعها إذا كانت محرزة، وهو قول مالك. وتأول الشافعي الحديث على الثمار المعلقة غير المحرزة، وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها، فلا تكون محرزة. * * * 2709 - وقال: "لا قَطْعَ في ثمرٍ مُعَلَّقٍ، ولا في حَرِيسةِ جبلٍ، فإذا آواهُ المُراحُ والجَرِينُ، فالقطعُ فيما بلغَ ثمنَ المِجَنِّ". قوله: "ولا في حَرِيْسَةِ جبل، فإذا آواه الجَرِين"، و (الجَرِين): الحِرز، "فالقطع فيما بلغ ثمن المِجَن"، وأراد بـ (حَرِيْسَةِ الجبل): الشاة المسروقة من

المرعى، و (الاحْتِرَاس): أن تؤخذ الشاة من المرعى، يقال: فلان يأكل الحريسات: إذا كان يسرق أغنام الناس فيأكلها، والسارق مُحْتَرِسٌ، ذكره في "شرح السنة". (المُرَاح) بالضم: مأوى الإبل والغنم بالليل، و (الجَرِيْنُ) موضع يُجفف فيه التمر. * * * 2710 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ على المُنتَهِبِ قَطْعٌ، ومَنْ انتَهَبَ نُهبَةً مشهورةً فليسَ مِنا". 2711 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ على خائنٍ، ولا مُنتهِبٍ، ولا مُختلِسٍ قَطْعٌ". "ليس على المنتهب قطع"، (الانتهاب): الإغارة؛ يعني: ليس على المُغِير إذا أغارَ شيئًا ولو كان نصابًا، لا قطع؛ لأن شرط القطع: إخراجُ ما هو نصاب أو قيمته من الحِرز. * * * 2712 - ورُوِيَ: أنَّ صفوانَ بن أُميَّةَ قدِمَ المدينةَ فنامَ في المسجدِ وتَوَسَّدَ رِداءَهُ، فجاءَ سارقٌ وأخذَ رِداءَه، فأخذهُ صفوانُ، فجاءَ بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَمَرَ أنْ تُقْطَعَ يدُه، فقال صفوانُ: إنِّي لم أُرِدْ هذا، هو عليهِ صدقةٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلَّا قبلَ أنْ تأتيَني به". قوله: "فهلَّا قبلَ أن تأتيَني به"، (هلَّا)؛ أي: لِمَ لا؛ يعني: لِمَ لا تركتَ حقَّك عليه قبلَ وصوله إليَّ، فالآن قطعه ليس لك فيه حق، بل هو حق الشرع. * * *

2713 - عن بُسْرِ بن أَرَطاةَ قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطَعُ الأَيْدي في الغَزوِ". قوله: "لا تقطع الأيدي في الغزو"، ومعنى لا يقطع يد السارق في الغزو: إذا كانت الجيش في دار الحرب، ولم يكن الإمام فيهم، بل يكون أميرًا أو صاحب جيش، فأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذهب بعض الفقهاء إلا أن يكون الإمام، أو يكون أمير واسع المملكة، كصاحب العراق والشام أو مصر ونحوها من البلدان فإنه يقيم الحدود في عسكره، وهو قول أبي حنيفة. وقال الأوزاعي: لا يقطع أميرٌ العسكر حتى يقفل من الدرب، فإذا قفل قطع. وأما أكثر الفقهاء: فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب وغيرها، ويرون إقامةَ الحدود على من ارتكبها، كما يرون وجوبَ الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء، ذكره في "المعالم". * * * 2715 - ورُوِيَ عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جيءَ بسارقٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيءَ به الثانيةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيء به الثالثةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيءَ به الرابعةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، فأُتيَ به الخامسةَ فقال: "اقتُلوه"، فانطلقْنا به فقتلْناه، ثم اجترَرْناه فألقيناهُ في بئرٍ ورميْنَا عليهِ الحِجارةَ. قوله: "فأُتيَ به الخامسةَ، فقال: اقتلوه، فانطلقنا به فقتلناه ... " إلى آخره، (انطلق به)؛ أي: أذهبه، (اجتر وجر): بمعنى واحد. قال في "شرح السنة": قال أبو سليمان الخطابي: ولا أعلم أحدًا من العلماء

يبيح دم السارق، وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى، إلا أنه قد يخرج على مذهب بعض الفقهاء أن يباحُ دمُه، وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض، وللإمام أن يجتهد في تعزير المفسد ويبلغ به ما رأى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد، وإن رأى أن يُقتل قُتل، ويعزى هذا الرأي إلى مالك بن أنس - (يُعْزَى)؛ أي: ينسب - وحديث جابر إن كان ثابتًا فهو يؤيد هذا الرأي. قوله: (يُخرَّج على مذهب بعض الفقهاء)؛ أي: يستقيم معنى هذا الحديث على مذهب بعض الفقهاء. قوله: "فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة": هذا غير معمول به عند الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، ولا أعرف أحدًا سواهم من الأئمة الباقية عمل بذلك، فحينئذ لا يكون إلا للتهديد. * * * 2716 - ورُوِيَ في قطعِ السارقِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقطعُوه ثم احسِمُوه". قوله: "اقطعوه ثم احسموا"، (الحَسْمُ): القَطْعُ، ومنه: حَسْمُ العِرْقِ؛ أي: كَيُّهُ بالنار لينقطعَ دَمُ المَحْسُوْمِ. * * * 2717 - عن فُضالةَ بن عُبيدٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسارقٍ فقُطِعَتْ يَدُه، ثم أَمَرَ بها فعُلِّقَت في عُنقِهِ. قوله: "فعُلِّقَتْ في عُنِقِه"؛ أي: عُلِّقَتِ اليدُ المقطوعةُ في عُنقِ السَّارقِ نكالاً وعِبرةً. * * *

3 - باب الشفاعة في الحدود

2718 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سرقَ المَمْلوكُ فبعْهُ ولو بنشٍّ"، متصل. قوله: "بعْهُ ولَو بنشٍّ"، (النَّشُّ): عشرون درهمًا. * * * 3 - باب الشَّفاعةِ في الحُدودِ (باب الشفاعة في الحدود) مِنَ الصِّحَاحِ: 2719 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ قُريشًا أَهَمَّهم شأنُ المَرأةِ المخزوميَّةِ التي سرقَتْ فقالوا: مَنْ يُكلِّمُ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومَن يَجترِئُ عليهِ إلَّا أُسامةُ بن زيدٍ حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمَه أُسامةُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتشفعُ في حدٍّ مِن حدودِ الله!؟ " ثم قامَ فاختطبَ ثم قال: "إنَّما أَهلكَ الذينَ مِن قبلِكم أنَّهم كانوا إذا سَرقَ فيهم الشريفُ تركُوهُ، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ أقامُوا عليهِ الحدَّ، وَايمُ الله، لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرقَتْ لقطعْتُ يدَها". ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: كانتْ امرأةٌ مخزوميةٌ تستعيرُ المَتاعَ وتجحدُ، فأمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقطعِ يدِها، فأَتَى أهلُها أسامةَ فكلَّموه، فكلَّمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فذكَر نحوه. "أهمَّهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت"، (أهمَّه): أحزنه الأمر الشديد، (الشأن): الأمر.

قوله: "حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: محبوبه. قوله: "أتشفع في حَدٍّ من حدودِ الله؟ " استفهام بمعنى التوبيخ. قوله: "فاختَطَبَ"؛ أي: خطب. قوله: "وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد"، (أيم الله)؛ أي: والله. قال في "شرح السنة": وفيه دليل على أن ما روي: أن امرأة مخزومية كانت تستعيرُ المتاعَ وتجحدُه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها أنه إنما أمرَ بقطع يدها للسرقة، وذكر استعارة المتاع والجحود للتعريف؛ يعني: كان ذلك فعلها فقطعت يدها في السرقة، وفيه دليل على أن الشفاعة في الحدود غير جائزة. قيل: إنما ضرب المثل بفاطمة ابنته لأنها كانت سَمِيَّةً لها، وكانَتْ أعز أهله عليه. * * * مِنَ الحِسَان: 2720 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن حالَتْ شفاعتُه دونَ حدٍّ مِن حدودِ الله تعالى فقد ضادَّ الله، ومَن خاصَمَ في باطلٍ هو يعلَمُه لَمْ يزلْ في سخطِ الله تعالى حتى ينزِعَ، ومَن قالَ في مُؤْمِنٍ ما ليسَ فيه أَسكنَهُ الله رَدْغَةَ الخَبالِ حتى يخرُجَ ممّا قالَ". ويُروى: "ومَن أعانَ على خُصومةٍ لا يدري أَحَقٌّ هو أمْ باطلٌ، فهو في سخطِ الله حتى ينزِعَ". قوله: "مَنْ حَالَتْ شفاعتُه دونَ حدٍّ من حدودِ الله فقد ضادَّ الله"؛ يعني: مَنْ مَنَعَ حدًا من حدود الله سبحانه بشفاعته، فقد خالَفَ أمر الله تعالى، وهذا بعد أن بلغ ذلك الإمام، فأما قبل بلوغ الإمام، فإن الشفاعة فيه جائزةٌ حفظًا للستر، فإن الستر

4 - باب حد الخمر

على المذنبين مندوب إليه. قوله: "مَنْ قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنه الله رَدْغَةَ الخَبَالِ": قال في "الصحاح": الماء والطين؛ أي: الوحل الشديد، ومعناه في الحديث: عصارة أهل النار، (الخَبَال): الفساد، وقيل: (الخَبَال): موضع من جهنم. * * * 2721 - عن أبي رِمْثَةَ المخزوميِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بلصٍّ قد اعترفَ اعترافًا وَلَمْ يوجدْ معَهُ مَتاعٌ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما إخالُكَ سرقتَ؟ " قال: بلى، فأعادَ عليهِ مرتينِ أو ثلاثًا، فأمرَ بهِ فقُطِعَ وجيءَ بهِ فقالَ: "استغفر الله وتُبْ إليهِ"، فقالَ: أَستغفِرُ الله وأتوبُ إليهِ، فقال: "اللهمَّ تُبْ عليهِ" ثلاثًا. قوله: "أُتي بلصٍّ قد اعترفَ"؛ أي: جِيءَ بسارق قد أَقَرَّ. قوله: "ما إخالُكَ سَرَقْتَ"، (إخالُكَ): أظنك، وهذه اللفظة تستعمل مكسورة الهمزة على خلاف القياس، والقياس مفتوحة. قوله: "اللهم تُبْ عليه ثلاثًا"؛ أي: ثلاث مرات. * * * 4 - باب حدِّ الخمرِ (باب حد الخمر) مِنَ الصِّحَاحِ: 2722 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضربَ في الخمرِ بالجَريدِ والنِّعالِ، وجلَدَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - أربعينَ.

وفي روايةٍ عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يضرِبُ في الخمرِ بالجريدِ والنِّعال أربعينَ. قوله: "ضَرَبَ في حدِّ الخمر بِجَريدة"، (الجريدة): السَّعف، جمعها: جريد، سميت جَرِيدة لكونها مُجَرَّدَةٌ عن الخُوص، ذكره في "الغريبين". (الخُوص): ورقُ النخل. * * * 2723 - عن السَّائبِ بن يزيدَ قال: "كانَ يُؤتَى بالشَّاربِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإمْرَةِ أبي بكرٍ وصَدْرًا مِن خلافةِ عمرَ، فنقومُ فيهِ بأيدينا ونِعالِنا وأَرديَتِنا، حتى كانَ آخرُ إمرةِ عمرَ - رضي الله عنه - فجلدَ أربعينَ، حتى إذا عَتَوا وفسقُوا جلدَ ثمانينَ". قوله "وإمرة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر". (الإمرة): الإمارة، و (صَدْرُ) كل شيء: أولُهُ. قوله: "جلد ثمانين"؛ يعني: جلد عُمَرُ - رضي الله عنه - ثمانين. قال في "شرح السنة": ذهب قوم إلى أنَّ حدَّ الخمر أربعون جلدة، وبه قال الشافعي، وما زاد عمر على أربعين كان تعزيرًا، وللإمام أن يزيد في العقوبة إذا أدى إليه اجتهاده، وذهب جماعة إلى أن حد الخمر ثمانون، وهو قول مالك وأصحاب الرأي. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2724 - عن جابرِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مَنْ شَرِبَ الخمرَ

فاجلِدُوه، فإنْ عادَ في الرَّابعةِ فاقتُلُوه". قال: ثم أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ برجلٍ قد شربَ في الرَّابعةِ فضَربَهُ ولم يقتلْهُ. قوله: "فإن عاد في الرابعة فاقتلوه"؛ أي: فإن عادَ شاربُ الخمرِ في المرة الرابعة إلى شُربهَا فاقتلُوه. قال في "شرح السنة": وهذا أمرٌ لم يذهب إليه أحد من أهل العلم قديمًا وحديثًا أن شارب الخمر يقتل. قال الخطابي: قد يَرِدُ الأمرُ بالوعيدِ ولا يُراد به وقوع الفعل، وإنما المراد به: الرَّدع والتحذير. قال أبو عيسى: إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعده، وسياق الحديث يدل على ما قاله أبو عيسى، وهو قوله: "قد شربَ في الرابعة فضربَهُ ولم يقتله". * * * 2725 - وعن عبدِ الرحمنِ بن الأزهرِ - رضي الله عنه - قال: كأني أنظرُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إذْ أُتيَ برجلٍ قد شَرِبَ الخمرَ، فقالَ للناسِ: "اضرِبُوه"، فمِنهم مَنْ ضربه بالنِّعالِ، ومنهم مَن ضربَه بالعَصا، ومِنهم مَن ضربَهُ بالمِيتَخَةِ، ثم أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تُرابًا مِن الأرضِ فرمَى بهِ في وجهِهِ. قوله: "ضربه بالمِيتَخَةِ"، قال الخطابي: (المِيْتَخَة) بالياء قبل التاء: هي اسم للعصا الخفيفة، وهي أيضًا بالتاء المعجمة من فوق قبل الياء، وسميت (ميْتَخَة) لأنها تتوخ؛ أي: تأخذ في المضروب، من قولك: تاخت إصبعي في الطين؛ أي: غابت، ذكر في "الغريبين" ما ذكره الخطابي، وزاد عليه لغة أخرى: وهي (منتخة) بالنون قبل التاء من فوقها بنقطتين، قيل الرواية قد وردت بالوجوه الثلاثة.

قال ابن وهب: الجريدة الرطبة. * * * 2726 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ برجلٍ قد شرِبَ الخمرَ فقال: "اضرِبُوه"، فمِنَّا الضارِبُ بيدِه، والضارِبُ بثوبه، والضاربُ بنعلِه، ثم قال: "بَكِّتُوهُ"، فأَقبلُوا عليهِ يقُولونَ: ما اتقيتَ الله؟ ما خشيتَ الله؟ وما استحيَيْتَ مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالَ بعضُ القوم: أَخزاكَ الله، قال: "لا تقُولوا هكذا، لا تُعينُوا عليهِ الشيطانَ، ولكنْ قولوا: اللهم اغفرْ لهُ اللهم ارحمْهُ". قوله: "بَكِّتُوْهُ": (التَّبْكِيْتُ) والتوبيخ بمعنى. قوله: "أخزاك الله"، (أخزى): إذا فضح. * * * 2727 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: شرِبَ رجلٌ فسكرَ، فلُقيَ يميلُ في الفَجِّ، فانطُلِقَ بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا حاذَى دارَ العبَّاسِ انفلَتَ فدخلَ على العبَّاسِ فالتزَمَهُ، فذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فضحِكَ وقال: "أَفَعَلَها؟ " ولم يَأْمُرْ فيهِ بشيءٍ. قوله: "فلُقِيَ يَميلُ في الفَجِّ"، (اللقاء): الرؤية، (الفَجُّ): الطريق الواسع بين جبلين، (يميل): نصب على الحال من الضمير في (لقي)، (حَاذَى): إذا قابل. "انفلَتَ": فَرَّ، "التزَمَ": عانق. قوله: "لم يأمر فيه بشيء" الضمير في (فيه) يعود إلى الشارب؛ يعني: ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحدِّه؛ لأنه ما ثبتَ شربُ خمرِهِ عندَهُ بعدُ. * * *

5 - باب لا يدعى على المحدود

5 - باب لا يُدْعى على المَحدودِ (باب لا يدعى على المحدود) مِنَ الصِّحَاحِ: 2728 - عن عمرَ بن الخطابِ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رَجُلاً اسمُه عبد الله يُلقَّبُ حِمارًا، كانَ يُضْحِكُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد جَلَدَهُ في الشَّرابِ، فأُتيَ به يومًا فأَمَرَ به فجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِن القومِ: اللهم العَنْه، ما أكثرَ ما يُؤتَى بهِ! فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعنُوهُ، فَوَالله ما عَلِمْتُ إلا أنَّه يحبُ الله ورسولَهُ". قوله: "ما أكثرَ ما يُؤتى به"، (ما): للتعجب، و (يؤتى به)؛ أي: يُؤخذ بشربِ الخمر. قوله: "فوالله ما علمت أنه يحبُّ الله ورسولَه"، (ما) في (ما علمت) موصول وإن مع اسمه وخبره سد مسد مفعولي (علمت)؛ لكونه مشتملاً على المنسوب والمنسوب إليه، و (علمت) صلة (ما)، والضمير في (أنه) يعود إلى (ما)، والموصول مع صلته خبر مبتدأ محذوف، تقديره: والله لهو الذي علمت أنه، والمبتدأ وخبره جواب القسم؛ يعني: هو الذي علمت من حاله أنه محب لله ورسوله؛ يعني: هو محب لله ورسوله، ولكنه يصدر منه هذه الزلة. وهذا دليل على أنه لا يجوزُ لعنُ مَنْ يصدرُ منه إثم ولا شتمه، ولا يجوز أن يُحكم بكفره، أو بكونه غيرَ محبٍّ لله ورسوله، بل يستحبُ أن يستغفر له ويطلب له التوبة من الله تعالى. * * * من الحسان: 2730 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ الأسلَميُّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فشهِدَ على

نفسِهِ أنهُ أصابَ امرأةً حرامًا، أربعَ مراتٍ، كلَّ ذلكَ يُعرِضُ عنهُ، فأَقبَلَ في الخامسةِ فقالَ: "أَنِكْتَها؟ " قال: نعم، قال: "حتى غابَ ذلكَ منكَ في ذلكَ منها"، قال: نعم، قال: "كما يغيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشاءُ في البئرِ"، قال: نعم، قال: "هل تَدري ما الزِّنا؟ " قال: نعم، أَتَيْتُ منها حَرامًا ما يأتي الرَّجُلُ مِن أهلِهِ حَلالاً، فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ، فسمعَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - رجُلينِ مِن أصحابهِ يقولُ أحدُهما لصاحبه: انظرْ إلى هذا الذي سترَ الله عليهِ، فلمْ تدعْهُ نفسُه حتى رُجِمَ رجْمَ الكلبِ، فسَكتَ عنهما، ثم سارَ ساعةً حتى مرَّ بجِيفِة حمارٍ شائلٍ برجلِه، فقال: "أينَ فلانٌ وفلانٌ؟ " فقالا: نحنُ ذانِ يا رسولَ الله فقال: "انزِلا فكُلا من جِيفةِ هذا الحِمارِ"، فقالا: يا نبيَّ الله! مَنْ يأكلُ مِنْ هذا؟ قال: "فما نِلتُما مِن عِرْضِ أخيكُما آنِفًا أشدُّ مِن أَكْلٍ منه، والذي نفسي بيدِه إنَّه، الآنَ لَفي أنهارِ الجنَّةِ ينغمِسُ فيها". قوله: "حتى غابَ ذلك منكَ في ذلكَ منها"، (ذلك) الأول: إشارة إلى آلة الرجل، و (ذلك) الثاني: إشارة إلى آلة المرأة. قوله: "كما يغيب المرود في المكحلة والرِّشاء في البئر"، (المِرْوَدُ): المِيْلُ، و (المُكْحَلَةِ): الظرف الذي فيه الكُحل، (الرِّشَاء): الحبل، هما كنايتان عن غيبوبة الحشفة في الفرج. قوله "حتى مَرَّ بجيفةِ حمارٍ شائلٍ برجلِه"، (الجيفة): الميتة، (شَال) به: إذا رفعه؛ أي: رافعٌ رجلَه لكثرة انتفاخه وورمه. قوله: "فما نلتما من عرض أخيكما آنفًا": (ما) في (ما نلتما) موصول، و (نلتما) - أي: وجدتما - صلتُهُ، والموصول مع صلته مبتدأ، و (أشد) خبره، والضمير العائد إلى الموصول محذوف، تقديره: فما نلتماه. و (العرض) من الإنسان: ما يمدح ويذم، (آنفًا)؛ أي: الآن والساعة؛

6 - باب التعزير

يعني: ما وجدتماه من غيبة ماعز في الساعة أقبحُ وأشدُّ مِنْ أكلِ هذه الجيفة. قوله: "ينغمس فيها"؛ أي: يخوض ويدخل. * * * 6 - باب التَّعْزيرِ (باب التعزير) (التعزير) ها هنا: التأديب والضرب دون الحَد. مِنَ الصِّحَاحِ: 2733 - عن أبي بُرْدَةَ بن نِيارٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُجلَدُ فوقَ عَشْرِ جَلَداتٍ إلا في حدٍّ مِن حُدودِ الله". قوله: "لا يُجلَدُ فوقَ عشرِ جلداتٍ إلا في حدٍّ من حدودِ الله": اعلم أن الذنب قسمان: قسم شُرع فيه الحَد، وقسم لم يُشرع فيه الحد؛ أما لذي شرع فيه الحد فلا يخفى، وأما الذي لم يشرع فيه الحد فمن ارتكب ذلك يستحق التعزير وذلك كمقدمات الزنا، كالقبلة المحرمة وغيرها، وسرقة مال قليل لا يبلغ قدرًا تقطع به اليد، وشتم أحد بغير الزنا مثل أن يقول لأحد: يا فاجر، يا خبيث، إذا لم يكن بنية الزنا. والتعزير منوط بنظر الإمام؛ يعني: إذا فعل أحد ذنبًا لا يوجب حدًا، فالإمام يجتهد في تعزيره؛ إن رأى المصلحة في العفو فليعف عنه، وإن رأى المصلحة في توبيخه باللسان فليفعل، وإن رأى أن يضربه فليضربه. قال أحمد: لا يجوز أن يزيد ضربه على عشر ضربات بالسوط أو النعل أو غيرهما؛ لهذا الحديث، وقال غيره: جاز أن يزيد بشرط أن ينقصَ عن أقل

الحدود، وأقل الحدود حد العبد في شرب الخمر، وهو عشرون ضربة، فعلى هذا القول: يجب أن يكون التعزير تسعة عشر ضربة أو أقل. وقيل: ينقص من كل جنس عن أقل حد ذلك الجنس؛ يعني: إن كان ما يُعزر فيه من مُقدمات الزنا فلينقص التعزير عن أقل حد الزنا، وهو خمسون جلدة، وهو حد العبد، وإن كان في شتم أحد فلينقص عن أربعين، وهو حد العبد في القذف، وإن كان في سرقة شيء لا يوجب القطع يتخير الإمام في التعزير. * * * 2735 - عن ابن عبَّاسِ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الرَّجُلُ للرجلِ: يا يهوديُّ فاضرِبُوه عشرينَ، وإذا قال: يا مُخَنَّثُ فاضرِبُوه عشرينَ، ومَنْ وقعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ فاقتلُوه"، غريب. قوله: "ومن وقع على ذاتِ مَحْرَمٍ فاقتلوه": حكم أحمد بظاهر هذا الحديث، وقال غيره: هذا زَجْرً وإلا حكمه حكم سائر الزناة؛ يرجم إن كان محصنًا، ويجلد إن لم يكن محصنًا. * * * 2736 - عن عمرَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وجدْتُم الرَّجُلَ قد غَلَّ في سبيلِ الله فأحرِقُوا متاعَهُ واضرِبُوه"، غريب. قوله: "إذا وَجدْتُم الرَّجلَ قد غَلَّ في سبيل الله فاحرقوا متاعَه واضربوه"، (غل)؛ أي: سرق شيئًا من الغنيمة. لا خلاف في تعزيره، واختلفوا في إحراق متاعه: قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق بن راهويه: يُحرق متاعه الذي ليس من مال الغنيمة، ويؤخذ منه ما سَرق من مال الغنيمة ويُرد في الغنيمة.

7 - باب بيان الخمر ووعيد شاربها

وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: لا يُحرق متاعه، بل هذا الحديث زجرٌ له، ولا يُحرق الحيوانُ وثيابُه التي هي ملبوسُه بالاتفاق. * * * 7 - باب بيانِ الخَمْرِ ووعيدِ شاربها (باب بيان الخمر ووعيد شاربها) مِنَ الصِّحَاحِ: 2737 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "الخَمرُ مِن هاتينِ الشجرتَيْنِ، النَّخلةِ والعِنَبةِ". قوله: "الخمرُ من هاتينِ الشَّجرتَيْنِ: النَّخلَةِ والعِنَبَة": قال الخطابي: إنما خصَّ هاتين الشجرتين لأن أكثرَ الخمور منهما، ولم يخصَّهما لأن الخمر لا يكون من غيرهما، بل من أي شيء جعل الخمر المسكرة فهي خمر، ووجبَ الحدُّ على شاربها، وكذلك حديث عمر تأويله: أن أكثر الخمور من هذه الخمسة، وليس معناه: أن الخمر لا يكون من غير هذه الخمسة. ألا ترى أنه قال: "الخمرُ ما خَامر العقل"؛ يعني: كل ما خامَرَ العقل فهو خمر من أيِّ شيء كان. و (خامر العقل)، معناه: سَتَرَ العقلَ وأزالَهُ. * * * 2741 - عن ابن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مُسكرٍ خَمرٌ، وكلُّ خَمرٍ حرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا فماتَ وهوَ يُدْمِنُها، لم يَتُبْ، لم

يشربْها في الآخرةِ". قوله: "يُدْمِنُها"؛ أي: يداومُ على شربها، ولم يتبْ حتى يموتَ على ذلك. "لم يشرَبْهَا في الآخرة"؛ أي: لم يشربْ خمرَ الجنة؛ ومعناه: أنه لا يدخل الجنة حتى يُطَهَّرَ من ذنبِ شُرْبِ الخمر بأن يعفوَ الله عنه بفضله، أو يعذبُه بقدرِ ذلك الإثم، فإذا طهرَ من ذلك الإثم دخل الجنة وشرب خمرَ الجنةَ لا محالة، ولم يكن أحدٌ دخلَ الجنةَ ولم يشربْ خمر الجنة، بل كلُّ مَنْ دخلَ الجنةَ شربَ من جميع شراب الجنة، وأكل من جميع أطعمتها. * * * 2742 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً قدِمَ مِن اليمنِ، فسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن شَرابٍ يَشربُونَه بأَرضهم من الذُّرَةِ، يُقالُ له: المِزْرُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُسْكِرٌ هو؟ " قال: نعم، قال: "كلُّ مُسكرٍ حرامٌ، إنَّ على الله عهْدًا لِمَن يَشربُ المُسكِرَ أنْ يَسقِيَهُ مِن طِينَةِ الخَبالِ"، قالوا: يا رسولَ الله! وما طِينَةُ الخَبالِ؟ قال: "عَرَقُ أهلِ النَّارِ، أو عُصارةُ أهلِ النَّارِ". قوله: "عُصَارة أهلِ النَّارِ"؛ أي: ما يسيل عنهما من الصَديد والدَّم. * * * 2743 - عن أبي قَتادةَ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن خَلِيطِ التمرِ والبُسرِ، وعن خليطِ الزبيبِ والتمرِ، وعن خليطِ الزَّهْوِ والرُّطَبِ، وقال: "انتبذُوا كلَّ واحدٍ على حِدَةٍ". قوله: "نهى عن خليط التمر والبُسْر ... " إلى آخره، قال مالك وأحمد:

يَحرم شربُ نبيذٍ خلط فيه شيئان كالتمر والبُسْر، إو التمر والزبيب أو غيرهما، قالا: يحرم شرب هذا الشراب وإن لم يكن مسكرًا؛ عملاً بظاهر الحديث، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لم يحرم إن لم يكن مسكرًا، وهو القول الثاني للشافعي. * * * 2744 - عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الخمرِ تُتَّخذُ خلاً، فقال: "لا". قوله: "سُئِلَ عن الخَمرِ تُتخذ خَلاً، فقال: لا"؛ يعني: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جعل الخمرِ خَلاً بإلقاء شيء فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يجوز، وبهذا قال الشافعي وأحمد ومالك، وجَوَّز أبو حنيفة أن يُلْقَى فيها شيءٌ حتى يصيرَ خلاً. وقال أحمد وابن المبارك: جاز أن يصبَّ فيها خَلٌّ قبل أن يصيرَ العصير أو العنب خمرًا، ولا يجوز بعد أن صَار خمرًا. * * * 2746 - عن عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن شرِبَ الخمرَ لم يَقبلِ الله لهُ صلاةً أربعينَ صباحًا، فإن تابَ تابَ الله عليه، فإنْ عادَ لم يَقبلِ الله له صلاةً أربعينَ صباحًا، فإنْ تابَ تابَ الله عليهِ، فإن عادَ لم يَقبلِ الله له صلاةً أربعينَ صباحًا، فإنْ تابَ تابَ الله عليه، فإنْ عادَ الرَّابعةَ لم يَقبَل الله له صلاةً أربعينَ صباحًا، فإنْ تابَ لم يَتُب الله عليهِ، وسَقاهُ مِن نهرِ الخَبالِ". قوله: "من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا"؛ هذا وجميع ما ذكر من أمثال هذا مبنيٌ على الزجْرِ، وإلا يسقط عنه فرضُ الصلاة إذا

أدَّاها بشرائطها، ولكن ليسَ ثوابُ صلاةِ الفاسقِ كثوابِ صلاة الصالح، بل الفسق ينفي كمال الصلاة وغيرها من الطاعات. قوله: "فإن تابَ لم يتَبِ الله عليه"؛ أي: فإن تابَ باللسان وقلبه عازم على أن يعود إلى شرب الخمر، لا تقبل توبته، أما لو تابَ عن الإخلاص ولم يكن في قلبهِ عزمُ العَودِ إلى شرب الخمر أو غيره من المعاصي، ثم اتفق عوده إلى الذنب الذي تاب عنه، ثم تاب توبة عن الإخلاص قبلت توبته، وإن اتفق نقض توبته ألف مرة. قوله: "لم يتب الله عليه (¬1) ": مبنيٌ على الزَّجْرِ. "الخَبَال": صديد أهل النار. * * * 2748 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَسْكَرَ الفَرَقُ، فمِلءُ الكفِّ منهُ حرامٌ". قوله: "الفَرْقُ": مكيال بالمدينة يسع ستة عشر رطلاً، يجوز (الفرق) بسكون الراء وفتحها. * * * 2750 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ عندَنا خمرٌ لِيَتيمٍ، فلمَّا نَزَلَت المائدةُ سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقلتُ: إنَّه لِيَتيمٍ، قال: "أَهرِيقُوه". قوله: "فلما نَزَلَتِ المائدةُ"؛ يعني: فلما أُنزلت الآية التي هي من سورة المائدة وفيها بيان تحريم الخمر، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "ولم يقبل الله توبته" بدل "لم يتب عليه".

وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90]. (الميسر): القمار، و (الأنصاب): جمع نَصْب - بفتح النون وسكون الصاد - وهو الحجرُ الذي يُنْصَبُ لِيُعبَد، والمراد منه: الصنم. و (الأزلام): جمع زُلَم - بضم الزاي وفتح اللام - والأزلام: ثلاثة قداح كانت العرب كتبوا على واحد: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، ولم يكتبوا على الثالث شيئًا وكان أحدهم إذا أراد فعلاً أجَالَهَا تحت كساء أو في كيس، وأخرج منها واحدًا، فإن كان الخارج ما كتب عليه: أمرني ربي، فعل ذلك، وإن خرج ما كتب عليه نهاني ربي، لم يفعل، وإن خرج ما لم يكتب عليه شيء، أجالَهَا مرةً أخرى أو مرتين حتى يخرج ما كتب عليه: أمرني، أو نهاني، وفي هذه الآية والتي بعدها سَبْعُ دلائل على تحريم الخمر: أحدها: قوله: {رِجْسٌ} والرِّجْسٌ: هو النجس، وكل نجس حرام. الثاني: قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}: وما هو عمل الشيطان حرامٌ. الثالث: قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ}، وما أمر الله باجتنابه، فهو حرام. الرابع: قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وما عُلِّقَ رَجَاءُ الفلاحِ باجتنابه، فالإتيانُ به حرام. الخامس: قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وما هو سببُ وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فهو حرام. السادس: قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وما يصدُّ به الشيطان المسلمين عن ذكرِ الله وعن الصلاة، فهو حرام. السابع قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، قال المفسرون: معناه: انتهوا، وما أمر الله عباده بالانتهاء عنه، فالإتيان به حرام. * * *

2751 - وعن أنسٍ عن أبي طلحَة - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: "يا نبيَّ الله! إنِّي اشتريتُ خَمرًا لأيتامٍ في حِجْري، فقال: أَهرِقِ الخَمرَ، واكسِرِ الدِّنانَ"، ضعيف. وفي رواية: أنَّه سَألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أيتامٍ ورِثُوا خَمرًا، قال: "أهرِقْها"، قال: أَفَلا أَجْعَلُها خَلاً؟ قال: "لا". قوله: "واكسِرِ الدِّنَان": (الدِّنان): جمع دَنٍّ، وهو ظرف الخمر أو الخل، إذا كان كبيرًا من الطين. ° ° °

16 - كتاب الإمارة والقضاء

16 - كِتابُ الإمَارَة وَالقَضَاءِ

1 - باب

[16] كِتابُ الإمَارَة وَالقَضَاءِ 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 2752 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أطاعَني فقد أطاعَ الله، ومن عصَاني فقد عَصَى الله، ومَن يُطِع الأميرَ فقد أطاعَني، ومن يَعْصِ الأميرَ فقد عصَاني، وإنَّما الإمامُ جُنَّةٌ، يُقاتَلُ مِن ورَائِه ويُتَّقَى بهِ، فإنْ أَمَرَ بتقوَى الله وعَدلَ فإنَّ له بذلك أَجْرًا، فإن قالَ بغيرِه فإنَّ عليهِ مِنهُ". "إنما الإمام جُنَّةٌ، يقاتَلُ من ورائه ويُتَّقَى به"؛ يعني: الإمام كترسٍ ينبغي أن يكون قدام جيشه في الحرب؛ ليقاتل المسلمونَ الكفارَ بقوته واستظهاره، ويتعلم الجيشُ الشجاعةَ منه، ولا يجوز له أن يفرَّ ويترك المسلمين بين الكفار، وكذلك في جميع الأمور ينبغي أن يكون ملجأً للمسلمين، يقضي حوائِجَهم، ويعينُهُم على أمورِهِم، ويدفع الظالمينَ عن المظلومين. و (يُتَّقَى به)؛ أي: يُدفع بسببه وبقوته الظلمُ عن المسلمين. قوله: "فإنَّ عليه منه"؛ يعني: فإن عليه وزرًا منه؛ أي: من ذلك الظلم وتَرْكِ العدل. * * *

2753 - وقال: "إنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ يَقودُكم بكتابِ الله، فاسمَعُوا له وأَطيعُوا". قوله: "إن أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ يقودُكم بكتابِ الله فاسمعوا له وأطيعوا"، (أُمِّرَ)؛ أي: جُعل أميرًا، و (المُجَدَّعُ): مقطوع الأنف أو الأذن. (يقودُكُمْ)؛ أي: يأمركم بإتباع ما في القرآن، فأطيعوه ولا تحقروه لحقارة صُورَتِهِ؛ لأنه نائب الشرع. روت هذا الحديث: أم الحصين. * * * 2754 - وقال: "اسمعُوا وأطيعُوا وإنْ استُعمِلَ عليكم عبدٌ حَبَشيٌّ، كأنَّ رأسَهُ زَبيبةٌ". قوله: "وإن استُعْمِلَ عليكم"؛ أي: وإن جُعِلَ عليكم أميرًا وحاكمًا، "كأنَّ رأسَهُ زبَيبةٌ"؛ يعني: وإن كان صغيرَ الجثة حتى كأن رأسه زبيبة في الصغر، هذا مبالغةٌ في تركِ حقارة الحاكم، وإن كان حقيرَ الصورة. روى هذا الحديث: أنس. * * * 2755 - وقال: "السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أَحَبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمرْ بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعةَ". قوله: "السمعُ والطاعةُ"؛ يعني: سماعُ كلام الحاكم وطاعتُه واجبٌ على كل مسلم؛ سواء أمره بما يوافق طبعه، أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره

بمعصية، فإن أمره بمعصية فلا تجوز طاعتُهُ، ولكن لا يجوز محاربة الإمام، بل يخبر الإمامَ بأني لا أفعلُ هذا لأنه معصية، فإن تركه من غير إيذاء فهو المراد، وإن قصد إيذائه فليفرَّ منه. روى هذا الحديث: ابن عمر. * * * 2756 - وقال: "لا طاعةَ في معصيةٍ، إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ". قوله: "لا طاعة في معصية"؛ يعني: لا تجوزُ طاعةُ الإمامِ فيما لا يرضى الله به. روى هذا الحديث: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. * * * 2757 - وعن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: بايعْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على السَّمعِ والطَّاعةِ، في العُسرِ واليُسرِ، والمَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وعلى أنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَهُ، وعلى أنْ نقولَ بالحقِّ أينما كُنَّا، لا نخافُ في الله لومَةَ لائمٍ. وفي روايةٍ: وعلى أنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أنْ تَرَوْا كُفرًا بَواحًا عندَكم مِن الله فيهِ بُرهانٌ. قوله: "المَنْشَطِ والمَكْرَهِ": كلُّ واحد منهما مصدرٌ ميمي، أو مكان أو زمان، وكل واحد من هذه الثلاثة يُحتمل فيهما؛ يعني: أطعناه ونصرناه فيما فيه لنا نَشَاطٌ وكراهيةٌ، أو في زمانِ النَّشاط والكراهية، أو في موضع فيه نشاط وكراهية؛ أي: فيما يوافقُ طباعنا أو لا يوافِقَهَا.

"وعلى أثَرَةٍ علينا"، (الأَثَرَة) بفتح الهمزة والثاء: اسم من (استأثرَ) الشيءَ: إذا استبدَّ به؛ أي: أخذه بخاصة نفسه، وفعل الشيء بنفسه من غير إذن أحد، والمراد من (أَثَرَة) في الحديث: أَنَّا نطيعُ الأمير، وإن كان يفعل شيئًا لنفسه بغير إذننا ورضانا، وإن كان يفضل أحدًا علينا من غير استحقاق، وإن كان يأخذ شيئًا لنفسه بغير رضانا؛ يعني: لا نخالفُهُ ولا نعصيه فيما يفعل، وإن كان شيئًا لا نرضى به. قوله: "وعلى أن لا ننازعَ الأمرَ أهلَهُ"؛ يعني: بايعناه على أن لا نأخذ الحكم من الحاكم؛ أي: لا نعزلَ الأميرَ عن الإمارة، ولا نحاربُهُ. "في الله"؛ أي: في أمر الله؛ أي: في سبيل الله. "لومةَ لائمٍ": ملامَةَ لائمٍ؛ أي: عاذل؛ يعني: لا نخافُ إيذاءَ مَنْ يُؤذِينا فيما فيه رضى الله تعالى. "إلا أن تروا كُفْرًا بَوَاحًا عندكم منَ الله فيه برهان"، (البَوَاح): الخالص والظاهر؛ يعني: لا تعزلوا الأميرَ إلا أن تروا منه كفرًا ظاهرًا لا يحتملُ تأويلاً، ويكون لكم بقتله في الكفر عند الله عذرٌ، فحينئذ جازَ أن تقتلوه بالكفر، وإن لم يصدر منه كفرٌ لا تقتلوه، ولا تعزلوه بصدورِ المعصية والظلم منه. * * * 2759 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رَأَى مِن أمِيرِه شيئًا يكرهُهُ فليصبرْ، فإنَّه ليسَ أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شِبرًا فيموتُ، إلا ماتَ مِيتةً جاهليةً". قوله: "مِيْتَةً جاهلية"؛ يعني: كانت عادة أهل الجاهلية أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ برأيه وكلُّ جماعةٍ برأيهم، ولا يطيعون أميرًا. وفي الشَّرع: لا يجوزُ هذا، بل يجبُ على المسلمين أن يكونَ لهم إمامٌ

يطيعونَهُ؛ كيلا تتفرقَ أمورُ المسلمين، فإنَّ حُكْمَ الشرع على جميع المسلمين واحدٌ، فيجب أن يكونَ إمامُهُم واحدًا، لتُحْفَظَ أحكامُ الشرع، ويُزْجَرَ مَنْ خَالف الشرعَ، وكلُّ حاكم في ناحية من البلاد، يجبُ أن يكون نائبًا للإمام الأعظم، ويحكم على الوجه الذي أمره الإمام. فمن تركَ طاعةَ الإمام أو طاعةَ نائبه فقد خرجَ من الجماعة، ومن خرجَ من الجماعة فهو مخالفٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإمامَ نائبٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن خالف نائبَ رسول الله فقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى هذا الحديث: ابن عباس. * * * 2760 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خرجَ مِن الطَّاعةِ وفارقَ الجَماعةَ فماتَ، ماتَ مِيتةً جاهليةً، ومَن قاتَل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغضبُ لِعَصبيَّةٍ، أو يَدعُو لِعَصبيَّةٍ، أو يَنصرُ عَصبيَّةً فقُتِلَ، فقِتلَةٌ جاهليةٌ، ومَن خرجَ على أُمَّتي بسيفِهِ يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى مِن مؤمِنِها، ولا يَفي لذي عَهْدٍ عهدَه، فليسَ مِنِّي ولَستُ مِنهُ". قوله: "ومن خرجَ من الطَّاعة"؛ أي: من طاعةِ الإمامِ، وفارقَ ما عليه جماعة المسلمين من طاعةِ الإمام، وما اجتمع عليه أئمة المسلمين من الاعتقادات والحلال والحرام، "فمات" على مفارقة الإمام قبل أن يرجع إلى طاعته "فقد مات ميتة جاهلية". قوله: "تحتَ رايةٍ عمِّيَّةٍ"، (العمِّيَّة): الأمرُ المُشْتَبه، الذي لا يُدَرى ما سببه، ولا يُدرَى أنه حق أو باطل؛ يعني: من سَمِعَ أنَّ أميرًا يقاتلُ مع أمير آخر

أو مع الإمام، ولم يكن قتالُهُ للدِّين، بل لغضبٍ حصلَ في نفسِهِ، أو لطلبِ مالٍ، أو لغيره من الأمور الدنيوية = فهذا القتال باطل، فمن قُتِلَ مع ذلك الأمير الظالم، فقتله قِتْلَةٌ جاهلية. قوله: "لا يتحاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا"؛ أي: ولا يجتنبُ من المؤمنين، بل يقاتل مَنْ رأى. قوله: (من مؤمنها): تأكيد وتكرار؛ لأنه إذا قال: (من خرجَ على أمتي) عُلِمَ أن أمته لا تكون إلا المؤمنين، إلا أن يريد بالأمة هنا: الناس، وحينئذ يدخل فيه أمة الإجابة وأمة الدعوة، فأمةُ الإجابة: مَنْ دعاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابوه، وأمة الدعوة: من دعاهم فلم يجيبوه، فإذا كان المراد بالأمة هنا: الناس فقوله: (لا يتحاشى من مؤمنها) مميزٌ للكفار، فمَنْ خرج بسيفه على الكفار لم يكن داخلاً في هذا الوعيد. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2761 - عن عوفِ بن مالكٍ اْلأَشجعيِّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيارُ أئِمَّتِكُم الذينَ تُحِبُّونَهم ويُحِبُّوَنُكم، وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّوَن عليكم، وشِرارُ أئِمَّتُكم الذينَ تُبغِضُونَهم ويُبغِضُونَكم، وتَلعنُونَهم ويَلعنُونَكم"، قال: قُلنا: يا رسولَ الله! أفلا نُنابذُهم عندَ ذلك؟ قال: "لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ، لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ؛ أَلا مَن وُلِّيَ عليهِ والٍ فرآهُ يأتي شيئًا مِن معصيةِ الله، فليَكرهْ ما يأتي مِن معصيةِ الله، ولا يَنزِعنَّ يدًا مِن طاعةٍ". قوله: "يُصَلُّونَ عليكم"؛ يعني: خير الأئمة الذين عدلوا في الحكم، فينعقد بينكم وبينهم مودة، بحيث يُصَلُّوْنَ عليكم إذا متم، وتُصَلُّونَ عليهم إذا ماتوا

عن الطَّوع والرغبة، وشرار الأئمة الذين ظلموا عليكم بحيث انعقدَتْ بينكم وبينهم عداوةٌ، بحيث تلعنوهم ويلعنونكم، ولم يذكر ها هنا: أنكم لا تُصَلُّونَ عليهم؛ لأن الصلاةَ واجبةٌ على كل مسلم وإن كان ظالمًا، ولا يجوز تَرْكُ الصلاة على ميتٍ مسلم، وإن كان بينه وبين مَنْ يصلي عليه عداوة، إلا إذا صلى عليه واحدًا أو أكثر، فإذا صُلِّيَ عليه سقط الفرض عن الباقين. قولهم: "أفلا نناِبذُهُمْ عندَ ذلك"؛ يعني: أفلا نعِزلُهم عن الإمامة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا"؛ لأن عزل الإمام يهيج الفتنة، وتهييج الفتنة، لا يجوز. * * * 2762 - عن أمِّ سلمةَ قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ عليكم أمراءُ تَعرِفُونَ وتُنكِرون، فمَن أَنْكَرَ فقد بَرِئَ، ومَن كَرِهَ فقد سَلِمَ، ولكنْ مَن رضيَ وتابعَ"، قالوا: أَفَلا نُقاتلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا، لا، ما صلَّوا"، يعني: مَن كَرِهَ بقلبه وأنكرَ بقلبه. قوله: "تَعِرفُون وتُنكرون"؛ يعني: سترون أنهم يفعلون أفعالاً ويقولون أقوالاً تعرفونها من الشرع، ويفعلون أفعالاً ويقولون أقوالاً تُنكرونها؛ أي: تنكرون كَونها من الشرع. "فمن أنكر فقد برئ"؛ أي: فمن أنكر أفعالهم وأقوالهم القبيحة بلسانِهِ "فقد برئ" من الإثم، ومن لم يقدر أن ينكرها بلسانه، وكرهها بقلبه فقد سلم من الإثم أيضًا، ولكن "مَنْ رضيَ وتابَع"؛ يعني: ليس على المُنْكِرِ والكَاره إثمٌ، ولكنَّ الإثم على من رضيَ وتابَعَ أفعالهم وأقوالهم القبيحة. قوله: "مَنْ كَرِهَ بقلبهِ ومَن أَنْكَرَ بقلْبهِ" هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهية تكون بالقلب، ولو كان كلاهما بالقلب لكانا

مكررين؛ لأنه لا فرقَ بينهما بالنسبة إلى القلب، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية: "مَنْ أنكَرَ بلسانِهِ فقد بَرِئَ، ومَنْ كَرِهَ بقلبه فقد سَلِمَ". * * * 2763 - عن عبدِ الله - رضي الله عنه - قال: قالَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةً وأُمورًا تُنْكِرونها"، قالوا: فما تامُرنا يا رسولَ الله؟ قال: "أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حَقَّكم". قوله: "سَتَرَون بعدي أَثَرَةً وأمورًا تُنْكِرونها"، قوله: (أمورًا تنكرونها) هذا بيان قوله: (أَثَرَةً) (الأَثَرُ) بفتح الهمزة والثاء: اسمٌ مِن (اسْتَأْثَرَ): إذا فعل وقال شيئًا من غير إذنِ أحد، أو اختار شيئًا لنفسه. يعني: سترونَ أمراء يفعلون ويقولون أشياءَ لستم عنها راضين، ويُفَضلُون عليكم مَنْ ليس له فضيلة، وأنتم تكرهون تلك الأشياء. قوله: "أَدُّوا إليهم حقَّهم"؛ يعني: أطيعوهم فيما يأمرونكم وأعطوهم ما يطلبون منكم، وإن كان ما يطلبونَ ظُلمًا، ولا تطلبوا حقوقكم منهم كرهًا، فإن لم يعطوكم حقوقكم فلا تحاربوهم، بل اتركوها واسألوا الله الثواب على ما يظلمونكم. * * * 2764 - وسأل سلمةُ بن يزيدٍ الجُعْفيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبيَّ الله! أرأيتَ إنْ قامَتْ علينا أُمراءُ يَسأَلونَنا حقَّهم ويَمنعونَنا حقَّنا، فما تَأمرُنا؟ قال: "اسمعُوا وأَطيعوا، فإنَّما عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حُمِّلْتُم".

قوله: "عليهم ما حُمِّلُوا"، (حُمِّلوا) بتشديد الميم، و (حملوا) بتخفيفها: إذا وُضعَ شيءٌ على أحد؛ يعني: إنما يسألهم الله عما أمرهم به، ويسألكم عما أمركم به، هذا مثل قوله: لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم. * * * 2765 - عن عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن خَلعَ يدًا مِن طاعةٍ لقيَ الله يومَ القيامةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَن مَاتَ وليسَ في عُنقِهِ بَيْعةٌ ماتَ مِيتَةً جاهليةً". قوله: "من خَلَعَ يدًا من طاعة". (خَلَعَ)؛ أي: نزعَ؛ يعني: من تركَ طاعة الإمام يكونُ يومَ القيامة مأخوذًا، ولا يكون له عذرٌ؛ لأنه خالفَ أمر الرسول. "وليس في عنقه بيعةٌ"؛ أي: وليس مطيعًا لإمام المسلمين. * * * 2766 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيلَ تَسُوسُهم الأنبياءُ، كُلَّما هلكَ نبيٌ خَلَفَهُ نبيٌّ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي، وسيكونُ خلفاءُ فيَكثُرون"، قالوا: فما تَأْمرُنا؟ قال: "فُوا بَيْعَةَ الأولِ فالأولِ، أَعطُوهم حقَّهم، فإنَّ الله تعالى سائِلُهم عَمَّا استرعاهُم". قوله: "تَسُوسُهُم"؛ أي: يحفظهم ويَلِي أمرَهم. "خَلَفَه"؛ أي: قام مَقامه. "فَيكْثُرون"؛ يعني: يقوم في كلِّ ناحيةٍ شخصٌ يطلب الإمامةَ فيكثرون. "فما تأمرُنا"؛ يعني: باقتدائهم بأمرنا.

قوله: "فُوْا بيعةَ الأَوَّل". (فُوْا)؛ أمرُ الجماعةِ الحاضرين، مِن (وَفَى بالعهد) يعني: اقتدوا مَن عُقِدَتْ له الإمامةُ أولاً، واعزِلُوا مَن كان بعدَه، إلا مَن كان نائبًا عن الإمام الأول، فإنَّ الله سائلُهم عمَّا استرْعاهُم. "استرعى": إذا طلبَ رعايةَ شيءٍ من أحدٍ؛ يعني: إذا جعلَ الله أحدًا حاكمًا على قومٍ فقد استرعاه حِفْظَ نفوسِهم وأموالِهم وجميعِ أمورهِم، فإن ظَلَمُوا عليهم فيسألهم عما ظَلَمُوا؛ يعني: لا تنتقِمُوا منهم، بل اصبرُوا على ظُلْمِهم، فإن الله ينتقمُ منهم لكم. * * * 2767 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بُويعَ لخليفتَيْنِ، فاقتلوا الآخِرَ منهما". قوله: "إذا بويعَ لخَلِيفَتَيْنِ فاقتلُوا الآخِرَ منهما"؛ يعني: إذا عُقِدَتِ الإمامةُ لشخصين فإمامةُ الأولِ صحيحةٌ وإمامةُ الثاني باطلةٌ؛ لأنه لا يجوزُ أن يكونَ للمسلمين إمامان؛ لأنه لو كان كذلك لتفرَّقَ أمرُ المسلمين ولَوَقَعتِ الفتنةُ بينهم، فلأجلِ أن تتفقَ أمورُ المسلمين لا يجوزُ إلا إمامٌ واحد. * * * 2768 - وقال: "إنَّه سيكونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفرِّقَ أمرَ هذهِ الأُمةِ وهي جَمِيعٌ، فاضرِبُوهُ بالسَّيفِ كائِنًا مَنْ كانَ". قوله: "سيكونَ هَناتٌ". (الهَنَاتُ): محصِّلاتُ سوءٍ؛ يعني: ستظهر في الأرض أنواعُ الفتنة والفسادِ،

ويطلبُ الإمارَة في كلِّ ناحيةٍ أحدٌ، فليكنِ الإمام واحدًا، فمن أراد أن يعزِلَ الإمامَ الأولَ ويأخذَ الإمامةَ فاقتلُوه. "كائنًا من كان"؛ يعني سواءٌ كان من أقاربي أو من أولادي أو من غيرهم، بشرطِ أن يكونَ الإمامُ الأول قُرَشيًا أهلاً للإمامة، ولا يجوزُ إمامةُ غير القرشي، ونعني بالإمامةِ في هذا البابِ الخلافةَ، روى هذا الحديثَ والذي بعدَه عَرْفَجةُ بن شُرَيح. * * * 2769 - وقال: "مَنْ أَتاكُم وأَمرُكم جَمِيعٌ على رَجُلٍ واحدٍ، يريدُ أنْ يَشُقَّ عَصَاكُم، ويُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه". قوله: "مَن أتاكم"؛ يعني من قصدَ أن يعزِلَ إمامَكم الذي اتفقُتم على إمامته، وأراد أن يأخذَ الإمامةَ أولاً بقصْدِ عَزْلِ الإمامِ الأول، ولكن يريدُ أن يكونَ إمامًا آخرَ في ناحيةٍ أخرى فاقتلوه. ومعنى: "أن يَشُقَّ عصاكم"؛ أي: يفرِّقَ جمعَكم. و (العصا): الجمعُ والجَمْعِيَّة. * * * 2770 - وقال: "مَنْ بايَعَ إمامًا فأعطاهُ صَفْقَةَ يدِه وثَمَرةَ قلْبهِ، فلْيُطِعْهُ إنْ استطاعَ، فإنْ جاءَ آخرُ يُنازِعُه فاضرِبُوا عُنُقَ الآخرِ". قوله: "فأعطاه صفقَة يدهِ وثمرَة قلبه"، (الصفقة): العَقْدُ، وسُمِّيَ العَقْدُ صفقةً لأن التَّصْفيقَ ضربُ اليدِ باليدِ، وعادةُ المُتَعاقِدَينِ والمُتَبايعَيْنِ أن يأخذَ أحدُهما يدَ الآخر، فلهذا سُمِّيَ العَقْدُ والبيعة صفقةً، يعني: مَن بايعَ إمامًا ووقعَ في قلبه حبُّه.

روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 2771 - وقال: "يا عبدَ الرحمنِ بن سَمُرةَ! لا تَسأل الإمارةَ، فإنَّك إنْ أُعطِيتَها عن مسألةٍ وُكِلتَ إليها، وإنْ أُعطِيتَها عن غيرِ مسألةٍ أُعِنتَ عليها". قولُه: "إنْ أعطيتَها"؛ يعني: إن طلبتَ الإمارة فأعطيتها. "وُكِلْتَ إليه"؛ أي: لا يُعِينكَ الله فيها؛ لأنك حرصْتَ على العمل والمنصِب، فلا يكونُ عملُك لله، فإذا لم يكن عملُك لله لا يُعينُك الله فيها، وإذا أُكْرِهْتَ على الإمارة يكونُ عملكَ لطاعةِ الإمامِ الذي أَكْرهكَ على العمل، وطاعةُ الإمام طاعةُ الله، ومن يطعِ الله يُعِنْه الله؛ أي: يحفظه من أن يُجْرِيَ على يده ولسانه ما فيه عليه إثمٌ. * * * 2772 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّكم ستحرِصُونَ على الإمارةِ وستكونُ نَدامةً يومَ القِيامَةِ، فَنِعمَتِ المُرضعَةُ، وبئْستِ الفاطِمَةُ". قوله: "وستكونُ نَدامةً يومَ القيامة"، وإنما تكونُ الإمارةُ ندامةً لأنه قلَّ ما يَقْدِرُ الرجلُ على العَدْل، بل يغلِبُ عليه حبُّ المالِ والجاهِ ومراعاةُ جانبِ الأحباء، فلا يعدِلُ لهذه الأشياء. قوله: "فنعمَ المُرْضعَةُ، وبئستِ الفَاطِمةُ"، لفظة (نعم وبئس) إذا كان فاعلهما مؤنثًا جاز إلحاقُ تاء التأنيث، فنقول: نعمت وبئست، وجاز تركُ إلحاقها فنقول: نعم وبئس، فلم يلحقها هنا في (نعم)، وألحقها في (بئست)، يعني: مثالُ العملِ ومَنْ يعطيكَ العمل: مثال امرأة تُرْضعُك، ومثال مفارقتِك العملَ بأن تُعزَلَ أو تموتَ مثالُ المرأةِ التي تقطعُ عنك الرضَاع؛ يعني: تفرحُ

بالعمل، ولكن ستغتمُّ بما يلحَقُكَ من العذاب على العمل يومَ القيامة. * * * 2773 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله! ألا تَستعمِلُني، قال: فضربَ بيدِه على مَنْكِبيْ ثم قال: يا أبا ذر، إنَّك ضعيفٌ، وانَّها أَمانةٌ، وإنَّها يومَ القيامةِ خِزْيٌ ونَدامةٌ، إلا مَنْ أخذَها بحقِّها وأَدَّى الذي عليهِ فيها". قوله: "ألا تَسْتَعْمِلُني"، الهمزة للاستفهام؛ أي: ألا تجعلني حاكمًا على قومٍ. * * * 2773/ م - وقال: يا أبا ذرٍّ! إنّي أَرَاكَ ضعيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنينِ ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيمٍ". قوله: "أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لنفسي"؛ أي: أحبُّ لك الخيرَ كما أحبُّ لنفسي الخيرَ، وخيرُكَ في أنْ لا تَأَمَّرَ على اثنين؛ أي: ألاَّ تصيرَ حاكمًا على اثنين أو أكثر، فإن العَدْلَ في الحكمِ شَدِيدٌ. * * * 2774 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنا ورَجُلانِ مِن بني عمِّي فقالا: أمِّرْنا على بعضِ ما وَلاَّكَ الله، فقال: "إنّا والله لا نُوَلِّي على هذا العملِ أحدًا سألَهُ، ولا أحدًا حَرَصَ عليهِ". قوله: "أَمِّرْنا"، بتشديد الميم؛ أي: اجعلنا أميرين. "ما ولاَّكَ الله"؛ أي: ما جعلكَ الله حاكمًا فيه من الأمور. * * *

2774/ م - وقال: "لا نستعملُ على عَملِنا مَنْ أرادَهُ". قوله: "لا نَسْتَعْمِلُ على عَمِلنِا مَنْ أَرادَه". (لا نستعمل)؛ أي: لا نجعلُ عاملاً مَنْ طلبَ العملَ وحَرِصَ عليه؛ لأن حِرْصَه على العمل دليلٌ على أنه حريصٌ على حبه للمنصب وجمعِ المال، ومَن كان كذلك قلَّما عَدَلَ في الحكم. روى هذا الحديثَ أبو موسى. * * * 2775 - وقال: "تَجِدونَ مِن خيرِ النَّاسِ أشدَّهُم كَراهِيةً لهذا الأمرِ حتى يقعَ فيه". قوله: "لهذا الأمر"؛ أي: للإمارة؛ يعني: مَنْ يفرُّ عن الإمارة فيَكْرِهُه الإمامُ على عملٍ خيرٌ ممن يطلبُ الإمارةَ والعمل. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2776 - وقال: "ألا كلُّكُم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِه، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهوَ مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ زوجها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرَّجُلِ راعٍ على مالِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ، أَلا فَكُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعِيَّتِهِ". قوله: "ألا كُلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته". (الراعي): الحافظ، و (الرعية): المحفوظ، والمراد بالراعي هنا: مَن

جُعِلَ حاكمًا على أحدٍ أو قومٍ أو في شيءٍ؛ يعني: يسألُ الله يومَ القيامة عن كلِّ حاكمٍ وعن كلِّ أميرٍ: هلْ حَفِظَ العَدْلَ والأمانةَ أم لا، روى هذا الحديثَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -. * * * 2777 - وقال: "ما مِن والٍ يلي رعيةً مِن المسلمينَ، فيموتُ وهو غاشٌّ لهم إلا حرَّمَ الله عليهِ الجنةَ". قوله: "وهو غاشٌّ"؛ أي خائنٌ، لا يعطي حقوقَهم، ويأخذ منهم ما لم يجبْ عليهم. روى هذا الحديث مَعْقِل بن يسار (¬1). * * * 2778 - وقال: "ما مِن عبدٍ يَسْتَرعيهِ الله رَعِيَّةً، فلم يَحُطْها بنصيحةٍ إلاّ لم يَجِدْ رائحةَ الجنَّةِ". قوله: "يَستَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً"؛ أي: يطلُبُ منه أن يكونَ راعيَ جماعة؛ أي: أميرَ جماعة. "فلم يَحُطْها"؛ أي: فلم يحفظْها، مِن (حاطَ يحوطُ): إذا حفظَ بنصيحة؛ أي: بخير. روى هذا الحديث مَعْقِلُ بن يَسَار. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "معقل بن سنان"، والصواب المثبت.

2779 - وقال: "إنَّ شرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ". قوله: "إن شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمة"، (الحُطَمَة) هنا معناها: قليلُ الرَّحمة، يعني: شرُّ الملوك من قلَّتْ رحمتُه وشفقتُه على الرعية. روى هذا الحديثَ عائذُ بن عمرو. * * * 2780 - وقال: "اللهم مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شَيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليهِ، ومَن وَلِيَ مِن أمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بهم فارْفُقْ بهِ". قوله: "فشقَّ عليهم"؛ أي: عَسَّرَ عليهم أمورَهم، وأوصلَ المشقَّة إليهم. "فَرفِقَ بهم"؛ أي: فرَحِمَ عليهم ويسَّرَ عليهم أمورَهم. روت هذا الحديثَ عائشةُ. * * * 2781 - وقال: "إنَّ المُقسِطينَ عندَ الله على منابرَ مِن نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ، وكِلتا يديهِ يمينٌ، الذينَ يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهليهم وما وَلُوا". قوله: "إن المُقْسِطين"؛ أي: إن العادِلين عند الله؛ أي: لهم قُربةٌ من الله من حيث الثوابُ والدرجةُ، لا من حيثُ المكان، فإن الله منزَّهٌ عن المكان. "عن يمين الرحمن". قال الخطابي: ليس اليمينُ هنا اليمين التي هي ضدُّ الشِّمَال، فإن الشِّمالَ ضعيفٌ بالنسبة إلى اليمين، فلو كان للهِ يمينٌ وشِمالٌ لكانَ أضيفتْ إليه قوةٌ وضعفٌ، والله تعالى منزَّهٌ عن الضَّعْف، بل لله القدرةُ الكاملةُ من غير نقصٍ، بل ما جاءَ من ذِكْرِ اليمين واليدِ والإصبَعِ وغيرِها في صفات الله، لا نؤوله بل نؤمن

به ونقول هو صفة من صفات الله تعالى ولا نعلم كيفيتَها. قوله: "وما وَلُوا"، أصلُه (وَلِيُوا) على وزن (عَلِمُوا)، نُقِلَتْ ضمةُ الياء إلى اللام، وحُذِفَت الياء لسكونها وسكونِ الواو، والمراد بقوله: (وما وَلُوا)؛ أي: يعدِلُون فيما تحتَ أيديهم من أموال اليَتَامى، مثل الجد فإنه وليُّ الطفل، والوصيُّ فإنه حاكمٌ في التصرُّفِ في مال الطفل اليتيم، والقاضي فإنه حاكمٌ في التصرُّفِ في أموال اليتامى. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو. * * * 2782 - وقال: "ما بَعَثَ الله مِن نبيٍّ ولا استخلَفَ مِن خَليفةٍ إلا كانَتْ لهُ بِطانتَان: بِطانَةٌ تَأمُرُهُ بالمعروفِ وتَحُضُّهُ عليهِ، وبطانةٌ تأمرُهُ بالشرِّ وتَحضُّهُ عليهِ، والمعصومُ مَن عَصَمَهُ الله". قوله: "بِطَانة"، (البطَانَةُ): الخَلِيلُ. "تَحُضُّه"؛ أي: تُحَرِّضُه؛ يعني: لكلِّ أحدٍ جليسٌ وخليلٌ يأمرُه بالخير، وجليسٌ وخليلٌ يأمرُه بالشر، والمعصومُ من عصمَه الله؛ يعني: لا يقدِرُ الرجلُ على طاعة الذي يأمرُه بالخير واجتنابِ قولِ الذي يأمرُه بالشر إلا بتوفيق الله تعالى. روى هذا الحديثَ أبو سعيد وأبو هريرة. * * * 2783 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ قيسُ بن سعدٍ - رضي الله عنه - مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمنزلةِ صاحِبِ الشُّرَطَةِ مِن الأميرِ.

قوله: "بمنزلة صاحبِ الشُّرَط". (الشُّرَطُ): بضم الشين: جمعُ شُرْطَة، وهو الذي يقال له بالفارسي سرهنك؛ يعني: نَصَّبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قيسَ بن سعدٍ ليحبسَ مَن يستحقُّ الحَبْسَ، ويأخذَ مَن يستحقُّ الأَخْذَ، ويضربَ من يستحقُّ الضَّرْب، أو يأمرَ بهذه الأشياءِ جماعةً. * * * مِنَ الحِسَان: 2785 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمُرُكم بخمسٍ: بالجَماعةِ، والسَّمعِ، والطَّاعةِ، والهِجرةِ، والجِهادِ في سَبيلِ الله، فإنَّهُ مَن خرجَ مِن الجَماعةِ قِيْدَ شِبْرٍ، فقد خَلعَ رِبْقةَ الإسلامِ مِن عُنُقِهِ، إلا أنْ يُراجِعَ، ومَن دَعا بدعْوَى الجاهِليةِ فهوَ مِن جُثَاء جهنَّمَ، وإنْ صامَ وصلَّى وزَعمَ أنَّه مسلمٌ". قوله: "بالجماعة"؛ أي: باتِّباع إجماعِ المسلمين في الاعتقادِ والقولِ والفِعْل. قوله: "والسَّمْع"؛ أي: بسماع كلمةِ الحقَّ من الأمير أو المُفْتِي أو غيرهما. قوله: "والطاعة"؛ أي: بطاعة الأمير. قوله: "والهجرة"؛ أي: بالهجرة من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، وبالهجرة من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى التوبة. "قِيْدَ شِبْرٍ"؛ أي: قَدْرَ شِبْر. "فقد خَلَعَ"؛ أي: نَزَعَ.

"رِبْقَةُ الإسْلام"، (الرِّبْقَةُ): الحبلُ؛ أي: عَقْد الإسلام؛ يعني: مَن خرجَ من موافقة إجماع المسلمين فقد خرجَ من دائرة أهل السُّنَّةِ إلى دائرة أهل البدْعة. "ومن دعا بدعوى الجاهلية"؛ أي: ومن قال أو فعل أو أمر بشيء لم يَجُزْ في الإسلام. "فهو من جُثَا جهنم"، (الجُثَا): جمع جُثوَة بضم الجيم، وهي الجماعة. روى هذا الحديثَ الحارثُ الأشعري. * * * 2786 - وقال: "مَن أهانَ سُلطانَ الله في الأرضِ أَهَانَهُ الله"، غريب. قوله: "مَنْ أهانَ سلطانَ الله"؛ أي: من أذلَّ حاكمًا من الحُكَّام بأن آذاه أو عصاه أذلَّه اللهُ. روى هذا الحديثَ أبو بكرة. * * * 2787 - وقال: "لا طَاعةَ لمخلُوقٍ في معصيةِ الخَالقِ". قوله: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق"؛ يعني لا يجوزُ لأحدٍ أن يطيعَ أحدًا فيما فيه معصية. روى هذا الحديثَ نَوَّاس بن سَمْعَان. * * * 2788 - وقال: "ما مِن أميرِ عَشَرَةٍ إلا يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ مَغْلولاً، حتى يَفُكَّ عنه العَدلُ، أو يُوبقَهُ الجَوْرُ".

قوله: "مغلولاً"؛ أي: مشدودًا يداه على عنقه. "حتى يَفُكَّ"؛ أي: يَحُلَّ ويزيلَ عنه القيدَ. "أو يوبقَه"؛ أي: أو يهلكه؛ يعني: يؤتَى يومَ القيامة بكلِّ حاكمٍ أسيرًا متحيرًا في أمره حتى يحاسَبَ له، فإنْ كان قد عدلَ في الحكم خلَّصَه العدلُ، وإن كان قد ظلمَ أُدخِلَ النارَ بظلمه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2789 - وقال: "وَيْلٌ للأُمراءِ، ويلٌ للعُرفاءِ، ويلٌ للأُمناءِ، لَيَتَمنَّينَّ أقوامٌ يومَ القيامةِ أنَّ نوَاصِيَهم مُعلَّقةٌ بالثُريَّا، يَتَجَلْجَلُونَ بينَ السَّماءِ والأرضِ وأنَّهم لم يَلُوا عَملاً". قوله: "ويل للعُرَفاء"، (العرفاء)؛ جمعُ العريف، وهو من يعرِفُ قومَه عند الأمير، ويجعلُ الأميرُ حكمَ قومه إليه، وهو سيدُ القوم. "الأُمَنَاء"؛ جمعُ الأمين، وهو الذي نُصِّبَ قَيمًا على اليتامى لحفظهم وحِفْظِ أموالهم، وكذلك من جُعِلَ أمينًا على خزانة مال، أو تَصرَّفَ في مال. "يتجَلْجَلُون"؛ أي: يتحرَّكون. "لم يَلُوا": أصلهُ: (لم يَوْلِيُوا) فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ونُقلَتْ ضمةُ الياء إلى اللام، وحذفت الياء لسكونها وسكون واو الجمع؛ ومعناه: لم يصيروا حاكمين؛ يعني: لمَّا رأى الأمراء والعرفاء والأمناء الذين ظلَمُوا وخانوا في عملهم عذابَ الله يومَ القيامة ندِمُوا على ما عملوا، ويقولون: يا ليتنا كنا في الدنيا معلّقين بين السماء والأرض، معذَّبين، ولم نعملْ ما عَمِلْنا حتى لم نكُنْ معذَّبين في هذا اليوم.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2790 - وقال: "إنَّ العِرافَةَ حقٌّ، ولا بُدَّ للنَّاسِ مِن عُرَفاءَ، ولكنَّ العُرفاءَ في النَّارِ". قوله: "إن العِرَافَةَ حَقٌّ"، (العرافة)؛ مصدر، معناها: صار الرجل عريفًا لقوم إذا أقام بمصالحهم ورئاستهم، يعني: سيادةُ القومِ جائزةٌ، وهي من الأمور الجائزة في الشرع؛ لأنها تتعلَّق بمصالح الناسِ وقضاءِ أشغالهم. "ولكنَّ العُرَفَاءَ في النار"؛ أي: العُرَفَاءُ الذين لم يعدِلُوا في الحكم، وهذا تحذيرٌ عن الرئاسة والسيادة؛ لأن فيها خطرًا؛ لأن الرجلَ يصيرُ بها مغرورًا متكبرًا، وبها يأخذُ الرشوةَ ويظلِمُ الناسَ. قال الخَطَّابي: روى هذا الحديثَ غالبٌ القَطَّانُ عن رجلٍ عن أبيه عن جده * * * 2792 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن سَكن الباديةَ جَفا، ومن اتَّبَع الصَّيدَ غَفَلَ، ومَن أَتَى السُّلطانَ افتُتِنَ". ويروى: "من لزِمَ السُّلطانَ افتُتِنَ، وما ازدادَ عبدٌ مِن السُّلطانِ دُنُوًّا إلا ازدادَ مِن الله بُعْدًا". قوله: "من سكنَ الباديَة جفا"؛ يعني من اتخذَ البادية وطنًا ظلمَ على نفسه، إذ لم يحضُرْ صلاة الجمعة، ولا الجماعة، ولا مجلسَ العلماء، ولم يتعلَّم العِلْم. "ومن اتَّبَعَ الصَّيدَ غَفَلَ"؛ يعني: من اعتاد الاصطيادَ للهو والطَّرَب يكون

غافلاً؛ لأن اللهوَ والطَّرَبَ يكونُ من القَلْب المَيت، وأما من يصطادُ لا للهو والطَّرَب، بل للاضطرار أو ليبيعَ ما يصطادُ ويجعلَه قوتَه، جاز؛ لأن سلمةَ بن الأَكْوَع - رضي الله عنه - وغيرَه من الصحابة كانوا يصطادون بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. "ومن أتى السُّلْطانَ اْفتُتِنَ"؛ يعني: من دخلَ على السلطان وصدَّقَه على ظُلْمِه، أو داهَنه على ظُلْمِه، أو يرى الظُّلْمَ منه ولم ينصحْه، وقعَ في الفتنة، فإنه رضيَ بالظلم، وأما من دخلَ على السلطان وأَمَره بالمعروف ونهاه عن المُنكَر فكان دخولُه عليه أفضلَ الجهاد. * * * 2794 - عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخُلُ الجنَّةَ صاحِبُ مَكْسٍ"، يعني الذي يَعْشُرُ النَّاسَ. قوله: "يَعْشُرُ الناسَ"؛ أي: يأخذُ عُشْرَ أموالِ المسلمين، وأما أَخْذُ عُشْرِ أموال الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فجائزٌ. 2795 - وقال: "إنَّ أحبَّ النَّاسِ إلى الله يومَ القِيامةِ، وأَقربَهم منهُ مجلِسًا إمامٌ عادِلٌ، وإنَّ أبغضَ النَّاسِ إلى الله يومَ القيامةِ وأشدَّهم عذابًا - ويروى: وأَبعدَهم منهُ مجْلِسًا - إمَامٌ جائرٌ"، غريب. "وأقربُهم منه مجلسًا"؛ يريدُ بهذا القرب الثوابَ والدرجةَ لا قُرْبَ المكانِ، فإنَّ الله تعالى منزَّهٌ عن المكان. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * 2796 - وقال: "أفضلُ الجِهادِ مَن قالَ كلمةَ حَقٍ عندَ سُلطانٍ جائرٍ".

قوله: "أفضلُ الجهادِ مَنْ قالَ كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائِرٍ"، تقديرُ هذا الكلام: أفضلُ الجهادِ تكلُّمُ مَنْ قالَ كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ؛ يعني: من أمرَ سلطانًا بمعروف أو نهاه عن منكَرٍ فهو أفضلُ المجاهدين؛ لأن الجهادَ هو قَتْلُ كافرٍ، وقتلُ كافرٍ نفعُه أقلُّ من نهيِ سلطانٍ عن ظلم؛ لأن ظُلْمَ السلطان يتعلَّقُ بجميع الرعية، والرعيةُ في مُلْكِه ربما تكون كثيرةً، فإذا دفعَ سلطانًا عن ظلمٍ فقد أوصلَ النفعَ إلى خَلْقٍ كثير. روى هذا الحديثَ أبو أُمامة. * * * 2797 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرادَ الله بالأميرِ خيرًا جَعلَ لهُ وزيرَ صدقٍ، إنْ نَسيَ ذَكَّرَهُ وإنْ ذَكرَ أعانَهُ، وَإذا أرَادَ بهِ غيرَ ذلكَ جَعلَ لهُ وزيرَ سُوءٍ، إنْ نَسيَ لم يُذَكِّرْهُ، وإنْ ذكرَ لم يُعِنْهُ". قوله: "وزير صِدْقٍ"؛ أي: وزيرًا صادقًا مصلحًا. "إن نَسِيَ"؛ أي: نسيَ السلطانُ ما هو الحقُّ علَّمَه الوزيرُ، وإن كان السلطانُ عالمًا بما هو الحقُّ أعانه الوزير بأن يحرِّضَه على إتمام الحقِّ، ويعلَّمَه ثوابَه، ولا يتركه أن يَتَّكِلَ ويغترَّ فيه. * * * 2798 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الأميرَ إذا ابتغَى الرِّيبَةَ في النَّاسِ أَفْسَدَهم". قوله: "إنَّ الأميرَ إذا ابتغى الرِّيبةَ في الناس أَفْسَدَهم". (ابتغى)؛ أي: طَلَبَ الريبةَ؛ أي: اتَّهمَه يعني: لو طلبَ الأميرُ عيوبَ

الناس، وتجَسَّسَ أحوالهم لأهلكهم، فإن الإنسانَ قلَّما سلمَ من صغيرةٍ أو زلَّةٍ، فلو آذاهم بكلِّ ما يقولون ويفعلون لاشتدَّت عليهما الأحوالُ، بل ينبغي أن يسْتُرَ عليهم عيوبَهم ويعفوَ عنهم ذنوبَهم ما استطاع. * * * 2799 - وعن مُعاويةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّك إذا اتَّبَعْتَ عَوراتِ النَّاسِ أَفسدْتَهم". قوله: "إنك إذا اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ الناسِ أَفْسدتَهم". (العورات)؛ جمعُ عَوْرة، وهي القبيحُ من القول أو الفعل، معنى هذا الحديث كمعنى الحديث المتقدِّم. * * * 2800 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ أنتم وأَئمةً مِن بَعدي يَسْتأثِرونَ بهذا الفَيْءِ؟ "، قلتُ: أَما والذي بعَثَكَ بالحقِّ أَضَعُ سَيْفِي على عاتِقي ثم أَضْرِبُ بهِ حتى أَلقاكَ، قال: "أَوَلا أَدُلُّكَ على خيرٍ من ذلكَ؟ تَصْبرُ حتى تَلْقاني". قوله: "يستَأْثِرون بهذا الفيء"؛ يأخذُون مالَ بيتِ المال وما حصَلَ من الغنيمة، ويستخلصونه لأنفسهم، ولا يُعْطُونه مستحقِّيه. "أَضَعُ سيفي على عاتِقي"؛ أي: أحارِبُهم حتى يقتلوني. "تَصْبرُ حتى تَلْقَاني"؛ يعني لا تحاربْهم، بل اصْبرْ على ظُلْمِهم حتى تموت. * * *

2 - باب ما على الولاة من التيسير

2 - باب ما على الوُلاةِ من التَّيسيرِ (باب ما على الولاة من التيسير) مِنَ الصِّحَاحِ: 2801 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ أحدًا مِن أصحابهِ في بعضِ أمرهِ قال: "بَشِّروا ولا تُنَفِّروا ويَسِّروا ولا تُعَسِّرُوا". قوله: "بَشِّرُوا ولا تُنَفِّروا"؛ يعني بَشِّروا الناسَ بالأجر على الطاعات وعلى إعطائهم الزكاةَ والصدقةَ وغيرَهما من الخيرات، ولا تُخَوِّفوهم بأن تَجْعلُوهم قانِطين آيسين من رحمة الله بأن فَعَلُوا ذنوبًا. "ويسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا"؛ يعني سَهِّلُوا عليهم أُمُورَهم بأن تَأْخُذُوا منهم الزكاةَ على سهولةٍ وتَلَطُّفٍ، ولا تَظلِمُوهم بأن تَأْخُذُوا أكثرَ مما يجبُ عليهم، ولا تتَّبعوا عوراتِهم، كما ذُكِرَ شرحُه في الحديث المتقدِّم على هذا الباب. * * * 2803 - وعن أبي بُردَةَ - رضي الله عنه - قال: بَعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جدَّهُ أبا موسى ومُعاذًا إلى اليَمَنِ فقالَ: "يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتَطاوَعا ولا تَخْتَلِفا". قوله: "وتطاوَعا ولا تَخْتَلِفا"؛ يعني كونا مُتَّفِقين في الحكم ولا تختلفا، فإنكما لو اختلفتما وحَكَمَ كلَّ واحدٍ منكما حُكْمًا آخر لاختلفَ الناسُ، واقتدى كلُّ جَمْعٍ منهم بأحدكما، وحينئذ يقعُ بينكما وبين أتباعكما العداوةُ والمحارَبَةُ. * * *

2805 - وقال: "لِكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القيامَةِ يُعرَفُ به". قوله: "لكلَّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ يُعْرَفُ به"؛ يعني: يُنْصَبُ عَلَمٌ يومَ القيامة لكلِّ غادرٍ وينادَى: أنَّ هذا غَدْرَةُ فلانٍ ليفتضحَ ذلك الغادِرُ بين أهل العَرَصَات. و (الغادِرُ): الذي لا يَفِي بالوَعْدِ والعَهْد، ويدخُلُ فيه مَنْ لم يَفِ بما نَذَرَ وبما حَلَفَ عليه، ومن لم يفِ بشرطٍ شَرَطَه. روى هذا الحديث أنس وابن عمر. 2806 - وقال: "لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ عندَ استِهِ يومَ القيامةِ، أَلا ولا غادِرَ أَعْظمُ غَدْرًا مِن أميرِ عَامَّةٍ". قوله: "عند اسْتِه"؛ أي: خَلْفَ ظَهْرهِ. و (الاستُ): الدُّبُر، وإنما يُنصَبُ علمُ الغَدْر خلفَ ظهرِ الغادرِ للفضيحةِ والمذلَّةِ؛ لأن عَلَمَ العِزَّةِ ينصَبُ تِلقاءَ وجهِ الرجلِ، وعَلَم الفضيحةِ والمذَلَّةِ يُنصَبُ خلفَ الظَهر. روى هذا الحديثَ أبو سعيد. * * * مِنَ الحِسَان: 2807 - عن عَمرِو بن مُرَّةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن وَلاَّهُ الله شيئًا مِن أمرِ المُسلمينَ، فاحتَجَبَ دونَ حاجَتِهم وخَلَّتِهم وفقرِهم، احتجَبَ الله دونَ حاجَتِهِ وخَلَّتِهِ وفقرِهِ". وفي رواية: "أَغلَقَ الله أبوابَ السَّماءِ دونَ خَلَّتِهِ وحاجَتِهِ ومَسْكَنَتِهِ".

3 - باب العمل في القضاء والخوف منه

قوله: "فاحتجبَ دونَ حاجَتِهم وخَلَّتِهم وفَقْرِهم". الخَلَّةُ والفَقْرُ متماثلان، إلا أن الخَلَّةَ أشدُّ؛ يعني: كلُّ أميرٍ أغلقَ البابَ على وجهه، أو أقام على بابه حاجبًا وشُرَطًا ليمنعوا المسلمين عن الدخول عليه، ولم يقضِ حوائجَ المسلمين = فعلَ الله به يومَ القيامة مثلَ ما فعلَ بالمسلمين. * * * 3 - باب العَملِ في القضاءِ والخَوفِ منهُ (باب العمل) مِنَ الصَّحَاحِ: 2808 - عن أبي بَكْرَةَ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَقْضيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثنينِ وهو غَضبانُ". قوله: "لا يقضيَنَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان"؛ يعني: لا ينبغي للحاكم أن يحكمَ في حال الغضب؛ لأنه لا يقدِرُ على الاجتهاد والفِكْرِ في مسألة الخَصْمين من غاية غضبه، وكذلك الحَرُّ الشديد، والبَرْدُ الشديد، والجوعِ والعطش والمرض، وكل حالةٍ تمنعُه عن الاجتهاد، فإنْ حكمَ في هذه الأحوال نُفِّذَ حُكْمُه مع الكَراهِية. * * * 2809 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حَكَمَ الحاكمُ فاجْتَهَدَ فأصابَ فلهُ أجرانِ، وإذا حكمَ فاجتَهَدَ فأَخطأَ فلهُ أَجْرٌ واحدٌ". قوله: "إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهدَ فأصابَ فله أجران، وإذا حكمَ واجتهدَ وأخطأ فله أجر واحد"؛ يعني: إذا وقع اجتهادُه موافقًا لحكم الله فله أجران: أجرُ

السَّعْيِ في طلب الصواب وطلبِ الدليل، وأجرُ وجدانِ الصوابِ وعَمَلِ من يعمَلُ بذلك من المستفتين، أو إيصال الحق إلى صاحبه من الخَصْمَين، وأما إذا أخطأ فله أجرُ سَعْيه في طلب الدلائل والبراهين، ولكنْ ليس له أجرُ التكلُّم والإفتاء بالصواب، وإيصال الحقَّ إلى المستحِقَّ وعَمَلِ من يَعْمَلُ بقوله، أمَّا ليسَ عليه مع أخطائه إثمٌ؛ لأنه لم يتكلَّمْ بباطلٍ عن القَصْد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهُوا عليه". روى هذا الحديثَ - أعني: (إذا حكم الحاكم) - عمرو بن العاص. * * * مِنَ الحِسَان: 2810 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جُعِلَ قاضيًا بينَ النَّاسِ فقد ذُبحَ بغيرِ سِكِّينٍ". قوله: "من جُعِلَ قاضيًا بين الناس فقد ذُبحَ بغيرِ سِكِّين"؛ يعني: الذبحُ بالسكين أيسرُ من الذبح بالحَجر أو الخَشَب وغيرهما، يعني: من جُعِلَ قاضيًا فكأنه ذُبحَ ذبحًا شديدًا، أو ذُبحَ بحيث لا يَرى ذبحَه أحدٌ، يعني: فقد ذُبحَ القاضي وهو لا يَعْلَم، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث؛ لأن ضررَ القضاء كثير؛ لأنه قلما عدَلَ القاضي بين الخصمين؛ لأن النفسَ مائلةٌ إلى ميلِ مَنْ تحبُّه أو تخدِمُه، أو من له منصِبٌ يتوقَّعُ جاهه، أو يخاف سلطنَته، وربما وَسْوسَتْه نفسُه على تجويز قَبول الرِّشْوَة، فمن كانت هذه صفاتُه، فالموتُ خير له من القضاء؛ لأن الموتَ يدفعُه عن المعاصي، والقضاءُ الموصوفُ بهذه الصفاتِ يوقِعُه في المعاصي، هذا التهديد في حقِّ قاضٍ لم يَعْدِل في الحكم. أما القاضي العادلُ في الحُكْم، فله ثوابٌ كثير؛ لأنه تابعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في

القضاء، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاضيًا يَقْتضي بين الناس بالعَدْل، ومَن عدلَ كان وارثًا له - صلى الله عليه وسلم -، وجميع ما ذُكِرَ من فَضْلِ العِلْمِ في (باب العلم) متوجِّهٌ في حقه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2811 - وقال: "مَن ابتغَى القضاءَ وسألَهُ وُكِلَ إلى نَفْسِه، ومَن أُكْرِهَ عليهِ أَنزَلَ الله عليهِ ملَكًا يُسدِّدُه". قوله: "من ابتغى القضاء ... " إلى آخره. أي: من طلبَ القضاء لميلِ نفسِه إلى المَنْصِب والحُكْمِ وجَمْعِ المال لم يُعِنْه الله؛ لأنه اتَّبعَ مرادَ نفسِه وقَلْبه، ومن لم يطلب القضاءَ، فأكرهه السلطانُ على القضاء أعانَه الله، وألهمَه الصوابَ، وسدَّد لسانَه؛ أي: سوَّى لسانَه وقلبَه بالحقِّ، وأصلحَه؛ لأنه قَبلَ القضاءَ لطاعة السلطان، وطاعةُ السلطان طاعةُ الله. روى هذا الحديث أنس. * * * 2812 - وقال: "القضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ، فأمَّا الذي في الجنَّةِ: فرَجُلٌ عَرَفَ الحقَّ فقَضَى بهِ، ورَجُلٌ عرفَ الحقَّ فَجارَ في الحُكْمِ فهوَ في النَّارِ، ورَجُلٌ قضَى للنَاسِ على جهلٍ فهوَ في النَّارِ". قوله: "قضى للناس على جَهْلٍ"؛ يعني: الذي ليس له علمٌ فقضى، فهو آثم في القضاء سواءٌ اتفقَ قضاؤُه صوابًا أو خطأً؛ لأن من ليس له علمٌ لا يجوزُ أن يقبلَ القضاء، ولا يصحُّ قضاؤه ولا فتواه. روى هذا الحديثَ بُرَيدَةُ. * * *

2813 - وقال: "مَن طلَبَ قضاءَ المسلمينَ حتى ينالَهُ، ثم غلبَ عدلُه جَوْرَهُ فلهُ الجنَّةُ، ومَن غلبَ جَوْرُهُ عدلَهُ فلهُ النَّارُ". قوله: "حتى ينالَه"؛ أي: حتى يجدَه. قوله: "غلبَ عدلُه جَوْرَه"؛ يقال: (غَلَبَ) باعتبارين: أحدهما: بمعنى: قَوِيَ، والثاني: بمعنى: صار أكثرَ مِن غيرِه في العَدَد. ومعنى (غَلَبَ) هنا: قوي؛ أي: مَنْ قويَ عَدْلُه بحيثُ لا يدَعُ عدلَه أن يصْدُرَ منه جورٌ، وهو الظُّلْم. وقوله: "غَلَبَ جورُه عَدْلَه"؛ معناه: قَوِيَ جَوْرُه بحيث لم يقدِرْ عدلُه أن يمنَعه عن الجَوْر، بل صدَرَ منه الجَوْرُ والعَدْل، فمن صدَرَ منه جورٌ عن عمد، ولم يستحلَّ صاحبُه استحقَّ النارَ، ثم إن شاء الله عفا عنه بأن يرضيَ خصمَه، وإن شاء عاقَبه بقدْرِ ظلمه. والجَوْرُ لا يُعْفَى عنه، لا عن قليله، ولا عن كثيره؛ لأنه حقوق الآدميين، وحقوق الآدميين تتعلَّق بالاقتصاص، ولا يعفو الله عنه إلا بإرضاء الخصوم. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2814 - عن معاذِ بن جَبلٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثَهُ إلى اليمنِ قال: "كيفَ تقضي إذا عَرضَ لكَ قضاءٌ؟ "، قال: أقضي بكتابِ الله، قال: "فإنْ لم تَجِدْ في كتابِ الله؟ "، قال: فبسُنَّةِ رسولِ الله، قال: "فإنْ لم تَجِدْ في سُنَّةِ رسولِ الله؟ "، قال: "أَجتهِدُ رأيي ولا آلو، قال: فضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على صدرِهِ وقال: "الحمدُ للهِ الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لِما يُرضي رسولَ الله". قوله: "أَجْتَهِدُ رأيي"؛ أي: أطلُبُ تلك الواقعةَ بالقياس على المسائل التي

جاء فيها نَصٌّ، فإذا وجدتُ مشابَهةً بين تلك الواقعة، وبين المسألة التي جاء فيها نصٌّ أَحْكُمُ في تلك الواقعة مِثْلَ حُكْمِ المسألة التي جاء فيها نَصٌّ؛ لمَا بينهما من المشابهة، مثاله: جاءَ النصُّ بتحريم الربا في البُرِّ، ولم يجئ نصٌّ بتحريم الربا في البطِّيخ. قاس الشافعي البطِّيخَ على البُرِّ؛ لما وجدَ بينهما من عِلَّةٍ مُتَّحِدَة، وهي أنَّ كليهما مطعومٌ. وقاس أبو حنيفة الجِصَّ على البُرِّ؛ لِمَا وجدَ بينهما من عِلَّةٍ مُتَّحِدة، وهي أنَّ الجِصَّ مَكِيلٌ كالبُرِّ. وهذا الحديثُ يدلُّ على أن الاجتهاد حكمٌ شرعي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَمَد معاذًا على هذا القول، ولو لم يكن مُرضياً لرسول الله لم يَحْمَدْه رسولُ الله. قوله: "ولا آلو"؛ أي: ولا أُقصِّر. * * * 2815 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما أقضي بينَكم برَأْيي فِيمَا لم يُنْزَلْ عليَّ فيهِ". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أَقْضي بينكم برأيي فيما لم يُنْزَلْ عليَّ فيه"؛ يعني: إذا رُفِعَتْ عليَّ مرافعةٌ، ولم يُنْزَلْ عليَّ منها في القرآن شيءٌ أجتهدُ الصوابَ، وأحكمُ فيها ما أجدُه صوابًا في رأيي، وهذا دليلٌ على جواز الاجتهادِ أيضًا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

4 - باب رزق الولاة وهداياهم

2816 - وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: بَعثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمنِ قاضيًا، فقلتُ: يا رسولَ الله! تُرسِلُني وأنا حديثُ السنِّ ولا عِلْمَ لي بالقضاءِ! فقال: "إنَّ الله تعالى سيَهدي قلبَكَ ويُثَبتَ لِسانَك، إذا تَقاضَى إليكَ رجلانِ فلا تَقْضِ للأولِ حتى تسمعَ كلامَ الآخَرِ، فإنَّه أَحْرَى أنْ يتبَيَّنَ لكَ القضاءُ"، قال: فما شكَكْتُ في قضاءٍ بَعْدَهُ. قوله: "ولا عْلِمَ لي بالقضاء"، هذا القول منه - رضي الله عنه - ليس نفيًا للعلم، بل كان كثيرَ العلم، وإنما أراد بهذا القول: أنه لم يجرِّبْ سماعَ المرافَعة بين الخُصَماء، وكيفية دفْعِ كلامِ كلِّ واحدٍ من الخَصْمَين، ودَفْعِ مَكْرِ كلِّ واحد، فإنه ربما مَكَرَ خصمٌ على خَصْمِه بكلامٍ أو فعل، ويَخْفَى على القاضي ذلك المَكْرُ. قوله: "فإنه أحرى"؛ أي: أجْدَرُ وأقرب إلى الحقِّ. * * * 4 - باب رزق الوُلاةِ وهداياهم (باب رزق الولاة وهداياهم) مِنَ الصِّحَاحِ: 2817 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُعطيكم ولا أمنعُكم، أنا قاسِمٌ أضعُ حيثُ أُمِرْتُ". "ما أُعطيكم ولا أَمْنعُكم"؛ يعني: كلُّ ما أعطي أحدًا إنما أعطيه ذلك الشيءَ بأمر الله وإيحائه إليَّ، أوبإلهامه إياي، ولا أُعْطِي أحدًا شيئًا بمَيْلِ نفسي،

وكذلك ما أَمْنَعُ أحدًا شيئًا إلا بأمرِ الله هذا الإعطاءَ والمَنْع. * * * 2818 - وقال: "إنَّ رِجالاً يَتَخَوَّضُونَ في مالِ الله بغيرِ حقٍّ، فلهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ". قوله: "إن رجالاً يَتَخَوَّضُون"؛ أي: يُسْرِعُون ويتصرَّفُون في مالِ بيتِ المال، أو الزكاةِ، أو الغنيمةِ، أو الفيءِ بغيرِ إذن الإمام، ويأخذُون منه أكثرَ من أُجْرَة عملهم، فلهم النار. روت هذا الحديثَ خولةُ الأنصارية. * * * 2819 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: لمَّا استُخْلِفَ أبو بكرٍ قال: لقد عَلِمَ قومي أنَّ حِرْفَتي لم تكنْ تعجِزُ عن مَؤُونةِ أهلي، وشُغِلتُ بأمرِ المُسلمينَ، سيأكلُ آلُ أبي بكرٍ من هذا المالِ، ويَحترِفُ للمسلمينَ فيهِ. قوله: "أنَّ حِرْفَتي لم تكنْ تَعْجِزُ عن مؤونة أهلي"، كان أبو بكر - رضي الله عنه - يبيعُ الثيابَ في السوق، فلما جُعِلَ خليفةً أخبرَ الصحابةَ بأنه لمَّا اشتغلَ بقضاءِ أمورِ المسلمين لم يقدِرْ على حرفته؛ لَيعْذِرَه الصحابةُ فيما صَرَفَ على نفسه وعيالِه من مالِ بيتِ المال؛ لأنه أُجْرَةُ عَمَلِه. قوله: "ويَحْتَرِفَ للمسلمين فيه"؛ يعني: يجلسُ في ديوان الخلافة، ويقضي حوائجَ المسلمين. * * * مِنَ الحِسَان: 2821 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: عَمِلْتُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فعَمَّلَني.

قوله: "عَمَّلَني": - بتشديد الميم -؛ أي: أعطاني العُمَالة بضم العين، وهي أُجْرَةُ العَمَل. * * * 2822 - عن مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: بعثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمنِ، فلمَّا سِرْتُ أَرسلَ في أَثَري فرَدَدْتُ، فقال: "أَتدري لِمَ بعثتُ إليكَ؟ لا تُصيبن شيئًا بغيرِ إذْني فإنّهُ غَلولٌ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، لهذا دَعوْتُكَ فامضِ لِعَملِك". قوله: "بَعَثْتُ إليك"؛ أي: أَرْسَلْتُ إليك أحدًا يدعوك إلي. "فامضِ"؛ أي: اذهب. * * * 2823 - عن المُسْتَورِدِ بن شدَّادٍ - رضي الله عنه - قال: سمِعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن كانَ لنا عامِلاً فليكتَسبْ زوجةً، فإنْ لم يكنْ لهُ خادمٌ فليكتَسبْ خادمًا، فإنْ لم يكنْ لهُ مَسْكَنٌ فليكتَسبْ مَسكنًا". ويروى: "مَن اتخذَ غيرَ ذلكَ فهو غالٌّ". "فليكتَسِبْ زوجةً"؛ أي: يَحِلُّ له أن يأخذَ مما في تصرُّفِه من مال بيتِ المالِ قَدْرَ مَهْرِ زوجةٍ ونفقتِها وكُسْوتِها، وكذلك ما لا بدَّ له منه من غير إسراف وتنعُّم، فإن أخذَ أكثرَ مما يحتاجُ إليه ضرورةً فهو حرامٌ عليه. * * * 2824 - وعن عَدِيِّ بن عُمَيْرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيُّها النَّاسُ، مَن عُمِّلَ منكم لنا على عملٍ، فكتَمَنا منهُ مِخْيَطًا فما فوقَهُ فهوَ غالٌّ يأتي

بهِ يومَ القيامةِ"، فقامَ رجلٌ مِن الأنصارِ فقالَ: يا رسولَ الله!، اقبلْ عنِّي عَمَلَك فقال: "وما ذاكَ؟ "، قال: سمعتُكَ تقولُ كذا وكذا، قال: "وأنا أقولُ ذلكَ، مَن استعملناهُ على عَمَلٍ فليَأْتِ بقليلِهِ وكثيرِهِ، فما أُوتيَ منهُ أخذَهُ، وما نُهيَ عنهُ انتهَى". قوله: "عُمِّلَ" بضم العين وتشديد الميم؛ أي: جُعل عاملاً. "مَخِيطًا" بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء؛ أي: إبرةً. * * * 2825 - عن عبدِ الله بن عمرِو قال: "لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشيَ والمُرْتَشيَ". قوله: "لعنَ رسولُ الله الرَّاشيَ والمُرْتَشِي"، (الراشي): الذي يُعْطِي الرِّشْوة، و (المُرْتَشي): الذي يأخذ الرِّشْوة. اعلم أن الرِّشْوةَ حرامٌ، و (الرِّشْوَة): هي التي يدفعُها الرجلُ إلى حاكمٍ ليحكُمَ له حُكْمًا بالباطل، فأما لو دفعَ أحدٌ شيئًا من المال إلى أحد ليوصِلَ إليه حقَّه، أو ليعينَه في أخذ حقِّه من ظالمٍ، أو ليدفَعَ عنه ضَرَرًا، فليس برِشْوةٍ منهيةٍ، بل هو جائزٌ، هكذا ذكر الخَطَّابي. ورويَ: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أُخذ بشيءٍ في الحَبشَة، فأعطى دينارين حتى خُلِّي سبيلُه. * * * 2826 - وعن عمرِو بن العاصِ قال: أرسلَ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ اجمعْ عليكَ سِلاحَكَ وثيابَكَ ثُم ائتِني، قال: فأَتيتُهُ وهوَ يتوضَّأُ فقال: "يا عَمْرُو، إنِّي

5 - باب الأقضية والشهادات

أرسلتُ إليكَ لأِبعثَكَ في وَجْهٍ يُسَلِّمُكَ الله ويُغنِّمُكَ، وأَزْعبُ لكَ زَعْبَةً مِن المالِ"، فقلتُ: يا رسولَ الله! ما كانَتْ هِجرَتي لِلمالِ، ما كانَتْ إلا للهِ ولرسولِه، فقال: "نِعِمَّا بالمالِ الصَّالحِ للرَّجُلِ الصَّالحِ". قوله: "لأبعثَك في وَجْهٍ"؛ أي: لأرسلَك في عمل. "وأَزْعَبَ"؛ أي: وأدفعَ إليك "زُعْبَةً" - بضم الزاء -؛ أي: قطعةً من المال؛ يعني: أعطيكَ أُجْرَةِ سَعْيك. "نِعِمَّا بالمال الصالِح"، الباء زائدة؛ أي: نِعْمَ الشيءُ المالُ الحلال "للرجل الصالح"؛ أي: لا بأسَ بجمعِ المالِ الحلالِ إذا كان الرجلُ يؤدِّي منه حقوقَ الله تعالى. * * * 5 - باب الأقضيةِ والشَّهاداتِ (باب الأقضية والشهادات) مِنَ الصِّحَاحِ: 2827 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يُعْطَى النَّاسُ بدعْواهُم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولكنَّ البينةَ على المُدَّعي, واليمينَ على المُدَّعَى عليهِ". قولُه: "ولكن اليمين على المدَّعَى عليه"؛ يعني: لا يدفَعُ إلى المدَّعِي ما ادَّعاه بمجرَّدِ دعواه، ولكنْ عليه البَيِّنَة، فإن لم يكنْ له بَيِّنَةٌ يحلِفُ المدَّعى عليه أنه لا شيءَ في ذِمَّتِه للمُدَّعِي، وتَبْرأ ذمته. * * *

2828 - وقال: "مَن حَلَفَ على يمينِ صَبْرٍ، وهو فيها فاجِرٌ، يَقتَطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، لقيَ الله يومَ القيامةِ وهو عليهِ غضبانُ". قوله: "يمينِ صَبْر"، (الصبرُ)؛ الحَبْسُ، والمراد باليمين الصَّبْر: اليمينُ التي يكونُ الرجلُ فيها متعمِّدًا قاصدًا لإذهاب مالِ مسلم. "وهو فيها فاجر"؛ أي: وهو فيها كاذب. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن مسعود. * * * 2829 - وقال: "مَن اقتَطَعَ حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيَمينِه فقد أَوْجَبَ الله لهُ النَّارَ وحرَّم عليهِ الجنَّةَ"، فقالَ لهُ رَجُلٌ: وإنْ كانَ شَيْئًا يَسيْرًا يا رسولَ الله؟ قال: "وإن كانَ قَضيبًا مِن أراكٍ". قوله: "وحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ"؛ يعني: حَرَّمَ عليه الجَنَّةَ حتى يطهُرَ من ذلك الذنبِ والمَظْلَمة. روى هذا الحديثَ إياس بن ثعلبة الحارثي. * * * 2830 - وقال: "إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكم تَخْتصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أنْ يكونَ أَلحنَ بحُجَّتِه مِن بعضٍ، فأَقضيَ لهُ على نحوِ ما أسمَعُ منهُ، فمَن قضيتُ لهُ بشيءٍ مِن حقِّ أخيهِ فلا يأخُذنَّهُ، فإنَّما أَقطعُ لهُ قِطعةً مِن النَّارِ". قوله: "أَلحن بحُجَّته"؛ أي: أفصحُ وأقدَرُ على العِبَارة، فيُزين كلامَه بحيث أظنُّه صادقًا في دعواه، وربما يكون كاذبًا، فأقضي على وفق ظاهر دعواه، ولم أعرف أنه كاذبٌ بينه وبين الله.

قوله: "فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فلا يأخُذنَّه"؛ يعني: ما كانَ حرامًا لا يحِلُّ بأن يقضيَ القاضي بحِلِّه، وما كان حلالاً لا يحرَّم بأن يقضيَ القاضي بتحريمه، وبهذا قال الشافعي وأحمد ومالك. وقال أبو حنيفة: الحُكْمُ ما قضى به الحاكمُ في العقود والفسوخِ، حتى لو شهدَ شاهدا زورٍ ببيعِ مال، فحكمَ القاضي بشهادتهما بالمُلْك للمُدَّعي في ذلك المبيع = حَلَّ ذلك المبيعُ للمُدَّعي، وإن كان كاذبًا فيما بينَه وبينَ الله تعالى. روت هذا الحديثَ أمُّ سَلَمَة. * * * 2831 - وقال: "إنَّ أبغضَ الرِّجالِ إلى الله الأَلدُّ الخَصِمُ". قوله: "الأَلَدُّ الخَصِمُ"، (الأَلَدُّ) مبالغة؛ أي: أشدُّ مخاصمةً، الأَلَدُّ مضافٌ، والخَصِمُ مضافٌ إليه، وهو مصدر، وتقديره: الذي لدَّتْ مخاصمتُه؛ أي: اشتدَّتْ. روت هذا الحديث عائشة. * * * 2832 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بيَمينٍ وشاهدٍ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمينٍ وشاهدٍ"؛ يعني: كان للمدَّعِي شاهدٌ واحدٌ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلِفَ على ما يدَّعيه بدلاً من الشاهدِ الآخر، فلما حلَفَ قضى له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما ادَّعاه، وبهذا قال الشافعيُّ ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوزُ الحُكْمُ بالشاهد واليمين، بل لا بدَّ من الشاهدين،

وخلافُهم في الأموال، فأما إذا كان الدَّعوى في غير الأموال، فلا يُقبَلُ شاهدٌ ويمينٌ بالاتفاق. * * * 2833 - وعن عَلْقَمَةَ بن وائِلٍ، عن أبيهِ، قال: جاءَ رجلٌ مِن حَضْر مَوْتَ ورَجُلٌ مِن كِنْدَةَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ الحَضْرَمِيُّ: يا رسولَ الله! إنَّ هذا غَلبني على أرضٍ لي، فقالَ الكِنْدِيُّ: هي أرضي وفي يَدِي ليسَ له فيها حَقٌّ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَينَةٌ؟ "، قال: لا، قال: "فَلَكَ يمينُهُ"، قال: يا رسولَ الله! إنَّ الرَّجُلَ فاجِرٌ لا يُبالِي على ما حَلفَ عليه، وليسَ يَتَوَرَّعُ مِن شيء، قال: "ليسَ لك مِنهُ إلاَّ ذلك"، فانْطَلَقَ ليَحلِفَ، فقال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أَدْبَرَ: "لَئِنْ حَلَفَ على مالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلمًا لَيَلْقَينَّ الله وهوَ عنهُ مُعرِضٌ". قوله: "إلا ذلك"؛ أي: إلا اليمين. قوله: "وهو عنه مُعْرِضٌ"؛ أي: لا ينظرُ إليه بنظَرِ الرحمة حتى يأخذَ مِن حسناته بقَدْر ما ظلمَ على المظلوم. * * * 2834 - وقال: "مَن ادَّعى ما ليسَ لهُ فليسَ منَّا، وليَتَبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِن النَّارِ". قوله: "من ادَّعى ما ليس له فليس منا"؛ يعني: مَن ادَّعى دعوى كاذبةً؛ ليأخذَ مالَ أحدٍ بالباطل، فليس مِنَّا في هذا الفعل، وله النار. روى هذا الحديثَ أبو ذر - رضي الله عنه -. * * *

2835 - وقال: "أَلاَ أُخْبرُكم بخيرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتِي بشهادَتِهِ قبلَ أن يُسْأَلَها". قوله: "ألا أخبرُكُم بخيرِ الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبلَ أنْ يَسْأَلها" هذا في شهادة الحسِبْة؛ أي: في حقوق الله تعالى كالزكاة وغيرها. من عَلِمَ أنَّ على رجلٍ زكاةً جازَ له أن يشهدَ عليه عند عاملِ الزكاة على وجوب الزكاة على ذلك الرجل، وكذلك لو علمَ أن رجلاً أعتقَ عبدًا، أو وقفَ أرضَه وَقْفًا عامًا، أو طَلَّقَ امرأتَه = جازَ أن يشهدَ في هذه الأشياء، وإن لم يسأَلْه أحدٌ تلك الشهادةَ؛ لأنه ليس لهذه الأشياء مطالبُ، فلو لم يشهدْ بها؛ لضاعت هذه الأشياءُ، وكذلك لو كان حقٌّ لآدمي، وفيه شهادةٌ عند رجل، ولم يَعْلَمِ المُدَّعي أن له شاهدًا بذلك = جازَ للشاهد أن يشهَدَ بذلك الحقِّ، كيلا يضيعَ حقُّه. والأَولى أن يخبرَ الشاهدُ المُدَّعِيَ قبلَ أن يَدَّعِيَ، بأن يقول: أنا شاهدٌ في هذا، فاطلُبني حتى أشهدَ لك به عند الحاكم، فأما كلُّ حقًّ لآدميٍّ يعلَمُ المُدَّعِي الشاهدَ لا يجوزُ للشاهد أن يشهدَ فيه حتى تُطْلَبَ منه الشهادةُ. روى هذا الحديثَ زيدُ بن خالد الجُهَني. * * * 2836 - وقال: "خيرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ يَجيءُ قومٌ تَسْبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُهُ شهادَتَه". قوله: "ثم يجيءُ قومٌ تسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه"؛ يعني: يشهدُ من غير أن يُسْتَشْهدَ، ثم يَحْلِفُ بأن يقولَ: والله إني لصادقٌ فيما شهدتُ به. وقوله: "ويمينُه شهادتُه"؛ أي: يَحْلِفُ بأن يقولَ: إني لصادقٌ فيما أَشْهَدُ

به، ثم يَشْهدُ، ويحتملُ أن يكونَ هذا مِثلَ هذا في سرعة الشهادة واليمين، وحَرِصَ الرجلُ عليهما؛ يعني: يحرِصُ عليهما، وشرعُ فيهما حتى لا يَدْرِي أنه بأيهما يبتدئ، فكأنه يسبقُ شهادتُه يمينَه، ويمينُه شهادتَه من قِلَّة مبالاته بالدِّين. وإنما تكونُ الشهادةُ مذمومةً قبل أن يستشهَد إذا علم صاحبُ الحق أن له في ذلك الحقِّ شاهدًا، فإذا كان كذلك لا يجوزُ للشاهد أن يشهدَ حتى يطلبَ صاحبُ الحقِّ منه الشهادة، وكذلك لا يجوزُ اليمينُ إذا وجبتْ عليه يمينٌ قبل أن يستَحْلِفَه صاحبُ الحقِّ، فلو حلفَ قبل أن يستَحْلِفَه ولم يعتدَّ بحَلِفِه، بل يلزمه إعادةُ الحَلفِ إذا استَحْلَفَه صاحبُ الحَقِّ. * * * 2837 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عرضَ على قومٍ اليمينَ فأَسرَعوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بينَهم في اليمينِ أَيُّهم يَحلِفُ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضَ على قومٍ اليمينَ فأسرعوا، فأمر أن يُسْهَمَ بينهم في اليمين أَيُّهم يحلف"، (أَسْهَمَ)؛ أي: أَقْرَع. صورة هذا: أن رجلين إذا تداعيا مَتاعًا في يدِ ثالث، ولم يكنْ لهما بَينَةٌ، أو لكلِّ واحدٍ منهما بَينَةٌ، وقال الثالث: لم أعلمْ أنه لكما، أو لغيركما، فحُكْمُ هذا أن يُقْرَعَ بين المتداعِيَيْن، فأيُّهما خَرَجَتْ له القُرْعَةُ يَحْلِفُ مع القُرْعة، ويُقْضَى له بذلك المتاع، وبهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ففي هذه الصورة في قول الشافعي: يُتْرَكُ ذلك المتاعُ في يدِ الثالث، وفي قولٍ آخرَ للشافعي، ومذهب أبي حنيفة: أنه يُجْعلُ بين المتداعِيَين نصفان مع يمينِ كلِّ واحدٍ منهما.

وقال الشافعيُّ في قولٍ آخر: يُقْرَعُ بين المتداعيين، فمن خرجَتْ قرعتُه يَحْلِفُ ويأخُذُ، وكذلك قال أحمد، إلا أنه قال: إذا خرجتْ لأحدهما القرعةُ يكون ذلك المتاعُ له بلا يمين. * * * مِنَ الحِسَان: 2839 - عن أُمِّ سَلمةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: في رَجُلَيْنِ اختصَما إليهِ في مَوَاريثَ لم يكنْ لهما بينَةٌ إلا دَعْوَاهُمَا فقال: "مَنْ قضَيتُ لهُ بشيءٍ مِن حقِّ أخيهِ فإنَّما أَقطعُ لهُ قِطعةً مِن النّارِ"، فقال الرَّجُلانِ كلُّ واحدٍ منهما: يا رسولَ الله! حقِّي هذا لِصَاحِبي، فقالَ: "لا ولكنْ اذهبَا فاقتسِما وتَوَخَّيا الحقَّ، ثم استَهِما ثم لْيُحَلِّلْ كلُّ واحدٍ منكما صاحِبَهُ". ويُروى أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ في هذا الحديث: "إنما أَقضي بينَكم برأيي فيما لم يُنْزَلْ عليَّ فيهِ". قوله: "في مَوَاريثَ"، وهي جَمْعُ موروث؛ يعني: تداعَيا في أمتعة، فقال أحدهما: هذه الأمتعة لي ورثْتُها من مُوْرِثي، وقال الآخر: بل إنها لي، ورثْتُها من مُوْرِثي، ولم يكنْ لهما بَينَةٌ بما قالا، فخَوَّفَهما رسولُ الله بقوله: إنما أَقْطَعُ له قِطْعةً من النار، فخافا وقال كلُّ واحدٍ منهما: هذا لصاحبي، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فاقتسِما وتوخَّيا الحقَّ"؛ أي: اطلُبا العَدْلَ في القِسْمة، واجْعَلاها نِصْفَين. "ثم اسْتَهِمَا"؛ أي: ثم أَقْرِعا، حتى يَظْهَرَ بالقُرْعَة، أيُّ القسمين وقعَ في نصيب كلِّ واحدٍ منكما، ثم ليحْلِلْ كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه. * * *

2841 - عن أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيا بعيرًا على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبعثَ كلُّ واحدٍ منهما شاهدَينِ فَقَسَمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما نِصفينِ. وبإسناده: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بعيرًا ليستْ لواحدٍ منهما بينَةٌ فجَعَلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما. قوله: "فجعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما"؛ اعلم أن رجلين إذا تداعيا مَتاعًا، وتساويا في أنَّ لكل واحدٍ منهما بَينَةً، أو ليس لكلِّ واحدٍ منهما بَينةٌ، وكان المتاع في أيديهما، أو لم يكن في يدِ واحدٍ منهما = يُقْسَمُ ذلك المتاعُ بينهما نصفين؛ لتساويهما في جميع هذه الأشياء، وإن كان في يد أحدهما يُحْكَم به لصاحب اليد. * * * 2842 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلينِ اختصَمَا في دابَّةٍ وَلَيْسَ لهما بينَةٌ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "استهِمَا على اليَمينِ". قوله: "أن رجلين اختصما في دابةٍ وليس لهما بينةٌ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: استهما على اليمين"، هذا الحديث مثلُ الحديث الذي ذُكر شَرْحُه قبل حِسَانِ هذا الباب. * * * 2844 - عن الأَشْعَثِ قال: كانَ بَيْنِي وبينَ رجُلٍ مِن اليَهودِ أرضٌ فجحدَني، فقدَّمتُهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ألَكَ بَينَةٌ؟ "، قلتُ: لا، قال لليهوديِّ: "احلِفْ"، قلتُ: يا رسولَ الله، إِذَنْ يَحْلِفَ ويذهبَ بمالي، فأنزلَ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، صحيح.

قوله: "إذنْ يَحْلِفَ ويذهبَ بمالِي"؛ يعني: لو حلَّفته لحلف، ولذهب بمالي يعني لو حَلَّفه يحلف؛ لأنه يهوديٌّ لا يخاف الله، فأنزل الله هذه الآية تخويفًا لمن يحلِفُ كاذبًا، أو ينقضُ عهدًا لسبب متاعِ الدنيا. شرح الآية: قوله: " {ثَمَنًا قَلِيلًا} "؛ أي: مالًا قلَّ أو كَثُرَ؛ لأن جميعَ متاع الدنيا قليل. " {لَا خَلَاقَ} "؛ أي: لا نصيب لهم في الآخرة من الخير والثواب. " {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} "؛ أي: ولا يكلمهم الله بما يَسرُّهم ويُفْرِحُهم، بل يُسمعهم ما يُحزنهم. " {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} "؛ أي: ولا يطهِّرهم من ذلك الذنب حتى عُذِّبُوا بذلك الذنب، ثم خرجوا من النار إن كانوا مسلمين. * * * 2845 - عن الأَشْعَثِ بن قيْسٍ: أنَّ رَجُلاً مِن كِنْدَةَ ورَجُلاً مِن حَضْرَمَوْتَ اختصَمَا في أرضٍ مِن اليمنِ، فقال الحَضْرَمِيُّ: يا رسولَ الله، إنَّ أرضي اغتَصبنيها أبو هذا وهي في يَدِهِ، قال: "هَلْ لَكَ بَينَةٌ؟ "، قال: لا ولكن أُحَلِّفُه: والله ما يَعْلمُ أنَّها أرضي اغتَصَبنيها أبوهُ، فَتَهَيَّأَ الكِنْدِيُّ لليمينِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْتَطِعُ أحدٌ مالاً بيمينٍ إلا لقيَ الله وهو أَجْذَمُ"، فقالَ الكِنْدِيُّ: هي أَرْضُه. قوله: "وهو أَجْذَمُ"، (الأَجْذَمُ): مقطوعُ اليد، والمراد به ها هنا: أنه يكون يوم القيامة بلا عُذْرٍ ولا حُجَّة؛ يعني: يكون خاسرًا خائبًا، ولا يكونُ له عند الله عُذْرٌ وحُجَّةٌ في أَخْذِ مالِ مسلمٍ ظلمًا، وفي حَلِفِه كاذبًا.

2846 - عن عبد الله بن أُنَيْسٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن أكبرِ الكَبائِرِ الشِّركَ بالله وعُقوقَ الوالدَيْنِ، واليمينَ الغَمُوسَ، وما حَلَفَ حَالِفٌ بالله يمينَ صَبْرٍ، فأَدْخَلَ فيهِ مثلَ جَناحِ بعُوضَةٍ إلا جُعِلَتْ نُكْتَةً في قلبهِ إلى يومِ القِيامَةِ"، غريب. قوله: "فأدخلَ فيها مثلَ جناحِ بعوضةٍ"؛ أي: أدخلَ في تلك اليمينِ شيئًا من الكَذِب. * * * 2847 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحْلِفُ أَحَدٌ عندَ مِنبري هذا عَلَى يَمِينٍ آِثمَةٍ - ولو على سِوَاكٍ أخضرَ - إلا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ من النَّارِ، أو وَجَبَتْ لهُ النَّارَ". قوله: "عند منبري"، إنما خصَّ - صلى الله عليه وسلم - منبَره بتعظيمه وشرفِه، وإلا لكان الكذبُ في اليمين وغيرِه موجِبًا للإثم، فإذا كان الكذبُ إثمًا يكونُ مع اليمين أكثرَ كذبًا وإثمًا، ويكون في الموضع الشريف أكثرَ إثمًا من موضعٍ غيرِ شريف. * * * 2848 - عن خُرَيْم بن فَاتِكٍ قال: صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبح فلمَّا انصرفَ قامَ قائِمًا وقالَ: "عُدِلَتْ شَهادةُ الزُّورِ بالإشراكِ بالله، ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثم قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ". قوله: "عُدِلَتْ شهادةُ الزُّوْر بالإشراكِ بالله"؛ أي: جُعِلَت الشهادةُ الكاذبة متماثلةً للإشراك بالله في الإثم؛ يعني: كما أن الإشراكَ بالله مُوْجِبٌ للعذاب،

فكذلك شهادةُ الزور، إلا أن الإشراكَ بالله موجِبٌ للخلود في النار؛ لأنه كفرٌ، وشهادة الزور غير موجبة للخلود؛ لأنه ذنبٌ لا كفرٌ. * * * 2849 - عن عائشةَ رضي الله عنها تَرْفَعُه قالتْ: لا تَجُوزُ شَهادةُ خائنٍ ولا خائِنَةٍ ولا مَجلُودٍ حدًّا، ولا ذِيْ غِمْرٍ على أخيهِ، ولا ظَنِينٍ في وَلاءٍ، ولا قَرابَةٍ، ولا القانِعِ لِأَهْلِ البيتِ. ضعيف. قوله: "لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنةٍ"؛ يعني: لا يجوزُ شهادةُ الفاسِقَين، والخيانةُ من جملة الفسوق، والفاسق: من فعلَ كبيرةً، أو أصرَّ على الصغائر، فإذا تاب تُقْبَلُ شهادته، والخيانةُ من الكبائر، وهي أخذُ مالِ أحدٍ غصبًا، أو سرقة، وبأي سبب يأخذ مالَ أحدٍ بغير إذنه وبغير استحقاق، فهو خائن. قوله: "ولا مجلود حَدًا"، قال أبو حنيفة: إذا جُلِدَ القاذفُ لا تقبلُ شهادتُه أبدًا وإن تاب، وأما قبل الجَلْد تُقْبلُ شهادتُه. وقال غيره: (القذف) من جملة الفسوق، لا يتعلَّقُ بإقامة الحَدِّ، بل إن تاب قُبلَتْ شهادتُه سواءٌ جُلِدَ أو لم يُجلَد، وإن لم يتبْ لا تُقبَلُ شهادتُه سواءٌ جُلد أو لم يُجلَد. قوله: "ولا ذي غِمْرٍ على أخيه"، (الغِمْرُ): الحقدُ على أخيه؛ أي: على أخيه المسلمِ سواءٌ كان أخاه من النسب، أو كان أجنبيًا؛ أي: لا تقبل شهادةُ العدوِّ على عدوٍّ خلافًا لأبي حنيفة. قوله: "ولا ظَنِينٍ في وَلاء، ولا قَرابة"، (الظَّنِينُ): المُتَّهم؛ يعني: مَن قال: أنا عَتِيقُ فلانٍ، وهو كاذب فيه بحيث يتهمه الناس في قوله: أنا عتيق فلان،

ويكذبونه لا تقبل شهادته؛ لأنه فاسق؛ لأنَّ قَطْعَ الولاء عن المُعْتِق، وإثباتَ ولائه لمن ليس بمعتِقه كبيرة، وفاعلُ الكبيرةِ فاسقٌ، وكذلك الظَّنين في القرابة، وصورتُه أن يقول: أنا ابن فلان، وأنا أخو فلان من النسب، وهو كاذب بحيث يتَّهِمُه الناس، ويكذِّبونه في ذلك الانتساب لا تُقبَلُ شهادتُه؛ لما ذكرنا. قوله: "ولا القانع من أهل البيت"، (القانعُ): السائلُ المُقْتَنع؛ أي: الصابرُ بأدنى قُوْت، والمراد به ها هنا: مَن كان في نفقةِ أحدٍ لا تُقبَلُ شهادتُه له؛ لأنه يَجُرُّ نَفْعًا بشهادته إلى نفسه؛ لأنَّ ما حصلَ من مالٍ للمشهود له يعودُ نفعًا إلى الشاهد؛ لأنه يأكلُ من نفقته. وكذلك لا تُقبَلُ شهادةُ مَنْ جرَّ نفعًا بشهادته إلى نفسه كالوالد يشهدُ لولده، أو الولد يشهدُ لوالده، أو الغريمِ يشهدُ بمالٍ للمُفْلِس على أحد، وتُقْبَلُ شهادةُ أحدِ الزوجين لآخر، خلافًا لأبي حنيفة وأحمدَ، وتُقْبَلُ شهادةُ الأخِ لأخيه خلافًا لمالك. * * * 2851 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوزُ شهادةُ بَدَويٍّ على صاحِبِ قَرْيةٍ". قوله: "لا تجوزُ شهادةُ بَدَويٍّ على صاحبِ قَرْية"، قال الخَطَّابي: إنما لا تُقبَلُ شهادةُ البَدَوِيِّ؛ لجهالتهم بأحكام الشريعة، وبكيفية تحمُّلِ الشهادةِ وأدائها، وغلبةِ النسيانِ عليهم، فإن عَلِمَ كيفيةَ تحمُّلِ الشهادة وأدائها بغير زيادة ونقصان، وكان عَدْلاً، مِن أهل قَبُول الشهادة جازت شهادتُه خلافًا لمالك. * * * 2852 - عن عَوْفِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بينَ رَجُلينِ، فقالَ المَقْضيُّ عليهِ لَمَّا أَدبرَ: حَسْبيَ الله ونِعْمَ الوكيلُ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يَلُومُ

على العَجْزِ، ولكنْ عليكَ بالكَيْسِ، فإذا غَلَبَكَ أمرٌ فقلْ: حَسْبيَ الله ونِعْمَ الوكيلُ". قوله: "حسبي الله ونعم الوكيل"، إنما قال المقضيُّ عليه - وهو المُدَّعى عليه - هذا الكلامَ: إشارةً إلى أن المُدَّعِي أخذَ مني المال باطلاً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يلومُ على العَجْز"؛ يعني: أنت مقصِّرٌ في الاحتياط، ولعل المقضيَّ عليه كان عليه دَيْنٌ للمُدَّعِي، فأدَّاه مرةً، ولم يكنْ له في الأداء بَينةٌ، فادَّعى المُدَّعِي مرة أخرى، وأخذ الدَّيْن منه مرة أخرى، فقال المَقْضيُّ عليه: قد أَدَّيْتُ الدَّيْنَ مرةً، ولكن لمَّا لم يكن له بَينَةٌ في الأداء لم يُسمعْ منه دَعْوى الأداء، فعابه النبي - صلى الله عليه وسلم - على التقصير في الإشهاد. قوله: "فإذا غلبَكَ أمرٌ"؛ يعني: بالغْ في الاحتياط بقَدْرِ طاقتك، فإذا بالغتَ في الاحتياط، ثم وقعَ عليك واقعةٌ بحيث لم يكنْ منك تقصيرٌ، فحينئذ قل: حسبي الله. * * * 2853 - عن بَهْزِ بن حَكِيْمٍ، عن أبيه، عن جده: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً في تُهْمةٍ ثم خلَّى عنه". قوله: "حبسَ رجلاً في تُهمةٍ، ثم خَلَّى عنه"؛ يعني: ادُّعِيَ على ذلك الرجل ذنبٌ أو دينٌ، فحبسَه رسول الله؛ ليعلمَ صدقَ تلك الدعوى بالبَينَة، فلمَّا لم يكن للمُدَّعِي بَينَةٌ رُفِعَ عنه الحبسُ، وهذا دليلٌ على أن الحَبْسَ من أحكام الشرع. ° ° °

17 - كتاب الجهاد

17 - كِتابُ الجهَادِ

[17] كِتابُ الجهَادِ (كتاب الجهاد) مِنَ الصِّحَاحِ: 2854 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آمَنَ بالله وَبرَسُولهِ، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كانَ حَقًّا على الله أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، جاهدَ في سبيلِ الله أو جَلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، قالوا: أفلا نُبَشِّرُ الناسَ؟ قال: "إنَّ في الجَنَّةِ مئةَ درجةٍ أعدَّها الله للمُجاهِدِينَ في سبيلِ الله، ما بين الدَّرجتَيْنِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سَأَلتمُ الله فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أَوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعلى الجَنَّةِ، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمَنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ". قوله: "جاهدَ في سبيل الله، أو جلسَ في أرضه التي وُلِدَ فيها"؛ يعني: ليس الجهادُ فرضَ عينٍ كالإيمان بالله ورسوله، وإقامِ الصلاة، وصومِ رمضان، والزكاة، فإنهن فروضُ عينٍ مَنْ تركَهُنَّ عُذِّبَ يومَ القيامة، والجهادُ فرضٌ على الكفاية، فإذا قام به جماعةٌ سقطَ عن الباقين. * * * 2855 - وقال: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ الله كمثلِ الصائمِ القائمِ القانِتِ

بآياتِ الله، لا يَفْتُرُ مِن صِيامٍ ولا صَلاةٍ حتى يرجِعَ المُجاهدُ في سَبيلِ الله". قوله: "القانتِ بآياتِ الله"؛ يعني: العاملِ بالقرآن، أو قارئِ القرآن في صلاته. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2856 - وقالَ: "انتدَبَ الله لِمَن خَرجَ في سَبيلهِ لا يُخْرِجُه إلا إيمانٌ بي، وتصدِيقٌ برُسُلِي، أنْ أُرْجِعَهُ بما نالَ مِن أجْرٍ أو غَنِيمةٍ، أو أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ". قوله: "انتدبَ الله لمَنْ خرجَ في سبيله"، (ندبَ): إذا دُعِيَ إلى أمرٍ، و (انتدب): إذا أجاب؛ أي: أجابَ الله لمن خرجَ في سبيله؛ أي: في الجهادِ، وضَمِنَ له. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2857 - وقال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لو أَنَّ رِجَالاً مِن المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهم أنْ يتخلَّفوا عني، ولا أجدُ ما أَحمِلُهم عليه، ما تَخلَّفتُ عن سَرِيَّةٍ تَغْزو في سَبيلِ الله، وقال: والذي نفسِي بيدِهِ، لَوَدِدْتُ أنيِّ أُقْتَلُ في سَبيلِ الله ثم أُحيا، ثم أُقْتَلُ ثم أُحيَا، ثم أُقْتَل ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ". قوله: "لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تَطِيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفُوا عني، ولا أجِدُ ما أَحْمِلُهم عليه"؛ يعني: أريدُ أن أمشيَ إلى الغزو مع كلِّ جيشٍ من غايةِ فَضْلِ الغَزْو، وإلا أن بعضَ أصحابي فقراءُ ليس لهم مركوباتٌ، فإن ذهبتُ إلى الغزو، وتركتُهم في مقامهم؛ لضاق صدرُهم بتخلُّفِهم؛ أي: بتأخُّرِهم عني،

ومفارقتهم إياي، وليس لي مركوباتٌ أُعْطِيها إياهم؛ ليركبوا عليها. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2858 - وقال: "رِبَاطُ يومٍ في سَبيلِ الله خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها". قوله: "رباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ من الدنيا وما عليها"؛ أي: إقامةُ يومٍ في الجهاد، وانتظار الغزو يومًا خيرٌ من الدنيا وما فيها من المال. روى هذا الحديث سهل بن سعد الساعدي. * * * 2859 - وقال: "لَغَدوَةٌ في سَبيلِ الله أو رَوْحَةٌ خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها". قوله: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ"، (الغَدْوَةُ) - بفتح الغين -: الذهابُ أولَ النهار، و (الرَّوْحَةُ) - بفتح الراء -: الذهابُ والعملُ آخرَ النهار. روى هذا الحديثَ سهلُ بن سعدٍ وأنسٌ. * * * 2860 - وقال: "رِباطُ يوم وليلةٍ خيرٌ من صِيامِ شَهرٍ وقِيامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عليهِ عَمَلُه الذي كانَ يعمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عليهِ رِزقُهُ، وأَمِنَ الفَتَّانَ". قوله: "وإن ماتَ جَرَى عليه عملُه الذي كان يعملُه" في حياته؛ يعني: إن مات أو قُتِلَ في الغزو يُكتبْ له ثوابُ العمل الذي كان يعملُه في حياته؛ يعني: أبدًا يصلُ إليه ثوابُ العمل؛ لأنه كان يسعى في إحياء الدين، وقَتْلِ أعداءِ الله. قوله: "وأُجْرِيَ عليه رِزْقُه"؛ أي: يُطْعَمُ من طعامِ الجنة، ويَشْربُ من

شرابها، ويأتي شرحُ هذا في هذا الباب في قوله: "أرواحُهم في جوفِ طير". قوله: "وأَمِنَ الفَتَّانَ"، للفتن معانٍ كثيرةٌ، واللائقُ هنا أن تكون بمعنى الإحراقِ والتعذيب. و (الفُتَّان) - بضم الفاء -: جمع فاتن، وبفتحها: مبالغة، وكلاهما من الفَتْنِ بمعنى الإحراق والتعذيب؛ أي: أمنَ من النار المُحْرِقَة، أو من الزبانية الذين يعذِّبون الكفار والفجار، أو من فتنة القبر؛ أي: عذابه، ويسهلُ عليه جوابُ المنكَرِ والنَّكير. روى هذا الحديثَ سلمانُ الخير. * * * 2861 - وقال: "ما اغبَرَّت قَدَمَا عبدٍ في سَبيلِ الله فتمسَّهُ النَّارُ". قوله: "ما اغْبَرَّتْ قدما عبدٍ"، (اغبرَّ)؛ أي: صارَ ذا غُبَار؛ يعني: من وصلَ إليه الغبارُ في الغزو لم تصلْ إليه نارُ جهنم. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 2862 - وقال: "لا يجتَمعُ كافِرٌ وقاتِلُهُ في النَّارِ أبَدًا". قوله: "لا يجتمع كافرٌ وقاتِلُه في النار أبدًا"؛ يعني: إذا كان الكافرُ في النار لا يكون قاتلُه في النار. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2863 - وقال: "مِن خَيْرِ مَعاشِ النَّاسِ لَهم، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فرسِهِ في

سَبيلِ الله يطيرُ على مَتْنِهِ، كلما سَمِعَ هَيْعةً أو فَزْعَةً طارَ عليه يبتغي القتلَ والمَوتَ مَظَانَّةُ، أو رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رأسِ شَعَفَةٍ مِن هذهِ الشَّعَفِ أو بطنِ وادٍ من هذه الأودِيةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ ويُؤْتي الزَّكاةَ ويعبدُ ربَّهُ حتى يَأتِيَه اليقينُ، ليسَ مِن النَّاسِ إلا في خَيرٍ". قوله: "يطيرُ"؛ أيَ: يُسْرِعُ "على مَتْنِه"؛ أي: على ظهره. "هَيْعَةً"؛ أي: صوتًا. "فَزْعَةً"؛ أي: خوفًا. "طار عليه"؛ أي: أسرعَ على ظهر فرسه؛ يعني: كلَّما سمع صوتًا أو خوفًا بحضور الكفار يَقْصِدُ دَفْعَهم. قوله: "يبتغي القتلَ والموتَ مَظَانَّه"، (يبتغي)؛ أي: يطلبُ، (المَظَانُّ): جمع مَظِنَّة، وهي الموضع، و (مظانَّه): نصبٌ على الظرف. يعني: يطلبُ الموتَ والقتلَ في مواضعه؛ أي: في مواضعِ القَتْل؛ أي: في المحاربة؛ لأن المحاربةَ سببُ القَتْل. "في غُنَيْمَةٍ"؛ أي: في قطيعةٍ من الغَنَم يَفِرُّ من الناس، ويسكن رأسَ جبل، أو واديًا، حتى لا يلحَقَه ضَرَرُ الناسِ وفتنتُهم، ولا يلحَقُهم ضررٌ، ويقضي حقوقَ الله وأَمْرَه، فهو في خيرٍ من الناس؛ أي: لا يلحَقُه ضررُهم ولا يؤذيه أحد، ولا يؤذي أحدًا. "الشَّعَفَة": رأس الجبل. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2864 - وقال: "مِن جَهَّزَ غازِيًا في سَبيلِ الله فقد غَزَا، ومَن خَلَفَ غازيًا

في أهلِهِ فقد غَزَا". قوله: "مَنْ جَهَّزَ غازيًا"؛ يعني: مَنْ أَعْطَى غازيًا فرسًا وسلاحًا ونفقةَ ذهابه إلى الغزو، فقد حصلَ له ثوابُ الغزو. قوله: "ومن خَلَفَ غازيًا في أهله"، (خَلَفَ) - بتخفيف اللام -: إذا قامَ مَقامَه؛ يعني: مَنْ قامَ مقامَ غازٍ في خدمةِ أهل بيته، فقد حصلَ له ثوابُ الغَزْو. روى هذا الحديثَ زيدُ بن خالد الجُهَني. * * * 2865 - وقال: "حُرمَةُ نساءِ المُجَاهدينَ على القَاعِدينَ كحُرمةِ أُمَّهاتِهِم، وما مِن رَجُلٍ مِن القاعِدين يَخْلُفُ رَجُلاً مِن المُجاهدينَ في أهلِهِ، فيَخُونهُ فيهم، إلا وُقِفَ له يومَ القيامَةِ فيَأْخُذُ مِن عَمَلِهِ ما شاءَ، فما ظَنُّكم؟ ". قوله: "فما ظَنُّكم"، (ما): للاستفهام؛ يعني: هل تشكُّون في هذه المجازاة أم لا؛ يعني: فإذا علمتم صدقَ ما أقولُ، فاحذروا من الخيانةِ في نساء المجاهِدين، وإنما خصَّ الوعيدَ بالخيانة في نساء المجاهدين؛ لأنهم أفضلُ من غيرِهم من المشتغلين بالطاعات، والخيانةُ فيمن هو أفضلُ أَقْبَحُ. روى هذا الحديثَ بُرَيدةُ الأسلمي. * * * 2866 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ بناقةٍ مَخْطومَةٍ فقالَ: هذه في سَبيلِ الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكَ بها يومَ القيامَةِ سَبع مِئَةِ ناقَةٍ كلُّها مَخْطُومَةٌ". قوله: "مَخْطُومةٍ"؛ أي: جُعِلَ الخِطَامُ على أنفها، والخِطَامُ: الزِّمام.

2867 - وعن أبي سعيدٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بَعْثًا إلى بني لِحْيانَ مِن هُذَيْلٍ، فقالَ: "لِيَنْبَعِثْ مِن كُلِّ رَجُلينِ أحدُهما والأجرُ بينَهما". قوله: "بَعَثَ بَعْثًا"؛ أي: أرسلَ جيشًا إلى الغزو. قولُه: "والأَجْرُ بينهما"؛ أي: ثوابُ الغَزْو بينهما، أمَّا ثوابُ مَنْ غَزا فظاهرٌ، وأما ثوابُ من قَعَدَ في بيته؛ فلأنَّه يَخْدِمُ الذي ذهبَ إلى الغزو، ويعينُ أهلَ بيته. * * * 2868 - وقال: "لنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائمًا يقاتِلُ عليهِ عِصابةٌ مِن المسلمين حتى تقومَ الساعةُ". قوله: "لن يَبْرحَ هذا الدِّينُ"؛ يعني: لن يزالَ هذا الدينُ يجاهِدُ عليه جماعةٌ من المسلمين إلى يوم القيامة؛ يعني: لا يخلُو وَجْهُ الأرضِ من الجهاد إن لم يكنْ في ناحيةٍ يكونُ في ناحيةٍ أخرى. روى هذا الحديثَ جابرُ بن سَمُرَة. * * * 2869 - وقال: "لا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سبيلِ الله - والله أعلمُ بمَنْ يُكْلَمُ في سبيلِهِ - إلا جاءَ يومَ القيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ المِسْكِ". قوله: "لا يُكْلَمُ"؛ أي: لا يُجْرَح. "يَثْعَبُ"؛ أي: يسيلُ؛ يعني: تكونُ علامةُ الشهداء على الشهيدِ من غيرِ أن يكونَ له ألمٌ بسيلانِ ذلك الدمِ منه منه تشريفان:

أحدُهما: أن تفوحَ منه رائحةُ المِسْك في العَرَصَات. والثاني: أن يظهرَ كونهُ شهيدًا؛ لينالَ ثوابَ الشهداء. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2870 - وقال: "ما أحدٌ يدخلُ الجَنَّةَ يحبُّ أنْ يَرجعَ إلى الدُّنيا وله ما في الأرض مِن شيءٍ إلا الشهيدُ، يتمنَّى أنْ يرجَعَ إلى الدُّنيا فيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّاتٍ لِمَا يرى من الكرامةِ". قوله: "وله ما في الأرضِ من شيءٍ"، هذا معطوفٌ على قوله: "أن يرجعَ إلى الدنيا"؛ يعني: ما يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وما يحبُّ أيضًا أن يكونَ له شيءٌ مما في الأرض، بل لا يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، ولا يتمنَّى مَتاعَ الدنيا. ويجوز أن تكون الواو في (وَلَهُ) واوَ الحال؛ أي: لا يحبُّ أن يرجِعَ إلى الدنيا في حال كونه مالكًا لكثير من أمتعة الدنيا والبساتينِ والأملاك والأقارب ونفوذِ الأمر؛ يعني: مع أنه كان في الدنيا طَيبَ العيش لا يتمنَّى أن يرجِعَ إلى الدنيا. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 2871 - وسُئِلَ عبدُ الله بن مسعودٍ عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: إنَّا قد سَأَلْنَا عن ذلكَ فقال: "أرواحُهُم في جَوْفِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تسرحُ من الجنَّةِ حيثُ شاءَتْ، ثم تَأْوِي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلَعَ عليهم ربُّهم اطِّلاعةً فقال:

هل تَشْتهونَ شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشْتَهِي ونحنُ نَسْرَحُ مِن الجنَّةِ حيثُ شِئْنَا! فَفَعَلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رَأَوْا أنَّهم لن يُتْرَكُوا مِن أَنْ يُسْأَلُوا، قالوا: يا ربِّ نريدُ أنْ تَرُدَّ أرواحَنَا في أجسادِنَا حتى نُقتَلَ في سبيلِكَ مرَّةً أُخرى، فلمَّا رَأَى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكُوا". قوله: " {بَلْ أَحْيَاءٌ} "؛ أي: ليسوا أمواتًا، بل هم أحياءٌ عند الله يُرزقون، وكيفية رزقهم ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن أرواحَهم في أجوافِ طَيْر. قوله: "ففَعَلَ بهم ذلك"؛ أي: اطلع الله عليهم ثلاثَ اطِّلاعات، وسألهم عما يشتهون. * * * 2872 - عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله يُكَفَّرُ عنِّي خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ، إنْ قُتِلتَ في سبيلِ الله وأنتَ صابرٌ مُحتَسِبٌ، مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ"، ثم قال: "كيفَ قلتَ؟ "، قال: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله أَيُكَفَّرُ عني خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، وأنتَ صابرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ، إلا الدَّيْنَ فإنَّ جبريلَ قالَ لي ذلكَ". قوله: "مُحْتسِبٌ"؛ أي: طالبٌ ثوابَ الله لا طالبٌ الرياءَ والصِّيْتَ. * * * 2873 - وقال: "القتلُ في سبيلِ الله يُكَفِّر كلَّ شيءٍ إلا الدَّيْن". قوله: "القَتْلُ في سبيل الله يُكَفِّرُ كلَّ شيء إلا الدَّيْن"؛ يعني: مَنْ قُتِلَ في سبيل الله غُفِرَ له جميعُ ذنوبه إلا حقوقَ الآدميين.

روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو. * * * 2874 - وقال: "يَضْحَكُ الله إلى رجُلَيْنِ يَقتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلاَنِ الجنَّةَ، يُقاتِلُ هذا في سبيلِ الله فيُقْتَلُ ثم يتوبُ الله على القاتِلِ فيُسْتَشْهَدُ". قوله: "يَضْحَكُ الله إلى رَجُلَين"، اعلم أن الضَّحِكَ يحصُلُ من استحسان فعلٍ وقولٍ، وأثرُ الضَّحِكِ من الضاحك إيصالُ الخيرِ إلى مَن ضحكَ إلى وجهه. والمراد بهذا الحديث: أن الله يرحَمُ القاتلَ والمقتولَ، وصورتُه أن يقاتِلَ مسلمٌ وكافر، فيقتلُ الكافرُ المسلمَ، فيرحمُ الله المسلمَ لأنه قُتِلَ شهيدًا، ثم يوفِّقُ الله ذلك الكافرَ للإيمان فآمن، ثم يوفَّقُه للغزو فيغزو فيستشهد؛ أي: يُقْتَل شهيدًا، فيرحَمُه الله أيضًا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2875 - وقال: "مَن سألَ الله الشهادةَ بصِدقٍ، بَلَّغَهُ الله منازِلَ الشهداءِ وإنْ ماتَ على فراشِهِ". قوله: "من سألَ الله الشهادةَ"؛ يعني: مَنْ طلبَ مِن الله أنْ يجعله شهيدًا عن نية خالصة آتاه الله أجرَ الشهداء بصدق نيته، وإن ماتَ على فراشه. روى هذا الحديثَ سهلُ بن سعد. * * * 2876 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ الرُّبَيع بنتَ البَراءِ - وهي أمُّ حارِثَةَ بن سُراقَةَ -

أَتَت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبيَّ الله! أَلاَ تُحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يومَ بَدرٍ أصابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وإنْ كَانَ غيرَ ذلكَ اجتهدتُ عليهِ في البكاءِ، قال: "يا أُمَّ حارِثَةَ! إنها جِنانٌ في الجنةِ، وإنَّ ابنكَ أصابَ الفِردوسَ الأعلى". قوله: "سهمٌ غَربٌ" بفتح الراء وسكونها، ويجوز إضافة السهم إلى غرب، ويجوزُ أن نجْعَلَ (غَربًا) صفة لسهم، ومعنى كليهما: سهم لا يُدْرى راميه. * * * 2877 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: انطلَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ، حتى سَبقُوا المشركينِ إلى بدرٍ، وجاءَ المشركونَ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ"، قالَ عُمَيْرُ بن الحُمَامِ: بَخٍ بَخٍ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يَحْمِلُكَ على قولِكَ: بَخٍ بَخٍ؟ "، قال: لا والله يا رسولَ الله! إلاَّ رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها، قال: "فإنكَ مِن أَهلِهَا"، قال: فأخرجَ تمراتٍ فجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثم قال: لئنْ أَنَا حَييتُ حتى آكُلَ تَمَراتِي إنَّها لحَيَاةٌ طويلة، قال: فَرَمَى بما كانَ معَهُ مِنَ التَّمر ثم قاتَلَهم حتّى قُتِلَ". قوله: "سبقوا المشركين"؛ أي: نزلَ رسولَ الله وأصحابُه البدر قبل نزول الكفار. قوله: "بخ بخٍ"، هذه كلمةٌ يقولُها المتعجِّبُ من شيء، والمستحسِنُ شيئًا. قوله: "اخْتَرَجَ"؛ أي: أخرجَ تميراتٍ من ظَرْفِها. * * *

2879 - وقال: "ما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تغزُو فتَغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانُوا قد تَعَجَّلُوا ثُلُثي أجورِهم، وما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تُخفِقُ وتُصابُ إلا تَمَّ أُجورُهم". قوله: "ما من غازيةٍ"؛ أي: ما من جماعةٍ غازيةٍ. "أو سَرِيَّةٍ"، هذا شكٌّ من الراوي في أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من غازية، أو قال: ما من سرية. "تُخْفِقَ" - بضم التاء وسكون الخاء وكسر الفاء -؛ أي: تخلُو يدُه مما يطلبُه من المال، أو الكسب، أو الغنيمة. "وتُصَابُ"؛ أي: تُجْرَح أو تُقْتَل؛ يعني: مَن غزا، وحَصَلَتْ له الغنيمةُ يكون أجرُه أقلَّ من الذي غزا، ولم يحصلْ له الغنيمةُ، وجُرِحَ أو قُتِلَ؛ لأن الأجر بقدْر التعب. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. * * * 2880 - وقال: "مَن ماتَ ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ مِن نِفاقٍ". قوله: "ولم يحدِّثْ نفسَه"؛ يعني: ولم يقلْ مع نفسه: يا ليتني كنتُ غازيًا؛ يعني: من لم يَغْزُ ولم يتمنَّ الغَزْوَ عند القدرة فهو منافق، أو شابهَ المنافقين في عدمِ إرادةِ الغزو؛ لأن المنافقينَ لا يتمنَّون الغَزْوَ؛ لأنهم كُفَّار. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2881 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرَّجلُ

يُقاتِلُ للمَغْنَمِ، والرجلُ يقاتِلُ للذِّكْرِ، والرجلُ يقاتِلُ ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيلِ الله؟ قال: "مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهوَ في سبيلِ الله". قوله: "للذَّكْر"؛ أي: ليشتهرَ صيتُ شجاعتِه بين الناس. قوله: "ليُرَى مكانُه"؛ أي: ليُرَى منزِلُه من الجنة؛ أي: لتحصلَ له الجنة. قوله: "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا"، (كلمة الله)؛ أي: دِينُ الله؛ يعني: من غزا لإعزاز الدين لا للغنيمة وإظهارِ الشجاعة، فهو غازٍ، ومَن غزا لمجرد الغنيمة وإظهارِ الشجاعة، فليس له ثوابُ الغُزَاة. * * * 2882 - وعن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجعَ مِن غزوةِ تبوكَ فدَنَا مِن المدينةِ فقال: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطَعْتُم وادِيًا إلا كانُوا معَكم - وفي روايةٍ: إلاَّ شَركُوكُم في الأجر -"، قالوا: يا رسولَ الله وَهُم بالمدينةِ! قالَ: "وهَمُ بالمدينةِ حَبَسَهُم العذرُ". قوله: "حبَسهم العُذْرُ"؛ أي: الفقراءُ والضعفاءُ الذين لم يقدِرُوا على الغزو لضعفهم، أو لعدم زادِهم ومركوبهم = حصلَ لهم ثوابُ الغزو وإن لم يَغْزُوا؛ لأنهم يتمنَّون الغزوَ، ولكنهم لم يقدِرُوا عليه. * * * 2883 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذَنَهُ في الجهادِ، فقال: "أَحَيٌّ والِدكَ؟ "، قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهِد". وفي روايةٍ: "فارجِعْ إلى والدَيْكَ فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما". قوله: "ففيهما فجاهِدْ"؛ يعني: اخدُمْهما واطلبْ رضاهما، فإن خِدْمَتَهُمَا

وطلبَ رضاهما هو جهادُك. * * * 2884 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الفتحِ: "لا هِجْرَةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرتُمْ فانْفِرُوا". قوله: "ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ"؛ يعني: إذا فُتِحتْ مكةُ لا فضيلةَ في تَرْكِ مكة، والإتيانِ إلى المدينة؛ لأن كليهما من دار الإسلام، ولكنْ تكونُ الفضيلةُ في الجِهاد، ونيةِ الخير، وإرادةِ ما يحب الله. "وإذا استنفرتم فانْفِروا"، (النِّفَار والنفور): الانتقالُ والخروجُ، و (الاستنفارُ): طلبُ الخروج والانتقال؛ يعني: إذا أمرَكم إمامُكم بالخروجِ إلى الغزو، فأطيعوه واخرجوا إلى الغزو. * * * مِنَ الحِسَان: 2885 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ على مَن ناَوأَهم، حتى يُقاتِلَ آخِرُهم المَسيحَ الدَّجَّالَ". قوله: "ظاهرين"؛ أي: غالبين. "على من ناوَأَهم"؛ أي: مَن عاداهم. * * * 2886 - عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لم يَغْزُ ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا،

أو يَخْلُفْ غَازِيًا في أهلِه بخيرٍ، أصابَهُ الله بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ". قوله: "بقارعة"؛ أي: بعذاب. * * * 2887 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاهِدُوا المُشركينَ بأموالِكُم وأنفسِكُمْ وأَلسِنَتِكُمْ". قوله: "جاهدوا المشركين بأموالكم"؛ يعني: المشركون أعداؤكم, فأظهروا العداوةَ عليهم بأن تصرِفُوا أموالَكم في تهيئة أسبابِ المجاهدين إن لم تقدِرُوا أن تجاهِدُوا بأنفسكم، وإن قدَرْتُم، فجاهِدُوا بأنفسكم، وجاهدوهم بألسنتكم بأن تذمُّوهم، وتعيبوهم وتعيبوا أصنامهم، ودينَهم الباطل، واعتقادَهم الفاسد، وبأن تخوِّفوهم بالقتل والأخذ، وما أشبهَ ذلك. * * * 2888 - عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفشُوا السَّلامَ، وأَطعِمُوا الطَّعامَ، واضْرِبُوا الهامَ، تُورَثُوا الجِنانَ"، غريب. قوله: "واضربوا الهَامَ"، (الهامُ): جمع هامَة بتخفيف الميم؛ يعني: اقطعوا رؤوس الكفار. * * * 2889 - عن فُضالةَ بن عُبيدٍ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ مَيتٍ يُخْتَمُ على عملِهِ، إلا الذي ماتَ مُرابطًا في سبيلِ الله؛ فإنه يُنَمَّى لهُ عملُهُ إلى يومِ القيامَةِ ويَأْمَنُ فتنةَ القبرِ". قال: وسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه".

قوله: "يُخْتَمُ على عمله"؛ يعني: انقطع عملُه؛ أي: لا يصلُ إليه ثوابُ عمل؛ لأنه لم يكن حيًا حتى يعملَ فيُثَاب، إلا الشهيد، فإنه يُنْمَى له عملُه؛ أي: يزادُ ويربى عمله، ويصلُ إليه كلَّ لحظةٍ أجرٌ جديد؛ لأنه فدى نفسَه في شيءٍ يعود نفعُه إلى المسلمين، وهو إحياءُ الدين، ودفعُ الكفار عن المسلمين، فيكون داخلاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فسعيُه مما يستريحُ به المسلمون؛ لأنه دَفَعَ الكفار عنهم، أو لم يدفَعْ، ولكن كانت نيتُه أن يدفعَ الكفارَ عن المسلمين فقُتِلَ قبل أن يبلغَ ما في نيته. * * * 2890 - وعن معاذِ بن جبلٍ - رضي الله عنه - سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وَجَبَتْ لهُ الجنَّةُ، ومَن جُرحَ جُرحًا في سبيلِ الله أو نُكِبَ نَكْبَةً، فإنها تَجيءُ يومَ القيامةِ كَأَغْزَرِ ما كانت، لونُها الزَّعْفَرانُ وريحُها المِسْكُ، ومَن خَرَجَ به خُرَاجٌ في سبيلِ الله فإنَّ عليهِ طابَعَ الشُّهداءِ". قوله: "من قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وجبتْ له الجنة"، قال أهل اللغة: (الفَوَاقُ): ما بين الحَلْبتين من الوقت، وهذا يحتملُ أن يكونَ ما بين الغداةِ إلى المساءِ؛ لأن الناقةَ تُحلَب في وقت الغداة، ثم في وقت المساء، أو تُحلَبُ في وقت المساء، ثم إلى المساء الآخر. ويحتملُ أن يكونَ ما بينَ أن يحلِبَ في ظرفٍ فامتلأ، ثم يحلِبَ في ظرفٍ آخر في ذلك الوقت، فيكون الفواق الزمان الذي فرغ في ملء ظرف، ثم الحلب إلى ظرف آخر. ويحتملُ أن يكونَ ما بين جَرِّ الضَّرْعِ إلى جَرِّه مرةً أخرى، كلَّ ذلك

مُحْتمَل، والوجه الآخَرُ أَلْيَقُ بالترغيب في الجهاد، وإكمالِ أجره؛ يعني: من قاتل في سبيل الله لحظةً ثبتتْ له الجنة. قوله: "ومن جُرِحَ جرحًا في سبيل الله، أو نُكِبَ نَكبةً". (الجرحُ) و (النكبةُ) كلاهما واحدٌ هنا؛ بدليل أنه يصفُ لونهما بلون الزَّعْفَران؛ يعني: يسيلُ منهما الدمُ، ولونُ ذلك الدمِ كلون الزعفران، وريحُه ريحُ المِسْك، ولون الزعفران في حال كونه يابسًا يشبه لونَ الدَّمْ، وهذا الحديث مثلُ قوله: "لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيل الله"، وقد ذكرنا شرحَه في هذا الباب. واعلمْ أن الفرقَ بين الجرح والنكبة هنا: أن الجرح: ما يكون من نَصْلِ الكفار، والنكبة: الجراحة التي أصابته من وقوعه من دابة، أو وقع عليه سلاحُ نفسِه، وغير ذلك. قوله: "ومن خرجَ به خُرَاجٌ في سبيل الله فإنَّ عليه طابَعَ الشهداء". (الخُرَاجُ) - بضم الخاء -: ما يخرُجُ في البدن من القروح والدَّمَاميل. (الطابَع): - بفتح الباء - والخاتم: ما يُخْتَمُ به على شيء؛ أي: يُعَلَّم؛ يعني: من كان في سبيل الله، فخرج منه دُمَّل، أو أصابته جِراحةٌ غير جِراحَةِ الكفار، فيحشَرُ يومَ القيامة وعليه علامةُ الشهداء؛ ليُعْلَمَ أنه سعى في سبيل الله؛ ليُعْطَى أجرَ المجاهدين. * * * 2892 - عن أبي أمامةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الصَّدقاتِ ظِلُّ فُسْطاطٍ في سبيلِ الله، ومِنْحَةُ خادمٍ في سبيلِ الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيلِ الله". قوله: "ظِلُّ فُسْطاطٍ"، (الفسطاط): نوعٌ من الخَيْمة؛ يعني: أفضلُ

الصدقاتِ إعطاءُ خيمةٍ صدقةً في سبيل الله؛ ليستريحَ بظلِّها المجاهدون، وكذلك جميعُ الصدقات ما يكون في سبيل الله منها أفضلُ مما يكون في غيرِ سبيلِ الله. قوله: "ومِنْحَةُ خادم"؛ أي: إعطاءُ عبدٍ في سبيل الله؛ ليخدمَ المجاهدين. "أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ"، (الطَّرُوقَةُ) - بفتح الطاء -: الناقةُ التي بَلَغَتْ إلى سِنٍّ ينزو عليها الفَحْلُ، والمراد بها: إعطاءُ مركوبٍ في سبيل الله. * * * 2893 - عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِن خشيةِ الله، حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ، ولا يجتمعُ غُبَارٌ في سبيلِ الله ودُخَانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مُسلمٍ أبدًا". ويُروَى: "في جوفِ عبدٍ أبدًا، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا". قوله: "لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله، ودخانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مسلمٍ أبدًا"؛ يعني: من دخلَ الغبارُ مَنْخِرَه في الجهاد لا يدخل دخانُ جهنَّم مَنْخِرَه. قوله: "ولا يجتمعُ الشحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا"؛ يعني: منْ كان في قلبه الشُّحُّ لا يكونُ في قلبهِ الإيمانُ، ومن كان في قلبه الإيمانُ لا يكون في قلبه الشحُّ. وهذا مَشْكِلٌ إن أريدَ بالشُّحِّ منعُ الزكاةِ مع اعتقاد وجوبها، أو أريدَ به منعُ الصدقات؛ لأن الإيمانَ يجتمعُ في قلبِ مانعِ الصدقات ومانعِ الزكاةِ مع اعتقاد وجوبها. وتصحيحُ معنى هذا الحديثِ أن نقول: لا يجتمعُ الإيمانُ ومنعُ الزكاةِ مع

اعتقاد أنها غيرُ واجبةٍ؛ لأنه حينئذ يصيرُ كافرًا لإنكار ركن من أركان الإسلام. أو نقول: يريد - صلى الله عليه وسلم - بالإيمانِ هنا كمالَ الإيمان؛ يعني: لا يجتمعُ كمالُ الإيمان، ومنعُ الصدقاتِ والزكاةِ في قلبِ رجلٍ. * * * 2894 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَيْنَانِ لا تمسُّهما النارُ: عينٌ بَكَتْ مِن خشيةِ الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله". قوله: "تحرسُ في سبيل الله"؛ أي: يكونُ حارسًا للمجاهدين يحفظُهم عن الكفار. * * * 2895 - عن أبي هريرةَ قال: مَرَّ رجلٌ مِن أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِشِعْبٍ فيهِ عُيَيْنَةٌ من ماءٍ عذبةٌ فَأَعْجَبَتْهُ، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأَقَمْتُ في هذا الشِّعْبِ، فذكر ذلكَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تفعلْ! فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضَلُ مِن صلاتِهِ في بيتِهِ سبعينَ عامًا، ألا تُحِبونَ أنْ يغفرَ الله لكم وُيدْخِلَكُمْ الجَنَّةَ، اُغزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجبَتْ له الجَنَّةُ". قوله: "بشِعْبٍ" بكسر الشين؛ أي: بطريقٍ وفُسْحَةٍ بينَ الجبلين. "فيه عُيَيْنَةٌ"، تصغيرُ عين، وهي عينُ الماء. وفي بعض نسخ "المصابيح": (غَيْضَة)، وهذا سهوٌ من النساخ، ولو ثبتَ مجيئها في رواية؛ لكان المرادُ بالغَيضة عينًا من الماء؛ لأن الغيضةَ مجتَمعُ الأشجارِ والنباتات، واللازمُ في الغَيضة أن يكون فيها الماءُ، فسمِّيَ العينُ

غَيْضَةً؛ لاشتمال الغيضة بالعين العذبة الطَّيبة. "فأعجبته"؛ أي: حَسُنَتْ في عينه، وطابَتْ في قلبه. * * * 2897 - وعن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يدخلونَ الجنةَ: شهيدٌ وعَفيفٌ مُتعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله ونصحَ لِمَوَاليهِ". قوله: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يَدْخُلُون الجَنَّةَ: شهيدٌ، وعفيفٌ متعفِّفٌ، وعبدٌ أحسن عبادةَ الله ونصحَ لمواليه". (العفيفُ): الذي يمنَعُ نفسَه عما لا يجوزُ في الشرع، (المتعفِّفُ): الصابر على مخالفة نفسه، (ونصح لمواليه)؛ أي: أراد الخير لسيده وأقام بخدمته. قوله: "أول ثُلَّةٍ"، (الثُّلَّةُ): الجماعة؛ يعني: هذه الثُّلَّةُ أولُ جماعةٍ يدخلُون الجنة. وفي بعض الروايات: (أول ثلاثة)، فعلى هذا تقديرُ الكلام: أولُ ثلاثةٍ يدخلون الجَنَّةَ: شهيدٌ، ثم عفيفٌ متعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله. * * * 2898 - عن عبدِ الله بن حُبْشِيٍّ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ لا شَكَّ فيهِ، وجِهادٌ لا غُلولَ فيهِ، وحَجَّةٌ مَبرورَةٌ"، قيلَ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أفضلُ؟ قال: "طولُ القيامِ"، قيلَ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ"، قيل: فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّم الله عليهِ"، قيل: فأيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بمالِهِ ونفسِهِ"، قيل: فأيُّ القتلِ أشْرَفُ؟ قال: "مَن أُهْريقَ دَمُهُ وعُقِرَ جَوادُهُ".

قوله: "طولُ القِيام"؛ أي: طولُ القيامِ في الصلاة. قوله: "جُهْدُ المُقِلِّ"، (الجُهْدُ) - بضم الجيم -: الطاقةُ، و (المُقِلُّ): الفقيرُ؛ يعني: ما أعطاه الفقيرُ مع احتياجه إلى ما أعطاه، وهذا بشرطِ أن يكونَ المُعطي قد أعطى نفقةَ العيال، ثم جوَّع نفسَه، وأعطى نصيبَه السائلَ، ولا يجوزُ أن يقطَعَ النفقةَ عن العيال، ويدفعَها إلى السائل إلا برضا العيالِ البالغين. قوله: "فأيُّ القتل أشرفُ؟، قال: من أُهرِيقَ دمُه، وعُقِرَ جوادُه"، وتقدير هذا الكلام: قتلُ مَنْ أُهريقَ دمُه في الجِهاد، وعُقِرَ جوادُه فيه، فحذفَ المضافَ، وهو الَقْتلُ، وأقامَ المضافَ إليه، وهو لَفْظَةُ (مَنْ) مُقَامَه. (العَقْرُ): القَتْلُ، وقَطْعُ عَقِبِ الرَّجُل، و (الجَوادُ): الفرسُ الجَيد. يعني: القتلُ في الجهاد أنواع: أحدها: أن يخرجَ المجاهِدُ، ثم يفرَّ ويموتَ بعد الفرار. والثاني: أن يخرجَ المجاهِدُ في صفِّ المسلمين بأن يقعَ عليه سهمٌ فيموت. والثالث: أن يحملَ على الكفار، ويوقِعَ نفسه بين الكفار، ويحاربَهم حتى يَعْقِرَ الكفارُ فرسَه ويقتُلوه، فهذا أفضلُ القَتْلِ في الجهاد. * * * 2899 - عن المِقْدَامِ بن مَعدِ يكرِبَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "للشَّهيدِ عندَ الله سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِن الجَنَّةِ، ويُجَارُ مِن عذابِ القبرِ، ويَأْمَنُ مِن الفَزَعِ الأكبرِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوَقارِ، الياقوتَةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشُفَّعُ في سبعينَ مِن أقربائه".

قوله: "ويُرى مَقْعَدَه من الجنة"، بضم الياء مضارع مجهولٌ مِن (رأى) إذا أبصرَ، فنقلَه إلى باب أَفْعَلَ ليُعَدَّى إلى مفعولين، أحد المفعولين: ذاك الرجل، وهو أقيم مُقامَ الفاعل، والمفعول الثاني (مقعده)؛ يعني: عند زهوق روحِ الشهيد يُرَى مقعدَه من الجنة. قوله: "ويُجَار"؛ أي: ويُحْفَظُ. قوله: "وَيأْمَنُ من الفَزَعِ الأكبر"، قيل: (الفزع الأكبر): الوقتُ الذي يُؤْمَرُ أهلُ النار بدخول النار. وقيل: الوقت الذي يُذْبَحُ الموتُ، فيَيْأَسُ الكفارُ عن التخلُّصِ من النارِ بالموت. وقيل: الوقتُ الذي أطبقتِ النارُ على الكفار، فييأَسَوا عن الخروج منها. قوله: "تاجُ الوقار"؛ أي: تاج العزة. قوله: "ويُشَفَّعُ" بضم الياء وتشديد الفاء؛ أي: تُقْبَلُ شفاعته. * * * 2900 - وقال: "مَن لَقِيَ الله بغيرِ أثرٍ مِن جهادٍ، لقِيَ الله وفيهِ ثُلمَة". قوله: "بغير أثرٍ"؛ أي: بغير علامةٍ للغَزْو عليه. وتلك العلامة: إما التعبُ النفساني، أو الجراحةُ في الغزو، أو بذلُ المالِ في الغزو، وإرادة تهيئة أسباب المجاهدين، كلُّ ذلك داخلٌ في الأَثَر؛ يعني: مَنْ كان له شيءٌ من هذه الأشياء؛ فقد كان عليه أَثَرُ الغزو، ومَن كان خارجًا من هذه الأشياء لم يكنْ عليه أثرُ الغزو، وحينئذٍ يكونُ عليه "ثُلْمَةٌ" يومَ

القيامة؛ أي: نقصانٌ. فهذا الحديث مثل قوله: "من مات ولم يَغْزُ ولم يحدِّثْ نفسَه، ماتَ على شعبةٍ من النفاق"، وقد ذكر في هذا الباب. روى هذا الحديث - أعني: "من لقي الله بغير أثرٍ" - أبو هريرة. * * * 2901 - وقال: "الشَّهيدُ لا يجدُ أَلَمَ القَتْلِ، إلا كما يَجِدُ أَحَدُكم ألمَ القَرْصَةِ"، غريب. قوله: "الشهيدُ لا يجدُ ألمَ القَتْل إلا كما يجدُ أحدكم ألم القَرْصَة"، (القَرْصَةُ): عضُّ النملةِ الإنسانَ. فإن قيل: إذا كان ألمَ القَتْلِ مثلُ أَلَمِ القَرْصَة، فبأيِّ شيءٍ يموتُ الشهيد، فإنَّ مثلَ هذا الألمِ مما لا يموتُ به الإنسان؟. قلنا: ليس زهوقُ الروحِ بالألم، بل بأمر الله تعالى، فإنه قد يُزْهِقُ الروحَ بغير ألم بأمر الله، وقد يكون الألمُ بالإنسان على غاية الشدة، ولا تُزْهَقُ به روحُه إذا لم يأمر الله بزهوق روحِه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2902 - وعن أبي أُمامَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ شيءٌ أَحَبَّ إلى الله مِن قَطْرَتَيْنِ وأثَرَيْنِ: قطرةُ دَمْعٍ مِن خَشيةِ الله، وقطرةُ دمٍ يُهْراقُ في سبيلِ الله، وأمَّا الأَثَرانِ: فأَثَرٌ في سبيلِ الله، وأَثَرٌ في فريضةٍ مِن فرائضِ الله تعالى"، غريب.

قوله: "فأثرٌ في سبيل الله"، (الأَثَرُ): العلامةُ؛ يعني: علامةُ الغزو على الغازي من الجِرَاحة، أو غبارُ الطريق وغيرهما، "وأثرُ فريضةِ الله": علامةُ الوضوءِ ببللِ الماءِ على الأعضاءِ، وعلامةُ السجود على الجبهة، و (الأثرُ) أيضًا: الخُطْوَة؛ يعني: الخطواتُ في الغزو، وفي المشي إلى الصلاة. * * * 2903 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَركبِ البحرَ إلا حاجًا أو مُعتَمِرًا أو غازيًا في سبيلِ الله، فإنَّ تحتَ البحرِ نارًا، وتحتَ النارِ بحرًا". قوله: "لا تركب البحر إلا حاجًّا، أو معتمِرًا، أو غازيًا في سبيل الله"، هذا الحديثُ يدلُّ على وجوبِ ركوبِ البحرِ للحَجِّ والجهاد إذا لم يجدْ طريقًا آخر، وفيه قولٌ للشافعي: أنه لا يجب. قوله: "فإن تحت البحر نارًا، وتحتَ النَّارِ بحرًا"، يُحْمَلُ هذا الحديثُ على ظاهره؛ يعني: خلقَ الله تحتَ ما ترى من البحر نارًا، وتحتَ تلك النارِ بحرًا، فإن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ، والغَرَضُ من هذا الحديث: تعظيمُ خَطَرِ ركوبِ البحر؛ يعني: إذا كان في ركوب البحر خطرٌ شديدٌ عظيمٌ لا تركبوه إلا لضرورة. * * * 2904 - عن أمَّ حرامٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المائدُ في البحرِ الذي يُصيبهُ القَيْءُ لهُ أجرُ شهيدٍ، والغريقُ لهُ أجرُ شهيدَيْنِ". قوله: "المائِدُ في البحر"، هذا اسمُ فاعلٍ من مادَ يَمِيدُ: إذا دارَ رأسُ

الرجلِ من خوفِ البحرِ وغِشْيانِ معدتهِ من تحرك السفينة في البحر؛ يعني: مَن ركب البحرَ وأصابَه دُوارٌ له أجرُ شهيدٍ إن كان يمشي إلى طاعةٍ، كالغزو والحج وتحصيل العلم. وأما التجار؛ فإن لم يكن لهم طريقٌ سوى البحر، وكانوا يتَّجِرون للقُوت لا لجمعِ المال، فهم داخلون في هذا الأجر. * * * 2905 - عن أبي مالكٍ الأشعريِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن فَصَلَ في سبيلِ الله فماتَ، أو قُتِلَ، أو وَقَصَهُ فرسُه أو بعيرُه، أو لدَغتْهُ هامَّةٌ، أو ماتَ على فراشِهِ بأَيِّ حتفٍ شاءَ الله فإنه شهيدٌ، وإنَّ لهُ الجَنَّةَ" قوله: "من فَصَلَ"؛ أي: خَرَجَ. "وقَصَه فرسُه"؛ أي: ألقاه على الأرض، فمات منه. "هامّة"؛ يعني: حيوانٌ له سُمٌ مثلُ الحيةِ والعَقْرَب. "أو ماتَ على فراشه"؛ يعني: في طريق الغزو. "بأيِّ حَتْفٍ"؛ أي: بأي هلاك قدَّره الله. * * * 2906 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَفْلَةٌ كغزوةٍ". قوله: "قَفْلَةٌ كغزوة"، (القَفلَةُ): الرجعة، وصورتُها: أن يغزوَ جيشُ الإسلام، وأغاروا على بلدٍ من بلاد الكفار، ثم خرجوا من ذلك البلد إلى موضعٍ آخر، ثم يأمر أميرُ الجيشِ سَرِيَّةً من جيشه أن يرجِعُوا إلى ذلك البلد، وأغاروا على مَن بَقِيَ من كفار ذلك البلد وأموالهم، ثم يُرَغِّبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرجعة

والإغارة على الكفار مرة ثانية، ويقول: لا فرقَ في الثواب بين هذه الرَّجْعَةِ وبين الغَزْوِ الأول مع أمير الجيش، ويجوز أن يريد - صلى الله عليه وسلم - بالقفلة: الرجوعَ إلى أوطانهم. يعني: المجاهدون يؤجَرون في الرجوع من الغزو إلى أوطانهم كما يُؤْجَرون في الذهاب إلى الغزو. * * * 2907 - وقال: "للغازي أَجْرُه، وللجاعِل أَجرُهُ وأجرُ الغازي". قوله: "للغازي أَجْرُه، وللجَاعِلِ أَجْرُه، وأَجْرُ الغازي"، (الجَاعِلُ): الذي يدفع جُعْلاً؛ أي: أُجرةً إلى غازٍ ليغزو. وهذا العَقْدُ صحيحٌ عند أبي حنيفة ومالك، فإذا كان صحيحًا يكون للغازي أجرٌ بسعيه، وللجاعل أجران: أجرُ صَرْفِ المال في سبيل الله، وأجرُ كونهِ سببًا لغزو ذلك الغازي؛ فإنه لولاه لما خرجَ ذلك الغازي إلى الغزو، ومن لم يَجَوِّز هذا العَقْدَ يقول: يجبُ على الغازي رَدُّ الأجرة التي أخذها للغزو على مالكها. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. * * * 2908 - عن أبي أيوبَ سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستُفتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مُجَنَّدةٌ، يُقطَعُ عليكم فيها بُعوثٌ، فيَكرهُ الرَّجلُ البعثَ فيَتخلَّصُ مِن قومِهِ، ثم يتصفَّحُ القبائلَ يَعرِضُ نفسَهُ عليهم: مَن أَكْفِيهِ بعثَ كذا، ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمِهِ". قوله: "ستُفْتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مجنَّدَةٌ"؛ أي: مجموعة؛

يعني: إذا بلغ الإسلامُ في كلِّ ناحية، فحينئذ يحتاجُ الإمامُ إلى أن يرسِلَ في كلِّ ناحيةٍ جيشًا ليحاربَ من يَلِي تلك الناحيةَ من الكفار، كي لا يغلبَ كفارُ تلك الناحيةِ على أهل تلك الناحيةِ من المسلمين، فإذا احتاجَ الإمامُ إلى أن يرسلَ إلى كل ناحيةٍ جيشًا يحتاج إلى أن يجمعَ الجيشَ من كلِّ قبيلة، ومن كل بلدٍ من بلاد المسلمين. فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في ذلك الوقت مَن لا يرغَبُ في الجهاد، بل يفِرُّ من قبيلته إلى قبيلةٍ أخرى، ويأخذُ أُجْرةً على الجهاد، ويمشي بما أخذ من الأجرة إلى الجهاد، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن فَرَّ عن أمر الإمام وطاعته، ولم يَفِرَّ بأمر الإمام من غير الأجرة، ثم أخذ الأجرة من أحدٍ، وغزا بالأجرة لم يكنْ له ثوابٌ بمخالفة أمرِ الإمام، وبأخذِ الأجرة. قوله: "يُقْطَعُ"؛ أي: يُؤْمَرُ ويُوْضَع. "عليكم فيها"؛ أي: في تلك الجنود. "بُعوثٌ"؛ أي: جنودٌ، و (البُعُوثُ): جمع بَعْث، وهو جماعةٌ يرسِلُها الإمام إلى ناحيةٍ للغزو. "فيكْرَهُ الرجلُ البَعْثَ"؛ أي: يكونُ بعضُ الرجالِ يَكْرَهُ أن يخرُجَ بلا أجرةٍ إلى ذلك الغزو. "فيتخَلَّصُ"؛ أي: فيخرُجُ من بينِ قومه، "ثم يتصفَّح القبائلَ"؛ أي: ثم يتتبَّعُ. "من أَكْفِيه"؛ يعني: يقول لأهلِ تلكَ القبائل: مَن يعطيني أجرةً لأمشيَ إلى الغزو عنه، وأكفي؛ أي: أدفعُ عنه الخروجَ بنفسِه إلى الغزو. "ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمه"؛ يعني: وذلك الأجيرُ أجيرٌ، وليس بغازٍ إلى أن يُقْتَل؛ يعني: إذا رغبَ عن الثواب، وطاعةِ الامام، وأَخْذِ

الأُجْرةِ في الغزو، فليس له إلا تلكَ الأجرة، وليس له ثوابٌ من الغزو. * * * 2909 - عن يَعلى بن أُميَّةَ قال: آذَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالغزوِ، وأنا شيخٌ كبيرٌ ليسَ لي خادِمٌ، فالتمستُ أجيرًا يَكفيني، فوَجَدْتُ رَجُلاً سَمَّيتُ لهُ ثلاثةَ دنانيرَ، فلمَّا حضرَتْ غَنيمةٌ أردْتُ أنْ أُجريَ لهُ سهمَهُ، فجئتُ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ لهُ فقالَ: "ما أَجِدُ لهُ في غَزوَتِهِ هذهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إلا دنانيرَهُ التي سَمَّى". قوله: "آذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: أَمَرَ. "فالتمسْتُ"؛ أي: طَلَبْتُ. "يَكْفِيني"؛ أي: يدفعُ عني الخروجَ إلى الغَزْوِ بأن يأخذَ مني أجرةً، ويخرجَ عني إلى الغزو. "أن أُجْرِيَ له سهمَه"؛ أي: أن آخذَ له من القِسْمةِ سهمًا مثلَ سهامِ سائرِ الغانمين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أجدُ له في غَزْوَتهِ"؛ يعني: ليس لهم سهمٌ من الغَنيمة، بل ليس له في الدنيا من القِسْمة، ولا في الآخرة من الثَّواب، إلا ما أخذَ من الأُجْرة، وهل للأجيرِ سهمُ الغنيمة؟. * * * 2910 - عن أبي هريرةَ: أنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ الله! رجلٌ يريدُ الجهادَ في سبيلِ الله وهو يبتغي عَرَضًا مِن عَرَضِ الدنيا؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا أَجْرَ لهُ". قوله: "يبتغي عَرَضًا"؛ أي: يطلُبُ مالاً، يحتمل أن يريد بقوله: (عَرَضًا): الغنيمة، ويحتمل أن يريد به: الأجرة التي يأخذها الرجلُ ليغزوَ بها.

قوله: "لا أَجْرَ له"؛ أي: لا ثوابَ له؛ لأنه لم يَغْزُ لله تعالى. * * * 2911 - وعن معاذٍ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغَزْوُ غَزْوانِ، فأمَّا مَن ابتغَى وجهَ الله، وأَطاعَ الإِمامَ، وأَنفقَ الكريمةَ، وياسرَ الشَّريكَ، واجتنبَ الفسادَ، فإنَ نومَهُ ونُبْهَهُ أجرٌ كلُّه، وأمَّا مَن غَزا فَخْرًا ورِياءً وسُمْعَةً، وعَصَى الإمامَ وأَفسدَ في الأرضِ، فإنه لم يرجعْ بالكَفافِ". قوله: "وأنفق الكَرِيمةَ"؛ أي: أنفقَ المالَ العزيزَ؛ يعني: ليكنْ ما تحتاجُ إليه من الفَرَس والسلاح والزاد مِن خاصِّ ماله، ولم يأخذْه من أحدٍ غَصْبًا، كما هو عادة الظالمين. "وياسرَ الشريكَ"، (المياسرة): المساهَلَةُ والموافَقَةُ وتَرْكُ الخشونةِ والإيذاءِ؛ يعني: ليكنْ سهلًا رحيمًا برفيقِه في الطريق. "ونُبْهَهُ"؛ أي: يقظته. قوله: "لم يرجِعْ بالكَفَاف"؛ أي: لم يرجِعْ من الغَزْوِ رأسًا برأسِ بحيث لا يكونُ له أَجْرٌ، ولا يكونُ عليه وِزْرٌ، بل يرجِعْ ووزْرُه أكثرُ من أجره؛ لأنه لم يغزُ لله، وأفسدَ في الأرض. * * * 2912 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنه قال: يا رسولَ الله! أَخبرني عن الجهادِ؟ فقالَ: "إنْ قاتلْتَ صابرًا مُحْتسِبًا بعثَكَ الله صابرًا محتسبًا، وإنْ قاتلْتَ مُرائيًا مُكاثِرًا، بعثَكَ الله مُرائيًا مُكاثِرًا، يا عبدَ الله بن عمروٍ! على أَيِّ حالٍ قاتلْتَ أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تِيكَ الحالِ".

قوله: "مكاثِرًا"، (المكاثَرَةُ): أن يقولَ رجلٌ لآخر: أنا أكثرُ منك مالاً وعددًا؛ يعني: إن غزوتَ ليقال: جيشُكَ أكثرُ وأشجعُ من جيش أميرٍ آخرَ، وخُدَّامُك وخيلُك أكثرُ من غيرك؛ فليسَ لك ثوابٌ، بل ينادى يومَ القيامة: إن هذا قد غزا فخرًا ورياءً، لا محتسِبًا؛ أي: لا طالبًا لثواب الله. * * * 2913 - عن عُقبَةَ بن مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَعَجَزتُم إذا بَعثتُ رَجُلاً فلم يَمْضِ لأمري، أنْ تَجْعَلُوا مكانَه مَن يَمضي لأمري". قوله: "أَعَجَزْتُم إذا بعثتُ رجلاً فلم يمضِ لأمري أن تَجْعلُوا مكانَه مَن يَمْضي لأمري". (يمضي)؛ أي: يذهبُ؛ يعني: إذا جعلتُ عليكم أحدًا أميرًا، وأمرتُ ذلك الأميرَ بأمرٍ، فلم يُطِعْني ذلك الأميرُ، ولم يذهبْ إلى حيثُ أرسَلْته، فاعزِلُوه، وأقيموا مكانَه أميرًا آخر. وهذا الحديثُ معمولٌ به أبدًا إذا كان الأميرُ لا يحفَظُ أمرَ الرعية، ويظلمُ عليهم جاز أن يعزِلَه المسلمون، ويقيموا مُقَامه آخرَ إن أمكنَ العَزْلُ بغير إثارةِ فتنةٍ، وإراقةِ دماءٍ، فإن احتاجَ في عزلِه إلى إراقَة دمِه، ودمِ جماعةٍ من مُحِبيه، فانظر؛ فإن كان لا يُرِيقُ دمَ أحدٍ ظلمًا، بل يظلمُ عليهم في الأموال لا يجوزُ قتلُه، ولا قتلُ أحدٍ من محبيه. وإن كان يقتلُ الناسَ ظلمًا، فانظر؛ فإن كان حصولُ القتلِ في عزله أقلَّ من القتل في بقائه على العمل جازَ قتلُه وقتلُ متعصِّبيه، وإن كان القتلُ في عزلِه أكثرَ من القتل في بقائه على العمل، لا يجوزُ عزلُه. * * *

2 - باب إعداد آلة الجهاد

2 - باب إعدادِ آلةِ الجِهادِ (باب إعداد آلة الجهاد) مِنَ الصِّحَاحِ: 2914 - عن عُقبةَ بن عامرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبرِ يقولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، أَلا إنَّ القوةَ الرَّميُ". قوله تعالى: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ", (أَعِدُّوا)؛ أي: هَيئُوا لهم؛ أي: للكفار ({مِنْ قُوَّةٍ})؛ أي: من رمي؛ أي: هَيئُوا القِسِيَّ والنِّبال، وتعلَّمُوا الرَّمْيَ لترمُوا الكفار. * * * 2915 - وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ستُفْتَحُ عليكم الرُّومُ، ويَكفيكُم الله، فلا يَعجَزْ أحدُكم أنْ يَلهُوَ بأَسهُمِهِ". قوله: "ستُفْتَحُ عليكم الرومُ، ويكفيكم الله، فلا يعجِز أحدُكم أن يلهوَ بأسهمه"، (ويكفيكُم)؛ أي: يدفعُ عنكم، (أن يَلْهوَ)؛ يعني: أن يلعب، (بأسهمه)؛ أي: بنباله؛ يعني: أهلُ الرُّوم غالبُ حَرْبهم بالرمي، وأنتم تتعلَّمُون الرميَ؛ ليمكنكم محاربةُ أهلِ الروم. (ستفتح عليكم الروم)، ويدفعُ الله عنكم شرَّ أهل الروم، فإذا فُتِحَ لكم الروم، فلا تتركوا الرَّمْيَ بأن تقولوا: لم يكنْ أحدٌ يحتاجُ في قتاله إلى الرمي، بل تعلَّمُوا الرَّمْيَ، وداوِمُوا على الرمي، وتعلَّمُوا الرمي؛ فإن الرميَ مما يُحتَاجُ إليه

في القتال أبدًا. روى هذا الحديثَ عقبةُ. * * * 2916 - وقال: "مَن عَلِمَ الرَّميَ ثم تَرَكَهُ فليسَ مِنَّا، أَوْ: قد عصى". "مَنْ عَلمَ الرَّمْيَ ثم تَرَكَه فليسَ مِنَّا أو قَدْ عَصَى"، إنما أَكَّدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - استحبابَ تعلُّمِ الرميِ، وبالغَ في النهي عن نسيانِ الرمي؛ لأن الرميَ كان قليلاً في العرب، بل أكثرُ محاربة العرب بالسيف والرُّمْحِ، فحَرَّضَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على تعلُّمِ الرمي والمداومةِ عليه؛ لأن الرميَ أنفعُ في دفعِ الأعداءِ من السيف والرمح. روى هذا الحديثَ عقبة. * * * 2917 - وعن سَلَمةَ بن الأَكْوعِ قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أسلمَ يَتناضَلُونَ بالسُّوقِ فقال: "ارمُوا بني إسماعيلَ! فإن أَباكم كانَ راميًا، وأَنا معَ بني فلانٍ"، لأَحدِ الفَرِيقينِ، فأَمسَكُوا بأيديهم فقال: "ما لَكم؟ "، قالوا: وكيفَ نرَمي وأنتَ مَعَ بني فلانٍ؟ قال: "ارمُوا وأَنا معكم كلِّكم". قوله: "مِن أَسْلَمَ"؛ أي: من قبيلة أسلم. "بالسُّوق"، هو اسمُ موضعٍ. "بني إسماعيل"؛ يعني: يا بني إسماعيلَ، والمرادُ منهم: العرب. "فإنَّ أباكم"؛ أي: فإن إسماعيلَ. "فأمسَكُوا بأيديهم"؛ أي: تركَ الفريقُ الآخرُ الرَّمْيَ.

"وكيف نَرْمِي وأنتَ مع بني فلان"؛ يعني: إذا كنتَ مع بني فلان لا نقدِرُ أن نقاوِمَ فريقًا أنتَ معهم. * * * 2918 - عن أنسٍ قال: كانَ أبو طلحةَ يَتترَّسُ مَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِتُرْسٍ واحدٍ، وكانَ أبو طلحةَ حَسَنَ الرَّميِ، فكانَ إذا رَمَى تشرَّفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فينظرُ إلى موضعِ نَبْلِهِ. قوله: "يَتَترَّسُ مع النبي"؛ أي: وقفَ هو والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَ تُرْسٍ واحدٍ. "تَشَرَّفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: رفعَ رأسَه من خَلْف التُّرْس؛ لينظرَ أين وقعَ سهمُ أبي طلحة، وهذا تحريضٌ على الرمي وتعلُّمِه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - من غاية حبِّ الرمي كان يَطَّلِعُ بكلِّ رميٍ على موقعِ النبل، ولمَّا كان الرميُ محبوبًا ومرضيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يحبَّه ويتعلَّمَه كلُّ مَن يَقْدِرُ عليه. * * * 2920 - وعن جريرِ بن عبدِ الله قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَلْوي ناصيةَ فرسٍ بإصبَعِه وهو يقولُ: الخيلُ معقودٌ بنواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ: الأجرُ والغَنِيمةُ". قوله: "يَلْوِي"؛ أي: يَفْتِلُ؛ أي: يُدِيرُ بإِصبَعه. قوله: "الأجرُ والغنيمة"، هذان تفسيران للخير؛ يعني: إذا استعملَ الفرسَ في محاربةِ الكفارِ يحصلُ للرجلِ الأجرُ والغنيمةُ. * * * 2922 - عن أبي هريرةَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَكْرهُ الشِّكالَ في الخَيلِ،

والشِّكالُ: أنْ يكونَ الفرسُ في رجلِه اليُمنى بياضٌ وفي يدهِ اليُسرى، أَوْ في يدِه اليُمنى ورجلِه اليُسرى. قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ الشِّكَالَ في الخيل"، وتفسير (الشِّكَال): ما ذكر ها هنا. وقيل: بل الشِّكَالُ أن تكونَ الفرسُ ثلاثُ قوائمَ منها أبيضُ، أو واحدٌ أبيض، ووجهُ كَراهةِ الشِّكَال شيءٌ عَلِمَه النبيُّ وإن لم نَعْلَمْه. * * * 2923 - عن عبدِ الله بن عمرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ بين الخيلِ التي أُضْمِرَتْ مِن الحَفياءِ، وأَمَدُها ثَنِيَّةُ الوداعِ، وبينَهما ستةُ أميالٍ، وسابَقَ بين الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ مِن الثَّنيَّةِ إلى مسجدِ بني زُريقٍ، وبينَهما مِيلٌ. قوله: "سابَقَ"؛ أي: رَكَضَ؛ ليُظْهِرَ أيُّهما أَحْسَنُ وأشَدُّ عَدْوًا. "أُضْمِرَتْ"؛ أي: جُعِلَتْ ضَامرًا؛ أي: دقيقَ الوَسَط. قال في "صحاح اللغة": (التَّضْمِيرُ): أن يُعْلَفَ الفرسُ حتى يَسْمَن، ثم يردَّه إلى القُوْت، ويفعل ذلك مرارًا، ويركُضُها مرارًا، حتى تعتادَ بالجوع والعَدْو، فتصيرُ دقيقَ الوَسَط، وذلك في أربعين يومًا. "الحَفيَاء"، اسم موضع، وكذا "ثنيةُ الوداع"، و"الأَمَدُ": الغاية. * * * 2924 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانتْ ناقةٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تُسمَّى العَضْباءَ، وكانتْ لا تُسبَقُ، فجاءَ أعرابيٌّ على قَعُودٍ لهُ فسبقَها، فاشتدَّ ذلكَ على المُسلمينَ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حَقًا على الله أنْ لا يرتَفِعَ شَيءٌ مِن الدُّنيا إلا وَضَعَهُ".

قوله: "تُسمَّى عَضْبَاء"، وإنما سُمِّيتْ عَضْبَاء؛ لأنها كانت مقطوعةَ الأُذُن، والعَضْبَاءُ: مقطوعة، والعَضْبُ: القَطْعُ. "القَعُود" - بفتح القاف -: الجملُ الذي أُعِدَّ وهُيئَ للركوب، والغرض من هذا الحديث والذي قبله: بيانُ جواز المسابقة بالخيل والإبل. * * * مِنَ الحِسَان: 2925 - عن عقبةَ بن عامرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله يُدخِلُ بالسَّهمِ الواحدِ ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ: صانِعَهُ يَحتسِبُ في صنعَتِهِ الخيرَ، والرامي بهِ، ومُنَبلَهُ، وارمُوا واركبُوا، وأنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ تَرْكبُوا، كلُّ شيءٍ يَلهُو بهِ الرجلُ باطِلٌ، إلا رَميَهُ بِقَوْسِهِ، وتَأْديبَهُ فرسَه، ومُلاعبتَهُ امرأتَهُ، فإنهنَّ مِن الحقِّ، ومَن تَرَكَ الرَّميَ بعدَ ما عَلِمَهُ رغبةً عنه، فإنه نِعمةٌ تَرَكَها، أو قال: كَفَرَها". قوله: "ومُنْبلَه"؛ أي: الذي يُعْطِي الراميَ السهمَ ليرميَ، سواءٌ كان السهمُ ملكَ المُعْطِي، أو الرامي. قوله: "وتأديبَه فرسَه"؛ أي: وتعليمه فرسَه الركض والجَوَلان على نِيَّةِ الغَزْو. * * * 2926 - عن أبي نَجِيحٍ السُّلَميَّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن بلغَ بسهمٍ في سبيلِ الله فهوَ لهُ درجةٌ في الجنَّةِ، ومَن رَمَى بسهمٍ في سبيلِ الله فهوَ لهُ عِدْلُ مُحَرَّرٍ، ومَن شابَ شَيْبَةً في الإسلامِ كانَتْ لهُ نورًا يومَ القيامةِ".

قوله: "ومن بلغَ بسهمٍ في سبيل الله"؛ يعني: ومن أَوْصَلَ سهمًا إلى كافر. قوله: "ومن رَمَى بسهمٍ في سبيل الله"؛ يعني: ومن رَمَى سهمًا كان له من الثوابِ مثلُ ثوابِ إعتاقِ رقبة، وإن لم يوصِلْ ذلك السهمَ إلى كافر. * * * 2927 - وعن أبي هريرةَ، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ". قوله: "لا سَبْقَ"؛ أي: لا يجوزُ المسابقةُ إلا في النَّصْل، أو رَكْضُ الفَرَسَين، أو البعيرين، أراد بـ "النصل": جميعَ آلاتِ الحرب؛ يعني: يرمي اثنان بالسهم إلى هدف؛ ليُعْرَف أيُّهما أحسنُ رميًا. وأراد بـ "الخف": ذواتُ الخُفِّ، وهي الإبل، وأراد بـ "الحافر": ذواتُ الحافِر، وهي الأفراس هنا دون الحِمَار والبَغْل، وفي الحمار والبغلِ والفيلِ خلافٌ، ولا يجوزُ المسابقةُ والمناضلةُ بِعِوَضٍ عند أبي حنيفة. والمسابقة تكون في رَكْضِ الفرسَين وغيرهما، والمناضَلَةُ تكون في الرمي. و"السبْق" - بسكون الباء - مصدرٌ، والسَّبَق - بفتح الباء -: المالُ الذي يأخذُه من سَبَقَ. قال الخَطَّابي: الأصحُّ من الروايات في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سَبَقَ" بفتح الباء؛ أي: لا يجوزُ أخذُ المالِ إلا في هذه الأشياء. * * * 2928 - وقال: "مَن أدخلَ فَرسًا بينَ فرسينِ فإنْ كانَ يُؤمَنُ أَنْ يَسبقَ فلا

خيرَ فيهِ، وإنْ كانَ لا يُؤمَنُ أنْ يَسبقَ فلا بأسَ بهِ". وفي روايةٍ: "وهوَ لا يَأْمنُ أنْ يَسبقَ فليسَ بقِمارٍ، وإنْ كانَ قد أَمِنَ أنْ يَسبقَ فهو قِمارٌ". قوله: "من أدخلَ فرسًا بين فَرَسَيْنِ ... " إلى آخره. اعلم أن المسابقة بين الفَرَسَيْن بِعِوَضٍ يأخذُه السابقُ جائزٌ، وشرطُه: أن يكونَ المالُ من أحدِ المسابقَين، لا من كليهما، أو مِنْ غيرِ المسابقَين بأن يقول رجلٌ للفارِسَين: اركُضَا من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني، فمن سبقَ منكما الآخرَ أعطيتُه كذا. وإن أخرجَ كلُّ واحدٍ من المُسَابقَين قَدْرًا من المال على أنَّ مَن سبقَ منهما أخذَ المالَيْنِ؛ لم يَجُزْ؛ لأن هذا عادةُ أهلِ القِمَار. وطريق تصحيحِ هذا العَقْدِ: أن يكونَ بينهما مُحلِّلٌ، والمحلِّل - بكسر اللام -: من جَعَلَ العَقْدَ حلالاً، وهو أن يَدْخُلَ ثالثٌ بينهما لا يُخْرِجُ الثالثُ شيئًا من المال، على أنَّ المُحَلِّلَ لو سبقَ أخذَ المَالَيْنِ، ولو سبقَ أحدُ المُخْرِجَيْنِ أخذَ مالَ نَفْسِه، ومالَ المُتَأَخَّر، فلو كان بين جماعة أخرجوا المال بمُحَلِّلٍ واحد جاز. ومقصودُ هذا الحديثِ: أن المُحَلِّلَ ينبغي أن يكونَ على فرسٍ مثلِ فَرَسَي المُخْرِجَين، أو قريبًا من فَرَسَيْهِما في العدو، فإن كانَ فَرَسُ المُحَلِّلِ جوادًا بحيثُ يَعْلَمُ أنه لا يَسْبقُه فرسا المُخْرِجَين لم يَجُزْ، بل وجودُه كعَدَمِه، وإن كان لا يعلمُ أنه يسبقُ فَرَسَي المُخْرِجَيْنِ يقينًا، بل يُمْكنُ أن يكونَ سابقًا، وأن يكونَ مسبوقًا جاز، وكذلك لو كان فرسُ المُحَلِّلِ بَلَيدًا بحيث يَعْلَمُ أنه يكون مسبوقًا لا يجوز، وإن أمكنَ أن يكونَ سابقًا، وأن يكونَ مسبوقًا جاز.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 2929 - وقال: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ" يعني: في الرِّهانِ. قوله: "لا جَلَبَ ولا جَنبَ، يعني: في الرهان"، (الرِّهَانُ والمراهنة): المسابَقَةُ. ذكر شرح: (لا جَلَبَ ولا جَنبَ) في (كتابِ الزكاة)، و (باب الغَصْب). روى هذا الحديثَ عِمران بن حُصَين. * * * 2930 - وعن أبي قتادةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الخيلِ الأدْهمُ الأقرَحُ الأرثَمُ، ثم الأقرَحُ المُحَجَّلُ طُلْقُ اليمين، فإنْ لم يكنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ على هذه الشِّيَةِ". قوله: "الأَدْهَمُ الأَقْرَحُ الأَرْثَمُ"، (الأَدْهَمُ): الأسود، و (الأَقْرَحُ): الذي في جبهته بياضٌ بقَدْرِ دِرْهَمٍ، أو دونَه، و (الأَرْثَمُ): الذي شَفَتُه العُلْيا بَيْضَاءُ. قولُه: "ثم الأَقْرَحُ المُحَجَّلُ طَلْقُ اليمين"، أراد بـ (طَلْقِ اليمين): أن لا يكون يمينُها محجَّلاً، و (المُحَجَّلُ): الأبيض. "فإنْ لم يكنْ أَدْهَمَ، فكُمَيْتٌ على هذهِ الشِّيَة"، و (الكُمَيْتُ): الفرسُ الذي ذَنَبُه وعُرْفُه - أي: شَعْرُ عُنُقِه - أسودان، والباقي: أحمر، (الشِّيَةُ): العلامة. وقوله: (هذه الشِّيَة)، إشارة إلى الأَقْرَحِ الأَرْثَمِ، والأَقْرَحِ المُحَجَّلِ طَلْقِ اليمين. * * *

2931 - عن أبي وهبٍ الجُشَميِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بكلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحجَّلٍ، أو أَشقرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أو أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ". قوله: "أَغرَّ مُحجَّلٍ"، (الأَغَرُّ): الأبيضُ الوَجْه، (المُحَجَّلُ): أبيضُ القوائم، و"الأَشْقَرُ": الفرسُ الذي جميعُ لونهِ أحمرُ. * * * 2932 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُمْنُ الخَيلِ في الشُّقْرِ". قوله: "يُمْنُ الخيل في الشُّقْر"، (الشُّقْر): الحمرة؛ يعني: البركةُ فيما هو أحمرُ من الخيل. * * * 2933 - عن شيخٍ من بني سُلَيمٍ، عن عُتبةَ بن عبدِ الله السُّلَميَّ أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَقُصُّوا نَواصيَ الخيلِ ولا معارِفَها ولا أَذنابَها، فإنَّ أذنابَها مَذابُّها، ومَعارفَها دِفاؤُها، ونَواصيَها معقودٌ فيها الخيرُ". قوله: "لا تَقُصُّوا"؛ أي: لا تَقْطَعُوا. "المَذَابُّ": جمع مِذَبَّة، وهي ما يُذَبُّ به الذُّبابُ؛ يعني: تَذُبُّ الفرسُ بذَنبَها الذبابَ عن نفسها. "المعارف": جمعُ مَعْرِف، وهو ها هنا شَعْرُ عُنُقِ الفَرَس. و"الدِّفاء" - بكسر الدال وسكون الفاء -: الحرارةُ، وما يُدْفَأُ به؛ أي: يصيرُ به حارًا؛ أي: يندفِعُ البَرْدُ عن الفَرَس بمَعْرِفِه. * * *

2934 - وعن أبي وَهْبٍ الجُشَميِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارتبطوا الخيلَ، وامْسَحُوا بنواصِيها وأَعجازِها - أو قال: أَكفالِها - وقَلِّدوها، ولا تُقَلَّدُوها الأوتارَ". قوله: "ارتبطُوا الخيلَ"؛ أي: ارتبطُوها وسَمِّنُوها لأجل الغَزْوِ. قوله: "وامسَحُوا بنواصيها وأعجازِها"، النواصي: جمعُ ناصية، و (الأعجازُ): جمع عَجُز، وهو الكِفْل؛ لعلَّه - صلى الله عليه وسلم - يريد بهذا المسح: تنظيفَ الخَيْل من الغُبَار، وتعرُّفَ حالِها من السِّمَن والعَجَف، فإن الخيلَ لِيَكُنْ سمينًا؛ ليقدرَ على الرَّكْض والجَوَلاَنِ في المحاربة، ولتكنْ نظيفةً حسنةً كيلا يستخفَّها ويستحقِرَها الكفار، ولهذا جَوَّزَ تحليةَ آلاتِ الحرب بالفضة كي لا يستَحقِرَ الكفارُ المسلمين. قوله: "وقَلِّدُوها"؛ أي: عَلَّقوا بأعناقها ما شئتم إلا الأوتارَ، وهو جمِعُ وَتَر، وإنما نَهَى عن تقليدِها الوترَ؛ لأنَّ العربَ كانوا يعتقِدُون أن الوَتَرَ يدفعُ العينَ عما عُلقَ به الوَتَر، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الفعلِ والاعتقادِ؛ لأنه لا دافعَ ولا معطيَ إلا الله. وقيل: إنما نهاهم عن تعليق الوَتَر كيلا يختَنِقَ الفَرَسُ به. * * * 2935 - عن ابن عبَّاسٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدًا مأمورًا، ما اختصَّنا دونَ النَّاسِ بشيءٍ إلا بثلاثٍ: أَمَرَنا أنْ نُسبغَ الوُضوءَ، وأنْ لا نأكلَ الصَّدَقةَ، وأنْ لا نُنْزِيَ حِمارًا على فرسٍ. قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَبدًا مأمورًا ما اختصَّنا دونَ الناسِ بشيءٍ إلا بثلاث"، مفهومُ كلامِ ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اختصنا بهذه الثلاثة بأمر الله؛ لأنه لا يقولُ شيئًا إلا بأمر الله. قوله: "أن نُسْبغَ الوُضُوءَ".

قوله: "وأن لا نأكلَ الصدقةَ"، وعِلَّتُه: أن الزكاةَ والصدقةَ وسخُ المالِ، وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعزُّ من أن يأكلوا وَسَخَ المال. قوله: "وأن لا نُنْزِيَ حمارًا على فرس"، نهى النبي صلى الله عليه وآله من إِنزاءِ الحمارِ على الفَرَس؛ لأنَّ الفرسَ إذا حَمَلَتْ من جنسِها يكونُ ولدها مأكولَ اللحم، ويكونُ صالحًا للركض، والجَوَلانِ في الحرب، وتخويفِ الأعداء، ويكون له سهمان في القِسْمة، ويكون له نَسْلٌ، ولو حَمَلَتِ الفرسُ من الحمار لا يكونُ لولدِها شيءٌ من هذه المنافع. ولا شكَّ أن تفويتَ هذه المنافعِ لا يَلِيقُ بآل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنزاءُ الحِمارِ على الفَرَسِ جائزٌ للأمة. * * * 2936 - عن عليًّ - رضي الله عنه - قال: أُهديَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَغْلَةٌ فركبَها، فقال عليٌّ: لو حَمَلْنا الحَميرَ على الخيلِ لكانَتْ لنا مثلَ هذه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يفعلُ ذلكَ الذينَ لا يعلمونَ". قوله: "إنما يفعلُ ذلك الذين لا يَعْلَمُون"؛ يعني: إنما يُنْزِي الحمارَ على الفرسِ الذين لا يعلَمون أن إنزاءَ الفرسِ على الفرسِ خيرٌ من إنزاء الحمارِ على الفرس؛ لما ذُكِرَ قُبَيْلَ هذا من الفوائد. وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا تسلَّيًا لخواطر آله - رضي الله عنهم - حين نهاهم. إنزاءُ الحمار على الفرسِ جائزٌ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ركبَ البَغْلَ، ومنَّ الله على عباده بالبغل فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، ولو لم يكنْ إنزاءُ الحمار على الفرس جائزًا لم يمنَّ الله على عباده بشيءٍ غيرِ جائز.

2937 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: كانتْ قَبيعَةُ سيفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن فِضَّةٍ. قوله: "كان قَبيعةُ سيفِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فِضَّة". (قبيعة السيف) بمنزلة شعيرة السِّكِّين، فهي ما بين المِقْبَضِ وما بعده من المَقْطَع. وهذا الحديث صريحٌ بأن تحليةَ آلاتِ الحربِ بالفضة جائزةٌ كيلا يستحقرَ الكفارُ المسلمين. * * * 2939 - عن السَّائبِ بن يزيدَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ عليهِ يومَ أُحُدٍ دِرْعانِ قد ظاهرَ بينَهما. قوله: "قد ظاهَرَ بينهما"؛ يعني: لَبسَ أحدَهما فوقَ الأخرى، وهذا الحديث صريحٌ بأن لُبْسَ السلاحِ وما يَدْفَعُ سهامَ الأعداء وضَرَرَهم سُنَّةٌ. * * * 2940 - عن ابن عبَّاسٍ قال: كانَتْ رايةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سوداءَ ولِواؤُهُ أبيضَ. قوله: "كانت رايةُ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَاءَ، ولواؤُه أبيضَ"، (الرَّايةُ): العلم الكبير، و (اللواءُ): العَلَمُ الصغيرُ، يقالُ له: البَيْرَق. * * * 2941 - وسُئِلَ البراءُ بن عازبٍ عن رايةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كانَت سوداءَ مُرَبَّعةً مِن نَمِرةٍ. قوله: "من نَمِرَة"، (النَّمِرَةُ): بُردَةٌ من صُوْف. * * *

3 - باب آداب السفر

3 - باب آدابِ السَّفَرِ (باب آداب السفر) مِنَ الصِّحاحِ: 2944 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلمُ النَّاسُ ما في الوَحْدَةِ ما أَعْلَمُ، ما سارَ راكِبٌ بليلٍ وَحْدَهُ". "لو يَعْلَمُ الناسُ ما في الوَحْدَةِ ما أَعْلَمُ، ما سارَ راكبٌ بليلٍ وحدَه"؛ يعني: السيرُ بلا رفيقٍ فيه مَضرَّةٌ دنيوية ودينية. أما الدنيوية: فهي أنه لا يكونُ معه من يعينُه في الحوائج. وأما الدينية: فهي أنه لا يكونُ معه من يصلَّي معه الصلاةَ بالجماعة، فيُحْرَم من ثوابِ الجماعة. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 2945 - وقال: "لا تَصْحَبُ الملائكةُ رُفْقةً فيها كلبٌ ولا جَرَسٌ". قوله: "لا تصحبُ الملائكةُ رُفْقةً فيها كَلْبٌ ولا جَرَسٌ"، (الرُّفْقَةُ): العِيْرُ، وَجْهُ نهيِ استصحابِ الكلب؛ لكونه نَجِسًا، وينجسُ ما وَصَلَ إليه فمُه، أو شيءٌ من أعضائه الرَّطْبة، ووجهُ نهيِ تعليقِ الجَرَسِ بالدَّوابِّ ما ذُكِر. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

2946 - وقال: "الجَرَسُ مَزاميرُ الشَّيطانِ". قوله: "الجَرَسُ مزامير الشيطان"، (المزاميرُ): جمع مِزْمَار. روى هذا الحديثَ أيضًا أبو هريرة. * * * 2947 - عن أبي بشيرٍ الأنصاريِّ: أنه كانَ مع رسولِ الله في بعضِ أسفارِهِ فأرسلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رسولًا: "لا يُبْقَيَنَّ في رقبةِ بعيرٍ قِلادةٌ مِن وَتَرٍ، أو قِلادةٌ إلا قُطِعَت". قوله: "أو قلادة"، شَكَّ الراوي في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قلادة من وتر)، أو قال: (قلادة) مطلقًا، ولم يَقُلْ: (مِن وَترٍ) أو غيره؟. ولعلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قِلاَدة من وَتَر) على التعيين، ولكن أدخَلَ الراوي الشكَّ بأن المنهيَّ هو القلادة من وَتَر، أو القلادة التي فيها جَرَس؛ لأن القلادة التي لم تكن من وَتَر، ولم يكن فيها جَرَس لم يكنْ تعليقُها برقبة الدابَّةِ منهيًّا. * * * 2948 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سافرْتُم في الخِصْبِ فأعطُوا الإبلَ حَظَّها مِن الأرضِ، وإذا سافرتُم في السَّنَةِ فأسرِعُوا عليها السَّيْرَ، وإذا عرَّسْتُم بالليلِ فاجتنِبُوا الطَّريقَ، فإنها طُرُقُ الدَّوابِّ ومَأوَى الهوامِّ بالليلِ". وفي روايةٍ: "وإذا سافرتُم في السَّنةِ فبادِرُوا بها نِقْيَها". قوله: "إذا سافرتم في الخِصبِ فأعطوا الإبلَ حقَّها"، (الخِصْبُ): كثرةُ العَلَف والطَّعام، والسَّنَةُ ضدُّه؛ يعني: إذا كان العَلَفُ في الطريق كثيرًا،

فأعطُوا الإبل حقَّها من السير؛ أي: لا تسيروا إلا بقدْرِ العادة، ولا تُسْرِعُوا الإبل كي لا يلحقَها مشقةٌ، وإذا سافرتم في زمان القحْطِ، ولم يكن في الطريق العَلَفُ، فأسْرِعُوها حتى تُلْحِقُوها إلى الماء والعَلَف قبلَ أن يَلْحَقَها جوعٌ وعطشٌ في الطريق، فتضعُفَ عن السير. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. قوله: "فبادروا بها نَقَبها"، (النَّقَبُ) - بفتح النون والقاف -: الطريقُ بين الجبلين، والمراد به ها هنا: مُطْلَقُ الطريق، تقديره: فبادروا بالإبل في نَقَبها؛ أي: في طريقها؛ يعني: إذا سافرتم في زمان قِلَّة العلفِ، فأسرعوا بالإبل في الطريق. * * * 2949 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: بينما نحنُ في سفرٍ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءَ رجلٌ على راحلةٍ فجعلَ يضرِبُ يَمينًا وشمالًا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فلْيَعُدْ بهِ على مَن لا ظَهْرَ لهُ، ومَن كانَ لهُ فَضْلُ زادٍ فلْيَعُدْ بهِ على مَن لا زادَ لهُ، قال: فذكرَ مِن أصنافِ المالِ حتى رأيْنا أنه لا حَقَّ لأحدٍ منا في فَضْلٍ". قوله: "إذا جاء رجلٌ على راحلةٍ فجعلَ يضربُ يمينًا وشمالًا". (جعل)؛ أي: طَفِقَ، (يَضْرِبُ)؛ أي: يمشي يمينًا ويسارًا؛ أي: يسقطُ من التعب؛ أي: كانت راحلتهُ ضعيفةً لم يقدر أن يركبَها، ويمشي راجلًا، ويسقطُ من الضعف. ويحتملُ أن تكونَ راحلتُه قويةً، إلا أنها قد حملَ عليها زادَه وأقمشتَه، ولم يقدِرْ أن يركبَها من ثِقَلِ حَمْلِها، فطلبَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الجيش فَضْلَ ظَهْرٍ؛

أي: دابة زائدةً على حاجةِ صاحبها. قوله: "فليَعُدْ به"، الباء للتعدية. "لا ظَهْرَ"؛ أي: لا مركوبَ. * * * 2950 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّفَرُ قِطعةٌ مِن العذابِ، يمنعُ أحدَكم نومَهُ وطَعامَهُ، فإذا قَضَى نَهْمَتَهُ مِن وَجهِهِ فليُعجِّلْ إلى أهلِهِ". قوله: "نَهْمَتَه"؛ أي: حاجتَه. "من وجْهِه"؛ أي: من السفر الذي قَصَدَه. قال الخطابي: هذا الحديثُ تحريضٌ على الإقامة وتَركِ السفر إذا لم تكنْ حاجةٌ إلى السفر؛ لأن في السفر فوتَ الجمعة والجماعات وقضاءِ الحقوقِ، ونقصانَ الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 2952 - عن أنسٍ: أنه أَقبَلَ هو وأبو طلحةَ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّةُ مُردِفَها على راحلتِه. قوله: "مُرْدِفَها"، اسم فاعل مِنْ (أردف): إذا رَكَّبَ أحدًا خلفَه على دابَّته. وهذا الحديث وأشباهُه يدلُّ على أنَّ الإرداف سُنَّةٌ؛ لأنَّ فيه تواضعًا، ويدلُّ على أن استصحابَ الزوجاتِ في السفر سُنَّةٌ. * * *

2953 - عن أنسٍ قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَطْرُقُ أهلَهُ، كانَ لا يدخلُ إلا غُدْوةً أو عَشِيَّةً. قوله: "لا يَطْرُقُ"؛ أي: لا يجيء ليلًا، بل بالنهار في أوله وفي آخره قبل الغروب، وإنما يدخل نهارًا كي يبلغَ خبرُ مجيئهِ إلى الزوجاتِ؛ ليجْعَلْنَ على أنفسهنَّ نظافةً، كي لا تَنْفِرَ طباعُ أزواجهنَّ منهنَّ بترْكِ التنظيف. * * * 2955 - وعن جابرٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخلتَ ليلًا فلا تدخُلْ على أهلِكَ، حتى تَستحِدَّ المُغِيبَةُ، وتَمْتشِطَ الشَّعِثَةُ". قوله: "فلا تَدْخُلْ أهلَك"؛ يعني: اِلْبَثْ في مسجدٍ حتى يبلغَ خبرُ مجيئك إلى الزوجات؛ ليجعلْنَ على أنفسهن نظافةً. "حتى تَسْتَحِدَّ"؛ أي: تستعملَ الحديد؛ أي: تَحلِقَ العانةَ. "المُغِيَبةُ"، - بضم الميم -: المرأةُ التي غابَ زوجُها. "وتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ"؛ أي: تجعل رأسَها بالمِشْط، (الشَّعِثَةُ): المتفرَّقَةُ شَعْرِ الرأس. * * * 2956 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قدِمَ المدينةَ نحرَ جَزُورًا أو بقَرةً. قوله: "نَحَرَ جَزُورًا أو بقرة"؛ يعني: السنَّةُ لمن قَدِمَ من سفر أن يُضيفَ بقَدْرِ وُسْعِه. * * *

2957 - وعن كعبِ بن مالكٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقْدَمُ مِن سفرٍ إلا نهارًا في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بَدَأَ بالمسجدِ فصلَّى فيهِ ركعتينِ، ثم جلسَ فيهِ للناسِ. قوله: "جَلَسَ فيه للناس"؛ يعني: جَلَسَ في المسجد؛ ليزورَه الناسُ ويرَوه، ويفرحوا بقدومه، ويصلَ خبرُ مجيئه إلى أهل بيته، ثم يدخل بيتَه، وهذا سُنَّة. * * * مِنَ الحِسَان: 2959 - عن صَخْرٍ الغامِديِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ بارِكْ لأِمتي في بُكورِها"، وكانَ إذا بعثَ سريةً أو جيشًا بعثَهم مِن أوَّلِ النَّهارِ. قوله: "اللهم باركْ لأُمَّتي في بُكُورها"، (المسافَرَةُ) سُنَّةٌ في أول النهار؛ أي: السفر للتجارة، وكان صخرٌ هذا يراعي هذه السُنَّةَ، وكان تاجرًا يبعَثُ مالَه في أولِ النهار إلى السَّفَر للتجارة، فكَثُرَ مالُه ببركة مراعاةِ السُّنَّة، ولأن دعاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مقبولٌ لا مَحَالة. * * * 2960 - عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالدُّلْجَةِ، فإنَّ الأرضَ تُطوَى باللَّيلِ". قوله: "عليكم بالدُّلْجَة"؛ يعني: الْزَمُوا الدُّلْجَة، الدُّلجة - بضم الدال وسكون اللام - اسم مِن (أدْلَجَ القومُ) - بسكون الدال -: إذا ساروا أَوَّلَ الليل. والدُّلْجَة أيضًا اسمٌ مِن (ادَّلَجُوا) بفتح الدال وتشديدها: إذا ساروا آخر

الليل، والمراد بالدُّلْجَة هنا: السيرُ آخرَ الليل؛ يعني: لا تَقْنَعُوا بالسير نهارًا، بل سِيرُوا آخرَ اللَّيلِ أيضًا. "فإنَّ الأرضَ تُطْوَى بالليل"؛ أي: يَسْهُلُ السيرُ من الليل بحيث يَظُنُّ الماشي في الليل أنه سارَ قليلًا من المسافة، وقد سارَ مسافةً كثيرةً. * * * 2961 - وعن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّاكِبُ شيطانٌ، والرَّاكِبانِ شيطانانِ، والثلاثةُ رَكْبٌ". قوله: "والراكب شيطان"؛ يعني: مشيُ الواحدِ منفردًا منهيٌّ، وكذلك مشيُ الاثنين، فإذا فعَل رجلٌ منهيًّا فقد أطاعَ الشيطانَ في فِعْلِ منهيًّ، فكلُّ مَنْ فَعلَ فعلًا على وِفْقَ أمرِ الشيطانِ، فكأنَّه شيطانٌ، فلهذا سمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيطانًا. وإنما كان مشيُ الواحدِ والاثنين منهيًّا؛ لأن الاثنين إذا سافرا، فربما يموتُ أحدُهما، فيَبْقَى واحدٌ، ولم يَقْدِر الواحدُ على القيام بتجهيز دَفْنِه من حَمْلِ الجنازة، والغُسْل، وحَفْرِ القبر، ووضعِ الَميتِ في القبر، ولو كانوا ثلاثةً وماتَ واحدٌ يبقى الاثنان، ويقدِرُ الاثنان على تجهيز دَفْنِ الميت، فلهذا سَيْرُ الثلاثة غيرُ منهيًّ، وسيرُ اثنين منهيٌّ. قوله: "والثلاثة رَكْبٌ"، (الرَّكْبُ): جمعُ راكب؛ يعني: الثلاثةُ جماعةٌ، والجماعةُ محمودةٌ في الشرع. * * * 2962 - عن أبي سعيدٍ الخُدريَّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ ثلاثةٌ

في سَفَرٍ فليُؤمِّروا أحدَهم". قوله: "فليؤمِّروا أحدَهم"؛ يعني: فلْيَجْعَلُوا أحدَهم أميرَهم؛ ليفعلِ الاثنان بأمر الأميرِ ما يفعلان، وكذلك كلُّ جماعةٍ ينبغي أن يكون أحدُهم أميرَهم، كيلا تختلفَ أفعالُهم وأقوالُهم. * * * 2963 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الصَّحابةِ أربعةٌ، وخيرُ السَّرايا أربعُمائةٍ، وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ، ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفًا مِن قِلَّةٍ"، غريب. قوله: "خيرُ الصحابة أربعةٌ"؛ يعني: خيرُ الرفقاءِ أربعةٌ؛ يعني: الرفقاءُ إذا كانوا أربعةً خيرٌ من أن يكونوا ثلاثةً؛ لأنهم إذا كانوا ثلاثةً ومَرِضَ أحدُهم فأراد أن يجعلَ أحدَ رفيقيه وصيَّ نفسِه لم يكن هنا من يَشْهَدُ بإيصائه إلا واحدٌ، وشهادةُ الواحدِ غيرُ كافيةٍ، ولو كانوا أربعةً ومَرِضَ أحدُهم وأرادَ أن يَجْعَلَ أحدَ رفقائه، وصيَّ نفسِه يكون مَنْ يَشْهدُ بإيصائه اثنين، وشهادةُ الاثنين كافيةٌ، ولأنَّ الجَمْعَ إذا كان أكثرَ يكون مُعاوَنةَ بعضهم بعضًا أكثرَ، وفضْلُ صلاة الجماعة أيضًا أكثر، فخمسةٌ خيرٌ من أربعة، وكذلك كلُّ جماعةٍ خيرٌ ممن أقلُّ منهم، ولم يكونوا خيرًا ممن فوقَهم. * * * 2964 - عن جابرٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلَّفُ في السَّيرِ، فيُزْجي الضَّعيفَ، ويُرْدِفُ، ويَدْعُو لهم. قوله: "يتخلَّفُ"؛ أي: يتأخَّرُ، ويمشي خلفَ الجيش.

"ليُزْجِيَ"؛ أي: ليسُوقَ فيُعينَ مَنْ عَجَزَ وضَعُفَ عن السير من الجيش، هذا تواضعٌ ورحمةٌ منه على الخَلْق. * * * 2965 - عن أبي ثعلبةَ الخُشَنيِّ قال: كانَ النَّاسُ إذا نَزَلوا مَنزِلًا تَفَرَّقوا في الشِّعابِ والأوديةِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تَفَرُّقَكُم في هذهِ الشِّعابِ والأوديةِ إنما ذلكم مِن الشَّيطانِ"، فلم ينزِلوا بعدَ ذلكَ منزِلًا إلا انضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى يقالَ: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم. قوله: "في الشعاب"، (الشِّعاب): جمع شِعْب بكسر الشين، وهو الفُسْحةُ بين الجَبَلين. "والأوديةُ"، جمعُ الوادي، وهو مسيلٌ في الصحراء. * * * 2966 - وعن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: كنا يومَ بدرٍ كلُّ ثلاثةٍ على بعيرٍ، فكانَ أبو لُبابَةَ وعلي بن أبي طالبٍ زَميلَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكانت إذا جاءَتْ عُقْبَةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: نحنُ نَمشي عنكَ، قال: "ما أنتما بأَقوَى منِّي، وما أنا بأغنَى عن الأجرِ منكما". قوله: "زَمِيْلَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -". (الزَّميلُ): المُزامِلُ، وهو الذي يركَبُ معك على دابةٍ واحدةٍ. "عُقْبَةُ رسولِ الله"؛ أي: نَوْبةُ رسول الله في النزول عن الدابة. "نمشي عنك"؛ أي: نمشي راجِلَين حتى لا تحتاج أنت إلى النزول؛ يعني: نحن نمشي راجِلَين في جميع الطريق لتركبَ في جميع الطريق.

قوله: "ما أنتما بأقوى مني"؛ أي: بأقوى مني على السَّير راجلًا، بل أنا أقوى. قوله: "وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"؛ يعني: أنتما تريدان أن تمشِيا راجلين لطلب الأجر، وأنا أيضًا أطلب الأجرَ بأن أنزِلَ وأُرْكِبَكُما على الدابة، وإنما قال هذا لتعليمِ الأمة طلبَ الأجر، وان كان طالبُ الأجرِ عالمًا أو زاهدًا، فإنَّ أحدًا لا يستغني عن الأجر؛ لأن الأجر مزيدُ درجاتِ النعيم، وكلُّ المؤمنين ليكونوا حريصين على مزيد درجات النعيم. ألا ترى أن رسولَ الله مع عُلُوِّ شأنِه رغَّبَ أمته في أن يقولوا بعد الأذان: آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، كما ذكر في (باب الأذان). * * * 2967 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَتَّخِذوا ظُهورَ دوابكم منابرَ، فإنَّ الله تعالى إنَّما سخَّرَها لكم لتُبلِّغَكم إلى بلدٍ لم تَكونوا بالِغِيهِ إلا بِشِقَّ الأنفُسِ، وجعلَ لكم الأرضَ، فعليها فاقضُوا حاجاتِكم". قوله: "لا تتخذوا ظهورَ دوابكم منابرَ"؛ يعني: لا تركَبُوا على الدوابِّ إلا لحاجةٍ بأن تَلْحَقَكُم المشقةُ في السير راجلًا، ولا تجعلوا الدوابَّ مثل المنابرِ تركبونها من غير حاجة وضرورة كما هو عادةُ بعض الناس. قوله: "إلي بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بِشِقِّ الأنفس"؛ يعني إلى بلدٍ بعيدٍ تلحَقُكُم المشقةُ بالذهاب إليه راجِلِين. قوله: "وجعل لكم الأرضَ"؛ يعني: خلقَ لكم الأرضَ لتسْكُنوا فيها، وتَرَدَّدوا عليها كيف شئتم، ومتى شئتم فلا حرَج عليكم في التَّرَدُّدِ على الأرض بخلافِ ركوب الدوابِّ، فإنَّ ركوبَها بغير حاجة منهيٌّ.

قوله: "فعليها"؛ أي: فعلى الدوابِّ، "فاقْضُوا حاجاتِكم" من المسافرة راكِبين. * * * 2968 - قال أنسٌ: كنا إذا نَزَلْنا منزِلًا لا نُسبحُ حتى نَحُلَّ الرَّحالَ أي: لا نُصلِّي الضُّحى. قوله: "حتى تُحَلَّ الرِّحالُ"؛ يعني حتى تُحَطَّ الأحمالُ عن ظهور الدوابِّ كي لا تتعبَ الدَّوابُّ بكون الحملِ على ظهورها، يعني: لا تشتغلْ بشيءٍ قبلَ حَطِّ الأحمال. * * * 2969 - عن بُرَيدَةَ قال: بينَما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي، إذ جاءَ رجلٌ معَهُ حمارٌ فقال: يا رسولَ الله! اركبْ، وتَأَخَّرَ الرجلُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، أنتَ أَحَقُّ بصدرِ دابَّتِكَ إلا أنْ تجعلَهُ لي"، قال: قد جعلْتُه لكَ، فركِبَ. قوله: "إلا أن تجعلَه لي"؛ يعني إلا أن تجعلَ صَدْرَ دابَّتِك لي، وترضى بركوب مُؤَخَّرِها، وإنما قال: (لا) أولًا ليعلِّمَه أن صَدْرَ دابته حقُّه، فإنه لم يقلْ - صلى الله عليه وسلم -: أنتَ أحق بصدر دابتك لظنَّ الرجل ومن سَمِعَ هذا الحديثَ أنَّ مَنْ هو أكبرُ وأعظمُ شأنًا أحقُّ بركوبِ صَدرِ الدابَّة مالكًا كان أو غيره، فبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن المالكَ أحقُّ بركوب صدر دابته إلا أن يؤثر غيره بصدر دابته على نفسه، وصدر الدابة من ظهرها ما يلي عنقها. * * * 2970 - عن سعيدِ بن أبي هندٍ، عن أبي هُريرةَ قال: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

"تكونُ إبلٌ للشَّياطينِ، وبيوتٌ للشَّياطينِ، فأمَّا إبلُ الشَّياطينِ فقد رأيتُها، يخرُج أحدُكم بنجيباتٍ مَعَهُ قد أَسْمَنَها فلا يَعْلو بعيرًا منها، ويَمُرُّ بأَخيهِ قد انقطعَ بهِ فلا يحمِلُه، وأمَّا بيوتُ الشَّياطينِ فلم أَرَها" كان سعيدٌ يقولُ: لا أُراها إلا هذهِ الأقفاصَ التي تسترُ الناسَ بالدِّيباجِ. قوله: "بنجيبات"، هي جمع نَجِيبةٍ، وهي الناقة المختارة؛ يعني: الدوابُّ إنما خلقها الله لينتفع بها بالركوب والحمل، فإذا كانت مع الرجل في الطريق نجيباتٌ ولم يركبها، ولم يحمل عليها مَن أَعْيَى في الطريق، ولم يحمل أقمشته عليها، فقد أطاع الشيطان في منع الانتفاع بدوابه، وإذا أطاع الشيطان في أمر دوابه فكأن دوابه للشيطان حتى أطاع ما يأمره الشيطان بترك الانتفاع بها. قوله: "هذه الأقفاص"؛ يعني بـ (الأقفاص): الأحداج، وهي جمع حِدْج، وهي ما تجلس فيها النساء على ظهر الدابة شبه بيت، ويسمَّى: المِحَفَّة، ووجه كراهية ركوب المِحَفَّة لا لذاتها، بل لسترها بالديباج وغيره من الثياب الإبريسمية. * * * 2971 - عن سهلِ بن معاذٍ، عن أبيه، قال: غَزَوْنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فضَيَّقَ الناسُ المنازلَ وقطعُوا الطَّريقَ، فبعثَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنادِيًا يُنادي في النَّاسِ: "أنَّ مَن ضيَّقَ منزِلًا أو قطعَ طريقًا فلا جهادَ لهُ". قوله: "فلا جهاد له"؛ أي: فلا كمالَ ثوابِ الجهاد له بإضراره الناس؛ لأنه إذا نزل في الطريق يمنع الناس من المرور، أو يضيقُ الطريق فيتضررون بالمرور، وإضرار الناس إثم. * * *

4 - باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام

2972 - عن جابرٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أحسنَ ما دخلَ الرجلُ على أهلِهِ إذا قدِمَ مِن سفرٍ أولُ الليلِ". قوله: "إن أحسن ما دخل الرجل أهله إذا قدم من سفر أول الليل" قد ذكر قبل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يطرق أهله، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقدمُ من سفر إلا نهارًا. هذه الأحاديث صريحةٌ بأن الدخول على الأهل من السفر قبل الليل أفضل من الدخول ليلًا، وتأويل هذا الحديث أن أحسن ساعات الليل في الدخول على الأهل أول الليل؛ يعني: أنه إذا فاته الدخول نهارًا وأراد أن يدخل ليلًا فأولُ الليل قبل أن يظلم الليل أحسن من الدخول في وسط الليل. * * * 4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ (باب الكتاب إلى الكفار) مِنَ الصِّحاحِ: 2973 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى قيصرَ يدعُوه إلى الإِسلام، وبعثَ بكتابهِ إليه مع دِحْيَةَ الكلبيَّ، وأمَرَهُ أنْ يدفعَهُ إلى عظيم بُصْرَى ليدفَعه إلى قيصرَ، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم مِن محمدٍ عبدِ الله ورسولهِ إلى هِرَقْلَ عظيم الرُّومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ

الهدَى، أمَّا بعدُ: فإني أَدعُوكَ بداعيةِ الإِسلامِ، أسلِمْ تَسْلَم، وأسلِمْ يُؤْتِكَ الله أجرَكَ مرَّتينِ، فإنْ تَوَلَيتَ فعليكَ إثمُ الأرِيسيَّينَ، و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ". ويُروَى: "بدِعايةِ الإِسلامِ". قوله: "بعث بكتابه إليه"، (بكتابه)؛ أي: مع كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر. "إلى عظيم بصرى"؛ أي: إلى أمير بصرى، و (بصرى): اسم بلد من الشام. "من محمَّد"؛ أي: هذا الكتاب جاء من محمَّد، أو مبعوثٌ من محمَّد "عبد الله" صفةُ (محمَّد). "هرقل" بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف: اسم عظيم الروم؛ أي: ملك الروم في ذلك الوقت، و (قيصر) اسمٌ لجميع ملوك الروم، كما يقال في بعض البلاد لملكهم: أتابك، ولبعض البلاد: سلطان. "سلام على من اتبع الهدى"، (الهدى): طريق الحق وهو الإِسلام، ولم يقل: سلام عليك؛ لأنه كافرٌ ولا يجوز أن يسلَّم النبي على كافر، وكذلك لا يجوز للمسلمين أن يسلَّموا على كافرِ، بل يقولون: السلام على مَن اتبع الهدى. قوله: "بداعية الإِسلام"، (الداعية): بمعنى الدعاء. قوله: "أسلم تسلم"؛ يعني: أَسْلِمْ لكي تَسْلَمَ من أن نقتلك، وتَسْلَمَ من عذاب يوم القيامة. "يؤتك الله أجرك مرتين" قد ذكرناه في أول الكتاب في قوله: "ثلاثة لهم أجران"، وكان هرقل نصرانيًا فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتك الله أجرك مرتين". "فإن تولَّيت"؛ أي؛ فإن أعرضت عن الإِسلام.

"فعليك إثم الأريسيين" وهو جمع أريسيًّ - بكسر الهمزة وتشديد الياء - وهو منسوبٌ إلى الإرِّيس وهو الزارع، والمراد بالأريسيين: أتباعه من الرعايا؛ يعني: فإن لم تُسْلِمْ يوافقك رعاياك في الكفر، فيكون عليك إثم كفرهم؛ لأنهم وافقوك في الكفر. قوله تعالى: " {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} "؛ يعني: تعالوا لنقول شيئًا هو واجب الإقرار به، والتكلُّمُ به في ديننا ودينكم، وقد أمركم نبيكم عيسى - صلى الله عليه وسلم - بذلك وذلك الشيء هو: " {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا} "؛ أي: ولا تتخذ مخلوقًا إلهًا. " {فَإِنْ تَوَلَّوْا} "؛ أي: فإذ أعرض أهل الكتاب عن اتخاد إله واحد فقولوا أيها المسلمون: اشهدوا يا أهل الكتاب بأنَّا مسلمون؛ لأنَّا لا نعبد مع الله إلهًا آخر، ولستم مسلمين؛ لأنكم تعبدون غير الله. قوله: "بدعاية الإِسلام"؛ أي: بدعاء الإسلام، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أنه لمَّا وصل كتاب رسول الله إلى هرقل، فسأل هرقلُ حالَ النبي مِن الذي جاء بكتابه فقال له: محمد من أشراف قومه، أو من أوساطهم، أو من أوضاعهم؟ فقال: بل من أوساطهم، فقال: هكذا كان الأنبياء، فقال: أتباعه فقراء أم أغنياء؟ فقال: بل فقراء، فقال: هكذا كان أتباع الأنبياء، فقال: إذا حارب قومًا يكون الظفر كله له أو يكون بعض الظفر له وبعضه لخصمه؟ فقال: يكون بعض الظفر له وبعضه لهم، فقال: هكذا كان الأنبياء. فلما ظهر لهرقل كون محمَّد نبيًا بما سأل من السؤالات، فقال: آمنت بمحمد، وأمر قومه أن يؤمنوا، فارتفعت أصوات قومه وقالوا: إنا لا ندع دين آبائنا، فخاف هرقل من قومه، وأمر بإغلاق باب قصره، وبعث مناديًا يأمر أن ينادى على سطح قصره: أيها الناس إن هرقل يمتحنكم بعرض دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -

ليعلم أنكم ثابتون على دين آبائكم أم لستم بثابتين فيه، فارجعوا إلى دين آبائكم فإن هرقل ثابثٌ على دينه القديم ولم يؤمن بمحمد. وقال هرقل لمن جاء بكتاب نبي الله: قل لمحمد إني أعلم أنك نبي ولكن أخاف من الرعايا ومن ذهاب ملكي، فلهذا لا أُظهر الإيمان. * * * 2974 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بكتابهِ إلى كِسرى مع عبدِ الله بن حُذافَةَ السَّهميِّ، فأمرَهُ أنْ يدفَعَه إلى عظيم البحرَيْنِ فدفعَهُ عظيمُ البحرينِ إلى كِسْرَى فلمَّا قرأَهُ مَزَّقَه، قال ابن المسيبِ: فدعا عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُمَزَّقُوا كلَّ ممزَّقٍ. قوله: "أن يدفعه ... إلى كسرى"، (كسرى): بفتح الكاف وكسرها: اسم ملوك العجم، كما أن قيصر اسمٌ لملوك الروم. "مزقه"؛ أي: خَرَّقه. "فدعا عليهم رسول الله أن يمزقوا كل ممزق"، (الممزق) هنا: مصدرٌ ميمي بمعنى التمزيق؛ يعني دعا عليهم رسول الله وقال: مزَّقهم الله تمزيقًا تامًا؛ أي: فرَّقهم الله. ذكر أن كسرى في ذلك الوقت خسرو الذي زوجته شيرين، فأجاب الله دعاء نبيه فيهم، فقام ابن خسرو شيرويه فشق بطن أبيه ليتزوَّج بشيرين لغلبة عشقه بها، فلما دفن خسرو قال شيرويه لشيرين: تعالي أتزوَّجُك، فقالت شيرين: اصبر لأدخل قبر أبيك وأودَّعه، ودخلت القبر وأخذت سيفًا ووضعت مقبضه على جرح خسرو، ووضعت بطنها على طرف السيف واعتمدت على السيف حتى دخل السيف في بطنها، وخرت على خسرو ميتة.

وكان أخذ بلاد العجم في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان ملك العجم في ذلك الوقت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن برويز - وهو اسم خسرو - بن أنوشروان بن قباد بن هرمز، وتزوج أمير المؤمنين الحسين بن علي - رضي الله عنهما - شهريانو بنت يزدجرد. * * * 2975 - وقال أنسٌ: إنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى كِسْرَى وإلى قيصرَ وإلى النَّجاشيِّ وإلى كلِّ جبَّارٍ يدعُوهم إلى الله، وليسَ بالنَّجاشيِّ الذي صلَّى عليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "وإلي النجاشي"، و (النجاشي): اسم ملوك الحبشة. * * * 2976 - عن سليمانَ بن بُرَيْدةَ، عن أبيه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ، أَوْصاهُ في خاصَّتِه بتقوَى الله، ومَن معَهُ مِن المسلمينَ خيرًا ثم قال: "اُغزُوا بسم الله في سبيلِ الله، قاتِلوا مَن كفَر بالله، اُغزُوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا وَليدًا، وإذا لقيتَ عدُوَّكَ مِن المُشركينَ فادعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ، أو خِلالٍ، فأيَّتُهنَّ ما أَجابُوكَ فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم: ثمَّ ادعُهم إلى الإسلام، فإنْ أجابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثمَّ ادعُهم إلى التحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المهاجرينَ، وأخبرْهم أَنَّهم إنْ فعلُوا ذلكَ فلهم ما للمُهاجرينَ، وعليهم ما على المُهاجرينَ، فإن أَبَوا أَنْ يتَحوَّلُوا منها فأَخْبرْهم أنهم يكونُونَ كأعرَابِ المسلمينَ، يجري عليهم حُكْمُ الله الذي يجري على المؤمنينَ، ولا يكونُ لهم في الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلا أنْ يُجاهِدُوا مَعَ المسلمينَ، فإن هُم أَبَوا فسَلْهم الجزْيَةَ، فإن هُم أَجابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإنْ هم أَبَوا فاستَعِنْ بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ

فأَرادُوكَ أنْ تجعلَ لهم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبيهِ فلا تَجعلْ لهم ذِمَّةَ الله ولا ذِمَّةَ نَبيهِ، ولكنْ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وذمَّة أصحابكَ، فإنكم أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمِكُمْ وَذِمَمِ أصحابكم، أهونُ مِن أنْ تَخْفِرُوا ذِمَةَ الله وذمةَ رسولِهِ، وإنْ حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أنْ تُنْزِلَهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلْهم على حُكْمِ الله، ولكنْ أَنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ، فإنك لا تدرِي أَتُصيبُ حكمَ الله فيهمْ أم لا". قوله: "أوصاه في خاصته بتقوى الله"؛ يعني: أوصاه في أمر نفسه، وفي أمر من معه من الجيش، فأما وصيته إياه في أمر نفسه أن يقول له: اتق الله، ووصيته إياه في أمر الجيش أن يأمره بحفظ مصالحهم، وأَمْرِه إياهم بما فيه الخير. قوله: "ولا تَغُلُّوا"؛ أي: ولا تسرقوا شيئًا من الغنيمة. "ولا تغدروا"؛ أي: ولا تحاربوا الكفار قبل أن تدعوهم إلى الإسلام. "ولا تمثَّلوا"؛ أي: ولا تجعلوا المثلة، وهي قطع الأعضاء؛ يعني: مَن قتلتموه فاتركوه ولا تقطعوا أعضاءه. "ولا تقتلوا وليدًا"؛ أي: ولا تقتلوا الأطفال بل اسبوهم، وكذلك النساء. "وإذا لقيتَ" هذا خطاب مع أمير الجيش. قوله: "إلى ثلاث خصال، أو خلال": هذا شك من الراوي في أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث خصال)، أو (ثلاث خلال)، و (الخصال): جمع الخصلة، و (الخلال): جمع خَلَّةٍ - بفتح الخاء - وهي الخصلة. "فأيتهن ما أجابوك"، (ما) هنا زائدة. "وكف عنهم"؛ يعني: فإذا فعلوا شيئًا من هذه الخصال اتركهم ولا تقتلهم. "ادعُهم إلى الإسلام" هذا هو الخصلةُ الأولى، "ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين"؛ يعني: فلمَّا أسلموا فمُرْهم بالانتقال من دار الكفار إلى دار المسلمين.

"فلهم ما للمهاجرين"؛ أي: فإن انتقلوا من دارهم إلى دار المسلمين فأخبرهم أن حكمهم حكم المهاجرين من حصول الثواب واستحقاق الفيء، وذلك الاستحقاق كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينفق على المهاجرين مما أتاه الله من الفيء، ولم يُعْطِ من الفيء شيئًا لأعراب المسلمين. "وعليهم ما على المهاجرين"؛ يعني: يجب عليهم الخروجُ إلى الجهاد إذا أمرهم الإمام، سواءٌ كان بإزاء العدو مَن به الكفايةُ أو لم يكن، بخلافِ غير المهاجرين فإنه لم يجب عليهم الخروج إلى الجهاد إذا كان بإزاء العدوَّ مَن به الكفايةُ، هكذا قال الخطابي. "منها"؛ أي: من دار الكفار. "فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين"، (الأعراب): أهل البادية؛ يعني: فإن لم ينتقلوا إلى دار المسلمين فلن يكون حكمُهم حكمَ المهاجرين، بل حكمُهم حكمُ المسلمين الذين لازموا أوطانهم في البادية لا في دار الكفار. "يجري عليهم حكم الله" من وجوب الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الأحكام، ويجري عليهم القصاصُ أو الدية والكفارة إذا قتلوا أحدًا، وليس لهم من الفيء والغنيمة شيءٌ وإذا لم يجاهدوا، بخلافِ المهاجرين، فإنَّ رسول الله ينفق عليهم من الفيء وإن لم يجاهدوا. "فإن هم أبوا"؛ يعني: فإن لم يقبلوا الإِسلام. "فسلهم الجزية" اعلم أن الجزية عند الشافعي لا تؤخذ إلَّا من المجوس وأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى عربًا كانوا أو عجمًا. وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلا من المرتدِّ ومشركي قريش. وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ومن الوثني إذا كان من العجم.

وعن أحمد روايتان: رواية كأبي حنيفة، ورواية كالشافعي. اعلم أن الخصال الثلاثة غير متضحة تحتاج إلى تبيينها: فإحدى الخصال: الإِسلام والتحوُّل إلى دار المسلمين. وثانيها: الإِسلام وتركُ التحوُّل. وثالثها: الجزية. "فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم (¬1) أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهونُ من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله". "الذمة": العهد؛ يعني: فإن قال أهل القلعة من الكفار لأمير جيش المسلمين: اجعل لنا ذمة الله وذمة رسول الله، فلا تقل؛ أيها الأمير: جعلت لكم ذمة الله وذمة رسوله، بل قل: جعلتُ لكم ذمتي، أو ذمتي وذمة أصحابي، فإنهم لو نزلوا ثم نقضوا عهدكم أهون من أن ينقضوا عهد الله وعهد رسوله. "وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا؟ ". يعني إن اشترط أهلُ القلعة معك وقالوا: إنا ننزل من القلعة بما تحكم علينا باجتهادك، فاقبل منهم هذا الشرط؛ لأنك تقدر على اجتهادك فيهم: مِن قتلهم، أو ضربِ الجزية عليهم، أو استرقاقهم، أو المنِّ، أو الفداء، فأيُّ شيء رأيت فيه المصلحة لجيشك من هذه الأشياء فاحكم به، وإن قالوا: ننزل بما يحكم الله علينا - أي: بما يوحي على نبيه فينا - فلا تقبل هذا الشرط منهم؛ لأنك ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "فإنهم".

لا تدري أن الله ينزل الوحي على نبيه فيهم أو لم ينزل. ومع أن زمان النبي زمانُ الوحي لا يجوز للإمام أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله، فكيف يجوز بعد النبي لإمامٍ أو لأمير جيش أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله على واحد من الأشياء المذكورة على التعيين؛ لأن أحدًا لا يعرف مراد الله تعالى، بل يشترط الإمام مع أهل القلعة النزول بما يقتضي إليه اجتهاده من الأشياء المذكورة. * * * 2977 - عن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أيَّامِهِ التي لَقِيَ فيها العَدُوَّ انتظرَ حتى مالَت الشمسُ ثمَّ قامَ في الناسِ فقالَ: "يا أيُّها الناسُ، لا تتمَنَّوا لقاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافيةَ، فإذا لقيتمُوهم فاصبرُوا، واعلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تحتَ ظِلالِ السيوفِ، ثمَّ قال: اللهمَّ مُنزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السحابِ، وهازِمَ الأحزابِ، اهْزِمْهُمْ، وانصرَنا عليهم". قوله: "لقي فيها"؛ أي: قاتل الكفار، الضمير في (فيها) ضمير (الأيام). "انتظر حتى مالت الشمس"؛ يعني: لم يحارب قبل الظهر لفَرْطِ الحرارة، وانتظر حتى دخل الظهر وانكسر بعض الحرارة، ثم وعظ الناس وحرَّضهم على القتال. قوله: "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"؛ يعني: الجنة تحصل للرجل عند استعمال السيوف في قتال الكفار، وإنما ذكر السيوف من بين آلات الحرب؛ لأن أكثر سلاح العرب السيوف، ولأن استعمال السيوف أشد من استعمال السهم؛ لأن استعمال السيوف إنما يكون بمقاربة العدو، ومقاربةُ العدو أشدُّ خوفًا من مباعدته. * * *

2978 - عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا غزا بنا قومًا لم يكنْ يَغْزُو بنا حتى يُصبحَ وينظرَ، فإنْ سمعَ أذانًا كَفَّ عنهمْ وإنْ لم يَسْمَعَ أذَانًا أغارَ عليهم، قال: فخرجْنَا إلى خيبرَ فانتهَيْنَا إليهم ليلًا، فلمَّا أصبَحَ ولم يسمعْ أذانًا ركبَ وركبتُ خلفَ أبي طلحةَ وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قدمَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجُوا إلينا بِمَكاتِلِهم ومَساحِيهم، فلمَّا رَأَوْا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: مُحمَّدٌ والله، محمدٌ والجيشُ، فَلَجَؤوا إلى الحصنِ، فلمَّا رآهمُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الله أكبرُ الله أكبرُ، خَرِبَتْ خيبرُ، إنَّا إذا نَزَلْنا بساحةِ قومٍ فَساءَ صباحُ المُنْذَرِينَ". قوله: "غزا بنا" الباء بمعنى المصاحبة والمعية؛ يعني: إذا غزونا وهو مصاحبنا لم يتركنا أن نُغِير بلدًا في الليل حتى يدخل الصباح، ونستمعَ الأذانَ. ويُعرف بلد المسلمين من بلد الكفار بالأذان. ويحتمل أن يكون تركُ الإغارة لأجل أن يكون الكفار في الليل عراةً نائمين الرجال منهم والنساء، فكره - صلى الله عليه وسلم - أن يفضحهم، فتركهم حتى يستيقظوا من النوم ولبسوا ثيابهم ثم أغار عليهم. قوله: "وإن قدميَّ لتمسُّ قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: كنت وأبو طلحة والنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - راكبينَ على جمل واحد. "فخرجوا إلينا"؛ أي: خرجوا من القلعة قاصدين عمارة نخلهم ولم يعلموا دخولنا عليهم. "المكاتل": جمع مكتل وهو الزنبيل، و"المساحي": جمع مِسْحاةٍ وهي معروفة. قوله: "محمَّد"؛ أي: هذا محمَّد. "والخميس"؛ أي: وهذا الجيش جيشه. "فلجؤوا"؛ أي: التجؤوا وعادوا إلى القلعة.

"بساحة قوم"؛ أي: بأرض قوم. "فساء صباح المنذرين"، (ساء): بمعنى بئس؛ أي: ينزل العذاب من الله والقتلُ والإغارةُ معًا على مَن أنذرتُه ولم يؤمن. * * * 2979 - وعن النُّعمانِ بن مُقَرِّن قال: شهدتُ القتالَ مَع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكانَ إذا لم يُقاتِلْ أولَ النهارِ انتظرَ حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضُرَ الصَّلاةُ. قوله: "حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة"، (تهب الأرواح)؛ أي: تجيء الأرواح، جمع ريح، وأصله: رِوْح، فقلبت الواو ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، وأراد بـ "الصلاة" هنا: صلاة الظهر؛ أي: أخَّر القتال حتى تكسر الحرارة. * * * مِنَ الحِسَان: 2980 - عن النُّعمانِ بن مُقَرَّن قال: شهِدْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فكانَ إذا لم يقاتِلْ أوَّلَ النَّهارِ انتظرَ حتى تزولَ الشمسُ وتَهُبَّ الرياحُ وينزِلَ النصرُ. قوله: "وينزل النصر"؛ يعني: حتى يدخل وقت صلاة الظهر والعصر، ويدعو المسلمون عقيب الصلاة لجيوش المسلمين، فإن عادة المسلمين أن يدعو عقيب الصلوات لجيوش المسلمين، فإنهم إذا دعوا جيوش المسلمين تقبل دعوتهم. * * *

5 - باب القتال في الجهاد

5 - باب القِتالِ في الجهاد (باب القتال في الجهاد) مِنَ الصِّحاحِ: 2984 - قال كعبُ بن مالكٍ: لم يكنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بغيرِها، حتى كانَتْ تلكَ الغَزْوةُ - يعني: غزوةَ تبوكَ - غزاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرًّ شديدٍ، واستقبلَ سَفَرًا بعيدًا ومَفازًا، وعَدُوًّا كثيرًا، فجلَّى للمُسلمينَ أمرَهم ليتأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِم، فأَخبرَهم بوَجْهِه الذي يريد. قوله: "ورَّى بغيرها" توريةً: إذا أخفى شيئًا في خاطره وأظهر خلافه، وتوريةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغزو ليس بأنْ قال: أنا أريد غزو أهل الموضع الفلاني، وهو يريد غيرهم؛ لأن هذا كذبٌ، والكذب لا يجوز، بل إنما كان بالتعريض، مثل أن يريد غزو بلدة ولم يقل: إني أريد ذلك الموضع، بل يخفي ذلك في قلبه ويسأل عن الناس سبيل بلد آخر، مثل أن يريد مكة ويسأل عن الناس حال خيبر وكيفيةَ سبيلها، حتى يظن الناس أنه يريد خيبر، فإذا هيأ أسباب غزو مكة قصد مكة بحيث لا يعرف أهل مكة، ولم يصل إليهم خبرٌ، حتى لا يفروا ولا يهيئوا أسباب القتال، وذلك جائز في الغزو. "تبوك": اسم ناحية في البرِّية قِبَلَ الروم، بينها وبين المدينة قَدْرُ مسيرة شهر. "جلَّى"؛ أي: أظهر. * * *

2985 - وقال جابرٌ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحربُ خُدْعَةٌ". قوله: "الحرب خدعة" يجوز فتح الخاء وسكون الدال، وضمُّ الخاء وسكون الدال، وضم الخاء وفتحُ الدال، وأفصحها فتح الخاء وسكون الدال؛ لأنه نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا، وهي المرة الواحدة من (خدع): إذا غرَّ ومكر. * * * 2987 - وقالت أمُّ عطِيَّةَ: غَزَوْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غَزَوَاتٍ: أَخْلُفُهم في رِحالِهم فأصنعُ لهم الطَّعامَ، وأُداوي الجرحَى، وأَقومُ على المرضى. قوله: "أخلفهم في رحالهم"؛ أي: أقوم مقامهم في منزلهم إذا غابوا، وأحفظ أمتعتهم. * * * 2988 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقونَ إلا بضُعفائِكم". قوله: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث كيلا يتكبر المجاهدون على الضعفاء الذين لا يقدرون على الجهاد؛ يعني: هم معذورون في تخلُّفهم لضعفهم وقلبهم مع المجاهدين يدعون لهم بالنصرة في الخلوات، وخلف الصلوات. روى هذا الحديث سعد بن أبي وقاص. * * * 2990 - عن الصَّعْبِ بن جَثامَةَ قال: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أهلِ الدارِ يُبَيَّتونَ مِن المُشركينَ، فيُصابُ مِن نسائِهم وذَرارِيهم، فقال: "هُم منهم".

وفي روايةٍ: "هُم مِن آبائهم". قوله: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار يبيَّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم"، (عن أهل الدار)؛ أي: عن أهل بلدهم من المشركين، و (يبيَّتون) بفتح الياء الثانية؛ أي: يُقْصَدون في الليل بالقتل، ويقتل الرجال والنساء والصبيان. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هم منهم"؛ يعني: لا بأس بقتل النساء والصبيان عند تبييتهم؛ لأن الغازي لا يعرف في الليل النساء والصبيان من الرجال، فهو معذور في قتل مَن وجد منهم، وإنما المنهيُّ من قتل النساء والصبيان في النهار؛ لأن الغازي يعرف النساء والصبيان من الرجال. * * * 2991 - وعن البراءِ بن عازبٍ قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَهطًا من الأنصارِ إلى أبي رافِعٍ، فدخلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكَ بيتَه لَيْلًا فقتَلَهُ وهو نائمٌ. قوله: "رهطًا"؛ أي: جماعةً "إلى أبي رافع" وهو يهودي يؤذي رسول الله ويمنع الناس من الإِسلام. وهذا الحديث دليلٌ على جواز قتل الكافر الحربي بأيِّ طريق كان، ليلًا أو نهارًا، يهوديًا كان أو غيره من الكفار. * * * 2992 - عن ابن عمرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ نخلَ بني النَّضيرِ وحَرَّقَ، ولها يقولُ حسانٌ - رضي الله عنه -: وهَانَ على سَراةِ بني لُؤَيًّ ... حَريقٌ بالبُوَيرةِ مُستَطِيرُ

وفي ذلكَ نَزَلَت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ". قوله: "قطع نخل بني النضير وحرق": هذا يدل على جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، وتحريق بيوتهم وأموالهم إذلالًا لهم، وكره أحمد ذلك. قوله: "ولها"؛ أي: ولتلك الواقعة أو لنخلهم قال حسان شعرًا، وهو حسان بن ثابت شاعرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "وهان"؛ أي: سهل. "على سَرَاة"؛ أي: على سادات بني لؤي، هم قبيلة قريش، ولؤي بن غالب من أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم -. و"حريق"؛ أي: مُحْرِقٌ، وتقديره إشعال وإضرام نارٍ محرقة. "بالبُوَيْرة": وهي اسم ذلك الموضع. "مستطير"؛ أي: متفرق؛ أي: كثير، و (مستطير) صفة (حريق). قوله تعالى: " {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} "؛ أي: من نخلة " {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} "؛ يعني أو تركتم تلك النخلة قائمةً على حالها، كل ذلك بإذن الله؛ أي: لا بأس عليكم بما قطعتم من النخل وبما تركتم قطعه. * * * 2993 - عن عبدِ الله بن عَوْنٍ: أنَّ نافِعًا كتبَ إليه يُخْبرُهُ، أنَّ ابن عمرَ أخبَرَهُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أغارَ على بني المُصطَلَقِ غارتينَ في نَعَمِهِم بالمُرَيْسيعِ، فقتَلَ المُقاتِلة وسَبَى الذُّرِّيَّةَ. قوله: "أغار على بني المصطلق غارِّين في نعمهم"، (غارين) حال من (بني المصطلق) وهو من (غرَّ غَرارةً): إذا غفل؛ يعني: كان بنو المصطلق

غافلين مقيمين بين مواشيهم إذ أغار عليهم رسول الله، وهذا يدل على أن قتل الكفار وأخذ أموالهم جائزٌ في حال كونهم غافلين. "المريسيع": اسم موضع. "المقاتِلة": جمع مقاتل، والمراد بالمقاتِلَةِ هنا: مَن يصلح للقتال، وهو الرجل البالغ العاقل. * * * 2994 - وعن أبي أُسَيْدٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لنا يومَ بدرٍ حينَ صَفَفْنَا لقُرَيشٍ وصَفُّوا لنا: "إذا أَكْثَبُوكُمْ فعليكم بالنَّبْلِ". وفي روايةٍ: "إذا أكْثَبوكم فارمُوهم، واسْتَبْقُوا نَبْلَكم". قوله: "إذا أكثبوكم"؛ أي: إذا قربوا منكم بحيث تصلُ إليهم سهامكم فارموهم بالسهام "واستَبْقوا نبلكم"، (النبل): السهم؛ يعني: ارموهم بالنبل، ولكن لا ترموهم بجميع نبالكم، بل اتركوا بعض نبالكم، فإنكم لو رميتم بجميع نبالكم فحينئذ بقيتم بلا نبلٍ فغلبوا عليكم. * * * مِنَ الحِسَان: 2995 - رُوِيَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَستَفتِحُ بصَعَالِيكِ المُهاجربنَ. قوله: "كان يستفتح"؛ أي: يطلب الفتح والظفر على الكفار من الله. "بصعاليك المهاجرين"؛ أي: ببركتهم، بأن يسأل دعاءهم، أو بأن يقول: اللهم انصرنا على الكفار بحق عبادك المهاجرين من الصعاليك، وهي جمع صعلوك: وهو الفقير.

وهذا الحديث يدل على تعظيم الفقراء، وطلبِ دعائهم والتبرُّكِ بهم، ويدل أيضًا على أن عظيم الشأن يُستحبُّ له أن يطلب الدعاء ممن هو دونه في عظم الشأن. روى هذا الحديثَ أمية بن عبد الله بن خالد بن أَسيد. * * * 2996 - عن أبي الدَّرداءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابغوني في ضُعَفائكم فَإنَّمَا تُرْزَقُون وتُنْصَرُونَ بِضُعَفائِكُمْ". قوله: "ابغوني في ضعفائكم" أصله: ابغيوني، فأُسكنت العين ونُقلت ضمةُ الياء إليها، وحذفت الياء لسكونها وسكون الواو؛ يعني: اطلبوني في ضعفائكم فإني معهم في الصورة في بعض الأوقات، وقلبي معهم في كل الأوقات؛ لِمَا أعرف من عظيم منزلتهم عند الله، فإنكم ببركتهم تُرزقون وتنصرون؛ يعني: عظِّموهم لأجل خاطري، فإنَّ مَن حَفِظَهم فقد حفطني، ومن أحبهم فقد أحبني. * * * 2997 - قال عبدُ الرَّحمن بن عَوْفٍ: عَبَّأَنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببدرٍ ليلًا. قوله: "عبأنا" هذا من التعبئة، وهي تسويةُ صفوف الجيش في القتال، وإقامةُ كلِّ واحدٍ منهم مُقامًا يصلح له. * * * 2998 - ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنْ بَيَّتَكُم العدوُّ فليكنْ شِعَارُكم: (حم لا يُنْصَرُون) ".

قوله: "إن بيتكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون"، (بيَّت تبييتًا): إذا قصد العدو للقتل والإغارة ليلًا، (الشعار): العلامة؛ يعني إن اتَّفق قتالكم الكفارَ بالليل فليقل كلُّ واحد منكم إذا لقي أحدًا: (حم لا ينصرون) ليعرف المسلمُ المسلمَ؛ يعني: إذا لقي المسلم أحدًا في الليل، فإن تكلم ذلك الأحد بـ (حم لا ينصرون) فهو مسلم، وإن لم يقل فهو كافر فليقتله المسلم. ويستحبُّ لأمير الجيش أن يأمر جيشه بأن يتكلموا بلفظٍ في الليل إذا لقوا العدو؛ ليعرف المسلم الكافر. روى هذا الحديث [المهلَّب بن أبي صُفرة]. * * * 3001 - عن قيسِ بن عُبَادٍ قال: كانَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَكرهُونَ الصَّوتَ عندَ القتالِ. "يكرهون الصوت عند القتال" عادة المحاربين أن يرفعوا أصواتهم: إما لتعظيم أنفسهم وإظهارِ كثرتهم بتكثير أصواتهم، أو لتخويف أعدائهم بكثرة أصواتهم، أو لإظهار كلِّ واحد الشجاعةَ عن نفسه، بأن يقول: أنا البطل، أنا الشجاع، أنا طالب الحرب، أنا فلان بن فلان، والصحابة - رضي الله عنهم - يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بشيء من هذه الأشياء؛ لأنها ليست مما يُتقرب به إلى الله تعالى، بل يرفعون أصواتهم بذكر الله فإن به فوزَ الدنيا والآخرة. * * * 3002 - عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقتلوا شيوخَ المُشركينَ، واستَحيوا شَرْخَهُم"، أي: صِبيانَهم.

قوله: "اقتلوا شيوخ المشركين"، (الشيوخ): جمع شيخ، وهو المُسِنُّ الأشيب، والمراد بـ (الشيوخ) هنا: مَن كان بالغًا من الرجال، والمراد بـ (الشرخ): مَن لم يكن بالغًا. "واستحيوا" أصله: استَحْييوا، فأُسكنت الياء الأولى ونُقلت ضمة الياء الثانية إليها، وحذفت الياء الثانية لسكونها وسكون الواو، وهو من (استَحْيَى): إذا ترك أحدًا حيًّا؛ أي: لم يقتله. * * * 3003 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامَة: "أَغِرْ على أُبنى صباحًا وحَرِّقْ". قوله: "أغر على أبني"، (أُبنى): اسم موضع، وقيل: (أُبنى) قرية بمؤتة، وقيل: الصواب: يُبنى، وهو اسم قريةٍ من قرى الرملة، والرملة: بلد في أرض العرب. روى هذا الحديث عروة بن الزبير. * * * 3004 - عن أبي أُسَيْدٍ قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بَدْرِ: "إذا أَكْثَبُوكم فارمُوهم، ولا تَسُلُّوا السُّيوفَ حتى يَغْشَوْكُم". قوله: "ولا تسلوا السيوف"؛ أي: لا تُخرجوا السيوف من الغمد. "حتى يغشوكم"؛ أي: حتى يقربوا منكم بحيث تصلُ إليهم سيوفكم، (يغشوكم) أصله: يَغْشَيوكم، فقُلبت الياء ألفًا ثمَّ حُذفت الألف لسكونها وسكون الواو، وهو من الغشيان، وهو المجيء من علو. * * *

3005 - عن رباحِ بن الربيعِ قال: كنّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ، فَرَأَى الناسَ مجتمعين علي شيءٍ، فبعثَ رَجُلًا فقال: "انظرْ عَلاَمَ اجتمَع هؤلاءِ؟ " فجاءَ فقالَ: امرأةٌ قتيلٌ، فقال: "ما كانَتْ هذه لِتُقاتِلَ"، وعلى المُقَدِّمَةِ خالدُ بن الوليدِ، فبعثَ رجلًا وقال: "قُلْ لخالدٍ: لا تقتلْ امرأةً ولا عَسِيفًا". قوله: "ما كانت هذه لتقاتل"؛ أي: لم تكن من المحاربين؛ يعني: إنما يُقتل الكافر المحارب، ولا يقتل مَن ليس بمحاربٍ كالنساء والصبيان. "وعلى المقدمة"، (المقدمة): الجماعة السابقة على الجيش؛ يعني: كان خالد أمير مقدمة الجيش. "العسيف": الأجير؛ يعني: لا تقتل خدَّامُ الكفار إذا لم يحاربوا، مثل راعي دوابهم وغيره. * * * 3006 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انطلِقُوا باسمِ الله، وبالله، وعلى مِلَّةِ رسولِ الله، لا تَقتلُوا شَيْخًا فانِيًا، ولا طِفْلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائِمَكم، وأَصلِحُوا، وأَحسِنُوا فإنَّ الله يحِبُّ المحسنين". قوله: "شيخًا فانيًا"؛ أي: شيخًا ضعيفًا من غاية الكبر. "ولا تغلوا" بتشديد اللام: ولا تسرقوا من الغنيمة. "وضموا غنائمكم"؛ أي: اجمعوا ما حصل لكم من الغنيمة، ولا تأخذوا منها شيئًا حتى تقسموها. "وأصلحوا"؛ أي: وأصلحوا أموركم؛ أي: لا يتكبَّرْ بعضكم على بعض، ولا تتركوا شيئًا من أوامر الله، ولا تأتوا شيئًا من مناهيه، ولا تُؤذوا مسلمًا. * * *

3007 - قال عليٌّ - رضي الله عنه -: تقدَّمَ عُتْبَةُ بن ربيعةَ، وتَبعَهُ ابنهُ وأخوهُ، فنادَى: مَن يبارِزُ؟ فانتدبَ له شبابُ مِن الأنصارِ فقالَ: مَن أنتم؟ فأَخبرُوه، فقال: لا حاجةَ لنا فيكم، إنَّما أردْنَا بني عَمِّنا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ يا حمزةُ! قُمْ يا عليُّ! قُمْ يا عُبيدةُ بن الحارثِ! " فأقبلَ حمزةُ إلى عتبةَ، وأقبَلْتُ إلى شيبةَ، واختلفَ بينَ عُبيدةَ والوليدِ ضربتانِ، فأَثْخَنَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَهُ، ثمَّ مِلْنَا على الوليدِ فَقتَلْناهُ، واحْتَمَلْنا عُبَيْدة. قوله: "تقدم عتبة"؛ يعني يوم بدر، "فنادى"؛ أي: فنادى عتبة: "من يبارز"؛ أي: مَن يخرج إلينا بالمحاربة، "فانتدب له"؛ أي: أجابه "شباب": جمع شابًّ، "فقال: من أنتم"؛ أي: فقال عتبة لشباب الأنصار، "فأخبروه"؛ أي: فقالوا: نحن من المدينة. "إنما أردنا بني عمِّنا"؛ يعني: قرشيون، نريد مَن كان بيننا وبينهم قرابة قريبة. "واختلف"؛ أي: تردَّد وجرى. "فأثخن"؛ أي: جرح، (الإثخان): الجراحة الشديدة. "صُلْنا" من (صال يَصُول): إذا حمل على أحدٍ. * * * 3008 - عن ابن عمرَ قال: بعَثَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرِيةٍ، فحاصَ الناسُ حَيْصةً، فَأَتَيْنا المدينةَ فاختَفَيْنا بها، وقلنا: هَلَكْنا، ثمَّ أَتينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلْنا: يا رسولَ الله! نحنُ الفرَّارونَ؟ قال: "بل أنتَمْ العَكَّارُونَ، وأنا فِئَتُكم". وفي روايةٍ قال: "لا، بل أنتم العَكَّارون"، قال: فَدَنَوْنَا فقبَّلْنا يَدَهُ فقال: "أنا فِئَةُ المُسلمين".

6 - باب حكم الأسارى

قوله: "فحاص الناس حيصة"، حاص يَحِيصُ: إذا فرَّ، و (الناس) هنا: أصحاب رسول الله الذين فروا من الحرب ذلك اليوم. "فاختفينا بها"؛ أي: استترنا بالمدينة خوفًا من رسول الله واستحياءً منه في فرارنا، "وقلنا: هلكنا"؛ أي: قلنا: صرنا مستحقَّين للعذاب بسبب الفرار من الحرب. "بل أنتم العكَّارون وأنا فئتكم"، (عَكَر): إذا رجع وكر؛ يعني: المتحيزون إلى فئةٍ، (وأنا فئتكم)؛ يعني: مَن فرَّ من الحرب على نية أن يجتمع مع جيشٍ آخر ويتقوَّى بهم ثمَّ يرجع إلى الحرب، فلا إثم عليه، فكذلك أنتم فررتم لطلب المدد، وأنا مددكم فلا إثم عليكم في الفرار. "أنا فئة المسلمين"؛ أي: مدد المسلمين، وأنا معاذ المسلمين، فإذا فروا التجؤوا إلي وأنا أنصرهم. * * * 6 - باب حُكْمِ الأُسارى (باب حكم الأُسراء) (الأُسراء): جمع أسير، والمراد بـ (الأسراء) هنا: الكفار الذين أخذهم المسلمون. مِنَ الصِّحَاحِ: 3009 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَجِبَ الله من قومِ يدخُلونَ الجنةَ في السَّلاسِلَ".

وفي روايةٍ: "يُقادُونَ إلى الجنةِ بالسَّلاسلِ". "عجب الله"؛ أي: رضي الله "من قوم"؛ أي: كفار؛ أي: من كفارِ أخذهم المسلمون ووضعوا السلاسل على أيديهم وأرجلهم وأدخلوهم دار الإِسلام، ثم رزقهم الله الإيمان فأسلموا ودخلوا الجنة بإسلامهم، هذا هو المراد من هذا الحديث. * * * 3010 - عن سَلَمةَ بن الأكْوَعِ - رضي الله عنه - قال: أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عينٌ مِنَ المشركينَ وهو في سفرٍ، فجلسَ عندَ أصحابهِ يتحدثُ، ثم انفَتَلَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اُطلبُوه واقتلُوهُ"، فَقتَلْتُهُ، فنفَّلَنِي سَلَبَهُ. قوله: "عين من المشركين"؛ أي: جاسوس لهم. "انفتل"؛ أي: رجع. "نفَّله" بتشديد الفاء؛ أي: أعطاه. "سلبه"؛ أي: فرسه وما كان عليه من السلاح. * * * 3011 - وعن سَلَمَةَ بن الأكوَعِ قال: غَزَوْنَا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَوازِن، فَبَيْنَا نحنُ نَتَضَحَّى معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَ رجلٌ على جملٍ أحمرَ فأَنَاخَهُ، وجَعَلَ ينظرُ، وفينا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ مِن الظَّهْرِ، وبعضُنا مشاةٌ، إذ خرجَ بشتدُّ فأَتَى جملَهُ فَأَثَارَهُ، فاشتدَّ به الجَمَلُ، وخرجْتُ أشتدُّ حتى أخذتُ بخِطامِ الجَمَلِ فأَنَخْتُهُ، فلمَّا وضعَ ركبتَهُ في الأرضِ اخْتَرَطْتُ سيفي فضربْتُ رأسَ الرَّجلِ، ثم جئتُ بالجملِ أقودُه وعليهِ رَحْلُه وسِلاحُه، فاستقبلَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ

فقالَ: "مَن قتلَ الرَّجلَ؟ " قالوا: ابن الأكوَعِ، قال: "لهُ سَلَبَهُ أَجْمَعُ". قوله: "هوازن" اسم قبيلة. "نتضحى"؛ أي: نتغدَّى؛ أي: يكون في وقت الضحى، أو نأكل في وقت الضحى. "فأناخه": فأبركه. "وجعل"؛ أي: طفق. "وفينا ضَعْفَةٌ ورقة من الظهر"؛ يعني: كان فينا ضعفٌ وقلَّة المركوب، (الرقة): استعارة من القلة، و (الظهر): المركوب. "المشاة": جمع الماشي، وهو خلاف الراكب. "إذ خرج"؛ أي: خرج من بيننا بعد ما رآنا وعَرَفَ حالنا، "يشتد"؛ أي: يعدوا. "فأثاره"؛ أي: أقامه من موضعه، "فاشتد به الجمل"؛ أي: أسرع به الجمل. "أشتُّد"؛ أي أعدو، "فاخترطت"؛ أي: أخرجت سيفي من الغمد، "فضربت رأس الرجل"؛ يعني: قَتْلُ الجاسوس من الكفار جائز. "له سلبه أجمع"؛ أي: كله له. * * * 3012 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: لما نزَلَتْ بنو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سعدِ بن معاذٍ، بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ على حمارٍ فلمَّا دَنَا قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا إلى سَيدِكم"، فجاءَ فجلسَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هؤلاء نَزَلُوا على حُكْمِكَ"، قال: فإني أَحْكُمُ أنْ تُقتَلَ المُقاتِلَةُ وأنْ تُسْبَى الذُّرِّيةُ، قال: "لقد حكمْتَ فيهم بحُكْمِ الْمَلِكِ". ويروى: "بحُكْمِ الله".

قوله: "لما نزلت بنو قريظة" كانت بنو قريظة من اليهود، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ أي: رضينا بما يحكم علينا، وسعد بن معاذ من كبار الصحابة. "قوموا إلى سيدكم"؛ أي: قوموا من مكانكم لحرمة سعد، وهذا دليل على جواز قيام الجالسين إلى مَن يدخل عليهم من أصحاب المناصب والأستاذين والصُّلحاء والأبوين، ومَن يستحق الاحترام. "بحكم المَلِك" بكسر اللام؛ أي: بحكم الله. ومن الناس من يقول: (بحكم المَلَك) بفتح اللام، قال محيي السنة: هذا بعيد؛ لأنه إذا روي: (بحكم الله) عُلم أن الصواب ها هنا: (بحكم المَلِك) بكسر اللام، ومَن قال: (بحكم المَلَك) - بفتح اللام - معناه: بالحكم الذي نزل به الملك وهو جبريل - صلى الله عليه وسلم -. يعني: يا سعد! حَكَم الله فيهم مِثْلَ ما حَكَمْتَ فيهم. * * * 3013 - وعن أبي هريرةَ قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيلًا قِبَلَ نَجْدٍ فجاءَتْ برجلٍ مِن بني حَنِيفةَ يقال له: ثُمَامَةُ بن أُثالٍ سَيدُ أهلِ اليَمامةِ، فربطوهُ بساريةٍ من سَوارِي المسجدِ فخرجَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ماذا عندَكَ يا ثُمَامَةُ؟ "، قال: عندي يا محمدُ! خيرٌ، إنْ تَقْتُلْ تَقتُلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكِرٍ، وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فترَكَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كانَ الغدُ فقالَ لهُ: "ما عندَكَ يا ثُمَامَةُ؟ "، قال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ، وإنْ تَقْتُلْ تقتلْ ذا دَمٍ، وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فَسَلْ تعْطَ منهُ ما شِئتَ، فتركَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كانَ بعدَ الغدِ فقال: "ما عِندكَ يا ثُمامَةُ؟ "، قال:

عندي ما قلتُ لكَ: إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ، وإنْ تقتُلْ تقتُلْ ذا دمٍ، وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَطْلِقُوا ثُمامَةَ"، فانطلَقَ إلى نَخْلٍ قريبٍ من المسجدِ فاغتسلَ ثمَّ دخلَ المسجدَ فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، يا محمدُ! والله ما كانَ على الأرضِ وَجْهٌ أبغضَ إليَّ مِن وجهِكَ، فقد أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوجوهِ كلِّها إليَّ، والله ما كانَ مِن دِينٍ أبغضَ إليَّ مِن ديِنكَ فأصبحَ دينُكَ أحبَّ الدِّينِ كلِّه إليَّ، والله ما كانَ مِن بلدٍ أبغضَ إليَّ من بلدِكَ، فأَصْبَحَ بلدُكَ أحبَّ البلادِ كلَّها إليَّ، وإنَّ خيلَكَ أَخَذَتْني وأنا أُريدُ العُمْرةَ فماذا ترى؟ فَبَشَّرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فلمَّا قَدِمَ مكةَ قَالَ له قائلٌ: صَبَأْتَ؟! فقال: لا، ولكنِّي أسلَمْتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلا والله لا يأْتِيكُمْ مِن اليمامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتى يأذَنَ فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلًا"؛ أي: جيشًا. قوله: "ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر" إن تُعتقني أشكر لك وأعرف نعمتك عليَّ، وإن كنت تريد المال؛ يعني: وإن أردت المال مني، فقل كم تريد حتى أعطيك. "أطلقوا"؛ أي: خلُّوا سبيله. وهذا الحديث يدل على جواز دخول الكافر المسجد، وجواز إطلاق الأسير بغير فداءٍ إذا رأى الإمام المصلحة. "قال له قائل: صبوت"، (صبا يصبو): إذا مال؛ يعني: قال له كافر من كفار مكة: مِلْتَ عن دين الحق إلى دين الباطل، فقال: ما ملتُ عن الحق إلى الباطل، بل أسلمتُ مع محمَّد، ودينه هو دين الحق. * * *

3014 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في أُسارَى بدرٍ: "لو كانَ المُطْعِمُ بن عَدِيًّ حَيًّا ثمَّ كلَّمني في هؤلاءَ النَّتْنَى لترَكْتُهم له". قوله: "لو كان المطعم حيًا" هذا المطعم هو أبو جابر بن مطعم، وكان أثبت على النبي بمكة حقوقًا، فأراد النبي أن يجازيه لو كان حيًا بأن يهب له مَن أسره من كفار مكة يوم بدر. و"النَّتْنَى": جمع مُنْتِنٍ ونَتِنٍ، قال الفرَّاء: جعلت العرب فَعْلَى علامةً لجمع كلَّ ذي زَمانةٍ وضررٍ وهلاك، ولا يبالون أكان واحدُه فاعلًا أو فعيلًا أو فَعِلًا أو أفعل. * * * 3015 - عن أنسٍ: أن ثمانينَ رَجُلًا مِن أهلِ مكَّةَ هَبَطُوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن جبلِ التَّنعيمِ مُتَسَلَّحِينَ، يُريدونَ غِرَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ، فأخذَهم سِلْمًا فاسْتَحْيَاهُم - ويُروى: فَأَعْتَقَهُمْ - فأنزلَ الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} ". قوله: "هبطوا"؛ أي: نزلوا، "يريدون غِرَّةَ النبي"؛ أي: يقصدون؛ أي: تنزَّلوا على غفلةٍ منه. "فأخذهم سلمًا"؛ أي: فأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أُسراء، يقال: رجل سِلْمٌ؛ أي: أسير، وقوم سِلْمٌ؛ أي: أُسراء، يستوي فيه الواحد والتثنية والجمع. "فاستحياهم"؛ أي: أبقاهم أحياءً ولم يقتلهم. * * * 3016 - عن أبي طلحةَ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ يومَ بدرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلًا من صَنادِيدِ قُرَيشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيًّ من أطواءِ بدرٍ خَبيثٍ مُخْبثٍ، وكانَ إذا

ظهرَ على قومٍ أقامَ بالعَرْصَةِ ثلاثَ ليالٍ، فلمَّا كانَ ببدرٍ اليومَ الثالثَ أمرَ براحِلَتِهِ فَشُدَّ عليها رَحْلُها ثمَّ مَشَى، واتَّبَعَهُ أصحابُهُ، حتى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ، فجعلَ يُنادِيهِم بأسمائِهم وأسماءِ آبائهم: "يا فُلانُ بن فلانٍ، ويا فُلاَنُ بن فلانٍ، أَيَسرُّكم أنكم أطَعْتُم الله ورسولَهُ؟ فإنَّا قد وَجَدْنَا ما وَعَدَنا ربنا حَقًّا، فهل وجدْتُم ما وَعَدَ ربُّكم حقًا؟ قَالَ عمرُ: يا رسولَ الله! ما تُكَلِّمُ مِن أجسادٍ لا أَرْوَاحَ لها؟ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، ما أنتُم بأسمَعَ لِما أقولُ منهم". وفي روايةٍ: "ما أنتُمْ بأسمعَ منهم، ولكنْ لا يُجيبونَ". قوله: "من صناديد قريش" وهو جمع صنديد، وهو السيد؛ يعني: من كبراء كفار مكة. "فقذفوا"؛ أي: فطرحوا. "في طويًّ"؛ أي: بئر. "وكان"؛ أي رسول الله "إذا ظهر"؛ أي: إذا غلب "على قوم" وأخذ بلدًا من بلاد الكفار أقام بعَرْصةِ ذلك البلد ثلاثةَ أيامٍ ليطهِّر تلك العَرْصةَ من الكفار. "على شفة الرَّكِيَّ"؛ أي: على طرف البئر التي أُلقي فيها أولئك الصناديد. "فجعل"؛ أي: فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادي كلَّ واحدٍ من أولئك الكفار المقتولين المقذوفين في تلك البئر "أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله"؛ يعني: هل تتمنَّون أن تكونوا مسلمين بعد ما وصلتم إلى عذاب. "فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا"؛ أي: ما وعدنا ربنا من أن يجعلنا غالبين عليكم، ومن أن يقوِّيَ ديننا، فقد جعل ما وعدنا به حقًا وصدقًا، فهل وجدتم وعد ربكم من العذاب حقًا. "ما تَكلَّم من أجساد لا أرواح لها"؛ أي: ما تتكلم، (ما) للاستفهام، ويجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي؛ يعني: الذي تتكلمُ معه من الأجساد أجسادٌ لا أرواح لها، فكيف يجيبونك؟!

"ما أنتم بأسمع منهم" هذا يدل على أن الموتى يسمعون ما يقال لهم، ولكن لا يقدرون على الإجابة. * * * 3017 - عن مروانَ، والمِسْوَرِ بن مَخْرَمَة: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ حينَ جاءَهُ وفدُ هَوازِنَ مسلمينَ فسألُوهُ أَنْ يَرُدَّ إليهم أموالَهم وسَبْيَهم، قال: "فاختارُوا إحدى الطَّائفَتينِ: إمَّا السَّبْيَ، وإمَّا المالَ"، قالوا: فإنَّا نختارُ سَبْيَنَا، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى على الله بما هوَ أهلُهُ ثم قَالَ: "أمَّا بعدُ فإنَّ إخوانَكم قد جَاؤوا تائبينَ، وإني قد رأيتُ أنْ أَرُدَّ إليهم سَبْيَهم، فَمَنْ أَحَب منكم أنْ يُطَيبَ ذلكَ فَلْيَفْعَلْ، ومَن أحبَّ منكُمْ أنْ يكونَ على حظِّهِ حتى نُعطِيَهِ إيَّاهُ مِن أوَّلِ ما يُفِيءُ الله علينا فليَفْعَلْ"، فقالَ الناسُ: قد طَيَّبَنا ذلكَ يا رسولَ الله! فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نَدري مَن أذِنَ منكم ممن لَمْ يأذنْ، فارجِعُوا حتى يرفعَ إلينا عُرَفاؤُكم أَمْرَكُم"، فرجعَ النَّاسُ فكلَّمَهم عُرَفاؤُهم، ثم رَجَعُوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروهُ أنهم قد طَيَّبُوا وأَذِنُوا. "وفد هوازن"، (الوفد): الجماعة التي جاؤوا من عند قوم لرسالة. قصة هذا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أغار على قبيلة هوازن وأخذ أموالهم وسبى ذراريهم، فأسلم من بقي منهم، وبعثوا جماعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلبوا أموالهم وذريتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس لكم أن تطلبوا الأموال والسبي كليهما، بل أطلبوا أحدهما. المراد بـ "إحدى الطائفتين": إحد الشيئين من المال والسبي، فاختاروا السبي. قوله: "تائبين"؛ أي: مسلمين. قوله: "فمن أحب منكم أن يطيب ذلك": إنما استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في رد سبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم صار ملكًا للمجاهدين، ولا يجوز رد ما ملكه

المجاهدون إلا بإذنهم؛ يعني: مَن طاب قلبه بردِّ سبيهم إليهم بلا عوضٍ فليخبرنا، ومن أراد عوضًا عن سبيهم فليخبرنا حتى نعطيه عوضَ نصيبه من سبيهم "من مالٍ يُفيء الله"؛ أي: يرزقنا الله بعد هذا من فيء. قوله: "إنا لا ندري من أذن منكم"؛ يعني: لا ندري من رضي منكم ممَّن لم يرض على التعيين، فليخبر كلُّ واحد عريف قومه ليخبرنا ذلك العريف، و (العريف): مَن يعرِّف الأميرَ حالَ قومه. * * * 3018 - عن عِمرانَ بن حُصَيْنٍ قال: كان ثَقِيفٌ حليفًا لبني عُقَيْلٍ، فأسَرَتْ ثَقيفٌ رجلينِ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَسَرَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من بني عُقَيْلٍ، فأَوْثَقوهُ فطَرَحُوه في الحَرَّةِ، فمرَّ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَادَاهُ: يا مُحمدُ! يا محمدُ! فيمَ أُخِذْتُ؟ قال: "بجريرةِ حُلفائِكم ثَقيفٍ"، فتركَهُ ومضى، فنادَاهُ: يا محمدُ! يا محمدُ! فَرَحِمَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرجَعَ فقال: "ما شأنُكَ؟ "، فقال: إنَّي مُسلِمٌ، فقال: "لو قُلْتَها وأنتَ تملِكُ أمرَكَ أفلحْتَ كلَّ الفَلاَحِ"، قال: فَفَداهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالرَّجُلَينِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُما ثقيفٌ. قوله: "كان ثقيف حليفًا لبني عقيل"؛ يعني: جرى بين قبيلة ثقيف وبين بني عقيل محالفةٌ، فأخذ ثقيفٌ رجلين من أصحاب رسول الله، وأخذ أصحاب رسول الله رجلًا من بني عقيل عوضًا عن الرجلين الذين أخذهما ثقيف، وكان عادة العرب أن يأخذوا الحليف بجُرم حليفه، ففعل رسول الله هذا الصنيع على عادة العرب. قوله: "بجريرة حلفائكم"، (الجريرة): الجُرم، و (الحلفاء): جمع حليف.

"فرحمه"؛ أي: حصل فيه رحمة ورقة له. قوله: "لو قلتها"؛ أي: لو قلت كلمة الإِسلام في حال اختيارك؛ أي: قبل أن أُخذت "أفلحت"؛ أي: لنجوت من أن نأخذك، ومن عذاب يوم القيامة. وهذا الحديث يدل على أن الكافر إذا قال بعد الأخذ: أنا مسلم، لا يُحكم بإسلامه حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن قوله: (أنا مسلم) يحتمل أن يريد به: إني منقادٌ مطيعٌ لحكمكم. والدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بإسلامه أنه ردَّه إلى الكفار وأخذ بدله الرجلين الذين أسرتْهما ثقيف من أصحابه، ولو كان مسلمًا لم يردَّه إلى الكفار. * * * مِنَ الحِسَان: 3019 - عن عائشةَ قالت: لمَّا بعثَ أهلُ مكَّةَ في فداءِ أُسرَائِهم، بعثَتْ زينبُ في فداءَ أبي العاص بمالٍ، وبعثَتْ فيهِ بقِلادةٍ لها كانَتْ عندَ خديجةَ أدخلَتْها بها على أبي العاصِ، فلمّا رَآها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَقَّ لها رِقَّةً شديدةً، وقال: "إنْ رأيتُم أنْ تُطْلِقُوا لها أَسيرَها، وتردُّوا عليها الذي لها؟ "، فقالوا: نعم، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ عليه أنْ يُخلَيَ سبيلَ زينبَ إليه، وبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بن حارثةَ ورَجُلًا من الأنصارِ فقال: "كُونَا ببطنِ يَأْجِجٍ حتى تَمُرَّ بِكُمَا زينبُ فَتَصْحَبَاها حتى تَأْتِيا بها". قولها: "لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم" قصة هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا غلب يومَ بدرِ على كفار مكة قتل بعضهم وأسر بعضهم وطلب منهم الفداء، فأُرسل لكل أسيرٍ مَن له قريبٌ بفداءٍ يفتديه، فبعثت زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي

عنها فداءً لزوجها أبي العاص، وهو كان من جملة أسراء بدر، وكان في بدءِ الإِسلام تزوُّج الكافر بالمسلمة جائزًا، فنسخ هذا الحكم بقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]. قولها: "أدخلتها بها على أبي العاص"؛ يعني: كانت تلك القلادة لخديجة فدفعتْها إلى بنتها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين زُفت إلى زوجها أبي العاص، فبعثت زينب تلك القلادة إلى رسول الله فداءً لزوجها أبي العاص، فلما رأى رسول الله تلك القلادة رقَّ لزينب ولِمَا تذكَّر من صحبة خديجة، وقال: "إن رأيتم"؛ أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: إن رضيتم بأن تُخَلُّو زوج زينب وتردُّوا إليها مالها الذي أرسلتْه لفداء زوجها فافعلوا. "أخذ عليه"؛ أي: أخذ عهدًا من أبي العاص وقال: نخليك بشرطِ أن ترسل إلي زينب، فقبل هذا الشرط. "بطن يَأْجِج" اسم موضع قريب من مكة. * * * 3021 - ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أرادَ قتلَ عُقبَةَ ابن أبي مُعَيْطٍ قال: مَن للصَّبْيَةِ؟ قال: "النارُ". قوله: "من للصبية"؛ يعني: مَن يُترك لحفظ أطفالي إذا قتلتني. * * * 3022 - عن عُبَيْدَةَ عن عليًّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ جبريلَ هبطَ عليهِ فقالَ لهُ: "خَيرْهُم - يعني: أصحابَكَ - في أُسارَى بدرٍ: القتلَ، أو الفِداءَ على

7 - باب الأمان

أنْ يُقتَلَ منهم قابلًا مثلُهم"، قالوا: الفِداءُ ويُقتَلُ مِنَّا. غريب. قوله: "خيرهم"؛ يعني قل لأصحابك: أنتم مخيرون بين أن تقتلوا أُسراء بدر ولا يلحقكم ضرر، وبين أن تأخذوا منهم الفداء وتخلُّوهم، ولكن يكون الظفر للكفار في السنة القابلة، فيقتلون منكم بعدد مَن تخلى من أسراء بدر. * * * 3024 - عن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال: خرجَ عِبْدَانٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني يومَ الحُدَيْبيَةِ قبلَ الصُّلحِ، فكتبَ موالِيهِم قالوا: يا محمدُ! والله ما خَرَجوا إليكَ رَغبةً في دينِكَ، وإنَّما خَرجُوا هَرَبًا مِنَ الرِّقِّ، فقال ناسٌ: صدَقُوا يا رسولَ الله! رُدَّهُم إليهم، فغضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما أُراكُم تَنْتَهونَ يا معشَرَ قريشٍ! حتى يبعثَ الله عليكم مَن يَضْرِبُ رِقابَكم على هذا، وأَبَى أن يَرُدَّهُم وقال: هُمْ عُتَقَاءُ الله". قوله: "خرج عُبْدان" وهي جمع عبد، يعني: فر عبيدٌ من مكة من مواليهم وجاؤوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا. قوله: "ما أراكم تنتهون"؛ يعني: لا تنتهون من تعصُّب أهل مكة. * * * 7 - باب الأمانِ (باب الأمان) مِنَ الصَّحاحِ: 3025 - عن أُم هانئٍ بنتِ أبي طالبٍ قالت: ذهبتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -

عامَ الفتحِ فوجدتُهُ يغتسلُ، وفاطمةُ ابنتُهُ تَستُرُه بثوبٍ، فَسَلَّمْتُ فقال: "مَن هذهِ؟ "، فقلتُ: أنا أمُّ هانئٍ بنتُ أبي طالبٍ، فقالَ: "مرحبًا بأمِّ هانئٍ"، فلمَّا فرغَ مِن غُسْلِهِ قامَ فصلَّى ثمانيَ رَكَعاتٍ مُلْتَحِفًا في ثوبٍ ثم انصرفَ، فقلتُ: يا رسولَ الله! زَعَمَ ابن أُمي عليٌّ أنهُ قاتِلٌ رجلًا أَجَرْتُه فلانُ بن هُبَيرةَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَجَرْنَا من أَجَرْتِ يا أمَّ هانئٍ! "، وذلك ضُحَى. ورُوِيَ عن أمِّ هانئٍ قالت: أجرْتُ رَجُلَينِ من أحمائي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَمَّنَّا مَن أَمَّنْتِ". قوله: "ملتحفًا في ثوب"؛ أي: ملفوفًا في ثوب. "ابن أمي"؛ أي: أخي. "أنه قاتل رجلًا"؛ أي: يريد أن يقتل رجلًا "أجرته"؛ أي: أمنته. "أَجَرْنا من أَجَرْت"؛ يعني: أمَّنَّا مَن أمَّنْتِ، وهذا تصريحٌ بأن أمان المرأة للكافر صحيح، ولا يجوز لأحد قتل كافر أجارته امرأة؛ أي: أمَّنتْه. "من أحْمائي" وهو جمع حَمًا، وهو أبو زوج المرأة، تعني بـ (الأحماء) هنا: أقارب زوجها. * * * مِنَ الحِسَان: 3026 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تَتكافَأُ دماؤُهم ويَسْعَى بذِمَّتِهم أَدْناهُم". قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ذُكر هذا الحديث في (كتاب القصاص). * * *

3027 - وعن أبي هريرةَ، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ المرأةَ لتأخُذُ للقَومِ"، يعني: تُجِيرُ على المسلمينَ. قوله: "إن المرأة لتأخذ للقوم"؛ يعني: جاز أن تأخذ المرأة الأمان؛ يعني: جاز لها أن تقول لكافر دخل دار الإسلام: فإني قد أمَّنتك. * * * 3029 - وعن سُلَيْمِ بن عامرٍ قال: كانَ بينَ معاويةَ وبينَ الرُّومِ عَهْدٌ، فكانَ يسيرُ نحوَ بلادِهم حتى إذا انقضَى العهدُ أغارَ عليهم، فجاءَ رجلٌ على فرسٍ أو بِرْذَوْنٍ وهو يقولُ: الله أكبرُ، الله أكبرُ، وفاءٌ لا غَدْرٌ، فنَظَروا فإذا هو عمرُو بن عَبَسَةَ، فسأَلَهُ معاويةُ عن ذلكَ، فقالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن كانَ بينَهُ وبينَ قومٍ عَهْدٌ فلا يَحُلَّنَ عَهْدًا ولا يَشُدَّنه حتى يَمضيَ أمدُه أو يَنْبذَ إليهم على سواءٍ"، قال: فرجعَ معاويةُ بالناسِ. قوله: "يسير نحو بلادهم"؛ يعني كان يذهب قبل انقضاء مدة العهد ليقرب من بلادهم حين انقضاء مدة العهد، ليُغِير عليهم على غفلةٍ منهم. "على فرس"؛ أي: فرسٍ عربي، "أو برذون" يعني: أو فرس تركي. "وفاء لا غدر"؛ يعني: ليكن منكم وفاءٌ بالعهد لا غدرٌ، أو: الواجب عليكم وفاء لا غدر. "فلا يَحُلَّن عهدًا ولا يشُدَّنه"؛ يعني: لا يجوز نقضُ العهد ولا الزيادة على تلك المدة إلا بعد أن يخبر خصمه بذلك. "أمَدَه"؛ أي: غايته، "أو ينبذ إليهم على سواء"؛ يعني: أو يخبرهم بأنه نَقَض؛ ليكون خصمه متساويًا في نقض العهد كي لا يكون ذلك منه غدرًا. * * *

3030 - عن أبي رافعٍ قال: بَعَثَتْنِي قُرَيشٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنَّي والله لا أَرجِعُ إليهم أبدًا، قال: "إنِّي لا أَخِيسُ بالعهدِ ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكنْ ارجعْ فإنْ كانَ في نفسِكَ الذي فى نفسِكَ الآنَ فارجِعْ"، قال: فذهبتُ ثم أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَسلمْتُ. قوله: "لا أخيس"؛ أي: لا أنقض العهد ولا أغدر، "ولا أحبس البرد"، (البُرُد): جمع بريد، وهو الرسول، "فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن"؛ يعني: إن كان في قلبك الإسلام كما كان في قلبك الإسلام الآن "فارجع" يعني: ارجع من بين الكفار إلينا ثم أسلم؛ لأني لو قبلت منك الإسلام الآن ولم أَرُدَّك إليهم لغدرتُ. * * * 3032 - عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جِّده: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ في خُطبتِهِ: "أَوْفُوا بحِلْفِ الجاهليةِ فإنه لا يزيدُه - يعني: الإسلامَ - إلا شِدَّةً، ولا تُحْدِثُوا حِلْفًا في الإسلامِ". قوله: "أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده"؛ يعني: الإسلام "إلا شدة"؛ يعني: إن كنتم حلفتم في الجاهلية بأن يعين بعضكم بعضًا ويرث بعضكم عن بعض، فإذا أسلمتم أوفوا بذلك الحلف، فإن الإسلام يحرضكم على الوفاء بالعهد والحلف، ولا يأمركم بنقض العهد وترك الوفاء، ولكن لا تُحدثوا محالفةً في الإسلام بأن يرث بعضكم من بعض. * * *

8 - باب قسمة الغنائم والغلول فيها

8 - باب قِسْمَةِ الغنائمِ والغُلولِ فيها (باب قسمة الغنائم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3033 - عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فلم تَحِلَّ الغنائمُ لأحدٍ من قبلِنا، ذلكَ بأنَّ الله رَأَى ضَعْفَنا وعَجْزَنا فَطَيَّبَها لنا". قوله: "ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا"، (ذلك) إشارةٌ إلى تحليل الله الغنائم لنا. * * * 3034 - عن أبي قَتادةَ قال: خَرَجْنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ حُنَيْنٍ، فلمَّا التقيْنا كانَتْ للمُسلمينَ جَوْلَةٌ، فرأيتُ رجلًا مِن المشركينَ قد عَلا رجلًا مِن المسلمينَ، فضربتُ مِن وَرائه على حَبْلِ عاتقِهِ بالسَّيفِ، فقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وأقبلَ عليَّ فضَمَّني ضَمَّةً وجدتُ منها ريحَ الموتِ، ثم أَدْرَكَهُ الموتُ فأَرسلَني، فلَحِقْتُ عمرَ فقلتُ: ما بالُ النَّاسِ؟ قال: أمرُ الله، ثم رجعُوا وجَلَسَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "مَن قتلَ قتيلًا لهُ عليهِ بَينةٌ فلهُ سَلَبُه"، فقلتُ: مَن يشهدْ لي؟ ثم جلستُ، فقال النبيُّ مثلَه، فقمتُ فقالَ: "ما لَكَ يا أَبا قَتادةَ؟ "، فأَخبرتُهُ، فقالَ رجلٌ: صَدَقَ، وسلَبُهُ عندي فأرْضهِ مِنِّي، فقالَ أبو بكرٍ: لاها الله، إذًا لا يَعمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يقاتلُ عن الله ورسولهِ فيُعطيكَ سلَبَه! فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ فأَعْطِهِ"، فأعطانِيهِ، فابتَعْتُ بهِ مَخْرَفًا في بني سَلَمةَ، فإنه لأَوَّلُ مالٍ

تَأَثَّلُتُه في الإِسلامِ. قوله: "جولة"؛ أي: جَوَلانٌ ومحاربة مع الكفار؛ أي: اختلط المسلمون بالكافرين في المحارَبة. "قد علا"؛ أي: غلب على رجل من المسلمين وألقاه. "فضمني"؛ أي: ضغطني (¬1) وعصرني. "فأرسلني"؛ أي: تركني. "ما بال الناس؟ "؛ أي: حال الناس. "أمر الله"؛ أي: أمر الله غالبٌ؛ يعني النصرة للمسلمين. "من يشهد لي"؛ يعني: مَن يشهد لي أني قتلتُ رجلًا من المشركين ليكون سلبه لي. "وسلبه عندي" يعني: صدق أبو قتادة أنه قتل كافرًا، وسلبُ ذلك الكافر عندي، "فأرضه"؛ يعني: فأعطه عوضًا عن ذلك السلب ليكون ذلك السلب لي. قوله: "لا ها الله" لفظة (ها) بدلٌ من حروف القسم، ولفظة (لا) نفيُ كلام الرجل؛ أي: لا يفعل ما تقول والله، "إذًا لا يعمد"؛ يعني: لا يقصد رسولُ الله "إلى أسد"؛ أي: إلى أبي قتادة، فيأخذ منه حقُّه - وهو سلب ذلك المقتول - ويدفعه إليك. "فابتعت"؛ أي: اشتريت "به"؛ أي: بذلك السلب "مخرفًا"؛ أي: بستانَ نخلٍ "في بني سلمة"؛ أي: في قبيلة بني سلمة؛ أي: في مَحَلَّتهم وفي بقعتهم، "فإنه"؛ أي: فإن ذلك المَخْرَفَ "أول مال تأثلت"؛ أي: اتخذتُه رأسَ مالي. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "عانقني".

3035 - عن ابن عمرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ للرَّجلِ ولفرسِهِ ثلاثةَ أَسْهُمٍ: سهمًا له وسهمَينِ لفرسِهِ. قوله: "أسهم"؛ أي: أعطى. * * * 3036 - عن يزيدَ بن هُرْمزَ قال: كتبَ نَجْدَةُ الحَرُورِيُّ إلى ابن عبَّاسٍ يسألُه عن العبدِ والمرأةِ يحضُرانِ المَغْنَمَ، هل يُقسَمُ لهما؟ فقالَ ليزيدَ: اكتبْ إليهِ أنه ليسَ لهُما سَهْمٌ إلا أنْ يُحْذَيا. وفي روايةٍ: كتبَ إليه ابن عباسٍ: إِنكَ كتبتَ تَسألُني: هل كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يغزُو بالنِّساءِ، وهل كانَ يَضْرِبُ لهنَّ بسهمٍ؟ قد كانَ يغزُو بهِنَّ يُداوينَ المرضَى، ويُحْذَيْنَ مِن الغنيمةِ، وأمَّا السَّهمُ فلم يَضْرِبْ لهنَّ بسهمٍ. قوله: "إلا أن يُحْذَيا"، (الإحذاء): الإعطاء؛ يعني: يُعطيا شيئًا أقلَّ من نصيب ذكرٍ حر. "فلم يضرب لهن"؛ أي: فلم يَقسم لهنَّ بسهم تام. * * * 3037 - وعن سلمةَ بن الأكْوَعِ قال: بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بظهرِهِ معَ رباحٍ غلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا معه، فلمَّا أصبحْنا إذا عبدُ الرَّحمنِ الفَزارِيُّ قد أغارَ على ظهرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُمْتُ على أَكَمَةٍ فاستقبلتُ المدينةَ فناديْتُ ثلاثًا: يا صَباحاهُ، ثم خرجتُ في آثارِ القومِ أَرميهِم بالنبلِ، وأرتجِزُ أقولُ: أنا ابن الأكْوَعِ ... واليومُ يومُ الرُّضَّعِ

فما زلتُ أَرميهِم وأعقِرُ بهم، حتى ما خلَقَ الله مِن بعيرٍ من ظهرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خَلَّفتُه وراءَ ظَهْري، ثم اتَّبعْتُهم أَرميهِم، حتى ألْقَوا أكثرَ من ثلاثينَ بُردةً وثلاثينَ رُمحًا يَستخِفُّونَ، ولا يَطرَحُونَ شيئًا إلَّا جعلتُ عليهِ آرامًا مِن الحجارةِ يعرفُها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابُهُ، حتى رأيتُ فوارِسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولحِقَ أبو قتادةَ فارسُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعبدِ الرَّحمنِ فقتلَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ فُرْساننا اليومَ أبو قتادةَ، وخيرُ رجَّالتِنا سَلَمةُ"، قال: ثم أَعطاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سهمَينِ، سهمَ الفارسِ وسهمَ الرَّاجِلِ، فجمَعُهما لي جميعًا، ثم أَرْدَفَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وراءَهُ على العَضْباءِ راجعينَ إلى المدينةِ. قوله: "بظهره"؛ أي: بدوابه؛ يعني: دفع دوابه إلى رباحٍ ليرعاها ويسرِّحها في الصحراء. "على أكمة"؛ أي: على موضع مرتفع. "فاستغثت" هو من الاستغاثة، وهي رفع الصوت لينصره أحدٌ على عدوه، "يا صباحاه" هذا لفظٌ يقال عند إتيان جيشٍ وإغارةٍ؛ يعني: قد أغار علينا العدوُّ فانصرونا. "واليوم يوم الرضع"، (الرضَّع): جمع راضع، وهو اللئيم، من (رضُع) بضم الضاد؛ أي: لؤم؛ يعني: اليوم يوم هلاك الرضَّع؛ يعني: اليوم تهلكون أيها الكفار بأيدينا. "وأعقرُهم"؛ أي: أجرحهم، (العقر): القتل وقطع عقب الرجل والجراحة. "خلَّفته"؛ أي: تركته؛ يعني: كنت اتبعتهم ورميتهم بالسهم، وكانوا يفرون مني، وكنت آخذ منهم دوابَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أخذتُ منهم جميع دواب رسول الله، ثم اتبعتهم حتى ألقوا من أمتعتهم كثيرًا ليخف حملهم ليَسْهُلَ عليهم الفرار.

قوله: "يستخفُّون"؛ أي: يطلبون الخفَّة في الفرار. "إلا جعلت عليه آرامًا"؛ يعني: وضعت عليه حجرًا ليَعلم مَن يجيء خلفي أن أحدًا أخذ هذا من الكفار ليأت بعدي لإعانتي، (الآرام): جمع أَرِم، وهو العلامة من الحجر. "الرجالة" بتشديد الجيم: جمع راجل، وهو خلاف الفارس. قوله: "أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهمَ الفارس وسهم الراجل": فإن قيل: أخذ هذه الأمتعة سلمة من أولئك الكفار فينبغي أن تكون جميعًا له، فلمَ قسمها رسول الله بين أصحابه؟ قلنا: مَن حضر الحرب قبل انقضائها على قصد الحرب هو شريكٌ الغنيمة قاتَلَ أو لم يقاتل، وسلمة بعدُ مشغول في الحرب؛ لأنه يمشي خلف أولئك الكفار ولم يقتلهم، ورسول الله وأصحابه لحقوا قبل فراغ سلمة من الحرب، فلهذا قسم رسول الله تلك الأمتعة بين مَن حضر تلك الوقعة من أصحابه، وحقُّ سلمة من تلك الغنيمة سهم راجل لأنه كان راجلًا، ولكن أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم فارس مع سهم راجل؛ لأن معظم أخذ تلك الغنيمة كان بسبب سلمة، ويجوز للإمام أن يعطي مَن فيه كثرة السعي في الجهاد شيئًا زائدًا على نصيبه لترغيب الناس في الحرب. ومذهب الشافعي ومالك وأحمد استحقاقُ الغنيمة مَن حضر الحرب قبل انقضائها، وليس لمن حضر بعد انقضائها. وقال أبو حنيفة: مَن حضر الحرب على قصد المدد بعد انقضاء الحرب يستحق الغنيمة أيضًا. قوله: "أردفني"؛ أي: أركبني خلفه "على العضباء" وهي ناقةٌ معروفة لرسول الله، سميت عضباء؛ لأن أذنها قد غُضبت؛ أي: قطعت. * * *

3038 - عن ابن عمرَ قال: نَفَّلَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نفلًا سِوى نصيبنا مِن الخُمُسِ فأصابني شارِفٌ، والشارِفُ المُسِنُّ الكبيرُ. قوله: "نفلنا"؛ أي: أعطانا "نفلًا" وهي الزيادة، يعني: أعطانا سهامنا من الغنيمة، وزاد على سهامنا شيئًا من نصيب بيت المال؛ يعني: يجوز للإمام أن يعطي أحدًا شيئًا زائدًا على سهمه إذا رأى فيه المصلحة. * * * 3040 - وعن ابن عمرَ قال: ذهبتْ فرسٌ لهُ فأخذَها العَدُوُّ، فظهرَ عليهمُ المسلمونَ فرُدَّ عليهِ في زمنِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَبَقَ عبدٌ لهُ فلَحِقَ بالرُّومِ، فظهرَ عليهمُ المسلمونَ فردَّهُ عليهِ خالدُ بن الوليدِ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "ذهبت فرس له"؛ أي: نفرت وذهبت إلى ديار الكفار، "فظهر"؛ أي: غلب المسلمون على تلك الديار وأغاروا عليهم، وكانت تلك الفرس فيما أغاروا عليه من أموالهم، فردُّوها إلى ابن عمر، فذهب الشافعي أن الكفار إذا أخذوا مال مسلم قهرًا ثم غلب عليهم المسلمون وأخذوا ذلك المال، وجب عليهم ردُّه إلى صاحبه سواءٌ كان قبل القسمة أو بعدها. وفي مذهب مالك وأبي حنيفة: إن وجد ذلك المال قبل القسمة وَجَبَ ردُّه إلى صاحبه، وإن وجد بعد القسمة فصاحبه أحقُّ بقيمته. وأما العبد الآبق إلى دار الكفار، فإذا أخذه المسلمون وجب ردُّه إلى صاحبه قبل القسمة وبعدها عندهم جميعًا. * * * 3041 - عن جُبَيْرِ بن مُطعِمٍ قال: مشيتُ أنا وعثمانُ بن عفَّانَ إلى

النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أعطيتَ بني المطَّلِبِ مِن خُمُسِ خيبرَ وتركتنا، ونحنُ بمنزلةٍ واحدةٍ منكَ، فقال: "إنَّما بنو هاشمٍ وبنو المطَّلبِ شيءٌ واحدٌ"، قال جُبَيرٌ: ولم يَقْسِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِبني عبدِ شمسٍ وبني نوفلٍ شيئًا. قوله: "أعطيتَ لبني المطلب من خمس خيبر ... " إلى آخره، إذا أخذت الغنيمة من الكفار تُقسم على خمسة أسهم: أربعة للمجاهدين، وواحدٌ يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصرف بعده في المصالح، وسهم لليتامى، وسهم للفقراء والمساكين، وسهم لابن السبيل وهم المسافرون، وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وهاشم هو الجد الثالث لرسول الله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، والمطَّلبُ أخو هاشم، وكان لعبد منافٍ أربعُ بنين: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل، فجعل رسول الله أولاد هاشم وأولاد المطلب من ذوي القربى، فأعطاهم خُمسَ خُمسٍ، ولم يعط أولاد عبد شمس ونوفلٍ شيئًا من خُمس خمس الغنيمة، وأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بأن أولاد المطلب كانوا مع أولاد [هاشم في الكفر والإسلام لم يكن بينهم مخالفة، وأما أولاد عبد شمس ونوفل كان بينهم وبين أولاد] هاشم مخالفةٌ، فلهذا حرمتهم من خمس الخمس. * * * 3042 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما قَرْيَةٍ أَتيتُمُوها وأَقَمتُمْ فيها فسهمُكم فيها، وأَيُّما قَرْيَةٍ عَصَتِ الله ورسولَهُ فإن خُمُسَها للهِ ورسولِهِ، ثمَّ هي لكم". [قوله: "فسهمكم فيها"؛ أي: كلُّ قرية غزوتُموها واستوليتم عليها ولم أكن فيكم، قسمتُم الغنائم بأنفسكم هناك، "وأيما قرية عصت الله ورسوله"؛

أي: وحضرتُ قتالها بنفسي، فإنا أخمس الغنائم أقسم عليهم بنفسي] (¬1). روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3043 - عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أُعطِيكُم ولا أمنعُكم، أنا قاسِمٌ أضعُ حيثُ أُمِرْتُ". قوله: "ما أعطيكم" ذُكر هذا الحديث في (باب رزق الولاة). * * * 3044 - عن خَوْلةَ الأنصاريَّةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ رِجالًا يتخوَّضُون في مالِ الله بغيرِ حقٍّ، فلَهُم النارُ يومَ القيامةِ". قوله: "يتخوضون"؛ أي: يَشْرَعون في الغنيمة والفيء والزكاة ويتصرَّفون فيها بغير أمر الله ورسوله، "فلهم النار". * * * 3045 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ فذَكرَ الغُلولَ، فعَظَّمَهُ وعظَّمَ أمرَهُ ثم قال: "لا أُلفِيَنَّ أحدَكم يَجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ بعيرٌ لهُ رُغاءٌ، يقولُ: يا رسولَ الله أَغِثْني! فأقولُ: لا أملِكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدكم يَجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ فرسٌ لهُ حَمْحَمَةٌ فيقولُ: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القِيامَةِ على رقبَتِهِ شاةٌ لها ثُغاءٌ يقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين من هامش "م"، وليس في "ش" و"ق"، ولكن ذكر في "ق" متن الحديث كاملًا.

لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القِيامَةِ على رقبَتِهِ نفسٌ لها صياحٌ فيقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ رِقاعٌ تَخفِقُ فيقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملِكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِهِ صامِتٌ فيقولُ: يا رسولَ الله أغثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ". قوله: "لا أُلفين أحدكم"؛ يعني: لا أجد أحدكم؛ يعني لا تغُّلوا من الغنيمة شيئًا، فإن مَن غلَّ منها شيئًا يكون يوم القيامة حاملًا لذلك الشيء؛ ليكون أفضحَ له. "الرُّغاء": صوت البعير، و"الحمحمة": صوت الفرس، و"الثغاء": صوت الشاة. "الرِّقاع": جمع رقعة وهي قطعة من الكرباس وغيره. "تخفق"؛ أي: تتحرك؛ يعني: ليُعلم أنه غلَّ رِقاعًا من الغنيمة وغيرها. "الصامت": الذهب والفضة. قوله: "لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك"؛ يعني: قد قلت لك في الدنيا: إن الغلول والسرقة والخيانة موجبةٌ للعذاب فلم تقبل قولي، فاليومَ لا أملك أن أدفع عنك من عذاب الله شيئًا. واعلم أن رسول الله لا يشفع لجميع أمته في جميع ذنوبهم حتى يدخلوا الجنة بلا عذاب؛ لأنه لو شفع لهم لبطل ما عليهم من المظالم، بل يشفع لمن أذن الله له في شفاعته وفي الوقت الذي أذن الله له في شفاعته؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

3046 - عن أبي هريرةَ قال: أهدى رَجُلٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غُلامًا يقالُ له: مِدْعَمٌ، فبينَما مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سهمٌ عائِرٌ فقتلَهُ، فقالَ النَّاسُ: هنيئًا له الجَّنَةُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا! والذي نفسي بيدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ التي أخذَها يومَ خيبرَ مِن المغانِمِ لم تُصِبْها المَقاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عليهِ نارًا"، فلمَّا سمعَ ذلكَ الناسُ جاءَ رجلٌ بشِراكٍ أو شِراكَيْنِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "شِراكٌ مِن نارٍ، أو شِراكانِ مِن نارٍ". قوله: "يحط رحلًا لرسول الله"؛ أي: يأخذ الرحل على ظهر المركوب ويضعه على الأرض. "سهم عائر"؛ أي: سهم لا يُدرى راميه. "هنيئًا له الجنة"؛ يعني وجبت له الجنة لأنه قتل في خدمة رسول الله. "كلا"؛ أي: ليس الأمر كما تظنون. "لم تصبها المقاسم"؛ أي: أخذها من المغنم قبل القسمة وهي كانت مشتركةٌ بين الغانمين، فكان أخذُها غُلُولًا. "تشتعل"؛ أي: ترتفع نارها؛ يعني: تلفُّ تلك الشملة عليه في جهنم وتُجعل نارًا لتحرقه. "شراك من نار"؛ يعني: مَن أخذ شراكًا من المغنم تُجعل شراكًا من نار على رحله يوم القيامة. * * * 3047 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: كانَ على ثَقَلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ يقالُ لهُ كَرْكَرْةُ، فماتَ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هوَ في النَّارِ"، فذَهبوا ينظرونَ، فوجدُوا عباءَةً قد غلَّها.

قوله: "على ثِقَل" بكسر الثاء وفتح القاف، وهو ممَاع المسافر؛ يعني: كان هذا الرجل يحفظ متاع رسول الله في السفر، وينقله من منزل إلى منزل. "فذهبوا ينظرون"؛ أي: فذهبوا إلى رحل ذلك الرجل ونظروا في رحله، فوجدوا في رحله عباءةً قد غلَّها، و (العباءة): كساء. * * * 3048 - قال ابن عمرَ: كنَّا نُصيبُ في مَغازينا العَسَلَ والعِنبَ فنأكلُهُ ولا نرفعُه. قوله: "في مغازينا" وهو جمع المَغْزَي، وهو مصدر ميميٌّ أو مكانٌ من: غزا يغزوا؛ يعني بهذا الحديث: أنه يجوز للمجاهدين أن يأكلوا من مال الكفار ما داموا في بلادهم قبل قسمة الغنيمة، سواءٌ فيه الخبزُ واللحم وغيرهما. * * * 3049 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ قال: أَصَبْتُ جِرابًا من شحمٍ يومَ خيبرَ فالتزمتُهُ فقلتُ: لا أُعطي اليومَ أَحَدًا مِن هذا شيئًا، فالتَفَتُّ فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسِمُ إليَّ. قوله: "فالتزمته"؛ أي: عانقته وضممته إلى نفسي، "فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسَّم إلي" هذا دليل على جواز أخذ المجاهدين من طعام الغنيمة قَدْرَ ما يحتاجون إليه؛ لأنه لو لم يكن جائزًا لمنع رسول الله ابن المغفَّل عن قوله: (لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا). * * *

مِنَ الحِسَانِ: 3052 - عن عوفِ بن مالكٍ الأَشْجَعِيَّ وخالدِ بن الوليدِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في السَّلَبِ للقاتلِ، ولم يُخَمِّسْ السَّلَبَ. قوله: "ولم يخمس السلب"؛ يعني: دفع السلب كلَّه إلى القاتل من غير أن يأخذ منه الخُمس، بخلاف الغنيمة فإنه يأخذ منها الخمس. * * * 3054 - عن عُمَيْرٍ مَوْلى آبي اللَّحمِ قال: شهدتُ خيبرَ مع سادَتي، فكلَّمُوا فِيَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمُوه أني مملوكٌ، فأَمَرَني فقُلِّدْتُ سيفًا فإذا أَنا أجرُّه، فأمرَ لي بشيءٍ من خُرْثيَّ المتاعِ، وعرضتُ عليهِ رُقْيَةً كنتُ أرْقي بها المجانينَ، فأمرني بطَرْحِ بعضها وحَبْسِ بعضها. قوله: "فقلدت سيفًا"؛ أي: علَّق سيفي بمنكبي؛ يعني: أمرني أن أحمل السلاح وأكون مع المجاهدين لأتعلم المحاربة. "فإذا أنا أجره"؛ أي: كنت صغيرًا وكنت أجرُّ السيف على الأرض من قصر قامتي، "فأمر لي بشيء من خُرْثيِّ المتاع"، (الخُرْثي): أثاث البيت، وهو ما يستعمل في البيت كالقِدْرِ وغيرها؛ يعني: أمر بدفع شيء من خرثيِّ الغنيمة إلي. "فأمرني بطرح بعضها"، يعني: كان بعضها حسنًا وبعضها كلمات قبيحة، فأمرني أن أترك قراءة ما هو السيئ منها وأقرأ ما هو الحسن منها. * * * 3055 - عن مُجمِّعِ بن جاريةَ قال: قُسِمَتْ خيبرُ على أهلِ الحُدَيْبيةِ، قسمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيةَ عَشَرَ سهمًا، وكانَ الجيشُ ألفًا وخمسَ مئةٍ، قال

الشيخُ - رضي الله عنه -: فيهم ثلاثُ مئةِ فارسٍ! وهذا وَهْمٌ، إنَّما كانوا مئتي فارسٍ. قوله: "قسمت خيبر"؛ أي: قُسم نصف أراضي خيبر وقُسم جميع منقولات غنائمها بين الجيش الذين كانوا مع رسول الله في الحديبية، وحفظ عليه نصفَ أراضيها لنفسه، فهيأ من غلتها أسباب بيته وأضيافه. قوله: "وهذا وهم"، (الوهم): الخطأ؛ يعني: مَن قال: فيهم ثلاثُ مئة فارس، فقد سها ونسي الرواية، بل كانوا مئتي فارس، قال أبو داود: والرواية الصحيحة أن فيهم مئتي فارس. وقد جاء في بعض الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى كلَّ فارس ثلاثة أسهم: سهمًا له وسهمين لفرسه، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وقد جاء في رواية أخرى - صلى الله عليه وسلم - أعطى كلَّ فارس سهمين: سهمًا له وسهمًا لفرسه، وبه قال أبو حنيفة. فإن قيل: كيف قسمها على ثمانية عشر سهمًا؟ قلنا: أعطى كلَّ مئةٍ سهمًا، فعلى قولِ مَن قال: كان فيهم ثلاث مئة فارس وأعطى كلَّ فارس مثلي راجل فهذا مستقيم؛ لأن الرجَّالة كانوا على هذه الرواية ألفًا ومئتين، فيكون نصيبهم اثني عشر سهمًا لكلِّ مئة سهمٌ، ويكون للفرسان ستةُ أسهم لكلِّ مئةٍ سهمان، فيكون المجموع ثمانية عشر سهمًا. ومن قال: أعطى كل فارس ثلاثة أمثال نصيب راجل، فهذه لا تستقيم قسمتها على ثمانية عشر سهمًا؛ لأن الفرسان إذا كانوا ثلاثَ مئة يكون نصيبهم تسعة أسهم، ونصيب الرجالة اثني عشر سهمًا لكل مئة سهم، فيكون المجموع أحدًا وعشرين سهمًا لا ثمانية عشر سهمًا، وإن كان الفرسان مئتين يكون نصيبهم ستة أسهم، ويكون نصيب الرجالة ثلاثة عشر سهمًا لكل مئة سهم، فيكون المجموع تسعة عشر سهمًا لا ثمانية عشر، فهذه القسمة تحتاج إلى تأويلٍ على

قولِ مَن قال: لكل فارس ثلاثة أمثال نصيب راجل. قال العلماء: تأويله على قولِ مَن قال: الفرسان كانوا مئتين: أنه كان في ذلك الجيش مئة عبدٍ راجل، ولم يُقسم لهم؛ لأنه لا سهم للعبد بل يعطى رضخًا، وهو شيءٌ أقل من نصيبِ راجلٍ على ما رآه الإمام، فإذا خرج من الرجالة مئة يبقى ألف ومئتان فيكون نصيبهم اثني عشر سهمًا، ويكون نصيب مئتي فارس ستة أسهم، فيكون المجموع ثمانية عشر سهمًا، فعلى هذا التأويل صحت القسمة. ومن قال: الفرسان ثلاث مئة لا تستقيم القسمة على ثمانية عشر سهمًا على قوله، إلا أن يقول: كان في الرجالة ثلاث مئة عبد، أو يقول: كان في الفرسان مئة، عبد فحينئذ تصح القسمة على ثمانية عشر سهمًا بعد خروج العبيد من بين الجيش. * * * 3056 - عن حبيبِ بن مَسْلَمةَ الفِهريِّ قال: شهدتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَّلَ الرُّبُعَ في البَدْأَةِ، والثُلُثَ في الرَّجْعَةِ. قوله: "نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة"؛ يعني: إذا أرسل من الجيش جماعة قبل الجيش إلى ديار الكفار ليخوِّفوهم ويُغيروا على قراهم وحواليهم، فما أصابوا من الغنيمة أعطاهم ربع تلك الغنيمة وقسم ثلاثة أرباعها بين جميع الجيش، فإذا دخل الجيش ديار الكفار وأغاروا عليهم وقاتلوهم، ثم خرجوا من ديار الكفار وأقبلوا على ديارهم وذهبوا منزلًا أو بعض منزل وأرسل من الجيش جماعة إلى ديار الكفار ليقتلوا من استتر منهم ويُغيروا على ما بقي من أموالهم، كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي أولئك الجماعة ثلث ما غنموا في رجعتهم، وقسم ثلثي تلك الغنيمة بين جميع الجيش.

وإنما أعطى في الرجعة الثلث وفي البداءة الربع؛ لأن الخطر في الرجعة أكثر؛ لأن الجيش في البداءة يجيئون خلف أهل البداءة فيعينونهم ويهرب الكفار إذا سمعوا مجيء الجيش، فلم يكن لهم جرأةٌ إلى محاربة أهل البداءة، وأما في الرجعة قد رجع الجيش عن ديار الكفار وأمن الكفارُ، فيكون لهم جراءةٌ على مقاتلة أهل الرجعة. * * * 3057 - وعن حبيبِ بن مَسْلَمَة الفِهْريِّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُنفِّلُ الرُّبُعَ بعدَ الخُمُسِ، والثُلُثَ بعدَ الخُمُسِ إذا قَفَلَ. قوله: "ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل" هذا الحديث عينُ الحديث المتقدم، إلا أنه ما بيَّن في الحديث المتقدم أنه يعطي أهل البداءة ربع ما غنموا بعد إخراج خمسه أو قبله، وبيَّن ها هنا أنه - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم ربع ما غنموا بعد إخراج خمسه، وكذلك أهل الرجعة يعطيهم ثلث ما غنموا بعد إخراج خمسه، يخرج أولًا خمسه، ويصرف الخمس على أهل الخمس، وما بقي بعد الخمس يعطي أهل البداءة ربعه وأهل الرجعة ثلثه. قوله: "إذا قفل"؛ أي: إذا رجع عن السفر. * * * 3058 - عن أبي الجُوَيْريةِ الجَرْميِّ قال: أصبتُ بأرضِ الرُّومِ جرَّةً حمراءَ فيها دنانيرُ في إمْرَةِ مُعاويةَ، وعلينا رجلٌ مِنْ أصحابِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقالُ لهُ: مَعْنُ بن يزيدَ، فأتَيْتُه بها فقَسَمها بينَ المُسلمينَ وأعطاني منها مِثلَ ما أعطَى رجُلًا منهم، ثمَّ قال: لولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا نَفْلَ إلَّا بعدَ الخُمُسِ"، لأَعطَيْتُكَ.

قوله: "في إمرة معاوية"؛ أي: في زمان كون معاوية أميرًا. "وعلينا رجل"؛ أي: كان أميرنا في ذلك الجيش رجلًا اسمه معن بن يزيد. قوله: "لا نَفَلَ إلا بعد الخمس لأعطيتك": ها هنا النفل (¬1). * * * 3059 - عن أبي موسى الأشعريِّ قال: قَدِمْنا فوافَقْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ افتتحَ خَيْبَرَ فأسهمَ لنا - أو قال: فأعطانا منها - وما قسمَ لأحَدٍ غابَ عنْ فتحِ خَيْبَرَ منها شيئًا إلّا لمنْ شَهِدَ معهُ إلَّا أصحابَ سفينَتِنا جَعْفَرًا وأصحابَهُ، أسهمَ لهمْ معهم. قوله: "قدمنا فوافقنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، قصةُ هذا: أن جعفر ابن أبي طالب مع جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجوا من مكة إلى حبشة حين كان رسول الله بمكة، فلمَّا هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة وقوي دينه سمع جعفر وأصحابه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة وقويَ دينه هاجروا من حبشة إلى المدينة، وكانوا جالسين في سفينة، فلما وصلوا إلى خيبر وافق وصولهم حين فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، ففرح رسول الله بقدومهم وأعطاهم من غنيمة خيبر سهامهم. * * * 3060 - عن زَيْدِ بن خالدٍ: أنَّ رجُلًا مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُوفَّيَ يومَ خيبرَ فذكرُوا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صَلُّوا على صاحِبكُمْ". فتغيَّرَتْ وُجوهُ ¬

_ (¬1) "ها هنا النفل" ليست في "ق"، ووقع بعدها في "م" بياض بمقدار خمس كلمات.

النَّاسِ لذلك، فقال: "إنَّ صاحِبَكُمْ غَلَّ في سبيلِ الله". ففّتَّشْنا متاعَهُ فوجَدْنا خَرَزًا مِن خَرَزِ اليَهودِ لا يُساوي دِرهَمَيْنِ. قوله: "فتغيَّرت وجوه الناس لذلك"؛ أي: لعدم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ففتشنا متاعه"؛ أي: فطلبنا من بين متاعه الشيء الذي غله، (التفتيش): مثل البحث، وهو قلب التراب ظهرًا لبطنٍ ليظهر ما فيه. * * * 3061 - عن عبدِ الله بن عَمروٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابَ غنيمةً أمرَ بلالًا فنادَى في الناسِ، فيَجيئُونَ بغنائِمِهِمْ، فيُخمِّسهُ ويقْسِمُهُ، فجاءَ رجلٌ بعدَ ذلكَ بزِمامٍ مِنْ شَعْرٍ فقال: هذا فيما كُنَّا أصبناهُ مِنَ الغَنيمَةِ، فقال: "أسمِعْتَ بلالًا يُنادِي ثلاثًا؟ "، قال: نعم، قال: "فما مَنَعَكَ أنْ تجيءَ بهِ؟ " فاعتذَرَ، قال: "كُنْ أنتَ تجيءُ بهِ يومَ القِيامةِ، فلنْ أقبلَهُ عنك". قوله: "فاعتذر"؛ أي: أظهر عذرًا في تأخير مجيئه بذلك الزمام، وإنما لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الزمام منه؛ لأنه كان لجميع الغانمين فيه شركةٌ وقد تفرَّقوا، ولم يمكن (¬1) إيصال نصيب كلِّ واحدٍ منهم من ذلك الزمام، فترك في يده ليكون إثمه عليه لأنه هو الغاصب. * * * 3062 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ حَرَّقُوا متاعَ الغالِّ وضربُوه. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يكن".

قوله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه" قال أحمد: يحرق متاع الغالِّ إلا الحيوان والمصحف، ولا يحرق ما غلَّ لأنه مال الغانمين، وتحريق متاعه زجرٌ وعقوبة له. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: لا يحرق شيءٌ من متاعه، بل يعزَّر، وحملوا هذا الحديث على الوعيد والزجر. * * * 3064 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ شِراءِ المغانِمِ حتَّى تُقْسَمَ. قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شري المغانم حتى تقسم"؛ يعني: لو باع أحد من المجاهدين نصيبه من الغنيمة لا يجوز؛ لأن نصيبه مجهول، ولأنه ملك ضعيف يسقط بالإعراض، فإن الملك المستقر لا يسقط بالإعراض؛ يعني: لو قال أحد: لا أريد هذا المتاع، أو: أعرضتُ عن هذا المتاع، أو: تركته، لا يخرج بذلك المتاعُ عن ملكه إلا أن يهبه من أحد، ولو قال أحد المجاهدين: إني أسقطت نصيبي من الغنيمة، أو: أعرضت عنه، سقط نصيبه، فهذا دليل على أن ملكه في الغنيمة قبل القسمة غير مستقر، وإذا كان غير مستقر لا يجوز بيعه. * * * 3066 - عن خَوْلَة بنتِ قَيْسٍ قالت: سمعتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ المالَ خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، فمنْ أصابَهُ بحقِّهِ بُورِكَ له فيهِ، ورُبَّ مُتخَوِّضٍ فيما شاءتْ بهِ نفسُهُ مِنْ مالِ الله ورسُولِهِ ليسَ لهُ يومَ القِيامَةِ إلَّا النَّارُ".

قوله: "ورب متخوِّضٍ"؛ أي: شارعٍ متصرِّفٍ في الغنيمة والفيء والزكاة وغيرها. * * * 3067 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تنفَّلَ سَيْفَهُ ذا الفَقارِ يومَ بَدْرٍ، وهو الذي رأَى فيها الرُّؤْيا يومَ أُحُدٍ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد" (¬1). * * * 3071 - عن القاسم مَوْلى عبدِ الرَّحمنِ عن بعضِ أَصْحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كُنَّا نأكُلُ الجَزورَ في الغزْوِ ولا نقسِمُهُ، حتَّى إنْ كنَّا لنرجِعُ إلى رِحالِنا وأخْرِجَتُنا منهُ مَمْلوءةٌ. قوله: "وأَخْرِجَتُنا منه": جمع خُرْج، وهو نوع من الجُوالق. * * * 3072 - عن عبادةَ بن الصَّامتِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "أدُّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ، وإيَّاكُمْ والغُلُولَ فإنَّهُ عارٌ على أهلِهِ يومَ القِيامَةِ". قوله: "أدوا الخِيَاط والمِخْيَط"، الخياط: جمع خيط، و (المِخْيَط)، الإبرة؛ ¬

_ (¬1) جاء في هامش "م" ما نصه: "يعني أخذه زيادة ... المغنم، والرؤيا التي رأى فيه: أنه رأى في منامه يوم أحد أنه هز ذا الفقار فانقطع من وسطه، ثم هزه هزةً أخرى فعاد أحسن مما كان. حاشية من شرح القاضي".

يعني: اجمعوا جميع الغنائم حتى تُقسم بين الغانمين، ولا تأخذوا منها قبل القسمة شيئًا. * * * 3073 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: دَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ بعيرٍ فأخذَ وَبَرَةً منْ سَنامِهِ ثمَّ قال: يا أيُّها الناسُ! إنَّهُ ليسَ لي منْ هذا الفَيْءِ شيءٌ ولا هذا - ورفعَ أُصبعَهُ - إلا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَردودٌ عليكُمْ، فأَدُّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ"، فقامَ رجُلٌ في يدِهِ كُبَّةٌ منْ شَعرٍ فقال: أخذتُ هذهِ لأُصلِحَ بها بَرْذعَةً، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا ما كانَ لي ولبني عبدِ المطَّلِبِ فهوَ لَكَ". فقال: أمَّا إذْ بلَغَتْ ما أَرَى فلا أَرَبَ لي فيها، ونَبَذَها. قوله: "والخمس مردود عليكم"؛ يعني: ما يحصل لي من الغنائم والفيء أصرفه في مصالحكم من السلاح والخيل وغيرهما. "كبة من شعر"؛ أي: قطعة. "ما كان لي ولبني عبد المطلب"؛ يعني: ما كان من هذا الشعر نصيبي ونصيب بني عبد المطلب أحللناه لك، وباقي نصيب الغانمين فاستَحِلَّ منهم. "أما إذا بلغَتْ ما أرى"؛ يعني: إذا بلغَتْ هذه الكبة إلى ما أرى من المضايقة "فلا أرب"؛ أي: فلا حاجة "لي فيها" مع هذه المضايقة. * * * 3074 - عن عمرِو بن عَبَسةَ قال: صلَّى بنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَعيرٍ منَ المغنمَ فلمَّا سلَّمَ أَخَذ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ البَعيرِ، ثمَّ قال: ولا يَحِلُّ لي منْ غنائِمِكُمْ مثلُ هذا إلَّا الخُمُس، والخُمُسُ مَردودٌ فيكُمْ".

قوله: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعير"؛ أي: استقبل في صلاته بعيرًا، وجعله بمنزلة الخشبة المغروزة ليظهر مصلاَّه. * * * 3075 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ قال: لمَّا قَسَمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سهْمَ ذَوي القُرْبَى بينَ بني هاشِمٍ وبني المُطَّلب أتيتُهُ أنا وعُثمانُ بن عفَّانَ، فقلنا: يا رسُولَ الله! هؤلاِءِ إخوانُنا منْ بني هاشِمٍ لا نُنْكِرُ فضلَهُمْ لمكانِكَ الذي وَضَعَكَ الله منهُم، أرأَيْتَ إخوانَنا منْ بني المطَّلِبِ أعطيتَهُمْ وترَكْتَنا، وإنَّما قرابَتُنا وقَرابَتُهم واحِدَةٌ. فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أمَّا بنو هاشِمٍ وبنو المطَّلِبِ فشيءٌ واحدٌ هكذا وشبَّكَ بين أصابعِهِ". وفي روايةٍ: "أنا وبنو المطَّلِبِ لا نفتَرِقُ في جاهِليَّةٍ ولا إسلامٍ، وإنَّما نحنُ وهُمْ شيءٌ واحِدٌ، وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ". قوله: "لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم"؛ يعني: بنو هاشم أفضل منا لأنهم أقرب إليك منا؛ لأن جدهم وجدَّك واحد وهو هاشم، وأما بنو المطلب فقرابتُهم وقرابتنا منك سواءٌ؛ لأن أباهم أخو هاشم وأبانا كذلك أخو هاشم. قوله: "وشبك بين أصابعه"، (التشبيك): إدخالُ شيءٍ في شيء؛ أي: أدخل أصابع إحدى يديه بين أصابع يده الأخرى؛ يعني: كما أن بعض هذه الأصابع داخلٌ في بعض، فكذلك بنو هاشم وبنو المطلب كانوا موافقين ومختلطين في الكفر والإسلام، فأما غيرهم من أقاربنا فلم يكن موافقًا لبني هاشم. * * *

9 - باب الجزية

9 - باب الجِزْيَةِ (باب الجِزْيَة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3077 - عن بَجالَةَ قال: كنتُ كاتِبًا لجَزْءِ بن مُعاويةَ عمِّ الأحنفِ، فأتانا كتابُ عُمرَ بن الخطَّابِ قبلَ موتِهِ بسنَةٍ أنْ فَرِّقُوا بينَ كُلِّ ذِى مَحرمٍ مِنْ المَجُوسِ، ولَمْ يكُنْ عُمرُ أخذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجوس حَتَّى شَهِدَ عبدُ الرحمنِ بن عَوْفٍ أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذَها منْ مَجوسِ هَجَرَ. قوله: "أخذها من مجوس هجر"، (أخذها)؛ أي: أخذ الجزية، و (هجر): اسم قرية قريبةٍ من المدينة. اعلم أنه لا يترك كافر في دار الإسلام بالجزية إلا اليهود والنصارى لأنهم أهل الكتاب، والمجوس لأنه كان لهم كتاب فرفع إلى السماء. * * * مِنَ الحِسَان: 3078 - عن مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: بعثَني النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ، فأمرَه أنْ يأخُذَ منْ كُلِّ حالِمٍ دينارًا أوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ. قوله: "من كل حالم"؛ أي: من كل محتلمٍ، وهو البالغُ. "العدل": المِثْل، "المعافر" نوعٌ من الثياب يكون باليمن؛ يعني: يأخذ من كل بالغٍ إما دينارًا أو قيمةَ دينار من الثياب، وهذا القَدْرُ يجب على كل رجلٍ بالغٍ عاقلٍ في كلِّ سنة، هذا مذهبُ الشافعي فإنه قال: يجوز أن يؤخذ من الغني والفقير دينارٌ، ثم للإمام أن

يضايقهم في أخذ أكثر من دينار؛ لأن هذه المعاملة معهم كإيجارِ رجلٍ دارَه من أحدٍ، فله أن يضايق بالأجرة بقَدْرِ ما يتيسر له. وقال أبو حنيفة: يؤخذ من كل غني أربعة دنانير، ومن كل متوسط ديناران، ومن كل فقير دينار. * * * 3080 - عن أَنسٍ قال: بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليدِ إلى أُكَيْدِرِ دُومَةَ فأخذُوهُ فأتَوْهُ بهِ، فحقَنَ لهُ دمَهُ وصالَحَهُ على الجِزْيَةَ. قوله: "إلى أكيدر دومة": هو رجلٌ من العرب من قبيلة غسان. "فحقن له دمه"؛ أي: حفظه عن القتل. * * * 3081 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما العُشُورُ على اليَهُودِ والنَّصارَى وليسَ على المُسلمِينَ عُشُورٌ". قوله: "إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور". قال الخطابي: الذي يلزم اليهودَ والنصارى من العشور هو ما صولحوا عليه وقتَ العهد (¬1)، فإن لم يصالَحوا عليه فلا عشورَ عليهم، ولا يلزمهم شيءٌ أكثر من الجزية، فأما عشور غلَّات أراضيهم فلا تؤخذ منهم، وهذا كلُّه على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن أخذوا العشور منا في بلادهم إذا ذهب إليهم المسلمون في تجاراتهم أخذناها منهم، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) في "ش": "العقد".

10 - باب الصلح

روى هذا الحديث حرب بن عبيد الله (¬1) عن جده أبي أمه. * * * 3082 - عن عُقْبةَ بن عامِرٍ قال: قلتُ يا رسُولَ الله! إنَّما نمرُّ بقومٍ فلا هُمْ يُضَيفُوننا، ولا هُمْ يُؤَدُّونَ ما لنا عليهمْ مِنَ الحق، ولا نحنُ نأخُذُ منهمْ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ أَبَوْا إلَّا أنْ تأخُذُوا كَرْهًا فخُذُوا". قوله: "فلا هم يضيفوننا ولا هم يؤدون ما لنا عليهم من الحق" قال أبو عيسى: معنى هذا الحديث أنهم كانوا يخرجون في الغزو فيمرون بقومٍ ولا يجدون من الطعام ما يشترون بثمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أبوا أن يبيعوا إلا أن تأخذوا كرهًا فخذوا"، هكذا روي في بعض الحديث مفسرًا، وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه كان يأمر نحو هذا. قال محيي السنة رحمه الله: وقد يكون مرورهم على جماعة من أهل الذمة، وقد شرط الإمام عليهم ضيافة مَن يمر بهم، فإن لم يفعلوا، أخذوا منهم حقهم كرهًا، وأما إذا لم يكن شرط عليهم والنازل غير مضطر، فلا يجوز أخذُ مال الغير بغير طِيْبةِ نفسٍ منه. * * * 10 - باب الصُّلحِ (باب الصلح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3083 - عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة ومَرْوانَ بن الحَكَمِ قالا: خَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في "م": "جرير بن عبيد الله"، وفي "ش" و"ق": "جرير بن عبد الله"، والصواب ما أثبت.

عامَ الحُدَيْبيَةِ في بِضْعَ عَشْرَةَ مئةً منْ أصحابهِ، فلما أَتَى ذا الحُلَيْفةِ قلَّدَ الهَدْي وأَشْعَرَه وأحرمَ منها بعُمرةٍ، وسارَ حتَّى إذا كانَ بالثَّنيَّةِ التى يُهبَطُ عليهمْ مِنها بَرَكَتْ به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ خَلأَتِ القَصْواءُ خلأَتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما خلأتِ القَصْواءُ وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حَبَسَها حابسُ الفيلِ"، ثم قال: "والذى نَفْسي بيدِهِ لا يَسْألوني خُطَّةً يُعَظِّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعْطَيْتُهم إيَّاها". ثمَّ زَجَرَها فوثَبتْ، فعَدَلَ عنهمْ حتَّى نَزَلَ بأقصَى الحُدَيْبيةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ يتَبَرَّضه النَّاسُ تَبرُّضًا، فلم يُلَبثْهُ الناسُ حتَّى نزَحوهُ وشُكِيَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العَطَشُ، فانتَزَعَ سَهْمًا من كِنانتِهِ ثمّ أمرَهمْ أنْ يَجعلوهُ فِيهِ، فَوَالله ما زالَ يَجيشُ لهم بالرِّيِّ حتَّى صَدَروا عنهُ، فبَيْنما هُمْ كذلك إِذْ جاءَ بُدَيْلُ ابن وَرْقاءَ الخُزاعيُّ في نَفَرٍ مِنْ خُزاعةَ، ثم أتاه عُرْوةُ بن مسعودٍ وساقَ الحديثَ إلى أنْ قال: إذْ جاء سُهيلُ بن عَمْرٍو، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اكتُبْ هذا ما قاضى عليهِ مُحمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -". فقال سُهيلٌ: والله لو كنَّا نَعلمُ أنَّكَ رسولُ الله ما صَدَدْناكَ عن البيتِ ولا قاتَلْناك، ولكن اكتُبْ محمدُ بن عبْدِ الله، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والله إنِّي لَرسولُ الله وإن كَذَّبتُموني، اكتُبْ محمدُ بن عبدِ الله". فقال: سُهيلٌ: وعلى أنْ لا يأْتِيكَ منَّا رجُلٌ وإنْ كانَ على دينِكَ إلَّا ردَدْتَهُ علينا. فلما فَرَغَ مِنْ قضيَّةِ الكِتابِ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأصْحابهِ: "قوموا فانحَرُوا ثمَّ احْلقُوا". ثم جاء نِسوةٌ مؤْمِناتٌ، فأنزلَ الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ...} الآية. فنهاهُم الله - عز وجل - أنْ يَردُّوهُنَّ وأَمَرهُم أَنْ يَرُدُّوا الصَّداقَ. ثم رَجَعَ إلى المدينةِ فجاءَهُ أبو بَصيرٍ رجلٌ منْ قُرَيْشٍ وهو مُسلمٌ فأرسَلوا فى طَلَبهِ رَجُلَيْنِ، فدفعَهُ إلى الرَّجُلَين، فخَرجا بهِ حتَّى بَلَغا ذَا الحُلَيْفة نزلُوا يأكُلونَ منْ تمرٍ لهمْ، فقال أبو بَصيرٍ لأحدِ الرجُلَين: والله إنِّي لأَرى سَيفَكَ هذا يا فُلانُ جيدًا، فَأَرِني أنظُرْ إليهِ، فأَمْكَنَهُ منهُ، فضَرَبَهُ حتَّى

بَرَدَ، وفرَّ الآخَرُ حتَّى أتى المدينةَ، فدخَلَ المَسجدَ يَعْدو، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأَى هذا ذُعْرًا". فقالَ: قُتِلَ والله صاحِبي وإنِّي لَمقتولٌ. فجاءَ أبو بَصيرٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَربٍ لو كانَ لهُ أحدٌ". فلمَّا سمعَ ذلكَ عَرَفَ أنَّهُ سيَرُدُّهُ إليهمْ، فخَرَجَ حتَّى أَتَى سِيْفَ البحرِ، قال: وتَفَلَّتَ أَبو جَنْدَلِ بن سُهيلٍ فلَحِقَ بأبى بَصيرٍ، فجعلَ لا يخرجُ من قُرَيشٍ رجلٌ قد أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بأَبى بَصيرٍ، حتَّى اجتمعَتْ منهُمْ عِصابةٌ، فوالله ما يَسْمعونَ بعِيرٍ خَرَجَتْ لقُرَيْشٍ إلى الشّامِ إلاَّ اعترَضُوا لها، فقَتَلُوهم وأَخَذوا أموالَهم، فأرسلَتْ قُريشٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُناشِدُهُ الله والرَّحِمَ لمَّا أرسلَ، فمنْ أتاهُ فهوَ آمِنٌ، فأرسلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم. قوله: "بالثنية التي يُهبط عليهم منها"، (الثنية): الجبل الذي يكون عليه الطريق، (يُهبط)؛ أي: ينزل (عليهم)؛ أي: على قريش؛ أي: أهل مكة، (منها)؛ أي: من تلك الثنية. "بركت به راحلته"؛ أي: استناخت؛ أي: اضطجعت به؛ أي: بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والباء للمصاحبة؛ أي: في الحال التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظهرها. "حَلْ" بفتح الحاء المهملة وكسر اللام وتنوينها: كلمةٌ يقولها الرجل ليقوم الجمل؛ أي: ليسير. "خلأت القصواء"؛ أي: ساء خلقُ هذه الناقة وصارت حَرونًا؛ لأنها بركت ولا تسير. "حبسها حابس الفيل"؛ أي: منعها من السير مَن منع فيلَ أصحاب الفيل وهو الله تعالى؛ يعني: إنما منع الله هذه الناقة عن السير كيلا تدخل مكة، وإنا لو دخلنا مكة لظهر بيننا وبين أهل مكة محاربةٌ، ويراق دماء في الحرم، وقد حرم الله إراقة الدماء في الحرم، فبروك القصواء إشارة إلى أن لا يدخل مكة.

قوله: "لا يسألوني خطة"، (الخطة) بضم الخاء: الخصلة؛ يعني: لا يطلب أهل مكة مني شيئًا "إلا أعطيتهم" إلا شيئًا ليس فيه تعظيم الله. "ثم زجرها"؛ أي: زجر رسول الله تلك الناقة. "فعدل عنهم"؛ أي: انحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصحابة وذهب إمامهم حتى نزل في آخر الحديبية "على ثَمَدٍ"، (الثمد): الماء القليل، والمراد به ها هنا البئر. "يتبرَّضُه الناس"؛ أي: يأخذون ذلك الماء قليلًا قليلًا، "فلم يُلْبثه الناس" بضم الياء وكسر الباء؛ أي: فلم يجعل الناس مكث ذلك الماء طويلًا في تلك البئر؛ أي: أفنوه عن قريب. "نزحوه"؛ أي: نزعوه وأفنوه. "يجيش لهم بالري"، (يجيش)؛ أي: يخرج ويكثر "لهم"؛ أي: للصحابة "بالرِّيِّ"؛ أي: بما هو سببُ ريهم، و (الري) في الماء بمنزلة الشبع في الطعام، "حتى صدروا عنه"؛ أي: حتى رجعوا عن ذلك الماء راضين. "إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي" هذا الرجل ومن معه وسهيل بعثهم أهل مكة بالرسالة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله عليه الصلاة والسلام: "سهل الأمر" هذا تفاؤل منه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع اسمًا حسنًا فرح به وتفاءل به خيرًا؛ يعني: إذا كان اسم هذا الرجل سهيل يَسْهُلُ بسببه أمرنا هذا. "ما قاضى"، (قاضى): إذا فَصَلَ بين الخصمين؛ أي: ما صالح عليه رسول الله؛ يعني: صالح به رسول الله مع أهل مكة. "صددناك"؛ أي: منعناك عن زيارة الكعبة؛ يعني: أخرجناك من مكة ومنعناك الآن عن العمرة ودخول مكة؛ لأنا نكذِّب رسالتك. "وعلى أن لا يأتيك منا رجل" هذا معطوف على لفظٍ ليس في هذه الرواية،

وقد جاء في رواية أخرى وهو قوله: على أن تأتينا من العام المقبل؛ يعني: لا نخليك أن تدخل مكة في هذه السنة، لكن ارجع إلى المدينة على أنه تأتي في العام القابل؛ أي: في السنة التي تأتي بعد هذه السنة. "من قضية"؛ أي: من حكم كتبه كتاب الصلح. "قوموا فانحروا"؛ يعني: من أُحصر - أي: مُنع عن إتمام حجته أو عمرته بعد الإحرام - فعليه أن يذبح شاةً ويفرقَ لحمها على مساكين الموضع الذي أُحصر فيه، ثم يحلق ويتحلل من إحرامه. "فنهاهم الله أن يردُّوهن" اختلفوا في أن النساء: هل دخلن في شرطهم مع رسول الله: (على أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته)؟ في قولٍ: أنهن لم يدخلن في ذلك الشرط، بل المراد من ذلك الشرط الرجال، فعلى هذا القول لا إشكال في عدم ردهن. وفي القول الثاني: كن داخلات في الشرط؛ لأن قول سهيل: (على أن لا يأتيك منا أحد) لفظة (أحد) تتناول الرجال والنساء، فعلى هذا القول عدمُ ردِّهن لكون الآية ناسخةً لشرط ردِّ النساء، وأمرهم أن يردُّوا الصَّداق؛ يعني: إذا جاء أزواجهن في طلبهن لا يجوز ردُّهن عليهم، ولكن يجب ردُّ ما أعطَوْهنَّ من الصَّداق إن كانوا قد سلَّموا الصداق إليهن، وإن لم يسلِّموا الصداق إليهن لا يعطون شيئًا. "ثم رجع إلى المدينة"؛ يعني: ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. "فأرسلوا"؛ أي: فأرسل أهل مكة. "فأمكنه منه"؛ أي: فدفع السيف إليه، "فضربه"؛ أي: ضرب أبو بصير ذلك الكافر "حتى بَرَد"؛ أي: حتى مات.

"ذعرًا"؛ أي: خوفًا. "وإني لمقتول"؛ أي: وإني لأخاف القتل، أو دنوت من أن يقتلني. "مسعر حرب لو كان له أحد"، (مسعر) بكسر الميم وفتح العين: كثير السَّعْر، وهو إيقاد الحرب والنار؛ يعني: هو كثير الحرب إن كان له مددٌ وناصر. "حتي أتى سيف البحر" بكسر السين؛ أي: ساحله. "وينفلت"؛ أي: يفر. "عصابة"؛ أي: جماعة. "بعير"؛ أي: بسيارة. "اعترضوا لها"؛ أي: أجمعوا واستقبلوا عليها بالمحاربة. "تناشده الله والرحمَ"؛ أي: أحلفوه بالله وبحق القرابة التي بينهم وبينه - صلى الله عليه وسلم - "لما أرسل"؛ أي: إلا أن يرسل على أبي بصير وأتباعه أحدًا، ويدعوهم إلى المدينة، وأجازوا أنَّ مَن أتاه - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين لا يرده إليهم. * * * 3084 - عن البراءِ بن عازِبٍ قال: صالحَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُشْرِكينَ يومَ الحُدَيْبيةِ على ثلاثةِ أشياءَ: على أَنَّ مَنْ أتاهُ مِنَ المُشركينَ ردَّهُ إليهِمْ، ومَنْ أتاهُمْ مِنَ المُسلمينَ لم يَرُدُّوه. وعلى أنْ يدخُلَها مِنْ قابلٍ ويُقيمَ بها ثلاثةَ أَيَّامٍ، ولا يدخُلَها إلَّا بجُلُبَّانِ السِّلاحِ: السَّيْفِ والقَوسِ ونحوه. فجاءَ أبو جَندَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيودِهِ فردَّهُ إليهم. قوله: "بجلبان السلاح"، (الجلبان) بضم الجيم واللام وتشديد الباء: جرابٌ من أَدَمٍ يُلقي الراكب فيه سيفه مغمودًا ثم يعلقه من الرحل، وأراد بقوله: (جلبان السلاح) أنهم لا يسلُّوا سيوفهم من الغمد، بل تكون سيوفهم وقسيُّهم مستورةً. "يحجل في قيوده"، (يحجل)؛ أي: يمشي كمشي الأعرج لقيدٍ في رجليه.

يعني: أسلم أبو جندل بمكة، فأخذه أهل مكة وقيدوه، فانفلت مع قيده وجاء إلى النبي، فردَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة وفاءً بشرطه، ثم انفلت مرةً أخرى وجاء سيف البحر ولحق أبا بصير كما ذكر قبيل هذا. * * * 3085 - وعن أنسٍ: أنَّ قُرَيْشًا صالَحُوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَنْ جاءَنا منكُمْ لم نَرُدَّهُ عليكُمْ، ومَنْ جاءكُمْ منَّا رَدَدْتُمُوهُ علينا، فقالوا يا رسُولَ الله! أَنكتُبُ هذا؟ قالَ: "نَعَمْ، إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إليهمْ فَاَبْعَدَهُ الله، ومَنْ جاءَنا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ الله لهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا". قوله: "فقالوا يا رسول الله"؛ أي: قالت الصحابة. "مَن ذهب منا إليهم"؛ يعني: مَن ذهب منا إلى الكفار واختار دينهم فهو مرتدٌ "فأبعده الله، ومَن جاءنا منهم"؛ يعني: من أسلم من أهل مكة وجاءنا ثم رددناه إلى مكة وفاز بالعهد "فسوف يجعل الله له مخرجًا"؛ أي: سوف يخلصه الله من أيدي الكفار. * * * 3087 - عن المِسْوَرِ ومروانَ: أنَّهم اصْطَلَحُوا على وضْعِ الحَرْبِ عَشْرَ سنين يأمَنُ فيهِنَّ النَّاسُ، وعلى أنَّ بَيْننا عَيْبةً مَكفوفةً، وأنَّهُ لا إسْلالَ ولا إغلالَ. قوله: "أنهم اصطلحوا على وضع الحرب"؛ يعني صالح أهل مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يتركوا حرب رسول الله ويتركَ رسول الله حربهم عشر سنين، فصالحوا على ترك الحرب عشر سنين، فلما مضى بعد هذا الصلح ثلاثُ سنين أعان أهل مكة بني بكر على حرب خزاعة، وكان خزاعة حلفاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنقض أهل مكة العهد الذي بينهم وبين رسول الله بإعانتهم أعداء خزاعة، ومَن حارب

حليف أحد فكأنما حارب ذلك الأحد. قوله: "وعلى أن بيننا عيبةً مكفوفةً"، (مكفوفة)؛ أي: ممنوعة مشدودًا رأسها؛ يعني: يحفظ العهد والشرط ولا ينقضه كما يُحفظ ما في العَيْبةِ بشدِّ رأسها؛ يعني: لا نذكر العداوة التي كانت بيننا قبل هذا ولا ينتقم بعضنا بعضًا. "لا إسلال ولا إغلال"، (الإسلال): السرقة، والإغلال: الخيانة؛ أي: لا يأخذ بعضنا مالَ بعضٍ لا في السر ولا في العلانية. وقيل: (الإسلال) مِنْ سَلَّ السيف، و (الإغلال): لبس الدروع؛ أي: لا يحارب بعضنا بعضًا. * * * 3088 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا مَنْ ظَلَمَ مُعاهدًا أو انتقَصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغيرِ طيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجِيجُهُ يومَ القِيامَةِ". قوله: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته"، (الانتقاص): نقصُ حقِّ أحدٍ، قوله: (كلفه فوق طاقته)؛ يعني: إن كان ذميًا لا يؤخذ منه الجزيةُ أكثر مما يطيق أداءها، وإن كان حربيًا وجرى بيننا وبينه عهدٌ لا يؤذيه أحد، ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء إلا عُشْرُ ماله إن جاء لتجارةٍ وبَحْثُ أخذِ العشر من الكفار ذُكر في (باب الجزية). روى هذا الحديث [صفوان بن سليم عن عدَّةٍ من أبناء الصحابة]. * * * 3089 - عن أُمَيْمةَ بنتِ رُقَيقةَ قالت: بايعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نِسْوَةٍ، فقال

11 - باب الجلاء: إخراج اليهود من جزيرة العرب

لنا: فيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطَقْتُنَّ. قلتُ: الله ورسُولُهُ أرحَمُ بنا مِنَّا بأنفُسِنا، قلتُ: يا رسُولَ الله! بايعْنا، تعني: صافِحْنا، قال: "إِنَّما قَوْلي لمئةِ امرأَةٍ كقَوْلي لامرأةٍ واحِدةً". قوله: "في نسوة"؛ أي: مع نسوة. "صافِحْنا"؛ أي: ضع يدك في يد كلِّ واحدةٍ منَّا. * * * 11 - باب الجلاء: إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العَرَبِ (باب إخراج اليهود من جزيرة العرب) مِنَ الصِّحَاحِ: 3090 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: بَيْنا نحنُ في المسْجِدِ، خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: اِنطلِقُوا إلى يَهُودَ فَخَرَجْنا معهُ حتَّى جَئْنا بَيْتَ المدراسِ، فقامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا مَعْشَرَ يَهُودَ! أسْلِمُوا تَسْلَمُوا، واعْلَمُوا أنَّ الأَرضَ للَّهِ ولرسُولِهِ، وإنِّي أُريدُ أَنْ أُجْلِيَكُم مِنْ هذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ منكُمْ بمالِهِ شيئًا فلْيَبعْه". قوله: "بيت المدراس"؛ أي: الموضع الذي يقرأ اليهود فيه التوراةَ. "تسلَموا"؛ أي: تنجوا من الذلِّ في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. "أن أُجْليكم"؛ أي: أخرجكم من هذه الأرض؛ أي: من جزيرة العرب. "فمن وجد منكم بماله شيئًا"؛ أي: فمن وجد منكم شيئًا من ماله مما

لا يتيسَّر له نقلُه فليبعه، مثل الأرض والأشجار. * * * 3091 - عن ابن عمرَ قالَ: قامَ عمرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ عامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ على أموالِهم وقال: نُقِرُّكمْ ما أَقَرَّكُمُ الله. وقد رأَيْتُ إجلاءَهُم، فلمَّا أَجْمَعَ عُمرُ على ذلِكَ أتاهُ أحدُ بني أبي الحُقَيقِ فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ! أتُخْرِجُنا وقد أَقَرَّنا محمدٌ وعامَلَنا على الأموالِ؟ فقالَ عمرُ: أَظَنَنْتَ أنِّي نسيتُ قولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ بكَ إذا أُخْرِجْتَ من خَيْبَرَ تَعْدُو بكَ قَلُوصُكَ ليْلةً بعدَ لَيْلةٍ. فقال: هذِهِ كانتْ هُزَيْلةً من أبي القاسمِ. قالَ: كذبتَ يا عدوَّ الله. فأجلاهم عمرُ، وأَعْطاهم قِيمةَ ما كانَ لهمْ مِنَ الثَّمَرِ مالًا وإبلًا وعُروضًا من أقتابٍ وحِبالٍ وغيرِ ذلك. قوله: "نقركم على ما أقركم الله"؛ يعني: لمَّا أقر رسول الله يهود خيبر على الجزية قال هذا اللفظ؛ يعني: نترككم على ما ترككم الله؛ أي: ما لم يأمرنا الله بإخراجكم عن جزيرة العرب، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أريد أن أجليكم" لا بد وأن يكون إجلاؤهم بأمر الله. قوله: "رأيت إجلاءهم"؛ أي: قال عمر: رأيت المصلحة في إجلائهم؛ أي: في إخراجهم من جزيرة العرب. "أجمع"؛ أي عزم على ذلك؛ أي: على إجلائهم. "وعامَلَنا على الأموال"؛ أي: جعلَنا عاملين على أرض خيبر. "كيف بك"؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا اليهودي: (كيف بك)؛ أي: كيف يكون حالك "إذا أخرجت" من جزيرة العرب "تعدو بك"؛ أي: تسرعك "قلوصك"؛ أي: جملك.

"هذه كانت هزيلة"؛ أي: هذا الكلام منه مزاحٌ ولعب. "الأقتاب": جمع قتب، وهو الرحل. "الحبال": جمع حبل. * * * 3092 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْصى بثَلاثةٍ قال: أخْرِجُوا المُشْرِكينَ مِنْ جَزيرَةِ العَرَبِ، وأَجِيزوا الوَفْدَ بنحْوِ ما كُنتُ أُجيزُهُم. قال ابن عبَّاسٍ: وسكتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أو قال: فأُنْسِيتُها. قوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" أراد بالمشركين اليهود والنصارى، "وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، (أجاز): إذا أعطى صلةً، و (الوفد): الرسول ومَن أتى لحاجةٍ؛ يعني: إذا أتاكم رسولُ قوم أو جماعةٍ لحاجةٍ فأعطوهم من النفقة وما يحتاجون إليه كما كنت أعطيهم. * * * مِنَ الحِسَان: 3094 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونُ قِبلتانِ في بلدٍ واحِدٍ". قوله: "لا تكون قبلتان في بلدة واحدة"؛ يعني: لا يجوز أن يكون المسلم وغير المسلم في بلدةٍ واحدةٍ، وهذا مختصٌّ بجزيرة العرب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج المسلمين المشركين من جزيرة العرب، وقال: "لأُخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا". * * *

12 - باب الفيء

12 - باب الفَيْءِ (باب الفَيْءِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 3095 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان قال: قال عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الله قَدْ خَصَّ رسولَهُ في هذا الفَيءِ بشيءٍ لمِ يُعْطِهِ أَحَدًا غيْرَه، ثم قرأ {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {قَدِيرٌ}، فكانتْ هذهِ خالِصَةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُنْفِقُ على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهم مِنْ هذا المالِ، ثم يأْخُذُ ما بَقيَ فيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مالِ الله. قوله: "قد خص رسول في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره"، (الفيء): ما أخذ المسلمون من مال الكفار من غير حربٍ، مثل الجزية، وما أُخذ منهم من خَراجٍ وعُشْرِ تجارةٍ، ومَن مات منهم ولم يترك وارثًا فمالُه فيءٌ، وما تركه الكفار وهربوا فزعًا من المسلمين، فكلُّ ذلك فيءٌ يخمَّس، فأربعةُ أخماسه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً ينفق منها على عياله ويجهِّز الجيش ويطعم الأضياف ومَن جاءه لرسالة أو لحاجة، ويقسم خمسه على خمسة أسهم: سهم له عليه الصلاة والسلام، وسهم لأقربائه من بني هاشم وبني المطلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. فما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته فإنه للأئمة في قول بعض أهل العلم، ويُصرف في مصالح المسلمين في قول الشافعي، وفي قولٍ آخَرَ: يُصرف في جنود الإسلام، وقولُ مالك كالقول الأول للشافعي وقول أبو حنيفة. قوله: "لم يعطه أحدًا غيره"؛ يعني: لم يعط الله أربعة أخماس الفيء أحدًا غير رسول الله في حياته.

قوله تعالى: " {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} "؛ أي: وما دفع الله [إلى] رسوله من أموال الكفار، قيل: هذا أموال بني النضير، وقيل: جميع أموال الكفار التي حصلت للمسلمين من غير قتال. " {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} "؛ أي: فما أسرعتم إلى الكفار لا بخيلٍ ولا بإبلٍ. قوله: "فيجعله مجعل مال الله"؛ يعني: يصرفه في مصالح المسلمين. * * * 3096 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان، عن عُمَرَ قالَ: كانتْ أموالُ بني النَّضيرِ ممَّا أفاءَ الله على رسولِهِ ممَّا لم يُوجِفِ المسلمونَ عليهِ بخَيْلٍ ولا رِكابٍ، فكانتْ لِرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، يُنْفِقُ على أهلِهِ منها نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بقيَ فى السِّلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سَبيلِ الله - عز وجل -. قوله: "عدة"؛ أي: أهبة وجهازًا للغزاة. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3098 - وقال ابن عمرَ: رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّلَ ما جاءَهُ شيءٌ بدأَ بالمُحَرَّرينَ. قوله: "أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين"؛ يعني: أول ما جاء شيء من الفيء بدأ بإعطاء نصيب المُعْتَقين، وكان يعطيهم الكفاف. * * * 3099 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بظَبْيةٍ فيها خَرَزٌ فقسَمها للحُرَّةِ والأمَةِ. وقالت عائشةُ: كانَ أبي يَقسِمُ للحُرِّ والعَبْدِ.

قولها: "بظبية"؛ أي: بجرابٍ صغير. قولها: "يقسم للحر والعبد"؛ يعني: الفيء بين الحر والعبد، يعطي كلَّ واحد بقَدْرِ حاجته. * * * 3100 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان قال: ذكرَ عمرُ بن الخطَّابِ يومًا الفَيْءَ فقال: ما أنا أحقُّ بهذا الْفَيْءِ منكمْ، وما أحدٌ مِنَّا بأحقَّ بهِ منْ أحَدٍ، إلَّا أنا على منازِلِنا منْ كتابِ الله - عز وجل -، وقَسْمِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والرَّجُلُ وقِدَمُهُ، والرَّجُلُ وبلاؤُهُ، والرَّجُلُ وعِيالُهُ، والرَّجُلُ وحاجَتُهُ. قول عمر - رضي الله عنه -: "ما أنا أحق بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منا بأحق به من أحد، إلا أنَّا على منازلنا من كتاب الله - عز وجل - وقَسْمِ رسوله، والرَّجُل وقِدَمه". قوله: "والرجل وبلاؤه"؛ أي: شجاعته؛ يعني: مَن كانت شجاعته أكثر يُعْطَى من الفيء أكثر. "والرجل وحاجته"؛ يعني: من كانت حاجته وعياله أكثر يُعْطَى من الفيء أكثر. * * * 3101 - وقالَ: قرأ عمرُ بن الخطَّابِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حتَّى بلغَ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقال: هذِهِ لهؤلاءِ, ثمَّ قرأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} حتَّى بلغَ {وَابْنِ السَّبِيلِ}، ثم قال: هذهِ لهؤلاءِ، ثم قرأَ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتَّى بلغَ {لِلْفُقَرَاء} , ثم قرأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثمّ قال: هذِهِ استَوْعَبَتِ المُسلمينَ عامَّةً، فلئِنْ عِشْتُ فلَيأْتيَنَّ الرَّاعيَ وهو بِسَرْوِ حِمْيَرَ نصيبُه منها، لمْ يَعْرَقْ فيها جَبينُهُ.

قوله تعالى: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ": هذه الآية تبين أهل الزكاة. وقوله تعالى: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} " فهذه الآية تبين أهل خمس الغنيمة، ونصيبُ الله تعالى ونصيبُ الرسول واحد، وذُكر اسم الله للتبرك. قوله " {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} " فهذه الآية تبين أهل الفيء. وقوله: "فلئن عشت"؛ يعني: إن حييتُ لأفتح بلاد الكفار وأكثر الفيء وأُوصل جميع المحتاجين حقوقَهم، حتى أعطي "الراعي وهو بسرو حمير" وهو اسم موضعٍ من بلاد اليمن. "لم يعرق فيها جبينه"؛ أي: لم يصل إليه تعبٌ في تحصيلها، والضمير المؤنث يرجع إلى شيء مقدَّر، وهو أموال الفيء. * * * 3102 - عن مالِكِ بن أَوْسٍ، عن عمرَ قال: كانَ لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثُ صَفايا: بنو النَّضيرِ وخَيْبَرُ وفَدَكُ، فأمَّا بنو النَّضيرِ فكانتْ حُبْسًا لنوائِبهِ، وأمَّا فدَكُ فكانتْ حُبسًا لأبناءِ السَّبيلِ، وأمَّا خيبرُ فجَزَّأَها رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أجزاءٍ: جُزءَيْنِ بينَ المُسلِمِينَ، وجُزءًا نَفَقَةً لأهلِهِ، فما فَضَلَ عنْ نفقةِ أهلِهِ جعلَهُ بينَ فُقراءِ المُهاجِرينَ. قوله: "ثلاث صفايا"، (الصفايا): جمع صفية، وهي ما يصطفيه الإمام؛ أي: يختاره لنفسه من بين الغنيمة؛ كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختار من بين الغنيمة لنفسه ما شاء، فاصطفى لنفسه هذه المواضع الثلاثة، وحَفِظَها ليصرف عليها في حوائجه.

"الحُبس" بضم الحاء؛ يعني: المحبوس والمحفوظ. "لنوائبه"؛ أي لحوادثه؛ أي: للأضياف ولمَن يأتيه من الأطراف لرسالةٍ أو لحاجةٍ، وللسلاح والخيل في سبيل الله. ° ° °

18 - كتاب الصيد والذبائح

18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ

[18] كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ (كتاب الصيد والذبائح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3103 - عن عَدِيِّ بن حاتِمٍ - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرسلْتَ كلبَكَ المعلَّمَ فاذكُرِ اسمَ الله تعالى، فإنْ أَمْسكَ عليكَ فأدْرَكْتَهُ حيًّا فاذبَحْهُ، وإنْ أدْركْتَهُ قد قَتَلَه ولم يأْكُلْ منهُ فكُلْهُ، وإنْ كان أكلَ فلا تأكلْ فإنَّما أَمْسكَ على نفسِه، وإنْ وَجَدْتَ مع كَلْبكَ كلبًا غيرَهُ وقد قَتلَ فلا تأكلْ فإنَّكَ لا تدري أَيُّهُما قَتَلَهُ، وإذا رمَيْتَ بسهمِكَ فاذْكُر اسمَ الله، فإنْ غابَ عنك يومًا فلمْ تَجِدْ فيه إلاّ أثرَ سهمِكَ فكُلْ إنْ شئتَ، وإنْ وجدْتَهُ غريقًا في الماءِ فلا تأكُلْ". قوله: "فاذكر اسم الله"؛ يعني: فقل: بسم الله عند إرسالك الكلب إلى الصيد، فإنه سنةٌ، "فإن أمسك عليك"؛ يعني: فإذا أمسك الكلب "فأدركته حيًا فاذبحه"؛ يعني: فإن وصلت إلى الصيد الذي أخذه كلبك فإن كان الصيد حيًا لزم ذبحُه، وإن لم تذبحه حتى مات فهو حرام، "وإن أدركته قد قتل"؛ يعني: إن أدركت الصيد وقد قتله الكلب قبل وصولك إليه، فإن لم يأكل منه الكلب فذاك الحَلب معلَّمٌ وذلك الصيد حلال، وإن أكل منه الكلب فلم يكن ذلك الكلب معلمًا، فهو حرام.

لتحليل الصيد المأخوذ بالكلب شرطان: أحدهما: أن يكون الكلب معلَّمًا. والثاني: أن يرسله مَن تحلُّ ذبيحتُه. فإن لم يكن الكلب معلَّمًا، أو كان معلَّمًا ولكن أخذ الصيد لا بإرسالِ أحدٍ، أو كان بإرسالِ أحدٍ ولكن كان ذلك الأحد ممن لم تحلَّ ذبيحته، فذلك الصيد حرام، ومَن حل ذبيحته هو المسلم واليهود والنصارى. واعلم أن التسمية عند الرمي إلى الصيد وإرسالِ الكلب، وعند ذبح شاة أو غيرها، سنةٌ، فإنْ تَرَكَ التسمية عامدًا أو ناسيًا فلا بأس عند الشافعي ومالك وأحمد، وهو حرام عند أبي ثور وداود سواءٌ ترك التسمية عامدًا أو ناسيًا. وقال أبو حنيفة: إن تركها عامدًا لم يحل، وإن تركها ناسيًا حل. وأما كونُ الكلب معلَّمًا فهو شرطٌ عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، فإن أكل الصيدَ فهو حرام عندهم، وقال مالك: لا بأس به. وللتعليم ثلاث شرائط: أن يذهب إلى الصيد إذا أرسله مالكُه، وأن لا يأكل إذا أخذ، وأن يرجع إذا دعاه مرسله، وفي هذا خلافٌ فإن الكلب إذا رأى الصيد قلما يرجع. قوله: "فإنما أمسك على نفسه"؛ يعني: أمسك الكلبُ الصيد لنفسه لا لك، "وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره"؛ يعني: إذا وجدت صيدًا أخذه كلبك وكلبُ غيرك، فإن كان كلب غيرك لم يرسله أحد بل أتى الصيد بنفسه، أو أرسله مَنْ لم تحلَّ ذبيحته، فذلك الصيد حرام، وإن شككت أن هذا الصيد أخذه كلبك منفردًا أو مع كلبٍ آخر لم يرسله أحد، أو أرسله مَن لم تحلَّ ذبيحته، فهو حرام للشك.

قوله: "فلم تر فيه إلا أثر سهمك" شرطُ هذا أن يعلم يقينًا أن سهمه أصاب الصيد، ثم غاب عنه ووجده بعد يوم أو يومين ولم يكن غريقًا في الماء ولا ساقطًا من علو، ولا أثر عليه من حجر أو سهم آخر، فإذا كان كذلك حلَّ أكلُه، فأما إذا لم يعلم يقينًا أن سهمه أصابه، أو علم إصابة سهمه ولكن وجده غريقًا في ماء، أو ساقطًا من علو، أو وجد عليه أثر حجر أو سهم آخر، فلم يحل أكله. * * * 3103/ م - ورُوِيَ عن عَدِيٍّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إنَّا نُرْسلُ الكِلابَ المُعَلَّمةَ، قال: "كُلْ ما أَمْسكْنَ عليكَ"، قلتُ: وإنْ قَتَلْن؟ قال: "وإن قَتَلْنَ"، قلتُ: إنا نَرْمي بالمِعْراضِ، قال: "كُلْ ما خَزَقَ، وما أصابَ بِعَرْضهِ فقتلَ فإنَّه وَقيذٌ فلا تأْكُلْ". قوله: "بالمعراض"، (المعراض): سهمٌ نصلُه عريض. و"خزق": بالزاي المعجمة؛ أي: شقَّ وجرح الصيد. "وما أصاب بعرضه"؛ يعني: إن لم يُصِبِ الصيدَ نصلُ سهمه بل وسطه "فإنه وقيذ"، و (الوقيذ): الموقوذ، وهو المقتول بضرب الخشب، وهو حرام. * * * 3104 - عن أبي ثَعْلَبةَ الخُشَنيِّ: أنَّه قال: قلتُ: يا نبيَّ الله! إنَّا بأرضِ قَوْمٍ منْ أهلِ الكتابِ أفنَأْكُلُ في آنِيَتِهم؟ وبأرضِ صيدٍ أَصِيدُ بقَوْسي وبكلبي الذي ليسَ بِمُعلَّمٍ، وبكلبي المُعلَّم، فما يَصْلحُ لي؟ قال: "أمَّا ما ذكَرْتَ منْ آنية أهلِ الكتابِ، فإنْ وَجَدْتُم غيرَها فلا تأْكُلُوا فيها، فإنْ لم تَجِدوا فاغْسِلُوها وكُلُوا فيها، وما صِدْتَ بقَوْسِكَ فذَكرْتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلْبكَ

المُعَلَّمِ فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبكَ غيرَ مُعَلَّمٍ فأَدْرَكْتَ ذَكاتَه فَكُلْ". قوله: "فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها": هذا على طريق الاستحباب؛ لأن طعامهم حلال بنص القرآن، فإذا كان طعامهم حلالًا فكيف تكون آنيتهم نجسةً؟! "وما صدت بكلبك غير معلَّمٍ فأدركت ذكاته فكُلْ"، (الذكاة): الذبح؛ يعني: فإن أدركته حيًا وذبحته حَلَّ، وإن أدركته ميتًا لم يحلَّ؛ لأن الكلب غير معلَّمٍ. * * * 3105 - وقال: "إذا رَمَيْتَ بسَهْمِكَ فغابَ عنكَ فأَدْركْتَهُ فكُلْ ما لم يُنْتِنْ". 3106 - عن أبي ثَعْلَبةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذي يُدْرِكُ صَيدَهُ بعدَ ثلاثٍ: "فكُلْهُ ما لم يُنْتِنْ". قوله: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكُلْ ما لم يُنْتِنْ"؛ يعني: إذا جرحت الصيد فغاب عنك، ثم أدركته ميتًا ولم تر فيه غير سهمك كما ذكر فهو حلال. وقوله: "ما لم ينتن" هذا على طريق الاستحباب؛ لأن صيرورة اللحم منتنًا لا تحرِّمُه، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل إهالةً سَنِخةً؛ أي: وَدَكًا متغير الريح وهو المنتن، فلو كان اللحم المنتن حرامًا لكان الودك المنتن أيضًا حرامًا، ولو كان حرامًا لم يأكله النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * *

3107 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالوا: يا رسولَ الله! إنَّ ها هنا أقوامًا حَديثٌ عهدُهم بشِرْكٍ، يأْتُوننا بلُحْمانٍ لا ندري يذكرونَ اسمَ الله عليها أَمْ لا؟ قال: "اذْكُروا أنتُم اسمَ الله وكُلُوا". قولها: "إن هنا أقوامًا حديثٌ عهدُهم بشركٍ يأتوننا بلُحْمانٍ لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: اذكروا أنتم اسم الله وكلوا (¬1) ". * * * 3108 - وسُئِلَ عليٌّ - رضي الله عنه -: أَخَصَّكُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشئٍ؟ فقال: ما خصَّنا بشيءٍ لم يَعُمَّ بهِ الناسَ إلَّا ما في قِرابِ سيَفْي هذا، فأخرجَ صحيفةً فيها: لعنَ الله مَنْ ذَبَحَ لغيرِ الله، ولعنَ الله مَنْ سَرَقَ مَنارَ الأرضِ - ويُرْوى: مَنْ غَيَّرَ مَنارَ الأرضِ - ولعنَ الله مَنْ لعنَ والدَيْهِ، ولعنَ الله مَنْ آوَى مُحْدِثًا. قوله: "أخصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء فقال: ما خصنا بشيء لم يعم به الناس". قوله: "القراب": الغمد. "من ذبح لغير الله"؛ يعني: مَن ذبح بغير (¬2) اسم الله، كقول الكفار عند الذبح: باسم الصنم. "ومن سرق منار الأرض"، (مَنَار الأرض): العلامة التي يمشي الناس بها على الأرض وهي الطريق؛ يعني: لعن مَن غصب الطريق وجعله في ملكه؛ يعني: مَن أبطل طريق الناس. ¬

_ (¬1) كذا وقع في جميع النسخ دون شرح، وجاء بعده في "م" بياض بمقدار سطر. (¬2) في "ق": "لغير".

"من آوى محدثًا"؛ أي: من ترك مبتدعًا في بيته أو بلده وأعانه. * * * 3109 - عن رافعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنه - أنّه قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! إنَّا لاقُو العَدُوِّ غدًا وليْسَتْ معَنا مُدًى، أفنذبحُ بالقَصَبِ؟ قال: "ما أَنهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلْ، ليسَ السِّنَّ والظُّفُرَ، وسأُحَدِّثُكُ عنه: أمَّا السِّنُّ فعَظْمٌ، وأمَّا الظُّفُرُ فمُدَى الحُبْشِ". وأصَبنا نَهْبَ إبلٍ وغنَمٍ فندَّ منها بعيرٌ فرماهُ رجلٌ بسَهْمٍ فحبَسَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لهذِهِ الإِبلِ أوابدَ كأوابدِ الوَحْشِ، فإذا غَلَبَكُمْ منها شيءٌ فافعلُوا بهِ هكذا". قوله: "لاقو العدو غدًا وليست معنا مدى"، (المُدى): جمع مدية، وهي السكين. "أنهر"؛ أي: أَجْرَى؛ يعني: كلُّ شيء له حدٌّ يجوز الذبح به إذا أُمِرَّ على حلق الذبيح، فلو ضرب به ولم يمر لم يجز، ولا يحلُّ الذبح بالظفر والعظم سواءٌ كان العظم والظفر منفصلين عن الحيوان أو متصلين به، وسواءٌ كانا من مأكولٍ أو غيرِ مأكولٍ عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن كان العظم والظفر منفصلين عن الحيوان حل الذبح بهما. وقال مالك: حل الذبح بالعظم إذا قطع بإمراره. وقال بعض أصحاب الشافعي: حل الذبح بعظمِ مأكولِ اللحم. قوله: "أما السن فعظم"؛ يعني: السن عظمٌ ولا يجوز الذبح بالعظم. "وأما الظفر فمُدَى الحبش"؛ يعني: لا يجوز الذبح بالظفر؛ لأن أهل الحبشة يذبحون بالظفر وهم كفار، ولا يجوز موافقة الكفار.

"نهب إبل وغنم"؛ يعني: أكرنا على قوم من الكفار فوجدنا إبلًا وغنمًا، "فند"؛ أي: فر. "الأوابد": جمع آبدة، وهي التي تفر وتنفر؛ يعني: إذا صار إبلٌ أو بقرٌ أو غنمٌ وحشيًا، وفرَّ ولم تقدروا على أخذه، جاز رميه وقتلُه بالسهم كالصيد. * * * 3110 - عن كعبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: أنَّه كانتْ لهُ غنمٌ ترعَى بسَلْع فأبصرَتْ جاريةٌ لنا بشاةٍ مِنْ غَنمِنا مَوْتًا، فكسَرتْ حَجَرًا فَذَبَحتْها بهِ، فسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرَهُ بأكْلِها. قوله: "بسَلْعٍ" بسكون اللام: وهو اسم جبل بالمدينة. قوله: "موتًا"؛ أي: رأت أثر الموت في شاةٍ "فكسرت حجرًا" محدَّدًا كسكين "فذبحتها به" فأمره النبي بأكلها. * * * 3111 - عن شدَّادِ بن أوْسٍ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ على كلِّ شيءٍ, فإذا قتلتُمْ فأحْسِنوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحدُكُمْ شفرتَهُ ولْيُرِحْ ذبيحَتَه". قوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، (على) بمعنى (في)؛ يعني: كتب الله عليكم أن تحسنوا في كل شيء: في ذبح الحيوان، وفي قتل إنسان إذا وجب قتله بالقصاص، وفي غيرهما. "القتلة" بكسر القاف: حالة القتل وكيفيتُه؛ يعني: لا تعذِّبوا خلقَ الله، بل حدِّدوا الشفرة - وهي السكين - ليسهل الذبح. * * *

3112 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهَى أنْ تُصْبَرَ بَهيمةٌ أو غيرُها للقتلِ. قوله: "أن تُصْبَرَ بهيمة للقتل"، (الصبر): الحبس؛ يعني: نهى أن تُجعل بهيمةٌ هدفًا ويُرمى إليها؛ لأنه تعذيب الحيوان. * * * 3114 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتَّخِذُوا شيئًا فيهِ الرُّوحُ غَرَضًا". قوله: "غرضًا": هدفًا، ومعنى هذا الحديث مثلُ الحديث الذي قبله. * * * 3115 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجهِ، وعن الوَسْم في الوجْهِ. قوله: "وعن الوسم"، (الوسم): الكي. * * * 3117 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: غَدَوْتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحةَ - رضي الله عنه - لِيُحَنَّكَهُ، فوافَيْتُه في يدِه المِيسَمُ يَسِمُ إبلَ الصَّدقَةِ. قوله: "ليحنكه"؛ أي: ليجعل تمرًا أو غيره من الحلاوات في حنكه؛ أي: في أقصى فمه؛ لتصل إليه بركة النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فوافيته"؛ أي: وجدته. * * *

3118 - ويُروَى عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في مِربَدٍ، فرأيتُه يَسِمُ شاةً. حسِبْتُهُ قال: في آذانِها. "المِرْبَد": الموضع الذي يكون فيه الغنم. * * * مِنَ الحِسَان: 3119 - عن عَديِّ بن حاتِمٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أرأيْتَ أحدُنا أصابَ صَيْدًا وليسَ معهُ سِكِّينٌ، أيذبحُ بالمَرْوَةِ وشِقَّةِ العَصا؟ فقال: "أَمْرِر الدَّمَ بما شِئْتَ واذْكُرِ اسْمَ الله". قوله: "بالمروة" الحجر؛ يعني: حدَّدَ قطعة حجر وذبح به. "وشقَّةِ العصا"؛ يعني: شق عصًا بنصفين وذبح به. * * * 3120 - عن أبي العُشَراءِ عن أبيه: أنَّه قال: يا رسولَ الله! أما تكُونُ الذَّكاةُ إلَّا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ؟ فقال: "لو طَعَنْتَ في فَخِذِها لأجْزأَ عنكَ". قوله: "اللبة": آخر الحلق قريب من الصدر. "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك"؛ يعني: إذا فر إبل أو غنم أو بقر أو فرس ولم يقدر عليها، جاز قتله بالرمي كالصيد، وها هنا لعله وقع في بئر ولم يقدر على نحرها، فإذا كان كذلك جاز ضربه بالسكين وغيره حتى يموت. * * * 3123 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: نُهينا عنْ صَيْدِ كلبِ المَجُوسِ.

قوله: "نهينا عن صيد كلب المجوس" اعلم أن غير المسلم وغير اليهود والنصارى لا يحل ما ذبحه ولا ما صاده بكلب أو رمي. * * * 3125 - وعن قَبيصةَ بن هُلْبٍ، عن أبيه قال: سَأَلتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ طعامِ النَّصارَى - وفي روايةٍ: سألَهُ رجلٌ فقال - إنَّ مِنَ الطعامِ طعامًا أتَحَرَّجُ منه، فقال: "لا يتَخَلَّجَنَّ في صدركَ شيءٌ ضارَعْتَ فيهِ النَّصْرانِيَّةَ". قوله: "إن من الطعام طعامًا أتحرج منه"، (أتحرج)؛ أي: أتقزز ويفرُّ طبعي منه. قوله: "لا يتحلجن" بالحاء المهملة، وقيل: بالخاء المعجمة؛ أي: لا يتردَّدن في قلبك تقزُّز وتنفُّر الطبع من الطعام، فإنك إن تقزَّزَ وتَنفَّرَ طبعُك من الطعام "ضارعت"؛ أي: شابهت "فيه" - أي: في التقزز - "النصرانية" فإنَّ تقزُّزَ الطعام من عادة النصارى؛ يعني: إذا وجدت طعامًا حلالًا ولم تجد فيه ما يوجب تحريمه من نجاسةٍ واقعة في ذلك الطعام أو في ظرفه لا تتحرز منه. * * * 3126 - عن أبي الدَّرداءِ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكْلِ المُجَثَّمَةِ، وهيَ التي تُصْبَرُ بالنَّبْل. قوله: "تصبر بالنبل"؛ أي: تُجعل هدفًا وتُرمى بالنبل حتى تموت، فأكلها حرام؛ لأن هذا القتل ليس بذبح في الحلق واللبَّة. * * * 3127 - عن العِرْباضِ بن سارِية: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى يومَ خَيْبَرَ عنْ كُلِّ

ذِي نابٍ مِنَ السَّباعِ، وعنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وعنْ لحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، وعنْ المُجَثَّمَةِ، وعنِ الخَلِيسةِ، وأنْ تُوطأَ الحَبالَى حتَّى يضَعْنَ ما في بُطُونهنَّ. قيل: الخَلِيسة ما يُؤخَذُ مِنَ السَّبُعِ فيموتُ قبلَ أنْ يُذَكَّى. قوله: "أنَّ رسولَ الله نهى يومَ خيبر عن كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وعن كل ذي مَخْلَب من الطير"؛ يعني عن أكل لحم هذين النوعين، أراد بكل ذي ناب كل سبع: ما يعدو؛ أي: ما يحمل بنابه؛ أي: بسنِّه على الناس؛ كالذئب، والأسد، والنَّمِر، والفهد والدُّب، والقرد والبَبْرْ (¬1)، ونحوها. وأرد بذي مخلب كل طير: يصطاد بالمخلب؛ كالنسر والصقر، والبازي، ونحوها. قوله: "وأن توطأ الحُبالى"، (الحبالى) جمع الحُبْلى، وهي الحامل؛ يعني: إذا حصَلت جاريةٌ لرجل لا يجوز له أن يجامعَها حتى تضع حملها إن كانت حاملًا، وحتى تحيض إن لم تكن حاملًا وينقطع حيضها. * * * 3128 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شَرِيطةِ الشَّيطانِ، وهيَ التي تُذْبَحُ فيُقْطَعُ الجلدُ، ولا تُفْرَى الأَوداجُ، ثمَّ تُتركُ حتَّى تموتَ. قوله: "فيقطع الجلد"؛ أي: فتقطع جلد حلقه. "ولا تُفْرى"؛ أي: ولا تقطع. ¬

_ (¬1) البَبْر: بباءين موحدتين، الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وهو حيوان معروف يعادي الأسد، ويقال له الغُرانِق - بضم الفاء وكسر النون -. انظر: "المجموع" للنووي (9/ 15). ويقال له الهَدَبَّس، وأنثاه الفَزَارة. انظر: "لسان العرب" (5/ 54)، (مادة: فزر).

2 - باب

"الأوداج": وهي عُروق الحَلْق. * * * 3129 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذَكاةُ الجَنينِ ذَكاةُ أمِّهِ". قوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، (الجنين): الولد ما دام في بطن أمه؛ يعني: إذا ذبحت شاة أو غيرها وفي بطنها جنين ميت حَلَّ أكلُ الجنين؛ لأنه إذا ذُبحت أمُّه فكأنما ذُبح هو. وقال أبو حنيفة: لا يحل أكلُه إلا أن يُخْرَجَ حيًا ويُذبح. * * * 3132 - وعن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ قال: قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وهُمْ يَجُبُّونَ أسْنِمَةَ الإبلِ ويَقْطعُونَ ألْياتِ الغَنَمِ، قال: "ما يُقْطعُ مِنَ البهيمةِ وهيَ حيَّةٌ فهو مَيْتَة". قوله: "يجُبُّون" أي: يقطعون. "أسنمة"، جمع سنام، (الأليات) جمع أَلْية؛ يعني: يقطعون السَّنام والأَلْيةَ في حال الحياة، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: كل عضو قُطع من حيوان فذلك العضو حرامٌ لأنه ميت. * * * 2 - باب (باب ذِكر الكَلْبِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 3133 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقتنَى كَلْبًا إلا

كلبَ ماشيةٍ أو ضارٍ نقصَ من عملهِ كلَّ يومٍ قيراطان". قوله: "من اقتنى"؛ أي: من ادَّخر وحفظ في بيته كلبًا إلا كلبًا له فيه نفع؛ ككلب الماشية وهو الذي يَحْرُس الماشية، وكالكلب الضَّاري وهو الذي يصيد. قوله: "نقص من عمله كلَّ يومٍ قيراطان"؛ أي: نقص من ثواب أعماله الصالحةِ كلَّ يوم قيراطان، وسببه أنه خالفَ رسول الله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اقتناء الكلب؛ لأن الكلب نجسٌ ولم يكن أهل الجاهلية يحترزون عن الكلب، وكأن ثيابهم وفراشهم وأوانيهم تتنجس باتصالها بالكلب، فعظَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إثمَ من خالط الكلب وحَفِظَه في بيته كيلا ينجِّسَ ثيابَ المسلمين وأوانيهم وفراشَهم بالكلب. * * * مِنَ الحِسَان: 3137 - عن عبدِ الله بن مُغفَّلٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأمَرْتُ بقَتْلِها كُلِّها، فاقتُلُوا منها كُلَّ أسودَ بهيمٍ، وما منْ أهلِ بَيْتٍ يَرْتَبطونَ كلبًا إلَّا نقصَ منْ عَمَلِهِمْ كُلَّ يومٍ قِيراطٌ إلَّا كلبَ صَيْدٍ أو كلبَ حَرْثٍ أو كلبَ غَنَم". قوله: "لولا أنَّ الكلابَ أمةٌ من الأمم لأمرت بقتلها كلِّها"، (الأمة): الجماعة؛ يعني: الكلاب خَلْقٌ من خلق الله، وكلُّ جنس من أجناس المخلوقات في خَلْقه حكمة؛ إما لينتفع، أو ليخاف منه، أو ليعتبر منه، أو ليعلم قدرة الله تعالى على خلق الأجناس المختلفة والطباع المتفاوتة، وغير ذلك من الحِكَم، فلما كان في كل جنس من المخلوقات حكمة فلا يحسُن إفناء

3 - باب ما يحل أكله وما يحرم

جنس منها بالكلية؛ لئلا ينقطع جنسُ الكلاب، فنهي عن قتل كلِّها وأمر بقتل بعضها. قوله: "فاقتلوا منها كل أسود بهيم"، (البهيم): الأسود الذي لا بياض فيه، قيل: علته أن الكلب الأسود أكثرُ إضرارًا بالناس، وأقلُّ نفعًا، وأبعدُ من الصيد والحراسة، وأكثرُ نعاسًا. وروي عن أحمد وإسحاق أنهما قالا: لا يحِلُّ صيدُ الكلب الأسود. * * * 3138 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّحريشِ بين البهائمِ. قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التحريش بين البهائم"، (التحريش): إغراء الكلب وغيره من الدواب بعضها على بعض، وحَمْلِ بعضها على نَطْح بعض، أو عَضه. * * * 3 - باب ما يحلُّ أكلُه وما يحرُمُ (باب ما يحل أكله وما يحرم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3139 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السَّباعِ فأكْلُهُ حرامٌ". قوله: "كلُّ ذي ناب من السِّباع فأكلُه حرام"، ذُكر بحثُه في باب الصيد.

رواه أبو هريرة. * * * 3144 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: أنْفَجْنا أرنَبًا بمرِّ الظَّهْران، فأَخَذتُها فأَتيتُ بها أبا طَلْحَةَ، فذبحَها وبَعَثَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بوَرِكِها وفَخِذَيْها فقبلَه. قوله: "أنفَجْنا"؛ أي: أَثَرْنا وهيَّجنا أرنبًا عن موضعه، بِمَرِّ الظَّهران): اسم موضع. * * * 3146 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ خالدَ بن الوليدِ أخبَره أنَّه دخلَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على مَيْمونةَ، وهيَ خالَتُهُ وخالَةُ ابن عبَّاسٍ، فوجدَ عِندَها ضَبًّا مَحْنُوذًا، فقدَّمَتِ الضَّبَّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ عن الضَّبِّ، فقال خالدٌ: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسولَ الله؛ قال: "لا، ولكنْ لمْ يكُنْ بأرضِ قَوْمي فأجِدُني أعافُهُ". قال خالد: فاجْتَرَرْتُهُ فأكلْتُهُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إليَّ. قوله: "محنوذًا"؛ أي: مشويًا. "أجدني أعافه"؛ أي: أجد نفسي أكرهه وأتقذَّر منه. * * * 3149 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنه قال: غَزَوْنا جيْشَ الخَبَط، وأُمِّرَ علينا أبو عُبَيدةَ فجُعْنَا جُوعًا شديدًا، فأَلْقَى لنا البَحرُ حُوتًا ميتًا لم نَرَ مثلَهُ يُقالُ لهُ العَنْبر، فَأَكَلْنا منهُ نِصفَ شَهرٍ، فأخذَ أبو عُبَيدةَ عَظمًا مِنْ عِظامِهِ، فَمَرَّ الراكِبُ تحتَهُ، فلمَّا قَدِمنا ذَكَرْنا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كلُوا رِزقًا أخرجَهُ الله، أطْعِمُونا إنْ كانَ مَعَكُمْ". قال: فأرْسَلْنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنهُ فأكلَهُ.

قوله: "غزوت جيش الخبط"، (الخبط) - بفتح الباء -: الورق الذي يسقط من الشجر بالعصا، سمي هذا الجيش الخبط لأنهم كانوا يأكلون في ذلك الخَبَطَ من الجوع. * * * 3150 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ ليَطْرَحْهُ، فإن في أَحَدِ جَناحَيْهِ شفاءً وفي الآخَر داءً". قوله: "فليغمسه"؛ أي: فليُدْخِلْه فيما في الإناء من الماء أو غيره، وإن كان طعامًا حارًا، ولا بأس أن يموت فيه؛ لأن مَيتَهُ ليست بنجس؛ لأنه ليس له دم سائل. * * * 3151 - وعن مَيْمونةَ: أنَّ فأْرةً وقعتْ في سَمْنٍ فماتتْ، فسُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: "أَلْقُوها وما حَوْلَها وكُلوهُ". قوله: "ألقوها وما حولها"؛ يعني خذوا الفأرة وما حولها من السمن إن كان السمن جامدًا، وما بقي من السمن فهو طاهر؛ لأنه لم يَصِلْ إلى الباقي أثرُ الفأرة؛ لكونه جامدًا، فإن كان مائعًا فقد نجَّس الكلَّ، وعلى هذا فقِسْ جميعَ الطعام والشراب. * * * 3152 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقتُلُوا الحَيَّاتِ، واقتُلُوا ذا الطُّفْيَتَيْنِ والأبْتَرَ، فإنَّهما يَطْمِسانِ البَصَرَ ويَسْتَسْقِطانِ الحَبَل". وقال

أبو لُبابةَ: إنَّه نَهَى بعدَ ذلكَ عنْ ذَواتِ البُيوتِ، وهنَّ العَوامِرُ. قوله: "اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر"؛ يعني اقتلوا جميعَ الحيَّات وبالغوا في قتل ذي الطُّفْيتين، وهي الحية التي على ظهرها خَطَّانِ أسودان. (والأبتر): قصير الذَّنَب من الحية. "فإنهما يَطْمِسان البصر"؛ أي: يخطُفانه لخاصِّيَّة في طباعهما إذا وقع بصرُهما على بصر الإنسان. "ويَستسقطان"؛ أي: يُسقطان الحَبَل؛ أي: الحمل؛ يعني: إذا رأتهما الحاملُ يَسْقُط جنينُها؛ إما لخوفها منهما، وإما لخاصِّيَّة فيهما في إسقاط الحمل. قوله: "ذوات البيوت"؛ يعني: الحيات التي تكون في البيوت، وهنَّ العوامر. (العوامر): جمع عامرة؛ يعني: هذه الحيات لَسْنَ بحيات، بل صنف من الجِنَّ تسكن البيوت. * * * 3153 - ورُوِيَ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لهذهِ البُيوتِ عَوامِرَ، فإذا رأَيْتُم شيئًا منها فحَرِّجُوا علَيْها ثلاثًا، فإنْ ذهَبَ وإلا فاقتُلُوهُ فإنه كافِرٌ". قوله: "إنَّ لهذه البيوت عوامِرَ"؛ أي: إن جماعة من الجن تسكن هذه البيوت على صورة الحيات. "فحرِّجوا عليها"؛ أي: حَلِّفوها ثلاثَ مرات في أوقات متفرقة، فإن ذهب بحيث لا يظهر مرة أخرى فهو المراد، (وإلا)؛ يعني: وإن لم يذهب وعاد بعد ذلك فاقتلوه؛ فإنه إما جنِّيٌّ كافر، وإما حية.

3153/ م - ويُروَى أنّه قال: "إنَّ بالمدينةِ جِنًّا قدْ أسلَمُوا، فإذا رأَيْتُمْ منهمْ شيئًا فآذِنُوهُ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإنْ بدا لكمْ بعدَ ذلكَ فاقتُلُوهُ فإنَّما هو شيطانٌ". قوله: "فآذنوه"؛ أي: فحلِّفوه وقولوا له: بالله عليك أن لا تعود إلينا. "بدا"؛ أي: ظهر. "فإنما هو شيطان"؛ أي: فليس بجني مسلم، بل هو إما جني كافر، وإما حية، أو ولدٌ من أولاد إبليس. * * * 3154 - وعن أمِّ شَريكٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بقتلِ الوَزَغِ، وقال: "كان ينفُخُ على نارِ إبراهيمَ". قولها: "أن رسول الله أمر بقتل الوَزَغِ"، (الوزغ): دُويبة مُؤذية يقال لها: سام أبرص، ويقال له بلسان بعض الفارس: مارتورنك، وكان ينفخ على إبراهيم عليه السلام؛ يعني: ينفخ على النار التي ألقى نَمْرودُ اللعينُ فيها إبراهيمَ عليه السلام ليشعل النار عليه؛ يعني: أَظْهَر عداوةَ نبيِّ الله إبراهيمَ عليه السلام، ومَنْ أظهر عداوة نبيٍّ من أنبياء الله فهو كافر يستوفي فيه الإنسُ وغيرُهم. * * * 3156 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قتلَ وَزَغًا في أوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبتْ لهُ مِئَةُ حسنةٍ، وفي الثَّانيةِ دُونَ ذلكَ، وفي الثَّالِثَةِ دُونَ ذلك". قوله: "من قتل وَزَغًا في أوَّلِ ضَربة كتبت له مئةُ حسنة"؛ يعني: مَنْ قتله بأول ضربة فقد بالغ في ضربه لاشتداد غضبه عليه, وإذا بالغَ في ضرب عدوٍّ من أعداء نبيًّ من أنبياء الله فقد استحقَّ أجرًا كاملًا، ومن قتله بضربتين لم يبالغْ في

ضربه، فلم يكن أجرُه كأجر مَنْ بالغ في قتله. * * * 3157 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قَرَصَتْ نَمْلة نبيًّا مِنَ الأنبياءِ، فأَمَرَ بقريةِ النَّمْلِ فأُحْرِقَتْ، فأوْحَى الله إليهِ أنْ قَرَصَتْكَ نملةٌ أحْرقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُممِ تُسبحُ. قوله: "قَرَصَت"؛ أي: لَدَغت. (قرية النمل): مَسْكنها. قوله: "أحرقت أمة"؛ أي: جماعة وجنسًا من مخلوقاتي. هذا صريح بأنَّ قتلَ النملِ غيرُ جائز. * * * مِنَ الحِسَان: 3159 - عن سَفِينةَ قال: أكلتُ مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَحْمَ حُبارَى. قوله: "لحم حبارى"، (الحُبارى): نوع من الطير يقال له بالفارسي: جرز. * * * 3160 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ أكل الجَلالَةِ وألْبانِها. ويُروَى: أنَّه نَهَى عن رُكوبِ الجلالةِ. قوله: "نهى عن أكل الجلَّالة وألبانِها"، (الجلالة): الدإبة التي تأكل النجاسة، فإن لم يظهر في لحمها نَتَنٌ فلا بأس بأكل لحمها، وإن ظهر في لحمها

نتنُ النجاسةِ حَرُمَ أكلُها إلا أن تُحبس أيامًا، وتَعْلِف من غيرها حتَّى يَطِيبَ لحمُها، وهو قول الشافعي وأبو حنيفةَ وأحمدَ. ويروى: أن البقر يعلف أربعين يومًا، ثم يؤكل، وكان ابن عمر يَحْبس الدجاجَ ثلاثًا، وكان الحسنُ لا يرى بأسًا بأكل لحوم الجلَّالة، وهو قول مالك. وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن تُغْسل غسلًا جيدًا، وروى نافع عن ابن عمر قال: نهى عن ركوب الجلالة. وإنما كَرِهَ ركوبَها؛ لأنها إذا عَرِقَت تنتن رائحتها كما ينتن لحمها. 3161 - وعن عبدِ الرَّحمن بن شِبْلٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ أكلِ لحمِ الضَّبِّ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكلِ الضَّبِّ"، قال أصحاب الحديث: إسناد هذا الحديث ضعيف، بل الأحاديث الصحيحة قد جاءت بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الضبُّ لا آكلُه ولا أحرِّمه". وبهذا قال الشافعي ومالك؛ فإنهما يُبيحان أكلَ الضب، وحرَّمه أبو حنيفة. * * * 3162 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ أكلِ الهرَّةِ وَعن ثمنِها. قوله: "نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها"، أكل الهرِّ حرامٌ بالاتفاق، وأما جواز بيعها وأكل ثمنها: فيه خلاف ذكرناه في (كتاب البيوع). * * * 3164 - عن خالدِ بن الوَليدِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ أكلِ لحُومِ

الخَيْلِ والبغالِ والحَميرِ. قوله: "نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير"، لحم البغل والحمار حرام بالاتفاق، وأما لحم الخيل - أي: الفرس - فحلال عند الشافعي وأحمد، وحرام عند أبي حنيفة ومالك. * * * 3165 - وقال: "ألا لا تحِلُّ أموالُ المُعاهِدينَ إلَّا بحقِّها". قوله: "لا تحل أموال المُعاهِدين إلا بحقِّها"، إن أراد بالمعاهِدين أهلَ الذِّمة فحقُّ أموالِهم الجزيةُ، فإذا أعطونا الجزيةَ لا يجوز لنا أخذُ شيء من أموالهم غيرِ الجزية، وإن أرادوا بالمعاهِدين الكفارَ والذين جاءوا من دار الحرب إلى دار الإسلام لتجارةٍ فحقُّ أموالهم أخذُ عُشْرِ تجاراتهم. روى هذا الحديثَ "خالدُ بن الوليد". * * * 3167 - ورُوِيَ عن أبي الزُّبَيرِ عن جابرٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ألقاه البحرُ أو جَزَرَ عنهُ فكُلوهُ، وما ماتَ فيهِ وطَفا فلا تأكُلوه"، والأكثرون على أنَّه موقوفٌ على جابرٍ. قوله: "جزر عنه الماء"؛ أي: ذهب عنه الماء وبقيَ على وجه الأرض. قوله: "وطفا"؛ أي: ظهر على وجه الماء بعد أن مات، ومذهب أبي حنيفة أنَّ السمكَ إذا مات في البحر وطَفَا فهو حرام. * * *

3168 - ورُوِيَ عن سلمانَ - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الجرادِ فقال: "أكثرُ جُنودِ الله، لا آكُلُهُ ولا أُحَرِّمُه"، ضعيف. قوله: "أكثر جنود الله"؛ يعني: إذا أراد الله أن يعذِّبَ في الدنيا خَلْقًا أرسل إليهم جرادًا ليأكل زُروعَهم وأشجارَهم ويظهر فيهم القَحْط، وأكل الجراد حلال بالاتفاق، وقيل: ما مات منه قبل أن يُؤخذ فمكروهٌ أكلُه. * * * 3170 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن أبي ليلى - رضي الله عنه - قال: قال لي أبو ليلى: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ظَهَرتِ الحيَّةُ في المَسْكَنِ فقولوا لها: إنّا نسألُكِ بعهدِ نُوحٍ وبعهدِ سُليمانَ بن داودَ أنْ لا تُؤْذِيَنا، فإنْ عادتْ فاقْتُلُوها". قوله: "إذا ظهرت الحيَّةُ في المَسْكن فقولوا لها: إنَّا نسألك بعهد نوحٍ وبعهد سليمانَ بن داودَ أن لا تؤذينا". * * * 3171 - ورَوَى أيوبُ عن عِكرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: لا أعلَمُهُ إلّا رفعَ الحديثَ أنَّه كانَ يأْمُرُ بقتلِ الحَيَّاتِ، وقَال: "مَن تَرَكَهُنَّ خَشْيةَ ثائِرٍ فليسَ مِنَّا". قوله: "من تركهن خشية ثائر فليس منا", (الثائر): الانتقام، عادة الناس جرت بأن يقولوا: لا تقتلوا الحيات فإنكم لو قتلتم حية لجاء زوجُها ويَلْسَعُكم للانتقام، فنهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا القول والاعتقاد وقال هذا الحديث؛ يعني: لا تتركوا قتل الحيات من خوفِ انتقامِ أزواجهنَّ، فإنه لا أصلَ لهذا القولِ والاعتقاد. * * * 3172 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما سالمناهُمْ منذُ

حاربناهُمْ، ومَنْ تركَ منهُمْ شيئًا خِيفةً فليسَ مِنَّا". قوله: "ما سالمناهم منذ حاربناهم"، (سالم)؛ أي: صَالَح؛ يعني: ظهرت بيننا وبين الحيَّات عداوةٌ بأن أدخلْنَ إبليس الجنة ليوسوِس أبانا آدمَ وأمَّنا حواءَ - عليهما السلام -، ولم يَجْرِ بيننا وبينهنَّ صلحٌ بعد تلك العداوة، وحقُّ قوله: "ما سالمناهم" أن يقول: (ما سالمناهنَّ)؛ لأن لفظ (هم) إنما يقال لجماعة المذكَّرين من العقلاء، وليست الحيات من العقلاء، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما سالمناهم"؛ لأن المسالمة هي المصالحة، والمصالحة إنما تجري بين العقلاء، فلما عبَّرَ عن الحيات بالمسالمة جعل ضميرَهم كضمير العقلاء. * * * 3174 - وقال العبَّاسُ - رضي الله عنه - لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا نريدُ أنْ نكْنُسَ زمزَمَ وإنَّ فيها مِنْ هذهِ الجِنَّانِ - يعني الحيَّاتِ الصِّغارَ - فأمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِهِنَّ. قوله: "أن نَكْنُس"؛ أي: أن نظهر بئر زمزم. * * * 3175 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: اقتُلُوا الحيّاتِ كُلَّها إلَّا الجانَّ الأبيضَ الذي كأنَّه قضيبُ فِضَّةٍ. قوله: "كأنه قضيب فضة"؛ أي: كأنه سَوط من فضة؛ أي: أبيض كله، ولعل النهي عن مثل هذا النوع من الحيات لأنه لا سُمَّ له. * * *

3176 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكُمْ فامْقُلُوهُ ثمَّ انقُلُوه، فإنَّ في أحدِ جناحَيْهِ داءً وفي الآخرِ شِفاءٍ، وإنّه يتَّقي بجناحِهِ الذي فيهِ الدَّاءُ، فلْيغمِسْهُ كُلَّهُ". قوله: "يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، تَقِيَ زيدٌ لحق عمرو: إذا استقبله؛ أي: قدَّم إليه حقَّه؛ يعني هنا بقوله: (يتقي): أنه يقدَّم جناحه الذي فيه الداء ويَغْمِسه في الإناء، ولا يغمس جناحَه الذي فيه الشفاء. * * * 3177 - ويرويه أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقعَ الذُّبابُ في الطَّعامِ فامقُلُوهُ، فإن في أحدِ جناحَيْهِ سُمًّا وفي الآخرِ شِفاءً، وإنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤخرُ الشِّفاءَ". قوله: "فامقُلوه"؛ أي: فاغمِسوه. * * * 3178 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ قتلِ أربعٍ مِنَ الدَّوابِّ: النَّملةِ والنَّحْلةِ والهُدْهُدِ والصُّرَدِ. والله المُستعان. قوله: "الصُّرَد"، هو طائر أبْقَع، ضخم الرأس والمِنْقار، له ريش عظيم نصفُه أبيضُ ونصفه أسود. * * *

4 - باب العقيقة

4 - باب العقِيقةِ (باب العقيقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3179 - عن سلمانَ بن عامِرٍ الضَّبيِّ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مع الغُلامِ عَقيقةٌ، فأَهْريقُوا عنه دمًا، وأمِيطُوا عنهُ الأذَى". قوله: "مع الغلام عقيقة"؛ يعني: مع ولادة الغلام تُذبح شاة ويُصنع بها ما يُصنع بلحم الأضحية. والعقيقة: اسم تلك الشاة، ويستحب أن تُذبح العقيقةُ يومَ السابع، ويسمِّي المولودَ يوم السابع، ويحلِق رأسَه يوم السابع، ويتصدق بِزِنةَ شعره فضَّة، فإن لم يتيسَّرْ ذَبْحُ العقيقةِ في السابع يَذبح في الرابع عشر، فإن لم يتيسَّرْ فيه ففي الحادي والعشرين. وقال الحسن البصري: يُطْلى رأسُ الصبي بدم العقيقة. وكرِهَه الأكثرون. قوله: "وأمِيطوا عنه الأذى"؛ أي: أبعدوا عنه الأذى؛ أي: احْلِقوا رأسَه. * * * 3180 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُؤتَى بالصِّبيانِ فيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ ويُحنِّكُهم. قوله: "فيبرَّك عليهم"؛ أي: يدعو لهم بالبركة بأن يقول: بارك الله عليك.

"ويحنكهم"، (التحنيك): أن يُمْضَغَ تمرٌ ويُمسح بذلك التمر حنكَ الصبيِّ، ويقوم العَسَلُ مقامَ التمر (¬1). * * * 3181 - وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنها: أنَّها حَمَلتْ بعبدِ الله ابن الزُّبَيْرِ بمكَّةَ، قالت: فولدتُ بقُباءٍ, ثمَّ أتيتُ بهِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فوضَعتُهُ في حَجْرِهِ، ثمّ دعا بتَمْرةٍ فمضَغَها ثمَّ تَفَلَ في فيهِ، ثمَّ حنَّكَهُ، ثم دعا لهُ وبَرَّكَ عليهِ، فكانَ أوَّلَ مولودٍ وُلِدَ في الإِسلامِ. قوله: "تَفَل في فِيه"؛ أي: ألقى ذلك التمرَ في فيه. "ثم حنَّكه"؛ أي: يمسح بذلك التمر حَنَكَه، و (الحنك): قَعْر الفم. "وبرَّك عليه"؛ أي: قال: بارك الله عليك. "وكان أول مولود ولد في الإسلام"؛ أي: أول مولود وُلد من المهاجرين بعد الهجرة إلى المدينة. * * * مِنَ الحِسَانَ: 3182 - عن أمِّ كُرْزٍ: أنَّها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أقِرُّوا الطَّيرَ على مَكِناتِها". قالت: وسمعتُهُ يقول: "عنِ الغُلامِ شاتانِ وعنِ الجاريَةِ شاةٌ، ولا يَضُرُّكُمْ ذُكْرانًا كُنَّ أو إناثًا"، صحيح. "أقرُّوا الطيرَ على مَكِناتها"، (المَكِنات): جمع مَكِنة، وهي بمعنى التمكُّن؛ ¬

_ (¬1) في "م" زيادة: "وكذلك جميع الحلاوة".

أي: اتركوا الطيور على حالها في موضعها؛ أي: لا تنفِّروها، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث؛ لأن العرب كانوا إذا سافر واحد منهم ينفِّر في طريقه طائرًا عن موضعه، فإن طار من جانب يساره إلى يمينه سمَّاه سانحًا وتفاءل به = يَمَّنَ السفر؛ لأنه إذا طار من جانب يساره إلى يمينه يكون يمين ذلك الطائر إليه فيعدُّه مَيمونًا، وإن طار من جانب يمينه إلى يساره سَمَّاه بارحًا وتشاءم به؛ لأنه إذا طار من جانب يمينه يكون يسار ذلك الطائر إليه فيعدُّه مشئومًا، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الفعل. قوله: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة"، يجوز عن الغلام شاتان ويجوز شاة، وعن الجارية شاة، كلاهما قد جاء في الحديث، وصفةُ شاةِ العقيقة كشاة الأضحية، وما لا يجوز في الأضحية لا يجوز في العقيقة. وقال ربيعة ومحمد بن إبراهيم التيمي: تجوز العقيقة ولو بعُصْفور، ولا يضرُّكم ذكرانًا كنَّ أو إناثًا؛ يعني: شاة العقيقة جاز أن تكون ذكرًا أو أنثى. * * * 3183 - وعن الحَسَنِ، عن سَمُرةَ: أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعقيقتِهِ يُذبَحُ عنهُ يومَ السابعِ ويُسمَّى ويُحْلَقُ رأْسُه"، ورَوى بعضُهم: "ويُدَمَّى" مكانَ "ويُسمَّى". قوله: "الغلام مرتهن بعقيقته"، (مرتهن) - بفتح الهاء - يعني: مرهون؛ أي: المولود معلَّق ومَحْبوس بعقيقته؛ أي: تحصل سلامته من الآفة إذا ذُبح له عقيقة، وقيل: معلَّق شفاعته لأبويه بعقيقته؛ أي: إن لم يذبحا عقيقته - مع القدرة - لا يشفع لهما يومَ القيامة لأنَّهما لم يقضيا حقَّه. قوله: "ويُدَمَّى"؛ أي: يُلَطَّخ موضعٌ من الصبي بدم العقيقة، وكان قَتادةُ يقول: يؤخذ قطعة صوف ويوضع على أوداج العقيقة إذا ذُبحت لينصبَّ الدمُ عليها،

ثم توضع على يافوخ الصبي. والأوداج: عُروق الحَلْق. واليافوخ: مؤخرة الرأس عند القَفَا. * * * 3186 - عن عمرِو بن شُعَيْب - رضي الله عنه -، عن أبيه، عن جدِّه قال: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ العَقِيقةِ فقال: "إن الله تعالى لا يُحبُّ العُقُوقَ". كأنَّه كرِهَ الاسمَ. وقال: "مَنْ وُلِدَ لهُ فأَحبَّ أنْ يَنسُكَ عنهُ فلْيَنْسُكْ، عنِ الغُلامِ شاتانِ، وَعنِ الجارِيَةِ شاةٌ". قوله: "لا يحب الله العقوق"، قال أبو حنيفة: العقيقة ليست سنة لهذا الحديث. وقال غيره: بل هي سنة وتأويل هذا الحديث: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما أحبَّ أن يسميَ العقيقة عقيقةً كيلا يظنَّ أحدٌ أنها مشتقةٌ من العقوق، وكيلا يتلفظَ الناسُ بلفظ فيه حروف العُقوق - والعقوق: العصيان -، بل أحبَّ أن تُسمى الشاة التي تذبح عند ولادة الولد باسمٍ غيرِ العقيقة بأن تسمَّى نسَيكة أو ذَبيحة، وكراهيتُه - صلى الله عليه وسلم - اسمَ العقيقة مثلَ كراهيتِه - صلى الله عليه وسلم - الأسماءَ القبيحة كما يأتي في (باب الأسماء). قوله: "كأنه كره الاسم"، هذا التفير ظَنٌّ من الراوي في أنَّ رسول الله كره أن يسمِّي تلك الشاةَ عقيقةً، فيحتمل أن يكون ما ذكر كما قررناه، ويحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحبُّ الله العقوق" معناه: لا يحب الله عقوق الوالد الولد بترك العقيقة؛ أي: لا يحب الله أن يترك الوالدُ ذبحَ شاةٍ للمولود، ويحتمل أن يكون معناه: لا يحبُّ الله عقوقَ الولدِ الوالدَ بعد أن أثبت الوالدُ حقوقًا على الولد حتى ذبحَ العقيقةِ له.

قوله: "من ولد له ولد". هذا من تمام الحديث؛ أعني: من تمام ما رواه عمرو بن شعيب. * * * 3187 - وعن أبي رافِعٍ عنه قال: رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ في أُذُنِ الحسنِ ابن عليٍّ حينَ ولدَتْهُ فاطِمةُ بالصَّلاةِ. صحيح. قوله: "أذَّن في أُذُن الحسنِ بن علي"؛ يعني: السنة أن يؤذن في أذن المولود حين يولد أذانًا كأذان الصلاة، وكان عمر بن عبد العزيز يؤذن في الأُذن اليمنى، ويُقيم في الأذن اليسرى حين ولد الصبي. ° ° °

19 - كتاب الأطعمة

19 - كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

[19] كِتَابُ الأَطْعِمَةِ (كتاب الأطعمة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3188 - قال عمرُ بن أبي سلمةَ - رضي الله عنه -: كنتُ غُلامًا في حَجْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانتْ يَدي تَطيشُ في الصَّحْفَةِ، فقال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمِّ الله، وكُلْ بيمينِكَ، وكُلْ ممَّا يَليكَ". قوله: "كنت غلامًا"؛ أي: كنت صبيًا. "في حِجْرِ رسول الله"؛ أي: في تربيته؛ أي: كانت أمي زوجتَه. "وكانت يدي تَطِيش"، ومعنى (تطيش): تُسرع، والمراد بهذا اللفظ: أنَّ يدَه تتردَّد في حوالي القَصْعة، وكان يأكل من كل جانب. (الصحفة): وهي القَصْعة. "وكل مما يليك"، (يليك)؛ أي: يقربك؛ يعني: كُلْ من جانبك، ولا تأكلْ من جانبٍ آخَر. * * *

3189 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّيطانَ يَستحِلُّ الطعامَ أنْ لا يُذكرَ اسمُ الله عليهِ". قوله: "إن الشيطان يستحِلُّ الطعام"؛ يعني: الشيطانُ جوَّز أكلَ طعامٍ لم يُسَمِّ الله آكلُه عند أكله، ويعتقده حلالًا ويأكل معه، فإذا ذَكَرَ اسمَ الله لم يأكل معه، ولم يجوِّز أكله. روى هذا الحديثَ حذيفة - رضي الله عنه -. * * * 3190 - وقال: "إذا دخلَ الرَّجلُ بيتَهُ فذكرَ الله عندَ دُخولِهِ وعندَ طعامِهِ قالَ الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لكُمْ ولا عَشاءَ، وإذا دخلَ فلمْ يذكُرِ الله عندَ دُخولِهِ قالَ الشيطانُ: أدركْتُمُ المَبيتَ، وإذا لمْ يَذْكُرِ الله عندَ طعامِهِ قال: أدركْتُمُ المَبيتَ والعَشاءَ". قوله: "لا مَبيت لكم ولا عشاء"، (المبيت): مكان، أو مصدر مِنْ: بات يَبيت، و (العشاء) - بفتح العين -: الطعام الذي يؤكل في وقت العشاء، ويستعمل فيما يُؤكل في غير العشاء؛ يعني: يقول الشيطان لأولاده: لا يحصل لكم مسكن وطعام في هذا البيت؛ لأنه سمَّى الله، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل البيت؛ يعني: يقول الشيطان على سبيل الدعاء على أهل البيت: "لا مبيت لكم"؛ أي: جعلكم الله محرومين كما جعلتُموني محرومًا من المبيت والطعام بأن ذكرتم اسمَ الله. روى هذا الحديثَ جابر، وروى الحديثَ الذي بعده ابن عمر - رضي الله عنهما -. * * *

3193 - عن كعبِ بن مالكٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ بثلاثِ أصابعَ ويَلْعَقُ يدَهُ قبلَ أنْ يمسحَها. قوله: "قبل أن يمسحها"؛ أي: قبل أن يمسحها بشيء. * * * 3195 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامَه فلا يَمسحْ يَدَهُ حتَّى يَلعقَها أو يُلعِقَها". قوله: "حتَّى يَلْعَقها" - بفتح الياء والعين - يعني: يَلَعقها بنفسه، "أو يُلْعِقها" - بضم الياء وكسر العين -؛ أي: يأمر أحدًا بلعق يده. * * * 3196 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الشَّيطانَ يحضُرُ أحدَكُمْ عندَ كُلِّ شيءٍ مِنْ شأْنِهِ حتَّى يحضُرَهُ عندَ طعامِهِ، فإذا سقَطَتْ منْ أحدِكُمْ اللُّقْمَةُ فلْيُمِطْ ما كان بِهَا مِنْ أذًى ثمَّ ليأكُلْها ولا يدَعْها للشَّيطانِ، فإذا فرغَ فلْيَلْعَقْ أصابعَهُ فإنَّهُ لا يَدْري في أيَّ طَعَامِهِ تكونُ البركَةُ". قوله: "فإذا سقطت من يد أحدكم اللقمةُ فلْيُمِطْ ما كان بها من أذى"؛ أي: فليبعده وليُزِلْ ما كان بها من تراب، وليأكله بشرط أن يكون ما سقطت عليه اللقمة من أرض أو غيرها طاهرًا، فإن كان نجسًا لا يجوز أكلُه، بل يُطْعمه هرَّةً أو كلبًا. * * * 3197 - عن أبي جُحَيْفة - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكلُ مُتَّكِئًا".

قوله: "لا آكل متكئًا"، يحتمل أن يريد بالاتكاء هنا: أن يَسْنُدَ ظهرَه إلى شيء، أو يضعَ إحدى يديه على الأرض، ويتَّكأ عليها، أو يقعُدَ متكئًا على الأرض ويستوي جالسًا، كلُّ ذلك منهيٌّ عند الأكل؛ لأن فيها تكبُّرًا. قال الخطابي: الاتكاء هنا: أن يقعد متمكِّنًا مستويًا جالسًا، بل السنَّةُ أن يقعُد عند الأكل مائلًا إلى الطعام مُنحنيًا. * * * 3198 - وعن قَتادةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: ما أكلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبزَ لهُ مُرَقَّقٌ. قيل لقتادةَ: علامَ يأكُلونَ؟ قال: على السُّفَرِ. قوله: "ولا في سُكُرُّجَة"؛ أي: ولا في قَصْعة صغيرة، وفارسيتها: سكرة، وإنما لم يأكل من السُّكُرُّجة؛ لأن في الأكل منها تكبّرًا، ولأنها من علامة البخل. قوله: "ولا خبز له مرقق"، (خبز) ماض مجهول. (المرقق): الخبز الرقيق، وفي هذا أيضًا تكبر وتنعُّم. قوله: "على السُّفَر"، هي جمع سُفْرة، وهي معروفة. * * * 3199 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: ما أعلمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى رغيفًا مُرقَّقًا حتَّى لحِقَ بالله، ولا رأَى شاةً سَميطًا بعَيْنِهِ قطُّ. قوله: "رغيفًا", (الرغيف): الخبز. "سَميطًا"؛ أي: مَشْويًا مع جِلْده بعد تنقيته من الشَّعر، وفي هذا تنعُّم، فلهذا لم يأكله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * * *

3200 - وعن سهلِ بن سعدٍ - رضي الله عنه - قال: ما رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّقيَّ منْ حِينِ ابتعثَهُ الله حتَّى قبضَهُ الله. وقال: ما رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنخُلًا مِنْ حِينِ ابتعثَهُ الله حتَّى قبضَهُ الله. قيل: كيفَ كُنْتُمْ تأكلُونَ الشَّعيرَ غيرَ منخُولٍ؟ قال: كنَّا نَطحَنُهُ وننفخُهُ فيطيرُ ما طار، وما بقي ثَرَّيْناهُ فأكلناه. قوله: "النقي"؛ أي: خبز الحنطة المنقَّاة. "من حين ابتعثه الله"؛ أي: من حين أُوحي إليه إلى أَنْ فارق الدنيا. قوله: "ننفخه"؛ أي: ننفخ فيه الريح بأفواهنا فيذهب بعضُ نُخَالته. "ثم ثريناه"؛ أي: عَجَنَّاه. * * * 3202 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ يأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافرُ يأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ". 3203 - وفي روايةٍ: "المُؤْمنُ يشربُ في مِعًى واحدٍ، والكافرُ يشربُ في سَبعةِ أمعاءٍ". قوله: "إن المؤمنَ يأكل في مِعًى واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"، (المعاء): ما يَدْخُلُه الطعامُ من بطن الإنسان. روى هذا الحديثَ أبو هريرة - رضي الله عنه -، ورواه أيضًا مفسَّرًا بحيث يحصُل منه شرحُ هذا الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَافَه كفرٌ، فأمر له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فَحُلبت، فشرب حِلابها، ثم أمر له بأخرى فشرب حِلابها، حتى شرِبَ سبْعَ شيَاه، ثم إنه أصبح فاسلم، فأمر له رسولُ الله بشاة فحُلبت، فَشَرِب، ثم أمرَ له بأخرى فلم يستتمَّها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ يشربُ

في مِعَاءٍ واحد، والكافرُ يشربُ في سبعةِ أمعاء". قال أبو عُبيدة كان هذا خاصًا لهذا الرجل؛ لأنك ترى من المسلمين مَنْ يَكْثُر أكلُه، ومن الكفار من يَقِلُّ ذلك منه، وحديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا خُلْفَ له. قال أبو عُبيد: يرى ذلك لتسمية المؤمن عند الطعام، فيكون فيه البركة، وقيل: هو مَثَلٌ ضربه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمؤمن وزهده في الدنيا، وللكافر وحرصِه على الدنيا، فالمؤمن يأكل بُلْغة وقوتًا عن الحاجة، والكافر يأكل شَهوة وحِرصًا طلبًا للذة، فهذا يُشْبعُه القليلُ، وذلك لا يشبعه الكثيرُ. "ضافه كافر (¬1) "؛ أي: نزل به ضيفٌ كافر. "حِلابها"؛ أي: لبنها. "فلم يستتمَّها"؛ أي: فلم يقدر أن يشرب لبن الشاةِ الثانية على التمام. (البُلْغة): الكَفاف. * * * 3205 - وفي روايةٍ: "طعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَيْنِ، وطعامُ الاثنَيْنِ يَكفي الأَربعَةَ، وطعامُ الأَرْبَعَةِ يَكفي الثَّمانِيةَ". قوله: "طعام الواحد يكفي الاثنين"؛ يعني: لا يموت الإنسان من الجوع إذا أكل نصفَ الشَّبَع، بل يَقْنعَ بنصف الشَّبَع. والغرض من هذا الحديث: أن الرجل ينبغي له أن يشبَعَ بنصف الشبع، ويُعطي ما زاد عليه محتاجًا. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "ضيف" بدل "كافر".

روى هذا الحديثَ "أبو هريرة". * * * 3206 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "التَّلْبينَةُ مُجِمَّةٌ لفُؤادِ المريضِ، تَذهبُ ببعضَ الحُزْنِ". قوله: "التلبينة مَجَمَّة لفؤاد المريض، تَذْهب ببعض الحزن". (التلبينة): حِساء من دقيقٍ ولبن، وربما يُجعل فيه عَسل. (مجمة)؛ أي محصِّلة لراحة قلب المريض. (تَذْهب ببعض الحزن): تزيل الحُزْن والضَّعف. * * * 3209 - عن عمرِو بن أُمَيَّةَ: أنَّهُ رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحتزُّ مِنْ كَتِفِ شاةٍ في يدِهِ، فدُعيَ إلى الصَّلاةِ فألقاها والسِّكِّينَ التي يحتزُّ بها، ثمَّ قامَ فصلَّى ولمْ يتوضَّأْ. قوله: "يَحَتزُّ"؛ أي: يقطع. * * * 3211 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سألَ أهلَهُ الأُدْمَ، فقالوا: ما عِندَنا إلا خَلٌّ، فدَعا بهِ فجعلَ يأكُلُ ويقول: "نِعْمَ الإِدامُ الخلُّ، نِعْمَ الإدامُ الخلُّ". "فجعل"؛ أي: فَطَفِق. "يأكل به"؛ أي: يأكلُ الخبزَ بذلك الخَل. * * *

3212 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الكَمْأَةُ منَ المَنِّ، وماؤُها شِفاءٌ للعَيْن". وفي روايةٍ: "مِنَ المَنِّ الذي أنزلَ الله تعالى على موسى عليه السَّلام". قوله: "الكمأة من المن"، (الكمأة): شيء أبيض مثل شحم يَنْبُت من الأرض، يقال بلسان بعض الناس: شحم الأرض، ويقول لها بعض أهل فارس بلسانه: أكل. وقالوا: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الكمأة من المن"؛ أي: الكمأة نعمةٌ أنبتها من الأرض للناس بلا تعب الناس، فهي كالمَنِّ الذي أنزله الله علي بني إسرائيل من غير تعب. قوله: "وماؤها شفاء للعين"، قيل: يُخلط ماؤها بشيء من أدوية كحل العين ثم يجعل في العين فيحصل به الشفاء، وقيل: بل يجعل ماؤها مُفْردًا في العين. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أخذت ثلاثة أكماء أو خمسة أو سبعة فعصرْتُهنَّ فجعلتُ ماءهن في قارُورة كحَّلْتُ به جاريةً فبَرَأت. وما قاله أبو هريرة أصحُّ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وماؤها شفاء العين"، ولم يذكر أنه يُخلط بشيء. روى هذا الحديثَ سعيد بن زيد. * * * 3214 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بمَرِّ الظَّهْرانِ نَجْني الكَباثَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكُمْ بالأسودِ منهُ فإنَّهُ أطيبُ". فقيلَ: أكنتَ ترعَى الغنمَ؟ فقال: "نعمْ، وهلْ مِنْ نبيٍّ إلَّا رَعاها".

قوله: "بمَرِّ الظَّهْران": هو اسم موضع قريب من المدينة. "الكَبَاث": ثمر شجر الأراك. "عليكم بالأسود"؛ أي: اقصدوا جَنْيَ ما كان أسود من الكَبَاث. "فإنه أطيب"؛ أي: أكثر لذة. "أكنت ترعى الغنم"؛ يعني: تعرف أطيبَ الكَبَاثِ من غير أطيبه من رعي الغنم - لأنه يكثر تردده تحت الأشجار -، فهل رعيتَ الغنم حتى تعرِفَ الأطيب من الكباث؟ قال: "نعم، وهل من نبيٍّ إلا رعاها"؛ أي: رَعَى الغنمَ، والعلة في رعي الغنم ليظهرَ صبرُهم وحِلْمهم وشفقتهم على الدواب حتى إذا أُوحي إليهم تكون أنفسُهم معتادةً مذلَّلة فيسهل عليهم الصبرُ في تربية الأمة مع اختلاف طباعهم، وسوء أدبهم، وقلَّة عقولهم. * * * 3215 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُقْعِيًا يأكُلُ تَمرًا. وفي روايةٍ: يأكُلُ منهُ أكلًا ذَريعًا. قوله: "مُقْعِيًا"، هذا اسم فاعل من (الإقعاء) وهو: أن يجلس على وَرِكَيه وينصِبَ ركبتيه وتكون تحت قدمِه على الأرض. قوله: "أكلًا ذريعًا"؛ أي: سريعًا. * * * 3216 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقْرُنَ الرَّجلُ بينَ التَّمرتَيْنِ حتَّى يستأْذِنَ أصحابَهُ.

قوله: "أن يَقْرِنَ بين التمرتين". قال الخطابي: إنما لا يجوز أن يأكل الرجل تمرتين بدفعة بغير إذن أصحابه إذا كان زمانَ قَحْطٍ، أو كان الطعامُ قليلًا والآكلون كثيرًا، فأما إذا كان الطعامُ كثيرًا بحيث يشبَعُ منه جميعُ الآكلين لم يكن بأس بأن أخذ أحدهم تمرتين في دفعة واحدة، أو يجعل لقمته كبيرة، هذا إذا أضافهم أحدٌ، فإن كانوا قد خَلَطوا طعامَهم هل يجوز أم لا؟ قال الأئمة: جاز أن يَخْلِط جماعةٌ طعامَهم ويأكلوا معًا، وحينئذ لا يقصد الرجل منهم أن يجعل لقمتَه أكبر من لقمة صاحبه، فإن اتفق أكلُ أحدِهم أكثرَ بلا قصدٍ جازَ. * * * 3218 - وقال: "يا عائشةُ! بيتٌ لا تمرَ فيهِ جِياعٌ أهلُهُ"، قالها مرَّتينِ أو ثلاثًا. قوله: "بيت لا تمر فيه جياع أهله"، (الجياع): جمع جائع، هذا الحديث يدل على أن كل بيت لا تمر فيه يجوع أهلُه، وإن كان فيه الخبز وغيره من الأطعمة، وليس الأمرُ كذلك، بل مرادُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحديث أهلَ المدينة، ومَنْ كانت عادتُهم أن يكون التمرُ قوتَهم وليس لهم الخبز، أو يكون لهم الخبز ولكن اعتادوا أن لا يشبعوا بالخبز دون التمر، ويحتمل أن يريد - صلى الله عليه وسلم - تعظيم شأن التمر كيلا يحتقرَ الناسُ التمرَ الذي هو نعمةٌ من نِعَمِ الله. * * * 3219 - وقال: "من تصبَّحَ بسبعِ تَمَراتٍ عَجْوَةً لمْ يضُرَّهُ في ذلكَ اليومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ".

قوله: "من تَصَبَّح بسبع تَمَرات عجوةً لم يضرَّه ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحر". (تصبَّح)؛ أى: أكل في وقت الصباح قبل أن يطْعَمَ شيئًا آخر. (العجوة): نوع من التمر، يحتمل أن يكون في ذلك النوعِ من التمر خاصيةٌ بدفع السمِّ والسحر، ويحتمل أن يكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لذلك النوع من التمر بالبركة بأن يكون فيه الشفاء من الدَّاء. روى هذا الحديثَ سعد بن أبي وقَّاص. * * * 3220 - وقال: "إنَّ في عَجْوَةِ العالِيَةِ شِفاءً، أو إنَّها تِرْيَاقٌ أوَّلَ البُكْرَةِ". قوله: "إن في عَجْوة العالية شفاءً"، (العالية): اسم موضعٍ قريبٍ من المدينة. "وإنها تِرْياق أولَ البُكْرة"؛ يعني: أكلها في وقت الصباح يفيد كما يفيد التِّرْياق. روى هذا الحديثَ عائشة. * * * 3221 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ يأتي علينا الشَّهرُ ما نُوقِدُ فيهِ نارًا، إنَّما هو التَّمرُ والماءُ، إلا أنْ نُؤتَى باللُّحَيْمِ. قولها: "ما نُوقد فيه نارًا"؛ يعني: لا نطبخ شيئًا إلا أن يُؤتى باللحم؛ يعني: إلا أن يحصُل لنا لحم، فحينئذ نوقد النار ونطبخه، وباقي الشهر نأكلُ التمر بدل الخبز. * * *

3222 - وقالت: ما شَبعَ آلُ محمَّدٍ يَومَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ إلا وأحدُهُما تَمرٌ. قولها: "إلا وأحدهما تمر"؛ يعني: كنا نأكل يومًا خبزًا ويومًا تمرًا، ولا نأكل يومين متتابعين خبز بُرٍّ. * * * 3224 - وقالت: تُوفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما شَبعْنا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ. قوله: "وما شبعْنا من الأسودين"، (الأسودان): التمر والماء؛ يعني: ما شبعنا من التمر والماء؛ من التورُّع والتقوى. * * * 3225 - وقالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الدُّنيا ولم يَشْبَعْ من خُبْزِ الشَّعيرِ. قوله: "ولم يشبع من خبز الشعير"، معنى هذا: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ترك الدنيا ولذتَها وقَنَعَ بأدنى قوتٍ ولباسٍ مختصَر من غاية التضرُّع والتنزُّه عن الدنيا الدنيَّة. * * * 3226 - وقال النُّعمانُ بن بشيرٍ: ألَسْتُمْ في طعامٍ وشرابٍ ما شِئتم؟ لقد رأيتُ نبيَّكُمْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يَجدُ مِنَ الدَّقَلِ ما يملأَ بطنَهُ. قوله: "من الدَّقَل"، (الدقل): تمر رديء. * * * 3228 - وعن جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أكلَ ثُومًا أو بَصَلًا فلْيَعْتزِلْنا"

- أو قال: "فلْيعتزِلْ مسجِدَنا"، أوَ "ليقعُدْ في بيتِه" - وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بقِدْرٍ فيها خَضراتٌ منْ بُقولٍ، فوجدَ لها ريحًا فقال: قرِّبوها - إلى بعضِ أصحابه، قال: "كُلْ فإنِّي أُناجِي مَنْ لا تُناجي". قوله: "فليعتزلنا"؛ أي: فليبعُدْ عنَّا. "بقدر"؛ أي: بطبق. "فإني أناجي من لا تناجي"؛ يعني: فإني أكلِّم جبريل عليه السلام وأنت لا تكلِّمه. * * * 3229 - عن المِقدامِ بن مَعْد يَكرِبَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كِيلُوا طَعامَكم يُبارَكْ لكُمْ فيهِ". قوله: "كيلوا طعامَكم يبارَكْ لكم فيه"، والغرض من كيل الطعام: معرفة مقدار ما يصرِفُه الرجلُ على عياله وما يستقرِض وما يبيع ويشتريه، فإنه لو لم يَكِلِ الطعامَ لكان ما يبيعه ويشتريه ويُقْرِضه ويَستقرضه مجهولًا، ولا يجوز شيء من هذه الأشياء على الجهالة، وكذلك لو لم يكل ما ينفق على العيال ربما يكون ناقصًا عن قدر كِفايتهم فيكون النقصان ضررًا عليهم، وربما يكون زائدًا على كفايتهم فيكون إسرافًا، ويَفْنى ما ادَّخر لهم عن قريب، ولو لم يَكِلْ لم يعرف قدرَ كِفايتهم، ولم يعرف ما يدَّخر لتَمام السنة، فهذا كلُّه أغراض مَرْضيَّة، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بكيل الطعام ليكونوا على علم ويقين فيما يعملون، فَمَنْ راعى سنةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يجدْ بركةً عظيمة في الدنيا، وأجرًا عظيمًا في الآخرة. * * * 3230 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رَفَعَ مائِدَتَه قال:

"الحمدُ للَّه كثيرًا طَيبًا مُباركًا فيه، غيرَ مَكْفيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتَغْنًى عنهُ ربنا". قوله: "حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غيرَ مَكْفي ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتغنًى عنه ربنا". يحتمل إعراب (غير مكفي) وما بعده وجوهًا: الأول: أن يكون (غيرَ مكفي) منصوبًا صفة (حمدًا)، وما بعده معطوف عليه؛ أي: حمدًا غيرَ مكفي. (المكفي): مفعول مِنْ: كفى يكفي: إذا دفع شيئًا؛ أي: حمدًا غير مدفوع عنا؛ أي: لا نتركه بل نُلازِمه. (ولا مُودَّع) - بفتح الدال -؛ أي: لا نودعه؛ يعني: لا نتركه ولا نُعْرِض عنه ولا نستغني عنه؛ أي: ليس ذلك الحمد شيئًا مفزوعًا عنه، ولسنا نستغني عنه بل نحتاج إليه. (ربنا) - بفتح الباء -؛ يعني: يا ربنا. الوجه الثاني: أن يكون (ربنا) مرفوعًا على الابتداء، و (غير مكفي) خبره، (ولا مودع) (ولا مستغنى عنه) معطوفان على (مكفي). الوجه الثالث: أن يكون (غير مكفي) صفة (حمدًا) كما ذكرنا، (ولا مودع) معطوف على (مكفي)، (ولا مستغنى) اسم مفعول، و (ربنا) مفعول أُقيم مقام الفاعل، و (عنه) مفعول ثانٍ؛ أي: ولا نَسْتغني ربنا عنه؛ يعني: لا يستغني شيءٌ من المخلوقات عن الرب. * * * 3233 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكلَ أحدُكُم فنَسيَ أنْ يذكرَ اسمَ الله عَلَى طعامِهِ فليَقُلْ: بسمِ الله أوّلَهُ وآخرَهُ". قوله: "فليقل بسم الله أوله وآخره"؛ يعني: إذا تذكَّر فليقلْ: (بسم الله أولَه وآخرَه) بنصب اللام والراء، وهما منصوبان على الظرف؛ أي: في أوله

وآخره؛ يعني: فإذا قال ذلك فقد تدارك ما مضى عليه من التقصير بترك ذكرِ الله تعالى. * * * 3236 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كالصَّائِمِ الصَّابرِ". قوله: "الطَّاعم الشاكر كالصائم الصَّابر"، هذا تشبيه في أصل استحقاق كلِّ واحد منهما الأجرَ لا في القَدْر، وهذا كما يقال: زيد كعَمرو، ومعناه: زيد يشبه عمروًا في بعض الخصال، ومعلوم أنهما ليسا مُماثِلين في جميع الخصال، فلذلك لا يلزم أن يكون أجرُ الصائم مثلَ أجرِ الطاعم الشاكر، بل أجرُ الصائمِ أكثرُ. * * * 3237 - عن أبي أيُّوبَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكلَ وشربَ قال: "الحمدُ للَّه الذي أطعمَ وسقَى وسوَّغَهُ وجعلَ لهُ مَخْرجًا". قوله: "الحمد لله الذي أَطْعم، وسَقَى، وسَوَّغه، وجعل له مَخْرجًا"، ذكر هنا أربعَ نِعَم؛ إحداها: قوله: (أطعم)؛ أي: رزق، والثانية: (سقى)، والثالثة: (سوغه)؛ أي: سهَّل دخولَ اللقمة والشَّرْبة في الحلق، فإنه خلق في الفم الأسنانَ ليَمْضَغ بها الطعام، وخلق ماء الفم ليلين به اللقمة، وخلق فيه اللسان ليدور فوق الطعام ليسهل مضغه، وجعل في الفم الذَّوق لتكمل النعم، ووسَّع الحلق بحيث يسهل فيه دخول الطعام والشراب. النعمة الرابعة: قوله "وجعل له مخرجًا"؛ يعني: جعل الطعام - بالحكمة - في المعدة زمانًا لتنقسم منافعُه ومضارُّه فيبقى في الجسد ما يتعلق باللحم والقوة

والدَّم، ويخرج ما هو المائية منه إلى المثانة، ثم يخرج من المثانة إلى رأس الذَّكَر في وقت الحاجة وهو البول، وجعله منقادًا للشخص بحيث إذا أراد إراقتَه يسهُل له، وإذا أراد إمساكه من وقت إلى وقت آخر يسهل له، ويخرج ما هو الثقل من الطعام إلى البطن، ثم يخرج من المَقْعد في وقت الحاجة، ويسهل له إمساكه من وقت إلى وقتٍ آخر، كلُّ ذلك فضلٌ من الله الكريم، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. * * * 3238 - عن سلمانَ قال: قرأتُ في التَّوراةِ أنَّ بَركةَ الطعامِ الوُضوءُ بعدَهُ، فذكرتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَركةُ الطَّعامِ الوُضوءُ قبلَهُ والوُضوءُ بعدَهُ". قوله: "الوضوءُ قبلَه والوضوءُ بعدَه"؛ أراد بالوضوء: غَسل الكفين. * * * 3239 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ مِنَ الخَلاءِ فقُدَّمَ إليهِ طعامٌ فقالوا: ألا نأتِيكَ بوَضُوءٍ؟ قال: "إنَّما أُمِرْتُ بالوُضوءِ إذا قُمتُ إلى الصَّلاةِ". قوله: "إنما أُمرت بالوضوء"، أراد بالوضوء: الذي يُتوضَّأ للصلاة. * * * 3240 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه أُتيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثريدٍ فقال: "كُلوا من جَوانِبها، ولا تأْكُلوا مِنْ وسطِها، فإنّ البَركةَ تنزِلُ في وسَطِها". وفي روايةٍ: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامًا فلا يأْكُلْ منْ أعلَى، ولكنْ يأكُلُ مِنْ

أسفَلِها، فإن البَركةَ تنزِلُ مِنْ أعلاها". قوله: "فلا يأكل من أعلى الصَّحفة"؛ أي: من وسط القَصْعة. "ولكن يأكل من أسفلها"؛ أي: من جانبها. * * * 3241 - عن عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: ما رُئي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ متَّكِئًا قطُّ، ولا يطأُ عَقِبَهُ رجُلان. قوله: "لا يطأ عَقِبَه رجلان"؛ أي: ولا يمشي خلفه رجلان؛ يعني: من غاية التواضع يمشي في وسط الجمع أو في آخرهم ولا يمشي قدَّامهم. * * * 3242 - عن عبدِ الله بن الحارثِ بن جَزْءٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزٍ ولَحْمٍ وهو في المسجِدِ، فأكلَ وأكلنا مَعَهَ، ثمّ قام فصلَّى وصلَّيْنا معهُ، ولم نَزِدْ على أنْ مَسَحْنا أيْدِيَنا بالحَصْباءِ. قوله: "ولم نَزِدْ على أن مسحنا أيدينا بالحَصْباء"، (الحصا): الحجارة الصغار؛ يعني: لم نتوضأ ولم نغسل أيدينا. * * * 3243 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلَحْمٍ فَرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ، وكانتْ تُعجِبُهُ فنَهَسَ منها. قوله: "فرفع إليه الذراع": ليأكل منها. "وكانت تعجبه"؛ أي: وكانت الذراعُ تعجبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: تطيب

وتحسن في نظره، ومعناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ الذراعَ من الشاة المشوية. "فنهس"، (النَّهس): اللَّدغ، هذا هو اللغة، ومعناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل منها بأسنانه. * * * 3244 - ورُوِيَ عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بالسِّكِّينِ فإنَّهُ منْ صُنْعِ الأعاجِمِ، وانهَشُوهُ فإنَّهُ أهنأُ وأمرأُ"، غريب. قوله: "لا تقطعوا اللحم بالسكين"؛ يعني: لا تقطعوه بالسكين عند الأكل. "فإنه من صنع الأعاجم"؛ أي: فعلِ أهلِ فارس؛ لأن فيه تكبرًا. "وانهشوه"؛ أي: كُلُوه بالأسنان. * * * 3245 - عن أمِّ المُنْذِرِ قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهُ عليٌّ ولنا دوالٍ مُعلَّقةٌ، فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ وعليٌّ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "مَهْ يا عليُّ! فإنَّكَ ناقِهٌ". قالت: فجعلتُ لهمْ سِلْقًا وشَعيرًا، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عليُّ منْ هذا فأصِبْ فإنَّهُ أَوْفَقُ لكَ". قوله: "ولنا دوالي"، (الدوالي): جمع دالية، وهي العنقود من الثمر. قوله: "مه"؛ أي: اكفف؛ يعني: لا تأكل. قد نهى في هذا الحديث عن قطع اللحم بالسكين، وقد ذكر قبلَ هذا: أنه كان يقطع اللحم بالسكين ويأكله، وإنما قطع اللحم بالسكين ليعلِّم أمته أن نهيَه عن قطع اللحم بالسكين

نهيَ تنزيه، لا نهيَ تحريم، فإنه لو نهى عن شيء ولم يفعل ولم يأمر بخلافه لا يدرى أنه نهي تنزيه، بل يحتمل على أنه نهي تحريم. "ناقِهٌ" هو اسم فاعل من (نقه) - بفتح القاف وكسرها -: إذا برئ من المرض؛ يعني: يضرك أكل البُسر والثمر، فإنك قريب برء من المرض. (السلق): بَقْلٌ يقال له بالفارسي: جفندر. "أوفق"؛ أي: يكون أحسن وأنفع لك من البُسر. * * * 3246 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبُهُ الثُّفْلُ. قوله: "يعجبه الثفل"؛ أي: يحب الثفل، قيل: (الثفل) - بضم الثاء وكسرها، والضم أفصح - وهو: ما يَلْصُقْ من المطبوخ بأسفل القدر، يقال له القدرة، وسئل الحارث من الثُّفل قال: هو الثَّريد. * * * 3247 - عن نُبَيْشَةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أكلَ في قَصْعَةٍ فلَحَسَها استغفرَتْ لهُ القَصْعَةُ"، غريب. قوله: "فلحسها"؛ أي: فَلَعَقَها. * * * 3248 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ باتَ وفي يدِهِ غَمَرٌ لمْ يَغْسِلْهُ فأصابَهُ شيءٌ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نفسَه". قوله: "في يده غَمَر"؛ أي: وسَخٌ ودسم وزُهومة. * * *

3249 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ أحبَّ الطَّعامِ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الثَّريدُ مِنَ الخُبزِ، والثَّريدُ مِنَ الحَيْسِ. قوله: "والثريد من الحيس"، (الحيس)، قال في "الغيث": أصل الحيس: الخَلْط، وهو في الحديث الأَقِط والتمر يُخْلَطان بالسمن. * * * 3251 - عن أُمِّ هانئٍ قالت: دخلَ عليَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعِندَكِ شيءٌ؟ "، قلتُ: لا، إلا خُبْزٌ يابسٌ وخَلٌّ، فقال: "هاتي، ما أفْقَرَ بيتٌ مِنْ أُدُمٍ فيهِ خَلٌّ"، غريب. قوله: "ما أفَقرَ بيتٌ من أُدُم فيه خَل"، (أفقر) إذا خَلَا، (الأدم): جمع إدام، وهو بالفارسي بان خورش؛ يعني: لم يكن بيتٌ بلا إدام ما دام فيه الخَلٌّ. * * * 3253 - عن سعدٍ قال: مرضْتُ مَرَضًا فأتاني النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعُودُني، فوضعَ يدَهُ بينَ ثَدْيَيَّ حتَّى وجَدْتُ بردَها على فُؤادي، وقال: "إنَّكَ رجلٌ مَفْؤودٌ، وائتِ الحارثَ بن كَلَدَةَ أخا ثَقِيفٍ فإنَّهُ رجلٌ يتطبَّبُ فلْيَأخُذْ سبعَ تَمَراتٍ مِنْ عَجْوةِ المدينةِ فلْيَجَأْهُنَّ بنواهُن ثمَّ ليَلُدَّكَ بهِنَّ". قوله: "إنك رجل مفؤود"؛ أي: أصاب فؤادَك مرضٌ. "يتطبب"؛ أي: يعلم الطب. قوله: "فليجَأْهنَّ"؛ أي: فَلْيَدُقَّهنَّ. "ثم ليلُدَّك"؛ أي: ليضعْ ذلك في فمك. * * *

3254 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأكُلُ البطِّيخَ بالرُّطَبِ، ويقولُ: "يُكسرُ حَرُّ هذا ببردِ هذا، وبردُ هذا بحرِّ هذا"، غريب. قوله: "يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: يُكسر حرُّ هذا ببرد هذا، وبردُ هذا بحرِّ هذا"، الطَّبيخ والبطِّيخ واحد، ولعله أراد بالطبيخ هنا: قبل أن ينضُج ويصير حُلْوًا فإنه قبل نضجه يكون باردًا، وأما بعد نُضْجه فهو حار. * * * 3255 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتمرٍ عتِيقٍ فجعلَ يُفتِّشُهُ ويُخرِجُ السُّوسَ منهُ. قوله: "بتمر عتيق"؛ أي: بتمر قديم وقع فيه السُّوس من غاية قِدَمِه. (والسُّوس): دودٌ يظهر في التمر وغيره. "فجعل"؛ أي: فطَفِقَ. "يُفَتِّشه"؛ أي: يشُقُّ التمر ويطلُب فيه السّوسَ ويطرحُ السوسَ ويأكلُ التمرَ، وهذا دليلٌ بأن الطعام لا ينجُس بدودٍ يقع فيه، ولا يحرُم الطعامُ مع تلك الدود. * * * 3256 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجُبنةٍ في تَبْوكَ فدعا بالسِّكِّينٍ فسمَّى وقطَعَ. قوله: "بجُبنة" - بضم الجيم والباء وتشديد النون - وهي الجُبن. هذا الحديث يدل على طهارة الأَنْفِحة؛ لأنها لو كانت نجسة لكان الجبن نَجِسًا؛ لأن الجبن لا يحصل إلا بالأنفحة.

قوله: "فسمى"؛ أي: سمَّى الله وقَطَعَ الجُبن. * * * 3257 - وعن سلمانَ قال: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن السَّمْنِ والجُبن والفِراءِ؟ فقال: "الحَلالُ ما أحلَّ الله في كتابهِ، والحَرامُ ما حرَّمَ الله في كتابهِ، وما سكتَ عنهُ فهوَ ممَّا عفا عنهُ"، غريب وموقوفٌ على الأصَحِّ. قوله: "سئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن السَّمْن والجُبن والفِراء فقال: الحلالُ ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّمَ الله في كتابه، وما سكت عنه فهو ممَّا عفا عنه". (الفراء) - بكسر الفاء والمد - جمع فَرى - بفتح الفاء وبالقصر - وهو الحمار الوحشي؛ يعني: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء هل هنَّ حلالان؟ فأجاب بأن الحلالَ ما أحلَّ الله في كتابه، والحرامَ ما حرَّمَ الله في كتابه؛ يعني: هذه الأشياء ليست مما حرَّم الله. قوله: (الحلال ما أحل الله في كتابه)؛ يعني ما بيَّنَ الله تحليلَه فهو حلال، وما بيَّنَ تحريمَه فهو حرام، وهذا لا يدل على أن ما ليس في كتاب الله من الحَلالات والحَرَامات فليس بحلال ولا حرام؛ لأن تخصيصَ الشيء بالذِّكْر لا يدلُّ على نفي غيره، بل ما بيَّنَ رسولُ الله تحليلَه أو تحريمَه فهو مِثْلُ ما بيَّنَه الله، فالضَّابط فيه: أن ما بيَّن الله أو بيَّن رسولُه تحليلَه فهو حلال، أو تحريمَه فهو حرام، وما لم يبينه الله ولا رسولُه اختلَف العلماءُ؛ فقال بعضهم: هو حلال، وقال بعضهم: هو حرام. * * *

3258 - ورُوِيَ عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَدِدتُ أنَّ عِندي خُبْزةً بيضاءَ مِنْ بُرَّةٍ سَمْراءَ مُلَبَّقَةً بِسمنٍ ولَبن". فقامَ رجلٌ منَ القومِ فاتَّخذَهُ فجاءَ بهِ، فقال: "في أيِّ شيءٍ كانَ هذا؟ " قال: في عُكَّةِ ضَبٍّ قال: "اِرفَعْهُ". قوله: "من بُرَّةٍ سمراء"، (البرة): الحِنطة السمراء، حنطة في لونها سمرة، قيل: الخبزُ من هذه الحِنطة أطيبُ من خبزِ غيرِها من أنواع الحنطة. قوله: "مُلَبَّقة"؛ أي: مُلَطَّخة. "في أي شيء كان هذا"؛ أي: في أي ظَرف كان هذا السمن. "في عُكَّة ضَبٍّ"؛ أي: في جلد ضب، (العكة): وعاءٌ صغير للسَّمن. "ارفعه"؛ أي: ارفع هذا الخبزَ فإنِّي لا آكلُ الضبَّ ولا شيئًا يكون في جِلْده. * * * 3260 - ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّها سُئِلتْ عَنِ البَصَلِ فقالت: إنَّ آخِرَ طَعامٍ أكلَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طَعامٌ فيهِ بَصَلٌ. قولها: "إنَّ آخرَ طعامٍ أكلَه رسولُ الله طعامٌ فيه بصل"، إنما أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره طعامًا فيه بصل ليبينَ للناس أنه ليس بحرام، وأنَّ نهيَه عن الثوم والبصل نهيُ تنزيه لا نهيَ تحريم. * * * 3262 - عن عِكْراشِ بن ذُؤَيْبٍ أنَّه قال: أُتِينا بجَفْنَةٍ كثيرةِ الثَّريدِ والوَذْرِ، فَخَبطْتُ بيدِي في نَواحِيها، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلْ مِنْ مَوْضعٍ واحِدٍ، فإنَّهُ طعامٌ

واحِدٌ"، ثُمَّ أُتِينا بطَبَقٍ فيهِ ألوانُ التمرِ، فجعلتُ آكُلُ منْ بينِ يدَيَّ، وجالَتْ يدُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الطَبَقِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عِكْراشُ كُلْ مِنْ حيثُ شِئْتَ فإنه غيرُ لَونٍ"، غريب. قوله: "والوَذْر"، (الوذر): قِطَعُ اللحم. "حَبَطْتُ بيدي"، هذا من الحبط؛ بمعنى التردُّد في كل جانب؛ يعني: جالَت ودَارَتْ يَدي في جوانب القَصْعة. * * * 3263 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذَ أهلَهُ الوَعَكُ أمرَ بالحِساءِ فصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرهُمْ فحَسَوْا منهُ، وكانَ يقولُ: "إنَّه لَيَرْتُو فُؤادَ الحزينِ وَيَسْرُو عنْ فُؤادِ السَّقيم كما تَسْرُو إحْداكُنَّ الوَسَخَ بالماء عنْ وجهِها"، صحيح. "ليرتو"؛ أي: ليقْوَى ويُشَد. "ويسرو"؛ أي: يُزيل التعب والسَّقَم. * * * 3264 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْوَةُ مِنَ الجَنَّةِ فيها شِفاءٌ مِنَ السَّمِّ، والكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ وماؤُها شِفاءٌ للعينِ". قوله: "العجوة من الجنة"؛ أي: هذا النوع من التمر فيه لذة وشفاء من السُّمِّ والسحر كما ذُكر، فكأنه من الجنة؛ لأن طعامَ الجنة هو الذي يُزيل الأذى والتعب. * * *

2 - باب الضيافة

2 - باب الضيافَةِ (باب الضيافة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3266 - عن أبي شُرَيْحٍ الكَعْبيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فليُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يومٌ وليلة، والضيافَةُ ثلاثةُ أيَّامٍ، فما بعدَ ذلكَ فهو صَدَقةٌ، ولا يَحِلُّ لهُ أنْ يَثْوِيَ عندَهُ حتَّى يُحْرِجَه". قوله: "فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة"، (الجائزة): العطاء؛ يعني: فليكرم ضيفه عطاءه وتُحفته. قوله: (يوم وليلة) بالرفع؛ أي: وذلك يوم وليلة، و (ذلك) مبتدأ و (يوم وليلة) خبره؛ يعني: إكرامه بتقديم طعامٍ حَسَنٍ إليه سنةٌ مؤكَّدة في اليوم الأول وليلَتِه، وفي اليوم الثاني والثالث يقدِّم إليه ما كان حاضرًا عنده من غير تكلُّف، وفي اليوم الرابع ذهب الأكثر: لا يستحقُّ الضيفُ شيئًا؛ لأن الضيافةَ ثلاثةُ أيام، فإنْ أعطاه في اليوم الرابع وما بعدَه فهو تبرُّعٌ من عنده. * * * 3267 - وقال: "إنْ نَزَلْتُمْ بقَوْمٍ فأَمَرُوا لكمْ بما يَنْبغي للضَّيْفِ فاقْبَلُوا، فإنْ لمْ يفعلُوا فخُذُوا منهمْ حقَّ الضَّيْفِ الَّذي يَنْبغي له". قوله: "إن نزلتُم بقوم فأمَروا لكم ... " إلى آخره، قد ذكر شرح هذا الحديث وراويه في الحديث الآخر من (باب الجزية). * * *

3268 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ يُكنَّى: أبا شُعَيْبٍ، وكانَ لهُ غُلامٌ لحَّامٌ، فقال: اصنَعْ طعامًا يَكفي خَمسةً لَعلِّي أدعُو النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خامِسَ خمسةٍ، فصنعَ طُعَيمًا ثمّ أتاهُ فدعاهُ فتبعَهُمْ رجلٌ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا شُعيبٍ إنَّ رجُلًا تَبعَنا فإنْ شِئْتَ أذِنتَ لهُ وإنْ شِئْتَ تركتَهُ". قال: لا بلْ أذِنتُ لهُ. قوله: "لحام"؛ أي: بَيَّاع اللحم. "خامس خمسة"؛ أي: يكون عددُ المجموع مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خمسةً. هذا الحديث صريحٌ بأنه لا يجوز أن يدخُلَ أحدٌ في ضيافة قومٍ بغير دعوة، ولا يجوز أيضًا لِمَنْ دعاه المُضيف أن يستصحِبَ أحدًا بغير إذن المُضيف. * * * 3269 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعُمرَ، فقال: "ما أخْرجَكُما مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟ " قالا: الجُوعُ. قال: "أنا والذي نفسي بيدِهِ لأخرَجَني الذي أخرجَكُما، قُومُوا". فقامُوا معَهُ، فأتَى رجُلًا مِنَ الأنصارِ، فإذا هو ليسَ في بيتِهِ فلمَّا رأَتْهُ المرأَةُ قالتْ: مَرْحبًا وأهلًا، فقالَ لها رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أينَ فُلانٌ؟ " قالت: ذهبَ يَسْتَعذِبُ لنا مِنَ الماءِ, إذْ جاءَ الأنصارِيُّ فنظرَ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْهِ، ثُمَّ قال: "الحمدُ لله، ما أَحَدٌ اليومَ أكرمَ أَضْيافًا مِنِّي". قال: فانطلقَ فجاءَهُمْ بعِذْقٍ فيهِ بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كلوا مِنْ هذِهِ. وأخذَ المُدْيَةَ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والحَلُوبَ". فذبحَ لهمْ، فأكَلُوا مِنَ الشَّاةِ ومِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبعُوا ورَوُوا قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بَكْرٍ وعُمرَ: "والذي نفسي بيدِه لتُسْأَلُنَّ عنْ هذا النَّعيم يومَ القيامَةِ، أخرجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الجُوعُ ثمَّ لمْ تَرجِعُوا حتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعيمُ".

قوله: "فإذا هو بأبي بكرٍ وعُمَرَ"؛ أي: فإذا هو حصل بأبي بكر وعمر؛ أي: اتفق خروجُهم من بيوتهم قاصدين ضيافةً. قولها: "يستعذب"؛ أي يطلبُ لنا ماء عذبًا؛ أي: حُلْوًا. "بعذق"؛ أي: بعُنقود. "المدية": السكين. "وإيَّاك والحَلُوب"؛ أي: احذِرْ مِنْ ذبح شاة ذاتِ حَلْب. "لتسألن عن هذا النعيم"؛ يعني: ستُحاسبون يومَ القيامة عما أكلتُم وشربتم؛ لأنَّ من الحلال حسابًا ومن الحرام عذابًا. * * * مِنَ الحِسَان: 3270 - عن المِقْدام بن مَعْدِ يَكرِبَ - رضي الله عنه -: أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيُّما مُسلمٍ ضافَ قومًا فأصبحَ الضَّيفُ مَحرومًا كانَ حقًّا على كُلِّ مُسلمٍ نصَرُهُ حتَّى يأْخُذ لهُ بقِراهُ مِنْ مالِهِ وزَرْعِهِ". وفي روايةٍ: "أيُّما رجُلٍ أضافَ قومًا فلمْ يَقْرُوهُ كانَ لهُ أنْ يُعقِبَهُمْ بمثلِ قِراهُ". قوله: "ضَافَ قومًا"؛ أي: نَزَلَ على قوم وهو يحتاج إلى ضيافةٍ لكونه على غاية الجُوع. "حتَّى يأخذَ له بِقِراهُ"؛ أي: حتى يأخذ كلُّ أحدٍ لذلك الضيف بقَدْر قِرى الضيف.

(القِرى): الضيافة؛ أي: بقدر شبعه من مال المضيف، فمن كان مضطرًا إلى الطعام ونزل على أحد وجَبَتَ عليه ضيافةُ ذلك المضطر لحفظ رُوحه، وإن لم يُطْعِمه كان عاصيًا، ويجوز لذلك المضطر أن يأخذ قَدْرَ حاجته من مال المضيف سرًّا وعلانِيَة. * * * 3271 - عن أبي الأحُوَصِ الجُشَميِّ، عن أبيه قال: قلتُ يا رسُولَ الله! أرأيتَ إن مررتُ برجلٍ فلمْ يَقْرِني ولمْ يُضفْني؟ ثمّ مرَّ بي بعدَ ذلكَ أَقرِيه أمْ أجْزِيه؟ قال: "بلِ اقْره". قوله: "أجزيه"؛ أي: أكافئه بما فَعَل بي؛ أي: أمنعُه الطعامَ كما منعَ الطعامَ منِّي. * * * 3272 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أو غيرِه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استأْذَنَ على سعدِ بن عُبادَةَ فقال: "السَّلامُ عليكُمْ ورحمةُ الله وبركاتُهُ"، فقال سَعدٌ: وعليكُمُ السَّلامُ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، ولم يُسمِعِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حتَّى سلَّمَ ثلاثًا وردَّ عليهِ سَعدٌ ثلاثًا ولمْ يُسمِعْهُ، فرجَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاتَّبَعَهُ سَعدٌ فقال: يا رسُولَ الله! بأبي أنتَ وأُمِّي ما سلَّمْتَ تسليمَةً إلّا هيَ بأُذُني، ولقدْ ردَدْتُ عليكَ ولمْ أُسْمِعْكَ، أحببتُ أنْ أَسْتَكثِرَ من سلامِكَ ومنَ البَرَكَةِ. ثمَّ دخلُوا البيتَ فقرَّبَ لهُ زَبيبًا، فأكلَ منهُ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا فَرَغَ قال: "أكلَ طعامَكُمُ الأبرارُ وصلَّتْ عليكُمُ المَلائِكةُ، وأفطَرَ عِندَكُمُ الصائِمُون". قوله: "أكل طعامكم الأبرار"، يجوز أن يكون هذا دعاء منه - عليه الصلاة والسلام - للمُضيف، ويجوز أن يكون إخبارًا عنه، وهذان الوصفانِ

موجودان في حقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, فإنَّه أبرُّ الأبرار، وأصحابُه الأبرار الأخيار، وأما إذا تلفَّظ غيرُه بهذه الألفاظ عند أكل طعام أحدٍ تكون هذه الألفاظ دعاءً منه للمُضيف، ولا يجوز أن يكون إخبارًا؛ لأنه لا يجوز لأحدٍ أن يخبر عن نفسه أنَّه بَرٌّ. * * * 3273 - وعن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلُ المؤمنِ ومثلُ الإِيمانِ كمثلِ الفَرَسِ في آخِيَّتِهِ يجُولُ ثُمَّ يرجِعُ إلى آخِيَّتِهِ، فإن المؤمِنَ يَسْهُو ثمَّ يرجعُ إلى الإِيمانِ، فأطعِمُوا طعامَكُم الأتقياءَ وأَوْلُوا مَعروفَكُم المؤمنِينَ". قوله: "مَثَلُ المؤمنِ ومَثَلُ الإيمان كَمَثلِ الفَرَيسِ في آخِيَّته"، (الآخية) - بتشديد الياء -: ما يُشَدُّ به الفرس وغيره مِنْ وَتَد وغيره، والمراد بالإيمان هنا: شعب الإيمان؛ كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها؛ يعني: كما أن الفرس يبعُد عن آخِيَّته ثم يعود، فكذلك المؤمن قد يترك بعضَ شعب الإيمان ثم يتدارك ما فات عنه ويَنْدَم على ما فعل من التقصير، ولا تحكموا بكُفْرِ واحدٍ بأَنْ تركَ شيئًا من شعب الإيمان، ولا تتركوا إطعامَ طعامِكم إيَّاه، بل أطعموا طعامَكم المؤمنين والمتَّقين الشِّركَ، ولا تطعموا الكفارَ. و"أولوا" أصله: أوليوا، فنُقلت ضمةُ الياء إلى اللام ثم أسكنت، ومعناه: أطعموا. (المعروف): الإحسان والعَطِيَّة. * * * 3274 - عن عبدِ الله بن بُسْرٍ قال: كانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَصْعةٌ يحمِلَها أربعةُ رجالٍ، يقال لها الغَرَّاءُ فلمَّا أضْحَوْا وسجَدُوا الضُّحَى أُتيَ بتلكَ القَصْعَةِ - يعني وقد ثُرِدَ فيها - فالتفُّوا عليها، فلمَّا كَثُروا جثَا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال

فصل

أعرابيٌّ: ما هذه الجِلْسَةُ؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله جَعَلَني عبدًا كريمًا، ولم يجعَلْني جبَّارًا عنيدًا"، ثمَّ قال: "كُلُوا مِنْ جوانِبها ودَعُوا ذِرْوَتها يُبارَكْ لكُمْ فيها". قوله: "وسجدوا الضُّحى"؛ أي: صلُّوا صلاة الضحى. "فالتفُّوا عليها"؛ أي: اجتمعوا حولها. "جثا رسولُ الله"؛ أي: جلس على ركبتيه من ضيق المكان. "إن الله جعلني عبدًا كريمًا"؛ يعني: هذه الجِلْسة أقربُ إلى التواضع، والتواضعُ أَلْيقُ بالعبيد وأنا عبد فتليقُني هذه الجِلسة. "ودعوا ذروتها"؛ أي: اتركوا أعلاها. * * * فصل مِنَ الحِسَانِ: 3276 - عن الفُجَيْعِ العامِريِّ: أنّهُ أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحلُّ لنا مِنَ المَيْتَة؟ فقال: "ما طعامُكُمْ؟ " قلنا: نَغْتَبقُ ونَصْطَبحُ، قال: "ذلكَ - وأبي - الجُوعُ". فأحلَّ لهم المَيْتَةَ عَلَى هذا الحالِ. فسَّرُوا قولَهُ: نَغْتَبقُ ونَصْطَبحُ: أي قَدَحٌ غُدوةً وقَدَحٌ عَشِيَّةً. قوله: "ما طعامكم"، (ما) للاستفهام. "فَنَغْتَبق"؛ أي: نشرب في وقت العشاء قَدَحًا. "ونَصْطَبح"؛ أي: نشرب في وقت الصباح قَدَحًا.

"قال: ذلك وأبي الجُوعُ": (ذلك) المبتدأ، و (الجوع) خبره؛ يعني: ذلك الشرب الذي يقولون قليل تجوعون مع هذا الشرب. قوله: "وأبي"، هذا قسم اعْتَرضَ بين المبتدأ والخبر، فإن قيل: لا يجوز القَسَم بغير اسم الله وصفاته، فَلِمَ أقسمَ النبيُّ بأبيه؟ قلنا: ليس هذا القسم على وجهِ تعظيم أبيه، بل هذا اللفظ جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - كما هو عادة العرب. "فأحل لهم الميتة على هذه الحال"؛ يعني: إذا كان لهم طعام أو شراب ولا يكفيهم جاز لهم أكلُ الميتة بقَدْر الشبع عند مالك وأحدِ قولي الشافعي، ولا يجوز إلا بقدر سَدِّ الرَّمَق عند أبي حنيفةَ وأحدِ قولي الشافعي. * * * 3277 - عن أبي واقِدٍ اللَّيْثيِّ: أنَّ رجُلًا قال: يا رسُولَ الله! إنَّا نكُونُ بالأرضِ فتُصيبنا بها المَخْمَصَةُ، فمتَى تحلُّ لنا المَيْتةُ؟ قال: "ما لمْ تصْطَبحُوا أو تَغْتَبقُوا أو تَحْتفِئُوا بها بَقْلًا فشأنُكُمْ بها" معناه: إذا لم تجدوا صَبُوحًا ولا غَبُوقًا ولم تجدوا بَقْلةً تأكلونها حلَّتْ لكم المَيْتَةُ". قوله: "فتصيبنا بها المخمصة"؛ أي: الجوع. قوله: "ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفوا"، و (تحتفوا) - بالحاء المهملة -: أصله: تحتفيوا، فقلبت حركة الياء إلى الفاء وحذفت الياء، ومعناه: تحتفوا هذا هو الرواية، ويجوز (تختفوا) بالخاء المعجمة، ويجوز أيضًا (تحتفئوا) بالحاء المهملة وبالهمز بعد الفاء، معنى جميعِها واحدٌ؛ يعني: إنما يحل لكم أكل الميتة إذا لم تجدوا شيئًا تأكلونه في الصباح أو في المساء، ولا تجدون بَقْلًا تقلعونه وتأكلونه فحينئذ يحِلُّ لكم أكل الميتة، فإن وجدتم

3 - باب الأشربة

ما تأكلونه في الغَداة أو في المساء أو تجدون بقلًا = لا تحل لكم الميتة. * * * 3 - باب الأشرِبةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 3278 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفَّسُ في الشَّرابِ ثلاثًا، ويقولُ: إنَّهُ أرْوَأُ وأبْرَأُ وأمْرَأُ. قوله: "كان رسول الله يتنفس في الشراب ثلاثًا"؛ يعني يشرب ثلاث مرات، يقطع الآنيةَ مِنْ فِيه كلَّ مرة. "ويقول: إنه أروأ"؛ أي: أكثر رِيًّا. "وأبرأ"؛ أي: أكثر بُرْءًا؛ أي: صحةً للبدن. "وأمرأ"؛ أي: أكثر مَرَاءة. * * * 3279 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّربِ مِنْ فِي السِّقاءِ. قوله: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فيِّ السقاء"؛ أي: من فمِ القِربة، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم القربة كيلا يدخل جوفَه شيءٌ مؤذي يكون في القِربة وهو لا يعلم به، وقد روي: أن أحدًا شَرِبَ من فمِ سقاءٍ فدخلت حيةٌ جوفَه. ويجوز أن تكون علة النهي لأجل أن لا ينصَبَّ عليه من فم السقاء، ولأجل أن

لا ينصب الماءُ في حلقه، فإن جريان الماء وانصبابَهُ في الحلق مضرٌّ بالمعدة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصِّ الماء عند شربه، ولا يقدر الرجل على المص من فم السقاء بخلاف فَمِ القَدَح والكُوز. * * * 3281 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ نَهَى أنْ يشرب الرَّجُلُ قائمًا. قوله: "ونهى أن يشرب الرجل قائمًا"، هذا نهي تنزيه وتأديب؛ لأن الرجل في حال قيامه ليست أعضاؤه ساكنةً مطمئنة، والشرب في هذه الحالة يضرُّه؛ لأن الماء يتحرك في أعضائه وربما لا يدخل في الموضع المعلوم من المعدة، بل ينحرف إلى جانبٍ آخرَ فيحصل منه أذى. * * * 3282 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشرَبن أحدٌ منكُمْ قائمًا فمنْ نسَيَ فلْيَسْتقِئْ". قوله: "فليستقئ": (الاستقاء) أو (القيء) بمعنى واحد، وإنما أمره بالقيء للمبالغة في الزجر عن الشرب قائمًا، ولأنه لا ينبغي للمتقين أن يَصِلَ طعامٌ أو شرابٌ إلى جوفهم على وجهٍ مخالفٍ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3283 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بدَلوٍ مِنْ ماءِ زمزمَ فشرِبَ وهو قائِمٌ. قوله: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بدَلْوٍ من ماء زمزم، فَشَرِبَ وهو قائم".

قال الخطابي: إنما شرب هذا قائمًا؛ لأن الجلوس متعذِّرٌ عند زمزم لضيق المكان بازدحام الناس وغيره من الأعذار؛ يعني: الشرب قائمًا منهيٌّ إلا لعذر، وأجاز الشربَ قائمًا لغير عذر أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وجماعة من الصحابة، ورخَّص الحسنُ البصريُّ الأكل ماشيًا للمسافر، وكان حذيفةُ يأكل راكبًا، والمختار عند الأئمة: أنه لا يأكل ماشيًا ولا راكبًا ولا قائمًا. * * * 3284 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّهُ صلَّى الظُّهرَ ثمَّ قعدَ في حَوائِجِ النَّاسِ في رَحبةِ الكُوفةِ حتَّى حَضَرَتْ صلاةُ العصرِ، ثمَّ أُتيَ بماءٍ فشرِبَ وغسلَ وجهَهُ ويدَيْهِ، وذكرَ رأسَهُ ورِجلَيْه، ثمَّ قامَ فشرِبَ فضلَهُ وهو قائمٌ، ثمَّ قال: إنَّ ناسًا يكرَهونَ الشُّرْبَ قائمًا، وإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صنعَ مثلَ ما صنعتُ. قوله: "ثم قعد في حوائج الناس في رَحْبة الكوفة"؛ يعني: جلس للقضاء وفَصْلِ الخصومات. "في رَحْبة الكوفة"؛ أي: في فَضَاءِ وفُسْحةٍ بالكوفة. * * * 3285 - عن جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ على رجُلٍ مِنَ الأنصارِ ومعَهُ صَاحِبٌ لهُ، فسلَّمَ، فردَّ الرجُلُ، وهو يُحوِّلُ الماءَ في حائطٍ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كانَ عِندَكَ ماءٌ باتَ في شَنَّةٍ وإلَّا كَرَعْنا". فقال: عِندِي ماءٌ باتَ في شَنٍّ. فانطلقَ إلى العَريشِ فسكبَ في قَدَحٍ ماءً، ثمَّ حَلَبَ عليهِ مِنْ داجِنٍ، فشرِبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ أعاد فشرِبَ الرجُلُ الذي جاءَ مَعَهُ. قوله: "وهو يحول الماء"؛ أي: يجري الماء من جانب إلى جانب.

"في الحائط"؛ أي: في البستان. "بات في شَنَّة"؛ أي: في قِرْبة قديمة، والماء إذا كان في قربة قديمة يكون أبردَ. "وإلا كَرَعْنا"؛ يعني: وإن لم يكن عندك ماء بات في قربة قديمةٍ كرعنا؛ أي: شَرِبنا من السَّاقية وهي النهر الصغير، (الكرع): وضع الفم في الماء عند الشرب. "فانطلق"؛ أي: فذهب إلى العَريش وهو خشباتٌ تُجعل تحتَ أغصانِ الكَرم. "فسكب"؛ أي: صَبَّ "من دَاجِنٍ"؛ أي: مِنْ شاةٍ مُسْتَأْنِسٍ. * * * 3286 - وعن أُمّ سَلَمةَ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يشْرَبُ في إناءِ الفِضَّةِ إنَّما يُجَرْجِرُ في بطنِهِ نارَ جهنَّمَ". وفي روايةٍ: "إنَّ الذي يأكُلُ ويشرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ والذَّهبِ". قوله: "يجرجر"؛ أي: بصوت آنية الذهب والفضة محرمة على الرجال والنساء في جميع أنواع الاستعمالات، فمَنْ شَرِبَ منها فكأنَّما يُدْخِلُ النارَ في جوفه. * * * 3287 - وعن حذيفةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تلبَسُوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشرَبُوا في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ولا تأْكُلوا في صِحافِها

فإنَّها لهمْ في الدُّنيا وهي لكُمْ في الآخِرةِ". قوله: "ولا تأكلوا في صِحَافها"، (الصَّحاف): جمع صَحْفة، وهي القَصْعة. "فإنَّها لهم"؛ أي: فإنَّ صِحافَ الذهب والفضة للكفار في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة. * * * 3288 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: حُلِبَتْ لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجِنٌ، وشِيبَ لبنها بماءٍ مِنَ البئرِ التي في دارِ أنَسٍ، فأُعْطِي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القَدَحَ فشربَ، وعلى يَسارِهِ أبو بكرٍ وعنْ يمينِهِ أعرابيٌّ، فقال عمرُ: أعطِ أبا بكرٍ يا رسولَ الله، فأعطَى الأعرابيَّ الَّذي على يمينِهِ ثمّ قال: "الأَيمنُ فالأَيمنُ". وفي روايةٍ: "الأَيْمَنونَ الأَيْمَنونَ، ألا فيَمِّنوا". قوله: "وشِيب"؛ أي: وخُلِط. "الأيمن" يجوز نصبه على أنه مفعول؛ أي: قدِّموا الأيمن، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ؛ يعني: الأيمن خير. "فيمِّنوا"؛ أي: فابتدءوا بالأيمن، وهو اليمين. * * * 3289 - عن سَهْلِ بن سَعدٍ قال: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَدَحٍ فشَرِبَ منهُ، وعنْ يمينِهِ غُلامٌ أصغرُ القومِ، والأشياخُ عن يَسارِهِ، فقال: "يا غُلامُ أتأْذَنُ لي أنْ أُعْطِيَهُ الأشياخَ؟ " قال: ما كنتُ لِأوثِرَ بفضلٍ منكَ أحدًا يا رسولَ الله. فأعطاهُ إيَّاه.

قوله: "ما كنت لأوثرَ بفضلٍ منك"، (الإيثار): الاختيار؛ يعني: لا أختار أحدًا على نفسي بفضلِ ماءك، بل أختار نفسي على غيري. * * * مِنَ الحِسَان: 3293 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُتنفَّسَ في الإِناءِ أو يُنفخَ فيهِ. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتنفَّس في الإناء أو يُنْفَخَ فيه"، وإنما نهى أن يتنفس في الإناء وينفخ فيه؛ لأنه ربَّما يقع من بُزاقه شيء في الإناء أو يتغيَّر الماءُ برائحة فمِه، فيحصل للناس تقزُّزٌ من ذلك، فالأدب أن لا يفعل شيئًا يحصل للناس منه تقزُّز. * * * 3295 - عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن النَّفْخِ في الشَّرابِ، فقال رجلٌ: القَذاةُ أراها في الإِناءِ؟ قال: "أهرِقْها". قال: فإنِّي لا أرْوَى مِنْ نَفَسٍ واحِدٍ؟ قال: "فَأَبن القدَحَ عنْ فِيكَ ثمَّ تنفَّسْ". قوله: "أهرقها"؛ أي: اصْبُب بعض ماءِ الإناء لتَخْرُجَ معه تلك القَذَاة بإصبعك، ولا بفمك كيلا يحصُلَ للناس تقزُّزُ منه. * * * 3296 - وعنه قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأنْ يُنفخَ في الشَّرابِ.

قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشُّرب مِنْ ثُلْمةِ القدح"، (الثُّلمة): الموضع المنكسر من طرف الإناء، قال الخطابي: إنما نهى عن الشرب من ثُلمة القدح؛ لأنه ينصبُّ الماء عليه من الثُّلمة؛ لأن الشَّفَة لا تستوي على ذلك الموضع، وقد قيل: إن الثُّلمةَ مَقْعَدُ الشيطان، قال: سببه أنَّه لا تنغسل الثلمةُ عند غَسل القَدَح، فلا يكون ذلك الموضع نظيفًا، وذلك من فعل الشيطان، ولذلك إذا خرج الماءُ فسال من الثلمة فأصاب وجهَه وثوبَه فإنما هو من إعناتِ الشيطان وإيذائه إياه. * * * 3297 - عن كَبْشةَ أنها قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فشربَ منْ في قِرْبَةٍ مُعلَّقَةٍ قائمًا، فقُمْتُ إلى فِيها فقطعْتُهُ، واتخذته سقاءً نتبرَّكُ به. قوله: "فشرب من فيِّ قِربة معلَّقة"؛ أي: من فمِ قربة، قد ذكر قبيل هذا النهي عن الشرب من فم السقاء، وذَكَر هنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد شرب من فم القِربة: يحتمل أن يكون سبب شربه - صلى الله عليه وسلم - هنا من فم السِّقاء بيان كون نهيه عن الشرب من فم السقاء نهي تنزيه لا نهي تحريم، ويحتمل أن يكون نهيه عن الشرب من فم السقاء الاحتراز عن تغيُّر فم السِّقاء برائحة الفم، وتغيُّر فم السقاء إنما يكون بكثرة الشرب منه لا بالشرب حينًا بعد حين. قوله: "فقمتُ إلى فيها"؛ أي: إلى فمِ القِربة. "فقطعتُه"؛ أي: فقطعت فمَ القِربة وحفظْتُه في بيتي للتبرُّك به لوصول فمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3299 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامًا فلْيقُل: اللهمَّ بارِكْ لنا فيهِ، وأطعِمْنا خيرًا منهُ، وإذا سُقيَ لَبنًا فلْيقُل: اللهمَّ

4 - باب النقيع والأنبذة

بارِكْ لنا فيهِ، وزِدْنا منهُ، فإنَّهُ ليسَ شيءٌ يُجزئُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ إلَّا اللَّبن". قوله: "يجزئ"؛ أي: يكفي؛ يعني: لا يدفع الجوعَ والعطشَ كليهما معًا شيء واحد إلا اللبن. * * * 3300 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُستَعذَبُ له الماءُ مِنَ السُّقْيا. قيل: هيَ عَيْنٌ بينَها وبينَ المدينةِ يومانِ. قوله: "يستعذب له"؛ أي: يُجاء بالماء العذب؛ أي: الحلو؛ لأن ماء المدينة كان مالحًا أو مُرًّا. * * * 4 - باب النَّقيعِ والأنبذةِ (باب النقيع والأنبذة) (النقيع): الأنبذة، والأنبذة: جمع نبيذ، وهو: ما يُنبذ في الماء من تمر وغيره. و (النبيذ) أيضًا: الماء الذي يُنبذ فيه شيء حلو ليحلو الماء؛ كتمر وغيره. * * * 3302 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كُنَّا نَنْبذُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سِقاءٍ يوكأُ أعلاهُ، ولهُ عَزْلاءُ، نَنْبذُهُ غُدْوَةً فيشرَبُهُ عِشاءً، وَنَنْبذُهُ عِشاءً فيشرَبُهُ غُدْوَةً.

قولها: "ننبذ"؛ أي: يطرح تمرًا أو زَبيبًا أو عسلًا في الماء ليحلو الماء. "يُوكأ أعلاه"؛ أي: يشدُّ فمُ السِّقاء؛ أي: فم الذي يصب فيه الماء. "وله عزلاء"، (العزلاء): فم القربة؛ يعني: له ثقبة يشرب منها الماء. * * * 3303 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْتَبَذُ لهُ أوَّلَ الليلِ فيشرَبُهُ إذا أصبحَ يومَهُ ذلكَ والليلةَ التي تجيءُ والغدَ والليلةَ الأُخرى والغدَ إلى العصرِ، فإنْ بقيَ شيءٌ سقاهُ الخادِمَ أوْ أمر به فصُبَّ. قوله: "فإن بقي شيء سقاه الخادم"، إنما لم يشربه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان دَرْدِيًّا، هذا يدل على جواز شرب ماء نُبذ فيه تمرًا وغيره ما لم يكن مُسْكِرًا، فإذا صار مسكرًا صار حرامًا، وهذا يدل أيضًا على جواز أن يُطْعِمَ السيدُ مملوكَه طعامًا أسفلَ، ويَطْعَمُ هو طعامًا أعلى. * * * 3304 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ يُنْبَذُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سِقاءٍ، فإذا لمْ يجدُوا سقاءً يُنبذُ لهُ في تَوْرٍ مِنْ حِجارةٍ. قوله: "في تور"؛ أي في ظَرف. * * * 3305 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ والنَّقِيرِ، وأمرَ أنْ يُنْبَذَ في أسْقِيَةِ الأَدَمِ. قوله: "نهى عن الدُّبَّاء"، ذُكر شرح هذا الحديث في أول الكتاب، في

حديث وفد عبد القيس. قوله: "في أسقية"، (الأسقية): جمع سقاء. و"الأدم" - بفتح الهمزة والدال -: يعني الأديم، والأديم: الجلد. * * * 3306 - عن بُرَيْدةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَهَيْتُكُمْ عن الظُّروفِ، فإنَّ ظَرْفًا لا يُحِلُّ شيئًا ولا يُحرِّمُهُ، وكُلُّ مُسكِرٍ حرامٌ". وفي روايةٍ قال: "نَهَيْتُكُمْ عن الأشربةِ إلا في ظُروفِ الأَدَمِ، فاشربُوا في كُلِّ وِعاءٍ غيرَ أنْ لا تشربُوا مُسْكِرًا". قوله: "نهيتُكم عن الظُّروف"؛ يعني: قد نهيتكم عن نَبْذِ التمر وغيره في الماء في ظرف الدُّبَّاء والحَنْتم والمُزَفَّت والنَّقير، وقد أجزتُ لكم الآن أن تنبذوا في كل ظَرف وتشربوا من كل ظرف ما لم يكن مُسْكِرًا. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3307 - عن أبي مالكٍ الأشعَريِّ: أنَّه سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَيَشْرَبن ناسٌ منْ أُمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسْمِها". قوله: "ليشربن ناسٌ من أمتي الخمرَ يسمُّونها بغيرِ اسمها"؛ يعني: يشربون المسكر من نبيذ التمر أو العنب أو الذرة أو غيرها، وكل ذلك حرام؛ لأنها مسكرة ويقولون: ما نشربه ليس بخمر لأنه ليس من العنب، وهم في هذا الكلام كاذبون؛ لأن كل ما يسكر فحكمُه حكم الخمر في التحريم. * * *

5 - باب تغطية الأواني وغيرها

5 - باب تغطيةِ الأواني وغيرِها (باب تغطية الأواني وغيرها) (التغطية): مصدر غَطَّى - بتشديد الطاء -: إذا سَتَر. (الأواني): جمع آنية، وهي ظَرف الماء. مِنَ الصِّحَاحِ: 3308 - عن جابرٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ جُنحُ اللَّيلِ أوْ أمسيتُمْ فكُفُّوا صِبيانَكُمْ، فإنَّ الشَّياطينَ تنتَشِرُ حِينَئذٍ، فإذا ذهبَ ساعةٌ مِنَ الليلِ فحلُّوهُمْ، وأغلِقُوا الأبوابَ واذكُرُوا اسمَ الله، فإن الشَّيطانَ لا يَفتحُ بابًا مُغلقًا، وأوْكُوا قِربَكُمْ واذكُرُوا اسمَ الله، وخمِّرُوا آنِيَتَكُمْ واذكُرُوا اسمَ الله، ولوْ أنْ تَعْرُضُوا عليهِ شيئًا وأطْفِئُوا مصابيحَكُم". قوله: "إذا كان جُنح الليل"، (جنح الليل)؛ أي: قطعتُه، والمراد به ها هنا: أول الليل. قوله: "أو أمسيتم"، هذا شكٌّ من الراوي في أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان جُنح الليل، أو قال: إذا أمسيتُم". "فكفُّوا"؛ أي: فامنعُوا الصبيان - جمع صبي -؛ يعني: امنعوا صبيانَكم في أول الليل عن الخروج من بيوتكم. "فإن الشياطين"؛ أي: فإن الجنَّ تنتشر في أولِ الليل وتتردَّد على أبواب البيوت لتختطفَ الصبيان. "وأَوكُوا": هذا أمر مخاطب مِنْ أوكأ: إذا شدَّ فمَ السِّقاء.

(القِرب): جمع قِربة، وهي السقاء. "وخمِّروا" - بتشديد الميم -؛ أي: استروا كيلا يقعَ في الأواني نجاسةٌ أو دُويبة مثلُ الفأرةِ وغيرها، ولا يقع فيها الوَباء. "ولو أن تعرِضوا عليه شيئًا"؛ يعني: ولو أن تضعوا على رأس الإناء عودًا أو شيئًا آخر يسترُ بعضه؛ يعني: إن لم تجدوا ما يستر جميعَ رأسِ الآنية ضعُوا على رأسها ما يستر بعضَه وقولوا: بسم الله، فإنكم إذا أطعتم رسولَ الله بقدر وُسْعِكم فإنَّ الله يدفع عنكم البلاءَ ببركة طاعتكِم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و (عرض) - بفتح الراء في الماضي وكسرها وضمِّها في الغابر -: إذا وضع شيئًا عريضًا على رأس آنية، هذا هو الأصل، ويقال: وَضْعُ عود غيرِ عريضٍ على رأس آنية أيضًا عرض. * * * قوله: "وأطفئوا": الإطفاء في المِصْباح بمنزلة الإخماد في النار. 3309 - وفي روايةٍ: "خَمِّرُوا الآنيةَ، وأوْكُوا الأَسْقِيةَ، وأجِيفُوا الأبوابَ، وأكْفِتُوا صِبيانَكُمْ عندَ المساءِ، فإنَّ للجِنِّ انتشارًا وخَطْفَةً، وأطفِئُوا المصابيحَ عندَ الرُّقادِ، فإن الفُوَيْسِقةَ رُبَّما اجترَّتِ الفتيلةَ فأحرَقَتْ أهلَ البيتِ". "وأجيفوا الأبواب"؛ أي: أغلقوا الأبواب. "وأكفتوا صبيانكم"، (الكفت): الضم؛ يعني: ضُمُّوهم إلى أنفسهم وامنعوهم الخروج في أول الليل. (الرقاد): النوم، (الفويسقة): الفأرة. "اجترت"؛ أي: جَرَّت. * * *

3310 - وفي روايةٍ: "غَطُّوا الإِناءَ وأوْكُوا السِّقاءَ وأغلِقُوا البابَ وأطفئُوا السِّراجَ، فإن الشَّيطانَ لا يَحُلُّ سِقاءً ولا يفتَحُ بابًا ولا يكشِفُ إناءً، فإنْ لمْ يجِدْ أحدُكُمْ إلا أنْ يَعْرُضَ على إنائهِ عُودًا ويذكُرَ اسمَ الله عليه فليفعل؛ فإنَّ الفُويسِقَةَ تُضْرِمُ على أهلِ البيتِ بيتَهُمْ". قوله: "فإن الشيطان لا يحُلُّ سِقَاء"؛ أي: لا يفتح سقاء مشدودًا؛ يعني: الشيطان كما يأكل ويأخذ من طعامٍ لم يُذكر اسم الله عليه، فكذلك يشرب ويأخذ من ماء أو من شراب لم يُغَطَّ ولم يُشَدَّ ولم يُذكر اسم الله عليه. "ولا يكشف"؛ أي ولا يرفع السِّتر من إناء مستور. قوله: "فإن الفويسقة تَضْرِم على أهل البيت بيتَهم"، هذا متعلق بقوله: (أطفئوا السراج)، (أضرم): إذا أشعل النار؛ يعني: لو لم تطفئوا مصابيحَكم لجرَّت الفأرةُ الفتيلةَ، وتُلقيها إلى بعض الأقمشة، وتشعل النار، وتحرِق البيت. * * * 3311 - وقال: "لا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وصِبيانَكُمْ إذا غابتْ الشَّمسُ حتَّى تذهبَ فَحْمةُ العِشاءِ، فإنَّ الشَّيطانَ يُبعَثُ إذا غابت الشَّمسُ حتَّى تذهبَ فحْمَةُ العِشاءِ". قوله: "لا ترسلوا فَوَاشِيَكم"؛ أي: لا تحُلُّوا مواشيكم بل اربُطُوها. والفواشي والمواشي واحدٌ. "فحمة العشاء": أول ظلمة الليل، فإن الشيطان يَبْعثُ إذا غابت الشمس؛ أي: يُرسل جيشه في أول الليل ليختطفوا الصبيانَ والمواشي. روى هذا الحديثَ جابر. * * *

3312 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "غَطُّوا الإِناءَ وأوْكُوا السِّقاءَ، فإنَّ في السَّنةِ ليلةً ينزلُ فيها وباءٌ لا يمرُّ بإناءٍ ليسَ عليهِ غطاءٌ أو سِقاءٌ ليسَ عليهِ وِكاءٌ إلَّا نَزَلَ فيهِ مِنْ ذلكَ الوَباءِ". قوله: "فيها وَبَاء"؛ أي: هلاك، يعني: ينزل وباء في ليلة من ليالي السنة، ويقع في آنية مكشوفة الرأس، أو سِقاء مفتوح، فمن شَرِبَ من ذلك الطعام أو الشراب يَهْلَك. و (الوِكاء): ما يُشد به رأس السِّقاء. * * * 3313 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ أبو حُمَيْدٍ - رجلٌ مِنَ الأنصارِ - مِنْ النَّقيعِ بإناءٍ منْ لبن إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا خَمَّرْتَهُ ولوْ أنْ تَعْرُضَ عليهِ عودًا". قوله: "من النقيع"، (البقيع) - بالباء -: اسم مقبرة، وبالنون: اسم روضة حَمَاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، كلاهما بالمدينة، وفي هذا الحديث (من النقيع) بالنون، ومَنْ قال الباء فقد صَحَّف؛ أي: قرأ تصحيفًا. * * * 3315 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هذه النَّارَ إنَّما هيَ عَدوٌّ لكُمْ، فإذا نِمتُمْ فأطْفِئوها عنكُمْ". قوله: "إن هذه النار إنما هي عدوٌّ لكم"؛ يعني النار تحرِق ما تَصِلُ إليه، فإذا نِمْتُم فاخمِدوا النار كيلا تحرِقَ شيئًا لكم.

روى هذا الحديثَ أبو موسى. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3316 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتُمْ نُباحَ الكِلابِ ونهيقَ الحميرِ من اللَّيل فتعوَّذُوا بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم، فإنهنَّ يَرَوْنَ ما لا ترَوْنَ، وأقِلُّوا الخُروجَ إذا هدأتِ الأرجُلُ فإنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ في ليلته ما يشاءُ، وأجِيفُوا الأبوابَ واذكُرُوا اسمَ الله عليه، فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتحُ بابًا أذا أُجِيفَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه، وغطُّوا الجرارَ وأكْفِئوا الآنيةَ وأوْكُوا القِرَبَ". قوله: "فإنهن يَرَين ما لا ترون"؛ يعني: فإنهن يرينَ الشيطانَ فيصوتْنَ فتعوَّذوا من الشيطان الرجيم. قوله: "وأقلوا الخروج أذا هدأت الأرجل"، (هدأت)؛ أي: سَكَنت؛ يعني: إذا دخل الليل، وقَلَّ ترددُ الناس في الطرق والأسواق فأقِلُّوا الخروجَ من بيوتكم. "فإن الله يبُثُّ"؛ أي: يفرِّق من خلقه من الجنِّ والشياطين والحيوان المُضرَّةِ، فلا تخرجوا من بيوتكم كيلا يَصِلَ إليكم منهم ضررٌ. (الجِرار) جمع جَرَّة. * * * 3317 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: جاءتْ فأرةٌ تَجُرُّ الفتيلةَ فألقَتْها بين يَدَيْ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الخُمْرَةِ التي كانَ قاعِدًا عليها، فأحرقَتْ منها مِثلَ موضعِ

الدِّرهَمِ، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا نِمتُمْ فأطفِئُوا سُرُجَكُمْ فإنَّ الشَّيطانَ يدُلُّ مِثلَ هذِهِ على هذا فتحرقَكُم". قوله: "على الخُمْرة"؛ أي: على السَّجَّادة. ° ° °

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المَفَاتِيْحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ [5]

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م

20 - كتاب اللباس

20 - كِتَابُ اللِّبَاسِ

1 - باب

[20] كِتَابُ اللِّبَاسِ (كتاب اللباس) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 3318 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ أحبُّ الثِّيابِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَلْبَسَها الحِبَرة. قوله: "الحبرة": المُخَطَّط من بُرد اليَمن. * * * 3319 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ غَداةٍ وعليهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِن شعرٍ أَسودَ. قوله: "وعليه مِرط مُرَحَّل"، (المِرط): إزار طويل واسع يُتَّزر به، ويُلقى بعضُه على الكتفين، (المُرَحَّل): ما عليه صورٌ كصور الرَّحْل. * * * 3321 - عن أبي بُرْدةَ قال: أخرجَتْ إلينا عائِشَةُ كِساءً مُلَبَّدًا وإزارًا غليظًا

فقالت: قُبضَ روحُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذيْنِ. قوله: "كساء مُلبَّدًّا"؛ أي: مرقَّعًا، يقال للرقعة التي تخاط على صدر القميص: لِبْدَة، والرقعة التي تخاط على ظهر القميص: قَب وقَبيبة. * * * 3324 - وقالت عائشةُ: بينا نحنُ جُلوسٌ في بيتِنا في حَرِّ الظَّهيرةِ قالَ: قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُقْبلًا مُتَقَنِّعًا. قوله: "هذا رسول الله مُقبلًا متقنِّعًا"، (مقبلًا متقنعًا) منصوبان على الحال؛ يعني: قال قائل: قد جاء رسول الله في حال كونه مُقبلًا إلينا متقنِّعًا. (المتقنِّع): الذي ألقى على رأسه إزارًا لدفع الحَرِّ أو البرد. * * * 3325 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: فِراشٌ للرَّجلِ، وفِراشٌ لامرأتهِ، والثالثُ للضَّيفِ، والرابعُ لِلشَّيطانِ. قوله: "الرابع للشيطان"؛ يعني: ما زاد على قدر الحاجة إسراف، والإسرافُ من فعل الشيطان. * * * 3326 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظرُ الله يومَ القيامةِ إلى مَن جرَّ إزارَه بَطَرًا". قوله: "من جَرَّ إزارَه"؛ أي: من كان ذَيلُه أو إزاره طويلًا بحيث يجرُّه على الأرض من البَطَر وهو التكبُّر والتبخْتُر. * * *

3328 - وقال: "بينَما رَجُلٌ يجرُّ إزارَه مِن الخُيَلاءِ، خُسِفَ بهِ فهو يَتجَلْجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القيامةِ". قوله: "خُسِفَ به"؛ أي: أدخل فيه. "يتجَلْجَلُ"؛ أي: يدخل في الأرض. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 3329 - وقال: "ما أسفلَ مِن الكعبينِ مِن الإزارِ في النَّارِ". قوله: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"؛ يعني: يجوز تطويلُ الذَّيلِ إلى الكعبين، فما أسفل من الكعبين فهو موجِبٌ لإدخال صاحبه النار. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3330 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأكلَ الرَّجلُ بشِمالهِ، أو يمشيَ في نعلٍ واحدةٍ، وأنْ يشتملَ الصَّمَّاءَ أو يحتبيَ في ثوبٍ واحدٍ كاشِفًا عن فَرْجهِ. قوله: "أو يمشي في نعل واحدة"، سبب النهي عن المشي في نعل واحدة وجوه: أحدها: أن الرَّجُل إذا كانت إحدى رجليه حافيةً فتخرج تلك القدم فيعتمد على القدم المُتنعِّلة فيعسُر عليه المشيُ. الثاني: أنه إذا اعتمد على القدم المتنعلة تظهر قدمُه الحافية في نظر الناس كأنه أقصر من رجله المتنعلة، فيعِيبُه الناسُ وينسبونه إلى العَرَج، فيكون

تغييرًا لخَلْقِ الله. الثالث: أن الناس ينسبونه إلى السَّفَه وقلَّة العقل؛ لأن هذا الفعل ليس من فعل العقلاء، وقد ذُكر شرح اشتمال الصَّمَّاء والاحتباء في (باب النهي عنها من البيوع). * * * 3331 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لبسَ الحريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخرةِ". قوله: "من لَبسَ الحريرَ في الدنيا لم يَلْبَسْه في الآخرة"، تأويله: من لبس الحرير في الدنيا معتقدًا تحليلَه فهو كافر فلم يدخلِ الجنة، فإذا لم يدخل الجنة لم يلبسْ من حريرها، وإن لبسَ الحرير في الدنيا معتقدًا تحريمَه فتأويلُ الحديث في حقه: أنه لا يدخل الجنة حتى يُطَهَّر من الذنوب؛ إما بالتوبة، أو بأن يعفو الله تعالى عنه بفضله، أو بأن يعذِّبه بقدْر ذنوبه ثم يدخل الجنة ويلبس الحرير. روى هذا الحديثَ ابن الزبير. * * * 3332 - وقال: "إنَّما يلبسُ الحريرَ في الدُّنيا مَن لا خَلاقَ لهُ في الآخرةِ". قوله: "من لا خلاق له"؛ أي: من لا نَصيبَ له، وتأويل هذا الحديث ما ذُكر. روى هذا الحديثَ عمر. * * *

3334 - وقال عليُّ - رضي الله عنه -: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ سِيَراءَ فبعثَ بها إليَّ فلَبستُها، فعرفْتُ الغضبَ في وجههِ، فقالَ: "إنِّي لم أبعثْ بها إليكَ لِتَلبَسَها، إنما بعثتُ بها إليكَ لتُشَقِّقَها خُمُرًا بينَ النساءِ". قوله: "حُلَّة سِيَراء"؛ أي: ثوب مُخَطَّط، ووجهُ تحريمِها على الرجال: أنها كانت من إِبْرِيْسَم، أو كان أكثرُها إبرِيسَمًا. قوله: "لتشقِّقها خُمُرًا"، (الخُمُر): جمع خمار وهي المُقَنَّعة؛ يعني: لتقطعْها قطعة، وكلُّ قطعة قدر خِمار، وتعطي كلَّ امرأة واحدةً منها. * * * 3336 - ورُوِيَ عن عمرَ: أنَّه خطبَ بالجابيَةِ فقال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الحريرِ إلا في موضعِ إصْبَعَينِ، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ. قوله: "خطبَ بالجَابية"؛ أي: وعظ الناس بالجابية وهي اسمُ بلدٍ بالشام. قوله: "إلا موضعَ إصبعَينِ، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ"؛ يعني: يجوز أن يجعل قدر أربع أصابع مضمومة من الحرير علمًا أو فَراويز لثوب، وإنما قلنا: قدر أربع أصابع مضمومة من الحرير لا مُفَرَّجة؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - روى في هذا الحديث المتقدم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إصبعيه وضَمَّهما. * * * 3337 - وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ: أنها أخرجَتْ جُبَّةَ طَيالِسَةٍ كِسْرَوانِيَّةٍ لها لِبنةُ ديباجٍ، وفرجَيْها مكفوفَيْنِ بالدِّيباجِ، وقالت: هذه جُبَّةُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، كانَتْ عندَ عائشةَ رضيَ الله عنها، فلمَّا قُبضَتْ، قَبَضْتُها، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبَسُها، فنحنُ نغسِلُها للمَرْضَى نستَشْفي بها".

قوله: "جُبَّة طَيالِسة"؛ أي: رَثَّة وهي الخَلَق. "فَرْجاها"؛ أي: شِقَّاها. "مكفوفان"؛ أي: مَخِيطان بالحرير؛ يعني: خِيط على طرف كلِّ شق قطعة ثوبِ حرير من الأعلى إلى الأسفل. * * * 3338 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رَخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للزُّبيرِ وعبدِ الرحمنِ ابن عوفٍ في لُبْسِ الحريرِ لحِكَّةٍ بهما. ورُوِيَ: أنهما شَكَوَا القَمْلَ فرخَّصَ لهما في قُمُصِ الحريرِ. قوله: "فرخص لهما في قمص الحرير"، (القُمُص): جمع قميص؛ يعني: يجوز لبس الحرير إذا دعت ضرورة إلى لبسه؛ كالحرِّ والبرد المُهْلِكَين، وكما إذا فاجأته الحربُ ولم يجدْ غيره، أو دعت إليه حاجةٌ بأن كان به جَرَبٌ أو حِكَّة، أو لَبسه لدفع القَمْل. * * * 3339 - عن عبدِ الله بن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: رَأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فقال: "إنَّ هذه مِن ثيابِ الكُفَّارِ فلا تلبسهما". وفي روايةٍ: "قلتُ: أَغسِلُهما؟ قال: "أَحرِقْهما". قوله: "رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبينِ مُعَصْفَرينِ فقال: إنَّ هذه مِنْ ثيابِ الكُفَّار"، (المُعصفر): المصبوغ بالعُصْفر وهو شيء أحمر يقال له بالفارسي: خسك، كَرِهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الثوبَ الذي جميعه (¬1) أحمر للرجال؛ لأن لبسه تشبيهٌ ¬

_ (¬1) في "ش": "صبغُه".

للرجال بالنساء، وقيل: النهي مختصٌّ بالمعصفر دون المصبوغ بحُمرة أخرى؛ لأن للمعصفر رائحةً لا تليق بالرجال، ويجوز المصبوغ بالحُمرة من المعصفر وغيره للنساء. قوله: "إن هذا من ثياب الكفار"؛ يعني: الكفار هم الذين لا يميزون الرجال من النساء في اللبس بخلاف المسلمين، فإن الرجالَ لا يلبسون ثياب النساء. قوله: "أحرقهما"، هذا مبالغة للزَّجر، وقد جاء في الصِّحاح برواية أخرى: أن عبد الله بن عمرو لمَّا عرف الكراهة في وجه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلبسه الثياب المعصفر ألقى ذلك الثوبَ في تِنَّور وأحرقَه، فلما أتى إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعلتَ بثوبك؟ " فقال: أحرقتُه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا كَسَوتَها بعضَ أهلِك، فإنه لا بأسَ بها للنساء". * * * مِنَ الحِسَان: 3340 - عن أمِّ سَلَمةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: كانَ أحبُّ الثِّيابِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - القميصَ. فقولها: "كان أحبُّ الثيابِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القميصَ"، (الثياب) جمع ثوب، وهو اسم لما يَسْتُر به الرجلُ نفسَه مَخِيطًا كان أو غيرَ مَخِيط. و (القميص): اسم لما يلبسه الرجل من المَخِيط الذي له كُمَّان وجَيب. * * * 3341 - عن أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنها قالت: كانَ كُمُّ قميصِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرُّسْغِ. غريب.

قولها: "إلى الرُّسْغ"؛ أي: إلى الكُوع. * * * 3342 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبسَ قميصًا بدأَ بميامِنِهِ. قوله: "بدأ بميامنه"؛ أي: أخرج يدَه اليمنى في الكُمِّ قبل اليسرى، وكذلك في السَّراويل. * * * 3343 - وعن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إزْرَةُ المؤمنِ إلى أنصافِ ساقَيْهِ، لا جُناحَ عليهِ فيما بينَهُ وبينَ الكعبينِ، ما أسفلَ مِن ذلكَ ففي النارِ"، قال ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، "ولا ينظرُ الله يوم القيامةِ إلى مَن جَرَّ إزارَهُ بَطَرًا". قوله: "إزرة المؤمن"، (الأُزرة): الإزار، (الأنصاف) جمع نِصْف. * * * 3345 - عن أبي كبشةَ - رضي الله عنه - قال: "كانَ كِمامُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بُطْحًا". قوله: "كانت كمَامُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بُطْحًا"، (الكِمام) جمع كُمَّة وهي القَلَنْسُوة. (البطح): جمع أبطح وبَطْحاء، والأبطح: المُنْبسط، وقَلَنْسُوة بطحاء: التي تُلْصق على الرأسِ غير مرتفعةٍ عن الرأس. * * *

3346 - عن أمِّ سلمَةَ قالت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ ذَكَرَ الإِزارَ: فالمرأةُ يا رسولَ الله؟ قال: "تُرْخي شِبْرًا"، فقالت: إذًا ينكشفُ عنها - ويُروَى: تنكشفُ أقدامُهنَّ - قال: "فذراعًا، لا تَزيدُ عليهِ". قوله: "تُرخِي شِبْرًا"؛ أي: تُسْبل ذيلَها أو إزارها قَدْرَ شِبْر؛ يعني: يجوز للنساء إطالةُ أذيالهن بحيثَ يَصِلُ قدرُ ذراعٍ من أذيالهنَّ إلى الأرض لتكون أقدامُهنَّ مستورةً. * * * 3347 - عن معاويةَ بن قُرَّةَ، عن أبيه قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ مِن مُزَيْنَةَ، فبايعوهُ وإنه لَمُطْلَقُ الإِزارِ، فأدخلتُ يدَيَّ في جيبِ قميصِهِ، فمَسَسْتُ الخاتمَ. قوله: "وإنه لَمُطْلَقُ الإزار"، (المطلق): المفتوح، و (الإزار) هنا بمعنى: القميص؛ يعني: كان قميصُه مفتوحًا واسعًا، ولم يكن مشدودَ الأزرار- الأزرار: جمع زِر: وهو ما تَعلَّق بالعُروة، والعُرْوة: حِلَق الجَيب، وكان عادة العرب أن تكون جُيوبُهم واسعةً فربما يشدُّونه وربما يتركونه مفتوحًا -. * * * 3348 - عن سَمُرةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِلبَسُوا الثيابَ البيضَ، فإنها أَطْهرُ وأطيبُ، وكفِّنوا فيها مَوْتاكم". قوله: "البسُوا الثيابَ البيضَ فإنَّها أطهرُ وأطيبُ"، إنما قال: (أطهر)؛ لأنه لم تصل إليه يدُ الصِّبَاغ، فإن الصِّبغ قد يكون نجسًا بتلطُّخه وملاقاته شيئًا نجسًا، فإن الثياب الكثيرة إذا أُلقيت في ظَرف الصِّبغ يمكن أن يكون بين تلك

الثياب ثوبٌ نجس فينجُسُ الصِّبغ، فالاحتياط أن لا يصبغ الثوب، ولأن المصبوغ إذا وقعت عليه نجاسة لا تظهر مثل ظهورها إذا وقعت في ثوب أبيض، فإذا كانت النجاسة أظهرَ في ثوب الأبيض يغسِلُه صاحبه فقد عُلِمَ أن الثوبَ الأبيض أطهرُ من غيره. قوله: "وأطيب"؛ أي: أحسن؛ لأن الثوب الأبيض بقي على اللون الذي خلقه الله عليه، وتركُ تغييرِ خلق الله أحسن وأحبُّ، إلا إذا جاء نصٌّ باستحباب تغييره كخِضاب المرأة يدَها بالحِنَّاء وخِضاب الشَّعر. * * * 3349 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَمَّ سَدَلَ عمامَتَهُ بينَ كتفيْهِ. غريب. قوله: "سَدَلَ عِمامَته"؛ أي: أسبلَ جُزْءَ عِمامته خلفَ ظهره. * * * 3350 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ - رضي الله عنه -: أنه قال: عمَّمَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فسدَلَها بينَ يديَّ ومِن خلفي". قوله: "فَسدَلها"؛ أي فأسبلَ لعِمَامتي جزأين؛ أحدَهما خلفَ ظهري، والآخرَ على صدري. * * * 3351 - وعن رُكانةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَرْقُ ما بَينَنا وبينَ المُشركينَ، العَمائمُ على القَلانِسِ"، صحيح. قوله: "فَرْقُ ما بينَنا وبينَ المشركين العمائمُ على القَلانس"؛ يعني: كان

المشركون يعمِّمون على رؤوسهم من غير أن يكون تحت العمامة قَلَنْسُوة، ونحن نعمِّمُ على القَلَنْسُوة. * * * 3352 - عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ للإِناثِ مِن أمَّتي، وحُرِّمَ عن ذكورِها"، صحيح. قوله: "أُحِلَّ الذهبُ والحريرُ للإناث من أمَّتي، وحُرِّم على ذكورها"، أراد بتحليل الذهب والفضة على النساء الحلي دون الأواني، فإنَّ الأواني من الذهب والفضة حرامٌ على الإناث كالذُّكور. * * * 3353 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استَجَدَّ ثوبًا سمَّاهُ باسمهِ، عمامةً، أو قميصًا، أو رداءً"، ثم يقولُ: "اللهمَّ لكَ الحمدُ كما كَسَوْتَنِيهِ، أسألُكَ خيرَه وخيرَ ما صُنِعَ لهُ، وأعوذُ بكَ مِن شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ لهُ". قوله: "استَجَدَّ"؛ أي: إذا لبس ثوبًا جديدًا سمَّاه باسمه؛ مثل أن يقول: رزقني الله هذه العمامةَ، أو هذا القميصَ، أو يقول: كَساني الله هذه العمامةَ، وما أشبه ذلك، ثم يدعو، ويحتمل أن يسمِّي ذلك الثوب عند قوله: (كما كسوتني) بأن يقول: اللهمَّ لك الحمدُ كما كسوتني هذا الثوبَ أو هذه العمامةَ وغيرهما. * * * 3355 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ! إنْ أردتِ اللُّحوقَ بي فليكفِكِ مِن الدُّنيا كزادِ الرَّاكبِ، وإيَّاكِ

ومجالسةَ الأغنياءِ، ولا تستخلقي ثوبًا حتَّى ترقعيهِ"، غريب. قوله: "ولا تَسْتَخْلِقي ثوبًا"؛ أي: ولا تتركي ثوبًا ولا تُلقيه حتَّى تَخِيطي عليه رُقْعة، ثم تَلبسيه مرةً أخرى، أراد - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث: تحريضَ عائشةَ على ترك الدنيا واختيارِ القَناعة. * * * 3356 - وقال: "إنَّ البَذاذَةَ مِن الإيمانِ". قوله: "إن البَذَاذةَ من الإيمان"، (البذاذة): خُلُوقة الثوب؛ يعني: ترك الزينة واختيار الفقر بلبس الخَلَقِ من الثياب من كمال الإيمان. روى هذا الحديثَ إياس بن ثعلبة. * * * 3357 - وقال: "مَن لبسَ ثوبَ شُهْرةٍ في الدُّنيا، ألبسَهُ الله ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامةِ". قوله: "مَنْ لَبسَ ثوبَ شُهْرة"؛ يعني: من لبس ثوبًا مُزيَّنًا للتفاخر والتكبُّر ألبسه الله ثوبَ مَذَلَّة يوم القيامة. * * * 3358 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم". قوله: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم"؛ يعني: من شَبَّه نفسَه بالكفار في اللباس وغيره من المحرَّمات، فإن اعتقد تحليلَه فهو كافر، وإن اعتقد تحريمَه فقد أَثِمَ،

وكذلك من شَبَّه نفسه بالفُسَّاق، ومن شبَّه نفسَه بالنساء في اللباس وغيره فقد أَثِم. * * * 3359 - وقال: "مَن تركَ لُبْسَ ثوبِ جَمالٍ وهو يقدرُ عليهِ - ويُروَى: تَواضعًا - كساهُ الله حُلَّةَ الكرامةِ". وقال: "مَن زَوَّجَ للهِ توَّجَهُ الله تاجَ الملكِ". قوله: "كسَاه الله حُلَّة الكَرامة"؛ يعني: من ترك ثوبَ زينة مع القدرة عليه أكرمه الله وألبسَه من ثياب الجنة. روى هذا الحديث معاذ بن أنس. * * * 3360 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُحِبُّ أن يَرى أثرَ نِعمَتِهِ على عبدِه". قوله: "أن يرى أثرَ نعمتِه على عَبْدِه"؛ يعني: إذا آتى الله عبدًا من عباده نعمةً من نِعَم الدنيا فليُظْهِرْها من نفسه بلبس لباسٍ يليق بحاله إذا لم يكن ذلك اللباسُ محرَّمًا، ولتكنْ نيتُه في لبس ذلك اللباس إظهارَ نِعَمِ الله ليقصِدَه المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات، ولا يجوز أن يكتُم نِعَمَ الله بحيث لا يعرفُه المحتاجون، ولا يَصِلُ منه خيرٌ إلى الناس، وكذلك العلماء لِيُظْهروا علمَهم ليعرفَهم الناسُ ليستفيدوا من علمهم. * * * 3361 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائِرًا، فرأَى رجلًا شَعِثًا قد تفرَّقَ شَعرُهُ فقال: "أَما كانَ يجدُ هذا ما يُسَكِّنُ بهِ رأسَهُ"، ورأَى رَجُلًا عليهِ ثيابٌ وَسِخةٌ فقال: "أَما كانَ يجدُ هذا ما يغسلُ بهِ ثوبَهُ".

قوله: "رأى رجلًا شَعِثًا"؛ أي: متفرقَ شعرِ الرأس، أراد بهذا الحديث: أنه لا ينبغي للرجل أن يشبه نفسَه بالحيوان غيرِ الآدمي، بل ليتطَهَّر وليتطيَّب وليتزيَّن، فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىَ آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِرينَ} [البقرة: 222]. * * * 3362 - عن أبي الأَحْوَصِ الجُشَميِّ - رضي الله عنه -، عن أبيهِ قال: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ أَطمارٌ فقال: "هل لكَ مِنْ مالٍ؟ " قلتُ: نعم، قال: "مِن أيِّ المالِ؟ " قلتُ: مِن كلٍّ قد آتاني الله، مِن الشَّاءِ والإِبلِ، قال: "إذا آتاكَ الله مالًا فلتُرَ أثرُ نعمةِ الله وكرامتِهِ عليكَ". قوله: "وعليَّ أَطْمار"، الواو للحال، (أطمار): جمع طُمر، وهو الثوب الخَلَق. "فلتر نعمة الله وكرامته عليك"؛ يعني: البس ثوبًا يليق بحالك ليعرف الناس أنك غني، وأن الله قد أنعم عليك بأنواع النعم. * * * 3363 - وعن عبدِ الله بن عَمرٍو - رضي الله عنه - قال: مَرَّ رجلٌ وعليهِ ثَوْبانِ أحمرانِ، فسلَّم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلَمْ يَرُدَّ عليهِ. قوله: "مرَّ رجلٌ وعليه ثوبانِ أحمرانِ فسلَّم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَرُدَّ عليه"، هذا الحديث يدل على أن مَنْ كان مشغولًا بمَنْهيٍّ في وقت تسليمه لا يستحقُّ جوابَ السلام، ويستحب أن يقول المُسلَّم عليه: إنما لم أردَّ عليك السلامَ لأنكَ مشغولٌ بالمنهي. * * *

3364 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أركبُ الأُرْجُوانَ، ولا أَلبَسُ المُعَصْفَر، ولا أَلبسُ القميصَ المكفَّفَ بالحريرِ"، وقال: "ألا وَطِيبُ الرِّجالِ ريحٌ لا لونَ لهُ، وطيبُ النِّساءِ لونٌ لا ريحَ لهُ". قوله: "لا أركبُ الأرْجُوان"، (الأرجوان): ورد أحمر؛ يعني: لا أجلس على ثوب أحمر، ولا أركب دابة على سَرْجِها مِيثرة حمراء، والمِيثرة: وسادة صغيرة توضع في السَّرج. قوله: "ولا ألبسُ القميصَ المكُفَّفَ بالحرير"، هذا الحديث يناقض حديث أسماء بنت أبي بكر فإنها أخرجت جُبَّة طَيالِسَة كِسْرَوانيَّة فَرْجَاها مَكْفُوفان بالدِّيباج، وتأويل هذا الحديث: أن ما كُفِّف بالحرير من الثوب أكثر من قَدْرِ ما رُخِّص وهو قدر أربع أصابع، أو يُتأول هذا الحديث على الوَرَع وذلك الحديث على الرُّخصة. قوله: "وطِيبُ الرجالِ ريحٌ لا لونَ له، وطِيبُ النساءِ لونٌ لا ريحَ له"، (الطِّيب): اسمٌ لِمَا يَجِدُ الرجلُ منه تلذُّذًا؛ إما بالفَمِ كالأطعمة اللذيذة، أو بالعين كالألوان المُسْتَمْلَحة، أو بالأنف كالرائحة الطَّيبة؛ يعني: ليكن طيبُ الرجال رائحةً دون اللون كرائحة ماء الورد والعود وغيرها من الروائح الطيبة، وليكن طيبُ النساء لونًا دون رائحة كخِضاب اليد والرِّجل بالحِنَّاء، ولا يجوز لهنَّ التطيُّبُ بما له رائحة طيبة عند الخروج من بيوتهنَّ إلى صلاة أو عبادة أو غيرها، فيجوز لهنَّ التطيبُ عند أزواجهنَّ إذا لم يخرجْنَ من بيوتهنَّ. روى هذا الحديثَ عِمْران بن حُصَين. * * * 3365 - وعن أبي ريحانةَ - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرٍ: عن

الوَشْرِ، والوَشْمِ، والنَّتْفِ، وعن مُكامَعةِ الرَّجُلِ الرَّجلَ بغيرِ شِعارٍ، ومُكامعةِ المَرأةِ المَرأةَ بغيرِ شِعارٍ، وأنْ يَجعَلَ الرَّجلُ في أسفلِ ثيابهِ حريرًا مثلَ الأعاجِمِ، أو يَجعلَ على مَنْكِبَيْهِ حريرًا مثلَ الأعاجمِ، وعن النُّهْبَى، ورُكوبِ النُّمورِ، ولُبوسِ الخاتم إلا لِذِي سُلطانٍ. قوله: "عن الوَشْر": وهو ترقيق السِّنان بحَديدة. و (الوشم): وهو أن يَغْرِز إبرة على ظهر الكف أو غيره ويجعل فيه شيئًا ليبقى نقشُه. و (النتف) أراد بهذا النتفِ نتفَ الشعر من الوجه كعادة النساء، ونتف الشعر الأبيض من اللحية كيلا يظن الرجل أنه صار أشيب، ونتف الشعر عند المصيبة من الرأس. "ومُكامَعة الرجلِ الرجلَ بغير شِعَار"، (المكامعة): المضاجعة، الشعار: اللباس؛ يعني: لا يجوز أن يضطجع رجل عند رجل عارِيَين، وكذلك المرأتان. "وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا"؛ يعني: لبس الحرير حرام على الرجال سواء كان تحت الثياب أو فوقها، وعادةُ جُهَّال العَجَم أن يلبسوا تحت الثياب ثوبًا قصيرًا من الحرير لتَلْيين أعضاءهم. "أو يجعل على منكبه حريرًا مثل الأعاجم"؛ يعني: نهى أن يجعل الرجل علم حرير على قميصه، وتأويل هذا النهي: أنه يكون أكثر من قدر ما رُخِّص فيه كما ذكر قبل هذا. "وعن النُهبى"؛ يعني: عن إغارة أموال المسلمين. وعن "ركوب النمور"، (النمور): جمع نمر؛ يعني: عن الجلوس على جلد النمر، ووجه النهي: أنه نجس إن لم يكن مدبوغًا، وإن كان مدبوغًا فطاهر، إلا أن الجلوس عليه رُعُونة وتكبر.

"ولبس الخاتم إلا لذي سلطان"؛ يعني: لا يجوز لبس الخاتم من الفضة إلا لسلطان فإنه يحتاج إليه لختم الكتاب وغيره، وهذا النهي منسوخٌ، بل يجوز لجميع الرجال التختُّمُ بالفضة، كما يأتي في بابه. * * * 3366 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتمِ الذَّهَبِ، وعن لُبْسِ القَسِّيِّ والمياثِر". وفي روايةٍ: عن مَياثِر الأُرْجُوان. قوله: "وعن لُبْسِ القَسِّيِّ"، (القسي): ثوب من حرير. قوله: "المياثر" جمع مِيْثَرة، وهي وسادة صغيرة توضع في السَّرج، وإنما سمِّيت مِيثرة لوَثَارتها كما ذُكر. * * * 3367 - وعن معاويةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَركبُوا الخَزَّ ولا النِّمارَ". قوله: "لا تركبوا الخَزَّ"، (الخز): ثوب من إِبْرِيْسَم وصُوف، وقد يُستعمل في الثوب من الإبريسَم والقُطْن والكَتَّان، والمراد به ها هنا: الثوب الَّذي كلُّه من إبريسَم، أو أكثرُه من إبريسَم. و"النمار": جمع نمر، وقد ذُكر. * * * 3369 - عن أبي رِمْثَةَ التَّيمِيِّ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ ثَوْبانِ أخضرانِ، ولهُ شعرٌ قد علاهُ الشَّيبُ وشَيبُهُ أحمرُ.

وفي روايةٍ: وهو ذو وَفْرَةٍ، وبها رَدْعٌ من حِنَّاءٍ. قوله: "قد علاه الشَّيبُ"؛ أي: صار أشيبَ وشيبُه أحمر؛ يعني: كان قد خَضَّب شعره الأبيض بالحِنَّاء. "ذو وَفْرة"، (الوفرة): شعر الرأس الذي وصل إلى شَحْمة الأذن. "وبها"؛ أي: وبالوفرة "رَدْغ"؛ أي: أَثَرٌ من الحِنَّاء. * * * 3370 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ شاكِيًا، فخرج يَتَوكَّأُ على أسامةَ، وعليهِ ثوبٌ قِطْريٌّ قد تَوَشَّحَ به، فصَلَّى بهم. قوله: "كانَ شَاكيًا"؛ أي: مريضًا. "يتوكأ"؛ أي: يتكأ. "ثوب قطر"، (القطر) - بفتح القاف وكسرها -: نوع من البُرود فيه حُمرة، القطر موضع بين عمان وسَيف البحر، وسيف الساحل: القِطر؛ أي: من الثوب المنسوب إليه. "توشَّحَ به"؛ أي ألقى ذلك الثوبَ على عاتقيه؛ لأنه كان شِبْهَ رداء. * * * 3371 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبانِ قِطْرِيَّانِ غَليظانِ، فكانَ إذا قعدَ فعرِقَ ثَقُلا عليهِ، فقدِمَ بَزٌّ مِن الشَّامِ لفلانٍ اليهوديِّ، فقلتُ: لو بعثتَ إليه فاشتريتَ منهُ ثَوْبينِ إلى المَيْسَرَةِ، فأَرسلَ إليه فقالَ: قد علمتُ ما يريدُ، إنما يريدُ أنْ يذهبَ بمالي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبَ؟ قد علمَ أنِّي من أتقاهُم وآدَاهُمْ للأَمانةِ".

قولها: "قَدِمَ بَزٌّ من الشام"، (البز): الثوب؛ يعني: أتى تاجرٌ بثوب من الشام. قولها: "لو بعثتَ إليه فاشتريتَ منه ثوبينِ إلى المَيْسرة"، (الميسرة)؛ أي: الغِنَى، جواب (لو) محذوف؛ يعني: لو أرسلت إلى ذلك اليهودي واشتريتَ ثوبين بثمن مؤجَّل إلى أن يحصل لك شيء من المال لَكانَ حسنًا حتى لا يتأذى بهذين الثوبين القِطْريين، وكان القِطْريان من الصُّوف، وهذا البَزُّ كان من القُطْن، فاستحسنت عائشةُ هذا البَزَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون القِطْر. قوله: "قد علمتُ ما يريدُ"؛ يعني: قال ذلك اليهوديُّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: علمتُ ما تريد، إنما تريد أن تأخذ مني الثوبَ ولا تؤدي ثمنه إليَّ. قوله: "قد عَلِمَ"؛ يعني: علم ذلك اليهوديُّ أنِّي أتقى الناسِ وأحسنِهم وفاءً بالعهد والأمانة؛ لأنه قد قرأ في التوراة صفتي، ولكن إنما يقول: (يريد أن يذهبَ بمالي) مِنَ الحسد. * * * 3372 - عن عبدِ الله بن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنه - قال: "رآني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ ثوبٌ مَصْبوغٌ بعُصْفُرٍ مُوَرَّدًا فقال: "ما هذا؟ " فعَرَفْتُ ما كرِهَ، فانطلقتُ فأحرقْتُه، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما صنعتَ بثوبكَ؟ " فقلتُ: أحرقتُه، قال: "أَفَلَا كَسَوْتَهُ بعضَ أهلِكَ، فإنه لا بأسَ بهِ للنِّساءِ". قوله: "مُوَرَّدًا"؛ أي: أحمر كلون الورد. * * * 3373 - عن هلالِ بن عامرٍ - رضي الله عنه -، عن أبيه قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمِنَى يخطُبُ على بغلةٍ وعليهِ بُرْدٌ أحمرُ وعليٌّ يُعَبرُ عنه.

قوله: "وعليه بُرْدٌ أحمر"، تأويل هذا: أن ذلك البُرد لم يكن أحمر كلَّه، بل كان عليه خُطوط حُمْر. قوله: "وعليٌّ يعبرُ عنه"؛ يعني: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان قائمًا يفسِّر ويُوصل كلامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس؛ لأنه من كَثْرةِ الخَلْق لا يَصِلُ صوتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جميعهم. * * * 3374 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: صُنِعَتْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَةٌ سوداءُ فلَبسَها، فلمَّا عَرِقَ فيها وجدَ ريحَ الصُّوفِ فقَذَفَها. قولها: "فقذفها"؛ أي: ألقاها. * * * 3375 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْتَبٍ بشَمْلَةٍ قد وقع هُدْبُهَا على قدمَيْهِ. قوله: "وهو يحتبي". (الاحتباء): أن يجلس الرجل على وَرِكَيه وينصِبَ ركبتيه بحيث يكون بَطْنا قدميه موضوعَين على الأرض. قوله: "ويحتبي بشَمْلَة"، يحتمل أن يكون معناه: كان جالسًا على هيئة الاحتباء، وألقى شملة خلفَ ركبتيه، وأخذ بكلِّ يدٍ طرفًا من تلك الشَّملةِ ليكون كالمتَّكئ على شيء، وهكذا تكون عادةُ العرب إذا لم يتكئوا على شيء أخذوا رُكَبَهم بأيديهم، وألقوا حبلًا أو مِنْطَقة أو غيرهما خلفَ ركبهم، ويشدُّونه خلف ظهرهم. ويحتمل أن يكون معناه: أنه كان جالسًا على هيئة الاحتباء وعليه شملة قد ائتزرَ بها.

قوله: "قد وقع هدبها على قدميه"، (الهدب): حاشية الإزار، وهذا يدل على أنَّ إطالة الذَّيل والإزارِ أسفل من الكعبين في الجلوس جائزٌ، والمنهي في إطالة الذيل أسفل من الكعبين إنما كان عند المشي والقيامِ دون القعود. * * * 3376 - عن دِحْيَةَ بن خليفةَ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَباطيَّ فأعطاني منها قُبطِيَّةً فقال: "اصدَعْها صَدْعَينِ، فاقطعْ أحدَهما قميصًا وأعطِ الآخرَ امرأتَكَ تختمرُ بهِ"، فلما أدبرَ قال: "وأْمُرِ امرأتَكَ أنْ تجعلَ تَحْتَهُ ثوبًا لا يصِفُها". قوله: "بقُبَاطي": هي جمع قُبْطِيَّة وهي الثوب الأبيض المصري. "اصْدَعْها"؛ أي: اقطَعْها. "صَدْعين"؛ أي: قطعتين. قوله: "تختَمِرُ به"؛ أي: تجعله خِمارًا. قوله: "لا يصِفُها"؛ يعني: كان ذلك القُبْطي رقيقًا بحيث يظهر منه لونُ البشرة، فأمرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل تحته مقنعة أخرى كيلا يظهر لون شعرها وجسدها، وكان ذلك القُبطي من الكَتَّان ولم يكن من الإِبْرِيْسَم؛ لأنه لو كان من الإبريسَم لم يجوِّزْ لدِحْية أن يلبَسَه. * * * 3377 - عن أمِّ سلَمَةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وهي تختمِرُ فقال: "لَيَّةٌ لا لَيَّتَيْنِ". قوله: "لَيَّةٌ لا لَيَّتين"؛ أي: أَدِيري خِمَارَك على رأسك دَورة واحدة لا دورتين كيلا يشتبه اختمارك بلَيَّ عمامة الرجال، فإنه لا يجوز للنساء تشبيهُ أنفسهنَّ بالرجال ولا الرجال بالنساء. * * *

2 - باب الخاتم

2 - باب الخاتَمِ (باب الخاتم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3378 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: اتَّخَذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا مِن ذَهَبٍ - وفي روايةٍ: وجعلَهُ في يدِه اليُمنَى - ثم أَلْقاهُ، ثم اتَّخذَ خاتَمًا مِن وَرِقٍ نُقِشَ فيهِ: محمدٌ رسولُ الله، وقال: "لا ينقشْ أحدٌ على نقشِ خاتَمي هذا"، وكانَ إذا لَبسَه جعلَ فَصَّهُ مما يلي بطنَ كفِّهِ. قوله: "اتَّخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب"، هذا كان قبل تحريم الذهب على الرجال. قوله: "لا ينقُشْ أحدٌ على نقَشِ خاتمي هذا"، (على) هنا بمعنى: المِثْل؛ أي: لا يجوزُ لأحد أن ينقُشَ على خاتمه مثل نقش خاتمي؛ يعني: نقشُ خاتمي: محمدٌ رسول الله، وليس أحدٌ رسول الله بعدي حتى ينقشَ على خاتمه رسولَ الله. * * * 3380 - وعن عبدِ الله بن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتمًا من ذهبٍ في يَدِ رجلٍ، فنزعَهُ فطرحَه، فقال: "يَعْمِدُ أحدكم إلى جَمْرٍ من نارٍ فيجعلُه في يدِه". قوله: "يعمِدُ أحدُكم إلى جَمْرٍ من نار"، (يعمِد)؛ أي: يقصد، (الجمر): قطعة خشب محترق قبل أن تَخْبُوَ نارُه؛ يعني: لبس الذهب للرجال سببُ حصولِ نارِ جهنَّمَ لهم. * * *

3381 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أنْ يكتبَ إلى كِسرَى وقيصرَ والنجاشِيِّ فقيلَ: إنَّهم لا يقبلونَ كتابًا إلا بخاتَمٍ، فصاغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتَمًا حَلْقَةً فضةً، نقشَ فيهِ: "مُحمَّدٌ رسولُ الله". قوله: "صاغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمًا", (صاغ)؛ أي: صنع؛ يعني: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بصنعِ خاتَمٍ له. * * * 3385 - وعن عليًّ - رضي الله عنه - قال: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَتَخَتَّمَ في أُصبَعي هذه أو هذه، قال: فأَوْمَأَ إلى الوُسْطَى والتي تليها. قوله: "والتي تليها" أراد بها السَّبَّابة. * * * مِنَ الحِسَان: 3389 - وعن معاويةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن ركوبِ النُّمورِ، وعن لُبْسِ الذَّهبِ إلا مُقَطَّعًا". قوله: "نهى عن رُكوب النُّمور، وعن لُبْسِ الذهب إلا مُقَطَّعًا"، مَرَّ بحثُ النمور في الباب المتقدم. قوله: "إلا مُقَطَّعًا"، قال الخطابي رحمه الله: يريد بالمقطَّع: الشيء اليسير؛ نحو شَدِّ سِنًّ وأنف مقطوعة بالذهب، كما يأتي في حديث كُلاب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) يعني: يوم كُلاب، وهو حديث عرفجة بن أسعد الآتي بعد أحاديث من هذا.

3390 - وعن بُرَيدَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لرجلٍ عليهِ خاتمٌ مِن شَبَهٍ: "ما لي أجدُ منكَ ريح الأصنامِ؟ " فطرحَهُ ثم جاءَ وعليهِ خاتمٌ مِن حديدٍ، فقالَ: "ما لي أَرَى عليكَ حِليةَ أهلِ النارِ؟ " فطرحَهُ فقال: "اتَّخِذْهُ مِن وَرِق ولا تُتِمَّهُ مِثْقالاً". قوله - صلى الله عليه وسلم - لرجل عليه خاتم من شَبَهٍ: "ما لي أجدُ منك ريحَ الأصنام"، فطرحه، ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: "ما لي أرى عليك حِلْيةَ أهلِ النار"، فطرحه. قال الخطابي رحمة الله عليه: إنما قال في خاتم الشَّبَه: "أجد منك ريح الأصنام"؛ لأن الأصنام كانت تُتَّخذ من الشبه، وأما الحديد فقد قيل: إنما كَرِه ذلك من أجل سُهوكة ريحه - السُّهوكة: الرائحة الكريهة -. ويقال: معنى قوله: "حِلْية أهل النار": أنه زِيُّ بعض الكفار وهم أهل النار. (الشَّبه)؛ يعني: يشبه الصُّفر، يقال له بالفارسي: بربخ. قوله: "ولا تتمَّه مثقالاً"، هذا نهي إرشاد على الورع، فإن الأَولى أن يكون الخاتم أقلَّ من مثقال؛ لأنه من السَّرَف أبعد، وإلى التواضع أقرب، فإنْ أتمَّه مثقالاً أو زاد على مثقال جاز، والمِثْقال هو الدِّينار. قول محيي السنة: "وقد صحَّ عن سهل بن سعد في الصَّداق: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "التمسْ ولو خاتَمًا من حديد"؛ يعني: أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الحديد ليس نهيَ تحريم؛ لأنه لو كان نهي تحريم لما جَوَّز لذلك الرجل أن يلتمسَ خاتمًا من حديد ويجعَله صَدَاقًا. * * * 3391 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ عشرَ خلالٍ: الصُّفْرةَ، يعني الخَلُوقَ، وتَغْييرَ الشَّيبِ، وجَرَّ الإِزارِ، والتختُّمَ بالذَّهبِ، والتبرُّجَ بالزينةِ لغيرِ مَحَلَّهَا، والضَّربَ بالكِعابِ، والرُّقَى إلا بالمعوِّذاتِ، وعقدَ

التمائمِ، وعزلَ الماء لغير مَحَلِّه، وفسادَ الصَّبيِّ غيرَ مُحَرِّمِه". قوله: "الخَلُوق"، الخَلُوق مكروه في حق الرجال لِمَا ذُكر أن طِيبَ الرِّجال ريحٌ لا لونَ له. "وتغيير الشيب"؛ يعني: خِضاب الشعر الأبيض بالسواد مكروه؛ لأنه كِتمان الشيب وتخييل الناس أنه شابٌ. "والتبرج بالزينة لغير محلِّها"، يعني بهذا الكلام: تزيين المرأة نفسَها لغير زوجها. "والضرب بالكِعاب"؛ يعني: اللعب بالنَّرد. "والرُّقى إلا بالمعوِّذات"، الرُّقى جمع رُقْية. قوله: "إلا بالمعوِّذات"، أراد بها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، عَبَّر بلفظ الجمع وأراد بها التثنية؛ لأن الجمع عبارة عن ضَمِّ شيء إلى شيء، فإذا كان معنى الجمع ضم أحد الشيئين إلى الآخر جاز أن يعبر بلفظ الجمع عن التثنية، ويحتمل أن يريد بالمعوَّذات كلَّ آية دعاء يقرأها الرجل ليعيذه الله من الشيطان، أو من فتنةٍ، أو شرِّ عدو، وغيرها. قوله: "وعقد التمائم"، (التمائم): جمع تَميمة وهي ما يُعلَّق بأعناق الصبيان من خَرَزات وعِظَام لدفع العين أو الريح وغيرها، وهذا منهيٌّ؛ لأنه لا يدفع شيئًا إلا الله، ولا يُطلب دفعُ المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته. "وعزل الماء لغيرِ محلِّه"، اللام في (لغير محله) بمعنى (من)؛ يعني: إبعاد المني عن الفرج؛ أي: إراقة المني خارجَ الفرج، ووجه النهي كراهة قَطْعِ النسل، ويحتمل أن يكون معنى (لغير محله) لغير الإماء؛ يعني: محل العزل الإماء دون الحرائر؛ يعني: يجوز العزل عن الإماء دون الحرائر، ويجوز في الحرائر باذنهنَّ وفي الإماء يجوز بإذنهن وغير إذنهن. "وفساد الصبي"؛ يعني: إفساد الصبي منهي، وهو أن يطأ الرجل المرأةَ

المُرْضعَة، فإنه ربما تحمل المرأة في تلك الحال فينقطع لبنها ويختلط لبنها باللِّبَأ فيضر الصبي المرتضع. "غيرَ مُحَرِّم"؛ يعني نهاهم عن إفساد الصبي، ولكن لم يحرَّم عليهم؛ يعني: نهاهم نهيَ تنزيه لا نهيَ تحريم. * * * 3392 - عن ابن الزُّبيرِ: أنَّ مولاةً لهم ذهبَتْ بابنةِ الزُّبيرِ إلى عمرَ بن الخَطَّابِ وفي رجلِها أجراسُ، فقَطَعَها عمرُ وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مع كلِّ جَرَسٍ شَيطانٌ". قوله: "مع كلِّ جَرسٍ شيطانُ"، ذُكر شرح هذا في (آداب السفر). * * * 3393 - ودُخِلَ على عائشةَ رضي الله عنها بجاريةٍ عليها جَلاجِلُ يُصَوِّتنَ فقالت: لا تُدخِلْنَها عليَّ إلا أنْ تُقطَّعْنَ جَلاجِلَها، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيهِ جرسٌ". قوله: "جلاجل" جمع جُلَجُل وهو الجرس الذي يُعلَّق برِجْل الصِّبيان. * * * 3394 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن طَرَفةَ: أنَّ جدَّه عَرفجَةَ بن أسعدَ قُطِعَ أنفُه يومَ الكُلابِ، فاتَّخذَ أنفًا مِن وَرِقٍ فأَنتنَ عليهِ، فأمرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتخِذَ أنفًا مِن ذهبٍ. قوله: "يوم الكُلاب" - بضم الكاف - اسم حرب معروف للعرب. * * *

3 - باب النعال

3395 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أحبَّ أن يُحَلِّقَ حبيبَهُ حَلْقَةً مِن نارٍ فليُحلِّقْه حلْقةً مِن ذهبٍ، ومَن أحبَّ أنْ يُطوِّقَ حبيبَهُ طَوْقًا مِن نارٍ فليُطوَّقْه طَوْقًا مِن ذهبٍ، ومَن أحبَّ أنْ يُسَوِّر حبيبَهُ سِوَارًا مِن نارٍ فليُسوِّرْه سِوَارًا مِن ذهبٍ، ولكنْ عليكم بالفِضَّةِ فالعَبوا بها". قوله: "فالعَبُوا بها"، (اللعب): تقليب شيء والتصرف فيه كيف شاء الرجل؛ يعني: اجعلوا الفِضَّة في أيِّ أنواع الحليِّ إذا كان التحلِّي للنساء، ولا يحِلُّ للرجال إلا الخاتم وتَحْلية السيف وغيره من آلات الحرب. 3396 - عن أسماءَ بنتِ يزيدَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما امرأةٍ تقلَّدَتْ قِلادَةً مِن ذهبٍ قُلِّدَتْ في عُنُقِها مثلَه مِن النَّارِ يومَ القيامةِ، وأيُّما امرأةٍ جعلَتْ في أُذنِها خُرْصًا مِن ذهبٍ جَعَلَ الله في أُذنِها مثلَها مِن النَّارِ يومَ القيامةِ". قوله: "قلدت في عنقها مثله يوم القيامة" فسَّروا هذا الحديثَ فيمن لا يؤدِّي زكاتها، وقد صنعت تلك القلادة فِرارًا من الزكاة، وقد اختلف الأئمة في وجوب الزكاة في الحلي إذا لِبسته النساء: فأحدُ قولي الشافعي وجوبُ الزكاة فيه. * * * 3 - باب النَّعَال (باب النعال) مِنَ الصِّحَاحِ: 3398 - قال ابن عمرَ - رضي الله عنه -: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبَسُ النِّعالَ التي ليسَ فيها شعرٌ.

قوله: "يلبس النعال التي ليس فيها شعر"؛ يعني: تصنع النعال من جلود نُقِّيَتْ من الشعر، من جلود لم تنق من الشعر، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النِّعالَ المصنوعةَ من جلود نُقِّيت من الشعر. * * * 3399 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ نعلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لها قِبالانِ. قوله: "إن نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لها قبالان (¬1) "؛ يعني: كان لكلِّ نَعل قِبَالان يُدْخِلُ الإصبعَ الوسطى والإبهامَ في قِبَال، والأصابعَ الأخرى في القِبَالِ الثاني. * * * 3400 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في غزوةٍ غزَاها: "استكِثرُوا مِن النَّعالِ فإنَّ الرَّجلَ لا يزالُ راكِبًا ما انتعلَ". قوله: "استكثروا"؛ أي: أكَثِرُوا. "ما انتعل"؛ يعني: ما دام الرجلُ لابسًا النعل؛ يعني: لابسُ النعلِ كالراكب والحافي كالراجل، والحافي مَن ليس له نعلٌ. * * * 3401 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتعلَ أحدكم فليبدَأ باليُمنَى، وإذا نزعَ فليبدَأ بالشِّمالِ، لِتكنِ اليُمنَى أوَّلَهما تُنعَلُ وآخِرَهما تُنزَعُ". قوله: "فليبدأ باليمنى"؛ يعني: الابتداءُ باليمنى مستحبٌّ في لبس النعل ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "قال أبو عبيدة: القبال مثل الرقاع بين الإصبع الوسطى والتي تليها، قيل: قبال النعل ما يشد به الشسع".

وغيرها كما يأتي. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3402 - وقال: "لا يمشي أحدكم في نَعلٍ واحدةٍ، ليُحْفِهما جميعًا، أو ليُنعِلْهُما جَميعًا". قوله: "لا يمشي أحدُكم في نعلٍ واحدةٍ"، حقُّه: لا يمشِ، بحذف الياء؛ لأنه نهيٌ، ولعل كتابة الياء من النسَّاخين، ذكرُ علَّةِ هذا النهي في (كتاب اللباس). قوله: "ليُحفِهما": هذا أمر من (أَحفَى): إذا جعل الرِّجلَ حافيةً: أي: بلا نعلٍ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3403 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن انقطعَ شِسْعُ نَعْلِه فلا يَمشِيَنَّ في نَعلٍ واحدةٍ حَتَّى يُصلِحَ شِسْعَهُ، ولا يمشِ في خُفًّ واحدٍ، ولا يأكلْ بشِمالِه، ولا يَحْتَبِ بالثَّوبِ الواحدِ، ولا يلتحِف الصَّمَّاءَ". قوله: "من انقطع شِسْعُ نعلِه"، (الشَّسْع): قِدُّ النعل الذي من جانب اليمين وجانب اليسار. قوله: "ولا يحتبي بالثوب الواحد، ولا يلتحف الصمَّاءَ"، (التحاف الصمَّاء): هو اشتمال الصمَّاء، وقد ذُكر بحث الاحتباء واشتمال الصمَّاء في (كتاب اللباس)، والنهي عن الاحتباء بثوب واحد لأجل ألا تنكشفَ عورتُه؛ لأنه إذا كان عليه إزارٌ واحدٌ، ورفعَ طرفَ إزاره وأخذَه خلف ركبته للاحتباء - كما ذُكر - تنكشف عورتُه.

روى هذا الحديثَ "جابر". * * * 3405 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَنْتَعِلَ الرَّجلُ قائمًا. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتعلَ الرجلُ قائمًا": هذا النهي مختصُّ بما في لبسه تعبٌ عن القيام كلبُسِ الخُفَّ، فإن النعلَ تحتاج إلى شدِّ شراكها، فلبسُها جالسًا أسهلُ، فأما لبسُ القَفْش فليس في لبسِه قائمًا تعبٌ، فلا يدخل تحت النهي. * * * 3406 - عن القاسم بن محمَّدٍ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: رُبَّما مَشَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في نَعلٍ واحدةٍ. والصَّحيح أنه عن عائشةَ رضي الله عنها: أنها مَشَتْ بنعلٍ واحدةٍ. قوله: "ربما مشى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعلٍ واحدةٍ": قد ذُكر قبل هذا وفي (كتاب اللبس) النهيُ عن المشي بنعلٍ، وتأويل هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لبسَ نعلًا واحدةً ليعلمَ الناسُ أن نهيَه - صلى الله عليه وسلم - عن المشي بنعلٍ واحدةِ نهيُ تنزيهٍ لا نهيُ تحريمٍ؛ لأنه لو كان نهيَ تحريمٍ لَمَا فعلَ - صلى الله عليه وسلم - ما نَهَى عنه، ويحتمل أن النهيَ عن المشي بنعلٍ واحدةٍ في مسافةٍ يلحق الرِّجلَ الحافيةَ جروحٌ وتعبٌ، فأما المشيُ القليلُ نحو المشي من البيت إلى المسجد المتقاربين لم يكن في ذلك القَدْر حرجٌ في المشي بنعلٍ واحدةٍ، وقد جاء أن عائشةَ رضي الله عنها مَشَتْ بنعلٍ واحدةٍ، وكذلك علي بن أبي طالب وابن عمر - رضي الله عنهم -، وألحق بعضُ الأئمة إدخالَ إحدى اليدَين في الكم دون اليد الأخرى، وإلقاءَ ردائه على إحدى المنكبَين في النهي عن المشي بنعلٍ واحدةٍ. * * *

4 - باب الترجيل

3408 - عن ابن بُرَيْدةَ، عن أبيه: أنَّ النَّجاشيَّ أهدَى إِلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُفَّينِ أسودَيْنِ ساذَجَيْنِ، فلبسَهما ثم توضَّأَ ومسحَ عليهما. قوله: "ساذجين"؛ أي: غير منقوشَين. * * * 4 - باب التَّرجيلِ (باب الترجل) مِنَ الصَّحَاحِ: 3409 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أُرَجِّلُ رأسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائِضٌ. "الترجُّل": التزيُّن والتطهُّر، والترجيل: تسريح الشَّعر بالمشط؛ أي: استعمال المشط في الشَّعر. * * * 3410 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفِطْرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستِحدادُ، وقَصُّ الشَّاربِ، وتقليمُ الأظفارِ، ونَتْفُ الآباطِ". "الفِطرة خمس"؛ أي: هذه الخمسُ من السُّنَّة. "الاستحداد": حلق العانة. "النتف": القلع، "الآباط" جمع: إبط؛ أي: قلع شَعر الإبط. * * *

3411 - وقال: "خالِفُوا المُشركينَ: أَوفِروا اللِّحَى، وأَحفُوا الشَّواربَ". ويُروَى: "أَنهِكوا الشَّواربَ، وأَعفُوا اللحىَ". قوله: "خالفوا المشركين"؛ يعني: المشركون يقصُّون اللَّحى ويتركون الشواربَ حتى تطولَ، فخالفوهم بأن تتركوا اللَّحى حتى تطولَ ولا تقصُّوها، وقُصُّوا الشواربَ. "أَوفِرُوا" أمر مخاطبين من (أَوفَر): إذا أتمَّ، و"أَحفُوا" أيضًا أمر مخاطبين من (أَحفَى): إذا قصَّ الشاربَ. "أَنهِكُوا": أمر مخاطبين من (أَنْهَكَ): إذا نقصَ شيئًا، ومعنى (انهكوا): أَنقِصُوا، ومعنى (أعفوا): أتمُّوا وأكثِروا، من (أعفى): إذا أتمَّ. "اللِّحى" جمع: لِحْيَة. * * * 3412 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: وُقِّتَ لنا في قصِّ الشَّاربِ، وتقليم الأظفارِ؛ ونَتْفِ الإِبْطِ، وحَلْقِ العانةِ، أنْ لا نتَرُكَ أكثرَ مِن أربعينَ ليلةً. قوله: "وُقَّتَ لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ أن لا تترك أكثرَ من أربعين ليلةً"، وقد جاء في توقيت هذه الأشياء أحاديثُ ليست في "المصابيح"، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ أظفارَه وشاربَه كلَّ جمعة، وعن أبي عبد الله الأغرَّ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصُّ شاربَه ويأخذ من أظفاره قبلَ أن يخرجَ إلى صلاة الجمعة، وقد ورد أكثرُ مِن هذه الأحاديث في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصُّ شاربَه ويُقلَّم أظفارَه في كل جمعة، وقيل: يحلق العانةَ في كل عشرين يومًا، وينتف الإبطَ في كل أربعين يومًا، وقيل: في كل شهر.

وذكر في كتاب "إحياء علوم الدين": أن الأدبَ في قلم الأظفار كل اليد أن يبدأَ بمُسبحتها ويختم بإبهامها، وفي أصابع الرَّجلين يبتدئ بِخِنْصِر الرَّجل اليمنى، ويختم بخِنْصِر الرِّجل اليسرى. * * * 3413 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اليهودَ والنَّصارَى لا يَصبُغُونَ فخالِفوهم". قوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالِفُوهم"؛ يعني: لا يصبغون شَعرهم الأبيضَ؛ فاصبغُوه أنتم. * * * 3414 - وعن جَابرٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ بِأَبي قُحَافةَ يومَ فتحِ مَكَّةَ، ورأسُه ولحيَتُه كالثُّغامَةِ بَيَاضًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "غَيروا هذا بشيءٍ, واجتنِبُوا السَّوادَ". قوله: "أُتي بأبي قحافة": عثمان بن عامر. "الثغَامة": نبتٌ أبيضُ يشبه بياض الشَّيب، ويقال بلسان بعض الفرس: سبيدخار (¬1)، وبلسان بعضهم: جاوزد. "غيروا هذا"؛ أي: اخضبوه بخضابٍ سوى السواد. * * * 3415 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتابِ ¬

_ (¬1) في "الصِّحاح"، و"لسان العرب": "إسبيذ".

فيما لم يُؤمرْ فيهِ، وكانَ أهلُ الكتابِ يَسدِلُون أشعارَهم، وكانَ المشركونَ يَفرُقون رؤوسَهم فسَدَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ناصيتَه ثم فَرَقَ بعدُ. قوله: "يحب موافقةَ أهل الكتاب فيما لم يُؤمَر فيه"؛ أي: فيما لم يُنزل فيه إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: موافقةُ أهل الكتاب أَولى من موافقة المشركين الذين لا كتابَ لهم؛ لأن أهلَ الكتاب احتمل أن يعملوا بما ذُكر في كتابهم، ولا يُحتمل هذا في المشركين. قوله: "وكان أهلُ الكتاب يَسدِلون أشعارَهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسَهم": أراد بـ (السَّدل) هنا: إرسال الشَّعر حول الرأس من غير أن يقسمَه نصفَين، وأراد بـ (الفَرق): أن يقسمَه نصفَين ويرسلَ نصفًا من جانب يمينه على الصدر ونصفًا من جانب يساره على الصدر. أورد عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده في كتابه المسمى بـ "إكرام الشَّعر": أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينةَ، فرأى اليهودَ يسدلون أشعارَهم، وكان إذا لم يُؤمَر به أحبَّ موافقةَ أهل الكتاب، فسدلَ وسدلَ المسلمون، ثم أتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالفَرق، ففرقَ وفرقوا رؤوسَهم، وكان أئمةُ الهدى يأمرون بالفَرق. قد روت أمُّ هانئ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكةَ، وله أربعُ غدائر؛ أي: ذوائب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُرسل شَعره وقتًا غيرَ مفتولٍ، ووقتًا مفتولًا؛ فاختلافُ الروايات هذا وجهُه. * * * 3416 - عن نافعٍ، عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن القَزَعِ. قيلَ لنافعٍ: ما القَزَعُ؟ قال: يُحْلَقُ بعضُ رأسِ الصَّبي ويُتْرَكُ البعضُ، وأَلحقَ بعضُهم التفسيرَ بالحديثِ.

قوله: "نَهَى عن القَزَع": بفتح القاف والزاي المعجمة، جمع: قَزعة، وهي قطعة من السحاب، شبَّه كلَّ قطعةٍ من شَعر المحلوق ما حولَه بقطعةٍ من السحاب، وجه كراهية القَزَع: تقبيحُ الصورة؛ فإن في القزع تقبيحًا للصورة؛ لأن القزعَ من عادة الكَفَرة. * * * 3417 - ورُوِيَ عن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيًّا قد حُلِقَ بعضُ رأسِه وتُرِكَ بعضُه، فَنَهاهُمْ عن ذلكَ وقال: "اِحلِقُوا كلَّه أو اتُركُوا كلَّه". قوله: "احلقوا كلَّه أو اتركوا كلَّه": هذا تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الحلقَ في غير الحج والعمرة جائزٌ، وتصريحٌ بأن الرجلَ مخيَّر بين الحلق وتركه. * * * 3418 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: "لعنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثينَ مِن الرِّجالِ، والمُترجَّلاتِ من النِّساءِ, وقال: "أَخرِجُوهم مِن بيوتِكم". قوله: "لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنَّثين من الرجال"، (خَنِثَ يَخْنَثُ) على وزن (عَلِمَ يَعْلَمُ): إذا انكسرَ الشيءُ ولانَ وفَتَرَ، والمُخنَّث: كلُّ رجلٍ شبَّه نفسَه بالنساء في اللباس وخضاب اليدَين والرَّجلَين، وفي الصوت والتكلم والحركات والسكنات، وهذا الفعلُ منهيٌّ عنه؛ لأنه تغييرٌ لخلق الله، وتغييرُ خلق الله مُضادَّةُ الله، ومَن ليس له شهوةٌ من الرجال ولم يُشبه نفسَه بالنساء فهو عِنِّين، وليس عليه حرجٌ؛ لأن انتفاءَ الشهوة عنه ليس بفعله، وانتفاء الشهوة ليس بعيبٍ مَنهيًّ، بل المَنهيُّ أن يُشبه الرجلُ نفسَه بالنساء. قوله: "والمترجَّلات من النساء"، (الترجُّل): تشبيه الشخص نفسَه بالرجل،

وكل امرأة شبَّهت نفسَها بالرجال في اللباس واستعمال السلاح فهي ملعونةٌ، ولا يجوز دخولُ المخنَّثين على النساء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يومًا بيته ورأى مخنَّثا جالسًا عند بعض نسائه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدخلَنَّ هذا عليكم"، فحجبوه. هذا خطابٌ للرجال، أمرَهم ألا يتركوا المخنَّثين أن يدخلوا بيوتَهم، وأخرج رسولُ الله مخنَّثًا من المدينة، وكذلك أَخرجَ عمرُ - رضي الله عنه - مخنَّثًا من المدينة. * * * 3420 - عن ابن عمرَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعنَ الله الواصِلةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والواشِمَةَ والمسْتَوْشِمَةَ". قوله: "لعن الله الواصلة والمستوصلة". (الواصلة): المرأة التي تَصِل شَعرًا أجنبيًا بشَعر امرأةٍ. (المستوصلة): المرأة التي تطلب هذا الفعلَ، ووجهُ النهي: أن هذا الفعلَ غرورٌ وكذبٌ؛ لأن المرأةَ تُظهر أن شَعرَها طويلٌ، وليس بطويلٍ، وهذا غرورٌ، وقد رخَّص أهل العلم في القرامل وهو ما يقال له بالفارسي: موى بند. قوله: "الواشمة": التي تغرز إبرةً على ظهر كفَّها أو ساعدها ليخرجَ منه الدمُ، وتجعل فيه كحلًا ليخضرَّ لونُه ويبقى فيه نقوشٌ، أو يكتب به أسماء. "والمستوشمة": المرأة التي تطلب أن يُفعَل بها الوَشْمُ. * * * 3421 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: لعنَ الله الواشِمَاتِ والمُستَوشِماتِ، والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجاتِ للحُسْنِ المُغيراتِ خلقَ الله، فجاءتهُ امرأة فقالت: إنَّه بلغَني أنكَ لعنتَ كيتَ وكيتَ؟ فقالَ: ما لي لا ألعنُ مَن لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -،

ومَن هو في كتابِ الله! فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللَّوحَينِ، فما وجدتُ فيهِ ما تقولُ؟ قال: لئنْ كنتِ قرأتِهِ لقد وجدْتِه، أَمَا قرأتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نَهَى عنه. "المتنمِّصة": التي تطلب أن يُنمصَ شَعرُ وجهها؛ أي: يُنتَف. "المتفلَّجة": التي تُرقِّق أسنانَها وتُزينها، ووجه النهي في هذه الأشياء: تغيير خلق الله. قوله: "فجاءته": ضمير المذكر الغائب ضمير ابن مسعود. "أنك لعنت كَيتَ وكَيتَ"؛ أي: سمعتُ أنك لعنتَ الواشماتِ والمُستوشِماتِ والمُتنمِّصاتِ والمُتفلِّجات، فقال ابن مسعود: كيف لا أَلعنُ مَن لعنَه رسولُ الله؟! أي: لعنَ رسولُ الله هؤلاء. قولها: "لقد قرأتُ ما بين اللَّوحَين": أرادت بـ (اللَّوحَين): جلد أول المصحف وجلد آخره؛ يعني: قرأتُ جميعَ القرآن. قوله: "قرأتِيه": الياء زائدة، حصلت من إشباع كسرة التاء، وكذلك في "وجدتِيه" (¬1). قوله: "أما قرأتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟! " يعني: إذا كان العبادُ مأمورين بانتهاء ما نهاهم الرسول عنه، وقد نهاهم رسولُ الله عن الأشياء المذكورة في هذا الحديث وغيره من المَنهيات، فكأن جميعَ منهيات الرسول نهيٌ مذكورٌ في القرآن. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "الياء في وجدتيه وكذا قرأتيه لغة بعض العرب من إشباع الكسرة في مثله؛ دفعًا لتوهم أن الخطاب مع المذكر".

3422 - عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَينُ حَقٌّ"، ونَهَى عن الوَشْمِ. قوله: "العينُ حقٌّ، ونهى عن الوَشْمِ"؛ يعني: ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أشياءَ كثيرةً في حديثٍ، منها قوله: العينُ حقٌّ، والوَشْمُ مَنهيٌّ، بهذه العبارة أو بعبارة أخرى بهذا المعنى، ومعنى قوله: (العينُ حقٌّ): أن تأثيرَ العين في الأشياء صدقٌ، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام؛ لأن الصحابةَ اختلفوا في تأثيرها؛ فقال بعضهم: العينُ مؤثِّرةٌ، وقال بعضهم: لا تؤثَّر العينُ، فبيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن العينَ مؤثِّرةٌ، ويأتي شرحه في (كتاب الطب والرُّقَى). * * * 3423 - وقال ابن عمرَ: لقد رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُلَبدًا. قوله: "لقد رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُلبدًا". التلبيد: إلصاق شَعر الرأس بعضها من بعض، بأن يجعل فيه صمغًا ليدفعَ القَمْلَ، ولئلا يتفرَّق الشَّعرُ، وهذا يُصنعَ في الإحرام، وأراد بإيراد هذا الحديث في هذا الباب: بيان جواز التلبيد في غير الإحرام أيضًا. * * * 3424 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتزعفرَ الرَّجلُ. قوله: "نهى النبيُّ أن يتَزَعْفَرَ الرجلُ"؛ يعني: أن يستعملَ الرجلُ الزعفرانَ في ثوبه وبدنه، وعلةُ النهي: أن استعمالَ الزعفران عادةُ النساء، فلا يليق بالرجال تشبيهُ أنفسهم بالنساء. * * *

3425 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أُطَيبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما نجدُ، حتى أجدَ وبيصَ الطَّيبِ في رأسِه ولحيتِه. قولها: "حتى أجد وبيص الطَّيب". (الوبيص): اللمعان، في هذا الحديث إشكالٌ، بيانُه: أنه قد ذكر أن طِيبَ الرجال ما ظهرت ريحُه وخفي لونُه، وفي هذا الحديث كان طِيبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ظهر لونُه، والتوفيق بين الحديثين بأن يقول: كل طِيبٍ له لونٌ، وفي ذلك اللون تشبيهٌ بالنساء، يكون ذلك اللونُ حسنًا مستطابًا مزينًا للجمال كالصُّفرة والحُمرة؛ فذلك الطَّيبُ غيرُ جائزٍ للرجال، وكلُّ طِيبٍ له لونٌ ولم يكن لذلك اللون حُسنٌ واستطابةٌ وتزيينُ الجمال فذلك جائزٌ للرجال، كالمِسك والعَنبر وغيرهما. * * * 3426 - وقالَ نافعٌ: كانَ ابن عمرَ إذا استجمرَ استجمرَ بأُلُوَّةٍ غيرِ مُطَرَّاةٍ، وبكَافُورٍ يطرحُه مع الأُلُوَّةِ ثم قال: هكذا كان يَستجمِرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "استَجْمَر"؛ أي: تعطَّر وتبخَّر. "الأُلُوَّة": العُود المطرَّاة التي طُليت بأنواع الطَّيب؛ يعني: ألقى في المجمَرة عودًا غيرَ ملطخةٍ وغيرَ معجونةٍ بطيبٍ آخرَ. * * * مِنَ الحِسَان: 3428 - عن زيدِ بن أرقمَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لم يأخذْ مِن شاربه فليس منا".

قوله: "مَن لم يأخذ مِن شاربه فليس منَّا": هذا تهديدٌ لمَن تركَ هذه السُّنَّةَ؛ يعني: فليس مِن موافقينا في هذا الفعل، وليس منا في وجدان ثواب هذه السُّنة. * * * 3431 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأخذُ مِن لِحيتِه، مِن عرضها وطولِها. غريب. قوله: "يأخذ من لحيته من عَرضها وطولها"؛ يعني: تسويةُ شَعرِ اللِّحية وتزيينُها سُنَّةٌ، وهي أن يقصَّ كلَّ شعرةٍ أطولَ من غيرها؛ لتستويَ جميعُها. * * * 3432 - عن يَعْلَى بن مُرَّةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى عليهِ خَلُوقًا فقال: "أَلَكَ امرأةٌ؟ " قال: لا، قال: "فاغسِلْه، ثم اغسِلْه، ثم اغسِلْهُ، ثم لا تَعُدْ". قوله: "رأى عليه خَلُوقًا، فقال: ألك امرأة؟ " يعني: إن كان لك امرأةٌ وأصابك الخَلُوق من ثوبها أو بدنها ولم تقصد أنت استعمالَ الخلوق فلا حرجَ عليك، وإن استعملتَ الخلوقَ فاغسِلْه. "ولا تعد"؛ أي: ولا تَعُدْ إلى استعمال الخَلُوق وتُبْ عنه؛ فإنه لا يليق بالرجال، و (لا تَعُدْ): نهي مخاطب من: العَود. * * * 3433 - عن أبي موسى قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبلُ الله صلاةَ رجلٍ في جَسَدِه شيءٌ مِن خَلُوق". قوله: "لا يَقبَل الله صلاةَ رجلٍ في جسده شيءٌ من خَلُوق": هذا وعيدٌ وزجرٌ عن استعمال الرجال الخَلُوق؛ يعني: لا كمال لصلاةِ رجلٍ شبَّه نفسَه بالنساء. * * *

3434 - عن عمَّارِ بن ياسرٍ قال: "قدِمْتُ على أهلي وقد تَشَقَّقتْ يَدَاي فخَلَّقوني بزعفرانَ، فغدوْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمتُ عليهِ فلم يردَّ عليَّ، وقال: "اذهبْ فاغسلْ هذا عنك". قوله: "فخلَّقوني"؛ أي: اجعلوا شيئًا من الزعفران في شقوق يدي للمداواة. * * * 3436 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سُكَّةٌ يتطَّيبُ منها. قوله: "سُكَّة". و (السُّكَّة) (¬1): معجون من أنواع الطَّيب. * * * 3437 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ دَهْنَ رأسِه وتسريحَ لحيتِه، ويُكثِرُ القِناعَ، كأنَّ ثوبَه ثوبُ زيَّاتٍ. قوله: "وتسريح لحيته". و (التسريح): الترجيل، وقد ذكر في أول هذا الباب. "القناع": خِرقة تُلقَى على الرأس لتتوقَّى العِمامة من الدُّهن. "الزيَّات": بائع الزيت، وهو دُهن معروف. * * * 3438 - عن أمِّ هانئٍ قالت: قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا بمكَّةَ قَدْمةً ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "والسُكُّ بالضم: نوع من الطَّيب عربي، قاله الجوهري، والسُّكَّة: قطعة منه".

ولهُ أربعُ غَدَائر. "قَدْمةً" بفتح القاف وسكون الدال: مصدر بمعنى مَرَّة؛ أي: قدم مرةً. "وله أربع غدائر". (الغدائر) جمع: غديرة، وهي الضَّفيرة والذُّؤابة. * * * 3439 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كنتُ إذا فَرقتُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه صَدَعْتُ فرقَهُ عن يَافُوخِهِ، وأرسلتُ ناصيتَهُ بينَ عينيهِ. قولها: "فرقتُ"؛ أي: قسمتُ شَعره - صلى الله عليه وسلم - قسمَين: أحدهما من جانب يمينه، والآخر من جانب يساره. "صَدَعتُ"؛ أي: فرقتُ فرقةً؛ أي: الخط الذي يظهر بين شَعر الرأس إذا قُسِمَ قسمَين، وذلك الخط هو بياضُ بشرةِ الرأس الذي يكون بين الشَّعر. "اليافوخ": مؤخَّر الرأس عند القفا؛ يعني: كان أحدُ طرفَي ذلك الخط عند اليافوخ، والطرفُ الآخرُ عند جبهته محاذيًا لِمَا بينَ عينَيه. قولها: "وأرسلتُ ناصيتَه بين عينَيه"؛ أي: جعلتُ رأسَ فرقةٍ محاذيًا لِمَا بين عينَيه، بحيث يكون نصفُ شَعر ناصيته من جانب يمين ذلك الفرق، ونصفُه الآخر من جانب يسار ذلك الفرق. * * * 3440 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ قال: نهىَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّرجُّلِ إلا غِبًّا. قوله: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجُّل إلا غِبًّا"؛ يعني: نَهَى عن دوام

تسريح الشَّعر وتدهينه. "إلاَّ غِبًّا"، والغِبُّ: أن يفعلَ فعلًا حينًا بعد حينٍ. * * * 3441 - قال رجلٌ لفُضالةَ بن عُبَيْد: مالي أراكَ شَعِثًا؟ قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ ينهانَا عن كثيرٍ مِن الإِرْفَاهِ، قال: مالي لا أَرَى عليكَ حِذَاءً؟ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرنا أنْ نَحتَفِي أحيانًا. قوله: "شَعِثًا"؛ أي: متفرِّق الشَّعر. "الإرفاه": تسريح الشَّعر وتدهينه. و (الإرفاه) أيضًا: التنعُّم وطِيب العيش؛ يعني: نهانا عن كثرة التنعُّم؛ لأن كثرةَ التنعُّم تجعل النفسَ متكبرةً غافلةً، ولأن الرجلَ لو اعتاد دوامَ التنعُّم فربما ينزل عليه فقرٌ وسوءُ عيشٍ فيشقُّ عليه ذلك الفقر؛ لأنه لم يكن معتادًا به، ولهذا أمَرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالاحتفاء؛ أي: بالمشي بغير النعلَين؛ لتتصلَّب أقدامُهم وتعتاد المشيَ بغير النعلَين، حتى لو اتفق لهم انعدامُ النعلَين يمكنهم المشيُ بغير النعلَين. * * * 3442 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كانَ له شعرٌ فليُكْرِمْهُ". قوله: "مَن كان له شَعرٌ فَلْيُكرِمْه"؛ يعني: فَلْيُزينْه وَلْيُنظِّفْه بالغسل والتدهين، ولا يتركه متفرقًا متَّسخًا؛ لأن النظافةَ وحسنَ المنظرِ محبوبٌ. * * *

3443 - وعن أبي ذرٍّ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحسنَ ما غُيرَ بهِ الشَّيْبُ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ". قوله: "إن أحسنَ ما غُيرَ به الشيبُ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ"؛ يعني: الشَّعرُ الأبيضُ يُخضَب بالحِنَّاء تارةً فيكون لونُه أحمرَ، وبالكَتَم أخرى فيكون لونُه أخضرَ. و (الكَتَم) بفتح التاء وتخفيفها: هو الوَسْمَة، وهي ورقُ نبتٍ يُجعَل منه شيءٌ يقال له بالفارسي: نِيلة. قال الخطابي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحسنَ ما غُيرَ به الشيبُ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ": إنَّ كلَّ واحدٍ من الحِنَّاء والكَتَم يُستعمل مفردًا؛ لأنه إذا خُلِطَ الحِنَّاء بالكَتَم، أو خُضبَ بالحِنَّاء ثم بالكَتَم يكون لونُه أسودَ، واللون الأسود مَنهيٌّ في تغيير الشيب. * * * 3444 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يكونُ قومٌ في آخرِ الزَّمانِ يخضبُونَ بهذا السَّوَادِ، كحَوَاصِلِ الحَمَامِ، لا يَجدُون رائحةَ الجنَّةِ". قوله: "يخضبون بهذا السواد"؛ أي: يخضبون الشَّعرَ الأبيضَ باللون الأسود. "حواصل الحمام"، (الحواصل) جمع: حَوْصَلة، وهي مَعِدَته، والمراد بـ (الحوصلة) هنا: صدره، وليس جميع الحمائم حواصلها سوداء، بل بعض الحمائم. "لا يجدون رائحةَ الجَنَّة": هذا تهديدٌ وتشديدٌ لإنكار خضاب الشَّعر الأبيض بالسواد. * * *

3445 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يلبَسُ النِّعالَ السِّبْتيَّة، ويُصَفِّرُ لحيتَهُ بالوَرْسِ والزَّعفرانِ. وكانَ ابن عمَر - رضي الله عنه - يفعلُ ذلكَ. قوله: "النِّعال السِّبْتِيَّة"؛ أي: النِّعال من الجلود السِّبْتِية، والجلد السَّبْتِي: ما نُقِّيَ من الشَّعر، مأخوذ من (سَبَتَ الشَّعرَ): حَلَقَه. والسِّبتي أيضًا: المدبوغ بالقَرَظ، وهو ورق شجر يقال له: السَّلَم. * * * 3447 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "غَيرُوا الشَّيْبَ، ولا تَشَبَّهوا باليهودِ". قوله: "غيروا الشيبَ، ولا تشبَّهوا باليهود"، (ولا تشبهوا) أصله: ولا تتشبهوا، فحُذفت تاء الاستقبال؛ يعني: تركُ خضابِ الشَّعر الأبيض عادةُ اليهود، فاخضبوا الشَّعرَ الأبيضَ حتى لا تكونوا متشبهين باليهود في ترك الخضاب. * * * 3448 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنتِفُوا الشَّيْبَ فإنه نورُ المسلمِ، مَن شابَ شيبةً في الإِسلامِ كتبَ الله لهُ بها حسنةً، وكفَّر عنه بها خطيئةً، ورفَعهُ بها درجةً". قوله: "لا تنتفوا الشيبَ؛ فإنه نورُ المسلم": كان بعضُ الناس يكره ابيضاض شَعره؛ لأنه علامةُ انتقاص الشباب ودخول الشيخوخة ودخول الضعف ونقصان القوة، وبعضُ الناس يكره هذا كي لا يُنسَب إلى الضعف، فينتف الشَّعرَ الأبيضَ من رأسه ولحيته؛ كي لا يَظَنَّ الناسُ زوالَ شبابه، فنَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمتَه عن نتف الشيب؛ لأن في الشيب وقارًا، وأولُ مَن شابَ من بني آدم كان إبراهيم خليل الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى الشيبَ في لحيته قال: ما هذا يا ربِّ؟ فقال الله له: هذا

الوقار، فقال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: يا ربِّ! زِدْني وقارًا؛ فالرضا بالشيب موافقةٌ لخليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه وقارٌ، والوقارُ مَرْضيٌّ عند الله وعند الناس، ولأنه يمنع الشخصَ عن الغرور والتكبُّر والطرب والنشاط، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسُه عن الشهوات، وكل ذلك مُوجِبٌ للثواب، ومُقرِّبٌ للعبد عند الله، فلهذا يكون الشيبُ في الإسلام نورًا؛ أي: ضياءً ومُخلِّصًا للرجل عن شدة القيامة. * * * 3450 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أَغتسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن إناءٍ واحدٍ، وكانَ لهُ شعرٌ فوقَ الجُمَّةِ ودونَ الوَفْرةِ. قولها: "فوق الجُمَّة ودونَ الوَفْرَة"، (الجُمَّة): الشَّعر الذي يكون أطولَ من الوَفْر؛ أي: قَرُبَ من الكتف، و (الوَفرة): إلى شحمة الأذن، وكان شَعرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّ زمانٍ على نوعٍ من الطول والقصر؛ وذلك لأنه كان قصَّر شَعرَه في العمرة، وحلقَه في الحج، وكان شَعرُه في هذا الحديث أطولَ من الوَفْرَة وأقصرَ من الجُمَّة. * * * 3451 - وقال ابن الحَنْظَلِيَّةِ - رجلٌ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرَّجلُ خُزَيْم الأَسْديُّ لَوْلاَ طولُ جُمَّتِه واسبالُ إزارِه"، فبلغَ ذلكَ خُرَيْمًا فأخذَ شَفْرَةً فقطعَ بها جُمَّتَه إلى أُذُنَيْهِ، ورفعَ إزاره إلى أنصافِ ساقَيْهِ. قوله: "طول جُمَّته"؛ أي: طول شَعر رأسه، وطولُ شَعر الرأس غيرُ مذمومٍ، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في ذلك الرجل تبخترًا بطول جُمَّته، فذكر هذا الحديثَ؛ ليحرِّضَه على تقصير شَعره.

قوله: "وإسبال إزاره"؛ أي: وإطالة ذَيله. "فأخذ شفرةً"؛ أي: سكِّينًا. * * * 3452 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانت لي ذُؤابَةٌ فقالَت لي أمِّي: لا أَجُزُّهَا، كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمدُّها ويأخذُها. قوله: "لي ذُؤابة"؛ أي: شَعر. "لا أجزُّها"؛ أي: لا أقطعها. "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمدُّها ويأخذها"؛ أي: يلعب بها؛ يعني: قد وصلَتْ إليها بركةُ يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أقطعها؛ كيلا تزولَ تلك البركة. * * * 3453 - عن عبدِ الله بن جَعْفَرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمهلَ آلَ جعفرٍ ثلاثًا، ثم أَتاهم فقالَ: "لا تَبْكُوا على أخي بعدَ اليوم"، ثم قال: "ادْعُوا لي بني أخي"، فجيءَ بنا كأننا أفرُخٌ، فقال: "ادْعُوا لي الحلاقَ"، فأمَرَهُ فحلقَ رؤوسَنَا. قوله: "أمهلَ آلَ جعفر ثلاثًا"؛ يعني: فلمَّا قُتِلَ جعفرُ بن أبي طالب - رضي الله عنه - تركَ رسولُ الله آلَ جعفر يبكون عليه ثلاثةَ أيامٍ، هذا يدل على أن البكاءَ على الميت من غير ندبٍ ونياحةٍ جائزٌ ثلاثةَ أيامٍ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال بعد ثلاثة أيام: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم"، ولم يقل قبل مضي ثلاثة أيام: لا تبكوا. "كأنَّا أَفْرُخٌ". (الأَفْرُخ) جمع: فرخ، وهو ولد الطير؛ أي: كنَّا صغارًا، وهذا الحديث يدل على جواز حلق شَعر الرأس. * * *

3454 - عن أمِّ عطَّيةَ الأنصاريةَ: أنَّ امرأةً كانت تختِنُ بالمدينةِ، فقالَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْهِكِي، فإنَّ ذلِكَ أَحْظَى للمرأةِ وأحبَّ إلى البعلِ". قوله: "لا تُنْهِكِي"؛ أي: لا تقطعي موضعَ الختان قطعًا تامًا، بل اتركي ذلك الموضعَ. "فإن ذلك"؛ أي: فإن تركَ بعض ذلك الموضع "أحظى"؛ أي: أنفعُ لها. "البَعْل": الزوج. * * * 3456 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ هندًا بنتَ عتبةَ قالت: يا نَبيَّ الله بايعْني؟ فقالَ: "لا أُبايُعكِ حتى تُغَيري كفَّيْكِ، فكأنَّهُما كَفَّا سَبُعٍ". قولها: "حتى تُغيري كفَّيك"؛ أي: حتى تخضبي كفَّيك بالحِنَّاء، وهذا دليلٌ على شدة استحباب الخضاب بالحِنَّاء للنساء. * * * 3457 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أَوْمَأَتْ امرأةٌ مِن وراءِ سِتْرٍ، في يدها كتابٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَه! فقال: "ما أَدري أَيَدُ رَجُلٍ؛ أَمْ يدُ امرأةٍ؟ " قالت: بل يدُ امرأةٍ، قال: "لو كنتِ امرأة لغيَّرتِ أظفاركِ" يعني بالحِنَّاء. قوله: "أَوْمَت"، أصله: أومأت بالهمز بعد الميم، فخُففت الهمزة، فصارت ألفًا، ثم حُذفت الألف لسكونها وسكون التاء، ومعناه: أشارت. * * * 3458 - عن ابن عبَّاسٍ قال: لُعِنَتْ الواصِلةُ والمُستَوْصِلَةُ، والنَّامِصةُ والمُتنمِّصةُ، والواشِمةُ والمُستَوْشمةُ، مِن غيرِ داءٍ.

قوله: "من غير داء"؛ أي: من غير علَّة؛ يعني: إن كانت بها علةٌ؛ فاحتاجت إلى أن تكويَ يدَها للمداواة جازَ، ولم يكن هذا من الوشمِ المَنهيِّ عنه، وإن بقي منه أثرٌ. * * * 3460 - وقيلَ لعائشةَ رضي الله عنها: إنَّ إمرأة تلبَسُ النَّعلَ! قالت: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجلَة مِن النِّساءِ. قولها: "الرَّجلَة من النساء"؛ أي: المرأة التي تشبه نفسَها بالرجال في اللباس. * * * 3461 - عن ثوبانَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ كان آخرُ عهدِه بإنسانٍ مِن أهلِه فاطمةَ، وأولُ مَن يدخلُ عليها فاطمةَ، فقَدِمَ مِن غزَاةٍ وقد عَلَّقتْ مِسْحًا أو سِتْرًا على بابها، وحَلَّتِ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ قُلْبَينِ مِن فِضَّةٍ، فقَدِمَ فلم يدخلْ، فظنَّت أنَّما منعَه أنْ يدخلَ ما رَأَى، فَهتكَتْ السِّترَ وفكَّتِ القُلْبينِ عن الصَّبيَّيْنِ وقطعَتهُ منهما، فانطلقَا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يبكيانِ، فأخذه منهما وقال: "يا ثوبانُ! اذهبْ بهذا إلى آلِ فلانٍ، إنَّ هؤلاء أهلي أَكْرَهُ أنْ يأكلوا طيباتِهم في حياتِهم الدُّنيا، يا ثوبانُ اشترِ لفاطمةَ قِلادَةً مِن عَصَبٍ وسِوَارَيْنِ من عاجٍ". قولها: "من غزَاةٍ"، أصلها: من غزوة، فنُقلت فتحة الواو إلى الزاي وقُلبت الواو ألفًا؛ لأن سكونَها عارضٌ، والسكون العارض كالمتحرك، فكأنها متحركةٌ وما قبلها مفتوح. "علَّقت مِسْحًا".

(المِسح): كساء معروف، يقال له بالفارسي: بِلاس، وإنما هتكت السترَ؛ لأنها ظنَّتْ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تأذَّى منه لكونه منقَّشًا بصُوَرٍ، أو لأن فيها جملاً وزينةً. "حلَّتْ"، أصله: حلَّيَتْ، فقُلبت الياء ألفًا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، فحُذفت الألف لسكونها وسكون التاء، ومعناه: جَعلَتْ حُلِيًّا على الحسن والحسين. "قُلْبَين" تثنية: قُلْب، وهو سِوَارٌ بلا نقشٍ. "فكَّت"؛ أي: فَصَلَتْ. "أكرهُ أن يأكلوا طيباتهم"؛ يعني: أن يتلذَّذُوا ويتطيَّبُوا عيشَهم بأكل الأطعمة اللذيذة ولبس الملابس النفيسة، بل أختار لهم الفقرَ والرياضة في الدنيا. "قلادة من عَصْب". (القلادة): شيء من الذهب أو الفضة تعلِّقه النساء برقابهن، قال الحافظ أبو موسى: يحتمل عندي أن الرواية إنما هو (العَصَب) بفتح الصاد، وهو أطناب مفاصل الحيوانات، وهو شيء مدوَّر، ويحتمل أنهم كانوا يأخذون عَصَبَ بعض الحيوانات فيقطعونه ويجعلونه شبه الخَرَز إذا يبس، فيتخذون منه القلائد، فإذا أمكنَ أن يُتخذ من عظام السلحفاة وغيرها السوارَ أمكنَ أن يكون من عَصَب أشباهها خَرَزٌ يُنظَم منها قلائدُ، ثم ذَكر لي بعضُ أهل اليمن أن العَصَب سِنُّ دابةٍ بحريةٍ يُسمى: فرس فرعون، يُتخذ منها الخَرَزُ يكون أبيضَ، ويُتخذ منها غيرُ الخَرَز، هذا كلام أبي موسى. وقال الخطابي: في هذا الحديث شيءٌ حاصله: أني لا ندري (العَصْب) بسكون الصاد غير البُرد اليمني، وأما العاج فعظم ظهر السلحفاة البحرية، ويقال له: الذيل أيضًا، ويجوز استعماله؛ لأنه طاهرٌ، لأنه حيوانٌ بحريٌّ. والعاج أيضًا: عظم الفيل، وهو نَجِسٌ عند الشافعي، وفيه قولٌ للشافعي أنه

طاهرٌ، ومذهب أبي حنيفة: أنه طاهرٌ، وكذلك البحث في عظمِ ما لا يُؤكَل لحمُه [وفي عظم ما يُؤكَل لحمُه إذا مات، فأما ما يُؤكل لحمُه] إذا ذُبح حلَّ لحمُه وطهر جلدُه وعظمُه وشَعرُه بلا خلافٍ. * * * 3462 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكتحِلُوا بالإِثمدِ فإنه يَجْلُو البَصرَ، ويُنْبتُ الشَّعرَ" وزعم: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانتْ لهُ مُكْحُلَةٌ يكتحلُ بها كلَّ ليلةٍ ثلاثةً في هذه، وثلاثةً في هذه. قوله: "يَجْلُو البصرَ"؛ يعني يزيد نورَ العين. "ويُنبت الشَّعر"؛ يعني: يُنبت أهدابَ العين، والأهدابُ زينةٌ للإنسان. * * * 3463 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - يكتحلُ قبلَ أنْ ينامَ بالإِثمدِ ثلاثًا في كلِّ عينٍ، قال: وقال: "إنَّ خيرَ ما تَدَاوَيْتُم به اللَّدُودُ، والسَّعُوطُ، والحِجَامَةُ، والمَشِيُّ، وخيرَ ما اكتحَلْتُم بهِ الإِثمدُ، فإنه يجلُو البصرَ ويُنْبتُ الشعرَ، وإنَّ خيرَ ما تَحتجِمونَ فيهِ يومُ سبعَ عشرةَ، ويومُ تسعَ عشرةَ، ويومُ إحدى وعشرينَ"، وإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حيثُ عُرِجَ بهِ ما مَرَّ على ملأٍ مِن الملائكةِ إلا قالوا: عليكَ بالحِجَامةِ. غريب. قوله: "إن خير ما تداويتم به اللَّدُود والسَّعُوط". و (اللَّدُود): ما يلقي الإنسانُ في أحد شقَّي الفم للمداواة. و (السَّعُوط): ما يُلقَى في الأنف للتداوي. "المَشِيُّ" بكسر الشين وتشديد الياء، ويجوز فتح الميم وضمُّها وكسرها: وهو ما يُشرَب أو يُؤكَل لإطلاق البطن أو إسهاله.

قوله: "حيث عُرِجَ به"؛ أي: حين عُرِجَ به إلى السماء ليلةَ المعراج. "على ملأ"؛ أي: جماعة. "عليك بالحِجَامة"؛ أي: الزَمِ الحجامةَ. * * * 3464 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى الرِّجالَ والنَّساءَ عن دخولِ الحَمَّاماتِ، ثم رخَّصَ للرِّجالِ أنْ يدخلُوا بالميازرِ. قولها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجالَ والنساءَ عن دخول الحمَّامات، ثم رخَّص للرجال أن يدخلوها بالمَيَازر". (الميازر) جمع: مِئزر، وهو الإزار، وانما لم يرخَّص للنساء في دخول الحمَّام؛ لأن النساءَ جميعُ أعضائهن عورةٌ، وكشفُ العورة غيرُ جائزٍ إلا عند الضرورة، كغُسل الجنابة وقضاء الحاجة، ولا ضرورةَ لهن في دخول الحمَّام؛ لأن الغُسلَ ممكنٌ في بيتها. ألا ترى أن صلاةَ المرأة في بيتها أفضلُ من صلاتها في المسجد، بخلاف الرجال، فإذا اقتضت حاجةُ النساء إلى دخول الحمَّام، مثل: أن تكون مريضةً؛ تدخل الحمَّام للتداوي، أو يكون قد انقطع نفاسها؛ تدخل الحمَّام للتنظيف، أو تكون قد انقطع حيضُها، أو تكون جنبًا، والبردُ شديدُ، ولا تَقدِر أن تُسخَّنَ الماءَ، فتخاف استعمالَ الماء البارد ضررًا؛ ففي هذه الأعذار جازَ لهن دخول الحمَّام. ولا يجوز للرجال دخول الحمَّام ودخول الماء بغير إزارٍ ساترٍ ما بين سُرَّته ورُكبته. يُحكَى عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه أنه قال: كنتُ يومًا مع جماعةٍ يتجرَّدون ويدخلون الماء، فاستعملتُ خبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كان يؤمن بالله واليوم

الآخر فلا يدخل الحمَّامَ إلا بمِئزرٍ"، ولم أتجرَّد، فرأيت تلك الليلةَ في المنام كأن قائلاً يقول لي: أبشِرْ يا أحمدُ؛ فإن الله تعالى قد غفرَ لك باستعمال السُّنَّة، فقلت: مَن أنت؟ فقال: أنا جبريلُ، فقد جعلك إمامًا يُقتدَى بك. * * * 3465 - عن أبي المَليحِ قال: قَدِمَ على عائشَةَ رضي الله عنها نِسوةٌ مِن أهلِ حمْصَ فقالت: مِن أينَ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَ: مِن الشامِ، قالت: فلعلَّكُنَّ مِن الكُورَةِ التي تدخلُ نِسَاؤها الحمَّامَاتِ؟ قُلْنَ: بلى، قالت: فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تخلعُ امرأةٌ ثيابَها في غيرِ بيتِ زوجِها إلا هَتَكَتْ السِّترَ بينَها وبينَ ربها". وفي روايةٍ: "في غيرِ بيتِها إلا هتكَتْ سِترَها فيما بينَها وبينَ الله - عز وجل -". قوله: "من أهل حِمْص": وهو بلد من الشام. "من الكُورة"؛ أي: من البلد والناحية. "إلا هَتَكَتِ السِّترَ بينها وبين ربها - عز وجل -"؛ يعني: جعل الله سِترًا على النساء؛ أي: حفظَهنَّ من أن يَرَهنَّ أجنبيٌّ، وأمرَهن بسِتر أنفسهن، حتى لا يجوز لهن كشفُ عورتهن في الخلوة أيضًا إلا عند أزواجهن، فإنه جازَ لهن كشفُ جميع أعضائهن عند الأزواج، ويجوز لهن كشفُ ما ظهر منهن عند العمل، كاليدَين إلى العضد والرَّجلَين إلى الساق عند محارمهن، فإذا كشفتِ المرأةُ أعضاءَها في الحمَّام من غير ضرورةٍ فقد هتكت السترَ الذي أمرها الله تعالى به، وصارت عاصيةً بهتك سِترها. * * * 3467 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كانَ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يدخل الحَمَّامَ بغيرِ إزارٍ، ومَن كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يُدْخِلْ

5 - باب التصاوير

حَلِيلَتَهُ الحَمَّامَ، ومَن كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يجلسْ على مائدةٍ تُدَارُ عليها الخَمْرُ". قوله: "حليلته"؛ أي: زوجته. "على مائدة"؛ أي: على خِوَانٍ يُشرَب فيها الخمر؛ أي: لا يجلس مجلسًا تُشرب فيه الخمر، والحمد لله رب العالمين. * * * 5 - باب التَّصاويرِ (باب التصاوير) مِنَ الصِّحَاحِ: 3468 - عن أبي طلحةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيهِ كلبٌ ولا تصاويرُ". قوله: "ولا تصاوير". و (التصاوير) جمع: تصوير، وهو جعلُ صورةٍ على فراش وغيره، والمراد بـ (التصاوير) هنا: جمع التصوير الذي هو بمعنى الصورة، والمراد بها صورة الحيوانات التي تكون على حائط أو ستر، فأما صورُ الحيوان فيما يُجلَس عليه كفراشٍ فليس فيه بأسٌ، وكذلك صور غير الحيوان ليس فيه بأسٌ في أي موضع كان. * * * 3469 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن مَيْمونةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أصبحَ يومًا وَاجِمًا وقال: إنَّ جبريلَ كانَ وَعَدَني أنْ يلقَاني الليلةَ فلَمْ يَلْقَني! أَمَا والله ما أَخْلَفَنيِ"، ثم وقعَ في نفسِه جَرْوُ كلبٍ تحتَ فُسْطَاطٍ، فأَمرَ بهِ فأُخرِجَ ثم أخذَ

بيدِه ماءً فنضحَ مَكَانَهُ، فلمَّا أَمسَى لقيَهُ جبريلُ، فقالَ لهُ: "قد كنتَ وعدتَني أنْ تَلقَاني البارحةَ؟ " فقال: أَجَلْ، ولكِنَّا لا ندخُل بيتًا فيهِ كلبٌ ولا صورةٌ، فأَصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ فأمرَ بقتلِ الكلابِ، حتى إنَّه يأمرُ بقتلِ كلبِ الحائطِ الصَّغيرِ، ويتركُ كلبَ الحائطِ الكبيرِ. قولها: "واجمًا"؛ أي: حزينًا. "أم والله"، أصله: أما والله، فحُذف الألفُ للتخفيف، ومعناه: اعلم، يستوي فيه الواحد والكثير والمذكر والمؤنث. "ثم وقع في نفسه جَرْوُ كلبٍ"؛ أي: ولد كلب. "تحت فسطاط"؛ أي: تحت خيمة، رأى ولدَ كلبٍ تحت خيمته، فوقع في خاطره - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يدخل الليلَ عليَّ لأجل وجود هذا الجَرْو. "فأمر بقتل كلب الحائط الصغير". (الحائط): البستان؛ يعني: الحائط الصغير لا يحتاج إلى حراسة الكلب لصغره، فأمر بقتل كلب الحائط الصغير، وأما الحائط الكبير فيحتاج إلى حراسة الكلب، فلم يأمر بقتل ذلك الكلب؛ لاحتياج الناس إليه. * * * 3470 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يتركُ في بيتِه شيئًا فيهِ تَصَاليبُ إلاَّ نَقَضَه. قولها: "فيه تصاليب": كل صورةٍ تكون على صورة الصليب، والصليب: شيء يكون للنصارى يعظَّمونه، والتصاليب هنا: كل صورة تكون من صور الحيوانات. "نقضَه"؛ أي: أزالَه. * * *

3471 - وقالت قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أصحابَ هذه الصُّوَرِ يُعَذَّبونَ يومَ القيامةِ ويقالُ لهم: أَحْيوا ما خَلَقتُم". وقال: "إنَّ البيتَ الذي فيه الصُّورةُ لا تدخُلُه الملائكةُ". قوله: "أَحْيُوا ما خلقتُم"؛ أي: انفخوا الروحَ في الصور التي عملتُمُوها، ولن تقدروا أن تنفخوا فيها الروح، فتعذَّبون إلى ما شاء الله. روى هذا الحديثَ ابن عمر. قوله: "وإن البيتَ الذي فيه الصورة"، أراد بهذه الصورة: صور الحيوانات. روى هذا الحديثَ "أبو طلحة". * * * 3472 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنها كانَتْ قد اتخذَتْ على سَهْوَةٍ لها سِترًا فيهِ تَماثيلُ، فهتكَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاتخذْتُ منهِ نُمْرُقَتَيْنِ، فكانتا في البيتِ يجلِسُ عليهِما. قولها: "على سَهْوَة"؛ أي: على بيتٍ صغيرٍ فيه تماثيلُ. "التماثيل" جمع: تمثال، وهو هنا صورة الحيوان. "فهتكَه"؛ أي: خرقَه. "فاتخذت"؛ أي: فاتخذت عائشةُ "منه"؛ أي: من ذلك السِّتر المُخرَّق. "نمرقتين" تثنية: نمرقة، وهي وسادة يجلس عليها؛ يعني: لا بأسَ بكون الصورة فيما يجلس عليه، لأنه يُذَلُّ، يعني: ما خلَقَه الله يُكرَّم، وما عملَه الإنسان يُذَلُّ. * * *

3473 - ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ في غزاةٍ، فأخذتُ نَمَطًا فسترتُه على البابِ، فلمَّا قدِمَ فرَأَى النَّمطَ فجذبَهُ حتى هتكَهُ، ثمَّ قال: "إنَّ الله لم يأمرْنَا أنْ نكسُوَ الحِجارةَ والطَّين". قولها: "اتخذت نَمَطًا"؛ أي: سِتْرًا. "فسترتُه على الباب"؛ أي: كسوت البابَ وما حولَه من الجدار بذلك النَمط. "جذبه"؛ أي: جرَّه. "أن نكسوَ الحجارةَ والطينَ"؛ يعني: كسوةُ الجدار مثلُ حجلة النساء؛ مِن فعل المتجبرين والمتكبرين والمسرفين، ونحن براءٌ مِن فعلِ هؤلاء. * * * 3474 - عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أشدُّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ الذينَ يُضاهونَ بخلقِ الله". قوله: "يضاهون بخلق الله". (يضاهون) أصله: يُضاهِيُون، فنُقلت ضمة الياء إلى الهاء وحُذفت الياء، لسكونها وسكون الواو؛ أي: يُشابهون بالله في عمل الصور؛ يعني: التصوير لا ينبغي لأحدٍ سوى الله تعالى، فمَن صوَّر صورةً فقد ظلمَ نفسَه واستحقَّ العذابَ. * * * 3475 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله: ومن أظلمُ ممن ذهبَ يخلق كخلقي، فليخلقوا ذَرَّةً أو ليخلقوا حَبَّةً أو شعيرةً". قوله: "ذهب يخلق كخلقي"؛ أي: طَفِقَ يُصوِّر صورةً يشبه صورةً خلقتُها؛

يعني: لا يقدر أحدٌ أن يخلقَ مثلَ ما أَخلقُ، فإن الخلقَ ليس بتصويرِ صورةٍ مجردةٍ عن الرُّوح، بل الخلق أن يصوِّر صورةً وينفخ فيها الرُّوح، فلا يقدر أحدٌ على نفخ الرُّوح في الصورة إلا الله. * * * 3478 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن تَحَلَّمَ بحُلمٍ لم يَرَهُ، كُلِّفَ أنْ يعقِدَ بينَ شعيرتينِ ولن يفعلَ، ومَن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهونَ، أو يَفِرُّونَ منهُ، صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ، ومَن صَوَّرَ صورةً عُذِّبَ وكلِّفَ أنْ ينفخَ فيها وليسَ بنافخٍ". قوله: "مَن تحلَّم"؛ أي: مَن تكذَّب "بحُلمٍ". (الحُلم) بضم الحاء: الرؤيا؛ يعني: من قال: رأيتُ رؤيا ولم يكن رآها فقد كذبَ، ويُعذب يومَ القيامة بهذا الكذب، ويقال له: اعقد بين شَعيرتَين، ولم يقدر أن يعقدَ بينهما؛ يعني: يعذَّب بفعل ما لم يكن قادرًا على فعله كما، أظهر برؤيته رؤيا لم يكن رآها. وهذا التغليظ فيمن أظهرَ رؤيا كاذبًا إذا كان كذبًا عظيمًا، مثل أن يقول: رأيتُ في المنام أن الله أمرني أن أكون نبيًّا، أو أمرني بأن فلانًا مغفورٌ أو وَلِيٌّ، أو فلانٌ ملعونٌ، أو أخرِجُوه من البلد، أو أمرَني الله بأن أقول: اعملوا بدين موسى أو غيره من الأنبياء الماضية، أو اقرؤوا التوراة وما أشبه ذلك، وكذلك لو قال: أمرني رسولُ الله في المنام بشيءٍ من هذه الأشياء. وأما لو لم يكن كذبُه عظيمًا لم يكن عذابُه مثل هذا العذاب، مثل أن يقول واعظ: أمرني الله بأن أعظَ الناسَ، فهذا كذب، ولكن وعظَ الناس طاعةٌ، فلم يكن إثمُ هذا الكذب مثلَ إثمِ مَن قال: أمرني الله بقراءة التوراة؛ لأنها منسوخةٌ. قوله: "صُبَّ في أذنيَه الآنُكُ": وهو الأُسْرُبُّ؛ يعني: استراقُ السمعِ خيانةٌ

تستحق العذابَ يومَ القيامة؛ لأنه يريد إظهارَ سرِّهم وهم يكرهون إظهارَه. قوله: "وليس بنافخٍ"؛ أي: لا يقدر أن ينفخَ فيها الرُّوحَ. * * * 3479 - وعن بُريدةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لعبَ بالنَّردَشِيرِ فكأنَّما صبغَ يدَهُ في لحم خنزيرٍ ودمِهِ". قوله: "مَن لعبَ بالنَّردشير فكأنما صبغَ يدَه في لحم الخنزير ودمه". (النَّردشير): النَّرْد المعروف، وهو حرامٌ لعبُه بالاتفاق؛ يعني: ذبحُ الخنزيرِ والأكلُ حرامٌ، وأخذُ لحمِه واستعمالُ دمِه وأكلُ شيءٍ منه؛ أي: شيء كان كل ذلك حرام، فكما أن هذه الأشياء حرام فكذلك اللعب بالنردشير حرام. وقيل: المراد بالنَّردشير: الشِّطْرنج، واللعب بالشِّطْرنج عند الشافعي مكروهٌ غيرُ حرامٍ، وعند أبي حنيفة: حرامٌ، وإنما لم يكن الشَّطْرنج عند الشافعي حرامًا بشرط ألا يكون اللعبُ بمالٍ. قال ابن عباس: كلُّ شيءٍ فيها قِمارٌ؛ أي: كلُّ لعبٍ أُخذ به مالٌ فهو من المَيسر، حتى لعب الصبيان بالجَوز والكِعاب، و (الكِعَاب) جمع: كَعب، وهو كَعب الغنم. * * * مِنَ الحَسَان: 3480 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ: أتيتُكَ البارحةَ فلم يَمنعْني أنْ أكونَ دخلتُ إلا أنه كانَ على البابِ تماثيلُ، وكانَ في البيتِ قِرامُ سِترٍ فيهِ تماثيلُ، وكانَ في البيتِ كلبٌ فمُرْ

برأسِ التمثالِ الذي على بابِ البيتِ فيُقطَع، فيصير كهيئةِ الشَّجرةِ، ومُرْ بالسِّتْرِ فليقطعْ فليُجعَلْ وسادتينِ منبوذتَيْنِ ثُوطَآن، ومُرْ بالكلبِ فليُخرَجْ، ففعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "فيصير كهيئة الشجرة"؛ يعني: إذا قُطِعَ ولم تبقَ صورتُه كصورة حيوان لم يكن فيه بأسٌ. "القِرَام": سِتْرٌ رقيقٌ. "تُوطَأ"؛ أي: يُجلَس عليها، وأصل الوطء: الضرب بالرِّجل. * * * 3481 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرجُ عنقٌ مِن النارِ يومَ القيامةِ لها عينانِ تُبصِرانِ، وأُذُنانِ تَسمعانِ، ولسانٌ يَنطقُ تقولُ: إني وُكِّلتُ بثلاثٍ: بكلِّ جَبَّارٍ عنيدٍ، وكلَّ مَن دَعا معَ الله إِلهًا آخرَ، والمصوِّرينَ". قوله: "يخرج عنقٌ من النار"؛ أي: يخرج شخصٌ من النار ويقول: وكَّلَني الله بأن أُدخلَ هؤلاء الأصنافَ الثلاثةَ النارَ وأُعذِّبَهم. قوله: "بكل جبَّار عنيد". (العنيد): المواظب والمداوم على الباطل. * * * 3482 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله حرَّمَ الخَمْرَ والمَيْسرَ والكُوبَة"، وقال: "كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ" قيلَ: الكُوبَةُ، الطَّبْلُ. قوله: "إن الله حرَّم الخمرَ والمَيسرَ والكُوبةَ"؛ يعني: حرَّم الله هذه الأشياءَ، أما الخمرُ والمَيسرُ فتحريمُهما مذكورٌ في القرآن، ولقد ذكرناهما في

بيان الخمر، وأما الكُوبة فقد حرَّمها الله على لسان النبي، وما حرَّمه النبي فقد حرَّمه الله، والكُوبة: طبل المخنَّثين. * * * 3485 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رجلاً يتبعُ حمامةً فقال: "شيطانٌ يتبعُ شيطانةً". قوله: "شيطانٌ يتبع شيطانًا"، سمَّى الحمامة ومَن لعب بها شيطانًا؛ لأن مَن حمل أحدًا على معصيةٍ أو شغلَه عن الطاعة فهو شيطانٌ، ومَن يطيعه فهو أيضًا شيطانٌ، واللعبُ بالحَمَام يشغل الرجلَ عن أوقات الصلاة لحرصه بها، ويقلَّل مروءتَه؛ لأن اللعبَ لا يليق بأهل المروءة، وربما يصعد موضعًا عاليًا ويطَّلع على عورات المسلمين، واللعبُ بالحَمَام مكروهٌ. ° ° °

21 - كتاب الطب والرقى

21 - كِتابُ الطَّبَّ وَالرُّقى

[21] كِتابُ الطَّبَّ وَالرُّقى (كتاب الطب والرُّقى) مِنَ الصِّحَاحِ: 3486 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزلَ الله داءً إلاَّ أنزلَ لهُ شفاءً". قوله: "ما أنزل الله داءً إلا أَنزلَ له شفاءً"، أراد بـ (الشفاء) هنا: الدواء. هذا الحديثُ رخصةٌ للأُمة في التداوي واستعمال الطب؛ يعني: ما خلقَ الله علةً إلا خلقَ لها دواءً، وهدى طائفةً من الناس إليه، وألهمَهم كيفيةَ التداوي به. وحصولُ البُرْءِ ليس من الدواء، بل من الله؛ إنْ قدَّر فيه الشفاءَ يحصل الشفاءُ به، وإن لم يُقدِّر لم يحصل، وهذا كما جعل الله الماءَ دافعًا للعطش والطعام دافعًا للجوع؛ فإنْ قدَّر قطعَ العطش والجوع يحصل الدفع، وإن لم يُقدِّر لم يحصل، فإنه كم من جائعٍ يأكل الطعامَ ولم يشبع، ويشربُ الماءَ ولم يَرْوَ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. 3487 - وقال: "لكلِّ داءٍ دواءٌ فإذا أُصيبَ دواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ الله". قوله: "بَرَأَ بإذن الله"؛ أي: حصل له الشفاءُ بأمر الله إن قدَّر الشفاءَ، وإن لم يُقدِّر لم يحصل. روى هذا الحديثَ جابر. * * *

3488 - وقال: "الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أو شَرْبةِ عَسَلٍ، أو كَيَّةٍ بنارٍ، وأنا أَنْهَى أُمَّتي عن الكيِّ". قوله: "الشفاءُ في ثلاثةٍ: في شَرطة مِحْجَم، أو شَربةِ عسلٍ، أو كَيَّةٍ بنارٍ؛ وأنا أَنْهَى أُمتي عن الكَيَّ". (الشَّرطة): المشرط، وهو ما يُضرَب على موضع الحِجامة ليخرجَ منه الدمُ بالمِحْجَم. والمِحْجَمة: قارورة الحجَّام التي يمصُّها، وقيل: الموضع الذي يُحجَم. (الكَيُّ): أن يُحمَى حديدٌ ويُوضَع على عضوٍ معلولٍ ليحترقَ ويحتبسَ دمُه، ولا يخرج الدم، أو لينقطعَ العِرقُ الذي تنتشر منه العلَّة. وقد جاء النهي عن الكَيِّ، وقد جاءت الرخصة أيضًا، والرخصةُ لبيان جوازه حيث لا يَقدِر الرجلُ على أن يداويَ تلك العلةَ بدواءٍ آخرَ، والنهي حيث يَقدِر الرجلُ على أن يداويَ العلةَ بدواءٍ آخرَ، وإنما ورد النهيُ حيث يَقدِر الرجلُ على أن يداويَ العلةَ بدواءٍ آخرَ؛ لأن الكَيَّ فيه تعذيبٌ بالنار، ولا يجوز أن يعذِّبَ بالنار إلا ربُّ النار، وهو الله تعالى، ولأنه يبقى من الكَيِّ أثرٌ فاحشٌ، ولأن أهلَ الجاهلية كانوا قد اعتقدوا أن الشفاءَ يحصل من الكَيِّ البتةَ، فنهاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكَيِّ كي لا يعتقدوا الشفاءَ منه، بل الشافي هو الله. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 3489 - عن جابرٍ قال: رُميَ أُبَيٌّ يومَ الأحزابِ على أَكْحَلِه فكَواهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "على أَكْحَلِه"، (الأكحل): عِرق معروف يُفصَد منه. * * *

3490 - وقال: رُميَ سعدُ بن معاذٍ في أَكْحَلِه فحَسَمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيدهُ بمِشْقَصٍ، ثم وَرِمَتْ فحسمَهُ الثانيةَ. قوله: "رُمي في أَكْحَلِه"؛ أي: أصاب سهمٌ أكحلَه، وهو العرقُ المذكور. "فحسمَه"؛ أي: فكَوَاهُ "بمِشْقَص": وهو نصلٌ عريضٌ. روى هذا الحديثَ والذي بعده "جابر" أيضًا. * * * 3493 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أخي استَطْلَقَ بطنُهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسقِهِ عسلاً" فسقاهُ، ثم جاءَهُ فقال: سقَيْتُه عَسَلاً فلم يزِدْهُ إلا استطْلاقًا!؟ فقال له ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم جاءَ الرَّابعةَ فقال: "اسقِهِ عَسَلاً" فقال: لقد سقيْتُه فلم يزدْهُ إلا استِطْلاقًا!؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقَ الله وكذبَ بطنُ أخيكَ"، فسقاهُ فبَرَأَ. قوله: "استَطلَق"؛ أي: أَسْهَلَ بطنُه؛ يعني: جرى غائطُه. "صَدَقَ الله"؛ يعني: صدقَ الله في قوله في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. "وكذَبَ بطنُ أخيك"؛ يعني: عدمُ حصول شفاء بطن أخيك ليس لعدم الشفاء في العسل، بل ما أخبر الله عنه لا يجوز الخُلفُ فيه، وإنما لم يحصل شفاءُ بطن أخيك؛ لأن النيةَ في شربه غيرُ صادقةٍ وغيرُ مخلصةٍ، أو لأنه لم تنقضِ مدةُ المرض؛ فإن الله جعل لكل شيءٍ وقتًا، كما جعل للحيوانات مدةً معلومةً عند الله، فلا يموت حيوانٌ قبل انقضاء أجله، فكذلك لا يُزال مرضٌ قبل انقضاء أجله. * * *

3494 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَمْثَلَ ما تَداويتُم بهِ الحِجامَةُ، والقُسْطُ البَحرىُّ". قوله: "إن أَمثلَ ما تداويتُم به الحِجامةُ والقُسْطُ البحري". (الأمثل): الأَصلَح والأَولَى. (القُسط البحري) (¬1) بضم القاف: هو عُود هندي يصلح. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 3495 - وقال: "لا تُعذِّبُوا صِبيانَكم بالغَمْزِ مِن العُذْرةِ، وعليكم بالقُسْطِ". قوله: "الغَمز": العَصر. "العُذرة": وجعٌ في الحلق يهيج من الدم، وقيل: قرحة، وقيل: اجتماع الدم في قَعر الحَنَك الأعلى بحيث يظهر انتفاخُ ذلك الموضع، وعادة النساء أن يَعصْرنَ بالإصبع ذلك الموضعَ، فنهاهنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عصره، وأمرَهنَّ بأن يُداوِينَها بالقُسط. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 3496 - وقال: "عَلاَمَ تَدْغَرْنَ أولادَكُنَّ بهذا العِلاقِ؟ عليكُنَّ بهذا العودِ الهِنديِّ، فإنَّ فيهِ سبعةَ أَشفِيَةٍ، منها ذاتُ الجَنْبِ، يُسعَطُ مِن العُذْرَةِ ويُلَدُّ مِن ذاتِ الجَنْبِ". ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "هو العربي الأبيض؛ لأنه أجود، ومنه الهندي الأسود ومن غيره من أصنافه".

قوله: "على ما تَدْغَرْنُ"؛ أي: لِمَ تَعصرْنَ أحناكَ أولادِكن من العُذرة؟! بل لا تَعصرْنَها وداوِينَها بالقُسط. (الدَّغْر): العَصْر. (الأحناك) جمع: حنك. قوله: "بهذا العِلاق". (العلاق) بكسر العين: الداهية؛ يعني: لِمَ تَعصرْنَ عُذرةَ الأولاد بالشدة وتُعذِّبنهم؟! و (العُلاق) بضم العين: ما تُعصَر به العُذرة من إصبع وغيرها، فعلى هذا يكون معناه: لِمَ تَعصْرنَ عُذرةَ أولادكن بالإصبع وغيره؟! "عليكن بهذا العُود الهندي"؛ أي: الزَمْنَ استعمالَ العود الهندي في عُذرة الأولاد. "ذات الجَنب": هي الدُّبَيْلة، وهي قرحة قبيحة تنقب البطنَ؛ أي: تثقبُه. رَوَتْ هذا الحديثَ أم قيس بنت مِحْصَن. * * * 3497 - وقال: "الحُمَّى مِن فيحِ جَهنَّمَ فأبرِدُوها بالماءِ". قوله: "الحُمَّى من فَيح جهنم؛ فأَبرِدُوها بالماء"، (من فيح جهنم)؛ أي: من نفح حرارة جهنم، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السفرُ قطعةٌ من العذاب"؛ يعني هذا: أن الحُمَّى اشتعالُ حرارةِ الطبيعةِ، فهذه الحرارةُ تشبه نارَ جهنم في كونها معذِّبًا للجسد ومُذِيبًا له، فكما أن النارَ تُزال بالماء، فكذلك حرارةُ الحُمَّى تُزال بالماء البارد، وكيفية استعمال الماء ما جاء في الحديث، وهو ما رُوي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -

قال في مرضه: "هَرِيقُوا عليَّ من سبعِ قِرَبٍ لم تُحلَلْ أَوكيتُهنَّ". (هَرِيقوا)؛ أي: صُبُّوا، (القِرَب) جمع: قِرْبة، (لم تُحْلَلْ)؛ أي: لم تُفتَح، (الأوكية) جمع: الوِكَاء، وهو ما يُشدُّ به رأسُ الشيء؛ يعني: صُبُّوا عليَّ الماءَ من سبعِ قِرَبٍ لم تُفتَح رؤوسُهن في ذلك اليوم. روت هذا الحديثَ عائشةُ وأختها أسماء. * * * 3498 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقيَةِ مِن العَيْنِ، والحُمَةِ والنَّملةِ. قوله: "رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقية من العين والحُمَةِ والنَّملة". (الحُمَة) بالتخفيف: سمُّ ما يَلدَغ من العقرب وغيرها. و (النملة): قُرُوح، يقال لها بالفارسي: اتش يارسي. قد جاءت الرخصةُ في الرُّقية من هذه الأشياء، ويُقاس عليها جميع الأمراض والأعلال إذا كانت الرُّقيةُ باسم الله تعالى وصفاته، ولم يكن فيها لفظٌ مَنهيٌّ، مثل: أن يكون اسمَ صنمٍ، أو اسمَ جنيًّ، أو اسمًا من أسماء الله تعالى ولم يكن ذلك اسمًا منقولاً في الأحاديث الصِّحاح والقرآن. * * * 3500 - وعن أمِّ سلَمَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى في بيتِها جاريةً في وجهِها سَفْعَةٌ، تعني صُفرةً، فقالَ: "استرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظْرَةَ مِن الجِنَّ". قوله: "فإن بها النَّظرة". (النَّظرة): العين؛ يعني: فإنَّ بها إصابةَ عينٍ من الجن.

و"الاسترقاء": طلب الرُّقية، فهذا تصريحٌ بأن مَن أصابته عينٌ من الإنس أو الجن يُستحَبُّ أن يُرقَى عليه. * * * 3503 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العينُ حقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابقَ القَدَرَ سبقَتْهُ العينُ، فإذا استُغْسِلتُم فاغْسِلُوا". قوله: "لو كان شيءٌ سابقَ القَدَرِ سبقتْه العينُ"؛ يعني: لو كان شيءٌ مهلكًا أو مُضرًّا بغير قضاء الله وقَدَره لكان الشيءُ هو العينَ، ولكن لم يكن شيءٌ نافعًا ولا مُضرًّا بغير قضاء الله وقَدَره، وإنما تلفَّظ رسول الله بهذا الحديث تعظيمًا لشأن تأثير العين، والمبالغة في أن يحفظ الناسُ أعينَهم من أن يصيبوا أحدًا بأعينهم، وإذا اتفق لأحدٍ أن يصيبَ شخصًا بعينه فَلْيقُلْ: بارَكَ الله عليك وبسمِ الله عليك، وَلْيَغسِلْ أعضاءَه له، كما يأتي كيفيته. * * * 3505 - عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكْرِهُوا مَرْضاكُم على الطَّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ الله يُطعِمُهم ويَسقيهم"، غريب. قوله: "لا تُكرِهوا مَرْضَاكم على الطعام"؛ يعني: لا تُطعموا مرضاكم كرهًا إن لم يَطْعَموا عن طوعٍ ورغبةٍ، فإن إكراهَ المرضى على الطعام يضرُّهم ولا ينفعهم، ولا تقولوا: إنهم لو لم يَطْعَموا لَضعفُوا وزالتْ قوتُهم. "فإن الله يُطعمهم ويَسقيهم"؛ يعني: فإن الله يرزقُهم صبرًا عن الطعام ويرزقُهم قوةً؛ فإن الصبرَ والقوةَ والحياةَ من الله، لا من الطعام والشراب، فإن الله قد يقوِّي الأجسادَ بواسطة الطعام والشراب، وقد يقوِّيها بلا واسطةِ طعامٍ وشرابٍ زمانًا مديدًا.

ألا ترى أن المريضَ ربما لا يَطْعَم ولا يَشْرَب شهرًا أو أكثرَ ولا يموت، وقد يُمنَع صحيحٌ من الطعام زمانًا قريبًا فيموت؟! فموتُ مَن يموت وحياةُ مَن يحيا بأمر الله لا بالطبيعة، فإن الطبيعةَ معزولةٌ عن التأثير بغير أمر الله تعالى. * * * 3506 - عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى أسعدَ بن زُرارةَ مِن الشَّوكةِ. غريب. قوله: "من الشَّوكة": هي علَّة تحمرُّ منها الأعضاء، يقال بالفارسي: إي ريا بكسر الهمزة. * * * 3508 - وعنه قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينعتُ الزِّيتَ والوَرْسَ مِن ذاتِ الجَنْبِ. قوله: "يَنْعَتُ الزيتَ والوَرْسَ من ذات الجَنب". (النعت): وصف الشيء بما فيه من الحسن، ولا يقال: النعت في وصف الشيء بما فيه من الذم، هكذا قال أهل اللغة. ومعنى الحديث: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: الزيتُ والوَرْسُ - وهي شيءٌ يشبه الزعفرانَ - يحسن في مداواة داء ذات الجَنب. * * * 3509 - عن أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألَها: "بِمَ تَستمشِينَ؟ " قالت: بالشُبْرُمِ، قال: "إنَّه حارٌّ حارٌّ"، قالت: ثُمَّ استمشَيْتُ بالسَّنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ شيئًا كانَ فيهِ الشِّفاءُ مِن الموتِ لكانَ في السَّنا".

قوله: "بما تَسْتَمْشِينَ"، أصله: تستمشيين، فأُسكنت الياء الأولى لثقل الكسرة عليها، وحُذفت لسكونها وسكون ما بعدها؛ يعني: بأي شيءٍ تطلبينَ إسهالَ البطن. "الشُّبْرُم": نبت يُسهِّل البطنَ. "حارٌّ"، وفي بعض الروايات: "حارٌّ حارٌّ"؛ يعني: كرَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ (الحار) للتأكيد، وفي بعض الروايات: "حارٌّ يارٌّ" بالياء المنقوطة من تحتها بنقطتين، و (اليارّ): إتباع (الحارّ)؛ يعني: قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا الدواء حارٌّ لا يليق بإسهال البطن، فإن إسهالَ البطن ينبغي أن يكون بشيءٍ باردٍ. * * * 3513 - وقالت: ما كانَ يكونُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرْحَةٌ ولا نَكْبَةٌ إلا أمرني أنْ أَضَعَ عليها الحِنَّاءَ. قوله: "قَرحة أو نَكبة"، (القَرحة): الجِرَاحة التي أصابت الإنسانَ بسيفٍ وغيره من الأسلحة. و (النَّكبة): الجِرَاحة التي أصابته بحَجَرٍ أو شَوكٍ وغيرهما. * * * 3514 - وعن أبي كَبْشَةَ الأَنْمَاريِّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يحتجمُ على هامَتِه وبينَ كَتِفَيْهِ وهو يقولُ: "مَن أَهْراقَ مِن هذهِ الدِّماءِ فلا يَضُرُّهُ أنْ لا يَتَداوى بشيءٍ". قوله: "على هامَتِه"؛ أي: على وسط رأسه. * * *

3515 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - احتجمَ على وِرْكِهِ مِن وَثْءٍ كانَ بهِ". قوله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم على وِركه من وَثْءٍ كان به". (الوِرك): جانب الفخذ من طرف الألْية. (الوَثْء): اندقاق عضو من سقطةٍ بلا كسرةٍ، والوِرك من العورة، وكشفُه عند الحجَّام إنما كان لعذر المداواة. * * * 3518 - عن أنسٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحتَجِمُ في الأَخْدَعَينِ والكاهِلِ، وكانَ يحتجمُ لسبعَ عشرةَ، وتسعَ عشرةَ، وإحدَى وعشرينَ. قوله: "في الأخدعين". (الأخدعين) تثنية: الأخدع، وهو عِرق في خلف العنق يُحتجَم منه. * * * 3521 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتجمَ يومَ الثُّلاثاءِ لسبعَ عشرةَ خَلَتْ مِن الشَّهرِ أخرجَ الله منهُ داءَ سنةٍ". 3522 - وعن كبسة بنتِ أبي بكرة: "أنَّ أباها كانَ يَنْهَى أهلَه عن الحجامةِ يومَ الثلاثاءِ، ويزعمُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ يومَ الثلاثاءِ يومُ الدمِ، وفيهِ ساعةٌ لا يرقَأُ". قوله: "يوم الثلاثاء يوم الدم"؛ يعني: يومٌ يكثر فيه الدم. "وفيه ساعةٌ لا يَرقَأ فيها الدم"؛ أي: لا ينقطع فيه إذا احتُجم أو فُصِد فيه، وربما يهلك الإنسان بعدم انقطاع الدم. * * *

3523 - ورُوِيَ عن الزُّهرِيِّ مُرْسلًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن احتجمَ يومَ الأَربعاءِ ويومَ السَّبتِ فأصابَهُ وَضَحٌ فلا يلومَنَّ إلا نفسَه". وقد أُسنِدَ ولا يصحُّ. قوله: "وَضَحٌ"؛ أي: بَرَصٌ. * * * 3524 - ويُروَى: "مَن احتَجَمَ أو اطَّلَى يومَ السَّبتِ أو الأربعاءِ فلا يلومنَّ إلا نفسَه في الوَضَحِ". قوله: "اطَّلى"، أصله: اطتلى، قُلبت التاءُ طاءً وأُدغمت التاء في الطاء، ومعنى (اطَّلى)؛ أي: لطخَ عضوًا بدواءٍ. * * * 3526 - عن زينبَ امرأةِ عبدِ الله بن مسعودٍ: أنَّ عبدَ الله رأَى في عُنُقي خيطًا فقال: ما هذا؟ فقلتُ: خيطٌ رُقِيَ لي فيهِ، قالت: فأخذه فقَطَعَه ثم قال: أنتم آلَ عبدِ الله لأغنياءُ عن الشِّرْكِ! سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الرُّقَى والتَّمائمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ"، فقلتُ: لِمَ تقولُ هكذا؟ لقد كانَت عيني تُقْذَفُ، فكنتُ أَختلِفُ إلى فلانٍ اليهوديِّ فإذا رَقاها سكنَت! فقالَ عبدُ الله: إنَّما ذلكَ عملُ الشيطانِ، كانَ ينخَسُها بيدِه، فإذا رُقي كَفَّ عنها، إنَّما كانَ يَكفيكِ أنْ تقولي كما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَذهِبِ البأسَ ربَّ الناسِ واشفِ أنتَ الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤُكَ، شفاءً لا يغادِرُ سَقَمًا". قوله: "إن الرُّقَى" هي جمع: رقية، يريد بها: رقية فيها اسمُ صنمٍ أو شيطانٍ أو غيرهما مما لا يجوز في الشرع. "التمائم" جمع: تميمة، وهي خَرَزات تعلِّقها النساءُ بعنق أولادهن يَزعمْنَ أنها تدفع العينَ.

"التِّوَلَة": خيطٌ يُقرَأ فيه من السحر والنيرنجات، أو قرطاسٌ يُكتَب فيه شيءٌ من السحر والنيرنجات لتحبيب النساء بقلوب الرجال أو تحبيب الرجال بقلوب النساء، فأَبطلَ الشرعُ هذه الأشياءَ. قوله: "تُقذَف"؛ أي: كانت عيني وجعةً تُلقي الرَّمَصَ، وهو ما تُخرجه العين من الوسخِ عند رَمَدِها. "أَختلِفُ"؛ أي: أتردَّد. "يَنْخَسُها"؛ أي: يضربُها بيده ويوسوسها لتجيءَ إلى ذلك اليهودي، فلما رَقَى اليهوديُّ عينَك كفَّ الشيطانُ؛ أي: تركَ ضربَ عينِك بيده؛ لتعتقدي أن تلك الرُّقيةَ من اليهودي حقٌّ. * * * 3527 - عن جابرٍ قال: سُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّشْرَةِ، فقال: "هو مِن عملِ الشَّيطانِ". قوله: "سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّشرة". (النُّشرة) بضم النون: رُقية تُقرَأ على مَن أصابه مَسُّ الجن، كرهها غيرُ واحدٍ من الأئمة. وقال سعيد بن المسيب: لا بأسَ بها، والمَنهيُّ من الرُّقى: ما كان فيه شركٌ أو يُذكَر فيه مَرَدَةُ الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب ولا يُدْرَى ما هو، ولعل يَدخله سحرٌ أو كفرٌ، فأما ما كان بالقرآن وذِكر الله فإنه جائزٌ. * * * 3528 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أُبالي ما أَتيتُ إنْ أنا شربتُ تِرْياقًا، أو تعلَّقتُ تَميمةً، أو قلتُ الشِّعرَ مِن قِبَلِ نفسي".

قوله: "ما أُبالي إنْ أنا شربتُ ترياقًا، أو تعلَّقتُ تميمةً، أو قلتُ الشِّعرَ مِن قِبَلِ نفسي": ذُكر شرح (التميمة) قُبيلَ هذا، وكان إنشاءُ الشِّعر حرامًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: كما أن إنشاءَ الشِّعر حرامٌ عليَّ، فكذلك شربُ التِّرياق وتعليقُ التمائم حَرَامانِ عليَّ؛ هذا في حقَّه، وأما في حقِّ الأُمة: التمائمُ حرامٌ، وإنشاءُ الشِّعر غيرُ حرامٍ عليهم إذا لم يكن فيه كذبٌ أو هجوُ مسلمٍ وغيرهما من المعاصي، وأما الترياق فيُجوِّز بعضُ العلماء شربَه للمداواة، ومنعَه بعضُهم؛ لأنها نجسٌ, لأن التِّرياقَ إن اتُّخذ من الحية أو من العقرب أو غيرهما مما لا يحلُّ لحمُه حرامٌ، وإن اتُّخذ من شيءٍ طاهرٍ فلا بأسَ بشربه. * * * 3529 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اكتوَى أو استرقَى فقد بَرِئَ مِن التَّوَكُّلِ". ويُروَى: "مَن تَعلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليه". قوله: "مَنِ اكتَوى أو استَرقَى فقد بَرِئ من التوكُّل". (اكتَوى) بمعنى: كَوَى. و (استَرْقَى)؛ أي: طلبَ أن يُقرَأ عليه الرُّقية؛ يعني: الكَيُّ والرُّقيةُ جائزانِ لمَن لم يكن من أهل التوكُّل، وأما مَن كان من أهل التوكُّل لو فعل شيئًا من المداواة بطلَ توكُّلُه؛ لأن التوكُّلَ عبارةٌ عن تفويض الرجل أمورَه مما ينزل عليه من البلاء والأمراض والفقر وغيرها إلى الله، لا يشتغل هو بدفعها، بل فوَّض دفعَها إلى الله تعالى، ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - داوَى وأمرَ بالمداواة؛ ليكون فعلُه رخصةً للضعفاء، مع أنه قدوةُ الأنبياء والأولياء، وتوكُّلُ جميعِ أهل التوكُّل بالنسبة إلى توكُّله عليه كإِبرةٍ تدخل في البحر.

قوله: "مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه"؛ يعني: مَن تمسَّك بشيءٍ من المداواة واعتقد أن الشفاءَ منه لا من الله تعالى لم يَشفِه الله، بل وُكِلَ شفاؤُه إلى ذلك الشيء، وحينَئذٍ لا يحصل شفاؤُه؛ لأن الأشياءَ لا تنفعُ ولا تضرُّ بغير أمر الله تعالى، ولذلك مَن اعتقد حصولَ الرزق أو دفعَ البلاء أو تحصيلَ مطلوبٍ من شيءٍ بغير أمر الله تعالى فهو داخلٌ في هذا الحديث. * * * 3530 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رُقيةَ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ". قوله: "لا رُقيةَ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ". (الحُمَة): السمُّ؛ معناه: لا رقيةَ أنفعُ من رقية تُقرَأ على مَن أصابته عينٌ أو حُمَةٌ، وليس معنى هذا الحديث نفي جواز الرُّقية عن داء غير العين والحُمَة، بل يجوز في جميع الأمراض إذا كانت الرُّقية بالقرآن واسم الله. * * * 3532 - عن أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ قالت: يا رسولَ الله! إنَّ وَلَدَ جعفرٍ تسرعُ إليهم العينُ، أَفاسترقي لهم؟ قال: "نعم، فإنَّه لو كانَ شيءٌ سابَقَ القَدَرَ لسبَقَتْهُ العينُ". ورُوِيَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للشِّفاءِ بنتِ عبدِ الله، وهي عندَ حَفْصَةَ: "أَلا تُعَلِّمينَ هذهِ رُقيةَ النَّمْلَةِ كما علَّمتِيها الكتابةَ". قولها: "تُسرع إليهم العينُ"؛ أي: تُؤثِّر فيهم العينُ عن قريبٍ. قوله: "ألا تُعلِّمين هذه"، (هذه): إشارة إلى حفصة.

"رُقية النَّملة"، (النَّمْلة): قُروح تُرقَى وتَبْرَأ بإذن الله. "كما علَّمتِيها الكتابة"، الياء في (علمتيها) زائدة، تولدت من إشباع كسرة التاء. قال الخطابي: هذا الحديث يدل على أن تعلُّمَ النساءِ الكتابةَ غيرُ مكروهٍ؛ لأن حفصةَ تعلَّمت الكتابةَ من الشفاء بنت عبد الله، ولم يَمنعْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3533 - عن أبي أُمامةَ بن سَهْلٍ بن حُنيفٍ قال: رأَى عامرُ بن ربيعة سهلَ ابن حُنيفٍ يغتسلُ فقالَ: والله ما رأيتُ كاليومِ، ولا جِلْدَ مخبَّأَةٍ! قال: فلُبطَ سَهْلٌ، فأُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقيلَ له: يا رسولَ الله! هل لكَ في سَهْلِ بن حُنَيفٍ، والله ما يرفَعُ رأسَه! فقالَ: "هل تَتَّهمونَ لهُ أحدًا؟ "، قالوا: نتَّهمُ عامرَ بن ربيعةَ، قال فدَعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامرًا فتَغَلَّظَ عليهِ وقال: "عَلامَ يقتلُ أحدُكم أخاهُ، أَلا بَرَّكْتَ؟ اغتسِلْ لهُ"، فغَسلَ عامرٌ وجهَهُ ويدَيهِ ومِرفَقيهِ ورُكْبَتيه وأطرافَ رِجلَيهِ وداخِلةَ إزارِه في قدَح ثم صُبَّ عليه، فراحَ مع النَّاس ليسَ بهِ بأسٌ. قوله: "ما رأيتُ كاليوم، ولا جلدَ مُخبَّأة"، تقدير هذا الكلام: ما رأيتُ جِلدَ رجلٍ ولا جِلدَ مخبَّأةٍ مثلَ الجلد الذي رأيتُه اليومَ؛ يعني: جِلدَ سهل بن حُنيف، فإن جِلدَه كان لطيفًا. (المخبَّأة): المرأة المخدَّرة، وهي التي تجلس في البيت خلف السِّتر. "فلُبطَ سهلٌ"؛ أي: سقط على الأرض من تأثير عين عامر. "هل لك في سهل بن حُنيف؟ "؛ أي: هل لك خبرٌ في شأن سهل بن حُنيف؟ أو هل خِلْتَ مداواةً فيه؟ "هل تتهمون"؛ أي: هل تظنُّون مَن أصابَه بالعين؟

"علامَ"؛ أي: لِمَ، وأصله: علاما، سقطت الألف لأن (ما) للاستفهام إذا دخلت على حروف الجر جازَ إسقاطُ ألفِها. "ألا برَّكت؟ "؛ يعني: هلَّا قلتَ: بارَكَ الله عليك؛ يعني: مَن رأى شيئًا يحسن في نظره فليقل: بارَكَ الله عليك؛ كي لا تؤثَّر فيه. "فراحَ مع الناس"؛ أي: فلمَّا صُبَّ على سهلٍ ذلك الماءُ شُفِيَ وذهبَ مع الناس. وهذا الحديثُ يدل على أن مَن أصاب أحدًا بعينه فالسُّنَّةُ فيه: أن يغسلَ هذه الأعضاءَ المذكورةَ ويصبَّ الماءَ المغسولَ به أعضاءَه على الذي أصابته العينُ ليَبْرَأ بإذن الله تعالى. واختُلف في داخلة الإزار؛ قيل: المراد منه: الذَّكَر، وقيل: المراد منه: الفخذ. قال أبو عبيد: المراد منه الجانب الذي يلي الجسدَ من الإزار، يُغسَل منه الطرفُ الأيمنُ. * * * 3534 - عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ من الجانِّ وعينِ الإِنسانِ حتى نزلَتْ المُعَوِّذتانِ، فلمَّا نزلَتا أخذَ بهما وتركَ ما سِواهما. غريب. قوله: "يتعوَّذ من الجانِّ وعين الإنسان"؛ يعني: كان يقول: أعوذ بالله من الجانِّ وعين الإنسان، قبل أن تنزل عليه المعوِّذتان، فلمَّا نزلَتَا كان يقرؤهما على نفسه وعلى كل مَن احتاج إلى رقية، وتركَ قراءةَ التعوُّذ من الجانِّ وعين الإنسان وما أشبه ذلك. * * *

2 - باب الفأل والطيرة

3535 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل رُئيَ فيكم المُغَرَّبُونَ؟ " قلت: وما المُغرِّبونَ؟ قال: "الذينَ يشتركُ فيهم الجِنُّ"، غريب. قوله: "هل رُئِيَ فيكم المُغرِّبون؟ قيل: وما المُغرِّبون؟ قال: الذي يشترك فيهم الجنُ". قد جاء في الحديث أن مَن لم يذكر اسمَ الله عند الجماع يُجامِعُ معه الجنُّ والشياطينُ، وذُكر في التفاسير هذا المعنى في قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64]، وفي قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "هل تحسُّ فيكنَّ امرأةٌ أن الجنَّ يُجامِعُها كما يُجامِعُها زوجُها؟ ". هذا ظاهر الحديث، ولعل المراد ما هو المعروف عند الناس: أن بعضَ النساء يعشق بها بعضُ الجن ويُجامعها ويَظهر لها، وربما يذهب بها مِن بين قومها إلى حيث شاء. * * * 2 - باب الفَأْلِ والطِّيرَةِ (باب الفأل والطِّيَرة) قال الخطابي: اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الفألَ إنما هو أن يسمعَ الإنسانُ الكلمةَ الحسنةَ فيتفاءلَ بها"؛ أي: يتبرَّك بها ويتأوَّلها على المعنى الذي يوافق اسمها. قال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل، قال: هو أن يكون مريضًا فتسمع: يا سالم! أو تكون طالبًا فتسمع: يا واجد! و"الطِّيَرة" ماخوذة من زجرهم بالطير، وهو أن عادةَ العرب أن الواحدَ

منهم إذا ذهب في حاجة؛ فإن طارَ طيرٌ أو جاء صيدٌ بحيث يكون جانب يسار ذلك الطير أو الصيد إليه يعدُّ ذلك السفر مشؤومًا، وإن كان جانب يمين ذلك الطير أو الصيد إليه يعدُّ ذلك السفرَ مباركًا؛ فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطِّيَرة، ورخَّص في الفَأل. يعني: لو رأى الشخصُ شيئًا يظنُّه حسنًا ويحرِّضه على طلب حاجته وإتمامه فَلْيقبَلْ ذلك، وإن رأى ما يعدُّه شؤمًا ويمنعُه عن المضي بحاجته فلا يجوز قَبولُه، ولا يرجع عن إتمام شغله، بل لِيَمضِ لشغله ولا يلتفتْ إلى ذلك. * * * مِنَ الصِحَاحِ: 3536 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا طِيَرَةَ، وخيرُها الفألُ"، قالوا: وما الفألُ؟ قال: "الكلِمةُ الصَّالحةُ يسمعُها أحدُكم". قوله: "لا طِيَرةَ"؛ يعني: لا يجوز العملُ بالطِّيَرة، وقد ذُكر شرح (الطِّيَرة). "وخيرُها الفَأل"؛ يعني: الفألُ خير من الطِّيَرة، وليس معنى هذا الكلام: أن الطِّيَرةَ فيها خيرٌ، والفألَ خيرٌ منها، بل لا خيرَ في الطِّيَرة أصلًا، وهذا مثل قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]؛ يعني: أصحاب الجنة خيرٌ من أصحاب النار، ومعلومٌ أنه لا خيرَ في أصحاب النار أصلًا. قوله: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدُكم"؛ يعني: الفألُ أن يقصدَ أحدُكم، فيسمعَ كلمةً صالحةً يفرح بها وتحرِّضه على ذلك الأمر، كما ذُكر قُبيلَ هذا. * * * 3537 - وقال: "لا عَدْوَى، ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، وفِرَّ مِن

المجذومِ كما تَفِرُّ مِن الأسدِ". قوله: "لا عدوى": في زعم العرب أنه تَسرِي علةٌ من شخصٍ إلى شخصٍ، مثل: أن يَقرُبَ جَمَلٌ ليس عليه جَرَبٌ من جَمَلٍ عليه جَرَبٌ، فيجرب الجَمَلُ الذي ليس عليه جربٌ، فيعتقد صاحبه أن الجَمَلَ الصحيحَ جربَ بمقاربته الجَمَلَ الأجربَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا الاعتقادَ باطلٌ، لا تأثيرَ لشيءٍ بغير أمر الله تعالى. قوله: "ولا هامَةَ": اسم طير، يقال له بالفارسي: كوف ديوف، ويَتشاءم به الناسُ. وكانت العربُ تزعم أن عظامَ الميت إذا بَليت تصير هامَةً، تخرج من القبر وتتردد في بلد ذلك الميت، وتأتي الميتَ بخبر أهله، فأَبطلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقادَ، ونفى صيرورةَ عظام الميت هامَةً أو غيرها من الحيوانات. قوله: "ولا صَفَرَ": كانت العرب تزعم أن الصَّفَرَ حيةٌ تكون في البطن تصيب الإنسانَ أو الماشيةَ؛ أي: تلدغُه، وقيل: الصَّفَرُ هو الشهر المعروف، وكانت العرب يعتقدون شهر الصَّفَر مشؤومًا. وقيل: الصَّفَر هو تأخير تحريم المحرَّم إلى الصَّفَر، كانوا يعتقدون تحريم القتال في رجب وذي القعدة وذي الحجة والمُحرَّم، فإذا حدثت لهم حرب مع قوم في المحرَّم كانوا يقولون: لم يُجعَل المُحرَّمُ شهرَ التحريم، بل نقلنا التحريم إلى شهر الصَّفَر؛ لنحاربَ أعداءنا ثم نترك الحرب في شهر الصَّفَر بدْلًا من شهر المُحرَّم، فأَبطلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشياءَ؛ يعني: كذَب مَن قال: كان في البطن حية، ومن قال: الصَّفَر مشؤوم، وكَذَبُوا أنَّ نقلَ التحريم من المُحرَّم إلى الصَّفَر يجوز. قوله: "وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد"، قال محيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة": قيل: هو رخصةٌ لمَن أراد أن يجتنب عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون: "مَن

لم يحترز عنه متوكلًا فحسنٌ"، بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدِ مجذومٍ فأكلَ معه. روى هذا الحديثَ - أعني حديث: "لا عدوى" - أبو هريرة. * * * 3538 - وقالَ: "لا عَدوَى، ولا هامةَ، ولا صفَرَ"، فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولَ الله! فمَا بالُ الإِبلِ يكونُ في الرَّملِ كأنَّها الظِّباءُ، فيخالطُها البعيرُ الأجربُ فيُجربُها؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "فمَن أَعدَى الأَوَّلَ". قوله: "فمَن أَعْدَى الأولَ"، (أعدى): إذا أَوصلَ شيئًا إلى شيءٍ فأَحدثَ شيئًا في شيءٍ؛ يعني: إن كان البعيرُ الأجربُ أَجربَ الإبلَ الصِّحَاحَ فمَن أَجربَ ذلك البعيرَ؟ يعني: كما أن الله تعالى أَجربَ ذلك البعيرَ، فكذلك هو تعالى أَجربَ الإبلَ الصِّحاحَ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3539 - وقال: "لا عَدْوَى، ولا هامَةَ، ولا نَوْءَ، ولا صَفَرَ". قوله: "ولا نوَءَ"، قال أبو عبيد: هي ثمانيةٌ وعشرون نجمًا معروفةَ المَطَالعِ في أزمنة السَّنة، يسقط منها في ثلاثَ عشرةَ ليلةً نجمٌ في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخرُ مقابله من ساعته، وانقضاء هذه الثمانية والعشرين مع انقضاء سَنَةٍ، وكانت العربُ في الجاهلية إذا سقط منها نجمٌ وطلعَ آخرُ قالوا: لا بدَّ مِن أن يكون عند ذلك مطرٌ، فينسبون كلَّ غيثٍ عند ذلك إلى النجم، فيقولون عند ذلك: مُطِرْنا بنوءِ كذا، فأَبطلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكمَ ومنعَ الأُمةَ أن ينسبوا نزولَ المطر لحدوث نجم؛ فإنه لا يكون شيءٌ إلا بأمر الله تعالى.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3540 - وعن جابرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا عَدوَى، ولا صَفَرَ، ولا غُوْلَ". قوله: "ولا غُولَ". (الغُول) بضم الغين: الجن الذي يسخِّر الناس، وجمعه: غِيلان، وليس معنى الحديث نفي الغُول، بل الغُولُ موجودٌ، قد يوجد في الفَلَوات والصحارى، وإنما نفى الشارعُ أن الغِيلان لا يقدرون على إضلالِ أحدٍ ولا إهلاكهِ ولا خطفِه ولا سرقتِه إلا بأمر الله، وكانت العرب تزعم أن الغِيلانَ تُضلُّ الناسَ عن طرقهم وتخطفُهم، وكانت العربُ يخافون من المسافرة وطلب حوائجهم، فنفى الشرعُ هذا الاعتقادَ. وقد جاء في الحديث: "إذا تغوَّلَتِ الغِيلانُ فبادِرُوا بالأذان"؛ يعني: إذا ظهرت لكم الغِيلانُ فأذِّنوا بالأذان في وجوههم؛ فإنهم يفرُّون من الأذان. * * * 3541 - عن عَمْرِو بن الشَّريدِ، عن أبيه قال: كانَ في وفدِ ثَقيفٍ رجلٌ مجذومٌ فأرسلَ إليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا قد بايعناكَ فارجعْ". قوله: "إنا قد بايعناك فارجِعْ"، أراد ذلك الرجلُ أن يأتيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويبايعَه، فأرسلَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تأتينا؛ فإنه لا حاجةَ إلى إتيانك، فإنَّا قد بايعناك، وهذا رخصةٌ من النبي لمَن لم يكن له توكُّلٌ من أُمته في الاحتراز عن المجذوم. * * *

مِنَ الحِسَانِ: 3543 - عن قَطِن بن قَبيصَةَ، عن أبيه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العِيَافةُ والطَّرْقُ والطِّيرَةُ مِن الجِبْتِ". قوله: "العِيَافةُ والطَّرْقُ والطِّيَرةُ من الجِبْتِ". (العِيافة): هي الطِّيَرة، إلا أن العِيافةَ تختص بزجر الطير، مثل أن يطيرَ طائرٌ فيعتقد الرجلُ أن سفرَه أو شغلَه مباركٌ إنْ طارَ وجانبُ يمين الطير إليه، ومشؤومٌ إن كان جانبُ يساره إليه، فلذلك يتشاءمون بأصوات بعض الطير ويتيمَّنون بأصوات بعضها. والطِّيَرة: كلُّ ما يعدُّ الرجلُ مشؤومًا من رؤية طيرٍ أو حيوانٍ غيرِ الطيرِ أو شجرٍ أو غيره. و (الطَّرق): الضرب بالحصا، كما هو عادة الكَهَنة. (الجِبْت) ها هنا: السِّحر؛ يعني: هذه الأشياءُ مُحرَّمةٌ كالسِّحر. * * * 3544 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطِّيرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، قاله ثلاثًا - ما مِنَّا إلا - ولكنَّ الله يُذهِبُه بالتوكُّلِ" قيل: قوله: "وما مِنا" قولُ ابن مسعودٍ. قوله: "الطِّيَرةُ شِرْك"؛ يعني: النافعُ والضارُّ والمُيسِّر والمُعسِّر هو الله تعالى، فمَن اعتقد أن أحدًا أو شيئًا سوى الله تعالى ينفع أو يضرُّ أو ييسِّر أو يعسِّر فقد اتخذ لله شريكًا. قوله: "وما منا إلا"، قال البخاري: إن سليمان بن حرب قال: هذا ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو كلامُ ابن مسعود؛ يعني: ليس منَّا إلا كان في قلبه

الطِّيَرة؛ يعني: نفوسُنا كانت كنفوس أهل الجاهلية في اعتقاد الطِّيَرةِ مثيرةً، ولكن لمَّا توكَّلنا على الله وقَبلْنا حديثَ رسوله واعتقدنا صدقَه أَذهَبَ الله عنا اعتقادَ أهل الجاهلية، وأقرَّ في قلوبنا السُّنَّةَ واتِّباعَ الحقِّ. * * * 3545 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذَ بيدِ مَجذومٍ فوضعَها معَهُ في القَصْعَةِ وقال: "كُلْ ثِقَةً بالله وتَوَكُّلًا عليهِ". قوله: "كُلْ ثقةً بالله"، (ثقة): منصوبة على الحال، والثقة: الاعتماد؛ يعني: كُلْ معي من قصعةٍ واحدةٍ؛ فإني توكَّلتُ على الله ألا يصيبني إلا ما قضى الله لي، وهذا درجةُ المتوكلين، فإن لم تحترز من المجذوم فهو متوكِّل، وإن احترزتَ فقد جاءت الرخصةُ فيه. * * * 3546 - وعن سعدِ بن مالكٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا هامَةَ، ولا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، وإنْ تَكُن الطِّيَرةُ في شيءٍ ففي الدَّارِ والفَرَسِ والمرأةِ". قوله: "وإن تَكُنِ الطِّيَرةُ في شيءٍ ففي الدار والفَرَس والمرأة"، قيل: الطِّيَرةُ هنا بمعنى: الكراهية، لا بمعنى: التشاؤم؛ يعني: كراهيتكم شغلًا قصدتُمُوه بسبب رؤيةِ طيرٍ أو صيدٍ لا يجوز، ولكن يجوز في الدار والفَرَس والمرأة؛ يعني: إذا كرهتُم دارًا لضيق مكانها أو لسببٍ آخرَ فاتركوها، وكذلك إذا كرهتُم فَرَسًا أو امرأةً لسوء خلقها أو لسببٍ آخرَ فاتركوهما؛ يعني: كراهيةُ شيءٍ للحوقِ ضررٍ منه إلى صاحبه - لا للتشاؤم - جائزٌ، وأما للتشاؤم فلا يجوز. * * *

3547 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعجبُه إذا خرجَ لحاجةٍ أنْ يسمعَ: يا راشدُ، يا نجيحُ. قوله: "يا راشد"؛ أي: يا واجد الطريق المستقيم. "النجيح": الذي قضيت حاجته يعني إذا سمع أحدًا يقول لأحد: يا راشد أو يا نجيح فقال - صلى الله عليه وسلم - بسماع هذين اللفظين وما أشبههما يعني ستحصل وستقضى حاجتنا إذا سمعنا هذين اللفظين. * * * 3548 - وعن بُرَيْدَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يتطيرُ مِن شيءٍ، فإذا بعثَ عامِلًا سألَ عن اسمِهِ؟ فإذا أعجبَهُ اسمُه فَرِحَ به ورُئيَ بِشْرُ ذلكَ في وجهِهِ، وإنْ كَرِهَ اسمَهُ رُئيَ كراهيةُ ذلكَ في وجهِهِ، وإذا دخلَ قريةً سألَ عن اسمِها؟ فإنْ أعجبَهُ اسمُها فَرِحَ بها ورُئيَ بِشْرُ ذلكَ في وجهِهِ، وإنْ كَرِهَ اسمَها رُئيَ كراهيةُ ذلكَ في وجهِهِ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطيَّر في شيءٍ، فإذا بعثَ عاملًا سأل عن اسمه؛ فإذا أعجبَه اسمُه فرحَ به ... " إلى آخره، قال محيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة" في شرح هذا الحديث: ينبغي للإنسان أن يختارَ لولدِه وخَدَمِه الأسماءَ الحسنةَ، فإن الأسماءَ المكروهةَ قد تُوافق القَدَرَ؛ يعني: لو سمَّى أحدٌ ابنه بـ (خَسَار) فربما جرى قضاء الله بأن يلحق خَسَار ذلك المسمى بـ (خَسَار)، فلما لحقه ذلك الخَسَار المقدَّر يعتقد بعضُ الناس أن لحوقَ ذلك الخَسَار بسبب اسمه، فيتشاءم الناس به، فيحترزون مجالستَه ومواصلتَه، ويصير معروفًا بالشؤم؛ فلا ينبغي لأحدٍ أن يُسمِّيَ ابنه أو غيرَه باسمٍ يصير بسبب ذلك الاسم مبغوضًا مشؤومًا بين الناس، وكراهيةُ رسولِ الله الاسمَ القبيحَ لأجل هذا، فإن الاسمَ الحسنَ محبوبٌ في طباع الناس، والاسمَ المكروهَ مبغوضٌ في طباع

الناس، فاختيارُ المحبوبِ على المبغوضِ من غاية كمال عقل الإنسان. ورُوي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: ما اسمُك؟ قال: جَمْرَة، قال: ابن مَن؟ قال: ابن شهاب، قال: ممَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقة، قال؛ أين مسكنُك؟ قال: بحَرَّةِ النار، قال: بأيها؟ قال: بذات لَظًى، فقال عمر: أَدرِكْ أهلَك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر. * * * 3549 - عن أنسٍ قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله! إنَّا كنا في دارٍ كثيرٌ فيها عَدَدُنا وأموالُنا فتحوَّلنا إلى دارٍ قلَّ فيها عددُنا وأموالُنا؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوها ذَمِيمَةً". قوله: "إنَّا كنَّا في دارٍ كثيرٍ فيها عددُنا وأموالُنا ... " إلى آخره، هذا ليس من العدوى ولا من الطِّيَرة، بل من الطِّبِّ؛ فإن الماءَ الهواءَ والنباتَ مختلفةٌ، فبعضُها يُوافق الطباعَ وبعضُها يُخالفها، فالأرضُ الأولى كان هواؤُها وماؤُها ونباتُها موافقةً لهم، والأرضُ الثانيةُ التي انتقلوا إليها وقلَّ عددُهم وأموالُهم فيها كان هواؤُها وماؤُها ونباتُها مخالفةً لهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتركوا الأرضَ التي لم يوافقهم هواؤُها وماؤُها ونباتُها. قوله: "فتحوَّلنا"؛ أي: انتقلنا. "ذَرُوها"؛ أي: اتركوها. "ذميمةً": فعيلة بمعنى مفعولة، وهي منصوبة على الحال؛ أي: في حال كونها مذمومةً؛ يعني: اتركوها فإنها مذمومةٌ؛ لأن هواءَها غيرُ موافقٍ لكم. * * * 3550 - ورُوِيَ عن فَرْوَةَ بن مُسَيْكٍ أنَّه قال: يا رسولَ الله! أرضٌ عندَنا

3 - باب الكهانة

هي أرضُ رَيْعِنا ومِيرتِنا، وإنَّ وباءها شديدٌ؟ فقالَ: "دَعْها عنكَ فإنَّ مِن القَرَفِ التَّلَفَ". قوله: "أرضٌ عندنا هي أرضُ رَيْعِنا": هذا الحديث مثل الحديث المتقدم. (الرَّيع): الزيادة؛ يعني: يحصل لنا فيها الثمار والنبات. و (المِيْرَة): الطعام. "دَعْها"؛ أي: اتركْها. "فإن من القَرَفِ التلفَ". (القَرَف) بفتح القاف والراء: مداناة الوباء، والوباء: البلاء والمكروه الذي يعمُّ؛ يعني: من قارَبَ متلفًا يَتلَفُ؛ يعني: إذا لم يكن هواءُ تلك الأرض موافقًا لكم فاتركوها. * * * 3 - باب الكهَانَةِ (باب الكهانة) قوله: "الكهانة": الإخبار عن علم الغيب؛ يعني: عما كان مستورًا عن الناس، والذين يخبرون عن الغيب أنواع: كاهن، وعرَّاف، ومنجِّم. فالكاهن: مَن يدَّعي أن له أصحابًا من الجن يخبرونه عما سيكون في الزمان المستقبل، ومِن الكهَّان مَن يقول: أعرفُ الغيبَ بفهمٍ أُعطيته. والعرَّاف: مَن يقول: إني أعرف المسروقَ ومكانَ الضالَّة. والمنجِّم: مَن يُخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه وسيره، كلُّ ذلك

مذمومٌ في الشرع، فإن الغيبَ لا يعلمه إلا الله، ويجوز تعلُّم علم النجوم بقَدْر ما يُعرَف به الأيام والليالي، والسَّنة والشهور والساعات، ومواقيت الصلاة واستقبال القِبْلَة. مِنَ الصِحَاحِ: 3551 - عن مُعاويةَ بن الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أمورًا كنا نصنعُها في الجاهليةِ، كنَّا نأتي الكُهَّانَ؟ قال: "فلا تَأتُوا الكُهَّانَ" قال: قلتُ: كُنَّا نتطيَّرُ؟ قال: "ذلكَ شيءٌ يجدُه أحدُكم في نفسِهِ فلا يَصُدَّنَّكم"، قال: قلتُ: وما مِنَّا رِجالٌ يَخُطُّونَ؟ قال: "كانَ نبيٌّ من الأنبياءِ يَخُطُّ فمَنْ وافقَ خطَّهُ فذاكَ". قوله: "كنَّا نأتي الكهَّان": قد ذُكر هذا الحديث في باب (ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه). * * * 3552 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سألَ أُناسٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الْكُهَّانِ؟ فقالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسوا بشيءٍ"، قالوا: يا رسولَ الله! فإنَّهم يُحَدِّثونَ أحيانًا بالشَّيءِ يكونُ حَقًّا؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلكَ الكلِمةُ مِن الحقِّ يخطَفُها الجِنِّيُّ فيَقُرُّها في أُذُنِ وَلِيهِ قَرَّ الدَّجاجةِ، فيخلِطونَ فيها أكثرَ مِن مِئَةِ كَذْبةٍ". قوله: "ليسوا بشيءٍ"؛ يعني: ليس قولُهم صدقًا. "يكون حقًّا"؛ أي: صدقًا؛ أي: يظهر مثلَ ما أخبروا به. "تلك الكلمة من الحق يخطفها"؛ يعني: تلك الكلمةُ من الصدق يخطفُها الجن أي: يسلبها ويسرقها؛ يعني: يصعد الجني إلى أن يَقرُبَ من السماء ويستمع ما تقول الملائكة مما أمر الله تعالى به من الوقائع، مثل أن يقولوا: يكون في

الناحية الفلانية في هذه السَّنة قحطٌ أو مطرٌ أو زلزلةٌ وما أشبه ذلك، فيستمع ذلك الجني تلك الكلمةَ من الملائكة، ويجيء أولياءَه من كهَّان الإنس ويقول لهم تلك الكلمةَ، ويخبر الكهَّانُ الناسَ بتلك الواقعة، فلمَّا يسمع ناسٌ من الكهَّان تلك الواقعةَ ويَظهر صدقُ ما أخبر به الكهَّان، فيعتقدون صدقَ جميع ما أخبر به الكهَّان، فيترددون إلى الكهَّان، ويسألون عما سيكون من الوقائع، ويخبرهم الكهَّان بجميع ما سألوهم، وربما يظهر صدقُ خبرٍ وكذبُ مئة خبرٍ أو أكثر. فالذي ظهر صدقُه هو الذي سمع من الجني الذي سمع ذلك الخبرَ من الملائكة، والذي ظهر كذبُه هو ما قاله الكهَّان من تلقاء أنفسهم. واعلم أن الجنَّ كانوا يصعدون ويسمعون ما قالت الملائكة بعضهم مع بعض، ولا يمنعهم أحدٌ قبلَ ولادة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا وُلد نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - كانت الجنُّ يصعدون السماءَ فيُرجَمُون بكواكبَ أمثالِ النار، فيُحرقون. قوله: "قَرَّ الدجاجة"؛ يعني: قرًّا مثل قَرِّ الدجاجة. (القَرُّ): صبُّ الماء البارد على أحدٍ، وتقريرُ الكلام وتثبيتُه في أذن المستمع؛ يعني: يقول الجني ما سمعَه من الملائكة لوليه من الكهَّان. (قَرَّ الدجاجة)؛ يعني: كما يُصوِّت الدجاج بصوتٍ لا يُفهَم، فكذلك الجني يَقَرُّ في أذن الكهَّان بحيث لا يطَّلع عليه غيره، وقيل: معنى (قَرَّ الدجاجة): إنزاء الدِّيك على الدجاج؛ يعني: كما يلاصق الديك بالدجاجة، وَيصبُّ مَنِيَّه عليها ويتولَّد من مَنِيه بيضاتٌ كثيرةٌ، فكذلك الجنيُّ يُلاصِقُ فمَه على أذن الكاهن ويصبُّ كلامَه في فمه، ويتولَّد منه كلماتٌ، فيَصدُق في بعضها ويَكذِب في أكثرها. ويُروى: "قَزَّ الدجاج" بالزاي المعجمة، فعلى هذه الرواية معناه: كما يُصَبُّ الماءُ في قارورةٍ من قارورةٍ أخرى، فكذلك الجنيُّ يصبُّ كلامَه في الكاهن. * * *

3554 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَتَى عَرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً". قوله: "مَن أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلةً": قد ذُكر شرح (العرَّاف) قُبيلَ هذا، فإن أتى أحدٌ عرَّافًا، فسأله شيئًا، فأخبره عن عيبٍ، فإن صدَّقه في ذلك الخبر فهو كافرٌ حتى يجدِّد الإيمانَ، ولا تُقبَل له صلاةٌ ولا غيرُها من الطاعات قبل أن يجدِّدَ الإيمانَ. وإن لم يُصدِّقه فلم يكفر، ولكن لا تُقبَل كمالُ صلاتِه وغيرِها من الطاعة أربعين يومًا كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. رَوَتْ هذا الحديثَ صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3555 - عن زيدِ بن خالدٍ الجُهنيَّ قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبحِ بالحُديبيةِ على إثرِ سماءٍ كانت من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ أقبلَ على النَّاسِ فقال: "هلْ تدرونَ ماذا قالَ ربُّكم؟ " قالوا: الله ورسولُه أعلمُ، قالَ: "أصبحَ مِن عبادِي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأمَّا من قال: مُطِرنا بفضلِ الله وبرحمتِه فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكواكبِ، وأمَّا مَن قالَ: مُطِرنا بنوْءِ كذا وكذا فذلكَ كافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بالكواكبِ". قوله: "على إثر السماء"؛ أي: بعد نزول مطرٍ، كان قد نزل ذلك المطر في الليل. "أصبح مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ"، (مِن) هنا: للتبعيض؛ أي: أصبح بعضُ عبادي مؤمنًا بي وكافرًا بالكواكب، وبعضُهم كافرًا بي ومؤمنًا بالكواكب بسبب نزول المطر. * * *

3556 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل الله مِن السَّماءِ من بركةٍ إلا أصبحَ فريقٌ مِن النَّاسِ بها كافرينَ، يُنَزِلُ الله الغيثَ فيقولونَ: بكوكبِ كذا وكذا". قوله: "من بركة"؛ أي: من مطر. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3557 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اقتبسَ عِلْمًا مِن النُّجومِ؛ اقتبسَ شُعبَةً مِن السَّحْرِ، زادَ ما زادَ". قوله: "مَنِ اقتبسَ علمًا من النجوم اقتبسَ شُعبةً من السِّحر". (اقتبس)؛ أي: تعلَّم، (الشُّعبة): البعض، والمراد بها ها هنا: القطعة والبعض؛ يعني: كما أن تعلُّمَ السِّحر والعملَ به حرامٌ، فكذلك تعلُّم علم النجوم والتكلُّم به حرامٌ، وقد ذُكر ما يجوز تعلُّمه من علوم النجوم. * * * 3558 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَتَى كاهِنًا فصدَّقه بما يقولُ، أو أَتَى امرأتَه حائِضًا، أو أتى امرأتَه في دُبُرِها فقد بَرِئَ مما أُنزِلَ على محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "مَن أتى كاهنًا": ذكر شرح هذا الحديث في (باب الحيض). ° ° °

22 - كتاب الرؤيا

22 - كِتَابُ الرُّؤيَا

[22] كِتَابُ الرُّؤيَا (كتاب الرُّؤيا) (الرُّؤيا): ما يُرَى في المنام. مِنَ الصِّحَاحِ: 3559 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يَبْقَ مِن النُّبوَّةِ إلا المُبشَّراتِ"، قالوا: وما المُبشِّراتُ؟ قال: "الرُّؤيا الصَّالحةُ يَراها المسلمُ، أو تُرَى لهُ". قوله: "أو تُرَى له"؛ يعني: أو يَرى تلك الرُّؤيا أحدٌ لأحدٍ، سُميت الرؤية الصالحة: مبشِّرةً؛ لأنها تحصل للشخص منها بشارةٌ وفرحٌ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3560 - وقال: "الرُّؤيا الصَّالحةُ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأربعينَ جُزْءًا مِن النُّبوَّةِ". قوله: "الرُّؤيا الصالحةُ جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة": هذا في حق الأنبياء؛ لأن الرُّؤيا لا تكون نبوةً في غير الأنبياء؛ لأنه يلزم حينَئذٍ أن يكون جميعُ الناس أنبياء؛ لأنه لا يخلو أحدٌ عن رؤية رؤيا، بل الرُّؤيا نبوةٌ في حق الأنبياء عليهم السلام. قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقيل: معناه: الرُّؤيا الصالحةُ

من علم النبوة؛ أي: كعلم الأنبياء في الصحة والصدق، ويحتمل أن يكون معناه: تعبيرُ الرُّؤيا من النبوة؛ لأن تعبيرَ الرُّؤيا هو الذي قال يوسف نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}؛ أي: تعبيرُ الرُّؤيا مما علَّمَنِيه الله. وقالوا في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (جزء من ستة وأربعين جزءًا): إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَرَى الرُّؤيا ستةَ أشهرٍ في بَدْء نبوته، وكان زمانُ نبوته ثلاثةً وعشرين سنةً، فكان زمانُ رؤيته الرُّؤيا بالنسبة إلى جميع زمان وحيه جزءًا من ستةٍ وأربعين جزءًا. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 3561 - وقال: "مَن رآني في المنامِ فقد رآني فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّلُ في صورتي". قوله: "مَن رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطانَ لا يتمثَّل في صورتي"، قال محيي السُّنَّة: رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حقٌّ، ولا يتمثَّل الشيطان به، وكذلك جميع الأنبياء والملائكة عليهم السلام، وكذلك الشمس والقمر والنجوم والسحاب الذي فيه الغيث؛ لا يتمثَّل الشيطانُ بشيءٍ منها، ومَن رأى نزولَ الملائكة بمكانٍ فهو نصرةٌ لأهل ذلك المكان، وفرجٌ إن كانوا في كربٍ، وخصبٌ إن كانوا في ضيقٍ وقحطٍ، وكذلك رؤيةُ الأنبياء عليهم السلام. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 3562 - وقال: "مَن رآني فقد رأى الحَقَّ". قوله: "مَن رآني فقد رأى الحقَّ".

(الحق) هنا: ضد الباطل وضد الكذب، يعني: مَن رآني في المنام فقد صَدَقَتْ رُؤياه، فإنه قد رآني؛ فإن الشيطانَ لا يتمثَّل بي. روى هذا الحديثَ أبو قتادة. * * * 3563 - وقال: "من رَآني في المنامِ فسَيراني في اليَقَظةِ، ولا يتمثَّلُ الشَّيطانُ بي". قوله: "مَن رآني في المنام فسيراني في اليقظة": فسيراني يومَ القيامة ويكون معي على الحوض والجنة، ويحتمل أن يكون معناه: فسيراني في الدنيا إذا كانت له حالةٌ؛ فإنه قد نُقل عن بعض الصالحين أنه رأى النبيَّ في حالة الشوق والذوق. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3564 - وقال: "الرُّؤيا الصَّالحةُ مِن الله، والحُلْمُ مِن الشَّيطانِ، فإذا رَأَى أحدُكم ما يُحِبُّ فلا يحدِّثْ بهِ إلا مَن يُحِبُّ، وإذا رَأَى ما يكرهُ فليتعوَّذْ بالله مِن شرِّها ومِن شرِّ الشَّيطانِ وليتفُلْ ثلاثًا، ولا يُحدِّثْ بها أحدًا فإنَّها لن تَضُرَّهُ". قوله: "الرُّؤيا الصالحةُ من الله، والحُلْمُ من الشيطان"، أراد بـ (الرُّؤيا الصالحة): أن يرى في المنام شيئًا فيه بشارةٌ له أو تنبيهٌ عن الغفلة، كما يأمره أحدٌ بخيرٍ أو يرى نفسَه مع الصالحين أو في الجنة، أو يرى أن أحدًا يعذِّبه ويقول له: فعلتَ الذنبَ الفلانية، وما أشبه ذلك. وأراد بـ (الحُلْم): ما كان من وساوس الشيطان، مثل أن يرى أنه يشرب الخمرَ، أو يزني، أو يقتل مسلمًا، أو يقول له أحدٌ: اجمَعِ المالَ لتكونَ من الأغنياء، أو يعذِّبه أحدٌ أو يقتله من غير جرمٍ.

قوله: "وَلْيَتفلْ"، يعني: وَلْيَبزقْ، وعلَّة البزق: كراهية تلك الرُّؤيا وتحقيرُ الشيطان. روى هذا الحديثَ أبو قتادة. * * * 3565 - وقال: "إذا رَأَى أحدُكم الرُّؤيا يكرهُها فلَيَبْصُقْ عن يسارِه ثلاثًا، ولِيستَعِذْ بالله مِن الشَّيطانِ ثلاثًا، وليتحوَّلْ عن جنبه الذي كانَ عليهِ". قوله: "وَلْيَتحوَّلْ عن جنبه الذي كان عليه"؛ يعني: وَلْيَتقلَّبْ من ذلك الجنب إلى جنبه الآخر؛ يعني: يزول عن هيئة الضجعة الأولى لتزولَ عنه رؤيةُ حُلْم الشيطان. روى هذا الحديثَ جابرٌ. * * * 3566 - وقَال: "إِذَا اقتَربَ الزَّمانُ لَمْ تَكَدْ تَكذِبُ رؤُيَا المُؤْمنِ، ورُؤيَا المُؤْمنِ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأربَعِينَ جُزْءًا مِن النُّبوَّةِ، ومَا كَانَ مِن النُّبوَّةِ فإنَّه لا يَكْذِبُ"، رواهُ مُحمَّدُ بن سِيرِينَ، عَنْ أبي هُريْرةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَال مُحَمَّدٌ: وأَنا أَقُولُ: الرُّؤيا ثَلاثٌ: حَدِيْثُ النَّفسِ، وتَخْوْيفُ الشَّيطانِ، وبُشرَى مِن الله، فمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُه فلا يقُصَّه عَلى أَحَدٍ، ولْيقُمْ فليُصَلِّ، قَال: وكَانَ يَكرَهُ الغُلَّ في النَّومِ ويُعْجبُه القَيْدُ، ويُقالُ: القَيْدُ ثباتٌ في الدِّينِ. وأَدْرجَ بعضُهم الكُلَّ في الحَديثِ. قوله: "إذا اقترب الزمانُ لم تَكَدْ تكذب"، قال محيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة": اختلفوا في معناه؛ قيل: أراد به قربَ زمان القيامة ودنوَّ وقتها، كما صرَّح به في حديث آخر، وقيل: اقترابُ الزمانِ اعتدالُه حين يستوي الليل

والنهار، والمعبرون يقولون: أصدقُ الرُّؤيا في وقت الربيع والخريف عند خروج الثمار وعند إدراكها، وهما وقتانِ يتقارب فيهما الزمانُ ويعتدل الليل والنهار. قالوا: ورُؤيا الليل أقوى من رؤيا النهار، وأصدقُ الساعات الرُّؤيا وقتَ السَّحَر، رُوي عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، يرفعه، قال: "أصدقُ الرُّؤيا بالأسحار". قول محمد بن سيرين: "الرُّؤيا ثلاثٌ" فيه بيانُ أن ليس كلُّ ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيرُه، إنما الصحيحُ منها ما كان من الله - عز وجل -، يأتيك به مَلَك الرُّؤيا من نسخة أم الكتاب؛ يعني: اللوح المحفوظ، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلامٍ لا تأويلَ لها، وهي على أنواع؛ قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان أو يُريه ما يحزنه، وله مكائدُ يُحزن بها بني آدم كما أَخبرَ الله سبحانه وتعالى عنه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، ومِن لعبِ الشيطانِ به الاحتلامُ الذي يُوجب الغُسلَ، فلا يكون له تأويل. وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمَن يكون في أمرِ أو حرفةٍ يرى نفسَه في ذلك الأمر، والعاشقُ يرى معشوقَه ونحو ذلك، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة، كمَن غلبَ عليه الدمُ يرى الفصدَ والحِجَامةَ والرُّعافَ والحُمرةَ والرياحينَ والمزاميرَ والنشاطَ ونحوها، ومَن غلبَ عليه الصفراءُ يرى النارَ والشمعَ والسِّراجَ والأشياءَ الصفراءَ والطيرانَ في الهواء ونحوها. ومَن غلب عليه السوداء يرى الظلمةَ والسوادَ والأشياءَ السُّودَ والصيدَ والوحوشَ والأهوالَ والأمواتَ والقبورَ والمواضعَ الخربةَ، وكونَه في مضيقٍ لا مَنفذَ له أو تحتَ ثقلٍ ونحو ذلك. ومَن غلب عليه البلغم يرى البياضَ والمياهَ والثلجَ والجمدَ والوحلَ ونحوها؛ فلا تأويلَ لشيءٍ منها.

وقال عبد الوهاب الثقفي: عن أيوب السَّخْتِياني، عن محمد بن سيرين: إن الرُّؤيا ثلاثةُ ... إلى آخره، من جملة الحديث، لا من قول محمد بن سيرين. وقال أيوب: قوله: (أحبُّ القيدَ وأَكرهُ الغُلَّ، والقيدُ ثباتٌ في الدِّين" فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين، وجعلَه مَعمَر عن أيوب من قول أبي هريرة، فإذا عرفت هذا فاعرف أن قوله: (وقال: وكان يكره الغُل) الضمير في (قال) ضمير أيوب، والضمير في (كان) ضمير ابن سيرين، ويجوز أن يكون الضمير في (قال) ضمير ابن سيرين، وفي (كان) ضمير أبي هريرة. وإنما يُكرَه الغُلُّ في النوم؛ لأن الغُلَّ تقييدُ العنق، وتقييدُ العنق وتثقيلُه يكون بحمل الدَّين أو المظالم، أو كونه محكومًا ورقيقًا ومتعلقًا بشيء. * * * 3568 - وعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قَال: قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ ذاتَ ليلَةٍ فِيْمَا يرَى النَّائمُ كأنَّا في دَارِ عُقبةَ بن رافِعٍ، فأُتِيْنا برُطَبٍ مِن رُطَبِ ابن طَابٍ، فأَوَّلتُ أنَّ الرِّفعةَ لنا في الدُّنيا، والعَاقِبةَ في الآخِرَةِ، وأَنَّ دينَنَا قَدْ طَابَ". قوله: "كأنَّا في دار عقبة بن رافع"، الضمير في (كأنَّا) ضمير النبي ومَن معه مِن أصحابه، وتأويلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديثَ دستورٌ في قياس التعبير بغير ما يرى في المنام، كما أوَّلَ - صلى الله عليه وسلم - (عقبةَ) بأن العاقبةَ الحسنةَ لهم، وأوَّلَ (رافعًا) بأن الرِّفعةَ في الدنيا والآخرة لهم، وأوَّلَ (ابن طابٍ) - وهو نوعٌ من التمر - بأن دِينَهم قد طابَ؛ أي: كملَ وحسنَ. * * * 3570 - وعَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "رأيتُ في المَنامِ أنِّي

أُهاجِرُ مِن مكَّةَ إلى أرضٍ بها نَخْلٌ، فذهبَ وَهَلي إلى أنَّها اليَمامةُ، أو هَجَر، فإذا هِيَ المَدِينةُ يَثْرِبُ، ورأيتُ في رُؤيَايَ هذه أنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فانقَطَعَ صَدْرُهُ، فإذا هُوَ ما أُصِيْبَ مِن المُؤْمِنينَ يَومَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزتُه أُخرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فإذا هُوَ مَا جاءَ الله بهِ مِن الفَتْحِ واجتِمَاعِ المُؤْمنينَ". قوله: "وَهَلي"؛ أي: ظنِّي. "اليمامة أو هَجَر": اسما بلدَين. "هَزَزتُ"؛ أي: حرَّكتُ. * * * 3571 - وعَنْ أبي هُريْرةَ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتيْتُ بخزائِنِ الأَرْضِ، فوُضعَ في كَفِّي سِوارَانِ مِن ذَهَبٍ فكبُرا عَلَيَّ، فأُوحِيَ إِليَّ: أن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُما فذَهَبا، فأَوَّلتُهُما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بينَهمَا: صَاحِبَ صَنعاءَ، وصَاحِبَ اليَمامةِ". وفي رِوايةٍ: "يُقالُ لأَحدِهِما: مُسَيْلمةُ صَاحِبُ اليمامةِ، والعَنسيُّ صَاحِبُ صَنعاءَ". قوله: "أُتيت بخزائن الأرض" على بناء المجهول؛ أي: عُرِضَّ عليَّ الكنوزُ وأنواعُ المال، فوُضعَ منها سِوَارانِ في كفِّي، "فكَبُرَا"؛ أي: فَثُقلاَ، ومقصود هذا الحديث: أن إسلامَ مُسيلِمة والعَنْسي كان عظيمًا عنده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لهما أتباعًا كثيرةً، فقيل له في المنام: انفخ السِّوارَينِ، فنفخ فيهما، فذَهَبَا؛ يعني: ليس لإسلامهما إخلاصٌ، بل سيرتدَّانِ عن الدِّين، وكانا قد ارتدَّا قبل رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرُّؤيا. والرجلُ إذا رأى السِّوارَ في يده تعبيرُه صيرورته ضيقَ اليد؛ أي: قليلَ

المال، والمرأة إذا رأت السِّوارَ في يدها يزيد جمالُها وقَدْرُها، وجميع الحُلِيِّ يكون حسنًا للنساء إذا رَأَيْنَه في المنام. * * * 3572 - وقالت أمُّ العَلاءِ الأنصاريَّةُ: رأيتُ لِعُثمانَ بن مَظْعُونٍ - رضي الله عنه - في النَّومِ عَيْنًا تَجرِي، فقَصَصْتُها على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "ذاكَ عَمَلُه يُجْرَى لهُ". قولها: "رأيتُ لعثمانَ بن مَظعونٍ عَينًا تجري"، أرادت بهذه العَين: عينَ الماء، رأت هذا المنامَ بعد موت عثمان، فعبَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الرُّؤيا بأنه يَصِلُ إلى عثمانَ ثوابُ أعماله الصالحة. * * * 3573 - عن سَمُرَةَ بن جُنْدبٍ - رضي الله عنه - قَال: "كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى أقبلَ علينا بوجْهِهِ فَقَال: "مَن رَأَى مِنْكُم اللَّيلةَ رؤيا؟ " قال: فإنْ رَأَى أحدٌ قَصَّها، فيقولُ: "ما شاءَ الله! "، فسأَلَنا يَوْمًا فقال: "هل رَأَى منكُم أَحَدٌ رؤيا؟ " قُلْنَا: لا، قال: "لكنِّي رأيتُ الليلةَ رَجُلَيْنِ أَتَياني، فأَخَذا بيدَيَّ فأَخْرجاني إلى أرْضٍ مُقدَّسةٍ، فإذا رَجُلٌ جَالِسٌ، ورَجُلٌ قائمٌ بيِدِهِ كَلُّوبٌ مِن حَديدٍ، يُدْخِلُه في شِدْقِه فيُشقَّه حتى يبلُغَ قَفاهُ، ثم يفعَلُ بشِدْقِه الآخرِ مِثلَ ذلكَ، ويَلتئمُ شِدْقُه هذا، فيعَودُ فيصْنَعُ مِثلَه، قُلْتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ، فانطلَقْنا حتَّى أتيْنا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ على قفَاهُ، ورَجُلٌ قائمٌ على رأسِهِ بِفِهْرٍ أو صَخْرةٍ يشْدَخُ بِهِ رأسَهُ، فإذا ضَرَبَه تَدَهْدَهَ الحَجرُ، فَانطَلقَ إليهِ لِيأْخُذَه، فلا يرجِعُ إلى هَذا حتَّى يلْتَئِمَ رأسُهُ، وعَادَ رأسُهُ كَمَا كَانَ، فعادَ إليهِ فضرَبَه، فقلْتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ، فانطلَقْنا حتَّى أتيْنا إِلَى نَقْبٍ مِثلِ التَّنُورِ، أَعْلاهُ ضَيقٌ وأسفَلُه واسِعٌ، تتوقَّدُ تحتَه نارٌ، فإذا اتَّقدَتْ ارتفعُوا حتَّى يَكادوا يَخرُجُونَ منها، فإذا خَمَدَتْ رجَعُوا فيها، وفيها

رِجَالٌ ونِسَاءٌ عُراةٌ، فَقُلتُ: ما هذا؟ قَالا: انطلِقْ، فانْطَلَقْنا حتَّى أتيْنا على نَهرٍ مِن دَمٍ، فيهِ رَجُلٌ قائمٌ، وعلى شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيهِ حِجارَةٌ، فأقبلَ الرَّجُلُ الذي في النَّهرِ، فإذا أرادَ أنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بحَجَرٍ في فِيْهِ، فردَّه حيثُ كان، فجعَلَ كُلَّما جَاءَ ليخرُجَ رَمَى في فِيْهِ بحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَان، فَقُلتُ: مَا هذا؟ قَالا: انْطَلقْ، فانطلَقْنا حتَّى انتهَيْنا إلى رَوضةٍ خَضراءَ فيها شَجرةٌ عظيمةٌ، وفي أَصْلِها شَيْخٌ وصِبْيانٌ، وإذا رَجُلٌ قريبٌ مِن الشَّجَرةِ بَيْنَ يَدَيهِ نارٌ يوقِدُها، فصَعَدا بيَ الشَّجَرةَ فأَدخَلاني دَارًا أَوْسَطَ الشَّجرةِ لم أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ منها، فيها رِجَالٌ شُيوخٌ وشُبَّانٌ ونِساءٌ وصِبيَانٌ، ثم أخرَجاني منها فصَعَدا بيَ الشَّجرةَ، فأدخلاني دارًا هي أفضلُ وأحسنُ، فيها شُيوخٌ وشبَّانٌ، فقلتُ لهما: إنَّكما قد طَوَّفتُمانِي اللَّيلةَ فأخبراني عمَّا رأيتُ، قالا: نَعَم، أمَّا الّذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه فكذَّابٌ يُحدِّث بالْكَذْبَةِ فتُحْمَلُ عَنْهُ حتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ، فيُصنَعُ بهِ ما تَرَى إلى يومِ القيامةِ، والَّذي رأيتَه يُشدَخُ رأسُه فرجلٌ علَّمَه الله القُرآنَ، فنامَ عنه بالليلِ ولم يعملْ بما فيه بالنَّهارِ، يُفعَلُ بهِ مَا رأيتَ إلى يومِ القيامةِ، والذي رأيتَه في النَّقْبِ فهم الزُّناةُ، والذي رأيتَهُ في النَّهرِ آكِلُ الرِّبا، والشَّيخُ الَّذي رأيتَه في أصلِ الشَّجرةِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ والصِّبيانُ حَوْلَه فأولادُ النَّاسِ، والَّذي يوقِدُ النَّارَ مالِكٌ خازِنُ النَّارِ، والدَّارُ الأُولَى التي دَخْلَتَ دارُ عامَّةِ المؤمنينَ، وأمَّا هذه الدَّارُ فدارُ الشُّهداءِ، وأَنَا جِبْريلُ، وهذا مِيْكائِيْلُ، فارفعْ رأسَكَ، فرفعْتُ رأسي فإذا فوقي مثلُ السَّحاب - وفي رِوَايةٍ: مثلُ الرَّبابةِ البَيْضَاءِ - قالا: ذاكَ منزلُكَ، قلتُ: دَعاني أَدْخُلْ منزِلِي، قالا: إنَّه بَقِيَ لكَ عُمُرٌ لَمْ تَستكمِلْهُ فلو استكمَلْتَهُ أتيتَ منْزِلَك". قوله: "إذا صلَّى"؛ يعني: إذا صلَّى الصبحَ. "قصَّها"؛ أي: أَخبرَ ذاك الرجلُ رسولَ الله ما رأى في منامه.

"فيقول"؛ أي: فيقول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تعبيره "ما شاء الله"؛ أي: ما أجرى الله على لسانه. "مقدَّسة"؛ أي: مطهَّرة مطيَّبة. "كَلُّوب"؛ أي: حديدة معوجة الرأس. "في شِدْقِه"؛ أي: في طرف شَفَته من جانب أذنه. "ويلتئم"؛ أي: يَبْرَأ وتعود شَفَتُه المشقوقة كما كانت ليفعلَ به مرةً بعد أخرى. قوله: "انطلِقْ"؛ أي: اذهَبْ. "بفِهْر"، الفِهْر: الحَجَر ملء الكف، ومنهم مَن يُطلقه على أيِّ حَجَر كان. "تَدَهْدَهَ"؛ أي: تردَّى الحَجَر من علو إلى أسفل. "نَقَب": بفتح النون، أي: ثقبة. "خَمَدَتْ"؛ أي: طُفئت. "فصعدَا بي الشجرةَ"؛ أي: دَفَعَاني إلى الشجرة. "الشباب" جمع: شاب. "طوَّفتُماني"، (طوَّف): إذا أدارَ وأجالَ أحدًا. "فتُحمَل عنه"؛ أي: يُنقَل عنه ما يحدِّث به من الكذب حتى ينتشرَ منه ذلك الكذب. "يُشدَخ"؛ أي: يُكسَر. "فنام عنه بالليل"؛ أي: لم يكن يقرؤه بالليل. "الربابة": السَّحَاب. * * *

مِنَ الحِسَانِ: 3574 - عن أبي رَزيْنٍ العُقَيْلِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُؤيا المؤمن جُزءٌ مِن سِتةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزءًا مِن النَّبوُّةِ، وهي على رِجْلِ طائرٍ ما لم يُحدَّثْ بها، فإذا حدَّثَ بها وقعَتْ - وأَحْسِبُه قال: - لا يُحدِّثُ إلا حَبيبًا أو لَبيْبًا". وفي رِوَايةٍ: "الرُّؤيا على رِجْلِ طَائرٍ ما لم تُعَبَّرْ، فإذا عُبرت وقعَتْ، - أَحْسِبُه قال: - ولا تَقُصَّها إلَّا على وادٍّ أو ذيْ رَأْيٍ". قوله: "وهي على رِجلِ طائرٍ ما لم يحدث بها": هذا مَثَلٌ؛ يعني: الطائرُ إذا كان يطير في الهواء لا قرارَ له؛ يعني: الرُّؤيا قبلَ التعبير لا يثبت شيءٌ من تعبيرها على الرائي، ولا يلحقه منها ضررٌ، بل تحتمل تلك الرُّؤيا أشياءَ كثيرةً، فإذا عُبرَتْ ثبتَ للرائي حكمُ تعبيرها خيرًا كان أو شرًّا، وهذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بأن التعبيرَ لا ينبغي لكل أحد، بل ينبغي لعالِمٍ بالتعبير؛ لأنه إذا عبَّر يلحق الرائي حكمُ تعبيره، فإن كان جاهلًا ربما يُعبر على وجهٍ قبيحٍ، فيلحق مِن تعبيره ضررٌ بالرائي. قوله: "وقعت"؛ أي: وقعت تلك الرُّؤيا على الرائي؛ يعني: يلحقه حكمُها. "لا يحدِّث إلا حبيبًا أو لبيبًا"، (اللبيب): العاقل؛ يعني: إن كان مَن حدَّثته برؤياك حبيبًا لك يعبرها كما يعبر الحبيبُ للحبيب، يعني: يعبرها على وجهٍ حسنٍ، وإن لم يكن مَن حدَّثته بها حبيبًا لك، ولكنه لبيبٌ يعبرها من غاية عقله وعلمه على وجهٍ ينفعك ولا يضرُّك ولا يغمُّك. قوله: "إلا على وادٍّ": هذا اسم فاعل، أصله: وادِد، فأُسكنت الدال الأولى وأُدغمت في الثانية، ومعناها: الحبيب، وأراد بـ (ذي الرأي): العالِم، كذا قاله الزجَّاج. * * *

3575 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن وَرَقَةَ، فقالَت لهُ خَدِيْجةُ: إنَّه كَانَ صَدَّقَكَ، ولكنْ مَاتَ قبلَ أنْ تظهرَ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُهُ في المَنامِ وعَلَيْهِ ثيابٌ بيضٌ، ولو كَانَ مِن أهلِ النَّارِ لكانَ عليهِ لِباسٌ غيرُ ذلكَ". قوله: "عن وَرَقَةَ"؛ أي: عن حال وَرَقَةَ بن نَوفل: أنه من أهل النار أم لا؟ "قبل أن تظهرَ"؛ يعني: قبل أن يظهر بالنبوة، وسيأتي بحث ورقة في (باب المبعث). قوله: "عليه ثيابٌ بِيضٌ": هذا الحديثُ تصريحٌ بأن ثياب البيض من لباس أهل الجنة وأهل الخير. * * * 3576 - عن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال ذاتَ يَوْمٍ: "مَن رَأَى مِنْكُم رُؤيا؟ " فقال رَجُلٌ: أنا رَأَيْتُ كأنَّ ميْزَانًا نزلَ مِن السَّماءِ، فوُزِنْتَ أَنْتَ وأبو بَكْرٍ فرجَحْتَ أَنْتَ بأبي بَكرٍ، ووُزِنَ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ فرجَحَ أبو بَكْرٍ، ووُزِنَ عُمرُ وعُثْمَانُ فرجَحَ عُمرُ، ثم رُفِعَ الميزانُ، فرأيتُ الكَراهيةَ في وَجْهِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ورُويَ: أنَّ خُزيمةَ بن ثابتٍ رَأَى فيما يَرَى النَّائمُ أنَّه سَجدَ على جَبْهةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ، فاضطَجَعَ له وقَال: "صَدِّقْ رؤُياكَ"، فسَجدَ على جبهتِهِ. قوله: "فرأيتُ الكراهيةَ في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، علة ظهور الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه علمَ - صلى الله عليه وسلم - أن استقرارَ الإسلام في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته إلى زمان عثمان، ثم تظهر الفتن والاختلاف بين أصحابه، ومعنى ترجيح كل واحد من الذين وُزِنُوا: أن مَن رجح في الميزان هو أفضلُ من المرجوح؛ يعني: النبي أفضلُ من أبي بكر، بل من أهل السماء والأرض، ثم بعده أبو بكر أفضلُ من

عمر، ثم عمرُ أفضلُ من عثمان، وإنما رُفع الميزانُ ولم يُوزَن عثمانُ وعليٌّ - رضي الله عنهم -؛ لأن خلافةَ عليٍّ تكون مع افتراق الصحابة فرقتَين: فرقة معه وفرقة مع معاوية، فلا تكون خلافتُه مستقرةً متفقًا عليها. قوله: "صدِّقْ رؤياك": هذا تصريحٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بأن مَن رأى رُؤيا يُستحَبُّ أن يعملَ بها في اليقظة إن كانت تلك الرُّؤيا شيئًا فيه طاعةٌ، مثل أن يرى أحدٌ أن يصلِّي أو يصوم، أو يتصدَّق بشيءٍ من ماله، أو يزور صالحًا وما أشبه ذلك، وإنما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجلَ أن يسجدَ على جبهته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن السجودَ على جبهته طاعةٌ؛ لأن في هذا السجود تعظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن السجودَ نحو الكعبة تعظيمُ الكعبة، وتعظيمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ القُرَبِ، وفيه تشريفٌ لذلك الرجل؛ لأنه تشرَّف وتبرَّك بوصول جبهتِه جبهةَ النبي عليه الصلاةُ والسلامُ والتحيةُ. ° ° °

23 - كتاب الآداب

23 - كِتَابُ الآدَابِ

1 - باب السلام

[23] كِتَابُ الآدَابِ (كتاب الآداب) 1 - باب السَّلامِ (باب السلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 3578 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَقَ الله آدمَ على صُورتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فلمَّا خلقَه قالَ: اذهبْ فَسَلِّمْ على أولئكَ النَّفَرِ، وهم نفرٌ مِن الملائكةِ جُلوسٌ، فاستمِعْ ما يُحيُّونَكَ فإنَّها تحيَّتُكَ وتحيّةُ ذُريَّتِكَ، فذهبَ فقالَ: السَّلامُ عليكم، فقالوا: السلامُ عليكَ ورحمةُ الله"، قَال: فزادُوهُ: "وَرَحْمَةُ الله"، قَال: "فَكُلُّ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ على صُوْرَةِ آدمَ، وطولُهُ سِتُّونَ ذراعًا، فَلَمْ يَزَلْ الخَلْقُ ينقُصُ بعَدَهُ حتَّى الآن". "خلقَ الله آدمَ على صورته"، قال الخطابي: الضمير يعود إلى آدم، يعني: ذُرِّيَّةُ آدمَ، نطفةٌ ثم كان علقةً، وهكذا صارت حالًا بعد حالٍ إلى أن يكمل، ولم يكن خلقُ آدمَ كذلك، بل خُلِقَ أولَ ما خُلِقَ تامَّ الصورةِ طولُه ستون ذراعًا.

ويحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام: أن الله خلقَ آدمَ على صورةِ آدمَ؛ بحيث لا يشبه أحدًا؛ لأنه لم يكن في السماء والأرض في ذلك الوقت إلا الملائكةُ والجنُّ، ولم يشبه آدمُ واحدًا من هؤلاء. "النَّفَر": الجماعة. "جلوس" جمع: جالس. "فإنها تحيتُك وتحيةُ ذُرِّيَّتِك"؛ يعني: فاحفظْ ما سمعتَ منهم واجعَلْه تحيتَك؛ يعني: إذا أتيتَ أحدًا فَقُلْ ما سمعتَ منهم، وهو: السلام عليك، وإذا لقي بعضُ أولادك بعضًا فَلْيَقُلْ أيضًا: السلام عليك، فقولُ الملائكة: السلام عليك، في جواب آدم دليلٌ على جواز جواب التحية مثل التحية؛ يعني: لو قال زيدٌ لعمرٍو: السلام عليك، وقال عمرٌو في جواب زيدٍ: السلام عليك؛ حصل الجواب. "ينقص"؛ أي: ينقص طولُهم. * * * 3580 - وقَال: "لِلْمُؤْمنِ على المُؤْمنِ سِتُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إذَا مَرِضَ، ويَشهدُهُ إِذَا مَاتَ، ويُجيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ويُسَلِّمُ عليه إذَا لَقِيَه، وَيُشمِّتُه إذَا عَطَسَ، وينصَحُ لَهُ إذَا غابَ أو شَهِدَ". قوله: "ويُشمِّته"؛ أي: يقول له: يرحمُك الله. "وينصح له"؛ أي: ويريد خيرَه، ويرشده إلى الخير. "أو شهدَ"؛ يعني: أو حضرَ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3581 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخُلونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنونَ

حتَّى تحابُّوا، أَوَلا أدُلُّكُم على شَيءٍ إذا فَعْلتُمُوهُ تحابَبْتُم؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَينَكم". قوله: "ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا": هذا نفي كمال الإيمان، لا نفي أصل الإيمان. (التحابُّ) أصله: التحابب، فحُذفت ضمة الباء الأولى وأُدغمت في الباء الثانية، ومعناه: جريان المحبة بين اثنين أو أكثر. "أَفْشُوا (¬1) " أصله: أَفْشِيُوا، فأُسكنت الشين ونُقلت ضمة الياء إلى الشين وحُذفت الياء، معناه: أَظهِرُوا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3582 - وقال: "يُسلِّم الرَّاكِبُ على المَاشِيْ، والمَاشِي على القَاعِدِ، والقَليلُ على الكَثيرِ". قوله: "يسلِّم الراكبُ على الماشي"؛ يعني: إذا التقى راكبٌ وراجلٌ في الطريق لِيُسلِّمِ الراكبُ على الراجل؛ لأن السلامَ معناه سلامةُ مَن تُسلِّم عليه مِن شرِّك، وكان الشخصان إذا التقيا ربما يخاف كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ، وربما يخاف أحدهما فقط، فَلْيُسلِّمْ غيرُ الخائف على الخائف، والظاهر أن الراكبَ لا يخاف من الراجل، بل الراجلُ يخاف من الراكب، فإذا كان كذلك فَلْيُسلِّمِ الراكبُ على الراجل؛ ليُزيلَ الخوفَ من قلب الراجل، فيحتمل أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الراكبَ بابتداء السلام على الماشي، والماشيَ بابتداء السلام على القاعد؛ لإزالة الخوف. ويحتمل أن يأمرَهما بابتداء السلام للتواضع، فإن تسليمَ الراكبِ على ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فشا الخبرُ: إذا ذاع وانتشر، وأفشاه غيره: إذا أذاعه وجعله منتشرًا".

الماشي، والماشي على القاعد أقربُ إلى التواضع من العكس. وأما أمرُه - صلى الله عليه وسلم - الجمعَ القليلَ بابتداء السلام على الجمع الكثير فسببه: تعليم الأُمة أن يُعظِّمَ القليلُ الكثيرَ. وسبب بداية التسليم: إما إزالة الخوف، أو التواضع، أو تعظيم الصغيرِ الكبيرَ والقليلِ الكثيرَ. روى هذا الحديثَ والحديثَ الذي بعده أبو هريرة. * * * 3584 - وقال أَنَسٌ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على غِلْمَانٍ فَسَلَّم عَلَيْهِم. قوله: "إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على غلمانٍ، فسلَّم عليهم"، تسليمُه - صلى الله عليه وسلم - عليهم للتواضع. * * * 3585 - وقال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبدؤوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذا لَقِيتُمْ أحدَهُم في طَرِيقٍ فاضطرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ". قوله: "لا تبدؤوا اليهودَ بالسلام"، سبب هذا النهي: أن السلامَ إعزازٌ، ولا يجوز إعزازُ الكفار. "فاضطروه إلى أضيقه"؛ أي: مُرُوه لِيَعدِلْ عن وسط الطريق إلى جانبه، بحيث لو كان في الطريق جدارٌ يلتصق بالجدار في المرور. روى هذا الحديثَ ابن عمرَ. * * * 3586 - وقال: "إذا سلَّم عليْكُم اليَهُودُ فإنَّما يقولُ أَحَدُهُم: السَّامُ عَلَيْكَ، فقُلْ: عَلَيْكَ".

قوله: "إنما يقول: السَّامُ عليك، فَقُلْ: عليك"، (السام): الموت؛ يعني: تقول اليهودُ عِوَضَ (السلام): السام عليكم، فلا تقولوا: وعليك السامُ، بل قولوا: (عليك) بغير واو، يعني: السام عليك لا عليَّ. روى هذا الحديثَ [ابن عمرَ - رضي الله عنهما -]. * * * 3588 - وعن عَائِشةَ رَضيَ الله عنها قالَتْ: اسْتَأذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهوُدِ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السَّامُ عَلَيْكُم، فقلتُ: بَلْ عَلَيْكُم السَّامُ واللَّعْنَةُ، فقال: "يا عَائِشَةُ! إنّ الله رَفِيْقٌ يُحبُّ الرِّفقَ في الأَمرِ كُلِّه"، قُلْتُ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قال: "قَدْ قُلتُ: وعليكم". وفي رواية قال: "مَهْلًا، يا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بالرِّفقِ، وإِياكِ والعُنفَ والفُحْشَ، فإِنَّ الله لا يُحبُّ الفُحْشَ والتَّفحُّشَ". وفي رِوَايَةٍ: "لا تكوني فاحِشَةً"، قالت: أَوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قالَ: "رَدَدتُ عَلَيْهِم فيُستَجَابُ لِي فِيْهِم، ولا يُستَجابُ لَهُمْ فِيَّ". قوله: "إن الله رفيقٌ"؛ أي: رحيم، و (الرفيق): نعت من الرِّفق، وهو ضد العنف. "مهلًا"؛ أي: كُونِي سهلةً غيرَ شديدةٍ، المَهل: السكون والتأنِّي في الأمور. "الفُحش (¬1) ": الكلام القبيح، "والتفحُّش": التلفُّظ بالفُحش. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "والفحش في الأصل: كل ما يشتد قبحه من الذنوب، والمراد هنا: التعدي بزيادة القبيح في القول والجواب".

3589 - عن أُسَامةَ بن زيدٍ: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بمجلِسٍ فِيْهِ أَخْلاَطٌ مِن المُسْلِمِينَ والمُشرِكِينَ عَبَدَةِ الأوْثَانِ واليَهودِ، فَسَلَّم عليهم. قوله: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بمجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان [واليهود]، فسلَّم عليهم"، (الأخلاط) جمع: خلط، وهو ما يُخلَط. (عَبَدة الأوثان): بدل (المشركين) أو عطف البيان لهم، فسلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين الحاضرين في ذلك المجلس، لا على المشركين، فيجوز لكل أحدٍ أن يُسلِّمَ على جمعٍ من الكفار إذا كان فيهم مسلمٌ على نية التسليم على المسلم. * * * 3590 - عن أبي سَعِيْدٍ الخُدرِيِّ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُم والجُلُوسَ في الطُّرقَاتِ"، فَقَالُوا: يا رسولَ الله! ما لَنا مِنْ مَجَالِسِنا بُدٌ، نَتَحدَّثُ فيها، قالَ: "فإذا أَبَيْتُم إلَّا المَجْلِسَ فأَعطُوا الطَّريْقَ حقَّهُ"، قالوا: وما حَقُّ الطَّرِيْقِ يا رسولَ الله؟ قالَ: "غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأَذَىَ، ورَدُّ السَّلاَمِ، والأَمرُ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهيُ عن المُنكرِ". ورَوَى أبو هُريْرَةَ - رضي الله عنه - في هذه القِصَّة: "وإِرْشَادُ السَّبيلِ". ورَوَاهُ عُمَرُ - رضي الله عنه -، وفيه: "وتُغيثْوُا المَلهُوفَ، وتَهدُوا الضَّالَ". قوله: "إياكم والجلوسَ بالطرقات": الباء هنا بمعنى (في)؛ يعني: احذروا عن الجلوس في الطرقات. "ما لنا من مجالسنا بُدٌّ"؛ أي: لا بد لنا من الجلوس في الطرقات. "فإذا أبيتُم إلا المجلسَ"؛ يعني: فإن لم تتركوا الجلوسَ في الطرق. "غضُّ البصر"؛ أي: حفظ البصر عن النظر إلى امرأة تمرُّ بالطريق.

"وكفُّ الأذى"؛ أي: ومنع إيذاء مَن مرَّ بالطريق. "وفيه"؛ أي: وفي حديث عمرَ: "وتُغيثوا الملهوف"؛ أي تُعِينوا المتحير في أمره؛ يعني: إذا احتاج أحدٌ في الطريق أن تُعينَه فأَعِنْه. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3592 - وعن عِمْرَانَ بن حُصيْنٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا جَاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، فردَّ عليه ثُمَّ جَلَسَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عشْرٌ"، ثُمَّ جاءَ آخَرُ فقال: السَّلامُ عَلَيْكُم ورَحْمَةُ الله، فردَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فقال: "عِشْرُون"، ثُمَّ جاء آخرُ فقال: السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه، فردَّ عَلَيْه فَجَلَسَ، فَقَال: "ثلاثون". "عشر"؛ أي: ثبت له عشرُ حسنات بكل لفظ؛ يعني: (السلام عليكم) لفظ، و (رحمة الله) لفظ، و (بركاته) لفظ. * * * 3593 - ورُوِيَ عن مُعاذِ بن أَنَسٍ - رضي الله عنهما -، عن أبيْهِ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناهُ وزَادَ: ثم أَتَى آخرُ فَقَال: السَّلاَمُ عَليْكُم ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه ومَغْفِرَتُه، فقال: "أَربعونُ، هكذا تكونُ الفَضائلُ". قوله: "هكذا تكون الفضائل"؛ يعني: يزيد الفضلُ والثوابُ بكل لفظٍ يزيده المسلم. * * * 3594 - عَنْ أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أوْلَى النَّاسِ بالله مَنْ بَدَأَ بالسَّلامِ".

"أَولى الناس"؛ أي: أقربُ الناس. * * * 3595 - عَنْ أَبيْ جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ - رضي الله عنه - قَال: أَتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يا رسولَ الله! فقال: "لا تقُلْ عليكَ السَّلامُ؛ فإنَّ عليكَ السَّلامُ، تحيَّةُ الموتى". قوله: "لا تقل: عليك السلام؛ [فإن] عليك السلام تحيةُ الموتى"، وعلَّةُ النهي عن هذا اللفظ: أن هذا اللفظَ جوابُ السلام، فإذا تلفَّظ به المسلم لم يبقَ لفظٌ يجيب به المسلم عليه، بخلاف السلام على الميت؛ فإن الجوابَ مِن الميت لا يصدر حتى يحتاجَ إلى لفظين: لفظٍ يقوله المُسلِّم، ولفظٍ يقوله المُسلِّم عليه. ويحتمل أن تكون علَّةُ النهي: أنك إذا قلت: عليك السلام، لا يحصل أمنُ المُسلَّم عليه بقولك: عليك، حتى تقول: السلام، فينبغي أن تقولَ: السلام عليك؛ حتى يحصل أمنُ المُسلَّم عليه بأول جزء من كلامك؛ لأن الغرضَ من السلام: تحصيلُ الأمن، والإخبارُ بأنه لا محاربةَ ولا إيذاءَ بيننا في هذه الساعة. * * * 3596 - وعَنْ جَرِيرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على نِسْوةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ. قوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على نسوةٍ، فسلَّم عليهنَّ": النسوة والنساء: واحد، هذا مختصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان آمنًا من الوقوع في الفتنة، وأما غيره فيُكرَه أن يُسلِّم الرجلُ الأجنبيُّ على المرأة الأجنبية، وكذا العكس؛ كيلا يحصل بينهما معرفةٌ وانبساطٌ، فيحدث من تلك المعرفة فتنةٌ، وكثيرٌ من العلماء لم يكرهوا تسليمَ كلِّ من الرجل والمرأة الأجنبيين على الآخر. * * *

3597 - وعَنْ عَليِّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، رَفَعَه: "يُجزِئُ عن الجَمَاعةِ إذا مرُّوا أنْ يُسلِّم أحَدُهُم، ويُجزئُ عن الجُلوْسِ أنْ يَرُدَّ أَحَدُهم". قوله: "يُجزِئ عن الجماعة إذا مرُّوا أن يُسلِّم أحدُهم"؛ يعني: التسليمُ سُنَّةٌ على الكفاية، وجوابُ التسليمِ فرضٌ على الكفاية، فإذا سلَّم واحدٌ من جماعةٍ فقد أدَّوا سُنَّةَ التسليم، فإذا أجاب واحدٌ من جماعةٍ فقد أدَّوا ما عليهم من فرض جواب التسليم. * * * 3598 - عَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أَبيْهِ عن جَدِّهِ: أنَّ رَسُوَلَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَن تَشبَّه بِغَيْرِنَا، لا تَشبَّهوا باليَهُودِ ولا بالنَّصَارَى، فإنَّ تسليمَ اليَهُودِ الإِشارةُ بالأَصَابعِ، وتَسْلِيْمَ النَّصَارَى الإشارَةُ بالأكُفِّ"، ضعيف. قوله: "ليس منَّا مَن تشبَّه بغيرنا"؛ يعني: مَن تشبَّه باليهود والنصارى في الإشارة بالكف أو الإصبع عند التسليم. * * * 3602 - ويُرْوَى عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَال: "السَّلامُ قَبْلَ الكَلامِ"، وهذا مُنكر. قوله: "السلامُ قبل الكلامِ"؛ يعني: إذا أتى رجلٌ إلى رجلٍ لِيُسلِّمْ عليه قبلَ أن يتكلَّمَ معه بكلامٍ. * * * 3604 - ورُويَ: أنَّ رَجُلًا قال لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبي يُقرِئُك السَّلامَ، فَقَالَ: "عَلَيْكَ وعَلَى أَبيْكَ السَّلامُ".

قوله: "إن أبي يُقرئك السلامَ، فقال: عليكَ وعلى أبيكَ السلامُ". * * * 3605 - عَن ابن العَلاَءِ الحَضْرَميِّ: أنَّ العَلاَءَ الحَضْرَمِيَّ كَانَ عَامِلَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا كَتَبَ إِلَيْهِ بَدَأَ بنفْسِهِ. قوله: "بدأ بنفسه"، كان يكتب: هذا من العلاء الحَضْرَمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبوا عن لسانه: هذا من محمَّدٍ رسولِ الله إلى عظيم البحرين وغيره من الملوك. * * * 3606 - ورُوِيَ عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كَتَبَ أَحَدُكُم كِتابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، فإنه أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ"، هذا مُنكَر. قوله: "إذا كتب أحدُكم كتابًا فَلْيُترِّبْه"، قيل: معناه: فَلْيُخاطِبِ الكاتب خطابًا على غاية التواضع، والمراد بالتتريب: المبالغة في التواضع في الخطاب، وقيل: المراد به: ذَرُّ التراب على المكتوب. * * * 3607 - عَنْ زَيْدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - قَال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فسَمِعْتُه يَقُولُ: "ضَع القَلَمَ على أُذُنِكَ، فإنه أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي"، ضعيف. قوله: "فإنه أذكرُ للمآل"، (أذكر): أفعل التفضيل، و (المآل): العاقبة؛ يعني: أسرعُ تذكُّرًا فيما يريد إنشاءَه من العبارات والمقاصد. * * * 3608 - عن زيدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - أنَّه قَال: أَمَرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَتَعلَّمَ

السُّرْيانِيَّةَ - ويَرْوَى: - أنَّه أَمَرني أنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ وقال: "إنَّي ما آمَنُ يَهُودَ على كِتَابٍ"، قال: فَمَا مرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حتَّى تعلَّمْتُ، فَكَان إذا كَتَبَ إلى يَهُوَدَ كَتَبْتُّ، وإذا كَتَبُوا إلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُم". قوله: "ما آمَنْ يهودَ على كتابٍ"؛ يعني: أخافُ إن أمرتُ يهوديًا بأن يكتبَ من لساني كتابًا إلى قومٍ من بني إسرائيلَ أن يكتبَ فيه شيئًا ما قلتُ له، وأخافُ أن يكتبوا إليَّ كتابًا، وأعطيتُه يهوديًا أن يقرأَه على أن يزيدَ فيه أو ينقصَ منه شيئًا. * * * 3609 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرةَ - رضي الله عنه -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انْتَهَى أَحَدُكم إلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسلِّمْ، فإنْ بَدا لَهُ أنْ يَجْلِسَ فَلْيجلِسْ، ثُمَّ إذا قَامَ فليُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولَى بأحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ". قوله: "فليستِ الأُولى بأحقَّ من الآخرة"؛ يعني: ليستِ التسليمةُ الأولى باحقَّ من التسليمة الآخرة، بل كلتاهما حقٌّ وسُنَّةٌ. * * * 3610 - وقال: "لاَ خيرَ في جُلُوسٍ في الطُّرُقَاتِ إلا لِمَن هدَى السَّبيْلَ، وَرَدَّ التَّحيةَ، وغَضَّ البَصَرَ، وأَعَانَ على الحَمُولَةِ". قوله: "على الحُمُولة"، (الحُمُولة) بضم الحاء جمع: حِمْل بكسر الحاء، وهو ما يُحمَل على الظهر. * * *

2 - باب الاستئذان

2 - باب الاسْتِئْذَانِ (باب الاستئذان) مِنَ الصِّحَاح: 3611 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدريَّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: أَتَانَا أبو مُوْسَى، قال: إنَّ عُمَرَ أرْسَلَ إِليَّ أَنْ آتِيَهُ، فأَتيتُ بَابَه، فسَلَّمتُ ثَلاثًا فَلَم يَرُدَّ عليَّ فَرَجعْتُ، فقال: ما مَنَعَكَ أنْ تأْتِيَنا؟ فَقُلتُ: إنَّي أَتيْتُ، فسَلَّمْتُ على بابكَ ثَلاَثًا فلَمْ تَرُدُّوا عَليَّ فَرَجَعْتُ، وقَد قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَأذَنَ أَحَدُكُم ثَلاَثًا فلم يُؤذَنْ له فلْيرجِعْ"، فقَالَ عُمرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ البَينَةَ، قال أبو سَعيْدٍ: فقُمتُ مَعَه فَذَهَبْتُ إلى عُمرَ فشهِدْتُ. "أَقِمْ عليه البينةَ"؛ يعني: فَلْيَشهَدْ لك مَن سمع هذا الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سمعتَه. * * * 3612 - وقال عبدُ الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: قَالَ لِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذْنُكَ عليَّ أنْ تَرْفَعَ الحِجَابَ وأَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي حتى أَنْهَاكَ". قوله: "إذنُك عليَّ أن ترفعَ الحجابَ"؛ يعني: إذا أردتَ الدخولَ عليَّ فلا حاجةَ لك إلى الاستئذان، بل أذنتُ لك أن تدخلَ عليَّ، وأن ترفعَ حجابي وتأتيَ إليَّ. "حتى أنهاك"؛ يعني: إن لم يكن عندي مَن يحتجب منك فلم أَنْهَكَ عن الإتيان، فإن كان عندي مَن يحتجب منك، أو أتكلم كلامًا لا أريدُ أن تسمعَه أنهاك حينَئذٍ عن الدخول عليَّ.

"السِّرار" هنا: السَّرُّ والكلامُ الخَفِيُّ؛ يعني: أذنتُ لك أن تسمعَ سرَّي إلا أن أنهاك، وهذا دليلٌ على تشريف ابن مسعود وانبساطه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3613 - وقال جَابرٌ: أتيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في دَيْنٍ كَانَ عَلى أَبيْ، فدَقَقْتُ البَابَ فقال: "مَنْ ذَا؟ " فقُلْتُ: أَنَا، فَقَال: "أَنَا، أَنَا! " كأنَّه كَرِهَها. قوله: "أنا أنا"؛ يعني: لم يرضَ من جابرٍ التكلُّمُ بهذا اللفظ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: "مَن ذا؟ " ليخبرَ جابرٌ بلفظٍ يحصل للنبي تعريفُه، ولا يحصل التعريفُ بلفظ: أنا؛ لأن هذا اللفظَ مشتركٌ بين جميع المتكلِّمين. ويحتمل أن يكون وجه كراهيته - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظَ من جابر: أن في هذا اللفظ تعظيمًا وتكبُّرًا، فلم يرضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه التكلمَ بلفظٍ ليس فيه تواضعٌ. * * * 3614 - وقَالَ أَبُو هُرْيرَةَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فوجَدَ لَبنًا في قَدحٍ فقالَ: "أَبَا هِرٍّ! الْحَقْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ فادْعُهُم إِليَّ"، فأَتيتُهُم فدَعَوتُهُم فأَقْبَلُوا، فاسْتَأذَنوُا فأُذِنَ لَهُم فَدَخَلُوا. قوله: "فاستأذَنُوا، فأذِنَ لهم"، معنى هذا الحديث مخالفٌ لحديثٍ يأتي بعدَ هذا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُعِيَ أحدُكم فجاء مع الرسول، فإن ذلك إذنٌ" هذا الحديثُ صريحٌ بأن المَدعوَّ إذا جاء مع الرسول لا حاجةَ له إلى إذنٍ، بل إرسالُ الرسولِ إذنٌ في الدخول، وحديثُ أهل الصُّفَّة صريحٌ بأنهم استأذنوا. والتوفيق بين الحديثين: أن مجيءَ أهل الصُّفَّة لم يكن مع الداعي، بل أتوه بعدَه، فلهذا احتاجوا إلى الاستئذان. ويحتمل أنه مضى زمانٌ كثيرٌ بين دعائهم وبين إتيانهم، فإذا مضى زمانٌ

كثيرٌ بين دعائهم وبين إتيانهم فقد بطلَ الإذنُ الأولُ، ويحتاج إلى استئذانٍ آخرَ، وإنما لا يحتاج إلى استئذانٍ آخرَ إذا جاء المَدعوُّ مع الداعي من غير تأخيرٍ؛ ليبقى حكمُ الإذن الأول. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3615 - قَالَ أَنَسٌ: أتَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سَعْدِ بن عُبَادةَ فَقَال: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم ورحمَةُ الله"، فَقَال سَعْدٌ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ ورَحْمَةُ الله، ولَم يُسْمِع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى سَلَّمَ ثَلاَثًا ورَدَّ عليه سَعْدٌ ثَلاَثًا، ولَمْ يُسْمِعْه، فَرَجَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعَهُ سعدٌ. قوله: "أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سعدِ بن عُبادةَ، فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله": هذا الحديث تصريحٌ بأن الاستئذانَ لِيَكُنْ بالسلام؛ يعني: يقف على جانب من الباب بحيث لا يقع بصرُه على داخل البيت، ويُسلِّم؛ ليسمعَ أهلُ البيت تسليمَه ويَأذَنُوا له. قوله: "ولم يُسمِعِ النبيَّ"، أسمع يُسمع، وهو يستمع، تقول: سمعتُ كلامَ زيدٍ، وأسمعتُ عمر كلامي وكلامَ زيدٍ؛ يعني: لم يَردَّ سعدٌ تسليمَ النبي بحيث يسمع النبيُّ صوتَ سعدٍ، بل ردَّ تسليمَه بصوتٍ خفيَّ؛ ليُسلِّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرةً أخرى؛ ليصلَ إلى سعدٍ وإلى بيتِه وأهلِ بيته بركةُ تسليمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يَسمَعِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صوتَ سعدِ في رد السلام رجعَ النبيُّ، وتبعَه سعدٌ واعتذرَ إليه وقال: رددتُ عليك السلامَ في كل مرة، إلا أني لم أُسمِعْك صوتي؛ ليصلَ إلى بيتي بركةُ تسليمك. * * * 3616 - وعن كَلَدَة بن حَنْبَلٍ: أَنَّ صَفْوانَ بن أُميَّةَ بَعَثَ بِلَبن وجَدَايةٍ

3 - باب المصافحة والمعانقة

وضَغَابيسَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَعْلَى الوَادِي، قال: فَدَخَلْت عَلَيهِ ولَمْ أُسَلَّم ولَم أَسْتأْذِنْ، فقالَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارجِع فقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُم، أَأَدْخلُ؟ ". قوله: "بعث بلَبن وجَدَايةٍ وضَغَابيسَ"، (الجداية): ولد الظبي، (الضغابيس) جمع: ضُغْبُوس، وهو القثَّاء الصغير جدًا. * * * 3 - باب المُصافحَةِ والمُعانَقَةِ (باب المصافحة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3620 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قال: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ: "أَثَمَّ لُكَعُ؟ " - يَعنِيْ حَسَنًا-، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ جَاءَ يَسْعَى حتَّى اعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما صاحِبَه. "جناب فاطمة"؛ يعني: فناء دارها؛ أي: باب دارها. "اللُّكَع" هنا: الصغير. "حتى اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه"؛ أي: اعتنقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حسنًا، وحسنٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا دليلُ كونِ المعانقة سُنَّةً. قال محيي السُّنَّة في "شرح السُّنَّة": قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نَهَى عن المعانقة والتقبيل. وجاء: أنه عانَقَ جعفرَ بن أبي طالب وقبَّله عند قدومه من أرض الحبشة، وأمكن من يده حتى قبَّلها، وفعل ذلك أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك

بمختلفٍ، ولكلٍّ وجهٌ عندنا: أما المكروهُ من المعانقة والتقبيل: ما كان على وجه التملُّق والتعظيم في الحضر. فأما المأذون منه: فعند التوديع، وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحُبِّ في الله. ومَن قبَّلَ فلا يُقبلِ الفمَ، ولكن اليدَ والرأسَ والجبهةَ. وإنما كُرِه ذلك في الحضر فيما يُرى؛ لأنه يَكثُر ولا يَسترحبُه كلُّ أحدٍ، فإنْ فعلَ الرجلُ ببعض الناس دون بعض تأذَّى الذين تركَهم، وظنُّوا أنه قصَّر بحقوقهم. * * * 3621 - وقَالَتْ أُمِّ هانِئٍ: ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتْحِ فقال: "مرْحَبًا بأُمِّ هانِئً". قوله: "مرحبًا بأمِّ هانئ"؛ يعني: التكلُّم بهذه الكلمة سُنَّةٌ، وهي كلمةُ إكرام يريد العربُ بهذا اللفظ إذا قالوه لأحدٍ: إنك جئتَ مَوضعًا رحْبًا؛ أي: واسعًا؛ أي: لا ضيقَ عليك. * * * مِنَ الحِسَان: 3624 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رجل: يا رسولَ الله! الرَّجُلُ مِنّا يَلْقَى أَخَاهُ أو صَدِيقَهُ، أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: "لا"، قَالَ: أفَيلْتزَمُه ويُقَبله؟ قَالَ: "لا"، قال: أَفَيَأخُذُ بِيَدِهِ ويُصَافِحُهُ؟ قال: "نعم". قوله: "أَيَنْحَنِي له؟ " أي؛ أيميل رأسَه وظهرَه للخدمة. "فيَلتزِمُه"؛ أي: فيعتنقه؟ فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث [عن] المعانقة

والتقبيل، وقد ذكرنا تأويلَه. * * * 3626 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَت: قَدِمَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ - رضي الله عنه - المَدِيْنَةَ ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتي، فأتَاهُ فقَرَعَ البَابَ، فقامَ إلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عُرْيانًا يَجُرُّ ثَوْبَه، والله مَا رَأَيتُه عُرْيانًا قَبْلَهُ ولا بَعْدَه، فاعتْنَقَه وقبَّلَه. قولها: "فقام إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عُريانًا": يريد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ساترًا ما بين سُرَّته ورُكبته، ولكن سقط رداؤُه من عاتقه وكان ما فوقَ سُرَّته عُريانًا. * * * 3627 - وسُئِلَ أبَو ذَرٍّ - رضي الله عنه -: هلْ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَافِحُكُم إذا لَقِيتُمُوهُ؟ قال: مَا لَقِيتُه قَطُّ إِلاَّ صَافَحَني، وبَعَثَ إليَّ ذاتَ يومٍ ولَم أَكُنْ في أَهْلِي، فلمَّا جِئْتُ أُخْبرْتُ، فأتَيْتُه وهُوَ عَلَى سَرِيْرٍ فالتَزَمَني، فكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وأَجْوَدَ. قوله: "فكانت تلك أجودَ وأجودَ"؛ يعني: وكانت تلك أجودَ من المصافحة. * * * 3629 - عَنْ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قال: بَيْنَما هُوَ يُحَدِّثُ القَومَ وكَانَ فيْهِ مُزاحٌ، بَيْنَما يُضْحِكُهم فَطَعَنَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خَاصِرَتِه بِعُودٍ، فَقَال: أَصْبرْني، فَقَال: "اصْطَبر"، قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ قَمِيْصًا ولَيْسَ عليَّ قَمِيْصٌ، فَرَفَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَمِيصِهِ، فاحْتَضَنَهُ وجَعَلَ يُقَبلُ كَشْحَهُ، قال: إنَّما أرًدتُ هذَا يا رَسُولَ الله!. قوله: "أَصبرْني" بفتح الهمزة وكسر الباء؛ أي: أَعطِني القصاصَ.

"اصطَبرْ"؛ أي: خُذِ القصاصَ مني. "وجعل"؛ أي: طَفِقَ. "كَشْحَه"؛ أي: جَنْبَه. * * * 3630 - وعن البَيَاضيِّ: "أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلَقَّى جَعْفَرَ بن أَبي طَالِبٍ فالتَزَمَه وقبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ". قوله: "تَلَقَّى جعفرًا"؛ أي: استقبلَه حين قدومه من السفر. 3633 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها أنَّها قَالَت: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وهَدْيًا ودَلاًّ - وفي رِوَايةٍ - حَدِيْثًا وكَلامًا بِرَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إذَا دَخَلتْ عَلَيْهِ قَامَ إِليْها فأخَذَ بِيَدها فقبَّلَها وأَجْلَسَها في مَجلِسِه، وكانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْها قَامَتْ إِليْهِ فأَخَذَتْ بِيَدِه فَقَبَّلَتْهَا وأَجْلَسَتْهُ في مجلِسِها. قولها: "سَمْتًا وهَدْيًا ودَلاًّ"، (السَّمْتُ): القَصْدُ؛ أي: في كيفية المَشْي، و (الهديُ): السِّيرةُ والطريقة؛ أي: في أفعاله، (الدَّلُّ): الهيئة؛ أي: في الصورة والقيام والقعود. * * * 3635 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِصَبيٍّ فَقَبَّلَهُ فَقَال: "أَمَا إنَّهُم مَبْخَلَةٌ مَجْبنةٌ مَخزَنَةٌ، وإنَّهم لَمِنْ رَيْحَانِ الله تَعَالَى". قوله: "أَمَا"؛ أي: أَعْلَم، "إنهم"؛ أي: أن الأولاد "مَبْخَلَةٌ"؛ أي: سببٌ ومحصَّلٌ للبخل. "مَجْبنة"؛ أي: سببٌ ومحصَّلٌ للجبن، وهو ضدُّ الشجاعة؛ يعني: يَجعلُ الولدُ أباه بخيلاً وجبانًا يحفظ المال له، ولا يدخلُ في الحرب كي لا يُقتَلَ

4 - باب القيام

ويصيرَ ولدُه يتيمًا. "وإنهم لمن رَيْحَان الله"، (الرَّيْحَانُ): الرِّزْقُ، و (الريحانُ) أيضًا: نبتٌ طيبُ الرِّيح؛ يعني: الأولادُ مِن رِزْقِ الله، أو من الطَّيْب الذي طَيَّبَ الله به قلوبَ الآباء. * * * 4 - باب القِيَام (باب القيام) مِنَ الصَّحَاحِ: 3636 - عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ بنو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سعدٍ بَعَثَ إليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكَانَ قَرِيْبًا مَنْهُ، فَجَاءَ على حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنَ المَسْجدِ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للأنْصَارِ: "قُومُوا إلى سَيدِكُم". "لما نَزَلتْ بنو قُرَيظةَ"؛ يعني: على حُكْمِ سعد، "بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -". (بنو قريظة): كانُوا يهودًا، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادَوا من القلعة: إنا رَضينا بما يَحْكُمُ علينا سعدُ بن معاذ، وكان سعدٌ نازلاً في موضعٍ قريب من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلَ إليه النبيُّ، فدعاه ليَحْكَمَ على بني قُرَيظة بما يقتضي اجتهادُه مِن قَتْلِهم وأخذِ الفِداء منهم أو أسرهم، فحكم سعدٌ بَقْتلِ مَنْ كان بالغًا من رجالِهم، وسَبْيِ نِسائِهم وصِبْيانهم. والغَرَضُ من هذا الحديث: أنَّ سعدًا لما جاء قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "قوموا إلى سَيدِكم". قال محيي السنة: القيامُ إلى أحدِ للاحترام غيرُ مكروهٍ بدليلِ هذا الحديث. * * *

3637 - وعَنْ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يُقيْمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مجلِسِه ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْهِ، ولَكنْ تَفَسَّحُوا وتَوَسَّعُوا". قوله: "ولكن تَفَسَّحُوا"؛ يعني: ولكن ليقُلْ: تَفَسَّحُوا؛ أي: ليبعُدْ بعضُ القوم إلى آخر المجلس، وليقرُبْ بعضُهم من بعضٍ ليتفسَّحَ المجلِسُ. * * * مِنَ الحِسَان: 3639 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: لَم يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِليْهِم مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعلَمُوْن مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. صحيح. قوله: "لم يقوموا لمَا يعلمون من كراهيته لذلك"؛ أي: للقيام، يقال: كرهتُ شيئًا وكرهْتُه لشيء، وهذا الحديثُ لا يدلُّ على كونِ القيامِ مَكْرُوهًا، بل إنما كَرِهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقوموا إليه للتواضع. * * * 3640 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيامًا فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ". قوله: "من سَرَّه أن يتَمَثَّلَ له الرجالُ"، التمثيل هنا: أن يقفَ أحدٌ قائمًا على رأسِ أحدٍ، أو بينَ يديه للخدمة؛ يعني: من أحبَّ أن يقومَ على رأسه وبين يديه أحدٌ لتعظيمه فليتبوَّأْ منزِلَه في النار، هذا إذا طلبَ من أحدٍ أن يقومَ بين يديه، أو على رأسه. فأمَّا لو لم يطلبْ ولم يتوقَّعْ أن يقومَ أحدٌ له، ووقفَ أحدٌ من تلقاء نفسه طلبًا للثواب، فلم يكنْ عليه بأس؛ لأن المُغِيرةَ بن شعبةَ قام على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -،

وبيده سيفٌ يومَ الحُدَيبية، وكان يَزْجُرُ من يَصْدُرُ عنه سوءُ أدبٍ عند النبيِّ ممن جاء بالرسالة من أهل مكة، حتى كان يضربُ بنعْلِ غِمْد سيفه يدَ كافرٍ يُحَرَّكُ يدَه على وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى هذا الحديثَ - أعني حديثَ: "من سره" - معاويةُ. * * * 3641 - عَنْ أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكَّئًا عَلَى عَصَاهُ، فقُمْنَا له، فَقَالَ: "لا تَقُومُوا كَمَا تَقُوْمُ الأَعَاجِمُ يُعظَّمُ بَعْضُهُم بعْضًا". قوله: "متوكِّئًا"؛ أي: مُتَّكِئًا مُعْتَمِدًا بعصًا من مرضٍ كان عليه. "يُعَظَّمُ بعضُها بعضًا"؛ يعني: الأَولى والأقربُ إلى التقوى: أن لا يُعَظِّمْ أحدًا لأجل ماله ومنصبه، بل ليُعَظَّمْه لأجل عِلْمِه وصلاحِه، فإذا كان القيامُ والتواضعُ لله فحَسَنٌ، وإذا كان للرياء ولأجل المالِ والمنصِب فهو منهيٌّ. * * * 3642 - عَنْ سَعِيْدِ بن أَبي الحَسَنِ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ فِيْ شَهادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِن مجلِسهِ فأَبَى أنْ يَجْلِسَ فَيْهِ وقَالَ: إِنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ذَا، ونَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ. قوله: "في شهادة"؛ أي: لأداء شهادةٍ كانت عنده لأحد. "عن ذا"؛ أي: عن هذا؛ يعني: عن أن يُقيم أحدٌ أحدًا، ويجلِسَ مجلِسَه. "أن يمسحَ الرجلُ يده بثوبِ مَنْ لم يَكْسُه"؛ يعني: إذا كانتْ يدكَ ملطَّخةً بطعامٍ فلا تمسحْ يدَك بثوبٍ أجنَبيًّ، ولكن بإزارِ غلامِك أو ابنكِ أو غيرِهما ممن أَلْبَسْتَه ثوبَه. * * *

5 - باب الجلوس والنوم والمشي

3643 - عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جَلَسَ وجَلَسْنَا حَوْلَه، فَقَامَ فَأَرَادَ الرُّجُوْعَ نَزَعَ نعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا يَكُوْنُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِفُ ذَلِكَ أصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ". قوله: "فيعرِفُ ذلك أصحابُه"؛ أي: فيعرِفُون أنه يريد الرجوع، فيَثْبُتُون ولا يتفرَّقُون. * * * 3644 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَمرٍو عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَحِلُّ لرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْن اثْنَيْنِ إِلاّ بإذْنِهِمَا". قوله: "لا يَحِلُّ لرجلٍ أن يفرِّقَ بين اثنين"؛ يعني: إذا جلسَ اثنان متقاربين لا يجوزُ لأحدٍ أن يفرَّقَهما ويجلسَ بينهما؛ لأنه قد يكونُ بينهما محبةٌ وجَريان سِرًّ وكلام، فيشقُّ عليهما التفرُّقُ. 5 - باب الجُلوُسِ والنَّومِ والمَشْيِ (باب الجلوس والنوم والمشي) مِنَ الصَّحَاحِ: 3646 - عَنْ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بفِنَاءِ الكَعْبَةِ مُحتَبيًا بِيَدِهِ". قوله: "بفناء الكعبة"، (الفِنَاءُ): الموضعُ المُتَّسِعُ المُحَاذِي لباب الدار. "محتبيًا بيدِه"؛ أي: جالسًا بحيث تكون ركبتاه منصوبتين، وبطنا قدميه

موضوعين على الأرض، ويداه موضوعتين على ساقيه، والمراد بهذا الحديث: أن الاحتباءَ سُنَّةٌ. * * * 3647 - عَنْ عَبَّادِ بن تميمٍ، عَنْ عمَّهِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ، مُسْتَلْقِيًا واضعًا إحْدَى قَدَمَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. قوله: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجدِ مستلقِيًا واضعًا إحدى قدميه على الأخرى". (الاستلقاءُ): الاضطجاعُ على الظهر، هذا الحديثُ تصريحٌ بأن الاستلقاءَ ووضْعَ أحدِ الرجلين على الأخرى قد يكونُ على نوعين: أحدُهما: أن تكون رجلاه ممدودتين أحدها فوق الأخرى، ولا بأس بهذا، فإنه لا ينكشِفُ شيءٌ من العورة بهذه الهيئة. والنوع الثاني: أن يَنْصِبَ ركبةَ إحدى الرِّجْلَين ويضعَ الرِّجْلَ الأخرى على الركبة المنصوبة، وهذا النوعُ جائزٌ في بعض الصور، ومنهيٌّ في بعضها، أما الذي هو جائزٌ، فأن يَأْمَنَ من انكشاف العَوْرَة بأن يكونَ عليه سراويلُ، ويكونُ إزارُه أو ذيلُه طويلين، وأما المنهيُّ فهو فيما إذا انكشفت عورتُه بقِصَرِ إزاره أو ذيلِه وعَدَمِ السراويل. * * * 3650 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِيْ بُرْدَيْنِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُه، خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ، فَهُوَ يتجَلْجَلُ فِيْها إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". قوله: "خُسِفَ به الأرض"، (به) جارٌّ ومجرورٌ أقيم مُقامَ الفاعل، و (الأرض) منصوبة.

قوله: "يتجَلْجَلُ"؛ أي: ينزِلُ ويتحرَّكُ، وسببُ خَسْفِه تبختُرُه وإعجابهُ بنفسه، وإعجابُ النَّفْس عن أن يَرى الرجلُ نفسَه شريفةً خيرًا من غيره. مِنَ الحِسَانِ: 3651 - عَنْ جَابرٍ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ عَلَى يَسَارِهِ. قوله: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا على وسادةٍ على يساره"، والمرادُ بهذا الحديث: أن الاتكاءَ على الوسادة سُنَّةٌ، ووضعَ الوِسادةِ على الجانبِ الأيسرِ أيضًا سُنَّةٌ. * * * 3653 - وعَنْ قَيْلَةَ بنتِ مَخْرَمَة: أَنَّها رَأَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ وهُوَ قَاعِدٌ القُرْفُصَاءَ، قَالَت: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - المتَخَشِّعَ أُرْعِدتُ مِنَ الفَرَقِ. قولها: "وهو قاعدٌ القُرْفُصَاءَ (¬1) "؛ أي: وهو جالسٌ جلوسًا قُرْفُصَاءَ. (القُرْفُصَاء): مِثْلُ الاحْتِباء، وقد ذُكِرَ قُبَيلَ هذا. "المُتَخَشِّعُ": المتواضع. "أُرْعِدْتُ"؛ أي: حَرَّكْتُ أعضائي "من الفَرَقِ"، وهو الخوف. * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "فلو قلت: قعدَ القرفصاءَ، فكأنك قلت: قعودًا مخصوصًا، وهو أن يجلسَ على أَلْيتيه، ويُلْصِقَ فخذيه ببطنه، ويحتبيَ بيديه يضعهما على ساقيه، وقيل هو أن يجلسَ على ركبتيه مُتَّكِئًا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه".

3654 - وعَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى الفَجْرَ، تَرَبَّع في مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ. قوله: "تَرَبَّعَ"؛ أي: جلسَ مترِّبعًا، وهو أن يَقْعُدَ الرجلُ على وَرِكَيْه، ويَمُدَّ ركبتَه اليمنى إلى جانب يمينه، وقدمَه اليمنى إلى جانب يسارهِ، وركبتُه اليسرى يمدُّها إلى جانبِ يساره، وقدمُه اليسرى إلى جانب يمينه. قولها: "حسناءَ (¬1) ": وهو نعتُ مؤَّنثٍ، مُذَكَّرُها: أَحْسَن، وحسناء: منصوبةٌ على أنها حالٌ من الشمس؛ أي: حتى ترتفعَ الشمسُ كاملةً، والمراد بهذا الحديث: أن التربُّعَ في الجلوس سُنَّةٌ. * * * 3655 - عَنْ أَبيْ قَتَادَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا عَرَّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَع عَلَى شِقِّهِ الأَيْمن، وإذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِراعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ. قوله: "عَرَّسَ (¬2) "؛ - بتشديد الراء -: إذا نزلَ في آخر الليل للاستراحة. والمرادُ بهذا الحديثِ: أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل قبلَ الصبح بزمانٍ كثيرٍ اضطجعَ على جنبه الأيمن، ووضعَ رأسَه على وسادةٍ أو غيرِها لينامَ، وإن نزلَ قبلَ الصبحِ بزمانٍ قليلٍ وَضَعَ رأسَه على كَفِّه كي لا ينامَ نومًا طويلًا؛ لأنه لو نام نومًا طويلًا؛ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "قيل الصواب حَسَنًا على المصدر؛ أي: طلوعًا حَسَنًا، ومعناه: كان يجلسُ متربعًا في مجلسه إلى أن ترتفع الشمس، وفي أكثر النسخ: حسناء". (¬2) جاء على هامش "ش": "وقد روى صاحب النهاية: أنه كان إذا عَرَّسَ بليل توسَّد لينة، وإذا عَرَّسَ عند الصبح نصب ساعده نصبًا، ولعل ذلك لئلا يتمكن من النوم فتفوتَه صلاة الفجر".

لفاتَ عنه صلاةُ الصبح. * * * 3656 - عَنْ بَعْضِ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّه قَالَ: كَانَ فِرَاشُ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِمَّا يُوضَعُ في قَبْرِهِ، وكَانَ المَسْجِدُ عِنْدَ رَأْسِهِ. قوله: "كان فراشُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نحوًا مما وضع في قبره وكان المسجد عند رأسه (¬1) ". * * * 3658 - وعَنْ يَعِيْشَ بن طِخْفَةَ بن قَيسٍ الغِفَارِيِّ، عَنْ أَبيْهِ، وكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعٌ مِنَ السَّحَر عَلَى بَطْنِي إذَا رَجُلٌ يُحرِّكُنِيْ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: "إنَّ هذِهِ ضجْعَةٌ يُبغِضُها الله"، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "بينما أنا مضطجع من السَّحْر على بطني ... " إلى آخره. (السَّحْرُ): وَجَعُ الرَّئَة، ووجهُ النَّهْيِ عن الاضطجاع على البطن: أنَّ الاضطجاعَ على البطن مُضرٌّ في الطب، ووضع الصَّدْرِ والوجْهِ اللَّذان هما أشرفُ الأعضاءِ على الأرضِ إذلالٌ في غير السجود. * * * 3659 - عَنْ عَلِيِّ بن شَيْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا نام يكون رأسُه إلى جانب المسجد".

قوله: "من باتَ على ظهر بيتٍ ليسَ عليه حِجًا فقد بَرِئَت منه الذِّمَّةُ"، رُوِيَ: (الحجا) بكسر الحاء وبفتحها، ومعناهما: الحِجَابُ، فالحِجا - بالكسر - هو العقلُ، سُمِّيَ الحجابُ حِجًا لأنه يمنَعُ الرجلَ عن الهلاك بسقوطه عن السَّطْح، كما أنَّ العَقْلَ يمنعُ الرجلَ عن الوقوع في الهلاك. و (الحَجا) - بالفتح -: الناحية، سُمَّيَ حَجًا - بفتح الحاء - لأنه ضَرَبَ في ناحية؛ يعني: من نام على سطحٍ ليس له حِجَابٌ؛ أي: ليس على حَوْلهِ جدار (فقد بَرِئَتْ منه الذَّمَّة)؛ أي: فقد خالفَ أمرَنا؛ لأنه يُهلِكُ نفسَه بوقوعه عن السطح، ومن خالفَ أمرَنا وقعتْ بيننا وبينه الذَّمَّة؛ أي: لم يبقَ بيننا وبينه عهدٌ، وهذا تهديد، كراهيةَ اضطجاع الرجل في موضعٍ مَخُوف، والدخولِ في موضعٍ مخوفٍ مُهْلِك. * * * 3660 - عَنْ جَابَرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنَامَ الرَّجلُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمْحجُوْبٍ عَلَيْهِ. قوله: "ليس بمحجورٍ عليه"، (الحَجْرُ): المنعُ؛ يعني: ليس حولَه جِدارٌ. * * * 3663 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ جُلوْسٌ فقال: "مَا لِيْ أَرَاكُم عِزِيْنَ؟ ". قوله: "ما لي أَرَاكم عِزِينَ": (عِزين): جمع عِزَة - بتخفيف الزاي - وهي الجماعة؛ يعني: لمَ جلستم متفرَّقين، وهلاَّ جلسْتُم متحلِّقين؛ يعني: اجلِسُوا في الحَلْقة أو في الصَّفَّ، وإنما أَمَرَهم بأن يجلسِوا بالحَلْقة والصفَّ كي لا يُدْبرَ بعضُهم بعضًا. * * *

3665 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: "إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ في الفَيْءِ فَقَلَصَ عَنْهُ، فَصَارَ بَعْضُهُ في الشَّمْسِ فَلْيَقُمُ، فإِنَّه مَجْلِسُ الشَّيطَانِ"، ويُروَى مَرْفُوعًا. قوله: "إذا كان أحدُكم في الفيء، فقلص عنه"، (الفيءُ): الظِّلُّ، (قَلَصَ)؛ أي: ذهبَ الظَّلُّ عنه، فبقيَ بعضُه في الشمس وبعضُه في الفيء. "فلَيقُمْ" من ذلك الموضع، فإنه مُضرٌّ في الطب. "فإنه مجلس الشيطان"؛ أي: فإن ذلك المجلسَ مجلسٌ يأمرُ الشيطان الرجلَ بالجلوسِ فيه؛ ليخالِفَ السُّنَّةَ. * * * 3666 - وعَنْ عليًّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذَا مَشَىَ تَكَفَّأَ تكَفُّؤًا كَأَنَّما يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ. ويُرْوَى: كَانَ إذَا مَشَى تَقَلَّعَ. قوله: "إذا مشى تَكَفّأَ"، (تَكَفَّأَ) في المشي: إذا رفعَ رِجْلَه من الأرض ثم وَضَعها؛ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفَعُ قدمَه من الأرض عند المشي، ولا يمسَحُ قدمَه على الأرضِ كمن يمشي عن التبختر والاختيال. "ينحطُّ"؛ أي: ينزِلُ "من صَبَبٍ"؛ أي: من موضع منخفِض؛ يعني: كما أنَّ من ينزِلُ من عُلُوًّ إلى سُفْلٍ يرفَعُ رِجْلَه عن قوة وجلادة، فكذلك النبيُّ يمشي على الأرض المستوية. * * * 3667 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِيْ مَشْيهِ مِنْ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كَأنَّما الأَرْضُ تُطْوَى لَهْ، إنَّا لَنُجْهِدُ أنفُسَنَا وَإنَّه لَغيْرَ مُكْتَرِثٍ.

6 - باب العطاس والتثاؤب

قوله: "إنا لنُجْهِدُ أنفُسَنَا، وإنه لغيرُ مُكْتَرِثٍ"، جَهدَ وأَجْهَد: إذا آذى أحدًا. (غيرُ مُكْترِثٍ)؛ أي: غيرُ مُجْهَدٍ؛ يعني: إنا إذا مَشَينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُؤذِي أنفسَنا بكثرةِ السرعةِ في المَشْيِ، ورسولُ الله غير مُسْرِعٍ ولا نَلْحَقُه. * * * 3668 - عَنْ أَبيْ أُسَيْدٍ الأَنْصَارِي - رضي الله عنه -: أَنَّه سَمِعَ رَسُوَلَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُوْلُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ المَسجِدِ، فاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النَّساءِ في الطَّرِيْقِ، فَقَالَ للنساءِ: "اسْتَأْخِرْنَ، فإنَّه لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحقُقْنَ الطَرِيْقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّريقِ"، فَكَانَتْ المَرْأةُ تَلْصَقُ بالجدارِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَها لَيعْلَقُ بالجِدَارِ. قوله: "استَأْخِرْنَ"؛ أي: ابعدْنَ من وسطِ الطريق إلى جانبِ الطريق. "أن تَحْقُقْنَ" - بسكون الحاء وضم القاف الأولى -؛ يعني: أن تَدْخُلْنَ وتَذْهَبن في وَسَطِ الطريق. "الحافات"؛ جمعُ حافة، وهي الجانِبُ. * * * 6 - باب العُطَاسِ والتَّثَاؤُبِ (باب العطاس والتثاؤب) مِنَ الصَّحَاحِ: 3671 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ الله يُحِبُّ العُطَاسَ ويَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ الله كَانَ حَقًا علَى كُلِّ مُسلْمٍ سَمِعَه أَنْ

يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فإنَّما هُوَ مِن الشَّيطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فإنَّ أحَدَكُم إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيطَانُ". وفي رِوَايةٍ: "فَإنَّ أَحَدَكُمْ إِذا قَالَ: هَا، ضَحِكَ الشَّيطانُ". قوله: "إن الله يحبُّ العُطَاسَ ويَكْرَهُ التثاؤُبَ". قال الخطابي: معنى حُبَّ العطاسِ وحَمْدِه، وكراهيةِ التثاؤبِ وذمه: أنَّ العُطَاسَ إنما يكونُ مع انفتاحِ المَسَامِّ، وخِفَّةِ البدن، وتيسُّرِ الحركات، وسببُ هذه الأمور: تخفيفُ الغِذاء، والإقلالُ من المَطْعَم. والتثاؤُبُ: إنما يكونُ مع ثِقَلِ البَدَنِ وامتلائه، وعند استرخاءِ النوم، وميلهِ إلى الكَسَل، فصارَ العُطَاسُ محمودًا؛ لأنه يُعِينُ على الطاعات، والتثاؤُب مذمومٌ؛ لأنه منع من الخيرات. قوله: "إذا قال: بها ضحك الشيطان"؛ يعني: إذا انفتَح فمُه، وخَرَجَ منه صوتٌ من التثاؤب ضَحِكَ الشيطان؛ لأن التثاؤبَ يكونُ من الغفلة وغلبةِ النوم، والتكامل وامتلاءِ المَعِدَة، وكلُّ ذلك مما يَفْرَحُ الشيطانُ به من الإنسان. * * * 3672 - وقال: "إذا عَطَسَ أحدُكُم فلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ، وليقُلْ لَهُ أَخُوْهُ أَوْ صَاحِبُه: يَرْحَمُكَ الله، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَليَقُلْ: يَهْدِيْكُم الله وَيُصْلِحُ بالَكَم". قوله: "فليقل: يهديكم الله، ويُصْلِحُ بالكم"؛ يعني: فليقل العاطِسُ في جواب من قال له: يرحمك الله: يهديكم الله ويُصْلِحُ بالَكم. (البال)؛ الحال إن كان القائلون جماعة فليقل لهم: يهديكم الله ويصلح بالكم بلفظ الجمع، وإن كان واحدًا فليقلْ بلفظ الواحد، وإن كانا اثنين

فليقلْ بلفظ التثنية. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3675 - عَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَع - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَه فَقَالَ لَهُ: "يَرْحَمُكَ الله"، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ: "الرَّجُلُ مَزْكُومٌ". ويُروَى أَنَّه قَالَ في الثَّالِثة: "إنَّه مَزْكُومُ". قوله: "مزكوم"؛ أي: أصابه زكام؛ يعني: قولوا للعاطس: يرحمك الله إذا حمدَ الله إلى ثلاثِ مِرارٍ، فإن عطسَ بعد ذلك إن شئتم فشمِّتوه، وإن شئتم فلا تشمِّتوه، والتشميت - بالشين والسين - أن تقول للعاطس: يرحمُك الله، إن حمدَ الله. * * * مِنَ الحِسَان: 3677 - عَنْ أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدهِ، أَوْ بثوبهِ، وغَضَّ بِها صَوْتَه. صحيح. قوله: "وغضَّ بها صوتَه"، (غَضَّ)؛ أي: نَقَصَ، (بها)؛ أي: بيده؛ يعني: وضع يدَه على فمه، كي لا يرتفعَ صوتُه، و"غَطَّى"؛ أي: سترَ وجهَه بثوبه كي لا يترشَّشَ مِن لعابهِ أو مُخَاطِه إلى أحد. * * * 3680 - عَنْ هِلاَلِ بن يَسَافٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَالِمِ بن عُبَيْدٍ، فَعَطَسَ رَجُلٌ

7 - باب الضحك

مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، فقَالَ سَالِمٌ: عَلَيْكَ وعَلَى أُمِّكَ، فَكَأنَّ الرَّجُلَ وَجَدَ في نفْسِه، فَقَالَ: أَمَا إنِّي لَمْ أقلْ إلاَّ مَا قَالَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، عَطَسَ رَجُلٌ عِنَدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: السَّلامُ عَلَيْكُم، فَقَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكَ وعَلَى أُمِّكَ، إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فليَقُل: الحَمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، ولْيَقُلْ لَهُ مَن يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرحَمُكَ الله، وليَقُلْ: يَغْفِرُ الله لِيْ ولَكُم". قوله: "السلام عليكم"؛ يعني: ظنَّ العاطسُ أنه يجوزُ أن يقول: (السلام عليكم) بدل: (الحمد لله). "فكأنَّ الرجل وَجَدَ في نفسه"؛ يعني: وجد في نفسه استخجالاً أو حُزْنًا أو غضبًا لمَّا قالَ له: السلام عليك وعلى أمك، إنما قال له هذا الكلام زَجْرًا له على تَرْك قول: الحمد لله. * * * 7 - باب الضَّحِكِ (باب الضحك) مِنَ الصِّحَاحِ: 3683 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَجمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَواتِه، إنَّما كَانَ يَتَبسَّمُ. قولها: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعًا ضاحكًا". * * * 3685 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - أنُّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقُومُ مِنْ

8 - باب الأسامي

مُصَلاَّهُ الذِي يَصلِّي فيْهِ الصُّبحَ حَتَّى تطلُعَ الشَّمسُ، فإِذَا طَلعَتِ الشَّمسُ قَامَ، وكَانُوا يتحدَّثُونَ فَيَأخُذُونَ في أمرِ الجَاهِلِيَّةِ فيضحَكُونَ ويتبسَّمُ. ويروى: يتَنَاشَدُوْنَ الشِّعرَ. قوله: "يَتَنَاشَدُون"؛ أي: يقرؤون الشعر، هذا يدلُّ على جوازِ قراءةِ الشعرِ إذا لم يكنْ فيه من المناهي شيءٌ. * * * 8 - باب الأَسَامِي (باب الأسامي) مِنَ الصِّحَاحِ: 3687 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا القَاسِمِ! فالْتفَتَ إِلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: إنَّمَا دَعَوْتُ هذَا، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَمُّوْا بِاسمي، ولا تَكَنَّوْا بِكُنَيتي". اعلم أن الأحاديثَ قد وردت في النهي عن أن يسمِّيَ أحدٌ ولدًا باسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكنِّيه بكنية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته - صلى الله عليه وسلم -: أبو القاسم. قال الشافعي: لا يجوزُ لأحدٍ أن يكني ابنه أبا القاسم سواءٌ كان اسمُ ذلك الابن محمدًا، أو غيرَ محمدٍ، وسواءٌ كان في زمن النبي أو بعده. وقال مالك: لا يجوزُ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوزُ بعدَه الجمعُ بين كُنية النبي واسمه. وقال بعضُ العلماء: لا يجوزُ الجمعُ بين كنيته - صلى الله عليه وسلم - وبين اسمه، ويجوزُ أن يكنِّيَ بكنيته، ولا يسمِّيَ باسمه، وأن يسمِّيَ باسمه ولا يكنِّيَ بكنيته، سواءٌ في

زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعدَه، ولكلِّ واحدٍ من القائلين دليلٌ من الحديث على ما قال. * * * 3688 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَمُّوْا باسْمِي، ولا تَكَتَنُوا بكُنيَتي، فإنَّي إنما جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُم". قوله: "إنما جُعِلْتُ قاسمًا أَقْسِمُ بينكم"؛ يعني: إنما كُنَّيتُ بأبي القاسم؛ لأني أَقْسِمُ بينكم الدِّينَ وأحكامَ الشَّرْع؛ أي: أُبَينُ لكم أحكامَ الشرع، فليس هذه الصفة لكم ولا لأحد بعدَكم، فإذا لم تكنْ هذه الصفةُ لأحدٍ منكم ولا ممَّن بعدَكم، فلا يجوزُ له أن يُكَنَّى بأبي القاسم. * * * 3690 - وقَالَ: "لا تُسَمَّيَنَّ غلاَمَكَ يَسَارًا، ولاَ رَباحًا، ولاَ نجِيْحًا، ولاَ أَفْلحَ، فَإِنَّكَ تقولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلا يَكُونُ، فَيَقُولُ: لا". وفي رِوَايَةٍ: "لاَ تُسَمَّ غُلامَك رَبَاحًا، ولاَ يَسَارًا، ولاَ أفلحَ، ولاَ نَافِعًا". قوله: "لا تُسَمِّين غلامَك يَسارًا، ولا رَبَاحًا"؛ يعني: لا تسمِّينَّ غلامَك باسمٍ من هذه الأسماء؛ لأنه لو قال أحدًا في البيت: (يسار) ولم يكنْ (يسارٌ) في البيت يقول في جوابه: لا؛ يعني: ليس في البيت، فقد نفيتَ اليُسْر، أو اليسار الذي هو الغنى، وسعة الحال عن بيتك، ولم يَحْسُنْ هذا التفاؤل، ولذلك ما أشبهَ هذه الأسماء، وعلى هذا القياس تسميةُ الأبناء والبنات. وينبغي أن يسمِّيَ الرجلُ أولادهَ وغلمانَه باسم لا يضرُّ في التفاؤل وجودُه في البيت وعدمُه، مثل: زيد، وعمرو، وعبد الله، وعبد الرحمن، وجعفر، وغير ذلك.

(النَّجيح): فعيل، يجوزُ أن يكون بمعنى الفاعل من (نجح) إذا انقضت حاجتُه، أو من أنجح إذا قضى الحاجةَ، ويجوزُ أن يكون بمعنى مُفْعَل - بضم الميم وفتح العين - مِن (أَنْجَحَ) أيضًا. * * * 3692 - وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ الله رَجُلٌ تَسمَّى: مَلِكَ الأَملاَكِ". قوله: "أخنى الأسماء"؛ يعني: أفحَشُ الأسماء. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3693 - وقَالَ: "أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ كَانَ يُسمَّى: مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلَّا الله". قوله: "أغيظُ رجل"، هذا (أفعل) التفضيل من الغيظ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3695 - عَنِ ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَتْ جُوَيرِيَةُ اسْمُهَا: بَرَّةُ، فَحَوَّلَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْمَهَا: جُوَيرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أنْ يُقالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ. عن ابن عباس قوله: "من عند برة"، (البَرَّةُ): المحسنة، يعني الخروج من عند بَرَّة لا يَحْسُنُ في التفاؤل. * * *

3698 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَقُوْلَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِيْ، وأَمَتِي؛ كُلُّكُم عَبيْدُ الله، وكلُّ نِسَائِكُم إِمَاءُ الله، وَلَكنْ لِيَقُلْ: غُلاَمِي، وجَارِيَتي، وفَتَايَ، وفَتَاتِي، ولاَ يَقُلِ العَبْدُ: رَبي، ولَكِنْ لِيَقُل: سَيدِي". ويُروَى: "لِيَقُلْ: سَيدِي، ومَوْلاَيَ". ويُروَى: "لاَ يَقُلْ العَبْدُ لِسَيدِه: مَوْلاَيَ؛ فإنَّ مَوْلاَكُم الله". قوله: "فتاي وفتاتي"؛ (الفتى): الشاب، (الفتاة): الشابة، و (الفتى) أيضًا: الغلام، و (الفتاة): الجارية. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3699 - وَقَالَ: "لاَ تَقُوْلُوا: الكَرْمُ؛ فإنَّ الكَرمَ قَلْبُ المُؤْمِنِ". ويُروَى: "لاَ تَقُولُوا: الكَرْمُ، ولَكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ". قوله: "لا تقولوا: الكَرْم"؛ يعني: لا تقولوا لشجر العِنَب الكَرْم؛ لأن العربَ يقولون لشجر العِنَبِ كَرْمًا؛ لأنه يُتَّخَذُ منه الخمرُ، فيشربونها، وتحمِلُهم الخمرُ على الجودِ والكَرَم، فسموا الشجر بالكَرْم الذي يحصُلُ فيهم من شرب الخمر المتخذة من العنب، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسمية العِنَبِ كَرْمًا تحقيرًا لشأن الخمر؛ كي لا يظنَّه الناس حسنةً لإظهار الكرم في أنفسهم، بل "الكرم قلبُ المؤمن" الذي يجتَنِبُ مِن شربِ الخمر. ولا يستحقُّ شجرٌ أن يوصَفَ بالكَرْم، بل يسمَّى شجر العنب: الحَبَلَة بفتح الحاء والباء، والعِنَب: اسم ثمرتها، وسمي الحَبَلَة (¬1) للعنب إطلاقًا لاسم الشجر ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "الحبلة هي بفتح الحاء والباء وربما سُكِّنَتْ، وهو الأصل أو القضب من شجر الأعناب".

على ثمره. روى هذا الحديثَ أبو هريرة (¬1). قوله: "لا تقولوا الكَرْم"؛ يعني: لا تقولوا لشجرِ العنب: الكَرْم، وعِلَّته ما ذكرناه. روى هذا الحديثَ وائل بن حُجْر (¬2). * * * 3700 - وَقَالَ: "لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ: الكَرْمَ، ولاَ تَقُوْلُوا: خَيْبَةَ الدَّهرِ؛ فإنَّ الله هُوَ الدَّهرُ". قوله: "لا تقولوا خيبةَ الدَّهر"، كانت العرب إذا أصابتهم مصيبةٌ أو حرمانٌ في سفر أو حربٍ يقولون: يا خيبةَ الدهر، (الخيبةُ): الحِرْمانُ، تقديرُه: يا خيبة الدهر أسبُّك أو أُبْغِضُك، فنهاهم النبي عن سبِّ الدهر فإن الله خالقُ الدهر ومُصَرِّفُه. قوله: "فإن الله هو الدهر"؛ أي: فإن الله خالقُ الدهر ومصرِّفُه، فمن سبَّ الدهر فقد سبَّ خالقَه. روى هذا الحديثَ، والذي بعدَه: أبو هريرة. * * * 3703 - وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يقُولَنَّ أَحَدُكُم: خَبُثَتْ نَفْسِي، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي". ¬

_ (¬1) يعني حديث: " ... فإنَّ يكرم قلب المؤمن". (¬2) يعني حديث: " ... ولكن قولوا: العنب الحَبَلة".

قوله: "لا يقولَنَّ أحدُكم خَبُثَتْ نفسي"، كانت عادةُ العرب إذا فسدَ مِزاجُهم، وحصلَ فيهم غَثَيانٌ أو هيْضَةٌ يقول أحدُهم: خَبُثَتْ نفسي؛ أي: فسدَ مزاجي، فنهاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نسبة الخُبْثِ إلى أنفسهم وقال: "لا يقولَنَّ أحدُكم خَبُثَتْ نفسي، ولكن ليقلْ: لَقِسَتْ نفسي"، ومعنى (لَقِسَ): فسدَ المزاج، وحصلَ غَثَيانٌ في أحد. روت هذا الحديثَ عائشةُ. * * * 3717 - عَنِ المِقْدامِ بن شُرَيحٍ، عَنْ أَبيْهِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبيْهِ هانِئٍ: أنَّه وَفَدَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُم يُكَنُّونَه بِأَبي الحَكَم، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله هُوَ الحَكمُ، وإِلَيْهِ الْحُكْمُ"، فَقَالَ: كَانَ قَوْمِي إِذَا اخَتَلفُوا في شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُم فَرَضيَ الفَرِيَقْانِ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أحْسَنَ هَذا! فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ؟ " قَالَ: شُرَيْحٌ، ومُسْلِمٌ، وعَبْدُ الله، قَالَ: "فمَنْ أَكْبرُهُم؟ " قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: "فَأَنْتَ: أَبُو شُريْحٍ". قوله: "ما أحسنَ هذا"، (ما): للتعجب؛ يعني: الحكمُ بين الناس حسنٌ، ولكن هذه الكُنية غيرُ حَسنَة. * * * 3716 - عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ امرَأَةٌ: يَا رَسُوَلَ الله! إنَّي وَلَدْتُ غُلاَمًا فَسَمَّيتُهُ: مُحمَّدًا وكنَّيتُهُ: أَبَا القاسِمِ، فذُكِرَ لِيْ أنَّكَ تَكْرَهُ ذَلَكَ، قَالَ: "مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي؟ "، أَوْ: "مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنيتَي وأحَلَّ اسْمِي؟ "، غريب. قوله: "ما الذي أحلَّ اسمي وحَرَّم كنيتي"؛ يعني: لا فرقَ بين التسمية باسمي والتكنية بكنيتي، بل كلاهما جائزٌ، هذا في وجهٍ.

والصحيح: أنه لا يجوزُ الجمعُ بين التسمية باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - والتكنية، وهذا الحديثُ عند من لم يجوِّز الجمعَ بين التسمية باسمه، والتكنِّي بكنيته = منسوخٌ. * * * 3715 - وَقَالَ: "وَلاَ تَقُولُوا للمُنَافِقِ: سيدٌ، فإنَّه إِنْ يَكُ سَيدًا فَقَدْ أَسْخَطُتُم ربَّكُم". قوله: "إن يك سيدًا فقد أسخطتُم ربَّكم"؛ يعني: إن لم يكن سيدًا وقلتم له: يا سيد، فقد كذبتم، وإن كان سيدًا؛ أي: مالكَ عبيد وإماءٍ ودُوْرٍ وأموالٍ وقلتم له: يا سيد، (فقد أسخطتم ربَّكم)؛ أي: أغضبتم ربَّكم؛ لأنكم قد عظَّمْتم كافرًا، وتعظيمُ الكافر يخالفُ رضا الله وأمرَه. * * * 3704 - عَنْ أَبيْ الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُدْعَونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُم وأَسْمَاءِ آبَائِكُم، فأَحْسِنُوا أَسَمَاءَكُم". قوله: "تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم". * * * 3708 - وَقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: كَنَّانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَا حَمزَةَ ببقْلَةٍ كُنْتُ أَجتِنيْها. صحيح. قوله: "كنَّاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا حمزة ببقلةٍ كنتُ أَجْتنيها"؛ يعني: كنت أَقْلَعُ بقلةً اسمُها حمزة، فكنَّاني رسول الله: أبا حمزة. * * *

3710 - ورُوِيَ: أَنَّ رَجُلاً يُقالُ لَهُ: أَصْرَمُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: أَصْرمُ، قَالَ: "بَلْ أَنْتَ: زُرْعَةُ". قوله: "بل أنت زُرْعَة"؛ يعني: "الأصرمُ" مأخوذٌ من الصَّرْم، والقطعُ غير مستحسَنٍ في التفاؤل، والزُّرعةُ (مأخوذ) من الزَّرْع، والزَّرْع مُسْتَحْسنٌ، فلهذا غَيَّرَ أصرمَ إلى الزُّرْعة. روى هذا الحديث أسامة بن أَخْدَرِي. * * * 3711 - ورُوِيَ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - غيَّرَ اسْمَ: العَاص، وعَزيْزٍ، وعَتَلَةَ، وشيطان، والحَكَمِ، وغُرَابٍ، وحُبَابٍ، وشِهابٍ. قوله: "غَيَّرَ اسمَ العاص"، وسببُ تغييره هذا الاسمَ: أنه من العِصْيان، وتغيير اسم العزيز؛ لأنه من أسماء الله، وتغيير (العَتَلةَ)؛ لأنها من العَتْل، وهو الجرُّ بالعنف، وتغيير (الحَكَم) قد ذُكِرَ سببُه في تغيير أبي الحَكَم إلى أبي شُرَيح. وتغيير اسم مَن يسمَّى بـ (غُراب)؛ لأنه لا يليقُ بعزَّةِ الإنسان أن يشارك طيرًا، أو لأنه مشتَقٌّ من الغروب، والغروب غير مستحسَن في التفاؤل. و (الحُبَاب): اسمُ شيطان، و (الشَّهَاب): قطعةُ نار. * * * 3712 - وعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَاريِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في: زعموا: "بئسَ مَطيَّةُ الرَّجُل! ". قوله في: زعمُوا "بئس مطيةُ الرَّجُل"، (الزَّعْمُ): الادِّعاء، (المطية): المركوبة، كانت عادة جماعةٍ من الناس أنهم إذا تكلَّموا بكلامٍ سمعوه من غيرهم،

9 - باب البيان والشعر

ولم يعلموا صِحَّتَه، يقولون: زعموا أن القضية كيت وكيت، أو زعم فلانٌ أنه سمع كذا، أو رأى كذا، وما أشبهَ ذلك، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلَّمُوا بكلامٍ لم يَعلَمُوا صِحَّتَه. سُمِّيَ التكلُّم بـ (زعَمُوا) مطيةً؛ لأن الرجلَ يتوصَّلَ بهذا الكلام إلى مقصوده من إثبات شيءٍ، كما أنَّ الرجلَ يتوصَّلُ إلى بلدٍ بواسطة مطيتهِ. * * * 3713 - وعَنْ حُذيْفَةَ عَنِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَقَوُلُوا: مَا شَاءَ الله وشَاءَ فُلاَنٌ، وَقُولُوا: مَا شَاءَ الله ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ". قوله: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان"، وعلةُ النهي عن هذا الكلامِ أنه يلزم من هذا الكلامِ الاشتراكُ بين الله وبين العباد في المشيئَة؛ لأن الواوَ للجَمْعِ والاشتراك، ويجوزُ: ثم شاء الله؛ لأن (ثُمَّ) للتراخي؛ يعني: شاء الله، ثم بعد مشيئةِ الله يشاءُ فلانٌ. * * * 9 - باب البَيانِ والشَّعرِ (باب البيان والشعر) مِنَ الصِّحَاحِ: 3719 - عَنِ ابن عُمرَ - رضي الله عنهما - قَال: قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ المَشْرقِ فخطَبا فعَجِبَ النَّاسُ لِبيَانِهِما، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا". قوله: "إن من البيان لسحرًا"، (البيانُ): الفصاحة، و (السحرُ): صَرْفُ

الشيء من جهةٍ إلى جهة، أو حالٍ إلى حال. و (السحرُ): فعلُ الشيءِ يخيَّلُ للناظر أنه قد فعلَ الشيء الفلانيَّ وما فعلَه، ويخيَّلُ إليه أنه قتلَ فلانًا وما قتلَه، وما أشبهَ ذلك. يعني: قد يزينُ الرجلُ كلامَه بأنواعِ البلاغةِ بحيثُ يحسَبُه المستمعُ حقًا وصدقًا، ولم يكنْ كذلك، كما أنَّ الساحرَ يغيرُ الأشياءَ في نظر الناظر، ولم تكنْ في الحقيقة مغيَّرَةً؛ يعني: كما أنَّ السَّحْرَ حرامٌ، فكذلك تزيينُ الكلام حرامٌ. * * * 3720 - وقَالَ: "إنَّ مِنَ الشِّعرِ حِكْمَةً". قوله: "إن مِنَ الشِّعْر لحكمةً"، الشِّعْرُ المَذْمُومُ هو الذي فيه كلامٌ قبيح، فأما الشعر الذي هو موعظةٌ وثناءٌ على الله وعلى رسوله، والنصيحةُ للمسلمين، وتحبيبُ الآخرة في قلوب المسلمين، وإهانةُ الدنيا في نظرهم، وما أشبهَ ذلك = فهو محمود. و (مِن) في هذين الحديثين: للتبعيض. روى هذا الحديثَ أُبَيُّ بن كعب. * * * 3721 - وقَالَ: "هلَكَ المُتَنَطَّعُونَ"، قَالَهَا ثَلاثًا. قوله: "هلكَ المُتَنَطَّعُون"، (المُتنطَّعُ): الذي يُوْقع الكلامَ في نِطْعِ الفَم، وهو الغار الأعلى من الطبقةِ العُلْيا إلى أقصى الفم؛ يعني: لمن صوتُه من قَعْرِ حَلْقه، ويردَّدُه في فمه من الرُّعونة، وإنما هلكَ المتنطَّعُ؛ أي: فات عنه الثوابُ؛

لأنه يتكلَّمُ رياءً وفخرًا، وإظهارًا لفصاحته، وفضلهِ على غيره، ومَنْ كانت هذه صفتُه لا يكونُ له إخلاصٌ. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 3722 - وقَالَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلا الله باطِلٌ". قوله: "ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلُ"؛ يعني: ما سوى الله، وسوى ما يتعلَّقُ برضا الله، وما سوى أسمائه وصفاته وأوامرِه ونواهيه ما سوى هذه الأشياء باطلٌ. قوله: "وكلُّ نعيمٍ لا محالَة زائلُ"، (لا محالة)؛ أي: البتَّةَ؛ يعني: كلُّ نعيمٍ الدنيا زائلٌ إلا نعيمَ الآخرة، فإنه لا يزول. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3723 - وعَن عَمرِو بن الشَّريدِ، عَنْ أبيهِ، قال: رَدِفْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَالَ: "هلْ مَعَكَ مِن شِعْرِ أُمَيَّةَ بن أبي الصَّلتِ شَيءٌ؟ " قُلتُ: نَعَم، قَال: "هِيْهِ"، فأَنشدْتُه بَيْتًا، فَقَال: "هيهِ"، ثُمَّ أنشدْتُهُ بيتًا، فَقَالَ: "هِيْهِ"، حتى أَنشدتُه مئةَ بيْتٍ. قوله: "هِيْهِ"، أصلُه (إيْهِ) بالهمزة، فقُلِبت الهمزة هاءً كما يقال: هَرَاق وأَرَاق: إذا صب الماء، ولفظُ (إيه) إذا كان بسكون الهاء أو بكسرها وتنوينها، معناها: زِدْ، وإن كان بفتح الهاء وتنوينها معناها: اكفف؛ أي: امنَعْ واتركْ.

هذا الحديثُ يدلُّ على استحسان قراءة شعر فيه حكمةٌ وموعظة. * * * 3724 - وعَنْ جُنْدَبٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ في بَعْضِ المَشَاهدِ وقَد دَمِيَتْ إِصبَعُه فَقَال: "هَلْ أنتِ إِلاّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وفي سَبيْلِ الله ما لَقِيتِ" قوله: "في بعض المشاهد"؛ أي: في بعض الغزوات. "وقد دَمِيَتْ"، الواو للحال، (دَمِيَتْ)؛ أي: تجرَّحَتْ. فإن قيلَ: لم يَجُزْ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنشاءُ الشعر، فكيف أنشأَ هذا البيتَ؟ قلنا: اختلف العلماء في أنه - صلى الله عليه وسلم - هل كانَ يُحْسِنُ الشعرَ أم لا؟ فقال بعضهم: يحسنُ الشعر ولكن لا يقولُه، كي لا يقولَ الكفار: إنه شاعر. وقال بعضهم: إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحسِنُ الشعرَ وهو الأصحُّ، فقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. وأما إنشاؤه هذا الشعرَ وأشباهَه: فإن هذا رَجَزٌ، والرَّجَزُ ليس من الشعر في قول، وفي قول الرَّجَزُ شعرٌ، ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل أنتِ إلا إصبعٌ دَمِيتِ" بكسر التاء، وكذلك: "ما لَقِيْتِ" بكسر التاء من غير مدِّها؛ ليخرجَ من نَظْم الشِعر، ولم يقصِدْ بتكلُّمه - صلى الله عليه وسلم - بهذا أو أشباهه الشعرَ، ولكن خرَج من عامَّةِ فصاحته على نَظْمِ الشعر من غير قصدهِ الشِّعْرَ. * * * 3725 - وعَنِ البَراءِ بن عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بن ثابتٍ: "اهْجُ المُشْرِكينَ، فإنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ".

قوله: "اهْجُ المشركين"؛ أي: اذكر عيوبَهم ومساوِئهم وقِلَّةِ عقولِهم في عبادتهم للأصنام. وهجوُ الكفار جائزٌ. * * * 3726 - وكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ لِحَسَّانَ: "أَجِبْ عنِّي، اللهمَّ! أَيدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ". "أَجِبْ عني"؛ أي: اهْجُهم، فإني لا أُحْسِنُ الشعرَ حتى أهجوَهم. * * * 3727 - وعَنْ عَائِشةَ رَضيَ الله عَنْها: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اهْجُوا قُرَيْشًا، فإنَّه أَشَدُّ عَليْهِم مِن رَشْقِ النَّبلِ". وقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ لِحَسَّانَ: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيدُكَ ما نافَختَ عَنِ الله ورَسُولِه". وقالتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: "هَجاهُم حَسَّانُ فَشَفَى واشْتَفَى". قوله: "من رَشْق النَّبْل"؛ أي: من رمي النبل. قوله: "إن رُوح القُدُس"؛ أي: إن جبريل عليه السَّلام "لا يزالَ"؛ أي: أبدًا، "يؤيدك"؛ أي: يقوَّيكَ ويعينك "ما نافَحْتَ"؛ أي: ما دُمْتَ تدفعُ المشركين عن عباد الله ورسوله بأن تهجوَهم وتذكر مساوئهم. قوله: "فشفى"؛ أي: شَفى المسلمين، "واشتفى"؛ أي: وجدَ هو الشفاءَ بأن هجا المشركين. * * * 3728 - عَنِ البَراءِ قَال: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينقُلُ التُّرابَ يومَ الخَنْدقِ حتَّى اغبَرَّ بطْنُهُ ويَقُولُ:

"والله لَوْلا الله ما اهتَدَيْنَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّينَا فأَنْزِلَنْ سَكِيَنةً عَلَيْنَا ... وَثَبت الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا إنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا يَرْفَعُ بِها صَوْتَه: أَبَيْنا، أَبَيْنا". قوله: "ينقُلُ الترابَ يومَ الخندقِ"، يوم اتفقَ قبائلُ العربِ على محاربةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاؤوا حتى نَزَلُوا حولَ المدينة ليحارِبُوا، فقيل للنبي: طريقُ دَفْعِهم بأن يحفِرُوا حولَ المدينة خندقًا كي لا يقدِرُوا أن يتجاوزوا الخندقَ، فلا يَصِلُون إلينا، فإنهم أكثرُ من أن نَقْدِرَ على مقاومتهم، فاشتغلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه بحفْرِ الخندقِ حتى فاتت عنهم صلاةُ العَصْر، فأرسلَ الله على الكُفَّارِ ريحًا شديدًا، وهي ريح الصَّبَا، فقَلَعَتْ خيامَهم، وكسرتْ قدورَهم، ورمتِ الترابَ على وجوههم، وأُلْقِيَ في قلوبهم الخوفُ فهربوا، وسَلَّمَ الله نبيَّه والمؤمنين مِن شرِّ الكفار. قوله: "حتى اغبرَّ بطنُه"؛ أي: حتى صار ذا غبارٍ؛ أي: وقعَ عليه الغبارُ حتى سَتَرَ الغبارُ لونَ بشرته. "لولا الله"؛ أي: لولا فضلُ الله علينا بأن هدانا إلى الإسلام. "إن لاقينا"؛ يعني: إن لاقينا الكفارَ ثَبَّتَنا على محاربتهم. "إن الأُولَى"؛ أي: إن هؤلاءِ الكُفَّار. "بَغَوا"، أصلُه: بَغَيُوا، فقُلِبت الياءُ ألفًا، وحُذفت لسكونها وسكون الواو، ومعناه: ظلموا. "إذا أرادوا فِتنةً أَبَيْنا"؛ يعني: إذا أرادُوا أن يُوْقِعُونا في الكفر والضلالة امتنعنا عن قَبُوله. * * *

3729 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: جَعَلَ المُهاجِرُونَ والأنْصَارُ يَحْفِرُون الخَنْدقَ وينقُلُونَ التُّرابَ وهُم يَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدًا ... على الجِهَادِ ما بَقِيْنا أَبَدًا ويَقُولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يُجيْبُهُم: "اللهمَّ! لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرهْ ... فاغْفِرْ للأَنْصَارِ والمُهاجِره" قوله: "والمهاجرة"، التاء هنا للجَمْع، يريد المهاجرين. * * * 3730 - وقَال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيْهِ خَيْرٌ مِن أَن يَمْتَلِئَ شِعْرًا". قوله: "لأَنْ يمتلئَ جوفُ رجلٍ قَيْحًا يَرِيْهِ"، و (يُري): إذا ثقبَ القَيْحُ باطنَ الجرح ووسَّعَه، والمراد بالشِّعْرِ هنا: شِعْرٌ به هَجْوٌ لمسلم، أو كذبٌ، أو غيرُهما من المنهيَّات. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 3731 - عَنْ كَعْبِ بن مَالكٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قَال للنَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله تعالى قَدْ أَنْزلَ في الشِّعرِ مَا أَنْزلَ، فَقَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُؤْمنَ يُجاهِدُ بسيفِه ولِسانِه، والذي نفسي بيدِه، لَكَأنَّما ترمُونَهم بِهِ نَضْحُ النَّبلِ". قوله: "إن الله تعالى قد أنزلَ في الشِّعر ما أنزلَ"، يريد كعب بن مالك

بهذا الكلام: أن الله ذمَّ الشاعرين بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فهل يجوزُ لنا أن نقول الشعرَ في هجو الكفار أم لا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه"، يعني: هَجْوُ المؤمنِ الكفَّارَ جهادُه وكأنما ترمونهم به. "نَضْح النَّبْل"؛ يعني: إذا هجوتم الكفارَ يشقُّ عليهم هجْوُكم كما يشقُّ عليهم رَمْيُكم إياهم بالنَّبْل. (النَّضْحُ): الرميُ، تقدير هذا الكلام: لكأنَّما ترمونهم به؛ أي: بالهَجْوِ نَضْحًا مثلَ نَضْحِ النَّبْل؛ أي: رميًا مثلَ رَمْيِ النَّبْل. * * * 3732 - عن أَبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الحَيَاءُ والعِيُّ شُعبَتانِ مِن الإِيْمانِ، والبَذاءُ والبَيَانُ شُعبَتانِ مِن النِّفاقِ". قوله: "الحياءُ والعِيُّ شعبتان من الإيمان، والبَذَاءُ والبَيَانُ شعبتان من النفاق". (العِيُّ): التحيُّر والاحتباسُ في الكلام، وأراد بالعِيِّ هنا: السكوتَ عما فيه إثمٌ من الكلام والشعر، و (البَذَاءُ) خلافُ (الحياء)، و (البيانُ): الفصاحة، أراد بالبيان هنا: ما فيه إثمٌ من الفصاحة، كهَجْوِ أحدٍ أو مَدْحِه بما لا يليقُ بالبشر. * * * 3733 - عَنْ أَبي ثَعلبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إنَّ أَحَبَّكم إِليَّ وأَقْرَبَكم مِنَّي يَوْمَ القَيامةِ أحاسِنُكُم أَخَلاَقًا، وإِنَّ أَبْغضَكُم إليَّ وأَبْعَدَكم مِنَّي مَسَاوِئُكم أخلاَقًا، الثَّرثَارُونَ المُتشدِّقُونَ المُتَفَيْهِقُونَ". قوله: "أحاسنُكم"، جمع الأَحْسَن، قوله: (المساوئ): جمع سُوْء،

وهو ضد الحُسْن، وهذا جمعٌ نادرٌ كالمَحَاسن جمع الحَسَن. "الثَّرْثَارون"؛ يعني: المُكْثِرُون الكلامَ من غير فائدة دينية. "المتشدِّقُ": المستهزئُ بالناس الذي يَلْوِي شِدْقَه - أي: جانب فمه - استهزاءً بالناس. "المُتَفَيْهِق": الواسعُ الكلامِ من غاية التكلُّف والرعونة، يتوسَّعُ في الكلام ولا يبالي أخَيرٌ يقول أم شرٌ؟ وقيل: (المُتَفَيْهِقُ): المتكبر. وقد جاء في "الصحاح": أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا تحدَّثَ بهذا الحديث قال الحاضرون من الصحابة: عَلِمنا الثَّرْثَارين والمُتَشَدِّقِين، فما المُتَفَيْهِقُ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو المُتَكَبر". * * * 3734 - عَنْ سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يخرُجَ قَوْمٌ يأكُلُونَ بألسِنَتِهِم كمَا تأكُلُ البَقَرُ بِأَلِسنَتِها". قوله: "كما تأكلُ البقرة"؛ يعني: كما أنَّ البقرةَ تأكل الحشيشَ من كلِّ نوعٍ، ولا تُمَيزُ بين النافعِ والضَّارِّ، فكذلك هؤلاء لا يُبالُون بما يقولون من كلامهم، ويقرؤون من شعرهم أنه حسنٌ أم قبيحٌ؟ فيه ثوابٌ أم إثمٌ؟ * * * 3735 - عَنْ عَبدِ الله بن عَمرٍو: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إنَّ الله يُبغِضُ البَليغَ مِن الرِّجالِ، الَّذي يتَخَلَّلُ بلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَاقِرَةُ بِلِسانِها"، غريب. قوله: "البَلِيغ"؛ أي: الفصيح.

"الذي يتخلَّلُ"؛ أي: يأكل. "الباقرة"، بمعنى البقرة، ومعنى هذا الحديث كمعنى الحديث المتقدِّم. * * * 3736 - عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَرَرْتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي بِقَومٍ تُقْرَضُ شِفاهُهم بمقارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: يا جبريلُ! مَن هؤُلاءِ؟ قَال: هَؤلاءِ خُطباءُ أُمَّتِكَ الَّذينَ يقولونَ ما لا يعلَمونَ"، غريب. قوله: "ليلةَ أُسْرِيَ"؛ أي: ليلة المعراج. "تقرِضُ"؛ أي: تَقْطَعَ "شِفَاهَهم"، (الشِّفاهُ): جمع الشَّفَة. "بمقاريضَ"، هي جمعُ المِقْرَاض، وهو ما يُقْطَعُ به الظُّفرُ والشَّعْر وغيرهما، والمراد بهذا: القومُ الذين يأمُرون الناس بالبرَّ، ويَفْعَلُون خلافَ ما يقولون. * * * 3737 - عَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَعَلَّم صَرْفَ الكَلامِ ليَسبيَ به قُلوبَ الرِّجَالِ - أَوِ: النَّاس - لَمْ يقبلِ الله مَنْهُ يومَ القِيامةِ صَرْفًا ولا عَدْلاً". قوله: "مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الكلام"؛ أي: مَنْ تَعَلَّمَ الفصاحةَ وأنواعَ البلاغةِ من الشعرِ وغيرِه من العلومِ، لا لله، بل "ليَسْبيَ به"؛ أي: ليجعلَ قلوبَ الناسِ إليه مائلةً ومُريدةً له. "لم يقبلِ الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا عَدْلاً"، (الصَّرْفُ): الحيلة، و (العَدلُ): الفِدَاء. وقيل: (الصَّرْفُ): الفريضة، و (العدلُ): النافلة، وقيل: (الصَّرْفُ): التوبة،

و (العَدْلُ): القُرْبَة. * * * 3738 - عَنْ عَمرِو بن العَاصِ: أنَّه قَال يَوْمًا - وقَامَ رَجُلٌ فأكثرَ القَولَ - قَالَ عمرٌو: لو قَصَدَ في قولِهِ لَكَانَ خَيْرًا لهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَقْد رَأَيتُ - أو: أُمِرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القَولِ، فإنَّ الجَوازَ هُوَ خيرٌ". قوله: "لو قَصَدَ في قوله"؛ يعني: لو قال كلامًا غير مُطَوَّل. "أن أَتَجَوَّزَ"؛ يعني: أن أقْتَصِرَ؛ يعني: أنْ أقولَ كلامًا قليلَ الألفاظ كثيرَ المعاني. "فإن الجَوَاز"؛ أي: فإن الاقتصارَ. * * * 3739 - عن صَخْرِ بن عبدِ الله بن بُرَيْدَةَ، عَنْ أبيْهِ، عَنْ جَدَّه - رضي الله عنهم -، قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "إنَّ مِن البَيانِ سِحْرًا، وإنَّ مِن العِلْمِ جَهْلاً، وإنَّ مِن الشَّعرِ حُكْمًا، وإنَّ مِنَ القَولِ عِيَالاً". قوله: "وإنَّ من العِلْمِ جهلاً"؛ يعني: قد يكون من العلوم ما يكونُ كالجَهْل، بل الجهلُ خيرٌ منه؛ لكونه عِلْمًا مذمومًا. "وإن من القول عيالاً"؛ يعني: قد يكونُ من أقوالِ الرجالِ ما يكونُ عليه منه إثمٌ؛ لكونه من مناهِي الشرع، وباقي هذا الحديثِ قد ذُكِرَ في أول هذا الباب. * * *

10 - باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

10 - باب حِفْظِ اللِّسانِ والغِيْبةِ والشَّتمِ (باب حفظ اللسان من الغيبة والشتم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3740 - قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَومِ الآخِرِ فلْيقُلْ خَيْرًا، أو لِيَسْكُتْ". قوله: "فليَقُلْ خيرًا أو ليسْكُتْ"؛ يعني: إن تكلَّمَ فليتكلَّمْ بما له منه ثوابٌ، وإنْ لم يتكلَّمْ خيرًا فليَسْكُتْ؛ لأنَّ السكوتَ خيرٌ من كلامٍ فيه إثمٌ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3741 - وقَال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ ومَا بينَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ". قوله: "من يَضْمَنْ لي ما بين لَحْييه وما بين رِجْلَيه أَضْمَنْ له الجنة"، (لحييه): أصلُه: (لَحْيَينهِ) فسقطت النونُ للإضافة، وهي تثنيةُ لَحْية. واللَّحْيَةُ - بفتح اللام -: العَظْمُ الذي نبتَ عليه الأسنانُ من السُّفْل والعُلُوِّ؛ يعني: مَن حَفِظَ لسانَه وفَرْجَه فأنا ضامنٌ له الجَنَّةَ. روى هذا الحديثَ سهلُ بن سَعْدٍ. * * * 3742 - وَقَال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضْوانِ الله لا يُلْقي لَهَا

بَالاً يَرْفعُهُ الله بِها دَرَجَاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ الله لا يُلْقِي لَهَا بالاً يَهوي بِهَا في جَهَنَم". ويُروى: "يَهْوِي بِهَا في النَّارِ أَبْعدَ مَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ". قوله: "لا يُلْقِي بها بالاً"، (لا يُلْقِي)؛ أي: لا يَرَى، (بها)؛ أي: بتلك الكلمة، (بالاً)؛ أي: بأسًا، هذا لغتهُ، ومعناه: إنه ليتكلَّمُ بكلمةٍ حقًّ وخيرٍ لا يعرِفُ قَدْرَه؛ يعني: يظنُّها قليلاً، وهو عند الله عظيمُ القَدْر، فيحصلُ بها رضوانُ الله. وكذلك ربما يتكلَّمُ بشرًّ وهو لا يظنه ذنبًا، وهو عند الله ذنبٌ عظيم، فيحصُلُ له سُخْطُ الله؛ يعني: لا يجوزُ أن يظنَّ الخيرَ حقيرًا، بل ليعملِ الرجلُ بكلِّ خيرٍ، وليتكلَّمْ كلَّ خيرٍ. وكذلك لا يجوزُ أن يَعُدَّ الشرَّ حقيرًا، بل ليتركِ الرجلُ كلَّ شَرًّ كي لا يصدُرَ منه شَرٌّ، فيحصل له به سُخْطُ الله. "يهوي"؛ أي: يَسْقُطُ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3743 - وقَالَ: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وقِتَالُه كُفْرٌ". قوله: "سِبابُ المسلم"؛ أي: شَتْمُ المُسْلِم. "وقتالهُ"؛ أي: مجادَلَتُه ومحاربَتُه بالباطل. "كُفْرٌ"، وذِكْرُ الكفرِ هنا تهديدٌ ووعيدٌ إن اعتقدَ قتالَ المُسْلِمِ حرامًا، وإن اعتقدَه حلالاً فقد كَفَر. روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن مسعود. * * *

3744 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافرٌ، فَقَد باءَ بِهَا أَحَدُهُمَا". قوله: "أيُّما رجلٍ قالَ لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدُهما"؛ أي: رَجَعَ، "بها"؛ أي: بتلك الكلمة؛ يعني: إذا قال زيد مثلاً لعمرو: يا كافر، أو أنت كافرٌ فقد باءَ بالكفر أحدُهما؛ يعني: إن كان عمرٌو كافرًا فقد صدقَ زيدٌ فيما قال، وإلا صارَ زيدٌ كافرًا إن اعتقدَ كونَ عمرٍو كافرًا بسبب حصولِ ذنب منه، لأن المسلمَ لا يصيرُ بالذنب كافرًا ومن اعتقد صيرورةَ مسلمٍ بذنْبٍ كافرًا فقد اعتقدَ تحريم حلالٍ، ومن اعتقد تحريم حلالٍ فقد كَفَر. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 3745 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بالفُسُوقِ، ولا يَرْمِيْهِ بالكُفْرِ، إِلَّا ارتَدَّتْ عَلَيْه إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كذَلَك". قوله: "لا ارتدَّتْ عليه"؛ أي: إلا ارتدَّتْ تلكَ الكلمةُ إلى قائلها، إن كانتْ تلك الكلمةُ فِسْقًا صار قائلُها فاسقًا، وإن كانت كفرًا صار كافرًا، إنْ لم يكنِ المَقُولُ له فاسقًا وكافرًا. وتأويل هذا الحديث ما ذُكِرَ قُبيل هذا. روى هذا الحديثَ أبو ذَرًّ. * * * 3747 - وقَالَ: "المُسْتَبَّانِ مَا قَالا، فعلى البَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ". قوله: "المستَبَّانِ"؛ أي: اللَّذان يشتُمُ كلُّ واحد منهما صاحبَه. قوله: "ما قالا، فعلى البادئ"؛ يعني: إثمُ ما قالا يحصلُ للبادئ أكثرَ مما

يحصلُ للمظلوم؛ لأنه كان سببًا لتلك المُخَاصَمة؛ لأنه مَن سَنَّ سنةً سيئةً فله وِزْرُها ووِزْرُ من عَمِلَ بها من غير أن يَنْقُصَ مِن أوزارِهم شيءٌ. قوله: "ما لم يَعْتَدِ المظلومُ"؛ يعني: إنما يكونُ وِزْرُ البادئ أكثرَ إذا لم يتجاوزِ المظلومُ حَدَّه، فإن تجاوزَ؛ أي: أكثرَ المظلومُ شَتْمَ البادي وإيذاءَه صار إثمُ المظلوم أكثرَ من إثم البادئ. روى هذا الحديثَ والذي بعدَه أبو هريرة. * * * 3749 - وقَالَ: "إنَّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ شُهدَاءَ ولاَ شُفَعَاءَ يومَ القِيَامةِ". وله: "إن اللَّعَّانِينَ لا يكونون شهداءَ ولا شُفَعاءَ"؛ يعني: مَنْ يَلْعَنُ الناسَ في الدُّنْيا فهو فاسقٌ، والفاسِقُ لا تُقبَلُ شهادتُه وشفاعتُه يومَ القيامة؛ يعني: تُكَذِّبُ الأممُ الماضية أنبياءَهم ويقولون: ما بَلَّغُونا رسالَتك يا ربنا، فيقول الله للأنبياء: هل لكم شاهدٌ على أنْ بلَّغتُم رسالتي؟ فيقول الأنبياء: أمةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - شهداؤنا، فيُجاءُ بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيشهدُون أن الأنبياء بَلَّغوا رسالةَ الله أمتهم. والمراد بهذا الحديث: أن اللَّعَّانينَ ليس لهم منزلةٌ عند الله تعالى حتى تُقبلَ شهادتُهم في جملة مَن يَشْهدُ للأنبياء. روى هذا الحديثَ أبو الدرداء. * * * 3750 - وقَالَ: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ: هلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُم". قوله: "إذا قالَ الرجلُ هلكَ الناسُ فهو أَهْلَكُهُم"، (أَهْلَكُهُم): أفعل التفضيل؛ يعني: مَنْ عابَ الناسَ وقال: فَسدَ الناس، أو فَسَقُوا، أو هلَكُوا، وما

أشبهَ ذلك، فقد حصلَ ذلك العيبُ له أكثرَ مما حصلَ لهم؛ لأن الغِيبةَ وإيذاءَ الناسِ أشدُّ من ذنبٍ لا يَتَعلَّقُ بحقوق الآدَمِيين. ويُرْوى: (فهو أَهْلَكَهم) - بفتح الكاف - على أنه فِعْلٌ ماضٍ، قيل: معناه: أنَّ مَنْ جَعَلَ المسلمينَ قانِطين من رحمةِ الله فقد جعلَهم كافِرين خالدين في النار، فإذا كان فهو الذي جَعلَهم كافرين فقد أهلَكَهم. وقال مالك: إذا قال أحد: فسدَ الناس حزنًا وتأسُّفًا لما يَرَى في الناس؛ يعني: في أمرِ دينهم، فلا أرى به بأسًا. وإذا قال ذلك عُجْبًا بنفسه وتَصَاغُرًا للناس، فهو المَكْرُوه الذي نَهَى عنه. روى هذا الحديثَ والذي بَعْدَه: أبو هريرة. * * * 3752 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ". ويروى: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ". قوله: "لا يدخلُ الجَنَّةَ قَتَاتٌ"، (القَتَّاتُ): النَّمَّامُ. روى هذا الحديثَ حُذَيفةُ. * * * 3753 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُم بالصَّدْقِ، فإنَّ الصَّدْقَ يَهدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البرَّ يَهْدِي إِلَى الجَّنةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ ويَتَحَرَّى الصَّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدَّيقًا، وإِيَّاكُمْ والكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَى يُكْتَبَ عِندَ الله كَذَّابًا".

وفي رِوَايَةٍ: "إنَّ الصِّدقَ بِرٌ، وإنَّ البرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ". قوله: "عليكم بالصَّدْقِ"؛ يعني: الزموا الصِّدْقَ. "يَهْدِي"؛ أي: يَدُلُّ ويحصل. "ويتحرَّى"؛ أي: ويطلبُ ويجتهدُ في الطلب. روى هذا الحديث ابن مسعود. * * * 3754 - وقَالَ: "لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، ويَقُولُ خَيْرًا، ويَنْمِي خَيْرًا". قوله: "ليس الكذَّابُ الذي يُصْلِحُ بين الناس"؛ يعني: مَنْ كذبَ لأجل أن يُصْلِحَ بين عَدُوَّين لم يكنْ عليه بذلك الكذبِ إثمٌ، بل ثبتَ له فيه أجرٌ. مثاله: أراد زيدٌ أن يُصلِحَ بين عمروٍ وبَكْرٍ، يجيء زيدٌ إلى عمر ويقول: يسلِّمُ عليك بَكْرٌ ويمدحك، ويقول: أنا مُحِبُّه، وهكذا يجيءُ إلى بَكْرٍ ويبلغُه من عمرو السلامَ، فلا إثمَ على زيدٍ فيما يقول بين عمرو وبَكْرٍ مع أنه يسمَعُ مِنْ كلِّ واحدٍ منهما شَتْمَ الآخر. نَمَى يَنْمِي نميًا: إذا بَلَّغَ أحدٌ حديثَ أحدٍ على وجْهِ الإصلاح، ونَمَّى تنميةً: إذا بلَّغه على وجه الإفساد. روى هذا الحديثَ أمُّ كلثوم بنت عقبة. * * * 3755 - وقَالَ: "إِذَا رَأيْتُم المَدَّاحينَ فاحثُوا في وُجُوهِهِمُ التُّرابَ".

قوله: "إذا رأيتم المَدَّاحِين فاحثُوا في وجوههم الترابَ"، (الحَثْوُ) في التراب بمنزلة الصَّبَّ في الماء؛ يعني: إذا رأيتم مَن يمدحُكم اجعلوهم محرومين عن العطاء، وامنعُوهم عن المدح، فإن مَن مَدَحَ أحدًا فهو عَدُوُّه؛ لأنه يجعلُه مغرورًا متكبرًا، ومن جعلَ أحدًا مغرورًا متكبرًا فلا يستحقُّ الإعزاز. وقيل: معنى هذا الحديث الأمرُ بدفع المالِ إليهم؛ يعني: المالُ حقيرٌ كالتراب، فاقطَعُوا به ألسنةَ المَدَّاحين كي لا يهْجُوكم ويذمُّوكم إن لم تُعْطُوهم. روى هذا الحديثَ مقدادُ بن الأسود. * * * 3756 - وعَنْ أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: أَثْنى رَجُلٌ على رَجُلٍ عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيْكَ - ثَلاثًا - مَن كَانَ مِنْكُم مَادِحًا لا مَحالَةَ فليَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا والله حَسِيْبُه، إِنْ كَانَ يَرَى أنَّه كَذَلِكَ، ولاَ يُزَكِّي على الله أَحَدًا". قوله: "أحسبُ فلانًا"؛ يعني: لا يقلْ جَزْمًا: إنَّ فلانًا رجلٌ صالح، بل ليقلْ: أحسَبُه؛ أي: أظنُّه صالحًا، وإنما نهاهم عن أن يمدَحُوا أحدًا كيلا يغترَّ الممدوحُ فيصيرَ متكبرًا، وحينئذٍ يرى نفسَه أفضلَ من غيره، والله تعالى يغضَبُ على مَن هذه صفتُه. قوله: "والله حسيبُه"؛ أي: محاسِبُه؛ أي: حسابُ كلَّ شخصٍ إلى الله تعالى يعلمُ كونَه صالحًا أو غيرَه، فإذا كان الله عالمًا بجميعِ الأشياء، فلا يحتاجُ إلى أن يُزَكِّيَ عندَه أحدٌ أحدًا. * * * 3757 - عن أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَتَدْرُوْنَ مَا

الغِيْبَةُ؟ " قَالُوا: الله ورَسَولهُ أَعلَمُ، قَال: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بَما يَكْرَهُ"، قِيْل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ في أَخِيْ مَا أَقُولُ؟ قَال: إنْ كَانَ فيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغتبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ فَقَد بَهَتَّهُ". ويُرْوَى: "إِذَا قُلْتَ لأَخيْكَ مَا فيهِ فَقْد اغْتبْتَهُ، وإِذَا قُلْتَ مَا لَيْسَ فيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ". قوله: "بَهَتَّه"، أصله: بَهَتْتَه؛ أي: قلتَ فيه بُهْتانًا؛ أي: كذبًا عظيمًا. * * * 3758 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: أنَّ رَجُلاً اسْتأذَنَ على النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "ائْذَنُوا لَهُ، فبئسَ أَخُو العَشِيرَةِ هُوَ"، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في وَجْهِهِ، وانْبَسَطَ إِليْه، فلمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَت عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْهَا: يَا رَسُولَ الله! قُلْتَ لهُ: كَذا وكَذا، ثُمَّ تَطلَّقتَ في وجْهِهِ، وانبسَطْتَ إليه! فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنَدَ الله مَنْزلةً يَومَ القِيَامةِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتقَاءَ شَرِّه". ويُرْوَى: "اتّقاءَ فُحْشِهِ". قوله: "أخو العشيرة"، العشيرةُ: القبيلة؛ أي: بئس هو في قومه. "تَطَلَّقَ"؛ أي: أظهرَ عن نفسه البشاشةَ والفرحَ في وجهه. "وانبسطَ إليه": أي: تقرَّبَ منه وجعلَه قريبًا من نفسه، وتبسَّمَ في وجهه. "متى عاهدتني"؛ أي: متى رأيتنَي. "فحَّاشًا"؛ أي: سَبَّابًا؛ يعني: هو رجل سَوْء، ولكن لم أؤذِهِ؛ لأن إيذاءَ المسلمين ليس من خُلُقي. "مَنْ تركَه الناسُ اتقاءَ شَرِّه"؛ يعني: تركتُ إيذاءه وتطَّلقْتُ في وجهه كي لا يؤذِيَني بلسانه.

و"شر الناس"؛ من تواضعَ إليه الناسُ من خوفِ لسانهِ لا لصلاحِه، وهذا الحديث رخصةٌ منه - صلى الله عليه وسلم - في التواضُعِ إلى أحدِ لدفع ضَرَرِه عن نفسِه. * * * 3759 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا المُجاهِرِينَ، فإنَّ مِن المُجَاهَرةِ: أنْ يَعمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصبحُ وقد سَتَرَهُ الله فَيَقُولَ: يَا فُلانُ! عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذا وكَذا، وقد بَاتَ يسْترُه رَبُّه، ويُصبحُ يكشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ". قوله: "كلُّ أمتي معافًى إلا المجاهِرُون"، (معافًى) يشتركُ فيه المصدَرُ والزَّمان والمكانُ، مِن (عافَى): إذا أعطى الله أحدًا العافية، والعافيةُ: السلامةُ من المكروه. و (معافَىَ) هنا منصوبٌ على أنه مفعولٌ مطلق، وتقديرُه: كل أمتي عوفوا مُعَافًى؛ أي: رُزِقُوا العافية، (إلا المجاهرون)؛ يعني: الذين يُعْلِنُون الذنوبَ ويُظْهِرونها بين الناس. مَن أسرَّ ذنبَه سَلِمَ من ألسنة الناس وأيديهم، لا يعلمون حالَه حتى يغتابوه أو يقيموا عليه الحدود فلما أظهرَ ذنبَه وقعَ في ألسنة الناس وأيديهم. قوله: "وإنَّ مِن المَجَانَةِ"، (المجانة): مثلُ المُجُون، وهو عَدَمُ المبالاة بالقول والفِعْل؛ يعني: من أظهرَ ذنبَه بين الناسِ فهو الذي لا يبالي بأن يغتابَه الناسُ ويذمُّوه وينسِبُوه إلى الفاحشة، وهذا غير مَرْضيٍّ عند الله وعند الناس. * * * مِنَ الحِسَان: 3760 - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَرَكَ الكَذِبَ وهُوَ بَاطِلٌ بنيَ لَهُ في رَبَضِ

الجَنّةِ، ومَن تَرَكَ المِراءَ وهُوَ مُحِقٌّ بنيَ لَهُ في وَسَطِ الجنَّةِ، ومَن حَسَّنَ خُلُقَه بنيَ لَهُ في أَعْلاَهَا". قوله: "من تركَ الكذبَ وهو باطلٌ"، الواو في (وهو) للحال؛ يعني: من تركَ الكذبَ في حال كونهِ باطلًا يستحقُّ الأجرَ وإن لم يكنِ الكذبُ كما ذكر في الإصلاح بينَ الخَصْمَين، فالإتيانُ بمثلِ ذلك الكذبِ يوجبُ الأَجْرَ، فلا يُستَحبُّ تركُه. "رَبَض الجنة"، - بفتح الباء -: حوالَيها من داخِلها لا مِن خارجها. "ومن تركَ المِرَاءَ وهو مُحِقٌّ", (المِرَاءُ): المجادلة، و (المُحِقُّ): الصادقُ والمتكلِّمُ بالحق؛ يعني: من ترك المجادلةَ مع أنَّ ما يقولُه حَقٌّ فقد استحقَّ أن يَسْكُنَ في وَسَطِ الجَنَّة؛ يعني: إذا تكلمتَ بكلامٍ فتكلَّمْ به عن اللُّطْفِ والرِّفْقِ لا عن العنف والمجادلة. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 3761 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَدْرُوْنَ مَا أكثرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ تَقْوَى الله وحُسنُ الخُلُقِ، أَتَدْرُوْنَ مَا أكثرُ مَا يُدخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ الأَجْوَفانِ: الفَمُ والفَرْجُ". قوله: "الأَجْوفان"؛ يعني: الفَمُ والفَرْجُ يُوْقِعان الناسَ في الإِثْم؛ لأن الرجلَ ربما لا يَقْنَعُ بقليلٍ من الحلال، ويطلُبُ الكثيرَ من الحرام، وكذلك الفَرْجُ ربما يستعمِلُه الرجلُ في الحَرَام، فيدخلُ بسببه النار. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * *

3762 - وقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن الخَيْر مَا يَعْلمُ مَبْلَغَها، يَكْتُبُ الله لَهُ بِهَا رِضْوانَه إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مبلَغَها، يَكْتُبُ الله بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَه إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ". قوله: "ما يعلمُ مَبْلَغَها"؛ يعني: لا يعلمُ قَدْرَ تلك الكلمةِ؛ يعني: رُبَّما يتكلَّمُ الرجلُ بكلمةٍ من الخيرِ وهو يظنُّها قليلًا، وهي عظيم عند الله، فيحصُلُ له بها رضوانُ الله إلى يومِ يَلْقَاه، وربما يَتَكلَّمُ بكلمةٍ من الشَّرِّ يَظُنُّها قليلًا ولا يبالي بها، فيحصُلُ له بها سُخْطُ الله "إلى يوم يلقاه"؛ أي: إلى يوم القيامة. روى هذا الحديثَ بلالُ بن الحارث المُزَني. * * * 3763 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويْلٌ لِمَنْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضحِكَ بهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وُيْلٌ له". قوله: "ويلٌ لمن يحدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ به القومَ، ويلٌ له"، هذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ مَن حَدَّثَ بحديثِ صِدْقٍ في المزاح فَيَضْحَك بذلك الحديثِ الحاضرون ليس عليه بأسٌ؛ لأنه قد ذُكِرَ في (باب المصافحة): أن أُسَيْدَ بن حُضَيْرٍ يُضْحِكُ القومَ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ويلٌ له)؛ أي الهلاكُ حاصلٌ، وقيل (الويلُ) اسمُ وادٍ في جهنَّم. روى هذا الحديثَ معاويةُ بن حَيْدَة القُشَيْري. * * * 3764 - وقَالَ: "إنَّ العَبْدَ لَيَقُولُ الكَلِمَةَ لاَ يَقْولُها إِلاَّ ليُضحِكَ بِهَا النَّاسَ يَهْوِي بِهَا أَبْعَدَ مَمَّا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وإِنَّه لَيزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قدمِهِ".

قوله: "يَهْوِي"؛ أي: يسقطُ "بها"؛ أي: بسبب تلك الكلمة الكاذبة؛ يعني: يبعُدُ عن الخير والرحمة بسبب تلك الكذبة بُعْدًا أبعدَ ما بين السماء والأرض. "ليَزِلُّ"؛ أي: لَيْسُقُطُ؛ يعني: السقوطُ عن لسانه أشدُّ من السقوط عن رجلهِ. يعني: صدورُ الكذب والفاحشة من لسانهِ أضرُّ له مما يحصُلُ له من ضررِ سقوطهِ على وجهه. روى هذا الحديثَ معاويةُ المذكور. * * * 3765 - وقَالَ: "كَفَى بالْمَرءَ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ". قوله: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّثَ بكل ما سمع"؛ يعني: لو لم يكن للرجل كذبٌ سوى أن يتكلَّمَ بكلِّ ما سمعَ لكفاه من الذنب؛ يعني: لا يجوزُ التحدُّثُ بكلَّ ما يسمعُه الرجلُ، بل يجبُ عليه الاحتياطُ في التجسُّس عن حالِ الراوي أنه عَدْلٌ أم لا، كما ذكر في ديباجة هذا الكتاب. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3766 - وقَالَ: "مَن صَمَتَ نَجَا". قوله: "من صَمَتَ نجا"؛ يعني: مَن سَكَتَ عن الشَّرِّ فقد خَلُصَ من جَهَنَّم، ومن شَرِّ لسانه، فإن الرجلَ ربما يتكلَّمُ بكلام يلحقُه ضررٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة.

روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. 3767 - وقَالَ عُقْبَةُ بن عَامِر: لَقِيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "املِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعْكَ بيتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيْئَتِكَ". قوله: "أَمْلِكْ عليك لسانَك"؛ يعني: احفظْ لسانك عما ليس فيه خيرٌ. قوله: "وليَسَعْكَ بيتُك"؛ يعني: اسكن في بيتك ولا تخرجْ منه إلا إلى أمرٍ ضروري، ولا تجالسِ الناسَ، فإنَّ في مجالسةِ أكثرِ الناس ضَرَرًا. * * * 3768 - عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ رَفَعَهُ، قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ ابن آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسانَ فتَقُولُ: اتَّقِ الله فيْنَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ، فإنْ استَقَمْتَ استَقَمْنا، وإنْ اعْوَجَجْتَ اعْوجَجْنَا". قوله: "تُكَفِّرُ اللسانَ"؛ أي: تخضَعُ له. "فتقولُ"؛ أي: فتقولُ الأعضاءُ لِلَّسان: "اتقِ فينا"؛ أي: اتق الله في حِفْظ حقوقنا. "فإنَّا نحن بك"؛ أي: فإنَّا نتعلَّقُ بك، فإن كنتَ صالحًا تكون صالحة، وإن كنت فاسدًا تكون فاسدة. "اعوَّج"، ضد استقام. * * * 3769 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ إسْلام المَرءِ تَرْكُه مَا لا يَعْنيهِ".

قوله: "من حُسْنِ اسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه"؛ أي: ما لا ضرورةَ له فيه ولا ينفعُه؛ يعني: إسلامُ الرجل يحسُنُ ويكمُلُ بأن يتركَ من الأفعال والأقوال ما لا ينفعُه، ولا ضرورةَ له فيه. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3770 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: تُوفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابةِ فَقَال رَجُلٌ: أبشِرْ بالجنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَلا تَدْرِي، فلعَلَّه تكلَّمَ فيْمَا لا يَعْنِيهِ، أو بَخِلَ بِمَا لا يُنقِصُهُ". قوله: "أَبْشِرْ بالجَنَّة"؛ يعني: افرح بحصولِ الجَنَّةِ لك بأن صَحِبْتَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. "أوْلا تدري"، بسكون الواو؛ يعني: أتدري أنه من أهلِ الجَنَّةِ؟ أو لا تدري بأيِّ شيءٍ علمتُ أنه مِن أهل الجنة؟ "فلعلَّه تكلَّمَ فيما لا يعنيه"؛ أي: تكلَّمَ بكلامٍ يضُّره في الآخرة. "أو بَخِلَ بما لا يَنْقُصُه"؛ أي: بالتكلُّم في الخير، فإنه لا ينقصُ من لسانه شيءٌ بأن يُعَلِّمَ الناسَ ما يحتاجون إليه، ويُرْشِدَهم وينصحَهم، ويتلطَّفَ بهم باللسان، ويعينَهم بيديه، ويمشيَ برجليه في حاجةٍ لهم. * * * 3772 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كَذَبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلَكُ مِيْلًا مِن نَتْنِ مَا جَاءَ بهِ". قوله: "مِيلًا"؛ أي: ثُلُثَ فَرْسَخٍ.

"مِن نَتْنِ" أي: من خُبْثِ "ما جاء به"؛ أي: من الكذب الذي تكلَّم به. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 3773 - وقَالَ: "كَبُرَتْ خِيَانةً أنْ تُحدِّثَ أَخَاكَ حَدِيْثًا، هُوَ لَكَ بهِ مُصَدِّقٌ، وأَنْتَ بهِ كَاذِبٌ". قوله: "كَبُرَ خيانةً"؛ يعني: إذا تُحَدِّثُ أخاك بحديثِ كذبٍ وهو يظنُّ أنك صادقٌ في كلامك، ويغترُّ بكلامك فهذا خيانةٌ عظيمة. روى هذا الحديث سفيان بن أُسَيد الحَضْرمي. * * * 3774 - وقَالَ: "مَن كَانَ ذا وَجْهَينِ في الدُّنيا، كَانَ لَهُ يَومَ القِيامةِ لِسَانَانِ مِن نَارٍ". قوله: "من كانَ ذا وجهين"؛ يعني: من كانَ مع كلَّ واحدٍ من العَدُوَّين كأنه صديقُه، ويذمُّ عند هذا ذلك، وعند ذلك يذمُّ هذا؛ لتزدادَ بينهما العداوةُ، وليحسِنَ إليه كلُّ واحدٍ منهما بأن يظنَّه ناصرًا له. روى هذا الحديثَ عمار بن ياسر. * * * 3775 - وقَالَ: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، ولا باللَّعَّانِ، ولا الفَاحِشِ، ولا البَذِيء"، غريب. قوله: "ليس المؤمنُ بالطَّعَّان"؛ أي: ليس المؤمنُ الكاملُ طَعَّانًا، وهو الذي

يعيبُ الناس، "اللَّعَّان": من يُكْثِرُ اللَّعْنَ، "الفاحش": الشاتم، "البذيء": الذي ليس له حياءٌ. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 3776 - وقَالَ: "لا يَكُونُ المُؤْمِنُ لَعَّانًا". وفي رِوَايةٍ: "لا يَنْبَغِي للمُؤْمنِ أنْ يَكُونَ لعَّانًا". قوله: "لا يكون المؤمنُ لَعَّانًا"؛ أي: ليس من صفة المؤمنِ الكاملِ أن يَلْعَنَ أحدًا. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 3777 - وقَالَ: "لا تَلاَعَنُوا بِلَعْنَةِ الله، ولا بِغَضَبِ الله، ولا بِجَهَنَّم". وفي رِوَايَةٍ: "ولا بالنَّارِ". قوله: "لا تلاعَنُوا بلعنة الله"، (لا تلاعَنُوا): أصلُه: لا تتلاعَنُوا، فحذَفَ إحدى التاءين للتخفيف؛ يعني: لا تقولُوا لمسلم: عليكَ لعنةُ الله، ولا تقولوا: عليك غضبُ الله، ولا تقولوا: لك جهنمُ، أو لك النارُ، أو أدخلكَ الله جهنَّمَ، وما أشبَه ذلك؛ لأن التكلُّمَ بهذه الألفاظ لأحدٍ، فإن أراد المتكلِّم الإخبارَ - يعني: حصولَ هذه الأشياء له - فقد أخبرنا عن الغيب، ولا يعلمُ الغيبَ أحدٌ إلا الله، وإن قال هذا الكلام له على طريق الدعاءِ عليه، فقد ضادَّ الله ورسوله؛ لأنه لا يحصل له لعنةُ الله وغضبُه إلا أن يصيرَ كافرًا، أو يفعلَ كبيرةً من الذنوب، وكأنه أرادَ الكفر، أو فعلَ كبيرة لأحد، وإرادةُ الكفرِ وفعلُ الكبيرة مضادَّةٌ الله ورسوله.

روى هذا الحديثَ سُمُرَةُ بن جُنْدُب. * * * 3778 - وقَالَ: "إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعنةُ إلى السَّماءِ، فتُغلَقُ أبْوَابُ السَّماءَ دُوْنَها، ثُمَّ تَهْبطُ إلى الأَرضِ فَتُغْلَقُ أبوابُها دونَها، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمْيَنًا وشِمَالًا فإذا لَمْ تَجِدْ مَساغًا رَجَعَتْ إلى الَّذي لُعِنَ، فإنْ كَانَ لِذَلكَ أَهَلًا، وإلاَّ رَجَعَتْ إلى قائِلِها". قوله: "أخذ يمينًا وشمالًا"؛ أي: طَفِقَ يتردَّد يمينًا وشمالاً. "مَسَاغًا"؛ أي: مَدْخَلاً وطريقًا. "إلى الذي لُعِن"، بضم اللام وكسر العين؛ أي: إلى الملعون إن كانتْ اللعنةُ عليه بالحقَّ، فإن كان مظلومًا. "رجعت" اللعنة "إلى قائلها". روى هذا الحديثَ أبو الدَّرْدَاء. * * * 3780 - وقَالَ: "لا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إليْكُمْ وأَنَا سَلْيمُ الصَّدرِ". قوله: "لا يُبَلِّغُني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا"؛ يعني: لا يبلِّغُني أحدٌ عن أصحابي أنه شَتَمَ أحدًا أو آذى، أو فيه خَصْلَةُ سوءٍ؛ لئلاَّ أغضبَ عليه، فإني أريد أن أكونَ معكم صادقَ النية، وليس في قلبي غضبٌ وحقدٌ لأحد، وهذا تعليمٌ للأمة؛ يعني: لا يجوزُ لأحدٍ أن ينقُلَ من أحدٍ إلى أحد شَتْمًا أو لَعْنًا وغيرَها؛ لئلاَّ يقعَ بينهما عداوةٌ، وهذا هو النَّميمة.

روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 3781 - وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: حَسْبُكَ مِن صَفِيَّةَ كَذَا وكَذَا، تَعِنْي: قَصِيْرةً، فَقَال: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا البَحْرُ لَمَزَجَتْهُ"، صَحَّ (¬1). قوله: "حَسْبُك من صَفِيَّةَ كذا وكذا"؛ يعني: قِصَرُها. "لمَزَجَتْه"؛ أي: لغلبَتْ كلمتُكِ على البَحْر، وكَدَّرَتْ ماءَه من غاية قُبْحِها. * * * 3782 - وقَالَ: "مَا كَانَ الفُحْشُ في شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ، ومَا كَانَ الحَيَاءُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ". قوله: "إلا شانَه"؛ يعني: إلا كدَّرَه وجعلَه قبيحًا. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 3783 - وقَالَ: "مَن عيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يعمَلَهُ"، منقطع. قوله: "من عَيَّرَ أخاه"، (التَّعْييرُ) - بالعين المهملة -: اللَّوْمُ. روى هذا الحديثَ معاذٌ. * * * ¬

_ (¬1) كذا وردت في الأصل، ولعلَّها: صحيح.

11 - باب الوعد

3784 - وقَالَ: "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخيك، فَيَرْحَمُهُ الله ويَبْتَلِيْكَ"، غريب. قوله: "لا تظهرِ الشَّماتَةَ"؛ يعني: لا تفرحْ بذنبٍ صدَرَ من عدوِّك أو غيرِه، فلعلَّك تقعُ في مثلِ ذلك الذنبِ. روى هذا الحديثَ واثلةُ بن الأَسْقَع. * * * 3785 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ أَحَدًا وأَنَّ لِيْ كَذا وكَذا"، صَحِيْح. قوله: "ما أُحِبُّ أني حكيتُ أحدًا وأنَّ لي كذا وكذا"؛ يعني: ما أحبُّ أنْ أتحدثَ بعيبِ أحدٍ، ولو أُعْطيتُ كذا وكذا من الدنيا بسببِ ذلك الحديث. * * * 3786 - عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابيٌّ فأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ عَقَلَها، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ فصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلَمَّا سَلَّم أَتَى راحِلَتَهُ فأَطْلَقَها، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ نَادَى: اللهمَّ! ارْحَمْني ومُحَمَّدًا، ولا تُشْرِكْ في رَحْمَتِنا أَحدًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَقُولُونَ: هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيْرُهُ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى مَا قَالَ؟! قَالُوا: بَلَى". قوله: "فأَطْلَقَها"، (الإطلاقُ): ضدُّ التقييد؛ يعني: بعثَ راحلتَه وساقَها. * * * 11 - باب الوَعْدِ (باب الوعد) مِنَ الصِّحَاحِ: 3787 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجَاءَ أَبا بَكْرٍ مَالٌ

مِنْ قِبَلِ العَلاءِ بن الحَضْرَميِّ، فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِنْ كَانَ لهُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأتِنَا، قَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: فَقُلْتُ: وَعَدَني رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعْطِيَني هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، قَالَ جَابرُ - رضي الله عنه -: فَحَثا لِي حَثْيةً فَعَدَدْتُها فإِذَا هي خَمْسُ مئةٍ، قَالَ: خُذْ مِثْلَيْها. قوله: "من قِبَلِ العلاءِ بن الحَضْرَمي"؛ يعني: من جهته، ومن عند العلاء، وهو كان عاملَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "قِبَلَه عِدَةٌ"؛ أي: عندَه وعدٌ، والعِدَةُ والوَعْدُ واحدٌ، كان أبو بكر خليفةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي دينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويفي عنه بما وعدَ أحدًا أن يعطيَه شيئًا. "فحثا لي حَثْيَةً"؛ أي: ملأَ كفيه من الدراهم وصبَّه في ذيلي، وقال: خذ كَفَّينِ آخرين. * * * 3788 - عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبْيَضَ قَدْ شَابَ، وكَانَ الحَسَنُ بن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - يُشْبهُهُ، وأَمَرَ لَنَا بثلاثةَ عَشَرَ قَلُوْصًا، فذَهَبنا نَقْبضُها فَأَتَانا مَوْتُهُ، فَلَمّا قَامَ أبو بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كانَتْ لهُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِدَةٌ فَلْيَجئْ، فَقُمْتُ إلَيْهِ فأَخْبَرْتُهُ، فَأَمَرَ لَنَا بِهَا. قوله: "بثلاثَة عشرَ قَلُوصًا"، القَلُوصُ: الناقةُ الشَّابَّة. * * * 3789 - عَنْ عَبدِ الله بن أَبِي الحَسْمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: بايَعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أنْ آتيَهُ بهَا في مَكَانِهِ فَنَسِيتُ، فذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلاثٍ، فإِذَا هُوَ في مَكَانِهِ، فَقَالَ: "لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَا هُنا مُنْذُ ثَلاثٍ أَنْتَظِرُكَ".

قوله: "بايعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: اشتريتُ منه شيئًا. "قبل أن يُبْعَثَ"؛ أي: قبل أن يُوْحَى إليه. "وبَقِيَتْ له بَقِيَّةٌ"؛ أي: بقيَ له من ثمنِ ذلك المبيعِ شيءٌ. "فإذا هو في مكانُه"؛ أي: جئتُ إلى ذلك المكانِ فإذا هو - صلى الله عليه وسلم - ينتظرني بذلك المكان، ولم يخرجْ من ذلك المكان وفاءً بما وعدَ من لزوم ذلك المكانِ حتى أجيئَه بما بقيَ من الثمن، وذلك الانتظار منه - صلى الله عليه وسلم - كان للوفاء بما وعدَ، لا لحرصِ قَبْضِ باقي الثمن. * * * 3790 - عَنْ زيدِ بن أَرْقَمَ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، ومِنْ نِيَّتِهِ أنْ يَفيَ، فَلَمْ يَفِ وَلَمْ يَجيءْ للمِيعادِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ". قوله: "إذا وعدَ الرجلُ أخاه ومن نِيَّتهِ أن يفيَ فلم يفِ، ولم يَجئْ للميعادِ فلا إثمَ عليه"، الضمائر في هذا الحديث للرجلِ؛ يعني: إذا كان نيةُ الرجلِ أن يفعل فعلاً، أو يفيَ بما وعد، فاعترضَه مانعٌ، ومنعَه عن الوفاء بما وعدَ فلا إثمَ عليه. * * * 3791 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَامرٍ قَالَ: دَعَتْني أُمِّي يَوْمًا ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعِدٌ في بَيْتِنا فقالَتْ: تَعَالَ أُعْطِيْكَ، فقالَ لَهَا رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيْهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ". قوله: "كُتِبَتْ عليكَ كِذْبَة"؛ أي: كُتِبَتْ هذه الكلمةُ عليكَ كِذْبةً، لا شكَّ أنَّ من قال: أفعلُ كذا، ولم يفعلْ ذلك الشيءَ مع القُدْرة = تكونُ مخالفتُه ما قال مع

12 - باب المزاح

القُدْرة كذبًا، هذا هو الحقيقة، وأما من قال لأحد: أعطيكَ شيئًا، لم يجبْ عليه الوفاءُ بما وعد، بل الوفاءُ بما وعدَ تبرُّعٌ وإحسان. * * * 12 - باب المُزَاحِ (باب المزاح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3792 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُخالِطُنَا حتَّى يَقُولَ لأِخٍ لِي صَغيرٍ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ! ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " كَانَ لَهُ نُغَيرٌ يَلْعَبُ بهِ فَمَاتَ. قوله: "إنْ كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُخَالِطُنا"، (إن) ها هنا مخففةٌ بمعنى المشدَّدة؛ أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجالِسُنا ويمزَحُ. "ما فعل النُّغَير"، نُغَير تصغير نَغْر، وهو اسمُ نوعٍ من الطير. * * * مِنَ الحِسَان: 3793 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! إنَّكَ تُداعِبنا. قال: "إِنِّي لاَ أقَوُلُ إلاَّ حَقًّا". قوله: "تُدَاعِبنا"؛ أي: تَمْزَحُنا. * * * 3794 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلًا استَحْمَلَ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "إنِّي

حَامِلُكَ على وَلَدِ نَاقةٍ"، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهَلْ تَلِدُ الإبلَ إِلاَّ النُّوقُ؟ ". قوله: "اسْتَحْمَلَ"؛ أي: طلبَ منه - صلى الله عليه وسلم - أن يحملَه على دابةٍ. "ما أَصنعُ بولدِ ناقة"، إنما قال الرجلُ هذا الكلامَ؛ لأنه ظنَّ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُه على ولدٍ صغيرٍ لا يطيقُه، فقال الرجل: ما أصنَعُ بولدِ ناقة؛ يعني: ولدٌ لا يطيقُ أن يَحمِلَني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تَلِدُ الإبلَ إلا النُّوقُ"؛ يعني: جميع الإبل تَلِدُه النوقُ. (النوقُ): جمع ناقة، وهي الأنثى من الإبل؛ يعني: جميعُ الإبلِ ولدُ الناقة صغيرًا كان أو كبيرًا؛ يعني: قوله: أحملك على ولد الناقة، أريدُ ولدًا كبيرًا يُطيقَ حملَك، هذا من جملةِ مُزاحهِ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3796 - ورُوِيَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَجوزٍ: "إنَّ الجنَّةَ لا يَدْخُلُهَا العُجَّزُ"، فَوَلَّتْ تَبْكِي. قَالَ: "أَخْبرُوها أنَّها لا تَدْخُلُها وَّهَيَ عَجُوزٌ، إنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارً} ". قوله: "لا يَدْخُلُها العُجُز"، (العُجُزُ) - بضم العين والجيم - جمعُ عجوز. "فولَّتْ تبكي"؛ أي: أعرضَتْ تبكي؛ لأنها ظَنَّتْ أن العجوزَ لا تدخُلُ الجنَّةَ قَطُّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبروها بأنها لا تدخلُ الجنةَ في حال كونِها عجوزًا، بل صيَّرَها الله شابةً بِكْرًا، وكذلك جميعُ الإنسان يكونون على سِنِّ مَن له ثلاثون سنة. قوله تعالى: " {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} "؛ أي: إنا خَلَقْنا وصَيَّرْنا النساءَ يومَ القيامة

أبكارًا شوابَّ. * * * 3797 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا مِنَ البَادِيَةِ اسمُهُ: زاهِرُ بن حَرَامٍ كان يَهدِي للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ البَاديَةِ فيُجَهِّزُهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ زاهرًا بادِيتُنا، ونَحْنُ حَاضروُهُ"، وكَانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّهُ، وكَانَ دَميْمًا، فَأَتَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وهُوَ يَبيعُ مَتاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لا يُبْصِرُهُ، فقال: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ لا يَأْلُو مَا ألْزَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ عَرَفَهُ، وجَعَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: "مَنْ يَشْتَري العَبْدَ؟ "، فقالَ: يا رسولَ الله! إذًا والله تَجِدُني كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِنْ عِنْدَ الله لَسْتَ بِكَاسِدٍ". قوله: "يُهْدِي"؛ أي: يرسلُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من متاع البادية من الرَّياحين والأَدوية. "فيُجَهِّزُه"؛ أي: يهيئُ أسبابَه؛ أي: يعطيه العِوَضَ من أمتعة البَلَد. "إنَّ زاهِرًا بادِيَتُنا، ونحن حاضروه"؛ يعني: إن هذا الرجلَ يأتينا من أمتعة البادية بما نُريد، فكأنه بادِيَتُنا، ونحن نُهْدِي ما يريدُ من أمتعة البَلَدِ فكأنَّا بلدٌ له. "وكان دَميمًا"؛ أي: قبيحَ الوجه. "فاحتضَنَه"؛ أي: أخذَه "من خَلْفِه". "فقال"؛ أي: فقال زاهر: "أرْسِلْني"؛ أي: اتْرُكْني. "لا يألو"؛ أي: لا يُقَصِّرُ، و (لا يألو) معناه: ولا يزال، (ما) في "ما ألْزَقَ": زائدة، (أَلْزَقَ) معناه: أَلْصَقَ. * * *

3799 - عَنِ النُّعْمَانِ بن بشيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكرٍ - رضي الله عنه - عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشةَ رَضيَ الله عَنْهَا عالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَناوَلَها لِيَلْطِمَهَا، وقَالَ: لاَ أَراكِ تَرْفَعينَ صَوْتَكِ على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: "كَيْفَ رأَيْتَنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ "، قَالَتْ: فمكَثَ أَبُو بكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدْ اضْطَجَعَا، فَقَالَ لَهُما: أَدْخِلاَنِي في سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي في حَرْبكُمَا، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: قَدْ فَعَلْنَا، قد فَعَلْنا". قوله: "فتناوَلَها"؛ أي: أَخَذَها "لِيَلْطِمَها"؛ أي: ليضربَها. "فجعلَ"؛ أي: فطَفِقَ "يَحْجِزُه"؛ أي: يمنعُه كي لا يضربَها. "أَنْقَذْتُكِ"؛ أي: خَلَّصْتُكِ "مِنَ الرَّجُل"؛ أي: مِن أبيك. "في سِلْمِكما"؛ أي: في صُلْحِكما. "قد فَعَلْنا"؛ أي: قد أدخلْناك في صُلْحِنا. * * * 3800 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "لا تُمارِ أَخاكَ، ولا تُمازِحْهُ، ولا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ". قوله: "لا تُمَارِ أَخَاك"، هذا نهيُ مخاطَب، من المماراة وهي المخاصَمة. "ولا تمازِحْه"، هذا مخالف للحديث المتقدِّم، ومعناه: لا تمازِحْه بما يتأذَّى منه. * * *

13 - باب المفاخرة والعصبية

13 - باب المُفاخَرَةِ والعَصَبيَّةِ (باب المفاخرة والعصبية) مِنَ الصِّحَاحِ: 3801 - عَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قالَ: "أكْرَمُهُمْ عِنْدَ الله أَتْقاهُمْ"، قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبيُّ الله، ابن نبَيِّ الله، ابن نبَيِّ الله، ابن خَليلِ الله"، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُوني؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قالَ: "فَخِيارُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُم في الإسْلامِ إِذا فَقُهُوا". قوله: "فأكرَمُ الناسِ يوسُفُ نبيُّ الله ... " إلى آخره. "فعن مَعَادِنِ العَرَبِ"، (المعادِنُ): جمع مَعْدِن، وهو موضعٌ يخرُجُ منه الجواهر، ذُكِرَ شرحُ هذا في الحديث الرابع من (كتاب العلم). * * * 3802 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَريمُ، ابن الكَريْمِ، ابن الكَريْمِ، ابن الكَريْمِ: يُوسُفُ بن يَعْقُوبَ بن إسْحَاقَ بن إبْراهِيْمَ صلَّى الله عليْهِم". قوله: "الكريمُ ابن الكريم ... " إلى آخره. يعني: ما أحدٌ هو نبيٌّ، وثلاثةٌ من آبائه أنبياءُ غير يوسفَ صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء. روى هذا الحديثَ ابن عمر - رضي الله عنهما -. * * *

3803 - عَنِ البَرَاءِ بن عَازِبٍ: أَنَّه قَالَ في يَوْمِ حُنَيْنٍ: كَانَ أبو سُفْيانَ بن الحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ - يَعْنِي: بَغْلَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا غَشِيَهُ المُشْرِكونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: "أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابن عَبْدِ المُطَّلِبْ" قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. قوله: "غَشِيَه المشركون"؛ أي: غلبَه المشركون، وجاؤوا من كل جانب. "أَشَدُّ منه"؛ أي: أشجع منه عليه الصلاة والسلام. * * * 3804 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يا خَيْرَ البَرِيَّةِ! فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ إِبراهِيمُ". قوله: "ذاك إبراهيمُ"، هذا القول منه تواضعٌ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - خيرُ المخلوقات أجمعين. * * * 3805 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُطْرُوني كما أَطْرَتْ النَّصَارَى ابن مَرْيَمَ، فإنَّما أنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ الله ورَسُولُهُ". قوله: "لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النَّصَارى"، (لا تُطْروني) أصلُه: لا تُطْرِيُوني، فأُسْكِنَت الراءُ، ونُقِلَت ضمةُ الياء إليها، فحُذِفت الياءُ لسكونها وسكون الواو. (الإطراء): الغلوَّ في المدح؛ يعني: لا تبالِغُوا في مَدْحِي كما بالغت النَّصارى في مَدْحِ عيسى فاتَّخَذُوه إلهًا. * * *

3806 - عَنْ عِياضِ بن حِمارِ المُجاشِعيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ الله أَوْحىَ إلَيَّ أَنْ تَواضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ، ولا يَبْغِي أَحَدٌ على أَحَدٍ". قوله: "لا يَبْغِي أحدٌ على أحد"؛ أي: لا يظلِمُ أحدٌ على أحدٍ. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3807 - عَنْ أَبِي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبائِهِمْ الَّذينَ مَاتُوا، إنَّما هُمْ فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى الله من الجُعَلِ الَّذي يُدَهْدِهُ الخُرْءَ بأَنْفِهِ، إنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وفَخْرَهَا بِالآباءِ، إنَّما هُوَ مُؤْمِنٌ تَقيٌّ، أَوْ فاجِرٌ شَقيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بنو آدمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ". قوله: "أهون"؛ أي: أذلُّ. "الجُعَل"، - بضم الجيم وفتح العين - دُوَيبَّةٌ تديرُ الغائط. "يُدَهْدِه"؛ أي: يردِّد، يدير الخراء والغائط. (العُبيَّة) - بضم العين وكسر الباء وتشديد الياء -: الكِبْرُ والنخوة؛ يعني: لا يجوزُ في الإسلام لأحدٍ أن يتكبَّر على أحد. "إنما هو مؤمنٌ تقِيٌّ"؛ يعني: انقسمَ الخلق على طائفتين: مؤمنٌ تَقِيٌّ، وفاجرٌ شَقِيٌّ، فإن كان مؤمنًا فلا ينبغي للمؤمن أن يتكبَّر، وإن كان فاجرًا فهو ذليلٌ عند الله، والذليلُ لا يستحقُّ التكبر، فقد علم أن التكبُّر منفيٌّ بكل حال. * * *

3816 - وعن مُطَرِّفٍ قَالَ: انطَلَقْتُ في وَفْدِ بنيْ عَامِرٍ إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: أنتَ سَيدنا، فَقَال: "السَّيدُ الله"، فَقُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَال: "قُولُوا قَوْلَكُم، أَوْ بَعْضَ قَولِكُمْ، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشَّيْطَان". قوله: "قولوا قولَكم أو بعضَ قولكم"؛ يعني: قولُوا هذا القولَ أو أقلَّ منه، ولا تبالِغُوا في مدحي بحيثُ تمدحونني بشيء يليقُ بالخالق، ولا يَليقُ بالمخلوق. "ولا يَسْتَجْرِينَّكم الشيطان"، (الجَرِيُّ) - غير مهموز -: الوكيلُ؛ يعني: لا يجعلنَّكَمُ الشيطانُ ولا يتخذنَّكم وُكلاءَ نفسِه في الإضلال والتكلُّمِ بكلماتِ الكفرِ والبدَع والفِسْق. والجريء - مهموزٌ -: الشجاع، فعلى هذا معناه: لا يجعلنَّكم أصحابَ جُرْأَة؛ أي: شجاعة على التكلُّم بما لا يجوز. ذكر هنا: "أن مُطَرِّفًا قال: انطلقتُ في وَفْدِ بني عامرٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -"، هذا سهوٌ، بل الصوابُ أن يقال: مُطَرِّفًا قال: إني انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3808 - عَنِ الحَسَنِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَبُ المَالُ، والكَرَمُ التَّقْوَى". قوله: "الحسبُ المالُ، والكرمُ التقوى"، (الحسب): ما يفتخِرُ به الرجل، وما به عزتُه من خصالٍ حميدةٍ توجَدُ فيه، أو في آبائه، و (الكرم): ضد اللُّؤمِ، بضم اللام؛ يعني: الشيءُ الذي يكون الرجلُ به عظيمَ القَدْر عند الناس هو المالُ، والشيءُ الذي يكونُ الشخصُ به عظيمَ القَدْر عند الله هو التقوى.

قال عمر بن الخطاب: حَسَبُ الرجلِ مالُه، وكرمُه دينُه، وأصلُه عَقْلُه، ومروءَتُه خُلُقه. * * * 3809 - وعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزاءِ الجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوْهُ بِهَنِ أَبيْهِ ولا تَكْنُوا". قوله: "من تَعَزَّى بعزاء الجاهلية": (تَعَزَّى) إلى أحد؛ أي: انتسبَ إليه، والاسمُ: العَزاء، بفتح العين وبالمد؛ يعني: من افتخَر بآبائه وقبائلهِ الكُفَّار. "فأعِضُّوه"؛ أي: قولوا له: اعضضْ بهنِ أبيك، (العَضُّ): أخذُ شيءٍ بالأسنان، "والهَنُ": القبيح من الفعل والقول؛ يعني: قولوا: اذكرْ قبائح آبائك من عبادةِ الصَّنَم والزِّنا وشربِ الخمر وغيرها من القبائح. ويجوز أن يكون معناه: عُدُّوا أنتم المسلمون قبائحَ آبائه؛ يعني: فمن كان له الكُفْرُ والأفعالُ والأقوالُ القبيحة، فكيف يَليقُ به الافتخارُ بآبائه. "ولا تَكْنُوا"؛ أي: ولا تَذْكُرُوا قبائحَه وقبائحَ آبائه، عن الكناية، بل صَرِّحوا بقبائحه، فلعلَّه يَسْتَحِي من الافتخار بآبائه. * * * 3810 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أَبِي عُقَبةَ، عْن أَبِي عُقْبَةَ - رضي الله عنهما -، وكَانَ مَوْلَى مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أُحُدًا، فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكينَ، فَقُلْتُ: خُذْها مِنِّي وأَنا الغُلامُ الفَارِسيُّ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ فقالَ: "هَلاَّ قُلْتَ: خُذْها مِنّي وأَنا الغُلامُ الأَنْصَارِيُّ؟ ". قوله: "خُذْها مِنِّي"، عادةُ المحاربين إذا جَرَّحُوا أحدًا أن يخبرَ الجارحُ

المجروحَ باسمه؛ لإظهارِ الشجاعةِ بأن يقول: أنا الذي جَرَحْتُكَ، وأنا فلانُ ابن فلان، من القوم الفلاني، فلمَّا انتسبَ هذا الراوي إلى أهل فارسَ، فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الانتسابِ إلى الكفار؛ لأن أهلَ فارس كانوا كفارًا في ذلك الوقت. الضمير في (خذها) ضميرُ الضربة؛ أي: خذ هذه الضَّرْبةَ أو الطَّعْنةَ مني. * * * 3811 - عنِ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الحَقِّ فَهُوَ كَالبَعيْرِ الَّذي ترَدَّى، فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبهِ". قوله: "من نصَر قومَه على غير الحَقِّ فهو كالبعير الذي رَدَى، فهو يَنْزِعُ بذَنبه"، (رَدَى)؛ أي: هَلَك. قال الخَطَّابي: معنى هذا: أنه وقعَ في الإثم وهلكَ وصار كبعيرٍ وقعَ على رأسه في بئر، فينزِعُ بذنبَهِ؛ أي: ينزِعُ الناسُ ذَنَبَه ليخرجوا من البئر. * * * 3813 - وعَنْ سُراقَةَ بن مالِكِ بن جُعْشُمٍ قَالَ: خَطَبنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "خَيْرُكُمْ المُدافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ". قوله: "خَيْرُكم المُدَافِعُ عن عشيرته ما لم يَأْثَم"؛ يعني: خيرُكم مَنْ يَدْفَعُ الظُّلْمَ عن أقاربه ما لم يظلِمْ على المدفوع؛ يعني: لو قدرَ أن يدفع الظالم بكلام أو ضرب لم يجز له أن يقتله. * * * 3814 - عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعا

14 - باب البر والصلة

إِلَى عَصَبيَّةٍ، ولَيْسَ مِنّا مَنْ قاتَلَ عَصَبيَّةً، ولَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبيَّةٍ". قوله: "من دعا إلى عصبية"، العصبيةُ: معاونةُ الظالمِ؛ يعني: ليس منا من جمعَ جيشًا ليحاربوا قومًا بالباطل. * * * 3815 - عَنْ أَبيْ الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "حُبُّكَ الشَّيءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". قوله: "حبُّكُ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ"، (يُعْمِي)؛ أي: يَجْعَلُ أَعْمَى، ويُصِمُّ؛ أي: يَجْعَلُ أَصَمَّ؛ يعني: إذا أحببتَ أحدًا لا تبصرُ فيه عيبًا، ولا تسمعُ منه كلامًا قبيحًا، بل تعتقِدُ جميعَ ما يَصْدُرُ منه حسنًا. * * * 14 - باب البرِّ والصِّلَةِ (باب البر والصلة) مِنَ الصِّحَاح: 3817 - عَنْ أَبِي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتي؟ قال: "أُمُّكَ"، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: "أُمُّكَ"، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: "أُمُّكَ"، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أبوكَ". ويُروَى: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: "أمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَباكَ، ثُمَّ أَدْناكَ أدناك".

قوله: "بحسن صحابتي"؛ أي: بحسن صُحْبتي؛ يعني: من الأَولى بأن أُحْسِنَ إليه. * * * 3819 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ"، قِيْلَ: مَنْ يا رسولَ الله! قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أَحَدَهُما أَوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ". قوله: "من أَدْرَكَ والديه عند الكِبَر: أحدُهما أو كلاهما"، (عند الكِبَر): ظرفٌ في موضع الحال، والظرفُ إذا كان في موضع الحال يرفعُ ما بعدَه، فأحدُهما مرفوعٌ بالظرفَ، و (كلاهما) معطوفٌ على (أحدهما)؛ يعني: من لم يخدمْ أبويه أو أحدَهما بقدرِ ما يدخلُه الله به الجنة صارَ ذليلاً. وإنما خصَّ حالَ الكِبَر بالخدمة مع أن خدمة الأبوين محمودةٌ في جميع الأحوال؛ لأن أبويه عنده الكِبَر أحوجُ إلى الخدمة، فالثوابُ في الخدمة عند شِدَّةِ الحاجةَ أكثرُ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3820 - وعَنْ أَسْمَاءَ بنتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّها قَالَت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله! إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وهيَ راغِبةٌ، أفَأَصِلُها؟ قالَ: "نَعَمْ، صِليْهَا". قوله: "وهي راغبة"؛ أي: طالبةٌ لعطائي، ويُرْوَى: (وهي راغمة)، وعلى هذه الرواية معناه: وهي ذليلةٌ محتاجَةٌ لعطائي.

"أفأَصِلُها"؛ يعني: أفأعطيها شيئًا. "صِلِيها"؛ أي: أَعْطِيها؛ يعني: الإحسان إلى الكفار. * * * 3820/ م - وعَنْ عَمْرِو بن العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ آلَ أَبِي فُلانٍ لَيْسوا لي بأَوْلِياءَ، إنَّما وَلييَ الله وصَالِحُ المُؤْمِنينَ، ولكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّها ببَلالِها". قوله: "أَبُلُّها"؛ أي: أصِلُ تلك الرحم. "ببلالها"، و (البلالُ) - بكسر الباء -: السببُ الذي يوصَلُ الرَّحِمُ به، وهو الإحسان إلى الأقارب، ومعاونتُهم، وخدمتُهم. * * * 3821 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله حَرَّمَ عَلَيكُم عُقُوقَ الأُمَّهاتِ، وَوَأْدَ البناتِ، ومَنْعًا وَهَاتِ، وكَرِهَ لَكُم قِيلَ وقَالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ". قوله: "عقوقُ الأُمَّهات"؛ أي: عصيانَ الأُمَّهات، ذَكَرَ الأمهات والمراد: الآباء والأُمَّهات وإن عَلَوا. "ووَأْد البنات"، (الوَأْدُ): دَفْنُ البنتِ حية؛ يعني: قتل البنات كما هو عادة أهل الجاهلية. "ومنع وهات"؛ يعني: حرم عليكم أخذ ما لا يجوز لكم أخذه. "وكَرِهَ لكم قيل وقال"، (قيل): ماضٍ مجهول، (وقال): ماضٍ معروف، وكَرِهَ الله لكم التحدُّثَ بالحكايات التي ليس فيها ثوابٌ ولا ضرورةَ لكم فيها؛ لأن كثرةَ الكلام قسوةٌ للقلوب.

"وكثرة السؤال"؛ يعني: كثرة السؤال من العلماء فيما لا حاجةَ لكم فيه من المعاندة والمعارَضة، فأما إذا سألتم ما تحتاجون إليه، وما في تعلُّمهِ خيرٌ وثوابٌ، فلا يُكْرَه كثرةُ السؤال من هذا العلم، بل يُستحَبُّ. "وإضاعة المال"؛ يعني: صَرْفُ المال فيما ليس في صَرْفهِ خيرٌ لكم. روى هذا الحديثَ مغيرةُ. * * * 3822 - وقَالَ: "مِنَ الكَبائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ والِدَيْهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! وهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قال: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَباهُ، وَيسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ". قوله: "من الكبائر شَتْمُ الرجل والديه"؛ يعني: إذا شتمتَ أبا أحدٍ فيشتمُ ذاك الأحدُ أباك، وكأنكَ شتمْتَ أباك، وهل هذا من الكبائر أم لا؟ فانظر، فإنْ كان الشتمُ بنسبة الزِّنا إلى أحد، أو بكفْرٍ، أو بهتانٍ، فهو من الكبائر، وإن كان بلفظ: يا أحمقُ، أو أبوك أحمقُ، أو طويلٌ، أو قصيرٌ، وما أشبه ذلك، فليس من الكبائر الثمانيةَ عشرةَ المعروفة، وقد اختلف في الكبائر اختلافًا كثيرًا، وقد ذكر في أول الكتاب في (باب الكبائر). روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمر. * * * 3823 - وقَالَ: "إنَّ مِنْ أَبَرِّ البرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أَبيهِ، بَعْدَ أَنْ يُوَلِّي الأَبُ". قوله: "إن من أبرِّ البرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ"؛ يعني: أفضلُ البرِّ أن يُحْسِنَ الرجل إلى أحباءِ أبيه بعد أن يُولِّيَ أبوه.

(وَلَّى يُوَلِّي): إذا أدبر؛ يعني: بعد موت أبيه، هذا إشارةٌ إلى تأكيد حقِّ الأب، فإنه إذا كان الإحسانُ إلى أحباءِ الأب لحرمة الأبِ أفضلَ البرِّ، فالإحسان إلى الأب بطريق الأَولى أن يكون أفضلَ القُرُبات. روى هذا الحديثَ ابن عمر. * * * 3824 - وقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ". قوله: "ويُنْسَأَ له في أَثَرِه"؛ أي: يؤخَّر في أجله، النَّسْءُ: التأخير، و (الأَثَر): الأجل. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 3825 - وقَالَ: "خَلَقَ الله الخَلْقَ، فَلمَّا فَرَغَ مِنْهُ قامَتْ الرَّحِمُ فأَخَذَتْ بِحِقْوَي الرَّحمَنِ، فقالَ: مَهْ؟ قَالَتْ: هَذَا مَقامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطيعَةِ، قَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، يَا رَبُّ! قَالَ: فَذَاكَ لَكِ". قوله: "بحِقْوَي الرحمن"، الحِقْو: الإِزارُ، (بِحِقْوَيِ الرَّحْمن)؛ أيما: بإزارَي الرحمن، والمراد بالإزارين هنا: ما أراد بقوله: "الكبرياءُ رِدَائي، والعظمةُ إزاري". يعني: التجأتِ الرَّحِمُ وعاذت بعزة الله وعظمتِه من أن يَقطعَ أحدٌ الرَّحِم. "مه"؛ أي: اكففْ وامتنعْ عن هذا الفعل؛ أي: التجأ؛ يعني: مالك ولأي سببٍ عُذْتِ بي. "هذا مقام العائذ بك"؛ يعني: من التجأ إلى أحدٍ وتمسَّكَ بحِقْوهِ؛

يعني: سبب عياذي بحِقْوِكَ تعالى: خشيةُ أن يقطعَني أحدٌ. "فذاك"؛ أي: أفعلُ ما قلتُ مِن وصْلي مَن وصلَكِ، وقَطْعي مَن قَطَعكِ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3826 - وقَالَ: "الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، قالَ الله تَعَالَى: مَنْ وَصَلكِ وَصَلْتُهُ، ومَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ". قوله: "شجْنةٌ"، بضم الشين وكسرها وبالجيم؛ أي: قرابةٌ متَّصِلة؛ أي: الرَّحِمُ مُشتقَّةٌ من الرحمن؛ أي: الرَّحِمُ موجودةٌ في حروف الرحمن، وكلا اسمين من الرحمة؛ يعني: صلةُ الرَّحِم رحمةٌ من الله الكريم على عباده؛ لأنه يحصلُ لواصل الرَّحِم رحمةٌ من الله الكريم على عباده، ويصل إلى بعض الأقارب مِن بعضهم شفقةٌ ورحمةٌ ونُصْرةٌ. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3827 - وقَالَ: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تَقوْلُ: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ الله، ومَنْ قَطَعَني قَطَعَه الله". قوله: "الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعَرْش"؛ أي: متمسِّكَةٌ بالعرش، نعوذُ بالله مِن قَطْعِ الرَّحِم. روت هذا الحديث عائشةُ. * * * 3828 - وقَالَ: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قاطِعُ رَحِمٍ".

قوله: "لا يدخلُ الجنَّةَ قاطعُ الرحم"، إنْ قَطَعَ الرَّحِمَ عن اعتقادِ جَوَازِ قَطْعِها؛ لأنه كافرٌ باستحلاله الحرامَ، وإن لم يستحِلَّ قَطْعَ الرَّحِم، فمعنى هذا الحديث: أنه لا يدخلُ الجنةَ حتى يَطْهُرَ من ذنبِ قَطْعِ الرَّحمِ، إما بأن يعفوَ الله عنه، أو يعذِّبَه بقَدْر ذنبه. روى هذا الحديثَ جُبير بن مُطْعِم. * * * 3829 - وقَالَ: "لَيْسَ الوَاصِلُ بالمُكَافِئِ، ولَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها". قوله: "ليس الواصلُ بالمكافِئ"؛ يعني: ليس واصِلُ الرَّحِمِ من يفعلُ بأقاربه ما فعلُوه به؛ أي: إذا وصلوه وصَلَهم، وإذا قَطَعُوه قَطَعَهم، بل الواصلُ من إذا وصَلُوه وصَلَهم، وإذا قَطَعُوه وَصَلَهم. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمر. * * * 3830 - وعَنْ أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله! إِن لِيْ قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيقْطَعُوني، وأُحْسِنُ إلَيْهِمْ ويُسيؤونَ إلَيَّ، وأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فقالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يَزالُ مَعَكَ مِنَ الله ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِك". قوله: "فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ"، (سفَّ وأَسَفَّ): إذا ألقى الدَّقيقَ في الفم، وفَرَّقَ الترابَ على وجهٍ شيء، (المَلُّ): الجَمْر والرَّمَاد. يعني: إذا لم يشكُروا إحسانَك إليهم، فكأنما تلقي إليهم النار؛ لأنَّ

عطاءك عليهم حرامٌ، فيحصلُ لهم النارُ بسببِ تركِ شُكْرِهم نِعَمَك. * * * مِنَ الحِسَانِ: 3831 - عَنْ ثَوبَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرُدُّ القَدَرَ إلاَّ الدُّعاءُ، ولا يَزيدُ في العُمُرِ إلاَّ البرُّ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنْبِ يُصِيبُهُ". قوله: "وإنَّ الرجل لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذنب يصيبُه"؛ يعني: وإن الرجلَ ليصيرُ محرومًا من الرزق بشؤمِ اكتسابهِ ذنبًا. وهذا يؤوَّل على تأويلين: أحدهما: أن يرادَ بالرزق هنا الثوابُ ودرجة الأُخْروية، ولا شكَّ أن الرجلَ متى ما يقِلُّ ذنبُه تكثرُ درجته الأخروية، ومتى ما يكثرُ ذنبه تَقِلُّ درجتُه الأُخْرَوية. والتأويل الثاني: أن يرادَ بالرزق الرزقُ الدنيوي من المال والصحة والعافية، وعلى هذا التأويل يُشْكِلُ الحديثُ، وإنما ترى الكفارَ والفُسَّاقَ أكثر مالًا وصحةً من الصُّلَحَاء. ورُفِعَ هذا الإشكالُ بأن يقول: هذا الحديثُ ليس بعامٍّ، بل هو خاصٌّ في حقِّ بعض الناس، فإن الله تعالى إذا أراد أن يحفظَ مسلمًا عن الذنب، وأن يريدَ دخولَه الجنةَ بلا تعذيبٍ يُصفِّيه من الذنوب في الدنيا، بأن يعاقبَه في الدنيا بسبب ذنبٍ يفعلُه، فإذا أذنبَ ذلك المسلمُ ذنبًا أصابَه عَقِيبَ ذلك الذنب فقرٌ وضيقُ قلبٍ ومرضٌ وجراحةٌ وغيرُ ذلك، وأَلهمَه أن هذا الفقرَ وضيقَ القلب وغيرَها بسبب شؤم ذلك الذنب؛ لينتبَه ذلك المسلمُ، ويتوبَ عن الذنب. فهذا المسلم هو المرادُ بهذا الحديث لا الكُفَّارُ وبعضُ الفُسَّاق، فإنَّ الله

قال في كلامه القديم: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]. الإملاءُ: الإمهالُ والتأخيْر في الأجل؛ يعني: نطوِّل أعمارَهم، ونكثَّرُ أرزاقهم، ونُطَيب معايشَهم في الدنيا؛ لتكثيرِ عذابهم في الآخرة، وكذلك في حقٍّ بعضِ الفُسَّاق. * * * 3833 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رِضا الرَّبِّ في رِضَا الوَالِدِ، وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الوَالِدِ". قوله: "رضا الرب في رضا الوالد"؛ يعني: إذا رضيَ الوالدُ رضيَ الرَّبُّ عنه، وكذلك السُّخْطُ، وذَكَرَ الوالدَ، والمرادُ منه: الوالدةُ أيضًا، بل حقُّ الوالدة آكَدُ، وكذلك جميعُ الآباء والأمهات وإن عَلَوا داخلون في هذا الحديث، إلا أنَّ مَن هو أقربُ حَقُّه آكَدُ. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمر. * * * 3834 - عَنْ أَبيْ الدَّرْدَاءَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَحَافِظْ عَلَى البَابِ أَوْ ضَيعْ". قوله: "أَوْسَطُ أبواب الجَنَّة"؛ يعني: للجنَّةِ أبوابٌ أَحْسَنُها دخولاً: أَوْسَطُها، وسببُ دخول ذلك الباب المتوسَّط: حقوقُ الوالدين، فمن حَفِظَ حقوقَهما يسهلْ عليه دخولُ ذلك الباب، ومن ضَيَّعَ - أي: تركَ - حقوقَهما لم يدخل ذلك الباب، وهذا الحديث تحريضٌ على محافظة حقوق الوالدين. * * *

3836 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عَوْفٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قالَ الله تباركَ وتعالى: أنا الله، وأنا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وشَقَقْتُ لها من اسمي، وَمَنْ وَصَلَها وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعها بَتَتُّهُ". قوله: "شققَتُ لها من اسمي"؛ ذكر هذا في قوله: "الرَّحِمُ شَجْنَةٌ من الرحمن". "بَتَتُّه"؛ أي: قَطَعْتُه؛ أي: جعلْتُه محرومًا من رحمتي. * * * 3838 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصاحِبهِ العُقوبَةَ في الدُّنْيا مَعَ ما يَدَّخِرُ لهُ في الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وقَطيعَةِ الرَّحِمِ". قوله: "أَحْرَى"؛ أي: أَجْدَرُ وأقرب. "مع ما يَدَّخِرُ"؛ أي: مع ما يُعِدُّ ويهيئُ من عذاب الآخرة. (والبغيُ): الظلمُ والتكبر. * * * 3839 - وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عاقٌّ، ولا مُدْمِنُ خَمْرٍ". قوله: "مَنَّانٌ"؛ أي: الذي يَمُنُّ على الناس بما يُعْطِيهم. "العاقُّ": الذي يعصِي والديه. "المُدْمِنُ": المداوم. * * * 3840 - وقال: "تَعَلَّمُوا من أَنْسابكَمْ ما تَصِلُونَ بِهِ أَرْحامَكُمْ، فإنَّ صِلَةَ

الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ في الأَهْلِ، مَثْراةٌ في المالِ، مَنْسَأَةٌ في الأَثَرِ"، غريب. قوله: "تعلَّموا من أنسابكم ما تَصِلُون به أرحامَكم"؛ يعني: تعلَّموا أسماء آبائكم وأجدادِكم وأعمامِكم وأخوالِكم وجميعِ آبائكم؛ لتعرِفُوا أقاربكم؛ ليمكنكم صلةُ الرَّحِم، فإنَّ معنى صلةِ الرَّحِم معاونةُ الأقاربِ والإحسانُ إليهم والتلطُّفُ بهم، ومجالسَتُهم ومكالمَتُهم ومداخلَتُهم وما أشبهَ ذلك مما يتعلَّق بالتقرب إليهم والشفقةِ عليهم، وما لم يَعْرِفِ الرَّجُلُ أقاربَه لم يُمْكِنْه صلةُ الرَّحِم. "محبةٌ في الأهل"؛ يعني: إذا كان بين الآباء تواصلٌ وتعارفٌ تكون بين الأولاد محبةٌ مثوبات في المال. * * * 3841 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! إِنِّي أَصَبْتُ ذَنبًا عَظيمًا، فهل لي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قالَ: "هل لكَ مِنْ أُمًّ"؟ قالَ: لا، قالَ: "وهَلْ لكَ مِنْ خالَةٍ"؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: "فَبرَّها". قوله: "فبرَّها"، هذا أمر مخاطب من (بَّر يَبَرُّ) بوزن (عَلِمَ يَعْلَم): إذا أحسنَ إلى أحدٍ، كان ذلك الذنب ذنبًا. عَلِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صِلَةَ الرَّحِم تكون كفارةً لها، وكان ذلك الذنبُ من الصغائر لا من الكبائر، وإن كان من الكبائر كان مخصوصًا بذلك الرجل. فإن قيل: قال الرجل: أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فلم قُلْتم إنه ليس من الكبائر؟ قلنا: ظنَّ ذلك الرجلُ ذلك الذنبَ عظيمًا، وإن كان من الصغائر وهكذا؛ ليعتقدَ كلُّ مسلمٍ، فإنه لا يجوزُ أن يَحْتَقِرَ المسلمُ الذنبَ وإن كان صغيرًا، فإنَّ عصيانَ الله تعالى ليس بصغيرٍ، وإن كان ذنبًا يسيرًا، ولكنَّ الذنوبَ وإن كانتْ

15 - باب الشفقة والرحمة على الخلق

بالنسبةِ إلى عصيانِ الله عظيمةً كلها، ولكنْ بينهما تفاوتٌ كثيرٌ في الإثم، فسُمِّيَ بعضُها كبائرَ، وبعضُها صغائرَ، وقد ذكر الكبائر في أول الكتاب في (باب الكبائر). * * * 3842 - عن أبي أُسَيْدٍ السَّاعدِيِّ قال: بينا نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَه رَجُلٌ مِن بني سَلَمَةَ فقالَ: يا رسولَ الله! هل بقيَ مِن برِّ أَبَوَيَّ شيءٌ أَبَرُّهُما بهِ بعدَ مَوْتهِما؟ قال: "نعم، الصَّلاةُ عليهما، والاستِغْفارُ لهما، وإنفاذُ عَهْدِهِما مِن بَعدِهِما، وصِلَةُ الرَّحِم التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صَديقِهِما". قوله: "وصلةُ الرَّحِم التي لا تُوْصَلُ إلا بهما"؛ يعني: صلة الأقارب التي تتعلَّقُ بالأب والأم؛ يعني: الإحسان إلى أقاربِ الأبِ والأمِّ. * * * 15 - باب الشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ على الخَلْقِ (باب الشفقة والرحمة على الخلق) مِنَ الصِّحَاحِ: 3845 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَتُقَبلونَ الصِّبيانَ؟ فما نُقبلهُم، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ أَمْلِكُ لكَ أنْ نَزَعَ الله مِن قَلْبكَ الرَّحْمَةَ؟ ". قوله: "أوَ أملِكُ لك أنْ نزعَ الله مِن قلبكِ الرحمةَ"؛ أي: أوَ أملك دفعَ نَزْعِ الله الرحمةَ من قلبك؛ يعني: تقبيلُ الأطفالِ شفقةٌ ورحمةٌ، فإذا لم يكن في قلبك

هذه الشفقةُ والرحمة، فقد نزعَ الله الرحمةَ من قلبك، ولا أقدِرُ أن أضعَ في قلبك شيئًا نزَعَه الله من قلبك. * * * 3846 - وعن عائِشَةَ قالت: جاءتني امرَأَةٌ مَعَها ابنتانِ تَسألُني، فلم تَجِدْ عندي غيرَ تمرةٍ واحدةٍ، فأعطيتُها، فقَسَمَتْها بينَ ابنتَيْها، ثُمَّ خَرَجَتْ، فدخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحدَّثتُه، فقال: "مَن يَلي مِن هذه البناتِ شيئًا فأَحْسَنَ إليهِنَّ كُنَّ له سِتْرًا مِن النَّارِ". قوله: "من بُلِيَ"؛ أي: من ابْتُلِيَ. * * * 3848 - وقال: "السَّاعي على الأَرْمَلَةِ والمِسْكينِ كالسَّاعي في سبيلِ الله"، وأحسِبُه قالَ: "كالقائِم لا يَفْتُرُ، وكالصَّائمِ لا يُفطِرُ". قوله: "الساعي على الأرملة"، (الأرملة): المرأةُ التي لا زوجَ لها؛ يعني: من أعانَ أرملةً وأحسنَ إليها يكونُ ثوابُه كثوابِ الغازي، وكثوابِ الذي يصومُ النهارَ ولا يُفْطِر، ويقومُ الليل ولا يَفْتُر؛ أي: ولا يتركُ العبادة. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3849 - وقال: "أنا وكافِلُ اليَتيمِ، لهُ ولغَيرِهِ، في الجَنَّةِ هكذا"، وأشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفرَّجَ بينَهما شيئًا. قوله: "أنا وكافلُ اليتيم، له ولغيره"، أراد بكافل اليتيم: الذي يُرَبي يتيمًا ويُحْسِنُ إليه (له ولغيره)؛ يعني: سواءٌ كان اليتيمُ له كابن ابنهِ وإن سَفَلَ، أو ابن

أخيه، أو كانت امرأة تربي ولدَها الذي مات أبوه، أو أحدٌ يربي ولدَ أجنبيِّ مات أبوه، كلُّ ذلك في الأجر سواءٌ. روى هذا الحديثَ سهل بن سعد. * * * 3850 - وقال: "تَرَى المُؤْمنينَ في تَراحُمِهِم وتَوادِّهم وتَعاطُفِهم كمثلِ الجَسَدِ، إذا اشتكَى عُضْوًا تداعَى لهُ سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى". قوله: "تَدَاعى له سائرُ الجَسَد بالسَّهَر والحُمَّى"، التَّدَاعِي: أن يدعوَ بعضُ القوم بعضًا، ويتَّفِقُوا على فعلِ شيء. (السَّهَرُ): مفارقةُ النوم؛ يعني: كما أن الرجلَ إذا تألَّمَ بعضُ جسده يَسْرِي ذلك الألمُ إلى جميعِ جَسَدِه، فكذلك المؤمنون؛ ليكونوا كَنْفسٍ واحدةٍ إذا أصابَ أحدًا مصيبةٌ ليغتمَّ بتلك المصيبة جميعُ المؤمنين، وليقْصِدُوا إزالتها عنه. روى هذا الحديثَ والذي بعدَه النعمانُ بن بشير. * * * 3852 - وعن أبي مُوسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كالبنيانِ يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضًا"، ثُمَّ شَبَّكَ بينَ أصابعِه. قوله: "وشَبَّكَ بين أصابعه"، شَبَّكَ تَشْبيكًا: إذا أدخلَ أصابعَ أحدِ اليدين بين أصابعِ اليد الأخرى؛ أي: كما أن هذه الأصابعَ أُدْخِلتْ بعضُها بين البعض، فكذلك ليكنِ المؤمنون داخلِين بعضُهم في بعض؛ يعني: ليحتَسِبْ بعضُ المؤمنون بعضًا كنَفْس واحدة، وليتَّصِلْ بعضُهم ببعض، وليُعِنْ بعضُهم بعضًا. * * *

3853 - وعنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كانَ إذا أتاهُ السَّائِلُ أو صَاحِبُ الحاجَةِ قال: "اِشفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ويقضي الله على لسانِ رسولِهِ ما شاءَ". قوله: "اشفعُوا فلتؤجروا"؛ يعني: إذا عرضَ صاحبُ حاجةٍ حاجتَه عليَّ اشفعوا له إليَّ، فإنكم إذا شَفَعْتُم له إليَّ حصلَ لكم بتلك الشفاعة أجرٌ سواءٌ قَبلْتُ شفاعتَكم أو لم أقبل؟ قوله: "وإنما يقضي الله على لسان رسوله ما شاء"؛ أي: وإنما يُجْرِي الله على لساني ما شاء؛ يعني: إن قضيتُ حاجةَ مَنْ شَفَعْتُم له فهو بتقدير الله، وإن لم أقضِ فهو أيضًا بتقدير الله تعالى. * * * 3854 - وقال: "اُنصُرْ أخاكَ ظالمًا أو مَظْلومًا"، فقال رَجُلٌ: يا رسولَ الله! أَنصُرُه مَظْلومًا، فيكفَ أنصُرُه ظالِمًا؟ قال: "تمنعُه مِن الظُّلمِ، فذلك نَصْرُكَ إيَّاهُ". قوله: "فذلك نَصْرُك إياه"، (ذلك): إشارةٌ إلى المَنعْ؛ أي: مَنْعُكَ أخاك من أن يظلمَ أحدًا نَصْرُك إياه؛ لأنَّ النَّصْرَ دَفْعُ الضَّرَرِ عن أَحَدٍ، وإذا منعتَ أحدًا عن الظلم فقد دفعتَه عن الإثم الذي هو سببُ دخولِه النار، فكأنك دفعتَ النارَ عنه، وأيُّ نُصْرةٍ أكملُ مِنْ دفعِكَ النارَ عن أخيك. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * * 3855 - وقال: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِم، لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كانَ في حاجَةِ أخيهِ كانَ الله في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً فرَّجَ الله عنه كُرْبةً

مِن كُرُباتِ الآخِرَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَه الله يَوْمَ القِيامَةِ". قوله: "ولا يُسْلِمُه"، بضم الياء وسكون السين؛ أي: ولا يَخْذُله عن النُّصْرة، ولا يَتركُه في أيدي الأعداء، بل يُخلِّصُه من أيديهم، والنفيُ هنا بمعنى النهي. روى هذا الحديثَ سالمُ بن عبد الله بن عمرَ، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3856 - وقال: "المُسْلِمُ أخو المُسْلِم، لا يَظلِمُه، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُه، التَّقْوَى ههنا"، ويُشيرُ إلى صَدْرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ، "بِحَسبِ امرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يحقِرَ أخاهُ المُسْلِمِ، كلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ، دمُه، ومالُه، وعِرْضُه". قوله: "التَّقْوى ها هنا، ويشيرُ إلى صدره"؛ يعني: لا يجوزُ تحقيرُ المُتَّقِي من الشِّرْك والمعاصي، والتقوى محلُّها القلبُ، وما كان محلُّه القلبَ يكونُ مخفيًا عن أعينِ الناس، وإذا كان مخفيًا، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يحكمَ بعدم تقوى مسلمٍ حتى يحتقره، بل لا يجوزُ تحقيرُ مسلم. ويحتمل أن يكون معناه: محلُّ التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى فلا يحقِرْ مسلمًا؛ لأن المُتَّقِيَ لا يَحْقِرُ المُسْلِمَ. "بحسْبِ امرئٍ"، الباء زائدة؛ يعني: حَسْبُ امرئ؛ أي: كفى للمؤمن من الشرِّ تحقيرُ المسلمين؛ يعني: إن لم يكن له مِن الشرَّ سوى تحقيرِ المسلمين يكفيه في دخوله النارَ. روى هذا الحديثَ أنس. * * *

3857 - وقالَ: "أَهْلُ الجَنَّةِ ثلاثةٌ: ذو سُلْطانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ رحيمٌ رقيقُ القَلْبِ لكلَّ ذي قُربَى ومُسْلِمٍ، وعَفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عيالٍ، وأهلُ النَّارِ خَمْسةٌ: الضَّعيفُ الذي لا زَبْرَ لهُ، الذينَ هم فيكم تَبَعٌ، لا يَبغُونَ أهلًا ولا مالًا، والخائِنُ الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإنْ دَقَّ إلا خانَهُ، ورَجُلٌ لا يُصْبحُ ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعُكَ عن أهلِكَ ومالِكَ"، وذكرَ البُخْلَ والكذِبَ، "والشِّنْظيرُ الفَحَّاشُ". قوله: "أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقْسِط متصدِّق موفَّق"؛ يعني: أحدُ الثلاثة: (ذو سلطان)؛ أي: ذو حُكْمٍ وسَلْطنة، (مقسط)؛ أي: عادلٌ، (متصدِّق)؛ أي: مُحْسِن إلى الناس، (موفَّق) بفتح الفاء؛ أي: الذي رُزِقَ طاعةَ الله، والعَدْلَ في الحُكْم. "ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلِّ ذي قُربى ومسلم"؛ يعني: الثاني: مَن في قلبه رِقَّة؛ أي: شفقةٌ ورحمةٌ على الأقارب والأجانب. "وعفيفٌ متعفَّفٌ ذو عِيالٍ"؛ يعني: الثالثُ من كان عفيفًا؛ أي: صالحًا، (متعفِّفًا)؛ أي: مانعًا نفسَه عمَّا لا يليقُ مع أنه ذو عِيال؛ يعني: يتركُ المال، ويتباعد عنه، وإن كان له عيال، ولا يحمِلُه حبُّ العيال على تحصيلِ المال الحرام، بل يختار حبَّ الله على حبِّ العيال. (العفيف): الذي يمنعَ نفسه عن الحرام، و (المتعفِّف): له معنيان: أحدهما: الذي يحمِلُ على نفسه بالكُرْه العِفَّةَ؛ أي: الامتناع من الحرام. الثاني: الذي يُظْهِرُ عن نفسه العِفَّة مع أن العِفَّة موجودةٌ فيه، بأن يكون عفيفًا، ويُظْهِرُ العِفَّةَ عن نفسه، بلُبس لِباسِ الصالحين ليقتديَ به في الصلاح من رآه. وبعضُ الناس فيه العِفَّةُ ولا يُظْهِرُها عن نفسه، بل يلبَسُ لباسَ غيرِ

الصالحين، ويقال لمن له هذه الصفة: ملا ميتا، وهذه الصفة غير مرضيَّةٍ في الشرع، كي لا يغتابَه الناسُ بأن يقولوا فيه: إنه فاسقٌ، وكي لا يغترَّ به بعضُ الناس، ويقول: فإذا كان فلانٌ فاسقًا فأكونُ مثله. "وأهل النار خمسة: الضعيفُ الذي لا زَبْرَ له"؛ أي: لا عَقْلَ. "الذين هم فيكم تَبَعٌ لا يَبْغُون أهلًا ومالًا"؛ يعني: أحدُ الخمسة هذه الطائفة. وأراد بـ (الضعيف): من كانت شهوتُه غالبةً عليه بحيث لا يقدِرُ على دَفْعِ نفسِه، بل يفعلُ ما أمرتْه نفسُه من المعاصي. وأراد بـ (العقل) هنا: العقل الذي يمنعُ الرجلَ من المعاصي. وأراد بـ "الذين هم فيكم تبع": الذين يدورون حول الأمراء والرئيس ويخدمونهم، ويأخذون الناس ويضربونهم، ولا يبالون بما يأكلُون ويشربون ويلبَسُون ويجامعون، أمن الحرام هو أم من الحلال؟ "لا يبغون"؛ أي: لا يطلبون "أهلًا"؛ أي: زوجةً، بل كلُّ امرأة يقدِرُون عليها يفعلُون بها ما يريدون، ولا يطلبون مالًا حلالًا، بل كل مال يقدِرون عليه يأخذونه. ويقال لهؤلاء بالفارسي: سرهنك ويرده دار، وكذلك عادة الجواليق. "والخائن الذي لا يَخْفَى له طمعٌ وإن دَقَّ إلا خانه"، روى هذا الحديثَ عياض بن حمار. * * * 3858 - وقالَ: "والذي نَفْسي بيدِه، لا يؤمنُ عبدٌ حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنَفْسِه".

قوله: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبدٌ حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"، هذا نفيُ كمالِ الإيمان، لا نفيُ أصلِ الإيمان، ولأنَّ أحدَ العدوَّين لا يحبُّ خيرَ العدوِّ، بل يريد وصولَ الضَّرر إليه، ومع هذا لا يكون كافرًا بهذه العداوة. روى هذا الحديثَ أنس. * * * 3859 - وقالَ: "والله لا يُؤْمِنُ، والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ"، قيلَ: مَن، يا رسولَ الله؟ قال: "الذي لا يَأْمَنُ جارُه بَوائِقَه". قوله: "لا يأمن جارُه بوائِقَه"، (البَوائِقُ): جمع بائقة وهي الداهية، والمراد بها ها هنا الضَّرر والمشقة. روى هذا الحديثَ أبو شُرَيح الكَعْبي، وأبو هريرة. * * * 3861 - وقالَ: "ما زالَ جِبْريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظَنَنْتُ أنه سَيُوَرِّثُه". قوله: "لا يزال جبريلُ يوصيني بالجار"؛ يعني: يأمرني بحفظ حقِّ الجار، والإحسان ودفعِ الضَّرر عنه. روت الحديثَ عائشة. * * * 3862 - وقالَ: "إذا كُنْتم ثلاثةً فلا يَتَنَاجَى اثنانِ دونَ الآخرِ حتى يختلِطُوا بالنَّاسِ مِن أجْلِ أنْ يُحْزِنَه". قوله: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دونَ الآخر"، لو حضرَ ثلاثةٌ موضعًا، ولم يكنْ معهم غيرُهم، فلا يجوز أن يتناجَى اثنان بحيث لا يسمعُ

الثالثُ كلامَهما؛ لأن الثالثَ يظنُّ حينئذ أنهما يقولان فيه شيئًا قبيحًا، فيحزَنُ من قولهما. "حتى يختَلِطُوا بالناس"؛ يعني: لا يجوز تناجي اثنين حتى يجتمعَ الناسُ أكثرَ من ثلاثة، فإذا كثر الناسُ فلا بأس بتناجي اثنين؛ لأن كلَّ واحدٍ لا يظنُّ أن المتناجِيَينِ يقولان فيه، بل يظنُّ أنهما يقولان في حقَّ شخصٍ آخرَ شيئًا لا في حقِّه. روى هذا الحديثَ ابن مسعود. * * * 3863 - وعن تَميمٍ الدَّارِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّينُ النَّصيحَةُ"، ثلاثًا، قلنا: يا رسولَ الله! لِمَن؟ قال: "للهِ، ولِكِتابه، ولرَسُولِه، ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ، وعامَّتِهم". قوله: "الدِّين النصيحةُ"، تقدير هذا الكلام: عمادُ أمور الدين، أو أفضلُ أو أكملُ أعمال الدين: النصيحةُ، و (النصيحةُ): إرادة الخيرِ للمنصوحِ له. أمر - صلى الله عليه وسلم - بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، النصيحة لله: أن يريدَ الرجلُ ويحبُّ ما يتعلَّقُ بتعظيم الله بطاعته من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإرشادِ المسلمين إلى دينه. والنصيحة لكتاب الله: أن يكرِمَ الرجلُ القرآنَ، ويأمر الناسَ بإكرامه وإتباعه. والنصيحةُ لرسول الله: أن يفعلَ الرجلُ ويأمرَ الناسَ بما يتعلَّق بتعظيمه ويأمرهم باقتدائه. والنصيحة لأئمة المسلمين: أن يطيعَ الرجلُ الخليفةَ ونُوَّابَه، ويأمرَ الناسَ

بطاعتهم، ويدفع الأذيةَ عنهم. والنصيحة لعامتهم؛ أي: لجميع المسلمين أن يريدَ خيرَ المسلمين، وما فيه صلاحُهم ونجاتُهم من مكروه الدنيا والآخرة. * * * مِنَ الحِسَان: 3865 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ أبا القاسمِ الصَّادقَ المصدوقَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُنزَعُ الرَّحْمَةُ إلا مِن شَقيٍّ". قوله: "الصادق المصدوق"، (الصادق): من صدق فيما قال، و (المصدوق): من صدَّقَه المستمعُ في كلامه. والمصدوق في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن صدَّق الله فيما قال في كلامه القديم، فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. "لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا من شَقِيٍّ"؛ يعني: مَن ليس في قلبه شفقةٌ ورحمةٌ فهو شَقِيٌّ. * * * 3866 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهم الرَّحمنُ، اِرحَمُوا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكم مَن في السماءِ". قوله: "الرَّاحمون يَرْحَمهم الرحمن"؛ يعني: مَن رَحِمَ عبادَ الله رَحِمَه الله. "ارحموا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكم مَن في السماء"، ليس لله مكانٌ حتى يُنْسَبَ إليه.

(من في السماء) له تأويلان: أحدهما: من مُلْكُه وقدرته في السماء؛ يعني: السماء أعظمُ وأرفعُ من الأرض، ومع أنه أعظمُ وأرفع من الأرض قدرةُ الله غالبةٌ على السماء. والثاني: أن يكونَ المرادُ بمن في السماء الملائكة؛ يعني: ارحموا مَن في الأرض من الناس يرحمْكم مَن في السماء من الملائكة، تحفظُكم الملائكةُ من الأعداء والمُؤْذِيات بأمر الله، ويستغفروا لكم، ويطلبوا لكم الرحمة من الله الكريم. روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو. * * * 3867 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ منا مَن لم يَرْحَمْ صَغيرَنا، ويُوَقِّرْ كبيرَنا، ويَأْمُرْ بالمَعْروفِ، ويَنْهَ عن المُنْكَرِ"، غريب. وقوله: "ليس منا مَن لم يَرْحَمْ صغيرَنا"؛ أي: ليس مِن متابعينا في هذا الفعل. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 3868 - وقال: "ما أكرمَ شابٌّ شَيْخًا مِن أجلِ سِنِّهِ إلا قَيَّضَ الله لهُ عندَ سِنِّهِ مَن يُكْرمُهِ". قوله: "قَيَّضَ الله"؛ أي: وكَّلَ الله. روى هذا الحديثَ أنسٌ. * * *

3870 - وقالَ: "خيرُ بيتٍ في المُسلِمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُحسَنُ إليه، وشرُّ بيتٍ في المُسْلِمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُسَاءُ إليهِ". قوله: "يُساءُ إليه"؛ أي: يؤذيه بالباطل، فإن ضربَه كافلُه للتأديب وتعليمِ الدين لم يكن آثمًا. روى هذا الحديثَ أبو هريرة. * * * 3871 - وقال: "مَن مَسَحَ رَأْسَ يتيمٍ لم يَمْسَحْهُ إلا للهِ، كانَ لهُ بِكُلِّ شَعْرةٍ تَمُرُّ عليها يدُه حَسَنَاتٌ، ومَن أَحْسَنَ إلى يتيمةٍ أو يَتِيمٍ عندَهُ كنتُ أنا وهوَ في الجَنَّةِ كهاتينِ، وقَرَنَ بينَ أُصْبُعَيْهِ"، غريب. قوله: "من مَسَحَ رأسَ يتيم"؛ يعني: من مسح يدَه على رأسِ يتيم للتلطُّفِ به والرحمة إليه، أو دَهَنَ رأسَه أو سترَ رأسَه لله يكون ثوابُه ما ذُكِر. روى هذا الحديثَ أبو أمامة. * * * 3872 - وقال: "مَن آوَى يتيمًا إلى طَعامِه وشَرابهِ أوجَبَ الله لهُ الجَنَّةَ البتَّةَ، إلا أنْ يَعْمَلَ ذنبًا لا يُغفَرُ، ومَن عالَ ثلاثَ بناتٍ أو مِثْلَهن مِن الأَخَواتِ، فأدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ حتى يُغنِيَهُنَّ الله، أَوْجَبَ الله له الجَنَّةَ"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أو اثنتَينِ؟ قال: "أو اثنتينِ"، حتى لو قالُوا: أو واحدةً، لقالَ: واحِدَةً، "ومَن أَذْهَبَ الله كريمتَيْهِ وجبَتْ له الجنةُ"، فقيلَ: يا رسولَ الله! وما كريمَتاهُ؟ قال: "عيناهُ". قوله: "إلا أن يَعْمَلَ ذنبًا لا يُغْفَر"؛ يعني: إلا أن يُشْرِكَ بالله، فإن الذنبَ

الذي لا يُغفَرُ هو الشِّركُ ومظالمُ الخَلْق، وإن مات على الشِّرْك لا يدخل الجنةَ أبدًا، وإن مات وعليه مَظْلَمَةُ أحدٍ يؤخذْ منه القصاصُ بأن يدفعَ من حسناته إلى المظلومِ بقدْرِ حقَّه، فإن لم يكن له حسنةٌ يؤخَذْ من سيئات المظلوم، وتوضع على الظالم، فلمَّا عُذِّبَ بقدْرِ مَظْلَمتهِ يدخل الجنة. روى هذا الحديثَ ابن عباس. * * * 3874 - ورُوِيَ: "ما نَحَلَ الوالِدُ وَلَدَهُ مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أدَبٍ حَسَنٍ"، مرسل. قوله: "ما نَحَلَ الوالدُ"؛ أي: ما أعطى الأبُ. "مِن نَحْلٍ"، هي جمع نِحْلَة، وهي ما يُعْطَى على سبيل التبرُّع. * * * 3875 - عن عَوْفِ بن مالكٍ الأَشْجَعيِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وامرَأةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ كهاتينِ يومَ القيامةِ - وأَوْمَأَ الرَّاوِي بالسَّبابةِ والوُسْطى - امرأةٌ آمَتْ مِن زَوْجِها ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، حَبَسَتْ نفسَها على يتامَاهَا حتى بانُوا أو مَاتُوا". قوله: "سَفْعَاء الخَدَّين"؛ أي: متغيرةُ الخَدَّين من غاية المشقَّة. "أومأ"؛ أي: أشار. "آمَتْ"؛ أي: صارتْ أَيمًا، وهي التي مات زوجُها. "حَبَسَتْ نَفْسَها"؛ أي: تركت التزوجَ بزوجٍ آخر، واشتغلت بخدمة أولادها الذين من الزوج الذي مات.

"حتى بانُوا"، وهذا مِن بانَ يبُونُ بونًا: إذا زاد على غيره في شيءٍ من العلم وغيره؛ أي: حتى زادوا على الأطفال بكثرةِ قوةٍ وعقلٍ ورشدٍ بحيث يقدِرُ كلُّ واحدٍ على خدمة نفسه، وتحصيل قوته. * * * 3876 - وعن ابن عبَّاسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانت لهُ أُنثَى فلم يَئِدْها، ولم يُهِنْها، ولم يُؤْثِرْ ولدَه عَلَيها - يعني الذُّكورَ - أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ". قوله: "فلم يَئْدِها"، وأَد يَئِدْ: إذا دَفَنَ حيًّا؛ أي ولم يقتلْها كما هو عادة أهل الجاهلية فإنهم كانوا يقتلون البناتِ؛ إما فرارًا من العار أو من الفقر. "ولم يُهِنْها"؛ أي: ولم يُذِلَّها، "ولم يُؤْثِرْ"؛ أي: ولم يَخْتَرْ "ولدَه" على البنت. * * * 3877 - عن أنسٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن اغتيبَ عندَه أخوهُ المُسْلِمُ وهوَ يقدِرُ على نَصْرِه فنَصَرَهُ نصرَهْ الله في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فإنْ لم يَنْصُرْه وهو يَقْدِرُ على نَصْرِه أدرَكَه الله بهِ في الدُّنيا والآخِرةِ". قوله: "أَدْرَكَه الله"؛ أي: انتقمَ الله منه؛ يعني: يقول له: لم لم تنصرْ أخاك المغتاب مع قدرتك على أن تدفعَ المغتاب من أن يغتابَه. * * * 3878 - وقال: "مَن ذَبَّ عَن لَحْمِ أخيهِ بالمغيبَةِ كانَ حَقًّا على الله أنْ يُعتِقَه مِن النَّارِ".

قوله: "من ذبَّ عن لحمِ أخيه"، (الذَّبُّ): الدفعُ؛ يعني: من منعَ مغتابًا عن غيبة مسلم. روت هذا الحديثَ أسماء بنت يزيد. * * * 3879 - وعن أبي الدَّرْداءِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما مِن مُسْلِمٍ يَرُدُّ عن عِرْضِ أخيهِ، إلاَّ كان حَقًّا على الله أنْ يَرُدَّ عنهُ نارَ جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ، ثم تلا هذه الآيةَ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ". قوله: "يردُّ عن عِرْض أخيه"؛ أي: يمنعُ مغتابًا من غِيبة مسلم. * * * 3881 - وقال: "مَن رَأَى عَوْرَةً فستَرها كانَ كمَن أحيا مَوْؤُودَةً". "مَن رأى عورةً"، (العَوْرَةُ): الشيءُ القبيحُ؛ يعني: من رأى عيبًا أو فِعْلًا قبيحًا في مسلم، "فسَتَرَها" عليه كان ثوابُه كثوابِ "مَن أحيى موؤودةً"؛ أي: من رأى حيًا مدفونًا في قبر فأخرج ذلك المدفون من القبر كيلا يموت. ووجه تشبيه الستر على عيوب الناس، بإحياء المَوْؤودة أنَّ من انهتك سترُه يكون من الخجالة كميت، ويحبُّ الموتَ من الخجالة، فإذا سترَ أحدٌ على عيبه فقد دفعَ عنه الخجالةَ التي هي عنده كالموت. روى هذا الحديثَ عقبة بن عامر. * * * 3886 - عن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحَدَكم مِرْآةُ أخيهِ، فإنْ رَأى به أَذًى فَلْيُمِطْ عنه"، ضعيف.

وفي رِوايةٍ: "المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤمِنِ، والمُؤْمِن أخو المؤمنِ، يَكُفُّ عنهُ ضَيْعتَهُ، ويَحُوطُه مِن وَرائِهِ". قوله: "إن أحدُكم مرآةُ أخيه"؛ يعني: كما أنَّ الرجلَ إذا نظرَ إلى المرآة فيرى صورتَه فيها، فإن كان في صورته عيبٌ، فأزال ذلك العيبَ عن نفسه إن قدرَ على إزالته، فكذلك إذا رأى عيبًا في أخيه المسلم. "فليُمِطْ"؛ أي: فليُبْعِدْ ذلك العيبَ عنه، وليشتغلْ بإصلاح حالهِ بأي طريق أمكنَه، وليعلمْ نفسَه كنفسه. قوله: "يَكُفُّ عنه ضيعتَه"، (الكَفُّ): المَنْعُ، (الضَّيعةُ): التَّلَفُ والخُسْران؛ يعني: ليدفع عنه ما فيه عليه ضَرَرٌ. "ويحوطه من ورائه"؛ أي: ليحفظه في غيبته، وليدفع عنه مَن يغتابه ويلحقه ضررًا. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3888 - عن ابن مَسْعودٍ قال: قال رَجُلٌ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ لي أنْ أَعْلَمَ إذا أحسنتُ أو إذا أسَأْتُ؟ فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سَمِعتَ جيرانَك يقولونَ: قد أحسَنْتَ؛ فقد أحسَنْتَ، وإذا سَمِعتَهم يقولونَ: قد أسأتَ؛ فقد أَسَأْتَ". قوله: "كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت" أراد بهذا الحديث: أن المُحْسِن مَن سلم الناس من يده ولسانه، والمسيء: مَن لم يسلم الناس من يده ولسانه. * * * 3883 - عن عائِشَةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أنزِلُوا النَّاسَ مَنازِلَهم".

16 - باب الحب في الله والبغض في الله

قوله: "أنزلوا الناس منازلهم"؛ يعني: احفظوا حرمة كلِّ أحدٍ على قَدْرِه، فلا يجوز للإمام أن يساوي في الإعزاز بين الخادم والمخدوم، وبين سيد القوم وبين قومه. * * * 16 - باب الحُبِّ في الله والبُغْضِ في الله (باب الحب في الله ومِن الله) مِنَ الصِّحَاحِ: 3889 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارَفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اخَتَلفَ". قوله: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"، (المجندة)؛ أي: المجموعة، (التعارف): جريان المعرفة بين اثنين فصاعدًا، (ائتلف)؛ أي: اجتمع، (التناكر): ضد التعارف. يعني: الأرواح قبل خلق الأجساد مخلوقةٌ مجموعةٌ في الأزل، ويجري بين جماعة من الأرواح تعارفٌ، وبين جماعة تناكرٌ؛ أي: عدم المعرفة، فمن جرى بينهم تعارف قبل خلق الأجساد يحصل بينهم تعارف أيضًا بعد دخول الأجساد، ومن لم يجر بينهم تعارف قبل خلق الأجساد لم يحصل بينهم تعارف بعد دخول الأرواح في الأجساد. قال محيي السنة: في هذا الحديث بيانُ أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، وأنها مخلوقة على الائتلاف والاختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت، وذلك على ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة.

ثم الأجساد التي فيها الأرواح في الدنيا تتآلف وتختلف على حسب ما جُعلت عليه من التشاكُل والتنافر في بدء الخلق، فيُرى البَرُّ الخير يحب مثلَه، والفاجر يألف شِكْله وينفر عن ضدِّه. وفيه دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وأنها قد كانت موجودةً قبل الأجساد، وأنها تبقى بعد فناء الأجساد كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهداء: "أن أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ تسرح من الجنة حيث شاءت". قال المعتزلة: الروح عرض. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3890 - وقالَ: "إنَّ الله إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْريلَ فقال: إنَّي أُحِبُّ فلانًا فأَحِبَّهُ"، قالَ: "فيُحِبُّه جِبْريلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيقولُ: إنَّ الله يُحِبُّ فلانًا فأَحبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ، وإذا أبغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْريلَ فيقول: إنَّي أُبغِضُ فُلانًا فأَبْغِضْهُ"، قال: "فيُبْغِضُه جبريلُ، ثُمَّ ينادِي في أهلِ السَّماءِ: إن الله يُبغِضُ فلانًا فأبغِضُوه"، قال: "فيُبغِضُونَه، ثُمَّ تُوضَعُ لهُ البَغْضَاءُ في الأَرْضِ". قوله: "ثم يوضع له القبول في الأرض"؛ يعني: ثم يوضع حبه في قلوب الناس. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3891 - وقالَ: "إنَّ الله يقولُ يومَ القِيامةِ: أينَ المُتَحابُّونَ بجلالي؟ اليَوْمَ

أُظِلُّهم في ظِلِّي يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلِّي". قوله: "أين المتحابون بجلالي"؛ يعني: الذين يحب بعضهم بعضًا بعظمتي؛ يعني: كان في الدنيا سببُ حب بعض الناس بعضًا المالَ والجاه، أو توقُّعَ النصرة، أو غير ذلك، وكان هؤلاء سببُ حب بعضهم بعضًا رضائي، ورجاؤهم ثوابي ولقائي. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3892 - عن أبي هُرَيْرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رَجُلاً زارَ أخًا له في قَرْيةٍ أُخرَى، فأَرصدَ الله لهُ على مَدْرَجتِهِ مَلَكًا قال: أينَ تريدُ؟ قال: أريدُ أخًا لي في هذه القَرْيةِ، قال: هل لكَ عليهِ مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قال: لا، غيرَ أنِّي أَحْبَبتُه في الله، قال: فإنِّي رسولُ الله إليكَ بأنَّ الله قد أحَبَّكَ كما أحبَبْتَهُ فيه". قوله: "فأرصد الله على مدرجته ملكًا"؛ أي: فأرسل الله على طريقه، (الإرصاد): أن يوقف أحد في الطريق لينتظر أحدًا، (المدرجة): الطريق. "هل لك عليه من نعمة تربها"، (تربُّها)؛ أي: تقوم بإصلاحها؛ يعني: هل هو مملوكك أو ولدك أو غيرهما ممن هو في نفقتك وفي شفقتك، تجيء إليه لتُحسِن إليه. * * * 3895 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ والسُّوءِ، كحَامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ، فحامِلُ المِسْكِ إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وأما أنْ تَبْتَاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منهُ رِيحًا طيبةً، ونافخُ الكِيرِ إما أنْ يَحْرِقَ ثيابَكَ، وإمَّا أنْ تجدَ منه رِيحًا خَبيثةً".

قوله: "ونافخ الكير"؛ أي: الذي ينفخ في الكير، وهو شيءٌ ينفخ فيه الحداد لتشتعل النار. "يحذيك"؛ أي: يعطيك. "تبتاع"؛ أي: تشتري. والمراد من هذا الحديث: أن مجالسة الصلحاء تنفع في الدنيا والآخرة؛ لأنك تجد منهم التربية وتعليم الخير، وتصل إليك بركتهم، ويَحسن صيتك بين الناس بأن يقال: فلان يجالس الصلحاء، ومجالسة الفسَّاق تكون بعكس هذا. * * * مِنَ الحِسَان: 3896 - عن مُعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قالَ الله تعالى: وَجَبَتْ مَحبَّتي للمُتحابينَ فِيَّ، والمُتَجَالِسينَ فِيَّ، والمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، والمُتَباذِلينَ فِيَّ". وفي رِوايةٍ قال: "يقولُ الله تعالى: المُتَحابُّون في جلالي لهم منابرُ مِن نورٍ، يغبطُهم النَّبيُّونَ والشُّهداءُ". قوله: "للمتحابين في"؛ يعني: الذين يحب بعضهم بعضًا لمرضاتي ولأجلي، لا لغرضٍ دنيوي. "والمتزاورين في"؛ أي: الذين يزور بعضهم بعضًا لأجلي. "والمتباذلين في"؛ أي: الذين يبذل؛ أي: يعطي بعضهم بعضًا شيئًا. * * * 3897 - عن أبي مالكٍ الأَشْعرِيَّ قال: كنتُ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ قالَ: "إنَّ للهِ عِبَادًا لَيْسُوا بأنبياءَ ولا شُهَداءَ, يغبطُهم النَّبيُّونَ والشُّهداءُ بقُرْبهم ومَقعَدِهم مِن الله يومَ القِيامةِ"، فقال أَعْرابيٌّ: حدِّثْنَا يا رسولَ الله! مَن هُم؟ فقال: "هُم عِبادٌ مِن عِبادِ الله مِن بُلدانٍ شَتَّى وقبائلَ شتَّى، لم يَكنْ بينَهم أَرْحامٌ يَتَواصَلُون

بها, ولا دُنيا يتباذَلُون بها، يتحابُّون برُوحِ الله، يَجْعَلُ الله وُجوهَهُم نورًا، وتُجْعَلُ لهم منابرُ مِن نورٍ قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحمنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ ولا يَفْزَعُون، ويخافُ النَّاسُ ولا يخافُونَ". قوله: "يغبطهم النبيون والشهداء", (الغبطة): أن يتمنى الرجل شيئًا؛ يعني: يتمنى النبيون والشهداء أن يكون لهم تلك المنازل لحسنها وطيبها وعظم قدرها. وليس تمنَّي النبيين والشهداء تلك المنازل لأَجْلِ أن تكون تلك المنازل خيرًا من منازلهم، بل منازل النبيين خير، ولكن عادة الإنسان أن يتمنى ما رآه حسنًا، وإن كان له مثل ذلك الشيء، أو خيرًا منه. قوله: "من بلدان شتى"؛ أي: من بلاد متفرقة يزور بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا لأجل الله تعالى لا لغرضٍ دنيوي. "برُوح الله" بضم الراء، (الروح): ما به الحياة، والروح هنا: القرآن وأحاديث النبي؛ لأن بهما حياةَ القلوب، والحياةَ التي لا فناء بعدها؛ يعني: يتحابون بما في القرآن والأحاديث من الفوائد؛ يعني: يحب بعضهم بعضًا لمَّا وجدوا أن محبة الصلحاء وخدمتهم ونصرتهم مَرْضيَّة لله تعالى، ومُوجبةٌ للثواب. "قدام الرحمن" هذا عبارة عن قرب المنزلة من الله تعالى. "يفزع الناس ولا يفزعون"؛ أي: يخاف الناس ولا يخافون، (الفزع): الخوف، إلا أن الفزع أشدُّ أنواع الخوف. * * * 3898 - عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرٍّ: "يا أبا ذرًّ! أيُّ عُرَا الإيمانِ أَوْثَقُ؟ " قال: الله ورَسولهُ أعْلَمُ! قال: "المُوالاةُ في الله، والحُبُّ في الله، والبُغْضُ في الله".

قوله: "أيُّ عرى الإيمان أوثق؟ " (العرى): جمع عروة، وهي ما يتمسك به الأوثق الأحكم، و"الموالاة": جريان المحبة بين اثنين. * * * 3899 - عن أبي هُريرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عادَ المُسْلِمُ أخاهُ، أو زارَه، قال الله تبارك وتعالى: طِبْتَ وطابَ مَمْشاكَ، وتَبَوأتَ مِن الجَنَّةِ منزِلاً", غريب. قوله: "إذا عاد" عاد وزار متماثلان في المعنى، إلا أن العيادة تكون في المرض، والزيارة تكون في الصحة. "طبت"؛ أي: حصل لك طيبُ العيش في الآخرة. "وطاب ممشاك"؛ أي: صار مشيك سببَ طيب عيشك في الآخرة؛ لحصول الأجر لك. "وتبوأت"؛ أي: وهيَّأت. * * * 3901 - عن أنسٍ قال: مرَّ رَجُلٌ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعندَه ناسٌ، فقالَ رَجُلٌ مِمَّن عندَه: إنِّي لأُحِبُّ هذا للهِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْلَمْتَهُ؟ " قال: لا، قالَ: "قُمْ إليه فأَعْلِمْهُ"، فقامَ إليه فأَعْلَمَه فقالَ: أحبَّكَ الذي أَحْببتَني له، قال: ثُمَّ رَجَعَ، فسألَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَه بما قالَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنتَ مَع مَن أحبَبْتَ، ولكَ ما احتَسَبْتَ". وفي رِوايةٍ: "المَرْءُ معَ مَن أحبَّ، ولهُ ما اكتَسَبَ". قوله: "ما احتسبت"؛ أي: ما أمِلْتَ وطمعت من الأجر. * * *

17 - باب ما ينهى من التهاجر والتقاطع واتباع العورات

3903 - عن أبي هُرَيرةَ قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَرْءُ على دينِ خليلِه، فلْيَنظرْ أحدُكم مَن يُخَالِلْ" غريب. قوله: "من يخالل"؛ أي: مَن يجري بينه وبينك خلةٌ؛ أي: محبةٌ، إن اتخذ صالحًا خليلًا يكون هو صالحًا، وإن اتخذ فاسقًا يكون هو فاسقًا، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن يتخذ الرجل فاسقًا خليلاً؛ كي لا يصير بسببه فاسقًا. * * * 3904 - عن يزيدَ بن نَعَامَةَ أنه قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فلْيَسأَلْهُ عن اسمِه واسمِ أبيهِ وممَن هوَ، فإنَّه أَوْصَلُ للمَوَدَّةِ". قوله: "إذا آخى الرجل"؛ أي: اتخذ الرجلُ أخًا. "فليسأل عن اسمه واسم أبيه وممن هو"؛ أي: ومن أيِّ قبيلة؟ أو: من أيِّ قرية وبلد هو؟ "فإنه أوصل"؛ أي: فإنه أشدُّ وأكثر صلةً في المودة، والله اعلم. * * * 17 - باب ما يُنهَى من التَّهاجُرِ والتَّقاطُعِ واتباعِ العَوْراتِ (باب ما يُنهَى من التهاجُرِ والتقاطُعِ واتباعِ العوراتِ) (¬1) قوله: (واتباع العورات)، (العورات): جمع عورة، وهي ما في الرجل من عيب وخلل؛ يعني: لا يجوز أن يطلب الرجل عيوب الناس حتى يطَّلع على عيوبهم فيعيبَهم. ¬

_ (¬1) في "م": "باب ما ينهى من التهاجر"، وفي "ش": "باب ما ينهى من التهاجر والتقاطع".

مِنَ الصِّحَاحِ: 3905 - قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخَيْرُهما الذي يبدَأُ بالسَّلامِ". قوله: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" وقال الخطابي في شرح هذا الحديث: رخَّص لمسلم أن يغضب على أخيه ثلاثة أيام؛ لقلة الثلاثة، ولا يجوز فوق ثلاثٍ لكثرته. ويجوز للوالد أن يغضب على ولده، وللزوج أن يغضب على زوجته، ومَن كان في معناهما كالوالدة وجميعِ الأصول والسيد، فوق ثلاثة أيام للتأديب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب على زوجاته وتركهن شهرًا، واعتكف في المسجد. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3906 - وقالَ: "إيَّاكم والظَّنَّ! فإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا, ولا تَنَاجَشُوا, ولا تَحَاسدُوا, ولا تَبَاغضوا, ولا تَدَابروا، وكونوا عبادَ الله إِخْوانًا". ويُروَى: "ولا تَنَافَسُوا". قوله: "إياكم والظن"؛ يعني: احذروا من أن تظنوا بأحد ظنَّ سوء، فإن ظن السوء في حق المسلم إثمٌ كالحديث الكاذب، بل هو أشد. وإنما قال: "أكذب الحديث" لأن الظن حديث النفس، كما أن التكلُّم حديث الإنسان، وحديث النفس أكذبُ من حديث الإنسان؛ لأن حديث النفس يكون بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان. "التحسس" بالحاء المهملة: طلبك أن تطَّلع على خيرِ أحدٍ، و"التجسس"

بالجيم: طلبك أن تطلع على شر أحد، وكلاهما منهيٌّ؛ لأنك لو اطلعت على خيره ربما يحصل لك حسد بأن لا يكون فيك ذلك الخير، وإن اطلعت على شره تُعيبه وتفضحه. "ولا تناجشوا"، (التناجش): أن يطلب رفعةً وعلوًا على أحد؛ يعني: لا يجوز لأحد أن يرى نفسه أشرف من غيره. "ولا تدابروا" أصله: ولا تتدابروا، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا، ومعناه: لا تقاطعوا، (التدابر): التقاطع، و (المُدابرة): المعاداة. "التنافس": مثل التناجُش. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3907 - وقالَ: "تُفتَحُ أبوابُ الجَنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ، فيُغفَرُ لكلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إلا رَجُلاً كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شَحْناءُ, فيقالُ: أَنْظِروا هذَينِ حتَّى يَصْطَلِحا". قوله: "شحناء"؛ أي: عداوة. "أنظروا هذين"؛ أي: انتظروا في مغفرة هذين اصطلاحَهما؛ أي: أُخِّرت مغفرتُهما إلى أن يصطلحا. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3908 - وقالَ: "تُعرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ في كلِّ جُمُعَةٍ مرَّتينِ، يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ، فيُغفَرُ لكُلَّ عبدٍ مؤمنٍ، إلا عَبْدًا بينَه وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيقال:

اُترُكُوا هذَينِ حتَّى يَفيئَا". قوله: "حتى يفيئا"؛ أي: حتى يرجعا عن الغضب إلى الصلح. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3909 - وقالَ: "إنَّ الشَّيطانَ قد أَيسَ أنْ يَعبُدَه المُصَلُّونَ في جَزيرةِ العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينَهم". قوله: "إن الشيطان قد أيس" ذُكر هذا الحديث في (باب الكبائر وعلامات النفاق). * * * 3910 - وعن أُمِّ كلثومَ بنتِ عُقبةَ بن أبي مُعَيطٍ قالت: سَمِعْتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ليسَ الكذَّابُ الذي يُصلِحُ بينَ الناسِ ويقولُ خيرًا وَينْمِي خيرًا"، قالت: ولَمْ أَسمَعْهُ - تَعني النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرَخَّصُ في شَيءٍ مِمَا يقولُ النَّاسُ كَذِبًا، إلا في ثلاثٍ: "الحَرْبُ، والإصلاحُ بينَ النَّاسِ، وحَديثُ الرَّجُلِ امرأتَه وحَديثُ المَرْأةِ زَوْجَها". قوله: "وينمي"؛ أي: يُوصل حديثَ خيرٍ من أحد العدوَّين إلى الآخر ليوقع بينهما صلحًا, ولا إثم في الكذب فيما يقول بين العدوين مما يوقع بينهما محبةً وصلحًا. قوله: "والحرب"؛ يعني: يجوز الكذب في الحرب، بأن يقول المسلم للكافر الذي يحاربه: جيش الإِسلام كثير لا طاقة لكم به، لا إثم في هذا وإن لم يكن جيش الإِسلام كثيرًا، أو مثل أن يقول: قد جاءنا مددٌ كثير، أو يقول له: انظر إلى خلفك فإن جيشًا قد أتاك من خلفك، وأراد المسلم بهذا القول أن

يلتفت الكافر إلى خلفه؛ ليضرب هذا المسلمُ عنقه. قوله: "وحديث الرجل امرأته"؛ يعني: يجوز أن يكذب الرجل فيما يحدِّث به امرأته مما يتعلق بإيقاع الألفة بينهما، مثل أن يقول لها: لا أحدَ أحبُّ إليَّ منك، وكذلك يجوز للمرأة أن تقول لزوجها مثل ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 3912 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يكونُ لِمُسْلِمٍ أنْ يهجُرَ مُسْلِمًا فوقَ ثلاثةٍ، فإذا لقِيَهُ سَلَّمَ عليهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ، كلُّ ذلكَ لا يَرُدُّ عليهِ فقد باءَ بإثمِهِ". قوله: "فقد باء بإثمه": باء، أي: رجع، يعني إذا سلَّم أحد المهاجِرَيْنِ على الآخر ثلاث مرات ولم يرد فقد خرج المسلِّم من إثم المهاجَرة ورجع الإثم على الذي لم يرد على المسلِّم السلام. * * * 3914 - عن أبي خِراشٍ السُّلَمِيَّ: سَمِعَ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ هَجَرَ أخاهُ سَنَةً فهوَ كسَفْكِ دمِهِ". قوله: "فهو كسفك دمه", (السفك): الإراقة والصب؛ يعني: إذا كان بين زيد وعمرو مثلًا غضب، فسلَّم زيد على عمرو ولم يردَّ عمرو على زيد السلام، خرج زيد من الإثم وبقي عمرو في الإثم، فإن لم يردَّ عمرو على زيد السلام، فكأنما سفك عمرو دم زيد. يعني: المُهاجَرة عن الأخ المسلم حرامٌ كسفك دمه، وليس معناه: أن إثم سفك الدم وإثم المهاجرة سواء، بل إثمُ سفك الدم أعظم من جميع الكبائر بعد

الشرك، بل المراد اشتراكهما في حصول الإثم لا في قَدْرِ الإثم، ولا يلزم مساواة المشبَّه والمشبَّه به في جميع الأشياء، بل يكفي المساواةُ بينهما في شيء واحد. * * * 3916 - عن أبي الدَّرْداءِ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ أُخبرُكم بأفضلَ مِن دَرَجةِ الصِّيامِ والصَّدَقةِ والصَّلاةِ؟ "، قال: قُلنا: بلى، قال: "إِصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وإفْسادُ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ", صحيح. قوله: "وفساد ذات البين هي الحالقة" أراد بـ (ذات البين): المخاصمةَ والمهاجَرةَ بين اثنين بحيث يحصل بينهما بينٌ، و (البين): الفُرقة؛ يعني: إيقاع الفُرقة والعداوة بين المسلمين، (حالقة)؛ أي: ماحية ومزيلة للثواب والخيرات؛ يعني: يمنعه شؤم هذا الفعل عن تحصيل الثواب والطاعات. * * * 3917 - وقالَ: "دَبَّ إليكُم داءُ الأممِ قبلَكم: الحَسَدُ والبغضاءُ، هي الحالِقَةُ، لا أقولُ: تحلِقُ الشَّعرَ، ولكنْ تحلِقُ الدَّينَ". قوله: "دب إليكم داء الأمم"؛ أي: صار فيكم عادة الأمم الماضية، وتلك العادة هي الحسد والبغضاء. وضمير المؤنَّث في "هي الحالقة" ضمير البغضاء؛ لأنها مؤنث. "ولكن تحلق الدين" والمراد بحلق الدين أنها تمنع الإنسان من فعل الخيرات، والحضورِ في الصلوات، والمحبة الكاملة في الله تعالى؛ لأن مَن امتلأ صدره بالحسد والبغضاء لا يكون له محبةٌ كاملة في الله، وذوقٌ من الطاعات. و"الحسد" في الحقيقة: مُضادَّة الله؛ لأن الحسود لا يرضى بقضاء الله، فإن الله تعالى هو الذي رزق المحسود الرفعةَ والزيادة على الحاسد، والحاسد

لا يرضى بما رزق الله المحسود. روى هذا الحديث الزبير بن العوام. * * * 3918 - عن أبي هُرَيرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُم والحَسَدَ! فإنَّ الحَسَدَ يأكلُ الحَسَناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ". قوله: "فإن الحسد يأكل الحسنات" يحتمل هذا أمرين: أحدهما: أن يكفر الحاسد بسبب حسده، فإن الحاسد لا يرضى بحكم الله، فربما يغلب عليه حقد وعداوة المحسود بحيث يتكلم بكلمة كفر، أو يغضب على ربه لأجل أنه يعطي المحسود المال والمنصب ولا يعطي الحاسد، فإذا كفر بطلت حسناته. والأمر الثاني: أن يكون قوله: "يأكل الحسنات" معناه: يمنع الحسد الرجل عن فعل الحسنات، كما ذكر قبيل هذا. * * * 3920 - عن أبي صِرْمَةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ضَارَّ ضارَّ الله بهِ، ومَن شاقَّ شَقَّ الله عليهِ". قوله: "من ضار"؛ أي: من أوصل ضررًا إلى مسلم أوصل الله إليه الضرر، والضرر والمشقة متقاربان، إلا أن الضرر يستعمل في إتلاف مال أحد، والمشقة تستعمل في إيصال أذية إلى بدن أحد من تكليفه عملًا شاقًا. * * * 3922 - عن ابن عُمَرَ قال: صَعِدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المِنْبرَ فنادَى بصَوتٍ

رفيعٍ فقال: "يا مَعْشرَ مَن أَسْلَمَ بلِسانِه ولم يُفْضِ الإِيمانُ إلى قلبهِ! لا تُؤْذُوا المُسلمينَ ولا تُعَيروهم، ولا تَتَّبعُوا عَوْراتِهم، فإنَّه مَن يَتَّبعْ عَوْرَة أخيهِ المُسلمِ يتَّبعِ الله عَوْرتَه، ومَن يتبع الله عورتَهُ يفضَحْهُ ولو في جَوْفِ رَحْلِهِ". قوله: "ولم يفض الإيمان إلى قلبه", (أَفْضَى يُفضي): إذا وصل. * * * 3923 - عن سعيدِ بن زَيدٍ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِن أربَى الرِّبَا الاستِطالةَ في عِرْضِ المُسلِمِ بغيرِ حَقًّ". قوله: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، (أربى): أفعل التفضيل من الربا، و (الاستطالة): إطالة اللسان في غيبةِ أحدٍ أو قذفه أو شتمه؛ يعني: غيبة الناس وقذفهم أشد من أكل الربا وأخذه وإعطائه؛ لأن نفس المسلم أشرف من ماله، فإيذاءٌ يتعلق بنفسه أشدُّ من ضررٍ يتعلق بماله. * * * 3924 - وعن أنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا عَرَجَ بي ربي مرَرْتُ بقومٍ لهم أَظْفارٌ مِن نُحاسٍ يَخْمِشُونَ وجُوهَهم وصُدورَهم، فقلتُ: مَن هؤلاءِ يا جِبْريلُ؟ قال: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لحومَ النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْراضهم". قوله: "يأكلون لحوم الناس"؛ أي: يغتابونهم. * * * 3925 - وعن أنسٍ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن حَمَى مُؤْمِنًا مِن مُنافِقٍ يعيبُه، بعثَ الله مَلَكًا يَحْمي لَحْمَهُ يومَ القيامةِ مِن نارِ جَهَنَّمَ، ومَن قَفا مُسْلِمًا بشيءٍ يريدُ شَيْنَهُ بهِ حَبَسَهُ الله على جِسْرِ جَهَنَّمَ حتى يَخْرُجَ ممَّا قالَ".

قوله: "من قفا مسلمًا"؛ أي: من تبع مسلمًا؛ يعني: مَن تجسَّس عن حال مسلم ليُظهر عيبه وليعيره حبسه الله على الصراط حتى ينقى من ذلك الذنب بإرضاء خصمه أو بالتعذيب. * * * 3927 - عن المُستَوْرِدِ بن شدَّادٍ: أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَكَلَ برجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فإنَّ الله يُطعِمُه مِثلَها مِن جَهَنَّمَ، ومَن كُسِيَ ثَوْبًا برجُلٍ مُسلِمٍ فإنَّ الله يكسوهُ مثلَه مِن جَهَنَّمَ، ومَن قامَ برجُلٍ مَقامَ سُمعةٍ ورِياءٍ فإنَّ الله يُقيمُهُ مَقامَ سُمْعَةٍ ورِياءٍ يومَ القيامةِ". قوله: "من أكل برجل مسلم أكلة"؛ يعني: مَن ذم وعيَّر عدوًا عند عدوه لرضا العدو المستمع؛ ليطعمه شيئًا، وليقول هذا العدو: إن هذا القائل صديقه = أطعمه الله من غسلين جهنم، ومثله: "من كسا ثوبًا برجل مسلم"؛ أي: بسبب غيبة رجل مسلم وقذفه. "ومن قام برجل مقام سمعة ورياء" الباء في (برجل) يحتمل أن تكون للتعدية، وأن تكون الباء للسببية: فإن كانت للتعدية يكون معنى الحديث: مَن أقام رجلًا مقام سمعة ورياء؛ يعني: من أظهر رجلًا بالصلاح والتقوى ليعتقد الناس فيه اعتقادًا حسنًا؛ ليعطوه المال وليحصل له منهم جاء، وعلم الذي يظهره بالصلاح أنه ليس بصالح، "فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة"؛ يعني: يأمر الله تعالى ملائكته بأن ينادوا: إن هذا الرجل كذاب قد أظهر في الدنيا رجلًا بالصلاح مع علمه بأنه غير صالح؛ ليشترك فيما حصل له من المال. وإن كانت الباء باء السببية يكون معنى الحديث: أن من قام وأظهر من نفسه الصلاح والتقوى لأجل أن يعتقد فيه رجلٌ عظيمُ القَدْرِ كثيرُ المال الصلاحَ والتقوى؛

18 - باب الحذر والتأني في الأمور

ليحصل له منه مالٌ وجاه، كما يقول الناس في العرف: هذا زاهد الأمير. * * * 3928 - وقال: "حُسْنُ الظَّنِّ مِن حُسْنِ العِبادةِ". قوله: "حسن الظن من حسن العبادة"؛ يعني: اعتقاد الخير والصلاح في حق المسلمين عبادة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3926 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: اعتَلَّ بعيرٌ لِصَفِيَّةَ وعندَ زينبَ فَضْلُ ظَهرٍ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزينبَ: "أَعْطيها بَعيرًا"، فقالت: أنا أُعطي تلكَ اليهوديةَ! فغضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهَجَرَها ذا الحِجَّةِ والمُحَرَّمَ وبعضَ صَفَرَ. قوله: "اعتل بعير"؛ أي: مرض جمل. "فضلُ ظهر"؛ أي: دابةٌ زائدةٌ على قَدْرِ حاجتها. "فهجرها"؛ أي: تركها, ولم يدخل بيتها حتى مضى شهر ذي الحجة والمحرم وبعض الصفر. * * * 18 - باب الحذَرِ والتَّأَنَّي في الأُمورِ (باب الحذر والتأني في الأمور) قوله: (التأني): ضد العجلة.

مِنَ الصِّحَاحِ: 3929 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُلْدَغُ المُؤمنُ مِن جُحْرٍ واحدٍ مرَّتينِ". قوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"، يروى (ولا يلدغ) برفع الغين على أنه خبر، وبكسر الغين، وأصله السكون لأنه نهيٌ، فحُركت بالكسر لالتقاء الساكنين. ومعنى الحديث: أنه لا يجوز لمؤمن أن يُخدع في أمر الدين مرةً بعد مرة، مثل أن يجلس مع أحد فظنه صالحًا، فإذا جرَّبه يقينًا تبيَّن له أنه مبتدعٌ أو فاسق لا يقبل النصيحة، فإذا علم حاله لا يجوز له أن يجالسه بعد ذلك إلا أن يرجع إلى الصلاح، وعلى هذا فقس جميع الأمثلة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 3930 - وقال لأَشَجِّ عبدِ القَيْسِ: "إنَّ فيكَ لخَصْلَتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلْمُ والأَناةُ". قوله: "الحلم والأناة"، (الحلم): تأخير مكافأة مَن ظلمك، هذا هو الأصل، ويستعمل في العفو عن الذنب. و (الأناة): ضد العجلة، والأناة أيضًا: الثبات في الأمر؛ يعني: الثباتُ في الطاعات وأمور الخير محمود، والسكونُ وتركُ العجلة في الأمور الدنيوية محمودٌ أيضًا، والتعجيل في الأمور الأخروية مرضيٌّ كي لا يمنعه الشيطان عما قصد من الخير. روى هذا الحديث ابن عباس. اسم "الأشج": المنذر بن عبيد، روي أن الأشج قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا

أتخلَّقُهما أم الله جبلني عليهما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل الله جبلك عليهما"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلَّتين يحبهما الله. معنى أتخلقهما: أفعلهما بالتكلُّف، ومعنى جبلَ: خلقَ. * * * مِنَ الحِسَان: 3932 - عن أبي سعيدٍ قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حليمَ إلا ذو عَثرةٍ، ولا حَكيمَ إلا ذو تَجربةٍ"، غريب. قوله: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة"؛ أي: لا حليم كاملًا إلا ذو عثرة، ولا حكيم كاملًا إلا ذو تجربة. (العثرة): الزلة. يعني: لا حليم كاملًا إلا مَن وقع في زلةٍ وحصل منه خطأ، فإنه إذا وقع في زلة وحصل منه خطأ استخجل وأحبَّ غاية الحب أن يستر مَن رآه على عيبه، وأن يعفو عنه زلته، فإذا أحب أن يعفو عنه مَن رآه، عَلم أن العفو عن الناس والسترَ على عيوبهم محبوبٌ للناس، ومرضيٌّ لله تعالى. وكذلك مَن جرب الأمور علم نفعها وضرها، والمصالح والمفاسد، فإذا علم مصالح الأمور ومفاسدها لا يفعل ما يفعل إلا عن الحكمة، و (الحكمة): إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل. * * * 3933 - عن أنسٍ: أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، فقالَ: "خُذِ الأَمرَ بالتَّدبيرِ، فإنْ رأيتَ في عاقبتِه خَيْرًا فأمْضهِ، وإنْ خِفْتَ غَيًّا فأَمْسِكْ". قوله: "خذ الأمر بالتدبير"، (التدبير): التفكُّر في الأمر، وطلبُ مصالحه

ومفاسده، والنظرُ في عاقبته. "فأمضه"؛ أي: فافعله. "وإن خفت غيًا فأمسك"؛ يعني: إن خفت أن تكون عاقبته ضلالًا وخسارًا فاتركه. * * * 3934 - عن مُصْعَبِ بن سَعْدٍ، عن أبيهِ - قالَ الأَعْمَشُ: لا أعلَمُه إلا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التُّؤَدَةُ في كلِّ شَيءٍ خيرٌ إلا في عَمَلِ الآخِرةِ". قوله: "التؤدة في كل شيء", (التُّؤَدة) بضم التاء وفتح الهمزة بمعنى التأني. * * * 3936 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الهَدْيَ الصَّالحَ، والسَّمْتَ الصَّالحَ، والاقتِصادَ، جُزْءٌ مِن خَمْسةٍ وعِشرينَ جُزْءًا مِن النُّبوَّةِ". قوله: "إن الهدي الصالح والسَّمْتَ الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة", (هدي الرجل): حالُه ومذهبه. وقال أبو عبيد: (السمت) يكون على معنيين: أحدهما: حسن الهيئة والمنظر في الدين، وليس من الجمال، ولكن هيئةُ أهل الخير ومنظرهم. والوجه الآخر: أن السمت: الطريق. و (الاقتصاد): سلوك القصد، والقصد: الوسط بحيث لا إفراط ولا تفريط؛ أي: لا إسراف ولا تقصير؛ يعني: لو بالغ في الطاعات لا يقدر أن يكون فيها على

الدوام؛ لأنه يعجز. قال الخطابي: يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث: أن هذه الخصال من خصال النبيين، فاقتدوهم فيها, وليس معناه: أن من اجتمعت فيه هذه الخصال يكون فيه جزءٌ من النبوة، بل النبوة مختصةٌ بالأنبياء؛ لأن النبوة عطاءٌ من الله، وليست بمكتسبة. وقيل: معنى هذا الحديث: أن هذه الخصال مما جاء به النبيون، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فقد حصل فيه جزء من خمسة وعشرين جزءًا مما جاء به النبيون. * * * 3937 - وعن جابرِ بن عبدِ الله، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا حَدَّثَ الرَّجلُ بالحديثِ ثُمَّ التفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ". قوله: "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة" الضمير في (هي) ضمير الحكاية؛ لأن (الحديث) بمعنى الحكاية؛ يعني: إذا حدث أحدٌ عندك حديثًا ثم غاب، صار حديثه أمانةً عندك لا يجوز إضاعتها؛ أي: لا يجوز إفشاءُ تلك الحكاية. * * * 3938 - عن أبي هُريرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لأبي الهَيْثَمِ بن التَّيهانِ: "هلْ لكَ خَادِمٌ؟ " قال: لا، فقالَ: "فإذا أتَانَا سَبْيٌ فائتنا"، فأُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برَأسَينِ، فأتاهُ أبو الهَيْثمِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اختَرْ مِنْهُما", فقالَ: يا نَبيَّ الله اختَرْ لي، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُسْتَشارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هذا فإنَّي رأيتُه يُصلي، واستَوْصِ بهِ مَعْروفًا". قوله: "إن المستشار مؤتمن"، (المستشار): هو الذي شاورته، و (شاور

واستشار): إذا طلب رأي أحدٍ فيما يريد فعلَه من الأمور؛ أي: يسأله: هل لي مصلحة في هذا الفعل أم لا؟ (المؤتمن): من ائتمنته؛ أي: جعلْتَه أمينًا في حفظ سرك أو مالك؛ يعني: يجب على المستشار أن يخبر المستشير بما هو المصلحة. "واستوص به معروفًا"؛ أي: مُرْه بالمعروف، وانصح له بالمعروف. * * * 3939 - وقال: "المَجالِسُ بالأَمانةِ إلا ثلاثةَ مَجالسٍ: سَفْكُ دَمٍ حَرامٍ، أو فَرْجٌ حَرامٌ، أو اقتطاعُ مالٍ بغَيرِ حَقًّ". قوله: "المجالس بالأمانة"؛ يعني: يجب على أهل المجلس أن يحفظوا سر أهل المجلس، لا يفشون ما جرى في المجلس من الأحاديث، وهذا إذا كان ذلك الحديث حديثًا يكره صاحبُه إفشاءَه. أما مثل الزنا، وأخذ مال الغير، وسفك دمٍ: حرام: لا يجوز حفظ السر في هذه الثلاثة؛ يعني: من قال في مجلس: إني أريد قتل فلان، أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان؛ لا يجوز على المستمعين حفظ هذا السر، بل يجب عليهم إفشاؤه؛ ليفر مَن يريد قتله، أو الزنا بها، أو أخذ ماله. روى هذا الحديث جابر. * * * 3940 - وقال: "إنَّ مِن أعظَمِ الأَمانةِ عندَ الله تعالى يومَ القِيامةِ: الرَّجُلُ يُفْضي إلى امرأتِهِ وتُفضي إليه ثم يُفشي سِرَّها". قوله: "إن من أعظم الأمانة"؛ يعني: أولى سرًّ بأن يُحفظ هو السر الجاري بين الزوجين، لا يجوز لكل واحد منهما إفشاءَ سر صاحبه.

19 - باب الرفق والحياء وحسن الخلق

"يفضي"؛ أي: يصل؛ يعني: رأى الزوج الزوجة وجامعها؛ ورأى كل واحد منهما صاحبه عريانًا، واطلع على ما فيه مما يُحمد أو يذم. روى هذا الحديث أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -. * * * 19 - باب الرفق والحياء وحسن الخلق (باب الرفق) (الرفق): المداراة مع الناس، الرفيق: المُلاطف، والمداري: الراحم بصاحبه. مِنَ الصِّحَاحِ: 3944 - وقال: "إنَّ الحياءَ مِن الإيمانِ". قوله: "إن الحياء من الإيمان" قد ذُكر في أول الكتاب في قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" شرحُ هذا الحديث والذي بعده. روى هذا الحديث أبو بكرة، والذي بعده عمران بن حصين. * * * 3945 - وقال: "الحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ". ويُروَى: "الحياءُ خيرٌ كلُّه". قوله: "الحياء خير كله": هذا عام، والمراد به الخاص؛ أي: الحياء فيما لا يرضاه الله خيرٌ كله.

روى هذا الحديث عمران بن حصين. * * * 3946 - وقال: "إنَّ مِمَّا أدركَ النَّاسُ مِن كلامِ النُّبوَّةِ الأولى: إذا لم تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شئتَ". قوله: "من كلام النبوة (¬1) الأولى" قال الخطابي: معنى هذا الكلام: أن الحياء لم يزل أمرًا ثابتًا واستعمالُه واجبًا منذ زمان النبوة الأولى، فإنه ما من نبي إلا وقد ندب إلى الحياء، وبعث عليه، وإنه لم يُنسخ فيما نُسخ من شرائعهم ولم يبدَّل فيما بدِّل منها، وذلك أنه أمر قد عُلم صوابه، وبدا فضلُه، واتفقت العقول (¬2) على حسنه، وما كان هذا صفته لم يَجْرِ عليه النسخُ والتبديل. "فافعل ما شئت" هذا أمرٌ ومعناه الخبر؛ أي: إذا لم تستح فعلتَ ما شئت مما تدعوك إليه نفسك. وقيل: هذا أمرُ وعيد؛ أي: فافعل ما شئت فإنك تُجازى بما فعلت. روى هذا الحديث ابن مسعود. * * * 3947 - عن النَّواسِ بن سَمْعانَ قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البرِّ والإِثمِ، فقال: "البرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإِثمُ ما حاكَ في صَدْرِكَ وكَرِهتَ أنْ يطَّلِعَ عليهِ الناسُ". ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "أضاف الكلام إلى النبوة لإشعار أن ذلك من قضايا النبوة ونتائج الوحي". (¬2) في "ش": "الخلائق".

قوله: "ما حاك في صدرك", (حاك يَحيك حيكًا): إذا أثَّر كلام في القلب لكونه قبيحًا، أو (حاك): إذا تردَّد شيء في القلب؛ يعني: الإثم ما تردَّد في قلبك ولم تُرِدْ أن تُظهره لكونه قبيحًا. * * * 3948 - وقال: "إنَّ مِن أحبكم إليَّ أَحْسنَكم أَخْلاقًا". قوله: "إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقًا"، (حسن الخلق) معناه: العفو عن الذنوب، ومداراة الناس وتحمُّل أذاهم. روى هذا الحديث ابن عمرو - رضي الله عنهما -. 3949 - وقال: "إنَّ مِن خِيارِكم أَحْسَنَكم أَخْلاَقًا". قوله: "إن من خياركم"، (الخيار): المختار من كل شيء. روى هذا الحديث ابن عمرو - رضي الله عنهما -. * * * مِنَ الحِسَان: 3951 - عن أبي هُريرَةَ قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحياءُ مِن الإِيمانِ، والإيمانُ في الجَنَّةِ، والبَذَاءُ مِن الجَفاءِ, والجَفاءُ في النَّارِ". قوله: "والإيمان في الجنة"؛ يعني: أهل الإيمان في الجنة. "والبذاء من الجفاء", (البذاء): ضد الحياء. "والجفاء في النار"؛ يعني: أهل الجفاء في النار، و (الجفاء) خلاف البر. * * *

3953 - عن حارِثَةَ بن وَهْبٍ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ الجَوَّاظُ ولا الجَعْظَرِيُّ", قال: الجَوَّاظُ: الذي جَمَعَ ومَنَعَ، والجَعْظَرِيُّ: الغَليظُ الفَظُّ. قوله: "لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري", (الجواظ): الضخم المختال في مشيته، و (الجعظري): الغليظ الفظ، وقيل: (الجواظ): الغليظ الفظ، و (الجعظري): الضخم المختال في مشيته. روى هذا الحديث حارثة بن وهب، وفي بعض نسخ "المصابيح": عكرمة ابن وهب، وهو سهوٌ من النساخين. 3956 - وعن أبي ذرٍّ قال: قال لي رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ الله حَيْثُما كنتَ، وأَتْبعِ السَّيئةَ الحَسَنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ". قوله: "وخالق الناس"؛ أي: استعمل الخلقَ الحسن مع الناس. * * * 3957 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أُخْبرُكم بِمَن يَحرُمُ على النَّارِ وبمَن تَحْرُمُ النَّارُ عليهِ؟ على كلِّ هَينٍ لَينٍ قريبٍ سَهْلٍ"، غريب. قوله: "هين" أصله: هَيْوِن قُلبت الواو ياءً وأُدغمت الياء في الياء، وهو من الهَوْن وهو السهولة، ومعنى (القريب): أن يكون قريبًا من الناس ويجالسهم ويلاطفهم. * * * 3958 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المُؤْمِنُ غِرٌّ كريمٌ، والفاجِرُ خِبٌّ لئيمٌ".

20 - باب الغضب والكبر

قوله: "المؤمن غر كريم"، (الغر): الذي لم يجرب الأمور، و (الخِبُّ): ضده، والخب: الخداع؛ يعني: المؤمن سهلٌ سليم لم يكن فيه حيلة ومكر؛ يعني: المؤمن الكامل مَن يكون بهذه الصفة. * * * 3959 - وقال: "المُؤمنونَ هَينونَ لَينونَ، كالجَمَلِ الأَنِفِ، إنْ قِيدَ انقادَ، وإنْ أُنيخَ على صَخْرةٍ استناخَ", مُرسَلٌ. قوله: "كالجمل الأنف"، (جملٌ آنِفٌ): على وزن فاعل، و (أَنِفٌ) على وزن فَخِذ، إذا جُعل في أنفه الزمام، والمراد بهذا الحديث: أن المؤمن سهلٌ يقضي حوائج الناس، ويسهِّل أمورهم، ويخدمهم. روى هذا الحديث أنس. * * * 20 - باب الغضب والكبر (باب الغضب والكبر) 3963 - وقال: "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ". مِنَ الصِّحَاحِ: "ليس الشديد بالصرعة", (الصُّرعة) - بضم الصاد وفتح الراء - مبالَغةٌ؛ أي: كثير الصَّرْع، وهو الإسقاط؛ أي: ليس القوي مَن يقدر على إسقاط خصمه وقهره، بل القويُّ من يكظم غيظه ويسكِّن نفسه عند الغضب.

3964 - وقال: "لا أُخبرُكم بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أَقْسَمَ على الله لأبَرَّهُ، ألا أُخبرُكُم بأهْلِ النَّارِ؟ كلُّ عُتُلًّ جَوَّاظٍ مُسْتكْبرٍ". ويُروَى: "كلُّ جَوَّاظٍ زَنيمٍ مُتكبرٍ". قوله: "كل ضعيف متضعَّف"، (التضعيف): كسر النفس والتواضع. "العتل": الشديد الخصومة الجافي، وقيل: الغليظ الفظ. "الزنيم": الفاجر، وقيل: اللئيم، وقيل: مَن نُسب إلى رجل وليس هو منه. روى هذا الحديث حارثة بن وهب. * * * 3965 - وقال: "لا يدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ في قلبهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ من خَرْدلٍ مِن إيمانٍ، ولا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ في قلبهِ مِثْقالُ حبةٍ من خَرْدلٍ مِن كِبْرياءَ". قوله: "لا يدخل الجنة ... " إلى آخره، يريد: لا يدخل الجنة مع الكبر، بل يُصفَّى من الكبر ومن كل خصلة مذمومة؛ إما بالتعذيب، أو بعفو الله، ثم يدخل الجنة. "الكبرياء": الكبر. روى هذا الحديث ابن مسعود. * * * 3966 - وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أحدٌ في قلبهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ"، فقالَ رجلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حَسَنًا، ونَعْلُهُ حسنًا؟ قالَ: إنَّ الله جَميلٌ يُحبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ". قوله: "الكبر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس"، (بطر الحق): التكبر مع أوامر

الله؛ يعني: لا يلتفت إلى أوامر الله ونواهيه، و (غمط الناس): احتقارُهم. روى هذا الحديث ابن مسعود. * * * 3967 - وقال: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يومَ القِيامَةِ ولا يُزَكَّيهم - ويُرْوَى: ولا يَنظُرُ إليهم - ولهم عَذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُسْتكبرٌ". قوله: "عائل مستكبر", (العائل): ذو العيال، و (المستكبر): المتكبر؛ يعني: من له عيال وليس له مال، ولا يقدر على تحصيل نفقتهم وكسوتهم وتجوُّعهم، ولا يطلب الزكاة والصدقة، ولا يقبل أموال الناس من التكبر، ولا يطلب شيئًا من بيت المال، فمَن هذه صفته أَثِمَ لإيصال ضرر الجوع والعري إلى عياله. روى هذا الحديث والذي بعده أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 3969 - عن سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزالُ الرَّجُلُ يذهَبُ بنفْسِه حتى يُكتَبَ في الجبَّارِينَ، فيُصيبُهُ ما أصابَهم". قوله: "يذهب بنفسه" الباء يحتمل أن تكون للتعدية؛ أي: يُغلي نفسه ويبعدها عن الناس في المرتبة (¬1)، ويعتقدها عظيمة القَدْرِ، ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة؛ أي: يوافق نفسه ويعزَّزها ويكرمها كما يكرم الخليلُ الخليلَ، ¬

_ (¬1) في "ش" و"ق": "ويعززها" مكان "ويبعدها عن الناس في المرتبة".

حتى يغترَّ بنفسه وتصيرَ متكبرة، وهذا لا يليق بالصالحين، بل ينبغي أن يَحْقِرَ نفسه المتكبرة ويعتقدها أصغر الناس، فإن نفس الرجل (¬1) أكبر أعدائه. "فيصيبه ما أصابهم"؛ يعني: يصيبه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة ما أصاب المتكبرين. * * * 3970 - عن عَمْرِو بن شُعَيبٍ، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحشَرُ المُتكبرونَ أمثالَ الذَّرِّ يومَ القيامةِ في صُورة الرِّجالِ، يَغشاهُم الذُّلُّ مِن كلِّ مَكانٍ، يُساقونَ إلى سِجْنٍ في جَهَنَّمِ يُسَمَّى: بُولَسَ، تَعْلُوهم نارُ الأَنيارِ، يُسْقَوْنَ مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ طِينةَ الخَبَالِ". قوله: "أمثال الذر"، (الذر): جمع ذرة، وهي النملة الصغيرة؛ يعني: صورتُهم صورةُ الإنسان، وجثتُهم كجثة الذر في الصغر، والمراد بهذا الحديث: أن المتكبرين يكونون يوم القيامة على غاية الذل والحقارة. "نار الأنيار"؛ أي: نارٌ حرارتها أشد من جميع أنواع نار جهنم. "عصارة أهل النار طينة الخبال"؛ يعني: اسم عصارة أهل النار طينة الخبال، و (عصارة أهل النار): ما يسيل منهم من الصديد والدم والقيح. * * * 3973 - عن أسماءَ بنت عُمَيْس: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "بِئْسَ العَبْدُ عبدٌ تخيَّلَ واختالَ، ونَسِيَ الكبيرَ المُتَعالِ، بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ تجبَّرَ واعتدَى، ونسيَ الجَبَّارَ الأَعْلى، بئْسَ العَبْدُ عبدٌ سَها ولها، ونَسِيَ المَقابرَ والبلَى، بِئْسَ ¬

_ (¬1) في "ق": "فإن النفس للرجل".

21 - باب الظلم

العَبْدُ عَبْدٌ عَتا وطَغَى، وَنَسيَ المُبتدَأَ والمُنتَهى، بِئْسُ العَبْدُ عبد يَخْتِلُ الدُّنْيا بالدِّينِ، بِئْسَ العَبْدُ عبدٌ يَخْتِل الدِّينَ بالشُّبُهاتِ، بئسَ العَبْدُ عبدٌ طَمَعٌ يقودُه، بئسَ العَبْدُ عبدٌ هَوى يُضلُّه، بئسَ العَبْدُ عبدٌ رَغَبٌ يُذِلُّه"، غريب. قوله: "تخيَّل"؛ أي: تكبَّر واعتقد نفسه عظيمةً، "اختال"؛ أي: تبختر، "اعتدى"؛ أي: جاوز قَدْرَه بأن تكبر وأعرض عن أوامر الله، "سها"؛ أي: صار غافلًا، "لها"؛ أي: اشتغل باللعب والهذيان. "البلى": الخلوقة، وأن يصير الشخص في القبر رميمًا ورفاتًا. "عتا وطغى" معناهما: تجاوَزَ الحدَّ، "ونسي المبتدأ والمنتهى"؛ يعني: نسي كونه نطفةً ثم علقةً، فأنعم الله عليه فصوَّره صورةً حسنة، ورَزَقه من أنواع النعم، فلم يشكر هذه الأنعم، ولم يعمل لمنتهاه؛ أي: للقبر والقيامة. قوله: "يختل الدنيا بالدين"، (الختل): التغرير والمكر؛ يعني: يغرُّ أهل الدنيا بالدِّين؛ يعني: يعمل عمل أهل الصلاح، لا لله بل لأنْ يعتقده الناس صالحًا ويبذلون له المال والجاه. "يختل الدين بالشبهات"؛ يعني: يُفسد دينَه بأكل الشبهات. "عبد رغبٌ"؛ أي: عبد كثير الأكل، الرغب: واسع البطن، والله أعلم. * * * 21 - باب الظُّلمِ (باب الظلم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3975 - عن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اتَّقوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ

ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَن كانَ قبلَكم، حَمَلَهم على أنْ سَفَكُوا دِماءَهم واستَحَلُّوا مَحارِمَهم". قوله: "اتقوا الشح", (الشح): منعُ الواجب، وقيل: أكلُ مال الغير، وقيل: (الشح): أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، وقيل: العمل بمعاصي الله، وقيل: الشح بما يزيد غيرك، والبخل بما في يدك. قوله: "حملهم على أن يسفكوا دماءهم"؛ يعني: يحرضهم على جمع المال الحرام، وقتل بعضهم بعضًا لأخذ أموالهم. "واستحلُّوا محارمهم"؛ أي: اتخذوا ما حرَّم الله من نسائهم حلالًا؛ أي: فعلوا بهن الفاحشة. * * * 3976 - وقال: "إنَّ الله لَيُملي للظَّالِمِ حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية". قوله: "يملي للظالم"؛ يعني: يمهلهم ويطوِّل أعمارهم؛ يعني: يُكثروا من الظلم والفواحش، ثم يأخذهم أخذًا شديدًا. "لم يفلته"؛ أي: لم يخلَّصه، أفلت: إذا خرج من ضيقٍ، وفرَّ وخلص من حبس. " {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} "؛ أي: إذا أخذ أهلَ القرى من الظالمين، وأراد بالقرى: بلاد ومساكن الكافرين. * * * 3977 - عن ابن عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ بالحِجْرِ قال: "لا تَدخُلوا

مَساكِنَ الذينَ ظَلَموا أنفسَهم إلا أنْ تَكُونُوا باكِينَ، أنْ يُصيبَكم مِثْلُ ما أصابَهم"، ثم قَنَّعَ رأسَه، وأَسْرَعَ السَّيْرَ حتى اجتازَ الوادِيَ. "لما مر بالحجر", (الحجر) هنا: ديار قوم ثمود. "قنَّع" بتشديد النون؛ أي: ستر، وعلَّةُ سترِه - صلى الله عليه وسلم - رأسَه تحذيرُ الناس من دخول مساكن الكفار الذين أهلكهم الله بعذابه؛ يعني: أستر رأسي حتى لا يصل إلى غبار ديار الكفرة، حتى لا ينزل عليَّ بلاءٌ من شؤم أهل هذه الديار، وغرضُه - صلى الله عليه وسلم - بهذا تنبيهُ أصحابه ومَن بعدهم. "اجتاز"؛ أي: قطع وخرج من ذلك الموضع. * * * 3980 - وقال: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقوقَ إلى أَهْلِها يومَ القِيامةِ حتى يُقادَ للشَّاةِ الجَلْحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ". قوله: "حتى يقاد"؛ أي: حتى يُقتص. "الجلحاء": الشاة التي لا قرن لها، و"القرناء": ضدُّها؛ يعني: لو نطح شاةٌ قرناءٌ شاةً جلحاءَ في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة يؤخذ القرن من الشاة القرناء وتُعطى الجلحاءُ قرنًا حتى تقتصَّ لنفسها من الشاة القرناء. فإن قيل: الشاة غير مكلَّفة فكيف يُقتص منها؟ قلنا: الله تعالى فعَّالٌ لِمَا يريد لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. والغرض من هذا: إعلام العباد أنه لا تضيع الحقوق، ويُقتص حق المظلوم من الظالم، وتوفَّى كل نفس ما كسبت. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

3981 - عن حُذَيفة - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولونَ: إنْ أحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنا, ولكنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكم: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أنْ تُحْسِنُوا، وإنْ أساؤُوا فلا تَظْلِموا". قوله: "لا تكونوا إمعة"، (الإمعة) في اللغة: هو الذي يقول لكل أحد: أنا معك، والمراد به ها هنا: أن الذي يقول: أنا أكون مع الناس كما يكونون معي، فإن أحسنوا إليَّ أحسنت إليهم، وإن أساؤوا أسأت إليهم، جاء النهي عن هذا الفعل، بل قال - صلى الله عليه وسلم -: "أحسن إلى مَن أساء إليك". "وطِّنوا": هذا أمرُ مخاطبٍ من التوطين، وهو العزم الجازم على الفعل. * * * 3982 - كتبَ مُعاوِيةُ إلى عائِشَةَ رضي الله عنها: أنْ اكُتُبي إليَّ كتابًا تُوصِيني فيهِ ولا تُكْثِري، فكتَبَتْ: سلامٌ عليكَ، أمَّا بعدُ: فإنَّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن التَمَسَ رِضا الله بسَخَطِ النَّاسِ كفاهُ الله مَؤُونَةَ النَّاسِ، ومَن التَمَسَ رِضا النَّاسِ بسَخَطِ الله وَكَلَهُ الله إلى النَّاسِ، والسَّلامُ عليكَ". قوله: "من التمس رضا الله بسخط الناس"؛ يعني بهذا الحديث: أن الرجل إذا عَرَضَ له أمر في فِعْلِه رِضَى الله عنه وغضبُ الناس، أو يكون في فعله رضى الناس وغضبُ الله، فإنْ فعل ما فيه رضى الله وغضبُ الناس؛ - رضي الله عنه - ودفع عنه شر الناس، وإن فعل ما فيه رضى الناسِ وغضبُ الله وَكَلَه الله إلى الناس؛ يعني: سلَّط الله الناس عليه حتى يؤذوه ويظلموا عليه أو يهلكوه (¬1)، ولم يدفع عنه شرَّهم. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "ويهلكوه".

22 - باب الأمر بالمعروف

22 - باب الأمر بالمعروف (باب الأمر بالمعروف) مِنَ الصِّحَاحِ: 3983 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رَأَى مِنكم مُنكَرًا فلْيُغيرْه بيدِه، فإنْ لم يستَطِعْ فَبلسانِه، فإنْ لم يستطِعْ فبقلبهِ، وذلكَ أضعفُ الإِيمانِ". "فليغيره"؛ أي: فليدفع ذلك المنكر، و (المنكر): ما أنكره الشرع؛ أي: كرهه ولم يرضه. * * * 3984 - وقالَ: "مَثَلُ المُدْهِنِ في حُدودِ الله والواقِعِ فيها، مَثلُ قَوْمٍ استَهمُوا سَفينةً، فصارَ بَعضُهم في أَسْفَلِها، وصارَ بعضُهم في أعلاها، فكانَ الذي في أَسفَلِها يَمُرُّ بالماءِ على الذينَ في أعلاها فتَأَذَّوا بهِ، فأَخَذَ فَأْسًا فجعلَ ينقُرُ أَسْفَلَ السَّفينةِ، فأَتَوْهُ فقالوا: ما لكَ؟ فقالَ: تأذَّيتُم بي، ولا بُدَّ لي مِن الماءِ, فإنْ أَخَذُوا على يَدَيهِ أَنجوْهُ، ونَجَّوا أَنفُسَهم، وإنْ تَرَكُوه أَهْلَكُوه، وأهْلَكُوا أنفسَهم". قوله: "مثل المُدْهِن"؛ أي: مثل المُداهن، (المداهنة): المساهلة في الأمر، والمراد بها في الشرع: أن يرى الرجل منكرًا ويقدر على دفعه ولم يدفعه؛ لمحافظةِ جانبِ أحد، أو لاستحياءٍ مِن أحد، أو لقلة مبالاته في الدين. "والواقع"؛ أي: الفاعل للشر.

"استهموا"؛ أي: اقترعوا؛ أي: اقتسموا. "الفأس": شيء من حديد يشق به الخشب. "فجعل"؛ أي: فطفق، "ينقر"؛ أي: يثقب. "فإن أخذوا على يديه"؛ يعني: فإن منعوه من نقر السفينة نجا ونجوا، وإن لم يمنعوه وتركوه حتى نقر أسفل السفينة خرج الماء من البحر إلى السفينة وغرقت السفينة ومن فيها. فكذلك إن منع الناسُ الفاسق عن الفسق نجوا ونجا من عذاب الله، وإن لم يمنعوه وتركوه حتى يفعل المعاصي ولم يقيموا عليه الحدود لنزل عليه وعليهم العذاب بشؤمه. روى هذا الحديث النعمان بن بشير. * * * 3985 - وقال: "يُجاءُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فيُلقَى في النَّارِ فتَندلِقُ أَقتابُه في النارِ، فيَطحنُ فيها كطحنِ الحمارِ بِرَحَاهُ، فيَجتَمِعُ أهلُ النَّارِ عليهِ، فيقولونَ: أَيْ فلانُ! ما شأنُكَ؟ أَليسَ كنتَ تأمرُنا بالمَعْروفِ وتنهانا عن المُنْكَرِ؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمَعْروفِ ولا آتِيهِ، وأنهاكُم عن المُنْكَرِ وآتِيهِ". قوله: "فتندلق"؛ أي: فتخرج. "الأقتاب": الأمعاء، واحدها: (قِتْب) بكسر القاف وسكون التاء. "فيطحن"؛ أي فيدور ويتردد فيها؛ أي: في أقتابه؛ يعني: يدور حول أقتابه، ويضربها برجله. روى هذا الحديث أسامة بن زيد. * * *

مِنَ الحِسَان: 3986 - عن حُذَيفَةَ بن اليَمانِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ ولتَنهَوُنَّ عن المُنْكرِ، أو لَيُوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عليكم عذابًا مِن عندِه، ثم لَتدْعُنَّهُ فلا يُستَجابُ لكم". قوله: "أو ليوشكن الله"؛ يعني: فإن أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر نجوتم من العذاب، وإلا لَيَقْرُبُ أن يرسل الله عليكم عذابًا، ثم لتدعون الله ولا يستجاب دعاؤكم في دفع ذلك العذاب. * * * 3987 - عن العُرْسِ بن عَميرَةَ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عُمِلَتْ الخَطيئةُ في الأَرْضِ مَن شهِدَها فكرِهَها كانَ كمَن غابَ عنها، ومَن غابَ عنها فرَضيَها كانَ كمَن شَهِدَها". قوله: "من شهدها"؛ أي: من حضرها. * * * 3988 - عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قال: يا أيُّها النَّاسُ! إنَّكم تَقْرؤونَ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فإنَّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوْا مُنْكَرًا فلم يُغَيرُوه يُوشِكُ أنْ يعُمَّهم الله بعِقابهِ"، صحيح. وفي رِوايةٍ: "إذا رَأَوْا الظَّالِمَ فلم يأخذُوا على يَدَيْه أَوْشَكَ ... ". وفي رِوايةٍ: "ما مِن قَوْمٍ يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، ثم يَقْدِرُونَ على أنْ يُغَيروا، ثُمَّ لا يُغيرون، إلا يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهم الله بعقابٍ".

وفي رِوايةٍ: "يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، هُمْ أَكْثَرُ ممَّن يَعْمَلُه ... ". قوله: " {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} "؛ يعني: الْزَموا حفظَ أنفسكم عن المعاصي، فإذا حفظتم أنفسكم لا يضرُّكم معاصي غيركم، وإنما لا يضرُّ الرجلَ معاصي غيره إذا عجز عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قوله: "هم أكثر ممن يعمله"؛ يعني: إذا كان الذي لا يعمل المعاصي أكثر من الذين يعملونها, ولم (¬1) يمنعوهم عن المعاصي، نزل على الجميع عذاب. * * * 3989 - عن جريرِ بن عبدِ الله البَجَلي، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن قومٍ يكونُ بينَ أظهرِهم رجلٌ يعملُ بالمعاصي، هم أَمْنَعُ منهُ وأَعَزُّ، لا يُغَيرُونَ عليهِ = إلا أصابَهم الله بعقابٍ". قوله: "أمنع"؛ أي: أقوى، ومثله: "أعز". * * * 3990 - وعن أبي ثَعْلَبَةَ: في قولِهِ تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أَمَا والله، لقد سَأَلْتُ عنها رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل ائتَمِروا بالمَعْروفِ، وتَناهَوْا عن المُنْكَرِ، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودُنيا مؤثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برَأْيهِ، ورأيتَ أَمْرًا لا بُدَّ لكَ منهُ فعليكَ نفسَكَ، ودَعْ أَمْرَ العَوَامِّ، فإنَّ وراءَكُم أيامَ الصَّبرِ، فمَن صَبَرَ فيهنَّ كانَ كمَن قَبَضَ على الجَمْرِ، للعاملِ فيهنَّ أَجْرُ خَمسينَ رَجُلاً يعمَلونَ مثلَ عَمَلِهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أجرُ خَمْسينَ منهم؟ قال: "أَجْرُ خَمْسينَ منكُم". ¬

_ (¬1) في "ش": "فلم".

قوله: "بل ائتمروا"، (ائتمر) بمعنى أمر. "شحًا مطاعًا"، (الشح): البخل، (المطاع): مفعولٌ مِن أطاع؛ يعني: حتى إذا بلغ الأمر إلى أن يطيع الناس البخل؛ أي: استعملوا البخل فلا يؤدون الزكاة والكفارات والنذور والفطرة، ولا يحسنون إلى الناس. "وهوى متبعًا"؛ أي: يتبع كل أحدٍ هواه؛ أي: يفعل ما تأمره نفسه. "ودنيا مؤثرة"، (مُؤْثَرة): مفعولة من الإيثار وهو الاختيار؛ يعني: يختار الناس الدنيا على الآخرة، ويحرصون على جمع المال، ويتركون الأعمال الصالحة. "وإعجاب كل ذي رأي برأيه"، (الإعجاب): وجدان شيء حسنًا؛ يعني: يجد كلُّ أحدٍ فعلَ نفسه حسنًا وإن كان قبيحًا, ولا يراجع العلماء فيما فعل، بل يكون مفتيَ نفسه. "ورأيتَ أمرًا لا بد لك منه"؛ يعني: رأيتَ بعض الناس يعملون المعاصي، ولا بد لك من السكوت من عجزك وقدرتهم، فإذا كان كذلك احفظ نفسك عن المعاصي، ولا تأمر أحدًا بالمعروف ولا تَنْهَه عن المنكر كي لا يقتلوك أو يؤذوك. "فإن ورائكم"؛ أي: فإن قدَّامكم وتلقاءَكم. "أيام الصبر"؛ أي: لا طريق لكم في ذلك الوقت إلا الصبر. "فيهن"؛ أي: في تلك الأيام. "قَبَضَ على الجمر"؛ أي: تلحقه المشقةُ بالصبر، ويكون من غاية المشقة كمن أخذ النار بيده (¬1). * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "والحديث التالي يدل على أنه كان يعلم الأمور المستقبلة التي علمه إياها {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ".

3991 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطيبًا بعدَ العَصْرِ فلم يَدَعْ شيئًا يكونُ إلى قيامِ السَّاعةِ إلا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونَسيَهُ من نَسِيَهُ، وكانَ فيما قال: "إنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضرَةٌ، وإنَّ الله مُستَخْلِفُكم فيها فناظِرٌ كيفَ تعملونَ؟ أَلا فاتَّقُوا الدُّنيا، واتَّقُوا النِّساءَ"، وذَكَرَ أنَّ لكلِّ غادرٍ لِوَاءً يومَ القِيامةِ بقَدْرِ غَدْرتِهِ في الدُّنيا, ولا غَدْرَ أكبرُ مِن غَدْرِ أميرِ العَامَّةِ، يُغرَزُ لِواؤُه عندَ استِهِ، قال: "ولا تَمنعَنَّ أَحَدًا منكم هيبةُ النَّاسِ أن يقولَ بحقِّ إذا عَلِمَه". وفي روايةٍ: "إنْ رأى منكرًا أن يغيرَه"، فبكى أبو سعيدٍ وقال: قد رأيناهُ فمَنَعَتْنا هيبةُ النَّاسِ أنْ نتكَلَّمَ فيهِ، ثُمَّ قال: "أَلا إنَّ بني آدَمَ خُلِقُوا على طَبَقاتٍ شَتَّى؛ فمنهم مَن يُولَدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ مُؤْمِنًا، ومنهم مَن يُولدُ كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ كافِرًا، ومنهم مَن يولدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ كافرًا، ومنهم مَن يولدُ كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ مُؤْمِنًا"، قال: وذكرَ الغَضَبَ، "فمنهم مَن يكونُ سريعَ الغَضَبِ سريعَ الفَيْءِ، فإِحداهُما بالأخْرى، ومنهم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ، فإحداهُما بالأخرى، وخِيارُكم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ سريعَ الفيء، وشرارُكم مَنْ يكون سريعَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ"، قال: "اتقوا الغَضَبَ، فانهُ جَمْرَةٌ على قَلْبِ ابن آدمَ، أَلا تَرَوْنَ إلى انتِفاخِ أوداجِهِ وحُمرةِ عَيْنَيهِ؟ فمَن أَحَسَّ بشيءٍ مِن ذلكَ فَلْيَضْطَجِعْ وليتلَبَّدْ بالأَرْضِ"، قال: وذكرَ الدَّيْنَ فقال: "منكم مَن يكونُ حَسَنَ القَضاءِ، وإذا كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، ومنكم مَن يكونُ سيئَ القَضاءِ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، وخِيارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ في القَضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، وشِرارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أساءَ القضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطَّلبِ، حتى إذا كانَت الشَّمْسُ على رُؤوسِ النَّخْلِ وأَطْرافِ الحِيطانِ فقالَ: "أَما إنه لم يَبْقَ مِن الدُّنْيا فيما مَضَى منها إلا كما بقيَ مِن يومِكم هذا فيما مَضَى منه".

قوله: "إن الدنيا حلوة خضرة"؛ يعني: الدنيا طيبة مليحة، وعيون الناس وقلوبهم لا يشبعون من جمع المال ومن الجاه. "مستخلفكم", (الاستخلاف): إقامة أحد مقام مَن كان قبله؛ يعني: يُميت ويُهلك قومًا، ويقيم قومًا آخر مقامهم؛ ليختبرهم أيهم يعمل العمل الصالح، وأيهم (¬1) يعمل العمل السيئ. "وذكر أن لكل غادر لواء"، ذُكر بحثُ الغدر في (باب ما على الولاة من التيسير). قوله: "ثم قال"؛ أي: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "فإحداهما بالأخرى"؛ يعني: إحدى الخصلتين تقابل الخصلة الأخرى لا تستحق المدح والذم. "البطيء": ضد السريع. "انتفاخ أوداجه"، (الانتفاخ): ظهور الريح في شيء حتى يعظم، (الأوداج): جمع وَدَجٍ، وهو عِرْقُ العنق. "أحس"؛ أي: أدرك وعلم. "وليتلبد"؛ أي: وليلتصق "بالأرض" لتكسر نفسه ويذهب غضبه. "وإذا كان له"؛ يعني: فإذا كان له دَينٌ على أحد، يؤذيه في طلب دَينه، ويعسر عليه في التقاضي. "حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل"؛ يعني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المجلس يحدِّث من بعد العصر حتى قربت الشمس من الغروب، ولم تبق الشمس إلا على رؤوس النخيل؛ يعني: ذهبت الشمس عن وجه الأرض. "الحيطان": جمع حائط. * * * 3992 - وقال: "لن يَهلكَ النَّاسُ حتى يُعذَروا مِن أنفُسِهم". ¬

_ (¬1) في "م" و"ش" و"ق": "فأيهم"، والصواب ما أثبت.

قوله: "حتى يُعذروا من أنفسهم": يجوز كسر الذال وفتحها: فأما كسر الذال: فهو مِن (أَعْذَرَ): إذا كان ذا ذنبٍ كثيرٍ محتاجًا إلى العذر من كثرة ذنوبه؛ يعني: لن يهلك الناس حتى تكثر ذنوبهم، و (من) في (من أنفسهم) للتبيين؛ أي: حتى تكثر ذنوب أنفسهم لا ذنوبُ غيرهم. وأما فتح الذال: فهو مضارعٌ مجهولٌ من (أَعْذَر): إذا أزال عُذْرَ أحد؛ يعني: حتى يجعلهم الله بحيث لا يقدرون على العذر بأن يبعث عليهم الرسل، ويبينوا لهم الرشاد من الضلال، والحرام من الحلال، والحق من الباطل، فإذا عرفوا الحق من الباطل ولم يؤمنوا، أو آمنوا ولكن أكثروا المعاصي ولم يتوبوا، فحينئذ أهلكهم الله. روى هذا الحديث أبو البَخْتَري، عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. * * * 3993 - وقال: "إنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ العَامَّةَ بعَمَلِ الخاصَّةِ حتى يَرَوُا المُنْكَرَ بينَ ظَهْرانَيْهِم، وهم قادرونَ على أن يُنكِرُوهُ فلم يُنْكِروهُ، فإذا فعلُوا ذلكَ عذَّبَ الله العَامَّةَ والخَاصَّةَ". قوله: "لا يعذب العامة" أراد بـ (العامة): أكثر القوم، وبـ (الخاصة): أقلَّهم. "بين ظهرانيهم"؛ أي: بينهم. روى هذا الحديث أنس. * * * 3994 - وعن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا وَقَعَتْ بنو

إسرائيلَ في المعاصي نَهَتْهُم عُلَماؤُهُم فلم يَنْتَهُوا، فجالسُوهم في مجالِسِهم، وَواكلُوهُم وشارَبُوهم، فَضَرَبَ الله قلوبَ بعضهم ببَعْضٍ، ولعنَهم على لسانِ داودَ وعيسَى بن مريمَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} "، قال: فجَلَسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانَ مُتَّكِئًا فقال: "لا وَالذي نَفْسي بيدهِ، حتى تَأْطِرُوهم أَطْرًا". وفي رِوايةٍ: "كلا والله، لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ، وَلَتنهَونَّ عن المنكرِ، ولتأخُذُنَّ على يَدَي الظالمِ، ولَتَأْطِرُنَّهُ على الحقِّ أَطْرًا، أو لَتَقْصُرُنَّه على الحَقِّ قَصْرًا، أو ليَضْرِبن الله بقلوبِ بعضكُم على بعضٍ، ثم لَيَلْعَنَنَّكُم كما لَعَنَهُم". قوله: "فضرب (¬1) الله قلوب بعضهم ببعض"؛ يعني: سوَّد الله قلوبَ مَن لم يَعْصِ بشؤمِ مَن عَصَى، فصارت قلوب الجميع قاسيةً بعيدةً من قبول الخير والرحمة بسبب المعاصي، وبسبب مخالطة بعضهم بعضًا. قوله: "لا والذي نفسي بيده"؛ يعني: لا يخلصون من العذاب. "حتى تأطروهم"، (الأطر): الإمالة والتحريف من جانب إلى جانب؛ يعني: حتى تمنعوا الظَّلَمةَ والفَسَقةَ عن الظلم والفسق، وتُميلوهم عن الباطل إلى الحق. * * * 3996 - عن عَمَّارِ بن ياسرٍ قال: قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُنزِلَتْ المائِدَةُ مِن السَّماءِ خُبْزًا ولَحْمًا، وأُمِروا أنْ لا يَخُونوا ولا يَدَّخِرُوا لغدٍ، فخانُوا وادَّخَروا ورَفَعُوا لِغَدٍ، فمُسِخُوا قِرَدَةً وخنازِيرَ". قوله: "فمسخوا"؛ أي: تغيَّرت صورهم" قردةً وخنازير" منصوبتان على التمييز، و (القردة): جمع القرد، وهو حيوان معروفٌ كنيته أبو زَنَّة. ° ° ° ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "أي: خلط، ضرب الجص بعضه ببعض؛ أي: خلطه".

24 - كتاب الرقاق

24 - كِتابُ الرَّقَاقِ

[24] كِتَابُ الرَّقَاقِ (كِتَابُ الرَّقاقِ) (الرقاق): جمع رقيق، وهو الذي فيه رِقةٌ؛ أي: لطافةٌ، والرقة: ضد الغلظ. سميت هذه الأحاديث رقاقًا؛ لأن في كل حديث من الوعظ والتنبيه ما يجعل القلب رقيقًا، ويُحدث في القلوب رقةً. مِنَ الصِّحَاحِ: 3997 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَتانِ مَغْبونٌ فيهما كثيرٌ مِن النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ". قوله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"، (مغبون): اسم مفعولٍ من (غُبن): إذا خسر الرجل في تجارته، وذهب عنه مطلوبُه؛ يعني: لا يَعرف قَدْرَ هاتين النعمتين كثيرٌ من الناس؛ يعني: لا يعملون في زمان الصحة والفراغ الأعمال الصالحة، ولا يهيئون أمر الآخرة، حتى تتبدل الصحة بالمرض، والفراغُ بالاشتغال، فحينئذ يندمون على تضييع أعمارهم ولا ينفعهم الندم. روى هذا الحديث ابن عباس. * * *

3999 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيتٍ، فقال: "أيُّكم يُحِبُّ أَنَّ هذا لهُ بدرهمٍ؟ " فقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لنا بشَيْءٍ، فقال: "فَوالله، للدُّنيا أَهْوَنُ على الله مِن هذا عَلَيْكُم". قوله: "بجديٍ أَسَكَّ"، (الأَسَكُّ): صغير الأذن. "أن هذا له بدرهم"؛ يعني: أن يشتريه بدرهم. * * * 3998 - وقال: "والله، ما الدُّنيا في الآخِرَةِ إلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحدُكم إِصبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِعُ؟ ". قوله: "في اليم"؛ أي: في البحر. روى هذا الحديث المستورد بن شداد. 4000 - وقال: "الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمنِ وجَنَّةُ الكافرِ". قوله: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"؛ يعني: الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما يكون له في الآخرة من النعيم المقيم، والدنيا جنة الكافر بالنسبة إلى ما يكون له في الآخرة من عذاب الجحيم. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4001 - وقال: "إنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعطَى بها في الدُّنْيا، ويُجزَى بِها في الآخِرَةِ، وأمَّا الكافرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لِلَّهِ في الدُّنْيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخِرَةِ لم يَكُنْ له حَسَنَةٌ يُجْزَى بها". قوله: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة"؛ يعني: لا يُضيعُ حسنةَ المؤمن، بل

يعطي المؤمن بحسنته أجر الدنيا وأجر الآخرة، فأما أجر الدنيا: فهو أن يدفع عنه البلاء، ويوسِّع رزقه، ويُحسن جماله، ويحببه في قلوب الناس، وأما أجر الآخرة: فاللقاء والجنة. روى هذا الحديث أنس. * * * 4002 - وقال: "حُجِبَتْ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتْ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ". قوله: "حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره"؛ أي: حفَّت النار وأُدير حولها الطيباتُ وما تشتهيه الأنفس، والجنة على عكس هذا، فمَن فعل ما اشتهته نفسه فقد سلك طريق النار، ومَن منع نفسه عما تشتهيه فقد سلك طريق الجنة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4003 - وقال: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، وعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وعَبْدُ الخَميصَة، إنْ أُعطيَ رَضيَ، وإنْ لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيْكَ فلا انتَقَشَ، طُوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنانِ فرسِه في سبيلِ الله أشعثَ رأسُه، مُغْبَرَّةٍ قَدَماهُ، إنْ كانَ في الحِراسَةِ كانَ في الحراسةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقةِ، إنْ استأذَنَ لم يُؤذَنْ لهُ، وإنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ". قوله: "تعس"؛ أي: هلك وسقط على وجهه، "عبد الدينار"؛ أي: الحريص على جمع الدنيا. "الخَميصة": كساء أسود مربعٌ له علمان، وأراد بعبد الخميصة: مَن يحبُّ

كثرة الثياب النفيسة، ويحرص على التجمُّل فوق قَدْرِ الحاجة. "وانتكس"؛ أي: صار خسيسًا ذليلاً. "شيك" ماضٍ مجهولٌ من الشوك؛ أي: أدخل الشوك في جسده. "فلا انتقش"؛ أي: فلا أخرج الشوك منه. هذه الكلمات دعاءٌ من النبي على مَن ترك عمل الآخرة، واشتغل بجمع أموال الدنيا؛ يعني: مَن كانت هذه صفته صار ذليلًا، وإذا أصابه غمٌّ وجراحةٌ ما أزال الله عنه ذلك الغم. "أشعث"؛ أي: متفرق شعر الرأس لا يكون له فراغ غسل رأسه، "أغبر"؛ أي: صار ذا غبارٍ من كثرة المشي على التراب. "إن كان في الحراسة"؛ يعني: إن كان في حراسة الجيش كان شغله ذلك. "وإن كان في الساقة"؛ أي: يمشي خلف الجيش، (الساقة): الجماعة المتأخَّرة من الجيش؛ يعني: يكون مشغولاً بالخيرات. "إن استأذن لم يؤذن له"؛ يعني: لا يخالط الناس، ولا يجعل نفسه مشهورة، بل لا يعرف الناس، حتى لو استأذن في دخول الدار أو مجلسٍ لم يؤذن له من قلة قَدْرِه عند الناس. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4004 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِمَّا أخافُ عليكُم مِن بعدي ما يُفتَحُ عليكُم مِن زَهْرَةِ الدُّنيا وزينَتِها", فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أَوَ يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فسكتَ حتى ظنَنَّا أنهُ يُنزَلُ عليهِ، قال: فَمَسَحَ عنه الرُّحَضَاءَ وقال: "أينَ السَّائِلُ؟ " وكأنَّهُ حَمِدَهُ، فقال: "إنَّه لا يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ،

وإنَّ مِمَّا يُنبتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخضراءِ، أَكَلَتْ حتى إذا امتَدَّتْ خاصِرَتَاهَا استقبَلَتْ عينَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وبَالَتْ، ثم عادَت فأَكَلَتْ، وإنَّ هذا المالَ خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أخذَهُ بحَقِّه ووَضَعَهُ في حَقِّه فنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، ومَن أخذَهُ بغيرِ حقَّهِ كانَ كالذي يأكُلُ ولا يَشْبَعُ، ويكونُ شهيدًا عليهِ يومَ القيامةِ". قوله: "ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا"، (الزهرة): ما نستلذُّه ونستمتع به؛ يعني: أخاف إذا كثرت أموالكم أن تشتغلوا بالأموال وتتكبروا، وتقلَّ أعمالكم الصالحة. "أو يأتي الخير بالشر؟ " الباء للتعدية؛ يعني: حصول الغنيمة لنا خيرٌ، وهل يكون ذلك الخير سببًا للشر وترك الطاعات؟. "الرُّحَضاء": العرق الذي يظهر للنبي عند نزول الوحي عليه. "وإن مما يُنبت الربيعُ ما يَقتل أو يُلِمُّ"، (ألمَّ): إذا نزل، وألمَّ أيضًا: إذا قارب شيئًا؛ يعني: مثال كثرة المال كمثال ما ينبت في فصل الربيع، فإن بعض النبات حلوٌ في فم الدابة، وهي حريصةٌ على أكله، ولكن ربما تأكل كثيرًا فيحصل بها داءٌ من كثرة الأكل، فتموت من ذلك الداء، أو تقرب من الموت، وإن لم تأكل الدابة إلا بقَدْرِ ما يطيقه كرشُها، فتأكل، وتترك الأكل حتى تهضم ما أكلت، وحتى تبول وتروث روثًا، ويحصل لها خفةٌ من خروج الروث والبول منها، فلا يضرها الأكل. فكذلك مَن حصل له مال كثير، فإن حرص على المال، ويُكثر الأكل والشرب والتجمُّل، فيقسو قلبه، وتتكبر نفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره، ويحتقر الناس ويؤذيهم، ولا يُخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور، وإطعام السائلين والأضياف، وحقوق الجار.

فمَن كانت هذه صفته لا شك أن المال شرٌّ له، ويبعده من الجنة، ويقرَّبه من النار، ومَن أدى حقوق المال، ولا يحتقر الناس، ولا يفخر عليهم، ولا يشتغل بجمع المال بحيث تفوت عنه طاعةٌ، ويُحسن إلى الناس، فمالُه خيرٌ له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". فإذا عرفت هذا؛ فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصلان للرجل من عين المال، بل نفسُ الرجل هي التي تصرف المال فيما فيه خير له، أو فيما فيه شرٌّ له. قوله: "فثَلَطت"؛ أي: أخرجت الروث عنها حتى تجد خفةً في بطنها، ثم تعود بعد الخفة إلى الرعي. * * * * 4005 - وقال: "والله لا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُم، ولكِنْ أَخْشَى عليكُم أنْ تُبْسَطَ عليكُم الدُّنيَا كما بُسِطَتْ على مَن قَبْلَكم، فَتَنَافسُوها كما تَنَافَسُوها، وتُهلِكَكُم كما أهلَكَتْهُم". قوله: "فتنافسوها"؛ أي: فتختاروها وترغبوا فيها، ويَكثر اشتغالكم في جمعها، وتقل طاعتكم، ويحصل بينكم العداوة بسبب المال، فيقتل بعضكم بعضًا وتقعوا في المعاصي. روى هذا الحديث عمرو بن عوف. * * * * 4006 - وقال: "اللهمَّ! اجعلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدِ قُوتًا"، ويُروَى: "كَفَافًا". قوله: "كفافًا"، (الكفاف) من القوت: ما يَكفُّ؛ أي: يمنع الرجلَ عن الجوع، أو عن السؤال وإراقة ماء الوجه.

قد عُلم بهذا الحديث أن القوت لا بد منه، والأقل منه مذمومٌ عند بعض الناس، والأكثر منه أيضًا مذمومٌ عند بعض الناس. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن ما هو الأصلح للعوامِّ والخواصِّ، فهذا الحديث حديثٌ يدخل فيه جميع الناس؛ لأن القوت عبارةٌ عما يحتاج إليه الرجل لسد القوت بحيث لا إسراف ولا إقتار؛ أي: لا ضرر فيه، والناس يختلفون في القوت، فبعضهم اعتاد في الأكل في كل عشرة أيام يومًا، ومنهم من اعتاد فوق ذلك، فإذا بلغ الرجل الوقت الذي كان يعتاد فيه الأكل، وعلم أنه لو لم يأكل فيه للحقه ضرر، فقوتُه ما يدفع عن نفسه الضرر في ذلك الوقت، فإن طلب ذلك الشخص أكثر ممَّا كان يعتاد من القوت؛ لكان طلبه أكثر من المعتاد إسرافًا في حقه، ولم يكن إسرافًا في حق مَن لم يكن بتلك المنزلة من التوكُّل وذَوْقِ الطاعة. وكذلك الناس يختلفون في كثرة العيال وقلَّتها، فقوتُ كلِّ أحدٍ يتعلق بقَدْرِ عياله. فالمحمود من المال ما يحصل للرجل به القوةُ على الطاعة، ولا يمنعه الاشتغالُ به من الطاعة، ولا يمنعه الجوع أيضًا من الطاعة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4007 - وقال: "قد أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافًا، وقنَّعَهُ الله بما آتاهُ". قوله: "قنعه"؛ أي: جعله الله قانعًا ولم يطلب الزيادة. روى هذا الحديث عبد الله بن عمرو. * * * 4008 - وقال: "يقولُ العبدُ: مالي، مالي، إنَّما لهُ مِن مَالِهِ ثلاثٌ:

ما أكلَ فأَفْنَى، أو لَبسَ فأَبْلَى، أو أَعْطَى فاقتَنَى، وما سِوَى ذلك فهوَ ذَاهِبٌ وتَارِكُه للنَّاسِ". وقوله: "أو أعطى فاقتنى"، (اقتنى) بمعنى: ادَّخَر؛ يعني: ما تصدَّق به يكون له ذخيرة يوم القيامة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4009 - وقال: "يَتْبَعُ المَيتَ ثلاثةٌ، فيَرجعُ اثنانِ ويبقَى معَهُ واحدٌ، يتبعُهُ أهلُه ومالُه وعَمَلُه، فَيَرْجِعُ أهلُه ومالُه، ويبقَى عَمَلُه". قوله: "يتبع الميت ثلاثة" يريد بهذا الحديث: أن بعض ماله يتبعه وهو العبيد والإماء. روى هذا الحديث أنس. * * * 4012 - وقال: "ليس الغِنى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ". قوله: "غنى النفس" معنى (الغنى): عدم الاحتياج إلى الناس، فمن كان في قلبه حرصٌ على جمع المال فهو فقير وإن كان له مال كثير؛ لأنه يحتاج إلى طلب الزيادة، ويُتعب نفسه بطلب الزيادة، ولا ينفق ماله على نفسه وعياله من خوفِ أن ينقص ماله. ومن كان له قلب بعيد عن الحرص، راضٍ بالقوت، فهو غني وإن لم يكن له مال؛ لأنه لا يطلب الزيادة من القوت، ولا يتعب نفسه في طلب المال.

روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 4014 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله يقولُ: ابن آدَم! تَفَرَّغْ لعبادتي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فقرَكَ، فإنْ لم تفعلْ مَلأْتُ يدَكَ شُغْلاً، ولم أَسُدَّ فقرَكَ". قوله: "وإن لا تفعل"؛ يعني: وإن لا تفعل ما أمرتك من الإعراض عن الدنيا، والاشتغال بطاعتي "ملأت يدك شغلاً"؛ أي: كثَّرتُ شغلك الدنيويَّ، فتُتعب نفسك بالشغل وكثرة التردُّد في طلب المال والغنى، ولا يحصل لك الغنى، فتُجعل محرومًا من ثوابي، ولا يحصل لك من الرزق إلا ما قدَّرت لك. * * * 4015 - "عن جابرٍ قال: ذُكِرَ رَجُلٌ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادةٍ واجتِهادٍ، وذُكِرَ آخرُ بِرِعَةٍ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَعدِلْ بالرِّعَةِ شَيْئًا"، يعني: الوَرَعَ. قوله: "لا تعدل بالرِّعة"، (الرِّعة): الورع؛ يعني: لا تقابلْ شيئًا بالورع، فإن الورع أفضل من كل خصلة. يجوز: (لا تَعْدِلْ) بفتح التاء وجزم اللام، على أنه نهيُ مخاطَبٍ مذكَّرٍ (¬1)، ويجوز: (لا تُعدَل) بضم التاء وفتح الدال، على أنه نفيٌ؛ أي: لا تُعْدَل خصلةٌ بالرِّعة. * * * ¬

_ (¬1) في "م": "على أنه نهي خطاب".

4016 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ وهو يَعِظُه: "اغتنمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَك قبلَ مَوْتِكَ"، مرسل. قوله: "اغتنم"؛ أي: اتخذ هذه الأشياء غنيمةً واتخذها نعمة؛ يعني: اعمل في الشباب الأعمال الصالحة، وكذلك في الصحة، وفي الغنى، وفي حالة الفراغ والحياة. روى هذا الحديث عمرو بن ميمون الأَوْدي. * * * 4018 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يَنْتَظِرُ أَحَدُكم إلا غِنًى مُطْغِيًا، أو فَقْرًا مُنْسِيًا، أو مَرَضًا مُفْسِدًا، أو هَرَمًا مُفْنِدًا، أو مَوْتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجَّالَ، فالدَّجَّالُ شَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ، أو السَّاعةَ، {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ". قوله: "ما ينتظر أحدكم إلا غنًى مطغيًا"، (المُطْغي): الشيء الذي يجعل المرء طاغيًا، والطاغي: العاصي والمجاوِزُ عن الحد؛ يعني: لم لا يعمل أحدكم الأعمال الصالحة في حال وجدانه كفافًا من القوت، وليس له غنًى يمنعه عن الطاعة، وليس به فقر يمنعه أيضًا من الطاعة، فإذا لم يعمل في حال الفراغ الأعمالَ الصالحة، ربما يأتيه ما يمنعه من الطاعة كهذه الأشياء المذكورة. "أو فقرًا مُنْسِيًا"؛ يعني: أو فقرًا ينسيه الطاعة من الجوع والعري، أو التردُّد في طلب القوت. "أو هرمًا مفندًا"، (المفند) بسكون الفاء وكسر النون، وفتح الفاء والنون وتشديدها: الذي لا يدري ما يقول من غاية كبره. "أو موتًا مُجْهِزًا"؛ أي: قاتلاً فجأةً بحيث لا يقدر على التوبة.

"أدهى"؛ أي: أشقُّ وأشد، "وأمر"؛ أي: أشد مرارة. * * * 4017 - عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إنَّ الدُّنيا مَلْعونَةٌ، مَلْعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما وَالاَهُ، وعالِمًا أو مُتَعلِّمًا". قوله: "وما والاه"، (الموالاة): جريان المحبة بين اثنين، وقد يأتي ولا يكون إلا من واحدٍ؛ يعني: ملعونٌ ما في الدنيا إلا ذكر الله أو ما أحبَّ الله؛ يعني: ما يجري في الدنيا ممَّا يحبه الله غير ملعون، والباقي ملعون؛ أي: مطرودٌ مبغوض عند الله. * * * 4019 - وعن سهل بن سعد قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَت الدُّنيا تَعْدِلُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ". قوله: "تعدل"؛ أي: تَزِنُ وتقابل؛ يعني: لو كان للدنيا وقعٌ وقَدْرٌ عند الله بقدر جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة؛ لأن الكافر عدو، ولا يُعطى العدو إلا من الشيء الخسيس الذي لا يلتفت إليه من حقارته. * * * 4020 - عن ابن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَتَّخِذوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدُّنيا". قوله: "لا تتخذوا الضيعة (¬1) "، (الضيعة): البستان والمزرعة؛ يعني: ¬

_ (¬1) جاء في هامش "ش": وضيعة الرجل ما يكون من مكاسب كالصنعة والتجارة والزراعة ونحو ذلك.

لا تحصِّلوا البساتين والمزارع، فإنكم لو حصَّلتم واحدًا لحرصتم على طلب الزيادة، ولا تشبعوا حينئذ من الدنيا. * * * 4021 - وقال: "مَن أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بآخِرَتهِ، ومَن أَحَبَّ آخرَتَهُ أَضَرَّ بدنياهُ، فآثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى". قوله: "أضر بآخرته"، (الإضرار): إيصال النقصان والمضرة إلى أحدٍ، ويَعدَّى بالباء؛ يعني: مَن أحب دنياه نقص درجته في الآخرة؛ لأنه يشتغل ظاهره وباطنه بالدنيا، فلا يكون له فراغه لطاعة الله. روى هذا الحديث أبو موسى. * * * 4023 - عن ابن كَعْبِ بن مالكٍ، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لها مِن حِرْصِ المَرْءِ على المالِ والشَّرَفِ لدينِهِ". قوله: "بأفسد لها" الضمير في (لها) يرجع إلى (الغنم)، وهو مؤنث لأنه جمع في المعنى. "من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، (والشرف) معطوفٌ على "المال"؛ أي: حرص المرء على المال وحرصه على الشرف؛ أي: على المنصب والجاه؛ يعني: حرصُ المرء على المال والشرف أكثر إفسادًا لدينه من إفساد الذئبين للغنم. * * *

4024 - عن خَبَّابٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَنْفَقَ المُؤْمِنُ مِن نَفَقَةٍ إلا أُجِرَ فيها، إلاّ نَفَقَتَهُ في هذا التُّرابِ". قوله: "إلا نفقته في هذا التراب"؛ يعني: إلا صَرْفَه مالَه في بناء البيوت والقصور، والزيادةِ على قَدْرِ حاجته؛ يعني: صرفُ المال في البناء الذي يبنيه للزينة والمفاخرة لا للحاجة لا يكون له فيه ثواب. * * * 4027 - عن أبي هاشم بن عُتبة قال: عَهِدَ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما يَكْفيكَ مِن جَمْعِ المالِ خادِمٌ ومَركَبٌ في سبيلِ الله". قوله: "عهد إلي"؛ أي: أوصاني. * * * 4028 - عن عُثْمانَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سِوَى هذه الخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُه، وثَوْبٌ يُوَارِي بهِ عَوْرَتَهُ، وجِلْفُ الخُبْزِ والماءِ". قوله: "جلف الخبز"، (الجلف) بكسر الجيم وسكون اللام: الظرف؛ يعني: ينبغي له أن يطلب بيتًا وثوبًا وظرفًا يضع فيه الخبز. "والماء"؛ يعني: لا ينبغي له أن يضيع عمره في تحصيل المال، إلا ما لا بد له منه. قوله: "يواري"؛ أي: يستره. * * * 4029 - عن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: جاءَ رَجُلٌ فقال: يا رسولَ الله! دُلَّني

على عَمَلٍ إذا أنا عَمِلْتُهُ أَحَبني الله وأَحَبني النَّاسُ، قال: "ازهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ الله، وازهَدْ فيما عندَ الناسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ". قوله: "ازهد في الدنيا"؛ أي: كن تاركًا للدنيا ومُعْرِضًا عنها، (زهد في الأمر): إذا أعرض عنه، و (زهد عن الأمر): إذا مال إليه، بخلافِ رَغِبه، فإن لفظة (رَغِبَ) إذا كان بعدها (في) معناه: مال إليه، وإذا كان بعدها "عن" معناه: أعرض عنه. * * * 4030 - عن ابن مَسْعودٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نامَ على حَصيرٍ، فقامَ وقد أَثَّرَ في جَسَدِهِ، فقال ابن مَسْعودٍ: يا رسولَ الله! لو أَمَرْتَنا أن نَبْسُطَ لكَ ونَعْمَلَ، فقالَ: "ما لِي وللدُّنيا، وما أنا والدُّنيا إلا كَراكِبٍ استَظَلَّ تحتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ راحَ وتركَها". قوله: "لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل"؛ يعني: لو أذنت لنا أن نبسط لك فراشًا لينًا لطيفًا، ونعمل لك ثوبًا حسنًا وبيتًا حسنًا، يكون لك أحسن وأطيب من اضطجاعك على هذا الحصير الخشن. "ما لي وللدنيا" يجوز أن تكون (ما) للنفي؛ يعني: ليس لي ألفةٌ ومحبة مع الدنيا، ولا للدنيا ألفة ومحبة معي حتى أرغب فيها وأجمعَ ما فيها، ويجوز أن تكون للاستفهام؛ يعني: أيُّ ألفةٍ ومحبة لي مع الدنيا حتى أرغب فيها؟ * * * 4031 - وعن أبي أُمامَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَغْبَطُ أوليائي عِنْدي لَمُؤْمِنٌ خَفيفُ الحَاذِ، ذو حَظٍّ مِن الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبادَةَ ربهِ وأطاعَهُ في السِّرِّ، وكانَ

غامِضًا في النّاسِ لا يُشَارُ إليه بالأَصابعِ، وكانَ رزقُهُ كَفَافًا، فصَبَر على ذلكَ"، ثم نَقَرَ بيدِهِ فقال: "عُجِّلَتْ مَنِيَّتُه، وقَلَّتْ بواكيهِ، وقَلَّ تُرَاثُه". قوله: "أغبطُ أوليائي"، (الأغبط): الذي حالُه أحسنُ وأربحُ من حال غيره؛ يعني بـ (أوليائي): الصالحين، والصالحون كلُّهم أحسن الحال، ولكن أحسنهم حالاً مَن هو موصوفٌ بما وُصف في هذا الحديث. "خفيف الحاذ" قال في "صحاح اللغة": فلان خفيفُ الحاذ؛ أي: ضعيفُ الظهر؛ يعني: مَن ليس له كثرةُ عيال وكثرة شغل. "غامضًا"؛ أي: مستورًا عن الناس لا يعرفه الناس، فإن الصالح إذا عرفه الناس يفتنونه، بأن يجتمعوا عليه ويحمدونه، فربما يظهر في نفسه غرور ورياء. "ثم نقر بيده"، (نقر) بالراء المهملة: صوت ضرب بيده؛ يعني: ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبهامَه بوسطاه حتى سُمع منه صوت. وهذا فعلُ مَن تعجَّب مِن شيء، أو رأى شيئًا حسنًا، أو أظهر عن نفسه قلة المبالاة بشيء وقلة الحزن، أو أظهر طربًا؛ يعني: مَن كانت هذه صفته، بمنزلة أن يُتعجَّب من حُسن حاله وقلة حزنه وقلة مبالاته بالدنيا وكثرة طربه وفرحه. "عجِّلت منيته"؛ أي: كان قبضُ روحه سهلاً؛ لأن بعض الناس يكون قبض روحه شديدًا؛ لالتفاته إلى ما تَرك في الدنيا من المال والعيال والأحباب، وطيبِ العيش، والمساكن الرفيعة. "قلَّت بواكيه"، (البواكي): جمع باكية، وهي المرأة التي تبكي على الميت؛ يعني: قلت عياله، وإذا قلَّت عياله قلَّ التفاتُ خاطره إلى الدنيا. "التراث": الميراث. * * *

4032 - وقال: "عَرَضَ عليَّ رَبي لِيَجْعَلَ لي بَطْحاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فقلتُ: لا يا رَبِّ! ولكنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وأَجُوعُ يومًا، فإذا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إليكَ وذكرتُكَ، وإذا شَبعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُك". قوله: "بطحاء مكة"، البطحاء والأبطح: مسيل الماء، ويريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطحاء مكة: عرصة مكة وصحاريها. * * * 4033 - عن عبدِ الله بن مِحْصَنٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَصْبَحَ منكم آمِنًا في سِرْبه، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَه قُوتُ يومِهِ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بحَذافيرِها"، غريب. قوله: "آمنًا فَي سِربه"، (السِّرب) بكسر السين: النفس والجماعة؛ يعني: من كانت نفسه آمنةً من شر الأشرار، وأهلُه أيضًا آمنين، "معافى في جسده"؛ أي: صحيحًا بدنُه، سليمًا من العيوب والآفات، "حِيزَ"؛ أي: جُمِعَ. * * * 4034 - وعن المِقْدَامِ بن مَعْدِ يْكَرِبَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما ملأَ آدميٌّ وِعَاءً شرًّا مِن بَطْنٍ، بحَسْبِ ابن آدَم أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ، فثُلُثٌ طَعامٌ، وثُلُثٌ شرَابٌ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". قوله: "يقمن صلبه"، (يقمن): ضمير جماعة مؤنَّثٌ يرجع إلى الأُكُلات، وهو من (أقام): إذا حفظ شيئًا عن السقوط. "الأُكُلات": جمع أُكْلة وهي اللقمة؛ يعني: لا بد للإنسان من قوتٍ يَقُوتُه ويحفظه عن أن يَضعف.

"فإن كان لا محالة"؛ يعني: فإن كان لا بد من أن يملأ بطنه ولا يشبع بأدنى قوتٍ فليملأ ثلثَ بطنه بالطعام، وثلثه بالماء، ويترك ثلثه خاليًا لخروج النَّفَس. * * * 4035 - وعن ابن عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَتَجَشَّأُ فقال: "أَقْصِرْ مِن جُشَائكَ، فإنَّ أطولَ النَّاسِ جُوْعًا يومَ القِيامةِ أطولُهم شِبَعًا في الدُّنْيا". قوله: "يتجشأ"؛ أي: يُخرج الجشاءَ من صدره، و (الجشاء): ريحٌ يخرج عن الصدر عند امتلاء المعدة من الطعام. * * * 4036 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتي المالُ". قوله: "إن لكل أمة فتنة"، (الفتنة) ها هنا: ما يوقع أحدًا في الضلالة أو المعصية. روى هذا الحديث كعب بن عياض. * * * 4037 - عن أنسٍ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُجَاءُ بابن آدَمَ يومَ القِيامَةِ كأنَّه بَذَجٌ، فيُوقَفُ بينَ يدي الله، فيقولُ له: أَعْطَيتُكَ وخَوَّلتُكَ وأنعمتُ عليكَ، فما صَنَعْتَ؟ فيقولُ: رَبِّ! جَمَّعتُهُ وثَمَّرتُهُ فَتَركْتُه أكثَر ما كانَ، فارجِعْنى آتِكَ بهِ كلِّه، فيقولُ لهُ: أَرِني ما قدَّمْتَ، فيقولُ: ربِّ! جَمَّعتُه وثَمَّرتُه فتركتُه أكثَر ما كانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بهِ كلِّه، فإذا عَبْدٌ لم يُقَدِّمْ خَيْرًا فيُمضَى بهِ إلى النَّارِ"، ضعيف. قوله: "يجاء بابن آدم" يريد شخصًا واحدًا، وليس المراد بابن آدم هنا

2 - باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي - صلى الله عليه وسلم -

جميعَ ولد آدم. "كأنه بذج"، (البذج): معرَّبٌ، وأصله بالفارسي: بره؛ أي: ولد الضأن، يريد بهذا الكلام بأنه كبَذَجٍ في الحقارة. "خوَّلتك" بالخاء المعجمة؛ أي: جعلتك ملكًا على بعض الناس، ومالكًا لبعض الأموال والدُّور والقصور والبساتين والمزارع. "وثمرتك"، (التثمير): تكثير المال. * * * 2 - باب فضلِ الفُقَراءِ وما كانَ من عَيْشِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (باب فضل الفقراء) مِنَ الصِّحَاحِ: 4040 - قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفوعٍ بالأَبوابِ لو أَقسمَ على الله لأبَرَّهُ". "رب أشعث"؛ أي: ربَّ رجلٍ متفرِّقِ شعر الرأس، "مدفوع بالأبواب"؛ أي: يُدفع من الأبواب أن يدخلها من غاية حقارته في نظر الناس؛ يعني: رب رجلٍ فقيرٍ حقيرٍ عند الناس "لو أقسم على الله لأبره"؛ يعني: لو قال: بعزتك يا رب افعل كذا وكذا، لفعل الله ذلك حتى يبر قسمه من غاية عزته عند الله. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

4041 - وقال: "هل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بِضُعفَائِكُم؟ ". قوله: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"؛ يعني: يحصل لكم النصرة على أعدائكم ويحصل لكم أرزاقكم ببركة الفقراء والضعفاء فأكرِموهم. روى هذا الحديث سعد بن أبي وقاص. * * * 4042 - وقال: "قُمْتُ على بابِ الجَنَّةِ، فكانَ عامَّةُ مَن دَخَلَهَا المَساكينُ، وأصحابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، غيرَ أنَّ أصحابَ النارِ قد أُمِرَ بهم إلى النَّارِ، وقُمْتُ على بابِ النَّارِ، فإذا عامَّةُ مَن دَخَلَهَا النِّساءُ". قوله: "فكان عامة من دخلها المساكين"؛ يعني: أكثر من دخلها المساكين. "وأصحاب الجد محبوسون"، (الجد): العظمة، وقد يكون بمعنى المال؛ يعني: أصحاب المناصب والمال محبوسون في العرصات لطول حسابهم، والمساكين يدخلون الجنة. قيل: الجنةُ مكافأةٌ لهم عن فقرهم في الدنيا، ولأن طول الحساب من كثرة المال والتلذُّذ في الدنيا، وليس لهم مالٌ وتلذذٌ ومنصبٌ في الدنيا حتى يُحبسوا في القيامة لأجل الحساب. "غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار"؛ يعني: أصحاب الجد محبوسون مَن كان منهم مسلمًا، وأما الكفار لا يوقفون في العرصات، بل يؤمرون بدخول النار. روى هذا الحديث أسامة بن زيد. * * * 4043 - وقال: "اطَّلَعتُ في الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أكثرَ أَهْلِها الفُقَراءَ, واطَّلَعْتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثرَ أهلِها النِّساءَ".

قوله: "فرأيت أكثر أهلها النساء" وعلة كون النساء أكثر أهل النار قد ذُكرت في أول الكتاب في قوله: "أُريتكن أكثر أهل النار". روى هذا الحديث ابن عباس. * * * 4044 - وقال: "إنَّ فُقَراءَ المُهاجِرينَ يَسبقونَ الأَغْنياءَ يومَ القِيامةِ إلى الجَنَّةِ بأربعينَ خَرِيفًا". قوله: "بأربعين خريفًا"، (الخريف): السنة. روى هذا الحديث عبد الله بن عمر. * * * 4045 - عن سهلِ بن سَعْدٍ قال: مرَّ رَجُلٌ على رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ لرَجُلٍ عِنْدَه جالسٍ: "ما رأيُكَ في هذا؟ " فقال: رجلٌ مِن أَشْرافِ الناسِ، هذا والله حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشفَّعَ، قال: فَسَكَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيُكَ في هذا؟ " فقالَ: يا رسولَ الله! هذا رَجُلٌ مِن فُقَراءِ المُسلِمينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمَعَ لقولِهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خيرٌ مِن ملءِ الأرضِ مِن مثلِ هذا". قوله: "ما رأيك في هذا"؛ يعني: ما ظنك بهذا، أتظنُّه خيرًا أم شرًا؟. "حري"؛ أي: جديرٌ وحقيقٌ "إن خطب"؛ أي: طلب تزوُّج امرأة. "أن يشفَّع" بضم الياء وفتح الفاء وتشديدها؛ أي: تُقبل شفاعته. "أن لا يسمع لقوله"؛ أي: لا يَستمع أحد لكلامه، ولا يلتفت إليه أحد، من غاية فقره وحقارته.

4048 - عن أنسٍ: أنه مَشَى إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزِ شَعيرٍ وإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، ولقد رَهَنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعًا بالمَدينةِ عندَ يهوديٍّ وأخذَ منهُ شَعيرًا لأَهْلِهِ، ولقد سَمِعْتُه يقولُ: ما أَمْسَى عندَ آلِ مُحَمَّدٍ صاعُ بُرٍّ ولا صاعُ حَبٍّ، وإنَّ عِنْدَه لَتِسعَ نِسْوَةٍ. قوله: "وإهالةٍ سَنِخَةٍ"، (الإهالة): الوَدَك، (السَّنِخَة): المتغيرة. قوله: "ولقد سمعته" التاء في (سمعت) ضميرُ مَن سَمِعَ هذا الحديث عن أنس، والضمير المذكور الغائب في (سمعته) ضمير أنس. "ما أمسى عند آل محمد"؛ يعني: لم يكن يدَّخر القوتَ في الليل للغداة، والواو في "وإن عنده" واوُ الحال. * * * 4049 - وقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: دَخَلْتُ على رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مُضْطَجِعٌ على رِمالِ حَصيرٍ، ليسَ بينَهُ وبينَهُ فِرَاشٌ، قد أَثَّرَ الرِّمَالُ بجَنْبه، مُتَّكِئًا على وِسادةٍ من أَدَمٍ حَشْوُها ليفٌ، قلتُ: يا رسولَ الله! اُدْعُ الله فلْيُوَسِّعْ على أُمَّتِكَ، فإنَّ فارِسَ والرُّومَ قد وُسِّعَ عليهم، وهم لا يَعبُدونَ الله، فقال: "أَوَ في هذا أَنْتَ يا ابن الخطابِ! أُولئكَ قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهم في الحياةِ الدنيا". وفي رِوايةٍ: "أَمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهُم الدُّنيا ولَنَا الآخِرَةُ؟ ". قوله: "على رمال حصير"، (الرمال): جمع رَميلٍ، وهو بمعنى المَرْمُول وهو المنسوج، هذا هو الأصل، ولكن الرمال - مع أنه جمعٌ - يستعمل في الواحد، و (رمال الحصير) إضافة الجنس إلى النوع كـ (خاتم فضة)؛ أي: رمال من حصير لا من شيء آخر، والمراد برمال الحصير هنا: حصيرٌ منسوج من ورق النخل. * * *

4050 - عن أبي هُريرةَ قال: "لقد رأيتُ سَبْعينَ مِن أصحابِ الصُّفَّةِ، ما مِنهم رَجُلٌ عليه رِدَاءٌ، إِمَّا إزَارٌ وإمَّا كساءٌ، قد رَبطوا في أَعْناقِهم، فمِنْها ما يبلُغُ السَّاقَيْنِ، ومنها ما يَبْلُغُ الكَعْبينِ، فيَجمعَه بيدِه كراهِيةَ أنْ تُرَى عورتُه". قوله: "ما منهم رجل عليه رداء"؛ يعني: لم يكن رجل منهم عليه رداءٌ وإزار، بل لم يكن له إلا إزارٌ واحدٌ يستر به عورته، أو كساءٌ واحد. * * * 4051 - وقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نَظَرَ أَحَدُكم إلى مَن فُضلَ عليهِ في المالِ والخَلْقِ، فلْيَنظرْ إلى مَن هو أَسْفَلَ منهُ". قوله: "إذا انظر أحدكم ... " إلى آخره؛ يعني: إذا رأيتم من هو أكثر منكم مالاً وجبةً ولباسًا وجمالاً، فانظروا إلى مَن هو أقل منكم مالاً وجبة ولباسًا وجمالاً؛ لتعرفوا أن لله عليكم نعمًا كثيرة بالنسبة إلى مَن هو أقل منكم في المال وغيره. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4052 - وقال: "انظُرُوا إلى مَن هو أَسْفَلَ منكم، ولا تَنظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكم، فهوَ أَجْدرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله علَيْكم". قوله: "انظروا إلى من هو أسفل منكم" هذا الحديث مثل الحديث المتقدم. "أجدر"؛ أي: أحق وأولى "أن لا تزدروا"؛ أي: أن لا تحتقروا، (تزدروا) أصله: تَزْتَرِيُوا، قُلبت التاء دالاً لمجاورة الزاي، ونُقلت ضمة الياء إلى الراء، وحُذفت الياء لسكونها وسكون الواو.

روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 4053 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْشِروا يا مَعْشَرَ صَعَاليكِ المُهاجرينَ! بالنُّورِ التامِّ يومَ القيامةِ، تَدْخُلونَ الجَنَّةَ قبلَ أغنياءِ النَّاسِ بنصْفِ يَوْمٍ وذلكَ خَمْسُ مِئَةِ سَنَةٍ". قوله: "صعاليك المهاجرين"، (الصعاليك): جمع صعلوك وهو الفقير. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * 4054 - وقال: "يدخُلُ الفُقَراءُ الجَنَّةَ قبلَ الأَغْنياءِ بِخَمْسِ مِئَةِ عامٍ نصفِ يومٍ". قوله: "بخمس مئة عام نصف يوم"، (نصف): مجرور على أنه عطفُ بيان، أو بدلٌ من قوله: (بخمس مئة عام)؛ يعني: خمس مئة عام هو نصف يوم من أيام القيامة. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4055 - عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ! أَحْيني مِسْكينًا، وأَمِتْني مِسْكينًا، واحشُرْني في زُمْرةِ المَساكينِ"، فقالت عائِشَةُ: لِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "إنَّهم يَدْخُلونَ الجَنَّةَ قبلَ أَغنِيائهم بأَرْبعينَ خَرِيفًا، يا عائِشةُ! لا تَرُدِّي المِسْكِينَ، ولو بِشِقِّ تمرةٍ، يا عائِشَةُ! أَحِبي المَساكينَ وقَرِّبيهم، فإنَّ الله يُقَرِّبُكِ يومَ القِيامةِ".

قوله: "اللهم أحيني مسكينًا" هذا منه - صلى الله عليه وسلم - تعليمٌ لأمته أن يعرفوا فضل الفقر وفضل الفقراء ليحبوهم ويجالسوهم؛ لينالهم بركتهم. ويجوز أن يريد بهذا الحديث: أن يجعل قوته كفافًا ولا يشغله بالمال، فإن كثرة المال مذموم في حق المقرَّبين. "بأربعين خريفًا"؛ أي: بأربعين سنة. * * * 4056 - عن أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابغُونِي في ضُعَفَائِكُم، فإنَّما تُرْزَقُونَ وتُنصَرونَ بضُعَفائِكُم". قوله: "ابغوني في ضعفائكم"؛ أي: اطلبوني في ضعفائكم؛ يعني: أنا صحب الضعفاء ورفيقُهم وجليسهم؛ لأن لهم فضلاً، فإذا كنت معهم فمَن أكرمَهم فقد أكرمني، ومن آذاهم فقد آذاني. * * * 4057 - ورُوِيَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَستفتِحُ بصَعَاليكِ المُهاجِرينَ. "يستفتح"؛ أي: يطلب الفتح من الله الكريم ببركة الفقراء المهاجرين. روى هذا الحديث أمية بن عبد الله بن خالد بن أَسيد. * * * 4058 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْبطَنَّ فاجِرًا بنعْمَةٍ، فإنّكَ لا تَدري ما هوَ لاقٍ بعدَ مَوْتِه، إنَّ لهُ عندَ الله قاتِلًا لا يَموتُ"، يعني: النَّار.

قوله: "لا تغبطن فاجرًا"؛ أي: لا تطلبن أن تكون مثل فاجر في النعمة الدنيوية، فإن نعمته عذابٌ يومَ القيامة، (الغبطة): أن يتمنى أحد أن يكون مثل أحد في المال أو غيره. * * * 4059 - وقال: "الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وسَنَتُهُ، فإذا فارقَ الدُّنْيا فارقَ السِّجْنَ والسَّنَةَ". قوله: "وسَنَتُه"؛ أي: قحطُه وشدة عيشه. روى هذا الحديث عبد الله بن عمرو. * * * 4060 - وعن قتادَةَ بن النُّعْمانِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أَحَبَّ الله عَبْدًا حَماهُ الدُّنْيا كما يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحمِي سَقيمَهُ الماءَ". قوله: "حماه الدنيا"؛ يعني: حفظه من مال الدنيا ومن المناصب وما يضر بدينه. "كما يظل"؛ أي: كما طفق. * * * 4062 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِنِّي أُحِبُّكَ، قالَ: "اُنظُرْ ما تقولُ"، فقالَ: والله إنِّي لأُحِبُّكَ، ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: "إنْ كُنتَ صَادِقًا فأَعِدَّ لِلفَقْرِ تِجْفافًا، لَلْفَقْرُ أَسْرعُ إلى مَنْ يُحِبني مِنَ السَّيْلِ إلى مُنْتهَاهُ"، غريب. قوله: "انظر ما تقول"؛ يعني: فكِّر فيما تقول من أنك تحبني: أنت صادق في هذا الدعوى أم لا؟. "فأعد"؛ أي: فهيئ.

"التجفاف": شيء يلبس لدفع السلاح؛ يعني: كما أن الفارس يُهيئ أسباب المحاربة، فكذلك مَن يدعي محبتي لِيُهيئْ نفسه للفقر والمشقة، فإنه لا بد من دخول الفقر إلى مَن يحبني. * * * 4063 - عن أنسٍ قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لقدْ أُخِفْتُ في الله وما يُخافُ أَحَدٌ، ولقدْ أُوذِيْتُ في الله وما يُؤْذَى أَحَدٌ، ولقدْ أتَتْ عليَّ ثلاثونَ منْ بينِ ليلةٍ ويَوْمٍ وما لِي ولِبلالٍ طَعامٌ يأْكلُهُ ذُو كَبدٍ، إلا شَيءٌ يُوارِيهِ إبْطُ بِلالٍ". قوله: "أخفت في الله"، (أخفت): ماض مجهول من (أخاف) بمعنى: خوَّف؛ يعني: كنت وحيدًا في ابتداء إظهاري (¬1) الدين، فخوَّفني في ذلك وآذاني الكفار. "في الله"؛ أي: في دين الله، ولأجل إظهار دينه، ولم يكن معي أحد يوافقني في تحمل أذية الكفار حينئذ. "ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم"؛ يعني: قد كان بعض الأوقات مر علي ثلاثون يومًا وليلة ولم يكن لي طعامٌ وكسوة، وكان في ذلك الوقت بلال رفيقي. "إلا شيء يواريه إبط بلال"، (يواريه)؛ أي: يستره؛ يعني: ما لنا من الطعام إلا شيء قليلٌ بقَدْرِ ما يأخذه بلال تحت إبطه، ولم يكن لنا ظرف نضع الطعام فيه. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "إظهار".

4064 - عن أبي طَلْحَةَ قال: "شَكَونْا إلى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجُوعَ، ورَفْعنا عنْ بُطونِنا عنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فرفعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَطْنِه عنْ حَجَرَيْنِ"، غريب. قوله: "ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر" وعادة أصحاب الرياضة إذا اشتد جوعهم أن يربط كلُّ واحد منهم حجرًا على بطنه كي لا يسترخي وتنزل أمعاؤه، فيَشُقُّ عليه التحرك، فإذا ربط حجرًا على بطنه يشتد بطنه وظهره، فتسهل عليه الحركة، ومَن كان جوعه أشد يربط على بطنه حجرين، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرهم جوعًا، وأشدَّهم رياضة، فربط على بطنه حجرين، وربط كل واحد منهم على بطنه حجرًا. * * * 4066 - عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَصْلتانِ مَنْ كانتا فيهِ كتَبَهُ الله شاكِرًا صابرًا: مَنْ نَظَرَ في دِينِه إلى مَنْ هوَ فَوْقَهُ فاقْتَدَى بهِ، ونظَرَ في دُنْياهُ إلى مَنْ هوَ دُونَهُ، فحَمِدَ الله على ما فضَّلَهُ الله عليهِ؛ كتبَهُ الله شاكِرًا صابرًا، ومَنْ نظرَ في دِينِه إلى مَنْ هوَ دُونَهُ، ونظرَ في دُنْياهُ إلى مَنْ هو فَوْقَهُ، فأَسِفَ على ما فاتَهُ منهُ؛ لمْ يكتُبْهُ الله شاكِرًا ولا صابرًا". قوله: "من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به"؛ يعني: من نظر في الأعمال الصالحة إلى مَن هو أكثر منه عبادةً ورياضةً وقناعةً (فاقتدى)؛ أي: فاجتهد أن يكون مثله في العبادة، وحرص على تحصيل عبادة ورياضة وقناعة مثله، ونظر في قلة المال إلى من هو أقل مالاً منه، فشكر على ما أعطاه الله من الفضل في المال على ذلك الفقير الذي هو أفقر منه. فمن كانت هذه صفته كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن كان نظره على عكس

3 - باب الأمل والحرص

هذا لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا. "فأسف"؛ أي: فغضب وحزن على قلة ماله. * * * 3 - باب الأَمَلِ والحِرْصِ (باب الأمل والحرص) مِنَ الصِّحَاحِ: 4067 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: خَطَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوَسَطِ خارِجًا منهُ، وخَطَّ خُطُوطًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوَسَطِ من جانِبهِ الذِي في الوسَطِ فقال: "هذا الإِنسانُ، وهذا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بهِ، وهذا الذي هوَ خارجٌ أَمَلُهُ، وهذهِ الخُطُوطُ الصِّغارُ الأَعراضُ، فإنْ أخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا، وإنْ أَخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا". قوله: "خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطًا مربعًا" صورة هذه الخطوط: هي هذه: الخط الوسط هو الإنسان، والخط المربع هو أجَلُه أحاط به بحيث لا يمكنه الفرار والخروج منه، والخطوط الصغار هي أعراضه؛ أي: الآفات والعاهات من المرض والجوع والعطش، وغيرها من العلل والحوادث، وهذه الأعراض متصلةٌ به، والقَدْرُ الخارج من المربع أمله؛ يعني: هو يظن أني أصل إلى أملي قبل الأجل فظنُّه خطأ، بل الأجل أقرب إليه من الأمل؛ يعني: يموت قبل أن يصل إلى أمله.

قوله: "فإن أخطأه هذا نهشه هذا"، (أخطأه)؛ أي: تجاوزه، (نهشه)؛ أي: لدغه؛ يعني: فإن لم يصل إليه بعض هذه الأعراض، وصل إليه بعضٌ آخر. * * * 4068 - وعن أنسٍ قال: خَطَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خُطُوطًا فقال: "هذا الأَمَلُ، وهذا أَجَلُهُ، فبينَما هو كذلكَ إذْ جاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ". قوله: "فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب"، (الخط الأقرب): الأجل، والأبعد: الأمل؛ يعني: في الحالة التي هو يرجو أن يصل إلى أمله يأتيه الأجل قبل أن يصل إلى أمله. * * * 4071 - وقال: "أَعْذَرَ الله إلى امرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً". قوله: "أعذر الله إلى امرئ" الهمزة هنا همزة الإزالة والسَّلْب؛ يعني: أزال الله عذرَ مَن بلغ في العمر إلى ستين سنة؛ يعني: إذا بلغ الرجل ستين سنة ولم يتب عن المعاصي، ولم يُصلح حاله، لم يبق له عذر؛ يعني: الشاب يقول في العرف: أنا شاب، إذا صرت أَشْيَبَ أتوب، والأشيب إذا لم يتب فماذا ينتظر؟. * * * من الحِسانِ: 4074 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: مَرَّ بنا رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وأُمِّي نُطينُ شَيْئًا فقال: "ما هذا يا عبدَ الله؟ " فقُلتُ: شَيءٌ نُصْلِحُهُ، قال: "الأَمْرُ أَسْرَعُ منْ ذلِك"، غريب.

قوله: "نطين شيئًا"؛ أي: نصلح شيئًا من البيت بالطين. "الأمر أسرع من ذلك"؛ يعني: الأجل أقرب من تخرُّق (¬1) هذا البيت؛ يعني: تصلح بيتك خشية أن ينهدم قبل أن تموت، وربما تموت قبل أن ينهدم البيت، فإذا كان كذلك فإصلاح عملك أولى من إصلاح بيتك. * * * 4076 - عن أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا ابن آدَمَ، وهذا أَجَلُهُ"، ووَضَعَ يدَهُ عندَ قَفَاهُ، ثُمَّ بَسَطَ فقال: "وثَمَّ أمَلُهُ". قوله: "هذا ابن آدم وهذا أجله"؛ يعني: وضع يده على قفاه وقال: هذا أجله، ثم مَدَّ يده وأشار إلى موضع أبعد من قفاه وقال: هذا أمله، يعني: أجله أقرب إليه من أمله. * * * 4077 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَرَزَ عُودًا بينَ يدَيهِ، وآخرَ إلى جَنْبهِ، وآخرَ أَبْعَدَ منهُ فقال: "هلْ تدرونَ ما هذا؟ " قالوا: الله ورسولُه أَعْلَمُ، قال: "هذا الإنسانُ، وهذا الأَجَلُ"، أُراهُ قال: "وهذا الأملُ، فيتَعاطَى الأَمَلَ، فَلَحِقَهُ الأَجَلُ دُونَ الأَمَلِ". قوله: "فيتعاطى الأمل"، (التعاطي): التناول، أو مباشرة فعل؛ يعني: فبينما طفق يشتغل بعمارةِ ما يأمله من بيتٍ وبستانٍ وغيرِهما يأتيه الموت. "دون"؛ أي: قبل أن يتم أمله. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "تخرُّب".

4 - باب استحباب المال والعمر للطاعة

4078 - عن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُثِّلَ ابن آدَمَ وإلى جَنْبه تِسعٌ وتِسعونَ مَنيّةً، إنْ أَخْطَأَتْهُ المنَايا وَقَعَ في الهَرَمِ". قوله: "مثل ابن آدم ... " إلى آخره، ذُكر شرح هذا الحديث في آخر (باب عيادة المريض). * * * 4080 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "أَعْمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتينَ إلى السَّبْعينَ، وأقلُّهُم مَنْ يَجُوزُ ذلكَ". قوله: "وأقلهم من يجوز ذلك"؛ يعني: أكثر أمتي يموتون إذا كان أعمارهم سبعين سنة أو أقل، وقليلٌ مَن يزيد عمره على سبعين سنة. * * * 4 - باب استِحبابِ المالِ والعُمُرِ للطَّاعةِ (باب استحباب المال والعمر للطاعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4081 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إلاَّ في اثنتَينِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرآنَ، فهوَ يقومُ بهِ آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ الله مالاً، فهوَ يُنفِقُ منه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ". قوله: "لا حسد إلا في اثنتين" ذكر شرح هذا الحديث في أول (كتاب العلم).

روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 4082 - وقال: "إنَّ الله يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ". قوله: "إن الله يحب العبد التقي" أولُ هذا الحديث: عن عامر بن سعد: أن سعدًا كان في إبله، فجاء ابنه عُمر بن سعد، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟! فضرب سعد في صدره فقال: اسكت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيَّ". أراد بالتقي: مَن لا يصرف ماله في المعاصي، وأراد بالخفي: مَن لا يتكبر على الناس، ولا يفخر بالمال، بل يجعل نفسه منكسرة من غاية التواضع. وليس المراد بالخفي من يكتم ماله ولا يظهره، بل هذا مذموم، بل ليُظْهِرِ الرجلُ نعمةَ الله عليه؛ ليقصده المحتاجون لأخذ الزكاة والصدقات (¬1). * * * مِنَ الحِسَان: 4085 - وعن أبي كَبْشَةَ الأنْمارِيِّ: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ثلاثٌ أُقْسِمُ علَيهِنَّ، وأُحَدِّثُكُمْ حَديثًا فاحفَظُوهُ، فأمَّا الذي أُقسِمُ عليهِنَّ، فإنَّهُ ما نَقَصَ مالُ عَبْدٍ منْ صَدَقةٍ، ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عليها إلا زادَهُ الله بها عِزًا، ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ش": "النقي؛ أي: من الذنوب، أو النقي الثيابِ من الأوساخ. الغني بغنى القلب، والخفي عن أعين الناس في نوافله لئلا يدخله الرياء، وقيل: الخفي الذِّكْرِ لخموله، أو قليل التردد والخروج إلى الأسواق ونحوها، وهو مناسب أو ... ".

ولا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسْأَلةٍ إلاَّ فتحَ الله عَلَيهِ بابَ فَقرٍ، وأمَّا الذي أُحَدِّثُكُمْ حديثًا فاحفَظُوه"، قال: "إنَّما الدُّنيا لأَرْبعةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مالًا وعِلْمًا، فهوَ يَتَّقي فيهِ ربَّهُ، ويَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ويَعملُ لله فيهِ بحقِّهِ، فهذا بأفضَلِ المنازِلِ، وعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْمًا ولمْ يرزُقْهُ مالاً، فهوَ صادِقُ النِّيَّةِ يقولُ: لوْ أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ بعَمَلِ فُلانٍ، فهوَ ونِيَّتُهُ، فأَجْرُهُما سَواءٌ, وعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مالاً ولمْ يَرزُقْهُ عِلْمًا، فهو يتخبَّطُ في مالِهِ بغيرِ عِلْمٍ، لا يتَّقي فيهِ ربَّهُ، ولا يَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ولا يَعمَلُ فيهِ بحَقٍّ، فهذا بأَخبَثِ المنازِلِ، وعَبْدٍ لمْ يرزُقْهُ الله مالاً ولا عِلْمًا، فهوَ يقولُ: لوْ أنَّ لي مالاً لعمِلْتُ فيهِ بعَمَلِ فُلانٍ، فهوَ بنيَّتِهِ، فوِزْرُهُما سَواءٌ"، صحيح. قوله: "فهو يتقي فيه ربه"؛ يعني: لا يصرف ماله في معصية، بل يجتنب ما لا يرضاه الله. قوله: "ويعمل لله فيه بحقه"؛ أي: بحق المال، أو يؤدي ما في المال من الحقوق كالزكاة والكفارات وإطعام الضيف وغيرها، ويجوز أن يكون الضمير في حقه راجعًا إلى الله تعالى؛ أي: بحق الله الواجب في المال. قوله: "وعبد رزقه الله علمًا" أراد بالعلم هنا: علمُ كيفية صرف المال في وجوه البر. "فأجرهما سواء"؛ أي: أجر القسم الأول والثاني؛ لأن الثاني كانت نيته صرفَ المال في وجوه الخير لو كان له مال، فهو يثاب بنيته كما يثاب صاحب المال ببذل المال في وجوه الخير. "لعملت بعمل فلان"؛ يعني: يقول: لو كان لي مالٌ لصرفته فيما تشتهيه نفسي من لبس الملابس الفاخرة، واستماعِ الملاهي، وأكلِ الطيبات المحرَّمة، وغير ذلك من المناهي. "فهو بنيته"؛ أي: فهو يجد الإثم؛ أي: يكتب له إثم الذنب بنيته قَصْدَ الفساد. "ووزرهما سواء"؛ يعني: القسم الثالث والرابع في الوزر سواء، كما أن

5 - باب التوكل والصبر

الأول والثاني سواء في الأجر. * * * 4087 - عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيسُ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والعاجِزُ مَنْ أتبَعَ نفسَهُ هَواها وتَمنَّى على الله تعالى". قوله: "الكيس من دان نفسه"، (الكيس): العاقل ذو الحزم والاحتياط في الأمور. (وإن يَدين): إذا حاسب؛ يعني: الكيس مَن حاسب نفسه أنها عملت خيرًا أو شرًا، فإن عملت خيرًا يحمد الله، وإن عملت شرًا يلوم نفسه، ويتوب ويستغفر الله. و (دان): إذا قهر؛ يعني: جعل نفسه مطيعة لأمر الله. "والعاجز من أتبع نفسه هواها"؛ يعني بـ (العاجز): الذي غلبت عليه نفسه، وعمل ما أمرتْه به نفسه، فصار عاجزًا لنفسه، (وأتبع نفسه)؛ أي: وأعطى نفسه ما أرادت من المحرَّمات. "وتمنى على الله"؛ أي: يذنب ويتمنى الجنة من غير توبة واستغفار. * * * 5 - باب التَّوَكلِ والصَّبرِ (باب التوكل والصبر) (التوكل): سكون القلب بمضمون الرب؛ أي (¬1): يطمئن القلب بما وعد الله ¬

_ (¬1) في "م": "بمعنى".

من إيصال الرزق إلى العباد، وغيره مما قدَّر الله له. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 4088 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي سَبعُونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الذينَ لا يَسْتَرْقونَ، ولا يتَطيَّرونَ، وعلى ربهمْ يَتوَكَّلونَ". قوله: "لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"، (لا يستَرْقُون) أصله: لا يسترقيون، فأُسكنت الياء ونقلت ضمتها إلى القاف، وحذفت لسكونها وسكون الواو، ومعناه: لا يطلبون الرُّقية. وقد ذكر بحث التطيُّر في (باب الفأل والطيرة). اعلم أن التوكل فرضٌ وشعبةٌ من شعب الإيمان، والتوكُّل نوعان: عام وخاص. فالعام: ما يجب أن يكون في جميع المسلمين. والخاص: ما يكون في الخواص من العباد. فالعام: أن يعلم الرجل أنْ لا مؤثر إلا الله تعالى، ولا يؤثِّر شيء إلا بأمر الله، فالطعام لا يُشبع إلا بأمر الله، والماء لا يروي إلا بأمره، والأدوية لا تشفي إلا بأمره، والسم لا يقتل إلا بأمره، والنار لا تحرق إلا بأمره، وكذلك جميع الأشياء، ومن له هذا العلم والاعتقاد جاز له أن يتداوى ويسترقي، ويفر من عدو إلى قلعة، وجاز له أن يكتسب المال بالتجارة والحرف وغيرهما إذا علم أن الرازق هو الله تعالى، والكسبُ واسطةٌ كما أن التداوي واسطة للشفاء. والتوكل الخاص: أن يترك الرجل التداويَ والاسترقاء؛ ليقينه بأنه لا يصيبه

إلا ما كتب الله له من النفع والضر، والمراد بالتوكل في هذا الحديث هو التوكل الخاص. * * * 4089 - عن ابن عبَّاسٍ قال: خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمرُّ النبي ومَعَهُ الرَّجُلُ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّجُلانِ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ وليسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فرأَيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرجَوْتُ أنْ يكونَ أُمَّتي، فقيلَ: هذا موسَى في قومِهِ، ثُمَّ قيلَ لي: انظُرْ هكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: انظُرْ هكذا وهكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: هؤلاءِ أُمَّتُكَ، ومعَ هؤلاءِ سَبْعونَ ألفًا قُدَّامَهُمْ، يَدخُلونَ الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ؛ هُمُ الذينَ لا يَتطيَّرونَ، ولا يَسْتَرْقونَ، ولا يَكْتَوُونَ، وعلَى ربهمْ يتَوكَّلونَ"، فقامَ عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ فقالَ: ادعُ الله أنْ يَجعَلَني منهُمْ، فقال: "اللهمَّ! اجْعَلْهُ منهُمْ"، ثمَّ قامَ رَجُلٌ آخرُ فقال: ادعُ الله أنْ يَجعلَني منهُمْ، قال: "سَبقَكَ بها عُكَّاشَةُ". قوله: "عرضت علي الأمم"؛ يعني: أراني الله الأنبياء وأممهم؛ لأرى كلَّ نبي ومَن تبعه ومن آمن به. "فجعل"؛ أي: فطفق "يمر النبي ومعه الرجل"؛ يعني: قد كان من الأنبياء من لا يؤمن به إلا واحد، ومنهم من لا يؤمن به إلا اثنان، ومنهم من لا يؤمن به أحد، ومنهم من آمن به جمعٌ. "سدَّ الأفق"؛ أي: ستر الأفق من كثرته. "فقام رجل آخر" قيل: ذلك الرجل كان سعد بن عبادة. قوله: "سبقك بها عكاشة"، (بها)؛ أي: بتلك المسألة، أو بتلك الدعوة، ومعنى هذا الكلام: أنه لم يؤذن لي أن أدعو بهذا الدعاء في هذا المجلس إلا لرجلٍ

واحد، فدعوت لعكاشة به، ولم يؤذن لي أن أدعو في هذا المجلس لغيره، وهذا تحريض للناس على المسارعة في الخيرات، وطلبِ الأدعية الصالحة من الصلحاء؛ لأن للتأخير موانع. * * * 4091 - وقال: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى الله مِنَ المُؤْمنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خيرٌ، اِحْرِصْ على ما ينفعُكَ، واستَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كذا كانَ كذا وكذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّرَ الله وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لوْ تفتحُ عَمَلَ الشَّيطانِ". قوله: "المؤمن القوي خير وأحب"؛ يعني بـ (القوي): مَن صبر على مجالسة الناس، وتحمُّل أذيتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، فهو أحب إلى الله من المؤمن الذي يفر من الناس، ولا ينفع إلا نفسَه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * مِنَ الحِسَان: 4092 - عن عمرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لوْ أنَّكُمْ تتوكَّلونَ على الله حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كما يَرْزُقُ الطَّيرَ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا". قوله: "حق توكله"؛ يعني: لو اعتمدتم بالله اعتمادًا تامًا، وعلمتم أن الله لا يُخلف وعده فيما قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، لوصل إليكم رزقكم من غير حرفةٍ، وسعي منكم.

"كما يرزق الله الطير تغدو"؛ أي: تمشي في أول النهار "خماصًا": جمع خميص، وهو الجائع، "وتروح"؛ أي: تمشي في آخر النهار "بطانًا": جمع بطين وهو الشبع. وهذا الحديث ليس لمنع الناس عن الاكتساب والحرف، بل لتعليم الناس وتعريفهم أن الكسب ليس رازقًا، بل الرازق هو الله تعالى. فإن قيل: لمَ خصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الطير بقوله: (كما يرزق الطير) مع أن الطير مشترِكةٌ بسائر الحيوانات غيرِ أولي العقل في عدم الاتِّجار والحرف والاكتساب، بل كما تسعى السباع والحشرات في طلب الرزق، فكذلك تسعى الطير في طلب الرزق؟. قلنا: (تغدو وتروح) في هذا الحديث ليس معناهما الذهاب في وقت الغداة والرواح، بل (تغدو) معناه: تصبح؛ أي: يمر عليه الصباح، و (تروح)؛ أي: تمشي؛ أي: يمر عليها المساء؛ يعني: بعض الطيور يصل إليه رزقه بلا سعي منه. قد حكي: أن النَّعَّاب - وهو فرخ الغراب - إذا خرج من البيض يكون أبيض، فإذا نظر إليه الغراب يرى لونه مخالفًا للون نفسه؛ لأن الغراب أسود، فينكر كونَه فرخَه، فيتركه ويذهب عنه، فيبقى الفرخ ضائعًا متحيرًا لا يقدر على الطيران في طلب الرزق، وليس له من يأتي إليه برزقه، فأرسل الله إليه الذباب والنمل، فيلتقط الذباب والنمل ويأكل، فيكون سببُ رزقه أكلَ الذباب والنمل حتى يكبر ويسودَّ لونه، فترجع أمه فتراه أسود، فتضمه إلى نفسها وتتعهده، فهذا طير يصل إليه رزقه من غير سعي منه. هذا هو المراد في الحديث. * * *

4093 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّها النَّاسُ! ليسَ مِنْ شيءٍ يُقرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِنَ النارِ إلاَّ قدْ أَمَرْتُكُمْ بهِ، وليسَ شيءٌ يُقرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ ويُباعِدُكُم مِنَ الجنَّةِ إلاَّ قدْ نَهيتُكُمْ عنهُ، وإنَّ الرُّوحَ الأَمينَ - ويُروى: وإنَّ رُوحَ القُدُسِ - نَفَثَ في رُوْعِي: أنَّ نَفْسًا لنْ تموتَ حتَّى تَستكمِلَ رِزْقَها، ألا فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّكُمُ استِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطلُبوهُ بمَعاصِي الله، فإنَّهُ لا يُدرَكُ ما عِندَ الله إلاَّ بطاعتِهِ". قوله: "نفث في رُوعي"؛ أي: نفخ في قلبي؛ أي: أوقع في قلبي "وأَجْمِلوا في الطلب"؛ أي: أحسنوا في طلب الرزق؛ أي: اطلبوه من الحلال. "ولا يحملنكم استبطاء الرزق"، (الاستبطاء): المكث والتأخير؛ يعني: لا تطلبوا الرزق من الحرام بأن يتأخَّر ويمكث إتيانُ رزقكم إليكم من الحلال، كما هو عادة جماعة من الناس، فإنهم يبيعون الخمر وآلات الملاهي، ويتعلمون اللعب والضرب بالملاهي، بسبب قلة ربحهم في الاكتساب من الحلال. "ما عند الله"؛ أي: الجنة. * * * 4094 - عن أبي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الزَّهادَةُ في الدُّنْيا ليستْ بتَحْريمِ الحَلالِ، ولا إِضَاعَةِ المالِ، ولكنِ الزَّهادَةُ في الدُّنْيا أنْ لا تكونَ بما في يَديْكَ أوْثَقَ مِمَّا في يَدَي الله، وأنْ تكونَ في ثَوابِ المُصيبَةِ إذا أَنْتَ أُصِبْتَ بها أرْغَبَ فيها لوْ أنَّها أُبقِيَتْ لكَ"، غريب. قوله: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال"، (الزهادة في الدنيا)؛ يعني: عدم الرغبة في الدنيا ليس بأن تحرِّم حلالاً على نفسك، مثل أن لا تأكل اللحم، ولا تلبس ثوبًا جديدًا، بل هذا ليس بزهد، فإن الله تعالى قال:

{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. "ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يدي الله"؛ يعني: ليكن اعتمادك بوعد الله من إيصال الرزق إليك أقوى وأشد مما في يديك من المال؛ فإن ما في يدك من المال يمكن تَلَفُه، وما وعد الله به لا يمكن خُلْفُه، بل يصل إليك البتة. "لو أنها أُبقيت لك"؛ أي: لو أن تلك المصيبة منعت وأخرت عنك، هذا الكلام يحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون معناه: ينبغي أن تكون في وصول المصيبة أرغب من عدم وصولها إليك، ومن عدم تقدير وصول تلك المصيبة؛ لتجد ثواب المصيبة. والثاني: أن يكون معناه: ينبغي أن تكون في وصول تعجيل مصيبةٍ مقدَّرة أرغبَ من تأخيرها مع أنها مقدَّرة أن تصل إليك في وقت آخر؛ لأن الزاهد في تعجيل نيل الثواب أرغب من تأخيره. * * * 4095 - عن ابن عبَّاسٍ قال: "كُنْتُ خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، فقال: يا غلامُ! احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ، إذا سَأَلْتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ بالله، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعُوكَ بشيءٍ لمْ يَنفعوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله لك، ولو اجتمَعُوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ لمْ يَضرُّوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله عليكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ، وجَفَّتْ الصُّحُفُ". قوله: "تجده تجاهك"؛ أي: تلقاءَك؛ يعني: فإذا حفظت الله يحفظْكَ

6 - باب الرياء والسمعة

وينصرك أينما توجَّهت من الأمور، ويسهل أمورك التي تقصدها. "رفعت الأقلام وجفت الصحف"؛ يعني: كتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات، ولا يكتب بعد الفراغ منه شيء آخر، فما قدِّر وصولُه إليك لا يمكن أن لا يصل، وما لم يكتب وصوله إليك لا يمكن أن يصل. * * * 4096 - عن سَعْدٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعادةِ ابن آدمَ رِضاهُ بما قَضَى الله لهُ، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ تركُهُ استِخارَةَ الله، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ سَخَطُهُ بِما قَضَى الله لهُ"، غريب. قوله: "تَرْكُه استخارةَ الله"، (الاستخارة): طلب الخير؛ يعني: من شقاوة الرجل أن لا يطلب خير الله فيما يفعل؛ يعني: ينبغي للمؤمن أن يستعين بالله في أموره، ويتوكَّل عليه، ويطلب الخير والمعونة منه. "سخطُه"؛ أي: غضبه؛ يعني: يغضب بما يجري عليه من الآفات والفقر والمرض وغير ذلك. * * * 6 - باب الرِّياءِ والسُّمْعَةِ (باب الرياء والسمعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4098 - وقال: "قالَ الله تعالَى: أنا أغنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشركَ فيهِ معي غَيْري تركتُهُ وشِرْكَهُ".

وفي رِوايةٍ: "فأنا منهُ بَريءٌ، هوَ للذي عملَهُ". "فأنا منه بريء"؛ أي: من ذلك العمل. "هو"؛ أي: ذلك العمل "للذي عمله"؛ أي: لفاعله؛ يعني: تركت ذلك العمل وفاعله، لا أقبله ولا أجازي فاعله بذلك العمل؛ لأنه لم يعمله لي. قد ذكر هذا الحديث في أول الكتاب في (كتاب الإيمان). * * * 4099 - وعن جُنْدَبٍ قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بهِ، ومَنْ يُرائِي يُرائي الله بهِ". قوله: "من سمَّع سمع الله به"؛ يعني: من أسمعَ الناس فعله، ويقول: فعلت كذا وكذا، ليمدحه الناس على فعله، سمع الله به يوم القيامة؛ يعني: ذكره وشهَّره بين أهل العرصات، بأن يقول: إنما فعل الفعلَ الفلاني ليمدحه الناس فلم يثبه الله بفعله. "ومن يرائي يرائي الله به"؛ يعني: من فعل فعلاً من الأفعال الصالحة ليراه الناس ويعطوه شيئًا، أو يمدحوه على فعله، جزاه الله يوم القيامة بذلك الفعل جزاءَ المرائين، بأن يقول له: اطلب جزاء فعلك ممن فعلته لأجله. * * * 4100 - وعن أبي ذَرٍّ قال: قِيلَ لِرَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخيرِ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عليهِ؟ قال: "تلكَ عاجِلُ بُشْرَى المُؤْمنِ". وفي رِوايةٍ: "ويُحِبُّهُ النَّاسُ عليهِ". قوله: "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس"؛ يعني:

أخبرنا بحال من يعمل عملًا صالحًا لله لا للناس، ويصفه الناس بالعمل ويمدحونه، هل يبطل ثوابه بما مدحه الناس أم لا؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلك عاجل بشرى المؤمن"؛ يعني: مَن عمل عملًا صالحًا خالصًا لله، وليس في قلبه الرياء، أعطاه الله ثوابين: ثوابًا في الدنيا، وثوابًا في الآخرة, فثوابه في الدنيا: أن يوقع محبته في قلوب الناس، ويوقع على ألسنتهم ذكره بالخير، وثوابه في الآخرة: اللقاء والجنة؛ يعني: لا بأس بمدح الناس الرجلَ الصالح إذا لم يكن في قلبه رياء وسمعة. * * * مِنَ الحِسَانِ: 4103 - عن أنسٍ: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ الله غِناهُ في قلبهِ، وجَمَعَ لهُ شَمْلَهُ، وأتَتْهُ الدُّنْيا وهي راغِمَةٌ، ومَنْ كانتْ نيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيا جَعَلَ الله الفَقْرَ بينَ عَيْنَيْهِ، وشَتَّتَ عليهِ أَمْرَهُ، ولا يأتيهِ منها إلا ما كُتِبَ لهُ". قوله: "جعل الله غناه في قلبه"؛ أي: جعل الله قلبه غنيًا بأن جعله قانعًا بالكفاف، ولا يتعب نفسه في طلب الزيادة، فهذا هو الغِنَى الحقيقي. "وجمع له شمله"، (الشمل): ضد التفرق؛ يعني: جعله الله مجموع الخاطر، وهيأ أسبابه من حيث لا يدري. "وأتته الدنيا وهي راغمة" الواو في (وهي) للحال، (راغمة)؛ أي: ذليلة؛ يعني: تقصده الدنيا طوعًا وكرهًا؛ يعني: حصل له من الدنيا ما يحتاج إليه. "شتَّت"؛ أي: فرَّق. * * *

4104 - عن أبي هُريرةَ قال: قلتُ يا رسولَ الله! بَيْنا أنا في بيتي في مُصَلاَّيَ، إذ دَخَلَ عليَّ رَجُلٌ، فأَعْجَبني الحالُ التي رآني عليها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَكَ الله يا أبا هُريرةَ! لكَ أجرانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وأَجْرُ العلانِيَةِ"، غريب. قوله: "أعجبتني"؛ أي: حسنت عندي. "لك أجران" وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - له: (لك أجران)؛ لأن نيته الإخلاص في الصلاة، فحصل له الأجر بإخلاصه، وأحب أن يراه الناس مصليًا ليقتدوا به؛ يعني: ليعملوا مثل عمله، فحصل له الأجر بنيته تعليمَ الناس الخيرَ. وكذلك جميع الناس ممن عمل عملًا صالحًا لله، وهو يحب أن يعمل الناس مثل عمله، فله أجران: أجرُ العمل، وأجر تعليم الناس الخير. * * * 4105 - عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخرُجُ في آخرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَختِلونَ الدُّنْيا بالدِّينِ، يَلْبَسونَ للنَّاسِ جُلودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلسِنَتُهُم أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ قُلوبُ الذِّئابِ، يقولُ الله تعالى: أَبي يَغترُّونَ؟ أمْ عليَّ يَجْترِئُونَ؟ فبي حَلَفْتُ، لأَبْعَثَنَّ على أُولئِكَ منهُمْ فِتنةً تَدَع الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ". قوله: "يختلون الدنيا بالدين"، و (الختل): الخداع، وهو أن يعمل الرجل عملاً وفي نيته غيرُ عمله؛ ليغرِّر أحدًا، وتقدير هذا الكلام: يختلون أهل الدنيا بعمل الدين؛ يعني: يعملون الأعمال الصالحة ليعتقد الناس فيهم الخير والصلاح ويظنونهم الصلحاء؛ ليدفعوا إليهم الأموال، وليخدموهم، وليس في نيتهم إخلاص، بل جذب المال والجاه. "يلبسون للناس جلود الضأن"؛ يعني: يلبسون اللباس من الصوف؛

ليظنهم الناس زهَّادًا عبَّادًا تاركين الدنيا، لبس الصوف إن كان بهذه النية فهو مذموم، وإن كان من الفقراء أو لكسر النفس وغير ذلك فهو جائز. "من اللين، ألسنتهم أحلى من السكَّر" أراد بـ (اللين): التملُّق والتواضع في وجوه الناس؛ ليصير الناس لهم مريدين، "وقلوبهم قلوب الذئاب"؛ يعني: قلوبهم شديدة مسودةٌ من غاية حبِ الدنيا وحب الجاه، وكثرةِ العداوة والبغض والصفات المذمومة الثابتة في قلوبهم. "أبي يغترون أم عليَّ يجترئون" الهمزة في (أبي) للاستفهام، (الاغترار): الانقياد، مِن غرَّك؛ يعني: يمكر بك مكرًا وأنت لا تعلم، وتظنه صديقًا نصوحًا، والمراد بـ (الاغترار) هنا: عدم الخوف من الله، وترك التوبة من فعلهم القبيح، و (الاجتراء): الانبساط والتشجُّع؛ يعني: الذين يختلون الدنيا بالدين (¬1)، لا يخافونني، ويجترئون عليَّ بمكرهم الناس في إظهار الأعمال الصالحة. "فبي حلفتُ" الباء للقسم؛ يعني: يقول: الله تعالى: حلفتُ بعظمتي وكبريائي لأبعثن عذابًا على هؤلاء، "تدع"؛ أي: تترك "الحليم": العاقل "حيران"؛ يعني: لا يقدر العاقل وذو تجربة وجلادة على دفع ذلك العذاب. وسنة الله تعالى في إرسال العذاب أن يعم المذنب والبريء، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]؛ أي: تعم المذنبَ والبريء. وطريق البريء: أن ينهى المذنب عن الذنب، فإن لم ينته فليترك مجالسته، وليبعد عن تلك القرية أو البلدة. * * * ¬

_ (¬1) في "ق": "والذين".

4106 - عن ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تباركَ وتعالى قال: لقدْ خَلقْتُ خَلْقًا ألسِنتُهُمْ أحلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فبي حَلَفْتُ لأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ، فبي يغترُّونَ؟ أمْ عليَّ يَجْتَرِئُونَ؟ "، غريب. قوله: "لأُتِيحَنَّهُمْ"؛ أي: لأقدِّرن، أتاح: إذا قدَّر وقضى. * * * 4107 - عن أبي هُريرةَ قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكُلِّ شَيءٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإنْ كانَ صاحبُها سَدَّدَ وقارَبَ فارْجُوهُ، وإنْ أُشِيرَ إليهِ بالأَصابعِ فلا تعُدُّوهُ". قوله: "إن لكل شيء شِرَّةٌ"، (الشِّرَّة): الحِدَّة، والمراد بالشِّرَّة في هذا الحديث: أن العابد يغلو ويبالغ في العبادة في أول أمرِه، وكل مبالغٍ يغتر وتسكن حِدَّته ومبالغته في أمره بعد حين. "فإنْ صاحبُها سدَّد وقارب فأرجُوه"، (التسديد): إعطاءُ الله العبدَ التوفيقَ والتقويم والتسوية، تقدير هذا الكلام: فإن سدَّد وقارب صاحبها؛ أي: صاحب الشرة؛ يعني: فإن كان العابد مستقيمًا متوسطًا في العمل من غير غلوٍّ ولا تقصير، و (سدد)؛ أي: جعل عمله متوسطًا، و (قارب)؛ أي: دنا من الاستواء والاستقامة. (فارجوه)؛ أي: فكونوا على رجاء الخير منه، فإن مَنْ سلكَ الطريق المستقيم يقدر على الدوام عليه، وأفضل الأعمال عند الله أدومها وإنْ قَلَّتْ، وإن [مَن] بالغ في العمل وأتعب نفسه لا يقدر على الدوام عليه، بل يضعف وينقطع عن سلوك الطريق.

ولما رآه الناس مبالغًا في العمل تعجبوا منه، وأجمعوا عليه، وأدنوا منه الجاه والمال، وقَبَّلوا يديه ورجليه، وربما يصير ذلك العابد أحمق مغرورًا بعمله متكبرًا، ويعتقد أنه خير من غيره، ولا شك أن هذا الاعتقاد مذموم عند الشرع، فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر هذا الحديث: "وإن أشير [إليه] بالأصابع فلا تَعُدُّوه"؛ يعني: وإن صار معروفًا مشارًا إليه بالعبادة، فلا تَعُدُّوه شيئًا؛ أي: فلا تعتقدوه صالحًا. فإن قيل: قد نُقل عن جماعة من المشايخ أنهم قد اجتهدوا في العبادة، وأتعبوا أنفسهم إتعابًا شديدًا، فبدليل هذا الحديث ينبغي أن نقول: هم مسيئون في اجتهادهم في العبادة؟ قلنا: هذا الحديث عام، والمراد به الخاص يعني: قد يكون بعض الناس يبالغ في العبادة ليشتهرَ بين الناس، فمن كانت نيتُهُ الاشتهار فهو، الذي يُرَاد في هذا الحديث، ومن كان نيته الإخلاص في العبادة لا الاشتهار بين الناس لم يكن عليه بأس باجتهاده في العبادة. والمشايخ الذين اجتهدوا في العبادة كانوا قد فَرُّوا من الناس، وسكنوا البوادي والجبال، والمواضع الخالية؛ حذرًا من الرياء واجتماع الناس عليهم، فلما كملوا في الطريقة دخلوا البلاد، وسكنوا بين الناس لتربيتهم ودعوتهم إلى الله تعالى، فلما بلغوا هذا الحدَّ قللوا العبادة والرياضات، وكَثَّروا مجالسةَ الناس ومواعظتهم وتربيتهم، ولم يضرهم قَبول الناس؛ لأن قلوبَهم مطمئنةٌ بالحق مزينةٌ بنور التَّجلي، فصارَتْ قلوبُهُم كالبحر، فكما أن القذرات لا تكدِّر البحر، فكذلك اجتماع المال وتوجه الجاه والقبول إليهم لا يكدِّر صفاء خواطرهم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في "ش" و"ق": "قلوبهم".

7 - باب البكاء والخوف

7 - باب البُكاءِ والخَوْفِ (باب البكاء والخوف) مِنَ الصِّحَاحِ: 4109 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نَفْسي بيدِه، لوْ تَعْلَمونَ ما أعلمُ لبَكَيْتُمْ كثيرًا، ولضحِكْتُمْ قَليلًا". "لو تعلمون ما أعلم"؛ يعني: لو تعلمون ما أعلم من صفة النار وشدته، وغضب الله، وحق العبادة لله على الناس، "لبكيتم كثيرًا": من خشية الله، "ولضحكتم قليلًا". * * * 4110 - وقال: "والله لا أَدْري وأنا رسولُ الله ما يُفْعَلُ بي ولا بِكُمْ". قوله: "والله لا أدري - وأنا رسولُ الله - ما يُفْعَلُ بي ولا بكم"، (الواو) في (وأنا) للحال، و (ما) في (ما يُفْعَل) للاستفهام. قال الحسن البصري: معناه: لا أدري أأموت أم أقتل، ولا أدري أيُّها الأمم المكذِّبة؛ أتَرمَوْنَ بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يُفْعَلُ بكم ما فُعِلَ بالأمم المكذِّبة من مسخ الصور؟. ويحتمل أن يريد بقوله: (لا أدري ما يفعل بي) من الجُوع والشَّبع، والعطش والرَّي، والمرض والصحة، والغنى والفقر، وكذلك لا أدري ما يفعل بكم من هذه الأشياء، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة: ليس له شكٌّ في أنه في الجنة، ومن كذبه في النار.

روت هذا الحديث أم العلاء الأنصارية. * * * 4111 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ النَّارُ، فَرَأَيتُ فيها امرَأةً منْ بني إسرائيلَ تُعذَّبُ في هِرَّةٍ لها، رَبَطَتْها فلم تُطْعِمْها، ولم تَدعْها تأكُلُ مِنْ خَشاشِ الأَرْضِ حتَّى ماتتْ جُوْعًا، ورأيتُ عَمْرَو بن عامِرٍ الخُزَاعِيَّ يجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، وكانَ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوائِبَ". قوله: "من خَشَاش الأرض" بفتح الخاء: دواب الأرض. "قُصْبَهُ"؛ أي: أمعائه. "وكان أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوائِبَ"؛ أي: وضع تحريم السَّوائب، وهي جمع سائبة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]. قال المفسرون: (البَحِيرة): الناقة إذا نتَجت خمسة أبطن، شقوا أذنها وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا يُجَزُّ لها وبر، ولا يُحمل على ظهرها، ولا تُمنع عن ماء ولا مرعى. {وَلَا سَائِبَةٍ} قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرضَ، أو قدمَ من سفر، أو نذر نذرًا، أو شكر نعمة = سَيَّبَ بعيرًا، وكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها. قال الفراء: إذا ولدَتِ الناقةُ عشرةَ أبطنٍ كلهنَّ إناث، سُيبَتْ فلم تُرْكَب. وقال ابن عباس: هي التي تُسيَّب للأصنام؛ أي: تعتق لها. وقال سعيد بن المسيب: السَّائبة من الإبل، كانوا يسيبونها لطواغيتهم. {وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}، (الوصيلة) من الغنم؛ كانت الشاة إذا ولدت أنثى

فهي لهم، وإن ولدت ذكرًا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرًا وأنثى، قالوا: وَصَلَتْ أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. {وَلَا حَامٍ}: قال ابن عباس وابن مسعود: إذا نتجَتْ من صُلْبِ الفحلِ عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، وسُيب لأصنامهم، فلا يُحمل عليه. قال قتادة: هذا كله تشديد شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم وأنفسهم تغليظًا، وأن أول من فعل ذلك عَمرو بن لحي، وهو عمرو بن عامر المذكور. روى هذا الحديث جابر - رضي الله عنه -. * * * 4112 - عن زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عليها يَوْمًا فَزِعًا يقولُ: "لا إله إلا الله، وَيْلٌ للعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قدِ اقتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ منْ رَدْمِ يَأْجوجَ ومَأْجوجَ مِثْلُ هذهِ"، وحَلَّقَ بإِصبعَيْه، الإِبهامِ والتي تَلِيها، قالتْ زَيْنبُ: فقلتُ: يا رسولَ الله! أَفَنَهْلِكُ وفِينا الصَّالِحونَ؟ قال: "نَعَمْ، إذا كثُرَ الخَبَثُ". قوله: "مِنْ شرٍّ قد اقترب"؛ يعني: قرب خروج جيش يقاتلُ العرب من ردم يأجوج ومأجوج، (الرَّدْمُ): السَّدُّ، وهو سدٌ بناه ذو القرنين على وجه يأجوج كي لا يخرجوا من مواطنهم في الأرض، ويأجوج ومأجوج، وهما قومان كافران من الترك، وهما جنسان من بني آدم. والمراد بهذا الحديث: أنه لم يكن في ذلك الرَّدْم ثقبة إلى هذا اليوم، وقد انفتحت فيه ثقبة، وانفتاح الثقبة فيه من علامات القيامة، فإذا توسَّعت تلك الثقبة خرجوا منها، وخروجهم يكون بعد خروج الدَّجَّال في الوقت الذي ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام، ويقتل الدَّجَّال، ويأتي شرحُهُ في موضعه. * * *

4113 - وقال: "لَيَكُونَنَّ في أُمَّتي أَقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَريرَ والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أَقْوامٌ إلى جَنبِ عَلَمٍ يَروحُ عليهمْ بسارِحَةٍ لهُمْ، يأتيهمْ رَجُلٌ لحاجةٍ فيقولون: ارجِعْ إلينا غدًا، فيُبيتُهمْ الله، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمسَخُ آخرينَ قِردَةً وخنازيرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ". قوله: "يَستحِلُّوْنَ الحِرَ والحريرَ"، (الحِرَ) بحاء مهملة مكسورة وراء مهملة مخففة، وأصله (حِرْحٌ)، فحذفت الحاء الأخيرة، وجمعه: أَحْراح، و (الحِرَ): الفرج؛ يعني: قد يكون جماعة في آخر الزمان يزنون ويعتقدون حِله، ويقولون: إذا رضي الرجل والمرأة حَلَّ بينهما جميع أنواع الاستمتاعات، ويقولون: المرأة مثل بستان، فكما أن لصاحب البستان أن يبيح ثمرة بستانه لمن شاء، فكذلك يجوز للزوج أن يبيح استمتاع زوجته لمن شاء، والذين لهم هذا الاعتقاد: الجوالقيون والملاحدة. وأما لبس الحرير: فهو حرام على الرجال، وكثير من الناس يلبسونه ويعتقدون حِلَّه، ومَن اعتقدَ حِلَّه فهو كافر. "المعازف": آلات الملاهي كالطنبور والمزمار وغيرهما. "ولينزلن أقوام إلى جنب علم"؛ يعني: سينزل أقوام إلى جنب جبل، "يَرُوحُ عليهم رجل بسارحة لهم"، (يَرُوح)؛ أي: يذهب في وقت الرَّواح، وهو أول الليل، (السارحة): القطيعة من الغنم والبقر والجمل. يعني: يأتيهم راعيهم بدوابهم كلَّ يوم وليلة، فيأتيهم يومًا لحاجة، ويطلب منهم تلك الحاجة فيقولون له: ارجع وأتنا غدًا لنقضيَ حاجَتَكَ. "فيبيتُهُم الله"، (التبييت): إرسال العذاب والإهلاك في الليل؛ يعني: يهلكهم الله في تلك الليل. "ويَضَعُ العَلَمَ" عليهم؛ أي: يوقع ذلك الجبل عليهم حتى يهلكوا.

"ويمسخ"؛ أي: يغيرُ صورَ قومٍ منهم؛ يعني: يهلك بعضهم، ويمسخ بعضهم. ولم يبين في هذا الحديث مكانهم ولا ذنوبهم (¬1)، وإنما أفاد هذا الحديث: أنه يكون في آخر الزمان نزول الفتن ومسخ الصور، فليجتنب المؤمنُ المعاصيَ كي لا يقعَ في العذاب ومسخ الصور. وفي هذا الحديث: اختلف نسخ "المصابيح" في موضعين: أحدهما في (الحر)؛ فإنه في بعض النسخ: "الخز" بالخاء والزاي المعجمتين، والصواب: ما قلنا؛ فإنه ذكر في "سنن أبي داود" أنه بالحاء والراء المهملتين. والموضع الثاني قوله: "يروح عليهم رجلٌ بسَارحةٍ" ففي بعض النسخ هكذا، وفي بعض النسخ: "يروح عليهم بسارحة" من غير لفظة رجل، و (الرجل) مذكور في "سنن أبي داود". روى هذا الحديث أبو عامر الأشعري. * * * 4114 - وقال: "إذا أَنْزَلَ الله بقَوْمٍ عَذابًا؛ أصابَ العَذابُ مَنْ كانَ فيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا على أَعْمَالِهِمْ". قوله: "إذا أنزلَ الله بقومٍ عذابًا أصابَ مَنْ كان فيهم"؛ يعني: إذا أذنبَ بعضُ القوم نزلَ العذابُ بجميع مَنْ كان في القومِ الذين فيهم المذنب، وهلكوا جميعًا بشؤم المذنب، فصاروا مستوين في لحوقِ العذابِ بهم، ولكنهم مختلفون يوم القيامة، وكل واحد منهم يُبعث بأعماله، فالصالح ينجو والطالح يُعذَّب. ¬

_ (¬1) في "ش": "دينهم".

روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 4115 - وقال: "يُبعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على ما ماتَ عليهِ". قوله: "يُبعَثُ كلُّ عبد على ما مات عليه"؛ يعني: يُحشر كل عبد يوم القيامة على ما مَات من العمل. روى هذا الحديث جابر. * * * مِنَ الحِسَان: 4116 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رَأَيتُ مِثْلَ النَّارِ نامَ هارِبُها، ولا مِثْلَ الجنَّةِ نامَ طالِبُهَا". قوله: "نامَ هاربُها"، (الهاربُ): الذي يفرُّ؛ يعني: النار شديدة والخائفون منها نائمون غافلون، وليس هذا طريق الهارب، بل طريق هارب النار: أن يهربَ من المعاصي إلى الطاعات. 4117 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشية الله حتَّى يَعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ". قوله: "لَن يلجَ النَّارَ"؛ أي: لن يدخل النار، (وَلَجَ يَلِجُ): إذا دخل. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4118 - وعن أبي ذَرٍّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أرَى ما لا تَرَوْنَ، وأَسْمَعُ ما لا تَسْمَعونَ، أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، والذي نَفْسي بيدِه،

ما فيها مَوْضعُ أَرْبَعِ أَصابعَ إلاَّ ومَلَكٌ واضعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله، والله لو تَعلمونَ ما أعلمُ لضَحِكتُمْ قليلاً ولَبكَيْتُمْ كثيرًا، وما تلذَّذْتُمْ بالنِّساءِ على الفُرُشاتِ، ولَخَرَجْتُمْ الى الصُّعُداتِ تَجْأرونَ إلى الله"، قالَ أبو ذَرٍّ: يا لَيْتني كنتُ شَجَرةً تُعْضَدُ. قوله: "أطَّتِ السَّماء"؛ أي: صَاحت وأَنَّتْ. "وحُقَّ لها أن تَئِطَّ"، (حق) على بناء المجهول؛ معناه: ينبغي لها أن تصيحَ وتَئِنَّ؛ يعني: تَئِنُّ السماء من خشية الله مع أنها موضع عبادة الملائكة؛ يعني: فإذا تخشى السماء مع أنها جماد فأولى بالإنسان أن يخشى من الله العظيم مع أنه ملوَّثٌ بالذنوب. "الصَّعُدَات": جمع صُعُد - بضم الصاد والعين -، وهو جمع صَعِيْد، وهو وجه الأرض والتراب. "تَجْأَرون"؛ أي: تتضرعون. "يا ليتني كنتُ شجرةً تُعْضَدُ"؛ أي: تقطع؛ يعني: يا ليتني كنت بريئًا من الذنوب كالشجرة، ويا ليتني لم أحشر يوم القيامة ولم أعذب كالشجرة التي تعضد، وهذا القول منه مِنْ غَاية خشية الله تعالى. * * * 4119 - عن أبي هُريرَةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَافَ أدْلَجَ، ومَنْ أدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، ألا إنَّ سِلْعَةَ الله غاليةٌ، ألا إنَّ سِلْعَةَ الله الجنَّةُ". قوله: "مَنْ خَافَ أَدْلجَ"؛ يعني: من خافَ من شيءٍ أدلَجَ؛ أي: هَرَبَ في أول الليل، فإن الرجلَ إذا هربَ في أول الليل ينجو من العدو، فإن العدو يُغير بعد الصبح؛ يعني: من خاف الله فليهرب من المعاصي إلى الطاعات.

"السِّلعة": المتاع، و"الغالية": الرفيعة القيمة؛ يعني: سلعةُ الله الجنةُ، وهي عزيزة لا يليق بثمنها إلا بذل النفس والمال. * * * 4120 - عن أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ الله جلَّ ذِكرهُ: أخرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكرني يَوْمًا، أو خافَني في مَقامٍ". "أخرجوا من النار مَنْ ذكرني يومًا"؛ يعني: من ذكرني يومًا بشرط أن يكون مؤمنًا بنبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -، أو نبي آخر قَبْلَ نسخِ دينه. * * * 4122 - عن أُبيِّ بن كَعْبٍ قال: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ذَهَبَ ثُلُثا اللَّيلِ قامَ فقالَ: "يا أيُّها النَّاسُ! اذْكُروا الله، اذكُروا الله، جاءتِ الرَّاجِفَةُ، تتبَعُها الرَّادِفةُ، جاءَ المَوْتُ بما فيه، جاءَ المَوْتُ بما فيه". قوله: "جاءت الرَّاجِفَةُ تتبَعُها الرَّادِفَةُ"، (الرَّاجِفَةُ): النفخة الأولى يموت منها الخلق، و (الرَّادِفَةُ): النفخة الثانية التي يحيى فيها الخلق. "جاءَ الموتُ بما فيه"؛ أي: جاءَ الموتُ مع ما فيه مِن أحوالِ القبر والقيامة. * * * 4123 - عن أبي سعيدٍ قال: خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلاةٍ فرأَى النَّاسَ كأنَّهُمْ يَكْتَشِرونَ، فقالَ: "أمَا إنَّكُمْ لوْ أَكْثرتُمْ ذِكْرَ هادِمِ اللَّذَّاتِ لَشغلَكُمْ عمَّا أرَى، فأكْثِروا ذِكْرَ هادِمِ اللَّذَّاتِ المَوْتِ، فإنَّهُ لمْ يأْتِ على القَبْرِ يَوْمٌ إلاَّ تكلَّمَ فيقولُ: أنا بَيْتُ الغُربةِ، وأنا بيتُ الوَحْدةِ، وأنا بيتُ التُّرابِ، وأنا بيتُ الدُّودِ، وإذا دُفِنَ

العَبْدُ المُؤْمِنُ قالَ لهُ القَبْرُ: مَرْحبًا وأهلًا، أمَا إنْ كنتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي على ظَهري إليَّ، فإذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ وصِرْتَ إليَّ فَسَترَى صَنيعي بكَ"، قال: "فيتَّسعُ لهُ مَدَّ بَصَرِه، ويُفتَحُ لهُ بابٌ إلى الجَنَّةِ، وإذا دُفِنَ العَبْدُ الفاجِرُ أو الكافِرُ قالَ لهُ القَبْرُ: لا مَرحَبًا ولا أهلًا، أمَا إنْ كنتَ لأَبغَضُ مَنْ يَمشي على ظَهري إليَّ، فإذْ وُلِّيتُكَ اليومَ وصِرْتَ إليَّ فَسَترَى صَنيعي بكَ، قال: فيَلْتَئِمُ عليهِ حتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ"، قالَ: وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعِهِ، فأَدْخَلَ بعضَها في جَوْفِ بعضٍ، قال: "ويُقيَّضُ لهُ سَبعونَ تِنِّينًا، لوْ أنَّ واحِدًا منها نَفَخَ في الأَرْضِ ما أنبتَتْ شَيئًا ما بَقيتِ الدُّنْيا، فيَنْهَشْنَهُ ويَخْدِشْنَهُ حتى يُفْضَى بهِ إلى الحسابِ". قال: وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما القبرُ رَوْضةٌ منْ رِياضِ الجنَّةِ، أوْ حُفْرَةٌ منْ حُفَرِ النَّارِ". قوله: "يَكْتَشِرون"؛ أي: يتبسَّمون. "لو أكثرتُمْ ذكرَ هادِمِ اللذَّات لشغلَكُم"؛ أي لمنعكم "عمَّا أرى"، يعني: عما أرى "الموت"، (الموت): تفسيرٌ لـ (هادم اللذات)، أو مفعول فعل محذوف، تقديره: أعني: الموت، (لشغلكم)؛ أي: لمنعكم، (عما أرى)؛ يعني: عما أرى منكم من التبسم والضحك. "أما"؛ أي: أعلم. "وُلِّيْتُكَ"، (وَلِيَ): إذا قرب وصار حاكمًا على أحد؛ يعني: إذا وصلت إليَّ، وصرتُ حاكمًا وقادرًا عليك، وصرتَ مقهورًا تحت أمري ولم يبقَ لك قوة وقدرة. "فسترى صَنيعي بكَ"؛ أي: سوف ترى فعلي بك؛ يعني: أُحْسِنُ إليك. "فيلتئم عليه"؛ أي: يتكئ عليه كل جَانب من القبر، ويضمُّهُ ويعصرُهُ.

8 - باب تغير الناس

"حتى تختلف"؛ أي: تختلط وتدخلُ أضلاعُ جانبه الأيمن على جانبه الأيسر، وجانبه الأيسر على جانبه الأيمن. "ويُقَيضُ"؛ أي: يُوكل، "التنين": نوع من الحية. "فينهشنه"؛ أي: فتلدغنه، "حتى يفضى به"؛ أي: يوصل إلى يوم القيامة. * * * 4124 - عن أبي جُحَيْفَةَ قال: قالوا: يا رسولَ الله! قدْ شِبْتَ، قال: "شَيَّبَتْني هُوْدٌ وأخَوَاتُها". وفي رِوايةٍ: "شَيَّبَتْني هُودٌ، والواقِعةُ، والمُرْسَلاتُ، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ". قوله: "قد شِبْتَ"؛ أي: صرتَ أشيب. "فقال - صلى الله عليه وسلم -: شيبتني"؛ أي: جعلني أشيب سورة "هود وأخواتها"؛ أي: أشباهها من السورة التي فيها ذكر القيامة والعذاب؛ يعني: من خوف ما ذكر في هذه السورة من التخويفات قد صرتُ أشيب، والله أعلم. * * * 8 - باب تَغيُّرِ النَّاسِ (باب تغير الناس) مِنَ الصِّحَاحِ: 4125 - قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما النَّاسُ كالإِبلِ المئةِ، لا تَكادُ تجِدُ فيها راحِلةً".

قوله: "إنما الناسُ كالإِبلِ المئة"؛ يعني: صار الناس قليل المنفعة لا تجد في مئة رجل مثلًا رجلًا يعاونُك ويحفظُ سرَّك، كمئة من الإبل لا تجد فيها جَملًا أو ناقة تصلح لحمل أقمشتك. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 4126 - وقالَ: "لَتَتَّبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبلَكُمْ، شِبْرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ، حتَّى لوْ دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبعتُموهم"، قيلَ: يا رسولَ الله! اليهودَ والنَّصارَى؟ قالَ: "فمَنْ؟ ". قوله: "لتتَّبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبلَكم"، (السَنَنَ): جمع سُنَّةٍ، وهي هنا: الرسم والعادة؛ يعني: لتفعل أمتي مثل ما فعلت الأمم الماضية من الأفعال القبيحة. "شبرًا بشبر"، يريد بهذا الكلام: أنكم ستفعلون مثل فعلهم سواء بسواء "حتى لو دخلوا جحر ضب"، (الجحر): الثقبة، يريد بهذا اللفظ أيضًا: أنكم تفعلون مثل فعلهم. "قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى": الذين نتبعهم هم اليهود والنصارى، أم قوم أخر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ"؛ يعني: فَمَنْ هُمْ إن لم يكونوا اليهود والنصارى؛ يعني: الذين تتبعونهم هم اليهود والنصارى لا غيرهم. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * 4127 - وقالَ: "يَذهبُ الصَّالِحونَ الأَوَّلُ فالأَوَّلُ، وتبقَى حُفالَةٌ كحُفالَةِ

الشَّعيرِ أو التَّمرِ، لا يُباليهِمُ الله بالةً". قوله: "يذهبُ الصالحون"؛ أي: يموتُ الصالحون. "الأوَّلُ فالأوَّلُ"؛ أي: قرنًا بعد قرن، حتى لا يبقى من الناس إلا جماعة أشرار لم يكن فيهم خير. "كحفالة الشعير والتمر"، (الحُفَالة): ما يسقط من رديء الشعير والتمر. "لا يباليهم الله بَالَةً"، (المبالاة): التحقير وعدم الالتفات إلى أحد، وعدم الخوف من أحد، ويعدى بالباء وبمن وبنفسه، يقال: لا أبالي بفلان، ولا أبالي من فلان، ولا أبالي فلانًا. ومعنى الحديث: أن الله لا يعظمهم، ولا يكون لهم عند الله وقار. روى هذا الحديث المِرْدَاسُ الأسلمي. * * * مِنَ الحِسَان: 4128 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مشَتْ أمَّتي المُطَيْطِيَاءَ، وخدَمَتْهُم أبناءُ المُلوكِ، أبناءُ فارِسَ والرُّومِ، سَلِّطَ الله شِرارَها على خِيارِها"، غريب. قوله: "إذا مَشَتْ أمتي المُطَيْطِياء"، (المُطَيْطِياء): التبختر، وهو منصوب على الحال، وهو حال معرفة بمعنى التنكير؛ نحو: لا إله إلا الله وحده، (وحده): منصوب على الحال وهو معرفة بمعنى التنكير؛ يعني: إذا صارت أمتي متكبرين وعظم ملكهم وأخذوا الفارس والروم، وخدمتهم أبناء ملوك الفرس والروم. "سَلَّط الله شرارَها على خيارها"؛ يعني: جعل الله حُكْمَ الأمةِ بأيدي الظالمين، فيظلمون الصالحين ويؤذونهم، ويكون هذا نتيجة فساد بعض الأمة. * * *

4129 - عن حُذَيْفةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى تَقْتُلوا إِمامَكُمْ، وتَجْتَلِدُوا بأَسْيافِكُمْ، ويَرِثَ دُنياكُمْ شِرارُكُمْ". قوله: "تَقْتُلوا إمامَكُم"؛ أي: حتى تقتلوا الخليفةَ والسُّلطانَ، وقد رأينا قَتْلَ المسلمين الخليفةَ المعتصم - رحمه الله - وذلك أن مقدمةَ الجيش [...] الكافر كانوا مسلمين حين قصدوا بغداد، وسمعنا أن جيشَ المسلمين بالغوا في تخريبِ بغداد وقتل أهلها، حتى قال واحدٌ من جيش المسلمين قتلتُ عددًا كثيرًا من العلويين من أهل بغداد. "وتجتَلِدُوا بأسيافِكُمْ"، (الاجتلاد): المقاتلة؛ يعني: حتى يحاربَ بعضُ المسلمين بالسيوفِ بعضًا. "ويَرِثَ دُنياكم"؛ يعني: يصيرُ الملكُ والمالُ في أيدي الكَفَرَةِ والظَلَمَةِ. * * * 4130 - وقالَ: "لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يكونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بالدُّنيا لُكَعُ ابن لُكَعٍ". قوله: "أسعد الناس بالدنيا"؛ أي: أكثر الناس في أموال الدنيا، وأطيبهم عيشًا، وأكثرهم حكمًا. "لُكَعُ بن لُكَعٍ"؛ أي: لئيم ابن لئيم. روى هذا الحديث حذيفة. * * * 4131 - وعن مَنْ سَمِعَ عليَّ بن أبي طالِبٍ قال: إنَّا لَجُلوسٌ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ، فاطَّلعَ علينا مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ ما عليهِ إلاَّ بُردَةٌ لهُ مَرْقُوعَةٌ بفَرْوٍ، فلَمَّا

رآهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكَى للَّذِي كانَ فيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، والذي هُوَ فيهِ اليومَ، ثمَّ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ بكُمْ إذا غَدا أَحَدُكُمْ في حُلَّةٍ وراحَ في حُلَّةٍ، ووُضعَتْ بينَ يدَيْهِ صَحْفَةٌ ورُفِعتْ أُخرَى، وسَتَرْتُمْ بُيوتَكمْ كما تُستَرُ الكَعْبةُ؟ " فقالوا: يا رسولَ الله! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خيرٌ مِنَّا اليومَ، نتفرَّغُ للعِبادَةِ، ونكُفَى المُؤْنةَ؟ قال: "لا، أنتُمُ اليومَ خَيْرٌ منكُمْ يَوْمَئِذٍ". قوله: "كيفَ بكُمْ"؛ يعني: كيف الحال بكم؛ يعني: كيف يكون حالكم إذا كثرت أموالكم، ويلبسُ كل واحد منكم ثوبًا في أول اليوم، وثوبًا في آخره من غاية التنعم. "الصَّحْفَة": القصعة. "وسترتُمْ بيوتَكُمْ"؛ أي: تزينون بيوتَكُمْ بالثياب النفيسة مثل الحَجَلَةِ، والستر من غاية التنعم. "ونُكْفَى المُؤْنَةَ"؛ أي: يُدفع عنا هَمُّ تحصيلِ القُوت، بل تكون أسبابنا مهيأة ونشتغل بالكلية بالعبادة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أنتم اليومَ خيرٌ منكم يومئذ"؛ يعني: ليسَ الأمرُ كما تظنون، بل أنتم اليوم خير؛ لأن الفقير الذي له كفاف خير من الغني؛ لأن الغني يشتغل بدنياه، ولم يكن له فراغ العبادة من كثرة اشتغاله بالمال. * * * 4132 - عن أنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأْتي على النَّاسِ زَمانٌ الصَّابرُ فيهِمْ على دينِهِ كالقابضِ على الجَمْرِ"، غريب. قوله: "كالقَابضِ على الجَمر"، (الجَمْرُ): الحطب المحترق قبل أن تخبو ناره؛ يعني: كما أن أخذَ النار بالكفِّ شديدٌ، فكذلك الصبرُ مع أهل

ذلك الزمان شديدٌ. * * * 4133 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ أُمَراؤُكُمْ خِيارَكُمْ، وأَغْنِياؤُكُمْ أَسْخِياءَكُمْ، وأُمورُكُمْ شُورَى بينكُمْ، فظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لكُمْ مِنْ بَطْنِها، وإذا كانَ أُمَراؤُكُمْ شِرارَكُمْ، وأَغْنِياؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، وأُمورُكُمْ إلى نِسائِكُمْ، فبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لكُمْ مِنْ ظَهْرِها"، غريب. قوله: "وأمرُكُم شورى بينكم"، (الشورى): المشورة؛ يعني: ما دمتم يُشاور بعضكم بعضًا في أموركم. * * * 4134 - عن ثَوْبانَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَتَداعَى عَلَيكُمْ كما تَتَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها"، فقالَ قائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: "بَلْ أنتُمْ يَوْمَئِذٍ كثيرٌ، ولكنَّكُمْ غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدورِ عدُوِّكُم المَهابَةَ مِنْكُمْ، ولَيَقذِفَنَّ في قُلوبكُم الوَهْنُ". قالَ قائِلٌ: يا رسولَ الله! وما الوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنْيا وكَراهِيَةُ المَوْتِ". قوله: "يُوشِكُ"؛ أي: يَقْرُبُ. "أن تداعى عليكم" أصله (تتداعى) فحذفت تاء الاستقبال؛ يعني: سيجتمعُ أعداؤكم على محاربتكم ويغلبوا عليكم. (تَدَاعَى القومُ): إذا أقبلوا على شيء، و (تَدَاعَتِ الحيطان): إذا تساقطت. "الأَكَلَةُ": جمع آكل. "ولكنكم غُثاء"، و (الغُثاء): ما يكون فوق الماء مثل الحشيش والتبن؛

9 - باب

يعني: لا يكون لكم قوة وشجاعة، بل تخافون من الأعداء. * * * 9 - باب (باب) مِنَ الصِّحَاحِ: 4135 - عن عِياضِ بن حِمارٍ المُجَاشِعيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذاتَ يَوْمٍ في خُطبتِهِ: "ألا إنَّ ربي أَمَرَني أنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهلتُمْ مِمَّا علَّمني يومي هذا، كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنفاءَ كُلَّهمْ، وإنَّهمْ أَتَتْهُمُ الشَّياطينُ فاجتالَتْهُمْ عنْ دِينِهِمْ، وحَرَّمَتْ عليهمْ ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وأَمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ بهِ سُلْطانًا، وإنَّ الله نَظَرَ إلى أهلِ الأَرْضِ فمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وعجَمَهُمْ، إلاَّ بَقايا منْ أهلِ الكِتابِ، وقال: إِنَّما بَعَثْتُكَ لأبتَلِيَكَ وأبتَليَ بكَ، وأَنْزَلتُ عليكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقرَؤُهُ نائِمًا ويَقْظانَ، وإنَّ الله أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ! إذًا يَثْلَغوا رَأْسي فيَدَعوهُ خُبْزَةً، قال: استَخْرِجْهُمْ كما أَخْرجُوكَ، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وأنْفِقْ فسنُنْفِقَ عليكَ، وابعَثْ جَيْشًا نبَعَثْ خَمْسةً مِثلَهُ، وقاتِلْ بمَنْ أَطاعَكَ مَنْ عَصَاكَ". قوله: "كلُّ مالٍ نحلتُهُ عبدًا حلال"، (نحلْتُهُ)؛ أي: أعطيته؛ يعني بهذا الحديث: أن ما أعطاه الله تعالى عبدًا من المال، فهو حلال له، يجوز له أكله وجميع التصرفات فيه إلا ما نهى الله عنه، فالبَحِيرة والسَّائبة والوَصيلة والحَام ليس فيما نهى الله تعالى عنه، فهنَّ حلالات، وما قال فيهنَّ الكفار من التحريم، فهو كذب. "حُنفاء": جمع حَنِيْف، وهو المائل عن الباطل.

"فاجتالَتْهُم"، قد يجيء الافتعال بمعنى حمل أحد على فعل كقولهم: اختطب زيدٌ عمرًا على نكاح فلانة؛ أي: حمله على خِطبتها، وهنا (اجتالتهم) معناه: حملتهم الشيطان على حولانهم "عن دينهم"؛ أي: انحرافهم وميلهم عن الدين. "وحرمت عليهم"؛ أي: حَرَّمَتِ الشياطين عليهم ما أحللْتُ لهم نحو: البحيرة والسَّائبة والوَصيلة والحَام. "ما لم أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا"؛ أي: ما لم آمرهم به، ولم أنزل على نبي به كتابًا، وذلك مثلُ اتخاذِ بعضهم الأصنام آلهةً، وبعضهم عيسى عليه السلام، وبعضهم الشمس، وبعضهم عُزير. (أمْقُتُهُمْ)؛ أي: أبغضهم، وإنما أبغضهم لأنهم كانوا قَبْلَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كفارًا، فقومُ موسى غَيَّروا دينَ موسى، وقومُ عيسى؛ زَعَمَ بعضُهم: أن عيسى ابن الله، وبعضهم: أنه شريك الله وغير ذلك، وباقي الناس كانوا يعبدون الأصنام أو الشمس أو الملائكة أو النار. "إلا بقايا من أهل الكتاب"؛ يعني: إلا جماعة من قوم عيسى بقوا على متابعته عليه السَّلام. "وقال"؛ أي: قال الله تعالى: "إنما بعثتُكَ": يا محمد "لأبتليْكَ"؛ أي: لأختبرك هل تصبر على بلاء إيذاء قومك إياك، وهل تبلغ رسالتي. "وأبتَليَ بكَ"؛ أي: ولأختبرَ بسببك قومَك، هل يؤمنون بك أم يكفرون بك. "وأنزلتُ عليك كتابًا"؛ أي: القرآن. "لا يغسلُهُ الماءُ"؛ يعني: يَسَّرْتُ حفظَهُ عليك وعلى أمتك، وحفظتكم عن النسيان، فإذا كنتم تحفظونه، فكيف يغسله الماء عن صدوركم.

"تقرؤه نائمًا ويقظان"؛ أي: تقرؤه في حال الاضطجاع والقعود. وقيل: معناه: يكون في صدرك نائمًا ويقظانَ. "إذن يَثْلِغُوا رأسي فيدعوه خُبْزَةً"، (الثَّلْغُ): كَسْرُ الرأس، (فيدعُوه)؛ أي: فيتركوه، (خبزة)؛ أي: مثل خبزة. يعني: إن حَرَقْتُ (¬1) قريشًا يكسروا رأسي، ويجعلوه كخبزة؛ يعني: جيشي قليلٌ وهم جَمْعٌ كثيرٌ لا أقدر على محاربتهم. "نُغْزِكَ" بضم النون؛ أي: ننصرُكَ ونقوِّي جيشَكَ؛ يعني: لا تخف من محاربتهم فإنا نشجع جيشك، ونمدك بالملائكة وننصرك، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة. "نبعثُ خمسةً مثله"؛ يعني: نمدك بالملائكة أكثر من جيشك. * * * 4136 - عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نَزلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادي: "يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيٍّ! " لِبُطونِ قُرَيْشٍ، حتَّى اجْتَمعُوا، فقالَ: أرأَيْتَكُمْ لوْ أَخْبَرتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُمْ، أكنتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعمْ، ما جَرَّبنا عليكَ إلاَّ صِدْقًا، قال: "فإنِّي نَذيرٌ لكُمْ بينَ يَدَيْ عَذابٍ شديدٍ"، قالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ، أَلِهذا جَمَعْتَنا؟ فنزلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. ويُروَى: "نادَى: يا بني عبدِ مَنافٍ! إنَّما مَثَلي ومثَلُكُمْ كمثَلِ رَجُلٍ رأَى العَدُوَّ، فانْطَلقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فخَشيَ أنْ يَسبقُوهُ، فجَعَلَ يَهتِفُ: يا صَباحاه! ". قوله: "الصَّفا": اسم جبل بمكة. ¬

_ (¬1) في "ق": "خوفت".

"فجعلَ"؛ أي: فطفق. (بني فهر وبني عدي) بطنان؛ أي: قبيلتان من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -. "لبطون قريش"؛ يعني: ينادي قبائل قريش. "أرأيتَكُمْ"؛ أي: أخبروني، (أرأَيْتَكَ)؛ أي: أخبرني، (أرأَيْتَكُمَا)؛ أي: أخبراني، وفي المؤنث: (أرأيتَكِ أرأيتَكُمَا أرأيتَكُنَّ) كلها بفتح التاء. "أن خيلًا بالوادي"؛ أي: أن جيشًا بالوادي، وهو ها هنا موضع معروف بقرب مكة. "ما جَرَّبنا عليك إلا صدقًا"؛ يعني: اختَبَرْنَاك وجَرَّبناك، وما رأينا منكَ إلا صدقًا، كانوا يعتقدونه - صلى الله عليه وسلم - صادقًا في الأمور الدنيوية، وكاذبًا فيما أخبر من أمر الدين والآخرة. "فإني نذير"؛ أي: منذر "لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديدٍ"؛ أي: قبل نزول عذاب شديد. (لكم)؛ يعني: إن لم تؤمنوا ينزلُ عليكم عذابٌ شديدٌ عن قريب. " {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} "؛ أي: هَلَكَتْ وخَسرت يدا أبي لهب. " {وَتَبَّ} "؛ أي: تب هو، والمراد بـ (تباب اليد): أنه لا حاصل له فيما يفعل ويقول من عبادة الأوثان وجمع المال وغيرهما. "يربوا أهله"؛ أي: يصعد جبلًا، وينظر إلى حوالي قومه كي لا يأتيهم العدو بغتة، وليخبرهم بمجيء العدو إذا رأى العدو من البعد، ويقال لهذا الرجل: الدَّيْدَبَانُ. "فخشي أن يسبقوه"؛ أي: فخشي الديدبان إذا رأى العدو أنه لو أتى إلى قومه لسبقه العدو؛ أي: لوصلَ العدو إلى قومه وأغارهم قبل أن يصل الديدبان

إليهم، فلما خشي الديدبان وصول العدو إلى قومه قبل وصوله إليهم، نادى الديدبان قومه من رأس جبل: (يا صَباحاه)، هذا اللفظ يستعمل في مجيء العدو؛ يعني: اهربوا وفروا فإن العدو قد جاء. والغرض من تلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام: أني أخبركم بقرب نزول العذاب إليكم فاهربوا منه بأن تؤمنوا بي. "يا صباحاه": تقديره: يا قوم احذروا الإغارة في وقت الصباح، أو قد قرب إغارة في وقت الصباح، وإنما خص قرب الإغارة في وقت الصباح؛ لأن العادة لمن أغار قومًا أن يغيرَهم في وقت الصباح. * * * 4137 - عن أبي هُريرةَ قال: لمَّا نَزلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا، فاجتَمَعُوا، فعَمَّ وخَصَّ، فقال: "يا بني كَعْبِ بن لُؤَيٍّ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني مُرَّةَ بن كَعْبٍ أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النارِ، يا بني عبدِ شَمْسٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ مَنافٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني هاشِمٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ المُطَّلِبِ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا فاطِمَةُ! أَنْقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فإنِّي لا أَمْلِكُ لكُمْ مِنَ الله شيئًا، غيرَ أنَّ لكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّها ببلالِها". وفي رِوايةٍ: "يا مَعْشرَ قُرَيْشٍ! اشتَرُوا أنفُسَكُمْ، لا أُغْني عنكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يا بني عبدِ مَنافٍ! لا أُغني عنكُمْ مِنَ الله شيئًا، يا عبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغني عَنْكَ مِنَ الله شيئًا، ويا صَفِيَّةُ! عمَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئًا، ويا فاطِمَةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِيني ما شِئْتِ مِنْ مالي، لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئًا". قوله: "أنقذوا"؛ أي: خَلِّصُوا.

"فإني لا أملك لكم من الله شيئًا"؛ يعني: لا أقدرُ أن أدفعَ عنكم شيئًا من عذاب الله، إن أراد أن يعذبَكم، فإني أشفع لمن أذن الله تعالى أن أشفعَ له، فأما مَنْ أرادَ الله أن يعذبَهُ، لم يأذن لي في أن أشفع له. "غيرَ أنَ لكم رَحِمًا" يعني: لا أقدر أن أردَّ عذابَ الله عن أقاربي الكفار غير أن لهم قرابة، "سَأَبُلُّها"؛ أي: سأصِلُ تلك القرابة. "ببلالِها"؛ أي: بالشيء الذي يتوصل به إلى الأقارب من الإحسان ودفع الظلم عنهم وغيرهما. قوله: "اشتروا أنفسكم"، أصله (اشترِيُوا) بكسر الراء وضم الياء، فأسكنت الراء ونُقلب ضمةُ الياء إليها، وحذفت الياء لسكونها وسكون الواو؛ أي: خلصوا أنفسَكُم من النار بتركِ الكُفْرِ. مِنَ الحِسَانِ: * * * 4138 - عن أبي مُوسى - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمَّتي هذهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، ليسَ عَلَيها عَذَابٌ في الآخِرَةِ، عذابُها في الدُّنيا: الفِتَنُ والزَّلازِلُ والقَتْلُ". قوله: "أمتي هذه أُمَّةٌ مرحومَةٌ ليس عليها عذابٌ في الآخرة" هذا الحديث مشكل؛ لأن مفهومه: أن لا يُعذَّبَ أحدٌ من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيلزم أن لا يُعذَّبَ مَنْ قتلَ من المسلمين أعدادًا كثيرة، وسرقَ أموالهم وآذاهم وقذفهم وفعلَ الكبائر كلها، ومعلوم أن هذا لم يقل به أحد، وقد جاءت أحاديث بتعذيب الزاني والقاتل بغير الحق والقاذف وغيرهم من أصحاب الكبائر. وتأويل هذا الحديث: أن قوله: "أمتي هذه أمة مرحومة"، أراد بهم: من

اقتداه - صلى الله عليه وسلم - كما ينبغي، ويحب الله ورسوله، فأما من فعل كبيرةً فقد استحقَّ العذاب، ثم أَمْرُهُ إلى الله تعالى؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. * * * 4139 - عن أبي عُبَيْدَةَ ومعاذِ بن جَبَلٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذا الأمرَ بدأَ نُبوَّةً ورَحْمَةً، ثمَّ يكونُ خِلافةً ورَحْمَةً، ثمَّ مُلكًا عَضُوضًا، ثمَّ كائِنٌ جَبْرِيَّةً وعُتُوًا وفَسادًا في الأَرْضِ، يَستَحِلُّونَ الحَريرَ والفُروجَ والخُمورَ، يُرْزَقونَ على ذلكَ ويُنْصَرونَ، حتَّى يَلْقَوا الله". قوله: "إنَّ هذا الأمرَ"؛ أي: إن هذا الدين والإسلام وما بُعِثْتُ به. "بدأ نُبُوَّةً ورحمةً"، (بدأ)؛ أي: ظهر، و (نبوَّةً): منصوبة على التمييز أو على الحال؛ يعني: أول الدين إلى زمان حياته - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيه باطل، بل كان جميعه زمان نزول الوحي والرحمة، ثم بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - زمان الخلافة إلى انقضاء خلافة الخلفاء الراشدين، فزمان خلافتهم - رضي الله عنهم - كان زمانَ الرحمة والشفقة والعدل، ثم بعد خلافتهم تشوَّشَ الأمرُ وظهرَ بعض الظلم بين الناس، ولم يقتد الخلفاءُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اقتداءً تامًا، بل خلطوا العدل بالظلم كما هو معروف من حكاية يزيد، وقتل الحسين، وظلم حجَّاج بن يوسف، وغير ذلك. قوله: "مُلْكًا عَضُوضًا"، (العَضُوض): مبالغة من العَضِّ، وهو أخذ الشيء بالسِنِّ. وروي: "ثم ملكُ عُضوض" بإضافة (ملك) إلى (عضوض) - بضم العين - وهي جمع العِض - بكسر العين -، وهو الرجل الخبيث الشرير؛ يعني: يكون الملوك يظلمون الناس ويؤذونهم بغير حق. "ثم كائن جَبْرِيَّةً"؛ أي: ثم يغلب الظلم والفساد على الملوك بحيث يَقِلُّ

عَدْلُهم، ويكثرُ ظلمُهم وفسادُهم. * * * 4140 - عن عائِشَةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُكْفأُ - قال الرَّاوي: يعني: الإسلامَ - كما يُكْفَأُ الإناءُ"؛ يعني: الخَمْرَ. قيلَ: فكيفَ، يا رسولَ الله! وقدْ بيَّنَ الله فيها ما بيَّن؟ قال: "يُسَمُّونهَا بغَيْرِ اسمِها فيَستحِلُّونَها". قوله: "إن أول ما يكفأ - قال الراوي: يعني: في الإسلام - كما يُكْفَأُ الإناء؛ يعني: الخمر"، قصَّةُ هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدثُ في الخمر، فقال في أثناء حديثه: "إن أولَ ما يُكْفَأُ الإناء"؛ يعني: أن الخمر التي يتحدث فيها أول شيء يُكفأ "كما يكفأ الإناء"، و (الكَفْءُ): تنكيسُ الإناء لينصبَّ ما فيه، والمراد بـ (الكفء) هنا: صبُّ ظرفِ الخمر في الفم؛ أي: شرب الخمر. يعني: أولُ معصيةٍ تظهرُ وتُعلَنُ في الإسلام شرب الخمر. "كيف وقد بَيَّنَ الله فيها ما بين"؛ يعني: كيف يشربون الخمر، وقد بَيَّنَ الله تحريمها. قال: "يُسمُّونَهَا بغير اسمها"؛ يعني: يتخذون الخمر من الذرة والعسل وغيرها، ويقولون: هذا بِتْعٌ، وهو الخمرُ المُتَّخَذُ من العسل، وهذا جِعَةٌ، وهي من الشعير، وهذا مِزْرٌ، وهو من الذرة، وغير ذلك، ويعتقدون حِلَّ هذه الأشربة، ويقولون: ليست بخمر؛ لأن الخمر ما يُتخذ من العنب. وهذا باطل؛ لأن الخمر ما خَامَرَ العقل؛ أي: سَتَرَهُ سواء كان من العنب وغيره، والله أعلم. ° ° °

25 - كتاب الفتن

25 - كِتابُ الفِتَنِ

[25] كِتابُ الفِتَنِ (كتاب الفتن) مِنَ الصِّحَاحِ: 4141 - عن حُذَيْفةَ قال: "قامَ فِينا رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقامًا، ما تركَ شيئًا يكونُ في مَقامِهِ ذلكَ إلى قِيامِ السَّاعةِ إلاَّ حدَّثَ بهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونَسِيَهُ مَنْ نسِيَهُ، قدْ عَلِمَهُ أصحابي هؤلاءِ، وإنَّهُ لَيكونُ منهُ الشَّيءُ قدْ نسيتُهُ، فأراهُ فأذْكُرُه كما يَذكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إذا غابَ عنهُ، ثُمَّ إذا رآهُ عَرَفَهُ". قوله: "قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَقامًا"؛ يعني: خطبنا ووعظنا وأخبرنا بما يظهرُ من الفِتنِ من ذلك الوقت إلى يوم القيامة. * * * 4142 - وعن حُذَيْفَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُوْدًا عُوْدًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وأيُّ قَلْبٍ أنكَرَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ بَيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قلبَيْنِ: أَبْيضَ مِثلِ الصَّفا، فلا تَضُرُّهُ فِتنةٌ ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبادًّا كالكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعرِفُ مَعْروفًا، ولا يُنكِرُ مُنْكرًا، إلاَّ ما أُشْرِبَ مِنْ هَواهُ". قوله: "تُعرَضُ الفتن كالحصير عودًا عودًا"، (عودًا): مفعولُ فعل

محذوف؛ أي: تُنسج عودًا فعودًا؛ أي: عُودٌ بعدَ عوُدٍ حتى يصير حصيرًا. يعني: كما أن الحصير يجتمع من عودات واحدًا واحدًا، فكذلك الفتن تظهرُ في القلوب واحدةً بعد واحدة، حتى تَستُرَ الفتنُ جميعَ القلوب وتسوِّدها؛ لأنه يظهر من كل فتنة في القلب نكتة سوداء، فإذا اجتمعت نكت كثيرة في القلب فصار القلب مستورًا بالنكَت، فحينئذ لا يعرف الخير من الشر؛ لانعدام نور القلب، وأراد بـ (الفتن): الاعتقادات الفاسدة. "أُشرِبَها": هذا ماضٍ مجهول، يقال: شربَ زيدٌ الماءَ، وأَشْرَبَ زيدٌ عَمرًا الماءَ؛ أي: سقى زيدٌ عَمرًا الماء، ثم يستعمل (أُشْرِبَ) بمعنى خلط؛ لأن الماء يختلط بالشارب. قوله: "فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها"؛ أي: فأيُّ قلبٍ خلط فيه الفتن ودخلَتْهُ الفتن. "نكتت فيه"؛ أي: أَثَّرَتْ فيه، ونُقِشَتْ فيه (نكتة)؛ أي: نقطة سوداء. "وأيُّ قلبٍ أنكرها"؛ يعني: أيَّ قلبٍ امتنع عن قَبولِ تلك الفتن ظهر فيه النور. "حتى تصير على قلبين": الضمير في (تصير) ضمير القلوب؛ يعني: حتى تصيرَ قلوبُ أهلِ ذلك العصر على نوعين: أحدهما: "أبيض مثل الصَّفا" وهو الحجر الأبيضُ شديد البياض، "فلا تضرُّهُ فتنة"؛ يعني: مِنْ حِفْظِهِ الله تعالى في ذلك الوقت عن الفتن، يُحْفَظُ بعدَ ذلك أيضًا عن الفتن إلى يوم القيامة. والنوع الثاني: "أَسْوَدُ مُرْبَادُّ"، (المُرْبَادُّ): الطين المتغير المنتن، الذي صار أسودًا من غاية تغيره وطول مكثه بمكان، ثم يستعمل المُرْبَادُّ في كل متغير، وفي الأسود الذي هو على غاية السَّواد؛ يعني: والآخر يصير أسود غاية السَّواد لا يعرف الخير، ولا يبصر الحق؛ لانعدام النور عنه، فيصير خاليًا عن الخير.

"كالكُوز مُجَخِّيًا"، (مُجَخِّيًا): منصوب على الحال، ومعناه: المائل والمنكوس؛ يعني: كما أن الكُوز إذا نُكِسَ لا يبقى فيه ماء، فكذلك هذا القلب لا يبقى فيه خير إلا ما أُشْرِبَ من هواه. يعني: لا يُعرف هذا القلب إلا ما قَبلَ مِنَ الاعتقادات الفاسدة، ومِنَ الشهوات النفسانية؛ يعني: يقبَلُ كلَّ شرٍّ. * * * 4143 - وقال حُذَيْفَةُ: حدَّثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَديثَيْنِ، رأَيتُ أَحَدَهُما، وأنا أَنتَظِرُ الآخرَ، حَدَّثنا أنَّ الأَمانةَ نَزلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ القُرآنِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ السُّنَّةِ. وحَدَّثَنا عنْ رفعِها قال: "يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمةَ فَتُقْبَضُ الأَمانةُ مِنْ قلبهِ، فيَظلُّ أثَرُها مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ، ثمَّ يَنامُ النَّوْمةَ فتُقْبَضُ، فيَبقَى أثَرُها مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ كجَمْرٍ دَحْرجتَهُ على رِجلِكَ فنَفِطَ، فتراهُ مُنْتَبرًا وليسَ فيهِ شيءٌ، ويُصْبحُ النَّاسُ يَتَبايَعونَ ولا يكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأمانةَ، فيُقال: إنَّ في بني فُلانٍ رَجُلًا أمينًا، ويُقالُ للرَّجُلِ: ما أَعْقَلَهُ، وما أظرَفَهُ، وما أَجْلَدَهُ، وما في قَلْبهِ مِثقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ". قوله: "رأيتُ أحدَهما" أراد بـ (أحدهما): نزول الأمانة، وهي الإيمان ها هنا، وأراد حذيفةُ بالحديث الثاني: ارتفاعَ الأمانة، وهي الإيمان - أيضًا - وانتقاصه؛ يعني: لم أرَ انتقاصُ الإيمان وارتفاعَه، بل سيكون في عصرٍ آخر لا في عصر الصحابة - رضي الله عنهم -. "في جَذْرِ قلوب الرجال"، (الجَذْرُ): الأصل، فتلفظ بـ (الرجال)، وأراد الرجال والنساء جميعًا. "ثم عَلِمُوا من القرآن"؛ يعني: وضعَ الله تعالى بفضلِهِ نورَ الإيمان في قلوب المسلمين، ثم علموا بنور الإيمان حقيقةَ الدين، وعلموا أحكامَ الشرع من

القرآن و"من السُّنَّة"، وهي الأحاديث النبوية. "فتقبَضُ الأمانة"؛ أي: الإيمان، وأرادَ بقبضِ الأمانة هنا: قبضَ بعض الإيمان لا جميعه؛ يعني: ينتقص الإيمان. "فيظلُّ أثرُها"؛ أي: فيصيرُ أثرُ الأمانة؛ أي: الإيمان. "مثل أَثَرِ الوَكْتِ"، (الوَكْتُ): نقطة بيضاء تظهرُ في سَوَادِ العين؛ يعني: يبقى أثر من الإيمان في قلوب بعض الناس، فيزول أكثره، فإذا كان كذلك تكون أعماله القبيحة أكثر من أعماله الصالحة. "ثم ينامُ النَّوْمَة"؛ يعني: ثم يزولُ عن قلبه بعض ما بقي فيه من الإيمان. "مثل أثر المَجْلِ"، (المَجْلُ): ظهورُ نقطةٍ كبيرة في الكَفِّ من العمل؛ يعني: كما أنَّ المَجْلَ باطنُهُ مجوَّفٌ يراه الناس، ويحسبون أن في جَوْفِهِ شيئًا، ولم يكن فيه شيء، فكذلك هذا الرجل يحسبه الناس صالحًا، ولا يكون فيه من الصلاح والإيمان إلا قليل. "كَجَمْرٍ دحرجْتَهُ على رِجْلِكَ" هذا صفة المَجْلِ. (الجَمْرُ): خشبٌ محترقٌ قبل أن تُخمدَ ناره. و (دحرجْتُهُ)؛ أي: رددْتُهُ. يعني: كما أنك إذا وضعت رجلك على جمر فتحترق رجلك، ويظهر فيها نقطةٌ كبيرة مجوفةُ الباطن؛ يعني: ذاك الرجل الذي نقصَ إيمانُهُ مرةً بعد أخرى، يكون مثل مَجْلٍ، يشبه نقطة تظهر برجْلِ مَنْ دَحْرَجَ جَمرًا برجله. "فَنَفِطَ"؛ أي: ظهر برجله نقطة؛ أي: بَثْرَةٌ مجوفة. "مُنْتَبرًا"؛ أي: كبيرًا مرتفعًا. "يتبايعون"؛ أي: يجري بينهم البيع، ولا يحفظون الأمانة في المعاملات؛

لأن حفظَ الأمانة أثرُ كَمَال الإيمان، فإذا نقصَ الإيمان نقصَتِ الأمانة، فيقال: "إن في بني فلان رجلًا أمينًا"؛ يعني: لا يبقى مَنْ يحفظ الأمانة إلا قليلًا حتى يكون في كل ناحية واحد، ويُقال: "ما أعقله"، (ما) في هذه الكلمات الثلاث: (ما) التعجب؛ يعني: يمدحُ أهلُ ذلك الزمان الرجال بكثرة العقل والظرافة والجلادة، ولا يمدحونهم بكثرة الصَّلاح، والواو في: "وما في قلبه" واو الحال، و (ما) للنفي. * * * 4144 - وعن حُذَيْفةَ قال: كانَ النَّاسُ يَسألونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أسألُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخافةَ أنْ يُدرِكَني، فقُلْتُ: يا رسولَ الله! إنَّا كُنَّا في جاهِليَّةٍ وشرٍّ، فجاءَنا الله بهذا الخَيْرِ، فهلْ بعدَ هذا الخيرِ مِنْ شرٍّ؟ قال: "نعمْ"، قلتُ: وهلْ بعدَ ذلكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قال: "نعمْ، وفيهِ دَخَنٌ". قلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قال: "قومٌ يَسْتنُّونَ بغيرِ سُنَّتي، ويَهدونَ بغيرِ هَدْيي، تَعرِفُ منهمْ وتُنكِرُ". قلت: فهلْ بعدَ ذلكَ الخَيرِ منْ شرٍّ؟ قال: "نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أجابَهُمْ إليها قَذَفوهُ فيها". قلتُ: يا رسولَ الله! صِفْهُمْ لنا. قال: "هُمْ مِنَ جِلْدَتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنَتِنا". قلتُ: فما تأْمُرُني إنْ أدركَني ذلكَ؟ قال: "تَلزَمُ جَماعَةَ المُسْلِمينَ وإمامَهُمْ". قلتُ: فإنْ لَمْ يكُنْ لَهُمْ جَماعَةٌ ولا إمامٌ؟ قال: "فاعتَزِلْ تلكَ الفِرَقَ كلَّها، ولوْ أنْ تَعَضَّ بأصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدرِكَكَ المَوْتُ وأنتَ على ذلكَ". وفي رِوايةٍ: "تكونُ بعدِي أئِمَّةٌ لا يَهتَدونَ بهُدايَ ولا يَستنُّونَ بسُنَّتي، وسيقومُ فيهِمْ رِجالٌ قُلُوبُهُمْ كقلوبِ الشَّياطينِ في جُثمانِ إنسٍ". قالَ حُذَيْفةُ، قلتُ: كيفَ أَصْنَعُ يا رسولَ الله إنْ أدركْتُ ذلكَ؟ قال: "تَسْمَعُ وتُطيعُ الأميرَ، وإن ضُرِبَ ظَهْرُكَ وأُخِذَ مالُكَ".

قوله: "فهل بعد هذا الخير من شر"؛ يعني: هل يجيء بعد الإسلام الكفر والضلالة والبدع والفتن. "وهل بعد ذلك الشر من خير"؛ يعني: وهل تزول الفتن والبدع، ويجيء بعدها العدل والصلاح؟. "وفيه دَخَنٌ" بفتح الدال والخاء؛ أي: كُدُوْرَةٌ؛ أي: لا تكون الاعتقادات الصحيحة والأعمال الصالحة وعدل الملوك في ذلك الوقت خالصة، بل يخالطُهَا المكروهات. "قومٌ يستنُّونَ بغير سنتي"؛ يعني: يكون في ذلك الوقت قوم يعتقدون اعتقادات، ويعملون أعمالًا غير ما أنا عليه. "ويَهدون بغير هَدْيي"؛ أي: ويتخذون سِيَرًا غير سِيرتي، والسِّيرة: الطريقة التي عليها الرجل من الفعل والقول. "تَعرِفُ منهم وتُنِكرُ"؛ أي: ترى فيهم ما تعرفُه أنه من ديني، وترى فيهم أيضًا ما تنكِرُ كونَهُ من ديني؛ يعني: ترى فيهم السُّنة والخيرَ والشرَّ. "فهل بعد ذلك الخيرِ من شر"؛ يعني: هل يضعف الإسلام بعد ذلك ويقوى أهل الشر؟ "قال: نعم دعاةٌ على أبوابِ جهنم"، (دُعَاة): جمع الداعي؛ يعني: يظهر بعد ذلك جماعة من أهل البدعة والضلالة، يدعون الناس من الخير إلى الشر، ومن السُّنة إلى البدعة. "مَنْ أجابَهُمْ": فكأنما قذفوهُ في نارِ جهنَّمَ. "قال: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا"؛ يعني: هم بشرٌ مثلنا. "ويتكلمون بألسنتنا"؛ أي: بلغتنا؛ يعني: لا نقدرُ أن نعرفَهُم بصورِهِمْ بل بِسِيَرِهِمْ.

قوله: "في جُثْمَان إِنْسٍ"، و (الجُثمان): الشخص. "تسمعُ وتطيعُ"؛ يعني: طريق النجاة في ذلك الوقت: أن تسمعَ ما يأمرُكَ الأميرُ، وتطيعُه ولا تعصيه، إلا إذا أمرك بمعصية، فإنك حينئذ لا تطيعه، ولكن لا تقاتله، بل فرَّ منه. * * * 4145 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بادِرُوا بالأَعْمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيل المُظْلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمْسي كافِرًا، ويُمْسي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كافِرًا، يبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا". قوله: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل"، (بادروا)؛ أي: أسرعوا وسابقوا، (القِطَع): جمع قِطْعَةٍ، وهي بعض الشيء؛ يعني: ستأتي فتنٌ شديدة كالليل المظلم لا يعرفُ أحدٌ سببَهَا، ولا يُعْرَفُ طريقُ الخلاص منها، فتعجَّلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيئها، فإنكم لا تطيقون الأعمال الصالحة إذا أتتكم الفتن. "يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا"؛ يعني: يكفرُ كثيرٌ من المسلمين بالله في تلك الفتن، والفتن التي يكفر المسلم فيها تحتمل احتمالات: أحدها: أن تكون بين طائفتين مسلمَتَيْن حربٌ، فتستحلُّ كلُّ واحدةٍ من الطائفتين مالَ الأخرى ودمَها بالتعصب والغضب، فيكفرون باستحلالهم أموالَ المسلمين ودمائَهم. والاحتمال الثاني: أن يغلب الكفارُ على بلاد المسلمين، ويكون ملوكُ بلادهم كفارًا، فيأمرون الرعيَّةَ بالارتداد عن الإسلام إلى الكفر، وربما يرتدُّ المسلمُ لطلبِ جَاهٍ ومَالٍ منهم من غير أن يطلبوا منه الكفر.

والاحتمال الثالث: أن يكونَ ملوكُ بلاد المسلمين مسلمين، ولكن يغلبُ عليهم الظلمُ والفسقُ، فيريقونَ دماءَ المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون، ويشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويعتقد بعضُ الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرمات، وربما يغضبُ الملكُ على أحد من الرعيَّةِ، ويأمر الناس بقتله، أو بأخذ ماله، فيعتقدُ بعض الناس كَوْنَ أمره حقًا، وربما يأمر بصلبِ السَّارق، فيعتقد الناسُ جوازَهُ، فيكفرون به، لأن حدَّ السَّارقِ القَطْعُ لا الصَّلب. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4146 - وقال: "ستكونُ فِتَنٌ القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمُ، والقائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشي، والماشي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعي، مَنْ تَشرَّفَ لها تَسْتَشرِفْهُ، فمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعاذًا فلْيَعُذْ بهِ". وفي رِوايةٍ: "النَّائِمُ فيها خيرٌ مِنَ اليَقْظانِ، واليَقْظانُ خيرٌ مِنَ القائِمِ". قوله: "ستكون فتن القاعدُ فيها خيرٌ من القائم": وإنما كان القاعد فيها خيرًا من القائم؛ لأن القائمَ أقربُ إلى تلك الفتن من القاعد؛ لأنه يرى ويسمع، ما لا يراه ويسمعه القاعد، وكذلك القائم بمكانه خيرٌ من الماشي إلى الفتن. "من تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ"، (تَشَرَّفَ واسْتَشْرَفَ): إذا صعد مكانًا شَرَفًا؛ أي: مرتفعًا؛ لينظر إلى شيء، هذا هو الأصل، ثم يستعمل (التَّشَرُّفُ والاستِشْرَافُ) في النظر إلى شيء في أيِّ مكانٍ كان؛ يعني: مَنْ قَرُبَ من تلك الفتن، ونظرَ إليها، نظرَتْ إليه الفتنُ؛ يعني: مَنْ قَرُبَ منها تَجره إلى نفسها؛ يعني: الخلاص في التباعد منها، والهلاك في مقاربتها.

روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4146/ م - وفي رِوايةٍ: "فإذا وَقَعَتْ فمَنْ كانَ له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بإبلِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ غَنَمٌ فليلْحَقْ بغَنَمِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ أرضٌ فليلْحَقْ بأرضهِ". فقالَ رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأَيْتَ مَنْ لَمْ تكُنْ لهُ إبلٌ ولا غَنَمٌ ولا أرضٌ؟ قال: "يعمِدُ إلى سيفِهِ فيدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بحَجَرٍ، ثمَّ ليَنْجُ إن استطاعَ النَّجاءَ، اللهمَّ هلْ بلَّغْتُ؟ " ثلاثًا، فقال رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأيتَ إنْ أُكْرِهْتُ حتَّى يُنْطَلَقَ بي إلى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ فضرَبني رَجُلٌ بسيفِهِ، أوْ يَجيءُ سَهْمٌ فيقتُلُني؟ قال: "يبوءُ بإثمه وإثمِك ويكونُ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ". قوله: "فمَنْ كان له إبلٌ فليلحق بإبله"؛ يعني: فليطْرِدْ إبلَه، وليبعدْ من تلك الفتنِ إلى موضع بعيد. "فيدق على حده بحجر"؛ يعني: فليكسرْ سلاحَه كي لا يذهب به إلى الحرب، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكسر السلاح؛ لأن تلك الفتن تكون الحرب بين المسلمين، ولا يجوز حضور تلك الحرب. "ثم لينج"؛ أي: ثم لِيسرعْ في الفرار عن تلك الفتن، (النَّجَا): الإسراع. "يبوءُ بإثمِهِ وإثمِكَ": (يبوء)؛ أي: يرجع؛ يعني: يكون لمَنْ أكرهَكَ إثمُ نفسِه وإثمُكَ. روى هذا الحديث أبو بكرة. * * * 4147 - وقال: "يُوشِكُ أنْ يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدينِهِ مِنَ الفِتَنِ".

قوله: "يوشِك" ... إلى آخره، أي: سوف تكون المواشي أفضل مال الرجل بسبب أن يذهب مع مواشيه إلى الصحارى والجبال ليرعَاها، ويكون معها مقيمًا هناك، ويخلص بسبب إقامته هناك عن الفتن، ومحاربته المسلمين؛ لأن المحاربة حينئذ تكون بين المسلمين. "شَعَفَ الجبالِ"؛ أي: رؤوسها، واحدها: (شَعَفَة). "ومواقِعَ القَطْرِ"، (المَوَاقِع): جمع مَوْقِع، وهو موضع الوقوع. و (القَطْرِ): المطر؛ أي: المواضعُ التي ينزل فيها المطر، يريد بها الصحارى والجبال. روى هذا الحديث أبو سعيد. * * * * 4148 - عن أُسامَةَ قال: أَشْرَفَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أُطُمٍ مِنْ آطامِ المَدينةِ فقال: "هل تَروْنَ ما أَرَى؟ " قالوا: لا، قال: "فإنِّي لأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيوتِكُمْ كوَقْعِ المَطَرِ". قوله: "أَشْرَفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: طَلَعَ ونَظَرَ. (الأُطُمُ): الأَكَمَةُ، (الخِلال): الوسَط؛ يعني: أرى الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - حين صعدَ ذلك الموضع اقترابَ الفتن؛ ليخبرَ بها أمته؛ ليكونوا على حذر منها. * * * 4149 - وقال: "هَلَكَةُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ". قوله: "هَلَكَةُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمَةٍ مِن قُرَيْشٍ"، (الغِلْمَةُ): جمع غُلام، والمراد بـ (الغِلمَة): الشبان، لعله - صلى الله عليه وسلم - يريد بأولئك الغِلمَة: الخلفاءُ الذين كانوا

بعد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - مثل يزيد وعبد الملك بن مروان وغيرهما، فإنه قد لحقَ المسلمين من أولئك الخلفاء قتل وظلم. روى هذا الحديث أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 4150 - وقال: "يتقارَبُ الزَّمَانُ، ويُقبَضُ العِلمُ، وتظهَرُ الفِتنُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، ويكثُرُ الهَرْجُ". قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: "القتلُ". قوله: "يتقاربُ الزمان": قال الخطابي: معناه: قصرُ زمان الأعمال (¬1)، وقلةُ البركة في الأعمار، وقيل: هو دُنُوُ الساعة، وقيل: هو قصر مدة الأيام والليالي على ما رُوي: أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السَّعَفَة، والسَّعَفَةُ: ورق النخل. "ويُلْقَى الشُّحُّ"؛ أي: يُلقى البخلُ في القلوب حتى يحبوا المال، ولا يؤدوا الزكاة والكفارات والنذور. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4151 - وقال: "والذِي نَفْسي بيدِه، لا تَذْهَبُ الدُّنْيا حتَّى يأْتيَ عَلَى النَّاسِ يومٌ لا يَدْري القاتِلُ فيمَ قتلَ، ولا المَقتُولُ فيمَ قُتِلَ". فقيلَ: كيفَ يكونُ ذلكَ؟ قال: "الهَرْجُ، القاتِلُ والمَقتولُ في النَّارِ". قوله: "الهَرْجُ"؛ يعني: تكون حرب بين طائفتين من المسلمين للعصبية ¬

_ (¬1) في "م": "الأعمار".

وطلب الجاه يقتل بعضهم بعضًا. "القاتل والمقتول في النار"؛ أما القاتل؛ فلأنه يقتل المسلمين ظلمًا، وأما المقتول: فلأنه كان حَريصًا على قتل المسلمين أيضًا، هكذا جاء تفسير هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر. روى هذا الحديث أبو هريرة - رضي الله عنه -. * * * 4152 - وقال: "العِبادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرَةٍ إليَّ". قوله: "العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ"؛ يعني: ثواب عبادة في زمان الفتن والمحاربة بين المسلمين كثواب هِجْرَةٍ من مكة إلى المدينة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة. روى هذا الحديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -. * * * مِنَ الحِسَان: 4154 - عن حُذَيْفةَ - رضي الله عنه - قال: والله ما أَدْري أَنَسِيَ أَصْحابي أوْ تَناسَوْا؟ والله ما تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قائِدِ فِتْنَةٍ إلى أنْ تَنْقضيَ الدُّنْيا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثلاثَ مِئَةٍ فَصَاعِدًا إلاَّ قدْ سَمَّاهُ لنا باسمِهِ واسمِ أبيهِ واسمِ قبيلَتِهِ. قوله: "قائد فِتْنَةٍ"، أراد بـ (قائد الفتنة): مَنْ تَحْدُثُ بسببه بِدعةٌ أو ضلالةٌ أو محاربةٌ كعالم مبتدع يأمر الناس بالبدعة، أو أمير جَائر يحارب المسلمين. "يبلغُ مَنْ معه"؛ يعني: يتَّبعُهُ. "ثلاث مئة" إنسان "فصاعدًا"؛ أي: زائدًا. * * *

4155 - وقال: "إنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي الأَئِمَّةَ المُضلِّينَ، وإذا وُضعَ السَّيْفُ في أُمَّتي لم يُرْفَعْ عنهمْ إلى يَوْمِ القِيامةِ". قوله: "إنما أخافُ على أُمَّتي الأئمَّة المضلِّين"، (الأَئِمَّة): جمع الإمام، وهو رأسُ القوم، ومن يدعوهم إلى فعل أو قول أو اعتقاد؛ يعني: أخاف أن يحدث بين أمتي المبتدعون، فيدعونهم إلى البدعة والضلالة. "فإذا وُضعَ السَّيفُ في أمتي لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة"؛ يعني: إذا ظهرت الحربُ بين أمتي، تبقى الحرب بينهم إلى يوم القيامة، إن لم يكن في بلد يكن في بلد آخر. روى هذا الحديث ثوبان - رضي الله عنه -. * * * 4156 - عن سَفينةَ قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الخِلافَةُ ثلاثونَ سنةً ثمَّ تكونُ مُلْكًا". ثُمَّ يقولُ سَفينةُ: أمْسِكْ، خِلافةُ أبي بكرٍ سَنتين، وخِلافةُ عُمرَ عَشرًا، وخِلافةُ عُثمانَ اثنتَيْ عَشَرةَ، وعليٌّ سِتًّا". قوله: "الخلافة ثلاثون سنة ثم ملكًا"؛ يعني: الخلافةُ المرضية لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - تكون ثلاثين سنة، وهو زمن خلافة الخلفاء الراشدين المهديين، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم -، ثم بعد ذلك لا يكون الخلفاء متبعين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يظلمون الناس، ويخلطون الشرَّ بالخير. * * * 4157 - وعن حُذَيْفةَ قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أيكونُ بعدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ كما كانَ قبلَهُ شرٌّ؟ قال: "نعمْ". قلتُ: فما العِصْمَةُ؟ قال: "السَّيفُ". قلتُ: وهَلْ بعدَ السَّيفِ بقيَّةٌ؟ قال: "نَعَمْ، تكونُ إِمارَةٌ على أَقْذَاءَ وهُدْنَةٌ على

دَخَنٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ تَنْشَأُ دُعاةُ الضَّلالِ، فإنْ كانَ لله في الأَرْضِ خَليفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ وأَخَذَ مالَكَ فأَطِعْهُ، وإلا فَمُتْ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلِ شَجَرةٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ بعدَ ذلكَ، معَهُ نَهْرٌ ونارٌ، فمَنْ وَقَعَ في نارِهِ وجَبَ أَجْرُهُ وحُطَّ وِزْرُهُ، ومَنْ وقعَ في نَهْرِهِ وجَبَ وِزْرُهُ وحُطَّ أجرُهُ". قالَ: قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يُنْتَجُ المُهْرُ فلا يُركَبُ حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ". وفي رِوايةٍ: "هُدْنَةٌ على دَخَنٍ، وجَماعةٌ على أقذاءَ". قلتُ: يا رسولَ الله! الهُدْنَةُ عَلَى الدَّخَنِ ما هيَ؟ قال: "لا تَرْجعُ قلوبُ أقوامٍ على الذي كانتْ عليهِ". قلتُ: بعدَ هذا الخَيْرِ شرٌّ؟ قال: "فِتْنَةٌ عَمْياءُ صَمَّاءُ، عليها دُعاةٌ على أبوابِ النَّارِ، فإنْ مِتَّ يا حُذَيفَةُ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلٍ خيرٌ لكَ منْ أنْ تَتَّبعَ أَحَدًا منهُمْ". قوله: "أيكون بعد هذا الخير شر": هذا الحديث معناه مثل الحديث الرابع من (كتاب الفتن)، وقد ذكرناه. قوله: "فما العِصْمَةُ؟ "؛ يعني: فما طريق النجاة من ذلك الشر؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "السَّيفُ"؛ يعني: طريقُ النجاة أن تضربَهم بسيفِكَ. قال قتادة: المراد بهذه الطائفة: هم الذين ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن خلافة أبي بكرٍ الصديق. "وهل بعد السَّيف بقية؟ "؛ يعني: إذا ضربناهم بالسيف فهل يبقى الإسلام بعد محاربتنا إياهم، وهل يصلح أهل ذلك الزمان بعد ذلك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم تكونُ إمارةٌ على أَقْذاءَ، وهُدْنَةٌ على دَخَنٍ"، (الأَقْذَاء): جمع القَذَى، و (القَذَى): جمع القَذَاة، وهي ما يقع في العين من التِّبن والتراب،

(الهُدْنَةُ) بضم الهاء: الصلح، (الدَّخَن): الكُدُورَةُ واللون الذي يَضرب إلى السَّواد. يعني: يكون في أهل ذلك الزمان أميرٌ بينه وبينهم صلحٌ غير خالص، بل يظهرون الصلح ويبطنون العداوةَ والبغضَ، كما أن العين التي تقع فيها القذاة ظاهرها صحيح، وباطنها سقيم. "تنشأ"؛ أي: تظهر. "وأنت عاضٌّ على جِذْلِ شجرة"، (الجِذْلُ): الجِذْعُ؛ يعني: لا تخالطهم، بل فرَّ منهم، ولازم موضعًا بعيدًا تحت شجرة. "فمن وقع في ناره"؛ يعني: فمَنْ خالَفَهُ حتى يلقيه في ناره. "فلا يُركِب": بضم الياء وكسر الكاف، وهو مضارع (أَرْكَبَ): إذا بلغَ المُهْرُ وقتَ الرُّكوب؛ يعني: يكون مجيء القيامة قريبًا. "لا ترجعُ قلوبُ قومٍ على الذي كانت عليه"؛ يعني: لا تكون قلوبهم صافيةٌ من الحقد والبغض، كما كانت صافية قبل ذلك. "فتنةٌ عمياءُ صَمَّاءُ"؛ يعني: فتنةٌ شديدة، لا يكون قتال أهل ذلك الزمان عن بصيرة، بل كما أن الأعمى لا يدري أين يذهب، فكذلك أولئك الجماعة لا يدرون بأي سبب يقاتلون، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل". وسُميت (صَمَّاء)؛ لأنها شديدة، يقال: (صخرة صَمَّاء)؛ أي: شديدة، ويحتمل أن يكون (الصَمَّاء)؛ لكون أهل تلك الفتنة صُمًا؛ أي: لا يسمعون الحق والنصيحة، بل يحاربون عن الجهل والعداوة، ولصيرورة أهلها كالأَصم من كثرة أصواتهم، ووَقْعِ السلاح والضرب. * * *

4158 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: كنتُ رَديفًا خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا على حِمارٍ، فلمَّا جاوَزْنا بُيوتَ المَدينةِ قال: "كيفَ بكَ يا أبا ذَرٍّ إذا كَانَ في المدينةِ جُوْعٌ تقومُ عنْ فِراشِكَ فلا تبلُغُ مَسْجِدَكَ حتَى يُجْهِدَكَ الجُوعُ؟ " قالَ: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: "تعفَّفْ يا أبا ذرٍّ"، ثمَّ قالَ: "كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ مَوْتٌ يبلُغُ البَيْتُ العبدَ حتَّى أنَّه يُباعُ القَبْرُ بالعبدِ؟ " قالَ: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "تصَبَّرْ يا أبا ذرٍّ"، قالَ: "كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ قَتْلٌ تَغْمُرُ الدِّماءُ أَحْجارَ الزَّيْتِ؟ " قال: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "تأْتي مَنْ أنتَ منهُ" قالَ: قلتُ: وألبَسُ السِّلاحَ؟ قال: "شارَكْتَ القَوْمَ إذًا" قُلتُ: فكيفَ أَصْنَعُ يا رسولَ الله؟ قال: "إنْ خَشِيْتَ أنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فأَلْقِ ناحِيَةَ ثوبكَ عَلَى وَجْهِكَ لِيَبُوءَ بإثْمِكَ وإِثْمِهِ". قوله: "يُجْهِدكَ الجُوعُ"، (الجَهْد): الإيذاء؛ يعني: يظهر قحطٌ، وتزول قوتُكَ، بحيث لا تقدر أن تمشيَ من البيت إلى المسجد من غاية الجوع. "تعفَّفْ"؛ يعني: لازم العِفَّةَ، وهي الصلاح؛ يعني: اصبر على الجوع، ولا تأكل حرامًا ولا شبهة. "يبلُغُ البيتُ العَبدَ"؛ يعني: يُباع بيتٌ بعبدٍ؛ يعني: يكونُ البيت رخيصًا من غاية قِلَّةِ الناس بالموت، ويحتمل أن يريد بالبيت هنا: القبر، فيكون ما بعده تفسيرًا له؛ يعني: لا يحفر الحفار قبرًا حتى يأخذَ عبدًا بالأجرة، أو لا يجد أحدٌ موضعَ قبرٍ إلا بعبد يعطيه في ثمن موضع قبر من كثرة الموتى. "تَصَبَّرْ"؛ أي: اصبر؛ يعني: اصبر بالبلاء ولا تجزع، تُصِبِ الأَجْرَ. "تَغمُرُ الدِّماء أحجارَ الزَّيتِ"، (الغَمْرُ): الستر. (أحجارَ الزَّيتِ): اسم موضع بالمدينة؛ يعني: تكثرُ دماء القتلى حتى تغمرَ الدماء أحجار الزَّيت. "تأتي مَنْ أنت منه"؛ يعني: خيرك في أن تأتي مَنْ كان على الحق.

"شاركْتَ القوم"؛ يعني: لو لبستَ السلاح، فكنت منهم في الإثم. "إن خشيتَ أن يَبْهَرَكَ شعاعُ السَّيف"، (البهر): الغَلَبَةُ. يعني: لا تحاربهم فإن جاءك أحدٌ يحاربك فلا تحاربه، بل استسلم نفسك للقتل حتى يحصل له إثمُ قتلك، والاستسلام إنما يكون إذا لم يمكنه الفرار، وإنما نهاه عن المحاربة؛ لأن أهل تلك الحرب كلهم مسلمون. وقيل: حارب يزيدُ بن معاوية أهل المدينة في أحجار الزيت. * * * 4159 - وعن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيفَ بكَ إذا بَقيتَ في حُثالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأَماناتُهُمْ، واخْتَلَفُوا فكانُوا هكذا؟ " وشَبَّكَ بينَ أَصَابعِهِ، قال: فبمَ تأمُرُني؟ قال: "عليكَ بِما تعرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعَلَيكَ بخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وعَوَامَّهُمْ". وفي روايةٍ: "اِلزَمْ بَيْتَكَ، واملِكْ عَليكَ، لسانَكَ، وخُذْ ما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعليكَ بأمرِ خَاصَّةِ نفسِكَ، ودَعْ أَمْرَ العَامَّة"، صحيح. قوله: "كيفَ بك"؛ أي: كيف يكونُ حالُك إذا أتى عليك زمان يكون أهلها بلا خير. (الحُثَالة): الرديء من كل شيء، و (الحُفَالة) مثلها. "مَرِجَتْ عهودُهُمْ"؛ أي: اختلطت عهودُهُمْ؛ يعني: لا يكون أمرهم مستقيمًا، بل يكون كل يوم أو كل لحظة على طبع، وعلى عهد ينقضون العهد ويعصون ربهم. "عليك بما تعرِف"؛ أي: الزم وافعل ما تعرفُ كونه حقًا، واترك ما تنكر أنه حق.

"وعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامَّهم"؛ يعني: الزم أمر نفسك، واحفظ نفسك ودينك، واترك الناس ولا تتبعهم، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - رخصة في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا كَثُرَ الأشرار، وضعف الأخيار، ولم يقدر الأخيار على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. "املِكْ عليكَ لسانَك"، (الإملاك): الشدُّ والإحكام؛ يعني: اشدد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس كي لا يؤذوك. * * * 4160 - عن أبي مُوسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "إنَّ بينَ يَدَي السَّاعةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كافِرًا، القاعِدُ فيها خَيْرٌ منَ القائِمِ، والماشي خيرٌ مِنَ السَّاعي، فكسِّرُوا فيها قِسِيَّكُمْ، وقطِّعُوا فيها أوْتارَكُمْ واضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بالحِجَارَةِ، والزَمُوا فيها أَجْوافَ بُيوتِكُمْ، فإنْ دُخِلَ على أَحَدٍ منكُمْ فَلْيكُنْ كخَيْرِ ابنيْ آدمَ"، صحيح. ويُروَى: أَنَّهم قالوا: فَما تأمُرُنا؟ قال: "كونوا أَحْلاسَ بُيُوتِكُمْ". قوله: "كَقِطَعِ الليل المظلمِ"، (القِطَعُ): جمع قطعة، وهي طائفة من الشيء، والمراد به ها هنا: بعض من الليل؛ يعني: تكون فتنة لا يكون فيها ضياء وخلاص لأهلها، ولا يُعرف المحق من المبطل. "فكسِّروا فيها قِسِيَّكم" يريد بهذا الكلام: النهي عن المحاربة؛ لأن أهل تلك الحرب كلهم مسلمون. "الأوتار": جمع الوتر: القوس. "فليكنْ كخيرِ ابني آدمَ"؛ يعني: فليستسلم حتى يكون مقتولًا كهابيل، ولا يكن قاتلًا كقابيل.

"كونوا أحلاسَ بيوتكم"، (الأَحْلاسُ): جمع حِلْسٍ، وهو نوع من الكساء؛ يعني: الزموا أجوافَ بيوتكم، ولا تخرجوا منها؛ كي لا تقعوا في الفتنة. * * * 4161 - وعن أُمِّ مالكٍ البَهْزِيَّةِ قالت: ذكَرَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِتنةً فقَرَّبَها، قلتُ: مَنْ خيرُ النَّاسِ فيها؟ قال: "رَجُلٌ في ماشِيَتِهِ يُؤدِّي حَقَّها ويَعبُدُ ربَّهُ، ورَجُلٌ آخذٌ برَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيْفُ العَدُوَّ ويُخوِّفُونَه". قوله: "رجلٌ في ماشِيَتِهِ"؛ يعني: رجلٌ هَرَبَ من الفتنةِ ومخالطةِ الناس إلى باديةٍ بعيدة، يرعى مواشيه، ويقيم معهم؛ كي لا يقع في الفتنة. "ورجلٌ أخذَ برأسِ فرسِهِ يُخيفُ العدوَّ ويخوِّفُونَهُ": أراد بـ (العدو) هنا: الكفار لا المسلمين؛ يعني: ورجلٌ هربَ من الفتن وقتال المسلمين، وقصدَ الكفارَ يحاربُهم ويحاربُونه. * * * 4162 - عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستكونُ فِتنةٌ تستنظِفُ العربُ قَتلاها في النَّارِ اللِّسانُ فيها أشدُّ منْ وَقْعِ السَّيفِ". قوله: "تستنظِفُ العرب"، (الاستِنْظَاف): الاستيعاب؛ يعني: تصل تلك الفتنة إلى جميع العرب. "قَتلاها في النار"، (القتلى): جمع قَتيل؛ بمعنى: مَقْتُول، وإنما كان قَتلى تلك الفتنة في النار؛ لأنهم كانوا مسلمين، ويحاربون للعصبية، يفرح كل أحد بقتل صاحبه، ويقصدُ قتلَه وأخذَ مالِهِ. "اللِّسَانُ فيها أشَدُّ من وَقْعِ السَّيف" يحتمل هذا احتمالين:

أحدهما: أنَّ مَنْ ذَكَرَ أهلَ تلك الحربِ بسوءٍ يكون آثمًا كَمَنْ حَارَبَهم؛ لأنهم مسلمين، وغيبة المسلم إثم، ولعل المراد بهذه الفتنة: الحربُ التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبين معاوية - رضي الله عنهما -، فلا شكَّ أن مَنْ ذكر أحدًا من هذين الصدرين وأصحابهما يكون مبتدعًا؛ لأن أصحابهما أكثرهم كانوا أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسبُّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعة. والاحتمال الثاني: أن المراد بهذا الكلام: أن مَنْ مَدَّ لسانَهُ فيهم بشتمٍ أو غيبةٍ، يقصدونه بالضربِ والقتل، ويفعلون به ما يفعلون بمَنْ حارَبهم. 4163 - وعن أبي هُريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ بَكْماءُ عَمْياءُ، مَنْ أَشْرَفَ لها استَشْرَفَتْ لهُ، وإِشْرافُ اللِّسانِ فيها كوُقُوعِ السَّيفِ". قوله: "ستكونُ فتنةٌ صمَّاء بكماءُ عَمياءُ": ذكر شرح (الصماء والعمياء) في الحديث الرابع من الحِسَان، وأما (البَكْمَاء) فمعناها: أن أحدًا لا يقدرُ على الأمر بالمعروف فيها، والنهي عن المنكر، فمن تكلم بحقٍ يؤذيه الناس. "من أَشرَفَ لها"؛ أي: مَن اطَّلَعَ عليها وقَرُبَ منها. "استشرفَتْ"؛ أي: اطَّلعت تلك الفتنةُ عليه، وجَرَّتْهُ إلى نفسها، و (إشرافُ اللِّسَانِ)؛ أي: إطالة اللسان، معنى هذا مثلُ معنى قوله: "اللسانُ فيها أشدُّ مِنْ وَقْعِ السيف". * * * 4164 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ قال: كُنَّا قُعُودًا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الفِتَنَ، فأَكْثَرَ حتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاسِ، فقالَ قائِلٌ: وما فِتْنَةُ الأَحْلاسِ؟ قال: "هيَ هَرَبٌ وحَرْبٌ، ثمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ دَخَنُها منْ تحتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بيتي، يَزْعُمُ

أنَّهُ منِّي وليسَ منِّي، إنَّما أَوْليائي المُتَّقُونَ، ثمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ على رَجُلٍ كوَرِكٍ على ضلَعٍ، ثمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْماءِ لا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هذهِ الأُمَّةِ إلا لطَمَتْهُ لَطْمةً، فإذا قيلَ: انقضَتْ تمادَتْ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمْسِي كافِرًا، حتَّى يَصيرَ النَّاسُ إلى فُسْطاطَيْنِ: فُسطاطِ إِيْمانٍ لا نِفاقَ فيهِ، وفُسْطاطِ نِفاقٍ لا إِيْمانَ فيهِ، فإذا كانَ ذلكُمْ فانتظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أوْ مِنْ غَدِه". قوله: "كُنَّا قُعودًا"؛ أي: كنا قاعدين. "ذَكَرَ فِتنَةَ الأَحْلاس": قال الخطابي: إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامِها وطول لبثها، يقال للرجل إذا لزم بيته ولا يبرح منه: (هو حِلْسُ بيتِهِ)، ولأن الحِلْسَ مفترش، فيبقى على المكان ما دام لا يرفع، وقد يحتمل أن تكون هذه الفتنة إنما شُبهَتْ بالأحلاس؛ لسوادِ لونها وظلمتها. "هي هرَبٌ"؛ أي: فِرَارٌ، يفرُّ بعض الناس من بعض؛ لما بينهم من المحاربة، (الحرَب) بفتح الراء: أخذ المال. و"فتنة السَّرَّاء"، (السَّرَّاء) بفتح السين: داءٌ يأخذ الناقة في سُرَّتها، يقال: (ناقة سَرَّاء)؛ أي: بها داء السَّرَر، فعلى هذا، معنى هذا الكلام: فتنةٌ الواقعةُ في الناس التي تُوجِعُ صدورَ الناس من الحزنِ ولحوق الضرر بهم. "دَخَنها"؛ أي: دُخانُهَا؛ يعني: تظهر تلك الفتن بواسطة. "رجلٌ من أهل بيتي، وليس من أهلي": لأنه لو كان من أهلي لم يهيج الفتنة؛ يعني: هو في النسب من أهل بيتي، ولكنه في الفعل ليس مني. "ثم يصطلح الناس على رجل كَوَرِكٍ على ضلَعٍ"، قال الخطابي: هذا مثلٌ، ومعناه: الأمر الذي لا يثبتُ ولا يستقيمُ، وذلك أن الضلَع لا يقومُ بالوَرِكِ، ولا يحمله، وإنما يقال في باب الملازمة والموافقة إذا وصفوا: هو ككفٍ على ساعد، وكساعد في ذراع، ونحو ذلك.

يريد: أن هذا الرجل غيرٌ جديرٍ للملك، ولا مستقل به. "ثم فتنة الدهيماء لا تدعُ أحدًا من هذه الأمة إلا لطَمْتُه"، (الدهمياء): تصغير الدَّهْمَاءِ، وهي الداهية، وسميت بذلك؛ لإطلاقها، (اللَّطْمُ): الضربُ على الوجه ببطْنِ الكَفِّ؛ يعني بهذا الكلام: أن أثرَ تلكَ الفتنة يصل إلى كل واحد ممنْ حضرَ تلك الفتنة. "حتى يصير الناسُ إلى فُسْطَاطين"، (الفُسْطَاط): الخيمة؛ يعني: يصير أهل ذلك الزمان فرقتين: مسلمٌ خالصٌ، وكافرٌ صِرْفٌ. * * * 4165 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَيْلٌ للعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قدِ اقترَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يدَهُ". قوله: "ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقتربَ" لعله يريد بهذا الشر: الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين في عهد أمير المؤمنين علي، ومعاوية - رضي الله عنهما -، وبين الحسين - رضي الله عنه -، وبين يزيد. "أفلحَ مَنْ كَفَّ"؛ يعني: أفلحَ مَنْ حفظ يدَه عن القتال؛ لأن قتالَ المسلمين غير جائز. * * * 4166 - عن المِقْدادِ بن الأَسْوَدِ: أنَّه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، ولَمَنْ ابتُلِيَ فَصَبَرَ فَواهًا". قوله: "ولمن ابتُليَ فصَبَر فَواهًا"؛ يعني: مَنْ وقع في الفتنة فصبر على

ظلم الناس إياه، وتحمَّل أذاهم ولم يحاربهم. (فواهًا)؛ أي: فَوَاهًا له؛ أي: فطوبى له. * * * 4168 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تدورُ رَحَى الإِسلامِ لخَمْسٍ وثلاثينَ، أو سِتٍّ وثلاثينَ، أو سَبْعٍ وثلاثينَ، فإنْ يَهْلِكُوا فَسَبيلُ مَنْ هَلَكَ، وإنْ يَقُمْ لهمْ دينُهُمْ يقُمْ لهمْ سبعينَ عامًا". قلتُ: أَمِمَّا بقيَ أوْ مِمَّا مَضَى؟ قال: "مِمَّا مَضى"، صحيح. قوله: "تدورُ رَحَا الإسلام ... " إلى آخره. قال الخطابي: (دَوَران الرَّحا): كناية عن الحرب والقتال، شبهها بالرحا الدوَّارة التي تطحنُ الحَبَّ؛ لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس، ويشبه أن يكون هذا ملك بني أمية وانتقاله إلى بني العباس، وكان ما بين استقرار ملك بني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بني أمية، ودخل الوَهْنِ فيه نحوًا من سبعين سنة. "لخمس وثلاثين، أو لست وثلاثين، أو لسبع وثلاثين" كلُّ ذلك شكٌ من الراوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخمس وثلاثين، أو قال: لست وثلاثين، أو قال: لسبع وثلاثين، واللام هنا بمعنى (في)؛ يعني: يحارب المسلمون المسلمين بعضهم بعضًا هذا القدر، وأولها أول محاربة علي ومعاوية - رضي الله عنهما -. يعني: فإن هلك المسلمون في المحاربة في هذا القدر من الزمان، فقد هلكوا كما هلك كثير من الناس من الأمم الماضية، وإن لم يهلكوا في هذا القدر، بل بقوا وبقي دينهم بقي دينهم سبعين سنة. يعني: بقيت خلافةُ من استقرت خلافته في هذا القتال إلى سبعين سنة،

2 - باب الملاحم

وهم بنو أمية؛ لأنه انتقلَتْ الخلافة إلى بني أمية بعد وفاة أمير المؤمنين الحسين ابن علي - رضي الله عنهما -. "قلت: أممَّا بقيَ أو ممَّا مَضَى؟ "؛ يعني: قلت يتم لهم دينهم سبعين سنة بعد زمان الحرب الذي هو خمس وثلاثون أم يكون سبعين مع الخمسة والثلاثين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ممّا مضى"؛ يعني: يكون سبعين مع الخمسة والثلاثين، لا بعد الخمسة والثلاثين، والله أعلم. * * * 2 - باب المَلاحِمِ (باب الملاحم)، (الملاحِم): جمع مَلْحَمَة، وهي الحرب. مِنَ الصِّحَاحِ: 4169 - عن أبي هُريرَةَ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتانِ عَظيمَتانِ، يكونُ بينَهُما مَقْتَلَةٌ عَظيمةٌ دَعْواهُما واحِدَةٌ، وحتَّى يُبعَثَ دجَّالونَ كَذَّابونَ قَريبُ مِنْ ثلاثينَ، كلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رسولُ الله، وحتَّى يُقبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، ويتقارَبَ الزَّمانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ وهو القتْلُ، وحتَّى يَكْثُرَ فيكُمُ المالُ فيَفيضَ حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقتَهُ، وحتَّى يَعْرِضَهُ فيقولُ الذي يَعْرِضُهُ عليهِ: لا أَرَبَ لي بِهِ، وحتَّى يتَطاوَلَ النَّاسُ في البنيانِ، وحتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فيقولَ: يا ليتَني مَكانَهُ، وحتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها، فإذا طَلعَتْ ورَآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فذلكَ حِيْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدْ

نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوبَهُما بينَهُما فلا يتَبايَعانِهِ ولا يَطْوِيانِهِ، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدِ انصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبن لِقْحَتِهِ فلا يَطْعَمُهُ، ولَتَقومَنَّ السَّاعَةُ وهو يَلِيطُ حَوْضَهُ فلا يَسقي فيهِ، ولَتَقومَنَّ السَّاعَةُ وقدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطعَمُها". قوله: "دعواهما واحدة"؛ يعني: تدعي كل واحدة منهما: أني مسلم. "حتى تكثر الزلازل"، (الزَلازِل): جمع زَلْزَلَةٍ، وهي تحريك الأرض. يعني: يكون تحريكُ الأرضِ في آخرِ الزمان كثيرًا. "يتقاربُ الزَّمان"، ذُكر شرح هذا قبيل حِسَان (كتاب الفتن) بحديثين. "فيفيضُ"، (الفيضُ): كثرةُ الماء وسيلانه. "حتى يُهِمَّ ربَّ المالِ مَنْ يقبلُ صدقتَهُ"، (الإهمام): الحزن، وتقديره: حتى يُهِمَّ ربَّ المال فقدانُ من يقبل صدقته. "لا أَرَبَ"؛ أي: لا حاجة. "يا ليتَنِي مكانه"؛ يعني: يا ليتني كنتُ ميتًا حتى لا أرى الفتن والغُصَص. "حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا طلعَتْ ورآها الناسُ أجمعون، فذلكَ حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "؛ يعني: إذا طلعَتْ الشمسُ من المغرب لم يُقبل إيمانُ من لم يؤمن قبلَ طلوع الشمس من المغرب؛ لأن هذا الإيمان إيمان البَأس، وإيمان البَأسِ غير مقبول؛ لأن الإيمانَ المقبولَ هو الذي يكون بالغيب، وأما إذا طلعت الشمس من المغرب تَيَقَّنَ الناس مجيء القيامة؛ لأنه من علامات القيامة، فإذا تيقن الرجل مجيء القيامة لم يكن إيمانه إيمانًا بالغيب. قوله: " {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "؛ يعني: أو تاب المؤمن توبة لم تقبل توبته أيضًا كما ذكرنا في (الإيمان).

وقصة طلوع الشمس من المغرب قد جاء في الحديث الصحيح: أن الليلةَ التي تطلعُ الشمسَ من المغرب في اليوم الذي بعدَها تطولُ تلك الليلة يقوم المتهجدون في تهجدهم، فلما فرغوا من أورادهم ولم يَروا أثر الصبح، ظنُّوا أنهم أخطئوا الوقت في القيام إلى التهجد، فظنوا أنهم قاموا قبل الوقت، فاستأنفوا أورادَهم، فلما فرغوا من أورادهم مرةً ثانيةً ولم يروا أثرَ الصبح، علموا أنه يحدث من الغيب شيء، فالتجؤوا إلى الله تعالى، وإلى الذِّكر وتلاوة القرآن، وبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى، فإذا هم كذلك طلع الصبح من المغرب، ثم طلع الشمس من المغرب، ولم يكن لها نور، وشاهد الناس كلهم طلوعها من المغرب. ففي رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن الشمس تطلع من المغرب يومًا واحدًا": وفي رواية: "أنها تطلع من المغرب ثلاثة أيام، ثم تطلع من المشرق إلى يوم القيامة". واختلف أهل السنة في أن عَدم قَبول إيمان الكافر، وتوبة المذنب بعد طلوع الشمس، هل عام أم لا؟ فقال بعضهم: لا يُقبل إيمانٌ ولا توبةٌ لأحدٍ بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: ذلك مختصٌ بمن شاهدَ طلوع الشمس من المغرب، وهو مُمَيزٌ، فأما مَنْ يُولد بعد طلوع الشمس من المغرب، أو وُلد قبله ولم يكن مميزًا، فصار مميزًا بعد ذلك، ولم يشاهد طلوعَ الشمس من المغرب يقبل إيمانه وتوبته، وهذا هو الأصح. "بِلَبن لِقْحَتِهِ"، (اللِّقْحَة): الناقة ذات اللبن؛ يعني: حَلَبَ الرجلُ ناقتَهُ وقامَتْ القيامةُ قبلَ أن يشربَ اللبن؛ يعني: إذا نُفِخَ في الصور فلم يقدر أحد على

عملٍ؛ لا على قليل، ولا على كثير. "يَلِيْطُ"؛ أي: يطين، "حَوْضَهُ" ليسقيَ به إبله. * * * 4170 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وحتَّى تُقاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَعيُنِ حُمْرَ الوُجوهِ ذُلْفَ الأُنوفِ، كأنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ". قوله: "ذُلْفَ الأُنوفِ"، (الذُّلْفُ): جمعُ الأَذْلَف، و (الأَذْلَفُ): الأنفُ الغليظَ المُسَطَّح. "المَجَانُّ": جَمع مِجَنًّ، وهو التِّرس. "المُطْرَقَةُ" بضم الميم: مفعول من الإطراق، ومعناه هنا: جعل الطِرَاق على وجه التِّرس، و (الطِراقُ) بكسر الطاء: الجِلد؛ يعني: وجوهُهُم عريضةٌ، ووجناتُهم مرتفعة كالمِجَنِّ. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4171 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا خُوزًا وكِرْمانَ مِنَ الأعاجِمِ، حُمْرَ الوُجوهِ فُطْسَ الأُنوفِ صِغارَ الأَعيُنِ، كأنَّ وُجوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ نِعالُهُمُ الشِّعَرِ". ويُروَى "عِراضَ الوُجُوهِ". قوله: "حتى تقاتلوا خُوزًا وكِرْمَانَ": فرقتان من الناس. "الفُطْسُ": جمعُ الأفطس، وهو مثل (الأَذْلَف)، وقد ذُكر قُبيل هذا.

روى هذا الحديث أبو هريرة. 4172 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهودَ، فيقتُلُهُم المُسْلِمونَ حتَّى يَخْتَبئَ اليَهودِيُّ مِنْ وَراءِ الحَجَرِ والشَّجَرِ، فَيقولُ الحَجَرُ والشَّجَرُ: يا مُسْلِمُ! يا عَبْدَ الله! هذا يَهُودِيٌّ خَلفِي، فَتَعَالَ فاقتُلْهُ، إلا الغَرْقَدَ فإنَّهُ منْ شَجَرِ اليَهودِ". قوله: "حتى يَختبئَ"؛ أي: حتى يختفي. "إلا الغَرْقَدَ فإنه من شجرِ اليهود" قيل: (الغَرْقَدُ): الصنوبر. روى هذا الحديث ابن عمر. * * * 4173 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطانَ يَسوقُ النَّاسَ بعَصاهُ". قوله: "حتى يخرج رجلٌ من قَحْطان"، (قَحْطَان): اسمُ قبيلة من قبائل عرب اليمن. "يسوقُ الناسَ بعصاه"؛ أي: يصيرُ حاكمًا عليهم، ويصيرهم مطيعِينَ منقادين لنفسه، ويأمرهم بما شاء، وكيف شاء، كما يسوقُ الراعي الغنمَ بعصاه. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4174 - وقال: "لا تَذْهَبُ الأيَّامُ واللَّيالي حتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقالُ لهُ: الجَهْجَاهُ". وفي رِوايةٍ: "حتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ المَوالي يُقالُ لهُ: الجَهْجَاهُ".

"حتى يملِكَ رجلٌ"؛ أي: حتى يصيرَ حاكمًا على الناس. "المَوَالي": جمع المولى، وهو الملوك ها هنا، أو العتيق. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * * 4175 - وقالَ: "لَيَفْتَتِحَنَّ عِصابَةٌ مِنَ المُسْلِمينَ كَنْزَ آلِ كِسرَى الذي في الأَبْيَضِ". قوله: "في الأَبْيَضِ"، (الأَبْيَضُ): اسم لقصرٍ مبنيٍ من الجَصِّ والحَجَر، كان لكسرى، وفيه كنزه. روى هذا الحديث جابر بن سَمُرَة. * * * 4176 - وقالَ: "هَلَكَ كِسْرَى فَلا يكونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وقَيْصَرُ ليَهْلِكَنَّ ثمَّ لا يكونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ، ولتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهُما في سبيلِ الله". وسَمَّى الحَرْبَ خُدْعَةَ. قوله: "هَلَكَ كسرى فلا يكونُ كِسرى بعده وقيصر": هذا ماضٍ بمعنى المستقبل؛ يعني: سَيهلك كسرى، وهو اسم لِمَنْ مَلَك العَجَم؛ يعني: سيفتح المسلمون العَجَم، ويكون بعد ذلك ملوكَ العَجَم المسلمون، لا كسرى ولا واحد من أبنائه. و (قيصر): اسم لمن ملك الروم؛ يعني: سيفتح المسلمون الروم، ولا يكونُ ملكَ الروم إلا مسلمًا. "وسمى الحرب خدعة". روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

4177 - وقال: "تَغْزُونَ جَزِيرَةَ العَرَبِ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ فارِسَ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ الله". قوله: "تغزونَ جزيرةَ العربِ" ذُكر شرح (جزيرة العرب) في أول الكتاب في (باب الكبائر) قبيل الحِسان من (فصل الوسوسة). روى هذا الحديث نافع بن عتبة بن أبي وقاص. * * * 4178 - عن عَوْفِ بن مالِكٍ قال: أَتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبوكَ وهو في قُبَّةٍ مِنْ أدَمٍ فقالَ: "اُعْدُدْ سِتًّا بينَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتي، ثمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثمَّ مُوْتانٌ يَأْخُذُ فيكُمْ كقُعاصِ الغَنَمِ، ثمَّ استِفاضَةُ المالِ حتَّى يُعطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دينارٍ فَيَظَلُّ ساخِطًا، ثمَّ فِتْنَةٌ لا يَبقَى بيتٌ مِنَ العَرَبِ إلاَّ دَخَلَتْه، ثمَّ هُدْنَةٌ تكونُ بينَكُمْ وبينَ بني الأَصْفَرِ فيغْدِرونَ فيأْتُونَكُمْ تحتَ ثمانينَ غايةً، تَحْتَ كُلِّ غايةٍ اثْنا عَشَرَ ألفًا". قوله: "اعدُدْ ستًا بين يدَيِ السَّاعة"؛ يعني: اعدُدْ ستَّ علامَاتٍ ستحدث قبل القيامة. "ثم موتان يأخذ فيكُم كقُعَاصِ الغنم": القُعَاص: داءٌ يقع في صدر الغنم فيموت في الحال. قوله: "ثم استفاضةُ المال"؛ أي: ثم كثرة المال. "فيظلُّ ساخطًا"؛ أي: يصير الفقير غضبان بأن يعد المئة قليلًا. "هُدْنة"؛ أي: صُلح. "بني الأصفر": أهل الروم.

"الغَايةُ": العَلَمُ. * * * 4179 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بالأَعْماقِ أوْ بدابقَ، فَيَخْرُجُ إليهمْ جَيْشٌ منَ المَدينةِ منْ خِيارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فإذا تَصَافُّوا قالت الرُّومُ: خَلُّوا بَيْننا وبينَ الذينَ سَبَوْا مِنَّا نُقاتِلْهُمْ، فيقولُ المُسْلِمونَ: لا والله لا نُخلِّي بينَكُمْ وبينَ إِخْوانِنا، فيُقاتِلونَهُمْ، فيَنْهزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ الله عَلَيهمْ أَبَدًا، ويُقْتَلُ ثُلُثٌ هُمْ أَفْضَلُ الشُّهداءِ عندَ الله، ويَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فيَفْتَتِحونَ قُسْطَنْطِينيَّةَ، فَبَيْنَما هُمْ يَقْتَسِمونَ الغَنائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيوفَهُمْ بالزَّيْتونِ إذْ صاحَ فيهِم الشَّيطانُ: إنَّ المَسِيْحَ قدْ خَلَفَكُمْ في أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وذلكَ باطِلٌ، فإذا جاؤُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَما هُمْ يُعِدُّونَ للقِتَالِ ويُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إذْ أُقيمَتِ الصَّلاةُ، فينزِلُ عيسَى بن مَرْيمَ فَأَمَّهُمْ، فإذا رآهُ عدُوُّ الله ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلو تَرَكَهُ لانذابَ حتَّى يَهلِكَ، ولكنْ يَقتُلُهُ الله بيدِهِ، فيُريهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ". قوله: "حتى ينزلَ"؛ أي: أهل الروم "بالأعماقِ أو بدابق": هما موضعان بالشام، والشكُّ من الراوي. "قد خلفَكُمْ"؛ أي: قَامَ مقامَكُمْ. "في أهليكم"؛ يعني: نزل الدجال في ديارِكم ومنازِلكم بعدَ خروجكم منها. "فإذا جاءوا الشَّام خرجَ"؛ أي: فلمَّا جاءَ جيشُ الإسلام الشامَ، فحينئذ يخرجُ الدَّجَّال. روى هذا الحديث أبو هريرة. * * *

4180 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قالَ: إنَّ السَّاعةَ لا تَقُومُ حتَّى لا يُقْسَمَ مِيراثٌ ولا يُفْرَحَ بغَنيمةٍ. ثمَّ قالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعونَ لأَهْلِ الشَّامِ ويَجْتَمِعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلامِ، يعني الرُّومَ، فيتَشَرَّطُ المُسْلِمونَ شُرْطةً للمَوْتِ لا تَرْجِعُ إِلا غالِبةً، فَيقْتَتِلونَ حتَّى يَحْجُزَ بينَهُمُ الليلُ، فَيَفِيءُ هؤلاءِ وهؤلاءِ، كلٌّ غيرُ غالِبٍ، وتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثمَّ يتَشَرَّطُ المُسْلِمونَ شُرْطَةً للمَوْتِ لا ترجِعُ إلا غالِبةً، فيَقتَتِلونَ حتَّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هؤلاءِ وهؤلاءِ، كلٌّ غيرُ غالِبٍ، وتفنَى الشُّرْطَةُ، فإذا كانَ اليومُ الرَّابعُ نَهَدَ إليهِمْ بَقيَّةُ أَهْلِ الإِسلامِ، فيجعلُ الله الدَّبْرَةَ عليهِمْ فَيَقْتَتِلُونَ مَقْتَلةً لَمْ يُرَ مِثلُها، حتَّى إنَّ الطَّائِرَ ليَمُرُّ بجنَباتِهمْ فما يُخَلِّفُهُمْ حتَّى يخِرَّ مَيْتًا، فيتَعادُّ بنو الأَبِ كانوا مِئَةً فلا يَجِدونَهُ بَقِيَ منهُمْ إلاَّ الرَّجُلُ الواحِدُ، فَبأَيِّ غَنيمةٍ يُفْرَحُ؟ أو أَيُّ مِيْراثٍ يُقَسَمُ؟ فبينا هُمْ كذلكَ إذْ سَمِعُوا ببَأْسٍ هو أَكْبَرُ منْ ذلكَ، فجاءَهُمُ الصَّريخُ أنَّ الدَّجَّالَ قدْ خَلَفَهُمْ في ذَرَارِيهِمْ فيَرفُضُونَ ما في أَيديهِمْ ويُقبلونَ، فيَبعثونَ عَشْرَةَ فوارِسَ طَليعةً، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعْرِفُ أَسْماءَهُمْ وأَسْماءَ آبائهِمْ، وألوانَ خُيولِهِم هُمْ خَيرُ فَوارِسَ، أو مِنْ خيرِ فَوارسَ على ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ". قوله: "يعني الروم": هذا تفسير قوله: (عدو)؛ يعني: العدوُّ يكونُ مِنْ أهل الروم. "يجمعونَ"؛ أي: يجمعونَ الجيشَ والسلاحَ والخيلَ للحرب. "فَيَشْتَرِطُ المسلمون شُرْطَةً للموت"؛ يعني: شَرَطَ المسلمين مع أنفسهم أن لا يَنهزموا ولا يَرجعوا عن الحرب حتى يغلبوا على الكفار، و (الموت) هنا: بمعنى الحرب. "حتى يَحجُزَ بينهم الليلُ"؛ أي: حتى يدخلَ الليل فتركوا القتال، (الحَجْزُ): المنع.

"فيفيءُ"؛ أي: فيرجع "هؤلاء"؛ أي: المسلمون، "وهؤلاء"؛ أي: الكفار. "وتفنى الشُّرْطَةُ"؛ أي: بَطَلَ الشَّرطُ بتركهم القتالَ غير مختارين بسبب دخول الليل. و"نَهَدَ إليهم"؛ أي: قام وقصد. "فيجعلُ الله الدَبَرَةَ"؛ أي: الانهزام "عليهم"؛ أي: على الكفار. "بجَنَبَاتِهم"؛ أي: بنواحِيْهِم. "فما يُخلِّفُهُمْ" بتشديد اللام؛ أي: فما يمرُّ عليهم؛ يعني: طارَ الطيرُ على أولئك الموتى فما وَصَلَ إلى آخرهم. "حتى يخرَّ"؛ أي: سقط "مَيْتًا" من نتنهم، أو من طولِ مسافة مسقط الموتى. "فيتعادُّ بنو الأب"؛ يعني: يعدُّ جماعةٌ حضروا تلكَ الحرب كلُّهم أقارب فلم يبق من مئة إلا واحد. "البأس": الحرب. قوله: "الصَّريخُ": الاستغاثة. "فَيَرْفُضونَ"؛ أي: يَرْمُون ويُلْقُون ما في أيديهم من الغنيمة. "فَيَبْعَثون"؛ أي: فَيُرْسِلون. "عشرةَ فوارسَ طليعةً"؛ أي: مقدمةً للجيش كالجاسوس؛ ليعرفوا حال عدوِّهم. (الطليعة): الجيشُ القليل الذين يقال لهم بالفارسي: يزدك. "هم خيرُ فوارس أو من خير فوارس": هذا شكٌّ من الراوي. * * *

4181 - عن أبي هُريرةَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل سَمِعْتُمْ بمَدينةٍ جانِبٌ منها في البَرِّ وجانِبٌ منها في البَحْرِ؟ " قالوا: نَعَمْ يا رسولَ الله، قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يغَزُوَهَا سَبْعونَ ألفًا منْ بنى إسحاقَ، فإذا جَاؤُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقاتِلُوا بسِلاحٍ ولمْ يَرمُوا بسَهْمٍ، قالوا: لا إلهَ إلاَّ الله والله أكبَرُ، فيَسقُطُ أحدُ جانِبَيْها الذي في البَحْرِ، ثمَّ يقولون الثَّانِيَةَ: لا إلهَ إلاَّ الله والله أكبَرُ، فيَسقُطُ جانِبُها الآخرُ، ثمّ يقولون الثَّالثةَ: لا إلهَ إلاَّ الله والله أكبَرُ، فيُفَرَّجُ لَهُمْ، فيَدخُلونَها فيَغْنَمُون، فبَيْنا هُمْ يَقْتَسِمُونَ المَغَانِمَ إذْ جاءَهُمُ الصَّريخُ فقالَ: إنَّ الدَّجَّالَ قدْ خَرَجَ، فيَترُكُونَ كلَّ شَيْءٍ ويَرْجِعُونَ". قوله: "هل سمعتم بمدينةٍ جانبٌ منها في البرِّ، وجانبٌ منها في البحرِ": هذه المدينة في الروم. "من بني إسحاق"؛ أي: من أكراد الشام، وهم من نسل إسحاق النبي عليه السلام وهم مسلمون. * * * مِنَ الحِسَان: 4182 - عن معاذِ بن جَبَلٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُمْرانُ بَيْتِ المَقْدِسِ خَرابُ يَثْرِبَ، وخَرابُ يَثْرِبَ خُروجُ المَلْحَمةِ، وخُروجُ المَلْحَمةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينيَّةَ، وفَتْحُ قُسْطَنْطِينيَّةَ خُروجُ الدَّجَّالِ". قوله: "عُمران بيتِ المَقدس خَرابُ يَثربَ"؛ يعني: بيتُ المقدسِ يخربُ ثم يعمرُ في آخر الزمان، وإذا عمرَ بيتُ المقدس تخربُ يثربُ، وهي المدينة، وعند ذلك تظهر ملحمة؛ أي: حرب عظيمة بين أهل الشام والروم، ثم يفتح المسلمون القسطنطينة، ثم يخرج الدَّجَّالُ. * * *

4184 - عن عَبْدِ الله بن بُسْرٍ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَ المَلْحَمَةِ وفَتْح المَدينةِ سِتُّ سنِينَ، ويَخرُجُ الدَّجَّالُ في السَّابعةِ"، قالَ أبو داودَ: وهذا أَصَحُّ. قوله: "هذا أصح"؛ يعني: الأصح أنَّ بينَ الملحمةِ العظمى وبين خروجِ الدَّجَّالِ سبعَ سنين لا سبعةَ أشهر. * * * 4185 - وعن أبي الدَّرْداءِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ فُسْطاطَ المُسْلِمينَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ بالغُوطَةِ، إلى جانِبِ مَدينةٍ يُقالُ لها: دِمَشق، منْ خَيْرِ مَدائِنِ الشَّامِ". قوله: "إن فُسْطاط المسلمين يوم المَلحمة بالغُوطة"، (الفُسْطَاط): شِبْهُ الخيمة، (الغوطة): بلدٌ قريب من دمشق؛ يعني: ينزل جيش المسلمين ويجتمعون هناك. * * * 4186 - وعن ابن عُمَرَ: "يُوشِكُ المُسْلِمونَ أنْ يُحاصَروا إلى المَدينَةِ حتَّى يكونَ أبعَدَ مَسالِحِهمْ سَلاحِ" وسَلاحِ: قريبٌ من خَيْبرَ. قوله: "يوشكُ المسلمونَ أن يحاصِرُوا إلى المدينة، حتى يكونَ أبعدُ مَسَالِحِهِمْ سَلاَح"، (المَسَالح): جمع مَسْلَحَةٍ وهي كالثغر، "سَلاَح": اسم موضع (قريب من خَيبر)؛ يعني: يفر المسلمون من بين الكفار، ويجتمعون بين المدينة وسَلاَح. * * * 4187 - عن ذي مِخْبَرٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ستُصالِحونَ

الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فتغَزونَ أنتم وهم عَدُوًّا منْ وَرائِكُمْ، فتُنْصَرونَ وتَغْنَمونَ وتَسْلَمونَ، ثمّ ترجِعونَ حتَّى تَنزِلُوا بمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ، فيَرفَعُ رَجُلٌ منْ أهلِ النَّصْرانيَّةِ الصَّليبَ، فيقولُ: غَلَبَ الصَّليبُ، فيغضَبُ رَجُلٌ منْ المُسْلمينَ فيدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذلكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وتَجْمَعُ للملحمةِ". وزادَ بَعْضُهم "ويثورُ المُسْلِمونَ إلى أَسْلِحَتِهِمْ فَيَقْتَتِلونَ، فيُكرِمُ الله تِلْكَ العِصابةِ بالشَّهادَةِ". قوله: "وهم عددًا (¬1) من ورائكم"، (عددًا)؛ أي: وهم من ورائكم عَدد أي: وهم غيرُكم في العدد؛ يعني: عددهم أكثرُ من عددكم. "بمَرجِ"؛ أي: بروضة فيها تُلُول، وهو جمع تَل، وهو الموضع المرتفع، والله أعلم بالخير والصواب (¬2). ° ° ° ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعلها رواية المصنف، والرواية المعروفة: "عدوًا". (¬2) جاء في النسخة الخطية المرموز لها بـ "م" ما نصه: "وصل الشارح إلى هنا، وتوفي، غفر الله له، وأتم هذا الكتاب المبارك الفقيه العالم البارع الكامل شرف المتعال عثمان مدَّ الله ظلَّه، ابتدأ شرحه من ها هنا".

تتمة المفاتيح في شرح المصابيح

تَتِمَّة المَفَاتِيح فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ

تَتِمَّة المَفَاتِيْحِ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أحمد الله حقَّ المحامد والثناء، وأشكره على جميع نعمائه وجزيل آلائه، شكرًا يوازي جميع ذرات أجزاء الأرض والسماء، وأصلي على نبيه محمد المصطفى، أفضل الرسل والأنبياء، وعلى آله وصحبه البررة الأصفياء، وبعد: فإن جمعًا كثيرًا من الأصدقاء التمسوا من هذا الضعيف أن أتمم "شرح المصابيح" في الحديث لمولانا وسيدنا أفضل عصره وعلامة دهره، مُظهر الملة والدين الحسين بن محمود بن الحسين الزيداني قدس الله روحه، وأدام إليه فتوحه، فأجبتُ لمُلتمَسِهم، ممتثلاً لأوامرهم، ومشمرًا له ذيل تقصيري بيُمْنِ نَفَسِهم، واستخرت الله تعالى مستعينًا به، ومستمدًا بكرمه جل جلاله أن لا يكلني إلى نفسي وجهلي، ويعينني على إتمامه، ويوفق لي على تحصيل ما هممت إليه، ويجعله لي ذُخرًا، ولوزري وإصري تمحيصًا وغفرانًا، فإنه سميع بصير، وبالإجابة حقيق جَدير. * * * 4188 - عن عبدِ الله بن عَمروٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "اتْرُكوا الحَبَشَةَ ما تَركوكُم، فإنَّهُ لا يَستَخْرِجُ كَنْزَ الكعبةِ إلاّ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ منَ الحَبَشَةِ".

قوله: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرجُ كنزَ الكعبة إلا ذو السُّويقَتَيْنِ من الحبشة"، قيل: هو كنز مدفون تحت الكعبة، و (ذو السويقتين) هما تصغير السَّاق، والسَّاق مؤنث، فلذلك أدخل في تصغيرها التاء، وعَامةُ الحبشة في سوقهم خَمُوْشَةٌ ودِقَّةٌ. قال الخطابي في "المعالم": اعلم أنَّ الجمعَ بين قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وبينَ هذا الحديث: أن الآية مطلقةٌ، والحديثُ مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحديث مخصصًا لعموم الآية، كما خُصَّ ذلك في حق المَجوس، فإنهم كفرة، ومع ذلك أخذ منهم الجزية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوْا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب". بيانه: أنه إذا قام بعض المسلمين بقتال الكفار، فأبيح للباقين ترك القتال معهم بشرط أنهم كانوا في ديارهم، ولم يتعرضوا لهم في شيءٍ ما، ويدل على هذا المعنى قوله: "ما تركوكم". فإن قيل: الصحابة - رضوان الله عليهم - هجموا على الفرس والروم، وقاتلوهم مبتدئين من غير أن يطؤوا ديار الإسلام، فما تخصيص تلك الجهتين - يعني: الحبشةَ والتُركَ - بالتَرْكِ؟ قلنا: أما الحبشة: فبلادُهم وَعِرَةٌ ذاتُ حرًّ عظيم، بين المسلمين وبينهم تهامة، وقفار وبحار، فلم يكلف المسلمين دخولَ ديارهم؛ لكثرة التعب، وعظم المشقة. وأما الترك: فبأسهم شديدٌ، وبلادهم أيضًا بعيدة، وهم بأسرهم مقاتِلون، فطباعهم غليظةٌ لا تفقَهُ دقائقَ الإيمان، وبلادُهم باردةٌ لا تخلو صيفًا وشتاء من الثلوج، والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة، فلم يكلفهم دخول بلاد لم تكن من طباعهم، فلهذين الشيئين خصَّصهما.

وأما إذا دخلوا في بلاد المسلمين قَهرًا والعياذ بالله سبحانه، فلا يباح لأحدٍ البتة تركَ القتال من الأحرار والعبيد؛ لأن الجهادَ في هذه الحالة فرضُ عين، وفي الحالة الأولى فرض كفاية. * * * 4189 - عن رَجُلٍ من أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "دَعُوا الحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُمْ، واتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ". قوله: "دَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكُم": معنى هذا الحديث مذكور في الحديث المتقدم، وفيه بحثٌ لغوي، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما وَدَعُوكُمْ" على بناء الماضي، وهو خلاف زَعْمِ العرب وهو أن لفظة (يدع) ما له مصدر ولا ماض ملفوظان. وإنما قيل: ملفوظان؛ ليخرج التقدير، فإن لفظة (ودع) مقدرةٌ دهنًا، وإن لم تَبرز لفظًا، وكيف لا يكون وقد جَاء (يدعُ ودَع)؛ لأن المضارع ناشئٌ عن الماضي، والأمر عن المضارع، كما دل الأمر على وجود المضارع، كذا دل المضارع على وجود الماضي. وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - متبوعٌ لا تابع، بل فصحاء العرب عن آخرهم بالإضافة إليهم بأقل، وأيضًا فلغاتُ العرب مختلفةٌ، منهم مَن انقرض وانقرضت لغتُه، فيكون - صلى الله عليه وسلم - أتى بها من لغة أخرى غريبة، أو على أصل اللغة، أو لغةِ مَن انقرض. قال شَمِر: زعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدره وماضيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح، قاله في "الغريبين". * * * 4190 - عن بُرَيْدَةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ: "يُقاتِلُكُمْ قَوْمٌ صِغارُ

الأَعْيُنِ - يعني التُّركَ - قال: تَسوقونَهُمْ ثلاثَ مرَّاتٍ حتَّى تُلْحِقوهُمْ بجَزيرَةِ العَرَبِ، فأَمَّا في السَّاقَةِ الأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هرَبَ منهُمْ، وأَمَّا في الثَّانيةِ فَيَنْجُو بَعضٌ ويَهْلِكُ بَعضٌ، وأمَّا في الثَّالثةِ فيُصْطَلَمُونَ"، أو كما قالَ. قوله: "تسوقونَهُمْ ثلاثَ مَرَّات"؛ يعني: قومٌ صغارُ الأعين من الترك يقاتلونكم، لكنهم صاروا مغلوبين منهزمين بحيث أنكم تسوقونهم ثلاث مرات. "حتى يلحقوا بجزيرة العرب"، قال مالك بن أنس: (جزيرة العرب): المدينة. وقال أبو عبيدة: ما بين حفر أبي (¬1) موسى إلى أقصى اليَمَن في الطول، وما بين رمل يَبْرِيْنَ إلى منقطع السَّمَاوَةِ في العرض، قاله في "الغريبين". و"السِّياقة": السَّوق، "فيَصطَلَمُون": فيستأصلون، من الصَّلْمِ، بمعنى القطع، والطاء في (يصطلمون) بدل من التاء؛ لأن (فاء الافتعال) إذا كان حرفًا من حروف الإطباق تبدل طاء للثقل، وللمتجانس بينه وبين التاء، وحروف الإطباق الصاد والضاد والطاء والظاء. * * * 4191 - عن أبي بَكْرَةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَنْزِلُ أُناسٌ منْ أُمّتي بغائِطٍ يُسمُّونَهُ: البَصْرَة، عِند نَهْرٍ يُقالُ لهُ: دِجْلةُ، يكونُ عَلَيهِ جِسْرٌ يكثرُ أهلُها، وتكونُ من أَمصارِ المُسْلِمين، فإذا كانَ في آخرِ الزَّمانِ جاءَ بنو قَنْطُوراءَ عِراضُ الوُجوهِ صِغارُ الأَعيُنِ، حتَّى يَنْزِلُوا على شَطِّ النَّهْرِ فيتفرَّقُ أهلُها ثلاثَ فِرَقٍ: فِرقَةٌ يأخُذونَ في أذنابِ البقَرِ والبَرِّيةَ، وهلَكوا، وفِرقَة يأخُذُونَ لأنفُسِهم، وهلَكوا، وفِرقةٌ يجعَلونَ ذَرارِيَّهم خَلْفَ ظُهورِهْم ويُقاتِلونهم، وهُمُ الشُّهداءُ". ¬

_ (¬1) في "ش": "بني".

قوله: "ينزل [أناس] من أمتي بغائِطٍ يُسمُّونَهُ البَصرَة": يقال: (غَاطَ في الأرض يَغُوْطُ ويَغِيْطُ): إذا غارَ. قال الخطابي: المطمئن من الأرض. و (البصرة): الحجارة الرَّخوة، وبها سمَّيت البصرة بصرة. و"بنو قَنْطُوراء": هم الترك، يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم عليه السلام ولدَتْ له أولادًا، وجاء من نسلهم الترك. قوله: "فرقةٌ يأخذونَ في أذنابِ البقر والبَرَّية": يقال: أخذَ الشيءَ الفُلاني: إذا شرع فيه؛ يعني: إذا لقوا العدو هربوا مع أموالهم طالبين للنجاة، وما نجوا، بل هلكوا في البوادي. قوله: "وفرقةٌ يأخذون لأنفسهم"؛ أي: يأخذون الأَمان لخَلاص أنفسِهم من العدو، وفهلكوا بأيديهم غدرًا. يعني: إذا نزل بأهلها الكفارُ المذكورون كان أهلها على ثلاث طوائف: طائفة: يأخذون البقر ويمشون إلى الصحارى طلبًا لخلاص أنفسهم، وما ينجون، بل يهلكون. وطائفة: يأخذون الأمان؛ أي: يطلبون من الكفرة الأمان لأنفسهم وما ينجون أيضًا، بل يهلكون بأيديهم. وطائفة: يجعلون أنفسهم وقايةً لأزواجهم وذرياتهم ويقاتلونهم حتى استشهدوا. وظاهر الحديث يدل على أن البصرة هي البصرةُ المعهودة، وما سمعنا أن الكفار نزلوا بها قط للقتال، ولكن الصادق - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه كذا وقوله حقٌ وصدقٌ، فلعله يقعُ بعد ذلك، ويحتمل أن يكون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبصرة بغداد؛ لأن بغداد كانت قريةً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرى البصرة وجملتها، فكأن سماها البصرة؛

إطلاقًا لاسم الكل على الجزء، وهذا مجازٌ شائعٌ فصيح جدًا. فإذا تقرر هذا؛ فالواقعة المذكورة بالكيفية المذكورة وقعت فيها بأسرها كما ذكرت، والله أعلم. * * * 4192 - عن أنسٍ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَنَسُ إنَّ النَّاسَ يُمَصَّرونَ أمصَارًا، وإن مِصرًا منها يُقالُ لهُ: البَصْرَة، فإنْ أَنْتَ مَررتَ بها أو دَخَلْتَها فإيَّاكَ وسِباخَها وكَلاءَها وسُوقَها وبابَ أُمرائِها، وعليكَ بضَواحِيها، فإنَّه يكونُ بها خَسْفٌ وقَذْفٌ ورَجْفٌ، وقومٌ يَبيتونَ ثم يُصْبحونَ قِردةً وخَنازيرَ". قوله: "إن الناس يُمَصِّرُون أمصارًا ... " إلى آخره، (التَّمصِيْرُ): وضعُ أساسِ مصر وبناءه، و (السَّبَاخ): جمع سَبخة، وهي أرضٌ ذاتُ ملح، يقال: (أرضٌ سَبخَة)؛ أي: ذاتُ سِبَاخ، (الضواحي): جمع الضَّاحية، وهي الناحية البارزة، (مكان ضاحٍ)؛ أي: بارز. (الخَسْفُ) ها هنا: الإذهاب في الأرض، (خَسَفَ الله به الأرضَ)؛ أي: غابَ به فيها، قال الله سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]. (القَذْفُ بالحِجَارة): الرمي بها، (الرَّجْفُ والرَّجْفَةُ)؛ أي: الزلزلة، و (الرَّجَفَان): الاضطراب. (القِردةُ): جمع قرد، و (الخنازير): جمع خنزير. أراد بـ (الكَلأَ) ها هنا: مواضعَ الرعي؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنس: يا أنس! إن الناس يبنون أمصارًا كثيرة ويسكنون فيها، وإن مِصرًا منها يقال له: البصرة، فإن اتفق مرورُك بها، أو دخولك فيها، فاحذر عن سباخها وكَلأها. وفي بعض النسخ: بدل: "كلأها": "نخيلها وسوقها".

"وباب أمرائِها، وعليكَ بضواحيها"، (عليك) بمعنى الزم، والظاهر: أنه إغراء كما تقول: عليك بزيد؛ أي: الزمه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فعليه بالصوم" أي: ليلزم الصوم، فعلى هذا يكونُ مفعولًا به، أو الباء زائدة على مذهب الأخفش. "فإنه يكون بها"؛ أي: فيها "خَسْفٌ وقَذْفٌ ورَجْفٌ، وقومٌ يبيتون يُصبحون قردةً وخنازير"؛ أي: يصيرون قردةً وخنازيرَ، (يصبحون) تكون ناقصة، (وقردة) خبره، و (يصبحون) محله النصب على أنه خبر (يبيتون)؛ لأنه من أخوات كان، والجملة صفة للقوم، و (القوم) يحتمل أن يكون مرفوعًا بخبر المبتدأ؛ أي: أهل ذلك المصر مكيفون بهذه الكيفية المذكورة. ويحتمل أن يكون مرفوعًا بالمبتدأ، تقديره: قوم يبيتون مصبحين قردة وخنازير في ذلك المصر. وتحذيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنسًا عن المواضع المذكورة في البصرة إشارة إلى أن في تلكَ المواضع أقوامًا من أهل القدر؛ لأن الخسف وغير ذلك هن المذكور يكون للمكذبين بالقدر، والدليل عليه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ في أمتي خَسْفٌ ومَسْخٌ، وذلك في المكذبين بالقدر"، ولم يقعْ بعدُ. قوله: "فإيَّاك وسِباخَهَا"، وهو من التحذير، تقديره: احذر نفسَك عن سِبَاخِهَا، واحذرها عن نفسك، فحذف الفعل تخفيفًا، وحذفت (النفس)، فصار ضمير المتصل - وهو الكاف في (نفسك) - منفصلًا، وهو (إياك) كما تقول: إياك والأسد. * * * 4193 - عن صالحِ بن دِرْهَمٍ يقولُ: انطَلَقْنَا حاجِّينَ، فإذا رَجُلٌ فقالَ لنا: إلى جَنْبكُمْ قَرْيةٌ يُقالُ لها الأُبُلَّة، قُلنا: نَعَم، قال: مَنْ يَضْمَنُ لي منكُمْ أنْ يُصَلَّيَ في مَسْجدِ العَشَّارِ رَكعتَينِ أو أرْبعًا، ويقولَ: هذا لأبي هُريرَةَ؟ سَمِعْتُ

3 - باب أشراط الساعة

خليلي أبا القاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ الله تعالَى يَبْعَثُ مِنْ مَسجدِ العَشَّارِ يَوْمَ القِيامَةِ شُهَدَاءَ لا يَقُومُ مع شُهداءِ بَدْرٍ غَيْرُهُم". قال أبو داودَ رحمه الله هذا المَسْجِدُ مِمَّا يلي النَّهرَ. قوله: "انطلقنا حاجِّين فإذا رجل ... " الحديث، (حاجِّين)؛ أي: قاصدين، من (حَجَّ): إذا قصد، (إذا) ها هنا للمفاجأة، ويلزم أن يكون ما بعده مبتدأ خبره جائز الحذف، كقولك: (خرجتُ فإذا السبع)؛ يعني: فإذا السبع حاضرٌ. و (الأُبُلَّةُ) واحدةٌ من جنان الدنيا، وهي أربع: أُبُلَّةُ البصرة، وغُوطَةُ دمشقَ، وسُغْدُ سمرقند، وشِعْبُ بَوَّان، واختلف في أنه هو شعب بَوَّان كرمان أو شعب بَوَّان نوبندجان في الفارس. و (من) في "مَنْ يضمنُ" ليس للشرط ها هنا، بل للاستفهام المُخْرَج من موضعه إلى الطلب والسؤال، كما يقول الفقير: مَن يعطيني درهمًا. والواو في (ويقول) هذه عطف على قوله: (أن يصليَ)، و (هذا) إشارةٌ إلى الصلاة. * * * 3 - باب أَشْراطِ السَّاعَةِ (باب أشراط الساعة) (الأَشْرَاط): العلامَاتُ، قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها. وقال في "الغريبين": يقال: أشرط نفسه للشيء: إذا أعلمه، وبه سُمَّيَتْ

(الشُّرَطُ)؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامةً يُعرفون بها، ومنه الحديث أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أَشْرَاط السَّاعة أن يكون كذا وكذا"؛ أي: مِنْ عَلاماتها. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 4194 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعةِ أنْ يُرفَعَ العِلمُ، ويَكْثُرَ الجهلُ، ويكثُرَ الزِّنا، وَيكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ، ويَقِلَّ الرَّجالُ، ويَكْثُرَ النِّساءُ، حتَّى يَكونَ لخَمْسينَ امرَأَةً القَيمُ الوَاحِدُ". وفي رِوايةٍ: "يَقِلُّ العِلمُ ويَظهَرُ الجَهْلُ". قوله: "يكون لخمسينَ امرأة القَيمُ الواحدُ"؛ يعني: مِنْ أشراطِ السَّاعة أنه يقلُّ الرجالُ ويكثرُ النساءُ، حتى يكون لخمسينَ امرأة قيمٌ واحدٌ، وليس المراد منه: أن تكون منكوحاته، و (القيم): القائم بمصالحهن، فيكنَّ زوجاتِهِ وأمهاته وجداته وأخواته وعماته وخالاته. * * * 4195 - عن جابرِ بن سَمُرَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعةِ كذَّابينَ فاحْذَرُوهُم". قوله: "إن بينَ يَدَي السَّاعةِ كذَّابين فاحذَرُوهم"، معنى (كذابين) ظاهر، والمراد: كثرةُ الجهل، وقلةُ العلم، والإتيانُ بالموضوعات من الأحاديث، وما يفترونه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ترى في زماننا مما يرويه القصاص والفصالون. ويحتمل أن يكونَ مرادُهُ: ادعاءَ النبوة كما كان في زمانه وبعد زمانه. ويحتمل أن يكون المراد بـ (الكذَّابين): جماعةٌ يدعون أهواءً فاسدة، ويسندون اعتقادهم الباطل إليه - صلى الله عليه وسلم - كأهل البدع كلهم، ونعوذ بالله من ذلك. * * *

4196 - عن أبي هُريرةَ قال: بَيْنَما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ إذْ جاءَ أَعْرابيٌّ قال: متَى السَّاعةُ؟ قالَ: "فإذا ضُيعَتِ الأَمانَةُ فانتظِرِ السّاعةَ". قالَ: كَيْفَ إِضاعَتُها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غَيْرِ أَهلِهِ فانتظِرِ السَّاعةَ". قوله: "إذا وُسَّدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانتظرِ الساعة"؛ يعني: إذا فُوَّضَتْ وِسَادةُ الحُكْمِ إلى غير مَن يستحقُهُ فانتظرِ السَّاعة، فإن هذا التفويض من أَماراتها، وفي قوله: "إذا وسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله" تضمينُ معنى (فُوَّضَ)، فلهذا يعدى بإلى؛ لأن لفظ (وُسِّد) تعدى بنفسه، يقال: (وسَّدْتُهُ فتَوَسَّدَ). * * * 4197 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يكثُرَ المالُ ويَفِيضَ حتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ زكاةَ مالِهِ فلا يَجدُ أَحَدًا يقبَلُها منهُ، وحتَّى تَعُودَ أَرضُ العَرَبِ مُروجًا وأَنْهارًا". قوله: "حتى تعودَ أرضُ العربِ مُرُوجًا وأنهارًا": قيل: في زمانٍ قديمٍ كان أكثر أرض العرب مُرُوجًا وصحارى متدفقة بالمياه ذات أشجار وثمار، فتبدل العمران بالخراب، والريف بالتَّباب، والاجتماع بالافتراق، وذلك دأبُ الله تعالى في البلاد والعباد، كذا ذكره عبد المسيح بن بقيلة الغساني لخالد بن الوليد حين ورد العراق غازيًا في خلافة الصديق مع جمهور الصحابة، وقد كان نصرانيًا، رأى كسرى أنوشروان بل رأى شابور ذا الأكتاف، قد عمر حتى قارب أربع مئة ونيفًا، وقد أدرك من رأى المسيح عليه السلام. (المُروج): جمع مَرْجٍ، وهو الروضة. * * * 4198 - وقالَ: "تَبْلُغُ المَساكِنُ إِهابَ أوْ يَهابَ".

قوله: "تبلغ المساكن إيهابَ أو نِهَابَ": قيل: (إهاب ونِهاب) موضعان قريبان من خيبر، وقيل: بينهما وبين المدينة أميال. قال الإمام التوربشتي في "شرحه": الرواية الصحيحة: "نهاب" - بالنون المكسورة -، ولا يرويه بالياء إلا بعض رواة "صحيح مسلم" وهو غير صحيح عندي، والشكُّ من الراوي. وقيل: (أو) للتخيير لا للشك. فإذا كان للشك فمعناه: أنه يكثر عمران المدينة بحيث يبلغ دورها إهَاب، إذا كان مراده - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إِهَاب، ويبلغ دورها نِهَاب، إذا كان مراده - صلى الله عليه وسلم - من ذلك نِهاب. وإذا كان للتخيير فمعناه: يبلغُ دورُها إهابَ إن شئت، ويبلغُ دورُها نهابَ إن شئت. وإن روي (إهاب أو نهاب) منصرفين، فوجهه: أنهما مذكوران باعتبار المكان كـ (واسط ودابق)، وإن رويا بمنع الصرف ففيهما التعريف والتأنيث كـ (دمشق وبغداد). * * * 4199 - وقالَ: "يكونُ في آخرِ الزَّمانِ خليفةٌ يَقْسِمُ المالَ ولا يَعُدُّهُ". وفي رِوايةٍ: "يكونُ في آخرِ أُمَّتي خَليفةٌ يَحْثِي المالَ حَثْيًا لا يَعُدُّهُ عَدًّا". قوله: "يكون في آخرِ الزمانِ خليفةٌ يَقْسِمُ المالَ ولا يعده": يحتمل أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - بالخليفة: المهدي. (لا يَعُدُّهُ) - بفتح الياء وضم العين - من حيث الرواية؛ يعني: يقسم المال من غير عَدِّ وإحصاء، ويحتمل أن يكون - بضم الياء - من الإعداد، وهو جعل

الشيء عدة وذخيرة؛ أي: لا يَدَّخِر لغد، ولا يكون له خزانة كفعل الأنبياء صلوات الله عليهم. والسرُّ فيه: أن ذلك الخليفة تظهر له كنوز الأرض، أو يعلم الكيمياء، أو حينئذ لا حاجة له في الإعداد؛ لعدم النفاد، وقدرته على الإيجاد ساعة فساعة، أو يكون من كرامته أن ينقلب الحجر أو النحاس ذهبًا كرامةً له، كما روي من الأولياء رحمة الله عليهم. * * * 4200 - وقالَ: "يُوشِكُ الفُراتُ أنْ يَحْسِرَ عنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فمنْ حَضَرَ فلا يأْخُذْ منهُ شيئًا". قوله: "يوشكُ الفراتُ أن يحسِرَ عن كنزٍ من ذهب، فمن حضر فلا يأخذ منه شيئًا": (يوشِكُ) بكسر الشين: مضارعُ (أوشَكَ)، وهو من أفعال المقاربة الاستقبالية؛ يعني: ينبغي أن يكون خبرها مقرونًا بـ (أن)؛ لأنه للطمع والرجاء كـ (عسى)، فإذا كان للطمع والرجاء فهو استقبالي، وإن علم للاستقبال فلهذا قُرن بـ (أن). وقيل: قد يستعمل استعمال (كاد)، وأفعال المقاربة ناقصة مثل: كان، سوى، عسى، فإنها قد تكون تامة بمعنى (قَرُبَ)، فإذا كان ناقصة معناه: تقارب، وإذا كان تامة معناه: قَرُب، وهي ها هنا ناقصة، فمعناه: يقارب الفراتُ حَسر نفسه عن كنزٍ من ذهب؛ يعني: سيظهر الفراتُ عن نفسه كنزًا من ذهب، فمن وصل إليه، "فلا يأخذ منه شيئًا"، وللحسر مفعولان ثانيهما يعدى بـ (عن) كقولك: (حسرت يدي عن الثوب). وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأَخْذِ نظرًا لأمته، ودفعًا لثائرة الفتنة والمقاتلة الشديدة.

ويحتمل أن يريد أنه مال مغضوب عليه كَمَالِ قارون، والمالُ المغضوب عليه غضبًا إلهيًا كثير النكد يحرمُ الانتفاع به، والحديث الذي بعده يدل عليه، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا تقومُ السَّاعة حتى يَحْسِرَ الفراتُ عن جَبلٍ من ذهبٍ يقتتلُ الناسُ". * * * 4202 - وقالَ: "تَقيءُ الأَرضُ أفْلاذَ كبدِها أمثالَ الأُسْطُوانِ منَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، فيَجِيءُ القاتِلُ فيقولُ: في هذا قَتَلْتُ، ويَجِيءُ القَاطِعُ فيقولُ: في هذا قَطَعتُ رَحِمي، ويَجِيءُ السَّارِقُ فيقولُ: في هذا قُطِعَتْ يَدي، ثم يَدَعُونَهُ فلا يَأْخُذونَ منهُ شيئًا". قوله: "تقيءُ الأرضُ أفلاذَ كَبدِهَا ... " الحديث. قال في "شرح السنة": (أفلاذَ كَبدِهَا): أراد به: أن تخرج الكنوز المدفونة فيها، كما قال جل جلاله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] و (الفِلْذَةُ): لا تكون إلا للبعير، وهي قطعة من كبدها، وتجمع فِلَذًا وأفلاذًا، وهي القطع المقطوعة طُولًا. و (قيئُها): إخراجُها، شبه بالكبد الذي في بطن البعيرِ؛ لأنه من أطايب الجزور. وقيل: تُخْرِجُ ما في بطنها من معادن الذهب والفضة. هذا كله لفظ "شرح السنة". قوله: "أمثالَ الأُسْطُوان": منصوبة على الحال، تقديره: مشابهةً للأسطوان، ويجوز أن يكون بدلاً عن (أفلاذ كبدها) وهو بدل الكل عن الكل. * * *

4203 - وقالَ: "والذي نَفْسِي بيدِه، لا تَذْهَبُ الدُّنيا حتَّى يمُرَّ الرَّجُلُ على القَبْرِ فيَتمرَّغُ عليهِ ويقولُ: يا لَيْتَنِي كنتُ مَكانَ صاحِبِ هذا القَبْرِ، وليسَ بهِ الدَّينُ إلا البَلاءُ". قوله: "يا ليتني كنتُ مكانَ صاحبِ هذا القبر، ليسَ به الدِّين إلا البَلاء": (الدين) ها هنا: العادة، (ليس) منصوبٌ في موضع الحال من الضمير في (يتمرغ)؛ يعني: يتمرغُ على رأس القبر ويتمنى الموتَ في حال ليس التمرغ من عادته، وإنما حمل عليه البلاء. * * * 4204 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَخْرُجَ نارٌ منْ أَرْضِ الحِجازِ تُضيءُ أَعْناقَ الإِبلِ ببُصْرَى". قوله: "لا تقومُ السَّاعة حتى تخرجَ نارٌ من أرضِ الحجاز تُضيءُ أعناقَ الإبلِ ببصرى"، (بُصرى) بضم الباء: بلدة بالشام. قيل: (الأَعْنَاق): جمع عَنَق - بفتح العين والنون - وهو الجماعة. وقيل: (الأَعْنَاق): جمع عُنُق - بضم النون والعين - وهو العضو المشهور. وقيل: إنما خصَّ الأعناق؛ لكبرِهَا وطولِهَا، وهذا أظهر،. وتخصيص (بصرى) دون غيره من البلاد مُطلقًا مِنْ أسرار النبوة. * * * 4205 - وقالَ: "أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ نارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ".

قوله: "أولُ أشراطِ السَّاعة نارٌ تَحْشُرُ الناسَ من المشرقِ إلى المغربِ": قيل: (النار): معنوية وهي عبارة عن ظهور الكفار وغَلبتهم بحيث يحشرونَ الناسَ من المشرق إلى المغرب؛ يعني: يقتلون بعضهم، ويهرب بعضهم بحيث يصير مَنْ في المشرق إلى المغرب، فإذا ثبت هذا، فقدْ وقعتْ منذُ سنين، ونحن بعدُ فيه. وقيل: إنه خبرية فما وقعت بعدُ؛ إلَّا أنه لا بدَّ من الوقوع؛ لأن الصادق - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، وقوله لا محالة الصدق، ولعل هذا هو الأصح؛ لأن كل ما يمكن من الآيات والأخبار أن يجري إلى الظاهر لا يحتاج إلى التأويل والعدول إلى المعنى. * * * مِنَ الحِسَان: 4206 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يتَقارَبَ الزَّمانُ، فتكونُ السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعةِ، وتكونُ الجُمُعةُ كاليَوْمِ، ويكونُ اليَوْمُ كالسَّاعةِ، وتكونُ السَّاعةُ كالضَّرْمَةِ بالنَّارِ". قوله من الحسان: "لا تقومُ الساعةُ حتى يتقاربَ الزمانُ فتكونُ السنةُ كالشَّهر" إلى آخره. يعني: تكونُ السنةُ سريعةُ الانقضاءِ كالشهر، والشهرُ كالجمعة، والجمعةُ كاليوم، واليومُ كالساعة. قيل: ذلك قصر الزمان مطلقًا، وقيل: لكثرة الغَفلة والاشتغال بالدنيا، وهذا أولى؛ لأن قصر الزمان فيه نظر، قال في "منتخب الصحاح": الضَّرَمَةُ: السَّعَفَةُ والشَّيْحَةُ في طرفها نار. قال في "الغريبين": (الضَّرَمَةُ): النار بعينها، يقال: ما بالنار نافخ ضَرمة؛

أي: ما بها أحد. شُبهت بها (¬1)؛ لأنه كان يخضبُهَا بالحنَّاء، والكاف للتشبيه، وقد تكون اسمًا، وقد تكون حرفًا، فإذا كانت حرفًا، فقد احتاج إلى مُتَعلق كقولك: زيد كعمرو؛ يعني: زيد مستقرٌ كعمرو. واستدل الفارسي على حرفيتها بصلة الذي بها، كقولك: جاءني الذي كزيد؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، ولو كان اسمًا؛ لكان منفردًا، فإذا كان حرفًا تعلق بفعل إيجاب الجملة، فأما إذا كان اسمًا فهو بمعنى المثل، فلا يحتاج إلى متعلق كقولك: زيد كعمرو؛ أي: زيدٌ مثل عمرو. * * * 4207 - عن عبدِ الله بن حَوالةَ قال: بَعَثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِنَغْنَمَ علَى أَقْدامِنا، فَرَجَعْنا فلف نَغْنَمْ شَيْئًا، وعَرَفَ الجَهْدَ في وُجوهِنا، فقامَ فينا فقالَ: "اللهمَّ لا تَكِلْهُمْ إليَّ فأَضْعُفَ عنهُمْ، ولا تَكِلْهُمْ إلى أنفُسِهِمْ فيَعْجِزُوا عنها، ولا تَكِلْهُم إلى النَّاسِ فيَستأْثِروا عليهمْ". ثمَّ وَضَعَ يدَهُ علَى رأْسِي ثُمَّ قال: "يا ابن حَوالَةَ! إذا رأيتَ الخِلافةَ قدْ نزلَت الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ، فقدْ دَلَتِ الزَّلازِلُ والبَلابلُ والأُمورُ العِظامُ، والسَّاعةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ منَ النَّاسِ منْ يَدِي هذهِ إلى رأْسِكَ". قوله: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنغْنَمَ على أقدامِنا ... " الحديث، (على أقدامِنا): حالٌ من الضمير في (بعثنا)؛ أي: بعثنا رجالًا غيرَ ركاب؛ لأنك تقول: بعثته راجلًا، وبعثته راكبًا، فيتنوع البعث كذا يتنوع المبعوث؛ مرة راجلًا، ومرة راكبًا. ¬

_ (¬1) أي: شبهت اللحية بالضرمة كما في حديث قيل: "وكأن لحيته ضرام".

و (الجُهْد): بضم الجيم: الطاقة، وبفتحها: المشقة، وقيل: لا فرق بينهما. قوله: "لا تَكِلْهُم إليَّ فأضْعُفَ": منصوب على جواب النهي، فكذا (يعجزوا). "فيستأثِرُوا عليهم"؛ أي: يختاروا لأنفسهم الجيد، ويدفعون الرديء إليهم؛ أي: إلى أمتي، فحينئذ يتجبرون ويعلون، ويحتمل أن يريد يستولُون على أمتي، فيضعفونَهم ويستضعفونهم حتى يخاف عليهم فواتُ دينهم. وفي هذا الدعاء: تعليم لأمته - صلى الله عليه وسلم - أن يَكِلوا أمورَهم وحوائِجَهم إلى الله تعالى، ولا يعتمدون على غيره، بل ينبغي أن يعتمدوا في جميع الأمور على الله تعالى؛ لأنهم لو اعتمدوا فيما عَنَّ لهم مِنَ الحوائج على خالِقهم كفاهُمْ مُؤْنَتَهُم، كقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. "الأرضُ المقدسة": عبارةٌ عن أرض الشام. "الزَلازِل": جمع زَلْزَلة. "والبَلابل": جمع بَلْبَلة، وهي وسوسةُ الصدرِ والهمِّ. وهذا الحديث أيضًا دليل على قرب السَّاعة. * * * 4208 - وعن أبي هُريرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اتُخِذَ الفَيْء دُوَلًا، والأَمانةُ مَغنَمًا، والزَّكاةُ مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغيرِ دِينٍ، وأَطاعَ الرَّجُلُ امرأتَهُ، وعَقَّ أُمَّهُ، وأدنى صديقَهُ، وأقْصَى أباهُ، وظَهرتِ الأَصْواتُ في المَساجِدِ، وسَادَ القَبيلةَ فاسِقُهُمْ، وكانَ زَعيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخافَةَ شَرِّه، وظَهَرتِ القَيْناتُ والمَعازِفُ، وشُرِبَتِ الخُمورُ، ولَعَنَ آخِرُ هذه الأُمَّةِ أوَّلَها، فارتَقِبُوا عِنْدَ ذلكَ رِيْحًا حَمراءَ، وزَلْزَلَةً وخَسْفًا ومَسْخًا وقَذْفًا، وآياتٍ تتابَعُ كنِظامٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فتتابَع".

قوله: "إذا اتُّخِذَ الفَيء دُوَلًا"، (الدُّوَل): جمع دُوَلة - بضم الدال - وهو في المال؛ [يقال:] صارَ الفيءُ دُولةً بينهم يَتَدَاوَلونه مرةً لهذا ومرة لهذا، و (الدَّولة) بالفتح: في الحرب أن تُدَال إحدَى الفِئتين على الأخرى، ذكره في "منتخب الصحاح". قال الأزهري: (الدُّوَلة) بالضم: اسم لما يتداول من المال؛ يعني: الفيء، و (الدَّولة) بالفتح: الانتقال من حالِ البؤسِ والضرِّ إلى حال الغِبطة والسرور، ذكره في "الغريبين". يعني: إذا قسموا الفيء بين الأغنياء، وحرموا الفقراء من ذلك كما هو عادة الجاهلية. ذكر محيي السنة في "معالم التنزيل": أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمةً أخذَ الرئيسُ رُبعها لنفسه وهو المِرْباع، ويصطفي منها بعد المِرْباع ما شاء، فجعله الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسمه فيما أمر، ثم قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ}؛ أي: وما أعطاكم الرسول من الفيء والغنيمة، {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} من الغلول وغيره {فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وهذا نازل في أموال الفيء، وهو عام في كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه. "المَسْخُ": تحويل صورةٍ إلى ما هو أقبحُ منها. قوله: "فارتقبوا": جوابٌ لـ (إذا)؛ يعني: إذا صدر عن الناس الأشياء المذكورة، فانتظروا عند ذلك ريحًا حمراء، وباقي الآيات متتابعة كَعِقْدٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فتتابَعَ. * * * 4210 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَذْهَبُ الدُّنيا حتَّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُلٌ منْ أَهْلِ بَيْتي يُواطِئُ اسمُهُ اسمِي".

وفي رِوايةٍ: "لوْ لَمْ يَبْقَ منَ الدُّنيا إلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ الله ذلكَ اليَوْمَ حتَّى يَبْعَثَ فيهِ رَجُلًا منِّي - أوْ منْ أَهْلِ بَيْتي - يُواطِئُ اسمُهُ اسمِي، واسمُ أبيهِ اسمَ أبي، يَملأُ الأرضَ قِسْطًا وعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وجَوْرًا". قوله: "يواطئ اسمه اسمي"، (يواطئُ)؛ أي: يوافق. قوله: "يملأُ الأرض قِسْطًا": (القِسط) بكسر القاف: مترادف للعَدْل، وهو اسم من (أَقسَطَ): إذا عَدَلَ، و (القَسط) بفتح القاف: الجَوْرُ. قوله: "حتى يملِكَ العربَ رجلٌ من أهل بيتي"، يريد: أنه يملِكُ العربَ والعجمَ جميعًا، إلا أنه ذكر العرب دون العجم؛ لغلبة العرب في ذلك الزمان. * * * 4211 - عن أُمِّ سَلَمةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "المَهْدِيُّ منْ عِتْرَتي مِنْ وَلَدِ فاطِمَةَ". قوله: "المَهْدِيُّ من عِتْرَتي": من أولاد فاطمة. (العِتْرَةُ): نَسْلُ الرَّجُل ورَهْطُهُ الأَدْنَوْن، ذكره في "منتخب الصحاح". قال الخطابي: (العِتْرَة): ولدُ الرجل لصلبه، وقد تكون العِتْرَةُ أيضًا للأقرباء وبني العمومة، ومنه قول أبي بكر يوم السقيفة: نحنُ عترةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4212 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَهْدِيُّ مِنَّي، أجْلَى الجَبْهَةِ أقْنَى الأَنْفِ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وعَدْلًا كما ملِئَتْ ظُلمًا وجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنين". قوله: "أَجْلَى الجبهةِ أقْنَى الأنفِ"، (الأَجْلَى): الواسع الجبهة, (الأَقنى):

المرتَفِعُ الأنف، وكلاهما صفة مدح. (القَنى): احْدِيدَابٌ في الأنف، رجلٌ أقنى الأنف. * * * 4214 - عن أُمِّ سَلَمَةَ عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يكونُ اختِلاف عِنْدَ مَوتِ خَليفَةٍ، فيَخرُجُ رَجُلٌ من أهلِ المَدينةِ هارِبًا إلى مكَّةَ، فيأتيهِ ناسٌ مِنْ أهلِ مَكّةَ فيُخرِجونَهُ وهو كارِهٌ، فيُبايعونَهُ بينَ الرُّكْنِ والمَقامِ، ويُبْعَثُ إليهِ بَعْثٌ منَ الشَّامِ، فيُخْسَفُ بهم بالبَيْداءِ بينَ مكَّةَ والمَدينةِ، فإذا رأَى النّاسُ ذلكَ أتاهُ أَبْدالُ الشَّامِ وعَصَائِبُ أَهْلِ العِراقِ فيُبايعونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ منْ قُرَيشٍ، أَخْوَالُه كَلْبٌ، فَيَبْعَثُ إليهم بَعْثًا فيَظهرونَ عَلَيهمْ، وذلكَ بَعثُ كَلْبٍ، ويَعْمَلُ في النَّاسِ بِسُنَّةِ نبيهِمْ، ويُلقي الإِسلامُ بجِرانِهِ إلى الأَرْضِ، فيَلبَثُ سبعَ سِنينَ، ثمّ يُتَوفَّى ويُصلِّي عليهِ المُسْلمون". قوله: "أبدالُ الشَّام"، (الأبدال): عبارةٌ عن أولياءِ الله سبحانه وتعالى، سُموا أبدالاً؛ لأنه إذا مات واحدٌ منهم أبدلَ الله مكانه بشخص آخر، وواحدُ الأبدال: بَدَلٌ، وقيل: بَدِيْلٌ. قوله: "فيظهرون عليهم": الضمير في (فيظهرون) للمتابعين، والضمير في (عليهم) لبعث النبي؛ يعني: إذا ظهر المهدي، ودعا إلى الحق ظهرَ قرشيٌ منازع له، باغٍ حاسد، واتفق أن أمه تكون من قبيلة كَلْبٍ، فتكون تلك القبيلة أخواله، فينتصرون لابن أختهم فيقاتل شيعة المهدي مع شيعة القرشي أخواله من كلب، فتغلب شيعة المهدي، وهم الداخلون في بيعته على بني كَلْب جيشِ القُرشي. قوله: "ويُلقي الإسلام بِجِرانِهِ إلى الأرض"، (الجِرَان): مُقَدَّمُ العُنُق، وأصله في البعير: إذا مدَّ عنقَهُ على وجه الأرض، فيقال: ألقى البعير جِرَانَه،

وإنما يفعل ذلك إذا طال مقامُه في مُنَاخه، فضرب الجِرَان مثلًا للإسلام إذا استقرَّ قرارُه، فلم تكن فتنةٌ ولا هيجٌ، وجَرَتْ أحكامه على العَدل والاستقامة، ذكره الخطابي في "المعالم". * * * 4215 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: "ذكَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلاءً يُصيبُ هذِهِ الأُمّةَ حتَّى لا يَجدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إليهِ مِنَ الظُّلْمِ، فَيَبْعَثُ الله رَجُلاً، منْ عِتْرَتِي أهلِ بَيتي، فَيَمْلأُ بهِ الأَرضَ قِسْطًا وعَدْلًا كما مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرضَى عنهُ ساكِنُ السَّماءِ، وساكِنُ الأَرْضِ، لا تَدعُ السَّماءُ منْ قَطْرِها شَيْئًا إلَّا صبَّتْهُ مِدْرارًا، ولا تَدَعُ الأرضُ منْ نَباتِها شَيْئًا إلاَّ أَخْرَجَتْهُ، حتَّى تَتَمَنَّى الأَحياءُ الأموَاتَ، يعيشُ في ذلكَ سَبْعَ سِنينَ، أو ثَمانِ سِنينَ، أو تِسعَ سِنينَ". قوله: "لا تَدعُ السَّماءُ مِنْ قَطْرِهَا شيئًا إلا صبَّتْهُ مِدْرارًا". قال في "الفائق": (المِدْرارُ): الكثير الدَّر، مِفْعَال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: (رجل وامرأة مِعْطَار ومِطْفَال)، و (مدرارًا) نُصِبَ على الحال من ضمير (السماء). قوله: "يعيشُ في ذلكَ سبعَ سنين، أو ثَمان سنين، أو تسعَ سنين"، (ذلك) إشارة إلى المذكور من العَدْل وغير ذلك من أنواع الخَيرات والأفعال المحمودة. و (أو) في (ثمان أو تسع): يحتمل أن تكون للشكِّ من الراوي، ويحتمل أن تكون للتنويع كما قال تعالى: {أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ} [المائدة: 33]. * * *

4216 - عن علِيِّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "يَخْرُجُ رَجُلٌ منْ وَراءِ النَّهر يقالُ له الحارِثُ بن حَرَّاثٍ، على مُقَدِّمَتِهِ رَجُل يقالُ لهُ: مَنْصُور، يُوَطِّنُ - أو يُمَكِّنُ - لآلِ مُحَمَّدٍ كما مكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَجَبَ علَى كلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُه - أو قال: إِجابتُهُ". قوله: "يُوَطِّنُ أو يُمَكِّنُ لآلِ محمَّد"، (التوطين): جَعْلُ الوطنِ لأَحَدٍ، وقد يُستعمل في معنى: تهيئة الأسباب مجازًا، (أو) للشك من الراوي، وكذلك (أو) في (أو قال إجابته) أيضًا للشك، ويجوز (أو) في (أو يمكِّن) للإباحة، فمعناه: يوطَّنُ ويمكَّنُ. فإن قيل: الأنصار وطنوا له - صلى الله عليه وسلم - وللمهاجرين، وأخرجه قريش من مكة كما قال تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] فَلِمَ قال: (كما مكَّنَتْ قريشٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؟ قيل: أراد بـ (قريش) مَنْ آمنَ منهم، ودخل في التمكين أبو طالب، إذا كان هو أصل التمكين، وإن لم يُؤمن عند أهل السنة. * * * 4217 - عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تُكلِّمَ السِّباعُ الإِنْسَ، وحتَّى تُكلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وشِرَاكُ نَعْلِهِ، وتُخبرَهُ فَخِذُهُ بما أَحدَثَ أهلُهُ بَعْدَهُ". قوله: "عَذَبَةُ سَوْطِهِ ... " الحديث، (العَذَبَةُ): رأسُ السَّوط، وهي عبارةٌ عن قِدًّ يكون في طرفه، وهو سير مضفور، يُسَاقُ به الفرس، و (عَذَبَةُ العمامة): ما يدلى من خيوطها تشبيهًا بعَذَبَةِ السَّوط.

4 - باب العلامات بين يدي الساعة، وذكر الدجال

قيل: في تسمية العذبة للاشتقاق وجهان: أحدهما: مِنْ (عَذُبَ الماءُ): إذا طابَ وساغَ في الحلق، وكذا بهذه العَذَبَة يطيبُ سيرُ الفرسِ ويستريحُ راكبه ويَعْذُبُ له. والثاني: أن يكون من (العَذَاب)؛ إذ به يُجلد الفَرَسُ ويُعَذَّبُ، وكذا عَذَبَةُ العمامة متعرضة للتلطُّخ والتشبث بمواضع تتمزق منها العمامة، فهي عَذَابُ اللابس. * * * 4 - باب العلاماتِ بين يَدَي السَّاعةِ، وذِكْرُ الدَّجَّالِ (باب العلامات التي بين يدي الساعة، وذكر الدجال) "بينَ يَدي السَّاعة"؛ أي: قُدَّامها، فأصله: وضعتُ الشيءَ بين يدي فلان: أن يُستعمل في المكان الذي يُقابل صدره، ويكونُ بين يديه، ثم نُقِلَ إلى الزمان، فقيل: ما بين أيدينا وما خلفنا، والمراد به: الزمان الماضي والمستقبل، على اختلاف بين أرباب المعاني، وكل ما كان قبلَ قيامِ السَّاعةِ يكونُ بين يديه. و (الدَّجَّالُ): مأخوذ من الدَّجَلِ، وهو اللَّبْسُ والتَّمويه، يقال: (دَجَلَ): إذا مَوَّهَ ولَبَّسَ، حكاه ابن الأنباري. وقيل: سُمِّيَ دَجَّالًا؛ لأنه يضرِبُ في الأرض؛ أي: يسيرُ فيها ويقطعُ أكثرَ نواحيها، يقال: (دَجَلَ الرَّجُلُ): إذا سَاحَ في الأرض، حكاه ثعلب. وقيل: (الدَّجَلُ): السَّحْرُ، وسمي الدَّجَّال دَجَّالًا؛ لأنه ساحر، يقال: دَجَّلَ فلانٌ الحقَّ بباطله): إذا غطَّاه، ومن ذلك أُخِذَ (الدَّجَّال)، ودَجَلَهُ: سَحَرَهُ

وكَذَّبَهُ، وكل كَذَّابٍ دُجَّال. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 4219 - وقال: "بادِرُوا بالأَعْمالِ سِتًّا: الدُخانَ، والدَّجَّالَ، ودابَّةَ الأَرْضِ، وطُلوعَ الشَّمسِ منْ مَغرِبهَا، وأَمْرَ العامَّةِ، وخُوَيْصَّةَ أحَدِكُم". قوله: "بادروا بالأعمال ستًا"؛ أي: ستَّ آياتٍ، فحذف المضاف إليه؛ لأنه يفسرها ما بعدها، والشيء إذا أُبهم ثم فُسَّر كان أفخَمَ عند السامع؛ أي: أسرعوا إلى الأعمال الصالحة قبل ظُهورِ الآيات الستِّ المذكورة؛ لأن ظهورَها يُوجِبُ عدمَ توبة التائبين؛ أي: عَدم قَبولها؛ لكونها ملجئةٌ إلى الإيمان، فَّلا يثاب المكلفُ عند الإلجاء على عمله، فإذا انقطع الثواب انقطع التكليف. قوله: "وأمرَ العَامَّةِ وخُوَيصَةَ أحَدِكُمْ"، (وأمر العَامَّة): القيامة؛ لأنه يعمُّ الخلائق. (الخُوَيصَة): تصغيرُ الخَاصَّة، وهي الموت الذي يخصُّ كلَّ واحدٍ، وإنما صغَّره تصغيرَ تحقيرٍ؛ لأن الموتَ بالإضافةِ إلى الدَّواهي الأُخر من البعثِ والحساب وغير ذلك من شدائد الآخرة العظام صغيرٌ وحقير. * * * 4220 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أَوَّلَ الآياتِ خُرُوجًا طُلوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وخُروجُ الدَّابَّةِ علَى النَّاسِ

ضُحًى، وأيتهُما ما كانتْ قبلَ صاحِبَتِها فالأُخرَى علَى أَثَرِها قَرِيبًا". قوله: "إن أولَ الآياتِ خُروجًا طلوعُ الشمسِ من مَغرِبها"، (خروجًا): نُصب على التمييز؛ يعني: (أول الآياتِ) مبهم، وكلُّ اسم كان مبهمًا يكون مفسرُهُ منصوبًا على التمييز، إذ (أول): أفعل التفضيل، فنصب التمييز لإبهامه، فإنَّ الإبهام يستدعي تفسيرًا، أو المستدعي هو العامل عند النحويين. * * * 4221 - عن أبي هُريرَةَ قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: طُلوعُ الشَّمْسِ من مَغرِبها، والدَّجَّالُ ودابَّةُ الأَرْضِ". قوله: "ثلاثٌ"؛ أي: ثلاثُ آيات، فحذف المضاف إليه. * * * 4222 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ منْ مغرِبها، فإذا طَلَعَتْ ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وذلكَ حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} "، ثمّ قرأَ الآيةَ. قوله: "إذا طلعت الشمس" من مغربها، "ورآها الناسُ آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} "، (أجمعون): تأكيدٌ للضمير في (آمنوا). وإنما لا يُقبل الإيمانُ بعد طلوع الشمس من المغرب؛ لأنه انقضى زمنُ التكليف بالإيمان، إذ طلوع الشمس من المغرب من أحكام السَّاعة، فحينئذ كأنه ظهرت الساعة، وظهورُ السَّاعة علامةُ انقضاءِ التَّكليفِ. * * *

4223 - وعن أبي ذَرًّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ غرَبَت الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أينَ تَذْهَبُ هذه؟ " قلتُ: الله ورسولُهُ أعلَمُ، قال: "فإنَّهَا تَذْهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرشِ، فتستأْذِنُ فيُؤذَنُ لها، ويُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فلا يُقبَلُ مِنها، وتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤذنَ لها، ويقالُ لها: ارجِعي منْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ منْ مَغرِبها، فذلكَ قولُهُ تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}. قال: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ". قوله: "يقال لها: ارجعي من حيثُ جِئْتِ، فتطلُعُ من مَغرِبها، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرُّها تحتَ العَرشِ": قال محيي السنة في "شرح السنة": قال الخطابي في قوله: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]: إنَّ أصحابَ التفسير من أهل المعاني قالوا فيه قولين: قال بعضهم: معناه: ثمَّ الشمسُ تجري لمستقرٍ لها؛ أي: لأَجَلٍ قُدِّرَ لها؛ أي: إلى انقطاع مدَّة بقاءِ العالَم. وقال بعضهم: (مستقرُّها): غايةُ ما تنتهي إليه في صعودِها وارتفاعِها لأطول يوم في السنة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مستقرُّها تحتَ العرشِ"، فلا ننكرُ أن يكونَ لها استقرارٌ تحتَ العرشِ من حيثُ لا ندرِكُهُ ولا نشاهدُهُ، وإنما أَخْبَرَ عن غيبٍ، ولا نكذِّبُ به ولا نكيفُهُ؛ لأن علمَنَا لا يحيطُ بِهِ. ويحتمل أن يكون المعنى: إنَّ عِلْمَ ما سَأَلْتَ عنه مِنْ مُستقرَّهَا تحت العرش في كتابٍ كُتب فيه مبادئُ أمورِ العالَم ونهاياتها، والوقتُ الذي تنتهي إليه مُدَّتُها، فينقطعُ دورانُ الشمسِ ويستقرُّ عند ذلك، فيبطلُ فعلها، وهو اللوح المحفوظ. وقال أبو سليمان: وفي هذا - يعني: وفي هذا الحديث الأول - إخبارٌ عن

سجود الشمس تحت العرش، فلا يُنكر أن يكون ذلك عند محاذَاتِها العرشَ في مَسيرِها، وليس في سجودِها تحتَ العرش ما يعوقُها عن الدَّأْبِ في مَسِيْرِها، والتصرُّف لما سُخرت له. * * * 4224 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بينَ خَلْقِ آدَم إلى قِيامِ السَّاعةِ أمْرٌ أَكْبَرُ منَ الدَّجَّالِ". قوله: "ما بينَ خلقِ آدمَ إلى قيامِ السَّاعةِ أمرٌ أكبرُ من الدجال"؛ أي: لعظيم فتنتِهِ، وفظيعِ بليَّتِهِ، وليسَتْ بليَّتُه وفتنته وخوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته منه مِن قِبَلِ شُبهةٍ تلحَقُ المؤمنين الموقنين العارفين بالله تعالى وصفاتِه، فإذ المؤمنين عَرفوا الله تعالى معرفةً لا تتخالجهم فيها الظنون، ولا تعترضهم الشبهة؛ لأنه تعالى لا يَشبه شيئًا، ولا يُشبه شيءٌ، وأنه ليس كمثله شيء، وإن أوصَافَ الحَدث عنه منفيةٌ سبحانه وتعالى وتنزَّه عن ذلك. وإنما أنذَرَ أمته أنه يكونَ خروجُهُ في شِدَّةٍ من الزمان، وعُسْرٍ من الحَال، وأن الناس يصيبُهُم شدةٌ، وأنه يستولي على أموالِهم ومواشِيهم، فيجوزُ أن يتَّبعَهُ أقوامٌ بأبدانِهِم وبألسنتِهم، وإن عَرفوا بقلوبهم كذبَهُ، وأن الله تعالى ليسَ كمثله شيء، ويكونُ تصديقُهم إيَّاه وإتباعهم تقيةً على حسبان تأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. ويحسبون أن في تصديقه رُخْصَةً، كما جاز في غيره، فَمَنْ تبعَهُ، صَرَفَ الله قلبَهُ، ولم يقبَلْ منه إيمانَ قلبه بالله، ولم يعذرْهُ في نفسِهِ، فإنه لم يأتِ في شيء من الأخبار رخصةٌ في اتباعه تقية، فأنذر النبي - صلى الله عليه وسلم - قومَه، وخافَ عليهم فتْنَتَهُ لذلك، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].

وقال في قصة ثعلبة: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله: {يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]، أخبرَ أنهم لمَّا فعلوا ما نُهوا عنه صرفَ الله قلوبهم عن الإيمان، فكذلك مَن اتَّبع الدَّجَّال؛ تقيةً رغبةً فيما عنده ورهبةً منه، صرفَ الله قلوبهم عن الإيمان به، فيكفرون. ويجوز أن يكونَ شأنُ الدجال وأتباعه من المناهي التي شدَّد الله فيها، ولم يُجعل فيها رُخصة، وأنَّ مَنِ اتَّبعَهُ لم ينفعْهُ إيمانُهُ، كما جُعِلَ طلوعُ الشَّمسِ من مغربها فِتْنَةً لا يُقبل بعدَها إيمانُ مَنْ لم يكن آمنَ من قبل، وإن كان ذلك في القوة والصحة وإمكان الفعل. أورد الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الكلاباذي البخاري - رحمه الله - في "معاني مشكلات أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -" قوله: "إنه أعور، وإن الله ليس بأعور" ولو لَمْ يكن أعور، وكان صحيحَ العينين لم يكن يوجِبُ شبهةً، وإنما أرادَ - صلى الله عليه وسلم - أنه إنسانٌ وليس بحيوان ولا شيطان، وليس له فضلُ قُوَّةٍ، ولا زيادةُ حَال يُخَافُ منه أكثر مما يُخَافُ مِنْ مُتَسلِّطٍ ظالمٍ عاتٍ جبَّارٍ من الناس، وأنه إنسان شَبَّهَ بنيتَهُ ببنيَتَهُم، يؤذِيْهِ ما يُؤْذِيْهِمْ، ويَحْتَاجُ إلى ما يحتاجُ إليه الناس، وإنه مؤوفٌ بآفةِ العَور، لا يقدرُ على إزالَتِها عن نفسه، إن سلطَ الله تعالى عليه بعوضةً صرفتْهُ عن جميع ما يدَّعيه، وإن حرَّك عنه عِرقًا سَاكنًا، أو سكَّنَ منه متحرِّكًا زالَتْ عنه قوتُه، وأقلَقَهُ حَالُهُ. فهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تشجيعٌ لمن ابتلي بأيامه، وأدركه سلطانه؛ كي لا يكونَ خوفُهُ منه أكبرَ من خوفه من أحد من الناس عليه سلطانه، كذا قال الشيخ الكلاباذي البخاري - رحمه الله - في "جمعه" أيضًا. وحاصل تفسير الكلاباذي: أن الدجالَ إنسانٌ مثلكم، بل أضعف منكم؛ لأنه أعور، والعورُ نقصانٌ وعيب، فيلزم منه أن لا يكون إلهًا لوجهين:

أحدهما: أن الإله تجبُ سلامةُ ذاته من الآفات والعيوب. والثاني: أنه لو كان إلهًا لأزال عيبَ نفسه، ولم يرضَ بنفسه النقصانَ، ثم عورُهُ إن كان من قبل نفسه، فالإلهُ لا يُنقِصُ أوصافه، وإن كان من قبل غيره، كما هو حق، فهو المخلوقُ الناقصُ، فيلزم أن يكون كبقية المخلوقين الجائرين الظالمين. فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه خُلِق أعور؟ قيل: لأنه لو كان مَؤوفًا بآفة أخرى غير العور لم يظهرْ كظهور العور، أو لأنه يكون أمارةً ظاهرةً تدلُّ على كذبه وسحره. فإن قيل: لو كان أعمى؛ لكان أظهر من العور، فلمَ لم يُخلَق أعمى؟ قيل: لأنه قدَّر الله سبحانه إضلالَ قومٍ به، ولو كان أعمى، لم يكن منه إغواءٌ وإضلال. * * * 4226 - وقالَ: "إنَّ الله لا يَخْفَى عَلَيكُمْ، إنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ، وإنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى، كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِيةٌ". قوله: "وإنَّ المسيحَ الدجَّالَ أعورُ عينِ اليمنى، كأنَّ عينه عنبةٌ طافية": قال الفراء: قال بعض الناس: الدجالُ مِسِّيح - بكسر الميم وتشديد السين - على وزن (فِعِّيل)؛ ليكون فرقًا بين المسيح عيسى - صلوات الله عليه - وبين الدجال. قال في "شرح السنة": بعض الناس يقولون للدجَّال: مِسِّيح - بكسر الميم وتشديد السين - على وزن (فِعِّيل)، وليس بشيء، بل هما في اللفظ واحد. وقيل: سمي الدجال (مَسِيحًا) بفتح الميم وتخفيف السين؛ لأنه ممسوحٌ

عن جميع الخير والبركة. وقيل: لأنه يتردَّدُ في جميع الصحارى والبلاد إلا مكة والمدينة، فإنه يحرمُ من دخولها. وقيل: سُمِّي بالمسيح؛ لأن إحدى عينيه ممسوحةٌ. قال في "شرح السنة": (الطافية من العنب): الحبة الخارجة من أخواتها، ومنه: الطافي من السمك؛ لأنه يعلو ويظهر على رأس الماء، يريد: أن حدقته قائمة كذلك. * * * 4228 - وعن أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أُحدِّثُكُم حديثًا عنِ الدَّجَّالِ ما حَدَّثَ بهِ نبيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّه أَعْوَرُ، وإنَّهُ يَجيءُ مَعَهُ بمِثْلِ الجَنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ: إنَّها الجَنَّةُ هيَ النَّارُ، وإنَّي أُنذِرُكُمْ كما أَنْذَرَ بهِ نُوْحٌ قَوْمَهُ". قوله: "فالتي يقول: إنها الجنة هي النار": وإنما قال: (هي النار)؛ لأن من اتبعه تصديقًا له يدخل في جنته، ومن دخل في جنته، استحقَّ النارَ الأبدية؛ لكفره، نعوذ بلطفه من عقابه، فلهذا سَمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جنته نارًا؛ إطلاقًا لاسم السبب على المسبب. * * * 4229 - عن حُذَيْفةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وإنَّ معَهُ ماءً ونارًا، فأمَّا الذي يَراه النَّاسُ ماءً فنارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الذي يَراه النَّاسُ نارًا فماءٌ بارِدٌ عَذْبٌ، فمنْ أدركَ ذلكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ في الذي يراهُ نارًا، فإنَّهُ ماءٌ عَذْبٌ طَيبٌ، وإنَّ الدَّجَّالَ مَمْسوحُ العَيْنِ، عليها ظَفَرَةٌ غَليظَةٌ، مَكْتوبٌ بينَ عَيْنيهِ: كافِر، يَقْرَؤُهُ كلُّ مُؤْمِنٍ كاتِبٍ وغيرِ كاتِب".

قوله: "فأما الذي يراه الناس ماءً فنارٌ تُحرِقُ، وأما الذي يراه الناس نارًا فماءٌ باردٌ عذبٌ"؛ يعني: إذا غضب على من يكذبه ورماه في ناره، جعل الله تعالى ناره ماءً باردًا، كالنار النمرودية التي جعلها لخليله - عليه الصلاة والسلام - بردًا وسلامًا، وإذا رضي عمن صدقه، وأعطاه من مائه، جُعِلَ له ماؤه العذب البارد النارَ المحرقةَ المخلدة الدائمة. واعلم أن ما يظهر من فتنته لا يكون له حقيقة، بل تخييلٌ منه وشَعْبذَةٌ، كما يفعله السحرة والمُعشبذُون. ومعنى الشعبذة: تخيُّلُ الخيالات الباطلة، ويتوهَّمُ لأشياء حقائقَ، كما يفعل المشعبذُ بأخذِ ثوب أحد، وتمزيقه تخييلاً، ثم ينفضُهُ صحيحًا، فهو أحد الحيل. فالحاصل: أن من ابتُلِي بزمانه ينبغي أن يكون صابرًا على بلائه، متمسكًا بدينه، مستعينًا بربه، معتقدًا بأنه لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع في العالم إلا الله سبحانه وتعالى. قوله: "ممسوح العين"؛ أي: له عينٌ واحدة، وموضعُ عينٍ أخرى ممسوحٌ مثل جبهته، ليس له أثر العين، وعلى تلك العين ظفرة. و"الظَّفرة": جلدةٌ تغشي العين ناتئةٌ من الجانب الذي يلي الأنف على بياض العين إلى سوادها، قاله في "منتخب الصحاح". قال الأصمعي: (الظَّفرة): لحمة تنبت عند المآقي، وأنشد: بعينِها منَ البكاءِ ظَفَرَةْ حلَّ ابنها في السِّجنِ وَسْطَ الكَفَرَةْ قاله في "الغريبين". * * *

4230 - وعن حُذَيْفة قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، معَهُ جَنَّتُهُ ونارُهُ، فنارُهُ جنَّةٌ، وجَنَّتُهُ نارٌ". قوله: "أعور العين اليسرى ... " إلى آخره. قال في هذا الحديث: إنه أعور العين اليسرى، وفي الحديث المتقدم: "أعور العين اليمنى". فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديثين؟ قيل: اختلافُ اليسرى واليمنى في الرواية، لا تناقضٌ في قوله عليه الصلاة والسلام، بل يكون بالنسبة إلى أشخاص متفرقة، فقوم يرونه أعور اليسرى، وقوم يرونه أعور اليمنى؛ ليدل على تخييل أمره وبطلانه؛ لأنه إذا كان لا ترى خلقتُهُ كما هي دلَّ على أنه ساحرٌ كذَّابٌ. وأيضًا يجوز أن يفعلَ ذلك بنفسه شعبذةً وإيهامًا للقدرة أو بتقديرٍ إلهي إذا أراد إضلال قوم، كما سيَّر معه جبالًا وجنانًا ونيرانًا، فجميعُ أحواله على الانقلاب، فكذا خلقته. وقيل: كلُّ واحدة في زمان، فاختصَّ أحد الحديثين بزمان. وقيل: يحتمل أن المراد به: نفيُ اليمنى واليسرى عنه، وإثباتُ ضدَّهما فيه. قوله: "جُفال الشعر"، (الجفال) بالضم: كثير الشعر. * * * 4231 - عن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ قال: ذَكَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ فقال: "إنْ يَخْرُجْ وأنا فيكُم فأَنا حَجِيْجُهُ دُونَكُمْ، وإنْ يَخْرُجْ ولَسْتُ فيكُم فامرُؤٌ حَجِيْجُ نَفْسِهِ، والله خليفَتي على كُلِّ مُسْلِمٍ، إنَّهُ شابٌّ قَطَطٌ عينُهُ طافِئةٌ، كأنَّي أُشَبهُهُ بِعَبْدِ العُزَّى بن قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ منكُمْ فلْيَقْرأْ علَيهِ فواتِحَ سُورةِ الكَهْفِ".

وفي رِوايةٍ: "فلْيَقْرَأْ علَيهِ بفواتِحِ سُورَةِ الكَهْفِ فإنَّها جَوازُكم منْ فِتْنَتِهِ إنَّهُ خارِجٌ مِنْ خَلَّةٍ بينَ الشَامِ والعِراقِ، فعاثَ يَمينًا وعاثَ شِمالاً، يا عِبادَ الله فاثبُتُوا". قُلنا: يا رسولَ الله! وما لَبْثُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "أَرْبعونَ يَوْمًا، يومٌ كسَنةٍ، ويَوْمٌ كَشَهْرٍ، ويَوْمٌ كجُمُعَةٍ، وسائِرُ أيَّامِهِ كأيَّامِكُمْ"، قُلنا: يا رسولَ الله! فذلكَ اليَوْمُ الذي كسَنةٍ أيَكفِينا فيهِ صلاةُ يومٍ؟ قال: "لا، اقْدُروا لهُ قَدرَهُ". قُلنا: يا رسولَ الله! وما إسْراعُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "كالغَيْثِ استَدْبَرتْهُ الرَّيحُ، فيأْتي على القَوْمِ فيَدعوهُمْ فيُؤمِنونَ بهِ، فيأْمُرُ السَّماءَ فتُمطِرُ، والأَرض فتُنبتُ، فتَروحُ عليهم سارحَتُهُمْ أطولَ ما كانتْ ذُرًى، وأسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وأَمَدَّهُ خَواصِرَ، ثم يأتي القَوْمَ فيَدعوهُم فيَردُّونَ عليهِ قولَهُ، فيَنصرِفُ عنهُمْ، فيُصبحونَ مُمْحِلينَ ليسَ بأَيْديهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوالِهِمْ، ويمرُّ بالخَرِبَةِ فيقولُ لها: أَخْرِجي كُنوزَكِ فتتبَعُهُ كنوزُها كيَعاسِيبِ النَّحْلِ، ثمَّ يَدعُو رَجُلاً مُمْتلِئًا شبابًا، فيَضْرِبُهُ بالسَّيْفِ فيقطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَميَةَ الغَرَضِ، ثمَّ يَدعُوه فيُقبلُ ويَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَما هوَ كذلكَ إذْ بَعَثَ الله المَسيحَ ابن مَرْيمَ، فيَنزِلُ عِندَ المنارَةِ البَيْضاءَ شرْقِيِّ دِمَشْقَ بينَ مَهْرودَتَيْنِ واضعًا كفَّيْهِ على أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إذا طَأْطَأَ رأسَهُ قَطَرَ، وإذا رفعَهُ تَحَدَّرَ منهُ مِثْلُ جُمانٍ كاللُّؤْلؤِ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إلا ماتَ، ونَفَسُهُ يَنْتَهي حَيْثُ يَنْتَهي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حتَّى يُدرِكَهُ ببابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُه، ثمَّ يأتي عيسَى قَوْمٌ قد عَصَمَهُمُ الله مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عنْ وُجوهِهِمْ ويُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجاتِهِمْ في الجَنَّةِ، فبينَما هوَ كذلكَ إذْ أَوْحَى الله إلى عيسى: إنَّي قد أَخْرَجتُ عِبادًا لي لا يَدانِ لأَحَدٍ بقتالِهمْ فَحَرِّزْ عِبادِي إلى الطُّورِ، ويَبْعَثُ الله يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرةِ طَبَرِيَّةَ، فيشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهُمْ فيقولُ: لقدْ كانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، ثمّ يَسيرونَ حتَّى يَنتهُوا إلى جَبَلِ الخَمْرِ، وهو جَبلُ بيتِ المَقْدِسِ، فيقولونَ: لقدْ قَتَلنا مَنْ في الأرضِ، هَلُمَّ فلْنَقْتُلْ مَنْ في السَّماءِ، فيَرمُونَ بنشَّابهِمْ إلى السَّماءِ، فيرُدُّ الله عليهِمْ

نُشَّابَهُم مَخْضُوبَةً دَمًا. ويُحْصَرُ نبَيُّ الله وأَصْحابُهُ حتَّى يكونَ رأسُ الثَّوْرِ لأَحدِهِم خَيرًا مِنْ مِئَةِ دِينارٍ لأحدِكُمُ اليَوْمَ، فيَرْغَبُ نبيُّ الله عِيسَى وأَصحابُهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله عَلَيهِمُ النَّغَفَ في رِقابهِمْ، فيُصْبحونَ فَرْسَى كمَوْتِ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثمّ يَهبطُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الأَرْضِ، فلا يَجدونَ في الأَرْضِ موضعَ شِبرٍ إلَّا مَلأَهُ زهَمُهُمْ ونَتْنُهُم، فَيَرْغَبُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله طيرًا كأعْنَاقِ البُخْتِ فَتَحمِلُهُمْ فتطرَحُهُمْ حَيْثُ شاءَ الله - ويُروى: فتطرَحُهُم بالمَهْبلِ، ويَسْتَوقِدُ المُسْلِمونَ مِنْ قِسِيهِمْ ونُشَّابهِمْ وجِعابهِمْ سَبْعَ سِنينَ - ثمَّ يُرْسِلُ الله مَطَرًا لا يَكُنُّ منهُ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيَغْسِلُ الأَرْضَ حتَّى يترُكَها كالزُّلَفَةِ، ثم يُقالُ للأَرضِ: أنْبتي ثَمَرَتَكِ ورُدِّي بَرَكَتَكِ، فيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ العِصابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ ويَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِها، ويُبارَكُ في الرِّسْلِ حتَّى أنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبلِ لَتكْفي الفِئامَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتكْفي القَبيلةَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتكْفي الفَخِذَ منَ النَّاسِ، فَبَيْنَما هم كذلكَ إذْ بعثَ الله رِيحًا طَيبةً فتأخُذُهُمْ تحتَ آباطِهمْ، فتَقبضُ رُوْحَ كلِّ مُؤْمِنٍ وكُلِّ مُسْلِمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاسِ يَتهارَجونَ فيها تَهارُجَ الحُمُرِ، فَعليْهِمْ تقومُ السَّاعَةُ". قوله: "فإن يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حجيجُهُ دونكم"، (الحجيج): فعيل من (الحجة) بمعنى فاعل، وهو من فعال المغالبة؛ يعني: أنا غالب عليه بالحجة؛ يعني: إن خرج الدجال وأنا فيكم فأكفيكم شرَّه، وأدفعه عنكم، وإلا فليدفعْ كلٌّ منكم شره عن نفسه بما عنده من الحجج القاطعة، والبراهين اللائحة، شرعتها وعقليتها، ويجوز أن يكون الفعيل بمعنى الفاعل كالوزير بمعنى المُؤازِر؛ أي: أنا حجاجه ويحاجني فلا يحتاج أحد من أمتي إلى المحاجَّةِ معه. ويلزم منه: أن يغلبَ الملعونَ؛ لأنه هو النبي المعصوم، فمن حاجَّه من البطلة غلبه، كما فعل الخليل - صلى الله عليه وسلم - بخصمه، وكذا موسى صلوات الله عليه.

فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الدجَّال لا يخرج في زمانه، فما الحكمة في قوله: "إن يخرج وأنا فيكم"؟ قيل: يحتملُ أن يريد بقوله: "وأنا فيكم"؛ يعني: ديني قائم فيكم إلى يوم القيامة، وهو غالبٌ على دعوى كل مفترٍ ومبطلٍ وماحيها، خصوصًا على دعوى من هو أشدُّ إغواء وهو الدجال. ويحتمل أن يريد به: تحقيق خروجه؛ يعني: لا تشكوا في خروجه، فإنه سيخرجُ لا محالةَ. ويحتمل أن يريد به: عدم علمه بوقت خروجه، كما أنه لا يدري متى الساعةُ. ويحتمل أن يريد به: الإخبارَ بأنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ولا يكون بعدَه نبيٌّ، فإن خروجَهُ بعد ختم النبوة. ويحتمل أن يريد به: إعلام الناس بقرب خروجه، ومجيء الساعة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى. ويحتمل أن يريد به: تنبيه أمته على ارتقابِ زمانه، والتعوُّذِ منه، وإن ظهر في أيِّ زمان ظهر، فليستعدَّ المؤمن على مصابرته، والتحمل من شدائده ومشاقه، ولا يغترَّ بزخرفته، بل يصرَّحُ بالحجة لا يبالي، وإذا عزم المؤمن على ذلك، أُثيبَ عليه. قوله: "والله خَلِيفتي على كلِّ مسلم"؛ يعني: والله - سبحانه وتعالى - وليُّ كلَّ مسلم، وحافظه، فيعينكم عليه، ويدفعُ عنكم شرَّه. هذا دليلٌ على أن المؤمن الموقن لا يزال منصورًا، وإن لم يكن معه نبي ولا إمام.

قوله: "شاب قَطَطٌ": يقال: جَعِدٌ قَطَطٌ؛ أي: شديد الجعودة؛ يعني: شعره كشعر الزنج. قوله: "كأني أشبهه بعبد العُزَّى بن قَطَنٍ": (عبد العزَّى) - بضم العين - يهودي (¬1)، وتشبيهه - صلى الله عليه وسلم - بعبد العزى إشارةٌ إلى أنه كذَّاب؛ لأنه من اتَّسم بسمةِ الحدوث، واتصف بصفة النقائص والعيوب لا ينبغي له هذه الدعوى، وكيف حال من هو أضعفُ البشر خلقة، وأنقصهم بنية؛ لكونه مَؤوفًا بأقبحِ آفةٍ، وهو العور؟! فالحاصل: أن في دعواه الكاذبة استحالةٌ عظيمة بحيث يستحيلُ البحث فيه ذهنًا؛ لأن العلمَ بكذبه الصراح بديهيٌّ، فإذن لا حاجةَ إلى البيان والبرهان، فسبحانه عن الشبيه والنظير. قوله: "فمن أدركَهُ منكم فليقرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهف": (الفواتح): جمع فاتحة، وهي أولُ كلِّ شيء؛ يعني: من أدرك زمانه فليقرأ أوائلَ سورة الكهف، فإنه وقي وحفظ من فتنته. ورُوِي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من داومَ على قراءةِ سورِة الكهفِ وُقِي فتنةَ الدجَّال، لو أدرك زمانه". إن قيل: لم خُصِّصت فواتح الكهف من بين سائر القرآن؟ قيل: مثل هذا من التعبدات التي لا يُعقَل معناها، ويحتمل أن يقال: لأن فواتحها مشتملةٌ على قصة أصحاب الكهف، وعصمتهم من دقيانوس وجنده، ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/ 101): أنه وقع عند أحمد: قطن بن عبد العزى، وزاد: فقال: يا رسول الله! هل يضرني شبهه؟ قال: لا، أنت مؤمن، وهو كافر. وهذه الزيادة ضعيفة، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن، وأنه هلك في الجاهلية.

فكذا كل من كان يقرأها يحفظ من شرَّ الدجال ومَكرِهِ. وأيضًا إذا قرأ فواتح الكهف، فاطلع على فضائل أصحاب الكهف؛ لمَّا التجؤوا إلى الله تعالى، وفرُّوا بدينهم إليه من شرِّ دقيانوس، أكرمهم الله بتلك الكرامة، كذلك من ينكر المسيح الدجال يكرمه الله، ويثني عليه كما أثنى عليهم. وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن قد يُبتلى بالظَّلَمة، ويصبر على دينه مع ظلم الظالم، فلا يرى ابتلاءه بالمسيح الدجَّال بدعةً في نفسه دون بقية المؤمنين. قوله: "إنه خارج من خَلَّةٍ بين الشام والعراق": (الخلة): السبيل بينهما؛ يعني: يخرج الدجال من طريق واقع بين الشام والعراق، فيفسد جانب يمينه وجانب يساره، بل جميع جوانب البلاد، إلا مكة والمدينة؛ فإنهما محفوظان من عند الله بالملائكة، والمعصومُ من عصمه الله تعالى. لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاثبتوا" تسليةٌ لقلوب من ابتلي بزمانه، وتنجيةٌ لمن امتثل بأمره، وثبت على دينه، ولو فعل به ما فعل من العقوبات الشديدة. قوله: "وما لبثه في الأرض ... " إلى قوله: "اقدروا له قدره"، قيل: يمكن إجراؤه على ظاهره، فإنه سبحانه على كلِّ شيء قدير، فكما نرى أن الدورة اليومية منقسمة على أربع وعشرين ساعة، ويزيد في أحدهما، وينقص من الآخر، فيمكن أن يطوَّلَ سبحانه فيزيد في يوم واحد أجزاء السنة، ويكون اليوم بقدر سنة. وسؤال الصلوات وجوابه منه - صلى الله عليه وسلم - أنه ينبغي أن تُقدَّر بقدرِ أربعٍ وعشرين ساعة، فيمكن في كل مقدار من هذا خمس صلوات، والله أعلم. وأما إذا حملناه على التأويل المعنوي، فإن استطالةَ الأيام المكروهة واستقصارَ الأيام المحبوبة مشهورٌ عند العرب في نظمهم ونثرهم.

فيكون معناه - والله أعلم -: أن فتنة الدجال وشدة بلائه على المؤمنين تكون في أول الأمر أشدُّ وأصعبُ، وكلما يمتدُّ الزمان، يضعفُ أمره، ويهونُ كيده؛ لأن الحقَّ يزيد كل وقت نورًا وعلاءً، والباطلَ يزيدُ امِّحاءً واضمحلالًا. وأيضًا فإن الناسَ إذا اعتادوا (¬1) بالبلاء والمحنة، فإنه يهون عليهم إلى أن يضمحلَّ أمره وكيده بالكلية، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: يوم كسنةٍ، وشهرٍ، وجمعةٍ. وأما سؤالهم عن صلوات تلك الأيام فمعناه - والله أعلم -: أنهم إذا وقعوا في ذلك البلاء العظيم، فيرخَّص لهم في ترك بعض الصلوات، كما يرخص المريض في ترك بعض الأركان، والمقاتل في بعضها، والمغشي عليه في ترك الجميع، ويلزمه القضاء، فهل تسقطُ عنهم في تلك الأحوال والأهوال؟ فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يسقط عنهم التكليف؛ لبقاء العقلِ المنوطِ به. قوله: "فيأمر السماءَ فتمطرُ، والأرضَ فتنبتُ، فتروحُ عليهم سارحتُهم أطولَ ما كانت ذُرى": (السارحة): الماشية التي تسرحُ بالغداة إلى مراعيها. وقال شمر: (السارحة): الإبل والغنم، ذكره في "الغريبين". (الذُّرى): جمع ذروة، وهي أعلى السنام. و"أسبغَ": أتمَّ. "الضُّروع": جمع الضرع، وهو الثدي. و"أمدَّه"؛ أي: زاده (¬2). "الخواصر": جمع خاصرة، وهي ما تحت الجنب. ¬

_ (¬1) أي: تمرَّسوا. (¬2) فسَّر الشارح لفظة "أمدَّه" على أنها فعل، يقال: أمدَّ الدواة: إذا زاد في مائها. وهي في الحديث اسم تفضيل؛ أي: أكثر امتدادًا؛ لكثرة امتلائها من الشبع.

يعني: يأمر السحاب بأن تمطرَ فتمطرُ، ويأمر الأرض بأن تنبتَ فتنبتُ، فتعود إليهم ماشيتهم سِمانًا كثيرة الدَّر، أسمنَ ما كانت قبل المَحْلِ. وقيل: إنما يريهم ذلك سحرًا وشعبذة، ولو كان ذلك على الحقيقة لَمَا بَعُدَ ذلك؛ أن يفعلَ الله سبحانه هذه الأفاعيلَ عند حركاتٍ يتحرَّك بها الدجَّال، كما أنه خلق الخُوارَ في العجل الذي صاغه السامري ابتلاء وامتحانًا لعباده، ولله سبحانه أن يمتحنَ عبادَهُ بما شاء. "مُمْحِلين"؛ أي: مُجدِبين، (أمحل): إذا دخل في الجدب؛ أي: القحط. "اليعاسيب": جمع يعسوب، وهو سيد النحل. قوله: "فيقطعه جَزْلتين"؛ أي: قطعتين. "رميةَ الغَرَضِ"؛ أي: الهدف، يريد أن بُعدُ ما بين القطعتين رمية الغرض؛ أي: يفصلُ بينهما. تهلَّلَ السحابُ ببرقِهِ: إذا تلألأ، و"تهلَّل وجه الرجل": إذا حَسُنَ من الفرح. قوله: "يضحك": حال من الضمير في فيقبل؛ أي: (فيقبل) ضاحكًا بشاشًا. قوله: "مَهْرُودَتين"؛ أي: شِقَّتين، أو حُلَّتين ملونتين؛ أي: مصبوغتين بالهُرْدِ، وهو صبغ يشبه العُروقَ، والعُروق: نباتٌ أصفر يُصبَغ به، وهو يقال بالفارسية: لا زرد. قال في "شرح السنة": ويروى هذا الحرف: (مهروذتين) بالدال والذال جميعًا؛ أي: مُمَصَّرَتين، والمُمَصَّرةُ من النبات: ما فيها صُفرةٌ. ويروى في وصف عيسى عليه السلام: رجل مربوع إلى البياض والحمرة، يمشي بين مُمَصَّرتين.

"طأطأ رأسه": إذا خفضه، "تحدُّر": إذا نزل، "الجُمان": جمع جمانة، وهي حبَّةٌ تعمل من الفضة كالدُّرة، ذكره في "منتخب الصحاح". يعني: إذا خفض عيسى - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ قطرَ من شعره قطراتٌ نورانية كاللآلئ، وإذا رفع رأسه نزلت تلك القطرات. "بباب لُد"، و (اللُّد) بالضم: موضع. اليدان: الطاقة. "لا يَدَانِ"؛ أي: لا طاقةَ. "الحَدْب": ما ارتفع من الأرض، النسلُ: الإسراع؛ أي: ينزلوا من كل مكان مرتفع بسرعة. (النُّشَّاب) بضم النون وتشديد الشين: السهام، واحده نشابة، والناشب: صاحب السهم. قوله: "فيرغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله"؛ أي: يدعون الله سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم، يقال: (رغب إليه): إذا دعاه، و (رغب فيه)؛ أي: مال إليه، و (رغب عنه)؛ أي: مال عنه. "النَّغَف": الدود يكون في أنوف الإبل والغنم، واحده: نغفة. قوله: "فَرْسَى" بفتح الفاء والسين وسكون الراء: معناه: قتلى، واحده: فَرِيس، مثل: قتيل وقتلى، وصريع وصرعى، من (فرس الذئب الشاة فرسًا): إذا قتلها قتلًا، وأصل ذلك من دقِّ العنق، ثم استعير لكلَّ قتل، ومنه: فريسة الأسد. "البُخت": الإبل، مُعرَّب، (البخاتي) جمعه، ذكره في "منتخب الصحاح". "النَّهْبَل" (¬1): موضع. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية، قال في "القاموس المحيط" مادة (نهبل): وفي "الترمذي" في حديث الدجَّال: فيطرحهم بالنهبل، وهو تصحيف، والصواب بالميم؛ أي: المهبل.

"الجَعاب": جمع جعبة، وهي غلاف النشاب. قوله: "ثم يرسل الله مطرًا لا يَكُنُّ منه بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ": يقال: كننت الشيء وأكننته؛ أي: سترته؛ يعني: ثم يرسل الله مطرًا مِدْرارًا بحيث لا يستُر أحدًا بيتُ مدر ولا وبر من ذلك المطر، (لا يكن ...) إلى آخره صفة لقوله: "مطرًا". وقال أبو عمرو: "الزَّلَف": المصانع، واحدتها: زَلَفَةٌ؛ بفتح الكل، ذكره في "الغريبين"، وقيل: الإجَّانةُ الخضراء. قوله: "يَستظلُّون بقَحْفها": أصل القحف: العظم الذي فوق الدماغ، ثم استُعيرَ في الشجر. قوله: "يُبارَك في الرَّسلِ حتى أن اللِّقحةَ من الإبل لتكفي الفِئامَ من الناس"، (يبارك): يفاعَل - بفتح العين - من (البركة)، وهي: الكثرة والاتساع. و (الرِّسل) بكسر الراء: اللبن، و (اللِّقحة) بكسر اللام: الناقة التي نتجت حديثًا، والجمع: (لِقَح) و (لَقَح) بكسر اللام وفتحها وفتح القاف، و (ناقة لَقوح) بفتح اللام: إذا كانت غزيرة الدر، والجمع: لُقُح؛ بضم اللام والقاف. (الفِئام): الجماعة التي فيها كثرة وسعة من الناس، لا واحدَ له من لفظه، وهو اسم جمعٍ، لا جمع تكسير، وهو كالنسوة بالنسبة إلى المرأة، والقوم بالنسبة إلى الرجل. يعني: تُجعَل البركةُ والخير الكثير في اللبن في ذلك الزمان حتى أن ناقة واحدة ذات لبن، يكفي لبنها لجمع كثير من الناس، وكذلك بقرة واحدة يكفي لبنها لقبيلة عظيمة من الناس، ولبن شاة واحدة أيضًا يكفي لفخذ من الناس. و"الفخذُ في العشائر" أقل من البطن، والبطنُ أقل من القبيلة، والقبيلة: بنو أبٍ واحد.

قوله: "بينما هم كذلك": (ما) في (بينما) عوضٌ عن المضاف إليه، و (إذ) في "إذ بعث" للمفاجأة، والعامل في (بينما) (بعث). يعني: متنعمون في طيب العيش والسعة، ويميلون إليه كلَّ الميل، ويسكنون فيه، ويتمادون في غرة وغفلة عظيمة، فأرسل الله عليهم فجأة ريحًا طيبة بين ذلك الزمانِ الخَضلِ، تجري تحت آباطهم، فيموت جميع من في ذلك الزمان من أهل الطاعة، ويبقى شِرارُ الناس ورذائلهم. "يتهارجون"؛ أي: يختلطون، يقال: هرج القوم يهرجون هرجًا، وهرج الفرس: إذا اشتد عدوه، (يتهارجون): حال من (شرار الناس)؛ يعني: يبقى شرارُ الناس متهارجين مختلطين اختلاطَ الحُمُرِ، "فعليهم تقوم الساعة". * * * 4232 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمنينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ، مَسالِحُ الدَّجَّالِ، فيقولونَ لهُ: أينَ تَعْمِدُ؟ فيقولُ: أَعْمِدُ إلى هذا الذي خَرَجَ، قال فيقولونَ لهُ: أَوَ ما تُؤمِنُ بِرَبنا؟ فيقولُ: ما بِرَبنا خَفاءٌ، فيقولونَ: اقتُلُوه، فيقولُ بعضُهُم لبعضٍ: أليسَ قد نَهاكُمْ ربُّكُمْ أنْ تقتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ، فينطلِقُونَ بهِ إلى الدَّجَّالِ، فإذا رآهُ المُؤْمِنُ قال: يا أيُّها النَّاسُ هذا الدَّجَّالُ الذي ذَكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ النَّاسَ بهِ فيُشَبَّحُ، فيقولُ: خُذوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قال فيقولُ: أما تُؤمِنُ بي؟ قالَ فيقولُ: أنتَ المَسِيحُ الدَّجَّالُ الكَذَّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ بهِ فيُؤْشَرُ بالمِئْشارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قال: ثمَّ يَمْشي الدَّجَّالُ بينَ القِطْعَتَيْنِ، ثمَّ يقولُ لهُ: قُمْ، فيَستوِي قائِمًا، ثُمَّ يقولُ لهُ: أتُؤْمِنُ بي؟ فيقولُ: ما ازْدَدْتُ فيكَ إلا بَصيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقُولُ: يا أيُّها النَّاسُ إنَّهُ لا يَفْعَلُ هذا بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قال: فيأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فيُجعَلُ ما بينَ

رقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فلا يَسْتطيعُ إليهِ سَبيلاً، قال: فَيَأْخُذُ بيدَيْهِ ورِجلَيْهِ فيَقْذِفُ بهِ، فيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قذَفَهُ إلى النَّارِ، وإنَّمَا أُلقيَ في الجنَّةِ". فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهادَةً عندَ ربِّ العالمينَ". قوله: "فيتوجَّهُ قِبَله رجلٌ من المؤمنين"، (القِبَل) بكسر القاف وفتح الباء: النحو والجانب؛ يعني: يقبل نحو الدجال وجانبه رجلٌ من المؤمنين. "المَسالِح": جمع مَسْلَحة، وهم قوم ذوو سلاح. "البصائر": جمع بصيرة، وهي بصر القلب، وهي في الحقيقة انشراحُ الصدور وهدايته، واستقرارُ الهدى فيه. قال الكَلاباذي في "معاني الأخبار": هذا الحديث دليلٌ على أن الدجَّال لا يقدر على ما يريده، وإنما يفعلُ الله تعالى عند حركتِهِ في نفسه ومحل قدرتِهِ ما شاء الله أن يفعله؛ اختبارًا للخلق، وابتلاء لهم؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويَحيى من حيَّ عن بينة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، فيرى من أرادَ الله إضلالَهُ أنه أمطرت السماء وأنبتت الأرض بأمره، فيصدقه، والمؤمن الموقن الذي أراد الله تعالى هدايته، يثبته على إيمانه، فيكذبه، ويستخفُّ بفعله، ويعلم أن السماء أمطرت وأن الأرض أنبتت بإذن الله تعالى، وأن الدجال أهونُ على الله تعالى من أن يقدِرَ على ذلك، فإن سُلَّطَ عليه حتى قتله، أحياه الله تعالى، فيكذبه ويقول: ما كنت فيك أشدَّ بصيرة من اليوم، فيتشجَّعُ المؤمن، ويهلك الكافر الضال الذي أراد الله تعالى أن يضله، فيصدقه بقوله: إنه قتله وأحياه، ثم يريد أن يقتله، فلا يتسلَّطُ عليه، فإن ما كان يفعله على التخييل مثل السحر الذي قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. * * *

4234 - عن أنس، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَتْبعُ الدَّجَّالَ منْ يَهودِ أَصْبَهانَ سَبْعونَ ألفًا عليهِمُ الطَّيَالِسَةُ". قوله: "يتبع الدجال من اليهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة ... " إلى آخره. (الطيالسة): جمع الطيلسان. * * * 4235 - وقالَ: "يأتي الدَّجَّالُ، وهوَ مُحَرَّمٌ عليهِ أنْ يَدخُلَ نِقابَ المَدينةِ، فينزِلُ بَعْضَ السِّباخِ التي تَلي المَدينَةَ، فيخرُجُ إليهِ رَجُلٌ، وهو خَيْرُ النَّاسِ، أو منْ خِيارِ النَّاسِ، فيقولُ: أَشْهدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَديثَهُ، فيقولُ الدَّجَّالُ: أرأَيْتُمْ إنْ قَتلتُ هذا ثمَّ أَحْيَيْتُهُ هلْ تَشُكُّونَ في الأَمْرِ؟ فيقولونَ: لا، فيقتُلُهُ ثمَّ يُحْييهِ، فيقولُ: والله ما كُنْتُ فيكَ أَشَدَّ بَصيرةً منِّي اليَوْمَ، فيُريدُ الدَّجَّالُ أنْ يقتُلَهُ فلا يُسلَّطُ عليهِ". "النِّقاب": جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين، ذكره في "الغريبين". * * * 4236 - عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي المَسيحُ منْ قِبَلِ المَشْرِقِ هِمَّتُهُ المَدينةُ، حتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثمَّ تَصْرِفُ الملائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وهُنالِكَ يَهلِكُ". قوله: "حتى ينزل دبر أحد ... " إلى آخره. الدُّبُرُ والدُّبْرُ: الظَّهرُ، قاله في "منتخب الصحاح". يعني: ينزل الدجالُ خلفَ جبل أحد، ثم تصرفُ الملائكةُ وجهه نحوَ الشام. * * *

4237 - وعن أبي بَكرَةَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَدخُلُ المَدينَةَ رُعْبَ المَسيحِ الدَّجَّالِ، لها يَوْمَئِذٍ سَبعةُ أبوابٍ عَلَى كلِّ بابٍ مَلَكانِ". قوله: "رعبَ المسيح"؛ أي: خوفه. * * * 4238 - عن فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ قالت: سَمِعْتُ مُنادِيَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنادِي: الصَّلاةَ جامِعَةً، فخَرَجْتُ إلى المَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ جَلَسَ عَلَى المِنبرِ وهوَ يَضْحَكُ فقال: "لِيَلزَم كلُّ إنْسانٍ مُصَلاهُ"، ثُمَّ قال: "هلْ تَدرونَ لِمَ جَمعتُكُمْ؟ " قالوا: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "إِنَّي والله ما جَمَعْتُكُم لرَغْبةٍ ولا لرَهْبَةٍ، ولكنْ جَمَعتُكُمْ لأَنَّ تَميمًا الدَّارِيَّ كانَ رَجُلاً نَصْرانِيًّا، فجاءَ وأَسْلَمَ، وحَدَّثَني حَديثًا وافَقَ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُم بهِ عنِ المَسيحِ الدَّجَّالِ، حدَّثَني أنَّهُ ركِبَ في سَفينةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثلاثينَ رَجُلًا منْ لَخْمٍ وجُذامَ، فلَعِبَ بهم المَوْجُ شَهْرًا في البَحْرِ، فَأَرْفَؤُوا إلى جَزيرةٍ حينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فجَلَسُوا في أَقْرُبِ السَّفينةِ فدخَلُوا الجزيرةَ، فلقِيَتهُمْ دابَّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعَرِ، لا يَدْرونَ ما قُبُلُهُ منْ دُبُرِهِ منْ كثرةِ الشَّعَرِ، قالوا: ويلَكِ ما أنتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، انطلِقُوا إلى هذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ فإنَّهُ إلى خَبَرِكُمْ بالأشْواقِ، قال: لمَّا سَمَّتْ لنا رجلًا فَرِقْنا منها أنْ تكونَ شَيطانةً، قال: فانطلَقْنا سِراعًا حتَّى دخَلْنا الدَّيْرَ، فإذا فيهِ أَعْظَمُ إِنْسانٍ ما رأيناهُ قطُّ خَلْقًا، وأشدُّهُ وِثاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَداهُ إلى عُنُقِهِ ما بينَ رُكبَتِهِ إلى كَعْبهِ بالحَديدِ، قُلنا: وَيْلَكَ ما أنتَ؟ قال: قدْ قَدَرْتُمْ علَى خَبرِي فأخبروني ما أنتُمْ؟ قالوا: نَحْنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ ركِبنا في سَفينَةٍ بَحْريَّةٍ فلَعِبَ بنا البَحرُ شَهْرًا فدَخَلْنا الجزيرةَ، فلَقِيَتْنا دابَّةٌ أهْلَبُ فقالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اعْمِدُوا إلى هذا الرَّجلِ في الدَّيْرِ، فأقبَلْنا إليكَ سِرَاعًا، فقال: أَخْبروني عنْ نَخْلِ بَيْسانَ هلْ تُثمِرُ؟ قُلْنا: نَعَم، ثُمَّ قال: أَما إنَّها يُوشِكُ أنْ

لا تُثْمِرَ، قال: أَخْبروني عنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ هلْ فيها ماءٌ؟ قلنا: هيَ كثيرةُ الماءِ، قال: أَما إنَّ ماءَها يُوشِكُ أنْ يذهَبَ، قال: أَخْبروني عنْ عَيْنِ زُغَرَ هلْ في العينِ ماءٌ؟ وهلْ يَزْرَعُ أهلُها بماءِ العَيْنِ؟ قلنا: نعمْ، هيَ كثيرةُ الماءِ، وأهلُها يزرَعونَ مِنْ مائِها، قال: أَخْبروني عنْ نَبيَّ الأُمِّيينَ ما فعلَ؟ قالوا: قد خرجَ من مكةَ ونزلَ يثربَ، قال: أقاتَله العربُ؟ قلنا نعم، قال: كيفَ صَنَعَ بهمْ؟ فأخبرناهُ أنَّهُ قدْ ظَهَرَ علَى مَنْ يَليهِ مِنَ العَرَبِ وأطاعوهُ، قال: أَمَا إنَّ ذلكَ خَيْرٌ لهمْ أنْ يُطيعوهُ، وإنَّي مُخبرُكُم عنَّي، إنَّي أنا المَسِيحُ، وإني أُوشِكُ أنْ يُؤْذَنَ لي في الخُروجِ فأَخْرُجَ فأَسيرَ في الأَرْضِ فلا أَدَعَ قريةً إلَّا هَبَطْتُها في أربعينَ ليلةً غيرَ مكَّةَ وطَيْبَةَ، هُما مُحَرَّمَتانِ عليَّ كِلتاهُما، كُلَّما أَردْتُ أنْ أَدْخُلَ واحِدَةً مِنهُما استقبَلَني مَلَكٌ بيدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عنها، وإنَّ على كلَّ نَقْبٍ منها ملائِكَةً يَحرُسونَها"، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وطَعَنَ بمِخْصَرتِهِ في المِنْبَرِ: "هذِه طَيْبَةُ، هذِه طَيْبَةُ، هذه طيبةُ"، يَعني: المَدينَةَ، "ألا هلْ كنتُ حَدَّثْتُكُمْ؟ " فقالَ النَّاسُ: نعمْ، قال: "ألا إِنَّهُ في بَحْرِ الشَّامِ أوْ بحْرِ اليَمَنِ، لا بَلْ منْ قِبَلِ المَشرِقِ ما هُوَ"، وأَوْمَأَ بيدِه إلى المَشرِقِ. قولها: "ينادي: الصلاة جامعة": في إعرابهما أربعُ صور: رفعهما؛ لكونهما مبتدأ وخبرًا، ونصبهما على تقدير: احضروا الصلاة في حال كونها جامعة، ورفع الأول ونصب الثاني على تقدير: هذه الصلاة في حال كونها جامعة، ونصب الأول ورفع الثاني على تقدير: احضروا الصلاة وهي جامعة، وعلى التقديرات الأربع محلُّ الجملة نصب؛ لكونها مفعول يُنادي، ومفعوله حكاية؛ لأن فيه معنى القول. قوله: "لَخْمٍ وجُذامٍ": قبيلتان. قال الخطابي في "معالمه": "فأرْفَؤوا إلى جزيرة" معناه: أنهم قرَّبوا السفينة إليها، يقال: أرفأت السفينة: إذا قربتها من الساحل، وهذا مرفأ السفن.

و"أَقْرُب السفينة": يريد بها القوارب، وهي سفنٌ صغارٌ تكون مع السفن البحرية، كالجنائب لها، تتخذ لحوائجهم، واحدها: قارب، فأما (الأَقْرُب)؛ فإنه جمعٌ على غير قياس. و"الجسَّاسة": يقال: إنها تجسِّسُ الأخبارَ للدجَّال، وبه سُمِّيت جسَّاسة. و"الأهْلَب": الكثير الهلب، والهلب: الشعر، هذا كله لفظ الخطابي. (الأهلب): الفرسُ الكثير الشعر. ذكره في "منتخب الصحاح". "بيسان" بالباء المنقوطة تحتها بنقطة، وبعدها ياء منقوطة تحتها بنقطتين: موضعٌ ينسب إليه الخمر. و"الزُّغَز" بالزاي والغين المعجمة: موضعٌ قليل النبات. وقيل: (زُغَز) لا ينصرف، فإن كان كما زعم الكلبي: أنه اسم امرأة؛ للتعريف والتأنيث، فهو كامرأة سَمَّيتها بسفر، وإن كان (زُغَر) اسمَ رجلٍ ونُقِلَ غيرَ منصرف، فوجهه أنه كـ (عمر)، أصله: زاغر، لا ينصرفُ للعلمية والعدل. وقيل: علم للبقعة، واشتقاقه من (زغرَ الماء) بمعنى: زخر؛ إما أصلٌ، وإما بدلٌ من الخاء؛ لأن الغين والخاء من حروف الحلق، وبينهما تناسُبٌ. قوله: "بيده السيفُ صُلتًا"، (أصلَتَ السيفَ): إذا جرَّده من غمده، (صلتًا)؛ أي: مصلتًا، وهو مسلول. قوله: "وطعن بمِخْصَرتهِ في المنبر"، (المِخْصَرة): كالسوط، وكلُّ ما اختصر الإنسان بيده، فأمسكه من عصا ونحوها، ذكره في "منتخب الصحاح". سُمِّيت المدينة "طيبة"؛ لأنها طاهرة من الخبث والنفاق، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: "المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها"، ذكره في "شرح السنة". قوله: "ألا إنَّه في بحرِ الشامِ، أو بحرِ اليمنِ، لا بل مِنْ قِبَلِ المشرقِ

ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق": يحتملُ أن يكونَ لتردده - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الزمان؛ لأنه ما كان نزل عليه في ذلك وحيٌ مصرِّحٌ بمحله، بل على الاحتمال كما في علم الساعة. ويحتمل أن يكون لتنقُّلِ الدجَّال في هذه المواضع الثلاثة بمعنى: أنه لا يتجاوزُ هذه المواضع الثلاث، بل كل وقت يتنقلُ من هذه الأمكنة بعضها إلى بعض، فيكون في الأخبار نظير (أو) الإباحاة في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ أي: لا تتجاوزهما. و (ما) في (ما هو) بمعنى الذي؛ أي: الجانب الذي هو فيه. (أومأ)؛ أي: أشار. * * * 4239 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُني الليلَةَ عِنْدَ الكعبةِ، فرأيتُ رَجُلًا آدمَ كأَحْسَنِ ما أنتَ راءٍ منْ أُدْمِ الرِّجالِ، لهُ لِمَّةٌ كأَحْسَنِ ما أنتَ راءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قد رجَّلَها فهيَ تقطُرُ ماءً، مُتَّكِئًا على عَواتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بالبيتِ، فسألتُ مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسيحُ ابن مريمَ"، قال: ثمَّ إذا أنا برجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أعوَرِ العَيْنِ اليُمنَى، كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِيةٌ، كأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بابن قَطَنٍ، واضعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطوفُ بالبيتِ، فسألتُ: مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسِيحُ الدَّجَّالُ". وفي رِوايةٍ: قالَ في الدَّجَّال: "رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسيمٌ، جَعدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَينهِ اليُمنَى، أقرَبُ النَّاسِ بهِ شَبَهًا ابن قَطَنٍ". قوله: "رأيتني الليلة": اعلم أنه لا يجوزُ اجتماعُ ضمير الفاعل والمفعول في شخص واحد؛ يعني: لا يجوز أن تقول: ضربتُني؛ التاء التي هي الفاعل، والياء في لفظة (ني) هي للمفعول، كلاهما ضمير نفسك في اللفظ والمعنى.

أما أفعال القلوب فيجوزُ فيها اجتماعُ ضمير الفاعل والمفعول لشخص واحد، كقولك: ظننتُني منطلقًا، والتاء في لفظة (ظننت) فاعل، والتاء في لفظة (ني) مفعول في اللفظ دون المعنى؛ لأن ظنك واقعٌ على انطلاقك، لا على ذاتك؛ لأنه لا شكَّ لك في ذاتك، فإذا كان كذلك، لم يجتمعْ ضميرُ الفاعل والمفعول في الحقيقة؛ لأن المفعول الثاني هو الحقيقي، إذ هو المظنون وغيره المحقق. وأما (رأيتني) فهو بمعنى: علمتني، والياء مفعوله الأول، و (عند الكعبة) هو الثاني، تقديره: وعلمت نفسي حاصلًا عند الكعبة. قوله: "له لِمَّةٌ كأحسنِ ما أنت راءٍ من اللِّمَم": (اللِّمة): الشعر الذي تجاوزَ شحمةَ الأذن، (لمم): جمعها. و"قد رجَّلها"؛ أي: قد سرَّحها وامتشطها. "العواتق": جمع عاتق، وهو موضع الرداء من الكتف. * * * مِنَ الحِسَان: 4240 - عن فاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ في حديثِ تَميمٍ الدَّارِيِّ قال: فإذا أنا بامرأةٍ تجُرُّ شَعْرَها، قال: ما أَنْتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اذهَبْ إلى ذلكَ القَصْرِ، فأتيتُهُ، فإذا رَجُلٌ يجُرُّ شَعْرَهُ، مُسَلْسَلٌ في الأَغْلالِ، يَنْزُو فيما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، فقُلت: مَنْ أنتَ؟ قال: أنا الدَّجَّالُ. قولها في حديث تميم الداري: "فإذا أنا بامرأةٍ تجرُّ شعرَها": (إذا) للمفاجأة، وهي ظرف مكان يقع خبرًا عن الجثة، وبعده مبتدأ خبره جائزُ الحذفِ.

(أنا): مبتدأ، و (بامرأة): خبره، و (تجر شعرها): صفة للمرأة. وقيل: (إذا) خبرُهُ يجبُ تقديمُه، ولا حاجةَ إلى إضمار خبر آخر، وجعل (إذا) متعلقًا بذلك المحذوف؛ لأن هذا الكلام مفيدٌ، فلا حاجةَ إلى الإضمار، تقول: خرجت فإذا زيد؛ أي: هناك زيد، أو بالحضرة زيد، والعامل في (إذا) استقراره؛ يعني: الفعل المقدر الذي هو متعلقه، والعامل في (بامرأة)؛ إما هو الاستقرار، أو نائبه، وهو (إذا). يعني: قال تميم الداري: رأيتُ فجأةً في بعض أسفاري امرأة كثيرة الشعر، فقلت لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، ومعنى الجساسة ذُكِرَ قبيل هذا. وفي هذا الحديث رُوِي: أن الجساسة امرأة، وفي الحديث المتقدم رُوِي: أن الجساسة دابة، ويحتمل أن الجمعَ بين الحديثين: أن للدجال جاسوسين دابة وامرأة؛ ففي الحديث المتقدم قد رُئيت الدابة، وفي هذا الحديث قد رُئيت المرأة. ويحتمل أن كلاهما شيطان واحد، إلا أن في الحديث الأول: أنه قد رُئي على صورة دابة، وفي هذا الحديث: على صورة امرأة، والشيطانُ يتصوَّرُ على أية صورة شاء. قوله: "فإذا رجل يجرُّ شعرَهُ مسلسلٌ في الأغلال ... " إلى آخره. (مُسلسل): اسم مفعول من (سلسل) مضاعف فعلل، وهو بمعنى: علق. "يَنْزُو"؛ أي: يتحرَّك ويثب مع القيد؛ يعني: فأتيت ذلك القصر، فرأيت رجلًا كثيرَ الشعر مقيدًا بالسلاسل والأغلال معلقًا بين السماء والأرض، ومع ذلك القيدِ والغلِّ كان مضطربًا بلا قرارٍ. * * *

4241 - عن عُبادَة بن الصَّامِت، عن رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي حَدَّثتُكُمْ عنِ الدَّجَّالِ حتَّى خَشِيْتُ أنْ لا تَعْقِلوا، إنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ قَصيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أعوَرُ، مَطْموسُ العينِ، ليستْ بناتِئَةٍ ولا حَجْراءَ، فإنْ أُلْبسَ عليكُمْ فاعلَمُوا أنَّ ربَّكُمْ ليسَ بأَعوَرَ". قوله: "حتى خشيتُ أن لا تعقِلوا"؛ يعني: خشيت أن لا تفهموا ما حدثتكم في شأن الدجال، أو تنسوه من كثرة ما قلتُ من وصفه: "إن المسيحَ الدجال" مكسور الهمز؛ لأنه مفتتح الكلام. "الفَحَج": تباعدُ ما بين الساقين في الإنسان والدابة. "مطموسُ العين"؛ أي: ذاهب أثرها من غير محق، من (طمس): إذا ذهب أثرُ الشيء وانمحى. قوله: "ولا حَجْراء"؛ أي: عينه ليست بمنخفضة ولا مرتفعة. و (الجَحْراء) بتقديم الجيم: العين التي قد انخسفت، فبقي مكانها غائرًا كالجحر. قوله: "فإن أُلبسَ عليكم فاعلموا أنَّ ربَّكم ليس بأعورَ"، (الإلباس): الخلط والاشتباه؛ أي: إن اشتبهَ عليكم دعواه الكاذبة في الهيئة، فاعلموا أن هذا ليس بإله لنقصانه، وهو العور، وربكم ليس بأعور؛ يعني: فاعلموا أنه تعالى منَّزهٌ عن سمة الحدوث، فضلًا عن النقائص والعيوب، وفيه دليلٌ على جواز إثبات ذاته تعالى وصفاته القديمة بالمعقول؛ إذ كلُّ ما في الوجود من الحوادث لا بدَّ لها من أن تنتهي إلى شيء يقوم بنفسه، ولا يحتاج إلى مُوجِد، وذلك المُنتهى إليه الدالُّ عليه البرهانُ العقلي هو واجبٌ بنفسه، مُستغنٍ عن غيره، وهو المعبودُ الحقُّ الذي يُسمَّى إلهًا. والوهمُ لكثرة ما يُشاهِدَ القائم بغيره يُشكك، ويقول: كيف يقوم شيء

بنفسه؟ فيغفل عن الدلالة العقلية، إذ لو لم ينتهِ إلى واجب الوجود بذاته؛ لزم منه الدور أو التسلسل، وكلاهما محالٌ، فجاء البرهان العقلي، فقطع الوهم عن أصله، وأثبت واجبَ الوجود بنفسه. * * * 4242 - عن أبي عُبَيْدةَ بن الجَرَّاحِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّهُ لمْ يكُنْ نبيٌّ بعدَ نُوحٍ إلَّا قدْ أنذَرَ الدَّجَّالَ قومَهُ، وإنِّي أُنْذِرُكُموهُ"، فَوَصَفَهُ لنا فقالَ: "لعلَّهُ سيُدْرِكُهُ بعضُ مَنْ رآني أو سمِعَ كلامي"، قالوا: يا رسولَ الله! فكيفَ قُلوبنا يَوْمَئِذٍ؟ قال: "مِثْلُها - يعني: اليومَ - أو خَيْرٌ". قوله: "بعضُ من رآني أو سمع كلامي": والمراد بمن سمع كلامَهُ: مَن وصل إليه الأحاديث، وإن كان بعدَ طول زمان. * * * 4244 - عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عنهُ، فوالله إنَّ الرَّجُلَ لَيأْتِيهِ وهو يَحسِبُ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بهِ مِنَ الشُّبُهاتِ". قوله: "من سمع بالدجَّال فلينْأَ منه"؛ أي: من سمعَ بخروج الدجَّال، فليبعدْ منه. قوله: "فوالله إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ، فيَّتبعُهُ مما يُبعَثُ به من الشُّبهات"؛ يعني: أن الرجل الذي يحسب أنه مؤمنٌ يأتي الدجالَ، فيتبعه من أجل ما يبعث به - أي: يثيره - من الشبهات؛ يعني: السحر، أو إحياء الأموات، وغير ذلك.

فإذا أكَّد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إتباعَ بعض أمته الدجَّالَ باليمين بالله سبحانه، فينبغي لمن سمع خروجه أن لا يأمنَ من فتنته، ويبعدَ منه بُعدَ المشرقين، حتى لا يقعَ في تلك الفتنة، فإنها عظيمة، بل أعظمُ الفتن، وتُهلِك مَنْ تهلك، والمعصومُ من عصمه الله سبحانه وتعالى. * * * 4245 - عن أسماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمْكُثُ الدَّجَّالُ في الأَرْضِ أَرْبعينَ سَنَةً، السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعةِ، والجُمُعةُ كاليَوْمِ، واليَوْمُ كاضْطِرامِ السَّعَفَةِ في النَّارِ". قوله: "كاضطرام السَّعَفَةِ في النار"، (الاضطرام): افتعال من (الضرام)، وهو اشتعال النار، وأصله: اضترام، قُلبت التاء طاء؛ لتجانس الطاء والضاد؛ لأنهما من حروف الإطباق. (السَّعَفة) بفتح العين: واحدة السَّعف، وهو غصن النخيل، قاله في "الصحاح". يعني: كسرعة التهاب النار بورق النخل. * * * 4246 - عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ منْ أُمَّتي سَبعونَ ألفًا عليهِمُ السِّيجانُ". "السِّيجان": جمع الساج، وهو الطيلسان الأخضر. * * * 4247 - عن أَسْماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيتي، فذكرَ

الدَّجَّالَ فقال: "إنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثلاثَ سِنينَ: سنةٌ تُمْسِكُ السَّماءُ فيها ثُلُثَ قَطْرِها والأَرْضُ ثُلُثَ نبَاتِها، والثَّانِيةُ تُمْسِكُ السَّماءُ ثلُثَيْ قَطْرِها والأَرْضُ ثلُثَيْ نبَاتِها، والثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّماءُ قَطْرَها كُلَّهُ والأَرْضُ نبَاتَها كُلَّهُ، فلا يبقَى ذاتُ ظِلْفٍ ولا ذَاتُ ضرْسٍ مِنَ البَهائِمِ إلَّا هلكَ، وإنَّ أَشَدَّ فِتنَتِهِ أنَّهُ يأتي الأَعْرابيَّ فيقولُ: أرأَيْتَ إنْ أحيَيْتُ لكَ إبلَكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أنِّي رَبُّكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيُمثَّلُ لهُ نحوَ إبلِهِ كأَحْسَنِ ما يكونُ ضُرُوعًا وأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً" قال: "ويأتي الرَّجُلَ قدْ ماتَ أَخُوهُ، وماتَ أبوهُ، فيقولُ: أرأيتَ إنْ أَحْيَيْتُ لكَ أباكَ وأخاكَ ألسْتَ تَعْلَمُ أنِّي ربُّكَ؟ فيقولُ: بَلَى، فيُمَثَّلَ لهُ الشَّياطِينُ نحوَ أبيهِ ونَحْوَ أخيهِ"، قالت: ثُمَّ خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم لحاجَتِهِ، ثمَّ رَجَعَ والقَومُ في اهتِمامٍ وغَمٍّ ممَّا حدَّثهُمْ، قالت: فأخذَ بِلُجْمتَي البابِ فقالَ: "مَهْيَمْ أسماءُ؟ " قلتُ: يا رسولَ الله! لقدْ خَلَعْتَ أفئِدَتَنَا بذِكرِ الدَّجَّالِ، قال: "إنْ يَخْرُجْ وأنا حَيٌّ فأنا حَجِيجُهُ، وإلَّا فإنَّ ربي خَليفَتي على كُلِّ مُؤمنٍ"، فقُلتُ: يا رسولَ الله! والله إنَّا لَنَعْجنُ عَجينَنا، فما نَخْبزُهُ حتَّى نَجُوعَ، فكيفَ بالمُؤْمنينَ يَوْمَئِذٍ؟ قال: "يَجْزِيهِمْ ما يُجْزِي أهلَ السَّماءِ مِنَ التَّسبيح والتَّقْديسِ". قوله: "فلا يبقى ذات ظِلْفٍ، ولا ذات ضرسٍ من البهائم"، (ذات الظلف): عبارة عن البقر والشاء والظبي، و (ذات الضرس): عبارة عن السباع. قوله: "أرأيت إن أحييت"، (أرأيت)؛ أي: أخبرني. (أرأيت) معناه: أعلمت، أو شاهدت؟ فإذا كان كذلك فمعناه: أخبرني عما شاهدت، فلما كان الرؤية والعلم سببين لحصول العلم، جاز أن يطلبَ منه أن يخبره بذلك. قوله: "بلُحْمَتَي البابِ"؛ أي: بعضادتيه وعضديه.

5 - باب قصة ابن الصياد

قوله: "مَهْيَمْ"، (مهيم): كلمة يمانية معناه: ما لك؟ وما شأنك؟ و (أسماء) منادى مفرد معرفة، وحُذِفَ منه حرف النداء تخفيفًا، تقديره: يا أسماء. قوله: "والله إنا لنعجِنُ عجينَنا فما نقدرُ أن نخبزَهُ حتى نجوعَ" الحديث. يعني: إنا لنعجن الدقيقَ ونهيئه للخبز، فما نقدر أن نخبزه لأجل هَمٍّ عظيم خلعَ أفئدتنا، وحيَّر عقولَنا بذكر الدجال، فكيف حال من ابتلى بزمانه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجزِئهم ما يُجزِئ أهلَ السماءِ من التسبيح والتقديس". يعني: يكفيهم ما يكفي الملأ الأعلى من التسبيح والتقديس؛ يعني: من ابتلي بزمانه في ذلك اليوم لا يحتاجُ إلى الأكل والشرب، كما لا يحتاجُ الملأ الأعلى إليهما. * * * 5 - باب قِصَّةِ ابن الصَّيَّادِ (باب قصة ابن الصياد) قيل: ابن صيَّاد ليس بدجَّال، بل هو يهودي وُلِدَ في المدينة، ومعروف أبواه، وقيل: هو دجَّال. مِنَ الصِّحَاحِ: 4248 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ عُمرَ بن الخَطَابِ انطلقَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ منْ أَصْحابهِ قِبَلَ ابن صيَّادٍ حتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ معَ الصِّبيانِ في أُطُمِ بني مَغالةَ، وقدْ قارَبَ ابن صيَّادٍ يَوْمَئذٍ الحُلُمَ، فَلَمْ يَشعُرْ حتَّى ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ظَهْرَهُ بيدِه ثمَّ قالَ: "أتشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فنظرَ إليهِ فقالَ: أَشْهَدُ أنَّكَ رسولُ الأُمِّيينَ، ثُمَّ قال ابن صيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟

فَرَضَّهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قالَ: "آمنتُ بالله ورسولِهِ"، ثُمَّ قالَ لابن صيّادٍ: "ماذا تَرَى؟ " قال: يأتِيني صادِقٌ وكاذِبٌ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِّطَ عَلَيكَ الأمرُ"، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي خَبأْتُ لكَ خَبيئًا"، وخَبأَ لهُ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}، فقالَ: هوَ الدُّخُّ، قالَ: "اخْسَأْ، فلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"، قال عُمَرُ: يا رسولَ الله! أتأذَنُ لي فيهِ أضْرِبْ عنُقَه؟ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ يَكُنْ هوَ فلا تُسلَّطُ عليهِ، وإنْ لمْ يكُنْ هوَ فلا خيرَ لكَ في قتلِهِ"، قال ابن عمرَ: انطلقَ بعدَ ذلكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأُبَيُّ بن كَعْبٍ الأَنْصارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ التي فيها ابن صيَّادٍ، فطَفِقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ، وهوَ يَخْتِلُ أنْ يسمعَ منْ ابن صيَّادٍ شيئًا قبلَ أنْ يراهُ، وابن صيَّادٍ مُضْطَجِعٌ علَى فِراشِهِ في قَطِيفَةٍ لهُ فيها زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابن صيَّادٍ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ فقالت: أيْ صَافِ! وهوَ اسمُه، هذا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابن صيَّادٍ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تَرَكَتْهُ بيَّنَ"، قالَ عبدُ الله بن عُمَرَ: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاس فأثنَى على الله بما هوَ أَهْلُهُ، ثمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فقالَ: "إنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وما منْ نبَيٍّ إلا وقدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لقد أنذرَهُ نُوحٌ قومهُ، ولكنِّي سأقولُ لكمْ فيهِ قَوْلًا لمْ يقلْهُ نبيٌّ لقومِهِ: تعلمونَ أنَّهُ أَعْوَرُ، وأنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ". قوله: "في رهط من أصحابه"، (الرهط): ما دونَ العشرةِ من الرجال، لا يكون فيه امرأةٌ، وهو اسمُ مفرد وُضعَ للجمع. قوله: "حتى وجدوه يلعب"، (حتى) ها هنا: حرفُ ابتداءٍ يُستأنَفُ بعده الكلام، ويفيدُ انتهاءَ الغاية، و (يلعب) حال من الضمير المنصوب في (وجدوه)، والعامل فيه ما يعمل في ذي الحال، وهو قوله: (وجدوا). و"الأُطُم": جمع آطام، وهو الحصن. "رصَّه" بالصاد غير المعجمة؛ أي: ضغطه وضمَّ بعضه إلى بعض، ومنه:

{بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. قال في "شرح السنة": (رضَّه) بالضاد المعجمة؛ أي: كسره. قال الخطابي: صوابه: أن يكون بالصاد غير المعجمة. قوله: "ماذا ترى؟ قال: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ"؛ يعني: قال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتيك ما يقول لك؟ قال: يحدثني بشيء قد يكون صادقًا، وقد يكون كاذبًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِّط عليك الأمرُ"؛ يعني: هو شيطان يغويك، فيخلط عليك الكذب بالصدق. (خَبَأ): أضمر. "الدُّخُّ": الدخان. قال الشاعر: عندَ رواقِ البيتِ يغشَى الدُّخَّا أي: تلقي الدخان عنده. قوله: "اخسَأْ فلنْ تعدوَ قدرَك": (اخسأ): كلمة زجر للكلب، استعمله فيه حقارة له؛ يعني: أبعِدْ عن الإخبار بالمغيبات، أين أنت عن هذا؟ (فإنك لن تعدو قدرك)؛ يعني: لن تقدر على الإخبار عن الغيب، فإنك لست بنبي، ولا الذي يأتيك ملك، بل شيطان أو جني، فإذا كان كذلك، فلا يحصل لك علمُ الغيب لا محالة. قوله: "إن يكنْ هوَ لا تُسلَّط عليه": (هو) ضمير الدجال؛ يعني: إن يكن الدجَّال ابن صياد، فلا تقدر أن تقتله؛ لأن قاتله يكون عيسى - صلى الله عليه وسلم -. قال الخطابي في "المعالم": وقد اختلف الناسُ في أمر ابن الصياد اختلافًا شديدًا، وأشكل أمره حتى قيل فيه كلُّ قول.

وقد يسأل عن هذا فيقال: كيف بقَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يدَّعي النبوة كاذبًا، ويتركه بالمدينة يساكنه في داره، ويجاوره فيها؟ وما معنى ذلك؟ وما وجُه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان؟ وقوله بعد ذلك: "اخسأ فلن تعدو قدرك"؟ قلت: والذي عندي: أن هذه القصة إنما جرت معه أيامَ مهادنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ وحلفاءَهم، وذلك أنه بعد مقدمه المدينةَ: كتب بينه وبين اليهود كتابًا صالحهم فيه على أن لا يُهاجوا، وأن يُتركوا على أمرهم، وكان ابن الصياد منهم، أو دخيلًا في جملتهم، وكان يبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُهُ، وما يدَّعيه من الكهانة، ويتعاطاه من الغيب، فامتحنه - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ليرُوزَ به أمرَهُ، ويَخبرَ شأنَهُ، فلمَّا كلَّمه علم أنه مبطل، وأنه من جملة السحرة والكهنة، أو ممن يأتيه رِئيٌّ من الجن، أو يتعاهده شيطان، فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به، فلما سمع منه قول: الدخ، زَبَرَهُ وقال: "اخسأ فلن تعدوَ قدرك" يريد: أن ذلك شيء اطَّلعَ عليه الشيطان، فألقاه إليه، فأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبل الوحي السمائي، إذ لم يكن له قدرُ الأنبياء الذين يُوحَى إليهم علم الغيب، ولا درجةُ الأولياء الذين يقيمون العلم، ويصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تاراتٌ يصيب في بعضها، ويخطئ في بعض، وذلك معنى قوله: (يأتيني صادق وكاذب)، فقال له عند ذلك: "قد خلط عليك". فالجملةُ من أمره: أنه كان فتنة قد امتحنَ الله به عباده المؤمنين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة، وقد امتُحِنَ قومُ موسى عليه السلام في زمانه بالعجل، فافتتن به قوم وهلكوا، ونجا من هداه الله، وعصمه منهم. هذا كله لفظ الخطابي. قوله: "وهو يختل"؛ يعني: يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسترقَ السمع من ابن الصياد على غفلةٍ منه؛ ليعلم أنه على الحق، أو على الباطل.

قال في "شرح السنة": ومنه: ختلُ الصيدِ، وهو أن يؤتى من حيثُ لا يشعر، فيُصاد. قوله: "له فيها زمزمة": أورد في "شرح السنة": وقال يونس، عن الزهري: (زمزمة) بالزاي. وقال: عقيل عن الزهري: (رمرمة) بالراء. وقال معمر عن الزهري: (رَمْزَة) أو (زَمْرَة). قال الشيخ: هذه الألفاظ معانيها متقاربة؛ (الرمرمة) تكون بمعنى الحركة؛ يعني: إذا كانت بالراءين المهملتين، و (الزمزمة) بالزاي: الصوت، يقال: زَمْزَمَ يزمزِمُ زمزمةً: صوَّت. وقيل في شأن زمزم: سميت به؛ لصوتٍ كان من جبريل عليه السلام عندها يشبه الزمزمة. وقيل: لأن هاجر زمَّت الماء؛ لتحجر عليه، وأصلها: زمهم. ومن قال: (رمزة) فمن الرمز، وهو الإشارة، وقد تكون بالعينين والحاجبين والشفتين، وأصله: الحركة. هذه اللفظة مروية في "شرح السنة" على سبيل الترديد. "قال: زمزمةٌ، أو رمرمةٌ"؛ يعني: وردت هذه اللفظة؛ إما بالزايين المعجمتين، أو بالراءين المهملتين. قال الإمام شهاب الدين التُّوِرِبشتي في "شرحه": ورواه بعضهم بالراء المهملة، وهو تصحيف. "أيْ صافِ"؛ يعني: يا صاف! "فتناهى"؛ أي: سكت وترك الكلام.

قوله: "لو تركته بيَّن"؛ يعني: لو تركته أمُّه بحاله، ولم تخبره بمجيئي، لبيَّن ما في نفسه، وكنت أسمعُ ما يقول وأعرفه. * * * 4249 - عن أبي سعيدٍ الخدْرِيِّ قال: لقِيَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ في بَعْضِ طُرُقِ المَدينةِ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فقال هو: تَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمنتُ بالله وملائِكتِهِ وكُتُبهِ ورُسُلِهِ، ما تَرَى؟ " قال: أَرَى عَرْشًا على الماءِ, فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرَى عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ، وما تَرَى؟ " قالَ: أَرَى صادِقَيْنِ وكاذِبًا، أو كاذِبَيْنِ وصَادِقًا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لُبسَ عليهِ فَدَعوهُ". قوله: "أرى صادقين وكاذبًا أو كاذبين وصادقًا"؛ يعني: يأتيني شخصان يخبران بما هو صدق، وشخص يخبرني بما هو كذب، أو بالعكس. والشكُّ من ابن الصياد في عدد الصادق والكاذب دليلٌ على اختلافه وافترائه؛ لأن مَنْ كان مؤيدًا بالتأييد الرباني والوحي السماوي لا يُخلَّى هو وجهله. قوله: "لُبسَ عليه فدعوه"، (التلبيس): التخليط. (فدعوه)؛ أي: اتركوه؛ يعني: أعرضوا عنه، فإنه قد خلط عليه أمره، فحينئذ لا يُعوَّل على قوله وفعله، وهذا دليلٌ على أن مَن زلَّ قدمه عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وما أفاق عن نيَّة ضلالته وغوايته بعد أن لاحتْ له البراهينُ الساطعة، والدلائل اللائحة، فينبغي أن نُعرِضَ عنه. * * * 4250 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ ابن صَيَّادٍ سأَلَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ تُربةِ

الجنَّةِ، فقال: "دَرْمَكَةٌ بَيْضاءُ مِسْكٌ خالِصٌ". قوله: "دَرْمَكَةٌ بيضاء"، (الدرمكة): الدقيقُ الحواريُّ الأبيض، فإذا كان كذلك فقوله: (بيضاء) للتأكيد، كما تقول: أبيضُ يَقَقٌ، وإنما شبَّه تربةَ الجنة بالدرمكة لبياضها، وبالمسك لطيبها. * * * 4251 - عن نافعٍ قال: لقيَ ابن عُمرَ ابن صَيَّادٍ في بَعْضِ طُرُقِ المدينةِ، فقالَ لهُ قولًا أَغْضَبَهُ، فانتَفَخَ حتَّى مَلأَ السِّكَّةَ، فدخلَ ابن عُمرَ على حَفْصَةَ وقدْ بَلَغَها، فقالتْ لهُ: رَحِمَكَ الله، ما أَرَدْتَ منْ ابن صَيَّادٍ؟ أما علِمْتَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما يَخْرُجُ منْ غَضْبَةٍ يغضَبُها". قوله: "فانتفخ"؛ أي: صار ذا نفخٍ؛ يعني: صار بدنه منتفخًا ذا ريحٍ من الضبِ "حتى ملأ تلك السِّكةً" من بدنه. قوله: "قد بلغها"؛ أي: بلَّغَ ابن عمر تلك القصة التي جرت بينه وبين ابن الصياد إلى حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: "رحمكَ الله ما أردت من ابن صياد؟ " (ما) في (ما أردت) للاستفهام، محله نصب؛ لكونه مفعول (أردت) مقدَّمًا عليه؛ أي: أيَّ شيء أردتَ منه، و (من) مفعول ثانٍ لها، تقول: أردتُ من زيد الخيرَ. قوله: "إنما يخرجُ من غضبةٍ يغضبها"؛ يعني: إنما يخرج الدجَّال حين يغضب. * * * 4252 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: صَحِبْتُ ابن صَيَّادٍ إلى مَكَّةَ، فقالَ

لي: ما لقيتُ من النَّاسِ؟ يَزْعُمونَ أنِّي الدَّجَّالُ، أَلَسْتَ سَمِعْتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: إِنَّهُ لا يُولَدُ لهُ؟ وقدْ وُلِدَ لي، أوَ ليسَ قدْ قالَ: هو كافِرٌ؟ وأنا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قدْ قالَ: لا يَدْخلُ المدينةَ ولا مَكَّةَ؟ وقدْ أَقْبَلْتُ منَ المدينةِ وأنا أُريدُ مَكَّةَ، ثمّ قال لي في آخِر قولهِ: أَمَا والله إنَّي لأَعْلَمُ مَوْلِدَهُ ومكانَهُ وأيْنَ هوَ، وأعرفُ أباهُ وأُمَّهُ، قال: فَلَبَسَنِي، قال: قلتُ لهُ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ. قال، وقيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أنَّكَ ذاكَ الرَّجُلُ؟ قال: فقالَ: لوْ عُرِضَ عليَّ ما كَرِهْتُ. قوله: "ما لقيتُ من الناس؟ ": (ما) في (ما لقيت) استفهامٌ بمعنى الإنكار، منصوب تقديره: أيَّ شيءٍ لقيت؟ و (من) في (من الناس) بيان موضع اللقيان؛ أي: اللقيانُ صَدَرَ من الناس لا من غيرهم، أو لابتداء الغاية؛ يعني: ابتداء اللقاء من الناس، ولم يُخبر عن المنتهى؛ يعني: اقتصر على اللقيان منهم دون غيرهم. قوله: "لأعلم مولده ومكانه وأين هو": (لأعلم)؛ أي: لأعرف. (مولده)؛ أي: زمان ولادته. و (مكانه)؛ أي: مكان ولادته. والواو في (وأين) لعطف جملة على جملة؛ أي: وأعلم مكانه الذي الآن فيه؛ إذ الإنسانُ قد لا يلزم المولد. فإن قيل: (أعلم) بمعنى: أعرف، و (أين هو) معلق، والتعليقُ يكون في أفعال القلوب المتعدية إلى المفعولين، وهنا متعد إلى واحد؟! قيل: يجوز في الواحد أيضًا، تقول: عرفت متى تخرج؛ أي: زمان خروجك، فترى [أنه] قد عُلِّق، وكذا هنا، ويجوز في المعطوف ما لا يجوزُ في المعطوف عليه، كقول العرب: ربَّ رجل وأخيه، ولا يقال: ربَّ أخيه، ويقال:

لا رجلَ في الدار وأخاه، ولا يجوز: لا أخاه. قوله: "فلبَّسني" يحتمل معانٍ: الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُعينْ مولده ومكانه، بل تركه مُلتبسًا، فصار مُلْتَبسًا على الصحابي. الثاني: أنه أوقعني في الشكِّ بقوله: قد وُلِدَ لي، وبدخوله مكة والمدينة، وقد يكون يظن الصحابي: أنه الدجَّال، فلمَّا خلط فيما قال، التبسَ عليه. والثالث: أنه حين ادَّعى نفيَ صفات الدجال عنه، وادعى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، توهَّمَ الصحابي أنه مسلم، وبعد ذلك لمَّا ادعى علم الغيب باعترافه: أنه يعرف الدجَّال وموضعه وخروجه وأوانه، فقد ادَّعى علمَ الغيب، ومن ادعى علم الغيب كفرَ، فالتبس على الصحابي إسلامُهُ وكفرُهُ، فلهذا قال: لبسني. فإن قيل: (لَبَسْتَ) يتعدَّى، تقول: لَبَسْتَ الأمرَ على فلان، فإذا ضُوعِف تعدَّى إلى اثنين، فأين الثاني هنا؟ قيل: يكون محذوفًا؛ أي: لَبَّسني حالَهُ؛ أي: جعلَ حالَهُ يلتبسُ عليَّ، أو نسبني إلى اللبس، فتوهَّمَ أنه يلتبسُ عليَّ، كما تقول: فسَّقته؛ أي: نسبته إلى الفسق. قوله: "تبًا لك سائر اليوم"؛ أي: خُسرانًا لك جميع اليوم، أو باقي اليوم؛ يعني: ما تقدم من اليوم قد خسرت فيه، فكذا في باقيه، ونصب (سائر) على الظرف، اكتسب الظرفية من المضاف إليه، كما تقول: جميع اليوم، وبعض اليوم. و (تبًا): من المصادر الواجب إضمارُ عاملها؛ لأنه صار بدلًا من اللفظِ بالفعل، وحاصلُهُ عُلِم بانتصابه على المفعولية، ومعناه معنى الفعل، فاستغنى عن الفعل.

قوله: "لو عُرِض عليَّ ما كرهت"؛ يعني: لو عرض عليَّ ما جعل في الدجال من الإغواء والخديعة والتلبيس وغير ذلك؛ لما كرهت، بل قبلت، هذا دليلٌ واضح على كفره. * * * 4253 - وقالَ ابن عُمَرَ: لقِيتُهُ وقد نَفَرَتْ عَيْنُه، فَقُلْتُ: متَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ ما أَرَى؟ قال: لا أَدْرِي، قلتُ: لا تَدرِي وهيَ في رَأْسِكَ؟ قال: إنْ شاءَ الله خلَقَها في عَصاكَ، قال: فنخَر كأشَدِّ نَخِيرِ حِمارٍ سَمِعْتُ. قوله: "لقيتُهُ وقد نَفَرَتْ عينُهُ": الضمير المنصوب في (لقيته) لابن الصياد. قال في "الغريبين": (نَفَرت)؛ أي: وَرِمت، وهو مأخوذ من (نفار الشيء عن الشيء) وهو: تجافيه عنه، (وقد نفرت عينه) جملة وقعت حالًا من الضمير المنصوب في (لقيته)، والماضي إذا وقع حالًا لا بد من (قد) ظاهرة أو مقدرة؛ لأن (قد) ظاهرة أو مقدرة تقرِّبُ الماضي من زمن الحال. قوله: "فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ " (متى): موضوع للسؤال عن الزمان، و (ما) في (ما أرى) موصول تقديره: ما أراه، والضميرُ العائدُ من الصلة إلى الموصول إذا كان منصوبًا حذفُهُ حسنٌ. ومعناه: متى فعلت عينُكَ الألمَ الذي أراه بك وتشويهَ الخِلقَةِ؟ أراد: متى فعلت العينُ بنفسها هذا الورمَ القبيحَ؟ أو أراد نسب الفعل إلى العين مجازًا، والمراد غيره، وكأنه لبَّس على ابن صياد، فنسبَ الفعلَ إلى العين يمتحنه، هل يوافق أم يخالف؟ قوله: "إن شاء الله خلقها في عصاك": قال الإمام التُّورِبِشتي في "شرحه":

يريد أن كون العين في رأي لا يقتضي أن أكونَ منها على خبر، فإن الله قادر أن يخلق مثلها في عصاك، والعصا لا تكون منها على خبر، وكأنه ادعى بذلك الاستغراقَ وعدم الإحساس، هذا كله لفظه. والتحقيقُ: أن ابن الصياد كان رجلًا ناقصَ العقل، ويدلُّ عليه قوله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتيني صادق وكاذبان، فيدلُّ على أن الغالبَ عليه إلقاءُ الجن الكذب في قلبه، فلا اعتبار بكلامه، وإنما نقل ما سَمِعَ منه؛ ليُعلَمَ أنه كان مخبط العقل، وإن تُكُلِّفَ له تأويلٌ فيمكنُ أن يقال: إن ابن عمر استبعدَ منه كونه غافلًا عن نفور عينه متى كان، فقال ابن الصياد: إن الله سبحانه قادر على أن يجعل العضوَ المتصل بالإنسان غيرَ مشعور به كالمخلوق في غيره، وهو قوله: إن شاء الله خلقها في عصاك. قوله: "فنخرَ كأشدِّ نخيرِ حمارٍ سمعت"، (النخير): صوت بالأنف، تقول منه: نخر ينخر نخيرًا، و (النُّخَرَة) مثل (الهُمَزة): مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير، ذكره في "الصحاح". يعني: مَدَّ النَّفَسَ في الخيشوم بحيث سمعتُ منه صوتًا منكرًا. * * * 4254 - عن مُحَمَّدِ بن المُنْكَدِر - رضي الله عنه - قال: رَأَيتُ جابرَ بن عبدِ الله يَحْلِفُ بالله أنَّ ابن الصَيَّادَ الدَّجَّالُ، قلتُ: تَحلِفُ بالله؟ قال: إنِّي سَمِعْتُ عُمرَ يَحلِفُ على ذلكَ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ يُنكِرْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "يحلفُ على ذلك عندَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ ينكرُهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -"، (ذلك) إشارةٌ إلى قول جابر: إن ابن الصياد هو الدجال، ووجهُ حلفِ عمرَ - رضي الله عنه - بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن ابن الصياد هو الدجال، ولم ينكر عليه: أن الدجال معناه:

الدجالي؛ يعني: فيه صفة الدجال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون ثلاثون دجَّالًا"، معناه: سيظهر دجالون كذابون يزعمون النبوة، ويضلون الناس، ويفتتونهم. * * * مِنَ الحِسَان: 4256 - وعن جابر - رضي الله عنه - قالَ: "فُقِدَ ابن صيّادٍ يومَ الحَرَّةِ". "يوم الحَرَّةِ": يومٌ مشهورٌ بين العرب. * * * 4257 - عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمْكُثُ أبَوا الدَّجَّالِ ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لهما ولَدٌ، ثمَّ يُولَدُ لهُما غُلامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ، وأقلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا يَنامُ قلبُهُ"، ثمَّ نَعَتَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَوَيْهِ فقالَ: "أبوه طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ، كأنَّ أنفَهُ مِنْقارٌ، وأُمُّهُ امرأَةٌ فِرضَاخِيَّةٌ طَويلةُ اليدَيْنِ"، فقالَ أبو بَكْرَةَ - رضي الله عنه -: فَسَمِعْنا بمَولودٍ في اليهودِ بالمدينةِ، فذهبتُ أنا والزُّبَيْرُ بن العَوّامِ حتَّى دخَلْنَا على أبَوَيْهِ، فإذا نَعْتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيهما، فقُلْنا: هلْ لكُما وَلَدٌ؟ فقالا: مَكَثْنا ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لنا وَلَدٌ، ثمَّ وُلِدَ لنا غُلامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ وأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا ينَامُ قلبُهُ، قال: فَخَرَجْنا منْ عِنْدِهِما فإذا هو مُنْجَدِلٌ في الشَّمْسِ في قَطيفَةٍ ولهُ هَمْهَمَةٌ، فكَشَفَ عنْ رأسِهِ فقالَ: ما قُلتُما؟ قُلْنا: وهلْ سَمِعْتَ ما قُلناه؟ قال: "نَعَمْ، تنامُ عَيْنايَ ولا ينَامُ قلبي". قوله: "تنامُ عيناهُ، ولا ينامُ قلبُهُ"؛ يعني: لا يسكنُ قلبه، بل يطيشُ ويضطربُ، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ ما جُبلَ فيه مثلَ نارٍ ذات لهب، فحينئذ تزعجُهُ عن التؤدة والقرار، فذلك الاضطرابُ موجبٌ لعدم الهدوء في النوم، فإذا ثبت هذا وتقرر، كأن طائرَ الفؤاد منزعجَ القلب.

أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فنامت عيني، وسمعت أذناني، وعقل قلبي" فهو عبارة عن طمأنينة قلبه - صلى الله عليه وسلم -، واهتدائه إلى المعارف الإلهية، والحقائق الربانية، والعقائد الحقة، وكذا قلوب جميع الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -، فإنها قُدُّوسيةٌ مَلَكوتية مجبولةٌ على الطُّهر والقدس، فحينئذ كيف يجري النومُ فيها، فإنه من آثار السُّفليات، ولأن قلوبهم مهابطُ للوحي، فما كان مهبطًا للوحي لا يكون محلًا للنوم. قوله: "أبوه طُوال ضَرْبَ اللحمِ": (الطُّوال) - بضم الطاء - من بناء المبالغة؛ يعني: كان طويلًا غايةَ الطولِ مثل: كبير وكُبار. و (ضَرْب اللحم): عبارة عن خفيف اللحم. قوله: "كأن أنفه منقار"؛ يعني: في أنفه طولٌ بحيث يشبه منقارَ طائر. "الفِرضاخيَّة": الضخمة العظيمة، ذكره في "الغريبين". قوله: "فذهبتُ أنا والزبير"، و (الزبير) عطف على ضمير المتكلم في (ذهبت)، و (أنا) تأكيدٌ لذلك الضمير؛ لأنه يُشترَط في العطف على الضمير المرفوع أن يكونَ مؤكَّدًا، كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. قوله: "فإذا نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما"، (إذا) للمفاجأة، و (النعت) مبتدأ، و (إذا) خبرٌ مقدم، و (فيهما) يجوزُ أن يكون حالًا من الضمير الكائن في (إذا)، وهو ضمير (النعت)، أو في متعلقه، والعامل في (فيهما) يجوز أن يكونَ هو الاستقرار، ويجوز أن يكون نائبه، فتقديره: النعتُ ثَمَّ كائنًا فيهما، ويجوزُ أن يكون (فيهما) خبر المبتدأ، و (إذا) ظرف، ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ، ويجوز أن يكون هو مبتدأ، وخبره محذوفٌ. يعني: إذا دخلنا على أبويه فاجأنا ما وصفَ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبويه؛

يعني: وجدنا فيهما جميع الصفات التي سمعناها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فإذا هو مُنجدَلٌ في الشمس"، (منجدل)؛ أي: ساقط. قال في "الصحاح": (انجدل): إذا سقط. قوله: "وله هَمْهَمةٌ": (الهمهمة): ترديدُ الصوت في الصدر، يقال: همهمت المرأة في رأس الصبي، وذلك إذا نوَّمته بصوت رقيق، ترقِّقه له، ذكره في "الصحاح". وهي ها هنا عبارةٌ عن كلام خفي غير مفهوم. * * * 4258 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ امرأةً منَ اليهودِ بالمَدينةِ ولَدَتْ غُلامًا مَمْسُوحَةً عَيْنُهُ طالعَةٌ نابُهُ، فأَشْفَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكونَ الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فآذنَتْهُ أُمّهُ فقالت: يا عبدَ الله! هذا أبو القاسِم، فَخَرَجَ منَ القَطِيْفَةِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لها؟ قاتَلَها الله، لو تَرَكتْهُ لبَيَّنَ"، فَذَكَرَ مِثلَ مَعْنَى حديثِ ابن عُمَرَ، فقالَ عُمرُ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: ائذَنْ لي يا رسولَ الله! فأقتُلَهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ يكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صاحبَهُ، وإنَّما صاحِبُهُ عيسَى ابن مَرْيَمَ عليه السلام، وإلا يكُنْ هوَ فَلَيسَ لكَ أنْ تقتُلَ رَجُلًا منْ أَهْلِ العَهْدِ"، فلمْ يزَلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُشْفِقًا أنَّهُ الدَّجَّالُ. "فأشفق"؛ أي: خاف. "فآذنته أمُّهُ"؛ أي: أعلمته أمه. قوله: "ما لها": (ما) للاستفهام مبتدأ، و (لها) خبره. قوله: "إن يكن هو فلستَ صاحبَهُ": كان قياسه: إيَّاه، فيجوز أن يكون أوقع ضمير المرفوع موقعَ المنصوب تأكيدًا، ويجوز أن يكون (هو) مبتدأٌ خبرُهُ

6 - باب نزول عيسى عليه السلام

محذوف، والجملة خبر لـ (يكن) المرفوع؛ يعني: إن يكن ابن الصياد الدجال. (فلست صاحبه)؛ أي: فلست قاتله. قوله: "إنما صاحبُهُ عيسى ابن مريم"؛ يعني: إنما قاتله عيسى ابن مريم، و (إنما) تفيد الحصر؛ يعني: لا يقدرُ أحدٌ على قتله إلا عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. قوله: "وإلا يكن هو ... " إلى آخره. يعني: إن لم يكن ابن الصياد الدجَّالُ، فلا يجوز لك أن تقتل أحدًا من أهل العهد. قال في "شرح السنة": فيه دليلٌ على أنه كان من أهل العهد، ولذلك منعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قتله. "مُشفِقًا"؛ أي: خائفًا. * * * 6 - باب نزولِ عيسى عليه السلام (باب نزول عيسى عليه السلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 4259 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذِي نفسِي بيدِه، ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فيكُمُ ابن مَرْيمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّليبَ، ويقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجِزيةَ، ويَفِيضَ المالُ حتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حتَّى تكونَ السَّجْدَةُ الواحِدةُ خيرًا منَ الدُّنيا وما فيها"، ثُمَّ يقولُ أبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: واقرَؤوا إنْ شِئْتُم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية.

قوله: "ليوشِكنَّ أن ينزلَ فيكم ابن مريمَ حكمًا عدلًا"، (أوشك): إذا أسرع، واللام مبتدأ للقسم، والنون للتأكيد؛ يعني: والله ليسرعن وليقربن نزولُ عيسى عليه السلام. (فيكم)؛ أي: في أهل دينكم حاكمًا عادلًا. (الحَكَم) بالتحريك: الحاكم، و (العَدْل): العادل، وكلاهما منصوبٌ على الحال. قوله: "فيكسرَ الصليبَ ويقتلَ الخنزير": الصليب في اصطلاح النصارى: خشبةٌ مثلثة يدَّعون أن عيسى - عليه السلام - صُلِب على خشبة على تلك الصورة، وقد يكون فيه صورة المسيح، وقد لا يكون. قال في "شرح السنة": يريد إبطالَ النصرانية، والحكمَ بشرع الإسلام. ومعنى قتل الخنزير: تحريم اقتنائه وأكله، وإباحة قتله، وفيه بيانُ أن أعيانَها نجسةٌ؛ لأن عيسى عليه السلام إنما يقتلها على حكم شرع الإسلام، والشيءُ الطاهرُ المنتفعُ به لا يُباحُ إتلافه. وقوله: "ويضعُ الجِزيةَ": معناه: أنه يضعها عن أهل الكتاب، ويحملهم على الإسلام، ولا يقبلُ منهم غيرَ دينِ الحق. فقد رُوِي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول عيسى: "وتَهلِكُ في زمانه المللُ كلُّها إلا الإسلام، ويَهلِكُ الدجَّالُ، فيمكثُ في الأرضِ أربعين سنةً، ثم يُتوفَّى، فيصلي عليه المسلمون". وقيل: معنى وضع الجزية: أن المالَ يكثر حتى لا يوجدَ محتاج ممن تُوضَعُ فيهم الجزية، يدلُّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيفيض المال حتى لا يقبله أحد"، هذا كله منقولٌ من "شرح السنة". فاض الماء فيضًا وفيضوضة: كثر حتى سال على ضفة الوادي، ذكره في

"منتخب الصحاح". (الضفَّة) بالكسر: الجانب. "فيفيض المال"؛ أي: يكثر ويتسع بحيث لا يُوجَد فقيرٌ في ذلك الزمان البتة. وتلخيص المعنى: أنه عبارة عن كثرة الأيادي والنعم في أيدي جميع الناس، وسعة أرزاقهم بحيث لا ضيقَ لأحد، ولا حرصَ فيهم، بل قطعَ كلُّ واحد منهم النظرَ عما في أيدي صاحبه، وذلك فضل ورحمة من الله. قوله: "حتى تكونَ السجدةُ الواحدةُ خيرًا من الدنيا وما فيها"؛ يعني: يشتغل الناس في ذلك الوقت بالطاعة، ويزهدون في الدنيا بحيث لو وُفِّقَ لأحد منهم سجدة؛ لكانت أحبَّ إليه من وجدانه جميع أموال الدنيا. إن قيل: العبادة في نفس الأمر خيرٌ في جميع الأوقات، فلمَ خُصَّت الخيرية في الطاعة بذلك الزمان؟ قيل: لأن في ذلك الزمان الرغبة في الطاعة أكثر، والخضوع فيها أتم وأبلغ، فلهذا خُصَّت خيريتها به. * * * 4260 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لَيَنْزِلنَّ ابن مرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّليبَ، ولَيقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، ولَيَضَعَنَّ الجزيَةَ، ولَيترُكَنَّ القِلاَصَ ولا يَسعَى عَلَيها، ولَتَذْهَبن الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُدُ، ولَيَدْعُوَنَّ إلى المالِ فلا يقبَلُهُ أَحَدٌ". قوله: "ولتتركَنَّ القِلاصُ فلا يسعَى عليها"، (القلاص): جمع قلوص، وهي الشابة من النوق.

سَعَى ها هنا: بمعنى عمل. قال في "الصحاح": وكلُّ من وَلِيَ شيئًا على قوم فهو ساعٍ عليهم، وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة. يقال: سعى عليها؛ أي: عمل عليها، وهم السعاة. يعني: والله ليتركن عيسى إبلَ الصدقة، فلا يأمر بأحد أن يسعى على أخذها وتحصيلها، وإنما يترك الصدقة، ولا يرسل أحدًا إلى أخذها؛ لعدم من يقبلها. و"الشحناء": العداوة. "والتباغُض": جريانُ البغضِ بين اثنين. "والتحاسُد": جريان الحسد بين اثنين. يعني: يزول عن قلوب جميع الناس في ذلك الوقت البغضُ والعداوةُ والحسدُ وغيرُ ذلك من الأخلاق الذميمة؛ لأنها نتيجة حب الدنيا، فإذا زالت محبةُ الدنيا عن قلوبهم، فقد زال ما يتولَّد منها، وهو الأخلاق الذميمة، ومصداقُ هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حبُّ الدنيا رأسُ كلَّ خطيئة". * * * 4261 - وقال: "كَيْفَ أنتُمْ إذا نَزَلَ ابن مَرْيمَ فيكُمْ وإمامُكُمْ منكُمْ؟ ". قوله: "وإمامُكُم منكم"؛ يعني: إمامُكُم من أهل دينكم، وقيل: من قريش. قال في "شرح السنة": قال معمر عن الزهري: "وأمكم أو إمامكم منكم". قال ابن شهاب: "فأمكم منكم".

قال ابن أبي ذُؤيبٍ في معناه: فأمَّكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. يعني: يؤمكم في الصلاة من كان من أهل دينكم، ولا يؤمكم عيسى عليه السلام، بل يكون بمنزلة الخليفة، وفيه دليلٌ على أن عيسى عليه السلام لا يكون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل يكون مقررًا لدينه، وعونًا على أمته. * * * 4262 - وقال: "لا تزالُ طائِفَةٌ منْ أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهِرينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ". قال: "فينزِلُ عيسَى بن مَرْيمَ، فيقولُ أميرُهُمْ: تعالَ صَلِّ لنا، فيقولُ: لا، إنَّ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ أُمَراءُ، تَكْرِمَةَ الله هذهِ الأمّةَ". قوله: "تكرمةَ الله هذهِ الأمةَ": نصب (تكرمة) على أنه مفعول له، وهي علةٌ لفعلٍ مقدَّر دلَّ عليه مضمونُ الجملة المقدرة، كأنه قيل له: يا رسول الله! لم جعلَ الله في ذلك الزمان تأميرَ الأمة بعضها على بعض؟ فأجاب بأنه جعل الله ذلك التأمير تكرمةً لهذه الأمة. أو مفعول مطلق، كأنه قال: كرَّم الله تعالى هذه الأمة تكرمة من قبله سبحانه. ولو رُوِي بالرفع، كان خبرَ مبتدأ محذوف، كأنه قال: هذه الفعلة تكرمة الله تعالى. و (هذه) مفعول به للتكرمة، و (الأمة) صفة لـ (هذه). يعني: جعل الله بعضكم على بعض الأئمة والأمراء؛ لتكرمته تعالى هذه الأمة، وتفضُّله عليهم. * * *

7 - باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته

7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه (باب قرب الساعة) قوله: "وأن من مات فقد قامت قيامته". اعلم أن القيامةَ على ثلاثة أنواع: القيامة الكبرى: وهي عبارةٌ عن حشر الأجسادِ وسوقهم إلى المحشر للجزاء. والصغرى: وهي عبارةٌ عن موت كلِّ واحدٍ من الإنسان، وهي بأنه قال: (من مات فقد قامت قيامته). والوسطى: وهي عبارةٌ عن موتِ جميعِ الخلق. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 4263 - عن قتَادَةَ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتينِ". قال قَتادَةُ في قَصَصِهِ: كفَضْلِ إحْداهُما على الأُخرَى. قوله: "بُعثْتُ أنا والساعة كهاتين": قال الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي في "شرحه": الإعرابُ الذي يُعتمَدُ عليه من طريق الرواية هو الرفعُ، والنصبُ فيه مساغٌ؛ يعني: جواز، وتكون الواو بمعنى (مع)، ولم تبلغنا فيه رواية. قال في "شرح السنة": يريدُ: ما بيني وبين الساعة من مستقبلِ الزمانِ بالإضافة إلى ما مضى مقدارُ فضل الوسطى على السبابة. قوله: "كهاتين"؛ يعني: كالسبابة والوسطى، فالكاف صفة مصدر

محذوف؛ أي: قُربًا كقرب هاتين الإصبعين، شبَّه القُربَ الزماني بالقُربِ المَسافيِّ. * * * 4264 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ قبلَ أنْ يَمُوتَ بشَهْرٍ: "تَسْأَلونني عنِ السَّاعةِ؟ وإنَّما عِلْمُها عندَ الله، وأُقسِمُ بالله، ما على الأَرْضِ منْ نَفْسٍ مَنْفوسَةٍ تأتِي عليها مِئَةُ سَنَةٍ". قوله: "وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة": منفوسة؛ أي: مولودة. قال في "الغريبين": نَفِست المرأة ونُفِست: إذا ولدت، وإذا حاضَتْ قلتَ: (نَفست) بفتح النون لا غير، ومنه الحديث: قالت أم سلمة: كنتُ معه في الفراش، فحضتُ، فقال: "أنفست؟ "، أراد: حضت. وفي حديث ابن المسيب: "لا يرثُ المنفوس حتى يستهلَّ صارخًا"؛ يعني: الصبي المولود. (ما) مشبهة بـ (ليس)، وهو جواب للقسم، و (على الأرض) خبر مقدم، و (من) في (من نفس) زائدة؛ للاستغراق، و (نفس): اسمه، و (منفوسة): صفة للنفس، و (تأتي ...) إلى آخره صفةٌ بعد صفة، ويجوز تقديم خبر (ما) على اسمها إذا كان ظرفًا، كذا ذكره العزيز "شارح اللُّمَع". والمختار: أن (نفس) مبتدأ، و (على) خبر مقدم؛ لأن (ما) إذا تقدم خبرُهُ بطلَ عمله في الأشهر. يعني: لا يوجد واحدٌ من هؤلاء الموجودين اليوم من الناس في وجه الأرض بعد مضيِّ مئة سنة.

فإن قيل: بهذا الحديث ينبغي أن لا يكونَ إلياسٌ والخضرُ - عليهم السلام - في الحياة، فهما داخلان تحت عموم الحديث؛ لأن الأصل أن يكون العام باقيًا على عمومه، ويقويه هنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان الخضرُ حيًا لزارني". قيل: ظاهرُ الحديث يدلُّ على عدم حياتهما عليهما السلام، إلا أن الإمامَ مُحيي السنةَ ذكر دوام حياتهما - عليهما السلام - في "معالم التنزيل" في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]. قيل: أربعةٌ من الأنبياء في الأحياء؛ اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى عليهم السلام، فإذا كان كذلك؛ فالحديثُ مخصوصٌ بهما؛ لأن العامَّ يجوز تخصيصه بقرائن عقلية أو نقلية، وهنا نقلية؛ إذ قد استفاضَ في الأمم كلها حياتهما، فإذا تقرَّرَ هذا، فلا يكون مناقضًا للحديث. ويحتمل أن يقال: هما - عليهما السلام - لم يدخلا في هذه الأمة، فيدخلا تحت العموم؛ لأنهما نبيَّان، ولا يكون نبي أمة نبي آخر، فكأنه أراد هنا: ما من نفس منفوسة من أمتي إلا وبعد انقضاء المئة يأتي عليها الفناءُ؛ إخبارًا عن أعمار أمته. فالفائدة من هذا الإعلام: تنبيهٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على قدرة الله تعالى في إهلاكِ جميع العالم، والإتيانِ بغيرهم جملة عن جملة، ومن كان قادرًا كذا، كان قادرًا على إحياء الكلِّ، كما قدر على إهلاك الكل بعد مئة، وإنشاء أصناف منها، أو الدهورُ الداهرة، والأركانُ الغابرة، تعالى عمَّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا. * * * 4266 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رِجالٌ منَ الأَعْرابِ جُفاةٌ يأتونَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويَسأَلونَهُ عن السّاعةِ، فكانَ ينظُرُ إلى أَصْغرِهِمْ فيقولُ: "إنْ يَعِشْ هذا لا يُدرِكْهُ الهَرَمُ حتَّى تَقُومَ عَلَيكُمْ ساعتُكم".

قوله: "فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعش هذا ... " إلى آخره. (هذا) إشارةٌ إلى الأصغر. "الساعة": جزء من أجزاء الزمان، ويُعبَّر بها عن القيامة. قال هشام: الساعةُ ها هنا: الموت؛ يعني: إذا مات الرجل يرى جزاءَ ما فعل، وكأنه يرى القيامة. يعني: قبل أن يصير هذا الصغير هَرِمًا يأتي على بعضكم، أو على جميعكم الموت. هذا تنبيهٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على محذورات الدنيا، وأنها لا تبقى لجميع سكانها، بل تأكلهم مستأصلين، فليحذر الناسُ منها، ويستعدوا لأمر الآخرة. * * * مِنَ الحِسَان: 4267 - عن المُسْتَوْرِدِ بن شَدَّادٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثْثُ في نَفَسِ السَّاعةِ، فسبَقْتُها كما سبقَتْ هذِه هذِه"، وأَشارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَبَّابةِ والوُسْطَى. قوله: "بُعِثتُ في نفسِ الساعة، فسبقتُها ... " إلى آخره. (النَفَس) بالتحريك لا غير، ذكره الإمام التُّورِبشتي في "شرحه"، وهو عبارةٌ عن قرب الساعة وأماراتها؛ يعني: بعثت في قريب من أشراط الساعة، وحاصله: [أنه] مجازٌ وتنبيهٌ على الاستعداد لها من زمنِ بعثِهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى قيامها. قوله: "فسبقتُهَا كما سبقت هذه هذه"؛ يعني: فسبقتُ الساعةَ كما سبقت هذه هذه، فـ (هذه) الأولى محلها رفع؛ لأنها فاعل (سبقت)، و (هذه) الثانية محلها نصب؛ لأنها مفعوله، وتقديم الفاعل في هذه الصورةِ واجبٌ.

8 - باب لا تقوم الساعة إلا على الشرار

يعني: مقدارُ ما بيني وبين الساعة من الزمان مقدار ما فضل الوسطى على السبابة، هذا معنى ما نقل من "شرح السنة" في الحديث المتقدم، وهو: "بعثت أنا والساعة". * * * 8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ (باب) مِنَ الصِّحَاحِ: 4270 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ على أَحَدٍ يَقولُ: الله، الله". "لا تقومُ الساعةُ على أحدٍ يقول: الله الله"؛ يعني: لا تقوم الساعة ما دام في وجه الأرض موحِّدٌ يذكر الله سبحانه. هذا دليلٌ على أن بركة العلماء والصلحاء تصلُ إلى مَن في العالم من الجن والإنس وغيرهما من الحيوانات والجمادات. فإن قيل: ما فائدة تكرير لفظة (الله) سبحانه؟ قيل: إن معناه: الله حسبي، والله هو الإله لا غيره، كما تقول: زيد زيد؛ أي: زيد المشهور المعلوم المستبدُّ بكذا، فالمكرِّرُ الموحِّدُ فقط، وغيرُهُ قد يفردُهُ، ولا يَحصلُ به توحيدٌ. و (الله) الأول المبتدأ، والثاني خبره، والثاني هو محطُّ الفائدة. أي: الله هو معبودي لا غير، والله كما أثنى على نفسه. فإن رُوِيا بالنصب؛ لكانا منصوبين على التحذير، تقديره: احذروا الله،

كما تقول: الأسدَ الأسدَ، فعلى هذا معناه: لا يبقى في الأرض مسلمٌ يُحذِّرُ الناس. * * * 4272 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ أَلَياتُ نِساءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذي الخَلَصَةِ - وذو الخلَصَةِ: طاغِيَةُ دَوْسٍ التي كانوا يَعْبُدونَ في الجاهِليَّةِ -". قوله: "حتى تضطربَ ألياتِ نساءِ دوسٍ حولَ ذي الخَلَصةِ"، (الإليات): جمع أَلْية؛ بفتح الهمزة، وهي اللحمة المشرفة على الظهر والفخذ. و (الدوس): قبيلة، قال محمد بن إسحاق: (ذو الخَلَصة): بيتٌ كان فيه صنمٌ كان يقال له: (الخلصة) لدوس. وقال غيره: (الخَلَصة): هي الكعبة اليمانية، أنفذَ إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جريرَ بن عبد الله - رضي الله عنه - فخرَّبها. أراد: حتى ترجع دوسٌ عن الإسلام، فتطوف نساؤهم بذي الخلصة، وتضطربَ ألياتها، كذلك فعلهم في الجاهلية، ذكره في "الغريبين". * * * 4273 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يَذْهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى تُعْبَدَ اللاتُ والعُزَّى"، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ حينَ أنزلَ الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّ ذلكَ تامٌ، قال: "إِنَّهُ سَيَكونُ مِنْ ذلكَ ما شاءَ الله، ثُمَّ يَبعَثُ الله ريحًا طَيبةً، فتَوَفَّى كُلَّ مَنْ كانَ في قَلْبه مِثقالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، فيَبقَى مَنْ لا خيرَ فيهِ، فيَرجِعونَ إلى دينِ آبائهِمْ".

قوله: "ولا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تُعبَدُ اللاتُ والعُزَّى"، و (اللات): صنم كان لثقيف، و (العزى): لسليم وغطفان، ذكره في "معالم التنزيل". يعني: لا تقوم الساعة حتى يُعبَد هذان الصنمان. قوله: "إنْ كنتُ لأظنُّ"، (إن) خفيفة من الثقيلة، وشرط (إن) المكسورة إذا خُفَّفت أن تدخل على الأفعال الداخلة على المبتدأ أو الخبر، وهي كان وأخواتها، وأفعال القلوب، ويلزمها اللام الفارقة في خبرها؛ لتفرِّقَ بينها وبين (إن) الشرطية والنافية، تقديره: إنه كنت لأظن؛ يعني: إن الشأنَ والحديثَ كنتُ لأظن. * * * 4274 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فيَمكُثُ أَرْبعينَ - لا أدرِي أربعينَ يَوْمًا أو شَهْرًا أو عَامًا -، فيبعثُ الله عيسَى بن مريمَ عليهما السَّلامُ كأنَّهُ عُرْوَةُ بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - فيَطلُبُه فيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنينَ ليسَ بينَ اثنين عَداوةٌ، ثمَّ يُرسِلُ الله رِيْحًا بارِدَةً منْ قِبَلِ الشَّامِ، فلا يَبقَى على وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ في قَلْبهِ مِثقالُ ذرَّةٍ منْ خَيْرٍ أو إيمانٍ إلَّا قَبَضَتْهُ، حتَّى لوْ أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ في كَبدِ جَبَلٍ لدخلَتْهُ عليهِ حتى تقبضَهُ". قال: "فيبقَى شِرارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيرِ وأَحْلامِ السِّباعِ، لا يعرِفونَ مَعْروفًا ولا يُنْكِرُونَ مُنكَرًا، فيَتمثَّلُ لهُمُ الشَّيطانُ فيقولُ: ألا تستحيُونَ؟ فيقولونَ: فما تأْمُرُنا؟ فيأمُرُهُمْ بِعبادَةِ الأَوْثْانِ، وهُمْ في ذلك دارٌّ رِزقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا أصغَى لِيتًا ورَفعَ لِيتًا". وقال: "وأوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلوطُ حَوْضَ إبلهِ، فيَصْعَقُ ويَصْعَقُ النَّاسُ، ثمّ يُرسِلُ الله مَطَرًا كأنَّهُ الطَّلُّ فيَنبُتُ منهُ أَجْسادُ النَّاسِ، ثمَّ يُنفَخُ فيهِ أُخرَى {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، ثمَّ يُقالُ: يا أيُّها النَّاسُ! هَلُمَّ إلى ربكُمْ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}،

ثمَّ يُقالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فيُقالُ: مِنْ كَمْ؟ فيُقالُ: مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وتِسعَةً وتِسعينَ، قال: فذاكَ يومَ {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، وذلكَ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ". قوله: "يخرجُ الدجالُ، فيمكثُ أربعينَ لا أدري": قال الإمام التُّورِبشتي: قلت: (لا أدري) إلى قوله: (فيبعث الله عيسى عليه السلام) من قول الصحابي؛ أي: لم يزدني على أربعين شيئًا؛ أي: المراد منها: فلا أدري أيًا أراد من هذه الثلاثة. قوله: "يا أيُّها الناسُ! هلمَّ إلى ربكم"؛ يعني: تعالوا، وارجعوا إلى ربكم. قال في "الصحاح": قال الخليل: أصله: (لمَّ) من قولهم: لمَّ الله شعثه؛ أي: جمعه، كأنه أراد: لُمَّ نفسَك إلينا؛ أي: اقْرُبْ إلينا، و (ها) للتنبيه، وإنما حُذِفت ألفها؛ لكثرة استعمالها، وجُعِلا اسمًا واحدًا يستوي فيه الواحد والجمع في لغة أهل الحجاز. وقيل: أصله: (ها الْمُم) نقل حركة الميم إلى اللام، واستغنى عن همزة الوصل، فاجتمع ساكنان في الآخِر، فأدغم، فبقي (ها لُمَّ)، فحُذِف الألف؛ لالتقاء الساكنين؛ الألف وسكون اللام في التقدير، وقيل: أو ليركَّبا فيصيرا كـ (حضرموت). قوله: " {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} "؛ أي: احبسوهم وأوقفوهم. قوله: "فيقال: أخرجوا بعثَ النارِ": إما خطابٌ للملائكة، أو لآدم في تقسيم ذريتهم؛ يعني: إعلام الخلق أنه يُوجَّه الأكثرُ إلى النار، والأقل إلى الجنة، والسببُ في تكثير العصاة وتقليل المطيعين: أنه سبحانه وتعالى لا يصلحُ لخدمته إلا من هو في غاية الاصطفاء، ومثل هذا قليلُ الوجود في البشر المركبين من الشهوات والنهمات.

قال الغزالي - رحمة الله عليه - في كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة": وليس المعنيُّ به: أنهم كفار مخلَّدون في النار، بل يدخلون النار ويعرضون عليها، ويتركون فيها بقدر ما تقتضيه ذنوبهم ومعاصيهم، والمعصومُ من المعاصي لا يكون من ألف إلا واحدًا، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]. ثم (بعث النار) عبارةٌ عمن استوجب النار بذنوبه، ويجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة، كما وردت به الأخبارُ الكثيرةُ الدالةُ على سعة الرحمة، وهي أكثر من أن تُحصَى. وأما قوله: "بعث النار": فالبعث: جماعةٌ يُبعَثون لأمرٍ إلى موضع، وفي حديث آخر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم العيد إذا أراد أن يبعثَ بعثًا ... والمراد: المبعوثون إلى النار؛ يعني: أهل النار. قوله: "من كَمْ كَمْ؟ ": تقديره: من أيِّ عدَّةٍ أيُّ عددٍ؟ فهو استفهام عن مقدارِ المُخرَج منه ومقدارِ المُخرَج كلاهما، وتقديره: العدد (¬1) المعدود المبعوث أيُّ عددٍ من أيِّ عدد؟ فالمبتدأ محذوف، وقوله: (من أي عدد) صفة للخبر، كما تقول: المبعوث عشرة من مئة. وقيل: (من كم) جار ومجرور خبر مقدم، و (كم) الأخير مبتدأ، كأنه قال: كم المبعوثون من كم؟ أي: من كم عددٍ يخرجُ منه هؤلاء بعث النار، ويبقى الباقي؟ قوله: "فذاك يوم {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} "، (الشيب): جمع أشيب، كـ (بيض) جمع: أبيض، فأُبدِلت ضمة الفاء كسرةً؛ لتصح التاء. يعني: يوم القيامة يصيرُ الأطفال شيبًا من أهواله وشدائده. ¬

_ (¬1) في "م" و"ق": "الأعرابي"، وفي "ش": "الأعداد"، والصواب المثبت.

ويحتمل أن يقال: المراد به: عظم أهوال يوم القيامة، لا حقيقة التصيُّر، كما تقول: هذا أمر يشيبُ فيه الوليدُ: إذا كان عظيمًا هائلًا. يعني: لو أن وليدًا شابَ من واقعةٍ عظيمة؛ لشابوا في ذلك اليوم، كما قال تعالى في موضع آخر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا} [الحشر: 21]، فكم تقرأ القرآن على جبل ولا يخشع ولا ينشق، معناه: لو كان الجبل يخشع، ويكون له روح، وينشق من هول واقعة؛ لانشق إذا تُلِي عليه القرآن. قوله: "وذاك {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ": قال الخطابي: هذا ممَّا نهيت القول فيه شيوخنا، وأجْرَوه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقُّفِ عن تفسير كلِّ ما لا يحيطُ العلمُ بكنهه من هذا الباب. أما من تأوله فقال: ذلك اليوم يكشف عن شدة عظيمة وأمر فظيع. قال الإمام أبو الفتوح العجلي - رحمه الله - في "تفسيره": قيل: معناه: عن أمر شديد فظيع، وهو إقبالُ الآخرة وظهورُها، وذهابُ الدنيا. ويُقال للأمر إذا اشتد وتفاقم، فظهر، وزال خفاؤه: كشف عن ساقه، وهذا جائزٌ في اللغة وإن لم يكن للأمر ساقٌ، وهو كما يقال: أسفرَ وجهُ الأمر، واستقام صدرُ الرأي. قال الشاعر يصفُ حربًا: كَشَفَتْ لهم عن سَاقِها ... وبدا من الشرِّ الصُّراحُ وقيل: معناه: أن يرفع الستر من الدنيا والآخرة، وقيل: [هو] المراد بقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]. وقيل: عن ساق؛ أي: عن ساق العرش، وقيل: عن نور عظيم. قال ابن قتيبة: تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى

الجد، ومقاساة الشدة: شَمَّر عن ساقه. ويقال: إذا اشتدَّ الأمرُ في الحرب: كشفت الحربُ عن ساقٍ. قال في "شرح السنة": وقال ابن عباس: يوم كرب وشدة. وقال: هي أشد ساعة في القيامة. فعلى هذا القول معناه: المبالغة في التجلي والظهور عن ذاته؛ لأنه في اللغة عبارةٌ عن الجد في الأمر، أو لأن الساقَ يكون مستورًا غالبًا، فكشفُهُ مبالغةٌ في هذا الوجه أيضًا. * * * مِنَ الحِسَان: 4275 - عن مُعاوِيَةَ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ منْ مَغْرِبها". قوله: "لا تنقطع الهجرة": من المعاصي إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإيمان. "حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"؛ يعني: لا تنقطعُ الهجرةُ من المعاصي إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإيمان، حتى تنقطعَ التوبة، وزمان انقطاع التوبة إما عند اليأس من الحياة، وهو حين رأى الشخص ملك الموت، فإذا تاب في ذلك الوقت لا تُقبَلُ توبته، وكذا لو آمن لا يُقبَلُ إيمانه، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. وإما عن طلوع الشمس من مغربها، وطلوعُ الشمس من المغرب من أشراط الساعة، كما ذكر في (باب أشراط الساعة)، ومر. * * *

1 - باب النفخ في الصور

1 - باب النَّفْخِ في الصُّورِ (باب النفخ في الصور) مِنَ الصِّحَاحِ: 4276 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما بينَ النَّفْختَيْنِ أَرْبعون"، قالوا: يا أبا هُريرةَ! أَرْبعونَ يَوْمًا؟ قال: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ شَهْرًا؟ قالَ: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ، "ثمَّ يُنزِلُ الله منَ السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما ينبُتُ البَقْلُ" قالَ: "وليسَ مِنَ الإِنسانِ شَيْءٌ لا يَبْلَى إلا عَظْمًا واحِدًا، وهوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنهُ يُركَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ". وفي رِوايةٍ: "كُلُّ ابن آدمَ يَأْكُلُهُ التُّرابُ إلا عَجْبَ الذَّنَبِ، منهُ خُلِقَ وفيه يُركَّبُ". قوله: "ما بينَ النفختينِ أربعون، قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يومًا؟ قال: أبَيتُ" الحديث. يعني: امتنعتُ عن الجواب، فإني لا أدري، فإذا قلت: أربعون يومًا أو شهرًا أو غير ذلك، فأكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبيتُ الكذبَ عليه. قوله: "وليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب"، (العجب): العظم الذي في أسفل الصُّلب، وهو العَسِيب، ذكره في "شرح السنة". قال في "الصحاح": (العَسِيب): منبت الذنب، فالمراد: طول بقائه، لا أنه لا يبلى أصلًا، فإنه خلاف المحسوس.

وجاء في حديث آخر: "أنه أول ما يُخَلق، وآخر ما يَبلَى"، ومعنى الحديث واحد. والحكمة فيه: أنه قاعدةُ بدنِ الإنسان وأُسُّه الذي يُبنى عليه، فبالحريِّ أن يكون أصلبَ من الجميع كقاعدة الجدار، وإذا كان أصلب كان أطول بقاء. وأما إعرابه: فقوله: (إلا عظمًا) فهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب؛ لأن قوله: "ليس شيء من الإنسان لا يبلى" نفيُ النفيِ، ونفيُ النفي إثباتٌ، فيكون تقديره: كلُّ شيء منه يبلى إلا عظمًا واحدًا. * * * 4278 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَطوِي الله السَّماواتِ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المُتكَبرُونَ؟ ثمَّ يَطْوِي الأَرْضينَ بشِمالِه - وفي رِوايةٍ: ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه الأُخْرىَ - ثمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجَبَّارونَ؟ أينَ المُتكبرونَ؟ ". قوله: "يطوي الله السماوات يوم القيامة يأخذهن بيده اليمنى" الحديث. اعلم بأنَّ الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن سِمةِ الحدوث، وصفةِ الأجسام، وكلُّ ما ورد في القرآن والأحاديث في صفاته ممَّا ينبئ عن الجهة والفوقية، والاستقرار والإتيان، والنزول، فلا نخوض في تأويله، بل نؤمن بما هو مدلولُ تلك الألفاظ على المعنى الذي أراده سبحانه مع التنزيه عما يُوهِمُ الجسمية والجهة، كما يُروى عن مالك - رحمة الله عليه - لما سُئِل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وسؤالك عنه بدعة. وهو مذهب السلف الصالح - رضي الله عنهم -.

أما المتكلمون من أهل السنة والمعتزلة: فقد أوَّلوا جميع الألفاظ الواردة في هذا الباب على ما يليقُ بذاته سبحانه. وهؤلاء يقفون في قراءة قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] على قوله: {فِي الْعِلْمِ}. والفرقة الأولى - وهم السلف الصالح - رضي الله عنهم - يقفون على قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ}. فإذا تقرَّر هذا؛ فالمراد من اليد واليمين والشمال: القدرة، والمراد من الطيِّ: التسخير التام والقهر الكامل، وهو كذلك الآنَ أيضًا، ولكن في القيامة أظهر؛ لأنه لا يبقى أحدٌ يدَّعي الملكَ المجازي، كما هو في الدنيا. قوله: "ثم يطوي الأرضين بشماله": وإنما قال: بشماله، ولم يقل: بيمينه؛ بيانًا لشرف العُلويات على السُّفليات، والعادةُ جرت على أن الشريف يباشر ما فيه شرف، لا أنه ثبت له شمالٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلتا يديه يمين"، وإنما قال: كلتا يديه يمين؛ لأن الشمال بالإضافة إلى اليمين ناقصٌ في القوة، والنقصانُ لا يتطرَّقُ على ذاته سبحانه. قال الإمام التُّورِبشتي: يحتمل أن هذا غلطٌ من الراوي، أو ظنٌّ منه على أن إحداهما سدَّ مسدَّ الأخرى، والأولى أن لا يُغلَّط الراوي، ويُجمَع بين الحديثين - يعني: بين هذا الحديث، وبين قوله: "كلتا يديه يمين" - ونقول: التوفيقُ بينهما، والعلمُ عندَ الله سبحانه: أنا إذا جعلنا اليدَ عبارةٌ عن القدرة، وهو مطابقٌ لقوله: "كلتا يديه يمين"؛ لأن هذا أيضًا إشارةٌ إلى تنزيهه عن الجوارح والأجسام، فإنه لو كان جسمانيًا؛ لاستحال أن تكون كلتاهما يمينًا، والفرقُ بين اليمين والشمال: أن الأخذ باليمين عبارة عن أنَّ التسخير الأول أتم وأكمل من التسخير الثاني المعبر عنه بالأخذ بالشمال؛ لأن السماء السابعة مثلًا أكبرُ الأجسام، فيكون تسخيره أقوى من تسخير ما تحته من السماوات.

فإذا ثبت هذا؛ فتسخيرُ السماوات أقوى من تسخير الأرض، فإنه معلومٌ أن تسخيرَ ما هو علويٌّ أقوى من تسخير ما هو سفلي، والله أعلم بالأسرار الإلهية والحكم النبوية. * * * 4280 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ قولِه - عز وجل -: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}: فأَينَ يكونُ النّاسُ يومئذٍ؟ قالَ: "علَى الصِّراطِ". قوله: " {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} "، قال في "شرح السنة": يُقالُ: (التبديلُ): تغيير الشيء عن حاله، والإبدالُ: جعل الشيء مكان الآخر. قال الأزهري: تبديل الأرض: تسيير جبالها، وتفجير أنهارها، وكونها مستوية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتبديل السماوات بانتشارِ كواكبها، وانفطارِها، وتكويرِ شمسها، وخسوفِ قمرها. * * * 4281 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّمْسُ والقَمَرُ مُكوَّرانِ يَوْمَ القِيامَةِ". قوله: "الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة"، (مكوران)؛ أي: مجموعان وملفوفان. قال في "شرح السنة": مُكوَّران: من قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]؛ أي: جُمِعت ولُفَّت، ومنه قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]؛ أي: يدخل هذا هذا، وتكوير العمامة: لفُّها، وقيل: من (كوَّره)؛ أي: ألقاه. قال في "الصحاح": يقال: طعنه فكوَّره؛ أي: ألقاه مجتمعًا، وأنشد

أبو عُبيدٍ: ضَرَبناهُ أمَّ الرأسِ والنقعُ ساطعٌ ... فخرَّ صريعًا لليدينِ مُكوَّرا يعني: تلقى الشمس والقمر من فلكيهما. قال الإمام التُّورِبشتي رحمة الله عليه: هذا التفسيرُ أشبهُ بنسق الحديث؛ لما في بعض طرقه: "يكوران في النار"، ويكون تكويرهما فيها؛ ليعذب بهما أهل النار، لا سيما عبَّاد الأنواء، لا ليُعذَبا في النار، فإنهما بمعزل (¬1) عن التكليف. * * * مِنَ الحِسَان: 4282 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ أَنْعَمُ وصاحِبُ الصُّورِ قدِ التَقَمَهُ، وأصْغَى سَمْعَهُ، وحنَى جَبْهَتَهُ متَى يُؤمَرُ بالنَّفْخِ؟ ". فقالوا: يا رسولَ الله! وما تَأْمُرُنا؟ قال: "قُولُوا: حَسْبنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ". قوله: "كيف أنعم"؛ أي: كيف أنتعم؟ وقيل: كيف أفرح؟ والنعمة: المسرة، قاله في "شرح السنة". يعني: كيف يطيب عيشي، وقد قَرُب أمرُ الساعة؟ وكأنه خاف على أمته قربها، وقد علم أنها لا تكون إلا على شِرارِ الناس، أو تنبيهٌ على حثِّ أصحابه على الوصية لمن بعدهم على التهيؤ لها. "الصور": القرن، قال الراجز: ¬

_ (¬1) في "م": "بمعزل". مكررة.

نحن نطحناهُم (¬1) غداةَ الجَمْعينِ نَطْحًا شَديدًا لا كنطحِ الصُّورينِ ويقال: هي جمع (صُورَة)، مثل: (بُسْرَة) و (بُسْر)؛ أي: ينفخ الأرواح في صور الموتى، وقرأ الحسن: (يوم ينفخ في الصور)، ذكره في "الصحاح". قوله: "قد التقمه": ابتلعه، يقال: التقمت اللقمة؛ أي: ابتلعتها. "أصغَى سمعَهُ"؛ أي: أمال أذنه، يقال: أصغيت الإناء: إذا أملته. أي: كيف يكون عيشي طيبًا وصاحب الصور قد ابتلع الصور؟ يعني: وضع الصور في فمه، وينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ قوله: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"؛ أي: قولوا: الله سبحانه مُحسِبنا وكافينا، من (أحسبه الشيء): إذا كفاه، والدليلُ على أن (حسبك) بمعنى: مُحسِبك: وقوعه صفة للنكرة، كأن تقول: هو رجل حسبك، فلو لم يكن اسم فاعل، وإضافته في تقدير الانفصال، لما وقع صفةً للنكرة إذا كان مضافًا إلى معرفة. و (الوكيل): فعيل بمعنى المفعول؛ أي: نعم الموكول إليه الله تعالى. و (الله) مبتدأ، و (حسبنا) خبر مقدم، و (نعم) فعل المدح، و (الوكيل) فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "لقد نطحناهم"، والتصويب من "الزاهر في كلام الناس" لابن الأنباري (1/ 416).

2 - باب الحشر

2 - باب الحَشْرِ (باب الحشر) مِنَ الصِّحَاحِ: 4284 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامةِ على أَرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ كقُرْصَةِ النَّقِيِّ، ليسَ فيها عَلَمٌ لأَحَدٍ". قوله: "يحشرُ الناسُ يومَ القيامة على أرضٍ بيضاءَ عَفْراءَ"؛ أي: يحشر الناس على أرض بيضاء ليس بالشديد البياض. قال في "الصحاح": الأعفر: الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء: يعلو بياضَها حمرةٌ. قوله: "كقُرصةِ النَّقي": قال في "شرح السنة": يعني: نقي الحُواري - بضم الحاء -؛ لنقائه من القشر والنخالة. "العلم": العلامة، يريد: أن تلك الأرض مستوية ليس فيها حدبٌ يردُّ البصر، ولا بناءٌ يستر ما وراءه. * * * 4285 - وقالَ: "تكونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ خُبْزَةً واحِدَةً، يتكَفَّؤُها الجَبَّارُ بيدِه، نُزُلًا لأَهْلِ الجَنَّةِ". قوله: "تكون الأرضُ يوم القيامة خبزةً واحدةً يتكفَّؤها الجبارُ"، (يتكفؤها): يقلبها، من (كفأت الإناء): إذا قلبتها؛ يعني: يقلبها الله سبحانه خبزة واحدة يهيأها ويرزقها نزلًا لأهل الجنة.

و (النُّزل) بضم الزاي وسكونها: ما يُهيأ للنزيل، وهو الضيف. قال الإمام التُّورِبشتي: (يتكفؤها) من رواية البخاري، وروي في "كتاب مسلم": (يَكْفَؤها)، وهو الصواب على ما نعرفه من رواية الحفاظ، وهو المستقيمُ على اللغة العربية، والمعنى: يقلبُها. ونرى الحديث مشكلًا جدًا غيرَ منكرين شيئًا من صنع الله وعجائب فطرته، بل لعدم التوقف الذي يكون موجبًا للعلم في قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى الطبع المطعوم والمأكول، مع ما ورد من الآثار المنقولة: أن هذه الأرضَ برَّها وبحرَها تمتلئ نارًا في النشأة الثانية، وتنضمُّ إلى جهنم. فنرى الوجه فيه: أن تقول: معنى قوله: "خبزة واحدة"؛ أي: كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا، وهو مثل ما في حديث سهل بن سعد: "كقرصة النقي"، وإنما ضربَ المثل بقرصة النقي؛ لاستدارتها وبياضها على ما ذكرنا، هذا كلُّه كلامُ الشيخ التوربشتي. ما ذكره الشيخ - رحمة الله عليه - مستقيمٌ جدًا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نزلًا لأهل الجنة"، فحينئذ التنزيل يرُّد ذلك التأويل، ثم لا يبقى لـ (يكفأها) فائدة، وإن أريد تصحيحه؛ فالوجه أنه تعالى يكفأها؛ أي: قادر على قلبها، ليس كحال الأرض في الدنيا في قرارها وثباتها. وقوله: "نزلًا"؛ أي: كخبزة تُخلَق نُزُلًا لأهل الجنة، فتقع النسبة في المجموع، لا في الخبزة نفسها، فإذا فُتِحَ بابُ القدرة الإلهية وظهورها ذلك اليوم، استغنيت عن التأويل الذي ذكره هو وغيرُهُ. * * * 4286 - وقال: "يُحْشَرُ النَّاسُ على ثلاثِ طرائِقَ: راغِبينَ راهِبينَ، واثنانِ

على بعيرٍ، وثلاثةٌ على بَعيرٍ، وأَرْبَعةٌ على بَعيرٍ، وعَشَرةٌ على بَعيرٍ، وتَحْشُرُ بقيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقيلُ مَعَهُمْ حيثُ قالُوا، وتَبيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ باتُوا، وتُصْبحُ مَعَهُمْ حيثُ أَصْبَحُوا، وتُمْسِي مَعَهُمْ حيثُ أَمْسَوْا". قوله: "يحشر الناس على ثلاثِ طرائقَ"، قال في "شرح السنة": هذا الحشرُ قبل قيام الساعة، وإنما يكونُ ذلك إلى الشامِ أحياءً، فأما الحشرُ بعد البعث من القبور على خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل، والمعاقبة عليها، إنما هو كما أخبر: أنهم يبعثون حفاة عراة. وقيل: هذا في البعث دون الحشر. يعني: أهل العَرَصاتِ ثلاثة أصناف: "راغبين": وهم الذين لا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون. و"راهبين": وهم الذين يخافون، ولكن ينجون. والثالث: يُحشَرُون إلى النار، وهم المعني بقوله: "وتحشر بقيتهم النار". والتنزيل نطق به، قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} إلى قوله {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 4 - 89]. {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}: حال تقديره: كنتم أزواجًا ثلاثة حال انقسامكم إلى مراتب مختلفة؛ محسن، وأحسن منه، ومتوسط بينهما. شرحُ مشكلات ما في الآية من اللُّغات: {رُجَّتِ الْأَرْضُ}: حُرِّكت وزلزلت، قيل: إن الله تعالى إذا أوحى إليها اضطربت فَرَقًا. {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}؛ أي: فتَّت فتًا كالدقيق المبسوس، وهو المبلول. (الهباء المنبث)؛ أي: الغبار المتفرق.

و (ما) في {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} و {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؛ للاستفهام. قوله: "واثنان على بعير": الصوابُ من حيث المعنى: اثنان بغير واو، وكأنه قال: راغبين راهبين راكبين وغير راكبين، معقبين في الركوب والمشي؛ يعني: يركبون ويمشون بالعُقبةِ، فيكون الواو زائدًا، ويحتمل أن تكون الواوُ واوَ الحال؛ أي: الحال أن بعضَهم يركبُ، وبعضَهم يمشي راجلًا، على سبيل العُقبةِ، وهي النوبة. قال في "شرح السنة": يريد أنهم يعتقبون البعير الواحد، يركب بعضهم ويمشي الباقون عُقَبًا، (العُقَب): جمع عقبة. قوله: "تقيل معهم حيث قالوا ... " إلى آخره. (تقيل) و (قالوا) من (القيلولة)، وهي: النوم نصف النهار، الضمير في (تقيل) للنار، وفي (قالوا) للمحشورين إليها، وهم الكفرة؛ يعني: تلزمهم النار أبدًا بحيث لا تفارقهم، ولا يفارقونها؛ يعني: هم فيها مخلَّدون. * * * 4287 - وقالَ: "إنَّكم مَحْشورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا"، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، "وأَوَّلُ منْ يُكْسَى بومَ القِيامةِ إبراهيمُ، وإنَّ ناسًا منْ أَصْحابي يُؤْخَذُ بهمْ ذاتَ الشِّمالِ فأقولُ: أَصْحابي، أَصْحابي، فيقولُ: إنَّهُمْ لنْ يَزالوا مُرْتَدِّين على أَعْقابهم مُذْ فارَقْتَهُمْ، فأقولُ كما قالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} , إلى قوله: {العَزيزُ الحَكيمُ}. قوله: "حُفاة عُراة غُرلًا"، (الحفاة): جمع الحافي، وهو الذي ليس في رجله خفٌّ ولا نعلٌ.

و (العراة): جمع العاري، وهو الذي ليس ببدنه ثوبٌ. (الغُرْل): جمع الأغرل، وهو الذي لم يُختَنْ. والفائدةُ في خلق الجلدة المقطوعة من المختنين، والعلم عند الله سبحانه: التنبيهُ على إحكام خِلْقَتِهِ، وأنه خُلِقَ للأبد، لا للفناء؛ إذ لم ينقصْ من أعضائه، بل الناقص أُعيدَ كاملًا، أو لأنه التزم عَودَهُ كما كان، ووقت كونه كان غُرلًا، فأُعيدَ كما كان. (حفاة) (عراة) (غرلًا) ثلاثتها منصوبة على الحال من الضمير في (محشورون). قوله: "ثم: قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ": الكاف متعلق بمحذوفٍ دلَّ عليه (نعيده)، تقديره: نعيد الخلق إعادةً مثل الخلق الأول؛ يعني: بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلًا، كذلك نعيدهم يوم القيامة نظيرها. {وَعْدًا عَلَيْنَا} إعادته، (وعدًا) بالنصب على المصدر من غير لفظ الفعل؛ لأن الإعادةَ وعدٌ، كأنه قال: وعدناه وعدًا، ويجوز أن يكون (علينا) صفة الوعد؛ أي: وعدًا واجبًا علينا بإيجابنا. {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}؛ أي: الإعادة والبعث. وبيان إيجابه تعالى على نفسه حشرَ الأجساد كرمًا: أنه وعد حشر الأجساد المتضمن للثواب والعقاب في كلامه القديم في غير موضع، فإذا وعد به وجب إنجازه صدقًا لوعده؛ لقوله سبحانه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، ولأنه لما أخبر بوقوعه، فإن لم يقع لزم تطرُّقُ الخُلْفِ إلى كلامه، وذلك نقصٌ، وهو سبحانه منزَّهٌ عن ذلك، فإذا ثبت هذا، فالمعاد الجسماني إنما أوجبه إخبارُ الصادق المعصوم، لا القضيةُ العقلية؛ لأنها مختلف فيها، ولأن

العقلَ لا يتكلم في مثل هذا، بل ربما يجاوز فلا يصدق كقول الفلسفي والمعطَّل. قوله: "وأول من يُكسَى يوم القيامة إبراهيمُ" عليه الصلاة والسلام. إن قيل: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم، فكيف يكون إبراهيم مقدمًا عليه بهذه الفضيلة؟ قيل: يحتمل أن الحديثَ مخصوصٌ بالنبي صلوات الله عليه، والتخصيصُ من فصاحةِ كلام العرب. ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم -[كان] مُشرَّفًا باللباس، فحينئذ الحديثُ لا يحتاج إلى التأويل. ويحتمل أن يقال: إن تقدمه في اللباس لا لأجل الفضيلة على نبينا، بل إنما يُكسى أولًا؛ لكونه أباه، وتقدمه في اللباس لعزة الأبوة، لا للفضيلة، بل إنما شرف به وبغيره؛ لكونه أباه، والله أعلم. قوله: "أُصَيْحَابي"، (الأُصَيحاب): تصغير أصحاب، فُتِحَ الحاء لأجل الألف، كـ (أجيمال) تصغير (إجمال). قال في "شرح السنة": إنما صغَّر؛ ليدلَّ على قلة عددهم. إن قيل: (أصحاب) جمع قلة، والقليلُ لا يُقلَّل، إنما يقلل الكثير. قيل: ما من قليل الأقل منه يمكن، فلهذا جاء قليلان. ويمكن أن يقال: إنما حقَّرهم؛ لاحتقارِ أوصافهم، إذا كانوا أصحابَ سوء حين أساءوا العملَ بعدما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دار البقاء، وضيَّعوا صحبته، استحقوا النار، لا للكفر والارتداد، بل للمعاصي، وسياق الحديث دليلٌ عليه، وهو قوله: "لن يزالوا مرتدين على أعقابهم".

قال في "شرح السنة": لم يرد به الردةَ عن الإسلام، وإنما معناه: التخلفُ عن بعض الحقوق الواجبة والتأخر عنها، ولذلك قُيدَ بقوله: (على أعقابهم)، ولم يرتدَّ بحمد الله تعالى أحدٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما ارتد قومٌ من جُفاةِ العرب. قوله: "فأقول كما قال العبدُ الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} " الآية، (العبد الصالح)؛ يعني: عيسى صلوات الله عليه. * * * 4289 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قالَ: يا نبيَّ الله! يُحْشَرُ الكافِرُ على وَجْههِ يومَ القِيامَةِ؟ قال: "أَلَيْسَ الذِي أمْشاهُ على الرِّجلَيْنِ في الدُّنيا قادِرٌ على أنْ يُمْشِيَه على وَجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ؟ ". قوله: "أمْشَاهُ على الرجلين"، (أمشى): إذا جعل أحدًا ماشيًا. * * * 4290 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يَلقَى إبراهيمُ أباهُ يومَ القِيامَةِ وعلى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فيقولُ لهُ إبراهيمُ: أَلَمْ أقُلْ لكَ: لا تَعْصِني؟ فيَقولُ لهُ أبوهُ: فاليَوْمَ لا أَعصِيكَ، فيقُولُ إبراهيمُ: يا ربِّ! إنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخزِيَني يَوْمَ يُبعَثونَ، فأيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أبي الأَبْعَدِ؟ فيقولُ الله - عز وجل -: إنَّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ على الكافِرينَ، ثُمَّ يُقالُ لإبراهيمَ: ما تحتَ رِجلَيْكَ؟ فينظُرُ فإذا هوَ بذِيخٍ مُتَلطَّخٍ، فيُؤخَذُ بقَوائِمِهِ فيُلقَى في النَّارِ". قوله: "وعلى وجه آزر قترة وغبرة"، (الغَبَرة): الغبار، و (القَتَرة): الغبرة التي معها سواد.

قال في "معالم التنزيل": قال ابن زيد: الفرق بين (الغَبَرة) و (القَتَرة): أن (القَتَرة): ما ارتفع من الغبار، فلحق بالسماء، و (الغَبَرة): ما كان أسفل في الأرض. قوله: "فأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعد؟ ". قوله: "من أبي الأبعد": لم يردْ منه الأبعدَ في النسب، إذ الأبُ أصل الولد، فكيف يسمى أبعد؟ وإنما أراد الأبعد مني في المرتبة والالتحاق بأهل النار. يعني: إدخال والدي في النار إهانة لي، وفي الإهانة جلبُ الخزي العظيم، وقد وعدتني أن لا تخزيني؟ فأجيب بأنَّ تعذيبَ الكافر واجبٌ، وفعل الوجوب لا يُسمَّى خزيًا، فالحقيقةُ أنه وعده أن لا يخزيه في نفسه، وفي حقَّ من لا يستحقُّ الخزيَ، وأما الخزيُ المطلق، فلم يمنعه، فإذا علم أن أباه مات على الكفر تبرأ منه؛ لعلمه: أن الجنة محرمةٌ على الكفرة. يقول (¬1) - عز وجل -: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. قوله: "ما تحت رجليك؟ "، (ما): استفهام مبتدأ، و (تحت) خبره، ويحتمل أن يكون بمعنى: الذي؛ أي: انظر إلى الذي تحتَ رجليك. قوله: "فإذا هو بذِيخٍ": (الذيخ): الذكر من الضباع. قوله: "فيُؤخذُ بقوائمه"، (القوائم): جمع قائمة، وهي ما تقوم به الدواب، فهي من الدواب بمثابة الأرجل من الإنسان؛ أي: يُجرُّ بقوائمه فيُلقى في النار. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "قوله"، ولعل الصواب ما أثبت.

4292 - وقال - صلى الله عليه وسلم - "تُدْنىَ الشَّمْسُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ حتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كمِقْدارِ مِيلٍ، فَيكونُ النَّاسُ على قَدْرِ أَعْمالهِمْ في العَرَقِ، فمِنْهُمْ مَنْ يكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومنهُمْ مَنْ يكونُ إلى رُكبتَيْهِ، ومنهُمْ مَنْ يكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومنهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إِلْجامًا". وأَشَارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدِه إلى فيهِ. قوله: "حَقْوَيه": (الحقو): الخصرُ ومشدُّ الإزار، ذكره في "الصحاح". قوله: "كمقدار ميل": قال سليم: لا أدري أيَّ الميلين يعني: مسافة الأرض، أو الميل الذي تكحل به العين؟ ذكره في "شرح السنة". * * * 4293 - عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيَّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ الله تعالَى: يا آدمُ! فيقُولُ: لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يدَيْكَ، قال: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وتسْعَة وتِسْعونَ، فعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "، قالوا: يا رسولَ الله! وأيُّنا ذلكَ الوَاحِدُ؟ قال: "أَبْشِرُوا، فإنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا، ومِنْ يأْجُوجَ ومأجوجَ ألفٌ"، ثُمَّ قال: "والذِي نَفْسِي بيدِه، إنَّي أَرْجُو أنْ تكونوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فكَبَّرنا، فقال: "أرجُو أنْ تكونُوا ثُلُثَ أهلِ الجَنَّةِ"، فكبَّرنا، فقال: "أرجُو أنْ تكونوا نِصفَ أهلِ الجَنَّةِ"، فكبَّرنا، قال: "ما أنتُم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعْرَةِ السَّوْداءِ في جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أو كشَعرَةٍ بيضاءَ في جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ". قوله: "ما أنتم في الناسِ إلا كالشعرةِ السوداءِ في جلد ثورٍ أبيض، أو كشعرة بيضاءَ في جلد ثورٍ أسود"؛ يعني: أنتم قليلون بالإضافة إلى الأمم السالفة، والكفارِ مطلقًا. * * *

4294 - وقالَ: - صلى الله عليه وسلم - "يَكْشِفُ ربنا عنْ ساقِهِ، فيَسْجُدُ لهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنةٍ، ويَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ في الدُّنيا رِياءً وسُمْعَةً، فيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا واحِدًا". قوله: "الرياء والسمعة"؛ أي: الصَّيتُ والشُّهرة. قوله: "فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا"، قال في "الغريبين": (الطبق): فِقارُ الظهر، واحدتها: طبقة؛ يعني: صار كلُّ فقارِهِ واحدةً، فلا يقدرُ على السجود. * * * 4295 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَأْتيَنَّ الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمِيْنُ يَوْمَ القيامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ الله جَناحَ بَعُوضَةٍ"، وقالَ: "اقرَؤُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ". قوله: "لا يزنُ جناحَ بعوضة"، (جَناح الطير) مفتوح الجيم (¬1): يده، وكذا جناح البعوضة. قوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، قال في "شرح السنة": قال ابن الأعرابي: تقول العرب: ما لفلان عندنا وزنٌ - أي: قَدْرٌ - لخِسَّته. وقيل: معناه: لا يزن لهم سعيهم عند الله مع كفرهم شيئًا. قال الواحدي في "تفسير الوسيط": ويوصفُ الجاهل بأنه لا وزنَ له؛ لخفته بسرعة طيشه، وقلة تثبُّتِهِ. والمعنى على هذا: أنهم لا يُعتدُّ بهم، ولا يكون لهم عند الله قدرٌ ومنزلة. * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "الحاء"، والصواب ما أثبت.

مِنَ الحِسَان: 4297 - وقال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أحَدٍ يَمُوتُ إلا نَدِمَ". قالوا: وما نَدامَتُهُ يا رسولَ الله؟ قالَ: "إنْ كانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أنْ لا يكونَ ازدادَ، وإنْ كانَ مُسِيئًا نَدِمَ أنْ لا يكونَ نَزَعَ". قوله: "ما من أحد يموت" الحديث. (يموت): جملة فعلية صفة لأحد، و (أحد) فيه معنى العموم؛ لأن النكرةَ في سياق النفي تَعمُّ. يعني: من مات محسنًا كان أو مسيئًا، ندم على أنه كان مقصَّرًا في طاعة الله سبحانه؛ أما ندامة المحسن: فلأنه ربما قصَّر في حقيقة العبودية والإخلاص فيها، وأما ندامة المسيء: فلأنه قصَّر في العبودية، والأخلاص فيها، فإذا ماتوا انتبهوا، فظهرت ندامتهم، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. قوله: "ندم أن لا يكون نَزَعَ"، قال في "الصحاح": نَزَعَ عن الأمور نُزُوعًا؛ أي: انتهى عنها؛ يعني: ندم أن لا يكون انتهى عن المعاصي. * * * 4298 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ النَّاسُ يومَ القِيامةِ ثَلاثَةَ أَصْنافٍ: صِنْفًا مُشَاةً، وصِنْفًا رُكبانًا، وصِنْفًا على وجُوهِهمْ"، قيلَ: يا رسولَ الله! وكيفَ يَمْشونَ على وجُوهِهم؟ قال: "إن الذِي أمْشاهُمْ على أَقْدامِهِمْ قادِرٌ على أنْ يُمشِيَهُمْ على وجُوهِهِمْ، أما إنَّهُمْ يَتَّقونَ بِوُجُوهِهمْ كُلَّ حَدَبٍ وشَوْكٍ". قوله: "أما إنهم يتَّقونَ بوجوهِهم كلَّ حَدَبٍ وشوكٍ"، (أما) كلمة تنبيه؛ يعني: اعلموا أن الكفرة يتقون يوم القيامة أبدانهم بوجوههم.

(كل حدب وشوك)؛ يعني: وجوههم واقية لأبدانهم من جميع الأذى، وفي الدنيا الأمر على العكس؛ يعني: ما سوى الوجه من الأعضاء يكون واقيًا للوجه، وإنما يكون كذلك؛ لأن الوجهَ الذي هو أعزُّ الأعضاء وأشرفها لم يضعْهُ الكافرُ في الدنيا ساجدًا على أذل الأشياء، وهو التراب، وعَذلَ عن ذلك تكبرًا وتعززًا، فإذا كان كذلك جُعِل أمرُهُ على العكس إهانةً لهم. هذا إشارةٌ إلى سوء أحوال الكفرة في الآخرة، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24]. قال المفسرون؛ يعني: يلقى الكافر مغلولًا في النار، فلا يقدر عن أن يدفعَ عن نفسه النار إلا بوجهه، فحينئذ لا واقيَ له البتةَ. * * * 4299 - عن ابن عُمَر - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرهُ أنْ يَنظُرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ كأنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيقرأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". قوله: "من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيَ عين" الحديث. (سرَّه)؛ أي: فرَّحه، و (أن ينظر) فاعل (سره). الـ (رأي) فَعْل بمعنى مَفْعول، كأنه قال: مَرئي العين ومبصرها. يعني: من أراد أن ينظر إلى أهوال يوم القيامة رأي العين، فليقرأ هذه السور الثلاث؛ لاشتمالها على ذكر القيامة من انتشار الكواكب، وانفطار السماوات، وغير ذلك من الأهوال. * * *

3 - باب الحساب والقصاص والميزان

3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ (باب الحساب والقصاص) مِنَ الصِّحَاحِ: 4300 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَدْخُلُ منْ أُمَّتي الجَنَّةَ سَبعونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ". "يدخلُ من أمتي الجنةَ سبعون ألفًا بغيرِ حسابِ": اختلف النحاة في أن الدخول لازم أو متعد، فإن كان لازمًا، فـ (الجنة) نصب على الظرف، وإن كان متعديًا فهو مفعول به، فالأصح أنه لازمٌ. ويحتمل أن يُريد بقوله: "سبعون ألفًا" هذا العدد فحسب، ويحتمل أن يُريد به الكثرةَ، كما ذُكِر في مواضعَ، والمرادُ به الكثرة. قال تاج القراء في تفسيره "اللباب والغرائب" في قوله سبحانه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: روى أبو عمرو وابن الأعرابي عن العرب: سبَّع الله لك الأجرَ؛ أي: أكثر لك؛ أراد التضعيف. وقال الأزهري في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]: جمع السبع الذي يُستعمَل للكثير، ألا ترى أنه لو زاد على السبعين لم يغفر لهم؟ ولهذا جاء في الأخبار: سبع وسبعون وسبع مئة. فإذا كان كذلك فالمراد بالسبعين جمع السبع الذي يُستعمَلُ للكثرة، لا للعدد الذي فوق الستين ودون الثمانين. * * *

4301 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلَّا هَلَكَ"، قلتُ: أَوَ ليسَ يقولُ الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقالَ: "إنَّما ذلكَ العَرْضُ، ولكنْ مَنْ نُوقِشَ في الحِسابِ يَهلِكُ". قوله: "من نُوقِش الحسابَ يهلك"، (من) شرطية، و (نوقش) جملة شرطية، و (يهلك) جملة جزائية، يجوز في (يهلك) الجزم وتركه؛ إن جزم فظاهر؛ لأنه فعلٌ مستقبل، وإن لم يجزم فلأن اشرطَ ماضٍ، والجزاءُ يترتب على الشرط، فإذا كان الشرط غير مجزوم، فجزاءُهُ يجوز أن يكون غير مجزوم. قال في "شرح السنة": (المناقشة): الاستقصاءُ في الحساب حتى لا يُترَكَ منه شيء، يقال: انتقشت منه جميعَ حقي، ومنه: نقش الشوكة من الرِّجل، وهو استخراجها منها؛ يعني: من جرى في حسابه مضايقةٌ بالنقير والقطمير، فقد هلك. * * * 4302 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سيُكلِّمُهُ ربُّه، ليسَ بينَهُ وبينَهُ تَرْجُمانٌ ولا حِجابٌ يَحْجُبُهُ، فيَنظُرُ أيْمنَ منهُ فلا يَرى إلَّا ما قدَّمَ منْ عَمَلِهِ، وينظُرُ أشْأمَ منهُ فلا يرَى إلَّا ما قَدَّمَ منْ عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ بينَ يدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بشِقِّ تَمْرَةٍ". قوله: "ليس بينه وبينه ترجمانٌ ولا حِجابٌ"، (ترجم كلامه): إذا فسَّره بلسان آخر، ومنه (التَّرجمان) مثل الزعفران، ويقال: ترجمان، ولك أن تَضُمَّ التاء لضمة الجيم، فتقول: تُرْجُمان مثل: يَسروع ويُسروع، ذكره في "الصحاح". يعني: ليس بين ربه تعالى وبين العبد ترجمان؛ يعني: مفسر، ولا حِجاب. قوله: "فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر أشأم" الحديث.

(الأيمن): بمعنى اليمين، و (الأشأم): بمعنى الشمال؛ يعني: إذا كلَّم الله سبحانه عبدًا من عباده، فقد تحيَّر في ذلك الموطنِ بحيث لا مهربَ له ولا نصيرَ، فإذا نظر إلى يمينه وشماله، فلا يرى إلا العمل، وإذا نظرَ إلى بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه. "فاتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ"؛ يعني: فإذا عرفتم ذلك، فاحذروا النارَ، ولو بشيء يسير؛ يعني: لا تجترئوا على المعاصي ولو كانت صغائر، فإن المعاصيَ في معرض المؤاخذة، إلا أن يتوبَ وتصلحَ سريرتُهُ. * * * 4303 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُدْني المُؤْمِنَ فيضَعُ عليهِ كَنَفَهُ ويَسْتُرُه فيقولُ: أَتَعْرِفُ ذنْبَ كذا؟ فيقولُ: نَعَمْ، أيْ رَبِّ! حتَّى إذا قرَّرَهُ بذُنوبهِ ورأَى في نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ قالَ: ستَرتُها عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغْفِرُها لكَ اليَوْمَ، فيُعْطَى كتابَ حَسناتِهِ، وأمَّا الكُفَّارُ والمُنافِقُونَ فيُنادَى بهِمْ على رؤُوسِ الخَلائقِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ". وقوله: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه": (يُدنِي)؛ أي: يقرب. (الكَنَف): الجانب، وجناح الطائر: كنفه، والكنف: الساتر، وحظيرة من شجرة تُجعَل للإبل، ذكره في "الصحاح". أي: يستره ويحفظه، يقال: فلانٌ في كنف الأمير؛ أي: في حفظه ومعاونته، وقيل: يبرُّهُ ويرحمُهُ. * * * 4304 - وقالَ: - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ دَفَعَ الله إلى كُّلِّ مُسْلِمٍ يَهوديًا أو

نَصْرانِيًا فيقولُ: هذا فَكاكُكَ مِنَ النَّارِ". قوله: "إذا كان يومُ القيامةِ دفعَ الله" الحديث. (كان) هنا تامة، معناه: أتى أو ظهر. يقال: دفع إلى فلان شيئًا؛ أي: أعطاه شيئًا. فك الرهن وافتكه بمعنى؛ أي: خلَّصه، و (فَكاك الرهن): ما يُفتكُّ به، و (فِكاك الرهن) أيضًا بالكسر: لغةٌ حكاها الكسائي، ذكره في "الصحاح". يعني: إذا جاء يوم القيامة أعطى الله سبحانه كلَّ مسلم يهوديًا أو نصرانيًا؛ ليلقيه في النار فداءً له، تحقيق هذا: أن كل مسلم يوم القيامة يُعطَى ما كان ليهودي أو نصراني من المنزلة والكرامة لو آمنَ بجميع الكتب والرسل خصوصًا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وكتابنا. * * * 4305 - وقالَ: "يُجَاءُ بنوْحٍ يومَ القِيامَةِ فيُقالُ له: هلْ بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعمْ، يا رَبِّ! فتُسأَلُ أمَّتُهُ: هلْ بلَّغَكُمْ؟ فيقولون: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}، فيُقالُ: مَنْ شُهودُكَ؟ فيقول: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ"، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيُجاءُ بِكُمْ فتَشْهَدونَ أنَّهُ قدْ بَلَّغَ"، ثمَّ قَرأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. قوله: "ما جاءنا من نذير"، و (النذير): فعيل بمعنى مفعول، وفعيل قد يكون بمعنى فاعل، كـ (شفيع) بمعنى: شافع، وقد يكون بمعنى مُفاعِل كـ (سمير) بمعنى: مُسامر، وقد يكون بمعنى مُفعَل - بفتح العين - كـ (حكيم) بمعنى: محكَم، وقد يكون بمعنى مفعول كـ (ذبيح) بمعنى: مذبوح، والأخيرُ في صفة المذكر والمؤنث واحد، تقول: رجل جريح، وامرأة جريح.

قوله: {أُمَّةً وَسَطًا}، (الوَسَط) بفتح السين: العدل والخيار، وإنما سمَّى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسطًا؛ لأنهم لم يَغْلُوا غلوَّ النصارى، ولا قصَّروا تقصيرَ اليهود في حقوق أنبيائهم بالقتل والصلب، ذكره في "تفسير اللباب". * * * 4306 - عن أنس - رضي الله عنه - قالَ: كُنَّا عِنْدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فضَحِكَ، فقالَ: "هلْ تَدْرونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ " قال: قُلنا: الله ورسولُه أَعْلَمُ، قال: "مِنْ مُخَاطَبةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يقولُ: يا رَبِّ! أَلَمْ تُجِرْني مِنَ الظُّلمِ؟ "، قال: "فيقولُ: بَلَى"، قالَ: "فيقولُ: فإنَّي لا أُجيزُ على نَفْسِي إلَّا شاهِدًا مِنِّي"، قال: "فيقولُ: كَفَى بنفْسِكَ اليَوْمَ عليكَ شَهيدًا، وبالكِرامِ الكاتِبينَ شُهودًا"، قال: "فيُختَمُ على فيهِ، فيُقالُ لأَرْكانِهِ: انْطِقي"، قالَ: "فتَنْطِقُ بأَعْمالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بينهُ وبينَ الكلامِ"، قال: "فيقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ". قوله: "كفى بنفسِكَ اليومَ عليك شهيدًا"، (كفى): يستعمل لازمًا ومتعديًا إلى واحد وإلى اثنين؛ ومتى كان بمعنى: اكتفى، كان لازمًا، كما هو لفظ الحديث. و (شهيدًا) نصب على الحال، و (عليك) معمول (شهيدًا). يعني: اكتفِ بنفسِكَ في حال كونك شهيدًا. (عليك): خبرٌ صورة أمرٌ معنى. ومرة يُستعمَلُ متعديًا إلى واحد، كما قال المتنبي: كَفَى بكَ داءً أن تَرَى الموتَ شَافيا والباء زائدة في المفعول، و (أن ترى) فاعله، و (داء) نصب على التمييز. ومرة يتعدَّى إلى اثنين، قال الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، و (المؤمنين) و (القتال) مفعولاه.

قوله: "فيُختَمُ على فيه"؛ أي: على فمِهِ، "فيقال لأركانه"؛ أي: لجوارحه "انطقي" فتنطق بأعماله. يعني: تشهد جوارحُهُ بذنوبه، فتقول يده (¬1) مثلًا: سرقتَ بي المال الفلاني، وتقول رجله: بي خطوتَ إلى المعاصي، وتقول العين: بي نظرتَ إلى الحرام، وتقول الأذن: بي سمعتَ الغيبة والبُهتان، ومصداقُ هذا قولُهُ تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. وشهادة - الجوارح وإن كُنَّ جمادات - ليست مستبعدةً؛ لأن البينة ليست شرطًا عند أهل السنة، قال الله تعالى: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. قوله: "ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام"؛ يعني: يُخلَّى العبدُ المجرمُ بينه وبين كلامِهِ، فيقول لجوارحه: "بُعدًا لكُنَّ وسُحقًا". (بعدًا) و (سحقًا): من المصادر التي وجب حذفُ فعلها، وإنما وجب حذف فعلها؛ لأن كَثُرَ التلفظ بها، وفُهِمَ منها معنى الدعاء والإخبار، كما فُهِم من الفعل، فصارت كأنها بدل من اللفظ بالفعل، فلم يظهر الفعلُ معهنَّ حتى لا يجتمع البدل والمبدل. والضمير المخاطب في (لكنَّ) للجوارح. قوله: "فعنكُنَّ أناضل": قال في "الصحاح": فلان يناضلُ عن فلان: إذا تكلم بُعذرِهِ ودفعَ، وأصلُ المناضلة: المراماةُ بالسهام. والمراد بها ها هنا: المحاجَّة بالكلام؛ يعني: كنت أخاصمُ مع الله سبحانه ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يده لصاحبه".

لخلاصكن من النار، وأنتن تلقينَ أنفسكُنَّ في النار. * * * 4307 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: يا رسولَ الله! هلْ نرَى ربنا يومَ القِيامةِ؟ قال: "هلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ في الظَّهيرَةِ ليسَتْ في سَحابَةٍ؟ " قالوا: لا، قالَ: "فهل تُضارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ ليسَ في سَحابَةٍ؟ " قالوا: لا، قالَ: "فوالذي نَفْسِي بيدِه، لا تُضَارُّونَ في رُؤْيةِ ربكُمْ إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤْيةِ أَحَدِهما. قال: "فيَلقَى العَبْدَ فيقولُ: أيْ فُلْ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ وأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وأُسخِّرْ لكَ الخَيْلَ والإِبلَ وأذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيقولُ: بلَى". قالَ: "فيقولُ: أفَظننْتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فيقولُ: لا، فيقولُ: فإنَّي قدْ أَنْساكَ كما نَسِيتَني، ثُمَ يَلقَى الثَّانيَ، فَذَكَرَ مِثْلَه، ثُمَّ يَلقَى الثَّالثَ فيقولُ لهُ مثلَ ذلكَ، فيقولُ: يا رَبِّ! آمَنْتُ بكَ وبكتابكَ وبرُسُلِكَ، وصَلَّيْتُ وصُمْتُ وتَصَدَّقْتُ، ويُثني بخَيْرٍ ما استَطاعَ، فيقولُ: ها هُنا إذًا، ثُمَّ يُقالُ: الآنَ نَبْعَثُ شاهِدًا علَيكَ، ويتَفَكَّرُ في نفسِهِ: مَنْ ذا الذي يَشْهَدُ عليَّ؟ فيُختَمُ على فيهِ، ويُقالُ لفَخِذِه: انْطِقي، فتنطِقُ فخِذُهُ ولَحْمُهُ وعِظامُهُ بعَمَلِهِ، وذلكَ ليُعذَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وذلكَ المُنافِقُ وذلك الذي سَخِطَ الله عَلَيهِ". قوله: "هل تُضارُّون في رؤيةِ الشمسِ في الظَّهيرةِ"، (الظهيرة): الهاجرة، وهي شدة الحرارة؛ يعني: نصف النهار. قال في "الغريبين": (تُضارُون) بالتخفيف: من (الضير)، والأصل فيه (تُضْيَرون) على وزن (تُفعَلون) علي بناء ما لم يُسمَّ فاعله، فنُقِلت حركة الياء إلى الضاد، فقُلِبت الياء ألفًا، فصار: يُضارُون. وبالتشديد: من (المضارة)، والمعنى واحد؛ أي: لا يخالفُ بعضكم

بعضًا، فيكذبه، ولا تنازعون، يقال: ضاررته مضارة: إذا خالفته، يقال: ضاره يضير [هـ]، وأهل العالية [يقولون]: يضوره. يعني: لا ينالكم ضررٌ ولا ضيمٌ في رؤيته تعالى، وإنما بيَّن الرؤية عليه بهذه الكيفية، وأنزلها منزلةَ ما لا خفاءَ في رؤيته؛ يعني: رؤية الشمس في وقت الهاجرة؛ تحقيقًا لرؤيته سبحانه، وهذا التشبيهُ تشبيهُ الرائي بالرائي، لا تشبيه المرئي بالمرئي، تعالى الله عن سِمةِ الحدوث. واعلم أن رؤية الله تعالى واجبة لأهل الحق عندهم، وإنما وجبت؛ لأنه تعالى وعد بمنطوق قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وبمفهوم قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فإذا كان كذلك علمنا أن وعده واجب الوقوع لا محالةَ؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]. قوله: "ألم أسوَّدْكَ"؛ أي: ألم أجعلك سيدًا. قال في "الصحاح": وقولهم في النداء: (يا فُلْ) مخففًا، وإنما هو محذوفٌ من (يا فلان)، لا على سبيل الترخيم، ولو كان ترخيمًا لقال: يا فُلا، وربما قيل ذلك في غيرِ النداءِ للضرورة، قال أبو النجم: في لَجَّةٍ أمسِكْ فلانًا عنْ فُلِ و (اللجية) بفتح اللام معناها: الاضطراب والحركة، و (فلان): كناية عن اسم إنسان. قوله: "ألم أكرمك وأسودك"؛ أي: ألم أجعلك سيدًا؟ والاستفهام هنا بمعنى التقرير، والواو في (وأذرك) عطف على قوله: (ألم أكرمك). قال في "شرح السنة": ويروى: "تَرأَسُ وتربعُ"، (ترأس)؛ أي: تكون رئيسهم، و (تربع)؛ أي: تأخذ المِرباعَ من أموالهم، وهو الربع من رأس

ما غنموه إذا غزا بعضُهم بعضًا، كان الرئيسُ في الجاهلية يأخذه خالصة دون أصحابه. ويروى: "تَرْبَع وتَدْسَع"؛ أي: تعطي فتجزل، والعربُ تقول للجواد: هو ضخمُ الدَّسيعة، وهي الجفنة، وقيل: المائدة الكريمة. قوله: "ليُعذِرَ من نفسِهِ": وهو على بناء الفاعل من (الإعذار)، وهو ها هنا بمعنى أن يأتيَ الشخصُ بالعذر الصحيح من نفسه. * * * مِنَ الحِسَان: 4308 - عن أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "وَعَدَني ربي أنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي سَبْعينَ ألفًا لا حِسابَ عَلَيهمْ ولا عذابَ، معَ كُلِّ ألفٍ سَبْعونَ أَلْفًا، وثلاثُ حَثَياتٍ منْ حَثَياتِ ربي". قوله: "وثلاث حَثَيات من حَثَياتِ ربي": و (ثلاث): نصب معطوف على قوله: (ألفًا). الحثية في اللغة: فعلة من (حثا يحثو ويحثي): إذا أخذ التراب ونثره على شيء؛ قال: الحُصْنُ أَدْنَى لو تَآيَيْتِهِ ... من حَثِيْكِ التُّرْبَ على الرَّاكبِ قال الأزهري: (الحُصنُ): حصانة المرأة، وتآييته؛ أي: تعمدته وقصدته، تقول امرأةٌ لِبنتها حين حثتِ الترابَ على وجه الراكب. والمراد ها هنا: قبضة من قبضاته؛ أي: عدد غير معلوم، كما أنَّ ما يُؤخَذُ بالكف من التراب أو غيره يكون غير محصور.

فالمعنى - والله أعلم - أنه يكون مع هذا العدد عددٌ كثير غيرُ معلوم؛ لأن تخصيص الحثية أنها غير معلومة المقدار، كالكفِّ من التراب لا يعلم عدده. والحثيات فوق ثلاث لا يعلمُ عددهن إلا الله سبحانه، وتخصيص الثلاث أنه فردٌ كسبعين؛ لتتطابقا. * * * 4309 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامةِ ثَلاثَ عَرَضاتٍ، فأَمَّا عَرْضَتانِ فجدالٌ ومَعاذيرُ، وأمَّا العَرْضَةُ الثَّالثةُ فعِنْدَ ذلكَ تَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي فآخِذٌ بيَمينهِ وآخِذٌ بشِمالِهِ"، ضعيف. قوله: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرَضاتٍ"؛ أما العرضة الأولى فللجدالِ، وهو عبارةٌ عن دفع العبد الذنوب عن نفسه، وتفصيها منها، ولا سيما الكافر يأبى إبلاع الرسول، ويقول: ما رأيته ولا جاءني، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يجادله ويكذبه، ولا ينفصل الحال في ذلك الموقف، بل ينقضي بالجدال والنزاع، كما يطول ذلك في الدنيا بين يدي الحكام. والعرضة الثانية: للمعاذير، وهي جمع (معذور)، أو (معذورة)، والياء للإشباع كـ (مياسير) جمع: ميسرة، وحاصلها: أنه يعترف ويعتذر ويقول: فعلت سهوًا، واضطررت إليه على مذهب من يقول: العبد مجبرٌ على فعله. والعرضة الثالثة: لتطاير الصحف؛ أي: لقطع الخصومات، وإظهار الحق، وتقوية قول الأنبياء، وشهادة الحفظة على صدق العبد أو كذبه، وإنهاء الله العبيد بما قذفوه، وقد نسوا بعضه أو كله، أو افتروا وتقوَّلوا وأرادوا كتمان جرائمهم، ففضحهم الحقُّ على رؤوس الخلائق، وكذَّبهم، وصدَّق المحسن، وتفضل عليهم برحمته؛ لأنه وإن كان محسنًا، لكنه لو عدل معه استحقَّ النار؛ لأنه ما عمل عملًا في عمر قصير يستحقُّ به دخولَ دار السلام، والخلود فيه مدةً

لا نهايةَ لها، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمته وفضله". ومفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أن يتغمدني الله برحمته": أن نعيم الجنة هو الإنعام العظيم الذي لا توازيه طاعاتُ جميع الخلائق، ولو عُمَّروا ألوفًا، وإذا كان ذلك متناهيًا، ونعيم الجنة لا يتناهى، والمتناهي لا يقابل غيرَ المتناهي، فلا يتساويان، فلا بد من تداركِ الرحمةِ، ولو من كان، وأيضًا فطاعته في الدنيا صدرَتْ منه بتوفيقِ الحقَّ، فقد تقابلا، وزاد إعطاءَ الرزق والسلامة له، وهدايته، فقد تهدَّرت الطاعة في الدنيا، فخرج العبد يوم القيامة مُفِلسًا، والمفلسُ لا يستحقُّ شيئًا على أحد، فكيف يستحق مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! فلا بد من تدارك الرحمة. والكافر لم يعمل حسنةً قط، ولا شكر الرزاق، ولا اهتدى، فكان مفلسًا في الدنيا من كلَّ الوجه، فلم يستحقَّ في الآخرة إلا أشد العذاب بما فرَّط من الجنايات العظيمة وكفران الخالق. قوله: "تطاير الصحف": أصله: تتطاير، (تطاير الشيء): تفرق، ذكره في "الصحاح". (الصحف): جمع صحيفة، وهي الكتاب. أما معناه: فإما إيصالُ الأجزية إلى أصحابها، فيُعطَى كلُّ ذي حقًّ حقه؛ إساءةً كانت أو إحسانًا، وإما تعريفُ كلَّ واحد منه ما يستحقه من بشارة أو خزي. قوله: "فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله"؛ يعني: فبعضُهم يأخذ ذلك الكتاب بيمينه، وبعضهم يأخذُ بشماله، أما الذي يأخذه بيمينه بفضله ورحمته، فهو من أهل السعادة، وأما الذي يُجبَرُ أن يأخذَهُ بشماله، فهو من أهل الشقاوة،

أعاذنا الله من ذلك. * * * 4310 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا منْ أُمَّتي على رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ، فيَنْشُرُ عليهِ تِسْعَةً وتسعينَ سِجِلًا، كُلُّ سِجلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يقولُ: أتُنْكِرُ مِنْ هذا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتي الحافِظونَ؟ فيقولُ: لا، يا رَبِّ! فيقولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ قالَ: لا، يا رَبِّ! فيقولُ: بَلَى، إنَّ لكَ عِنْدَنا حَسَنةً، وإنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيكَ اليَوْمَ، فتُخرَجُ بِطاقةٌ فيها: أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فيقولُ: احضُرْ وَزْنَكَ، فيقولُ: يا رَبِّ! ما هذهِ البطاقَةُ معَ هذهِ السَّجِلاتُ؟ فيقولُ: إنَّكَ لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعَ السِّجلاتُ في كَفَّةٍ والبطاقَةُ في كَفَّةٍ، فطاشَتِ السِّجلاتُ وثَقُلتِ البطاقَةُ، فلا يَثْقُلُ معَ اسمِ الله شَيْءٌ". قوله: "إن الله يستخلصُ رجلًا من أمتي على رؤوسِ الخلائقِ": (استخلص شيئًا)؛ أي: اختاره لنفسه. قوله: "كلُّ سِجلٍّ مثل مدِّ البصر"، (السِّجل): الكتاب، و (مدُّ البصر): عبارةٌ عما ينتهي إليه بصر الإنسان؛ يعني: كل كتاب منها طوله وعرضه مقدار ما يمتدُّ إليه البصر. قوله: "فتخرجُ بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، (البطاقة) بالكسر: رُقَيعةٌ تُوضَعُ في الثوب، فيها رقمُ الثمن بلغة أهل المصر، يقال: سميت بذلك؛ لأنها تُشبهُ بطاقةَ هذا الثوب، ذكره في "الصحاح". قوله: "فتُوضَعُ السجلاتُ في كفةٍ، والبطاقةُ في كفةٍ، فطاشت السجلاتُ، وثقلت البطاقةُ"، (طاشت)؛ أي: خفت، (الطيش): خفة العقل.

إن قيل: الأعمال أعراضٌ، والأعراضُ لا يمكن وزنُها، إنما توزن الأجسام؟ قيل: إنه يوزن مجال الأعمال التي الأعمالُ مكتوبة فيها، وهي صحائف الأعمال. وقيل: إنه سبحانه يخلق في كفة ميزان السعداء ثقلًا، وفي كفة الأشقياء خفة؛ هي علامة للسعادة والشقاوة. والقولان متفرعان على مذهب من يجري الوزن والميزان على الظاهر، وهو مذهب أهل السنة. وأما مَن يحمله على المعنى فيقول: إن الوزنَ في الأجسام علامةٌ يُعرَف بها الربح والخسران، ففي الأعمال في الآخرة علامةٌ تظهر بها السعادة والشقاوة، نحو بياض الوجوه وسوادها عند مَن يحمله على المعنى، وهو مذهب المعتزلة والفلاسفة. قوله: "ولا يثقل مع اسم الله شيء"؛ أي: مَن كان معه ذِكرُ الله تعالى فلا يقاومه شيءٌ لا من المعاصي، بل يترجَّح الذَّكرُ على سائر المعاصي. * * * 4311 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها ذَكَرَت النَّارَ فَبَكَتْ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبكيكِ؟ " قالت: ذَكَرْتُ النَّارَ فبَكيتُ، فهلْ تذكُرونَ أَهْليكُمْ يَوْمَ القِيامةِ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا في ثلاثةِ مَواطِنَ فلا يَذْكُرُ أَحَدٌ أحدًا: عِنْدَ الميزانِ حتَّى يَعْلَمَ أيَخِفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعندَ الكتابِ حينَ يُقالُ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حتَّى يَعْلَمَ أينَ يقعُ كتابُه أفي يمينهِ أمْ في شِمالِهِ أو منْ وراءِ ظهرِه، وعند الصِّراطِ إذا وُضعَ بينَ ظَهْراني جَهَنَّمَ".

4 - باب الحوض والشفاعة

قوله: "إذا وُضعَ بين ظَهْرَي جهنم"، يقال: هو نازلٌ بين ظَهْرَي فلان؛ أي: بينه؛ يعني: موضعُ جسر أدقُّ من الشَّعر، وأحدُّ من السيف، فيمرُّ عليه الناسُ فيَعْبُره السُّعَداءُ، ويسقط منه الأشقياء في جهنم، أعاذنا الله من ذلك. * * * 4 - باب الحَوْضِ والشَّفاعَةِ (باب الحوض والشفاعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4312 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنا أنا أَسيرُ في الجنَّةِ إذا أَنا بنهْرٍ حافَّتاهُ قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قلتُ: ما هذا يا جِبْريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ الذي أَعْطاكَ ربُّكَ، فإذا طِينُه مِسْكٌ أذفَرُ". قوله: "إذا أنا بنهرٍ حافتاه قِبَابُ الدُّرَّ المجوَّف"، (حافتاه)؛ أي: طَرَفا 4 هـ. قال في "الصِّحاح": القُبَّة - بالضم - من البناء، والجمع: قُبَب وقِبَاب. (المُجَّوف): الشيء الذي له جوفٌ. قوله: "هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّك"، قال ابن عباس: الكَوثر: الخير الكثير، أعطاه الله إياه، وقيل: القرآن والنبوة، ذكره في "شرح السُّنَّة". قوله: "فإذا طِينُه مِسْكٌ أذفر"، (إذا أنا)، و (إذا طينُه): كلاهما للمفاجأة، وما بعده مبتدأ وخبره، ويجوز حذف خبره وإثباته، فـ (طينه): مبتدأ، و (أذفر): خبره، و (إذا): معمول (أذفر)، أو خبر بعد خبر، تقديره: إذا طينُه موجود هناك، ومع كونه موجودًا هو أذفر.

و (ذَفِر) بكسر الفاء: شديد الرائحة. * * * 4313 - وقالَ: "حَوْضي مَسيرةُ شَهْرٍ، وزَواياهُ سَواءٌ، ماؤُهُ أبيضُ مِنَ اللَّبن، وريحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وكِيزانُهُ كنُجومِ السَّماءِ، مَنْ يَشْرَبْ منها فلا يَظمأُ أبدًا". قوله: "حوضي مسيرةُ شهرٍ، وزواياه سواءٌ"، (مسيرة شهر): إضافة المصادر إلى الظروف بمعنى (في)، كـ (ضرب اليوم والليل)؛ أي: ضرب في اليوم والليل، وكذا مسيرة شهر؛ أي: مسيرة في الشهر؛ لأن الشهرَ صار ظرفَ المسير، إذ السيرُ حَدَثٌ، والأحداث إنما تقع في الأزمنة، ويجوز مجازًا أن يكون بمعنى اللام؛ أي: سيرٌ لا بد له من انقضاء شهر، وقد يُخصَّص انقضاءُ الشهر بذلك المسير. (الزوايا) جمع: زاوية، وهي الناحية والجانب؛ يعني: طوله وعَرضُه سواءٌ. قوله: "كِيزَانُه كنجوم السماء"، (الكِيزان) جمع: كوز؛ يعني: كِيزانُ حَوضي في الكثرة كعدد نجوم السماء. قوله: "مَن يَشربْ منها فلا يظمأ أبدًا"، الضمير في (منها) يعود إلى (الكِيزان)، وإنما لا يظمأ أبدًا؛ لأن الغفرانَ سببٌ للشرب منه، ومَن كان مغفورًا فلا يلحق إليه ما فيه ضررٌ، والظمأ مما فيه ضررٌ، فإذًا: لا يصير ظمآنَ. قوله: "أبيض من اللَّبن"؛ أي: أشدُّ بياضًا منه؛ لأن ما هو من العيوب والألوان لا يُبنى من لفظه صيغة أفعل التفضيل والتعجب، ولو كان ثلاثيًا؛ لأنه على تقدير المنشعبة؛ يعني: (بَيضَ) على تقدير: ابيضَّ وابياضَّ، و (عَوِرَ) على

تقدير: اعورَّ واعوارَّ. * * * 4314 - وقال: "إنَّ حَوْضي أَبْعَدُ مِنْ أيْلَةَ مِنْ عَدَنَ، لهوَ أَشَدُّ بَياضًا مِنَ الثَّلْجِ، وأَحْلَى مِنَ العسَلِ باللَّبن، ولآَنيَتُهُ أَكْثَرُ منْ عَدَدِ النُّجومِ، وإنَّي لأَصُدُّ النَّاسَ عنهُ كما يَصُدُّ الرَّجُلُ إبلَ النَّاسِ عنْ حَوْضهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أَتَعْرِفُنَا يومئذٍ؟ قال: "نعمْ، لكُمْ سِيما ليستْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًا مُحَجَّلينَ مِنْ أثَرِ الوُضُوءِ". ويُروَى: "تُرَى فيهِ أبارِيقُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ كعَدَدِ نُجومِ السَّماءِ". ويُروَى: "يَغُتُّ فيهِ ميزابانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الجَنَّةِ، أَحَدُهُما مِنْ ذَهَبٍ، والآخَرُ من وَرِقٍ". قوله: "إن حَوضي أبعدُ من أَيْلَة من عَدَن"، قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": يريد ما بين القُطرَين، و (أَيْلَة) بالياء المجرورة - يعني: الساكنة -: بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحرَ اليمن، و (عَدَن): آخر بلاد اليمن مما يلي بحرَ الهند، وفي حديث ثَوبان: "ما بين عَدَن إلى عمان". وفي حديث أنس: "كما بين أَيْلَة وصنعاء من اليَمَن". وفي حديث ابن عمر: "كما بين جَرْبا وأَذْرُح". وفي حديث حارثة بن وهب: "كما بين صنعاء والمدينة". وحديث عبد الله بن عمرو: "ومسيرة شهر". فإن قيل: إن بين هذه المقاديرَ من التفاوت ما لا يخفى على ذوي المعرفة بها؟ قلنا: إنما أخبر نبيُّ الله عن ذلك على طريق التقريب لا على التحديد،

والذي اقتضى ذكر تلك الأماكن مع التفاوت الذي فيها: هو اختلافُ أحوال السامعين في الإحاطة بها علمًا، فبيَّن مقدار مسافة كل قطر من أقطار الحوض؛ تارةً بما يقطعها المسافر من الشهر، وتارة بالأماكن المختلفة المشهورة عند الناس؛ لتقعَ المعرفةُ عند كل أحد على حسب ما عنده من المعرفة ببُعدِ ما بين هذَين الموضعين، ولو أراد التحديد لاقتصرَ أن يأتي في بيانه بذكر موضع لا يُعلم لأحدٍ، فلم يكد يتحقَّق عند السامع مقدارُه، هذا كلُّه منقول من "شرحه". قوله: "وإني لأَصدُّ الناسَ عنه كما يَصُدُّ الرجلُ إبلَ الناسِ عن حَوضه"، قال في "الصحاح": صَدَّ عنه يصُدُّ صدودًا: أعرضَ، وصَدَّه عن الأمر صدًّا: منعَه وصرفَه عنه. (الناس) ها هنا: الكفَّار؛ يعني: إني لأَمنعُ الكَفَرةَ عن حوض الكوثر، كما يمنع الرجلُ إبلَ غيرِه عن حوضه، وإنما منعَهم عن الورد عن الحوض؛ لأنهم لا يستحقُّون ذلك للكفر. قوله: "لكم سِيمَا"، (السِّيما): العلامة. قوله: "تَرِدُون عليَّ غُرًّا محجَّلين من أثر الوضوء"، (غُرًّا محجَّلين): منصوبان على الحال، (الغُرُّ) جمع: أغرّ، وهو أفعل من: الغُرَّة، وهي بياض الوجه، و (المحجَّل): مفعول من: التحجيل، وهو بياض الأيدي والأرجل؛ يعني: علامةُ أُمتي من بين الأمم السالفة: نورٌ يلوح في أعضاء وضوئهم من آثار الوضوء، وبذلك يتميزون عن غيرهم. قوله: "يَغتُّ فيه مِيزَابانِ يَمُدَّانِه من الجنة"، قال في "الغريبين"؛ أي: يدفقان فيه الماءَ دفقًا متتابعًا دائمًا، مأخوذ من قولك: غتَّ الشاربُ الماءَ: [شربَ] جرعًا بعد جرعٍ.

قال في "الصحاح": المِيزاب: المِثْعَب، فارسي معَّرب، وقد عُرِّبَ بالهمز، وربما لم يُهمَز، والجمع: مَآزيب [إذا هُمزت]، ومَيَازيب إذا لم تُهمَز. قال الحافظ أبو موسى في "المغيث": (الميزاب) بفتح الميم وكسرها، من وَزَبَ الماءُ: إذا سال. * * * 4315 - وقال: "إنَّي فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ، مَنْ مرَّ عليَّ شَرِبَ، ومَنْ شرِبَ لمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عليَّ أَقْوامٌ أعرِفُهُمْ ويَعْرِفُونَني ثمَّ يُحَالُ بَيْني وبَيْنَهُمْ، فأَقُولُ: إنَّهُمْ مِنِّي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدرِي ما أَحْدَثوا بَعْدَكَ، فأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لمنْ غَيَّرَ بَعْدِي". قوله: "إني فَرَطُكم على الحوض"، قال في "الغريبين": يقول: أنا أتقدَّمُكم إليه، يقال: فَرَطتَ القومَ: إذا تقدَّمتَهم لترتاد لهم الماءَ، وتُهيئ لهم الدِّلاء والرِّشاء. وقال في "الصحاح" بهذا المعنى، وقال أيضًا: الفَرَط - بالتحريك - وهو فَعَل بمعنى: فاعل، كـ (تَبَعَ) بمعنى: تابع، يقال: رجلٌ فَرَطٌ، وقوم فَرَطٌ أيضًا. قوله: "فأقول: سُحقًا"؛ أي: بُعدًا، كما قال تعالى: {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]؛ أي: بُعدًا، يباعدهم الله من رحمته، والسحيق: البعيد، ومنه قوله تعالى: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، قاله في "شرح السُّنَّة". وهو من المصادر التي وجب حذفُ فعلها، كـ (سَقْيًا و (رَعْيًا) وغير ذلك. * * * 4316 - عن أنس: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحْبَسُ المُؤْمِنونَ يَوْمَ القِيامةِ حتَّى

يهِمُّوا بذلكَ، فيقولونَ: لَوِ استَشْفعْنا إلى رَبنا فيُريحُنا منْ مَكانِنا، فيأتونَ آدمَ فيقولونَ: أنتَ آدمُ، أبو النَّاسِ، خَلقَكَ الله بيدِه، وأَسْكَنَكَ جنَّتَهُ، وأَسْجَدَ لكَ ملائكَتَهُ، وعلَّمَكَ أسماءَ كُلِّ شيءٍ، اشفَعْ لنا عِنْدَ ربكَ حتَّى يُريحَنا منْ مكانِنا هذا، فيقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، أكلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وقدْ نُهيَ عنها، ولكنِ ائْتُوا نُوحًا أوَّلَ نبيٍّ بَعَثَهُ الله إلى أَهْلِ الأَرْضِ، فيأْتونَ نُوْحًا فيقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ التي أَصابَ، سُؤالَه ربَّهُ بغيرِ عِلْمٍ، ولكنِ ائْتُوا إبراهيمَ خليلَ الرَّحمَن". قال: "فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: إنَّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ ثلاثَ كِذْباتٍ كَذَبَهُنَّ، ولكنِ ائْتُوا مُوْسَى عَبْدًا آتاهُ الله التَّوراةَ وكلَّمَهُ وقَرَّبَهُ نَجِيًّا، قال: فيَأْتونَ مُوْسَى فيقولُ: إنَّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، قَتْلَهُ النَّفْسَ، ولكنِ ائْتُوا عيسَى عبدَ الله ورسولَهُ ورُوحَ الله وكلِمَتَهُ، قال: فيأتونَ عيسَى فيقول: لَسْتُ هُناكُمْ، ولكنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ الله لهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبهِ وما تَأَخَّرَ". قال: "فيَأْتونَني، فأَسْتَأْذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤْذَنُ لي عَلَيهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يَدَعَني، فيقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ"، قال: "فأَرْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءٍ وتَحْمِيدٍ يُعلِّمُنيهِ، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَدًا فأَخْرُجُ، فأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فأَسْتَأْذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يدَعَنيِ، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعطَهْ، قال: فَأرْفَعُ رَأْسي فَأُثني على رَبي بثَناءٍ وتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنيه، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَدًا فأَخْرُجُ، فأُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثةَ، فأَسْتأذِنُ على ربي في دارِهِ، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله أن يدَعَني، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، قالَ: فأَرْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءٍ وتَحْميدٍ يُعلَّمُنيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فيَحُدُّ لي حَدًا فأَخْرُجُ، فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، حتَّى ما يبقى في

النَّارِ إلَّا مَنْ قد حَبَسَهُ القُرْآنُ"، أيْ: وَجَبَ عليهِ الخُلودُ، ثُمَّ تلا هذهِ الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وقالَ: "وهذا المَقَامُ المَحْمُودُ الذي وُعِدَهُ نبيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "ويُحبَس المؤمنون يومَ القيامة حتى يُهَمُّوا بذلك"، قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": (يُهَمُّوا) علي بناء المجهول. قال في "الصحاح": أهمَّني الأمر: إذا أقلقَك وحَزَبَك؛ يعني: يكون المؤمنون محبوسين يومَ القيامة حتى يحزنوا بذلك الحبس. قوله: "فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيُريحنا من مكاننا"، قال في "الصحاح": استَشفعتُه إلى فلانٍ؛ أي: سألتُه أن يَشفعَ لي إليه. (لو) ها هنا: بمعنى التمني، معناه: ليت، و (فيُريحنا): نصب على جوابه بإضمار (أن)، ويجوز أن يرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يريحنا، تقديره: ليتَنا نَستشفعُ أحدًا إلى ربنا فيريحنا؛ يعني: يقولون متضرِّعين: استشفعنا أن يشفعَ لنا إلى ربنا، فيريحنا؛ أي: فيريحنا ربنا من مشقة هذا الحبس وطوله في هذا المقام. قوله: "فيأتون آدمَ فيقولون: أنتَ آدمُ ... " إلى قوله: "فيقول: لست هُناكم"، قال في "الصحاح": هناك وهنالك: للتبعيد، واللام زائدة، والكاف للخطاب، والتاء في (لست): اسمه، و (هناك): خبره ظرف مكان متعلق بمحذوف، وتقديره: لستُ نازلًا في مقام الشفاعة؛ يعني: يقول آدم عليه السلام: لستُ بمكانكم الذي تظنُّون أني فيه؛ يعني: ليس لي مقامُ الشفاعة لجميع الخلق. "ويذكر خطيئته ويقول لهم: ولكن اذهبوا إلى نوح عليه السلام؛ فإنه أولُ نبيٍّ بعثَه الله إلى أهل الأرض": وقيل: إنما قال آدم عليه السلام: (إنه أولُ نبيٍّ

بعثه الله إلى أهل الأرض)؛ لأن الناسَ بعد بعث شيث عليه السلام رجعوا كفارًا إلا قليلًا، فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام. قوله: "ويذكر خطيئته التي أصابَ؛ سؤالَه ربَّه بغير علمٍ". (التي): موصول، و (أصاب): صلته، فيه ضمير نوح، والعائد إلى الموصول محذوف أي: أصابها، و (سؤاله): بدلٌ من الخطيئة بدلَ الكلِّ من الكلِّ إذا كان مَرويًا بالنصب أما إذا كان مَرويًا بالرفع فخبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ما تلك الخطيئة؟ قال: هي سؤالُه ربَّه، و (ربَّه): مفعوله، و (بغير علم): حال من الضمير المجرور في (سؤاله)، وهو مرفوع في المعنى؛ لأنه فاعل المصدر، والمصدر عامل في فاعله. قوله: "إني لستُ هُناكم، ويذكر ثلاثَ كذباتٍ كذبَهنَّ"، وشرح الكذبات الثلاث سيُذكر في موضعها إن شاء الله تعالى؛ يعني: يقول الخليل عليه السلام حالَ الاستشفاع منه: مالي منصبُ الشفاعة العامة، فإن غبار الكذب قد لوَّث ذيلي، ويذكر الكذباتِ الثلاثَ، ويُرسلهم إلى موسى عليه السلام، وإنما يدفع الشفاعةَ العامةَ عن نفسه نظرًا إلى صورة الكذبات، وإن كانت مستحبةً في المعنى كما سوف يُذكر في (أقسام الكذب)؛ لأن الكاملَ قد يُؤاخَذ بما هو عبادة في حقِّ غيره، كما قيل: حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقرَّبين. قوله: "فأستأذن على ربي في داره"، قال الخطابي رحمة الله عليه: أي: في داره التي دورها لأوليائه، وهي الجنة، كقوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127]، وكقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]. وكما يقال: بيتُ الله، وحَرَمُ الله؛ يريدون البيتَ الذي جعله الله مثابةً للناس، والحَرَمَ الذي جعله الله آمنًا لهم، ومثله: روحُ الله، على سبيل التفضيل له على سائر الأرواح، وإنما ذكر ذلك في ترتيب الكلام؛ لقوله - عز وجل -: {إِنَّ رَسُولَكُمُ

الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، فأضاف الرسولَ إليهم، وإنما هو رسول الله إليهم. و (الاستئذان): طلب الإذن؛ يعني: أطلبُ الدخولَ على حضرة ربي تعالى في مقعد الصدق. قوله: "ارفَعْ محمدُ"؛ يعني: يقول الله - عز وجل - لي: ارفَعْ رأسَك من السجود. و (محمد)؛ أي: يا محمدُ. "وقُلْ تُسمَع": والتَمِسْ من حضرتي ما تريد من الشفاعة وغيرها. (تُسمَع)؛ أي: تُجَبْ، وهو مجزوم جوابًا للأمر؛ يعني: كلُّ ما تسألني اليومَ من أمر الحساب والشفاعة فهو مقبولٌ في حضرتي كرامةً لك عندي. قوله: "فيحدُّ لي حدًّا، فأُدخلُهم الجنةَ"؛ أي: يُعين لي حدًّا معلومًا؛ يعني: يبين لي في الشفاعة حدًّا معلومًا بحيث لا أَتجاوزُ عنه، كما يقال: اشفَعْ في حقَّ قومٍ محبوسين موصوفين بصفاتٍ منهم تاركو الصلاةِ، ومنهم تاركو الزكاةِ، ومنهم تاركو الصومِ، ومثهم شاربو الخمرِ، ومنهم الزُّناة؛ فإنك إن تَشْفَعْ في حقِّهم اليومَ فأنتَ مُشفَّعٌ؛ أي: شفاعتُك مقبولةٌ. اعلم أن شفاعةَ نبينا وجميع الأنبياء والملائكة - صلوات الله عليهم - والمؤمنين في حقِّ العُصَاة حقٌّ، لكنها موقوفةٌ بأمر الله - عز وجل -: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وأما المعتزلةُ فقد أنكروا الشفاعةَ؛ لأن العملَ عندهم يوجب دخولَ الجنة فحسبُ، والعاصي إذا ماتَ غيرَ تائبٍ يُخلَّد في النار عندهم. قوله: "حتى ما يبقى في النار إلا مَن قد حبسَه القرآنُ": إلا مَن منعَه حكمُ القرآن فيها، وهم الكفَّار، فإنهم مُخلَّدون فيها، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة: 6]. * * *

4317 - وعن أنس - رضي الله عنه - قالَ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ ماجَ النَّاسُ بَعضُهُمْ في بَعْضٍ، فيأتُونَ آدمَ، فيقولونَ: اِشْفَعْ لنا إلى ربكَ، فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عَلَيكُمْ بإبراهيمَ فإنَّهُ خَليلُ الرَّحْمنِ، فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عَلَيكُمْ بموسَى فإنَّهُ كَليمُ الله، فيأتونَ موسَى فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عليكُمْ بعيسَى فإنَّهُ رُوحُ الله وكَلِمَتُهُ، فيأتونَ عيسَى فيقولُ: لستُ لها، ولكنْ عليكُمْ بمُحَمَّدٍ، فيأتونَنِي فأقولُ: أنا لها، فأَسْتأذِنُ على ربي فَيُؤْذَنُ لي، ويُلْهِمُني مَحامِدَ أَحْمَدُهُ بها لا تَحْضُرُني الآنَ، فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِدًا فيُقال: يا مُحَمَّدُ! اِرفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ منها مَنْ كانَ في قلبهِ مِثقالُ شَعيرةٍ منْ إيمانٍ، فأَنْطَلِقُ فأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فأَحْمَدُهُ بتِلكَ المَحامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِدًا، فيُقال: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقَالُ: اِنْطَلِقْ فأخْرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثقالُ ذرَّةٍ أو خردَلَةٍ مِنْ إيمانٍ، فأنطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثمَّ أَعُودُ فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِدًا، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرْفَعْ رأْسَك، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأَقُولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ أَدْنَى أدنَى أدنَى مِثْقالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إيمانٍ فأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فأَنْطَلِقُ فأفْعَلُ، ثمَّ أعودُ الرَّابعةَ فأحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَ أَخِرُّ له ساجِدًا، فيقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرْفَعْ رأْسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! ائْذَنْ لي فيمَنْ قالَ: لا إله إلَّا الله، قال: ليسَ ذلكَ لكَ، ولكنْ وعِزَّتي وجَلالي وكِبريائي وعَظَمتي، لأُخْرِجَنَّ منها مَنْ قال: لا إله إلَّا الله". قوله: "إذا كان يومُ القيامة ماجَ الناسُ بعضُهم في بعضٍ", (ماج): اختلط، ومنه قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]؛ يعني:

يختلط بعضُهم ببعض في يوم القيامة مُقبلين مُدبرين حَيَارَى. وفي الحديث: دليل على أن أهلَ المعاصي من أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يخلَّدون في النار، وفيه أيضًا: دليل على تفاضُلِ الناس في الإيمان. قوله: "عليكم بإبراهيم"، (عليكم): بمعنى الزَمُوا، والباء زائدة على هذا؛ أي: الزموا إبراهيمَ، أو: تشفَّعوا بإبراهيمَ، أو توسَّلُوا به، وعلى هذا ليست بزائدة. قوله: "ويُلهمني مَحَامدَ أحمدُه بها لا تحضرني الآنَ، فأَحمدُه بتلك المَحَامد"، (الإلهام): ما يُلقَى في الرَّوع، فيقال: أَلهمَه الله الشيءَ الفلانيَّ. (المَحَامد) جمع: حمد، كـ (محاسن) جمع: حسن، جمع غير قياسي، أو جمع: مَحْمَدة، و (أحمده): محلُّه جرٌّ؛ لكونه صفةً لـ (محامده). قوله: "أُمتي أُمتي"؛ أي: ارحَمْ أُمتي وتفضَّلْ عليهم بالكرامة، كرَّره للتأكيد، أو ناداهم لَيقرُبوا منه فيتوسَّلُون به إلى رضا الرحمن، أو لأنهم إذا قَرُبُوا منه حالَ نورُه وبركتُه بينهم وبين غضب النار، فلا تقربهم نارٌ، إذ نورُه يُطفِئ كلَّ نارٍ. قوله: "مَن كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ أو خَردلةٍ من إيمانٍ"، (المثقال): ما يُوزَن به، وهو من: الثقل، وذلك اسمٌ لكل سَنْجٍ، وإذا أُطلق فإنما يُراد منه السَّنْجُ المُعبَّر به عن الدينار. وقال في "الغريبين": مثقال ذرة؛ أي: زِنة، قال الشاعر: وكلاًّ يُوفِّيه الجزاءَ بمثقالِ أي: بوزنٍ. قال الخطابي: حَبَّة الخردل، وكذا حَبَّة الشعير مَثَلٌ في المعرفة لا في الوزن؛ لأن الإيمانَ ليس بجسمٍ يحصره الوزنُ والكيلُ، وإن ما يُشكل في العقول

قد يَرِدُ إلى عيار المحسوس؛ ليُعلَم، ذكره في "شرح السُّنَّة". وتحقيقه: أنه أراد بمثقال الخردلة: أدقَّ ما يُفرَض من الإيمان، بحيث ينتهي إلى أنه لا قسمةَ بعده، فليس بعدَه إلا الكفرُ الصريحُ؛ فإن الإيمانَ كلما قلَّ قَرُبَ من الكفر حتى ينتهيَ إليه. قوله: "ائذن لي فيمَن قال: لا إله إلا الله ... " الحديث. (ائذن): أمر من: أَذِنَ له في الشيء يَأذَن إذْنًا - بسكون الذال -: إذا أجابَ أحدًا فيما طلَبه. الواو في: "وعِزَّتِي": واو القَسَم، وفي (وكبريائي) (وعظمتي): عطف على واو القَسَم، و"لأَخرجَنَّ": جواب القَسَم، والكِبرياء بالكسر، والكبرياء و (العَظَمة): اسمانِ مترادفانِ معناهما في الحقيقة: الترفُّع عن الانقياد، ولا يستحق ذلك غيرُ الله سبحانه. * * * 4318 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَسْعَدُ النَّاسِ بشفاعَتي يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ قال: لا إله إلاَّ الله خالِصًا مِنْ قَلْبهِ - أو: - نَفْسِهِ". والجمع بين هذا الحديث والذي يليه وهو قوله: "أسعدُ الناس بشفاعتي ... " إلى آخره: أن المراد بالأول: إخراجُ جميع الأمم الذين آمنوا على أنبيائهم، لكنهم استوجبوا النار، وليس ذلك لمخلوقٍ، فلهذا قال: ليس ذلك لك. والمراد بالآخر: مَن قال: لا إله إلا الله من أمته - صلى الله عليه وسلم -، أو مخصَّص بقائلي هذه الكلمة بلا عمل أصلًا، وهؤلاء لا تَسَعُهم إلا الرحمةُ الإلهيةُ العامةُ، والمراد بالآخر: الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، أو تخصيص الأول بمَوطنٍ،

والثاني بموطنٍ آخرَ، ففي القيامة مواطنُ. * * * 4319 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلَحْمٍ، فرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ، وكانتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ منها نَهْسَةً، ثُمَّ قالَ: "أنا سَيدُ النَّاسِ يومَ القِيامَةِ، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وتَدنُو الشَّمْسُ فيَبلُغُ النَّاسُ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطيقونَ، فيَقولُ النَّاسُ: ألا تَنْظُرونَ مَنْ يَشْفَعُ لكُمْ إلى رَبكُمْ؟ فيأتونَ آدمَ"، وذَكرَ حَدِيْثَ الشَّفاعَةِ، وقال: "فاَنْطَلِقُ، فآتي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ ساجِدًا لربي، ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَيَّ مِنْ مَحامِدِهِ وحُسْنِ الثَّناءِ عليهِ شيئًا لمْ يَفتحْهُ على أَحَدٍ قَبلي، ثُمَّ يُقالُ: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأَسكَ، سَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسي فأقولُ: أُمَّتي، يا رَبِّ! أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا ربِّ، فيقالُ: يا محمَّدُ! أَدْخِلْ منْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسابَ عليهمْ من الباب الأيمنِ من أبوابِ الجنَّةِ وهم شركاءُ النَّاسِ فيما سِوَى ذلك مِنَ الأَبْوابِ. ثُمَّ قال: والذي نفْسي بيدِه إنَّ ما بينَ المِصْراعَيْنِ منْ مَصاريعِ الجَنَّةِ كما بينَ مكَّةَ وهَجَرَ". قوله: "فرُفِعَ إليه الذراعُ، وكانت تُعجبه، فنَهَسَ منها نَهْسَةً، ثم قال: أنا سيدُ الناسِ يومَ القيامة ... " الحديث. (الذراع): يُذكر ويُؤنث، الضمير في (كانت) - وهو اسمه - يعود إلى (الذراع)، و (تعجبه): خبره. نَهَسَ اللحمَ: أخذَه بمقدَّم الأسنان، يقال: نَهستُ اللحمَ وانتَهستُه بمعنًى، ذكره في "الصحاح". يعني: رُفِعَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلك الذراعُ، فأَعجبتْه؛ لِسمَنِها وحسنِ طبخِها، (فنَهَسَ منها نَهْسةً، ثم قال: أنا سيدُ الناس يومَ القيامة)، وإنما خصَّ سيادتَه بيوم

القيامة؛ لأن السيادةَ في الدنيا تُوجَد لغيره مجازًا، وله في الآخرة حقيقةً، فلمَّا نَهَسَ من تلك الذراع نهسةً بعد أن كانت معجبةً له - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أنا سيدُ الناس يومَ القيامة)؛ إشارةً إلى أن نعيمَ الآخرة باقٍ أبديٌّ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يغترَّ بما هو بصدد الفناء، وهو نعيم الدنيا. وتفسير باقي الحديث مذكور في (حديث الشفاعة)، وتلخيصه: أن جميعَ الناس يومَ القيامة من الأنبياء - صلوات الله عليهم - وغيرهم يحتاجون إلى شفاعتي؛ لكرامتي عند الله سبحانه وتعالى، فإذا اضطروا جاؤوني طالبين لشفاعتي لهم. قوله: "يومَ يقوم الناس": يحتمل أن يكون جوابَ سائلٍ: ما يومُ القيامة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (يومَ يقومُ الناس لربِ العالمين)، ويحتمل أن يكون بدلًا لـ (يومَ القيامة). قوله: "ما بين المِصراعَين من مَصَاريع الجنة كما بين مكةَ وهَجَر"، (المِصْرَاعان): البابان المعلَّقان على مقعدٍ واحدٍ، والمِصْرَاع: مِفْعَال من: الصَّرع، وهو الإلقاء، وإنما سُمي البابُ المُعلَّق مِصْرَاعًا؛ لأنه كثيرُ الإلقاء والدفع. وقيل: (هَجَر): قرية من قرى المدينة، والقُلَّتانِ مأخوذة من قِلاَلها، وقيل: قرية من قرى البحرين؛ يعني: مسافةُ ما بين البابَين كمسافة ما بين مكة وهَجَر. * * * 4320 - وعن حُذَيْفةَ - رضي الله عنه - في حَديثِ الشَّفاعَةِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "وتُرْسلُ الأَمانةُ والرَّحِمُ فيقومانِ جَنَبَتَيْ الصِّراطِ يَمينًا وشِمالًا". قوله: "وتُرسَل الأمانةَ والرَّحِمُ، فيقومان بجَنْبَتَي الصِّراط يمينًا وشمالًا)،

(الجَنَبَة) بفتح الكل: الجانب؛ يعني: تتشكل الأمانةُ والرَّحِمُ يومَ القيامة ويقوم أحدُهما بجانب الصراط والآخرُ في جانبه الآخر، وتحاجَّانِ عن صاحبهما، أو تشهدانِ عليهما، وإنما كان كذلك؛ ليتميزَ الأمينُ من الخائن، والواصلُ من القاطع على رؤوس الملأ؛ سرورًا للأمين والواصل، وفضيحةً للخائن والقاطع، فهذا تحريضٌ بليغٌ على رعايتهما، وحثٌّ تامٌّ على أداء حقَّيهما؛ فإن رعايَتهما سببٌ لمصالحَ كثيرةٍ وفوائدَ عظيمةٍ. * * * 4322 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ ناسًا قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نَرَى رَبنا يومَ القِيامَةِ؟ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ، هلْ تُضارُّونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ بالظَّهيرةِ صَحْوًا ليسَ مَعَها سَحابٌ، وهلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ صَحْوًا ليسَ فيها سَحابٌ؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، قال: "ما تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الله يومَ القِيامةِ إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤْيةِ أحدِهِما، إذا كانَ يومُ القِيامةِ أذَّنَ مُؤذِّنٌ: لِيتَّبعْ كُلُّ أُمَّةٍ ما كانتْ تَعبُدُ، فلا يَبقَى أحدٌ كانَ يَعبُدُ غيرَ الله مِنَ الأَصْنامِ والأنصابِ إلَّا يَتساقَطُونَ في النَّارِ، حتَّى إذا لمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كانَ يَعْبُدُ الله من بَرٍّ وفاجِر أتاهُمْ رَبُّ العالَمينَ قال: فَماذا تَنتظِرونَ؟ يتَّبعُ كُلُّ أُمَّةٍ ما كانتْ تعبُدُ، قالوا: يا رَبنا فارَقْنا النَّاسَ في الدُّنيا أفقَرَ ما كُنَّا إلَيْهمْ ولمْ نُصاحِبْهُمْ". وفي رِوايةِ أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: "فيقولونَ: هذا مَكانُنا حتَّى يأتِيَنا ربنا، فإذا جاءَ ربنا عَرَفْناهُ". وفي رِواية أَبي سعيدٍ - رضي الله عنه -: "فيقولُ: هلْ بَيْنكُمْ وبينَهُ آيةٌ تَعرِفُونَهُ"؟ فيقولون: نَعَمْ، فيُكشَفُ عنْ ساقٍ فلا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ لله مِنْ تِلقاءِ نَفْسِه إلَّا أَذِنَ الله لهُ بالسُّجودِ، ولا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ اتِّقاءً ورِياءً إلَّا جَعَلَ الله ظَهْرَهُ

طَبَقةً واحِدَةً، كُلَّما أَرادَ أنْ يَسْجُدَ خَرَّ على قَفاهُ، ثمَّ يُضرَبُ الجِسْرُ على جَهَنَّمَ وتَحِلُّ الشَّفَاعةُ، ويقولونَ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَيَمُرُّ المُؤْمِنونَ كطَرْفِ العَيْنِ وكالبَرْقِ وكالرِّيحِ وكالطَّيرِ وكأجاوِيدِ الخَيْلِ والرِّكابِ، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخدوشٌ مُرْسَلٌ ومَكْدوسٌ في نارِ جَهَنَّمَ، حتَّى إذا خَلَصَ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فوالَّذي نَفْسي بيدِه ما مِنْ أَحَدٍ منكُمْ بأَشَدَّ مُناشَدَةً في الحَقِّ، وقدْ تبيَّنَ لكُمْ، مِنَ المُؤْمنينَ لله يومَ القِيامةِ لإخْوانِهمُ الذينَ في النَّارِ، يقولونَ: ربنا كانوا يَصومونَ مَعَنا، ويُصْلُّونَ معنا، ويَحُجُّونَ معنا، فيُقالُ لهمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرفْتُمْ، فتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ على النَّارِ، فيُخرِجونَ خَلْقًا كثيرًا ثُمَّ يقولونَ: ربنا ما بقيَ فيها أَحَدٌ مِمَّنْ أمَرْتَنا بهِ، فيقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثْقالَ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأخْرِجوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقًا كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدتُمْ في قلبهِ مِثقالَ نِصْفِ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجُوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقًا كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثقالَ ذرَّةٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجُوهُ، فيُخرِجونَ خَلْقًا كثيرًا، ثمَّ يقولونَ: ربنا لمْ نَذَرْ فيها خَيْرًا، فيقولُ الله شَفَعَت الملائِكةُ، وشَفعَ النبيُّونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنونَ، ولمْ يَبقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ، فيَقْبضُ قَبْضَةً مِنَ النارِ، فَيُخْرِجُ مِنْها قَوْمًا لم يَعْمَلوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ في نَهْرٍ في أَفْوَاهِ الجَنَّةِ يُقالُ لهُ: نهرُ الحياةِ، فيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، فيَخرُجونَ كاللُّؤْلؤِ في رِقابهِمُ الخَواتِمُ، فيقولُ أهلُ الجنَّةِ: هؤلاءِ عُتَقاءُ الرَّحْمنِ، أَدْخَلَهُمُ الجنَّةَ بغيرِ عَمل عَمِلُوهُ، ولا خَيرٍ قَدَّموهُ، فيُقالُ لهمْ: لكُمْ ما رأَيْتُمْ ومِثلُهُ مَعَهُ". قوله: "والأنصاب"، (الأنصاب) جمع: نُصُب، وهو حجارة كانت تُنصَب وتُعبَد من دون الله تعالى، أو يذبحون عليها تقرُّبًا إلى آلهتهم، وكيف كان وكلُّ ما نُصِبَ وعُبدَ من دون الله تعالى، أو اعتُقد تعظيمُه فهو النُّصُب. قوله: "أتاهم ربُّ العالمين"؛ أي: أتاهم أمرُ ربِ العالمين؛ لأن الإتيانَ

صفةُ الأجسام، والله تعالى منزَّه عما هو جسمٌ وجسمانيٌّ. قوله: "ينظرون"؛ أي: ينتظرون. قوله: "هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه؟ " أي: هل بينكم وبين الله تعالى آيةٌ تعرفونه تعالى بتلك الآية؟ وتلك الآية - والله أعلم - عبارةٌ عما هو نتيجةُ التوحيد، وهو المعرفة والمحبة، والموحِّدون لهم اشتراكٌ في أصل المعرفة والمحبة، كما أن لهم اشتراكًا في أصل التوحيد، لكنهم يتفاوتون فيهما كتفاوتهم في التوحيد، فإذا كان كذلك فقربُهم إلى الله سبحانه بحسب مراتبهم في المعرفة والمحبة. قوله: "فيقولون: نعم"؛ أي: لنا آيةٌ؛ يعني: معرفةٌ به سبحانه وتعالى. قوله: "فيكشف عن ساقٍ": تفسير الكشف قد ذُكر مستوفًى في (باب لا تقوم الساعة). قوله: "اللهم سلِّمْ سلِّمْ"، (سلِّمْ): أمر مخاطب من: التسليم، وهو جعل الشخص سالمًا من الآفة، و (سلِّمْ) الثاني: تأكيد الأول؛ يعني: اللهم اجعلْ أُمتي سالمين من ضرر الصراط والوقوع في النار. قوله: "فيمرُّ المؤمنون كطَرْفَةِ العين"؛ أي: طرف يطرف طرفًا: إذا أَطبقَ أحدَ جفنَيه على الآخر، يقال: أسرعُ من طرفِ عينٍ، أو طَرفةِ عينٍ، والتاء في (الطَّرفة) للوحدة. و"الأجاويد" جمع: أجياد، و (الأجياد) جمع: جواد في القلة، و (الجياد): جمعه في الكثرة، والجواد: يُستعمل في الذكر والأنثى من الخيل، وهو نعت من (جاد): إذا أسرعَ في السير. "الخُدُوش" و"الكُدوش": واحد، والكَدْس: إسراع الثقل في السير، يقال: كَدَسَ الفرسُ يَكدِسُ: إذا مشى كأنه مُثَقلٌ، وكُرْدِسَ الرجلُ: إذا جُمعت

يداه ورِجلاه؛ يعني: المؤمنين يتفاوتون في المرور على الصراط بحسب مراتبهم في القربات والدرجات عند الله سبحانه؛ فبعضُهم يمرُّ على الصراط في غاية السرعة كطرفة العين، وبعضُهم يمرُّ كالبرق الخاطف، وبعضُهم يمرُّ كطيران الطير، وبعضُهم يمرُّ كسَيرِ فرسٍ جوادٍ. والناس بالإضافة إلى المرور على الصراط على ثلاث طبقات: الأولى: ناجون سالمون، وهم أهل الإيمان الذين ذُكر مرورُهم قبلُ. والثانية: مَخدوشون مُرسَلُون؛ أي: مُطلَقون عن الغُل والقيد بعد أن عذِّبوا مدةً، وهم العُصَاةُ من أهل الإيمان أيضًا. والثالثة: مُكدوسون في نار جهنم؛ يعني: مغلولون مقيَّدون بالسلاسل والأغلال فيها، وهم الكفار. ويُروى: "مكدوش" بالشين المعجمة؛ أي: مدفوع دفعًا عنيفًا، ويُروى: "مُكَرْدَس" أي: مغلول مجموع الأعضاء في الغُل. قوله: "ما من أحد منكم بأشدَّ مناشدةً في الحق"، (ما من): جواب للقَسَم، وهو: (فوالذي)، و (من) في (ما من أحد): زائدة للاستغراق، و (أحد): اسم (ما)، و (منكم): صفة لـ (أحد)، و (بأشد): خبره. و (المناشدة): منصوبة على التمييز، وهو بمعنى المطالبة والمناظرة، من: نَشدتُ الضالَّةَ؛ أي: طلبتُها. و (في الحق): ظرف المناشدة، وقد تبين للحال تقدير الكلام: ما مِن أحدٍ منكم بأشدَّ مناشدةً في حال أن يتبيَّن لكم الأمرُ الحقُّ من المؤمنين لله يومَ القيامة لنجاةِ إخوانهم الذين في النار، معناه: لا يكون أحدٌ منكم أكثرَ اجتهادًا ومبالغةً في طلب الحق حين ظهر لكم الحق من المؤمنين في طلب خلاص إخوانهم العصاة في النار من النار يومَ القيامة.

قوله: "فقبضَ قبضةً من النار، فيُخرج منها قومًا لم يعملوا قطُّ قد عادوا حُمَمًا"، و (القبضة): عبارة عما يَسَعُه في الكَفِّ، والله سبحانه منزَّه عن الجوارح؛ فإنها صفةُ الأجسام، ومِثْلُ هذا من المتشابهات؛ فتركُ الخوضِ فيها أقربُ إلى السلامة. يعني: يُخرج الله سبحانه من النار قومًا من غير أن يكون لهم عملٌ صالحٌ، وقد صاروا حممًا محرقةً، و (الحُمَم) جمع: حُمَمَة، وهي الفحم. وفي الحديث: تحريضٌ بليغٌ للعباد على الطاعة؛ لأنه إذا لطف بعباده العصاة بما ذكر، فكيف يلطف بعباده المحسنين مع أن رحمتَه تعالى قريبٌ من المحسنين؟! قوله: "في أفواه الجنة"، و (أفواه الجنة): أوائلها ومقدماتها وطُرُقها. يقال: فوهة الطريق، والجمع: أفواه، غير قياسي. قال في "شرح السُّنَّة": الحِبَّة - بكسر الحاء وتشديد الباء - اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت ريحٌ، ثم إذا أَمطرت من قابلِ نَبَتَتْ. قال الكِسائي: هي حَبُّ الرياحين، الواحدة: حِبَّة، فأما الحِنطة وغيرها فهو الحَبُّ لا غير، والحَبَّة من العِنَب تُسمى حَبَّة بالفتح، وحَبَّ الحُبَة تُسمَّى حُبَةً بضم الحاء وتخفيف الباء. "حميل السيل": ما حمله السيل، فعيل بمعنى مفعول، كما يقال للمفعول: قتيل. قال أبو سعيد الضرير: حميل السيل: ما جاء به من طينٍ أو غثاءٍ، فإذا اتفق فيه الحِبَّة واستقرت على شط مجرى السيل، فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرعُ نباتًا، وإنما أخبر بسرعة نباتهم. وفي الحديث: دليلٌ على أن أهلَ المعاصي لا يُخلَّدون في النار.

وفيه: دليلٌ على تفاضُلِ الناس في الإيمان. قوله: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم"، و (الرِّقاب) جمع: رقبة، و"الخواتم" جمع: خاتم، وهو ها هنا: عبارة عن علامة تظهر من رقابهم، وخُصَّت تلك العلامة بالرقبة؛ لأن الرقبةَ أُعتقت من النار، وهي عبارةٌ عن شخصه؛ يعني: يُخرَجون من ذلك النهر بِيضًا؛ أي: ذوي بياضٍ مشرقٍ كاللآلئ، فتُعلق بأعناقهم الخواتمُ؛ ليكونوا متميزين بين المغفورين من غير واسطة العمل الصالح، ويين غيرهم، والله أعلم. قوله: "لكم ما رأيتُم ومِثْلُه معه": الكاف والميم خطاب للعتقاء، والضمير في (ومثله معه) يعود إلى (ما)؛ يعني: يقال للعتقاء: لكم ما رأيتُم مدَّ بصركم من قبضه الشامل وفضله الكامل، ومِثْلُ ما رأيتُم معه في النعيم الأبدي السَّرمدي. * * * 4323 - وقال: "إذا دَخَلَ أهلُ الجَنَّةِ الجنّةَ وأهلُ النَّارِ النَّارَ يقولُ الله تعالى: مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ منْ إيمانٍ فأَخْرِجُوهُ، فيُخْرَجونَ قدِ امتحَشُوا وعادُوا حُمَمًا، فيُلقَوْنَ في نهرِ الحياةِ فيَنْبُتونَ كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، ألَمْ تَرَوْا أنَّها تَخْرُجُ صَفْراءَ مُلتَوِيةً". قوله: "قد امتَحَشُوا"، (الامتحاش): الاحتراق، يقال: امتَحَشَ الخبرُ، وامتَحش فلانٌ غضبًا. * * * 4324 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نَرَى ربنا يومَ القِيامةِ؟ فذكرَ معنَى حديثِ أبي سعيد - رضي الله عنه - غيرَ كَشْفِ السَّاقِ. وقال:

"ويُضْرَبُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرانَيْ جَهَنَّمَ، فأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، ولا يتكلَّمُ يَومئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وكلامُ الرُّسُلِ يَومَئِذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدانِ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلَّا الله، تَخْطَفُ النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ، فمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بعَمَلِهِ، ومنهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنجُو، حتَّى إذا فَرَغَ الله مِنَ القَضاءِ بينَ عِبادهِ، وأرادَ أنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أرادَ أنْ يُخرِجَهُ ممَّنْ كانَ يَشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله؛ أَمَرَ الملائِكَةَ أنْ يُخرِجُوا مَنْ كانَ يعبُدُ الله، فيُخرِجونَهُمْ، ويَعْرِفُونَهُمْ بآثارِ السُّجودِ، وحَرَّمَ الله على النَّارِ أنْ تَأكُلَ أثرَ السُّجودِ، فكُلُّ ابن آدمَ تأكلُهُ النَّارُ إلاَّ أثرَ السُّجودِ، فيُخرَجونَ مِنَ النَّارِ قدِ امتَحَشُوا، فيُصَبُّ عليهِمْ ماءُ الحَياةِ، فَيَنْبتُونَ كما تنبُتُ الحِبَّة في حَميلِ السَّيْلِ، ويَبقَى رَجُلٌ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، وهوَ آخِرُ أهلِ النَّارِ دُخولًا الجَنَّةَ، مُقْبلٌ بوَجهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فيقولُ: يا ربِّ اصْرِفْ وَجْهي عنِ النَّارِ، قدْ قَشَبني رِيحُها وأحرَقَني ذَكاؤُها، فيقولُ: هلْ عَسَيْتَ إنْ فُعِلَ ذلكَ بكَ أنْ تسألَ غيرَ ذلك؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ، فيُعطِي الله ما شاءَ مِنْ عَهْدٍ ومِيثاقٍ، فيَصرِفُ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ، فإذا أقبَلَ بهِ إلى الجَنَّةِ رأَى بَهْجَتَها سَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، ثم قال: يا رَبِّ قَدِّمْني عِندَ بابِ الجنَّةِ، فيقولُ الله تباركَ وتعالَى: أليسَ قدْ أَعطَيْتَ العُهُودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الذي كنتَ سألتَ؟ فيقولُ: يا ربَّ لا أَكُونُ أَشْقَى خَلقِكَ، فيقولُ: فما عَسَيْتَ إنْ أُعْطِيْتَ ذلكَ أنْ تسألَ غيرَهُ، فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أَسألُك غيرَ ذلكَ، فيُعْطِي ربَّهُ ما شاءَ منْ عَهْدٍ وميثاقٍ، فيُقدِّمُهُ إلى بابِ الجَنَّةِ، فإذا بلغَ بابَهَا فرأَى زَهْرَتَها وما فيها مِنَ النَّضْرَةِ والسُّرورِ، فَسَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، فيقولُ: يا رَبَّ أَدْخِلْني الجَنَّةَ، فيقولُ الله تباركَ وتعالَى: وَيْلَكَ يا ابن آدمَ ما أغدَرَكَ! أليسَ قدْ أَعْطيْتَ العُهودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الذي أُعْطِيتَ؟ فيقولُ: يا رَبِّ لا تَجْعَلْني أَشْقَى خَلقِكَ، فلا يزالُ يَدعُو حتَّى يَضْحَكَ الله منهُ، فإذا ضَحِكَ أذِنَ لهُ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فيقولُ: تَمنَّ، فيَتمنَّى

حتى إذا انقَطَعَ أُمنِيَّتُهُ قالَ الله تعالَى: تَمَنَّ كذا وكذا، أَقْبَلَ يُذكَّرُهُ ربُّهُ، حتَّى إذا انتهتْ بهِ الأَمانيُّ قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ ومِثلُهُ معه". وقالَ أبو سعيدٍ - رضي الله عنه -: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ وعَشْرَة أَمْثالِهِ". قوله: "وفي جهنم كلاليب مثل شَوك السَّعدان": قال في "الصحاح": الكَلُّوب: المِنْشَال، فكذلك الكُلَّاب والجمع: الكلاليب، والمِنْشَال: حديدة معوجة الرأس يُنشَل بها اللحم من القِدْر، و (السَّعدان): نبتٌ، وهو من أفضل مراعي الإبل، وفي المَثَل: مَرْعًى ولا كالسَّعدان، والنون زائدة؛ لأنه ليس في الكلام فَعْلاَل غير (خَزْعَال) و (قَهْقَار)، إلا من المضاعف، ولهذا النبت شوكٌ يقال له: حَسَكُ السَّعدان، وتُشبه به حَلَمَةُ الثدي، يقال: سَعْدَانة الثُّنْدُؤَة، ذكره في "الصحاح". قوله: "فمِنهم مَن يُوبَق بعمله، ومِنهم مَن يُخَرْدَل"، قال في "شرح السُّنَّة": يُوبَق بعمله؛ أي: يُحبَس، يقال: (أَوْبَقَه) إذا حَبَسَه، ومنه قوله: تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا}، أي: يحبس السفنَ، فلا تجري عقوبةً لأهلها، والإيباق: الإهلاك أيضًا. قال في "الصحاح": خَرْدَلتُ اللحمَ؛ أي: قطعتُه صغارًا بالدال والذال جميعًا. قال في "الغريبين": المعنى: أنه تقطعه كلاليبُ الصراط حتى يهويَ إلى النار. قوله: "قد قَشَبني ريحُها، وأحرقني ذَكاؤها"، قال في "الصحاح": قَشَبني ريحها تقشيبًا؛ أي: آذاني كأنه سمَّني ريحه. عن أبي عمرو: وقَشَبَه قَشْبًا: سقاه السمَّ، وقَشَبَ طعامَه؛ أي: سَمَّه.

قال في "شرح السُّنَّة": قَشَبني ريحُها؛ أي: سمَّني وصار ريحها كالسمِّ في أنفي، والقَشْبُ: خلط السمِّ بالطعام، والقِشْب: اسم السمُّ، وكل مسمومٍ: قشيب، وأصل (الذَّكاء): بلوغ الشيء منتهاه، وذكَّيتُ النارَ: إذا أتممتُ اشتعالَها، وذَكاء النار: لهبُها؛ يعني: ذلك الرجل إذا أَقبلَ وجهه إلى النار، وقَرُبَ منها يستعيذ به تعالى ويقول: يا ربِ! بعِّدْ وجهي عنها؛ فإن ريحَها قد آذاني، وأحرقني لهبُها. قوله: "هل عسيتَ إن فُعِلَ ذلك بك أن تسأل غيرَ ذلك؟ " (هل): استفهام بمعنى التقرير، و (عسيت): عامله واسمه، و (أن تسأل): خبره، و (إن) في (إن فُعل): للشرط، وفعل جملة شرطية، والجملة الجزائية مقدرة يدل عليه قوله: (عسيت)، وقيل: الشرط إذا توسط لا يستحق الجزاء؛ لأن له حقَّ الصدر، فإذا زالت صدريتُه زال حقُّه في الجزاء. (ذلك) في قوله: (إن فُعل ذلك) إشارة إلى المسؤول عنها، وهو إبعاده عن النار. قوله: "رأى بهجتَها"، (البهجة): الحُسن، (بَهَجَ) و (بَهِجَ به) بالفتح والكسر: إذا فرح، بهَّجَه وأَبْهَجَه: سرَّه، الضمير في (بهجتها) عائد إلى الجنة. قوله: "فإذا بلغ بابَها، فرأى زهرتَها وما فيها من النَّضرة والسرور"، (الزهرة): البياض، زهرة الدنيا: نضارتها؛ أي: طِيب عيشها؛ يعني: طِيب العيش فيها، وزهرة النبت: نوره. (النَّضرة): الحُسن والرَّونق، يقال: نَضر وجهُه يَنْضُر نَضرةً: حَسُنَ، والسرور: الفرح. قوله: "ويلَك يا ابن آدم ما أغدرَك! "، (ويلك): كلمة تقال عند وقوع شخص في الهلاك، وهو مصدر لا فعلَ له من لفظه، فإن فُسَّرَ مِن معناه الظاهر كان المعنى: الزَمِ الله ويلَك؛ أي: أهلكتَ إهلاكًا، وإن نُظر إلى معناها الخاص

فـ (ويلك): عبارة عن الهلاك؛ أي: هلكتَ هلكًا. (ما أغدرك)، (أغدر): أفعل من: الغدر، وهو ضد الوفاء، و (ما): للتعجب، معناه: شيء، وهو مبتدأ، و (أغدرَك): جملة فعلية خبره، فعلى هذا معنى التعجب في كلام الباري تعالى: إنك تستحق أن تتعجب من كثرة غدرك وثباتك عليه، ويجوز أن تكون (ما) للاستفهام مبتدأ، و (أغدرك): خبره، فالهمزة في (أغدرك) للجَعل؛ أي؛ أيُّ شيء جعلَك غادرًا إذا أَعطيتَ العهدَ والميثاقَ؛ أي: لا تسألُ غيرَ ذلك. قوله: "فلا يزال يدعو حتى يضحكَ الله منه"، والضَّحِك: صفة أجسام، والله - عز وجل - منزَّه عنه كما ذُكر غيرَ مرةٍ، يعني: يداوم العبدُ في دعائه حتى يرضَى الله سبحانه عنه، فإذا كان كذلك يكون المراد به: الرضا؛ لأن الرضا لازمة، فإن مَن يرضى عن شيء، أو يتعجب منه يضحك. قوله: "فيقول: تَمَنَّ، فيتمنَّى حتى إذا انقطع أمنيتُه"، (تمنَّ): أمر مخاطب من: تمنَّيتُ الشيءَ؛ أي: اشتهيتُه، ومنَّيتُ غيري تمنيةً، و (الأمنية) واحدة: الأماني، وهي ها هنا بمعنى المُشتَهَى والمطلوب؛ يعني: يقول الله جل وعز لعبده المغفور في جنته: اطلبْ مني ما تريد، فيشتهي مِن حضرته ما يشاء، حتى يصلَ إلى منتهى مراده. قوله: "قال الله تعالى: من كذا وكذا، أقبل يُذكِّره ربُّه حتى، إذا انتهت به الأماني"، (من) في (من كذا): للبيان، متعلق بـ (تمنَّ)؛ يعني: تمنَّ مِن كل جنس ما تشتهي منه، (كذا): اسم مُبهَم، تقول: فعلتُ كذا، وقد يجري مجرى (كم) فيُنصَب ما بعده على التمييز، تقول: عندي كذا وكذا درهمًا؛ لأنه كان كنايةً، ذكره في "الصحاح". وها هنا المعنى الأول سائغ؛ يعني: يقول الله تعالى: أتفضَّل عليك تفضُّلًا

كثيرًا من كذا وكذا رحمةً وفضلًا، وأُعطيت ما سألتَني من المُنَى؛ أولُها خلاصُك من الجحيم، وآخرُها اللقاءُ في النعيم، فأقبل - عز وجل -؛ أي: طَفِقُ لطفُه تعالى يُذكِّره ما تفضَّل عليه من النِّعَمِ حتى إذا انتهت به الأماني. * * * 4325 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آخِرُ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ فهوَ يَمْشي مَرَّةً ويَكْبُو مَرَّةً وتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فإذا جاوَزَها التفَتَ إلَيْها فقال: تَبَارَكَ الذي نجَّاني مِنكِ لقدْ أَعْطانيَ الله شَيْئًا ما أعطاهُ أَحَدًا مِنَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، فتُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ فلأَستَظِلَّ بظِلِّها، وأَشْربَ منْ مائِها، فيقولُ الله: يا ابن آدمَ لعَلِّي إنَّ أَعْطَيْتُكَها سألتَني غيرَها، فيقول: لا يا رَبِّ، ويُعاهِدُهُ أنْ لا يسألَهُ غيرَها، فيُدنِيه منها، فيَستظِلُّ بظِلِّها، ويَشْرَبُ منْ مائِها ثُمَّ تُرْفَعُ لهُ شَجَرةٌ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأُولى، فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ لأَشربَ منْ مائِها، وأَستظِلَّ بظِلِّها، فيقولُ: لَعلِّي إنْ أدنَيْتُكَ منها تسألُني غيرَها، فيُعاهِدُه أنْ لا يسأَلَهُ غيرَها، فيُدنيهِ منها فيَستظِلُّ بظِلِّها، ويَشْرَبُ منْ مائِها، ثمَّ تُرفَعُ لهُ شجَرةٌ عندَ بابِ الجَنَّةِ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأولَيَيْنِ فيقولُ: أيْ ربِّ أدْنِني منْ هذهِ فلأستظِلَّ بظِلِّها وأشربَ منْ مائِها، فيقولُ: يا ابن آدمَ أَلَمْ تُعاهِدْني أنْ لا تَسأَلَني غيرَها؟ قال: بَلَى يا رَبِّ هذهِ لا أسألُكَ غيرَها، ورَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأنَّهُ يَرَى ما لا صَبْرَ لهُ عليهِ، فيُدنِيهِ منها، فإذا أدناهُ منها سَمِعَ أَصْواتَ أَهْلِ الجَنَّةِ فيقولُ: أيْ ربِّ أَدْخِلْنِيها، فيقولُ: يا ابن آدمَ ما يَصْرِيني منكَ؟ أيُرضيكَ أنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيا ومِثلَها مَعَها؟ قال: أيْ رَبِّ أتَسْتهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ". فضَحِكَ ابن مَسعودٍ فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قال: هكذا ضَحِكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ يا رسولَ الله؟ قال: "منْ ضحْكِ ربِّ العالمينَ حِينَ قال: أتَستهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ؟ فيقولُ:

إنِّي لا أَسْتَهْزِئُ مِنكَ، ولكنِّي على ما أشاءُ قدِير". قوله: "آخرُ مَن يدخل الجنةَ رجلٌ، فهو يمشي مرةً ويَكْبُو مرةً"، قال في "الغريبين": الكَبوة: الوقفة؛ يعني: يمشي مرةً ويقفُ أخرى. قوله: "وتَسْفَعُه النارُ مرةً"، (تَسْفَعه)؛ أي: تُعلِّمه، وسَفْعٌ من النار؛ أي: علامة منها، وقوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] أي: لنُعلمه علامةَ أهل النار من سواد الوجه وزرقة العين، فاكتفى بالناصية من سائر الوجه؛ لأنها في مقدَّم الوجه، ذكره في "شرح السُّنَّة". قال في "الصحاح": وسفعتْه النارُ والسمومُ: إذا لفحتْه لفحًا يسيرًا، فغيَّرت لونَ البشرة. قوله: "فتُرفَع له شجرةٌ، فيقول: أَيْ ربِ! أَدْنِنِي من هذه الشجرة فَلأستَظلَّ بظلِّها وأشربَ من مائها"، (فتُرفَع له شجرة)؛ أي: يظهر له شجرة. (أي رب)؛ يعني: يا ربِ، والفرق بين (أي) و (يا): أن (يا) للبعيد والقريب، و (أي) للقريب فقط، والهمزة لأقرب منه. (أَدْنِنِي)؛ أي: قرِّبني، وهو أمر مخاطب من (أَدْنىَ يُدنِي): إذا قرَّب. الفاء في قوله: (فلأستظل) جواب لقوله: (أدنني)؛ لأن فيه معنى الشرط، تقديره: إنك يا ربِ إن تُدْنِنِي منها فلأستظلَّ بظلَّها؛ أي: لأستريحَ بظلِّها. وقيل: الفاء زائدة؛ أي: أَدْنِنِي منها لأستظلَّ بظلِّها. قال في "الصحاح": الظل في الحقيقة: إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشمس، فإذا لم يكن ضوءٌ فهو ظلمة، وليس بظلٍّ. قوله: "يا ابن آدم! ما يَصْرِيني"، (ما) في (ما يَصْرِيني): للاستفهام، و (يَصْرِيني) من: صَرَى الله عنه شَّره؛ أي: دفعَ، وصَرَيتُه: منعتُه.

قال ذو الرمة: وَوَدَّعْنَ مشتاقًا أَصَبن فُؤَادَه ... هَوَاهُنَّ إن لم يَصْرِهِ الله قاتِلُهْ وصَرَيْتُ الماءَ: إذا استقيتُه ثم قطعتُه، وصَرَيْتُ ما بينهم صَرْيًا؛ أي: فَصَلتُ، يقال: اختَصَمْنا إلى الحاكم فَصَرَى ما بيننا؛ أي: قطعَ ما بيننا وفَصَلَ، ذكره في "الصحاح". يعني: يقول الله تعالى رؤوفًا به: يا ابن آدم! أيُّ شيءٍ يقطع مسألتَك مني؟ وأيُّ شيءٍ يرضيك حتى ينقطعَ طلبُك عند ذلك؟ قال التُّورِبشتي - رحمة الله عليه - في "شرحه": وفي كتاب "المصابيح": (ما يَصْرِيني منك)؛ وهو غلط، والصواب: ما يَصْرِيك مني، كذا رواه المتقنون من أهل الرواية، ويمكن أن يقال: ما قاله في "المصابيح" صواب، ولكنه مقلوب، (ما يَصْرِيني منك) أصله: ما يَصْرِيك مني، فقلبَه للعلم به، والقلبُ كثيرٌ في كلام العرب داخلٌ في الفصاحة. قوله: "أتستهزئ مني وأنتَ ربُّ العالمين؟ " الاستهزاءُ من الله تعالى مُحَالٌ؛ لأنه صفةُ المخلوق، وقد ذُكر غيرَ مرةٍ أن ما هو صفةُ الأجسام في الله سبحانه محالٌ، فإذا كان كذلك فهذه العبارة لا محالةَ مؤولةٌ، فتأويله يحتمل أن يحمل إلى سبق لسانه؛ لشدة الفرح، كما أخطأ في القول مَن ضلَّت راحلتُه بأرضٍ فلاةٍ وعليها طعامُه وشرابُه، فَأيسَ منها، ثم بعدَ ما وجدها وأخذ بخطامها قال من شدة الفرح: "اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّك"؛ فتحيَّر من غاية الفرح حتى أخطأ في كلامه، وسبقَ لسانه بهذا الكلام المعكوس، ويجوز أن يريد به: إنك سبحانك تجلُّ أن تخاطبني بخطاب المستهزئين، فلِمَ تفعل ذلك وأنتَ أكرم الأكرمين؟ أو يريد: إن الآخرةَ ليست دارَ تكليفٍ، فلا يُؤاخذون بمِثْل هذه الأشياء. * * *

4327 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيُصِيبن أَقْوامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بذُنُوبٍ أَصابُوها عُقوبةً، ثمَّ يُدخِلُهُمْ الله الجنَّةَ بفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فيُقالُ لهُمْ: الجَهَنَّمِيُّونَ". قوله: "لَيُصيبن أقوامًا سَفْعٌ من النار بذنوبٍ أصابوها عقوبةً"، اللام في (لَيصيبن): جواب قَسَم مقدَّر؛ أي: والله لَيُصيبن، أصاب يصيب إصابةً: إذا وجدَ، و (الأقوام) جمع: قوم، والقوم بمعنى الجماعة، وهو اسم لجمع، و (السَّفْع): الإحراق، و (سَفْعٌ): فاعل (يصيبن)، و (أقوامًا): مفعوله المقدَّم، و (من النار): صفة لـ (سَفْع)، والباء في (بذنوب): للسبب، و (أصابوا): صفة (ذنوب)، و (عقوبة): مفعول له، والفعل المعلَّل (أصابوها). * * * 4328 - عن عِمران بن حُصَيْن، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يَخرُجُ قومٌ مِنَ النَّارِ بشَفاعةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيَدخُلونَ الجَنَّةَ ويُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ". وفي رِوايةٍ: "يَخْرُجُ قومٌ مِنْ أُمَّتي مِنَ النَّارِ بشَفاعَتي يُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ". قوله: "ويُسمَّون الجَهَنَّمِيُّون"، (الجَهَنَّمِيُّون) جمع: جَهَنَّميًّ، وهو منسوبٌ إلى جهنم، وحقُّه في الإعراب أن يكون بالياء؛ لأنه المفعول الثاني لقوله: (يُسَمَّون)، لكن الرواية بالواو. * * * 4329 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، وآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا، رَجُل يخرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فيقولُ الله: اِذْهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ، فيأْتِيها فيُخَيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأَى، فيقولُ الله: يا رَبِّ وَجَدتُها مَلأَى، فيقولُ الله: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنْيا وعَشرَةَ أمثالِها،

فيقول: تَسْخَرُ مِنِّي - أو تَضْحَكُ مِنِّي - وأنتَ المَلِكُ؟ " ولقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ. وكانَ يُقالُ: "ذلكَ أدنَى أهلِ الجنَّةِ مَنزِلةً". قوله: "يخرج من النار حَبْوًا"، قال في "الصحاح": حَبَا الصبيُّ على استِه حَبْوًا: إذا زحفَ؛ يعني: إذا مَشَى على وركَيه. قوله: "فيأتيها، فيُخيَّل إليه أنها مَلآى"، قال في "الغريبين": (يُخيَّل إليه)؛ أي: يُشبَّه إليه. (ملآى) تأنيث: ملآن؛ يعني: إذا دخل الجنةَ يُخيَّل إليه أن الجنةَ غاصَّةٌ بأهلها. قوله: "ضحك حتى بَدَتْ نواجذه"، قيل: هي الأضراس، وقيل: هي المضاحك، وقيل: هي الأنياب، وهي أحسنُ ما قيل فيها؛ لأنه في الخبر: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان جلُّ ضحكه التبسُّم، ذكره في "شرح السُّنَّة". * * * 4330 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، رَجُلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القِيامَةِ فيُقالُ: اعْرِضُوا عليهِ صِغارَ ذُنوبهِ، وارفَعوا عنهُ كبارَها، فيُعرَضُ عليهِ صِغارُ ذُنوبهِ، فيُقالُ: عَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، وعَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، فيقولُ: نَعَمْ، لا يَستطيعُ أنْ يُنكِرَ، وهوَ مُشفِقٌ مِنْ كبارِ ذُنوبهِ أنْ تُعرَضَ عليهِ، فيُقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مَكانَ كُلِّ سيئةٍ حَسَنَةً، فيقولُ: رَبِّ قدْ عَمِلتُ أَشْياءَ لا أَراها ها هُنا"، فلقدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بدَتْ نوَاجِذُهُ. قوله: "فيقال: عملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا ... " إلى آخره. "المُشفِق": الخائف؛ يعني: يقال له: عملتَ في اليومِ الفلانيَّ الذنبَ

الفلانيَّ، وفي اليومِ الفلانيِّ الذنبَ الفلانيَّ، فيَذكُر ذلك ويُصدِّقه, ويقول: نعم، فـ (كذا وكذا) الأولَين: محلُّهما جرٌّ بإضافة (اليوم) إليهما، والآخرين: محلُّهما نصبٌ؛ لكونهما مفعولَي (عملت). * * * 4332 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْلُصُ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسونَ على قَنْطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقْتَصُّ لبَعْضهِمْ منْ بَعْضٍ مَظالِمُ كانت بينَهُمْ في الدُّنْيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فوالذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لأَحدُهُمْ أَهْدَى لِمَنْزِلهِ في الجنَّةِ منهُ لِمَنْزِلهِ كانَ في الدُّنْيا". قوله: "فيُحبَسون على قنطرة بين الجنة والنار"، (القنطرة): الجسر، وهي عبارة عن الصراط الممدود بين الجنة والنار، وقد ذُكر قُبيلَ هذا كيفيتُه. قوله: "فَيُقَصُّ لبعضهم من بعض مظالمُ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة"، (فيُقَصُّ): مضارع ما لم يُسمَّ فاعلُه، من! قَصَّ الأثرَ واقتصَّ وتقصَّصه تقصُّصًا: تبعَه. و (المظالم) جمع: مَظْلَمة، وهي ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أُخذ منك، ذكره في "الصحاح". "التهذيب" و"التنقية": واحد؛ يعني: إذا خلصَ المؤمنون من النار، فيُحبَسون على تلك القنطرة التي بين الجنة والنار؛ ليؤدُّوا حقَّ كلِّ ذي حقًّ من المظالم المالية والعرضية (¬1)، فإذا اقتصوا وأدَّوا ما عليهم من الحقوق إلى صواحبها، أو يُرضيهم الله سبحانه بكرمه ولطفه مما عنده، فيستحقُّون دخولَ ¬

_ (¬1) في "ش": "ليقتص من بعض مظالم مالية وعرضية" مكان: "ليؤدوا حق كل ذي حق من المظالم المالية والعرضية".

الجنة بعد ذلك؛ لأنهم هُذِّبوا ونُقُّوا من الذنوب. وفي بعض النسخ: "فيُقْتَصُّ" مضارع مجهول من: الاقتصاص. قوله: "والذي نفسي بيده! لأَحدُهم أهدَى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا"؛ يعني: أَقسَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تأكيدًا لصدقه بأن كلَّ واحدٍ من أهل الجنة أشدُّ هدايةً إلى منزله في الجنة منه؛ أي: أعرف بمنزله المَعدِّ له في الجنة من معرفته بمنزله الذي كان في الدنيا. * * * 4334 - وقالَ: "إذا صارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ، وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ جِيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُجْعَلَ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ثمّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فيزدادُ أهلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فرَحِهم، ويزدادُ أَهْلُ النَّار حُزنًا إلى حُزنِهم". قوله: "إذا صار أهلُ الجنة إلى الجنة، وأهلُ النار إلى النار جِيء بالموت ... " إلى آخره. صارَ إلى الشيء الفلاني؛ أي: جُمِعَ إليه؛ يعن: إذا وصلَ أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ، وأهلُ النارِ إلى النارِ جِيءَ بالموت على صورة كبش، فيُذبَح بين الجنة والنار. اعلم أن الموتَ يومَ يُذبَح يصير مشكلًا على الصورة المذكورة، بحيث يشاهدها أهلُ الجنة وأهلُ النار بأعينهم؛ لأن نعيمَ الجنة صوريٌّ، وكذا عذابُ أهل النار صوريٌّ، كما نَطَقَ به الشرعُ، وإنما يُذبَح؛ ليعلموا أن نعيمَ أهل الجنة في الجنة أبديٌّ بلا انقطاعٍ، وعذابَ أهلِ النار الذين لهم استحقاقُ الخلود في النار أبديٌّ بلا انقطاعٍ. * * *

مِنَ الحِسَان: 4335 - عن ثَوْبان - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "حَوْضي من عَدَنَ إلى عَمَّانَ البَلْقاءِ، ماؤُهُ أشدُّ بياضًا مِنَ اللَّبن، وأحلَى مِنَ العَسَلِ، وأكوابُهُ عَدَدُ نُجومِ السَّماءِ، مَنْ شَرِبَ منهُ شَرْبةً لمْ يَظْمَأْ بعدَها أبدًا، أوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا فُقراءُ المُهاجِرينَ، الشُّعْثُ رُؤُوسًا الدُّنْسُ ثيابًا، الذينَ لا يَنْكِحونَ المُتَنعِّماتِ، ولا يُفْتَحُ لهُمُ السُّدَدُ"، غريب. قوله: "حوضي من عدن إلى عمَّان البلقاء"، قال في "شرح السُّنَّة"، (عَمَّان) بفتح العين وتشديد الميم: موضع بالشام، وبضم العين وتخفيف الميم: موضع بالبحر. قال في "الصحاح": البلقاء: مدينة بالشام. قوله: "وأكوابُه عددُ نجوم السماء ... " إلى آخره. وقال في "الصحاح": الكُوب: كُوزٌ لا عُروةَ له، والجمع: أكواب، يقال: مُتَّكِئًا تُصْفَقُ أبوابُه ... يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوبِ "ورودًا" و"رؤوسًا" و"ثيابًا" كلُّها منصوبةٌ على التمييز. "الشُّعث" بضم الشين: جمع أشعث، وهو الذي شَعرُ رأسه متفرِّق. و"المتنعَّمات" جمع: متنعَّمة وهي اسم فاعلة من: التنعُّم. قال في "الصحاح": التنعُّم والنَّعمة - بالفتح - بمعنًى، وقيل: النَّعمة بالفتح: عبارة عن نِعَمٍ فيها طِيبُ العيش. "السُّدَد": الأبواب. والناس في قوله: (أول الناس ورودًا) مخصوصون بالفقراء المهاجرين، وتخصيصُ العموم من فصاحة كلام العرب؛ يعني: أولُ مَن وردَ على حَوضي

مِن فقراء أُمتي مِن الناس فقراءُ المهاجرين الذين كانت شُعور رؤوسهم متفرقةً، وثيابُهم دَنِسَةً، بحيث لو خَطَبُوا المتنعِّماتِ من أوليائهن لم يُجَابُوا، ولو دقُّوا الأبوابَ لم يُفتَح لهم، هوانًا. * * * 4336 - عن زَيْدِ بن أَرْقَمَ قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فنزَلنا مَنْزِلًا، فقالَ: "ما أنتُمْ جُزْءٌ منْ مِئَةِ ألْفِ جُزءٍ مِمَّنْ يرِدُ عليَّ الحَوْضَ". قيلَ: كمْ كنتُمْ يومئذٍ؟ قال: سبعَ مِئَةٍ أو ثمانِ مِئَةَ. قوله: "ما أنتم جزءٌ من مئةِ ألفِ جزءٍ ممن يَرِدُ على الحوض": يجوز أن يكون قوله: (جزء) منصوبًا على لغة أهل الحجاز، وهو إعمال (ما) وإجراؤها مجرى (ليس)، ويجوز أن يكون مرفوعًا على لغة بني تميم، ويريد به: كثرة مَن آمَنَ به وصدَّقه من الجن والإنس، ومثل هذه العبارة جاريةٌ في معرض المبالغة. قوله: "قيل: كم كنتُم يومَئذٍ؟ "، (كم) ها هنا: للاستفهام، ومحلها نصب على خبر (كان) المتقدم، تقدير الكلام: كم رجلًا كنتم؟ أو كم عددًا كنتُم؟ * * * 4338 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: سأَلتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَشْفَعَ لي يَوْمَ القِيامَةِ، فقالَ: "أنا فاعِلٌ". قُلتُ: يا رسُولَ الله! فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قالَ: "اُطلُبنى أوَّلَ ما تطلُبني على الصِّراطِ". قلتُ: فإنْ لمْ ألْقَكَ عَلَى الصِّراطِ؟ قالَ: "فاطلُبني عِنْدَ المِيزانِ. قلتُ: فإنْ لم ألْقَكَ عِنْدَ المِيزانِ؟ قال: "فاطلُبني عِنْدَ الحَوْضِ، فإنَّي لا أُخطِئُ هذَهَ الثلاثَ المَواطِنَ"، غريب. قوله: "فإني لا أُخطِئُ هذه الثلاث المَوَاطن"، (المواطن) جمع: مَوطن، وهو الموضع، وأصل معنى الموطن: المَشهَد من مشاهد الحرب، قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25].

وقال طرفة: على مَوطِنٍ يَخْشَى الفتى عندَه الرَّدَى وحقُّ الكلام أن يقال: هذه الثلاثةُ المَواطن، بالتأنيث؛ لأن واحدَ (المواطن) مذكر، وهو الموطن، إلا أن يراد بـ (المواطن): البقاع، وهذا التأويلُ شائعُ الاستعمال في العربية. يعني: حمل المذكَّر على المؤنَّث، وبالعكس. * * * 4339 - عن المُغِيرةِ بن شُعْبةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِعَارُ المُؤْمنينَ يومَ القِيامَةِ على الصِّراطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ"، غريب. قوله: "شِعَارُ المؤمنين"، و (الشِّعار) بكسر الشين: العلامة. قال في "الصحاح": وشِعَارُ القومِ في الحرب: علامتُهم؛ ليَعرفَ بعضُهم بعضًا، والشِّعار: ما يلي الجسدَ من الثياب، والشَّعار - بالفتح -: الشجر، يقال: أرضٌ كثيرةُ الشَّعارِ. * * * 4344 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ مِنْ أُمَّتي مَنْ يَشْفَعُ للفِئامِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للقَبيلَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للعَصَبَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفعُ للرَّجُلِ حتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة". قوله: "مَن يَشْفَع للفِئام ... " إلى آخره. قال في "الصحاح": الفئام: الجماعة من الناس، لا واحدَ له من لفظه، والعامة تقول: فيام - بلا همز -.

و"العُصبة من الرجال": ما بين العشرة إلى أربعين. * * * 4346 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قالَ: "يُصَفُّ أَهْلُ النَّارِ، فَيَمُرُّ بهِم الرَّجَلُ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فيقُولُ الرَّجُلُ منهم: يا فُلانُ! أما تَعرِفُني؟ أنا الذي سَقَيْتُكَ شَرْبةً، وقال بَعْضُهُمْ: أنا الذي وَهَبْتُ لكَ وَضُوءًا، فيشفَعُ لهُ فيُدْخِلُهُ الجنَّةَ". قوله: "يا فلانُ! أما تَعرفُني؟ أنا الذي سقيتُك شَربةً ... "، الحديث. هذا تحريضٌ على الإحسان إلى المسلمين، سيما العلماءِ والصلحاءِ، والمجالسة معهم ومحبتهم؛ فإن محبتَهم زينٌ لمحبيهم في الدنيا، ونورٌ في الآخرة. "الوَضوء" بفتح الواو: الماء الذي يُتوضَّأ منه. * * * 4348 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَرِدُ النَّاسُ النار ثُمَّ يَصْدُرُونَ منها بأَعْمالِهِمْ، فأَوَّلُهُمْ كلَمْحِ البَرْقِ، ثُمَّ كالرِّيحِ، ثُّمَ كحُضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كالرَّاكِبِ في رَحْلِهِ، ثمّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كمَشْيهِ". قوله: "يَرِدُ الناسُ النارَ، ثم يَصدُرون منها بأعمالهم"، الحديث. قال في "الصحاح": وَرَد فلانٌ يَرِدُ ورودًا: إذا حضرَ، وأورده غيرُه، وصَدَر يَصدُر صدورًا: إذا رجعَ. و"الحُضر" بضم: العَدْوُ، ويقال: أَحْضَرَ الفَرَسُ إحضارًا واحتضر؛ أي: عَدَا، و"الشَّدُّ": العَدْوُ، قد شَدَّ؛ أي: عَدا. وقيل: المراد بـ (الورود) ها هنا: الجواز على الصراط، ويدل عليه ما بعده، وهو قوله: "فأولُهم كلمح البرق، ثم كالريح ... " إلى آخره.

وإنما يُسمى الجواز ورودًا؛ لأنهم إذا مرُّوا على الصراط يشاهدون النارَ ويحضرونها، تقول: وَرَدتُ بلدَ كذا: إذا حضرتُه، ولو لم تدخل فيه، قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23]، ولم يدخله. قال الشيخ شهاب الدين التُّورِبشتي - رحمة الله عليه - في "شرحه": معنى قوله: (يصدرون منها): ينصرفون عنها، فإن الصَّدَرَ إذا عُدِّي بـ (عن) اقتضى الانصراف، وعلى هذا الاتساع معناه: النجاة منها بأعمالهم، إذ ليس هناك الانصرافُ، وإنما هو المراد: عليها، فوضع الصَّدَرَ موضعَ النجاة للمناسبة التي بين الصدور والورود، هذا كله لفظ الشيخ. وقد قيل: (الورود) بمعنى: الدخول، واستدل بقوله تعالى حكايةً عن فرعون وقومه: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98]، وقوله حكايةً عن الأصنام وعابدِيها: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 98، 99]. قال الإمام الربَّاني أبو الفتوح العجلي - قدَّس الله روحه - في تفسيره المرسوم بـ "الموجز" في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72]: رُوي عن أبي سمية قال: اختلفنا بالبصرة في الورود؛ فقال قوم: لا يدخلها مؤمنٌ، وقال آخرون: يدخلونها جميعًا، ولقيتُ جابرَ بن عبد الله - رضي الله عنه -، فقلت له: إنما اختلفنا فيه بالبصرة؛ فقال قوم: لا يدخلها مؤمنٌ، وقال آخرون: يدخلونها جميعًا {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}، فأهوى باصبعَيه إلى أذنيه - أي: أشارَ، قال الأصمعي: أَهويتُ بالشيء: إذا أَوَمأت به، ذكره في "الصحاح" - وقال: صُمَّتَا إن لم أكن سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الورودُ الدخولُ، لا يبقى بَرٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلَها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم عليه السلام، حتى إن للنار - أو قال: إن لجهنم - ضجيجًا من بردهم". ° ° °

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المَفَاتِيْحُ فِي شَرْحِ المَصَابِيْحِ [6]

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م

5 - باب صفة الجنة وأهلها

5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِها (باب صفة أهل الجنة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4349 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: قالَ الله تعالى: أَعْدَدتُ لِعباديَ الصَّالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، واقرأوا إِنْ شِئْتُم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. قوله: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ"، الحديث. (أعددت له)؛ أي: هيَّأت له. "من قُرَّة أعين": مما تَقَرُّ به أعينُهم. قال في "شرح السُّنَّة": يقال: أقرَّ الله عينَيه، معناه: أبرد الله دمعتَه؛ لأن دمعةَ الفرحِ باردةٌ، حكاه الأصمعي. وقال غيره: معناه: بلَّغَك الله أمنيتَك حتى ترضَى به نفسُك وتقرَّ عينُك، فلا تستشرف إلى غيره. * * *

4350 - وقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَوْضعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ منَ الدُّنْيَا وما فيها. ولو أَنَّ امرأةً منْ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعتْ إلى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضاءَتْ ما بينهَمُا ولَملأَتْ ما بينَهما رِيحًا، ولَنَصِيْفُها على رأْسِها خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها". 4351 - وقالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها. ولَقابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلعَتْ عليهِ الشَّمْسُ أو تَغْرُبُ". قوله: "موضعُ سَوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها"؛ يعني: موضعُ سَوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها سوى كلام الله تعالى وصفاتِه وجميعِ أنبيائه، وإنما قال هذا؛ لأن الجنةَ مع نعيمها باقيةٌ، والدنيا فانيةٌ، وكلُّ ما هو باقٍ لا يوازيه ما هو في معرض الفناء. قال الإمام التُّورِبشتي - رحمة الله عليه - في "شرحه": قلنا: إنما خَصَّ السَّوطَ بالذِّكر؛ لأن مِن شأنِ الراكبِ إذا أراد النزولَ في منزلٍ أن يُلقيَ سَوطَه قبل أن ينزلَ، معلِّمًا بذلك المكانَ الذي يريده؛ كيلا يَسبقَ إليه أحدٌ، وفي معناه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يتلوه من رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "وَلَقابُ قوسِ أحدكم"، و (القاب): ما بين المَقْبض والسِّيَةِ، ولكل قوسٍ قابانِ، والراجل يبادر إلى تعيين المكان بوضع قوسه، كما أن الراكبَ يبادر إليه برمي سَوطِه. قوله: "ولَنَصيفُها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها"، قال في "الصحاح": (النَّصيف): الخِمَار، قال النابغة: سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فَتَنَاوَلَتْه واتَّقتْنا باليدِ أي: أمسكته بيدها.

قوله: "إن في الجنة شجرةً يسير الراكبُ في ظلِّها مئةَ عامٍ لا يقطعها": وهذه الشجرة هي شجرة الطُّوبى؛ يعني: هي شجرةٌ كبيرةٌ كثيرةُ الأغصانِ، بحيث لو كان يسير الراكبُ في ظلِّها بالليل والنهار مئةَ سنَةٍ لم يقطع مسافتَها. قوله: "ولَقَابُ قوسِ أحدكم في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمسُ أو غربت": قال في "الصحاح": قَابُ قَوسٍ، وقَادُ قَوسٍ، وقِيدُ قَوسٍ؛ أي: قَدْرُ قَوسٍ، والقاب: ما بين المَقْبض والسِّيَة، ولكل قوسٍ قابانِ، وقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]، قال: أراد قابَي قوسٍ، فعليه يعني، قَدْرُ قَوسِ أحدِكم خيرٌ مما مضى عليه طلوع الشمس، أو مما تغرب عنه الشمس إلى يوم القيامة؛ يعني: خيرٌ من الدنيا وما فيها جميعًا، كما ذُكر قُبيلَ هذا. وقيل: قَدْرُ ما بين السِّيَة والمَقْبض. * * * 4352 - وقال: "إنَّ للمُؤْمِنِ في الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤلُؤةٍ واحِدَة مُجَوَّفةٍ طُولُها سِتُّونَ مِيْلًا، في كُلِّ زاويَةٍ منها للمُؤْمِنِ أَهْلٌ لا يراهمُ الآخَرون، يَطُوفُ عَلَيهمُ المُؤْمِنونَ، وجَنَّتانِ من فِضَّةٍ آنيتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذهب آنيتُهما وما فيهما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبينَ أنْ يَنظُروا إلى ربهمْ إلا رِداءَ الكبرياءِ على وَجْههِ في جَنَّةِ عَدْنٍ". قوله: "ستون مِيلًا في كل زاوية منها للمؤمن"، أصل (الميِل): ثُلث فَرسخ، و (الزاوية): هي ناحية البيت، الضمير في (منها) يعود إلى (الخيمة). قوله: "وما بين القوم وما بين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكِبرياء على وجهه في جنة عَدْن"، يريد صفة الكبرياء وعظمته، وقوله: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: العظمة والمُلك، وهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه

أحدٌ من خلقه حتى يأذنَ لهم في دخول جنَّة عَدن، فيرَونه فيها. و (جنة عَدن)؛ أي: جنةُ إقامةٍ، يقال: عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عُدونًا؛ أي: أقام، ذكره في "شرح السُّنَّة". * * * 4353 - وقالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلَّ دَرَجتَيْنِ كما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، والفِرْدَوْسُ أَعْلاها دَرَجَةً، منها تُفجَّرُ أَنْهارُ الجَنَّةِ الأَرْبعةُ، ومنْ فَوْقِها يكُونُ العَرْشُ، فإذا سَأَلتُمُ الله فاسأَلوهُ الفِردَوْسَ". قوله: "في الجنة مئة درجةٍ، ما بين درجتَين كما بين السماء والأرض": العلم بتخصيص هذا العدد وغيره من المبهمات للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه يمكن أن يقال: يريد بـ (المئة): الكثرة، ولا يريد به نفس المئة، بل إنما ذكر المئة؛ لتفهيمنا أن درجاتِ الجنة متناهيةٌ؛ لأنها مخلوقةٌ حادثةٌ، لكنها باقيةٌ لا تنقطع، وتفاوُتُ الدرجاتِ إن رجع إلى الصورة يريد أن أحدَها أرفعُ من الآخر كطبقات السماء، وإن رجع إلى المعنى فيكون التفاوُتُ في القربة إلى الله تعالى وإيراد الإنعام منه عليه ورودًا متفاوتًا؛ فالزائدُ هو الرفيعُ، وما دونَه هو المُنحطُّ عنه. * * * 4355 - وقالَ: "إنَّ أوَّلَ زُمرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ إضاءَةً، قُلوبُهُمْ على قَلْبِ رَجُلٍ، لا اخْتِلافَ بينَهم ولا تَبَاغُضَ، لكُلِّ امرئٍ منهُمْ زَوْجَتانِ مِنَ الحُورِ العِيْنِ يُرَى مُخُّ سُوقِهنَّ مِنْ وَراءَ العَظْم واللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، يُسبحُونَ الله بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولا يَبُولُونَ، ولا يتغوَّطُونَ، ولا يَتْفِلُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ، آنيتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشاطُهُمُ الذَّهبُ ووَقُودُ مجامِرِهِمْ الألُوَّةُ ورَشْحُهُمُ المِسْكُ،

على خُلُقِ رَجُلٍ واحِدٍ، على صُورةِ أبيهم آدَمَ سِتُّونَ ذِراعًا في السَّماءِ". قوله: "إن أولَ زُمرةٍ يدخلون الجنةَ على صورة القمر ليلةَ البدر"، الحديث. (الزُّمرة): الجماعة؛ يعني: أولُ زمرةٍ يدخلون الجنةَ يكونون حِسَانَ الوجوه، بحيث تكون وجوههم كالبدر التام، فنورُ وجوههِم أتمُّ وأكملُ من نور وجوه الذين يدخلون بعدهم، لكونهم أنبياء وأولياء، فهم غيرُ محتاجين إلى شفاعة شافع، بل الناسُ يحتاجون إلى شفاعتهم؛ لأنهم هم الكاملون في أنفسهم المكمِّلون لغيرهم، فلهذا كان نورُ وجوههم نورَ البدر التام في نفسه، ثم الزمرة الثانية يدخلون الجنةَ ووجوههم مثل كواكبَ دُرِّيَّةٍ شديدةِ الإضاءةِ، هذا معنى قوله: "ثم الذين يلونهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً". قال في "شرح السُّنَّة": الكوكب الدُّرِّيُّ: الشديد الإنارة، نسبة إلى الدُرِّ، ويُشبَّه صفاؤُه بصفائِه. هذا ما قاله الشيخ إذا كان مضمومَ الدال غيرَ مهموز؛ وهو مراد الحديث، فإن هُمِزَ أو كُسِرَ أولُه كان مأخوذًا من الدَّرْء، وهو الدفع، وإنما سمي دريًّا؛ لكونها دافعةً للشياطين عن استراق السمع. قوله: "ووَقود مَجَامرهم الأُلُوَّة، ورَشْحُهم المِسْكُ"، (الوَقود) بفتح الواو: ما تُوقَد به النار، و (المَجَامر) جمع: مجْمَرة، وهي ما يُوضَع فيه الجمر، ويُحرَق فيه العود للتبخير، هذا إذا كان مفتوحَ الميم، وأما إذا كان مكسورَ الميم فهو الآلة. و (الأُلُوَّة) قال الأصمعي: هي العود الذي يُتبخَّر به، وأراها كلمةً فارسيةً معرَّبةً. قال أبو عبيد: فيها لغتان: الألُوَّة - بفتح الألف وضمِّها -.

و (الرَّشْح): العَرَق؛ يعني: مرشوحُهم فيه رائحةٌ كرائحة المِسْك. قوله: "ستون ذراعًا في السماء"؛ يعني: طولُهم ستون ذراعًا. * * * 4356 - وقالَ: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يأكُلونَ فيها ويَشْربونَ، ولا يَتْفِلُونَ ولا يَبُولونَ، ولا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ". قالوا: فما بَالُ الطَّعامِ؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمونَ التَّسْبيحَ والتَّحْميدَ كما تُلهَمُونَ النَّفَسَ". قوله: "يُلهَمُون التسبيح والتهليلَ كما تُلهَمُون النفَس"؛ يعني: تسبيحُهم لله سبحانه وتهليلُهم إياه كتنفُّسهم في الدنيا؛ يعني: كما أنهم لا يتعبون في تنفُّسهم، ولا يشغلهم شيءٌ عن التنفس، فلهذا لا يتعبون في التسبيح والتهليل وجميع الأذكار، ولا يشغلهم شيءٌ عن ذلك كالملائكة، ويجوز أن يريد أنه يصير صفةً لازمة لا ينفكُّون عنها، كالتنفُّس اللازم للحيوان. * * * 4357 - وقال: "مَنْ يَدْخُل الجَنَّةَ يَنْعَمُ ولا يَبْأَسُ، ولا تَبْلَى ثِيابُهُ، ولا يَفْنَى شَبابُهُ". قوله: "مَن يدخل الجنةَ يَنْعَم لا يَبْأَس": قال في "الصحاح": بَئِسَ الرجلُ يَبْأَسُ بُؤسًا وبَأسًا: اشتدت حاجتهُ، فهو بائس؛ يعني: طِيبُ الجنةِ ونعيمُها هنئٌ بحيث لا تعبَ فيه ولا انقطاعَ. * * * 4359 - وقالَ: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَراءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ منْ فَوْقِهم كما تتَراءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ

ما بَيْنَهمْ". قالوا: يا رسُولَ الله! تِلْكَ منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرُهُمْ، قال: "بَلَى والذي نَفْسي بيدِه، رجالٌ آمَنُوا بالله وصَدَّقُوا المُرْسَلِين". قوله: "إن أهلَ الجنة يَتَرَاءَون أهل الغُرَف من فوقهم"، الحديث. قال في "شرح السُّنَّة" (يتراءَون)؛ أي: ينظرون، يقال: تراءَيتَ الهلالَ: إذا نظرتُه، و (الغُرَف) جمع: غرفة، وهي البيت الذي يُبنى فوق الدار، والمراد بـ (الغُرَف) ها هنا: القصور العالية في الجنة. قوله: "الغابر في الأفق من المغرب والمشرق"، (الغابر): بالباء هو الرواية الصحيحة، معناه: الباقي في الأفق بعدما انتشر ضوءُ الصبح، وإنما قال الغابر؛ لأن الكوكبَ المضيءَ إذا كان باقيًا في الأفق يكون نورُه أكثرَ. ورواية: "الغائر" - بالهمز - من: الغَور، قيل: تصحيف الغابر؛ لأن معناه غيرُ مستقيمٍ من جانب المشرق. * * * 4360 - وقالَ: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أَفئِدَتُهُمْ مِثْلُ أفئِدَةِ الطَّيْرِ". قوله: "أقوامٌ أفئدتُهم مثلُ أفئدة الطير"، قيل: هم أقوامٌ قلوبُهم لينةٌ ذاتُ رقةٍ وصفاءٍ، وإنما شبَّهها بقلوب الطير؛ لأنها خاليةٌ عن الغِل والحسد، كقلوب الطير. * * * 4361 - وقالَ: "إنَّ الله تعالى يقولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ، فيقولونَ: لبَّيْكَ ربنا وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يَدَيْكَ، فيقولُ: هلْ رَضيتُمْ؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضَى يا رَبِّ وقد أُعْطَيْتَنا ما لمْ تُعطِ أَحَدًا منْ خَلقِكَ،

فيقولُ: ألا أُعطِيكُمْ أَفْضَلَ منْ ذلكَ؟ فيقولونَ: يا رَبِّ وأيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ منْ ذلكَ؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكُمْ رِضْواني، فلا أَسْخَطُ عليكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا". قوله: "لبَّيك وسَعْدَيك والخيرُ في يديك"، وحكى أبو عبيد أن أصل التلبية: الإقامة بالمكان، يقال: أَلْبَبْتُ بالمكان ولَبَّبْتُ بالمكان، لغتان: إذا أقمتُ به، قال: ثم قلبوا الباءَ الثانيةَ إلى الياء استثقالًا، كما قالوا: تظَّنيت، وإنما أصلها: تظنَّنت، ذكره في "الصحاح". فعلى هذا معناه: دُمتُ على طاعتك دوامًا بعد دوامٍ من غير غايةٍ ولا نهايةٍ، فيكون معنى التلبية التكريرَ والمبالغةَ، ويكون منصوبًا على مصدرٍ حُذف فعلُه وجوبًا، ويجعل نفس التلبية نائبةً عن الفعل، وكذلك كل ما جاء مثنًّى من المصادر. و (سَعْدَيك) أصله: سَعْدَين، فحذفت النون بالإضافة، والسَّعد بمعنى: السعادة؛ أي: نطلب منك سعاداتٍ كثيرةً. وقال في "شرح السُّنَّة"؛ أي: ساعدت بطاعتك يا ربِ مساعدةً بعدَ مساعدةٍ، وإنما قال: (والخيرُ في يديك)، ولم يقل: الخيرُ والشرُّ، مع أن كلاهما جارٍ بإرادته القديمة تعالى؛ لأنه لا يُنسَب إليه الشرُّ أدبًا. * * * 4363 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيْحَانُ وجَيْحانُ والفُرَاتُ والنَّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهارِ الجَنَّةِ". قوله: "سَيْحَان وجَيْحَان والفراتُ والنيلُ كلٌّ من أنهار الجنة"، قال في "الصحاح": سيحان: نهرٌ بالشام، وجيحان: كذلك نهرٌ بالشام، والفرات: نهرُ الكوفة، والنيل: نهرُ مصر، وإنما قال: كلُّ واحدٍ من الأنهار الأربعة من الجنة؛ نظرًا إلى عذوبته وسوغه في الحلق، وهضمه للطعام، وكثرة منافعه الأُخَر من

غير تعب ومُؤْنة، فإذا كان كذلك فكأنها منها، لكن الأَولى أن يُجرَى هذا وأمثالُه على ظاهره؛ لأنه لا ضرورةَ في صرف الكلام عن الظاهر. * * * 4364 - عن عُتْبةَ بن غَزْوانَ قال: ذُكِرَ لنا أنَّ الحَجَرَ يُلقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فيَهْوِي فيها سَبْعينَ خَرِيفًا لا يُدرِكُ لها قَعْرًا، والله لَتُمْلأَنَّ. ولقدْ ذكرَ لنا أنَّ ما بينَ مِصْراعَيْنِ منْ مَصارِيعِ الجنَّةِ مَسيرةُ أربعينَ سنةً، ولَيأْتيَنَّ عليها يَوْمٌ وهو كَظيظٌ مِنَ الزِّحامِ. قوله: "يُلقَى من شفة جهنم، فيهوي فيها"، الحديث. (الإلقاء): الإسقاط، الشفة والشفا والشفير: ثلاثتها واحدة. (يهوي)؛ أي: يسقط، و (الخريف): السَّنة، (كظيظ): فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مملوء مُفيضٌ ضيقٌ من الزحام. قال في "الغريبين": كظيظ؛ أي: ممتلئ، يقال: كظَّ الغيطُ: إذا ملأ صدرَه، فهو كظيظ، والكظيظ: الزحام، يقال: رأيت على بابه كظيظًا. * * * من الحِسانِ: 4365 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: "قُلتُ: يا رسُولَ الله! مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: مِنَ الماءِ، قُلنا: الجَنَّةُ ما بناؤُها؟ قالَ: لَبنةٌ مِنْ فِضَّةٍ ولَبنةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذْفَرُ، وحَصْباؤُها اللُّؤْلؤُ والياقُوتُ، وتُرْبتُها الزَّعْفَرانُ، مَنْ يَدْخُلْها يَنْعُمُ ولا يَبْأَسْ، ويَخْلُدُ ولا يَمُوتُ، ولا تَبْلَى ثيابُهُمْ ولا يَفْنَى شَبابُهُمْ". قوله: "مِمَّ خُلِقَ الخلقُ؟ قال: من الماء"، يريد بـ (الماء): النُّطفة.

قوله: "ومِلاطُها المِسْك الأذْفَر"، (المِلاط): الطين الذي يُجعَل بين مسافتي البناء، يُملَط به الحائط، (الذَّفَر) بالتحريك: كلُّ رِيحٍ ذَكيةٍ من طِيب، يقال: مِسْك أذفَر بينُ الذَّفَر، والضمير في (ملاطها) يعود إلى الجنة. قوله: "لا تَبْلَى ثيابُهم، ولا يَفْنَى شبابُهم"، بَلِيَ الثوبُ يَبْلَى بلاء: إذا خَلُقَ واندرس؛ يعني: أهل الجنة لا تصير ثيابُهم مندرسةً باليةً، ولا يزول شبابُهم في الجنة، بل يدوم شبابُهم بحيث لا يتطرق عليه الشيبُ أصلًا. وتبقى ثيابُهم الجُدُدُ التي كانت عليهم بحيث لا تندرس أبدًا، وإنما كان كذلك؛ لأن الآخرةَ دارُ البقاء، فلا انقطاعَ ولا تغيُّرَ فيهما البتةَ، بخلاف الدنيا وما فيها؛ فإنها للفناء. * * * 4369 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: اِرتفاعُها لكَما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ مَسيرَةَ خَمْسِ مِئَةِ سَنةٍ"، غريب. قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}: قال في "شرح السُّنَّة": قيل: أراد بـ (الفُرُش) نساء أهل الجنة ذوات الفُرش، يقال لامرأة الرجل: هي فِراشُه وإزارُه ولِحافُه. قوله: {مَرْفُوعَةٍ}؛ أي رُفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا، وكلُّ فاضلٍ رفيعٌ. وقيل: ليس المرادُ من ارتفاع الفُرش: النساء، بل ارتفاعُ الدرجات. يعني: ما بين كل درجتين قَدْرُ ما بين السماء والأرض. * * *

4370 - وقالَ: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ يَوْمَ القِيامَةِ ضَوْءُ وُجُوهِهِمْ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، والزُّمْرةُ الثَّانيةُ عَلَى مِثْلِ أَحْسنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ، لكُلِّ رَجُلٍ منهُمْ زَوْجَتانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجةٍ سبعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ ساقِها منْ ورائِها". قوله: "يُرَى مخُّ ساقها من ورائها"، (المخ): ما هو في جوف العظم من الدسومة. (وراء)؛ أي: خلف، وقد يكون بمعنى: قُدَّام، وهو من الأضداد، يعني: يُرَى ما في عظم ساقيها من المخ من غاية اللطافة والنعومة تحت حُلَلها السبعين وعظم ساقها ولحومها، وإنما كان كذلك؛ لأنها روحانيةٌ قدسيةٌ في غاية اللطف والصفاء. * * * 4371 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُعْطَى المُؤْمِنُ في الجَنَّةِ قُوَّةَ كذا وكذا مِنَ الجماعِ"، قِيلَ: يا رسُولَ الله! أوَ يُطيقُ ذلك؟ قال: "يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةٍ". قوله: "أَوَ يطيق ذلك؟ "، الهمزة: للاستفهام، والواو: للعطف، وذلك إشارة إلى مضمون "كذا وكذا من الجماع"؛ يعني: وهل يطيق رجلٌ من أهل الجنة ذلك المقدارَ من الجماع؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "يُعطَى قوةَ مئةٍ" أي: مئةِ رجلٍ. * * * 4372 - وعن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "لوْ أنَّ ما يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدا لتَزَخْرَفَتْ لهُ ما بينَ خَوافِقِ السَّماواتِ والأَرْضِ، ولوْ أنَّ رَجُلًا مِنْ أهلِ الجَنَّةِ اطَّلعَ فبَدا أَساوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ كما تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجومِ"، غريب.

قوله: "لو أن ما يُقِلُّ ظفرٌ مما في الجنة"، قال في "شرح السُّنَّة": يُقِلُّ؛ أي: يحمل، قال الله تعالى: {إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ} [الأعراف: 57] أي: حملت الرياحُ سحابًا ثقالًا. قوله: "لَتزخرفت"؛ أي: لَتزيَّنت، والتزخرُف: كمالُ حُسن الشيء، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24] أي: تزيَّنت بألوان النبات. قوله: "ما بين خوافق السماوات والأرض"؛ أي: أطرافها، وقيل: منتهاها، وقيل: المشرق والمغرب؛ لأن المغربَ خافقٌ؛ أي: غائبٌ، من (خَفَقتِ النجومُ): إذا غابت، فذكر المحل وأراد به الحال، فغلَّبوه على المشرق. و (خوافق السماء): التي يخرج منها الرياح الأربع؛ أي: الشمال والجنوب والدَّبور والقَبول. و (ما) في (ما بين): موصول، معناه: التي، و (بين): صلته، والموصول مع صلته فاعل لـ (تزخرفت)، يعني: لو أن ما يحمله ظفرٌ من نعيم الجنة لو ظهر في الدنيا لأَنارَ ما بين المشرق والمغرب، وزيَّنه بحيث لا يبقى نور الشمس عند كمال نوره؛ لأنه خُلق للبقاء. قوله: "فبدا أساورُه لَطمَسَ نورُه"، (بدا يبدو): إذا ظهر، (الأساور) جمع: أسورة، وهي ما تلبَسه المرأة من الحليِّ، و (الطَّمْس): المَحْو. * * * 4373 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَهْلُ الجَنُّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لا يفنَى شبابُهُمْ ولا تبلَى ثيابُهُمْ".

قوله: "جُرْد مُرْد كَحْلَى"، (الجُرْد) جمع: أجرد، يقال: رجلٌ أجردُ بينُ الجَرَدِ: لا شَعرَ عليه، و (المُرْد): جمع أمرد، وهو غلام لا شَعرَ على ذقنه، وقيل: إنْ حُمل (جُرْد) على ما سوى الذقن، وجاء (مُرْد) مبينًا الذقن كان تغيير الوضع الجرد، وإن حُمل على العموم كان (مُرْد) صفةً لـ (جُرْد)؛ لأن الجُرْدَ قد تناوله بعمومه، فلا حاجةَ إليه. قيل: فالوجه أن ينوي به التقديم؛ أي: مُرْد جُرْد، فيحمل (المُرْد) على المعهود، و (الجُرْد) على سائر الأعضاء سوى الرأس. (كَحْلَى) جمع: كحيل، وهو بمعنى مكحول، وهو الذي عينه في أصل الخلقة مكحلة. * * * 4375 - عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وذُكِرَ لَهُ سِدْرَةُ المُنْتهَى قالَ: "يسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّ الفَنَنِ منها مِائةَ سَنَةٍ، أو يَسْتظِلُّ بظلِّها مِئَةُ راكبٍ - شَكَّ الرَّاوي - فيها فَراشُ الذَّهبِ كأنَّ ثِمارَها القِلالُ"، غَريب. قوله: "في ظل الفَنَن"، (الفَنَن) واحد: الأفنان، وهي الأغصان. قوله: "فَراش الذهب، كأن ثمرَها القِلالُ"، (الفَراش) واحدها: فراشة، وهي التي تطير وتتهافت في السِّراج، وفي المثل: فلانٌ أطيشُ من فراشة، ذكره في "الصحاح". قال الإمام أبو الفتوح في "تفسيره": ولعل أراد: الملائكة تتلألأ أجنحتُها تلألُؤَ أجنحة الفراش، كأنها مذهَّبة، أراد بـ (القِلال): قِلال هَجَر، وهي جمع: قُلَّة، وهي الجَرَّة الكبيرة تأخذ قربتين وشيئًا. هكذا مَحكيٌّ عن ابن جُريج، سُميت القُلَّةُ قُلَّةً؛ لأنها تُقَلُّ؛ أي: تُرفَع.

"وسِدْرة المُنْتَهى"، (السِّدرة): شجرة معروفة ثمرها، والمراد بها ها هنا: ما قاله في "معالم التنزيل": وهي شجرةٌ تَحمل الحليَّ والحُلَلَ والثمارَ من جميع الألوان، لو أن ورقةً وُضعت منها في الأرض لأَضاءت لأهل الأرض، وهي شجرة طُوبى. و (المنتهى): موضع الانتهاء، وإنما سُميت سِدْرَةُ المنتهى؛ لأنها في أصل العَرش، وإليها ينتهي علمُ الخلائق، وما خلفَها غيبٌ لا يعلمه إلا الله تعالى. * * * 4379 - عن سالمٍ، عن أبيه - رضي الله عنهما - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بابُ أُمّتي الذي يَدْخُلونَ مِنْهُ الجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسيرَةُ الرَّاكِبِ المُجَوَّدِ ثلاثًا، ثُمَّ إنَّهمْ ليُضْغَطونَ عليهِ حتَّى تكادُ مناكبُهُمْ تَزُولُ"، ضعيفٌ مُنْكرٌ. قوله: "عَرضُه مسيرةُ الراكب المُجوِّد": اسم فاعل من (جوَّد): إذا أجاد شيئًا؛ أي: جعله جيدًا، يعني: عَرضُ ذلك الباب مسيرةُ الراكب الذي يُجوَّد ركضَ الفَرَسِ ثلاثَ ليالٍ. قوله: "ثم إنهم ليُضغَطون عليه حتى تكاد مناكبُهم تزول"، ضغطه يضغطه ضغطًا: زحمَه إلى حائطٍ ونحوه، ومنه: ضَغْطَةُ القبر، (الضُّغطة) بالضم: الشِّدة والمشقة، ذكره في "الصحاح". يعني: أن الداخلين لَيزدحمون على ذلك الباب في حال دخولهم، بحيث يَقرُب أن تزولَ مناكبُهم من شدة الازدحام. * * * 4380 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا

ما فيها شِراءٌ ولا بَيعٌ إلَّا الصُّوَرَ منَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فإذا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فيها"، غريب. قوله: "إن في الجنة لسوقًا ما فيها شراءٌ ولا بيعٌ إلا الصُّوَرَ من الرجال والنساء"، الحديث. الضمير في (فيها) الأول يعود إلى (السوق)؛ لأنه مؤنث سماعي، والضمير في (فيها) الثاني يعود إلى (الصُّوَرَ). يحتمل أن يريد بـ (الصُّوَر): الجمال للشكل بالصُّوَر الحسنة، لو كان من الأعراض، كوزن الأعمال في الميزان، وكلاهما ليس بمُستبعَدٍ من قدرته تعالى. فالحاصل: أن ما هو من أمور الآخرة العقلُ قد لا يهتدي إليه، والنقلُ مُتَّبعٌ، فإذا ثبت هذا فقد عُرض على المؤمن في تلك السوق الصورُ المستحسنة، فإذا اشتهى أن تكون صورتُه مثل صورةٍ من تلكَ الصُّوَر، صيَّره الله تعالى على تلك الصورة المشتهاة بقدرته القديمة تعالى. وقيل: يريد بـ (الصور): الزينة التي تعطي الجمالَ مَن يتزيَّن بها، وتلك عبارة عن الثياب النفيسة والتيجان المكلَّلة، وغير ذلك مما يتزيَّن الشخص به، وعلى هذا المراد بـ (الدخول): التزيُّن بها. * * * 4381 - عن سعيدِ بن المُسَيبِ - رضي الله عنهما -: أنَّهُ لَقِيَ أبا هُريرَةَ - رضي الله عنه -، فقالَ أبو هُريرة: أَسْألُ الله أنْ يَجْمَعَ بينِي وبينَكَ في سُوقِ الجَنَّةِ، فقالَ سعيدٌ: أَفِيْها سُوْقٌ؟ قالَ: نَعَم، أَخْبَرَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إذا دَخَلُوها نزلُوا فيها بفَضْلِ أَعْمالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ في مِقْدارِ يَوْمِ الجُمُعةِ منْ أيَّامِ الدُّنيا فيَزورُونَ رَبَّهم، وُيبْرِزُ لهُمْ عَرْشَهُ، ويَتَبَدَّى لهُمْ في رَوْضَةٍ منْ رِياضِ الجَنَّةِ، فيُوضَعُ لهُمْ منابرُ

من نورٍ ومنابرُ من لؤلؤٍ ومنابرُ من ياقوتٍ ومنابرُ من زبرجدٍ ومنابرُ منْ ذهَبٍ ومَنابرُ منْ فِضّةٍ، ويَجْلِسُ أَدْناهُمْ، وما فيهم دَنيءٌ، على كُثبانِ المِسْكِ والكافورِ، وما يُرَوْنَ أَنَّ أَصْحابَ الكَراسِيِّ بأَفْضَلَ منهمْ مَجْلِسًا. قالَ أبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسولَ الله! وهل نرَى رَبنا؟ قال: "نعم، هلْ تَتَمارَوْنَ في رُؤيةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ ليلةَ البَدْرِ؟ " قلنا: لا. قال: "كذلكَ لا تَتَمارَوْنَ في رُؤيةِ ربكُمْ، ولا يَبقى في ذلكَ المَجْلسِ رَجُلٌ إلّا حاضَرَهُ الله مُحاضَرَةً، حتَّى يقولَ للرَّجُلِ منهُمْ: يا فلانُ بن فُلانٍ أَتَذْكُرَ يومَ قُلْتَ كذا وكذا؟ فَيُذَكِّرُهُ ببَعْضِ غَدراتِهِ في الدُّنيا، فيقولُ: أَفَلَمْ تغفِرْ لي؟ فيقولُ: بلَى، فبسَعَةِ مَغْفِرتي بَلَغْتَ منزلتَكَ هذِهِ. فَبَينَما همْ علَى ذلكَ غَشِيَتُهُمْ سَحابَةٌ منْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرتْ عليهمْ طِيبًا لمْ يَجدوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قطُّ، ويقولُ ربنا: قُومُوا إلى ما أَعْدَدْتُ لكُمْ منَ الكرامَةِ فخُذوا ما اشْتَهَيْتُمْ. فنأتي سُوْقًا قدْ حَفَّتْ بهِ الملائكةُ ما لَمْ تَنْظُرِ العُيونُ إلى مثلِهِ، ولم تسمع الآذانُ ولم يَخْطُرْ على القُلوبِ، فيُحْمَلُ لنا ما اشتهَيْنا، ليسَ يُباعُ فيها ولا يُشْترَى، وفي ذلكَ السُّوقِ يَلقَى أهلُ الجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قال: فيُقبلُ الرَّجُلُ ذُو المَنزِلةِ المُرْتَفِعَةِ فيَلْقَى مَنْ هو دُونَهُ، وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ فَيَرُوعُهُ ما يَرى عليهِ منَ اللِّباسِ، فما ينقضي آخِرُ حدَيثِهِ حتَّى يتخيَّلَ عليهِ ما هو أَحْسَنُ منهُ، وذلكَ أنَّهُ لا يَنبَغي لأَحدٍ أنْ يَحْزَنَ فيها، ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلى منازِلِنا فيتلقَّانا أَزْواجُنا فيقُلْنَ: مرحبًا وأهلًا لقدْ جِئْتَ وإنَّ بكَ منَ الجَمالِ أَفْضَلَ مِمَّا فارقْتَنا عليهِ، فيقولُ: إنَّا جَالَسْنا اليَوْمَ ربنا الجَبَّارَ ويَحِقُّنا أنْ نَنْقَلِبَ بمِثْلِ ما انقلَبنا"، غريب. قوله: "يُبرز لهم عَرْشَه"، (يُبرز)؛ أي: يُظهر. قوله: "ويتبدَّى لهم في روضة"، تبدّى الرجل: أقام بالبادية، وتبدَّى الشيء؛ أي: ظهر؛ أي: يظهر لهم ربُّهم؛ أي: لطفُ ربهم ورحمتُه.

"المنابر" جمع: مِنْبَر، وهو مِفْعَل من: نبَرتُ الشيءَ أَنْبره نبَرًا: رفعتُه. "الزبرجد": جوهر معروف. قوله: "ويجلس أدناهم - وما فيهم دنيءٍ - على كثبان المِسك"، (الأدنى): ضد الأعلى، والمراد به ها هنا: مَن هو أقلُّ منزلةً من أهل الجنة؛ لأنه ليس في أهل الجنة دنيءٌ؛ أي: دونٌ وخسيسٌ. (الكثبان): تلال الرمل، واحدها: كثيب، من (كَثبتُ الشيءَ)، جمعتُه، وانكثب الرملُ؛ أي: اجتمع، ذكره في "الصحاح". التماري في الشيء: الشك فيه. قوله: "ولا يبقى في ذلك المجلس رجلٌ إلا حاضَرَه الله محاضرةً"، (المحاضرة) بالحاء المهملة وبالضاد المعجمة: عبارة عن جريان الحضور والمكالمة بين اثنين، يعني: كلَّمه الله سبحانه من غير حجابٍ ولا ترجمان بكلامٍ لا يسمعُه غيرُه. قال الشيخ الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي في "شرحه": مَن روى هذَين اللفظَين بالخاء المعجمة وبالصاد المهملة فقد صحَّفه فيهما. قوله: "ما أعددت لكم من الكرامة"؛ أي: ما هيَّأت لكم. قوله: "قد حفَّت به الملائكة"، يقال: حفَّ الشيءُ به؛ أي: أَحْدَقَ وأَطافَ به. الضمير في (به) يعود إلى (السوق)، و (السوق) يُذكر ويُؤنث، يعني: الملائكة أطافوا وأحدقوا بجوانب ذلك السوق. قوله: "ما لم تنظر العيون إلى مثله"، (ما): موصولة، و (لم تنظر): صلته، والموصول وصلته يحتمل أن يكون منصوبًا بدلًا من الضمير المنصوب في قوله: (ما أعددت لكم ما لم تنظر العيون).

ويحتمل أن يكون مرفوعًا؛ لكونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: المُعَدُّ لكم ما لم تنظر العيون ... ، إلى آخر المعطوف. قوله: "فَيرُوعُه"؛ أي: يُعجبه. قوله: "فما ينقضي آخرُ حديثه حتى يتخيَّل عليه ما هو أحسنُ منه"، انقضى الشيء؛ أي: انقطع؛ يعني: لا ينقطع آخرُ الحديث حتى يظهرَ على بدنه لباسٌ آخرُ أحسنُ من لباس صاحبه. يقال: تخيَّلَتِ الأرضُ كذا: أَخرجَتْ زهراتِ نباتها. قوله: "فيتلقَّانا أزواجنا"، (التلقِّي): الاستقبال، (الأزواج) جمع: زوج وهو المرأة هنا؛ أي: استقبلتْنا زوجاتُنا. قوله: "مرحبًا وأهلًا، لقد جئتَ وإن بك من الجمال أفضلَ مما فارَقْتَنا عليه"، (مرحبًا وأهلًا): نصب على المصدر، تقديره: رَحبتَ مرحبًا وتأهَّلت أهلًا، واللام في (لقد): جواب قَسَم مقدَّر، تقديره: والله لقد جئتَ، والواو في (وإن) للحال من الضمير في (جئت)، يعني: والله لقد جئتَنا في حالِ كونِك أحسنَ وجهًا وأتمَّ حالًا مما كنتَ عليه حين فارقتَنا. قوله: "فيقول: إنَّا جالَسْنَا اليومَ ربنا الجبَّارَ، ويَحِقُّنا أن ننقلبَ بمثل ما انقلبنا"، حقَّ الشيءُ يحِقُّ - بالكسر -؛ أي: وَجَبَ؛ يعني: وجبَ لنا أن نرجعَ إلى مِثْلِ ما رجعنا من الجمال التام، فإنَّا قد جالَسْنَا لطفَ ربنا تعالى في هذا اليوم، فأعطانا خِلْعَة الجمال وحُلَّةَ الكمال. * * * 4382 - عن أبي سعيدٍ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدنَى أَهْلِ الجَنَّةِ الذي لهُ ثمانونَ ألفَ خادِمٍ، واثنتانِ وسَبْعونَ زوجةً، ويُنْصَبُ لهُ قُبَّةٌ منْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ وياقوتٍ كما بينَ الجابيَةِ إلى صَنْعاءَ".

وبه قالَ: "مَنْ ماتَ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ منْ صَغيرٍ أو كبيرٍ يُرَدُّونَ بني ثلاثينَ في الجَنَّةِ، لا يزيدونَ علَيها أَبَدًا، وكذلكَ أَهْلُ النَّارِ". وبه قالَ: "إِنَّ عليهمُ التِّيْجَانَ، أَدْنىَ لُؤْلُؤةٍ مِنْها لَتُضيءُ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ"، غريب. قوله: "بين الجابية إلى صنعاء"، (الجابية): مدينة بالشام، و (صنعاء) ممدود: قصبة اليمن، ذكره في "الصحاح". وقيل: أولُ بلدٍ بنيت بعد طوفان نوح عليه السلام، ذكره في "شرح المقامات". قوله: "وبه قال: إن عليهم التيجانَ" "وبه قال"، الضمير في (به) الأول والثاني يعود إلى الإسناد؛ يعني: وبالإسناد، ولو لم يوجد لفظة الإسناد في "المصابيح"؛ لأنه صّرح في "شرح السُّنَّة" وقال في كلا الموضعين: وبالإسناد. * * * 4384 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجَنَّة لمُجْتَمَعًا للحُورِ العِينِ، يَرْفَعْنَ بأَصْواتٍ لمْ يَسمَع الخَلائِقُ مِثْلَها، يقُلْنَ: نَحْنُ الخالِداتُ فلا نبَيدُ، ونحنُ النَّاعِمَاتُ فلا نَبْأَسُ، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نسخَطُ، طُوْبىَ لِمَنْ كانَ لنا وكُنَّا لهُ". قوله: "فلا نَبيدُ"؛ أي: فلا نهَلكُ، بادَ: إذا هلكَ. "نحن الناعمات"؛ أي: المتنعِّمات. "فلا نبأس"؛ أي: فلا نَصير فقراء محتاجين. "طُوبى": فُعْلى من: الطِّيب. * * *

6 - باب رؤية الله تعالى

4385 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ الماءِ، وبَحْرَ العَسَلِ، وبَحْرَ اللَّبن، وبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تُشَقَّقُ الأَنْهارُ بَعْدُ". قوله: "ثم تشقَّق الأنهارُ بعدُ"؛ أي: ثم تجري من الأَبْحُرِ الأربعةِ الأنهارُ بعدَ دخول أهل الجنة، بحيث يجري من تلك الأَبْحُر أنهارٌ أربعةٌ إلى مكانِ كلِّ واحدٍ من أهل الجنة. * * * 6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى (باب الرؤية) مِنَ الصِّحَاحِ: 4386 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عِيانًا". قوله: "إنكم ستَرَون ربَّكم عِيانًا"؛ أي: ستُبصرون ربَّكم معاينةً جِهَارًا، و (ربَّكم): منصوب؛ لكونه مفعول (ستَرَون)، و (عيانًا): مصدر في موضع الحال من (ربكم)، ويحتمل أن يكون من الضمير في (ستَرَون ربكم). ومعنى المعاينة: رفع الحجاب بين الرائي والمَرْئِي، ويجوز أن يكون مشتقًا من: العَين؛ أي: تُبصرون بأعينكم المحسوسة لا الباطنة. * * * 4387 - وقال جَريرُ بن عبدِ الله: كُنّا جُلوسًا عِنْدَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فقالَ: "إنَّكمْ سَتَرَوْنَ ربكُّمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُونَ في رُؤْيتِهِ، فإن استَطَعتُمْ أن لا تُغْلبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُروبها

فافْعَلوا. ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ". قوله: "كنا جلوسًا"، (الجلوس) جمع: جالس؛ أي: كنا جالسين. قوله: "إنكم ستَرَون ربَّكم كما تَرَون هذا القمرَ لا تُضامون في رؤيته"، قال الخطابي: هو الانضمام، يريد: إنكم لا تختلفون في رؤيته حتى تجمعوا للنظر، وينضم بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول آخر: ليس بذاك، على ما جرت به عادة الناس عند النظر إلى الهلال أولَ ليلة من الشهر، ووزنه: تَفَاعَلُون، وأصله: تَتَضامون، حُذفت منه إحدى التاءين. وقد رواه بعضهم: "لا تُضامُون" بضم التاء وتخفيف الميم، فيكون معناه على هذه الرواية: أنه لا يلحقكم ضَيمٌ ولا مشقةٌ في رؤيته، وقد يُخيَّل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله: (كما ترون) كاف التشبيه للمَرْئي، وإنما كان التشبيه للرؤية، وهو فعل الرائي، ومعناه: تَرَون ربَّكم رؤيةً ينزاح معها الشكُّ وتنتفي معها المِريةُ، كرؤيتكم القمرَ ليلةَ البدر، لا ترتابون ولا تمترون فيه. قوله: "فإن استطعتُم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا"؛ يعني: إن قدرتُم على ألا تكونوا مغلوبين في صلاة الصبح وصلاة العصر فافعلوا؛ يعني: مَن داوَمَ على هاتَين الصلاتَين فكأنه ممن رُزِقَ لقاءَ الله سبحانه، فإذا كان كذلك فمداومتُه على هاتَين الصلاتَين كأنه عنوانٌ على حسن خاتمته. قال الخطابي: هذا يدل على أن الرؤيةَ قد يُرجَى نيلُها بالمحافظة على هاتَين الصلاتَين، ووقوعُ الاختصاص لهاتَين الصلاتَين بالذِّكر - وإن كانتا كسائر الصلوات في محل الفرضية - كاختصاصهما بلَقَبِ التوسُّط بين الصلوات الخمس، وإن كان كلُّ واحدةٍ من الخَمس مستحقةٌ لهذه الصفة في وضع الحساب، والله أعلم.

وقيل: إنما خُصصتا بالذِّكر دون ما عداهما، مع أن الكلِّ واحدٌ في الوجوب؛ لكونهما واقعتَين في زمان الغفلة. أما صلاةُ الصبح، فلأن زمانَها زمانُ استراحةِ النوم، وصلاةُ العصر زمانُها زمانُ الاشتغال بالتجارات والأكساب، فقطعُ لذةِ النومِ ولذةِ تحصيل الأموال موجبٌ لهذا العزِّ الأبديِّ. * * * 4388 - وعن صَهَيْبٍ عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يقُولُ الله تبارَكَ وتعالى: تُريدُونَ شَيئًا أَزيدُكُمْ؟ فيقولونَ: ألَمْ تُبيضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ وتُنجِّنا منَ النَّارِ؟ قالَ: بلى. فيُرْفَعُ الحِجَابُ فيَنظُرونَ إلى وَجْهِ الله، فما أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبهمْ. ثُمَّ تلا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ". قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]؛ أي: للذين أحسنوا العملَ في الدنيا {الْحُسْنَى}، وهي الجنة، {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه الله الكريم، هذا قول جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصدِّيق وحذيفة وأبو موسى وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهم -، وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحَّاك والسدِّي ذكره في "معالم التنزيل". * * * مِنَ الحِسَان: 4389 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلةً لَمَنْ ينظُرُ إلى جِنانِهِ وأَزْواجِهِ ونَعيمِهِ وخَدَمِهِ وسُرُرِهِ مَسيرةَ ألْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمَهُمْ على الله مَنْ ينظُرُ إلى وَجْهِهِ غَدْوَةً وعَشِيَّةً. ثمّ قَرأَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

7 - باب صفة النار وأهلها

نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ". قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، قال في "شرح السُّنَّة": قوله {نَاضِرَةٌ}؛ أي: ناعمة بالنظر إلى ربها. * * * 4390 - عن أبي رَزينٍ العُقَيْليِّ قالَ: قلتُ يا رسُولَ الله! أَكُلُّنا يَرى ربَّهُ مُخْلِيًا بهِ يومَ القِيامَةِ؟ وما آيةُ ذلكَ في خَلْقِهِ؟ قالَ: "يا أبا رَزِينٍ أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرى القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ مُخْلِيًا بهِ؟ " قالَ: بلى، قالَ: "فإنَّما هو خَلْقٌ منْ خَلْقِ الله، والله أجَلُّ وأَعْظَمُ". قوله: "يرى ربَّه مُخْلِيًا به يومَ القيامة"، (مُخْلِيًا)؛ أي: خاليًا؛ يعني: يرى ربَّه يومَ القيامة بحيث لا يزاحمُه في الرُّؤية أحدٌ. * * * 7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها (باب صفة النار) مِنَ الصِّحَاحَ: 4391 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "نارُكُمْ جُزْءٌ منْ سَبْعينَ جُزءًا منْ نارِ جَهَنَّمَ". قيلَ: يا رسولَ الله! إنْ كانتْ لكَافِيةً، قالَ: "فإنَّها فُضلَتْ عَلَيْهِنَّ بتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها". قوله: "إن كانت" النارُ "لكافيةً"، (إنْ): هي الخفيفة من الثقيلة، واللام هي الفارقة لا النافية، وتقدير الكلام: إن هذه النارَ التي تراها في الدنيا كانت

كافيةً في الإحراق والتعذيب. قال: "فُضلَتْ" نارُ جهنم؛ أي: زِيدَتْ على نيران الدنيا. * * * 4392 - وقالَ: "اِشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبها فقالت: رَبِّ أَكلَ بعضي بَعْضًا، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ: نفَسٍ في الشِّتاءِ، ونفَسٍ في الصَّيفِ، أَشَدُّ ما تَجِدُونَ منَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدونَ مِنَ الزَّمْهَريرِ". قوله: "فأَذِنَ لها بنفَسَين: نَفسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف"، الحديث. الضمير في (لها) عائد إلى (النار)، يجوز النصب في "أشد" والرفع من حيث الإعراب؛ فالرفع على تقدير: هو أشدُّ؛ أي: تنفُّسها هو أشدُّ الحر وأشدُّ البرد، والنصب على تقدير الظرفية, لأنه خبر عن الحَدَث؛ أي: التنفُّسُ كائنٌ في أشدِّ زمان الحَرِّ والبرد. فالحرارةُ في الصيف والبرودةُ في الشتاء إنما يكونانِ من ذَيْنك النَّفَسَين، لكنهما لا يجيئان في وقتيهما مرةً واحدةً؛ لأنهما لو كانا يجيئانِ في وقتيهما بمرةٍ واحدةٍ لأَهلَكَتَا الخلائقَ، وإنما تجيء كلُّ واحدةٍ منهما في وقته بدفعاتٍ كما هو محسوسٌ، رحمةً من الله سبحانه وتعالى على عباده، ومزيدًا لإنعامه عليهم؛ ليكونوا سالمين من ذلك. * * * 4394 - وقالَ: "إنَّ أهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا مَنْ لهُ نَعْلانِ وشِرَاكَانِ مِنْ نارٍ يَغْلي منهُما دِماغُهُ كما يَغْلي المِرْجَلُ، ما يَرى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ منهُ عَذابًا، وإنّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذابًا". قوله "كما يغلي المِرْجَل"، قال في "الفائق": المِرجل: كلُّ قِدْرٍ يُطبَخ فيه

من حجارة أو حديدة أو خزف. وقيل: إنما سُمي به؛ لأنه إذا نُصِبَ فكأنه أُقيم على رجلٍ. * * * 4395 - وقالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا أبو طَالِبٍ، وهو مُنْتَعِلٌ بنعْلَيْنِ يَغْلي مِنْهُما دِماغُه". قوله: "وهو مُنتعِل بنعْلَين" (المُنتعِل): المُحْتَذِي، وهو لابسُ الحِذَاء، وهو النعل، و (النعل): مؤنثة سماعية، تصغيرها: نُعَيلة، فُعَيلة. * * * 4396 - وقالَ: "يُؤْتَى بأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منْ أَهْلِ النَّارِ يومَ القِيامةِ فيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابن آدَم! هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا والله يا رَبِّ، ويُؤتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنيا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فيُصبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ فيقالُ لهُ: يا ابن آدمَ! هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا والله يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ". قوله: "يُؤتَى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يومَ القيامة، فيُصبَغ في النار صبغةً"، الحديث. الباء في بـ (أنعم): للتعدية، و (أنعم): أفعل التفضيل من: النعمة، وهي الطِّيب. و"قَطُّ": معناها الزمان، يقال: ما رأيتُه قطُّ، قال الكِسائي: كانت (قَطُطُ)، فلما سُكِّن الحرفُ الثاثي للإدغام جُعل الآخرُ متحركًا إلى إعرابه، ذكره في "الصحاح".

وقيل: المراد بالصَّبغ هنا: الغَمس, لأن الصبغَ لا يكون غالبًا إلا بالغَمس، فيكون مجازًا من نوع إطلاق اسم الملزوم على اللازم. "البؤس": الشدة والمشقة؛ يعني: يُجاء يومَ القيامة من له أنعمُ عيشًا، أو أطيبُ حالًا في الدنيا من أهل النار، فإذا أُدخل النارَ فيُسأل عما مضى عليه في الدنيا من طيب عيشه، فيقال له: هل رأيتَ خيرًا وسرورًا فيها قطُّ؟ وهل وجدتَ فيها نعمةً؟ فشدةُ العذاب تُنسيه ما مضى عليه من نعيم الدنيا، فيقول: ما وجدتُ شيئًا قطُّ من نعيمها وزبرجدها، وكذا يُجاء يوم القيامة من له أشدُّ حالًا وأسوءُ عيشًا في الدنيا من أهل الجنة، فإذا أُدخل الجنةَ بفضله فيُسأل عما كان عليه من تعب الدنيا وشدتها، فنعيمُ الجنة يُنسيه ما مضى فيها من سوء الحال وضيق البال. * * * 4397 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقولُ الله تعالى لأِهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا يَوْمَ القِيامةِ: لوْ أنَّ لكَ مَا في الأَرْضِ منْ شَيءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بهِ؟ فيقولُ: نَعَم، فيقولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هذا وأنتَ في صُلْبِ آدَمَ، أنْ لا تُشرِكَ بي شَيْئًا فأبَيْتَ إلا أنْ تُشرِكَ بي". وقوله "يقول الله لأهونِ أهل النار عذابًا يومَ القيامة: لو أن لك ما في الأرض" الحديث. (أهون): أفعل التفضيل، من: هانَ الشيءُ عليه يَهُون هَونًا: إذا خفَّ وسَهُلَ. (لو أن لك ما في الأرض) تقديره: لو ثبتَ أن لك؛ لأن (لو) يقتضي الفعل الماضي، وإذا وقعت (أن) المفتوحة بعد (لو) كان حذف الفعل واجبًا, لأن ما في (أن) من معنى التحقيق والثبات ينزل بمنزلة ذلك الفعل المحذوف.

الهمزة في "أكنت": للاستفهام بمعنى التوبيخ، و"الافتداء": إعطاء الفِداء، و"نعم": جواب للاستفهام والخبر تصديقًا لِمَا قبلَه نفيًا كان أو إثباتًا؛ يعني: يقول الله سبحانه لمَن له تخفيفٌ في العذاب يومَ القيامة: لو حصل لك ما في الأرض جميعًا هل كنت تفتدي بها لخلاص نفسك عن النار؟ فيقول: نعم يا ربِ. "فيقول" الله تعالى: "أردتُ منك أهونَ من هذا"؛ أي: أمرتُك بأسهلَ من هذا وأخفَّ عليك، وهو الإيمان والتصديق بي وبجميع كتبي ورسلي وما هو في الآخرة من الغيب، وأنتَ في صلب آدم، فأَبيتَ إلا أن تُشركَ بي؛ أي: فامتنعتَ عن الإيمان والإسلام وأشركتَ بي، والإرادة ها هنا بمعنى: الأمر، والفرق بين الأمر والإرادة: أن ما يجري في العالَم لا محالَة كائنٌ بإرادته ومشيئته، وأما الأمرُ فقد يكون مخالفًا لإرادته ومشيئته. * * * 4398 - وعن سَمُرةَ بن جُنْدَبٍ: أنَّ نَبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "منهُمْ مَنْ تأخُذُهُ النَّارُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلى رُكبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ تأخُذُهُ النَّارُ إلى حُجْزَتِهِ، ومنهُم مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلى تَرْقُوَتِهِ". قوله: "مَن تأخذه النارُ إلى حُجْزَتِه": (الحُجْزَة): مَعقِد الإزار. * * * 4400 - وقالَ: "ضرْسُ الكافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وغِلَظُ جِلْدِهِ مَسيرَةُ ثَلاثٍ". مِنَ الحِسَان: 4402 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ضرْسُ الكافِرِ يَوْمَ القِيامةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وفخِذُهُ مِثْلُ البَيْضاءِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مَسيرةُ ثلاثٍ مِثْلُ الرَّبَذَةِ".

قوله: "ضرْسُ الكافر مِثْلُ أُحُد"، (الضرْس): السِّنُّ. و (أُحُد): جبل بالمدينة. و (مسيرة ثلاثٍ)، يعني: ثلاث ليالٍ، وكبَّر جثةَ الكافر وغلَّظ جِلدَه، ليثقلَ عليه العذاب ويشتدَّ. وقيل: (البيضاء): اسم جبل, لأنه وُجد في غير هذا الحديث مقرونًا في الذِّكر بوَرْقان وأُحد، وهما من جبال المدينة. ويقوِّيه حديثُ أبي ذَرٍّ: أنه خرج في لَقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تَرعَى: البيضاءَ، فأجدب ما هنالك، فقرَّبوها إلى الغابة. وقيل: إن الترمذي ذكر في كتابه بعد رواية الحديث: أن البيضاءَ جبلٌ. وقال في "المغيث": في ديار العرب مواضع تُسمى: البيضاء. قوله: "مِثْلُ الرَّبَذة". قيل: يريد ما بين المدينة والرَّبَذة، وهي قريب من ذات عِرْق، وهي ثلاث مراحل. وقيل: قرية من قرى مكة. * * * 4404 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الكافِرَ لَيُسْحَبُ لِسانُهُ الفَرْسَخَ والفَرْسَخَيْنِ يتَوَطَّؤُهُ النَّاسُ"، غريب. قوله "يتوطَّؤُه الناسُ"؛ أي: يمشي الناسُ على لسانه الممتد الفَرسخَين أو الفَرسخ. * * *

4405 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الصَّعُودُ جَبَلٌ منْ نارٍ يَتَصَعَّدُ فيهِ سَبْعينَ خَرِيفًا، ويَهوي بهِ كذلكَ فيه أَبَدًا". قوله: "يتصعَّد فيه سبعين خريفًا"؛ أي: يُكلَّف الكافرُ ارتقاءَه مدةَ سبعين سَنةً، وكذلك يُكلَّف سقوطَه من ذلك الجبل في النار مدةَ سبعين سَنةً، وتكليفُه صعودَ ذلك الجبلِ وهبوطَه لا ينقطع، كما أشار إليه بقوله: "ويهوي به كذلك فيه أبدًا"، فـ (كذلك) خبر مبتدأ مقدَّر، تقديره: كذلك عادتُه في الصعود والهبوط المذكورَين أبدًا، فحينئذٍ ذَكرَ السبعين وأراد به الدوامَ. * * * 4406 - وقالَ في قَوْلِه: {كَالْمُهْلِ} أي كعَكَرِ الزَّيْتِ، فإذا قُرِّبَ إلى وَجْهِهِ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فيهِ". قوله: "أي كعَكَرِ الزيت"؛ أي: دُرْدِيُّه. أورد في "شرح السُّنَّة": (المُهل): الرصاص المُذَاب والصفر والفضة، وكلُّ ما أُذيب من هذه الأشياء فهو مُهْلٌ. وقيل: المُهْل: الصديد الذي يسيل من جلود أهل النار. وقيل: المُهْل: دُرْدِيُّ الزيت، وهو معنى (عَكَر الزيت). قوله: "سقطت فَروةُ وجهه فيه"، الضمير في (فيه) يعود إلى (العَكَر)، و (الفَروة): الجِلدة، (فَروة وجهه) يريد: جلدته، ويُروى: "قَرْقَرَة وجهه"؛ أي: جلدة وجهه. و (القَرْقَرَة): من لباس النساء، شُبهَتْ بشرةُ الوجه بها، ذكر في "شرح السُّنَّة". * * *

4407 - وقالَ: "إنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ على رُؤُوسهِمْ فيَنْفُذُ الحَمِيمُ حتَّى يَخلُصَ إلى جَوْفِهِ، فيَسْلُتُ ما في جَوْفِهِ حتَّى يَمْرُقَ منْ قَدَمَيْهِ، وهو الصَّهْرُ، ثمَّ يُعادُ كما كانَ". قوله "إن الحميمَ لَيُصَبُّ على رؤوسهم": الحميم والحميمة: الماء الحارُّ. و (الصَّبُّ): إراقة الماء، يقال: صَبَبتُ الماءَ فانصبَّ؛ أي: سكبتُه فانسَكَبَ. و (ينفذ)؛ أي: يمضي، يقال: نَفَذَ السهمُ من الرَّمِيَّة نفاذًا ونفوذًا: إذا مضى. وخَلَصَ إليه الشيءُ: وصلَ. قوله: "فيَسلُتُ ما في جوفه حتى يَمرُقَ من قدَميه"، (يَسلُت)؛ أي: يمسح، من سَلَتَ القصعةَ: إذا مسحَها من الطعام، وسَلَتَتِ المرأةُ خضابَها عن يدها: إذا مسحتْه، وألقتْه عنها، وسَلَتَ بالسيف أنفَه؛ أي: جَدَعَه. و (المُروق): الخروج، من: مَرَقَ السهمُ من الرَّمِيَّةِ مروقًا؛ أي: خرجَ من الجانب الآخر، ومنه سُميت الخوارجُ مارقةً؛ لمُروقهم عن مذهب أهل السُّنَّة. و (الصَّهْرُ): الإذابة، يقال: صَهرتُ الشيءَ فانصَهَرَ؛ أي: أَذبتُه فذَابَ، فهو صهير. * * * 4408 - عن أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} قالَ: "يُقرَّبُ إلى فيهِ فَيَكْرهُهُ، فإذا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ، فإذا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعاءَهُ حتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يقولُ الله تعالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ويقولُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} ". قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ}، وصديد الجرح: ماؤه الرقيق

الخليط بالدم قبل أن تغلظ المِدَّة، ذكره في "الصحاح". (يتجرَّعه)؛ أي: يتحسَّاه ويشربه، لا بمرةٍ واحدةٍ، بل جرعةً جرعةً؛ لمرارته وحرارته. * * * 4409 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لِسُرْادِقِ النّارِ أَرْبَعةُ جُدُرٍ، كِثَفُ كُلِّ جِدارٍ مَسيرةُ أَرْبعينَ سَنَةً". وقوله: "لِسُرَادِقِ النارِ أربعةُ جُدُرٍ"، قال في "شرح السُّنَّة": السُّرادق: كل ما أحاط بشيءٍ، نحو المضرب والخِبَاء، يقال للحائط المشتمل على الشيء: السُّرادق، قال الله تعالى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. و (الجُدُر) جمع: جدار، و"كِثَفُ كلِّ جدارٍ"؛ أي: غِلَظُه. * * * 4410 - وبه قالَ: "لوْ أنَّ دَلْوًا منْ غَسَّاقٍ يُهْراقُ في الدُّنيا لأَنْتَن أَهْلُ الدُّنيا". قوله: "لو أن دَلْوًا من غَسَّاقٍ يُهراقُ في الدنيا لأَنْتَنَ أهلُ الدنيا"، وهراقَ الماء يُهَريق - بفتح الهاء - هِرَاقةً إذا صبَّه، وأصله: أَراقَ يُرِيقُ إراقةً، وفيه لغة أخرى: أَهْرَقَ الماءَ - بسكون الهاء - يُهْرِقُه إهراقًا، على أَفْعَلَ يُفْعِلُ. قال سيبويه: قد أبدلوا من الهمزة الهاء، ثم ألزمت، فصارت كأنها من نفس الحرف، ثم أُدخلت الألف بعدُ [على] الهاء وتُركت الهاء عوضًا من حذفهم [حركةَ] العين؛ لأن أصل أَهْرَقَ: أَرْيَقَ. و (الغَسَّاق): البارد المُنْتِن، يُخفَّف ويُشدَّد، ذكره في "الصحاح".

قال ابن الأنباري: الغَسَّاق: باردٌ مُحرِق لا يُقدَر على شربه مِن بردِه، كما لا يُقدَر على شرب الحميم لحرارته. قال السُّدَّي: هو ما يسيل من أعينهم من الدموع، يُسْقَونه مع الحميم، يقال: غَسَقَتْ عينُه: إذا سالت، تَغْسِق. وقال غيره: هو ما يَغْسَقُ من جلود أهل النار من الصديد. قال الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي في "شرحه": وجدت في كتابِ جمعٍ من حُفَّاظ الحديث: "أهلَ الدنيا" مُقيدًا لامَه بالنصب، وليس ذلك بصوابٍ فإن (أنتن) لازم، يقال: نَتَنَ الشيءُ وأَنْتَنَ: إذا تغيَّر، وإنما الصواب: (أهلُ) بالرفع، ولو كان الفعل متعديًا كان المعنى أتمَّ وأوجهَ، فيحتمل أن الأصل فيه: (انتنَّ) بالتشديد، فلم يعرف بعضُ الرواة الفرقَ بين الكلمتين، فرواه: (أنتن)، هذا كلُّه منقولٌ من "شرحه". يعني: لو صُبَّ دَلْوٌ من صديد أهل النار في أهل الدنيا لم يكن لأهلها قرارٌ ولا سكونٌ من نَتَنِه، فكيف حالُ من هذا طعامُه؟! أعاذنا الله منه بفضله. * * * 4411 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ هذهِ الآيَة: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لوْ أنَّ قَطْرةً منَ الزَّقُّومِ قَطَرتْ في دارِ الدُّنيا لأَفْسَدَتْ على أَهْلِ الأَرْضِ مَعَايشَهُمْ، فكَيْفَ بِمَنْ يكونُ طعامُهُ؟ "، صحيح. قوله: "لو أن قطرةً من الزَّقُّوم قَطَرت في دار الدنيا"، الحديث. (الزَّقُّوم): شجرة خبيثة، ثمره كريهة الطعم، يُكرَه أهلُ النار على تناوله، فهم يتزقَّمونه على أشد كراهية منهم، ومنه قوله: تَزَقَّمَ الطعامَ: إذا تناوَلَه على

كرهٍ ومشقةٍ، ذكره في "معالم التنزيل". قوله: "فكيف بمن يكون طعامه؟! " الفاء في (فكيف): جواب شرط مقدَّر، فكأنه قال: إذا عرفتَ ذلك فكيف يفعل مَن يكون طعامُه ذلك؟! أي: الزَّقُّوم؛ يعني: كيف حالُ مَن طعامُه الزَّقُّوم في النار؟! * * * 4412 - عن أبي سَعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] قالَ: تَشْويهِ النّارُ فَتَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ العُليا حتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وتَسْترخِيَ شَفتهُ السُّفلَى حتَّى تَضْرِبَ سُرَّتهُ". قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} وما قبله {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]، يعني: تحرق النارُ وجوهَ الذين خسروا أنفسَهم، أعني الكَفَرة، وهم في النار عابسون. قوله: "فتَقَلَّصُ شَفَتُه العليا"، (تَقَلَّصُ) أصله: تتقلَّص، فحُذفت إحدى التاءين تخفيفًا، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ} [هود: 105] الآية، وأصله: لا تتكلم، ومعناه: تنقبض، و (العليا) تأنيث: الأعلى. و"وَسطَ رأسِه" بسكون السين: ظرف، وبفتحها: نعت. و"تسترخي"؛ أي: تَستَرسل وتَتدلَّى، و (السُّفلى) تأنيث: الأسفل. * * * 4413 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يا أيُّها النَّاسُ ابْكُوا، فإنْ لمْ تَسْتَطيعوا فتباكَوْا، فإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكونَ في النَّارِ حتَّى تسيلَ دُمُوعُهُمْ في وُجُوهِهِمْ كأَنَّها جَداوِلُ، حتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فتسيلُ الدِّماءُ فتقَرَّحُ العُيونُ، فلوْ أنَّ سُفُنًا أُرْخِيَتْ فيها لجَرَتْ".

قوله: "فإن لم تستطيعوا فتَباكَوا"، (التباكي): إظهار البكاء عن نفسه من غير أن يَبكيَ؛ أي: تكلَّف عن نفسه البكاء. و (تباكوا) أصله: تباكَيُوا، على زنة تَفَاعَلَ، وقُلبت الياءُ ألفًا لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها، وحُذفت لالتقاء الساكنين. ويجوز أن يقال: أُسكنت الياء لثقل الضمة، فحُذفت لالتقاء الساكنين؛ يعني: إن لم تقدروا على البكاء فأَظهِرُوا البكاءَ عن أنفسكم، فإنه مقدمةُ البكاء. وفي الحديث: دليلٌ على أن تواجُدَ الصوفية لظهور الوَجْد جائزٌ. قوله: "كأنها جداول": الضمير عائد إلى (الدموع). (الجداول) جمع: جَدْوَل، وهو النهر الصغير. قوله: "فلو أن سُفُنًا أُزجِيَتْ فيها لَجَرَتْ"، (السُّفُن) جمع: سفينة. (الإزجاء): السَّوق، يقال: أَزجيتُ الإبلَ؛ أي: سُقتُها، الضمير في (فيها): يعود إلى (الدموع)، والفاء في (فلو أن): جواب شرط مقدَّر، يعني: إذا عرفتَ هذا فاعرِفْ أن دموعَ الكَفَرة في النار لو أُجريت فيها السفنُ لَجَرَتْ؛ لكثرتها، وهذا لا يستحيل؛ لأن الكافرَ إذا كان سِنٌّ من أسنانه مثلَ أُحد، وغِلَظُ جلده مسيرةَ ثلاثة أيام، ومَقعدُه من النار قَدْرَ ما بين مكة والمدينة، وهو مئة فرسخ كما ذُكر قبل هذا، فإذا كان كذلك فهو غير مُستبعَدٍ؛ لأنه من الممكنات، والله سبحانه قادرٌ عليها. * * * 4414 - عن أبي الدَّرْداءِ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُلقَى على أَهْلِ النَّارِ الجُوعُ فَيَعْدِلُ ما هُمْ فيهِ منَ العَذابِ، فَيَسْتَغيثونَ، فيُغاثونَ بطَعامٍ {مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}، فيسَتَغيثونَ بالطَّعامِ، فيُغاثونَ بطَعامٍ ذي {غُصَّةٍ} فَيذكُرونَ

{غُصَّةٍ} فَيذكُرونَ أنَّهمْ كانوا يُجيزونَ الغُصَصَ في الدُّنيا بالشَّرابِ، فيسَتَغيثونَ بالشَّرابِ، فيُرفَعُ إليهِمُ {الْحَمِيمِ} بكلاليبِ الحَديدِ، فإذا دنَتْ منْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ، فإذا دَخَلتْ بُطونَهُمْ قَطَّعَتْ ما في بُطُونِهِمْ، فيقَولونَ: ادْعُوا خَزَنَة جَهَنَّمَ، فيقولون: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] قالَ: فيقولون: ادْعُوا مالِكًا، فيقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] قال: فيُجِيبُهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] "؟ قال الأَعْمَشُ: نُبئْتُ أنَّ بَيْنَ دُعائهِمْ وإجابَةِ مالِكٍ إيّاهُمْ ألفَ عامٍ. قالَ: "فيقولون: ادْعُوا ربَّكُمْ فلا أَحَدَ خَيْرٌ منْ ربكُمْ، فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106، 107] قال: فيُجيبُهُمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] قال: فعندَ ذلكَ يَئِسوا مِنْ كُلِّ خير، وعِنْدَ ذلكَ يأخُذونَ في الزَّفيرِ والحَسْرةِ والوَيْلِ". ويُروَى هذا مَوْقُوفًا على أبي الدَّرْداءِ. قوله: "يُلقَى على أهل النار الجوع، فيَعدِل ما هم فيه من العذاب"، الحديث. (فيَعدِل) من: العِدْل، والعِدل بالكسر: المِثْل، تقول: عندي عِدْلُ غلامِك وعِدْلُ شاتك: إذا كان غلامًا أو شاةً يعدل غلامًا أو شاةً، وإذا أردت قيمتَه من غير جنسه نصبتَ العينَ، ذكره في "الصحاح". يعني: يصير أهلُ النار يومَ القيامة جائعين، بحيث يكون ألمُ جوعِهم عِدْلَ ألمِ ما يكون عليهم من العذاب. (الضَّرع) و (الضَّرِيع): يَبيسُ الشِّبْرِق، وهو نبتٌ، ذكره في "الصحاح". و (الضَّريع) في الآخرة: شَوكٌ من نارٍ أمرُّ من الصَّبرِ، وأنتنُ من الجِيفة،

وأشدُّ حرًّا من النار. قال المفسرون: فلما نزلت: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] قال المشركون: إن إبلَنا لتَسمَنُ على الضريع، فكذبوا؛ فإن الإبلَ إنما ترعاه ما دام رطبًا، فإذا يبس فلا تأكلُه، فأنزل الله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي} [الغاشية: 7]، ذكره الإمام أبو الفتوح العجلي في "تفسيره". "الغُصَّة" واحدة: الغُصَص، وهي الشَّجَى، وهو ما يَنشَب في الحلق من العظم وغيره. "الحميم": الماء الحارُّ. و"الخَزَنة" جمع: خازن، كـ (ضَرَبَة) جمع: ضارب، وهم الملائكة الموكَّلون على النار. قوله: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}؛ أي: لِيُمِتْنا ربُّك لنَستريحَ، قَضَى عليه: إذا ماتَ. قال في "الغريبين"؛ أي: لِيقضِ علينا الموتَ؛ لنَستريحَ، وهو مثل قوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]؛ أي: لا يُقضى عليهم الموتُ فيموتوا، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]؛ أي: قتلَه. قوله: "فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} "، قيل: (الشَّقاوة) بفتح الشين و (الشِّقوة) بكسرها: ما كُتِبَ على الشخص في اللوح المحفوظ. وقيل: الشِّقوة: الهوى، وقيل: عبارة عن السيئات التي أَوجبت له الشقاوةَ. {فَإِنْ عُدْنَا}؛ أي: إلى الكفر والكذب والتكذيب. {فَإِنَّا ظَالِمُونَ}؛ أي: لأنفسنا. "الخَسْء": البُعد؛ أي: ابعُدُوا فيها أذلَّاء، كما يقال للكلب إذا طُرِدَ: اِخْسَأْ.

{وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]؛ أي: في رفع العذاب، فإني لا أرفعُه عنكم، فانقطع رجاؤهم، "وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل". و (الزفير): اغتراقُ النَّفَس للشدة، وأولُ صوت الحمار. و (الويل): وادٍ في جهنم، يقال: أخذ فلان في الشيء الفلاني: إذا شرع فيه. يعني: بعدما يُجابون بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] يصيرون آيسينَ من رحمته تعالى، ثم لا يتكلمون بعدها إلا بالشَّهيق والزَّفير. يعني: لا يقدرون على أن يتكلموا بعد ذلك، بل يَشْرَعون في الزَّفير والشَّهيق والويل والثُّبور، ويصير لهم عواءً كعواء الكلب، بحيث لا يَفْهَمون ولا يُفْهَمون. * * * 4417 - عن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ - رضي الله عنهما - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لوْ أنَّ رَضْرَاضَةً مِثْلَ هذِهِ، وأَشارَ إلى مِثْلِ الجُمْجُمَةِ، أُرسِلتْ منَ السَّماءِ إلى الأَرْضِ في مَسيرةِ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ لَبَلَغتِ الأَرْضَ قبلَ اللَّيلِ، ولوْ أنَّها أُرْسِلَتْ مِنْ رأْسِ السِّلِسلَةِ لسارتْ أَرْبعينَ خَريفًا اللَّيلَ والنَّهارَ قبل أنْ تبلُغَ أَصْلَها أَوْ قَعْرَها". قوله: "لو أن رَضْرَاضَةً مثلَ هذا"، الحديث. (الرَّضْرَاض): ما دقَّ من الحصا، و (الرَّضْرَاضة): واحدةٌ منه. (الخمخمة) بالخاءَين المعجمتَين: حَبَّة صغيرة صفراء، يقال لها بالفارسية: شفترك. وقيل: هي (الجمجمة) بالجيمَين، وهي عَظم الرأس المشتمل على الدماغ، والقَدَح من خشب.

وقيل: الأول أصح، وقد أورد الترمذي في "كتابه": "لو أن رضاضةً مثلَ هذه" بدل (رضراضة). والرضاضة: قطعة من الرَّضَاض. قال الإمام التُّورِبشتي: وفي سائر نسخ "المصابيح": (رضراضة) مكان (رضاضة)، وهو غلطٌ لم يوجد في غير كتاب "المصابيح". وهذا الحديث من جملة أحاديث "كتاب الترمذي"، ومن كتابه نقلَ المؤلفُ، ولعل الغلطَ وقعَ من غيره. * * * 4415 - عن النُّعمانِ بن بَشيرٍ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أَنْذَرْتُكُم النَّارَ، أَنْذَرْتُكُم النَّارَ، فما زالَ يقولُها حتَّى لوْ كانَ في مَقامِي هذا سَمِعَهُ أَهْلُ السُّوقِ، وحتَّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ كانتْ عَلَيهِ عِنْدَ رِجْلَيهِ". قوله: "لو كان في مكاني هذا سمعَه أهلُ السُّوق"، (المكان): المنزل؛ يعني: لو كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلي هذا لَسمعَ صوتَه أهلُ السوق؛ لأنه بالَغَ في الإنذار ورفعَ صوتَه فيه. * * * 4416 - عن أبي بُرْدَةَ عن أَبيهِ - رضي الله عنهما -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في جَهَنَّمَ وادِيًا يُقالُ لهُ: هَبْهَبُ، يَسكُنُه كُلُّ جَبَّارٍ". قوله: "ويَسكنُه كلُّ جبَّار"؛ يعني: يسكن فيه، هذا من جملة ما يُقدَّر فيه معنى (في) اتساعًا؛ إجراء للظرف مَجْرَى المفعول به. * * *

8 - باب خلق الجنة والنار

8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ (باب خلق الجنة والنار) مِنَ الصِّحَاحِ: 4418 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ". قوله: "حُفَّتِ الجنةُ بالمَكَاره، وحُفَّتِ النارُ بالشهوات"، (حُفَّ به): طاف به واستدارَ وأَحْدَقَ. (المَكَاره) جمع: كَرْه، وهو المشقة والشدة، جمع على غير قياس، كـ (محاسن) جمع حسن؛ يعني: الجنةُ مُحدَقة بأنواع الشدائد والمشقات، وهي عبارة عن التكاليف الشرعية من الصوم والصلاة والحج والزكاة، فإنها ثقيلةٌ على الأنفس، سيما الزكاةِ؛ فإنها ماليةٌ، فالثقلُ فيها أشدُّ؛ لأن البخلَ مركوزٌ في الطبيعة. فحينَئذٍ مَن امتثلَ أوامر الشرع فقد قطعَ مفاوزَ المشقات العظيمة من التكاليف، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يحصلَ له الجنةُ الباقيةُ؛ جزاءً لذلك الاحتمال العظيم في التكاليف رزقنا الله سبحانه إياها بفضله. وكذا النارُ مُحدَقة بالشهوات، وهي عبارة عن الدنيا ومستلذاتها ومرادات النفس، كشرب الخمر والزنا وغير ذلك من المحرَّمات الشرعية، فإن النفوسَ مائلةٌ إليها طبعًا، والشيطانُ مساعدٌ لها طوعًا، أعاذنا الله تعالى منها برحمته. * * *

4419 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمُتَكبرينَ والمُتَجبرينَ، وقالت الَجنَّةُ: فما لي لا يدخُلني إلَّا ضُعفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهُم وغِرَّتُهُمْ؟ فقالَ الله للجَنَّةِ: إنَّما أَنْتِ رَحْمَتي أرحَمُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادِي، وقال للنَّارِ: إنَّما أَنْتِ عَذابي أُعذِّبُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادِي، ولكُلِّ واحدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها، فأمَّا النَّارُ فلا تَمْتَلِئُ حتَّى يَضَعَ الله رِجْلَهُ فيها، وتَقُول: قَطْ قَطْ قَطْ، فَهُنالِكَ تَمْتَلِئُ ويُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ فلا يَظْلِمُ الله مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وأمَّا الجَنَّةُ فإِنَّ الله يُنشِئُ لها خَلْقًا". وقوله: "تحاجَّت الجنةُ والنارُ"، الحديث. (تحاجَّ)؛ أي: تخاصَمَ، وفاعلُه أكثرُ من واحد، كما يقال: تخاصَمَ زيدٌ وعمروٌ. "آثَرَ"؛ أي: اختارَ. "أُوثِرت"؛ أي: اخترت. "فما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسَفَلتُهم وغِرَّتُهم"، (السَّفَلة): السُّقَّاط من الناس. الغِرُّ: الذي لم يجرب الأمور، و (غرَّتهم)؛ أي: ذوي غِرَّتهم. (فما لي؟) أي: فما وقعَ لي؟ أي؛ أيُّ شيءٍ وقع لي، لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وأراذلُهم ومَن لا مبالاةَ بهم ولا تجربةَ لهم في الأمور الدنيوية؟ يعني: الذين ليس لهم اهتمامٌ بالدنيا، بل راغبون عنها ومائلون إلى الآخرة، بحيث لو أبصرَهم أهلُ الدنيا لَوجدوهم البُلْهَ والحَمْقَى - باعتقادهم - في الأمور الدنيوية، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أكثرُ أهلِ الجنة البُلْهُ"؛ أي: في أمور الدنيا. قول الجنة مجازًا: فمالي لا يدخل فيَّ إلا ضعيفٌ أو سقط، يُنظر في الأنبياء والأولياء الداخلين إليها في أنهم من أيَّ قَبيلٍ هم؟ معاذَ الله أن يكونوا من

الثاني، ووصفهم بالضعف ضد التكبُّر والتجبُّر، أو لأنهم استَضعفوا أنفسَهم متواضعين، كطلبهم على المسكنة والحياء فيها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحيني مسكينًا، وأَمِتْني مسكينًا". قال في "شرح السُّنَّة": قوله: "إنما أنتِ رحمتي" سمَّى الجنةَ رحمةً؛ لأن بها تظهر رحمةُ الله على خلقه، كما قال: "أرحمُ بكِ مَن أشاء"، وإلا فرحمةُ الله تعالى صفةٌ من صفاته التي لم يزل بها موصوفًا، ليس لله صفةً حادثةً، والاسمُ حادثٌ، فهو قديمٌ بجميع أسمائه وصفاته، جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه وتعالى جَدَّه. وقال أيضًا في "شرح السُّنَّة": القَدَم والرِّجل المذكورتانِ في الحديث من صفات الله تعالى المنزَّه عن التشبيه والتكييف، وكذلك كلُّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السُّنَّة، كاليد والإصبع والعين والمجيء والإتيان والنزول؛ فالإيمانُ بها فرضٌ، والامتناعُ من الخوض فيها واجبٌ، والمهتدِي مَن سلك فيها طريقَ التسليم، والخائضُ زائغٌ، والمُنكِرُ مُعطِّلٌ، والمُكيفُ مُشبهٌ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقيل: وضعُ القَدَم والرِّجل من باب المجاز والاتساع، ولم يُرِدْ بهما أعيانَهما، بل أراد بذلك ما يَدفع شدتَها ويُسكِّن سورتَها ويقطع مسألتَها. "قَطْ": بفتح القاف وسكون الطاء، معناه: حَسْبُ. قوله: "ويُزوَى بعضُها إلى بعض"؛ أي: يجتمع بعضُ النار إلى بعض، من زَويتُ الشيءَ: إذا جمعتُه وقبضتُه؛ يعني: ينضم بعضُها إلى بعض من غاية الامتلاء، تصديقًا لقوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. قوله "فلا يَظلِم الله مِن خلقِه أحدًا"؛ يعني: كلُّ واحدٍ من الناس مَجزيٌّ

بعمله، إنْ خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ، فحينَئذٍ لا ظلمَ على أحدٍ، قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. فإن قيل: كيف يُتصوَّر الظلمُ في جناب عظمة مَن لا اعتراضَ في أمره ولا كيفَ في حُكمِه، وهو الفاعلُ المختارُ بما نطق به القرآن العظيم، يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]؟ قيل: دفعًا لوهمِ مَن يقيس الغائبَ على الشاهد. قوله: "وأما الجنةُ فإن الله يُنشئ لها خلقًا"، (ينشئ)؛ أي: يُظهِر ويَخلُق؛ يعني: أن الله سبحانه وتعالى يَخلُق يومَ القيامة خلقًا؛ لتَمتلئَ الجنةُ بهم، بعدما دخل فيها الأنبياءُ والأولياء والمؤمنون؛ تصديقًا لقوله: "ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤُها". * * * 4420 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تزالُ جَهَنَّمُ يُلقَى فيها وتَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قدَمَهُ، فيَنْزَوِي بَعْضُها إلى بَعْضٍ وتقولُ: قَطْ قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وكَرَمِكَ، ولا يزالُ في الجَنَّةِ فَضْلٌ حتَّى يُنْشِئَ الله لها خَلْقًا فيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ". قوله: "فيُسكنهم فضلَ الجنة"؛ يعني بـ (فضل الجنة): اتساع المساكن عن ساكنيها، كما يسكن جماعةٌ قليلةٌ في بلدٍ كبيرةٍ فتخلو أكثرُ المَسَاكن. وفي الحديث: سِرُّ أنَّه أيضًا خَلَقَ في النار هذا الاتساعَ، ولكن يأمرُها بالانزواء والانضمام، تغليظًا على المعذَّبين، والجنةُ موضعُ رحمةٍ؛ فالانضمامُ ينافي إطلاقَ ساكنيها فيها، فيدع الفضلَ بسعته وتمكينه مما يشاء، شيءٌ لا يهتدي العقلُ إليه، قال الله تعالى: {وَيَخلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. * * *

9 - باب بدء الخلق، وذكر الأنبياء عليهم السلام

9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السَّلام (باب بدء الخلق) مِنَ الصِّحَاحِ: 4422 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: إنِّي كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءَهُ قَوْمٌ منْ بني تَميمٍ، فقالَ: "اقبَلُوا البُشْرَى يَا بني تميمٍ". قالوا: بَشَّرتَنا فأَعِطِنا، فَدَخَلَ ناسٌ منْ أهلِ اليَمَنِ، فقالَ: "اقبَلُوا البُشْرَى يا أَهْلَ اليمنِ إذْ لم يَقْبَلْها بنو تميمٍ". قالوا: قبلْنا، جِئْناك لنتَفَقَّهَ في الدِّينِ، ولنَسْأَلكَ عنْ أَوَّلِ هذا الأَمْرِ ما كان؟ قالَ: كانَ الله ولَمْ يكنْ شَيْءٌ قبلَهُ، وكانَ عَرْشُهُ علَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ". ثُمَّ أتاني رَجُلٌ فقالَ: يا عِمرانُ! أدْرِكْ ناقَتَكَ فقدْ ذَهَبَتْ، فانطلَقْتُ أَطلُبُها، وايْمُ الله لودِدْتُ أنَّها قد ذَهبَتْ ولمْ أقُمْ". قوله: "جئناك لنتفقَّه في الدِّين ولنسألَك عن أول هذا الأمر ما كان": (التفقُّه): طلب الفقه، و (هذا الأمر)؛ أي: هذا الخلق؛ يعني: جئناك لنُحصِّلَ الفقهَ، حتى نصيرَ فقهاء وعلماء في الدِّين، ولنسألَك عما خُلق أولًا قبل خلق السماوات والأرضين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابهم: "كان الله، ولم يكن شيءٌ قبلَه، وكان عَرشُه على الماء"؛ يعني: كان الله في الأزل، ولا شيءَ معه ولا قبلَه، فالعالَمُ صَدَرَ عن تعلُّق اختياره القديم بصدوره من غير مادةٍ ولا عدةٍ ولا مدةٍ، فحينَئذٍ فالله سبحانه وتعالى فاعلٌ مختارٌ يفعل ما يشاء ويختار، فالعَرشُ والماءُ خُلِقا قبلَ خلق السماوات والأرضين.

وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا بقوله: (وكان عَرشُه على الماء)؛ يعني: أنهما كانا مخلوقَين قبل السماوات والأرض، فالعَرشُ على الماء، والماءُ على متن الريح، والريحُ قائمةٌ بقدرته القديمة. قوله: "وكَتَبَ في الذِّكر كلَّ شيء": (الذَّكر): عبارة عن اللوح المحفوظ؛ يعني: أَثبتَ الكائناتِ بأسرها في اللوح المحفوظ. قوله: "فانطلقتُ أَطلبُها"، (انطلقت)؛ أي: طَفِقتُ. "وايمُ الله"؛ أي: والله. "لَوددتُ"؛ أي: تمنَّيتُ واشتَهيتُ. * * * 4423 - عن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قامَ فينا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقامًا، فأخْبَرَنا عنْ بِدْءِ الخَلْقِ حتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ منازِلَهُمْ، وأهلُ النَّارِ منازِلَهُمْ، حَفِظَ ذلكَ مَنْ حَفِظَهُ، ونسِيَهُ مَنْ نسِيَه". قوله: "قام فينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مقامًا، فأخبَرَنا عن بدء الخلق"، الحديث. "قام فينا"؛ أي: خَطَبنا. "مقامًا"؛ أي: قيامًا. "فأَخبَرَنا عن بدء الخلق"؛ أي: فأخبرنا عن بدء خلقه تعالى، ويحتمل أن يكون الخلق باقيًا على العموم، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بأُمته، فإذا بقي على عمومه فمعناه: أنه بيَّن أحوالَ أُمته - صلى الله عليه وسلم - وأحوالَ جميع الأمم كلِّهم؛ يعني: بيَّن لنا ما جرى على الأمم السالفة، وما يجري على أُمته من الخير والشر إلى أن يدخل أهلُ الجنةِ منهم الجنةَ وأهلُ النارِ منهم النارَ، فحفظَ تلك الأخبارَ مَن

حفظَها، ونسيَ ذلك مَن نسيَه، وإذا كان مخصوصًا بالله فظاهرٌ، فهذه المرتبةُ العظيمةُ التي هي إخبارهُ إيانا من المغيبات التي أخبرها الله سبحانه إياه - صلى الله عليه وسلم - مختصةٌ به، فإنها غيرُ مَرويةٍ عن غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. * * * 4424 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الله تعالى كتبَ كِتابًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي، فهو مَكْتوبٌ عِندَهُ فَوْقَ العَرْشِ". قوله: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يَخلُقَ الخلقَ: إن رحمتي سبقتْ غضبي"، (كتبَ)؛ أي: أثبتَ، الرحمة من الله تعالى: إرادتُه الخيرَ لعباده، والغضب منه سبحانه: إرادتُه العقوبةَ لهم. ومعنى سبقِ رحمتِه غضبَه: أنه لا يعجل في عقوبة الكفَّار والعُصَاة من المسلمين، بل يرزقهم ويعافيهم ويحفظهم عن الآفات، ويُمهلهم إلى يوم القيامة، فإنه لو لم يكن كذلك أُهلكوا حين خرجوا عن طاعته تعالى، ولو لم يَهِلكوا لَسدَّ عليهم أبوابَ الرزق، وفتحَ عليهم أبوابَ الشدائد، وإذ تابوا عن الكفر والمعصية لم يَقبَل الله توبتَهم، ولم يضمحل كفرُهم ومعاصيهم التي ارتكبوها سنينَ كثيرةً، والأمر بالعكس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلامُ يَهدِم ما كان قبلَه"، و"التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له". فإذا تقرَّر هذا عَلِمْنا بالمعقول والمنقول أن رحمتَه سبقَتْ غضبَه تعالى، وكيف لا وما وجب على جناب كبريائه وعظمته شيءٌ، بل ما أَنعَم على عباده من الإيمان والعلم والمعرفة لا يكون إلا مِن نتاجِ فضلِه ورحمتِه العامةِ، وكذلك المغفرةُ واللقاءُ والبقاءُ من ذلك الفضل العميم، لا بجزاء العمل الصالح؛ فإنه

يستحق العبادةَ لذاته تعالى. * * * 4425 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مِمَّا وُصِفَ لكُم". قوله: " {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] " (الجانَّ): أبو الجِنِّ. قال في "الغريبين": سُمِّي الجِنُّ جانًا؛ لأنهم مُوارَون، وبه سمي الجنين؛ لأنه موارًى في بطنِ أمه، (المارج): اللهب المختلِطُ بسواد النار. وقال الفراء: المارج: نارٌ دون الحجاب، ومنها هذه الصواعقُ، ويرى جلد السماء منها، ذكره في "الغريبين". * * * 4426 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمَّا صَوَّرَ الله آدمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ الله أنْ يترُكَهُ، فجَعَلَ إِبْليسُ يُطيفُ بهِ يَنْظُرُ ما هوَ، فلَمَّا رآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ". قوله: "فجعل إبليسُ يُطيفُ به ينظر ما هو" الحديث، الفاء في (فجعل) عطف على قوله (تركه)، و (جعل) بمعنى طَفِقَ؛ أي: يتفكَّرُ في عاقبة أمره وماذا يظهرُ منه، وكأنه أحسَّ شقاوةَ نفسِه من جهته، وخاف أن يستعيذَ ويُمتحن، فوقع فيما حذر، فلهذا أَشِرَ وبطر، وقال في نفسه: إن أُمِرْتُ بالانقيادِ له تأبَّيتُ. قوله: "فلما رآه أجوفَ عرفَ أنَّه خَلَقَ خَلْقًا لا يتمالَكُ"، (رأى) إذا كان من رؤية البصر، فالضمير البارز مفعوله، و (أجوف) نصب على الحال، وإذا كان

بمعنى (علم)، فالضمير البارز مفعوله الأول، و (أجوف) مفعوله الثاني و (عرف) جواب (لما). و (الأجوف): الذي له جوفٌ، (لا يتمالَكُ)؛ أي: لا يملِكُ بعضه بعضًا؛ لأنه ذو أبعاض مختلفة، فيصدرُ منه ما يوجبُ تغيُّرَ الأحوال عليه، وعدم الاستمرار على الطاعة، فيكون محتاجًا إلى الطعام والشراب والنكاح، فإن مُنِعَ فلا يَصْبر، أو يريد: سوف يكون فانيًا لاختلاف أحواله، فإذا غلبَ نوعٌ أفسدَ الباقيَ لغلبته، كما هو حال أولاد آدم. * * * 4427 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خَيْرَ البرِيَّةِ، فقالَ: "ذاكَ إِبْراهِيْمُ". قوله: "فقال: يا خيرَ البرية، فقال: ذاك إبراهيم"، (البرَّيةُ): فعيلة، متروكة الهمزة في الاستعمال مِن (بَرَأَ) إذا خَلَقَ. (ذاك): إشارة إلى خير البرية. ولا يخفى أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ مَن في السماواتِ والأَرَضين بدلائلَ كثيرةٍ، لكنه تواضعَ، إما لتعظيم الأبوة، وإما لأنَّ هذه الصفة تعني الأفضلية مختصَّةً به. فحينئذٍ يجوزُ له أن يعطيَها أحدٌ من الأنبياء صلوات الله عليهم، سيما إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الصلاةَ المخصوصةَ به كان له أن يصليَ على واحدٍ من الذين كانوا يُعْطُون الزكاة حالةَ الأداء، كما قال: "اللهم صلِّ على آلِ أبي أوفى"، بخلاف غيره - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يجوزُ أن يصلِّيَ على المعطي عَقِبَ الأداء، بل يدعو له. * * *

4428 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِخْتَتَنَ إبْراهيمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ ابن ثَمانينَ سَنَةً بالقَدُومِ". قوله "اختتن إبراهيمُ النبيُّ وهو ابن ثمانينَ سنةً بالقَدُوم"، (اخْتَتَنَ وخَتَنَ): إذا أزالَ الجِلْدَة التي فوق المُخْتَتَن، وهو الحَشَفَة، القدوم مقيل لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هي قرية بالشام، ذكره في "الغريبين". والباء في (بالقدوم) بمعنى: (في)؛ يعني: اختتنَ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموضع. وقيل: أراد (بالقَدُوم) القَدُومَ الذي يُنْحَتُ به، فإن صحَّ هذا فالباء فيه بالآلة، والخِتَانُ واجبٌ عند الشافعي، سنةٌ عند أبي حنيفة رحمة الله عليهما، وكشفُ العورة عند الخاتِن دليلٌ على وجوبه؛ لأن كَشْفَها محرَّمٌ، والخِتَانُ لا بد له من الكَشْفِ، وتَرْكُ الواجب للسنة غيرُ جائزٍ، فإذا كان كذلك فلا يكون إلا واجبًا. * * * 4429 - وعن أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمْ يَكْذِبْ إبْراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ: ثِنتَيْنِ مِنْهُنَّ في كتابِ الله تعالَى: قولهُ: {إِنِّى سَقِيمٌ}، وقولهُ: {بل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. وقالَ: بَينا هُوَ ذاتَ يومٍ وسارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبابرَةِ، فقيلَ لهُ: إنَّ ها هُنا رَجُلًا مَعَهُ امرأةٌ منْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فأَرْسَلَ إليهِ فَسَألَهُ عنها: مَنْ هذِهِ؟ قال: أُخْتي. فأتَى سارَةَ فقالَ لها: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ يَعْلَمْ أنَّكِ امرأتي يغلِبني عليكِ، فإنْ سَأَلكِ فأخبريهِ أنَّكِ أُخْتي، فإنَّك أُخْتِي في الإِسلامِ، ليسَ علَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْري وغَيْرُكِ. فأَرْسَلَ إليها فأُتِيَ بها، وقامَ إبْراهيمُ يُصَلَّي،

فلَمَّا دخَلَتْ عليهِ ذَهَبَ يتناوَلُها بيدِهِ فأُخِذَ - ويُروَى فغُطَّ حتَّى رَكَضَ برِجْلِه - فقالَ: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، ثُمَّ تناوَلَها الثَّانِيَةَ فأُخِذَ مِثْلَها أو أَشَدَّ، فقال: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، فدَعا بعض حجَبتِهِ فقالَ: إنَّكَ لمْ تأتِني بإنسانٍ إنَّما أتيتَني بشَيْطانٍ، فأخْدَمَها هاجَرَ، فأتَتْهُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي، فأَوْمَأ بيدِهِ مَهْيَمْ؟ قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافرِ في نَحْرِهِ وأَخْدَمَ هاجَر". قال أبو هُريرَةَ - رضي الله عنه -: تِلْكَ أُمُّكُم يا بني ماءِ السَّماءِ. قوله: "ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلُهُ كَبِيُرهُمْ} [الأنبياء: 63] ": الحديث. يعني: ثِنتان من الكذبات الثلاث مشتملتان على تنزيهِ الله سبحانه عما كان قومه مُكِبين عليه من الإشراك في الربوبية والدعوى الباطلة. إحداهما: قولُه سبحانه حكايةً عن قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وما قبلَه يدلُّ على أنَّه نَزَّهَ ذاته عما يقولُه الكفرةُ له من عبادة الأصنام، وهو قولُه تعالى حكايةً عنه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 85 - 89] فسَبَبُ نَظَره في علم النجوم وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أنهم طلبوا منه عليه السلام أن يخرجَ معهم إلى عيدٍ لهم من الأعياد، فأراد أن يتخلَّفَ عن الأمر الذي هم به، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89]؛ أي: خارجٌ مزاجي عن حد الاعتدال، وقلَّ من يخلو عنه. والثانية: قولُه سبحانه حكايةً عن قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، وما قبلَه أيضًا يدلُّ على تنزيه ذاتهِ تعالى عما يقولُ قومُه من الضلال، وهو قولُه تعالى حكايةً عنه عليه السلام: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} إلى قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 56 - 63]

والثالثة: قوله: سارة أختي، وهي كانت زوجتَه؛ يعني حين سأله المَلَك القاصِدُ سارَة عن حالها، قال: أختي، خلاصًا لها عن شَرِّه. فالحاصل: أن هذه الكذبات الثلاث كان إبراهيم عليه السلام يناضلُ بها عن دينه، وكلُّ واحدة منهن تَقبلُ تأويلًا مبرِّئًا لساحة عصمته عن غبار الكذب. أما تأويلُ الأولى التي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أنَّ كل واحدٍ من الناس - وإن كان معافًى - لا بد له من تغيير المزاج والموت، فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: سأسقم، أو أنَّه إذا خُلِقَ للموت فهو سقيم دائمًا، أو أنه إذا نظر في النجومِ استدلَّ بها على سُقْمٍ في بدنه، وكان علم النجوم حقًا ومن النبوة، ثم نُسِخ. وتأويل الثانية التي هي قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} أنه عليه السلام قاله إلزامًا للحُجَّةِ عليهم، على معنى أنه يجب أن يفعلَه كبيرُهم لو كان معبودًا؛ لئلَّا يُعْبَدَ معه غيرُه، أو على تقدير الشرط، كأنه قال: إنْ كانوا ينطقون فقد فعلَه كبيرُهم، وتأويلُ الثالثة التي هي قوله: سارة أختي، أنه أراد عليه السلام هي أختي في الدين. فإن قيل: لم عَدَلَ الخليلُ عليه السلام عن الزوجية إلى النسبية؟. قيل: لأن دينَ الملكِ القاصِدِ لها لا يُحِلُّ له التزوُّجَ، ولا التمتُّعَ بقرابات الأنبياء عليهم السلام، فلهذا عَدَلَ إلى النسبة. واختلفَ الأئمة في جواز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، فطائفة يجوِّزون ذلك سهوًا من غير تأويل، وهم أهلُ السنة، وطائفةٌ يجوِّزون كل ذلك عَمْدًا وسهوًا بتأويل، وهم أكثرُ المعتزلة، هذا على رأي الأصوليين، أما المفسرون فقد اتفقوا في التأويل. قوله: "فلمَّا دخلتْ عليه"؛ أي: على الجبار. "ذهب"؛ أي: طفق.

قوله: "فغُطَّ حتَّى رَكَضَ برجله"؛ أي: فضُغِطَ، والرَّكْضُ بالرجل: الضَّرْبُ بها. "الحَجَبَة"، جمع حاجب. قوله: "فأَخْدَمَها هاجَرَ"؛ يعني: إذا عرف الملكُ عنها الكرامةَ والقُرْبَة عند الله سبحانه خلَّى عن سبيلها طاهرةً عن دَنَسِ جِوارِه، وأَخْدَمَها هاجر؛ أي: جعلَها خادمةً لها، وهاجر أمُّ إسماعيل عليه السلام. قوله: "فأوَمَأ بيده مَهْيَم": أومأ؛ أي: أشار، مَهْيَم: ما الخبر؟ قوله: "ردَّ الله كيدَ الكافرِ في نَحْرِه"؛ أي: ردَّ الله كيدَه في صَدْره، وإنما خَصَّتِ الكيدَ في النحر على عادة العرب، ومعنى ردَّ الكيد: ما تمَّ على الجَبَّار من الضَّغْط والغَلَبة مع كونه قاهرًا غالبًا. قوله: "تلك أمُّكم يا بني ماء السماء"، تلك إشارةٌ إلى هاجر، والكاف والميم خطاب إلى العرب. قيل: والمراد ببني ماء السماء بنو إبراهيم عليه السلام، ونسبتُهم إلى ماء السماء لطهارة موالدهم ونقاءِ نُطَفهم. قال الخَطَّابي: يريد بماء السماء العرب، وذلك أنهم يعيشون بماء السماء، ويتبعون مواقعَ القَطْر في بواديهم. ويقال: إنه أراد ماءَ زمزم، أنبطها الله تعالى لهاجر، فعاشُوا بها فصاروا كأنهم أولادها. * * * 4430 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قال: "أكرَمُهُمْ عِنْدَ الله أتقاهُمْ" قالوا: لَيْسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قالَ: "فأَكْرَمُ

النَّاسِ يوسُفُ نبَيُّ الله ابن نبَيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله". قالوا: ليسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قال: "فعَنْ معادِنِ العَرَبِ تسألُونني؟ " قالوا: نَعَم، قالَ: "فخِيارُكُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيارُكُمْ في الإِسلامِ إذا فَقِهُوا". قوله: "فأَكْرمُ الناسِ يوسفُ نبيُّ الله ابن نبيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله". (الفاء) في (فأَكْرمُ) جواب شرطٍ مقدَّر؛ يعني: إذا لم تسألوا عن هذا، فأكْرَمُ الناس يوسفُ نبي الله، فنبيُّ الله الأول صفة ليوسف، والثاني: يريد به يعقوب، والثالث: يريد به إسحاق؛ يعني: يوسف نبيُّ الله بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ صلوات الله عليهم أجمعين كانَ أكرمَ الناسِ في زمانه. * * * 4432 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيمَ إذْ قالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ويَرْحَمُ الله لُوْطًا لقدْ كانَ يأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ، ولوْ لبثْتُ في السِّجنِ طُولَ ما لَبثَ يوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي". * * * قوله: "نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم"، قال الخَطَّابي: نفى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشكَّ عن نفسه، وعن إبراهيم صلوات الله عليهما، فقال على سبيل التواضع: "نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيمَ"؛ أي: نحن لا نشكُّ البتَّةَ، فكيف يَشُكُّ إبراهيم وهو أرفَعُ درجة منا؟، وهذا ثناءٌ على إبراهيم عليه السلام. وتلخيصُ المعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك تعظيمَ شأنِ إبراهيمَ عليه السلام، وبيانِ أنه ما سألَ عن ذلك لأجلِ مَلَلٍ في نفسه، بل إنما سألَ عن ذلك من قِبَلِ زيادةِ العِلْمِ بالمشاهدة، فإن المشاهدةَ تفيدُ من المعرفة والطمأنينة

ما لا يُفيدُه الاستدلالُ. قيل: لما نَزَلَت هذه الآيةُ قيل: شكَّ إبراهيمُ ولم يَشُكَّ نبيُّنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أحقُّ بالشَّكِّ منه)، قاله تواضعًا وتقديمًا لإبراهيم عليه السلام؛ أي: أنا دونَه ولم أشُكَّ، فكيف يشكُّ إبراهيم؟. قوله: "ويرحمُ الله لوطًا، لقد كان يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ"؛ يعني: أنَّ لوطًا عليه السلام حين قصدَ قومُه أضيافَه بسوء، ظانَّين أنهم غلمانٌ، وكان يناظِرُهم من وراءِ الباب مغلَقًا، ما تكلَّم بهذا إلا ساهيًا ناظرًا إلى ضَعْف البشرية، عاجزًا عن مقاومتهم، وهو قوله تعالى حكايةً عنه - صلى الله عليه وسلم -: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يعني: لو أنَّ لي بدفعكم قوةَ البدن، أو أنضمُّ إلى عشيرةٍ منيعة لدفعناكم، وما صدَرَ منه عليه السلام هذا القولُ إلا حينما صَعُبَ عليه الأمر، وضاقَ الصدر، فدعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة؛ لعِظَمِ ما جَرى على لسانِه غيرَ راضٍ به قلبُه، ناسيًا ملاذَ كلِّ مخلوق بما دَهمه من قومه، إذ لا ركنَ أعظمُ وأشدُّ منه. ويحتمل أن يقال: هذا من قَبيل ما قيلَ: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المُقَرَّبين، فلهذا عدَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نادرةً، ودعا له بالمغفرة. قوله: "ولو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبتُ الداعيَ"؛ يعني: لأجبت داعيَ الملك حين قال: {ائْتُونِي بِهِ} ولم أقلْ لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وتركتُ التفتيشَ عن شأنهنَّ، وإنما قاله - صلى الله عليه وسلم - تواضعًا. وقيل: أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لأجبت الداعيَ) إلى مقام التفويض، وهو أنه كلُّ ما يأتي إليه يتلقَّاه بالقَبُول، ويتركُ الوسائط، ولا يتلقَّى الفَرَجَ قبلَ مجيئه؛ يعني: لو كُنْتُ مكانهَ لتلقَّيتُ دعوةَ الداعي مستعينًا بالله سبحانه، ومفوِّضًا إليه أمري. * * *

4433 - وقالَ: "إنَّ مُوْسى صلواتُ الله عليه كانَ رَجُلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى منْ جِلْدِهِ شَيءٌ استِحْياءً، فآذاهُ مَنْ آذاهُ منْ بني إِسْرائيلَ فقالوا: ما يَتَسَتَّرُ هذا التَّستُّرَ إلا مِنْ عَيْبٍ بجلدِهِ: إمَّا بَرَصٍ أو أُدْرَةٍ، وإنَّ الله أرادَ أنْ يُبَرِّئهُ، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبهِ، فجَمَحَ مُوْسى في إثْرِهِ يقولُ: ثَوْبي يا حَجَرُ، ثَوْبي يا حجرُ، حتَّى انتهَى إلى مَلإٍ منْ بني إسْرائيلَ فرأَوْهُ عُرْيانًا أَحْسَنَ ما خَلَقَ الله، وقالوا: والله ما بِمُوسى منْ بَأْسٍ، وأَخَذَ ثوبَهُ وطَفَقِ بالحَجَرِ ضَرْبًا، فوالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَبًا منْ أثرِ ضربهِ" ثلاثًا أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا. قوله: "كان رجلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى من جِلْدِه شيءٌ"، الحديث. (الحَييُّ): المستحي، (السِّتِّيرُ): المستور؛ يعني كان من شأنه؛ أي: يسترُ جميعَ بدنهِ في الاغتسال بحيثُ لا يُرَى من بشرته شيءٌ استحياءً. "فآذاه مَن آذاه"؛ يعني: إذا كان له هذه العادةُ، وكان بنو إسرائيل يُؤْذُونه بأن يَنْسِبُوا إليه العيوبَ كالبَرَصِ والجُذَام والأُدْرَةِ وغير ذلك، وفي قوله: (مَن آذاه) مبالغة في المعنى؛ أي: آذاه كثيرٌ من بني إسرائيل. قوله: "إما بَرَص أو أُدْرَة"، (البَرَصُ): بياضٌ يَظْهَرُ في البَشَرة، يخالف لون البشرة، قيل: إنه من اليُبُوسة، و (الأُدْرَة): نَفْخَةٌ في الخِصْيَة. قوله: "فجمحَ موسى في إِثره، يقول: ثوبي يا حجرُ، ثوبي يا حجرُ"، (جَمَحَ): أسرعَ، الضمير في (إثر) يعود إلى الحجر. (ثوبي): نصب بفعل مقَّدر؛ أي: أعطِ ثوبي. قوله: "حتى انتهى إلى ملِأ من بني إسرائيل"، انتهى؛ أي: وصَلَ. (الملأ): الجماعة الأشراف الذين ليس على شرفهم مَزِيدٌ، واشتقاقُه من (ملأت)؛ أي: يملؤون القلوبَ جلالةً ومَهابةً، ذكره في "لُبَاب التفسير".

قوله: "والله ما بموسى من بأس"، (البَأْس) هنا: بمعنى العيب. قوله: "إنَّ بالحجر لَنَدبًا من أثرِ ضَرْبه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا" (النَّدَبُ): بفتح الدال: أثر الجُرْح، إذا لم يرتفعْ من الجلد، ذكره في "الغريبين". و (أو): للترديد والشكِّ، والشكُّ ها هنا من الراوي. * * * 4434 - وقالَ: "بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ منْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوبهِ، فناداه ربُّه: يا أيُّوبُ أَلَمْ أكُنْ أغنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولَكنْ لا غِنى بِيْ عَنْ بَرَكَتِك". قوله: "فخرَّ عليه جَرَادٌ من ذهب، فجعلَ أيوبُ يحتثي في ثوبه". (خرَّ): سقط، الضميرُ في (عليه) يعود إلى أيوب عليه السلام. (جعل أيوبُ)؛ أي: طَفِقَ. (احتثى يحتثي): إذا جمعَ شيئًا في ذيله، وضم طرفَ الذَّيْلِ إلى نفسه. "أغنيتك"؛ أي: جعلتُك ذا غِنًى؛ يعني حينما يغتسلُ أيوب عليه السلام كان يسقطُ عليه جَرَادٌ من ذهب، فطفِقَ يجمعُ ذلك الجرادَ في ذيله. فقال له ربه تعالى: ألم أجعلك غنيًا بأنواع النعم الكثيرة؟ قال: بلى، ولكن مالي استغناءٌ عن بركتك وإنعامك السابغِ عليَّ. * * * 4435 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهودِ، فَقَالَ المُسلمُ: والَّذي اصطَفَى مُحمَّدًا على العَالَمِيْنَ، فقالَ اليَهُودِيُّ: والذي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ، فَرَفعَ المُسْلمُ يدَهُ عندَ ذلكَ

فلطَمَ وَجْهَ اليَهُوديِّ، فَذَهبَ اليَهُودِيُّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَهُ بِمَا كانَ منْ أَمْرِهِ وأَمْرِ المُسلِمِ، فدَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُسلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذلكَ، فأخبَرَه، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُخيروني على موسَى، فإن النَّاسَ يَصْعَقُونَ يومَ القِيامَةِ فَأُصْعَقُ مَعَهُم فأكون أوَّلَ من يُفيقُ، فإذَا موسَى باطِشٌ بجانِبِ العَرشِ، فلا أَدْرِي كانَ فيمَنْ صَعِقَ فأفاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنْ استَثْنَى الله". وفي رِوَايَةٍ: "فَلَا أَدْرِي أحُوسِبَ بصَعقةِ يَومِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي، ولا أَقُولُ إنَّ أَحَدًا أَفضَلُ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى". وفي رِوَايَةٍ: "لا تُخيروا بينَ الأَنبياءِ". وفي رواية: "لا تُفضلُوا بَيْنَ أَنْبياءِ الله". قوله: "استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود"، (استبَّ): افتعل مِن (سَبَّ)، إذا جرى الشتمُ بين اثنين فصاعدًا، وفاعل (افتعل) متعدِّدٌ؛ أي: أكثرُ من واحد، يقول: اشترك زيدٌ وعمرو. قوله: "لا تخيرُوني على موسى" إلى قوله: "فأصعق معهم". (التخيير): التفضيل. (صعِق - بكسر العين - يصعَق - بفتحها - صعقة): إذا غُشِيَ عليه. يعني: لا تفضلُوني على موسى، فإن الناس يصيرون مَغْشِيًّا عليهم يوم القيامة، وأكون أيضًا في الغَشْيَةِ معهم، لكني أولُ أحدٍ أَفيقُ. "فإذا موسى باطِشٌ بجانب العرش"؛ أي: متعلِّقٌ به بقوَّة، فلا أدري أنَّه - صلى الله عليه وسلم - حين شاهدَ الإصعاق استوثقَ من إمساكِ العرش لينجوَ من الإصعاق، أو كان فيمن صار مغشيًا عليه معنا، فأفاقَ قبلي، أو كان من الذين استثناهم الله تعالى في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

أو كان عوفي وحُفِظَ من الصَّعْق العامِّ يومَ القيامة بدلًا من الصَّعْقِ الذي أصابه في الطُّور، قال الله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]. قوله: "لا تُخَيرُوا بين الأنبياء"، وفي رواية: "لا تفضلُوا بين أنبياء الله"، قال في "شرح السنة": ليس معنى النفي عن التخيير أن يعتقدَ التسويةَ بينهم في درجاتهم، بل معناه تركُ التخيير على وجه الإِزْراء ببعضهم، فإنه يكون سببًا لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر. الإزراء: العيب. وتلخيص المعنى: أن تفضيلَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - بعضَهم على بعض لا شكَّ فيه، كقوله سبحانه: {تِلْكَ الْرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، وقوله تعالى على سبيل العموم: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165]، وفي حديث المعراج: أنه رأى بعضَ الأنبياء في السماء الثانية، وبعضَهم في الرابعة، وبعضَهم في السادسة. والمراد رفعةُ الدرجات، وحيث قال: "لا تفضلُوني على يونس بن متَّى" وهو هضْمٌ لنفسه، وتواضُعٌ لها. قوله: "لا تفضلوا بعضَ الأنبياء على بعض"، حيث رأى في ذلك مجادلةً بين أصحابه، وثورانَ فِتنة، فمنعَهم من ذلك لأجل الفساد، وأيضًا إنما منعَهم من التخيير؛ لأن المخِّيرَ لا بدَّ أن يكونَ عالمًا بدرجات التخيير، وأما كيفيةُ التَفْضيل فبأن يَفْهَمَ معنى النبوة. ومعناها - والله أعلم -: الكمالُ في نفسه، وتكميلُ الناقِصين, وأصولُ الكمال أربعةٌ: العلمُ والفقه والشجاعةُ ببذل النفس والمال. فإن السخاءَ قِسْمٌ من الشجاعة، والعدالة في هذه الأخلاق، فإن الوسطَ محبوسٌ بطرفين، هما ذيلان، وهذه الأربع يتشَّعبُ كلُّ واحدةٍ منها إلى شُعَبٍ

كثيرة، كانشعاب العِلْم إلى سائر العلوم النقلية والعقلية، وكذا الأخلاق الباقية. وأما التكميل فحَمْلُ الناسِ لُطْفًا وعُنْفًا، وحثُّهم على تحصيل الكمالات المذكورة، وكلُّ نبيٍّ كان في الكمال والتكميل أزيدَ من غيره كان أفضلَ منه، ولمَّا كان نبيُّنا - صلوات الله عليه - في جميع أنواع المَعْنَيَيْنِ - أعني الكمالَ والتكميلَ - بالغًا إلى حدٍّ لم يبلغْه غيرُه من الأنبياء كان أفضلَ الأنبياء، وسيدَ الرسل صلوات الله عليهم. فإنَّ نوحًا عليه السلام لم يؤمن به من قومِه إلا نفرٌ قليلٌ، تَسَعُهم سفينته، قيل: كانوا ثمانين، ولمَّا هبطَ من السفينة هلكُوا جميعًا، ولم يبقَ إلا هو وأولادُه وتناسَلُوا، ولهذا سُمِّيَ آدمَ الثاني. وأما موسى عليه السلام فلم تتجاوزْ دعوتُه بني إسرائيلَ إلى غيرهم. وأما عيسى عليه السلام فالمُحِقُّونَ من قومه كانوا نفرًا قليلًا، والباقون في ضلالةِ التثليث والولادة، تعالى الله عن ذلك. وأما محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا جاء كان العالمُ كلُّه مشحونًا بكفر عَبَدَة الأصنام والكواكبِ، وتشبيهِ اليهود وتثليثِ النصارى، وهو - صلوات الله عليه - دعا جميع الخلائق إلى الواحد الحقِّ بالحكمة والموعظة الحسنة والجِدال بالتي هي أحسنُ، فآمن به خَلْقٌ كثير. والباقون الذين يؤمنوا به إما عنادًا أو حسدًا كاليهود والنصارى، وإما جهلًا لم ينفع دعوته صلوات الله وسلامه عليه، فنزلت فريضةُ الجهادِ واستعمالُ السيف، ومع ذلك كان يؤلِّفُ قلوبَهم باللُّطْف وبذْلِ الأموال، حتى ملأ العالمَ شرقًا وغربًا من القَبُول والعمل الحق. فمن أنصفَ ونظر إلى المَعْنَيَينِ فيه، وفي غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم، أنَّ المعنيين فيهم بالنسبة إليهما فيه = عَلِمَ أنهم في الفضيلة بالنسبة إليه

كالقَطْرَةِ بالنسبة إلى البحر المحيطِ الأعظم. * * * 4438 - وعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الغُلامَ الَّذي قَتَلَهُ الخَضرُ طُبعَ كَافِرًا، ولوْ عَاشَ لأَرهَقَ أبويهِ طُغيانًا وكُفرًا". قوله: "إنَّ الغلامَ الَّذي قتلَه الخَضرُ طُبعَ كَافرًا، ولو عاش لأرهقَ طغيانًا وكفرًا". (طُبعَ)؛ أي: خُلِقَ، (رَهِقَه): غشيه، (أَرْهَقَه طغيانًا): أغشاه؛ يعني: لو عاش الغلامُ المقتولُ لظهر منه الكُفْرُ والطغيان طَبْعًا، لأنه كان مَجْبولًا على الكفر. أما اعتراض موسى على الخَضر - عليهما السلام - بعد القتل، بقوله {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}؛ أي: طاهرة معصومةً على ظاهرِ الأمر، {بِغَيْرِ نَفسٍ} [الكهف: 74]؛ أي: إنْ قَتَلَ نفسًا فاقتصَّ فسائغٌ من حيث الظاهر، بل واجبٌ على الأنبياء ألَّا يتجاوزوا عن ظاهرِ الشرع، ولا يصبرُوا على الأشياء المنكَرة، وَكان ظاهرُ الحال يَحْكُمُ بعصمته. فلهذا قال سبحانه حكايةً عن الخَضر مخاطبًا لموسى عليهما السلام: {كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبُرًا} [الكهف: 68]؛ أي: عِلْمًا، تمهيدًا لعذره في ترك الصبر، لأن فِعْلَه قد عدلَ عن الظاهر، لكنْ من حيثُ الحقيقةُ كان الخَضرُ غيرَ مُلامٍ بقتله، لأنه قد كُشِفَ له من عند الله سبحانه أنه مستحِقٌّ القَتْلَ، وقد ظهرَ له ذلك بنور القلب. قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُّنَا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ أي: علمَ الباطن، إن قيل: ما الحكمة أن الخَضرَ عليه السلام اطَّلَعَ على هذا الغيب ولم يطَّلِعْ عليه

موسى صلوات الله عليه، مع أنه نبيٌّ مرسَلٌ باتفاق، وفي نبوة الخَضر خلافٌ؟. قيل: لأن علمَ الغيبِ اختصَّ بالله سبحانه {وَعِنْدَهُ مَفَاتحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمْهَا إلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، فلا يطَّلِعُ عليه أحدٌ إلا بإطلاعِ الله إياه، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، فحينئذ لو اطَّلع المفضولُ على شيءٍ من المغيَّبات دون الأفضل جاز؛ لأنه لم يطَّلِعْ عليه إلا بإطلاع الله إياه. والأفضلُ لا يلزمُ أن يكونَ له الاطلاع على سائر المغيَّبات، لأنه رِزْقٌ يسوقُه الله إلى مَن يشاء من عباده، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] * * * 4439 - وعَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّما سُمِّيَ الخَضرَ لأنَّهُ جَلَس على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فإِذَا هِيَ تَهْتزُّ منْ خَلْفِهِ خَضراءَ". قوله: "على فروة بيضاء"، قال الخَطَّابي: (الفَرْوَةُ): جلدةُ وجْهِ الأرض، وصارت خضراءَ بعد أن كانت جَرْداءَ؛ أي: لا نباتَ فيها. ويقال: بل أراد الهَشِيمَ من نباتٍ اخْضَرَّ بعد تَيَبُّسِه وبياضه. قيل: اسم الخَضر: بلياء، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من أبناء الملوك الذين تزهَّدُوا في الدنيا. * * * 4440 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى فَقَالَ لهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ موسَى عينَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَهَا، قال: فرَجَعَ

المَلَكُ إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ: إنَّكَ أَرْسَلْتَني إلى عَبدٍ لكَ لا يُريدُ المَوتَ وقَدْ فقأَ عَيْني، قَالَ: فردَّ الله إلَيْهِ عَيْنَهُ وقَالَ: ارجِعْ إِلَى عَبدِي فَقُل: الحَيَاةَ تَريدُ؟ فإنْ كنْتَ تُريْدُ الحَياةَ، فضَعْ يدَكَ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وارَتْ يدُكَ منْ شَعْرةٍ فإنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فالآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ! أَدْنِني مِنَ الأَرْضِ المُقدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجرٍ. قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لوْ أنِّي عِندهُ، لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ". قوله: "فلطمَ موسى عينَ ملكِ المَوْت ففَقَأَها"، الحديث. (اللَّطْمُ): الضَّرْبُ على الوجه بباطنِ الكفِّ، و (الفَقءُ): الشَّقُّ، فَقَأْتُ عينَه؛ أي: شَقَقْتُها؛ أي: أَعْمَيْتُها. قيل: الملائكة يَتَصَوَّرُون تصُّورَ الإنسان، وتلك الصُّوَر بالنسبة إليهم كالملابس بالنسبة إلى الإنسان. واللَّطْمَةُ أَثَّرَتْ في العين الصُّورِيَّة لا في العين المَلَكية، فإنها غير متأثِّرةٍ باللَّطْمة وغيرها، وإنما لطَمَها موسى - صلوات الله عليه - من حيث إنَّ الأنبياءَ - صلوات الله عليهم - كانوا مخيَّرين من عند الله سبحانه آخرَ الأمر بأحد الشيئين، إما الحياة وإما الوفاة، فأقدمَ مَلَكُ الموتِ على قَبْضِ روحهِ - صلوات الله عليهما - قبل التخيير؛ فلهذا سبقتْ منه هذه اللَّطْمَة. وقيل: كرهَ الموتَ كراهيةً شديدةً بحيث لو أمكَنه لَطْمُه وفَقْء عينه لفعل؛ لأن إجراءَه على الظاهر وهو في صورته المَلَكية لا يمكن، وعلى صورته المتشكِّلِ هو بها لا يجيزه النبيُّ المعصوم. إن قيل: ما الحكمة في أنَّ موسى عليه السلام أعمى عينَ مَلَك الموت، ولم يَعُدَّه ذنبًا، مع أنَّه مرسَلٌ من عندِه تعالى، والله سبحانه ما عاتبَ عليه، بل قال: "ارجعْ إلى عبدي" الحديث، تمهيدًا لعذره، وإذا قتل قبطيًا كافرًا ندم على

ذلك وتاب، وقال: "تبت يا رب، إني ظلمتُ نفسي"؟. قيل: لأنه قتل القبطيَّ قبل أن يشرَّف بتشريف الرسالة والمكالمة، وأما إعماءُ عينِ مَلَكِ الموت بعد أن شُرِّفَ بخِلْعَةِ الرسألة والمكالمة والكرامة، فلهذا ما عوتِبَ بل عُذِر، ولأن عينَه الصورية حكمُها حُكْمُ لباسِه، كما ذُكِرَ قَبْلُ، فما صار مُلِيمًا بفقئها. * * * 4441 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَرَرْتُ على مُوسَى لَيْلةَ أُسرِيَ بي عِندَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وهُوَ قائِمٌ يُصلِّي في قبرِهِ". قوله: "ليلة أسري بي"، (ليلة): منصوبة على الظرف، والعاملُ فيه (مررت)، و (أُسْرِيَ) فعل ما لم يسمَّ فاعله، والباء في (بي) للتعدية، وأُسْرِيَ وسُرِّي بمعنًى واحد. والجملة يعني: (أسري بي)، في محل الجر بإضافة (ليلة) إليها. و"الكثيب": مجتمَعٌ من الرمل، مِن (كَثَبَ) إذا جمع. و (الواو) في "وهو قائم" للحال. "ويصلي" نصب في موضع الحال من الضمير في (قائم)؛ يعني: مررتُ على موسى - عليهما السلام - في الليلة التي أُسْرِيَ بي؛ يعني: في ليلة المِعْراج عند الكثيب الأحمر، قائمًا مصلِّيًا في قبره، وصلوات الأنبياء عليهم السلام في قبورهم عبارةٌ عن زيادة دَرَجَاتِهم بعد الموت. فإن الصلاة والسجدة فيها خاصَّةُ قُرْبٍ من الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وقرة عيني في الصلاة". ولا شك أن درجاتِ القربِ من الله سبحانه غيرُ متناهية، فهو المراد من

الصلاة، والله أعلم. * * * 4442 - وعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "عُرِضَ عليَّ الأنبياءُ، فإذا مُوسَى ضَرْبٌ من الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة، ورَأَيتُ عِيْسَى بن مَرْيمَ فإِذَا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، ورَأيتُ إبْراهيْمَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي: نَفسَهُ -، ورَأَيْتُ جِبْرِيْلَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا دِحْيَّةُ بن خَليفةَ". قوله: "عُرِضَ علي الأنبياءُ صلوات الله عليهم، فإذا موسى ضَرْبٌ من الرِّجال" الحديث. أي: عُرِضَ عليَّ أرواحُ الأنبياء - صلوات الله عليهم - مشكَّلِين بتلك الصور التي كانوا عليها في الدنيا مع الأجساد، وأيضًا أرواحُ الأنبياء كأرواحِ الملائكة، فكما أنَّ لهم أنْ يتشكَّلُوا بصورة الإنسان، فكذا أرواحُ الأنبياء. (الضَّرْبُ): الرجلُ الخفيفُ من اللَّحْم، والخفيفُ من المَنْظَر، ذكره في "منتخب الصحاح". وقيل: اللَّبن القليل، والإسراعُ، ذكره الحافظ أبو موسى في "المغيث". (إذا) في (فإذا موسى) للمفاجأة. (أَزْدُ شَنُوَءة): قبيلة؛ يعني: كان موسى عليه السلام يشابه واحدًا من رجال هذه القبيلة. "فإذا أَقْربُ": (إذا) للمفاجأة، و (أَقْرَبُ) مبتدأ، و"مَنْ" موصول، و"شَبَهًا" مفعول رأيت، والباء صفة لقوله شبهًا، والجملةُ صلة (مَن)، والموصول والصلة في موضعِ الجرِّ بإضافة الأقرب إليه، و"عروة" خبرُه، أو إذا يعني: رأيت عيسى

عليه السلام، فكان أقرب إليه في الشبه عروة بن مسعود الثقفي. * * * 4443 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رَأَيتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي موسَى رَجُلًا آدمَ طُوَالًا جَعْدًا كأنَّهُ منْ رِجَالِ شَنوءَةَ، ورَأَيتُ عيسَى رَجُلًا مَربوعَ الخَلْقِ إلى الحُمرَةِ والبَيَاضِ سَبطَ الرَّأسِ، ورَأَيتُ مالِكًا خَازِنَ النَّارِ، والدَّجالَ في آياتٍ أَرَاهُنَّ الله إيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ". قوله: "رجلًا آدم طُوَالًا جَعْدًا"، الحديث. (آدم): نعتٌ من الأُدْمة، وهي السُّمْرة. و (الطُّوالُ) - بضم الطاء -: الطويلُ، لكنه وُضعَ للمبالغة في الطُّول، نحو كُبَار. جَعُدَ الشعر فهو (جَعْدٌ)، (المربوعُ): لا طويلٌ ولا قصيرٌ، والرَّبْعَةُ مثلُه. "إلى الحمرِة والبياض"؛ يعني: كان يضربُ لونُه إلى الحمرة والبياض؛ يعني: ما كان أحمرَ قانيًا ولا أبيضَ نقيًا، بل كان لونُه بين اللَّونين. "سَبَطَ الرأسَ"؛ أي: مسترسِلَ شعرِ رأسِه، يقال: سَبطَ فهو سَبَطٌ. "والدجَّالَ في آيات أراهُنَّ الله إياه": (الآياتُ): جمع آية، وهي العلامة، و (أراهُنَّ) صفةُ (آيات)؛ يعني: أراه الدجالَ أيضًا مع آياتٍ أُخَرَ ما حكاها، فإذا كان خروجُه موعودًا {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} في شكٍّ {مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] و (اللِّقاء): الرؤيةُ، و (لا تَكُنْ) خطابٌ لمن سَمعَ هذا الحديثَ إلى يومِ القيامة. * * * 4444 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي

لَقِيتُ موسَى - فَنَعَتَهُ -، فإذا رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الشَّعرِ، كأنَّهُ منْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ولَقيْتُ عيسَى رَبْعَةٌ أَحمَرُ، كأنَّما خرجَ منْ دِيْمَاسٍ - يعني: الحَمَّام - ورأيتُ إِبْراهِيمَ صلَواتُ الله عَلَيْهِ، وأنا أشبَهُ ولدِهِ بهِ، قَالَ: وأُتِيتُ بإِنَاءَيْنِ أحدُهُما لَبن والآخَرُ فيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبن فشرِبْتُهُ، فَقِيْلَ لي: هُدِيتَ الفِطْرةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ". قوله: "وأُتِيتُ بإناءَين؛ أحدُهما: لبن، والآخرُ فيه خَمْر"، الحديث. كان قياسُ العربية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحدُهما فيه لَبن) كما قال: (فيه خمرٌ)، لكنه عدَلَ عن القياس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد تكثيرَ اللبن، فلما كَثُرَ صار كأنَّ الإناءَ انقلبَ لَبنًا، فجعلَه لبنًا كلَّه، تكثيرًا لِمَا يختارُه. ولمَّا كان الخمرُ منهيًّا عنه قَلَّلَه؛ أي: إناءٌ فيه خمرٌ قَليلٌ، والظاهر: أنه أراد باللبن الحليبَ لا الرائبَ، إذ ذاك عند العرب غالبًا، وإنما عُرِضَ عليه كلاهما؛ ليَظْهَرَ للملائكة تفضيلهُ واختيارهُ ما هو الصواب، والمأتيُّ بهما كان اختراعًا إلهيًا في الحال، لا مأخوذًا من الدنيا، إذ لم يكن المأتيُّ بهما في عالم الكون والفساد، بل في عالم الملكوت. قوله: "أمَا إنَّكَ لو أخذتَ الخمرَ غَوَتْ أمتُك"، (أَما): كلمةُ تنبيه؛ أي: لو اخترتَ الخمرَ بدلَ اللبن لضلَّتْ أمتُك. * * * 4445 - عَنِ ابن عبَّاسِ قَالَ: سِرْنا معَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بيْنَ مكَّةَ والمَدِينَةِ، فَمَرَرْنا بِوادٍ فَقَالَ: "أيُّ وادٍ هَذَا؟ " فَقَالوا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: "كأنِّي أنظُرُ إلى موسَى، فذكَرَ منْ لونِهِ وشَعْرِهِ شَيْئًا، واضعًا أُصْبُعَيْهِ في أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤارٌ إلى الله بالتَّلبيَةِ مارًّا بهذا الوَادِي"، قَالَ: ثُمَّ سِرْنا حتَّى أَتَيْنا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَال: "أيُّ ثَنِيَّةٍ هذهِ؟ " قالوا: هَرْشَى أو: لِفْتٌ، فَقَال: "كَأنِّي أنظُرُ إلَى يُونُسَ عَلَى ناقَةٍ حَمْراءَ,

عليهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذا الوَادِي مُلبيًا". قوله: "كأني أنظرُ إلى موسى، فَذكَرَ مِنْ لونهِ وشَعْرهِ شيئًا، واضعًا إصبعيه في أذنيه"، الحديث. (واضعًا): نصب على الحال، و (إصبعيه) مفعوله. "الجُؤَارُ": الصياح، يقال: فلان جأَرَ إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ أي: تضرَّع. و"التلبية": مصدرُ (لبَّى) إذا قال: لَبّيك، وأصل لَبَّى: لَبَّبَ، فقُلِبت الباءُ الآخرة ياءً للخِفَّة، فصار: لَبَّى تَلْبيةً، فَأُجْرِيَ مُجْرى: وصَّى توصيةً؛ يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوادي الأزرق الذي بين مكة والمدينة حينما كُشِفَ له من عالَم الغيب حالاتُ موسى ويونس - عليهما السلامُ - في الإحرام والتلبية ممَّا جرى عليهما في الحجِّ وغير ذلك، من حِلْيةِ موسى، ولباسِ يونسَ، ووصفِ ناقته وذكر أن "خِطَامَ ناقتهِ خُلْبَةٌ"؛ أي: زمامُ ناقتِه ليفةُ نَخْل = أخبر عن ذلك كلِّه. "مارًا" و"ملبيًا": نصب على الحال مِن يونس. "هَرْشَى": ثنية في طريق مكة، "وَلفت" أيضًا: موضعٌ في طريق مكة. هذا دليلٌ على أنَّ لأرباب القلوب أن يُخبروا عما كُشِفَ لهم من المغيَّبات. * * * 4446 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاودَ القُرآنُ، فكَانَ يأمرُ بدوابهِ فتُسرَجُ، فَيقْرَأُ القُرآنَ قبلَ أنْ تُسرَجَ دَوابُّهُ، ولا يأكُلُ إلَّا مِنْ عَمِلِ يَدِهِ". قوله: "خُفِّفَ على داود القرآنُ"، الحديث. (القرآنُ) ها هنا بمعنى القراءة.

قال في "الغريبين": (القرآن): سُمِّيَ به لأنه جُمعَ فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد، وكلُّ شيء جمعتَه فقد قَرَأْتَه. "الدواب": جمع دابة، وهي التي تُرْكَبُ، والمراد بها ها هنا الفَرَس. "فتُسْرَجُ"؛ أي: فتُجْعَلُ الدوابُّ ذاتَ سُرُوج؛ يعني: خُفِّفَ على داود عليه السلام قراءةُ الزَّبُور، بحيث لو أمرَ بِسَرْجِ دابته مبتدئًا في قراءته لفرغ من قراءته "قبل أن تُسْرَجَ"، وهذا من جملة معجزاته عليه السلام، وكثيرًا ما نُقِلَ هذا وأمثالُه من أولياءِ أمةِ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من طَيِّ الأرض وغيرِ ذلك؛ لقطع مسافات بعيدةٍ طَرْفَة عين، وينبغي أن يُعتقَد أن كراماتِ الأولياء حقٌّ، وهي تتمةُ معجزاتِ الأنبياء صلوات الله عليهم. * * * 4447 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانتْ اِمْرأتَانِ مَعَهُما ابناهُما، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابن إِحْدَاهُما، فَقَالتْ صَاحِبَتُها: إنَّما ذَهبَ بِابنكِ، وقَالَتِ: الأُخرى: إنَّما ذَهَبَ بابنكِ، فتَحَاكمَتا إِلى دَاوْدَ، فَقَضَى بهِ لِلْكُبرى، فخَرجَتَا عَلَى سُلَيْمانَ بن داودَ، فَأخْبَرتَاهُ فَقَال: ائْتُوني بالسِّكَينِ أشقُّهُ بَيْنَكُما، فَقَالتْ الصُّغرَى، لَا تَفعَلْ، يَرحَمُكَ الله، هُوَ ابنها، فَقَضَى بهِ للصُّغرَى". قوله: "فتحاكمَتا إلى داودَ، فقضى به للكُبْرى"، الحديث. (التحاكُم): الترافُع، وهو أن يرفعَ كلُّ واحدٍ من الخَصْمين شرحَ حاله إلى الحاكم. "فقضى"؛ أي: حكمَ "به"؛ أي: بالابن "للكبرى"، تأنيثُ الأكبر، و"الصغرى"، تأنيثُ الأَصْغَر. "فخرجَتَا على سليمان"؛ أي: خرجتا من عند داودَ، ودخلَتا على سليمانَ

عليهما السلام، فأخبرتَاه بما حكَمَ داود عليه السلام بذلك، فألهمه الله سبحانه ما كان محرِّكًا للرحمة والأمومية والمحَّبة والبُغْض، وهو قوله: "ائتوني بالسِّكِّين أَشُقُّه بينكما"، فقالت أمه التي هي الصغرى خوفًا على ذهاب روحه: "لا تفعلِ" الشقَّ يا نبي الله، "فإنه ابنها"، فحكمَ به للصغرى؛ لوجودِ هذه القوينة المعينة لها، وهي الرَّأْفةُ والشَّفقةُ، واعلم أن قضاءهما حقٌّ وصدق؛ لكونهما مجتهِدَين، وكلُّ مجتهدٍ مصيبٌ. ومستندُ قضائهما في هذه القضية نفسُ القرينة، لكنَّ القرينةَ التي حكمَ بها سليمان عليه السلام كانت أقوى من حيث الظاهرُ، فقد غلبَ على ظنه بذلك أنه ابن للصغرى، فحكمَ لها بالابن. قال بعض الشارحين: ويحتمل أن قرائنَ الأحوالِ كانت في شرعهم بمثابة البَينة، فلهذا حكمُوا بها. * * * 4448 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ سُلَيْمانُ صَلَواتُ الله عليهِ: لأَطوفَنَّ اللَّيلةَ عَلَى تِسعِيْنَ امرأةً - وفي رِوَايَةٍ: على مِئَةِ امرأةٍ - كُلُّهنَّ تَأتِي بِفارِسٍ يُجاهِدُ في سَبيلِ الله، فَقَالَ لهُ المَلَكُ: قُلْ: إنْ شاءَ الله، فلمْ يقُلْ ونَسِيَ، فَطَافَ عليهِنَّ، فلمْ تحمِلْ منهُنَّ إلَّا امْرأةٌ واحِدةٌ جَاءَتْ بشِقِّ رَجُلٍ، وايْمُ الَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا في سَبيْلِ الله فُرسَانًا أَجْمَعُونَ". قوله "لأطوفَنَّ الليلة على تسعين امرأةً - وفي رواية بمئة امرأة - كلُّهن تأتي بفارسٍ يجاهد"، الحديث. (اللامُ) في (لأطوفنَّ) جوابُ قَسَمٍ مقدَّر، تقديرُه: والله لأَطُوفَنَّ، و (الطوافُ)

هنا كنايةٌ عن المُجَامَعة. (كلُّهن) مبتدأٌ و (تأتي) خبرُه، و (يجاهد): صفةٌ لفارس، (الشِّقُّ): نصف الشيء، وناحية الجَبل، والأَخُ، والمراد به ها هنا المعنى الأول: (شِقُّ رَجُلٍ)؛ أي: نصف رجل. يعني: قال سليمان عليه السلام: والله لأجامِعَنَّ الليلةَ تسعينَ امرأةً، وروي: مئة امرأة، كلُّ واحدة منهنَّ تلدُ فارسًا يجاهدُ في سبيل الله، وما ذَكَرَ عَقِيبَه: إن شاء الله تعالى، فجامع النسوةَ التسعين أو المئة كلَّهن، فما حملتْ منهن إلا واحدةٌ، فجاءت بولدٍ نصفُه أَشَلُّ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وايمِ الذي نفسُ محمدٍ بيدهِ"؛ أي: والذي نفسُ محمدٍ في قبضة قدرته، "لو قال إن شاء الله" لحصل مقصودهُ، وحملَتْ كلُّ واحدةٍ منهن، وأتت - كما ذكر - كلُّ واحدةٍ منهن بفارسٍ يجاهد في سبيل الله. قوله: "لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"، فـ (أجمعون) تأكيد للضمير في (جاهدوا)، و (فرسانًا) نصب على الحال من الضمير في (جاهدوا). وفيه دليلٌ على أن مَن قال: أعملُ للشيء الفلانيِّ غدًا، فينبغي أن يذكر عَقِيبَه: إن شاء الله؛ تبرُّكًا وتيمُنًا وتسهيلًا لذلك العمل. * * * 4449 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانَ زَكرِيَّا نجَّارًا". قوله: "كان زكرِيَّا نَجَّارًا"، (زكريَّا) غيرُ منصرفٍ للعَلَمية والعُجْمة، وفيه إشارةٌ إلى أن الحِرَف مطلوبةٌ. * * *

4450 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مَريمَ في الأُولَى والآخِرةِ، الأَنْبيَاءُ إِخْوةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وأُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودينُهُمْ واحِدٌ، ولَيْسَ بَيْننا نَبيٌّ". قوله: "أنا أولى الناسِ بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة"، الحديث. قال في "منتخَب الصحاح": بنو العَلَّاتِ أولادُ الرجلِ من نسوة شَتَّى، والأَعْيان: الإخوةُ بنو أب وأم، والأخياف: إخوةٌ آباؤهم شتَّى؛ أي: متفرقة. "أَولى" - بفتح الهمز -: أفعل التفضيل مِن (وَلِيَ) إذا قرب، و"الأَوْلَى"؛ أي: الدنيا. يعني: أنا أقربُ الناس بعيسى عليهما السلام في الدنيا والآخرة. "وليس بيننا نبيٌّ"؛ يعني: ليس بيني وبينه نبيٌّ، بل جئت بعدَه، كما قال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، ثم بيَّن أن دينَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - واحدٌ، وإن كانت شرائعهم مختلفةً، كما أنَّ أولادَ العَلَّاتِ أبوهم واحدٌ، وإن كانت أمَّهاتهم شَتَّى؛ لأن الأنبياءَ عن آخرهم يَدْعون الخَلْقَ إلى الله تعالى. * * * 4451 - وعَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ بني آدَمَ يَطْعنُ الشَّيْطانُ في جَنبَيْهِ، بإِصْبعَيْه حِينَ يُولَدُ، غيرَ عيسَى بن مَرْيمَ، ذَهَبَ يَطْعنُ فَطَعنَ فَوَقعَ في الحِجَابِ". قوله "كلُّ بني آدمَ يَطْعَنُ الشيطانُ في جنبيه بإصبعيه"، الحديث. "ذهب"؛ أي: طَفِقَ، (الطَّعْنُ): الضرب، وهو ها هنا بمعنى المَسِّ. قيل: "الحجابُ" ها هنا عبارةٌ عن المَشِيمَة، وهي ما فيه الولدُ؛ يعني:

يَمَسُّ الشيطانُ بإصبعيه - يعني السبابة والوسطى - جَنْبَي جميعِ بني آدم حين يولَدُ إلا عيسى عليه السَّلام. فإنه ما وصلَ إليه مِن مِسِّه، لأنه ما طَعَنَ في المشيمة، بحيث ما كان متأثِّرًا من طَعْنِه، وإنما لم يتأثَّرْ من مَسِّه؛ لأن الله تعالى أعاذَ مريمَ وأولادَها من الشيطان تقبُّلًا لنَذْرِ حَنَّةَ أمِّها، وأعاذ بها مريمَ وذريتها، لقوله تعالى حكايةً عنها: {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، فهذا لا يخلو إما أن يكونَ من الفضائل أو الخصائص، فإنْ كان من الفضائل، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى بذلك، لأنه أفضلُ من في السماوات والأرض، وإن كان من الخصائص فيجوزُ أن يختصَّ عيسى عليه السلام بذلك، فإن الخاصية لا تَقْبَلُ الاشتراك. * * * 4452 - عَن أَبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيمُ بنتُ عِمرَانَ وآسِيَةُ امرَأةُ فِرعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشةَ عَلَى سَائِر النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ". قوله: "كَمَلَ من الرجالِ كثيرٌ، ولم يكمُلْ من النساء إلا مريمُ"، الحديث. يعني: كَثُرَ أهلُ الكمال في الرجال وهم الأنبياءُ والأولياءُ، فإنهم الكاملون المكمِّلون. يعني: الكامِلون في أنفسهم، والمكمِّلون لغيرهم، على حسب مراتبهم في عِلْمهم ومعرفتهم بالله سبحانه. وأما النساء: فما كَمَلَ منهنَّ إلا مريمُ بنت عمران، وآسيةُ زوجةُ فرعون - رضي الله عنهما - في زمانهما؛ لأنه وردتْ أحاديثُ أخرى في كمال خديجةَ وفاطمةَ وعائشةَ رضي الله عنهن.

وسنذكر فضلَهن في (باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) مستقصًى مشروحًا - إن شاء الله تعالى - وحدَه. وقوله: "فضلُ عائشةَ على النساء كفَضْلِ الثَّرِيد على سائر الطعام"، سيأتي البحث في ذلك أيضًا في (باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) إن شاء الله. * * * مِنَ الحِسَان: 4453 - عَنْ أَبي رَزْينٍ قَالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ الله! أَينَ كَانَ ربنا قبلَ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَال: "كَانَ في عَمَاءٍ مَا تحتَهُ هَوَاءٌ ومَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وخَلَقَ عَرْشَهُ علَى المَاءِ"، وقَال يَزيدُ بن هَارُون: العَمَاءُ؛ أَيْ: لَيْسَ مَعَه شَيءٌ. قوله: "كان في عَماءٍ، ما تحته هواءٌ، وما فوقه هواءٌ، وخلقَ عرشَه على الماء"، قال في "الغريبين": قال أبو عُبيد: (العَمَاءُ): السحابُ في كلامِ العرب، لا يُدْرَى كيف كان ذلك العَماء. وحُكِيَ عن أبي الهيثم أنه قال: هو في عَمًى مقصود، قال: وهو أمرٌ لا تدركه عقولُ بني آدم، ولا يبلغُ كُنْهَه الوصْفُ، ولا يُدْرِكُه الفَطِنُ. (ما) في (ما تحته وما فوقه) للنفي؛ أي: ما فوقَه وما تحته هواءٌ؛ أي: شيءٌ، والواو في (وخلق) للحال، و (قد) مقدَّرة؛ يعني قد كان الله سبحانه في الأَزَل في عَمَاءٍ؛ أي: في صفةٍ لا ندري كيفيتَها، بل نؤمنُ بذلك، كما أرادَها، ونَكِلُ عِلْمَها إليه سبحانه، كما نعرفُ ذاتَه تعالى، ونؤمنُ به بلا كيف. فالحاصِلُ: أن هذا وأمثالَه وجبَ على السامع أن يؤمنَ بظاهره، ويصدِّقَه، ويعرضَ عن التفتيش في حقيقة ذلك حتى لا يقعَ في التشبيه والتعطيل. * * *

4454 - عَنِ العَبَّاس بن عَبْد المُطَّلِب - رضي الله عنه -: زَعَمَ أنَّه كانَ جَالِسًا في البَطْحاءِ في عِصَابةٍ ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فيهِمْ، فمرَّتْ سَحابَةٌ فنظَرُوا إليها، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تُسَمُّونَ هَذِه؟ "، قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ: "والمُزْنُ"، قَالُوا: والمُزْنُ، قَالَ: "والعَنَانُ"، قَالُوا: والعَنَانُ، قَالَ: "هَلْ تَدرَونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ؟ "، قَالُوا: لا نَدرِي، قَالَ: "إنَّ بُعْدَ مَا بينَهُما إِمَّا واحِدَةٌ وإِمَّا اثنَتانِ أو ثَلَاثٌ وسَبْعُونَ سَنةً، والسَّماءُ الَّتي فَوْقَها كَذلِكَ، حتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعَةِ بحرٌ بَيْنَ أَعْلاهُ وأَسْفلِهِ كَمَا بَينَ سَماءٍ إلى سَماءٍ، ثُمَّ فوقَ ذَلِكَ ثَمَانِيةُ أوْ عَالٍ بَيْنَ أَظْلافِهنَّ ورُكَبهنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إلى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهورِهِنَّ العَرْشُ بَينَ أَسْفلِهِ وأَعلاهُ مَا بَينَ سَماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ". قوله: "ما تُسمُّون هذه؟ قالوا: السَّحاب"، (ما) للاستفهام بمعنى التقرير، و (هذه) إشارة إلى السحابة، و (ما) مفعولٌ مقدَّم، و (هذه) مفعولُه الثاني، تقديره؛ أيُّ شيءٍ تسمون هذه؟، و (السَّحَابُ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هي السحاب، وكذلك (المُزْن) و (العَنان)، إن روي بالرفع، وإن روي بالنصب فهو مفعولُ فِعْلٍ مقدَّر، تقديرُه: نُسمِّيها السحابَ. "المُزْن": السحابُ الأبيضُ، واحدُه مُزْنَةٌ، و"العَنَان": السَّحَاب، وإنما سُمِّي عَنَانًا؛ لأنه عَنَّ في السماء؛ أي: ظَهر. قوله: "إنَّ بُعْدَ ما بينهما إمَّا واحدةٌ وإمَّا اثنتان أو ثلاثٌ وسبعون سنةً"، الضمير في (بينهما) يعود إلى السماء والأرض؛ يعني: بُعْدُ ما بين السماء والأرض إمَّا واحدةٌ وسبعون سنةً، أو اثنتان وسبعونَ، أو ثلاثٌ وسبعون سنةً، وكذا السماء التي فوق السماء الدنيا إلى السماء السابعة. قوله: "ثم فوقَ السماءَ السابعةِ بحرٌ بينَ أعلاه وأسفلِه كما بينَ سماءٍ إلى

سماء"، الضمير في (أعلاه وأسفله) يعودُ إلى البحر. قوله: "ثم فوقَ ذلك ثمانيةُ أوعالٍ بين أَظْلَافِهِنَّ وورِكِهِنَّ مثلُ ما بين سماءٍ إلى سماء ... " إلى آخره، (الأَوْعالُ): جمع وَعْل، وهو العنزُ الوحشيُّ، و (الأَظْلاف): جمع ظِلْفٌ، وهو للبقرة والشاة، والظِّلْفُ بمثابة الحافرِ للدَّابة، والوَرِكُ ما فوقَ الفَخِذ. وذلك إشارة إلى البحر؛ يعني فوق ذلك البحر ثمانيةُ أملاك، وهم الذين يحملون العَرْش، الضمير في "أسفله وأعلاه" يعود إلى العرش. قوله: "ثم الله فوق ذلك"، (ذلك) إشارة إلى العَرْش؛ يعني: الله سبحانه فوق العرش عُلُوًّا بالشأن لا بالمكان، تعالى عما يقول الجاهلون. * * * 4455 - عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْرابيٌّ فَقَال: جُهِدَتْ الأنفُسُ وجَاعَ العِيالُ، ونُهِكَتْ الأَمْوالُ، وهَلكَت الأَنْعامُ، فاسْتَسْقِ الله لَنَا، فإنَّا نستَشْفِعُ بِكَ عَلَى الله، ونستَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ، فَقَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سُبحَانَ الله، سُبحانَ الله"، فَمَا زَالَ يُسبحُ حتَّى عُرِفَ ذلكَ في وُجوهِ أَصْحَابهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَيْحَكَ! إنَّهُ لا يُستَشْفَعُ بالله علَى أَحَدٍ، شَأنُ الله أَعْظَمُ مِنْ ذلكَ، ويْحَكَ! أَتَدْرِي مَا الله؟ إنَّ عَرْشَهُ علَى سَمَاواتِهِ لَهَكَذا - وقَالَ بأَصابعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ عليهِ -، وإنَّه لَيَئِطُّ بهِ أطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِبِ". قوله: "جُهِدَت الأنفسُ، وجاعَ العيالُ، ونُهِكَت الأموالُ"، الحديث. (الجَهْدُ): المشقة، وبالضم: الطاقة. (الأنفس): جمع نفس، والنفسُ: الروحُ والدمُ والجَسَد، والمراد بها ها هنا الجسد.

(وجاع): فعل ماضٍ من الجوع، وهو ضد الشبع. (العيالُ): جمع عائل، مِن (عال) إذا افتقر. وعيالُ الرجل: من يَتَمَوَّنُه من الزوجة والأولاد والعبيد والإماء. "نُهِكَت" إذا نَقَصَتْ، يقال: نهكَتْه الحمَّى إذا جَهَدَتْه ونَقَصَتْه من قوته. "الأنعام": جمع نَعَم، وهو الإبلُ والبقرُ والغَنَم. "الاستسقاء": طلب السقي، و"الاستشفاع" طلب الشفاعة. "سبحان الله"، نصب على المصدر، ولا يتغيَّرُ نصبُه لأنه من مصادرَ لا تنصرف، (سبحان الله) كلمة تقالُ عند التعجُّب "الشأن": الأمر والحال، "ويحك"؛ يعني: أتى أعرابيٌّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مشتكيًا عن قلة المطر والجَدْب. فقال: يا رسول الله! أخذت النفوسُ في الفتك والشِّدَّة، والعيال في الجوع والعَبْرة، وهلكت المواشي والضروع، ونقصتِ الثمارُ والزُّروع، فاطلب من الله سبحانه أن يسقِيَنا بلُطْفه بغيثٍ مِدْرار ومُغيث، ونحن نطلبُ الشفاعة بوجودك على الله سبحانه، ونطلبُ الشفاعَة أيضًا بالله سبحانه عليك؛ يعني: نجعلُك شفيعًا على الله سبحانه؛ ليجيب دعاءنا، ونجعلُه تعالى شفيعًا عليك؛ ليحصل مقصودُنا، بأن تستسقيَ لنا من الله سبحانه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. "سبحان الله"، متعجِّبًا عن قوله: (إنا نستشفع بالله عليك). "فما زال"؛ أي: فما دام "يسبح"؛ أي: يكرر التسبيحَ "حتَّى عُرِفَ ذلك"؛ أي: التغيُّر "في وجوه أصحابه" - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ساءهم تكريرُ التسبيح منه - صلى الله عليه وسلم -، وتوهَّموا أنه غضبَ من هذا السؤال، فخافوا من غضبه، وتغيرتْ وجوهُهم خوفًا من الله تعالى، فلمَّا أَثَّرَ فيهم الحزنُ رقَّ لهم، وقطعَ التسبيحَ، وبيَّنَ عظمة الرب حتَّى نُزِّهَ أن يَجعلَ أحدًا من الخلق وسيلةً إليه، فإنه أعظمُ من ذلك.

ثم قال: "ويحك! شأنُ الله أعلى وأجلُّ أن يستشفِعَ على أحد"، ثم قال: "أتدري"؛ أي: أتعلم وتعرف "ما الله؟ "؛ أي: ما عظمةُ الله سبحانه؟ وطَفِقَ يقِّرر عظمة الله سبحانه وتعالى. وقال: "إن عرشَه على سمواته هكذا، وقال بأصابعه"؛ أي: أشار بأصابعه. قال الخطابي: هذا الكلام إذا أُجْرِيَ على ظاهره كان فيه نوعٌ من الكيفية، والكيفية عن الله سبحانه وصفاتِه منفيةٌ. فعُقِلَ أن المراد منه ليس تحقيقَ هذه الصفة ولا تحديدَه على هذه الهيئة، وإنما هو كلامُ تقريب، أريد به تقريرُ عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قُصِدَ به إفهامُ السائل من حيث يدركُه فَهْمُه، إذ كان أعرابيًا جِلْفًا لا علمَ له بمعاني ما دقَّ من الكلام، وبما لَطُفَ منه عن درك الأفهام. وقوله: "إنه ليئِطُّ به"؛ معناه: إنه ليعجزُ عن جلاله وعظمته حتَّى يَئِطَّ به، إذا كان معلومًا أن "أطيطَ الرَّحْلِ بالراكب" إنما يكون لقوةِ ما فوقَه، ولعَجْزِه عن احتماله. فقرَّر بهذا النوعِ من التمثيل عنده معنى عظمةِ الله وجلاله وارتفاعِ عَرْشِه؛ ليعلمَ أن الموصوفَ بعلو الشأن وجلالة القَدْر وفخامة الذَّكْر لا يُجْعَلُ شفيعًا إلى ما هو دونَه في القَدْر وأسفلَ منه في الدرجة، وتعالى الله عن أن يكون مشبَّهًا بشيء، أو مكيَّفًا بصورة خَلْق، أو مُدْرَكًا بحدٍّ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. * * * 4456 - عَنْ جَاِبرٍ بن عَبْدِ الله - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحدِّثَ عنْ مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ الله مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنيهِ إِلَى

عَاتِقِهِ مَسِيْرةُ سَبْعِ مِئَةِ عَامٍ". قوله: "أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَكٍ"، الحديث، يقال: أُذِنَ له في الشيء ففعله إذنًا. "الحَمَلَةُ"؛ جمع حامل. "شَحْمَة الأُذُن"، مُعَلَّقُ القُرْط؛ يعني: ما لان من الأذن. "العاتق"، موضعُ الرداء من الكَتِف، يذكَّرُ ويؤنَّث، ذكره في "منتخب الصحاح". يعني: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صرت مأذونًا مِن حضرته تعالى وتقدَّس أن أخبرَ أمتي عن كيفية عِظَمِ جُثَّةِ مَلَكٍ من الملائكة الذين يحمِلُون العرش، فقال: "ما بينَ شحمة أذنيه إلى كتفيه مقدارُ سبع مئة سنة"، فقدرتُه تعالى لا تتقاصر من خلق جثته، وأعظم من هذا، فإنه على كل شيء قدير. * * * 4457 - عَنْ زُرَارَةَ بن أَوْفَى - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِجبْريلَ عليه السلام: "هل رَأَيتَ ربَّك؟ "، فانتفضَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّ بَيني وبيْنَهُ سَبْعِيْنَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ لَو دنَوْتُ منْ بَعْضها لَاحْتَرَقْتُ. قوله: "فانتفضَ جبريلُ"، الحديث. (انتفضَ): إذا تحرَّكَ؛ أي: ارتعدَ شديدًا من عظمة ذلك السؤال. "الدنو": القرب، و"الحجاب": عبارةٌ عن كمال الله سبحانه وتعالى ونقصانِ جبريل، من حيث إن الله سبحانه وتعالى قديمٌ أزليٌّ أبديٌّ، وهو مخلوقٌ موسومٌ بسمة الحدوث، فالحجاب من طرف جبريلَ عليه السلام. وقول جبريل: "لو دنوتُ من بعضها لاحترقت"؛ يعني: لو تجاوزتُ على

فرض المحال عن مقامي المعلوم الذي أُمِرْتُ أن أعبدَ الله سبحانه وتعالى ثمَّةَ وهو في السماء؛ لاحترقتُ وهلكتُ. والدليل على هذا: قولُه تعالى حكايةً عن قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164]، فلهذا إذا سئل ارتعد خوفًا من الله سبحانه. وهذا الحديث دليلٌ على حقيقة رؤية الله سبحانه وتعالى في دار البقاء، فإنه إذا كانت مستحيلةً لما سألَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها. * * * 4458 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله خَلَقَ إسْرافيلَ مُنْذُ يَومَ خَلَقَهُ صَافًّا قَدمَيْهِ لا يَرْفَعُ بَصَرَه، بَيْنَهُ وبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعالَى سَبْعُونَ نُورًا، مَا مِنْها مِنْ نُورٍ يَدْنُو مِنهُ إلَّا احتَرقَ"، صَحَّ. قوله: "منذ يومَ خلَقَه صافًّا قدميه" (منذ) ها هنا حرفُ جر، وهو بمعنى (في)، و (صافًّا) نصب على الحال من الضمير المنصوب في (خلقه)، و (قدميه) مفعولُه. * * * 4459 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ الله تعالى آدمَ وذُرِّيَّتَهُ قَالَتِ المَلائِكةُ: يَا ربِّ! خَلَقتَهُمْ يَأْكُلونَ ويَشْرَبُونَ ويَنْكِحُونَ ويَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهمُ الدُّنيا ولَنَا الآخرة، قَالَ الله تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلقْتُهُ بِيَديَّ، ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحِي، كمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ". قوله: "لا أَجعلُ من خَلَقْتُه بيديَّ، ونفخْتُ فيه من روحي كمن قلتُ له: كن فكان".

1 - باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه

الضميرُ في (خَلَقْتُه) و (فيه) يعود إلى (من)، وهو آدمُ عليه السلام، وأضاف الروح إلى نفسه تعالى إضافَة المُلْك للتشريف والتخصيص، كبيت الله وناقة الله. يعني: لا أجعلُ كرامةَ من خَلَقْتُه بيديَّ؛ أي: بوَصْفَي الجلالِ والإكرام، وهو آدم وذريته صلوات الله عليه = كرامةَ مَنْ خلقتُه بكلمة: (كن)؛ أي: بمجرَّد الأمر، وهو المَلَك. يعني: لا يستوي البشرُ والمَلَك في الكرامة والقربة إلي، بل كرامةُ البَشَر أكثرُ، ومنزلتُه أَعلى وأجلُّ. وهذا من جملة ما يَستَدِلُ به أهلُ السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة صلوات الله عليهم. قال محيي السنة في "معالم التنزيل" في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]: والأَولى أن يقال: عوامُّ المؤمنين أفضلُ من عوامِّ الملائكة، وخواصُّ المؤمنين أفضلُ من خواصِّ الملائكة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]. ورويَ عن أبي هريرة عنه قال: المؤمن أكرمُ على الله من الملائكة الذين عنده. * * * 1 - باب فَضَائِلِ سَيدِ المُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ (باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه) (الفضائلُ): جمع فضيلة، وهي خلافُ النقيصة.

مِنَ الصَّحَاحِ: 4460 - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بني آدمَ قَرْنًا فقَرْنًا، حتَّى كُنتُ منْ القَرْنِ الذِي كُنتُ مِنْهُ". قوله: "بُعِثْتُ من خيرِ قرونِ بني آدمَ قَرْنًا فقَرْنًا، حتَّى كنتُ من القَرْن الَّذي كنتُ منه". قال في "شرح السنة": (القَرْنُ): كلُّ طبقةٍ مُقْتَرِنين في وقتٍ واحد، قيل: سُمَّيَ قَرْنًا؛ لأنه يَقْرِنُ أمةً بأمةٍ وعالَمًا بعالَمٍ، وهو مصدر (قَرَنْتُ)، وجُعِلَ اسمًا للوقت أو لأهله، وقيل: القَرْنُ ثمانون سنة، وقيل: أربعون سنة. وفي الحديث دليلٌ على تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الخَلْق، وعلى تفضيل أمته على سائر الأمم السابقة؛ لاتباعهم إياه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4461 - وقَالَ: "إِنَّ الله اصْطَفَى كِنانَةَ مِنْ ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُريْشًا مِنْ كِنَانةَ، واصْطَفَى مِنْ قُريْشٍ بني هَاشِمٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بني هَاشِمٍ". ويُرْوَى: "إنَّ الله اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْماعيلَ بني كِنَانَةَ". قوله: "إنَّ الله اصطفى كِنَانَة من ولدِ إسماعيلَ، واصطفى قُرَيشًا من كِنَانَة"، الحديث. يعني: أن الله سبحانه اختار كنانة من ولد إسماعيلَ؛ أي: من قبائلِ العرب، واختار قريشًا من كنانةَ، واختار بني هاشمٍ من قريش، واختارني - يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم. وأبو قريشٍ النَّضْر بن كِنَانة، بكسر الكاف، وقريشٌ سُمُّوا قريشًا؛ لأنهم

كانوا يَتَّجِرُون، ويسافرون للتجارة، وهي تصغير قَرْش، والقَرْشُ التكسُّبُ والجَمْع، أو لعِظَمِ أمرِهم وقُوَّتِهم فسُمُّوا بقريش، لأن القريشَ قيل: هي دابةٌ عظيمةٌ في البحر لا يقاوِمُها شيء. قال الشاعر: وقريشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْـ ... ــرَ بها سُمِّيتْ قريشٌ قُرَيشًا سُلِّطَتْ بالعُلُوِّ في لُجَّةِ البحـ ... ــر على سائرِ البحور جُيوشا تأكلُ الغَثَّ والسمينَ ولا تَتْـ ... ــرُكُ فيه لذي الجَناحين رِيشا هكذا في البلاد حَيُّ قريشٍ ... يأكلُونَ البلادَ أَكْلًا كَمِيشا ولهم آخرَ الزمانِ نبيٌّ ... يُكْثِرُ الصَّدَ فيهم والخُمُوشا قال ابن الحاجب في "شرح المفصل": قريشٌ على نوعين: قريشُ البَطْحَاء، وقريشُ الضَّواحِي. وقريشُ البطحاء: هم الذين نزلوا ببطحاءِ مكة، والبطحاءُ: تأنيث أَبْطَح، وهو مَسِيلُ الماءِ الذي فيه حجارةٌ صِغَارٌ. وقريشُ الضواحي: مَن خرجَ منها، والنازلون البطحاء خيرهم، والنازلون وسطها خيرَ الخَيْر، والضواحي جمع ضاحية، وهو بمعنى الناحية. يقال: ضاحية كلِّ شيء ناحيتُه البارِزَة؛ يعني: الذين نزلُوا ببطحاءِ مكةَ خيرٌ من الذين نزلوا بضواحيها، والذين نزلُوا بوسَطِ البَطْحاء خيرٌ من الذين نزلُوا بالبطحاء، وكان عادةُ ساداتِ قريشٍ أن ينزِلُوا بوسطِ بطحاءِ مكة. قيل: السرُّ في تفضيل قريشِ البطَاح: ورودُ جميعِ قبائلِ أيامِ الحاجِّ إليهم، فيخاطِبُونهم بلغاتٍ مختلفة، فعند إحاطتهم بجميعها يختارُون الأفصحَ من اللُّغَات، فإذا كانوا أفصحَ الباقين جاءَ اختيارُهم، إذ فضيلةُ العرب بالفصاحة،

ألا ترى أن القرآن غَلَبهم بشدة فصاحته. يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - من ساداتِهم، بل سيدُ ساداتِهم. * * * 4462 - وقَالَ: "أَنَا سَيدُ وَلَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ، وأوَّلُ مَنْ يَنشَقُّ عَنهُ القَبرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ". قوله: "أنا سيدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامة، وأولُ من ينشقُّ عنه القبر"، الحديث. "المُشَفَّعُ": مفعولٌ مِن (شُفِّعَ) إذا قَبلَ الشفاعة؛ يعني: أنا أول من تُعادُ فيه الروحُ يومَ القيامة، وأنا أولُ من يُشَفَّعُ للعصاة من أمتي، وأنا أولُ من تُقْبَلُ شفاعتُه. وفي الحديث دليلٌ على أنَّه أفضلُ من سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. وفيه دليلٌ أيضًا على ثبوت الشفاعة لغيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء والملائكة والمؤمنين. * * * 4463 - وقَالَ: "أَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَومَ القِيامَةِ، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقرَعُ بَابَ الجَنَّةِ". قوله: "أنا أكثرُ الأنبياء تَبَعًا يوم القيامة"، الحديث. "القَرْعُ": الدَّقُ، و (تَبَعًا) نصب على التمييز؛ أي: تَبَعِي أكثرُ من أتباع الأنبياء؛ يعني: أمتي أكثرُ من أمم جميع الأنبياء صلوات الله عليهم.

"وأنا أول من يدخل الجنة". * * * 4464 - وقَالَ: "آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الخازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأحَدٍ قَبلَك". قوله: "آتي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتح"، الحديث. (آتي): نفسُ متكلِّمٍ في المستقبل، مِن (أتى يأتي). (فأستفتح) أيضًا للمتكلِّم من الاستفتاح، وهو طلبُ الفتح. "الخازن": واحد الخَزَنَة، وهو مَلَكٌ موكَّلٌ بحفظ الجنة، سُمِّيَ خازنًا لأن الجنةَ خزانةُ الله سبحانه وتعالى، أعدَّها للمؤمنين، وهو حافظُها. "مَن" في "مَن أنت" للاستفهام بمعنى السؤال. "بك أُمِرْتُ"؛ أي: أُمِرْتُ بفتح بابك؛ يعني: أُمِرْتُ بأن أفتح لكَ بابَ الجنة أولُ، ثم لغيرك من الأنبياء والمرسلين. * * * 4466 - وقال: "نَحْنُ الآخِرونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلونَ يومَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لَهُمْ قَبْلَ الخَلائقِ". قوله "نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأَوَّلونَ يومَ القيامة، المقضيُّ لهم قَبْلَ الخلائق". (المَقْضيُّ): مفعولٌ مِن قضى حاجته يقضي، وأصلُه: مَقْضُوْي، على وزن مَفْعُول، قُلِبَت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فصار مَقْضيًا. و (الخلائِقُ): جمع خَلِيقة، وهي الخَلْق، الضمير في (لهم) يعودُ إلى الأولين.

يعني: نحن الآخرون زمانًا، والأولون فضيلةً وقدرًا، وتنقضي حوائجنا؛ يعني: حوائج أمتي من الحساب، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل قضاءِ حوائج الخلائق. * * * 4467 - وقَالَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ في الجَنَّةِ، لمْ يُصَدَّقْ نبيٌّ مِنَ الأَنبياءِ مَا صُدِّقْتُ، وإنَّ مِنَ الأَنبيَاءِ نَبيًّا مَا صَدَّقهُ منْ أُمَّتهِ إِلَّا رَجُلٌ واحِدٌ". قوله: "أنا أولُ شفيعٍ في الجنة، لم يُصَدَّقْ نبيٌّ من الأنبياء"، الحديث. (الشفيعُ)؛ يعني: الشافع؛ أي: أنا شافعٌ للعصاة من أمتي في دخول الجنة. (ما) في (ما صُدِّقْتُ) للمصدر؛ أي: ولم يُصَدَّقْ نبيٌّ من الأنبياء تصديقًا مثل تصديق أمتي إياي، فالأنبياء في الأتباع والتصديق يتفاوتون، فمنهم من صدَّقه كثيرٌ من الناس كموسى عليه السلام، ومنهم مَنْ صَدَّقَه قليلٌ كنوح ولوط عليهما السلام. ومنهم مَن صَدَّقَه أقلُّ من القليل وهو واحدٌ، كمن ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث. * * * 4468 - وقَالَ: "مَثَلي ومَثَلُ الأَنْبياءِ كمثَلِ قَصْرٍ أُحسِنَ بنيانُهُ، وتُرِكَ مِنْهُ مَوْضعُ لَبنةٍ، فَطَافَ بهِ النُّظَّارُ يتَعجَّبونَ مِنْ حُسْنِ بنيانِهِ إلَّا مَوْضعَ تِلكَ اللَّبنةِ، فكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضعَ تِلْك اللبنةِ، فتَمَّ بيَ البنيانُ، وخُتِمَ بيَ الرُّسُلُ". وفي رِوَايَةٍ: "فَأنَا اللَّبنةُ، وأَنَا خَاتَمُ النَّبيينَ".

قوله: "مَثَلي ومثلُ الأنبياءِ كمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بنيانُه"، الحديث. (القَصْرُ): واحد القصور، وهو دارٌ رفيعةٌ، عاليةُ البنيان، جمع بناء، و (اللَّبنة): واحدة اللَّبن، وهو ما يُبنى به البيوت. "طاف" طوفًا وطَوَفانًا: إذا دار حولَ الشيء. "النُّظَّار": جمع ناظر [مثل] الكتَّابُ جمع كاتب. "سَدَدْتُ"؛ أي: أَصْلَحْتُ الخَلَل؛ يعني: مَثَلِي في تبليغ الرسالة إلى الكافَّةِ ومَثَلُ سائر الأنبياء صلوات الله عليهم في تبليغ رسالتهم إلى أممهم كمَثَل قَصْرٍ، قَوِيَ أساسُه وكامِلُ بنيانِه، سوى مقدارِ لَبنةٍ، فإنه قد بقيَ من بنيانه قَدْرُ ذلك، بحيث إنه مَن دخلَ فيه مثلًا، ونظر إليه، فقد أعجَبه حسنُه، إلا مقدارَ تلك اللَّبنة المستعمَرة، فسدَدْتُ تلك الفُرْجَة، وأصلَحْتُها، وذلك كناية عن نبوتي ورسالتي على الكافة، التي هي الخاتمة لبنيان دارِ النبوة، والرافعة لأداء الرسالة. * * * 4469 - وقَالَ: "مَا مِنَ الأنبياءِ مِنْ نبيٍّ إِلَّا قدْ أُعطِيَ مِنَ الآياتِ مَا مِثْلُهُ آمنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِى أُوتيْتُ وَحْيًا أَوْحَى الله إليَّ، فأرجُو أنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابعًا يَوْمَ القِيامةِ". قوله: "ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطيَ من الآيات"، الحديث. (من) في (من نبي) زائدة، لأنها تزادُ بعد النفي إجماعًا، و (من) في (الأنبياء) و (من) في (من الآيات) للبيان لِمَا مثَّلَهُ، وهي ها هنا بمعنى المعجزات، واحدتُها آيةٌ. و (ما) في "ما مِثْلُه" موصولٌ، و (مِثْلُه) مبتدأ، و"آمن" خبره، والموصولُ مع صلته المفعولُ الثاني لـ (أعْطِيَ)؛ يعني: ما كان نبيٌّ من الأنبياء إلا أنَّ الله

تعالى أعطاه شيئًا من المعجزات مِثْل ما آمنَ عليه البشرُ، وصدقوه؛ أي: ما يناسِبُه في ذلك الزمان، وينقادُ له أهلهُ، كقلب العصا ثعبانًا في زَمَنِ موسى، وإخراج اليد البيضاء؛ لأنَّ الغلبةَ في زمنهِ السحرُ، فأتاهم بما هو فوقَ السحر، وفي زمن عيسى الطِّبُّ، فأتاهم بما هو أعلى من الطب، كإحياء الموتى، وإبراء الأَكْمَه، وفي زمن رسولنا البلاغة والفصاحة، فجاء القرآن، وأبطَلَ الكُلَّ. و (إنما) في "إنما كان الذي" للحَصْر؛ يعني: ما كان الذي أعطيت إلا وحيًا. وفي الحديثِ إشارةٌ إلى معنًى دقيقٍ، وهو الوَحْيُ المنزَّل عليه، وهو عبارةٌ عن القرآن العظيم، الذي هو أعظمُ معجزاتهِ، الذي لا ينقرِضُ بموته، بل يبقى إلى يوم القيامة، وإذا استمرَّ المُعْجِزُ كَثُرَ أتباعه، فيكثُرُون كلَّ وقت، فلا ينقطعُ إلى منقرَضِ العالم، وغيرُه من الأنبياء انقرضَتْ معجزاتُهم بموتهم، فلذلك قلَّ تَبَعُهم. * * * 4470 - وقَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرَةَ شَهرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أدرَكَتْهُ الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ ولمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النبي يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّة". ويُروَى: "فُضلْتُ على الأَنْبياءِ بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوامعَ الكَلِم - وذكرَ هذهِ الأَشْيَاءَ إلَّا الشَّفاعةَ وَزَاد: - وخُتِمَ بيَ النَّبيُّونَ". قوله "أُعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهن أحدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بالرُّعْب"، الحديث. خمسًا؛ أي: خمسَ خصال:

الأولى: (نصرت بالرعب)، والثانية: "وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا"، والثالثة: "وأُحِلَّتْ لي الغنائم"، والرابعة: "وأُعطيتُ الشفاعة"، والخامسة: "وبعثْتُ إلى الناس عامَّةً". (الرُّعب) - بضم الراء -: الخوف. "مسيرة شهر": مسافة شهر. قال في "شرح السنة": (نُصِرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر)؛ معناه: أن العدَّو يخافني وبيني وبينه مسيرةُ مسافةِ شهرٍ، وكان ذلك من نصرِ الله - عَزَّ وَجَلَّ - إياه. قوله: (وجُعلت لي الأرض مسجدًا)، أراد أن أهلَ الكتاب ما أبيحتْ لهم الصلاةُ إلا في بِيَعهم وكنائسهم، والبيَعُ جمع بَيْعَة، وهو موضعُ الصلاة للنصارى، والكنائس: جمع كنيسة وهي موضع الصلاة لليهود. وأباح الله لهذه الأمة الصلاةَ حيث كان، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثم خصَّ منها المقبرة والحمام والمكان النَّجِسَ، فنُهُوا عن الصلاة فيها نهيَ كراهةٍ لا نهيَ تحريم. قوله: "وطَهُورًا"، أراد به الترابَ، كما بيَّنه في الحديث الآخر: "وجُعِلَتْ تربتُها لنا طَهُورًا". قوله: (وأُحِلَّت لي الغنائمُ)، أراد أن الأممَ المتقدمةَ منهم من لم يكن أُبيح لهم جهادُ الكفار، فلم يكن لهم مغانمُ، ومنهم من أُبيحَ لهم الجهادُ، ولكن لم يُبَحْ لهم الغنائم، فكانت غنائمهم تُوْضَع، فتأتي نارٌ فتحرقها، وأباحها الله لهذه الأمة. (الغنائم): جمع غنيمة، وهي ما يُؤْخَذُ من أموال الكفار قهرًا. قوله: (وأُعْطِيتُ الشفاعة)، فهي الفضيلة العظمى التي لا يشاركُه فيها أحدٌ يوم القيامة، وبها سادَ الخلقَ كلَّهم، حتى قال: "أنا سيد ولد آدم"، وهو

المقامُ المحمودُ الذي أعطاه - عَزَّ وَجَلَّ -، الألف واللام في قوله: "وكان النبيُّ قبلي" للجِنس عند النحويين، والعهدِ عند الأصوليين، وهو لبيانِ الماهيَّةِ المتعلِّقة في الرسل، لا لتعيين الذات، وتلك الماهيَّةُ عبارةٌ عن النبوة، وهي إخبارٌ عن الله سبحانه وتعالى إلى عباده، فكلُّ مَن وجدَ فيه هذا المعنى يُسمَّى نبيًا، فعلى قول النحويين معناه: كان الأنبياء قبلي. وعلى قول الأصوليين قوله: (كان النبي) يشمل جميع الأنبياء على سبيل البدل، وعلى المذهَبين جميعًا معناه: كان جميع الأنبياء - صلوات الله عليهم - قبلي يُبْعَثُون إلى أقوامٍ مخصوصين؛ يعني: يبعث كلُّ واحدٍ منهم إلى قومه خاصةً، وبُعِثْتُ إلى كافَّةِ الخَلْق. قوله: "ويروى: فُضلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ"؛ أي: بسِتِّ خِصَالٍ، وفي رواية أخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فُضلْتُ على جميع الأنبياء بسِتِّ خصال، وهي عبارةٌ عن الخصالِ الخمسِ المتقدمة، وذكرها كلَّها سوى الشَّفَاعة. "وزاد" على الخمس: "وخُتِمَ بي النَّبيون". * * * 4471 - وَقَالَ: "بُعِثْتُ بجَوامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وبَيْنا أَنَا نائِمٌ رأَيتُني أُتيتُ بِمَفاتِيح خَزائِنِ الأَرْضِ فوُضعَتْ في يَدِي". قوله: "بعثت بجوامعِ الكَلِم"، الحديث. (الجوامع): جمعُ جامعةٍ، وهي التي تَجْمَع، و (الكَلِمُ): جمع كلمة، وهي ما يُتَكلَّمُ به، في اللغة، وفي الاصطلاح: عبارةٌ عن اسمٍ واحد، أو فعلٍ مَحْضٍ واحد، أو حرفٍ واحدٍ. قال في "الغريبين": يريدُ بجوامع الكَلِم القرآنَ، جمعَ الله بلُطْفِه في

الألفاظ اليسيرة - أي: القليلة - منه معاني كثيرة. وقال في "شرح السنة": معناه: إيجازُ الكلامِ في إسباغ من المعاني، فالكلمة القليلةُ الحروفِ منها ما يتضمَّنُ كثيرًا من المعاني، وأنواعًا من الأحكام. الإيجاز: مصدر أوجز الكلام إذا قصره، والإسباغُ: مصدر أسبغَ عليه النعمة إذا أتمَّها. قوله: "رأيتني أُتيتُ بمفاتيح خزائنِ الأرض"، (رأيتني): من الرؤيا، اجتمعَ فيه ضميرُ الفاعل والمفعول، وهذا من خاصية أفعال القلوب؛ لأنه لا يستحيل اجتماعُ الفاعل والمفعول فيها، يقول: ظننتُني منطلِقًا، فالمفعولُ الأول متيقَّن، والثاني مظنونٌ، لأن المفعولَ الأول ذاتُك، ولا شكَّ لك في ذاتك، فإذا كان كذلك لم يجتمعْ ضميرا الفاعل والمفعول في الحقيقة، فحينئذ (رأيتني) بمعنى عَلِمْتُني. (المفاتيح): جمع مِفْتَاح، وهو ما تُفتَحُ به الأبواب. (الخزائن): جمع خزانة، قال في "الغريبين": الخِزَانة: عمل الخازن، أو الموضع، أو الوعاء الذي يُخْزَنُ فيه الشيء، مِن (خَزَنَ المال) إذا غيَّبَه. قال في "شرح السنة": يحتملُ أن يكونَ هذا إشارةً إلى ما فُتِحَ لأمته وجنودِه من الخزائن، كخزائنِ كسرى وقيصر، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ منه: معادنَ الأرض التي فيها الذهبُ والفضةُ وأنواعُ الفِلِزِّ؛ أي: ستُفْتَحُ البلدانُ التي فيها هذه المعادنُ والخزائنُ، فتكونُ لأمته. قال أبو هريرة: ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تَنْشِلُونها، أي: تستَخْرِجُونَها، الفِلِزُّ: ما ينقِّيه الكِيرُ مما يذابُ من جواهر الأرض. المعادِنُ: جمع مَعْدِن، مِن عدنْتُ البلدَ: توطَّنْتُه، وسُمِّيَ معدِنًا؛ لأن الناس يقيمون فيه الصَّيفَ والشتاءَ. * * *

4472 - وقَالَ: "إنَّ الله زَوَى لِيَ الأَرْضَ فرَأَيتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِي مِنْها، وأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمرَ والأَبْيضَ، وإنِّي سَألتُ رَبي لأُمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأَنْ لا يُسلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهِمْ فَيَستَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، وإنَّ رَبي قَالَ: يا محمّدُ! إنِّي إذَا قَضَيتُ قَضَاءً فإنَّهُ لا يُرَدُّ، وإِنِّي أَعْطَيْتُك لأُمَّتِكَ أنْ لا أُهلِكَهُمْ بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأنْ لا أُسلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهِمْ فيَستَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، ولو اجتَمعَ عَلَيْهِم مَنْ بأَقْطَارِهَا، حتَّى يكُونَ بعضُهُمْ يُهلِكُ بعضًا ويَسبي بعضُهُمْ بَعضًا". قوله: "وإنَّ أمتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها"، الحديث. (زُوِيَ): ماضٍ مجهول، معناه: جُمِعَ، (زَوَى) إذا تعدَّى بـ (إلى) معناه: جمع، وإذا تعدَّى بـ (عن) معناه: بَعَّد. قال في "الغريبين": زُوِيتْ لي الأرضُ؛ أي: جُمِعَتْ. وقال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لمَّا زوى الله عنك من الدنيا؛ أي: لما نَحَّى عنك. قال الخطابي: توهَّمَ بعض الناس أن حرف (مِن) ها هنا للتبعيض، وليس ذلك على ما توهَّمُوه، وإنما معناه التفصيلُ للجملة المتقدمة، والتقديمُ لا يناقِضُ الجملة، لكن يأتي عليها، ويستوفيها جزءًا جزءًا. والمعنى: أن الأرضَ زُويتْ جملتُها له مرةً واحدةً فيراها، ثم هي تُفتَحُ له جزءًا فجزءًا، حتى يأتي عليها كلِّها. "الكنز": المالُ المدفون. قيل: أراد بـ "الأحمر والأبيض" كنوزَ كسرى من الفضة والذهب، أفاءَها الله على أمته.

وقيل: أراد العربَ والعجمَ، جَمَعَهم الله في دينه ودعوته، ذكرهما في "الغريبين". قال الحافظ أبو موسى: (الأَحْمَرُ): ملك الشام، و (الأبيضُ): مَلِكُ فارس، قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَفْر الخندق. قال إبراهيم الحربي: إنما قال لملكِ فارسَ الكنز الأبيض؛ لبياض ألوانهم، وكذلك قيل لهم: بنو الأحرار؛ يعني: البيض، ولأن الغالبَ على كنوزهم الوَرِقُ، وهو الأبيضُ، وإنما فتحها عمر - رضي الله عنه -، وأخذ أبيضَ المدائن، وهو موضعُ المسجدِ اليوم. قال: والغالب على ألوان أهل الشام الحمرةُ، وعلى بيوت أموالهم الذهبُ، وهي حمراء. (السَّنَةُ): القَحْطُ، (العامَّة): ضدُّ الخاصَّة، من عَمَّ عمومًا، إذا شملَ، "سنة عامة"؛ أي: قَحْطٌ شاملٌ لجميعِ الخلق، "التسليطُ": الغلبة والقهر. "يستبيح بَيْضَتَهم"، قال في "الغريبين": قال شمر: يريد جماعتَهم وأصْلَهم. وقال الأصمعيُّ: بيضةُ الدار وَسَطُها ومُعْظَمُها، (الاستباحةُ): الاستحالة. "الأقطارُ": جمع قُطْر، وهو الجانبُ والنَّاحِيةُ. "يَسْبي": مضارعٌ مِن (سبَى يَسْبي سَبْيًا)، إذا أسرَ أسيرًا؛ يعني سألتُ الله سبحانه وتعالى ألَّا يُهْلِكَ أمتي بقَحْطٍ يشمَلُ جَمِيعَهم، بحيث يَسْرِي إلى جميع بلدان المُسْلِمين وأمصارِهم، وألَّا يغلب عليهم الأعداءُ من غيرهم؛ أي: من الكفرة، فيستأصلوهم، فأجابَ الله دعاءَه - صلى الله عليه وسلم - عليهم. وقال: "يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُك لأمتك أن لا أُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ" إلى آخره.

قوله: "إني قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ"؛ يعني: إذا حكمتُ بوقوعِ شيءٍ فإنه غير مردودٍ لا محالة. واعلمْ أنَّ لله تعالى قضى في خلقه قضاءين مبرَمًا ومُعَلَّقًا، وأمَّا القضاءُ المُعَلَّقُ فهو عبارةٌ عما قَدَّرَه في الأَزَل مُعَلَّقًا بفِعْل، كما قال: إنْ فَعَلَ الشيءَ الفلانيَّ فكان كذا أو كذا، وإن لم يفعلْه فلا يكونُ كذا وكذا. وهو من قَبيل ما يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثباتُ، كما قال تعالى في مُحْكَم كتابه {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. وأما القضاء المُبْرَمُ؛ فهو عبارةٌ عما قَدَّره سبحانه في الأزل من غير أن يُعَلِّقَه بفعل، فهو في الوقوع نافذٌ غايةَ النَّفَاذ، بحيث لا يتغيَّرُ بحالٍ، ولا يتوَّقفُ على الَمْقضيِّ عليه ولا الَمْقضيِّ له؛ لأنه من عِلْمِه بما يكون وبما كان، وخلافُ معلومه مستحيلٌ قطعًا، وهذا مِن قَبيلِ ما لا يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثبات، قال الله - عز وجل -: و {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا مردَّ لقضائه، ولا مانعَ لحكمه". فقولُه - صلى الله عليه وسلم - حكايةً عن الله سبحانه: "إني قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ" من القَبيل الثاني، وما ذَكَرَه تعالى في إجابة دعاءِ حبيبه - صلى الله عليه وسلم - إلا لتأكيد الإجابة، والاعتماد عليها غايةَ الاعتماد. * * * 4473 - عَنْ سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بمَسجِدِ بني مُعَاوِيةَ، دَخَلَ فرَكعَ فيهِ رَكعتَيْنِ، وصَلَّيْنا مَعَهُ، ودَعا ربَّهُ طَوْيلاً، ثمَ انْصَرَفَ، فَقَال - صلى الله عليه وسلم -: سَأَلْتُ ربي، ثَلاَثًا فأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، ومَنعَنِي وَاحِدةً: سَألتُ ربي أنْ لا يُهلِكَ أُمَّتِي بالسَّنَةِ فأَعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُهلِكّ أُمَّتي بالغَرَقِ فأعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمَنعَنِيها".

قوله: "مرَّ بمسجدِ بني معاوية دخلَ فركعَ فيه ركعتين"، الحديث. (مسجد بني معاوية)، قيل: هو في المدينة حرسها الله، وبنو معاويةَ بطنٌ من الأنصار. "ركع"؛ أي: صلَّى طويلاً؛ أي: دعاءً طويلاً. "انصرفَ": رجع، "البأس" ها هنا: الشدة في الحرب، يريد "بالغرق": الغَرَق العام. يعني: سألتُ ربي أَلاَّ يُهلكَ جميع أمتي بالغَرَق، كما غَرِقَ قوِمُ فرعونَ كلُّهم، وكما غَرِقَ قومُ نوح عليه السلام بالطوفان. "فأعطانيها"؛ أي: أعطاني الله تعالى تلك المسألة، فأجاب دعائي فيها. وسألتُه تعالى ألاَّ يوقِعَ بين أمتي الحربَ الشديدةَ، "فمَنَعَنِيها"؛ أي: فمَنَعَنِي تلكَ المسألةَ، وما أجابَ دعائي فيها. * * * 4474 - عَنِ عَطَاءِ بن يَسَارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقِيْتُ عَبْدَ الله بن عَمرِو بن العَاصِ - رضي الله عنه - قُلْتُ: أخبرْني عَنْ صِفةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في التَّوْراةِ، قَالَ: أجَلْ، والله إنَّهُ لمَوصُوفٌ في التَّوْراةِ ببعْضِ صِفتِهِ في القُرآنِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وحِرْزًا للأُمييْنَ، أَنتَ عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتوكِّلَ، لَيْسَ بفَظٍّ ولا غليْظٍ ولا سَخَّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يَدْفَعُ بالسَّيئةِ السَّيئةَ ولكنْ يَعفُو ويَغْفِرُ، ولنْ يَقبضَهُ حتَّى يُقيمَ بهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلهَ إلاَّ الله، وتُفتَحُ بِهَا أَعيُن عُميٌ، وآذان صُمٌّ, وقُلوبٌ غُلفٌ، ورَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابن سَلاَم. قوله: "قال أَجَلْ، والله إنه لموصوفٌ في التوراة"، الحديث.

(أَجَلْ) في التصديق مِثْلُ (نَعَم) في الاستفهام. الضمير في (إنه) للرسول - صلى الله عليه وسلم -، و (إنه) جوابُ القسم. الحِرْزُ: الحِفْظُ، الأُمِّيُّ ها هنا منسوبٌ إلى أمَّ القرى، وهي مكة، ويحتمل أن يقال: منسوب إلى ما عليه العربُ، وهو عدم الكتابة، قال في "الغريبين" في تفسير "بُعِثْتُ إلى أمةٍ أُمِّية": قيل: هي التي على أصل ولادِة أُمَّهاتها، لم تتعلَّمِ الكتاب. قوله: "وحِرْزًا للأميين": معناه: أنه من جملة صفاتِه المذكورةِ في التوراة أنه - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ حفظًا لأمته من عذاب الاستئصال، كما ذُكِرَ في الحديثين اللذين تقدَّما. وقيل: معناه: وحفظًا لهم من العذاب مطلَقًا ما دامَ فيهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. "الفظ": الرجل الغليظ، و"الغليظ": فعيلٌ مِن (غَلُظَ غَلَظًا) إذا كان فيه فظاظة. قال في "شرح السنة": معنى قوله: "ليس بفظًّ"؛ أي: غليظِ الجانب، سيئ الخُلُق، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. "الصَّخَّاب": كثير الصَّخَب، والصَّخَبُ: الصياحُ. (دَفَع) إذا مَنعَ، فقوله: "لا يدفَعُ السيئةَ بالسيئة"؛ معناه: لا يسيء إلى مَن أساءَ إليه، بل يعفو عن المسيء، ويُحْسِنُ إليه، وتسمية الثاني سيئةً ازدواجٌ. "الإقامة" ها هنا بمعنى التقويم، والتقويم: جعلُ الشيء مستقيمًا. "المِلة" - بكسر الميم -: الدِّين والشَّريعة.

"العوجاء": ضد المستقيمة. قوله: "يُقيمُ به المِلَّةَ العَوْجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله": معناه: أنَّ الله سبحانه قال: يُزيلُ الكُفْرَ بوجودِ رسولي وحبيبي - صلى الله عليه وسلم -، أنْ يدعوَ الناسَ عن آخرِهم إلى كلمةِ التوحيد، وهي اعترافُهم بأنه لا إله في عالَمِ الوجودِ وفي الوجود إلا الله سبحانَه وتعالى برسالته - صلى الله عليه وسلم -. و (لا) في "لا إله" لنفي الجنس، و (إله) اسمه، وخبره مقدَّرٌ؛ أي: في الوجود، والله مرفوعٌ بدلاً عن محلِّ المَنْفيِّ، و (لا) مع المنفي مبنيٌّ على الفَتْح؛ لتضمُّنهِ (مِنْ) الاستغراقية. "الأعين": جمع عين، "العُمْي" - بضم العين -: جمع أعمى، و"الصم": جمع أَصَمَّ، و"الغُلْفُ": جمع أَغْلَف، وهو الذي لا يَفْهَم، كأنَّ قلبه في غِلاَف. فقوله: "تفتح بها ... " إلى آخره، قيل: معناه: أنه يفتحُ أعينَ الكُفَّار الذين ذَكَرَهم الله في كلامه القديم وآذانَهم وقلوبَهم بكلمة لا إله إلا الله؛ يعني: يدعوهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان، ويحرِّضُهم على ذلك، فيوِفِّقهم الله تعالى لَقبوله والامتثال بأوامره سبحانه، قال الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]. * * * مِنَ الحِسَان: 4475 - عَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً فأطَالَها، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! صَلَّيْتَ صَلاَةً لمْ تكُنْ تُصلِّيْها! قال: "أجَلْ، إنَّها صلاةُ رَغْبَةٍ ورَهْبَةٍ، إِنَّي سَألتُ الله فِيها ثلاثًا فأَعْطانِي اثنتَيْنِ ومَنعنِي واحِدَةً: سَأَلتُهُ أَنْ لا يُهلِكَ أُمَّتي بسَنَةٍ فأَعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُسلِّطَ علَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ

غَيْرهِمْ فأعْطانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُذيقَ بَعْضَهُمْ بأْسَ بعْضٍ فمنعَنِيها". قوله: "إنها صلاةُ رَغْبةٍ ورَهْبةٍ"؛ أي: صلاةٌ فيها رغبة إلى الله تعالى، ورَهْبةٌ؛ أي: خوفٌ منه تعالى؛ يعني: صلاةٌ مشتمِلَةٌ على الخضوع والخشوع، تعليمًا لأمته إذا ظهرَ لهم أمرٌ عظيمٌ وخوفٌ شديدٌ، أو رجاءٌ إلى الله سبحانه، يلتجِئون إلى صلاةِ رغبةٍ ورَهْبةٍ، ليزولَ عنهم ذلك بفضْلِه ورحمته. ويحصلُ ذلك المطلوبُ بلُطْفِه، وما كانت صلاتُه - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذه الكيفية المذكورة؛ يعني: مشتمِلَةً على الخضوع، لكنه أظهرَ عن نفسه الخضوعَ في هذه الصلاة تَلْقِينًا لهم، حتى يعرِفُوا كيفيةَ السؤالِ مِنْ حَضْرَتِه تعالى. * * * 4476 - عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاثِ خِلالٍ: أنْ لا يَدعُوَ عَلَيكُم نبيُّكُم فتَهلِكُوا جَمِيْعًا، وأنْ لا يَظهرَ أَهْلُ البَاطِلِ على أَهْلِ الحَقِّ، وأنْ لا تَجتمِعُوا على ضَلاَلةٍ". قوله "إن الله - عزَّ وجلَّ - أَجَاركُمْ من ثلاثِ خِلاَلٍ"، الحديث. (أجارَ) إذا حَفِظَ، (الخِلالُ): جمع خَلَّة، بفتح الخاء، وهي الخَصْلةَ؛ يعني: أنَّ الله سبحانه حَفِظَكم من ثلاثِ خِصَالٍ، كرامة لكم، وتعظيمًا لنبيكُم - صلى الله عليه وسلم -. الأُولى: "أن لا يدعوَ عليكُم نَبيُّكم"؛ يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم -،"فَتْهلَكُوا"؛ أي: فتَهْلَكُوا كلُّكُم، كما دعا الأنبياءُ على أُمَمهم، فهَلَكُوا حين ما آمنوا بهم، وما صدَّقُوا ما أَتَوا به مِن عندِه تعالى. والثانية: "أن لا يظهرَ أهلُ الباطل على أهلِ الحق"، قيل: ألاَّ يغلِبَ الكُفَّارُ على المُسْلمِين، بصرفهم عما هو حقٌّ؛ يعني: عن الإسلام إلى الكفر، كما فَعَلَ الكُفَّارُ بقوم موسى عليه السلام في غيبته بأنْ حَمَلُوهم على عِبادَةِ

العِجْل، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. والثالثة: "أن لا تَجْتَمِعُوا على ضلالة"، قيل: معناه: لا تَتَّفِقُوا على شيءٍ باطلٍ، فإنكم إذا اتفقتُم على شيءٍ فهو حقٌّ، يقومُ مَقامَ النَّصِّ، ومَنْ خالَفَه فهو على الباطلِ، قال الله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] , وفيه دليلٌ على أن إجماعَ الأمة مُتَّبَعٌ في الأحكام الشرعية. * * * 4477 - وعَنْ عَوْفِ بن مالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَجْمَعَ الله تعالى على هذِهِ الأُمَّةِ سَيفَيْنِ: سَيفًا مِنْها وسَيفًا مِنْ عدُوَّها". قوله: "لن يَجْمَعُ الله على هذه الأمةِ سيفين، سيفًا منها وسيفًا من عَدُوِّها"؛ يعني: لا يَجْمَعُ أبدًا على هذه الأمة؛ يعني: الأمةَ المسلمةَ، الذين آمنوا بي وصدَّقُوا ما أَتيتُ به من عندِ الله سبحانه من الآيات = سيفين؛ أي: المحاربةُ العامةُ منهم ومن الكفار؛ يعني: لا يجتمعُ عليهم الكفارُ والمسلمونَ جميعًا بالمحاربة معهم، بل إمَّا أن يحارِبَ بعضُ المسلمين بعضًا، أو يحاربَهم الكُفَّارُ، و (لن) لتأكيد النفي، والمبالغةِ في المستقبل. * * * 4478 - عَنِ العَبَّاس - رضي الله عنه -: أَنَّه جَاءَ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكأنَّهُ سمِعَ شَيْئًا، فَقَامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى المِنْبَرِ فَقَالَ: "مَنْ أَنَا؟ "، فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ الله، قَالَ: أَنَا مُحمَّدُ ابن عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب، إنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرقتَيْنِ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ فِرقةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ

قَبيلةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيوْتًا فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نفْسًا وأَنَا خَيْرُهُمْ بَيتًا". قوله: "فكأنه سَمِعَ شيئًا، فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبر"، الحديث. الضميرُ في (كأنه) للعَبَّاس؛ يعني: كَأَنَّ العباسَ عمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ شيئًا في حَقَّه. "فقام على المِنْبر"؛ أي: وَعَظَ أُمَّتَه. فقال: "من أنا؟ " (مَنْ) للاستفهام، سؤالُ تقرير، و (أنا) عائدٌ إلى حقيقته وكماله النَّبوي المُصْطَفَوي الذي ما كانوا يعرفونه، وما عرفوا، ثم بَيَّنَ بعضَ كمالاته وفضائله. فقوله: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب"، تواضُعًا منه - صلى الله عليه وسلم - مع فضائله التي لا تُحْصَى، وتَلْقينًا لأمته بالتواضع. فقوله: "ثُمَّ جَعَلَهم فِرْقَتين"؛ أي: صَيَّر الخلقَ فريقين: العربَ والعَجَمَ. "فجَعَلني في خيرهم فِرْقَةً"، (فِرْقَةً) نُصِبَ على التمييز؛ أي: خَلَقَني في خيرِ الخَلْق، وهم العَرَب. "ثُمَّ جعلَ العربَ قبائلَ، فجعلني في خيرِهم قبيلةً"؛ أي: خَلَقَني في القبيلةِ التي هي خيرُ القبائل، وهي قريشٌ. "ثم جَعَلَ تلك القبيلةَ بيوتًا"؛ أي: بُطونًا، والبطونُ: جمع بَطْنٍ، وهو دونَ القبيلة. "فجَعَلَني في خيرِهم بيتًا"؛ أي: خَلَقَني في خيرِ البيوت، وهم قبيلةُ هاشم. "فأنا خيرُهم نَفْسًا، وخَيرُهم بيتًا"؛ يعني: إذا تقرَّرَ هذا فأنا خيرُ جميعِ الخلائق نَفْسًا وبيتًا.

وتلخيص المعنى: أن وجودَه الطاهرَ ودُرَّه النبويَّ الزاهر - صلوات الله عليه - حُفِظَ في صُلْبِ آدمَ بنظرِ العناية، وغُذِيَ بلُبَابِ المَحَبَّة، وشَرُفَ آدمُ وبنوه به - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بنزوله ظهرًا فظهرًا إلى أن وصل إلى قبيلة هاشم، وهو بالإضافة إلى سائر الخلائق شرفًا وفضلًا، كالقلب بالإضافة إلى سائر الأعضاء. * * * 4479 - عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا: يا رَسُولَ الله! متَى وَجَبَتْ لكَ النُّبُوَّةُ؟ قال: "وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسدِ". قوله: "متى وجَبَتْ لك النبوةُ؟ قال: وآدمُ بين الروحِ والجسد". (متى): سؤالٌ عن الزمان، والواو في (وآدم) للحال. (وجبت)؛ أي: ثَبَتَتْ؛ يعني: ثبتت نبوتي في حال أنَّ آدمَ بين الرُّوح والجَسَد. * * * 4480 - وعَنِ العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قَالَ: "إِنَّي عِنْدَ الله مَكتوْبٌ: خَاتَمُ النَّبيينَ، وإنَّ آَدمَ لمُنْجَدِلٌ في طِينَتهِ، وسَأُخبرُكُمْ بأوَّلِ أَمْرِي: دَعْوةُ إِبراهِيْمَ، وبشَارَةُ عيسَى، ورُؤْيا أُمِّي الَّتي رَأَتْ حِينَ وضَعَتْني وقدْ خَرجَ لها نُور أضَاءَتْ لَها منهُ قُصُورُ الشَّامِ". قوله: "إني عند الله مكتوبٌ خاتَم النَّبيين، وإن آدم لمُنْجَدِلٌ"، الحديث. (المُنْجَدِلُ): الساقط، والمُجْدَّلُ المُلْقى بالجَدَالة، وهي الأرض، ذكَره في "الغريبين". قال الزمخشري في "الفائق": (انجَدل) مطاوع جَدَلهَ، إذا ألقاه على الأرض،

وأصلُه الإلقاءُ على الجَدَالة وهي الأرض الصلبة، وهذا على سبيل إنابة فعلٍ منابَ فعل، و"الطينة": الخِلقْةَ، من قولهم طانَه الله على طينتك؛ أي: خَلقَهَ. قال: والجارُّ الذي هو (في) ليس يتعلَّقُ بمنجدل، وإنما هو خبرٌ ثان، لأن الواو مع ما بعدها في محل النصبِ على الحال من (المكتوب)، والمعنى: كنتُ خاتمَ الأنبياءِ في الحال التي آدمُ مطروحٌ على الأرض حاصلٌ في أثناء الخلق، لما يفرغ من تصويره وإجراء الروح فيه، هذا كلُّه لفظ الزمخشري. وإنما قال: (في طينته) خبر ثان، لا ظرفُ (منجدل)، لأنه لو كان ظرفَه فسدَ المعنى، إذ يصير تقديره: انجدل في الطين، وليس ذلك معناه، بل معناه أنه كان طِينًا، ثم صُوَّرَ على شكل الآدمي، وأُطْرِحَ على الأرض، كما تُطْرَحُ الأصنام والصُّوَرُ. "الصُّورةُ: الجماد". قوله: "سأخبركم بأولِ أمري، دعوةُ إبرا هيم ... " إلى آخره. قال في "شرح السنة": قوله تعالى حكايةً عنه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129] قال في "اللُّبَاب": يريد بالآيات خبرَ مَن مضى وخبرَ مَن بقيَ إلى يوم القيامة، والضمير في (فيهم) و (منهم) يعود إلى الذرية. وقال أيضًا في "شرح السنة": وبشَارة عيسى عليه السلام قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، الضمير في (لها) عائدٌ إلى قوله (أخي)، واللام للعِلَّة، والضمير في (منه) يعود إلى (النور). "القصور": جمع قصر، وهو بيتٌ رفيع، معناه أنه قد سأل الخليلُ عليه السلام الحضرةَ الإلهيةَ أن يبعثَ في ذريته منهم، كما قال تعالى حكاية عن قوله:

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} [البقرة: 129] الآية. وقد بَشَّرَ عيسى عليه السلام بمجيئه إلى العالم، قال الله حكايةً عن قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وأُمَّي حين ولدتني قد رَأَت أنه خرجَ منها نورٌ، أضاءت من ذلك النورِ لها قصورُ الشام لأجلها، وذلك النورُ عبارةٌ عن نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وكيف لا وقد أضاءت نبوته ما بين المشرق والمغرب واضمحل بها ظلمة الكفر والضلالة. * * * 4481 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا سيدُ ولَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ ولا فَخْرَ، وبيَدِيْ لِواءُ الحمْدِ ولا فخرَ، ومَا منْ نَبيًّ يومَئذٍ آدمُ فمن سِواهُ إلاَّ تَحْتَ لِوائِي، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنشقُّ عنهُ الأَرْضُ ولا فَخْرَ". قوله: "وبيدي لواء الحمد ولا فخر ... "، الحديث. اللَّواء - بكسر اللام وبالمد -: رايةُ الأمير، لكنه دون الأعلام والبنود، ذكره في "الصحاح". سُمَّيَ لواءَ الحمد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يحمدُ الله تعالى في الحالة التي معه اللَّواءُ يومَ القيامة، حمدًا يليق بذاته سبحانه، على أن قرَّبه إليه، وفضَّلَه على جميع عباده الأنبياء والمرسَلين وغيرِهم، من أهل المَحْشر، وحوَّجَهم إلى أن يحضُروا تحت لوائه جَذِلين، وإلى شفاعته راغبين، بل مضطرين مُلْجَئين، وتواضعَ - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الفَضْل والكمال. وقال: "ولا فخر"؛ يعني ما لي مفاخرةٌ بذلك؛ يعني: لا أذكره مفاخرةً طبعًا كما هي عادةُ العرب، بل أذكُره لتعدُّدِ النَّعَم، لأنه مَحْضُ فَضْلِه وإنعامه علي.

وقيل: معناه: لا أفتخرُ بذلك، بل فَخْرِي بربي الذي أعطاني هذه المرتبةَ. وقيل: لا أفتخرُ بذلك لأنه ما حَصَلَ بسعيي وكَسْبي حتى أفتخرَ به. و (نبي) في "وما من نبي": للعموم؛ لأن النكرةَ التي تقع بعد النفي تَعُمُّ وتَشْمَل، والتنوين في "يومئذٍ" تنوينُ العِوَض، تقديرُه: يومَ إذ تقومُ الساعةُ. و"من" في "مَنْ سِوَاه" موصولٌ، و (سواه) صلته؛ لأنه نصبٌ على الظَّرْف، وهو عطفٌ على (آدم)، و (آدم) عطفُ بيان لقوله: (ما مِن نَبيٍّ)، أو بدل؛ يعني: لا نبيَّ يومَ القيامة - يعني: آدم وغيره من الأنبياء والمرسلين - إلا أن يحضُروا تحت لوائي، وأنا أُحْشَرُ قبلَ الخلائق كلِّهم، ولا فخرَ، بل لطفُ منِّ الله وفَضْلِه. * * * 4482 - عنْ ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: جَلسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخَرجَ، فسمِعَهُمْ يَتذاكَرونَ، قَالَ بعضُهُمْ: إِنَّ الله اتَّخذَ إِبْراهِيمَ خَليلاً، وقَالَ آخرُ: مُوسُى كلَّمهُ الله تَكْلِيْمًا، وقالَ آخرُ: فعيسَى كَلِمةُ الله ورُوحُهُ، وقَالَ آخرُ: آدمُ اصْطَفَاهُ الله، فخَرجَ عَلَيهِم فسَلَّمَ وقَالَ: "قدْ سَمِعْتُ كَلامَكُمْ وعَجَبَكُمْ أنَّ إِبْراهيمَ خَلِيْلُ الله وهوَ كذلِكَ، ومُوسَى نَجيُّ الله وهوَ كذَلكَ، وعِيْسَى رُوْحُهُ وكَلِمتُهُ وهُوَ كذلكَ، وآدمُ اصْطَفاهُ الله وهُوَ كذلكَ، أَلاَ وأَنَا حَبيبُ الله ولا فَخْرَ، وأَناَ حَامِلُ لِواءِ الحَمْدِ يَومَ القِيامةِ ولاَ فَخْرَ، تحتَهُ آدَمُ فمنْ دُونَهُ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ شَافِعٍ وأوَّلُ مُشفَّعٍ يومَ القِيامةِ ولا فَخْرَ، وأَنا أوَّلُ مَنْ يُحرِّكُ حِلَقَ الجنَّةِ فيَفتَحُ الله لِيَ فيُدْخِلُنِيْها ومَعِي فُقَراءُ المُؤمِنينَ ولا فَخْرَ، وأَنَا أكْرَمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ على الله ولا فَخْرَ". قوله: "فخرج سَمِعَهم يتذاكرون"، الحديث.

(سَمِعَ): نصب على الحال من الضمير في (خرج)، وهو يعودُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و (قد) مُقدَّرَة. و (يتذاكرون) أيضًا نصب على الحال من الضمير المنصوب في (سمعهم)؛ يعني: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سَمِعَهم مُتَذَاكِرين في فضائل الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وهي مذكورةٌ في الحديث. فإذا خرجَ سلَّم عليهم، وصَدَّقَ كلامَهم في الفضائل، وقال: قولُكم في فضيلة كلَّ واحد منهم - عليهم السلام - حَقٌّ وصِدقٌ، ولكني حبيبُ الله سبحانه ولا فخرَ؛ يعني: لا أذكره مفاخرةً، بل أذكرُه إظهارًا لفَضْلِه الكاملِ وإنعامِه السابغِ عليَّ، لأني مأمورٌ بذلك، قال الله جل جلاله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] "الخليل": الصديق. و"ألا" كلمة تنبيه، معناها: تنبهوا، "الحبيب": فعيل، بمعنى مفعول، قيل: مَنْ قاسَ الحبيبَ بالخليل فقد أخطأ، فإن الخليلَ اشتقاقه من الخلَّة، التي هي الحاجة، فكأن إبراهيم كان كلُّ افتقاره إلى الله تعالى، فمِن هذا الوجه اتخذَه الخليلُ، والحبيبُ اشتقاقهُ من المحبة، والفعيل يُستعمل بمعنى الفاعل، وبمعنى المفعول كالشَّهيد. فكأنه - صلى الله عليه وسلم - محبوبٌ ومُحِبٌّ، وأصيبت حَبَّةُ قلبهِ بالمَحَبَّة؛ لأنك إذا قلتَ حبيبه كأنك أصبتَ حَبَّةَ قلبه، كما يقول كَبَّدْتُه وفَأَّدْتُه ورَأَّسْتُه في إصابة الكَبدِ والفُؤَاد والرأس، والخليلُ مُحِبٌّ لحاجته إلى من يُخَالُّه، والحبيب مُحِبٌّ لا لغرض. "المُشَفَّع": الذي قُبلَت شَفَاعتُه. و"الحِلَقُ": جمع حَلْقَة، وهي حَلْقَة الباب؛ يعني: بابَ الجنة.

وقوله: "ومعي فقراءُ المؤمنين"، دليلٌ على فضلهم وكرامتهم عند الله سبحانه، وإنما اختصُّوا بهذه الكرامة لأنهم متَّصِفُون بالفقر، وهو ما اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عُرِضَتْ مفاتيحُ خزائن الأرض، فقال: "أريدُ أن أجوعَ يومًا، وأشبعَ يومًا": وقال في "آداب المريدين": ليس الفقرُ عند الصُّوفِيَّة الفاقةُ والعُدْمُ، بل الفَقْرُ المحمودُ الثقةُ بالله، والرِّضَا بما قَسَمَ الله سبحانه. (الفَاقَةُ): الحاجةُ، والفقرُ، و (العُدْم): - بضم العين وسكون الدال - بمعناها. قوله: "وأنا أكرمُ الأَوَّلين والآخِرين على الله"، دليلٌ على أنه أفضلُ مَن في السماوات والأرض. * * * 4483 - عَنْ عَمْرِو بن قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "نَحْنُ الآخِرونَ، ونَحْنُ السابقُونَ يومَ القِيامةِ، وإنَّي قَائِلٌ قَوْلًا غيرَ فَخْرٍ: إبْراهِيمُ خليلُ الله، ومُوسَى صَفِي الله، وأَنَا حَبيْبُ الله، ومعِي لِواءُ الحَمْدِ يومَ القِيامةِ، وإنَّ الله وعَدَنِي في أُمَّتِي وأَجَارَهُمْ مِنْ ثَلاثٍ: لا يَعمُّهُمْ بسَنةٍ، ولاَ يَستأصِلُهُمْ عَدُوٌّ، ولا يَجْمعُهُمْ عَلَى ضَلالَةٍ". قوله: "نحن الآخِرون، ونحن السَّابقون يوم القيامة"، الحديث. يعني: نحن الآخِرون في المجيء إلى الدنيا، والسابقون يومَ القيامة في دخول الجنة، وغيرِ ذلك من الفضائل. و"موسى صَفِيُّ الله"؛ أي: مختاره. و"أجارَهم من ثلاثٍ"؛ أي: أنقذَهم وحَفِظَهم من ثلاث خصال.

قال في "الصحاح": يقال: أجاره الله من العذاب؛ أي: أنقذه. * * * 4485 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إذَا بُعِثوا، وأَنَا قائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وأَنَا خَطيبُهُمْ إذَا أنْصَتُوا، وأَنَا مُستَشفِعُهُمْ إذا حُبسُوا، وأَنا مُبشَّرُهُمْ إذَا آيسُوا، الكَرامةُ والمَفَاتيحُ يَومَئِذٍ بيَدِي، ولواءُ الحَمْدِ يومَئذٍ بيدي، وأَنَا أكْرمُ ولَدِ آدمَ على ربي، يَطوفُ عَليَّ ألفُ خَادِمٍ كأنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنونٌ أو لُؤلؤٌ مَنْثورٌ"، غريب. قوله: "أنا أولُ الناسِ خروجًا إذا بعثوا، وأنا قائِدُهم إذا وَفَدُوا"، الحديث. (بَعَثَ) الحديثَ: إذا نشره. (القائدُ): واحد القادة، مَن قاد الفرسَ وغيرَه يقودُ قَوْدًا. قال في "الصحاح": (وفدَ) فلان على الأمير؛ أي: وردَ رسولًا، فهو وافدٌ، والجمع: وَفْد، مثل صاحبة وصَحْب. "أنْصَتَ": إذا سَكَت. "المُسْتَشْفَع": اسم مفعول مِن (استشفعتُه إلى فلان)؛ أي: سألتُه أن يَشْفَعَ لي إليه، ذكره في "الصحاح". "أيس يَيْأَسُ": إذا قَنَط، (المكنون): اسم مفعول مِن (كَنَّ) إذا سَتَر، و"بيضٌ مَكْنُون"؛ أي: لؤلؤٌ مخزونٌ مستورٌ في صَدَفه، لم تمسَّه الأيدي، ذكرَه بعض المُفَسِّرين. و"المنثور": اسم مفعول من نثر السكر وغيره نثارًا. و"أو" في قوله: "أو لؤلؤ منثور" شكٌّ من الراوي.

يعني: أنا مُقدَّمٌ في الخروج عن القبر على سائر الناس كلِّهم، فإذا وَرَدُوا على الله سبحانه فأنا متبوعُهم، وإذا سكتُوا متحيرين فأنا خطيبُهم. يعني: يكونُ لي قدرةٌ على الكلام في ذلك الوقت، وإذا حُبسُوا في الموقف، ولم يحاسَبوا، أشفعُ لهم في المقام المحمود الموعودِ لي، فتقبل شفاعتي، فيحاسَبون. وإذا أَيسُوا الكرامة؛ أي: وإذا قَنَطُوا من لطفه ورحمته تعالى بَشَّرْتُهم بالرحمة والرضوان. "والمفاتيحُ يومئذٍ بيدي"؛ يعني: مفاتيحُ كلَّ خيرٍ بيدي في ذلك اليوم، وإنما قال هذا؛ لأنه يصلُ أنواعَ اللطف والرحمة من الله سبحانه إلى أهل العَرَصَات من الأنبياء وغيرِهم بواسطة شفاعته العامة في المقام المحمود وغير ذلك، كما هو مذكورٌ في الحديث. وكما أنَّ المفاتيحَ سببٌ للفتح، فهو سببٌ لما ينفتح من فَضْلِه العَمِيم تعالى على عباده. * * * 4486 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "فأُكْسَى حُلَّةً منْ حُلَلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ أقومُ عَنْ يَمينِ العَرْشِ، لَبسَ أَحدٌ مِنَ الخَلائِقِ يَقومُ ذلكَ المَقامَ غَيْري". "فأُكْسَى حُلَّةً من حُلَلِ الجَنَّة"، (الحُلَل): جمع حُلَّة، وهي إزارٌ ورداء. قوله: "ثم أقومُ عن يمين العرش ... " إلى آخره، (العَرْشُ): سرير الملك؛ يعني: بعد أن أَشْرُفَ بتلك الحالة الأبدية أقومُ عن يمين العرش، وذلك المقامُ مختصٌّ بي. * * *

4487 - عَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَلُوا الله لِيَ الوَسيلَة"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! ومَا الوَسيلَةُ؟ قَالَ: "أَعْلَى درَجةٍ في الجَنَّةِ، لا ينالُها إِلاَّ رَجُلٌ واحِدٌ، أرجُو أنْ أكُونَ أَنَا هوَ". قوله: "وما الوسيلةُ؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنة"، الحديث. (الوَسِيلَةُ): ما يُتَقَرَّبُ به إلى الغير، المراد بها ها هنا ما فسَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و (درجة): جرٌّ؛ لأنها مضافٌ إليها لـ (أَعْلَى)، الضمير في (لا ينالها) يعودُ إلى الدرجة. قوله: "أرجو أن أكونَ أنا هو"؛ يعني: أرجو مِن الله أن يَرْزُقَني الوسيلةَ، وأنْ أكونَ ذلك الرَّجُلَ الذي تكونُ الوسيلةُ له بفضْلِه، وإنما ذكرَ الكلامَ مبهَمًا على سبيل التواضع، لأنه قد عرف جَزْمًا على أنها له، (أنا) مبتدأ، و (هو) خبره، والجملةُ خبرُ (أكون). * * * 4488 - عَنْ أُبيَّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذا كانَ يومُ القِيامَةِ كُنْتُ إمَامَ النَّبيينَ وخَطيبَهُمْ، وصاحِبَ شفاعَتِهِمْ غيرَ فَخْرٍ". قوله: "إذا كان يوم القيامة"، (كان) هنا تامة، معناه: أتى أو وقع. * * * 4489 - عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لِكُلَّ نبيًّ وُلاةً مِنَ النَّبيينَ، وإنَّ وَلِيي أَبي خَلِيلُ رَبي"، ثُمَّ قَرأَ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68]. قوله: "إنَّ لكلِّ نبيًّ ولاةً مَن النبيين"، الحديث.

(الولاةُ): جمع وَلِيًّ، وهو بمعنى الصَّدِيق والحَبيب؛ يعني: أنَّ لكلَّ نبيًّ أحباءَ وقُرَنَاء، وهو أَوْلَى بهم، وأقربُ إليهم في جميع الأوقات. "وولِيي أبي"؛ يعني: به إبراهيم صلوات الله عليهما، وقد بيَّنَ لقولهم: "وخليلُ ربي" بإضافة الخليل إلى قوله: (ربي)، أنَّ قولَه: (أبي) يعني به: إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، لا كما ذكر في كتاب "المصابيح"، وهو قوله: (ووليي أبي). هذا معنى كلام الإمام التُّوْرِبشْتِي في "شرحه". فعلى هذا (خليل ربي) معطوف على (ربي)، الذي هو مرفوع. وكان قياسه أن يكون: وليي أبي خليلُ ربي، من غير (واو)؛ ليكون عطفَ بيانٍ لـ (أبي)، لأن الواو تؤدَّي إلى التغاير، فيؤذِنُ بأن الروايةَ: وليي أبي وخليلي ربي، كما هو في كتاب "المصابيح". * * * 4490 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ الله بَعثَنِي لِتَمَامِ مَكارِمِ الأخْلاقِ، وكَمَالِ مَحاسِنِ الأفعْالِ". قوله: "إنَّ الله بعثني لتمامِ مكارمِ الأخلاق، وكمالِ محاسنِ الأفعال". (بَعَثَ) إذا أَرْسَلَ، (التمامُ): مصدرُ (تَمَّ) إذا كَملَ، (المكارم): جمع مَكْرُمَة، وهي خصلةٌ يُكْرَمُ الشخصُ بها؛ أي: يَسْتَحِقُّ أن يكون كريمًا، والكَرَمُ ليس نفسَ السَّخَاء، ولهذا يوصَفُ العَرْشُ والقرآن بالكريم، بل الكريم صفةٌ محمودةٌ عالية. و (الأخلاقُ): جمع خُلُق، و (المحاسن): جمع حُسْن، جمعٌ غير قياسي. يعني: إن الله سبحانهَ بعثني إلى العالَم ليتمَّمَ بوجودي مكارمَ أخلاقِ عبادهِ، ويُكَمَّلَ بي محاسنَ أفعالهم. * * *

4491 - عَنْ كَعْبٍ - رضي الله عنه - يَحْكِي عَنِ التَّوراةِ قَالَ: نَجدُ مَكتوبًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، عَبدِي المُختارُ، لا فَظٌّ ولا غَليظٌ، ولا سَخَّابٌ بالأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكنْ يَعفُو ويَغْفِرُ، مَوْلدُهُ بمكَّةَ، وهِجرتُهُ بطَيْبةَ، ومُلكُهُ بالشَّامِ، وأُمَّتُهُ الحمَّادونَ، يَحمَدونَ الله في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، يَحْمَدونَ الله في كلِّ مَنْزِلَةٍ، ويُكبرونَهُ على كُلِّ شَرَفٍ، رُعاةٌ للشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ إذا جَاءَ وقتُهَا، يَتأزَّرُونَ على أَنْصافِهِمْ، ويتوَضَّؤُون على أَطرافِهِمْ، مُنادِيهِمْ يُنادِي في جَوِّ السَّماءِ، صفُّهُمْ في القِتالِ وصَفُّهُمْ في الصَّلاةِ سَواءٌ، لهُمْ باللَّيلِ دَوِيٌّ كدَوِيَّ النَّحلِ. قوله: "مولده بمكةَ، وهجرتُه بطَيْبة، ومُلْكُه بالشام"، الحديث. (المَوْلِد): موضع الولادة، (الهِجْرة): تركُ الوطنِ والذهابُ إلى موضعٍ آخر. (طيبة): مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي غيرُ منصرف للعَلَمية والتأنيث، وكذلك مكة. (ومُلْكُه بالشام)، يريد بالملك ها هنا النُّبُوَّةَ والدِّين؛ يعني: يَعُمُّ دينهُ جميعَ البلدان، لكن الشام يغلبُ على سائر البلادِ في اتَّباع أهلِها له، والأمْنِ من غَلَبة الكفار عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالشام". وأيضًا: مُلْكُه ظهرَ بالجهاد مع الكفار، ومِنْ فَتْحِ الشام إلى اليوم لا ينقَطِعُ الجهادُ بها، ولهذا أَمَرَ بالمسافرة إليه، ليغزوا، وليرابطوا، وأيضًا فهناك المسجدُ الأقصى وقبورُ أكثرِ الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. و"الحَمَّادُ": كثير الحمد. "المنزلة" ها هنا بمعنى المَنْزِل. قال في "الصحاح": والمنزلة والمنزلُ واحدٌ.

قال ذو الرمة: أَمَنْزِلَتَيْ مَيًّ سلامٌ عليكما ... هلِ الأَزْمُنُ اللاَّئي مَضَيْنَ رَوَاجِعُ أي: يا مَنْزِلتَيْ مَيًّ: وهي اسمُ امرأةٍ. "الشرف": المكان العالي. (الرعاة): جمع الراعي، مِن (رَعَى) إذا حَفِظَ. قيل: المراد بـ "رعاةِ الشمس" الذين يحْفَظُون أوقاتَ الصلوات بطلوع الشمس وغروبها ودُلُوكها، وَينْظُرُون في سيرها؛ ليعرِفُوا مواقيتَها، وهذا دليلٌ على أنَّ معرفَة النجوم قَدْرَ ما يُعْرَفُ به مواقيت الصلاةِ مطلوبةٌ. قال الشيخ محيي السنة في "التهذيب": معرفةُ دلائلِ القِبْلَةِ فرضٌ على العَيْن أم فرضٌ على الكفاية؟. فيه وجهان: أَصَحُّهما فرضٌ على العين، يجبُ على كل بَصيرٍ أن يتعلَّمَها؛ لأنها تحصُلُ في ليالٍ ذواتِ عَدَدٍ، بخلاف تعلُّمِ العِلْم كان فرضًا على الكفاية، لا يحصل إلا بأن يَجْعَلَ مُعْظَمَ عمرهِ فيه. قوله: "يتأزَّرُون على أنصافهم"؛ أي: يشدُّون الأُزُرَ على أنصافهم؛ أي: من السُّرَّةِ إلى تحت الركبة. قوله: "ومناديهم ينادي في جو السماء"، قيل: (المنادي): المؤذَّن، (الجَوُّ) ما بين السماء والأرض؛ يعني: يؤذِّنُ مؤذِّنُوهم في جوِّ السماء؛ أي: في مواضعَ عاليةٍ مثل المنارة وغيرها. "ولهم بالليل دويٌّ كدويِّ النحل"؛ يعني: لهم في الليل أصواتٌ خَفِيَّةٌ في التسبيح والتهليل وقراءة القرآن كدويِّ النحل، وهو هنيمته. * * *

2 - باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته

2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصِفَاتُهُ (باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته) مِنَ الصِّحَاحِ: 4493 - عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِم - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "لِي خَمْسةُ أَسمَاءٍ: أَنا مُحمَّدٌ، وأَنَا أَحْمَدُ، وأَنا المَاحِي الذِي يَمحُو الله بي الكُفرَ، وأَنَا الحَاشِرُ الذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلى قَدمَيَّ، وأَنا العَاقِبُ"، والعَاقِبُ: الَّذي لَيسَ بعدَهُ نبيٌّ". "يُحْشَرُ الناسُ على قدمي"، وقيل: على أَثَري. قال في "شرح السنة"؛ أي: أنه يُحْشَرُ أولُ الناس، كقوله: "أنا أول من تنشق عنه الأرض". * * * 4494 - وعَن أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمَّي لِنَفسِهِ أَسْماءً، فَقَال: "أَنا مُحَمَّدٌ، وأَحْمَدُ، والمُقَفِّي، والحَاشِرُ، ونبيُّ التَّوْبةِ، ونبيُّ الرَّحمَةِ". قوله: "والحاشر، ونَبيُّ الرحمة"، قال في "الغريبين": قال شمر: المُقَفِّي والعاقبُ: واحدٌ، وهو المولَّي الذاهبُ، يقال: قَفَّى عليه؛ أي: ذهبَ به، فكأن المعنى أنه آخر الأنبياء، فإذا قَفَّى فلا نَبيَّ بعدَه. وقال ابن الأعرابي: المُقَفَّي: المُتَّبعُ للنَّبيين، والمقفَّى - بفتح الفاء -: اسمُ مفعول من قُفَّىَ تقفيةً، إذا اتُّبعَ.

وإنما سُمِّيَ (نبيَّ التوبة) - و (التوبةُ): الرجوعُ - لأن الكَفَرَة كان رجوعُهم إلى الإسلام في زمانه، ويكونُ رجوعُهم إلى الإسلام بعدَه إلى يوم القيامة بدعوته، وكذا العصاةُ يرجِعُون إلى الطاعة ببركته. قال في "شرح السنة": فإن قيلَ: فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا نبيُّ الرحمة، ونبيُّ المَلاَحِم" كيف وجهُ الجَمْعِ بينهما؟. قال: "بُعِثْتُ بالرَّحْمَة"، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فكيف يكونُ مبعوثًا بالرحمة، وقد بُعِثَ بالسيف؟ قيل: هو مبعوثٌ بالرحمة كما ذُكِرَ، وكما أَخْبَر الله تعالى، وذلك أن الله تعالى بَعثَ الأنبياء، وأَيَّدَهم بالمعجزات، فمن أنكرَ من تلك الأمم الحقَّ بعد الحُجَّةِ والمُعْجِزَة عُذِّبُوا بالهَلاَك والاسْتِئْصال، ولكن الله أمر نبيَّه بالجهاد معهم بالسيف؛ ليرتدِعُوا من الكفر، ولم يحتاجوا إلى السيف، فإن للسيف بقيةً، وليس مع العذاب المنزَل بقية. قال في "شرح السنة": قلتُ: ومما يؤيدُ ذلك حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: إن الله بعثَ إليه مَلَكَ الجبال، فقال: إن شئتَ أن أُطْبقَ عليهم الأَخْشَبين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجو أن يُخْرِجَ الله من أصلابهم من يعبُدُ الله وحدَه، لا يُشْرِكُ به شيئًا". وهو مبعوثٌ أيضًا بالرَّحْمة من حيث إنَّ الله تعالى وضعَ في شريعته عن أمته ما كان في شرائع الأمم السالفةِ عليهم من الآصار والأَغْلال التي كانَتْ عليهم، هذا كلُّه لفظُ "شرح السنة". (الملاحم): جمع مَلْحَمَة، وهي الوقعةُ العظيمةُ في الفتنة؛ يعني: الحروبَ العظيمة التي ظهرت. (الارتداع): الامتناع.

(الأخشبان): جبلا مكة. وفي الحديث: "لا تزولُ مكةَ حتى يزولَ أخشباها": ذكره في "الصحاح". (الآصار): جمع إِصْر بكسر الهمز، وهو العَهدُ والثقل، و (الأغلال): جمع غُلًّ. قال في "تفسير اللُّبَاب" في تفسير قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]؛ أي: خَفَّفْتُ عنهم ما شُدِّدَ عليهم في التوراة من العهود والأثقال، كالقاتل لا ينجيه إلا القصاص، ولا ديةَ ولا عفوَ، وقطعُ الأعضاء الخاطئة، وقَرْضُ الثوب إذا أصابته نجاسة، وشَبَّهَها بالأغلال للزومها لزومَ الغُلِّ في العُنُق. * * * 4495 - وعَنْ أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ تَعجَبونَ كيفَ يَصرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ؟ يشتِمونَ مُذَمَّمًا، ويَلعَنوقَ مُذَمَّمًا، وأَنَا مُحَمَّدٌ". قوله: "ألا تَعْجَبُون كيف يَصْرِفُ الله عني شَتْمَ قُرَيشٍ"، الحديث. (كيف): سؤالٌ عن الحال، و"اللَّعْنُ": الطردُ والإبعاد من الخير، و (اللَّعْنَةُ): اسمٌ منه، و"الشَّتْمُ": السَّبُّ، والاسم الشتيمة، يريد بالشتمِ: أن زوجة أبي لهبٍ العوراءَ بنتَ حربٍ، كانت تسمِّيه بمُذَمَّم بدل مُحمَّد. تقول: مُذمَّمًا قَلَيْنَا، ودينَه أَبَيْنا، وأمرَه عَصَيْنا، "قَلَيْنَا" معناه أبغضْنا، و (المُذَمَّم): اسم مفعول من التذميم، وهو بمعنى مذمومٌ كثيرًا، وهو نقيضُ مُحمَّد. * * *

4496 - وعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَمُّوا باسْمِي ولا تَكَنَّوْا بكُنْيَتِي، فإنَّي إنَّما جُعِلْتُ قاسِمًا أقسِمُ بينكُمْ". قوله: "سَمُّوا باسمي ولا تَكْنُوا بكنيتي"، الحديث. (الاكتناءُ): عبارةٌ عما يقول لرجل أبو فلان ولامرأة أم فلان، والكُنْية: اسمٌ لكلَّ واحدٍ منهما. والعربُ أنَّ مَنْ كان عندَهم وقارٌ وعِزَّةُ يخاطبونه بالكُنْية، كما أن العَجَمَ يخاطِبُون الأشراف وذوي الأقدار باللقب، مثل جمال الدين وشمس الدين وغير ذلك من الألقاب، فإذا وجبَ على الأمة أن يوقَّروا نبيَّهم أكثرَ مما يوقَّرون غيرَه وجبَ عليهم التمييزُ بين خطابه وخطاب غيرِه، عاملين بمضمون الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. فلهذا نهى عن الاكتناء بكنيته، فإذا كان كذلك فالنهيُ كان مختصًّا بزمنه، لكي يتميَّزَ خطابُه عن خطاب غيرِه، فإذا تقرَّر هذا يجوزُ في هذا الزمان الاكتناء بكنيته. * * * 4497 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قدْ شَمِطَ مُقدَّمُ رأْسِهِ ولِحْيتهِ، وكَانَ إذا ادَّهنَ لم يَتبيَّنْ، وإذا شَعِثَ رَأسُهُ تَبيَّنَ، وكانَ كثيرَ شَعْرِ اللِّحْيةِ، فقالَ رجلٌ: وجهُهُ مِثْلُ السَّيْف؟ قال: لا كانَ مِثْلَ الشَّمسِ والقَمرِ، وكانَ مُستَديرًا، ورَأيتُ الخَاتَمَ عندَ كَتِفهِ مِثْلَ بَيْضةِ الحَمامَةِ يُشبهُ جَسَدَهُ. قوله: "قد شَمِطَ مقدَّمُ رأسهِ ولحيتهِ"، الحديث. شَمِطَ يَشْمَط شَمَطًا: إذا ابيضَّ بعضُ شَعْر رأسِه.

و"المُقدَّم" - بضم الميم وفتح الدال -: نقيض المؤخَّر. و"اللِّحية" - بكسر اللام -: الشعرُ الذي ينبُتُ في الذَّقْن. يعني: ظهرَ الشيبُ في مقدَّمِ رأسِه ولحيتِه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا طَلاَه بالدُّهْن لم يَظْهَر الشيب، وإذا تفرَّقَ ظهر. "ادهن": إذا جعل في رأسه أو لحيته الدُّهْن، وأصلُه: ادْتَهن على زِنَةِ افتعل، فقُلِبت التاء دالاً، ثم أُدْغِمَت إحداهما في الأخرى، فصار ادَّهن. و"تبين": أي: ظَهَرَ. و"شَعِثَ" يُشْعَثُ شَعَثًا: إذا اغبرَّ شَعْرُ رأسِه وتَفَرَّقَ. و"المستدير": بمعنى المُدَوَّر، وهو فاعلٌ من (اسْتَدار) إذا دارَ حولَ شيءٍ. قيل: "خاتم النبوة" كان عَلَمًا من أعلام النبوة، مذكورًا في الكتب المنزَّلة، وإنما اختصَّ بالخاتم الذي هو طابع النبوة متَّصِلاً ببدنه عند كتفه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كَمَلَتْ به النبوة، وانْخَتَمَتْ به الرسالة، فقد انسدَّ به مَخْزَنُ النبوة ومَعْدِنُ الرسالة. فإذا تقرَّر هذا عَلِمْنا أنَّ الله عَرَّفَنا خَتْمَ نبوته - صلى الله عليه وسلم - بما هو متعارَفٌ بيننا تقريبًا لأفهامنا، وذلك أنَّ القاعدة المُطَّرِدَة: أن يختِمَ على المخزن اشتياقًا فيه، وإنما خَلَقَه جزءًا من بدنه ليكون معرِّفًا لصدقه، أكملَ تعريفًا وأتمَّ بيانًا، من حيث إنه مخصوصٌ بذلك من بين سائر الناس، والله أعلم. ثم في خَلْقِه هذه العلامةَ في ظهره - وهي خاتم النبوة بين كتفيه - فوائد: الأولى: خاتم النبوة، وقد تقدَّم. الثانية: ليكونَ له المُعْجِزُ اللاَّزِم والعارض كما كان لموسى عليه السلام من اليد والعصا. الثالثة: جُعِلت لموسى المعجزة في يده السابقة على البدن، وجعل

لرسولنا في خلفه؛ ليدلَّ على تقدُّم موسى وتأخُّر نبينا - عليهما السلام - في الزمان، والمتأخَّرُ يحصل كمال المتقدم ونفسه، ثم لموسى كانت اليد البيضاء تتعلَّقُ معجزتُها بإخراجِ اليَدِ إذا أراد إظهارَ المعجزة، ونبيُّنا كان خاتم النبوة لازمًا في ظهره، كَشَفَها أو لم يكشف، وأرادها أو لم يُرِدْ. فإذا عرفت هذا: فاعرِفْ أنَّ دوامَ الخاتم دليلٌ على دوام نبوَّته ومِلَّته إلى قيام الساعة. يريد بقوله: "مثل بيضة الحمام" تشبيهَه بها في الحَجْم والصورة، لا بياضها؛ لأنه كان يشبهُ بدنَه - صلى الله عليه وسلم - في اللون؛ يعني: كان ناتئًا فيها بين كتفيه على شكل بيضتها. * * * 4498 - عَنْ عَبدِ الله بن سَرْجِسَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأَكَلْتُ مَعهُ خُبْزًا ولَحْمًا - أو قَالَ: ثَرِيْدًا - ثمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فنظَرتُ إلى خَاتَم النُّبوَّةِ بينَ كتِفَيْهِ عندَ ناغِضِ كَتِفِهِ اليُسرَى، جُمْعًا، عليه خِيْلانٌ كَأمْثالِ الثَّآلِيلِ. قوله: "ثم دُرْتُ خلفَه، فنظرتُ إلى خاتم النبوة بين كتفيه"، الحديث. (دُرْتُ)، مِن: دارَ حول شيءٍ، يدور دَوْرًا ودَوَرَانًا، وأدارَه غيره. قال في "الغريبين": قال شمر: الناغض من الإنسان: أصل العُنُق حيث يَنْغُضُ رأسُه، ونَغْضُ الكتف: هو العظم الرقيق على طرفها. وقال غيره: الناغض: فَرْعُ الكتف، وفَرْعُ الشيء أعلاه. "جمعًا": نصب على المصدر؛ أي: جمع جمعًا. "عليه خيلان"، والخيلان: جمع الخال، وهو نقطةٌ سوداءُ تظهر في البشرة، تزيد الجمال.

و"الثآليل": جمع ثُؤْلُول، قيل: هو خراجٌ صُلْبٌ يخرجُ على البدن، والخُرَاجُ - بالضم -: ما يخرُجُ في البدن من القروح. قول الراوي في أول الحديث: "وأكلتُ معه خبزًا ولحمًا": دليلٌ على جواز تناوُلِ الإدام بالخبز، بل يجوزُ أن يؤتدَمَ بالأطْعِمَة اللَّذيذة؛ لأنه وردَ: اللَّحْمُ سيدُ الطعام. ودليلٌ أيضًا على التواضع للفقراء والضعفاء بالمؤاكلة وغيرها، ودليلٌ على صدق الراوي إذا قيَّده بأنه واكلَ الرسول فأكلَ معه كذا وكذا تعيينًا لزمن الحديث. * * * 4499 - وَقَالَ السَّائِبُ بن يِزيْدَ: نَظرتُ إلى خَاتَمِ النُّبوَّةِ بينَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرَّ الحَجَلَةِ. قوله: "مثل زِرِّ الحَجَلَة"، قيل: الزَّرُّ - بتقديم الزاي المنقوطة على الراء المهملة المشددة - مرويٌّ، وكذلك الحَجَلَةُ - بفتح الحاء والجيم - مرويةٌ. قال في "شرح السنة": أراد به: الأزرار التي تُشَدُّ على ما يكونُ في حِجَال العرائس من الكِلَلِ والسُّتُور ونحوها. وقال الخطابي: سمعتُ من يقول: زِرُّ الحَجَلة: بيضةُ حَجَلِ الطَّيْر، يقال للأنثى منها: الحَجَلَة، وللذَّكَر: اليعقوبُ، وهذا شيءٌ لا أحقِّقه. معنى قوله: شيء لا أُحَقَّقه، أنه ما وجدَ الزِّرَّ بمعنى البيضةِ في كلام العرب، ولكنه موافقٌ من حيث المعنى للأحاديث التي وردتْ في خاتم النبوة. * * *

4500 - وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بنتِ خَالِدِ بن سَعيْدٍ: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بثيابٍ فيها خَميصَةٌ سَودَاءُ صَغِيْرَةٌ، فقَالَ: "ائْتُونِي بأمِّ خَالدٍ فأُتِيَ بها تُحمَلُ، فأخَذَ الخَميصَةَ بيدِهِ فألبَسَها، قَالَ: أبْلي وأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وأخْلِقي"، وكانَ فيها عَلَمٌ أخْضَرُ أو أصْفَرُ، فَقالَ: "يا أُمَّ خَالدٍ! هذا سَناه"، وهيَ بالحبَشِيّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فذهبْتُ أَلْعبُ بِخَاتَمِ النُّبوَّةِ، فزَبَرَني أبي، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْها". قوله: "أُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بثياب فيها خَمِيصَةٌ سوداءُ صغيرةٌ"، الحديث. (الخَمِيصَةُ): كساءٌ أسودُ مربَّعٌ له عَلَمان. و"تُحْمَل": حال من الضمير في "بها"؛ أي: أُتِيَ بأمَّ خالدٍ محمولةً؛ لأنها طِفْلٌ. "أَبْلِي": أمرُ مخاطَبةٍ من الإبلاء، وهو جَعْلُ الثوبِ خَلَقًا، وكذلك و"أخلقي": أمرُ مخاطَبةٍ من الإخلاق، وهو أيضًا بمعنى الإبلاء، وهذا التكرارُ دعاءٌ لها من عنده - صلى الله عليه وسلم - في طولِ العمر، كأنه قال لها: عَمَّرَكِ الله تَعْمِيرًا في حالة إلباسه إياها. "زَبرَ": فعلٌ ماض من الزَّبْر، وهو التخويفُ والتهديد. "دعْها"؛ أي: اترُكْها، وهذا أمر قد أُمِيتَ ماضيه ومَصْدَرُه، وهذا الحديث يجوزُ أن يكونَ مسنَدًا للمشايخ - قدس الله أرواحهم - في إلباس الخرْقَة. * * * 4501 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيْرِ، ولَيْسَ بالأَبيَضِ الأَمْهَقِ ولا بالآدَمَ، ولَيْسَ بالجَعْدِ القَطَطِ ولا بالسَّبْطِ، بَعَثَهُ الله على رَأسِ أَرْبَعينَ سَنةً، فأقَامَ بمكَّةَ عَشْرَ سِنينَ وبالمَدِينةِ عَشْرَ سِنينَ،

وتَوفَّاهُ الله على رأسِ ستِّينَ سَنةً، ولَيْسَ في رأسِهِ ولِحْيَتِهِ عِشرُونَ شَعرةً بيضَاءَ. وقوله: "ليس بالطَّويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيضِ الأَمْهَقِ"، الحديث. قال في "الغريبين": الأَمْهَقُ: الأبيضُ الكريهُ البياضِ كلَوْن الجَصِّ، يقول: كان بَينَ البياض؛ أي: يقول الراوي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَينَ البياض، كما ورد: (كان أزهر اللون)؛ أي: بينَ اللون، والزُّهْرَة: البياضُ النَّير، وهو أحسنُ الألوان. وقيل: الآدمُ هنا بمعنى الأَحْمَر. "الجَعْدُ القَطَط"، قيل: معناه: شديدٌ الجُعُودة، مثل أشعارِ الحَبَش. "السَّبطُ": الذي ليس له تكسُّرٌ، يقال: هو جَعْدٌ رَجِلٌ. * * * 4502 - وفي رِوَايَةٍ عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - يَصِفُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كانَ رَبْعةً منَ القومِ، لَيسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ، أَزهَرَ اللَّونِ. قال في "شرح السنة": معنى قوله: (رَبْعة): هو الرجلُ بين الرَّجُلَين، كما قال: (ليس بالطَّويل ولا بالقصير)؛ يعني: ليس قَدُّه - صلى الله عليه وسلم - بطويلٍ بائنٍ طولُه؛ أي: ظاهر، ولا بقصيرٍ، بل هو رَبعٌ، ولا لونُه بأبيضَ شديدِ البياض، لا يخالِطُه حُمْرَةٌ، ولا بأحمرَ شديدِ الحُمْرة، لا يخالطُ حمرتَه شيءٌ من البياض، بل كان لونُه بين البياضِ والحُمْرَة، وقدُّه بين الطول والقِصَر، وشعرُه بين الجَعْد والسَّبطِ، فالوسطُ بين الشيئين مختارٌ، فالمختارُ للمختار مختارٌ. * * *

4503 - وقَالَ: كانَ شَعرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ. وفي رواية: بَيْنَ أُذُنَيْهِ وعَاتِقِهِ. قوله: "إلى أَنْصَافِ أذنيه"، (الأنصاف): جمع نصف؛ يعني: كان شعرُه - صلى الله عليه وسلم - مسترسِلاً، محاذيًا لأنصاف أذنيه. وفي رواية أخرى: كان يصلُ إلى ما بين أذنيه وعاتقِه - صلى الله عليه وسلم -: فاختلافُ الروايتين محمولٌ إلى الزمانين؛ يعني: كان شَعْرُه - صلى الله عليه وسلم - في زمانٍ يصِلُ إلى أنصاف أذنيه، وكان في زمان يصِلُ إلى ما بين أذنيه وعاتقه. * * * 4504 - وقَالَ: كَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ والقَدَمَيْن، لمْ أرَ بعدَهْ ولا قبلَهُ مِثْلَه، وكانَ بَسِطَ الكفَّيْن. وفي رواية: كانَ شَثْنَ القَدَمَيْن والكَفَّيْن. قوله: "وكان ضَخْمَ الرَّأْسِ والقَدَمين"، الحديث. (الضَّخْم): الغليظُ من كُلَّ شيء؛ يعني: كان رأسُه - صلى الله عليه وسلم - ليس بصغيرٍ ولا كبيرٍ بل وسطًا، وكذلكَ قدماه - صلى الله عليه وسلم - وسط بين الصَّغير والكبير. قوله: "وكان بَسِطَ الكفَّين"؛ يعني: كانت صورة كَفَّيه - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ بَسْطٍ حَسَنٍ، وليس المراد ببسط الكَفَّين في الحديث الجودَ والسَّخَاوة، بل جودُه مشهورٌ معلوم من أحاديثَ وأخبارٍ أُخَر. قوله: "شَثْنَ الكفين والقدمين": قال في "الغريبين": قال أبو عبيد؛ يعني: أنهما إلى الغِلَظِ والقِصَرِ أَمْيلُ. وقال خالد: الشُّثُونَةُ لا تَعِيبُ الرجال، بل هي أَشَدُّ لقَبْضهم وأَصْبَرُ لهم على المِرَاس، ولكنه يَعيبُ النساءَ.

وقال غيرُه: هو الذي في أنامله غِلَظٌ بلا قِصَر، دَلَّ على ذلك ما رُوِيَ في صفته - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان سائلَ الأطراف)؛ أي: مسترسلَها من غير قَبْضٍ ولا تَشَنُّجٍ، وقد شَثُنَ وشَثِنَ وشَنِثَ شَثَنًا وشَنَثًا، فهو شَثِنُ العَقِبين. * * * 4505 - وعَنِ البَراءِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْن، لهُ شَعَرٌ بَلَغَ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، رَأَيْتُهُ في حُلَّةٍ حَمْراءَ، لمْ أرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنهُ. قوله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعًا"، الحديث. المربوعُ والرَّبع والرَّبْعَةُ واحدٌ، يقال: رجل رَبْعةٌ، وامرأة رَبْعَةٌ؛ أي: مربوعُ الخَلْق، لا طويلٌ ولا قَصير. "شحمة الأذن": معلَّق القُرْط. * * * 4506 - وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ أَحْسنَ في حُلَّةٍ حَمْراءَ منْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، شَعْرُهُ يَضرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيْدَ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، لَيسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ. و"اللِّمَّةُ" - بالكسر -: الشعرُ الذي تجاوزَ شحمةَ الأُذُن، فإذا بلغتِ المَنْكِبَين فهي جُمَّة، ذكره في "الصحاح". * * * 4507 - عَنْ سِمَاكِ بن حَرْبٍ، عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَليعَ الفمِ، أَشْكَلَ العَينِ، مَنْهُوشَ العَقِبَيْنِ، قِيْلَ لسِماكٍ: ما ضَليعُ الفَم؟ قَالَ: عَظِيْمُ الفَم، قِيْلَ: مَا مَنْهوشُ العَقِبَيْنِ؟ قَالَ: قَليْلُ لَحْمِ

العَقِبَيْنِ، قِيْلَ: ما أشْكَلُ العَيْنِ؟ قال: طَوْيلُ شَقِّ العَيْنِ. قوله: "ضليع الفَم، أَشْكَل العينِ، مَنْهُوش العَقِبين": تفسيرُه مذكورٌ في الحديث. قال في "شرح السنة": قال أبو عُبيد: الشُّهْلَةُ: الحُمْرَةُ في سَوَادِ العين، والشُّكْلَةُ: الحُمْرَةُ في بياضِ العين، وهو محمودٌ. قال: ويُرْوَى: (مَنْهُوس) بالسين غيرِ المعجمة، ومعناه أيضًا: قليلٌ لَحْمُها. والنَّهْسُ: أَخْذُ ما على العَظْمِ من اللَّحْم بأطرافِ الأسنان، والنَّهْشُ: بالأَضْراس، ويقال: نُهِشَتْ عَضُداه: إذا دُقَّتَا. * * * 4508 - عَنْ أَبي الطُّفَيْل - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله، كَانَ أَبْيضَ مَليحًا مُقَصَّدًا. "كان أبيضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا". (المَلِيحُ): الحَسَنُ، مِن: مَلُح الشيءُ - بالضم - يَمْلُح مُلوحةً ومَلاحةً؛ أي: حَسُنَ. (المُقَصَّد): اسم مفعول من قُصِّدَ، إذا كان وسطًا بين الطُّول والقِصَر، والجَسامة والنَّحافة. قال في "شرح السنة" و"الغريبين"؛ أي: ليس بجسيمٍ ولا قصيرٍ، وقيل: هو القَصْدُ من الرجال نحو الرَّبْعَة. * * *

4509 - وسُئِلَ أَنسٌ عنْ خِضَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: إنّهُ لمْ يَبلُغْ ما يَخضبُ، لو شِئْتُ أنْ أعُدَّ شَمَطاتِهِ في لِحيَتِه. وفي رِوَايَةٍ: لو شِئْتُ أَنْ أعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ في رَأسِهِ. وفي رِوايَةٍ: إِنَّما كَانَ البَياضُ في عَنْفَقَتِهِ، وفي الصُّدْغَيْنِ، وفي الرَّأسِ نَبْذٌ. قوله: "في الرأس نَبْذٌ"، قال في "الصحاح": في رأسه نَبْذٌ من شيب، وأصاب الأرض نَبْذٌ من مطر؛ أي: شيءٌ يسير؛ يعني: البياضُ في عَنْفَقَتِه، وفي صدْغَيه، وفي رأسِه - صلى الله عليه وسلم - كان قليلاً، بحيث يسهلُ عَدُّ تلك الشَّعراتِ البيضِ. * * * 4510 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أزْهَرَ اللَّونِ، كأنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلؤُ، إذا مشَى تَكَفّأَ، وما مَسِسْتُ دِيباجَةً ولا حَريرَةً ألْيَنَ منْ كَفَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شَمِمْتُ مِسْكًا ولا عَنْبرًا أَطْيبَ مِنْ رائحةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كأن عرقَه اللُّؤلُؤ، إذا مشى تَكفَّأ"، الحديث. يعني: كان عَرَقُهُ - صلى الله عليه وسلم - صافيًا في غاية الصفاء. و (إذا مشى تكفَّأ) تكفُّؤًا؛ أي: تمايَلَ إلى قُدَّام، كما تَتَكَفَّأ السفينةُ في جَرْيها، والأصلُ فيه الهمزة، ثم تُرِكَت، ذَكَرَه في "الغريبين". يعني: كان مشيُه - صلى الله عليه وسلم - وسطًا، وكذا جميع أوصافهِ وسطٌ؛ لأنَّ طَرَفَي الأمورِ غيرُ محمود. * * * 4511 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضيَ الله عَنْها: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ

يأْتِيها فَيَقِيلُ عِندَها، فتَبْسُطُ نِطْعًا فيَقِيلُ عَلَيْهِ، وكَانَ كَثيرَ العَرَقِ، فكانتْ تجمعُ عَرَقَهُ فتجْعَلُهُ في الطَّيبِ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أُمَّ سُلَيْمٍ! ما هَذَا؟ "، قَالَتْ: عَرَقُكَ نجْعَلُهُ في طِيبنا، وهوَ مِنْ أطْيَبِ الطَّيبِ. وفي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: يا رَسُولَ الله! نرجُو برَكَتَهُ لصِبْيانِنا، قَالَ: "أَصبْتِ". قوله: "فيَقِيلُ عندَها، فتَبْسُطُ نِطعًا"، الحديث. قَالَ يقِيل قَيلُولةً: إذا نامَ نِصْفَ النهار. الضمير في (عندها) إلى أم سليم. بَسَطَ يَبْسُطُ بَسْطًا: إذا فَرَشَ فراشًا. (النِّطْعُ): فِراشٌ من الجِلْد. قال في "الصحاح": فيها أربعُ لغات: نَطْعٌ ونَطَعٌ ونِطْعٌ ونِطَعٌ، وهذا دليلٌ على جواز التقرُّب إلى الله سبحانه بآثارِ المشايخ والعلماء والصلحاء. قوله: "نرجو بركتَه لصبياننا، قال: أصبتِ". (البركةُ): كثرةُ الخير ونماؤه. (الصَّبيان): جمع صَبيًّ، وهو الغلام، وسِنُّ الصبيِّ في الشَّرْع إلى البلوغ، وفي الطَّبِّ: بعد النهوض، وقبلَ الشِّدَّة، وهو ألاَّ تكون الأسنان قد استوفتْ السقوط والنبات. و (الإصابة): وجدان الصواب. * * * 4512 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الأُولى، ثُمَّ خَرَجَ إلى أهلِهِ وخرجْتُ مَعَهُ، فاستقْبَلَهُ وِلْدانٌ، فَجَعلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهمْ واحِدًا وَاحِدًا، وأمَّا أنا فَمسَح خَدِّي، قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أو رِيحًا كَأنَّما أخرَجَهَا منْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ.

قوله: "صَلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الأُولى" الحديث. (صلاة الأُولَى): صلاة الظهر. "خرج إلى أهله"؛ أي: خرجَ عن مسجده قاصِدًا إلى أهله. "الاستقبال": التوجُّهُ إلى شيء. "الوِلْدَان": جمع وليد، وهو الصبيُّ والعَبْد. "فجعل يمسح"؛ أي: طَفِقَ يَمْسَح. "الخدُّ": أحد جانبي الوجه. "واحدًا واحدًا": نصب على الحال. "فوجدتُ لِيَدِه بَرْدًا": البَرْدُ ها هنا: الراحةُ والطَّيب. "جُؤْنَة العَطَّار": ظَرْفٌ فيه عِطْرٌ؛ يعني: إذا مسحَ - صلى الله عليه وسلم - خَدَّيَّ بيدهِ وجدتُ رَوْحًا وراحةً من يَدِه، أو رائحةً طَيبةً زَكِيَّةً؛ يعني: إذا أخرجَ يدَه من كُمَّه - صلى الله عليه وسلم - فكأنه أخرجَها من جُؤْنة العَطَّار. وفيه دليلٌ على الترحُّم على الأهل والأولاد، والشَّفَقَةِ عليهم. * * * مِنَ الحِسَان: 4513 - عَنْ عَلِيًّ بن أَبيْ طَاِلبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ، ضَخْمَ الرَّأسِ واللِّحيةِ، شَثْنَ الكَفَّيْنِ والقَدمَيْن، مُشْرَبًا حُمْرَةً، ضَخْمَ الكَرادِيسِ، طَويلَ المَسْرُبَةِ، إِذَا مشَى تَكفّأَ تَكفُّأً كأنَّما يَنحطُّ منْ صَبَبٍ، لَمْ أرَ قبلَهُ ولا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -. صح. قوله: "مُشْرَبٌ حُمْرَةً، ضَخْمَ الكَرَادِيس"، الحديث.

قال الحافظ أبو موسى: مختلِطٌ بياضُه بالحُمْرة. و (الإشرابُ): خَلْطُ لونٍ بلونٍ، وقد أُشْرِبَ حُمْرةً وصُفْرةً، والاسم: الشُّرْبة. قال في "الغريبين": قال أبو بكر: معنى: ضَخْم الكَرَاديس: ضخمُ الأعضاء، والكَرَادِيس: رؤوسُ العظام، ويقال لكتائب الخيل: كراديس. قال في "الصحاح": "المَسْرُبة" - بضم الراء -: الشعر المستدَقُّ الذي يأخذُ من الصَّدْر إلى السُّرَّة. و"الصَّبَب": ما انحدرَ من الأرض، وجمعُه: أَصْباب. قال في "شرح السنة": يريد: أنه كان يمشي مَشْيًا قويًا، يرفَعُ رِجْلَه من الأرض رفْعًا بائنًا، لا كمَنْ يمشِي اختيالاً، ويقارِبُ خطاه تَنَعُّمًا. (البائن): الظاهر. (الاختيال): التكبر. (الخطا): جمع خطوة، وهي ما بين القدمين. * * * 4514 - وعَنْ عَلِيًّ - رضي الله عنه -، كَانَ إذا وصَفَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لمْ يكُن بالطَّويلِ المُمَّغِطِ ولا بالقَصِيرِ المُتردِّدِ، كَانَ رَبْعةً منَ القَومِ، ولمْ يكُنْ بالجَعْدِ القَطَطِ ولا بالسَّبطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلاً ولم يكُن بالمُطَهَّمِ ولا بالمُكَلْثَمِ، وكانَ في وجْهِهِ تَدْويرٌ، أَبيَضُ مُشْرَبٌ، أدْعَجُ العَينَيْنِ، أَهْدَبُ الأَشْفارِ، جَلِيْلُ المُشَاشِ والكَتَدِ، أَجْرَدُ ذو مَسْرُبَةٍ، شَثْنُ الكفَّيْنِ والقَدمَيْنِ، إذا مشَى يَتقلَّعُ كأنَّما يمشِي في صَبَبٍ، وإذا التَفَتَ التَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كتفَيْهِ خَاتَمُ النُّبوَّةِ، وهوَ خَاتَمُ النَّبيينَ، أَجْودُ النَّاسِ كَفًّا، وأَرْحبُهُمْ صَدْرًا، وأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وأليَنُهُمْ عَرِيْكَةً،

وأَكْرمُهُمْ عَشيرةً، مَنْ رآهُ بَديهةً هَابَهُ، ومَنْ خَالَطَهُ مَعرِفةً أَحبَّهُ، يَقُولُ ناعِتُهُ: لَمْ أرَ قبلَهُ ولا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "لم يكن بالطويل المُمَّغِط، ولا بالقصير المتردد"، الحديث. (المُمَّغِط): البائنُ الطُّول. قال أبو زيد: يقال: أَمْغَطَ النهارُ؛ أي: امتدَّ، وأمغطتُ الحبلَ فامتغطَ وامَّغَطَ. وقال أبو تراب في كتاب "الاعتقاد": مُمَعَّطًا ومُمَغَّطًا بالعين والغين، ذكره في "الغريبين". و"المتردِّد"؛ أي: الداخل بعضُه في بعضٍ قَصْرًا. و"المطهَّم": البادِنُ الكثيرُ اللَّحْم. و"المُكَلْثَم" من الوجوه: القصيرُ الحَنَك، الناتئُ الجبهة، المستديرُ الوجه، ولا يكون ذلك إلا مع كثرةِ اللَّحْم، والمعنى: أنه كان أَسِيلَ الخَدِّ، ولم يكنْ مُستديرَ الوَجْه. و"الأَدْعَج": أسود العين. و"الأَهْدَب": الطويل الأَشْفَار. و"جَليل المُشَاش"؛ أي: عظيمُ رؤوس المناكبِ والعِظَام، و (المَشَاشُ): رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين. و (الكَتَدُ): مَجْمَعُ الكَتِفَين وهو الكاهِلُ، ذكره في "شرح السنة". (الحَنَك): ما تحت الذَّقْن من الإنسان، و (الدَّاني): القريب، و (الأَسِيل): الطويل. قوله: "وإذا التفتَ التفتَ معًا"؛ يعني: إذا نظر كان ينظرُ بعينيه كما هو

جميعًا، ولم يكن ينظرُ بطرف عينيه كما هو عادة المتكبرين وذَوِي الغَضَب. قوله: "وأصدق الناسِ لهجةً، وألينُهم عَرِيكةً، وأكرمُهم عشيرةً"، الحديث. (اللهجَة): طَرَفُ اللِّسان. و (العَرِيكة): الطبيعة والجانب. قال ابن الأعرابي: هي شِدَّة النَّفْس. وقال الخليل: يقال: فلان لينُ العريكة: إذا كان سَلِسًا، لم يكن فيه إباء؛ يعني: إذا سُئِلَ أجاب. و (العشيرةُ): الصُّحْبة، والعشير: الصاحب. (البَدِيهة): المفاجأة، يقال: بَدَهْتُه بأمر: إذا فاجَأْته، ذكره في "شرح السنة". و (الناعت): اسم فاعل مِن (نَعَتَ) إذا وصف. قال الحافظ أبو موسى: النَّعْتُ: وصفُ الشيءِ بما فيه من حُسْنٍ. قال الخليل: ولا يقال في المذموم إلا أنْ يتكلَّف مُتَكلِّفٌ، فيقول: نَعْتُ سُوْءٍ، فأما الوصف فيقال فيهما؛ يعني: في المحمود والمذموم، فكل نعتٍ وصفٌ، وليس كل وصفٍ نَعْتًا. كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصدقَ الناسِ كلامًا، وأحسنَهم طبعًا وخُلُقًا، وأكرمَهم صحبةً، فمنْ رآه أولَ ما رآه كان يمتلئ قلبهُ مهابةً منه، بحيث ما كان يقدِرُ أن ينظر إليه أُبَّهة وجَمالاً وعَظَمةً ووقارًا، فإذا بسطَه كان له الانبساطُ ببَسْطِه - صلى الله عليه وسلم -، وكان أحبَّ الناسِ إليه، فالحاصلُ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مَجْمَعَ الكَمَالات ومنبعها في الصُّورة والمعنى. * * *

4515 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يَسلُكْ طَرِيقًا فيَتبعُهُ أَحَدٌ إلاَّ عَرَفَ أنَّهُ قدْ سَلَكَهُ منْ طِيبِ عَرْفهِ. قوله: "لم يَسْلُكْ طريقًا فيتبعُه أحدٌ"، الحديث. (السُّلُوكُ): المشيُ والذَّهاب، تَبعَ يَتْبَعُ تَبَعًا وتَباعةً: إذا مشى خلفَه. و (الطريقُ): السبيل. (العَرْف) - بفتح العين -: الرائحةُ؛ يعني: ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في طريقٍ إلا وقد ظهرَ فيه رائحةُ طِيبهِ مِن مشيهِ - صلى الله عليه وسلم -، بحيث لو كان يمشي أحدٌ عَقِيبَ مَشْيه؛ لعرفَ أنه - صلى الله عليه وسلم - مشى في ذلك الطريق؛ لشهرته بذلك. وهذا ممَّا اختصَّ به - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. * * * 4516 - قِيلَ للرُّبَيعِ بنتِ مُعَوِّذِ بن عَفْراءَ رَضيَ الله عَنها: صِفي لَنَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: يا بنيَّ! لوْ رَأَيتَهُ رَأَيتَ الشَّمسَ طَالِعةً. قوله: "صِفِي لنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -"، (صِفِي): أمرُ مؤنَّثٍ حاضرةٍ، وهي الرُّبَيع، مِن: وصَفَ يصِفُ. * * * 4517 - وعَنْ جابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في لَيْلَةٍ إضْحِيانٍ، فجَعلتُ أنظُرُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى القَمرِ وعليهِ حُلَّةٌ حَمْراءُ فإذا هو أَحسنُ عندي مِنَ القَمرِ. قوله: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلةٍ إضْحِيان، فجَعَلْتُ أَنْظُرُ"، الحديث.

(في ليلة إِضْحِيَان)؛ أي: مُضيئة مُقْمِرة، يقال: ليلةٌ إِضْحِيَان وإِضْحِيَانة، ويومٌ ضحْيَان، ذكره في "الغريبين". (جَعَلْتُ)؛ أي: طَفِقْتُ. قوله: "وعليه حُلَّةٌ حمراء"؛ أي: حُلَّة فيها خطوطٌ حُمْر، كالحِبَرَة وغيرها من الثياب. قال الخَطَّابي في "المَعَالم": قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرِّجَال عن لُبْسِ المُعَصْفَر، وكَرِهَ لهم الحُمْرَة في اللَّباس، فكان ذلك منصرِفًا إلى ما صُبغَ من الثياب بعد النَّسْج، فأما ما صُبغَ غَزْلهُ، ثم نُسِجَ، فغيرُ داخلٍ في النهي. و (الحُلَل): إنما هي بُرودُ اليمنِ حمرٌ وصفرٌ وخُضْر، وما بين ذلك من الألوان، وهي لا تُصْبَغُ بعد النسج، ولكن يَصْبَغُ الغزلُ، ثم يُتَّخَذُ منه الحُلَل، وهي العَصْب، وسمَّيَ عصبًا؛ لأن غزله يُعْصَب، ثم يُصْبَغ، ثم يُنسَج، هذا كلُّه لفظ الخَطَّابي. فالخَطَّابي - رحمة الله عليه - أشار بهذا البيان إلى أنَّ تلك الحُلَّةَ التي لَبسَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مما صُبغَ غَزْلُه، ثم نُسِجَ. * * * 4518 - عَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ما رأيتُ شيئًا أحسنَ منْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كأنَّ الشَّمسَ تَجرِي في وجههِ، وما رأيتُ أحدًا أسرعَ في مَشْيهِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كأنَّما الأرضُ تُطْوَى لهُ، إنَّا لَنُجْهِدُ أنفُسَنا، وإنَّه لَغيرُ مُكترِثٍ. قوله: "إنا لنُجْهِدُ أَنْفُسَنا، وانه لغَيْرُ مُكْتَرِثٍ"، قال في "الصحاح": يقال: جَهَدَ دابَّتَه، وأَجْهَدَها: إذا حملَ عليها في السَّيْر فوق طاقتها. و (إنه لغير مُكْتَرِثٍ): قيل؛ أي: غيرُ مُسْرعٍ، بحيث تلحَقُه مَشَقَّةٌ.

يقال: كَرَثَه الأمرُ: إذا بلغَه منه مشقةٌ؛ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى بالعادة ما قدَرْنا أن نلحَقَه مسرعين في المشي، ولو كنَّا مُجْتَهِدين في ذلك. * * * 4519 - عن جَابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ في ساقَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُمُوشَةٌ، وكانَ لا يضحكُ إِلاَّ تَبسُّمًا، وكُنْتُ إذا نظَرتُ إليهِ قُلتُ: أكْحَلُ العَينَيْنِ، وليسَ بأكْحَلَ. قوله: "كان في ساقَي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُمُوشَةٌ، وكان لا يَضْحَكُ إلا تَبسُّمًا"، الحديث. (الحموشة) بالحاء المهملة وبالشين المعجمة: الدقَّة، يقال: رجل أحمش الساقين: دقيقهما. تبسَّم وبَسَم: إذا حرك شفته لابتداء الضحك، و (ضحك): إذا أظهر سنَّه مبالغة، ذكره في "تفسير اللباب"، والضحك إنما يظهر عند التعجب. كَحَلَ عينَه وتكحَّل واكتحل: إذا جعل الكحل فيها. يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَلْقَ الوجه بسَّامًا، لكنه لا يضحك، وكان عينه كحلًا خِلْقةً؛ يعني: أكحل العينين من حيث الخلقةُ لا بالاكتحال، وهذا معنى قول الراوي: "وليس بأكحل"، و (أكحل) غير منصرف؛ لكونه وصفًا ووزنَ فعل. قال في "الصحاح": الأكحل: الذي يعلو جفونَ عينه سوادٌ. * * *

3 - باب في أخلاقه وشمائله - صلى الله عليه وسلم -

3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ - صلى الله عليه وسلم - (باب في أخلاقه وشمائله - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: (من الصحاح): 4520 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَدمتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سِنينَ فما قَالَ لِي أُفًّ، ولا: لِمَ صَنَعتَ؟ ولا: ألا صَنَعتَ. "فما قال لي أف، ولا لم صنعت، ولا ألا صنعت"، (الأُف) في أصل اللغة: وسخ الظفر والأذن، قال في "الغريبين": يقال لكل ما يُضجر منه ويستثقل: أفًّ له، وفيه عشر لغات: أُفُّ وأُفَّ وأُفِّ وأُفٌّ وأُفًّا وأُفًّ وأُفَّهْ، إِفًّ لك - بكسر الهمزة -، وأُفْ - بضم الهمزة وتسكين الفاء -، وأُفَّى، هذا كله في "الغريبين". فالثلاثة الأُول غيرُ منوَّنة، والثلاثة الثانية منونةٌ، والسابعُة بالهاء، والعاشرة (أُفَّى) على وزن فُعلى، والهمزة مضمومة في الكل إلا في الثانية، كما ذكر. قال ابن الجوزي في "تفسيره": معنى (أف): النتن والتضجُّر، وأصلها: نفخك الشيء ليسقط عنك من ترابٍ ورماد، ونفخُك المكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيل لكلِّ مستثقَلٍ. و (لَم): حرفٌ يستفهم به، وأصله: (لِمَا)، ثم حذفت منه الألف فرقًا بين (ما) الاستفهامية و (ما) الخبرية إذا دخل عليهما حرفُ الجر؛ لأنه أكثر استعمالًا فخصَّ بالحذف، ولأنه غير حتى يصير كأنه ليس بما الذي يجب تصدُّره. و (ألا): حرف تحضيضٍ، معناه: لمَ لا؛ يعني: ما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قط ما كان فيه أدنى تبرُّمٍ وملالٍ مدةَ ما خدمْتُه، ولا لشيء فعلتُه قال لي: لمَ فعلْتَه، ولا لشيء لم أفعله - وكنت مأمورًا به - قال لي: لِمَ لمْ تفعل. وهذا الحديث مستَنَد أهل التحقيق الذين لا ينظرون إلى أفعالهم ولا إلى أفعال جميع الخلائق في سائر أحوالهم، بل ينظرون إلى فعل الحق - تعالى وتقدس - لا على عقيدة الجبرية، بل يقطعون الوسائط والأسباب بما لهم من المكاشفة والوجدان، وهؤلاء يسمَّون بلسان الصوفية: الأولياء بالأفعال. * * * 4521 - وقَالَ أَنسٌ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسنِ النَّاسِ خُلُقًا، فأرسَلَنِي يومًا لِحاجَةٍ، فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسِي أنْ أذهبَ لِما أمرَنِي بهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخَرجتُ حتى أمُرَّ على صبيانٍ وهُمْ يَلعبونَ في السُّوقِ، فإذا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قدْ قَبضَ بِقَفايَ مِنْ ورائِي، قَالَ: فنظرتُ إليهِ وهو يَضحكُ فقال: "يا أُنَيْسُ! ذَهَبْتَ حيثُ أَمَرتُكَ؟ "، قُلتُ: نعمْ، أنا أذهبُ يا رَسُولَ الله! قوله: "قد قبض بقفاي من ورائي" الحديث. "قبض": إذا أخذ، "القفا" مقصورًا: مؤخَّر العنق، يذكَّر ويؤنث، و"وراء" - ممدودًا - بمعنى: خلف، وقد يكون بمعنى قدَّام، وهو من الأضداد، ذكره في "الصحاح"، وهي ها هنا بمعنى خلف، و"أنيس": تصغير أنس. قول أنس: "نعم أنا أذهب" - في جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال له "ذهبت" معناه: أذهبت إلى مأموري؟ فقال له: (نعم) - يُوِهمُ أنه ذهب، وإن كان ما ذهب، لكن لمَّا عزم على الذهاب عليه صح أن يقول: نعم، إذ المأمول كالموجود، ثم صرح بقوله: (أنا أذهب). * * *

4522 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنتُ أَمشِي معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ بُرْدٌ نَجْرانِيٌّ غليظُ الحاشِيَةِ، فأدركَهُ أعرابيٌّ فجَبذَهُ بردائِهِ جَبْذَةً شَدِيدةً، رَجَعَ نبيُّ الله في نَحْرِ الأَعْرابيِّ، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرَتْ بها حَاشِيَةُ البُرْدِ منْ شِدَّةِ جَبْذَتِه، ثُمَّ قَالَ: يا مُحَمَّدُ! مُرْ لي منْ مالِ الله الذي عِندَكَ، فالتفَتَ إليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ضحِكَ، ثمَّ أمرَ لهُ بعَطاءٍ. قوله: "وعليه برد نجراني غليظ الحاشية" الحديث. "نجران": بلد باليمن. "حاشية" كل شيء: طرفه. "أدرك": إذا لحق. "جبذ" وجذب بمعنى. "النحر": موضع القلادة من الصدر. "الصفحة": الجانب. يعني: جر أعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه من خلفه جرًا شديدًا، بحيث رجع في نحره؛ يعني: اصطدم بنحره، وصار عاتقه متأثرًا من شدة جره بحاشية بُرْدِه - صلى الله عليه وسلم -، فلما التفت إليه طلب منه شيئًا من الزكاة، فضحك، وأمر له بالإعطاء. وفيه إشارة إلى أنَّ مَن ولي على قوم يُستحبُّ له الاحتمال من أذاهم، والاحتمالُ في نفس الأمر حسن، ومن الحكام أحسن. * * * 4523 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسنَ النَّاسِ، وأجودَ النَّاسِ، وأشجَعَ النَّاسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المَدِينةِ ذَاتَ لَيلةٍ، فانطلقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوتِ، فاستقبلَهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ سَبقَ الناسَ إلى الصَّوتِ، وهو يقول: "لَمْ تُراعُوا, لَمْ تُراعُوا"، وهوَ على فرسٍ لأبي طَلْحةَ عُرْيٍ ما عليهِ سَرجٌ، في عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: "لقدْ وجدْتُهُ بَحْرًا". وقوله: "ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة" الحديث. قال في "شرح السنة": معناه: استغاثوا، والفزع يكون بمعنى الخوف،

ويكون بمعنى الاستغاثة. قال أصحاب اللغة: يقال: فَزِعَ منه: إذا خاف، وفَزِعَ إليه: إذا استغاث والتجأ، ومنه المَفْزَع؛ أي: الملجأ. "ذات ليلة"؛ أي: في ليلة. "انطلق": ذهب. "قبل الصوت": جانبه. "الاستقبال": التوجه إلى شيء. راع يَرُوعُ رَوْعًا: إذا خاف. قال في "شرح السنة": يقال: فرسٌ عُرْيٌ وخيلٌ أَعْرَاء، ولا يقال: رجلٌ عُرْيٌ، ولكن عُرْيان، والعُرْي: مصدرٌ في الأصل وُصف به، ومعنى قوله: "فرس عُرْي": ليس عليه سرج. قال في "الصحاح": عَرِيَ من ثيابه يَعْرَى عُرْيًا، فهو عارٍ وعُرْيان، والمرأة عُريانة، وما كان على فُعلان مؤنَّثه بالهاء. ويقال للفرس: إنه لبحر؛ أي: واسع الجري، وإنما شبهه بالبحر؛ لأن البحر إذا كانت الريح طيبة يستريح مَن يركب فيه، فكذلك الفرس إذا كان جوادًا ولم يكن شموسًا يستريح راكبه، ويسيره كما يشاء بلا تعب. * * * 4524 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: ما سُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيئًا قطُّ فَقَالَ: لا. قوله: "ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط فقال لا"، (قطُّ) معناه: للماضي من الزمان، بخلاف (عَوْض)؛ فهو للمستقبل من الزمان، تقول: قطُّ ما فارقتك، وعَوْضُ لا أفارقك، ولا يجوز أن تقول: قط ما أفارقك، كما لا يجوز أن تقول: عوض ما فارقتك، ذكره في "الصحاح". يعني: ما كان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد السائل أبدًا، بل كان يعطي السائل إذا

حضر عنده شيء من الأموال، وإلا كان يجيب بنعم. * * * 4525 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً سَألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَنَمًا بينَ جبلَيْنِ فأعطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقَال: أيْ قومِ! أسْلِمُوا، فَوَالله إنَّ مُحمَّدًا ليُعطِي عَطاءً ما يَخافُ الفقرَ. قوله: "أي قوم أسلموا"، أي: للنداء، وهي للقريب. و (قومِ) - بكسر الميم - أصله: قومي، فحذفت الياء اكتفاء بكسرة الميم، والإسلام في اللغة: الانقياد والاستسلام، وفي الشرع: تصديق ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو والإيمان سواءٌ عند الجمهور. و"ما يخاف": جواب القسم. * * * 4526 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -: بيْنَمَا هو يَسيرُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ منْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَتِ الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حتَّى اضْطَرُّوهُ إلى سَمُرَةٍ فخطِفَتْ رداءَهُ، فوقَفَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعطُوني رِدَائِي، لوْ كَانَ لي عَددُ هذِه العِضَاهِ نَعَمًا لَقسمْتُهُ بينكُمْ، ثمَ لا تَجِدُونَنِي بَخيلًا ولا كَذوبًا ولا جَبانًا". قوله: "مَقْفَلَه من حنين" الحديث. "المَقفَل" بفتح الميم والفاء: مصدر ميمي، من (قفل يَقْفُل): إذا رجع من السفر. و"حُنين" بضم الحاء: موضعٌ بين مكة والطائف. و"فعلقت الأعراب"؛ أي: طفقوا، وقيل: نشبوا.

يقال: اضْطَرَّه إليه: ألجأه، وأصل اضْطَرَّ: اضْتَرَّ، فقلبت التاء طاء للتجانس. و"السَّمُرة": من شجرة الطَّلْح، وسَمُر وسَمُرات جمع، ذكره في "منتخب الصحاح". خَطِفَ يَخْطَف: إذا استلب. قوله: "لو كان لي عَدَدَ هذه العضاه نَعَمٌ"، (نعم) اسم (كان)، و (لي) خبره واجب التقديم، و (عدد) منصوبٌ على المصدر؛ أي: لو كان لي نعمٌ تعدُّ عددَ هذه العِضَاه لقسمتها بينكم ولا أبالي، ويجوز أن ينصب على نزع الخافض؛ أي: لو كان لي نعمٌ بعدد هذه، فحذفت الباء، ثم نصب. وقوله: "ثم لا تجدوني بخيلًا" بمعنى: لا تعلموني بخيلًا, و (بخيلًا) مفعوله الثاني، "ولا كذوبًا": عطف عليه، وكذا "ولا جبانًا". واعلم أن وجودك للشيء قد يكون بالحواس الخمس، وقد يكون بالعلم والبصيرة، فإذا وجدته بالعلم والبصيرة يتعدى إلى مفعولين؛ لأنك عرفت ذلك الشيء على صفة (¬1)، وهو كما ذكر، وإذا وجدته بأحد الحواس يتعدَّى إلى مفعول واحد، كقولك: وجدت الضالة. يعني: إذا رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين، طفقت الأعراب يسألونه شيئًا من النعم، وقد أحاطوا به - صلى الله عليه وسلم - حتى ألجؤوه إلى شجرةٍ ذات شوكٍ من أشجار تلك البادية، فتعلق رداؤه بها، فوقف، ثم من غاية خُلُقه العظيم قال: "أعطوني ردائي، لو كان لي نعم بعدد هذه العضاه" يريد به الكثرة "لقسمته بينكم". ¬

_ (¬1) في "ق": "صفته".

ثم عرفهم السخاوة له والصدق والشجاعة فقال: (ثم لا تجدوني) الحديث؛ يعني: إذا جربتموني في الوقائع لا تجدوني متصفًا بالأوصاف الرذيلة، وفيه دليلٌ على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه؛ ليعتمد عليه. قال في "الغريبين": العضاه: شجر أم غيلان، وقيل: كل شجر له شوك يَعْظُمُ، وهي جمع عِضَة، وأصلها: عِضَهة. * * * 4527 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغَداةَ جَاءَ خَدمُ المَدِينةِ بآنِيَتهِمْ فيها المَاءُ، فَمَا يأتُونَ بإناءٍ إلَّا غَمسَ يَدهُ فِيْها، فرُبَّما جَاؤُوهُ في الغَداةِ البَارِدَةِ فيَغمسُ يَدهُ فيها. قوله: "إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم" الحديث. "صلاة الغداة": صلاة الصبح. "الخَدَم" بفتح الخاء والدال: جمع خادم غلامًا كان أو امرأة. "الآنية": جمع إناء، غمسه في الماء يبلُّه فانغمس؛ يعني: كان خدم المدينة يأتون بالأواني التي فيها الماء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليغمس فيها يده متبركين لذلك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغمس في كل واحد من الأواني ولو جاؤوا بها في الغداة الباردة. وفيه دليل على جواز أن يُطلب مثلُ ذلك وغيرُه ممَّا يُتبرك به من العلماء والصلحاء. * * * 4528 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: كانتِ الأمَةُ منْ إمَاءِ أَهْلِ المَدِينةِ لَتأخذُ بيدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطَلِقُ بهِ حيثُ شاءَتْ.

قوله: "كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ" الحديث. "انطلق": إذا ذهب، وانطلق به: إذا أذهبه؛ يعني: لو أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ أو أمةٌ لحاجة لقضى حاجته، ولو دعاه إلى شغل لأجابه، بحيث لو كان يأخذ بيده - صلى الله عليه وسلم - فيذهب به حيث شاء لَمَا أبى، تكريمًا وتفضُّلاً عليه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4529 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ امرَأةً كَانتْ في عَقْلِها شيءٌ، فقَالَت: يا رَسُولَ الله! إنَّ لي إليكَ حَاجَةً، فَقَال: "يا أُمَّ فُلانٍ! انظُري أيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حتَّى أقْضيَ لكِ حاجَتَكِ"، قال: فخَلا مَعَها في بَعْضِ الطُّرُقِ حتَّى فَرغَتْ منْ حَاجتِها. قوله: "أي السكك شئت"، (السكك): جمع سكة، وهي ها هنا بمعنى الزقاق، والزقاق يذكَّر ويؤنَّث. * * * 4530 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لم يكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحِشًا ولا لعَّانًا ولا سَبَّابًا، كانَ يَقُولُ عندَ المَعْتَبَةِ: "ما لَهُ؟ تَرِبَ جَبينُه". قوله: "كان يقول عند المعتبة: ما له؟ ترب جبينه"، (المعتبة): مَفْعَلة من عتِب يعتَب: إذا غضب، وهي الخصلة التي تجر العتب، كالمنجلة والمندمة (¬1) وغير ذلك. قيل: المعنى بقوله: "ترب جبينه": السجود لله سبحانه وتعالى، دعاء له بكثرة العبادة، وقيل: أراد بهذه الكلمة ما يراد بـ (تربت يمينه)؛ لِمَا فيهما من ¬

_ (¬1) في "ش" و"ق": "والمندبة".

احتمال الدعاء عليه وله. * * * 4531 - عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قيلَ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ على المُشركينَ، قَالَ: "إنَّي لمْ أُبعثْ لعَّانًا، وإنَّما بُعِثتُ رَحْمةً". قوله: "وإنما بعثت رحمة"، (إنما): للحصر؛ يعني: ما بعثت إلا رحمة للعالمين، أما كونه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للمؤمنين فظاهر، وكونه رحمة للكافر؛ فلا يعجل الله في عقوبته في الدنيا؛ لوجوده - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. * * * 4532 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قال: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها، فإذا رَأَى شَيئًا يكرَهُهُ عَرَفْناهُ في وجههِ. قوله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها"، (العذراء): البكر، و (الخِدر) بكسر الخاء: الستر؛ يعني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر حياء من البكر المخدَّرة التي من شأنها الحياء. * * * 4533 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: مَا رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُستجْمِعًا قطُّ ضاحِكًا حتى أَرى منهُ لهَوَاتِهِ، إنَّما كانَ يَتبسَّمُ. قوله: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعًا قط ضاحكًا" الحديث. يقال: استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمع الفرس جريًا؛ يعني: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكًا كلَّ الضحك؛ يعني: ما ضحك بالقهقهة

حتى أرى منه لهواته. و"اللهوات": جمع لهاة، وهي ما في أقصى سقف الفم، كاللثة. "كان يتبسم"، والتبسُّم دون الضحك. * * * 4534 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكُنْ يَسرُدُ الحَدِيثَ كَسْردِكُمْ، كانَ يُحدَّثُ حَدِيثًا لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحصَاهُ. قوله: "لم يكن يسرد الحديث كسردكم، كان يحدَّث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه" يقال: فلان يسرد الأحاديث سردًا؛ أي: يتابعها، ومثله: يسرد الصيام سردًا؛ أي: يواليه، ذكره في "الغريبين". أحصى يحصي إحصاء: إذا عدَّ؛ يعني: ما كان أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - متتابعة بعضها في أثر بعض، كما هو عادة الناس في التحديث والإخبار، بل كان يفصل بين الكلامين في الإخبار حتى لا يشتبه على المستمع بعض كلامه ببعض؛ يعني: كان يتكلم بكلام مفهوم واضح في غاية الإيضاح والبيان. قال في "شرح السنة": "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد سردَكم هذا، ولكنه يتكلم بكلام بينه فصلٌ، يحفظه مَن جلس". هذا دليل على المعنى الذي ذكر، وكان قليل الكلام بحيث لو أراد شخص أن يعدَّ أحاديثه لقدر أن يعدَّها بالسهولة. * * * 4535 - وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: ما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصنعُ في بيتهِ؟ قَالَت: كانَ يَكُونُ في مَهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعنِي: خِدمَةَ أَهْلهِ - فإذا حَضرتْ الصَّلاةُ خرجَ إلى الصَّلاة.

قولها: "كان يكون في مَهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" قال في "الصحاح": (المَهنة) بالفتح: الخدمة. وحكى أبو زيد، والكسائي: (المِهنة) بالكسر، وأنكره الأصمعي. يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتغل بمصالح أهله وعياله في بيته، فإذا جاء وقت الصلاة خرج إليها. * * * 4536 - وعَنْها قَالَتْ: "ما خُيرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ أمرَيْنِ قطُّ إلَّا أخذَ أيسَرَهُما, ما لمْ يكُنْ إِثْمًا، فإنْ كانَ إِثْمًا كانَ أبعدَ النَّاسِ منهُ، وما انتقمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهكَ حُرمَةُ الله فيَنتقِمَ لله بها. قولها: "وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط" الحديث. (نقم): إذا كره وأنكر، و (انتقم): إذا عاقب أحدًا لنفسه. قال في "الصحاح": (انتهاك الحرمة): تناولُها بما لا يحل، يقال: فلانٌ انتهك محارم الله؛ أي: فَعَل ما حرَّم الله فِعْلَه. يعني: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاقب أحدًا لنفسه؛ أي: في شيء يتعلق بنفسه, بل إذا أذنب أحد ذنبًا من الكبائر عاقبه لله سبحانه حدًا. * * * مِنَ الحِسَان: 4539 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالتْ: لمْ يكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحِشًا ولا مُتفحِّشًا، ولا سخَّابًا في الأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكنْ يَعْفُو ويَصفحُ. قولها: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا ولا سخابًا في

الأسواق"، (الفاحش): ذو الفحش، كتامِرٍ ولابن؛ أي: ذو تمرٍ، وذو لبن، و (المتفحش) بتاء: المتكلَّف؛ أي: الذي يتكلف الفحش ويتعمده. و (السَّخاب): كثير السَّخَب، وهو الصياح، والسَّخَب والصَّخَب بمعنًى. و (الأسواق): جمع سوق، وهو موضع التجارة، وهو يذكَّر ويؤنث. * * * 4540 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - يُحدِّثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ كَانَ يَعُودُ المَرِيضَ، ويتْبعُ الجَنَازَةَ، ويُجيبُ دَعوةَ المَمْلُوكِ، ويَركَبُ الحِمَارَ، لقدْ رأيتُهُ يومَ خَيْبَرَ على حِمارٍ خِطامُه لِيفٌ. قوله: "لقد رأيته يوم خيبر على حمارٍ خطامُه ليف"، (خيبر): موضع بالحجاز، ذكره في "الصحاح"، و (الخطام): الزمام. و (اللَّيف): خوص النخل، الواحدة: ليفة، وفيه دليلٌ على أن الركوب على الحمار سنة. * * * 4541 - وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عنها قَالَت: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْصِفُ نَعلَهُ، ويَخِيطُ ثوبَهُ، ويَعمَلُ في بيتِه كَمَا يَعْمَلُ أحدُكُمْ في بيتِهِ. قولها "يخصف نعله، ويخيط ثوبه"، (الخصف): ترقيع النعل طاقةً على طاقةٍ، وأصل (الخصف): الضم؛ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر ما يحتاج إليه من خصف النعل وخياطة الثوب وغير ذلك بيده الشريفة، تنزُّهًا عن التكبر والتكلف، كما قال: "أنا وأتقياء أمتي بُرآءُ من التكلف". * * * 4542 - وقَالَتْ: كَانَ بَشَرًا منَ البشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، ويَحلُبُ شَاتَهُ، ويَخدُمُ نفسَهُ.

قولها: "كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" قال في "الصحاح": (البَشَر): الخلق، ويريد به: أولاد آدم، و (الفلي): النظر في الرأس أو في الثوب: هل فيه شيء من القمل؟ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدًا من أولاد آدم من حيث الظاهر، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] وكان يعمل بيده ما يعنُّ له من الحوائج كما ذكر قبل، لكنه مخصوصٌ من حيث المعنى بالنبوة والرسالة والقرب من الله سبحانه ما لا يفوز به أحد من الرسل والملائكة، كما قال: "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسل". * * * 4543 - وقِيْلَ لِزَيدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه -: حدِّثْنا أَحَاديثَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فكَانَ إذا نزلَ عَلَيهِ الوَحْيُ بعثَ إليَّ فكتَبْتُهُ لَهُ، وكانَ إذا ذَكَرْنا الدُّنْيا ذَكرَها مَعنا، وإذا ذَكَرْنا الآخِرَةَ ذَكَرَها معَنا، وإذا ذكَرْنا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ معَنا، فكُلُّ هذا أُحدِّثُكُمْ عنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كنت جاره، فكان إذا أنزل عليه الوحي" الحديث. "الجار": الذي يجاورك. "بعث إلي": أرسل. "فكتبته له"؛ أي: كتبت الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "وكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا"؛ يعني: إذا كنا شَرَعْنا في ذكر الدنيا كأنه يوافقنا في ذكرها، وكذلك إذا شرعنا في شيء من ذكر الآخرة وغيرها كان يوافقنا في ذكر ذلك، وهذا في قوله: "فكل هذا أحدثكم" إشارة إلى ما ذكر قبل. واعلم أن ظواهر هذه الأحاديث كلِّها مستندة لضعفاء أمته - صلى الله عليه وسلم -، وكان ممهدًا بقواعد الشريعة المصطفوية، فلو لم يفعل ذلك لكان في الشرع ضيقٌ

وحَرَجٌ، فقد أتى بذلك حتى يكون لضعفاء أمته مستندٌ من عنده - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. * * * 4544 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا صَافحَ الرَّجُلَ لَم يَنزِعْ يَدَهُ مِنْ يدِهِ حتَّى يَكُونَ هوَ الَّذِي يَنزِعُ يَدَهُ، ولا يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ حتَّى يكونَ هوَ الذِي يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ، ولمْ يُرَ مُقدَّمًا رُكبتَيْهِ دينَ يَدَيْ جَليسٍ لهُ. قوله: "كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده" الحديث. (المصافحة والتصافح): الأخذ باليد. نزع ينزع نزعًا: إذا جرَّ. (الجليس) بمعنى المُجالس؛ يعني: ما كان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع ركبتيه عند من يجالسه، بل يخفضهما، تعظيمًا لجليسه. وهذا من مكارم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تعليم لأمته أن يكرموا من يصافحهم ويجالسهم؛ جلبًا للمودة بينهم. * * * 4545 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَدَّخِرُ شيئًا لِغدٍ. قوله: "كان لا يدخر شيئًا لغد"، (ادخر يدَّخر): إذا أبقى شيئًا لنفسه للعاقبة، وأصل (ادخر): ادْتَخَر على زنة افْتَعَل، فقلبت التاء دالًا للتجانس، ثم أدغمت إحداهما في الأخرى؛ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبقي شيئًا لغدٍ توكلًا على الله سبحانه، واعتمادًا على خزائن الله التي لا نفاد لها. وهذا الحديث مستندُ ذوي البصائر واليقين. * * *

4546 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طَويلَ الصَّمْتِ. قوله "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويل الصمت"، (طويل): نعتٌ من طال يطول، على زنة: ظَرُفَ يظرف، و (الصمت): السكوت؛ يعني: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير السكوت؛ يعني: ما كان يتكلم إلا لحاجة، أو لجوابِ سائل، أو لتعليمِ طالب، فإذا تَقرَّر هذا؛ فالسكوت عما لا يعني من أهم المهمات، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4547 - وعَنْ جَاِبرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ في كَلامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَرْتيلٌ وتَرْسِيلٌ. قوله: "كان في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترتيل وترسيل"، (الترسل والترسيل): التبيين والإيضاح؛ يعني: كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضحًا مفهومًا فصيحًا في غاية الفصاحة. * * * 4550 - عَنْ عبدِ الله بن سَلامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلَسَ يتحدَّثُ، يُكثِرُ أنْ يرفعَ طَرْفَهُ إلى السَّماءِ". قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء"، (التحدث): التكلم، (الطرف): العين؛ يعني: كان يكثر النظر إلى السماء حالة التكلم، ترقبًا لمجيء جبريل - صلوات الله عليهما - من عند الله سبحانه. * * *

4 - باب المبعث وبدء الوحي

4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ (باب المبعث وبدء الوحي) (المبعث)؛ يعني: البعث، وهو مصدرٌ ميمي من (بعث): إذا أرسل، (البدء): الابتداء، (الوحي): الرسالة والإلهام. مِنَ الصِّحَاحِ: 4551 - عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَرْبَعِينَ سَنةً، فمَكثَ بمكَّةَ ثَلاثَ عشْرةَ سَنةً يُوحَى إِليهِ، ثُمَّ أُمِرَ بالهِجرةِ فهَاجَرَ عشْرَ سِنينَ، ومَاتَ وهُوَ ابن ثَلاثٍ وستَّينَ سَنةً. "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة" الحديث. اللام في (لأربعين): للتاريخ؛ أي: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كافة الخلق بعد أربعين سنة. قال في "الصحاح": لام التاريخ، كقولك: كتبتُ لثلاثٍ خَلَوْنَ؛ أي: بعد ثلاث. * * * 4552 - وعَنْ عمَّارِ بن أبي عمَّارٍ، عَنْ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم - قَالَ: أقامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكّةَ خَمْسَ عشْرَة سَنةً، يَسمَعُ الصَّوْتَ ويَرَى الضَّوْءَ سَبعَ سنينَ ولا يَرَى شَيْئًا، وثَمَانِي سِنينَ يُوحى إلَيهِ، وأقامَ بالمدِينةِ عَشْرًا. قوله: "ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئًا" الحديث. "الضوء": الضياء؛ أي: كان في الليالي المظلمة يرى ضياء عظيمًا.

قوله: "ولا يرى شيئًا" يجوز أن يريد به: ولا يرى شيئًا آخر سواه، أو: لا يرى شيئًا يعتدُّ به (¬1)، إذ في النظر إلى الضوء فقط لا فائدة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وحاصل الحديث: أن الملك إذا نزل على نبي كان معه ضوء الملائكة، فينفر الطبع البشري منه، حتى يكاد يغشى عليه. ولهذا كان يصيبه عند بُرَحاء الوحي أشباه ذلك، فيصير كأنه مغشيٌّ عليه، فاستؤنس أولًا بالضوء المجرد، ثم بعد ذلك غشيه الملك، هذا سر الحديث. ويجوز أن يريد بالضوء: انشراح صدره قبل نزول الوحي، فسمَّى الانشراح في الصدر ضوءًا؛ ولمَّا تكمَّل انشراح صدره، ووصل العمر إلى الأربعين، وانتهى سن الشباب، وتكمَّل الحِلْم، استعد أن يكون واسطةً بين الله سبحانه وبين خلقه. * * * 4555 - وعَنِ الزُّبَيْرِ بن عَدِيًّ - رضي الله عنه -، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُبضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ ابن ثلاثٍ وسِتَّينَ، وأبو بَكْرٍ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتَّينَ، وعُمَرُ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتِّين وقَالَ مُحَمَّدُ بن إِسْمَاعيل: ثَلاثٍ وسِتَّينَ أكثرُ. قوله: "قال محمد بن إسماعيل: ثلاث وستين أكثر" المراد به: البخاري صاحب "الصحيح". * * * 4556 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: أَوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّادِقةُ في النَّومِ، فكَانَ لا يَرَى رُؤْيا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثمَّ حُببَ إليهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلو بِغَارِ حِراءٍ فيَتحَنَّثُ فيهِ - وهو التَّعبُّدُ - ¬

_ (¬1) في "ق": "بعيدًا" مكان: "يعتد به".

اللَّياليَ ذَواتِ العَددِ قبلَ أنْ يَنزِعَ إلى أَهْلِهِ ويتزوَّدَ لذلكَ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى خَديجةَ فيتَزوِّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وهوَ في غَارِ حِراءٍ، فجَاءَهُ المَلَكُ فَقَال: "اقْرَأْ"، قَالَ: "ما أَنَا بقارِئٍ"، قَالَ: "فأخذَنِي فغَطَّنِي حتَّى بَلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَني، فَقَال: اقْرَأْ، فَقُلتُ: مَا أَنَا بِقارِئٍ، فأخذَنِي فغَطَّني الثانيةَ حتَّى بلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال: اقْرَأْ، قُلْتُ: ما أَنَا بِقارِئٍ، فأخذَنِي فغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "، فرجَعَ بها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدخَلَ على خَديْجَةَ فَقَال: "زَمِّلونِي، زَمِّلوني"، فزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لخَديجةَ رَضيَ الله عنها وأخْبَرَها الخبَرَ: "لقدْ خَشيتُ على نَفْسِي"، فقالتْ خَديجةُ: كلاَّ والله لا يُخْزِيكَ الله أبدًا، إنّكَ لَتَصِلُ الرَّحمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوائبِ الحَقِّ، ثُمَّ انطلقَتْ بهِ خَديجةُ إلى وَرَقَةَ بن نَوْفَلِ، ابن عمِّ خَديجَةَ، فقالتْ لهُ: يا ابن عمِّ! اسمَعْ مِن ابن أخِيْكَ، فقالَ لهُ وَرَقَةُ: يا ابن أخي! ماذا تَرَى؟ فأخبَرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الَّذي أَنْزلَ الله علَى مُوسَى، يا لَيْتَني فيها جَذَعًا، لَيْتَني أكونُ حيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ "، قَالَ: نعمْ، لمْ يأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ مَا جِئْتَ بهِ إلَّا عُودِي، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوفِّيَ، وفترَ الوَحْيُ حتَّى حَزِنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنَا - حُزنًا غَدَا مِنْهُ مِرارًا كيْ يَترَدَّى منْ رُؤُوْسِ شَواهِقِ الجِبالِ، فكلَّما أَوْفَى بذِروَةِ جَبَلٍ لِكيْ يُلقِي نفسَهُ منهُ تبَدَّى لهُ جِبريلُ فَقَال: "يَا مُحَمَّدُ! إنَّكَ رَسُولُ الله حَقًا". فيَسكُنُ لذلكَ جأْشُهُ وتقِرُّ نفسُهُ. قولها: "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَقَ الصبح، ثم حبب إليه

الخلاء، وكان يخلو بغار حراء" إلى قوله: "وأخبرها الخبر". قال في "شرح السنة": فَلَقُ الصبح، وفَرَقُ الصبح: ضوؤه إذا انفلق، ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]. قال الإمام التُّورِبشْتي في "شرحه": (الفَلَق) بالتحريك: هو الصبح بعينه، قال ذو الرُّمَّة: حتى إذا [ما] انجلى عن وجهه فلق وإنما أضافه إلى الصبح لاختلاف اللفظين، وحسُنت هذه الإضافة لكون الفلق من الألفاظ المشتركة، يقال للخلق: الفلق، وللمطمئنِّ من الأرض: الفلق، كأنما شبهها بالفلق لإنارتها وإضاءتها وصحتها، هذا كله لفظ الإمام. "ثم حبب إليه الخلاء"، (ثم): للتعقيب مع التراخي؛ يعني: بعدما رأى - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا حبب إليه الخلوةُ والعزلة عن الناس، وكان يخلو بغار حراء. الغار والغارة والمغارة: الكهف في الجبل. قال في "شرح السنة": و (حراء): جبل بمكة، وهي مكسورة الحاء مفتوحة الراء ممدودة. قال الخطابي: وأصحاب الحديث يَقْصُرونه، وأكثرهم يفتحون الحاء، ويكسرون الراء، سمعت أبا عمر [الزاهد] يقول: حراء: اسم على ثلاثة أحرف، وأصحاب الحديث يغلطون فيه في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة، وأنشد: وراق ليَرْقَى في حراء ونازل هذا كله لفظ الخطابي. ويجوز منع الصرف في (حراء) نظرًا إلى التأنيث، ويجوز صرفه نظرًا إلى التذكير.

قال في "شرح السنة": (يتحنَّث فيه)؛ أي: يتعبد، والتحنُّث: التعبُّد، سمي به لأنه يُلقي به الحنثَ والذنبَ عن نفسه، ومثله: التحوُّب والتحرج والتأثم؛ لإلقاء الحَوْب والحَرَج والإثم عن نفسه. قال في "الصحاح": (الليالي): جمع ليل، وأصلها: ليالٍ، كأهلٍ وأهالٍ، فزادوا فيها الياء على غير قياس، وهي نصبٌ على الظرف. (الذوات): جمع ذات. (نزع) إلى الشيء الفلاني (ينزع نزعًا): إذا اشتاق. (تزود يتزود): إذا أخذ الزاد؛ يعني: كان يتعبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء أيامًا قلائل قبل أن يشتد الشوق إلى أهله؛ يعني: كان لا يتبتل عن أهله بالكلية إلى خلوته، وكان معه في الخلوة زاد تلك الأيام، فإذا نفد زادُه كان يرجع إلى خديجة أم فاطمة - رضي الله عنهما - فيأخذ الزاد قَدْرَ ما يكفيه تلك الأيام. "حتى جاءه الحق وهو في غار حراء"؛ أي: جاءه الوحي، هذا مستند أرباب السلوك في الخلوة والعزلة عن الناس. قيل: الخلوة: أن يخلو الرجل عن غيره وعن نفسه بربه سبحانه، إذ شَغْلُ نفسك إياك أعظم جنايةً وأشدُّ نكايةً من شَغْلِ غيرك، إذ شغلُ العين قد ينقطع أحيانًا، والرجل لا ينفك من أن يسمع من نفسه حديثها، أو يُسمعها حديثه، إلا أن يشغله عن ذلك استماع كلام الله تعالى، أو مناجاته ربه. ثم الخلوة نعمت الذريعةُ عن رضاع الطبيعة، إذ فيها تتبرأ ساحته عن طوارق الفضول وعوائق الذهول، وتنقاد له نفسه في العبادات، فمن كانت هذه صفته، فقلبه مَقَرٌّ لواردات علوم الغيب، ومَظْهَرٌ لتجليات الرب سبحانه وتعالى. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب العزلة والخلوة؛ لأنه كان يجمع أشتات الفكر بهما، ويقطع نفسه القدسية عن مخالطة البشر. قال في "شرح السنة": (الغط): الضغط الشديد، ومنه: الغط في الماء،

ويروى: (فغتَّني)، ومعناه الغط أيضًا. قال الإمام التوربشتي: وفي بعض الروايات: (فخنقني)، وفي بعضها: (فسأبني). قال في "الصحاح": سأبت الرجلَ سأبًا: إذا خنقته حتى يموت، وغطَّه في الماء يغطُّه غطًا: مَقَله وغوَّصه فيه. قال الحافظ أبو موسى: إنما قال: (غطه)؛ ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئًا إذا اضطر؟. وقال الإمام التوربشتي في "شرحه": (الجَهدُ) بفتح الجيم وضمها، وبرفع الدال ونصبها، مروي، والأحسن: ضم الجيم ورفع الدال، معناه: بلغ مني الطاقة. وقال: نصب الدال وَهْمٌ من الراوي، أو تجويزٌ من طريق الاحتمال؛ لأنه إذا نُصب معناه: غطه حتى بلغ الطاقة في ضغطه بحيث لم يبق فيه مزيد. تقدير الكلام: بلغت المنتهى في الجهد، يقال: بلغت الجهدَ، وبلغني الجهدُ، قال تعالى: {بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40]، وقال: {بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]. و (الجُهد) بضم الجيم: الطاقة، وبفتحها: النَّصَب والشدة؛ أي: بلغ الجهد مني أقصى المنتهى. وهذا القول غير مستقيم؛ لأن البشر لا يقاوم الملك في القوة، لا سيما في أول الأمر؛ لأن النفس نفور عما لم تره، ومنذعرة منه؛ أي: خائفة. قال في "شرح السنة": "يرجف فؤاده"؛ أي: يخفق، والرجفة: شدة الحركة. "زملوني" معناه: دثَّروني، وتزمَّل الرجل بالثوب؛ اشتمل به، وجه طلبه

التزميل: أنه أصابه رعدة من رؤية الملك وهيبته وعظمة القرآن، والمرتعد إذا زمِّل سكن به، فعبر عن هذا بالروع مجازًا، إذ الروع سبب الرعدة، فوضع السبب موضع المسبَّب. قوله: "لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله" إلى قوله: "على نوائب الحق"، (كلا) هنا للردع، معناه: أمنع (¬1) من هذا الكلام. (النوائب): جمع نائبة، وهي الحادثة؛ يعني: إذ رأى جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - أول ما رأى خشي على نفسه من أن يكون ذلك نوعَ تخبُّطٍ من الشيطان، وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أظن أنه عرض في شبه جنون" فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا. أي: ليس الأمر كما تظن، والله إنَّ مَن اتصف بهذه الصفات الشريفة، وتعوَّد بهذه الخصال الحميدة، حفظه الله سبحانه عما يكرهه، وجعله مصونًا في كنف لطفه وعنايته، وقولها كان مناسبًا لما قيل: إن مكارم الأخلاق تقي مصارع السوء. قال في "شرح السنة": و"تحمل الكَلَّ"؛ أي: المنقطع، تريد: إنك تعين الضعيف، وأصل (الكَلِّ): الذي لا يُعِين نفسَه لضعفه، ومنه قيل: العيال كَلٌّ، قال الله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76]؛ أي: ثقلٌ على وليه. قال: ["وتكسب المعدوم"] وفي بعض الروايات: (وتَكْسِبُ المُعْدَم) وهو الأصوب؛ لأن (المعدوم) لا يدخل تحت الأفعال؛ أي (¬2): تعطي العائل، يقال: كَسَبْتُ الرجلَ مالًا وأكسبته؛ أي: أعطيته، وبحذف الألف أفصح، هذا كله منقول من "شرح السنة". قال الإمام التوربشتي: قلت: و (المعدوم) هي اللفظة الصحيحة بين أهل ¬

_ (¬1) في "ق": "امتنع". (¬2) في جميع النسخ: "التي"، والمثبت من "شرح السنة" (13/ 319).

الرواية، وأجراها بعضهم على الاتساع، فرأى أنه أنزل العائل منزلة المعدوم مبالغة في العجز، كقولك للبخيل، والجبان: ليس بشيء. وعليه قول المتنبي: إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا وعلى مثل هذا يُحمل قول ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلل اللغو. أي: لا يلغو رأسًا، قال الله تعالى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]؛ أي: لا يؤمنون لا قليلًا ولا كثيرًا، وإنما ذكرت لفظ (الكسب) أرادت: إنك لا تزال تسعى في طلب عاجز تنعشه، كما يسعى غيرك في طلب مال يُعينه، هذا كله لفظ الإمام. يعني: الكسب هو الاستفادة، فكما أن غيرك يرغب أن يستفيد مالًا، فأنت ترغب أن تستفيد عاجزًا تعينه، وتجبر حاله. فإن قيل: الإنسان يكسب مالًا لنفسه، والشخص لا يُكسب، بل المكسوب الذي هو المال. قيل: فيه وجهان: أحدهما: أنك تبذل المال وتأخذ الثواب، فيكون على حذف المضاف، أو المعدوم إذا أعطيته شيئًا انقاد لك وتبعك، فكأنه صار مكسوبًا لك كالعبد المكسوب. قيل: معنى قولها: "وتعين على نوائب الحق": تُعين مَن يصيبه الله تعالى بنوائبه من الفقر والقحط والخوف العظيم وغير ذلك، فأنت تدفعها عنهم، وتعينهم على دفع ذلك. قول ورقة: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى" الحديث. قيل: أهل الكتاب يسمُّون جبريل: الناموس، وهو المراد في الحديث.

قال في "شرح السنة": (الناموس): صاحب سر الرجل، الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصُّه بما يستره عن غيره، يقال: نَمَس الرجل يَنْمِسُ نَمْسًا، وقد نامستُه مُنامسةً: إذا ساررته، فالناموس: صاحب سرِّ الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر. وقوله: "يا ليتني فيها جَذَعًا"؛ أي: شابًا، والأصل في الجَذَع: سنُّ الدواب، وفي حديث علي - رضي الله عنه -: "ثم أسلمت وأنا جَذَعةٌ" أراد: وأنا جَذَعٌ؛ أي: حَدَثٌ في السن، فزاد في آخره هاءً توكيدًا. ونُصب (جذعًا) لأن معناه: يا ليتني كثت جَذَعًا، والتأنيث في قوله: (فيها) لإضمار النبوة والدعوة أو الدولة، يقول: يا ليتني كنت شابًا وقت دعوتك ونبوتك. "أنصرْكَ نصرًا مؤزرًا"؛ أي: بالغًا، وآزَر فلانٌ فلانًا: إذا عاونه على أمره، قوله تعالى: {فَآزَرَهُ} [الفتح: 29]؛ أي: قوَّاه، والأَزْر: القوة، قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]؛ أي: قوِّ به ظهري، هذا كله منقول من "شرح السنة". النحو يقتضي أن يكون نصب (جذعًا) على الحال؛ لأن حذف (كان) وإبقاءَ خبره لا يجوز إلا عند القرينة، كما ورد: إنْ خيرًا فخير؛ لأن (إنْ) حرفُ شرطٍ، وهو من قرائن الفعل، فجاز معه دون غيره، فما قرِّر قد فُهم من نصين مختلفين لسيبويه. قال في موضع: لا يجوز حذف (كان) وإبقاء خبره، قال: لو قلت: عبدَ الله المقتولَ، على تقدير: كن؛ لم يجز؛ لضعف (كان). وقال في موضع: يجوز حذفه. ففُهم من اختلاف نصيه: أنه لا يجوز إلا مع القرينة، فتقدير الكلام:

يا محمد ليتني أعيش في أيام نبوتك جذعًا؛ أي: قويًا شابًا بقوة الجذع من الخيل. أما نظر الشيخ - رحمة الله عليه - فإلى المعنى؛ لأنه تمنى البقاء، فدلالة الحال تجوِّز إضمارَ (كان)، الهمزة في "أومخرجيَّ" للاستفهام، والواو للعطف، فأصله: مُخْرِجوني، فحذفت النون للإضافة، فصار: مُخْرِجوي، فقلبت الواو ياء لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والأولى منهما ساكنة، قُلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، ثم أبدلت ضمةُ الجيم كسرةً لتصح الياء، فصار: مُخْرِجيَّ، ورفعُه تقديري. و"عُودِيَ": ماضٍ مجهولٌ من المعاداة. ونَشِبَ يَنْشَبُ نَشَبًا: إذا تعلَّق، ومعناه ها هنا: لبث، فمعنى قوله: "ثم لم ينشَبْ ورقة أن توفي": لم يمكث ورقة بعدما تكلم بهذا إلا أيامًا يسيرة، ثم قبض روحه. إن قيل: بماذا يحكم لورقة بعد موته، أبالسعادة أم الشقاوة؟. قيل: بالسعادة ودخول الجنة، للنقل والعقل: أما النقل: فما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت قسًا في الجنة" إذ كان من علماء النصارى، ولأنه رآه في نومه قد لبس ثيابًا بيضاء، والثياب البيض تدل على حسن حاله. وأما العقل: فلأنه كان على دين حق، ولم ينسخ بعد؛ لأنه - صلوات الله عليه - كان أولَ زمان إرساله، ولم يدَّع نسخ الأديان، فحكمُه حكمُ غيره من النصارى قبل نسخ دينهم، أو أنه اعترف بالنبوتين العيسوية والمحمدية، وتمنى البقاء في نصرة الدين، فكأنه قد آمن به ونصره. فمعنى قوله: "وفتر الوحي": انقطع الوحي أيامًا. "وعدا"؛ أي: جاوز.

"مرارًا": جمع مرة. "تردَّى": إذا سقط في بئر، أو تهوَّر من جبل، والتهوُّر: الوقوع في الشيء بقلَّةِ مبالاة، والمعنى الثاني هو المراد في الحديث. "الشواهق": جمع الشاهق، وهو الجبل المرتفع. "أوفى": إذا وصل ذروته، وذروة كلِّ شيء: أعلاه. "تبدَّى": إذا ظهر. قوله: "حقًا": مصدر مؤكِّد للجملة السابقة، وهي قوله: "إنك رسول الله" وهو نصبٌ بفعل مضمر؛ أي: أحقَّ هذا الكلام حقًا. و"الجأش": القلب. و"تقر"؛ أي: تستقر. * * * 4557 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثُ عَنْ فَترةِ الوَحْي قَالَ: "فبَيْنا أَنا أمشِي إذْ سَمِعْتُ صوتًا مِنَ السَّماءِ، فرفعتُ بَصَري، فإِذَا المَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بحِراءٍ قاعِدٌ على كُرسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجُئِثْتُ منهُ رُعْبًا، حتَّى هَويْتُ إلى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فقُلتُ: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلُوني، فأنزَلَ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله -: {فَاهْجُرْ}، ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ". قوله: "فجُئثت منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض" الحديث. "جُئِثَ" الرجل؛ أي: فزع، فهو مجؤوث؛ أي: مذعور، قال في "شرح السنة": ويروى: (جُئِثْتُ)، يقال: جُئِثَ الرجل، وجُثَّ وجوثَ؛ أي: فزع. "رعبًا": نصبٌ على الحال أو المفعول المطلق؛ أي: ممتلئًا رعبًا؛ يعني: خوِّفت من ذلك الملك الذي جاءني مرعوبًا كل الرعب. "حتى هويت إلى الأرض"؛ أي: سقطت.

"زمَّله" في ثوبه؛ أي: لفَّه، وتزمَّل بثيابه؛ أي: تدثَّر، وأصل المدَّثر: المتدثر، فقلبت التاء دالاً، وأدغمت الدال في الدال. "حمِي" بالكسر: إذا اشتد حرُّه، "تتابع" وتوالى: إذا جاء مرة بعد أخرى، ومعنى قوله: (ثم حمي الوحي وتتابع)؛ أي: بعد ذلك اشتد نزول الوحي من عند الله سبحانه متتابعًا، بحيث ما انقطع إلى أن قبض روحي. * * * 4558 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: أنَّ الحَارِثَ بن هِشامٍ - رضي الله عنه - سَألَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: يا رَسُوْلَ الله! كيفَ يأتِيكَ الوَحْيُ؟ فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحْيانًا يأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهوَ أَشَدُّهُ عَليَّ، فَيُفْصِمُ عنِّي وقدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قَالَ، وأحْيانًا يَتمثَّلُ لي المَلَكُ رجُلاً فيُكلِّمُني فأعِي ما يقولُ"، قالت عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: ولقدْ رأيتُهُ يَنزِلُ عليهِ الوَحْيُ في اليومِ الشَّديدِ البرْدِ، فيَفْصِمُ عَنهُ وإنَّ جَبينَهُ ليَتَفَصَّدُ عَرَقًا. قوله: "كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس" الحديث. "كيف": سؤال عن الحال. "الأحيان": جمع حين، وهو الزمان، وهي نصب على الظرف. قال في "شرح السنة": "الصلصلة": صوت الحديد إذا حرك. قال أبو سليمان الخطابي: يريد - والله أعلم - أنه صوت متدارك، يسمعه ولا يتثبَّته عند أول ما يَقْرع سَمْعَه حتى يتفهَّم ويستثبت، فيتلقفه حينئذ ويعيه، ولذلك قال: "وهو أشده علي". "فينفصم عني" معناه: فينقطع، ومنه قوله تعالى: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:

256]، ومن روى: (فيُفصم عني) - وهو الأصح - فمعناه: يقطع عني. "وقد وعيت"؛ أي: حفظت. قولها: "ليتفصد عرقًا" قال الزمخشري: (تفصَّد)؛ أي: تصبَّب، يقال: تفصد وانفصد، ومنه (الفاصدان): مجريا الدموع. وانتصاب (عرقًا) على التمييز. "الجرَس" بفتح الراء: الذي يعلَّق في عنق البعير. قيل: وأصل (الوحي): الإشارة السريعة، ولتضمُّن السرعة يقال عند العجلة: الوحا الوحا. ويقال: توحَّ يا هذا؛ أي: أسرِعْ، ومنه يقال: أمرٌ وَحِيٌّ؛ أي: سريع. قيل: الوحي أقسام: قد يكون بالكلام، ولا يأتي ذلك إلا بواسطة ملك يمثَّل له في صورة بشرية، كجبريل تمثَّل له في صورة دِحْيَة الكلبي. وقد يكون بالرمز والإشارة والكتابة، كما قال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] قيل: معناه: أشار، وقيل: كتب. وقد يكون بإلهام، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. وقد يكون بتسخير، كما قال سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. وقد يكون بالرؤيا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات" قيل: وما المبشِّرات؟ قال: "رؤيا المؤمن". فالإلهام والتسخير والرؤيا ثلاثتها غير مختصةِ بالأنبياء، بل ربما تكون للأولياء، والتسخير قد يكون للجماد، قال الله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].

فجميع الأقسام شهد به التنزيل، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، فالإلهام والتسخير والرؤيا دل عليها قوله تعالى: {إِلَّا وَحْيًا}، وسماع الكلام من غير واسطةِ ملكٍ دل عليه قوله سبحانه: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، وما هو بواسطة جبريل عليه السلام، أو ملكٍ آخر دل عليه قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. فقوله: (أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس) إشارة إلى السماع الحاصل من وراء الحجاب، ولذلك قال: (هو أشد علي)؛ فإنه لا يحصل ذلك إلا لمن انسدت له مواد الوساوس، وركدت له أسباب الحواس، وحصل له الإقبال بالكلية على الله سبحانه وتعالى، وإنما كان كذلك لأن الحواس معزولةٌ عن مطالعة الملكوت. ولا يستدعي إدراكُ الصور الفعلية والقولية إذا كانت من عوالم المعاني بواسطة ملكٍ النومَ لا زمانًا ولا ترتيبًا كما تستدعيها حالة اليقظة، بل وقعت وقعةً واحدة في نفس النائم، وانتقشت به، ولهذا صارت الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة، فإذا ثبت له هذا المقام، فحينئذ تنتقش الصور في قلبه الملكوتي الكامل، من الأنوار الملكوتية، وأسرار العلوم الغيبية، كما تنتقش الصور المحاذية للمرآة، بل يطالع (¬1) الجبروت وهو عبارة عن العندية والقرب. فقلبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان متصفًا بذلك، ومتهيئًا لقبول الأنوار الملكوتية، وكان مطالعًا للجبروت، فصار مظهرًا للوحي القديم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "تنام عيناي ولا ينام قلبي". فإذا عرفت ذلك: فاعرف أن الجبروت مرآة للملكوت، والملكوتُ مرآة للمَلَك، فالمَلَكي إذا انفتح له عين القلب، وحصل له كمال الاستعداد، يفوز ¬

_ (¬1) في "م": "مطالع".

بحظٍّ وافرٍ من الكشف والمشاهدة في مرآته التي هي الملكوت، فيطالع الأنوار الملكوتية ويشاهدها، وكذا الملكوتي إذا ظفر بمقام أتم (¬1)، يحصل له في مرآته التي هي الجبروت أسرار التدلَّيات والعندية. وما المراد بقوله: (مثل صلصلة الجرس) إلا أن الوحي يأتيه بصوتٍ كصلصلة الجرس، فإنه قد ذُكر قبلُ أن هذا الإدراك لا يستدعي زمانًا ولا ترتيبًا، كما لا يستدعي الإدراك في المنام، لكن هذا الصوت الذي يسمعه هو صوت أجنحة الملائكة، كما روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان"، (الأجنحة): جمع جناح الطائر، وهو يده، (الخضعان والخضوع): التواضع، و (الصفوان): الحجر الأملس؛ يعني: صوت أجنحة الملائكة حالةَ ما قضى الله سبحانه أمرًا تواضعًا لأمره تعالى كصوت سلسلةٍ وقعت على الحجر الأملس. * * * 4559 - عَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أُنزِلَ عَلَيهِ الوَحْيُ كُرِبَ لِذلِكَ وَتَرَبَّدَ وجْهُهُ. وفي رِوَايةٍ: نكًسَ رأسَهُ، ونَكَسَ أَصْحَابُهُ رؤسَهُمْ، فلمَّا سُرِّيَ عنهُ رَفَعَ رأسَهُ. قوله: "إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربد وجهه"، (الكرب): الغم الذي يأخذ بالنفس، تقول: كربه الغم: إذا اشتد عليه، (تربَّد وجهه واربَّد)؛ أي: تلوَّن، فصار كلون الرماد. ¬

_ (¬1) في "ق": "ثم".

قيل: يحتمل أنه كان يهتم بأمر الوحي اهتمامًا شديدًا، مما يطالَب به من حقوق العبودية والقيامِ بشكره تعالى، ويخاف على العصاة من أمته أن ينالهم غضب من الله سبحانه، فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس، حتى يَعرفَ ذلك الوحيَ المأمورَ به فيستريح. ويحتمل أنه كان تغيُّر وجهه وشدةُ غمه القاطعةُ للنَفس عند نزول الوحي من عظمة الله سبحانه، وعظمةِ وحيه القديم ولو كان في كسوة الحروف، فإنه لو لم يكن في كسوة الحروف لَذاب جبريل - عليه السلام - عند تجلَّيه سبحانه له بأمرٍ من أوامره إلى أنبيائه المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، فإذا تقرَّر هذا؛ فكونُه في كسوة الحروف رحمةٌ من عنده تعالى لجميع عباده. قوله: "نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما أثلي عنه رفع رأسه" (نكس رأسه): وطأطأ وأطرق؛ يعني: نظر إلى الأرض كالمتفكر. (أثلي عنه)؛ أي: قُطع عنه الوحي، قيل: (أثلي عنه)؛ أي: أُسري عنه، وقيل: صُرف عنه، وقيل: (أتلي) بالتاء؛ أي: قرئ عليه، وعلى هذا: تلي عليه، بغير الألف. وقيل: أتلي عليه؛ أي: كُشف عليه، فالتاء بدل من الثاء؛ أي: أثلي عليه؛ يعني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُطْرِقُ رأسه عند نزول الوحي تعظيمًا وإجلالاً للوحي القديم، والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يطرقون رؤوسهم موافقةً له، فإذا كشف عنه رفعوا رؤوسهم. قال الإمام التوربشتي: أرى صوابه: (فلما تلي عليه) من التلاوة. * * * 4560 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: لمَّا نَزلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى صَعِدَ الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادِي: "يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيّ! "،

لبُطونِ قُريشٍ، حتَّى اجتمعُوا، فجَعَلَ الرَّجُلُ إذا لمْ يستطِعْ أنْ يَخرجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِينظُرَ ما هوَ، فجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُريشٌ، فقال: "أرأيتُمْ إنْ أخبرتُكُمْ أنَّ خَيْلاً تخرُجُ منْ سَفْحِ هذا الجَبلِ - وفي رِوَايةٍ: أنَّ خَيْلاً تخرجُ بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُم - أكُنتُمْ مُصَدِّقيَّ؟ "، قالوا: نَعَمْ، مَا جرَّبنا عليكَ إلَّا صِدقًا، قَالَ: "فإنَّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عذابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ، ألِهذا جَمعْتَنا؟ فنزلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. قوله: "فجعل ينادي يا بني فهر" الحديث. "جعل" ها هنا بمعنى: طفق. قال في "الصحاح": و (فِهْر) أبو قبيلة من قريش، وهو فهر بن مالك بن النَّضْر بن كنانة. و (عدي) من قريشٍ رهطُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. و"البطون": جمع بطن، وهو دون القبيلة. "أرأيتم" معناه: أخبروني. و"الخيل" ها هنا بمعنى: الفرسان، قال الله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} [الإسراء: 64]؛ أي: بفرسانك، و"الصفح": ناحية الشيء؛ يعني: أعلموني أني إن أخبرتكم بخروج الأعداء من ناحية هذا الجبل فهل أنتم تصدقوني فيه أم لا؟، قالوا: نعم، فإنا جربناك في الأمور، ووجدناك صادقًا. "قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، (النذير): المنذر، (بين يدي عذاب شديد)؛ أي: قدَّام عذاب شديد إما في الدنيا أو في الآخرة. "قال أبو لهب: تبًا لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} "، (تبًا له)؛ أي: خسرانًا وهلاكًا له، وهذا من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها كسقيًا ورعيًا؛ يعني: قال أبو لهب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تبًا لك ألأجل هذا دعوتنا

أجمعين؟ فأنزل الله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ أي: خابتا وخَسِرتا، فعبَّر باليد عن نفسه، وهذا مجازٌ شائع، وهو إطلاق الجزء على الكل، وقيل: اليد زائدة، كما قيل: يد الرزايا، ويد الدهر، فعلى هذا المعنى يكون جاريًا مجرى الدعاء، وقوله: {وَتَبَّ} إخبار؛ أي: وقد تبَّ، ويجوز أن يكون توكيدًا للأول؛ أي: تبت يدا أبي لهب، وتب أبو لهب. * * * 4561 - عَنْ عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنما رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي عِندَ الكَعبةِ، وجَمْعُ قُريشٍ في مَجالِسِهِمْ، إذْ قالَ قائِلٌ: أيُّكُمْ يقومُ إلى جَزورِ آلِ فُلانٍ فيَعْمِدُ إلى فَرْثِها ودَمِها وسَلاها، ثُمَّ يُمْهلُهُ حتَّى إذا سجدَ وضعَهُ بينَ كتِفَيْهِ؟ فانبعَثَ أَشْقَاهُمْ، فلمَّا سَجدَ وَضَعَهُ بينَ كتِفَيْهِ، وثَبَتَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا، فضَحِكوا حتَّى مَالَ بعضُهم على بَعضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فانطلقَ مُنطلِقٌ إلى فَاطِمةَ رَضيَ الله عَنْها فأخبَرَهَا، فأقبلَتْ تسعَى، وثَبَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا حتَّى ألقَتْهُ عنهُ، وأقبَلَتْ عَليهِمْ تسُبُّهُمْ، فلمَّا قضَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ قَالَ: "اللهمَّ! عليكَ بقريشٍ"، ثلاثًا - وكانَ إذا دَعا دَعا ثلاثًا، وإذا سألَ سألَ ثلاثًا - اللهمَّ! عليكَ بعَمرِو بن هِشامٍ، وعُتبةَ بن رَبيعةَ، وشَيْبَةَ بن رَبيعةَ، والوليدِ بن عُتْبةَ، وأُميَّةَ بن خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ، وعُمَارةَ بن الوَليدِ"، قَالَ عبدُ الله: فوَالله لَقَدْ رَأيتُهُمْ صَرْعَى يومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبوا إلى القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأُتبعَ أَصْحابُ القَلِيبِ لَعنةً". قوله: "أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها" الحديث. "أيُّ": اسمٌ مُعْرَبٌ يُستفهم به، و"الجزور" من الإبل: يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنث في اللفظ.

"عمد يعمد": إذا قصد. "الفرث": السِّرْجين ما دام في الكرش. قال في "الصحاح": و (السَّلَى) مقصور: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، إذا نزعت عن وجه الفصيل ساعة يولد، وإلا قتلته، وكذلك إذا انقطع السَّلَى في البطن، فإذا خرج السَّلَى سلمت الناقة وسلم الولد، فإذا انقطع في بطنها هلكت، وهلك الولد. (إلى) في قوله: "إلى جزور" نصب على الحال؛ أي: أيُّ واحدٍ منكم يقوم قاصدًا إلى جزور آل فلان. وكذا (تسعى)، في قوله: "وأقبلت تسعى" نصب على الحال، و (تسبهم)، في قوله: "وأقبلت عليهم تسبهم". "فانبعث أشقاهم"؛ أي: فذهب أشقى كفار قريش - وهو أبو جهل - إلى ما أمر به. قال في "شرح السنة": وقال شعبة عن أبي إسحاق: إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفت على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أيضًا فيه: قيل: كان هذا الصنيع منهم قبل تحريم هذه الأشياء من الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك، ولم تكن تبطل الصلاة بها، كالخمر كان يصيب ثيابهم قبل تحريمها. وقال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": وفي قوله: "ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقت فاطمة عنه" دليل على أن مَن كان في ركن من الصلاة إذا طرأ ناقض للصلاة، فينبغي أن يثبت في ذلك الركن حتى يندفع الناقض، فلو انتقل من ذلك الركن إلى ركن آخر قبل زوال الناقض بطلت صلاته. و (عليك) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بقريش، وعليك بعمرو بن هشام" اسم فعل معناه: خذ؛ يعني: خذهم مقهورين.

و"صرعى": جمع صريع، وهي نصب على الحال من الضمير المنصوب في "رأيتهم"، و"بدر": موضع، وقيل: هو بئر كانت لرجل يقال له: بدرًا. و"القليب": البئر قبل أن يُطوى، يذكَّر ويؤنث. و"أتبع أصحاب القليب لعنة" قيل؛ أي: لحقتهم اللعنة. * * * 4562 - عن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها أَنَّها قَالَتْ: يا رَسُولَ الله! هل أتَى عَلَيكَ يَومٌ كانَ أَشَدَّ مِن يومِ أُحُدٍ؟ قَال: "لقدْ لَقيتُ منْ قومِكِ، وكانَ أشدَّ ما لَقيتُ منهُمْ يومَ العَقَبةِ، إِذْ عَرَضْتُ نفسِي على ابن عبدِ يالِيلَ بن عبدِ كُلالٍ فلمْ يُجِبني إلى مَا أردْتُ، فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وجْهِي، فلمْ أستَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فرفعتُ رأسِي فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظلَّتْنِي، فنظَرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فنادَانِي فَقَال: إنَّ الله سَمِعَ قولَ قومِكَ وما ردُّوا عليكَ، وقدْ بعثَ إليكَ مَلَكَ الجبالِ لِتأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهِمْ"، قَالَ: "فَنَادانِي مَلَكُ الجبالِ وسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُا إنَّ الله قدْ سَمِعَ قولَ قومِكَ، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقدْ بَعَثنِي ربُّكَ إليكَ لِتأْمُرَني بأمْرِكَ، إنْ شِئتَ أنْ أُطْبقَ عليهِمُ الأخشَبَيْنِ"، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجُو أنْ يُخرِجَ الله منْ أصْلابهِمْ مَن يعبُدُ الله وحْدَهُ لا يُشرِكُ بهِ شَيئًا". قوله: "وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة" الحديث. قيل: أراد بـ (العقبة): جمرة العقبة التي هي بمنى، وهو موضعٌ بمكة، وأراد بيوم العقبة وشدَّته: اليوم الذي وقف عند العقبة في الموسم، فكان يدعو القبائل من العرب إلى الله سبحانه، فما أجابوا ذلك، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتد عليه، وكان يفعل ذلك بعد وفاة عمه أبي طالب. وكان أبو طالب ينصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش، فلما مات كان الكفار تؤذيه - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى الطائف يدعو ثقيفًا إلى الله، فأبوا ذلك، فلما يئس

منهم قدم مكة، فوجد الكفار أشد مما كانوا عليه من إيذائه ومخالفته، إلا شرذمة قليلين آمنوا به وصدقوه. فلما أراد الله سبحانه إظهار دينه ونصرة نبيه وإنجاز وعده ذهب إلى الموسم يدعو قبائل العرب إلى الإسلام كما كان يفعل في كل موسم، فأجاب رهطٌ من الخزرج أراد الله بهم الخير بما دعاهم إليه، وقبلوا منه الإسلام، ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا أقوامهم إلى الإسلام، فأجابوهم إليه، حتى فشا فيهم الإسلام، حتى إذا كان العام المقبل، وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر رجلًا منهم بالعقبة، فبايعوه على بيعة النساء، وهو أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا ... إلى آخره. قوله: "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي"؛ أي: كأني مغشيٌّ عليه، "فلم أستفق إلا بقرن الثعالب"؛ أي: فلم يَزُلْ عني ذلك الغَشْيُ والغمُّ العظيم إلا بقَرْنِ الثعالب، وهو جبلٌ بين مكة والطائف، و (استفاق وأفاق) بمعنًى واحد. و (إذا) في قوله: "فإذا أنا بسحابة"، و (إذا) فيها للمفاجأة. (طبَّق)؛ أي: جعل الشيء فوق الشيء، محيطًا بجميع جوانبه، كما ينطبق الطبق على الأرض، فمعنى قوله: "أن أطبق عليهم الأخشبين"؛ يعني: ألقي عليهم جبلي مكة ليهلكوا. قال في "شرح السنة": سميت (أخشبين): لصلابتهما وغلظ حجارتهما. * * * 4563 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ يومَ أَحُدٍ وشُجَّ في رأسِهِ، فجَعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنهُ ويقولُ: "كيفَ يُفلِحُ قومٌ شَجُّوا نبيَّهُمْ وكَسَروا رَباعِيَتَهُ؟! ".

5 - باب علامات النبوة

قوله: "كسرت رباعيته يوم أحد" الحديث. قال في "الصحاح": (الرَّباعية) مثل الثمانية: السنُّ التي بين الثَّنية والناب، والجمع: رَبَاعِيَات. "أحد": جبلٌ بالمدينة. "والشج": كسر الرأس. و"جعل": معناه: طفق. "سلت الدم": إذا مسحه، وأزاله عنه. "أفلح": إذا ظفر وفاز به. * * * 5 - باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ (باب علامات النبوة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4566 - قَالَ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتاهُ جِبريلُ وهوَ يَلعبُ معَ الغِلْمانِ، فأخذَهُ فصَرَعَهُ، فشَقَّ عنْ قلبهِ، فاستخْرَجَ منهُ عَلَقةً فقال: "هَذَا حَظُّ الشَّيطانِ مِنْكَ"، ثُمَّ غَسَلهُ في طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ وأَعادَهُ في مَكانِهِ، وجَاءَ الغِلْمانُ يَسْعَوْنَ إلى أُمِّهِ - يعني: ظِئْرَهُ - فقالوا: إنَّ مُحَمَّدًا قد قُتِلَ، فاستقبَلُوه وهوَ مُنْتَقِعُ اللَّونِ، قالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: فكنْتُ أرَى أثرَ ذلك المِخْيَطِ في صَدرِه. "فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة" الحديث. "صرع": إذا ألقى. و"استخرج"؛ أي: أخرج. و"العلقة": واحدة العلق، وهي دم غليظ. يقال: (لأَمْتُ) الجرحَ والصَّدْع: إذا شددته فالتأم، فقوله: (لأمه) معناه: أصلحه.

و"انتقع اللون وامتقع": إذا تغير من حزن أو فزع. و"المِخْيَط والخِيَاط": الإبرة. واعلم أن شقَّ صدره - صلى الله عليه وسلم - صُوري، وسببه: أنه أراد الله سبحانه وتعالى أن يقدس قلبه وينوِّره بأنوار ألطاف جلاله، تحصيلًا لكمال الاستعداد حال الطفولة، وتهييئًا لقبول الوحي القديم السماوي، فتصير نفسه قدسية ملكوتية؛ لكونها منقادة للقلب، فكانت قابلة للأنوار الإلهية التي جعلت في القلب، فأرسل إليه جبريل صلوات الله عليهما، حتى شق صدره، فأخرج منه علقة، وهي التي تكون أمَّ المفاسد والمعاصي في الإنسان. فلهذا قال بعدما أخرجه: "هذا حظ الشيطان"، ثم غسل قلبه بماء زمزم، فينبغي أن لا يستبعد عن الشق الصوري، فإن شأنه أعلى وأجلُّ أن تقيس نفسَه - صلى الله عليه وسلم - على نفسك، فإنه لا غير ذلك في حقه، كما قال في صفة نفسه: "إلا أن الله أعانني عليه فأسلم"، مع أن النفس مجبولة على الكفر والضلال، وكذلك معراجه الذي هو جسماني خارجٌ عن قياسك وعقلك. فإذا عرفت هذا؛ فاعرف أن هذا الحديث وأمثاله ينبغي أن تؤمن بظاهرها، ولا تتعرض لها بتأويل متكلف، بل تُحيل إلى قدرة الله القادر الحكيم، فإنه تعالى على كل شيء قدير. * * * 4567 - وعن جَابرِ بن سَمُرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بمكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عليَّ قبلَ أنْ أُبعَثَ، إنَّي لأَعرِفُهُ الآن". قوله: "إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني

لأعرفه الآن" قيل: سلام الحجر على الرسول يفسَّر على وجهين: أحدهما: أن الله تعالى يخلق فيه نطقًا معجزةً للرسول، فيكون كلام الجماد من جملة معجزاته، كما أن إحياء الميت من جملة معجزات عيسى عليه السلام، وهذا أقوى من إحياء الميت؛ لأن الله تعالى جعل جمادًا ناطقًا لم يكن له النطق أصلًا، بخلاف الميت، فإن له الحياة من قبل. الثاني: أنه يشاهد من الحجر أنه لو كان ناطقًا لشهد بنبوته، وفيه تحريض على أن شهادة الإنسان أولى. ووجه السلام عليه: أن يجعله مستأنسًا بنزول الوحي، فإذا نزل لا ينفر منه. وعند علماء التصوف: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحرف (¬1) له عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فكان يسمع صوت الحجر حينما يسلم عليه بسمعه الظاهرة؛ لأنها صارت قدسية ملكوتية لذلك الانحراف (¬2)، بل جميع جوارحه الشريفة كانت بهذه المثابة؛ لأنه كان يرى الآثار العلوية بعينه الظاهرة، كالمعراج وغير ذلك. * * * 4568 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ أهْلَ مكَّةَ سَألُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُريَهُمْ آيةً، فأرَاهُمْ القَمرَ شِقَّتَيْنِ، حتَّى رأَوْا حِراءَ بينهُما. قوله: "فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما"، (الشق): الجانب؛ يعني: أَرَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش حين سألوه أن يريهم ما يدل على نبوته من ¬

_ (¬1) في "ق": "ينخرق". (¬2) في "ق": "الانخراق".

خرق العادة انشقاقَ القمر شقين بإشارته إليه، بحيث أنه كان جبل حراء مرئيًا بين الشقين. قال تاج القراء في "تفسير اللباب": سأل أهلُ مكة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - آية، فانشق القمر بمكة مرتين، وعلى هذا جلُّ المفسرين، ورواه مسلم والبخاري في "صحيحيهما". قال في "شرح السنة": قال جماعة من المنكرين على هذا الحديث: هذا أمر عجيب، ولو كان له حقيقةٌ لم يَخْفَ ذلك على العوام، ولتناقلته القرون، ولخلِّد ذكره في الكتب، وذكره أهل العناية بالسير والتواريخ. قيل لهم: هذا شيءٌ طلبه قومٌ خاضٌّ على ما حكاه أنس، فأراهم ذلك ليلًا وأكثر الناس نيام ومستكنُّون بالأبنية، والأيقاظ في الصحارى والبوادي قد يتفق أن يكونوا مشاغيل في ذلك الوقت، وقد يكسف القمر فلا يشعر به كثير من الناس. وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، ولو دامت هذه الآية حتى يشترك فيها العامة والخاصة ثم لم يؤمنوا لاستؤصلوا بالهلاك، فإنَّ من سننه - عز وجل - في الأمم قبلنا: أن نبيهم كان إذا أتى بآية عامة يدركها الحس، فلم يؤمنوا، أهلكوا، كما قال تعالى في المائدة: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] نزل في هذا المعنى، فلم يظهر الله تعالى هذه الآية للعامة لهذه الحكمة، والله أعلم. هذا كله منقولٌ من "شرح السنة". والعجب من المنكر أن يخالف النص الصريح، وهو قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2]، قال

في "تفسير اللباب" في سبب النزول: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات. * * * 4569 - وقَالَ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: انشقَّ القَمرُ على عهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِرقتَيْنِ: فِرْقَةً فوقَ الجبَلِ، وفِرْقَةً دُونَهُ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "اشْهَدُوا". قوله: "فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه" قيل: الفرق والفرقة: الفلق من الشيء إذا انفلق، والفلق؛ أي: القطعة والشق. ووجه علوِّ فرقة وتسفُّل أخرى: التنبيه الشديد على حصول الانشقاق، إذ لو تساوتا لتُوهِّم أن شعاع القمر اتسع كما يتسع في ليلة البدر، فلما تباينتا علوًا وسفلًا ظهر الانشقاق الصريح. * * * 4570 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قالَ أبو جَهْلٍ: هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجْهَهُ بَيْنَ أظهُرِكُمْ؟ فقيلَ: نعمْ، فقالَ: واللاَّتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأيتُهُ يفعلُ ذلكَ لأَطأنَّ على رَقَبَتِهِ، فأتَى رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يُصلِّي، زَعَمَ لِيَطأَ على رَقبَتهِ، فما فَجِئَهُم منهُ إلَّا وهوَ يَنْكِصُ على عَقِبَيْهِ ويَتَّقي بيدَيْهِ، فقيلَ لهُ: مالكَ؟ فقَالَ: إنَّ بينِي وبينَهُ لخَندقًا منْ نارٍ وهَوْلاً وأجنِحةً، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا". قوله: "هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم" الحديث. "التعفير": التمريغ، و (يعفِّر): معناه ها هنا: يسجد. "بين أظهركم"؛ أي: بينكم.

قيل: "اللات": اسم صنم بالطائف، وقيل: كان رجلًا يلتُّ السَّوِيق للحاج، فلما مات عبدوه. قال في "الصحاح": ويقال: "العزى": سَمُرةٌ كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتًا وأقاموا لها سَدَنةً، فبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة، وهو يقول: يا عُزَّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك السَّمُرة: شجرٌ في البادية، السَّدَنة: جمع سادن، وهو الخادم لبيت الأصنام. "لأطأن على رقبته"؛ أي: لأضعن رجلي على رقبته. "فجأ الأمرُ وفاجأ": إذا أتى بغتةً. "نكص على عقبيه": إذا رجع، (العقِب) بكسر القاف: مؤخَّر القدم، وهي مؤنثة. "أتَّقي" أصله: أَوْتقي، قلبت الواو تاء، وأُدغمت التاء في التاء، معناه: أحذر وأحترز. "ما لك"؛ أي: أيُّ شيء لك؟. "الخندق": الشق حول البلد. "الهول": الخوف. "الأجنحة": جمع جناح، وهو يد الطائر، والمراد بالأجنحة ها هنا: الملائكة الذين يحفظونه - صلى الله عليه وسلم -. "اختطف وخطف": إذا استلب وأخذ. يعني: سأل أبو جهل أصحابه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يضع جبهته للسجود؟

فقيل: نعم، فأقسم بالأصنام على أنه لو أبصره يسجد لوضع رجله على رقبته، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، وقصد أن يفعل ذلك، فلما قرب منه رأى النار العظيمة حوله والأهوال كما ذكر في الحديث الصريح، رجع إلى قومه خائفًا مضطربًا على عقبيه. * * * 4571 - وقَالَ عَدِيُّ بن حَاتِمٍ - رضي الله عنه -: بَيْنا أنا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أتاهُ رَجُلٌ فشَكا إليهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتاهُ آخرُ فشَكا إليهِ قَطْعَ السَّبيلِ، فَقَالَ: "يا عَدِيُّ! هلْ رأيتَ الحِيرَةَ؟ "، قَالَ: نَعَم، قَالَ: "فإنْ طَالَتْ بِكَ حَياةٌ فلَتَرَيَنَّ الظَّعينَةَ تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوفَ بالكَعْبةِ لا تَخَافُ أَحَدًا إلَّا الله، ولَئنْ طَالَتْ بكَ حَياةٌ لتُفْتَحنَّ كُنوزُ كِسْرَى، ولَئنْ طَالَتْ بِكَ حياةٌ لتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ منْ ذهَبٍ أو فِضّةٍ، يَطلُبُ مَنْ يَقبَلُهُ منهُ فلا يَجِدُ أحدًا يَقبَلُهُ منهُ، ولَيلقَيَنَّ الله أحدُكُمْ يومَ يَلقاهْ وليسَ بينَهُ وبينَهُ تَرْجُمانٌ يُترجِمُ لهُ، فلَيقولَنَّ: أَلَمْ أبعَثْ إِليْكَ رَسُولًا فيُبلِّغَكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيقولُ: ألَمْ أُعطِكَ مالًا وأُفْضلْ عليكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيَنظُرُ عنْ يَمينِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، وينظُرُ عنْ يَسارِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، فاتَّقُوا النَّارَ ولوْ بشِقِّ تَمْرةٍ، فمَنْ لمْ يَجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ". قالَ عَدِيٌّ: فرأيتُ الظَّعينَة تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوف بالكعبةِ لا تخافُ إلَّا الله، وكنتُ فيمَنْ افتتحَ كُنوزَ كِسْرَى بن هُرْمُزَ، ولَئنْ طالَتْ بكُم حَياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -: يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ. قوله: "فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة" الحديث. "الظعينة": المرأة ما دامت في الهودج، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة، والمراد ها هنا: المرأة، سواءٌ كانت في الهودج أم لا.

"ترتحل"؛ أي: تذهب وتمشي. "الحِيرة" بكسر الحاء: مدينة بقرب الكوفة. "الكنوز": جمع، وهو جمع كنز، وهو المال المدفون، وقد كنَزْتُه أَكْنِزُه. و"كسرى": لقب ملوك الفرس - بفتح الكاف وكسرها -، وهو معرَّبُ خسرو. "ترجم" كلامه: إذا فسره بلسان آخر، ومنه: التَّرْجُمان، على وزن الزَّعْفَران، ويجوز بضم التاء وفتح الجيم (¬1) وبضَمهما. قال عدي: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل شاكيًا الفقر، وآخر شاكيًا قطع الطريق، فقال لي: يا عدي! إن طال عمرك ترى أمن الطريق، بحيث تذهب المرأة من الحيرة إلى مكة قاصدةً إلى البيت، آمنةً غير خائفة سوى الله تعالى، وترى الغنى والسعة بين الناس، بحيث لا يوجد فقير يقبل شيئًا من الأغنياء، ولتفتحن كنوز كسرى. ثم قال عدي: ظهر صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت المرأة من الحيرة إلى مكة، كما ذكر - صلى الله عليه وسلم -، وكنت مع من فتح كنوز كسرى بن هرمز، وقال: وقد بقي الثالث وهو السعة والغنى بين الناس، فمن طال به العمر منكم وجد ذلك. قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" تحريض على التصدُّق بالأموال على المساكين، والاجتناب عما لا يحل له أخذه. * * * 4572 - وقَالَ أبو هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَهلِكُ كِسْرَى ثُمَّ لا كسْرَى بَعْدَهُ، وقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ ثمَّ لا يكونُ قَيْصَرُ بعدَهُ، ولَتُنْفِقُنَّ كُنوزَهُما في سَبيلِ الله". ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بفتح التاء وضم الجيم.

قوله: "يهلك كسرى، ثم لا كسرى بعده وقيصر" الحديث. "قيصر": لقب ملوك الروم؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يهلك كسرى هذا، ثم لا كسرى بعده إلى يوم القيامة؛ يعني: ينقطع ملكه ونسله، وقيصر: ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقن كنوزهم في سبيل الله. قال في "شرح السنة": روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، فمزق كتابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تمزق ملكه". وكتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، فأكرم كتابه، ووضعه في مسك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثبت ملكه". والجمع بين الحديثين: أن كسرى: تمزَّق ملكه، فلم يبق له، وأُنفقت كنوزه في سبيل الله، وأَورث الله المسلمين أرضه، وقيصر: ثبت ملكه بالروم، وانقطع عن الشام، واستفتحت خزائنه التي كانت بها، وأنفقت في سبيل الله، فمعنى قوله: "لا قيصر بعده"؛ يعني: بالشام. * * * 4573 - وقَالَ: "ليَفتَتِحَنَّ عِصَابةٌ مِنَ المُسلِميْنَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الذِي في الأَبْيَضِ". قوله "ليفتتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى الذي في الأبيض"، (افتتح وفتح) بمعنى، (العصابة): الجماعة. قيل: (الأبيض): عبارةٌ عن القصر الذي بالمدائن، ويقال له بالفارسي: سفيدكوشك. قال الإمام التوربشتي: سمعت بعض أصحاب الحديث بهمدان يقول: القصر الأبيض الذي في الحديث هو حصن دارا، الذي هو ابن بهمن، أو دارا بن داراء، ويقال له: شهرستان.

ولم أجد لقوله سندًا من الرواية المعتد بها. واللام في "ليفتتحن": جواب قسم مقدر. * * * 4574 - وعَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنَا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الكَعْبةِ، وقدْ لَقِينا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً، فقُلنا: ألا تَدعو الله؟ فقعَدَ وهوَ مُحْمَرٌّ وجهُهُ، قَالَ: "كانَ الرَّجُلُ فيمَنْ كانَ قبلَكُمْ يُحفَرُ لهُ في الأرضِ فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ فَوْقَ رَأسهِ فيُشَقُّ باثنَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دينِهِ، ويُمشَطُ بأمشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمهِ مِنْ عَظْمٍ وعَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأَمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ منْ صَنعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يخافُ إلَّا الله أو الذِّئبَ على غَنَمِهِ، ولكنَّكُمْ تَسْتَعجِلُونَ". قوله: "فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه" الحديث. "المنشار والمئشار" بالهمز: كلاهما الذي يشق بها الخشبة. "الصد": جَعْلُ أحدٍ معرضًا عن شيء؛ يعني: ما كان العذاب الشديد يصرفه عن دينه. "الأمشاط": جمع مشط، وهو ما يمتشط به. "الأمر" ها هنا: بمعنى الدين. "صنعاء": بلد باليمن. "حضرموت": بلدة، وقيل: اسم قبيلة، وقيل: حضرموت موضع حضرة صالح عليه السلام، فمات فيه، فسمي بهذا الاسم. يعني: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهور الدين على الأديان الباطلة، وظهوره عن فتن الكفرة المتمردين، بحيث لو سار راكب من المسلمين من صنعاء إلى حضرموت لكان آمنًا غيرُ خائفٍ سوى الله تعالى، أو الذئبِ على غنمه، ولو كان بينهما

مسافة بعيدة؛ يعني: سيزول أذى المشركين عن المسلمين؛ لنكبتهم وقوة المسلمين، وفيه تحريضٌ على الصبر على الأذى، والتحمُّل على المشاق، وعدم الاستعجال في الأمور. أشار بقوله: "أو الذئب على غنمه" إلى خلوِّ الطريق والأماكن عن الأعداء، فإن الصحارى إذا خلت ربما يظهر فيها الذئب. * * * 4575 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدخُلُ على أُمَ حَرامٍ بنتِ مِلْحانَ، وكَانتْ تحتَ عُبادَةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه -، فدَخَلَ عليها يَومًا فأطعَمَتْهُ، ثُمَّ جلسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ استيقَظَ وهُوَ يَضحَكُ، قالتْ: فقلتُ: وما يُضحِكُكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: "نَاسٌ منْ أُمَّتِي عُرِضوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله، يَركَبونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ، مُلوكًا على الأسِرَّةِ" - أوْ: "مِثْلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ" -، فقلتُ: يا رَسُولَ الله! ادع الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، فدَعا لَهَا، ثُمَّ وضَعَ رأسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهوَ يَضحكُ، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ما يُضحِكُكَ؟ قال: "نَاسٌ منْ أُمّتي عُرِضُوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله" - كمَا قَالَ في الأُولى -، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، قَالَ: "أنتِ مِنَ الأوَّلينَ"، فركِبَتْ أُمِّ حَرامٍ البَحرَ في زَمَنِ مُعَاويَةَ، فصُرِعتْ عَنْ دابَّتِها حِيْنَ خَرجَتْ مِنَ البَحرِ فهَلَكَتْ. قوله: "يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة" الحديث. قال في "الصحاح": ثَبَجُ كلِّ شيء: وسطه، وثَبَجُ الرمل: معظمه. "الأسرة": جمع سرير، وهو ها هنا بمعنى: سفينة. و"ملوكًا": نصب على الحال من الضمير في "يركبون"، والعامل فيه (يركب)،

و"مثل" صفةُ مصدرٍ محذوف، تقديره: يركبون ركوبًا مثلَ ركوب الملوك. ووجه دخوله - صلى الله عليه وسلم - عليها وهي من الأجانب: أنه كان جميع نساء أمته - صلى الله عليه وسلم - كالمحارم له، من حيث إنه طينةُ وجوده طاهرةٌ مقدَّسةٌ عن الخيانة في النظر وغيرِ ذلك مما يصدر عن بني آدم، فإن مثل هذا يتولد من النفس، ونفسُ غيره - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت منقادة لصاحبها - غير مأمونة فطرةً؛ لأن الشهوة مركَّبة مجبولة فيها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة"؛ يعني: ركَّب فيه الشهوة، فنفسُه - صلى الله عليه وسلم - مأمونةٌ لا يصدر منها إلا الطيب؛ لكونها قدسية ملكوتية، فكانت على طبيعة قلوب الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" فلكمال (¬1) ذاته وطهارة نفسه أن يصح منه - صلى الله عليه وسلم - ما لا يصح من غيره، كما لو ادعى ولا بينةَ له؛ لكان القول قوله بلا يمينٍ، ولو ادعى على أحد وحكم لنفسه، ثبت له ذلك المدَّعى، ولو تَزوَّجَ لصح نكاحه من غير ولي وشهود، وكيف لا وهو أزكى وأفضلُ مَن في السماء والأرض؟. * * * 4576 - وقَالَ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ ضمادًا قَدِمَ مَكَّةَ، وكَانَ منْ أَزْدِ شَنُوْءَةَ، وكَانَ يَرْقي مِنْ هذِه الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهاءَ أهْلِ مَكَّةَ يقُولُونَ: إنَّ مُحمَّدًا مَجنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أنَّي رَأَيْتُ هَذا الرَّجُلَ لَعَلَّ الله يَشْفِيهِ على يَدَيَّ، قالَ: فلِقَيَهُ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّي أَرْقِي منْ هذا الرِّيحِ، فهلْ لكَ؟ فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ونَستَعينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورَسُولُهُ، ¬

_ (¬1) في "ق": "فكمال".

أمَّا بَعْدُ"، فَقَالَ: أعِدْ عليَّ كَلِماتِكَ هؤلاءِ, فأعَادَهُنَّ عليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ وقَوْلَ السَّحَرَةِ وقَوْلَ الشُّعَراءِ، فما سَمِعتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ, ولَقدْ بَلَغْنَ ناَعُوْسَ البَحرِ، هَاتِ يَدَكَ أُبايعْكَ عَلَى الإِسلامِ، قَالَ: فبايَعَهُ. قوله: "إن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة" الحديث. قيل: كان ضماد صديقًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، قال الإمام التوربشتي: ومن أصحاب الحديث مَن يقول: (صماد) أو (صمام بن ثعلبة)؛ أي: بالصاد المهملة، وليس بشيء، فإن الذي اختلف اسمه، فقيل: صمادًا، وصمام بن ثعلبة، هو السعدي الوافد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الأزدي؛ فإنه ضماد بالضاد المعجمة لا محالة. "قدم" فلان من سفره قدومًا: إذا رجع. و"أزد شنوءة": قبيلة من اليمن. "رَقَى يَرْقِي": إذا عالج الداء بشيء، يقرأ ثم ينفث فيه. قال الحافظ أبو موسى: "الريح" كناية عن الجن ها هنا، سمَّوها أرواحًا لأنهم لا يرون، كما أن الأرواح لا ترى. قيل: أشار بقوله: "هذه" إلى جنس العلة التي كانوا يعتقدون أنها تتولد من مسِّ الجن الذي هو نفخةٌ من نفخاتهم، فيسمونها الريح. فلما أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضمادٌ قال له: هل لك رغبة أن أرقيك من الداء الذي بك؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... " إلى آخره، فأعجبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أعِدْ مرة أخرى، فأعادها ثلاث مرات، فقال: ما أحسن وأفصح هؤلاء الكلمات، لقد سمعتُ مقالة الكهنة والسحرة والشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات قط، ولو كنتَ منهم لكان

كلامك مشابهًا لكلامهم. ثم قال: "لقد بلغنا ناعوس البحر ... " إلى آخره، قيل: (الناعوس) في البحر: ما سكن فيه الأمواج، وهو الوسط، والقاموس: قعره. قيل: معناه: انتهى إلى سويداء قلبي معنى كلماتك هذه، قيل: معناه: بلغْنا في سماع كلامك هذا لجةَ بحرٍ لا يتناهى قعرُه في الفصاحة وكثرة المعاني. قال الحافظ أبو موسى: وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم": "ناعوس البحر"، وفي سائر الروايات: "قاموس البحر"، وهو: وسطه ولجته، ولعله لم يجوِّد كِتْبتَه فصحَّفه بعضهم، وليست هذه اللفظة أصلًا في "مسند إسحاق" الذي روى عنه مسلم هذا الحديث، غير أنه قرنه بأبي موسى وروايته، فلعلها في روايته زيادة. قال الإمام التوربشتي في "شرحه": (ناعوس البحر) خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى والرواية، وقد أخطأ فيه الراوي، وروي ملحونًا؛ لأن هذه اللفظة مما لم يسمع في كلام العرب، والصواب فيه: (قاموس البحر). قوله: "هات يدك أبايعك" قال في "الصحاح": هاتِ يا رجل - بكسر التاء - أي: أعطني، والاثنين: هاتِيَا، مثل: آتِيَا، والجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، وللنساء: هاتين، بمثل عاطِينَ، قال الخليل: أصل هات: من آتى يؤتي، فقلبت الألف هاء. و (أبايعك) مجزوم؛ لأنه جوابُ لـ (هات)، وفي (هات) معنى الشرط، تقديره: إن تعطني يدك أبايعْك. قيل: (هات) الصحيح أنه اسم فعل، فالقياس فيه إفرادُه على كلِّ حال، ولهذا ما جاء: هاتيا، ولا هاتي للمرأة، بل جاء: هاتوا، تنبيهًا على أن اسم الفعل يتحمل الضمير. * * *

فصل في المعراج

فصل في المِعْرَاجِ (فصل في المِعْرَاجِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 4577 - عَنْ قَتَادَةَ - رضي الله عنه -، عَنْ أَنَسِ بن مالِكٍ - رضي الله عنه -، عَنْ مالِكِ بن صَعْصَعَة - رضي الله عنه -: أَنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَهُم عَنْ لَيْلَةِ أُسرِيَ بهِ: "بَيْنَما أَنَا في الحَطِيمِ - وربَّما قَالَ: في الحِجْرِ - مُضطَجِعًا، إذْ أتانِي آتٍ فشقَّ ما بينَ هذِه إلى هذِه - يَعني: منْ ثُغْرةِ نَحْرِهِ إلى شِعْرَتِهِ - فاستخرجَ قَلبي، ثُمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ منْ ذَهبٍ مملوءٍ إيْمانًا، فغُسِلَ قَلبي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعيدَ - وفي روايةٍ: ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إيْمَانًا وحِكْمةً - ثُمَّ أُتيتُ بِدابَّةٍ دُونَ البَغلِ وفوقَ الحِمارِ أبيضَ، يَضَعُ خَطْوَهُ عندَ أقصَى طَرْفِهِ، فحُمِلتُ عليهِ، فانطلقَ بي جِبريلُ، حتَّى أتَى السَّماءَ الدُّنيا، فاسْتفتَحَ، قيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جِبريلُ، قيل: ومَن معكَ؟ قال: محمّدٌ، قيلَ: وقدْ أُرسلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرحبًا بهِ فنِعْمَ المجيءُ جاءَ، ففَتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا فيها آدمُ صَلَواتُ الله عليهِ، فَقَالَ: هذا أَبوكَ آدمُ فسَلِّمْ عليهِ، فسلَّمتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحبًا بالابن الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الثَّانيةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَال: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ أُرسلَ إليه؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، ففَتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يَحيَى وعيسَى صلواتُ الله عليهما، وهُمَا ابنا خَالَةٍ، قَالَ: هذا يَحيَى وعيسَى فسلِّمْ عليهما، فسَلَّمتُ، فردَّا ثُمَّ قالا: مَرحبًا بالأخِ الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فاسْتفتَحَ، قِيْلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيْلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ،

ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يُوسُفُ، قَالَ: هذا يُوسُفُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالح، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الرَّابعةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا إِدْرِيسُ، قَالَ: هذا إِدْرِيسُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الخَامِسَةَ، فاستفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريْلُ، قِيْل: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيْلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإِذَا هَارونُ، قَالَ: هذا هَارونُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَال: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ السَّادِسةَ، فاستفتَح، قيل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قِيْل: وقَدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإذا مُوسَى، قال: هذا مُوسَى فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، فلمَّا تَجَاوَزْتُ بكَى، قِيلَ لَهُ: ما يُبكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأنَّ غُلامًا بُعِثَ بعدِي يَدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتِه أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدخُلُها منْ أُمَّتي، ثمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءَ السَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، قِيلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحمَّدٌ، قِيْل: وقدْ بُعِثَ إِليْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإِذَا إِبْراهيمُ، قَالَ: هَذا أَبُوكَ فسَلِّمْ عليهِ، فسَلَّمْتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحبًا بِالابن الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ رُفِعَتُ إِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فإذَا نبَقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ، وإذَا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلَة، قَالَ: هذه سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فإذا أَرْبَعةُ أَنْهارٍ: نهَرانِ باطِنان، ونَهرانِ ظاهرانِ، قُلتُ: ما هذانِ يا جِبْريلُ؟ قَالَ: أمَّا البَاطِنانِ فَنهرانِ

في الجَنّةِ، وأمَّا الظّاهِرَانِ فَالنِّيلُ والفُراتُ، ثُمَّ رُفِعَ لي البَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتيتُ بإناءٍ منْ خَمْرٍ وإناءٍ مِن لَبن وإناءٍ منْ عَسَلٍ، فأخذتُ اللَّبن، فَقَالَ: هِيَ الفِطرةُ التي أنتَ عليها وأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَليَّ الصَّلاةُ خَمسينَ صَلاةً كُلَّ يومٍ، فرَجَعْتُ فمَررْتُ عَلَى مُوسَى فَقَال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بخَمسينَ صَلاةً كُلَّ يَومٍ، قَالَ: إنَّ أمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسينَ صَلاةً في كُلِّ يومٍ، وإنَّي والله قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فارجِعْ إلى ربك فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فرجَعْتُ، فوضَعَ عنِّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فوضَعَ عنَّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرَجَعْتُ فوضَعَ عنِّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فقالَ مِثْلَهُ، فرجَعتُ فأُمِرْتُ بعَشْرِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فأُمِرْتُ بخَمسِ صلواتٍ كُلَّ يومٍ، فرجَعتُ إلى مُوسَى فقال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قلت: أُمِرْتُ بخَمسِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، قال: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسَ صَلواتٍ كُلَّ يومٍ، وإنَّي قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائيلَ أشَدَّ المُعَالجَةِ، فارجِعْ إلى ربكَ فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ"، قَالَ: "سَأَلْتُ ربي حتَّى استَحْيَيْتُ ولكنِّي أرْضَى وأُسلِّمُ" قال: "فلمَّا جاوَزْتُ نادَى مُنادٍ: أمضَيْتُ فَريضَتِي، وخفَّفْتُ عن عِبادِي". "حدثهم عن ليلة أسري به: بينما أنا نائم في الحطيم" الحديث. "ليلة": مضافة إلى (أسري)، و (ليلة): يجوز أن تُبنى على الفتح لإضافتها إلى الماضي، وهو مبني، كقول الشاعر: على حينَ عاتبتُ المشيب على الصبا ويجوز أن تجر. (سرى وأَسْرَى) بمعنى، فيعدى (أسري) بالباء.

قال في "شرح السنة": "الحطيم": الحِجْر، سمي حَطيمًا لِمَا حُطم من جداره، فلم يسوَّ ببناء البيت، حُطم؛ أي: كُسر. قيل: نقل عن مالك أنه قال: (الحطيم): ما بين المقام إلى الباب. وعن ابن جريج: هو ما بين الركن والمقام وزمزم. وعن ابن حبيب أنه قال: (الحِجْر) ما بين الركن الأسود إلى الباب إلى المقام، حيث ينحطم الناس للدعاء؛ أي: ينكسر. وقيل: كان أهل الجاهلية يتحالفون هناك، ينحطمون بالأيمان. قال في "الصحاح": قال ابن عباس: (الحطيم): جدار حجر الكعبة، و (الحِجْر): هو ما حول الحطيم. (الثُّغرة) بالضم: ثغرةُ النَّحر التي بين الترقوتين. و (الشَّعرة) بالكسر: منبتُ العانة، وقيل: هي شعر العانة. وقيل: ويمكن أن يُقال: إن هذا الشق غير الشق الذي كان في صباه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الشق الذي كان في زمان الصبا ليخرِجَ من قلبه مادة الهوى، والشق المذكور في الحديث: كان ليُدخلَ في قلبه كمالَ الحكم والمعرفة والإيمان. كما ذكر في الحديث: "ثم حُشِيَ"؛ أي: مُلِئَ قلبُهُ إيمانًا وحكمة. قوله: "ثم أُتِيْتُ بدابةٍ دونَ البغلِ وفوقَ الحمار ... " الحديث. هذه الدابة عبارة عن البراق، وصفتها: أنها كانت لا تمرُّ على شيء، ولا تطأُ شيئًا إلا حييَ، وكذا لا يصل ريحُها إلى شيء إلا حَييَ. وقيل: إن السَّامري قد أخذ شيئًا من تراب أثر حافرها، ثم ألقاه في فم العجل الذي صاغه من الذهب، فخار لهذا. قوله: "يضعُ خَطوه عند أقصى طَرْفِهِ"، (أَقْصَى): أفعل التفضيل، من

(قَصَا يَقْصُو): إذا بعد. (الطَّرف) بالفتح: الجَانب، وبالسكون: العَيْنُ؛ يعني: هذه الدابة حينما يركبُها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَتْ تضعُ خَطوها عند غايةِ نظرِهَا ومُنتهاه، لا عند ركوب غيره من الرسل والأنبياء - صلوات الله عليهم -؛ لأنه كان لكمال ذاته لا يتجاوز نظر علمه قدم حاله، بل اعتدلَتْ أحوالُه، فكان قلبُهُ وقَالبُهُ وظَاهرُهُ وبَاطنُهُ سواء، فلهذا وصل في المِعراج بالجسم والروح إلى ما وصل غيره من الأنبياء بالروح، وكان في هذا المقام ما التفتَ ظاهُره وباطنُه إلى ما سوى الله تعالى، فوصَلَ إلى مَا وَصَلَ، وفَازَ بما فَازَ. ثم مدَحَهُ تعالى وتقَدَّسَ، وقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، فلو لم يكن كذلك؛ لما وَصَلَ إلى هذا المقام، بل وَصَلَ إلى بعض السماوات كوصول غيره من الأنبياء إلى بعضها بحسب مراتبهم، كما ذكر في الحديث. قوله: "فاستفتَحَ، قيل: مَنْ هذا؟ "، (استَفْتَحَ): إذا طلب الفتح، و (مَنْ) في (مَنْ هذا؟): استفهام. قيل: أراد بذلك: تقريرَ شدة حراسةِ السَّماء وكثرة حراسها، وأن أحدًا لا يقدر أن يمرَّ عليها، ويدخل فيها، إلا بإذن مَنْ هو مُوكَّل عليها. قيل: الاستفتاح من جبريل؛ لأنه كان معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان منفردًا لما احتاج إليه. قوله: "وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا، فنِعْمَ المجيء جاء": (مرحبًا) نُصب على المصدر؛ أي: رحب مرحبًا. (المَجيءُ): فاعل (نِعْمَ)، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نعم المَجيءُ مجيء جاء، قيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: جَاءَ فنِعْمَ المَجيءُ مجيئه. قيل: معنى قوله: (أُرسل إليه؟)؛ أي: أُرسل إليه العروج؟ لأن بعثةَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -

من معظمات الأمور ومشاهيرها، فكيفَ يجوزُ أن يخفى على الملائكة ظهورُها؟ قيل: ربما يخفى عليهم ظهورها، ولو كانَ مِنْ عظائم الأمور؛ لاستغراقهم فيما عنده تعالى وتقدَّس، ورُبما لا يخفى عليهم ظهورُها، لكنهم سألوا عن الإرسال تعجبًا بما أنعمَ الله عليه، أو فرحًا واستبشارًا لعُروجه. قوله: "فلما خَلَصْتُ فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوكَ آدمُ، فسلَّم عليه": خَلَصْتُ؛ أي: بلغْتُ وأتيت. قيل: أمرَ جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالتسليم على الأنبياء - عليهم السلام -؛ لأنه كانَ مارًا عليهم، فكأنه قائمٌ، وهم قعودٌ، ومعلومٌ أن القائمَ يسلمُ على القاعد، وإن كان أفضل. قيل: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أرواحَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - في السماوات، وفي بيتِ المقدس مُشكَّلة بصورهم التي كانوا عليها في الدنيا، إلا عيسى عليه السلام، فإنه يحتمل أنه رأى شخصَه لا رُوحه المُشكَّل بصورتهِ كرؤيته غيرَه من الأنبياء. قوله: "وهُما ابنا خَالة"؛ يعني: يحيى وعيسى - عليهما السلام -، كانا ابني خالة؛ لأن عيسى بن مريم ابنة عمران، وهو يحيى بن الأشيع بنت عمران. قوله: "فلمَّا تَجاوَزْتُ بَكَى": يريد به: موسى عليه الصلاة والسلام. قال الخطابي: لا يجوز أن يُتأوَّل بكاءُهُ على الحَسَدِ له؛ لأن ذلك لا يليقُ بصفات الأنبياء - عليهم السلام -، وأنه بكى من الشَّفقة على أُمته إذا قَصرَ عددُهُم عن مَبْلَغِ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قيل: يحتمل أنه لما علم أنه نبيُّ آخرِ الزمان، وعلى عَقبه تقوم الساعة، فَأشفق من دنوها، فبكى.

ويحتمل أنه لما علمَ أن الرسول سوف ينتهي إلى العرش، وما أرسل إليه إلا لإدراك الرؤية، حتى يحصلَ له شرفٌ لم يحصلْ لأحدٍ قبله، بكى رحمةً لنفسه، غِبطة لا حسدًا، إذ ليس المراد بقوله: "لأنَّ غلامًا جاء بعدي" حقارةَ شأنه، بل المرادُ منه: كثرةُ نعمِ الله تعالى وأفضالِهِ له في مدةٍ يسيرةٍ، فإن العربَ قد يطلقون الغُلام على الشَّاب القوي الذي لم يظهر فيه الضَّعف. قوله: "وإذا ورقُها مثل آذانِ الفِيلَةِ"، الضمير في (ورقها) يعود إلى (سِدْرَةِ المُنتهى). و (الفِيَلَةُ): جمع فيل، كـ: قِرَدَةٌ جمع قِرْدٍ، وباقي الحديث مفسر في (باب صفة الجنة). قوله: "فإذا أربعةُ أنهار؛ نهرانِ باطنان، ونهرانِ ظاهران": قيل: إنما ذكر (بَاطنان)؛ لخفاء أمرهما، وفقدان المَثَل لهما في الشاهد، ولأنهما مخفيَّان عن أبصار الناظرين. وقد جاء في حديث آخر: أنَّ أحدَهما يُقال له: الكَوثر، والثاني يقال له: نهر الرحمة. وقيل: النهران الآخران إنما سُميا: ظاهرين؛ لأنهما يفيضان على الأرض، ويَسقيان الأشجار والزُّروع بلا تعب. قوله: "ثم رُفع لي البيتُ المعمور": قيل: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة، حُرمته في السماء كَحُرمة الكعبة في الأرض، ويقال لهذا البيت: الضُّرَاح، بالضاد المعجمة المضمومة. وشرح (إناء الخمر) و (إناء اللبن) مذكور في (باب بدء الخلق)، وقيل: ما اختار العسل؛ لأنه مشبه بالدنيا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا حلوة خضرة" فلو اختاره لما كان مناسبًا لقوله، مباينًا لفقره ومسكنته حين عُرضَتْ عليه مفاتيح كنوز

الدنيا: "أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا"، ولكانت مظنة لمفاسدَ كثيرة في أُمته من الهمَّ إلى جمع الدنيا والإكباب عليها، والحرصِ العظيم في تحصيلِها، المؤدي إلى مَرارة الفِطام الضروري عنها. قوله: "هي الفِطرةُ أنتَ عليها وأمَّتُكَ"؛ يعني: قال لي جبرائيل عليه السلام: اخترت اللبن هي الفطرة؛ أي: ما اخترتَهُ هي الفطرةُ المذكورة التي جُبلْتَ أنتَ وأمَّتك عليها، وهي الاستعدادُ لقَبولُ السَّعادات الأبدية، التي أوَّلُها الانقيادُ للشرع، وآخرها الوصول إلى الله سبحانه. قوله: "أمضيْتُ فريضتَيِ، وخفَّفْتُ عن عبادي"، يقال: (أمضيت الشيءَ الفلانيَّ): إذا أنفذتُه؛ يعني: نُودي: قد أَنفذْتُ فريضتي على عبادي، وخفَّفْتُ عنهم، فهي خمسُ فرائض كلَّ يوم وليلة في التخفيف، وخمسون فريضة في التضعيف. كما قال في رواية أخرى: "فقال: هي خمسٌ، وهي خمسون, لا يُبدَّلُ القولُ لديَّ"؛ أي: لا تَبديل ولا خُلف لأمري، يعني: ما قضيْتُ عليكم من الفرائضِ لا تبديلَ له، فإن الخمسَ المخفَّفة في العددِ هي الخمسون عندي في التضعيف، [يعني: التخفيفُ من الخمسين إلى الخَمس نظرًا إلى المعنى والحقيقة؛ لأنه من باب الحَسنة، والحسَنةُ بعشرِ أمثالِهَا، فالصلواتُ الخمسُ في العشر تصير خمسين صلاةً، فلهذا خُفِّفَتْ إلى الخمس، فإذا كان كذلك، فالصلوات الخَمسون حكمها باقٍ في الأجر والثواب. أو يريد: أنه يعطي على خَمس صلواتٍ من الثَّواب ما كان يعطي على الخمسين لو فعلوها، فيصيرُ الثواب خمس مئة ضعف] (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين في "ش" و"ق" مؤخر بعد قوله: "قال أرشد الدين الفيروزاني في شرحه".

قال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": قيل: ويُحتمل أن تكون الصَّلوات الخمسون التي أوجبَها الله سبحانه قبل أن يخفِّفها إلى الخمس هي جميع ما يُؤَدَّى يومًا وليلة من الفرائض والسنن المؤقتة وغيرها، فعند عَدِّها يُعرف أنها خمسون. والفرائضُ خمس، ورواتبها التي ما قبلها وما بعدها إحدى عشرة صلاة، فالصبح صلاة واحدة، والظهر قبلها صلاتان، وكذا بعدها صلاتان، والعصر قبلها صلاتان، والمغرب بعدها صلاة واحدة، وللعشاء بعدها صلاة واحدة، والوتر صلاتان؛ إحداهما المقدمة، والثانية هي الوتر، وصلاةُ الليل سِتُّ، وصلاةُ الضُّحى ست، وبين المغرب والعشاء ثلاثٌ، وتحيةُ المسجد عند دخولِه لكلِّ فريضةٍ خمس، وبين الأذان والإقامة خمس، وشُكر الوضوء خمس، وصلاة التسبيح والاستخارة وصلاة التوبة وصلاة الحاجة أربع، فمجموعها خمسون، فقد أوجب الله سبحانه في الأول الخَمسين كلها، ثم خَفَّفَ عن عباده، واقتصر على الخَمس رحمةً لهم، وصار الباقي مندوبًا إليها. قال الخطابي رحمة الله عليه: ومراجعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في باب الصلاة إنما جاءَ من رسولنا محمد وموسى - صلوات الله عليهما -؛ لأنهما عَرَفَا أن الأمرَ الأولَ غيرُ واجبٍ قطعًا، فلو كان واجبًا قطعًا؛ لَمَا صدرَتْ منهما المراجعة، فصدورُ المراجعة دليلٌ على أنَّ ذلك غيرُ واجب قطعًا؛ لأن ما كان واجبًا قطعًا لا يَقبل التخفيف. وقيل: فرضَ في الأول خمسين، ثم رَحِمَ عباده، ونَسَخَهَا بخمسٍ، كآية الرضاع وعدة المتوفى عنها زوجها، وفيه دليل أنه يجوزُ نسخُ الشيء قبلَ وُقُوعِهِ. * * *

4578 - ورَوَى ثَابتٌ عَنْ أنسِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أُتيتُ بالبُراقِ، وهوَ دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ فَوقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، يَقَعُ حافِرُهُ عندَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فركِبْتُهُ حتَّى أتيتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فربَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي يَربطُ بها الأَنبيَاءُ"، قَالَ: "ثُمَّ دخلتُ المَسجِدَ فصلَّيْتُ فيهِ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإناءٍ مِنْ خَمْرٍ وإناءٍ منْ لَبن، فاخْتَرتُ اللَّبن، فَقَالَ جِبريْلُ: اختَرْتَ الفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ". وقَالَ في السَّماءِ الثَّالِثَة: "فإذا أَنَا بيُوسُفَ, إذا هوَ قدْ أُعطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي ودَعا لي بخَيْرٍ". وقالَ في السَّماءِ السَّابعة: "فإذا أنا بإِبْراهيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هوَ يَدخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعودونَ إليهِ، ثمَّ ذَهبَ بي إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وإذَا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، فلمَّا غَشِيَها منْ أمْرِ الله ما غَشِيَ تَغيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ منْ خَلْقِ الله يَستطيعُ أنْ يَنْعَتَها منْ حُسْنِها، وَأوْحى إِليَّ مَا أوْحَى، ففَرضَ عَليَّ خَمسينَ صلاةً في كُلِّ يَوْمٍ ولَيلةٍ، فنزَلْتُ إلى مُوسَى". وقال: "فلمْ أَزَلْ أرْجِعُ بَيْنَ ربي وبَيْنَ مُوسَى حتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّهُنَّ خَمسُ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ وليلةٍ، لكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فذلِكَ خَمْسُونَ صلاةً، ومَنْ هَمَّ بحَسنةٍ فلمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لهُ حَسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لهُ عَشْرًا، ومَنْ همَّ بسَيئةٍ فلمْ يَعْمَلْها لمْ تُكْتَبْ شَيئًا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سَيئةً واحِدةً". قوله: "وإذا هو قد أُعطي شَطْرَ الحُسْنِ فرحَّبَ بي"، (الشَّطْرُ): النصف. وقيل: المراد به ها هنا: البعض، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الطهورُ شَطْرُ الإيمان"؛ أي: بعضه. وقال شريح: أصبحتُ ونصفُ الناس عليَّ غِضَابٌ. قال الشاعر:

إذا متُّ كانَ الناسُ نصفين شامتٌ وآخر مُثْنِ بالذي كنتُ أفعلُ والمقصود منهما: البعض مطلقًا لا على التساوي، فإذا كان كذلك فمعناه: قد أعطي يوسف بعض الحُسْنِ. قال الإمام أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": ويحتمل أن المراد: أنَّ الحُسْنَ شطرُهُ للرجال، وشطرُهُ للنساء، فقد يُوْصَفُ الرجل بالحُسْنِ من حيث لا تُوصف المرأة به، وكذلك تُوصَفُ المرأةُ بالجَمَال بما لا يُوْصَفُ به الرجال، فإعطاؤه شَطْرَ الحُسْنِ كونه أَحْسَنَ من جميع الرجال، وإن لم يكن أحسنَ من جميع الخلق رجالهم ونسائهم. قوله: "فلما غَشِيَها من أَمْرِ الله ما غَشِيَهَا تغيَّرت": (غَشِيَهُ غِشْيَانًا): جَاءَهُ، الضمير في (غشيها) عائدٌ إلى (السِّدرة)؛ يعني: فلمَّا اختصَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند السدرة بعميم القُرُبَاتِ وعظيم الكَرَامات، غَشِيَ السِّدرةَ أنواعُ الألطافِ الإلهية، وفاضَ عليها ما لا يقدرُ أن يصفها الواصفون، تشريفًا لحبيبه - صلى الله عليه وسلم -، فلما غشيها تغيَّرَتْ السِّدرة من ذلك. قوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قيل: أوحى الله إلى عبده ورسوله ما أوحى. وقيل: أوحى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى الله سبحانه إليه, ولا يُعرف مقدار ما أوحى إليه حملة العرش في ليلة المعراج. فما ذكره القصَّاص في الوحي، وقيدوه بأنه تعالى أوحى إليه كذا وكذا وحيًا، وأمره بأن يبلغ أمته بعضَ ما أوحي إليه، وأن لا يبلغهم بعضًا، غير مُلْتَفَتٍ إليه.

قوله: "مَنْ همَّ بحسنةٍ فلم يعْمَلْها كُتِبَتْ له حسنة ... " الحديث. يقال: (هَمَمْتُ بالشيء أَهُمُّ همًا): إذا أردْتُه؛ يعني: مَنْ أرادَ أن يعملَ حسنةً فلم يعمَلْهَا كُتِبَتْ له حسنة، فإن عَمِلَها كانَتْ له عشرَ حسنات، ومَنْ أرادَ أن يعملَ سيئةً فلم يَعْمَلْها لم تكتبْ له سيئة، فإن عَمِلَها كُتِبتْ له سيئة واحدة، هذا من جملة إنعامه الكامل على عباده، ونتائج سَبْق رحمته على غضبه. * * * 4579 - عنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أَبو ذَرٍّ يُحدِّث: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "فُرِجَ عنِّي سَقْفُ بَيتي وأَنَا بمكَّةَ، فنزلَ جِبريْلُ ففَرَجَ صَدرِي، ثم غَسلَهُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ منْ ذَهَبٍ مُمتلِئٍ حِكمةً وإِيْمَانًا فأفرَغَهُ في صَدرِي، ثم أطبَقَهُ، ثُمَّ أخذَ بيدِي فَعَرَجَ بي إلى السَّماءِ, فلمَّا جِئتُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا قَالَ جِبريلُ لخازِنِ السَّماءِ: افْتَحْ، فلمَّا فَتحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا، فإِذَا رَجُلٌ قاعدٌ، على يَميِنه أَسْوِدَةٌ، وعلى يَسارِهِ أسْوِدَةٌ، إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمينِهِ ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِه بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالح والابن الصَّالحِ، قُلْتُ لِجبريلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: هذا آدمُ، وهذِه الأَسْوِدَةُ عنْ يَمينِه وعنْ شِمالِهِ نَسَمُ بنيهِ، فأهْلُ اليَمينِ منهُمْ أهْلُ الجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ التي عنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فإذا نَظَرَ عنْ يَمينه ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِهِ بَكَى". وقال ابن شِهابٍ - رضي الله عنه -: فأخبرَني ابن حَزْمٍ: أنَّ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وأبا حَيَّةَ الأنصارِيَّ كانا يَقُولان: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثمَّ عُرِجَ بي حتَّى ظَهرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمعُ فيهِ صَريفَ الأقلامِ". وقالَ ابن حَزْمٍ وأنسٌ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ففَرَضَ الله على أُمَّتي خَمسينَ صَلاةً، فرجَعْتُ حتَّى مَرَرْتُ على مُوسَى عليه السَّلامُ، فَرَاجَعَني، فوَضَعَ

شَطْرَها"، وقَالَ في الآخرِ: "فراجَعْتُه، فَقَالَ: هِيَ خَمسٌ، وهي خَمْسُونَ، ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال: رَاجِعْ ربَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ ربي، ثُمَّ انطلَقَ بي حتَّى انتهىَ بي إِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وغَشِيَها ألْوانٌ لا أدْرِي ما هِيَ، ثمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فإذا فيها جَنَابذُ الُّلؤْلؤِ، وإذا تُرابُها المِسْكُ". قوله: "فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بيتي ... " الحديث، (التَّفْرِيْجُ): الشقُّ والكشفُ؛ أي: شُقَّ سقفُ بيتي، وكُشِفَ. (أَفْرَغَهُ)؛ أي: صَبَّه؛ أي: صَبَّ ما في الطَّسْت. (أطْبَقَه)؛ أي: غَطَّاه. (ولأَمَهُ)؛ أي: أصلحَ محلَّ الشقِّ من صدري. قوله: "على يمينه أَسْوِدَةٌ، وعلى يَسارِهِ أَسْوِدَةٌ": قال في "شرح السنة": (الأَسْوِدَةُ): جَمْعُ سَوَاد، وهو شخص الإنسان. قيل: سُمي الشخص سوادًا؛ لأنه يُرى من بعيدٍ أسود؛ يعني: كان على يمين ذلك الرجل ويساره جماعات متفرقون. و (النَّسَمُ): جمع النَّسَمَة، وهي النفس، وكلُّ دابة فيها رُوح فهي نَسَمَة، و (النَّسَمُ): الرُّوح، وأراد: أرواحَ أولاده، قيل: هي الأجساد المصورة في صور الإنسان. قوله: "ثم عُرِجَ بي حتى ظَهرْتُ لمستوى أسمعُ فيه صَريفَ الأقلام" يقال: (ظهرتُ البيت)؛ أي: صعدتُهُ، وعلوتُهُ، (المُسْتَوَى): المصعد والموضع العالي، من (استوى على الشيء): عَلاه، والمراد بـ (المستوى): ما استوى به صعوده؛ أي: لم يكن منفذ هناك ولا تَجاوز، كأنه مُنتَهى العالَم.

و (صَريفُ الأقلام): صَوتُها عند الكتابة وجريانها على اللَّوح وغيره، والأصل فيه: صوت البكرة عند الاستقاء، يقال: (صَرَفَتِ البَكَرَةُ تَصْرِفُ صَرِيفًا). وقيل: (صَرِيفُ الأقلام) عبارةٌ عن التَّجَلِّي له - صلى الله عليه وسلم -، فما أُوحي إليه من غير واسطة جبريل وغيره من الملائكة، فإن القلمَ يُنبئ عن مكتوبات (¬1) علمه تعالى، وبه الاطلاع على علم الله سبحانه، قال الله - عز وجل -: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]، وأراد به: أنه يُسمِعُه صريفَ القلم في الوحي إليه، كما سمع موسى عليه السلام في وحي التوراة إليه صريفَ الأقلام. قال في "شرح السنة": قوله: (أسمع صريفَ الأقلام): يريد - والله أعلم -: ما تكتبه الملائكةُ من أقضية الله تعالى، وما ينسخونَهُ من اللوح المحفوظ. وقال الإمام التوربشتي في "شرحه": وفي بعض طرق هذا الحديث: "حتى ظهرت المُسْتَوى"، (المُسْتَوى): المُنْتَصَبُ العَالي المرتفع، واللام في الروايتين: لام العاقبة؛ أي: إلى مُنتهى صُعوده إليه. قوله: "فإذا فيها جَنَابذُ اللُّؤْلُؤِ، وإذا تُرابها المِسْكُ"، الضمير في (فيها) و (ترابها): يعود إلى الجنة. و (الجَنَابذ): جمع جُنْبُذَة، وهي القبة الكبيرة، وهي معربة كُنْبَذ؛ يعني: في الجنة التي أُعِدَّت لِمَنْ آَمَنَ به قُبَابٌ من اللؤلؤ الشَّفْاف، وترابُها المسك. * * * 4580 - عن عبدِ الله - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا أُسرِيَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - انتُهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وهيَ في السَّماءِ السَّادِسَة، إليها يَنتهِي ما يُعْرَجُ بهِ مِنَ الأَرضِ ¬

_ (¬1) في "م": "يغني عن مكنونات".

فيُقبَضُ مِنْها، وإِليها يَنتهي ما يُهْبَطُ بهِ مِنْ فَوقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}؛ قَالَ: فَراشٌ منْ ذَهَبٍ، قَالَ: فأُعطِيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثًا: أُعطِيَ الصَّلواتِ الخَمسَ، وأُعطِيَ خَواتيمَ سُورَةِ البقَرَةِ، وغُفِرَ لمنْ لا يُشرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِه شَيئًا المُقْحِمَاتُ. قوله: "فَرَاشٌ من ذَهَبٍ": قال في "الغريبين": (الفَرَاش): ما تراه كصغار البقِّ، يتهافَت في النار. قيل: وفي المثل: (أطيشُ من فَرَاشَة). قوله: "وأُعطِيَ خواتيمَ سُورةِ البقرة": قيل: معناه: استجيب له - صلى الله عليه وسلم - مضمون الآيتين: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] إلى آخر السورة، ولمَنْ سَأل من أمته إذا رَعَى حَقَّ السؤال. قوله: "وغُفِرَ لِمَنْ لا يشركُ بالله شيئًا من أُمته المُقْحِماتُ": قال في "الغريبين": (المُقْحِمَات)؛ أي: الذُّنوبُ العِظامُ التي تَقْحِمُ أصحابَها في قُحم النار؛ أي: تُلقيهم فيها، وفيه دليلٌ على أن الذنوب لا تحبطُ العملَ الصالح. * * * 4581 - وعن أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقدْ رأَيْتُنِي في الحِجْرِ وقريشٌ تَسْألُنِي عنْ مَسْرايَ، فَسَألَتْنِي عنْ أَشْيَاءَ منْ بيتِ المَقْدِسِ لمْ أُثْبتْها، فكُرِبْتُ كَرْبًا ما كُرِبْتُ مِثلَهُ، فرفَعَهُ الله لِي أَنظُرُ إليهِ، مَا يَسْألوننِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ أنبأْتُهُمْ، وَلقد رأيْتُنِي في جَماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا مُوسَى قَائِمٌ يُصلِّي، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كأنّهُ مَنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسَى قائِمٌ يُصلِّي، أَقْربُ النَّاسِ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسعودٍ الثَّقَفيُّ، وإذا إِبْرَاهيمُ قائِمٌ يُصلِّي، أشبَهُ النَّاسِ بهِ صَاحِبُكُمْ - يَعني: نَفْسَهُ - فَحَانَتْ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُمْ، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قَالَ لِيْ قَائِلٌ:

فصل في المعجزات

يَا مُحَمَّدُ! هذا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فسَلِّمْ عليهِ، فالتَفَتُّ إليهِ، فبَدَأَنِي بالسَّلامِ". قوله: "لقد رأيتني في الحِجْرِ، وقريشٌ تسألني عن مَسْرَاي"، اللام في (لقد) جواب قسم مقدر؛ أي: والله لقد. و (الحِجْرُ): عبارةٌ عما أحاطَ به الحَطيم، وهو واقع من الشمال، والمِيْزَاب إليه. و (المَسْرَى): مصدر ميمي من سَرَى يَسْرِي: إذا ذهبَ في الليل. * * * فصل في المُعْجِزَاتِ (فصل في المُعْجِزَاتِ) (المُعْجِزَات): جمع مُعْجِزَة، وهي اسم فاعلة من (أَعْجَزَ): إذا فَاتَ عنه الطَّلب، وجعلَهُ عاجزًا عن الإتيان به. مِنَ الصِّحَاحِ: 4582 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَظرتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ على رُؤوسِنَا ونَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله! لوْ أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدمِهِ أبْصَرَنا، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! ما ظنُّكَ باثْنَينِ الله ثالِثُهُمَا؟ ". قوله: "ونحنُ في الغار"، (الغارُ والمَغَار): الكهفُ في الجبل. قوله: "ما ظَنُّكَ باثنين الله ثالثُهُما"؛ يعني بـ (الاثنين): نفسه - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه -. واتحاد الضمير في (الاثنين)، وفي (هما) في (ثالثهما): دليل على كرامة أبي بكر - رضي الله عنه - وفضيلته. * * *

4583 - وقَالَ البَراءُ بن عَازِبٍ لأِبي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُما حِينَ سَرَيْتَ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أسْرَيْنا لَيْلَتَنا ومِنْ الغَدِ حتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهيرَةِ وخَلا الطَّريقُ لا يَمُرُّ فيهِ أَحَدٌ، فرُفِعَتْ لنا صَخْرةٌ طَويْلةٌ لَهَا ظِلٌّ لمْ تأتِ عليهِ الشَّمسُ، فنزَلْنا عِندَهُ، وسَوَّيتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَانًا بيدِي يَنَامُ عليهِ، وبَسَطْتُ عليهِ فَرْوَةً، وقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وأَنَا أنفُضُ ما حَوْلَكَ، فنامَ، وخَرَجْتُ أنفُضُ ما حَوْلَهُ، فإِذَا أَنَا براعٍ مُقبلٍ، قُلْتُ: أفي غَنَمِكَ لَبن؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أفتحلِبُ لي؟ قَالَ: نَعَمْ، فأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ في قَعْبٍ كُثْبةً مِنْ لَبن، ومَعِي إِدَاوةٌ، حَمَلتُها للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْتَوِي فِيْهَا، يَشْرَبُ ويَتَوضَّأُ، فأتيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فوافَقْتُهُ حتَّى اسْتَيْقَظَ، فصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ على اللَّبن حتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فقُلْتُ: اشرَبْ يَا رَسُولَ الله! فشَرِبَ حتَّى رَضيْتُ، ثُمَّ قَالَ: "ألَمْ يَأْنِ للرَّحِيلِ؟ "، قُلتُ: بَلَى، قال: فارْتحَلْنا بَعْدَ مَا مالَتِ الشَّمْسُ، واتَّبَعَنا سُراقَةُ بن مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينا يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: "لا تَحزَنْ، إنَّ الله مَعنا"، فدَعَا عَلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فارتَطَمَتْ بهِ فرَسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ مِنَ الأرْضِ، فَقَال: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعُوتُما عَلَيَّ فادعُوَا لي، فالله لكُمَا أنْ أرُدَّ عنكُما الطَلَبَ، فدَعا لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَجَا، فجَعَلَ لا يَلقَى أَحَدًا إلاَّ قَالَ: كُفيتُمْ مَا هُنَا، فلا يَلقَى أحدًا، إلاَّ ردَّهُ. قوله: "حين سريتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، (سَرَى وأسرى): إذا ذهب بالليل. قوله: "قام قائم الظهيرة"، (الظَهيرة والهَاجِرة): نصفُ النهار عند اشتدادِ الحَرِّ، يقال: أتيتُهُ حَرَّ الظَهيرَة: حين قامَ قائِمُ الظَّهيرة. قوله: "فَرُفِعَتْ لنا صخرةٌ طويلةٌ"، قيل: وجدنا تلك الصخرةَ مرفوعة طويلة. قوله: "وبَسَطْتُ عليه فَرْوَةً"، (الفروُ والفَرْوَةُ): ما يُلبس من جِلْدَ الضَّأن

وغير ذلك، الضَّمير في (عليه) يعود إلى قوله: (مكانًا). قوله: "وأنا أنفُضُ ما حَوْلَكَ"؛ أي: أَحفَظُ ما حَوْلَكَ، وأحرسُكَ من الأعداء؛ يعني: أكونُ طليعة، أرقبُ العدو والخوف، وأتحسسُ الأخبار من كل وجه. قال في "الصحاح": نَفَضْتُ المكانَ واسْتَنْفَضْتُهُ وتَنَفَّضْتُهُ؛ أي: أبصرتُ جميعَ ما فيه، و (النَّفَضَةُ) بالتحريك: الجماعةُ يُبعثون في الأرض؛ لينظروا هل فيها عدوٌّ أو خوفٌ. قوله: "فحلبَ في قَعْبٍ كُثْبَةً": (القَعْبُ) بفتح القاف: قَدَحٌ من خَشَبٍ مُقَعَّرٌ، و (الكُثْبَةُ) من اللبن: قَدْرُ حَلبة، وقال أبو زيد: مِلءُ القَدَحُ من اللبن، والجمع: كُثُب، ذكره في "الصحاح". (الإِدَاوَة): المِطْهَرَة. قوله: "يرتوي فيها"، (ارتوَى ورَوِي) بالكسر: إذا انكسرَ عطشُهُ بشرْبِ الماء، والضمير في (فيها) يعود إلى (الإِدَاوة). قوله: "فوافَقْتُهُ حتى اسْتَيقظَ": قال الإمام التوربشتي في "شرحه": اختلف رواة (كتاب البخاري) في هذين اللفظين؛ أعني: (فوافقته حتى استيقظ، فمنهم مَن يرويه: "فوافقتُهُ حين" - بتقديم الفاء على القاف -، و (حين) التي هي للظرف، والمعنى: وافقَ إتياني إياه حين استيقظ، وكذلك وجدناه فيما يُعتد به من نُسَخِ البخاري. ومما يشهدُ لهذه الرواية بالصِّحة ما رُوي في بعضِ طُرق هذا الحديث من "كتاب مسلم": "فوافقتُهُ وقد استيقظ". ومنهم مَنْ يرويه على ما ذكرنا، في تقديم الفاء مع حرف (حتى)؛ أي: وافقته فيما هو اختاره من النوم.

ومنهم مَنْ يرويه: - بتقديم القاف على الفاء - من الوُقوف، والمعنى: صبرتُ عليه، وتوقَفْتُ في المَجيءِ إليه، حتى استيقظَ. وأَرى الداخل إنما دَخَلَ على مَنْ يَرويه بـ (حتى) التي هي الغاية مِن قوله: "فكرهت أن أُوقظَهُ" فرأى أنه كان نائمًا، فوافقه على النوم، أو تأنى به حتى استيقظ. والوجه فيه: أنه فارقَهُ وهو نائمٌ، فَقَدَّرَ الأمرَ في ذلك على ما فَارقَهُ عليه، فكَرِهَ إيقاظَهُ قبلَ المجيءِ إليه، فلمَّا أتاهُ كان الأمرُ على خِلاف ما تَوَهَّمَهُ، ووجدَهُ قد استيقظَ، هذا كله لفظ الإمام. قوله: "فشربَ حتى رضيتُ"؛ أي: فشربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك اللبن قَدْرَ ما رضيْتُ به، وهو الاكتفاء دون التمذق. قوله: "أَلَمْ يَأَنِ الرَّحيل؟ ": آنَ يَأنُ: إذا دخل وقت الشيء، (الرَّحيل، والرِّحْلَة والارْتِحَال): الذهاب؛ يعني: أَمَا دَخَلَ وقتُ الذهاب؟ قوله: "فارتطَمَتْ به فرسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ": يقول: (ارْتَطَمَ في الوَحْلِ): إذا وقع فيه ونَشَبَ، بحيث لا يقدِرُ أن يخرجَ منه، و (الجَلَدُ): الأرضُ الصلبة. قوله: "فالله لَكُما"؛ أي: فالله كفيل عليَّ لكما أني لا أهمُّ بعد ذلك بغدر لكما، وأنتما تذهبان بسلامة؛ لانقطاع الطلب لكما، ويجوز أن يريد: أنه تعالى ردني عنكما، وأعلمُ أن كل مَنْ قصدَكُما يَرُدُهُ الحقُّ تعالى، فاذهبا بأمنٍ لا خوفَ عليكما. قوله: "فجعَلَ لا يَلقَى أحدًا ... " الحديث، (جَعَلَ)؛ أي: طَفِقَ، (يلقى)؛ أي: يبصر. (كُفِيْتُم)؛ أي: استغنيتم؛ يعني: وقفَ سراقةُ في ذلك المكان، وما وَصلَ إليه أحدٌ من المشركين للطلب إلا رَدَّهُ؛ وفاءً بما عَهَدَ،

ومراعاةً لما وَعَدَ. * * * 4584 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: سَمِعَ عبدُ الله بن سَلامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ في أَرْضٍ يَخْترِفُ، فَأَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكَ عنْ ثلاثٍ لا يعلَمُهُنَّ إلاَّ نبيٌّ: فما أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ؟ وما أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلدَ إلى أبيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أخبَرنِي بهِنَّ جِبريلُ آنِفًا، أمَّا أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ فنارٌ تحشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فزِيَادَةُ كَبدِ حُوتٍ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأةِ نَزَعَ الولدَ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرأةِ نَزَعَتْ"، قَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إلاَّ الله وأنَّكَ رَسُولُ الله، ثُمَّ قَالَ: يا رَسُولَ الله! إنَّ اليَهُودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنَّهُمْ إِنْ يَعلَمُوا بإسْلامِي قبلَ أَنْ تَسْألَهُمْ يَبْهتوني، فجَاءَت اليَهُودُ، فقال: "أيُّ رَجُلٍ عبدُ الله فيكُمْ؟ "، قالوا: خَيْرُنا، وابن خَيْرِنا، وسَيدُنا وابن سَيدِنا، قال: "أرأَيْتُمْ إنْ أسلَمَ عبدُ الله بن سَلامٍ؟ "، قالوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذلكَ، فخرجَ عبدُ الله فَقَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَقَالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فانتقَصُوهُ، قال: هَذَا الَّذي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ الله!. قوله: "سمعَ عبدُ الله بن سَلام بمَقدَمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ"، (المَقْدَم) بفتح الميم والدال، معناه: القدوم، (يَخْتَرِفُ)؛ أي: يجتني الثمار. قوله: "فزيادَةُ كَبدِ حُوت"، قال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": هي طرفُهُ، وكذلك الزيادة، وهي أطيبُ ما يكون من الكبد، وتخصيصُ الكبد؛ لتنزهها من العظام. وقد يقال: إنه الحوتُ الذي على ظَهره الأرض، وإذا جعلَ الأرضَ خبزًا

طعمة لأهل الجنة، فالحوتُ كالإِدام لهم، ولعل ذلك إشارة إلى إعدامِ ما يَقبل التغيير والتأثر، كما روينا من ذبح الموت، الذي يُؤتى على صورة كَبشٍ أَملَحَ. قوله: "وإذا سَبَقَ ماءُ الرجلِ مَاءَ المرأة نَزَعَ الولدُ، واذا سَبَقَ ماءُ المرأة نَزَعَتْ": (سَبَقَ): إذا عَلاَ وغَلَبَ، يُقال: (نَزَعَ إليه في الشَّبه): إذا أشبهه، ذكره في "الغريبين". يعني: إذا غلبَ ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا غلبَ ماءُ المرأة أشبهها الولد. قوله: "إنَّ اليهودَ قومٌ بُهْتٌ": قال في "الصحاح": يقول: (بَهَتَهُ بَهْتًا وبَهَتًا وبُهْتَانًا، فهو بَهَّاتٌ)؛ أي: قال عليه ما لم يفعله، فهو مَبْهُوتٌ، فـ (بُهْتٌ): جمعُ بَهُوْتٍ، على بناء المبالغة؛ يعني: اليهودُ لا يُبالون في الكَذبِ والافتراءِ على الناس. قوله: "فانتَقَصُوه"، (انتَقَصَ): افتعل من النَّقْصِ، وهو العيبُ، يعني: بعدما أسلَمَ عبد الله بن سلام عَابَهُ اليهود، وحَقَّرُوه. * * * 4585 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شَاوَرَنا حِيْنَ بلَغَنا إِقْبالُ أبي سُفْيانَ، فَقَامَ سَعدُ بن عُبادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! والّذِي نَفْسِي بيدِهِ، لوْ أمَرْتَنَا أنْ نُخِيضَها البحرَ لأخَضْنَاها، ولوْ أمَرْتَنا أنْ نضرِبَ أكبَادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ لفعَلْنا، قال: فندَبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، فانطَلَقُوا حتَّى نزَلُوا بَدْرًا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا مَصْرَعُ فُلانٍ"، ويَضعُ يَدهُ على الأَرْضِ هَا هُنَا وهَا هُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أحدُهُمْ عن مَوْضعِ يَدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "لو أَمَرْتَنَا أن نُخِيضَها البحرَ لأخَضْناها"، (الخَوضُ): الشُّروع في

الماء، تقول: (خُضْتُ في الماء، وأَخَضْتُ غيري فيه)، والضميرُ في (أن نُخِيْضَها) و (لأَخَضْنَاها) و (أكبَادها): للخيلِ أو الإبل، والقرينةُ تدل عليه. و (الأكبادُ): جمع كبد، و (ضَرْبُ الأكبَاد): عبارةٌ عن تكليفِ الخيلِ والإبلِ السيرَ الكثير، بحيث يَصِرْنَ ظَمْأَى من شدةِ مَسيرِها. (نَدَبَ): إذا دعا، و (انطلق): إذا ذهب. قال في "الصحاح": (بِرْك): على مثال قرد، اسم موضع بناحية اليمن. قال الإمام التوربشتي: (بِرك الغِماد): بكسر الباء وبفتحها، وبضم الغين وبكسرها، إلا أن أصحَ الروايتين في (بِرك) كسر الباء. (مَاطَ)؛ أي: بَعُدَ؛ أي: ما بَعُدَ مصرعُ من عَيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كفار قريشٍ عن موضعِ يده في بَدر. * * * 4586 - وعَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وهوَ في قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللهمَّ! أَنشُدُكَ عَهْدَكَ ووعْدَكَ، اللهمَّ! إنْ تَشَأْ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ"، فأَخَذَ أبو بَكْرٍ بيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله! ألْحَحْتَ على ربك، فخَرجَ وهوَ يَثِبُ في الدِّرْعِ وهوَ يقول: " {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ". قوله: "اللهم أنشُدُكَ عهدَكَ ووعدَكَ"، قال في "الصحاح": (نَشَدْتُ فلانًا أنشُدُهُ نَشْدًا): إذا قلتَ له: (نشدْتُكَ الله)؛ أي: سألتُكَ بالله؛ كأنكَ ذكَّرتَهُ إياه، فَنَشَدَ؛ أي: تذكَّر، والمفهوم: أن هذا اللفظ يستعمل في السؤال عن الشيء. و (العهد) ها هنا: بمعنى الأمان؛ يعني: أسألُكَ أمانَكَ من تنفيذ وَعدْكَ الذي وعدْتَني بالنصرة، و (الوعد) المذكور في الحديث: عبارةٌ عن قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9]، وعما ذكر في السورتين: {إِنَّا فَتَحْنَا لَك} [الفتح: 1]

و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] وغيرهما. قيل: إنما بالغَ في الدعاء مع أنه كانَ موعودًا بالنصرة من عنده سبحانه؛ لأنه وُعِدَ بالنَّصر، ولم يعينْ له زمانَ إنجازه، فخافَ مِنْ تأخرِ إنجازه، فبالغَ في الدعاء؛ لينجزَ له الوعدَ في ذلك الوقت. قيل: قول أبي بكر: (حسبك يا رسول الله! ألحَحْتَ) إنما كان لأنه رأى منه - صلى الله عليه وسلم - مبالغةً في الدعاء، وقد استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم -، من الكلام القديم: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وقد فُسِّرَ هذا بالمبالغة في الدُّعاء، فخاف أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قريبًا من هذا الحال، فذَكَر مضمونَ الآية. والأحسن أن يُقال: إنَّ مبالغةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في السؤالِ مع عِظَمِ ثقتِهِ بربه، وكمالِ علمِهِ به، تشجيعٌ للصحابة وتقويةٌ لقلوبهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن دعاءَه لا محالَةُ مستجابٌ، لا سيما إذا بالغَ فيه. وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: (حسبُكَ يا رسول الله! فقد ألححت) دليلٌ على أنه أقوى قلبًا من الصَّحابة، وأعلمُهم بالله منهم، وأعرَفُهم بإنجاِز وعدِه تعالى، لكنه ضعيفٌ بالإضافةِ إلى ما أتَىَ بهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المُبَالَغَةِ في الدعاء تحقيقًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينظرُ إلى توحيدِهِ، واستغنائِهِ عن الخلق، متفكرًا في مضمُون قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، فخافَ عن الإبطاء في إنجازِ وعدِه سبحانه. والصِّدِّيقُ كان ينظرُ إلى صورةِ الوَعْدِ، فتقوَّى بإنجازه، من حيث أنه لا خُلْفَ في وعده، فبينهما بَونٌ بعيدٌ وفَرقٌ كبيرٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينظرُ في المبالغةِ في الدعاء إلى ذاته فحسب، وهو عبارةٌ عن (الجَمْع) بلسان الصوفية، والصِّديق كان ينظر في القول المذكور إلى إنجاِز وعده، وهو من الصِّفات، وهو عبارة عن (التفرقة) بلسانهم. * * *

4587 - وعنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ بَدْرٍ: "هذا جِبريلُ آخِذٌ بِرَأسِ فرَسهِ، عَليهِ أداةُ الحَرْبِ". قوله: "عليه أداةُ الحرب": الضمير في (عليه) يعود إلى جبريل عليه السلام. (الأَدَاة): الآلة. * * * 4588 - وقَالَ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: بَيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِميْنَ يومئذٍ يَشتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بالسَّوْطِ فَوقَهُ، وصَوْتَ الفَارِسِ يَقُولُ: أقْدِمْ حَيْزومُ! إذْ نظرَ إلى المُشركِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فنظرَ إليهِ، فإذا هوَ قدْ خُطِمَ أنفُهُ وشُقَّ وجهُهُ كضَرْبةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذلكَ أجْمَعُ، فجاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صَدَقْتَ، ذلكَ منْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالِثةِ". قوله: "بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يَشْتَدُّ"، أصل (بينَمَا) بينَ، فزيدت عليه (ما)، و (ما) عِوَضٌ عن المضاف إليه، وتقديره: بينَ أوقاتِ محاربتنا. و (رجلُ): مبتدأ، و (من المسلمين): صفته، و (يشتدُّ): خبره، ومعناه: يعدو، والتنوين في (يومئذ) تنوين عوض؛ أي: يومَ إذ قامَتْ الحربُ. قوله: "إذ سَمِعَ ضربةً بالسَّوط"، (إذ) ها هنا: للمفاجأة. قوله: "أَقْدِمْ حَيْزوم! "، (الإقْدَام): الشجاعة، ويقال: (أقدم): زجرًا للفرس. و (الحَيْزُوم): وَسَطُ الصَّدر وما ينضم عليه الحِزَام، و (الحزيم) مثله، و (حَيْزُوم): اسم فرسٍ من خيل الملائكة، ذكره في "الصحاح". قوله: "قد خُطِمَ أنفُهُ": قال في "الغريبين": قال شِمَر: (الخَطْم): الأَثَرُ

على الأَنف، كما يُخْطَمُ البعير بالكَيِّ، يُقال: (خَطَمْتُ البعير): إذا وَسَمْتَهُ بالكَيِّ بخطٍ من الأَنف إلى أَحد خَديه؛ يعني: ظَهَرَ على أنفه أثرُ ضَربة بالسَّوط. قوله: "فاخضَرَّ ذلكَ أَجْمَعُ"؛ أي: اسودَّ أثرُ تلك الضَّربة كلِّهِ. قوله: "ذلك من مَدَدِ السَّماء الثالثة": ذلك: إشارة إلى المَلَكِ المُقَاتل؛ يعني: ذلك القِتال من مَدَدِ أهل السماء الثالثة، يعني: الملائكة عليهم السلام. وإنما خَصَّصَ المدد بأهل السماء الثالثة؛ لأنه أرادَ أنه قد مدَّ مِنْ أكثرِ السماوات، فنبه بالتثليث على ذلك، أو لعلَّ أهلَ السماء الثالثة لهم هذا التأثيرُ المخصوص. * * * 4590 - وعَنِ البَراءِ - رضي الله عنه - قال: بَعثَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَهْطًا إِلى أَبي رافِعٍ، فدَخَلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكٍ بيتَهُ لَيْلاً وهوَ نائِمٌ فقتَلَهُ، فَقَالَ عَبدُ الله بن عَتِيكٍ: فوضَعْتُ السَّيفَ في بطنِهِ حتَّى أَخَذَ في ظهرِهِ فعرَفْتُ أنِّي قَتَلتُهُ، فَجَعَلْتُ أفتحُ الأبوابَ حتَّى انتهَيْتُ إلى دَرَجةٍ، فوضَعْتُ رِجْلِي، فوقعْتُ في لَيلةٍ مُقْمِرَةٍ، فانكسَرَتْ سَاقِي، فعصَبْتُها بِعِمَامةٍ، فانطلَقْتُ إلى أَصْحَابي فانتَهَيْتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فحَدَّثتُهُ فَقَال: "ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فبسَطْتُ رِجْلِي فمسَحَها، فكَأنَّها لمْ أشتَكِها قطُّ. قوله: "بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا إلى أبي رافع ... " الحديث. (الرَّهط): ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، ذكره في "الصحاح". يريد بـ (أبي رافع): ابن أبي الحقيق اليهودي، وكان من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعدما نقضَ عهده، وكان يسعى في أذيته، ويهجوه، وكان له قَلعةٌ يتحصن بها، فبعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه رهطًا من الخزرج، وقد أمَّرَ عليهم عبد الله بن عَتيك، وكان

رجلًا محتالًا، فدخل عليه بالحِيلة، فقتلَهُ نائمًا في ليلة. قوله: "فجعلتُ أفتحُ الأبواب"، (جعلْتُ)؛ أي: طَفِقْتُ. قوله: "في ليلة مُقمرة"، (المُقْمِرة): اسم فاعلة من (أقمرَت الليلة): إذا أضاءت. قوله: "فعصبتُها بعِمامة"، (العَصْبَ): الشَدُّ؛ أي: شددْتُ رِجلي بخرقةٍ. قوله: "فمَسَحَها، فكأنها لم أَشْتَكِهَا قط"؛ يعني: فإذا وصلتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمسح رجلي بيده، فصارَتْ صحيحةً كما كانت قبلَ الكسر. وفيه دليلٌ على أنَّ الذمي إذا نقضَ عهدَهُ يُقتل. إن قيل: ما الجمعُ بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ"؟ قيل: تخصيصُ العام كثيرٌ في القرآن والحديث، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ" مخصوصٌ بكافرٍ يتولدُ منه شرٌ كثير، وأبو رافع كان يؤذي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وسائرَ الصحابة، وكان يهجُوهم، فجازَ قتلُهُ. * * * 4591 - وقَالَ جَابرٌ: إنَّا يومَ الخَنْدَقِ نَحفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيْدَةٌ، فجَاءُوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: هَذِه كُدْيَةٌ عَرضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ: "أَنَا نازِلٌ"، ثُمَّ قَامَ وبطنُهُ مَعصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبثْنا ثَلاثَةَ أيَّامٍ لا نَذوقُ ذَواقًا، فأخَذَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَلَ فضَربَ فعَادَ كَثِيْبًا أهْيَلَ، فانْكَفأْتُ إلى امرأَتِي فَقُلتُ: هَلْ عِندَكِ شَيءٌ؟ فإنِّي رَأيتُ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيْدًا، فأخْرجَتْ جِرابًا فيهِ صاعٌ مِنْ شَعيرٍ، ولَنَا بُهَيْمةٌ داجِنٌ فذبَحْتُها، وطَحنْتُ الشَّعيرَ، حتَّى جَعَلْنا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسَارَرْتُهُ فقلْتُ: يا رَسُولَ الله! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ، فتَعَالَ أَنْتَ ونَفَرٌ معَكَ، فَصَاحَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ! إنَّ جَابرًا صَنعَ سُوْرًا، فَحَيَّ

هَلا بكُمْ"، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبزُنَّ عَجينَكُمْ حتَّى أَجِيءَ"، وجاءَ فأخرَجَتْ لهُ عَجيْنًا فبَصَقَ فيهِ وبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فبَصَقَ وباركَ، ثُمَّ قالَ: "ادْعِي خابزةً فلتَخْبزْ معَكِ، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ ولا تُنزِلُوها", وهُمْ ألفٌ، فأُقسِمُ بالله لأَكَلوا حتَّى تَركُوه وانحَرَفوا، وإنَّ بُرْمَتَنا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وإنَّ عَجيننَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ. قوله: "فعرَضَتْ كُدْيَةٌ شديدة"، (عَرَضَتْ): إذا ظَهرت. (الكُدْيَة): الأرضُ الصُّلبة، وجمعها: كُدًى، و (أكْدَى الحافرُ): إذا بَلَغَ الكُدْيَة، فلا يمكنه أن يحفر، ذكره في "الصحاح". قوله: "فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَل، فضربَ، فعاد كثيبًا أَهْيَلَ": (المِعْوَل): الفأسُ العظيمة التي يُنْقَرُ بها الصخر، والجمع: (المَعَاوِل)، قاله في "الصحاح". (الكَثِيبُ): التَّل من الرَّمل. و (الأَهْيَلُ والهَيَال): السَّيَال، من (هَال): إذا انْصبَّ وسَالَ؛ يعني: فضربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تلكَ الكُدية، فصارتْ كثيبًا من الرمل ينصبُّ ويسيلُ. قوله: "فانكفأْتُ إلى امرأتي": أي: فانصرفْتُ إليها. قوله: "رأيتُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خَمصًا شديدًا"، (الخَمْص - بفتح الخاء وسكون الميم - والمَخْمَصَةُ والمَجَاعَة) ثلاثتها بمعنى الجوع. قوله: "ولنا بُهَيْمةٌ داجِنٌ"، (البُهَيْمة): تصغير البَهْمَة، وهي ولَدُ الضَّأْنِ الذكر والأنثى، و (شاةٌ داجِنٌ): إذا أَلِفَتِ البيوت، واستأنَسَتْ، ومن العرب من يقولها بالهاء، وكذلك غير الشاة، ذكره في "الصحاح". (البُرْمَة): القِدْرُ، وجمعها: (البرام) بالكسر. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جابرًا صَنَعَ سُورًا"، (سُورًا)؛ أي: طَعامًا، وهو فارسي معرب.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فحيَّ هلا بكُم"؛ أي: يا رجالُ! هَلُمُّوا إلى الطَّعام الذي صَنَعَ لكم جابر، يقال: (حَيَّهَلَ الثَّريد)، معناه: هَلُمَّ إلى الثريد، فتحت ياؤه لالتقاء الساكنين، وبنيت (حيَّ) مع (هل) اسمًا واحدًا، مثل: (خمسة عشر)، وسُمِّي به الفعل، ويستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، فإذا وقفت عليه قلت: (حيِّ هَلا)، والألف لبَيَانِ الحَركة، كالهاء في {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ}؛ لأن الألف من مخرج الهاء، قاله في "الصحاح". قيل: إذا وصلْتَ قلت: (حَيَّ هَلَ بكذا)، ويجوز: (حيَّ هلاً) بالتنوين. قوله: "فبسقَ فيه وباركَ": (بَسَقَ وبَصَقَ وبَزَقَ): إذا رمى بالبزاق في الشيء. و (بَارك) هنا بمعنى: برَّك؛ أي: دَعا له بالبَرَكَةِ. (عَمَدَ): إذا قَصَدَ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واقدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُم"، يقال: (قَدَحْتُ المَرَق): إذا غرفْتُهُ، و (القُدحة) بالضم: الغُرْفَة، يقال: (أعطني قُدْحَةً من مَرَقَتِكَ)؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة جابر: "اغرفي"؛ يعني: من البُرمَة، ولا تنزليها، والصَّحابة كانوا ألفًا، ففعلَتْ ذلك، فأقسمَ جابرٌ بالله أنهم لأكلوا حتى تركُوهُ وانحرَفوا؛ أي: مالوا إلى أماكنهم. "وإن بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كما هِيَ، وإن عَجيننا لَيُخْبَزُ كما هو"؛ أي: أن البُرمة مغليةٌ تفورُ، فيُسمع لها غَطيط، و (الغَطْغَطَة): شِدَّةُ غَليان القدر، وأن العجينَ كان باقيًا كما هو. * * * 4592 - وقَالَ أَبو قتَادَةَ: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لِعمَّارٍ حِينَ يَحفِرُ

الخَنْدَقَ، فجَعلَ يَمسحُ رأسَهُ ويقول: "بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ". قوله: "فجعلَ يمسحُ رأسَه"؛ أي: فطفق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ رأسَ عمارَ ابن ياسر. قوله: "بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تقتُلُكَ الفئةُ الباغيةُ"، (البُؤسُ): الشِّدة والمشقة. ويريد بـ (ابن سُمَيَّة): عمار بن ياسر، و (سميَّة): اسمُ أمه؛ يعني: يا شِدَّةَ ابن سميَّة التي تصلُ إليه في حالِ أن تقتلك الفئةُ الباغيةُ، قاله - صلى الله عليه وسلم - تَرَحُّمًا له وشفقةً عليه. فعلى هذا (بُؤس) منادى مضاف، وإن رُوي بالرفع: فـ (بؤس) خبرُ مبتدأ محذوف، و (ابن سميَّة): منادى مضاف، تقديره: يصيبك بؤسٌ وشدة يا بن سمية أو (بؤس) فاعل فعل محذوف؛ أي: يصيبُكَ بؤسٌ يا ابن سُمية. و (أهل البغي) يعني بهم: معاوية - رضي الله عنه - وقومه، ثم ظهر صِدق قوله - صلى الله عليه وسلم -، فقتَلَهُ أهلُ البغي، وكان مع علي - رضي الله عنه -. * * * 4593 - وقَالَ سُلَيمانُ بن صُرَدٍ: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أُجْلِيَ الأحزابُ عنهُ: "الآنَ نَغزوهُم ولا يَغزونَنا، نحنُ نسَيرُ إليهِمْ". قوله: "حين أُجْلِيَ الأحزابُ عنه"، (الأحزابُ): الطوائفُ التي تجتمع على محاربة الأنبياء، ذكره في "الصحاح". يعني: حين انهزمَ الأحزاب عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الآن نغزُوهم"؛ يعني: قد أُخبرَ بأن الظَّفر قد جاءَ عليهم في هذه الساعة. * * *

4594 - وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغْتَسلَ، أَتاهُ جِبريلُ وهو يَنْفُضُ رَأسَهُ مِن الغُبارِ، فقالَ: "لَقَدْ وضَعْتَ السِّلاحَ، والله ما وَضَعتُهُ، اخرُجْ إِليهِمْ"، قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأَيْنَ؟ فأشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ". قوله "وهو يَنْفُضُ رأسَهُ من الغُبار"، (النَّفْضُ): تحريكُ الشيء ليزولَ ما عليه من الغُبار وغيره؛ يعني: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يمسحُ الغبارَ عن رأس جبريل ووجهه - صلوات الله عليهما -. قوله: "اخرُجْ إليهم"، (إلى) نصب على الحال؛ يعني: يا محمد! اخرجْ قاصدًا إلى بني قريظة، وهم اليهود. قوله: "فأين"؛ أي: فأين أقصد؟ * * * 4595 - قَالَ أَنَسٌ: كَأنِّي أنظُرُ إلى الغُبارِ سَاطِعًا في زُقاقِ بني غَنْمٍ مِنْ مَوْكِبِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ حِينَ سَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قُرَيْظَةَ". قوله: "في زُقاقِ بني غَنْم": (الزُّقاق) بضم الزاي: السَّكَّةُ، وهو عند أهل الحجاز مؤنث، وعند بني تميم مذكر. و (بنو غَنْم): قبيلة من الأنصار. "مَوْكِبِ جِبريل": جيشه، يقال لجَماعة الفرسان: موكب، وكذا الجماعة: الرُّكبان أيضًا، و (الرُّكبان): هم الذين رَكبوا الإبل. * * * 4596 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: عَطِشَ النَّاسُ يومَ الحُدَيْبيَةِ ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيْنَ

يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فتَوضَّأَ مِنها، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نحوَهُ، قَالُوا: لَيسَ عِنْدَنا مَاءٌ نَتَوضَّأُ بهِ ونَشْربُ إِلاَّ ما في رَكْوَتِكَ، فوَضَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ في الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابعِهِ كَأَمْثَالِ العُيونِ، قَالَ: فشَرِبنا وتَوضَّأْنا، قيلَ لِجَابرٍ: كَمْ كُنْتُم؟ قَالَ: لوْ كُنَّا مِائةَ ألْفٍ لَكَفانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرةَ مِئَةً. قوله: "فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الرَّكْوَة، فجعل الماء يفورُ من بين أصابعه كأمثال العُيون"، (الرَّكْوَة): ظَرفٌ يُتوضأ منه ويُشرب فيه. (جعل)؛ أي: طفق. قال الحافظ أبو موسى: كلُّ شيءٍ جاشَ وغَلى فقد فَارَ، وفَارَ الماءُ من العَين. قال الله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] يقال: فَارَتِ القِدْر تَفُورُ فَورًا وفَوَرَانًا: إذا جَاشَتْ. قوله: "كَمْ كُنتم؟ "، (كم): خبر مقدم؛ يعني: كَمْ رجلاً كنتم؟ * * * 4597 - وقَالَ البَراء بن عازِبٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَع عَشْرةَ مِئَةً يومَ الحُدَيْبيَةِ، والحُدَيْبيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْنَاها، فلَمْ نترُكْ فيها قَطْرةً، فبلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَتَاها فجَلَسَ على شَفِيرِها، ثُمَّ دَعَا بإناءٍ مِنْ مَاءٍ فتوضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ ودَعا، ثُمَّ صَبَّهُ فيها، ثُمَّ قَالَ: "دَعُوها سَاعةً"، فأَرْوَوا أنفُسَهُمْ ورِكابَهُمْ حتَّى ارتَحَلوا. قوله: "فَنَزَحْنَاها"، (النَّزْحُ): الاستقاء؛ أي: استقينا ما في الحديبية. قوله: "على شَفِيرها"، (الشَّفِير): الطَّرف، الضمير في (شفيرها) يعود إلى الحديبية.

قوله: "ثم صَبهُ فيها"؛ يعني: ثم صَبَّ الماء الذي مضمض به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فيها)؛ أي: في الحديبية. قوله: "فأَرْوَوا أنفسَهم ورِكَابهم حتى ارتَحلوا"، (الرِّكاب): الإبل التي يسار عليها، الواحدة: راحِلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: الرَّكب. و (الارتحال): الذَّهاب؛ يعني: كانوا هم وركابهم يرتَوُون منها مُدَّةَ إقامتهم هنالك. * * * 4598 - وقَالَ عِمْرانُ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاشتَكَى إليهِ النَّاسُ مِنَ العَطشِ، فنزَلَ، فدَعا فُلانًا ودَعا عَليًّا فقال: "اذْهَبا فابتَغِيا المَاءَ"، فانطلَقا فلَقِيا امرأةً بينَ مَزادَتَيْنِ - أو سَطيحَتَيْنِ - مِنْ مَاءٍ، فجَاءَا بها إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستَنْزَلوها عَنْ بَعيرِها، ودَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -بإناءٍ ففرَّغَ فيهِ منْ أفواهِ المَزادَتَيْنِ، ونُودِيَ في النَّاسِ: اسْقُوا واسْتَقوا، قال: فشَرِبنا عِطَاشًا أَرْبعينَ رَجُلاً حتَّى رَوِينا، فمَلأْنا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنا وإِداوَةٍ، وايمُ الله لَقْدْ أُقلِعَ عنها وإنَّهُ لَيُخيَّلُ إلَيْنا أنَّها أَشَدُّ مِلأَةً منها حِينَ ابتَدأَ. قوله: "فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء، فجاءا بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -"، (التلقي): الاستقبال. قيل: المزادة كالمزود، وهو وعاء يُوضَعُ فيه طعامُ السفر، فالعربُ جعلوا المزادة للماء تفريقًا بين الوِعاءين في الاسم. قال في "الغريبين": قال ابن الأعرابي: السَّطِيحةُ من المزاد: إذا كانت من جلدين قوبل أحدهما بالآخر، فسُطِحَ عليه. قوله: "فاستنزلوها عن بعيرها": الهاء تعود إلى (المرأة)؛ يعني: أنزلوها

عن بعيرها، استنزل وأنزل بمعنى. قوله: "فشربنا عطاشًا أربعين رجلاً": (عطاشًا) نصب على الحال من الضمير في (شربنا)، و (أربعين) حال من الضمير في (عطاشًا)، ويجوز أن يكون حالًا بعد حال. "الإداوة" بكسر الهمزة: المطهرة. قوله: "وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليُخيَّلُ إلينا أنها أشدُّ مِلأة منها حين ابتدأ"، (وايم الله)؛ أي: والله، (الإقلاع عن الأمر الفلاني)؛ أي: الكف عنه. (التخيُّل): التشبيهُ على غَرَرٍ من غير يقين. و (المَلأَة) بفتح الميم: فَعْلَة من الملْء. يعني: حلف الراوي وقال: والله لقد انفكت الجماعة عن تلك المزادة والماء، ورجعوا عنها، "وإنه ليخيل إلينا": وإن الشأن والحديث ليُشبه إلينا أن تلك المزادةَ كانت أكثرَ ماءً من تلك الساعة التي كان الناسُ يبتدئون بالشرب فيها والاستقاء منها. * * * 4599 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: سِرْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى نَزَلنا وادِيًا أفْيَحَ، فذهَبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْضي حَاجتَهُ فَلَمْ يرَ شَيئًا يَسْتتِرُ بهِ، وإذا شَجَرتانِ بِشَاطِيءِ الوادِي، فانطلَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلىَ إِحْداهُما فأخَذَ بغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِها فَقَال: "انْقادِي عَليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ مَعَهُ كالبَعيرِ المَخْشوشِ الذي يُصانِعُ قائِدَهُ حتَّى أتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فأخذَ بغُصْنٍ منْ أغصَانِها فقال: "انقادِي عليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ معهُ كذلك، حتَّى إذا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بينهُما قال: "التَئِما عليَّ بإذنِ الله"، فالتَأَمَتا، فجلسْتُ أُحدِّثُ نفسِي، فحانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فإِذَا أَنَا

برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُقبلاً، وإذا الشَّجَرتانِ قدْ افْتَرَقَتَا، فقامَتْ كُلُّ واحِدةٍ منهُما على ساقٍ. قوله: "حتى نزلنا واديًا أفيحَ"؛ أي: أوسع، يقال: بحر أفيحُ بينُ الفيح؛ أي: واسع. قوله: "فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته"، (ذهب)؛ أي: طفق. قوله: "وإذا شجرتين بشاطيء الوادي": (إذا) ها هنا: للمفاجأة. و (شجرتين): نصب بفعل مضمر، تقديره: فإذا رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شجرتين بشاطيء. و (شاطيء الوادي): طرفه. قوله: "انقادي عليَّ بإذن الله": (انقادي): أمر مؤنث من (انقاد): إذا أطاع؛ يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] لواحدةٍ من تينك الشجرتين: انقادي عليَّ، فانقادت له؛ معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كالبعير المخشوش": (المخشوش): الذي جعل في أنفه الخِشاش - بكسر الخاء - ليُقادَ به، و (الخِشاش): ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب وغير ذلك لينقادَ. قوله: "يصانعُ قائده"؛ أي: يوافقه، وينقاد له. قال في "الصحاح": المُصانعة: الرشوة، وفي المثل: (من صانعَ بالمال لم يَحْتشمْ من طلب الحاجة)؛ أي: لم يستحِ وقيل: المصانعة: أن تصنعَ لصاحبك شيئًا؛ ليصنعَ لك شيئًا. قوله: "حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما"، (المَنصَف) بفتح الميم والصاد: نصف الطريق.

الضمير في (بينهما) عائد إلى الشجرتين. يعني: حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصف الطريق من موضع تينك الشجرتين قال لهما: "التئما عليَّ بإذن الله"؛ أي: اجتمعا. قوله: "فحانت مني لفتةٌ"، (حان): إذا أتى وقت الشيء. (لَفْتة): فَعْلة من (الالتفات). يعني: كنت مُشتغلاً بنفسي، مطرقَ النظر، لا ألتفت إلى شيء، فالتفتُّ بغتة، فرأيت تلك المعجزة؛ افتراقَ الشجرتين بعد اجتماعهما. * * * 4600 - عَنْ يَزيْدَ بن أبي عُبَيْدٍ - رضي الله عنهما - قال: رأيتُ أثَرَ ضَرْبةٍ في سَاقِ سَلَمةَ ابن الأكْوَعِ - رضي الله عنه - فقلتُ: يا أبا مُسْلمٍ! ما هذِه الضَّرْبةُ؟ قال: ضَرْبةٌ أصَابَتْنِي يومَ خَيْبَرَ، فقالَ النَّاسُ: أُصيْبَ سَلَمَةُ، فأتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فنَفثَ فيهِ ثَلاثَ نَفَثَاتٍ، فمَا اشْتَكَيْتُها حتَّى السَّاعةِ. قوله: "أُصيبَ سلمةُ"؛ أي: أصابته جراحةٌ. * * * 4601 - وقَالَ سهْلُ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه -: قالَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايةَ غَدًا رَجُلاً يَفتحُ الله على يَديهِ يُحبُّ الله ورسولَهُ ويُحبُّهُ الله ورسولُهُ"، فلمَّا أصْبحَ النَّاسُ غَدَوْا على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: "أَيْنَ عليُّ بن أبي طالِبٍ؟ "، فقالوا: هوَ يا رَسُولَ الله! يَشْتَكِي عيْنَيْهِ، فأُتِيَ بهِ، فبَصقَ في عَيْنَيْهِ ودَعا لهُ فَبَرَأَ حتَّى كأنْ لَمْ يَكُنْ بهِ وجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ. قوله: "فلمَّا أصبح الناس غدَوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، يقال: (غدا عليه)

إذا أتاه وقتَ الغداة. قوله: "فبرَأ"؛ أي: فشُفِي. هذا الحديث دليلٌ على فضيلة عليٍّ - رضي الله عنه -. * * * 4602 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: نَعَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَيْدًا وجَعْفَرًا وابن رَواحةَ لِلنَّاسِ قبلَ أنْ يأتيَهُمْ خبرُهُمْ فَقَالَ: "أخذَ الرَّايةَ زَيْدٌ فأُصيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرُ فأُصيبَ، ثُمَّ أخذَ ابن رَواحَةَ فأُصيبَ - وعَيْناهُ تَذرِفان - حتَّى أخذَ الرَّايةَ سَيْفٌ منْ سُيوفِ الله - يَعني: خَالدَ بن الوليدِ - رضي الله عنه - حتَّى فتحَ الله عليهِم". قوله: "نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناسِ قبل أن يأتيهم خبرُهم"، يقال: نعاه له نَعيًا ونُعيانًا بالضم: إذا أتاه بخبرِ موتِهِ؛ يعني: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة - رضي الله عنهم - بموتهم. وفيه دليلٌ على جواز النعي. قوله: "وعيناه تذرفان"؛ أي: عينا رسول الله تسكبان العبراتِ لهؤلاء الثلاثة. وفيه دليلٌ على جواز البكاء للميت. * * * 4603 - وقَالَ عَبَّاسٌ - رضي الله عنه -: شَهِدتُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنَيْنٍ، فلمَّا الْتَقَى المُسْلِمُونَ والكُفّارُ وَلَّى المُسْلِمُونَ مُدبرينَ، فطفِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْكُضُ بَغلتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ وأَنَا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أكُفُّها إرَادَةَ أنْ لا تُسرِعَ، وأَبُو سُفيانَ بن الحَارِثِ - رضي الله عنه - آَخِذٌ برِكابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَظَر رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -

وهوَ على بَغلتِهِ كالمُتطاوِلِ عليْها إلى قِتالهِمْ فقال: "هذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ! "، ثُمَّ أَخَذَ حَصَياتٍ فرَمَى بهِنَّ وجُوهَ الكُفَّارِ ثُمَّ قال: "انهَزَموا ورَبِّ مُحَمَّدٍ"، فوالله ما هُوَ إلاَّ أنْ رَماهُمْ بحَصَياتِهِ، فما زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً وأمْرَهُمْ مُدبرًا. قوله: "شهدت مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنين"، (شهدت): حضرت، و (حُنين): موضعٌ، يذكَّر ويؤنَّث، فإن قصدتَ به البلدَ والموضع ذكَّرته وصرفته، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} [التوبة: 25]، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنَّثته ولم تصرفه، كما قال الشاعر: نَصَرُوا نبيَّهمُ وشدُّوا أزرَهُ ... بحُنينَ يومَ تواكَلَ الأبطالُ قوله: "ولى المسلمون مدبرين"، (ولَّى): إذا أدبر. قوله: "يركض بغلته قِبَل الكفار"، (يركض)؛ أي: يعدو. (قبل الكفار)؛ أي: نحوهم. قوله: "أكفُّها إرادةَ أن لا تسرعَ"، (أكفها)؛ أي: أمنعُ البغلة؛ لكي لا تسرع في العَدْوِ نحو الكفار. قوله: "فنظر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم"، الواو في (وهو) للحال، و (هو) مبتدأ، و (على بغلته) خبره، والكافُ في (كالمتطاول) حالٌ من الضمير المرفوع في (على بغلته). يعني: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قتالهم، في حال كونه راكبًا على بغلته، كائنًا كالمتطاول عليها؛ أي: الغالب القادر على سوقها. قوله: "هذا حين حَمِيَ الوطيسُ" يقال: (حمي الوطيس): إذا اشتد [ت] الحرب، و (الوطيس) أيضًا: التنور، ذكره في "الصحاح".

(هذا) إشارةٌ إلى القتال؛ يعني: القتال حين قامت الحرب على ساقها واشتدت. قوله: "ثم أخذ حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار": (الحَصَيات): جمع حَصَاة، وهي حجر صغيرة. الرميُ إنما صدرَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث الظاهر، لكنه تعالى نفاه عنه حقيقةً؛ دفعًا للسبب، وأضافَ إلى نفسه تعالى من حيث الحقيقة؛ إثباتًا للمسبب؛ لأنه لا فاعلَ في عالم الوجود إلا الله سبحانه في الحقيقة، فقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. وفيه وفي الذي بعده دليلٌ على أن ركوب البغلة سنةٌ. * * * 4604 - وقِيْلَ للبَراءِ بن عَازِبٍ - رضي الله عنه -: أفَرَرْتُمْ يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لا والله ما ولَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحابهِ لَيسَ عليهِم كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قَومًا رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لهُمْ سَهْمٌ، فرَشَقُوهُمْ رَشْقًا ما يَكادونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هُناكَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على بَغلتِهِ البَيْضَاءِ، وأبو سُفيانَ ابن الحَارِثِ - رضي الله عنه - يَقُودُهُ، فنزلَ واستنصَرَ وقال: "أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابن عبدِ المُطَّلِبْ" ثُمَّ صَفَّهُمْ. قوله: "فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقطُ لهم سهمٌ"، (لقي): إذا أبصر، (الرماة): جمع رامي، الضمير في (لقوا) عائد إلى الشبان؛ يعني: الشبان - وهو جمع الشاب - رأوا قومًا رامين من الأعداءِ شديدي الرمي. "فرشقوهم رَشْقًا"، الضمير المرفوع في (رشقوا) يعود إلى الرماة،

والمنصوب إلى الشبان؛ أي: فرموا بأجمعهم رميًا شديدًا، بحيث لا يكادون يخطئون في الرمي. قوله: "فنزل واستنصر"؛ أي: فنزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته. و (استنصر)؛ أي: طلب النصر من الله سبحانه. قوله: "أنا النبيُّ لا كذبْ ... أنا ابن عبدِ المطلبْ" قيل: هذا رجزٌ، والرجز خارجٌ مما أجمعَ عليه الشعراء من القوانين الموضوعة في العروض. قيل: ربما صدرَ عن شخص كلامٌ موزون لا على قصدِ الشعر، فلا يُعدُّ ذلك الكلام عليه شعرًا. وإنما قال: "أنا ابن عبد المطلب" تعريفًا لنفسه؛ لأنه كان مشهورًا عند العرب أن لابن عبد المطلب نبأً عظيمًا ونبوة، وقد كان أصحابُ الأخبار والكهانُ يتحدثون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الموعود في آخر الزمان من بني عبد المطلب، فذهبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرهم بما اشتهرَ فيهم؛ ليرجعوا عن قتالهم. * * * 4605 - قَالَ البَرَاءُ: كُنَّا والله إِذَا احْمَرَّ البَأْسُ نتَّقِي بِهِ، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحاذِي بهِ، يَعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "كنا والله إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به"، يريد باحمرار البأس: اشتدادَ الحرب، قال في "شرح السنة": يقال: موت أحمر؛ أي: شديد، وحمر القيظ: شدة حرها، وسَنَةُ حمراء: شديدة، والعرب تصف عام الجدب بالحُمرةِ. ويقال: إن آفاق السماء تحمرُّ أعوامَ القحط.

يعني: كنا نجعل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - واقية لنا من الأعداء عند اشتداد الحرب، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17] أي: كيف يكون بينكم وبين العذاب واقية إن جحدتم يوم القيامة؟ ذكره في "شرح السنة". * * * 4606 - وقَالَ سَلَمَةُ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه -: "غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -حُنَيْنًا، فوَلَّى صَحابةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا غَشُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَنِ البَغْلةِ، ثُمَّ قَبضَ قَبْضةً مِنْ تُرابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسَتَقْبَلَ بها وُجُوهَهُمْ، فَقَال: "شَاهَتِ الوُجوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله منهُمْ إنْسَانًا إِلاَّ مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرابًا بِتِلْكَ القَبْضةِ، فوَلَّوْا مُدبرينَ. قوله: "فلما غشُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن البغلةِ"، (غشي غشيانًا): إذا جاءه؛ يعني: فلما جاء الكفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن بغلته، فقبض قبضة من التراب، فرمى وجوههم، فملأ الله تعالى عيونهم من ترابِ تلك القبضةِ بقدرته القديمة، قال الله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. قوله: "شاهت الوجوهُ"؛ أي: قَبُحَت، يقال: (شاه يشوه شوهًا): إذا قبح. قيل في الحديث: "رأيت في الجنة امرأة شَوْهاءَ إلى جنب قصر، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: لعمرَ" - رضي الله عنه -، قال القتيبي: الشوهاءُ الحسنة. فعلى هذا يكون (الشَّوْه) من الأضداد، كـ (الجَوْن) للبياض والسواد. * * * 4607 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسلامَ: "هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فلمَّا حَضَرَ

القِتَالُ قاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ القِتالِ وكثُرَتْ بهِ الجِراحُ، فجَاءَ رَجُلٌ فقال: يَا رَسُولَ الله! أَرَأَيْتَ الذِي تَحدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قاتَلَ في سَبيلِ الله مِنْ أَشَدِّ القِتالِ فكثُرَتْ بهِ الجِرَاحُ، فَقَال: "أَمَا إِنَّهُ منْ أَهلِ النَّارِ"، فكادَ بعضُ المُسْلِمِينَ يَرتابُ، فبَيْنَما هُمْ عَلَىَ ذَلِكَ إذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الجِراحِ فَأَهْوَى بيَدِه إلى كِنانتِهِ فانتزَعَ سَهْمًا فانتحَرَ بهِ، فاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمينَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالوا: يا رسولَ الله! صَدَّقَ الله حَديثَكَ، قَدْ انتحَرَ فُلانٌ وقتلَ نفسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أَكْبرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبدُ الله ورَسُولُهُ، يَا بِلالُ! قُمْ فأذِّنْ: لا يَدخلُ الجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وإنَّ الله لَيُؤيدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ". قوله: "فكثرت به الجراح": (الجراحُ): جمع جِراحة، بالكسر. قوله: "فكاد بعض المسلمين يرتاب"، (ارتاب): إذا شكَّ؛ أي: فقَرُبَ بعضُ المسلمين أن يرتابوا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن ذلك المجروحِ المُجِدِّ في القتال أنه من أهل النار، فتضَحَ حاله أنه من أهل النار، وما ارتابوا، ويأتي شرح حاله في باقي الحديث. قوله: "فأهوى بيده إلى كنانتِهِ، فانتزع سهمًا، فانتحرَ بها"، (أهوى بيده): إذا ألقاها، والمراد به ها هنا: مال إلى الكِنانةِ، [وهي] الجَعْبة. (فانتزع سهمًا)؛ أي: سلَّه. قال في "الصحاح": يقال: انتحرَ الرجلُ؛ أي: نحر نفسه، وفي المثل: سُرِق السارقُ فانتحرَ. يعني: مال إلى كنانته، فسلَّ سهمًا، فقتل نفسه بذلك. قوله: "فاشتدَّ رجالٌ من المسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، (اشتد إليه)؛ أي: عدا قاصدًا إليه.

قوله: "الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله"، (الله أكبر): كلامٌ يقال عند الفرح؛ يعني: فرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ظهرَ صدقُهُ، فقال: (الله أكبر ...) إلى آخره. قوله: "إن الله ليؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر"، أيَّد يؤيد تأييدًا: إذا قوَّى؛ يعني: أن الله سبحانه ليقوي هذا الدين - يعني: الدين المحمدي - وينصره بالرجل الفاسق والكافر، كما هو في زماننا. حاصله: ينصره بكلِّ أحدٍ؛ ليقوي إظهاره، ولئلا ينقطعَ إلى ارتفاع التكليف. * * * 4608 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَومٍ عندِي، دَعا الله ودَعاهُ، ثُمَّ قال: "أشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ! أنَّ الله قَدْ أَفتانِي فِيْمَا استفتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلانِ، جَلَسَ أحدُهُما عندَ رأْسِي والآخرُ عِندَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُما لِصَاحبهِ: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ: مَطْبوبٌ، قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبيدُ بن الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ، قَالَ: فِيْ ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قال: فَأَينَ هوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوانَ"، فَذَهَبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أُناسٍ مِنْ أَصْحَابه إلى البئْرِ فَقَال: "هذِهِ البئْرُ الَّتي أُريتُها، وكأَنَّ مَاءَها نقُاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ"، فاستخرجَهُ. قوله: "سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه ليخيَّلُ إليه أنه فعلَ الشيءَ وما فعله"؛ يعني: سحرَهُ لبيدُ الأعصم اليهودي، فغلب عليه النسيانُ، بحيث إنه اشتبهَ عليه من حيث النسيان: أنه فعل الشيء الفلاني وما فعله، أو ما فعل الشيء الفلاني وقد فعله.

قوله: "أشعرتِ يا عائشة! أن الله قد أفتاني مما استفتيته"، (أشعرت)؛ أي: علمت. (أفتاني)؛ أي: بيَّن لي فيما طلبت منه سبحانه من البيان الواضح في شرح كيفية ذلك السحر، وفي من سحره، ويأتي البيان في باقي الحديث. قوله: "مطبوب"؛ أي: مسحور، وقيل: (الطبُّ): السحرُ، وقيل: كُنَّي عن السحر بالطبِّ الذي هو علاجه، كما كُنَّي عن اللديغ بالسليم؛ تفاؤلاً من اللدغ إلى السلامة، وكما كُنَّي عن البيداء المهلكة بالمفازة؛ تفاؤلاً من الهلاك إلى النجاة والفوز. وقيل: هو من الأضداد؛ لأنه يقال لعلاج الأدواء: طب، ولعلاج السحر أيضًا: طب، بل هو من أشدِّ الأدواء وأعظمها. وقيل: يحتمل أن العربَ استعاروا في السحر الطبَّ لدقته وخفاء أمره، والطبيب: عبارةٌ عمَّا هو الفطن بالشيء والحاذق له. قوله: "في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر", (المُشاطة): الشعرُ الذي يسقط من الرأس واللحية عند الامتشاطِ بالمشط. (الجُفُّ): وعاء الطلع، وهو قِشْرُهُ، ويروى: "في جُبِّ طلعةِ ذكرٍ"، قال أبو عمرو: يقال لوعاء الطلع: جُفٌّ وجُبٌّ، ويريد بالجبِّ: داخل الطلع، كما يقال لداخل الركيَّة من أولها إلى أسفلها: جب، وقيل: (طلعة ذكر) على الإضافة، وأراد بالذكر: فحل النخل. قوله: "في بئرِ ذَرْوان" موضعٌ، قال الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي: في "كتاب مسلم": "في بئر ذِي أَرْوان". قال الإمام: وأراها أصوبَ الروايتين؛ لأن (أروان) بالمدينة أشهر من (ذروان)، وذو أروان على مسيرة ساعة من المدينة، وفيه بني مسجدُ الضرار،

هذا كله لفظُ الإمام. قوله: "هذه البئر التي أريتها"؛ أي: هذه البئر هي التي أراني جبريلُ إياها. قوله: "وكأن ماءها نقاعة الحناء"؛ أي: كأنَّ ماءَ تلك البئر متغيرٌ لونه، كمثل ماء نُقِعَ فيه الحناء. قوله: "وكأنَّ نخلها رؤوسُ الشياطين، فاستخرجه": أراد بالنخل طلع النخل، وقيل: إنما أضاف النخل إلى البئر؛ لأنه كان مدفونًا فيها، وإنما شبهه برؤوس الشياطين؛ لقبح صورته وكراهة منظره؛ لأن العربَ إذا استقبحوا شيئًا شبَّهوه بوجه الشيطان ورأسه لقبحه، وإن لم يكونوا رأوه، والكلامُ القديمُ منزَّلٌ على سنن كلامهم؛ قال الله - عز وجل -: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وقيل: إنها رقيقة كرؤوس الحيات، والحية لخبثها يقال لها: شيطان. قال الشيخ في "شرح السنة": قال الخطابي: قد أنكر قومٌ من أصحاب الطبائع السحرَ، وأبطلوا حقيقتَهُ، ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أن يكون له تأثيرٌ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يُؤمَنْ أن يُؤثِّرَ ذلك فيما يُوحَى إليه من أمر الشرع، فيكون فيه ضلالُ الأمة. الجواب: أن السحر ثابت، وحقيقته موجودةٌ، اتفق أكثر الأمم من العرب والفرس والهند وبعض الروم على إثباته، وهؤلاء أفضلُ سكان الأرض، وأكثرهم علمًا وحكمة، وقد قال الله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} [البقرة: 102] , وأمرَ بالاستعاذة منه، فقال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، ووردَ في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبارٌ لا ينكرها إلا من أنكر العِيانَ والضرورةَ, وفرَّع الفقهاءُ فيما يلزم الساحرَ من العقوبة، وما لا أصلَ له لا يبلغُ هذا المبلغَ في الشهرة والاستفاضة، فنفي السحر جهلٌ، والردُّ على من نفاه لغوٌ. فأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بإثباته، فليس كذلك؛ لأنَّ

السحرَ إنما يعمل في أبدانهم (¬1)، وهم بشر، يجوزُ عليهم من العلل والأمراض ما يجوزُ على غيرهم، وليس تأثير السحر بأبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم، وقد قُتِلَ زكريا وابنه، وسُمَّ نبينا - صلوات الله عليه - بخيبرَ. فأما أمرُ الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله تعالى وأرصدهم له، وهو جلَّ ذكرُهُ حافظٌ لدينه، وحارسٌ لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل. وإنما كان خُيلَ إليه أنه يفعلُ الشيء في أمر النساء خصوصًا، وهذا من جملة ما تضمَّنه قولُهُ تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]. فلا ضررَ إذًا فيما لحقه من السحر على نبوته وشريعته، والحمدُ لله على ذلك، والسحرُ من عمل الشيطان، يفعلُهُ في الإنسان بنفثه ونفخه وهمزه ووسوسته، ويتولاه الساحرُ بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فاذا تلقَّاه عنه، استعملَهُ في غيره بالقول والنفث في العقد، وللكلام تأثيرٌ في الطباع والنفوس، ولذلك صار الإنسان إذا سمع ما كره يحمى ويغضب، وربما حُمَّ منه، وقد مات قوم بكلامٍ سمعوه، وقولٍ امتعضوا منه، ولولا طولُ الكلام لذكرناهم، هذا كلامُ الخطابيِّ في كتابه، هذا كله لفظ الشيخ، قدس الله روحه. فإن قيل: كمال النبوةِ يمنعُ من حلول اختلال السحر بجسمِ النبي؟ قيل: لا يطول ذلك، بل يزول سريعًا، فكأنه ما حلَّ. وفائدةُ الحلول تنبيهٌ على أن هذا بشرٌ مثلكم، وعلى أن هذا السحرَ تأثيرُهُ حقٌّ؛ إذ أثَّر في أكمل إنسان، فكيف غيره؟ وصار ذلك كصدورِ ذنبٍ صغيرٍ يُنبَّهُ عليه في الحال. ¬

_ (¬1) أي: الأنبياء عليهم السلام، ولم يتقدم لهم ذكرٌ، لكن فهم ذكرهم من السياق.

فإن قيل: فلمَ جاءه في بيان السحر ملكان آخران غير جبريل عليه السلام؟ قيل: لأنه صاحبُ الوحي فقط، فهو أرفعُ درجة من هذا. * * * 4609 - عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنما نَحْنُ عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -وهوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الخُويْصِرَةِ، وهوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَميمٍ، فَقَال: يا رَسُولَ الله! اعدِلْ، فَقَال: "ويلَكَ! فمَنْ يَعدِلُ إذا لمْ أعدِلْ؟ قدْ خَبْتُ وخَسِرْتُ إِذَا لمْ أكُنْ أعدِلُ"، فَقَال عُمرُ: ائْذَنْ لي أَنْ أَضْرِب عُنُقَهُ، فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لهُ أَصْحَابًا يَحقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ معَ صَلاتِهِمْ، وصِيامَهُ معَ صِيامِهِمْ، يَقْرَؤُوْنَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ، إلى رِصَافِهِ، إلى نَضيهِ - وهو: قِدْحُهُ - إلى قُذَذِهِ، فلا يُوجدُ فيهِ شيءٌ، قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُمْ رَجُلٌ أَسْودُ إِحْدَى عضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأَةِ، أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويَخرُجونَ على حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ". قالَ أبو سَعِيْدٍ: أَشْهَدُ أنَّي سَمِعْتُ هذا الحَديْثَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَشْهَدُ أنَّ عليَّ بن أبي طالِبٍ - رضي الله عنه - قاتَلَهُمْ وأَنَا معَهُ، فأمرَ بذلكَ الرَّجُلِ فالتُمِسَ، فأُتِيَ بهِ حتَّى نظَرتُ إليهِ على نَعْتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي نَعَتَهُ. وفي رِوَايَةٍ: أقبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ الله، قَالَ: "فمَنْ يُطيعُ الله إذا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُني الله على أهلِ الأرضِ فلا تَأْمَنُوني؟ "، فَسَألَ رَجُلٌ قَتْلَهُ فمنعَهُ، فلَمَّا ولَّى قال: "إنَّ مِنْ ضئْضئِ هذا قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهْم مِنَ الرَّمِيَّةِ، فيَقتُلُونَ أهلَ الإِسلامِ، ويَدَعُونَ أهلَ الأوْثَانِ، لَئِنْ أدْرَكتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".

قوله: "وهو يقسمُ قَسمًا"، (القسم) بفتح القاف: مصدر، وبكسرها معناه: الحظُّ والنصيب، قيل: لا وجهَ لكسر القاف في هذا الحديث؛ لأنه يختصُّ إذا انفرد نصيب. وقيل: هذا القسمُ كان في غنائم حُنين، قسمها بالجِعرانةِ. قوله: "أتاه ذو الخُوَيصرة، وهو رجلٌ من بني تميمٍ"، قال في "تفسير الوسيط": اسمه: حرقوص بن زهير، وهو أصلُ الخوارج، ونزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] الآية. قوله: "قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" قيل: (خبتَ وخسرتَ) على ضمير المخاطب، لا على ضمير المتكلم، وإنما أضافَ الخيبةَ والخسرانَ إلى المخاطب؛ لأنه إذا اعتقد أنه لا يعدلُ مع أنه مبعوثٌ؛ ليكون رحمة للعالمين، قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فقد خابَ وخسر. ووجهُ ضمير المتكلم كان أظهر. وإنما لم يأذنْ لعمر - رضي الله عنه - أن يقتله؛ لأنه كان يتلفظُ بكلمة الإسلام، وكان يُصلي، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل المصلين. قوله: "فقال: دعه؛ فإن له أصحابًا" الحديث. قال في "شرح السنة": فإن قيل: كيف منعَ عمرَ عن قتله مع قوله: "لئن أدركتهم لأقتلنهم"؟ قيل: إنما أباحَ قتلهم إذا كثروا، وامتنعوا بالسلاح، واستعرضوا الناس، ولم تكنْ هذه المعاني موجودةً حين منعَ من قتلهم، وأولُ ما ظهر ذلك في زمان علي - رضي الله عنه -، وقاتلهم، حتى قتل كثيرًا منهم. وقيل: إنما وُجِدَ ذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع وعشرين سنة.

قوله: "يقرؤون القرآن لا يجاوزُ تراقيَهم"، (التراقي): جمع ترقوة، وهي العظام بين نقرة النحر والعاتق؛ أي: لا يجاوزُ ما يقرؤون من القرآن عن ظاهرهم إلى باطنهم، ولا عن قالبهم إلى قلبهم. يعني: لا تقبل طاعاتهم، ولا ترفعُ إلى الله سبحانه، فقلبُ المؤمن يقرأُ القرآن، ولسانُهُ ممرُّه، وقلبُ المجرم ممرُّ القرآن، ولسانه مقرُّه، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 12 - 13]. قوله: "يمرُقون من الدين كما يَمرُق السهمُ من الرمية"، (مرق): إذا خرج؛ يعني: يخرجون من الدين؛ أي: من طاعة الله وطاعة الأئمة. (كما يمرق)؛ أي: يخرج "السهم من الرِّمِية"، (الرَّميةُ): الصيدُ الذي تقصده فترميه، ومروق السهم من الرمية: عبارةٌ عن خروجه إلى الجانب الآخر، وعدم قرارِهِ فيها. قوله: "ينظر إلى نَصلِهِ، إلى رِصافِهِ، إلى نضَيهِ - وهو قِدحه - إلى قُذَذِهِ". قال في "الصحاح": (الرِّصاف): وهي العَقَبُ الذي يُلوَى فوق الرُّعْظِ، (يلوى)؛ أي: يشد، و (الرُّعْظ): مدخل النصل. و (نَضيُّ السهم): ما بين الريش والنصل. و (القِدح) بالكسر: السهمُ قبل أن يُراشَ، ويركب نصله. و (القُذَذ): ريش السهم، الواحدة: قُذَّة. قال بعض الشارحين: المراد بالنصل: القلبُ الذي هو المؤثر المتأثر، فإذا نظرت إلى قلبه، فلا تجدُ فيه أثرًا ممَّا شَرَعَ فيه من العبادات. والمراد بالرِّصاف: الصدرُ الذي هو محلُّ الانشراح، وانفساحِ مجاري الأوامر، وتحملِ مشاقِّ التكليف، فلم ينشرحْ لذلك، ولم يظهرْ فيه أثرُ السعادة.

والمراد بالنضي: البدن، وإن تحمَّلَ تكاليفَ الشرع من الصوم والصلاة وغير ذلك، لكنه لم يحصل له من ذلك فائدة. والمراد بالقُذَذ: أطرافه التي هي بمثابة الآلاتِ لأهلِ الصناعات والحرف، فلم يحصل له منها فائدة ما يُحصلُ لأهل السعادة. قوله: "فلا يوجد فيه شيءٌ قد سبق الفَرْث والدم"؛ يعني: نفذَ في الدين نفوذًا سريعًا، بحيث لم يتأثَّرْ به، ولم ينتفعْ منه، كما نفذَ السهم في الرمية، بحيث لم يتعلَّق به شيءٌ من الفرث والدم. و (الفَرْث): الروث. يعني: هؤلاء ليس لهم في الإسلام نصيبٌ، ولا لهم بذلك تعلقٌ، كما أن السهمَ المذكور لم يتعلَّقْ بالفرث والدم من تلك الرمية. قوله: "أو مثل البَضعةِ تَدَرْدَرُ"، (البَضعة) بفتح الباء: قطعة لحم. (تدردر)؛ أي: تحرَّكُ، فتجيء وتذهب. قوله: "يخرجون على خيرِ فرقة"، يريد بخير فرقة: عليًا وأصحابه، رضوان الله عليهم. "نعت ينعت": إذا وصف. قوله: "غائِرُ العينين، ناتِئُ الجبهة، كثُّ اللحية، مشرفُ الوجنتين"، (غائر): اسم فاعل من (غارت عينه تغور غورًا وغؤورًا): إذا دخلت في الرأس. (ناتئ الجبهة): مرتفع الجبهة. (كثَّ الشيءُ كثاثة)؛ أي: كَثُفَ، والنعت منه: كَثٌّ. (المشرِفُ)؛ أي: العالي، (الوَجْنة): الخد. قوله: "إن من ضئْضئِ هذا"؛ أي: من أصله، و (هذا) إشارةٌ إلى ذي

الخُوَيصرةِ التميمي، والخوارجُ من نسله. قوله: "لأقتلنهم قتلَ عاد"، قيل: يريد بـ (قتل عاد) استئصالَهم بالإهلاك؛ لأن عادًا هلكت بالصيحة مُستأصَلين بالإهلاك، ولم يُقتَلوا. * * * 4610 - وقَالَ أَبُو هُريرَةَ - رضي الله عنه -: كُنْتُ أدعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وهيَ مُشرِكَةٌ، فدَعَوْتُها يَومًا، فأسمعَتْنِي في رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكْرَهُ، فأَتيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَهدِيَ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ، فَقَال: "اللهمَّ! اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ"، فخرجتُ مُستبْشِرًا بدَعْوةِ نَبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا صِرْتُ إلى البَابِ، فإذا هوَ مُجَافٌ، فسمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فقالتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وسَمِعتُ خَضْخَضَةَ المَاءِ، فاغتَسَلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَتْ عنْ خِمارِها، ففَتحَتِ البَابَ، ثُمَّ قَالَت: يا أبا هُرَيْرةَ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وأشهدُ أنِّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورسُوْلُهُ، فرجَعْتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكِي مِنَ الفَرح، فحمِدَ الله وقالَ خَيْرًا. قوله: "فإذا هو مُجافٌ"، (المجاف): اسم مفعول من (أجفتُ الباب): إذا رددته. قوله: "خَشْفَ قدميَّ"؛ أي: صوتهما، و (الخشفة): الحركة. قولها: "مكانَكَ"، و (مكانك) اسم فعل معناه: الزمْ. قوله: "خضخضَةَ الماءِ"؛ أي: تحريكه. و"درع المرأة": قميصها، وهو ذكر. * * * 4611 - وقَالَ أَبُو هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: إنَّكُمْ تَقُولُون: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرةَ عَنِ

النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والله المَوعِدُ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ المُهاجِرينَ كانَ يَشغَلُهُم الصَّفْقُ بالأسْواقِ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يشغَلُهُمْ عَمَلُ أموالِهِمْ، وكنْتُ امْرَءًا مِسْكينًا، ألزَمُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على مِلْءَ بَطنِي، وقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -يَومًا: "لَنْ يَبسُطَ أَحَدٌ منكُمْ ثَوْبهُ حتَّى أقضيَ مَقالتِي هذهِ ثُمَّ يَجمعُهُ إلى صَدرِهِ فيَنسَى منْ مَقالتِي شيئًا أبدًا"، فبسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غيرُهَا، حتَّى قضَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَقالَتَهُ ثُمَّ جَمَعْتُها إلى صَدرِي، فَوالذِي بَعثَهُ بالحَقِّ ما نَسيتُ مِنْ مَقالتِهِ تِلْكَ إلى يَومِي هذا. قوله: "والله الموعدُ"؛ أي: لقاء الله سبحانه يوم القيامة موعدنا؛ يعني: مرجعُنا إليه تعالى، فيظهرُ عنده صدقُ الصادق وكذبُ الكاذب لا محالةَ. قوله: "يشغلهم الصفقُ با لأسواق"؛ أي: البيع والشِّراء، قال في "الغريبين": قيل للبيعة: صفقة؛ لضرب اليد على اليد عند عقدِ البيع، يقال: (صَفَقَ بيده) و (صَفَحَ) سواء. يريد بـ "المهاجرين": أهل مكة، وبـ "الأنصار": أهل المدينة؛ يعني: أهلُ مكة كان تشغلهم التجارات عن ملازمتهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهلُ المدينة كان يشغلهم عملهم في نخيلهم - التي هي أموالهم - عن ملازمتهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، وكنت مُلازمًا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان لي شيءٌ يشغلني، فلهذا كثرت روايتي عنه - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "لن يبسُطَ أحدٌ منكم ثوبَهُ حتى أقضيَ مقالتي هذه"، قيل: كانت مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعاءَ للصحابة بالحفظ والفهم. * * * 4612 - وقَالَ جَرِيْرُ بن عبدِ الله: قالَ لي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُريحُني منْ ذِي الخَلَصَة؟ "، فقلتُ: بلى يا رَسُولَ الله! وكُنْتُ لا أثبُتُ على الخَيْلِ، فَذَكَرتُ

ذلِكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فضربَ بِيَدِهِ على صَدرِي حتَّى رَأَيتُ أثرَ يَدِهِ في صَدرِي، وقَالَ: "اللهمَّ! ثَبتْهُ، واجعلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، قَالَ: فَمَا وقَعْتُ عنْ فرَسِي بَعْدُ، فانْطَلقَ في مِئَةٍ وخَمسينَ فارِسًا منْ أحْمَسَ، فحرَّقَها بالنَّارِ وكَسرَها. قوله: "ألا تُريحُني من ذي الخَلَصة؟ "؛ أي: ألا تُخلِّصني منه؟ و (ذو الخَلَصة): بيت لِخَثْعَمْ، وكان يسمَّى: كعبة اليمامة، وكان فيه صنم يقال له: الخلصة. قوله: "خمسين فارسًا من أحمَسَ"؛ أي: من قريش، وإنما لُقِّبَ قريشٌ حُمْسًا؛ لتشددهم في دينهم؛ لأنهم كانوا لا يستظلون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، وغير ذلك من تشدداتهم. و (الأحمس): الشجاع، و (عامٌ أحمسُ)؛ أي: شديد. وقيل: الحُمْسُ سبع قبائل؛ قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نضر بن معاوية. * * * 4613 - وَقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ رَجُلاً كانَ يكتُبُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فارتدَّ عن الإِسلامِ، ولحِقَ بالمُشركينَ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الأرضَ لا تَقبَلُهُ"، فأخبرَنيِ أبو طَلْحةَ أنَّهُ أتَى الأرضَ التي ماتَ فيها، فوجدَهُ مَنْبُوذًا، فَقَالَ: مَا شَأنُ هذا؟ فَقَالُوا: دَفنَّاهُ مِرارًا فلمْ تَقبَلْهُ الأرضُ. قوله: "إنَّ رجلاً كان يكتبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فارتدَّ عن الإسلام، ولحق بالمشركين" الحديث. أراد بالرجل: عبد الله بن أبي السرح؛ يعني: كان يكتب الوحي، فلمَّا أملى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قولَهُ سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى

آخرها، فلمَّا وصل إلى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} خطَر ببالِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، تعجَّبَ من تفصيل خلق الإنسان طورًا بعد طور، فأملاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك؛ يعني: ما جرى في خاطرِهِ، فقال عبد الله: إنْ كانَ قوله وحيًا، فأنا نبيٌّ ويُوحَى إلي. فسبقه الحكمُ الأزليُّ بكفره فارتد، ولحق بالمشركين، نعوذ بالله من ذلك. * * * 4614 - وقَالَ أَبُو أيُّوب: خرجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد وَجَبَت الشَّمْسُ، فَسمِعَ صَوْتًا فَقَال: "يَهودُ تُعذَّبُ في قبُورِها". قوله: "وقد وَجَبت الشمسُ"، (وجبت): إذا غربت، (الجِبَةُ): الغروب. قوله: "فسمع صوتًا، فقال: يهودُ تعذَّبُ في قبورها"، فسماعُ هذا الصوت له - صلى الله عليه وسلم -؛ إما قد كُشِفَ له من عالم الغيب، كما كُشِفَ له أشياءُ كثيرة من الغيب، ومثلُ هذا لا ينكشف إلا لنبي أو ولي، قال الله - عز وجل -: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، أو سمع بسمعه الملكوتي القدسي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليلٌ على أن عذابَ القبر حقٌّ. * * * 4615 - وَقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ سَفَرٍ، فلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدينةِ هَاجَتْ رِيحٌ تكادُ أنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثَتْ هذِه الرِّيحُ لمَوْتِ مُنافِقٍ"، فقَدِمَ المَدِينَةَ، فإذا عَظيمٌ مِنَ المُنافِقينَ قدْ ماتَ. قوله: "هاجت ريحٌ تكادُ أن تدفن الراكب"؛ أي: ممَّا ثار من الغبار والتراب

والرمل؛ يعني: كان يقرب أن يتوارى الراكبُ من شدة ثورانِ هذه الريح. وفيه دليلٌ على صدق نبوته وصحتها، أنه ظهر في مستقبل الزمان ما أخبر عنه في الماضي تحقيقًا وتصديقًا لما أخبر عنه. * * * 4616 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: خرَجْنا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى قَدِمْنَا عُسْفانَ، فأَقَامَ بِهَا لَيالِيَ، فقالَ النَّاسُ: ما نَحْنُ هَا هُنا في شَيءٍ، وإنَّ عِيالَنا لَخُلوفٌ مَا نَأْمَنُ عليهِمْ، فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: "والَّذِي نَفْسي بيدِه، ما مِنَ المَدينةِ شِعْبٌ ولا نَقْبٌ إلاَّ عليهِ مَلَكانِ يَحْرُسَانِها حتَّى تَقْدَموا إليها"، ثُمّ قال: "ارتَحِلُوا"، فارتَحَلْنا، وأقبَلْنا إلى المَدِينةِ، فوَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ، ما وَضَعْنا رِحَالَنا حِينَ دَخَلنا المَدِينَةَ حتَّى أَغَارَ عَلَيْنا بنو عَبدِ الله بن غَطَفانَ، ومَا يَهْيجُهُمْ قبلَ ذلكَ شيءٌ. قوله: "حتى قدمنا عُسْفان"، (القدوم): الرجوع عن السفر، و (عُسْفان): موضع قريبٌ من المدينة. قوله: "وإن عِيالنا لخُلوفٌ ما نأمنُ عليهم" يقال: الحيُّ حيٌّ خلوفُ؛ أي: لم يبقَ منهم أحد، قيل: معناه: ليس فيها إلا النساء من غير الرجال، فلهذا ما نأمنْ عليهم. قوله: "ما من المدينة شِعبٌ ولا نقبٌ إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها" (الشِّعب) بكسر الشين: الطريق في الجبل، وكذلك (النقب) و (المنقب). (الحِراسة): الحفظ. * * *

4617 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبَيْنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ فَقَامِ أعْرَابيٌّ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيالُ، فادْعُ الله لَنَا، فَرَفعَ يدَيْهِ ومَا نرَى في السَّماءِ قَزَعَةً، فوَالَّذِي نفسِي بيَدِهِ، ما وضَعَهُما حتَّى ثارَ السَّحابُ أمثالَ الجِبالِ، ثُمَّ لمْ يَنْزِلْ عنْ مِنبَرِهِ حتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ على لِحيَتهِ، فمُطِرْنا يومَنا ذلكَ، ومِنَ الغَدِ، ومِنْ بعدِ الغَدِ، حتَّى الجُمْعَةِ الأَخرَى، فقامَ ذلكَ الأعرابيُّ، أو غيرُهُ، فَقَال: يا رسولَ الله! تَهدَّمَ البناءُ, وغَرِقَ المَالُ، فادْع الله لَنَا، فرفَعَ يدَيْهِ وقال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا علَيْنا"، فَمَا يُشيرُ إلى ناحيَةٍ مِنَ السَّحابِ إِلاَّ انفرَجَتْ، وصَارَتِ المَدِينةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وسَالَ الوادِي قَناةُ شَهَرًا، ولم يَجِئْ أَحَدٌ منْ ناحِيَةٍ إلاَّ حَدَّثَ بالجَوْدِ. وفي رِواية: قال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا عَلَيْنَا، اللهمَّ! على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطونِ الأوْدِيةِ ومَنابتِ الشَّجرِ"، قال: فأَقلَعَتْ، وخَرَجْنا نمشِي في الشَّمسِ. قوله: "أصابت الناس سنةٌ"؛ أي: قَحْطٌ وجَدْب. قوله: "وما نرى في السماء قَزَعة"، (القزعة): القطعة من السحاب، والجمع: القزع. قوله: "رأيت المطر يتحادَرُ على لحيته"، (يتحادر)؛ أي: يتساقط، قيل: يريد أن السقف قد وَكَفَتْ حتى نزل الماءُ عليه. قوله: "صارت المدينة مثل الجَوْبة"، (الجوبة) بفتح الجيم: الفرجة في السحاب، وقيل: الجوبة: الترس؛ لاستدارتها، وقيل: فيه إضمار تقديره: صار حوالي المدينة مثل الجوبة، قيل: معناه: انفرجت السحابة عن سمتها. قوله: "وسال الوادي قناة شهرًا": سالَ الوادي مثل القناةِ شهرًا، ويروى:

"سال وادي قناةُ شهرًا"، فـ (قناة) اسم الوادي، فلهذا غير مصروف. قوله: "ولم يجئ أحدٌ من ناحية إلا حدَّث بالجودِ"؛ يعني: ما جاءنا أحدٌ من جانب من جوانب المدينة إلا أخبرنا بالمطر الكثير، يقال: جِيْدَت الأرض، فهي مجيدة. قوله: "اللهم على الآكامِ والظِّراب"، (الآكَام): جمع أَكَمة، وهي ما ارتفع من الأرض. و (الظِّراب): جمع ظِرْب؛ بكسر الراء، وهو أيضًا ما ارتفع من الأرض كالرَّبوة، وقيل: الظراب ما دون الآكام، وقيل: الآكام والتلال واحد، إلا أن الآكام ما كان أعلاه منبسطًا، والتلال ما كان أعلاه حادًا. قوله: "فأقلعت"؛ أي: أقلعت السحاب؛ أي: انكشفت، و (السحاب): جمع سحابة. * * * 4618 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَبَ اسْتَنَد إِلى جِذْع نَخلةٍ منْ سَوارِي المَسْجدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لهُ المِنبر فاستَوَى عليهِ، صَاحَت النَّخلةُ الَّتي كَانَ يَخطُبُ عِندَها حتَّى كَادَتْ أَنْ تَنشَقَّ، فنزَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أخذَهَا فضَمَّها إليهِ، فجَعَلَتْ تَئِنُّ كَمَا يَئِنُّ الصَّبيُّ الذي يُسَكَّتُ حتَّى استقرَّتْ، قَالَ: "بَكَتْ على مَا كانتْ تَسمَعُ مِنَ الذِّكْرِ". قوله: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ استندَ إلى جذعِ نخلةٍ من سواري المسجدِ"، قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": وفي بعض نسخ "المصابيح": (استسند)، وليس بشيء، وإنما هو (استند). و (السواري): جمع سارية، وهي الأُسطُوانة.

قوله: "حتى أخذها فضمَّها إليه"؛ يعني: حتى أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تلك النخلةَ، فعانقها. قوله: "فجعلت تئنُّ أنينَ الصبيِّ الذي يُسكَّتُ، حتى استقرتْ"، (جعلت)؛ أي: طفقت. (تئن)؛ أي: تصيحُ. (التسكيتُ): جعلُ الشخص ساكتًا. اعلم أن أنين النخلة وبكاءها لمفارقة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان مسموعًا له - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة رضي الله عنهم أجمعين بأسماعهم الباطنة القدسية الملكوتية، لا بأسماعهم الظاهرة الملكية، أو كان معجزةً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترغيبًا للكفرة والمنافقين في إسلامهم، وتحريضًا عليهم بذلك، فإذا كان كذلك، كان مسموعًا لهم بأسماعهم الظاهرة. * * * 4619 - عَنْ سَلَمَة بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عندَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ، فقال: "كُلْ بيَميِنِكَ"، فَقَال: لا أستطيعُ، قال: "لا استَطَعْتَ"، مَا منعَهُ إلا الكِبْرُ، قَالَ: فما رفعَها إلى فيهِ. قوله: "أنَّ رجلاً أكلَ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ فقال: كُلْ بيمينك"، اسم هذا الرجل: بشر بن راعي العير، وقيل: بُسْر بالسين المهملة. وكان رجلاً شجاعًا (¬1). وفيه دليلٌ على أن الأكلَ باليمين من السنن. * * * ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وهو تصحيف، وإنما هو من قبيلة أشجع، وانظر "مرقاة المفاتيح" (11/ 45)، و"أسد الغابة" (1/ 271).

4620 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أَهْلَ المَدينةِ فَزِعُوا مَرّةً، فركِبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -فرسًا لأبي طَلحَةً بَطيئًا فكَانَ يَقْطِفُ، فَلمَّا رَجَعَ قَالَ: "وَجَدْنا فرسَكُمْ هذا بَحْرًا"، فكانَ بعدَ ذلكَ لا يُجارَى. وفي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبقَ بعدَ ذلكَ اليَومِ. قوله: "فركبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، وكان يَقْطِفُ"، (قطفت الدابة): إذا مشت مشيًا ضيقًا، وتُسمَّى هذه الدابة قَطُوفًا، وقيل: بطيئًا؛ أي: لم يكن سريع السير. قوله: "وجدنا فرسكم هذا بَحْرًا"؛ أي: واسع الجري، فصارت هذه الصفة له ببركِة رُكوبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان بطيء السير. قوله: "فكان بعدَ ذلك لا يُجارَى"؛ أي: لا يُقاوَم في الجري، وفي رواية: (لا يُحاذَى)؛ يعني: كان لا يحاذيه فرسٌ يجري معه. * * * 4621 - وَقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: تُوفِّي أَبي وعَليهِ دَيْنٌ، فعَرَضْتُ على غُرَمائِهِ أنْ يَأْخُذُوا التَّمرَ بما عليهِ فأبَوْا، فأتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدي استُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ وتَرَكَ دَيْنا كَثِيرًا، وإنَّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فقالَ لي: "اذهَبْ فبَيْدِرْ كُلَّ تمرٍ على ناحِيةٍ", ففعلتُ، ثمَّ دعَوْتُهُ، فلمَّا نَظَروا إليهِ كأنّهُمْ أُغْروا بي تلكَ السَّاعةَ، فلمَّا رأَى ما يَصنعونَ طَافَ حولَ أعظَمِها بَيْدَرًا ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَس عليهِ، ثمَّ قال: "اُدْعُ لي أصحابَكَ"، فَمَا زالَ يَكِيلُ لهُمْ حتَّى أَدَّى الله عنْ والِدي أَمَانَتَهُ، وأَنَا أَرْضى أنْ يُؤَدِّيَ الله أمانَةَ والِدي ولا أَرْجِعَ إلى أَخَواتِي بتمرةٍ، فسَلَّمَ الله البَيادِرَ كُلَّها وحتَّى إنِّي أنظُرُ إلى البَيْدَرِ الَّذي كانَ عليهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كأنَّها لمْ تَنْقُصْ تَمرةً واحِدةً.

قوله: "توفِّي أبي وعليه دينٌ"، (توفي أبي)؛ أي: مات. قوله: "فبيدِرْ كلَّ تمرٍ على ناحية"، (بيدِرْ) أمرٌ من (بيدَر): إذا دِيسَ الطعامُ في البيدر، وهو موضعٌ يُداسُ فيه الطعام، ويجمع فيه التمر والزبيب. يعني: اجعلْ أنواعَ تمرِكَ ببيدرٍ؛ أي: صبرة واحدة. قوله: "فلما نظروا إليه كأنهم أُغْروا بي تلك الساعةَ"، الضمير في (إليه) يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقال: (أغرى به)؛ أي: أولع به، والاسم: (الغَراء) بالفتح ممدودًا؛ يعني: فلما نظر الغرماءُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كأنهم هُيجُوا وحُرِّضوا علَّي في التشديد، واعتاضوا (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنهم أرادوا أن يأخذوا الأصلَ والتمرَ؛ لأنه كان في أعينهم قليلاً، وكانوا يهود. قوله: "حتى أدَّى الله عن والدي أمانته"؛ أي: دينه؛ لأنه كان مُؤتمنًا على أدائه، قال الله تعالى: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]؛ أي: ما ائتمنتم عليه، وقال أيضًا: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، قيل: وإنما سَمَّى الدين أمانة مع أنه مضمون؛ لائتمان مَنْ له الدينُ على مَنْ عليه الدين. قوله: "فسلَّمَ الله البيادرَ كلَّها" الحديث. التسليمُ ها هنا: جعلُ أحدٍ سالمًا؛ يعني حفظ الله بلطفه جميع البيادر، وجعلها سالمةً عن النقصان، سيما ذلك البيدر الذي جلس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأنه ما نقصَ منه تمرةٌ واحدة ببركةِ جلوسِهِ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4622 - وقَالَ جَابرٌ: إنَّ أُمَّ مالِكٍ كَانتْ تُهْدي للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، ¬

_ (¬1) أي: طلبوا العوض من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فيأتِيها بنوهَا فيَسألونَ الأُدْمَ وليسَ عِندَهُمْ شَيءٌ، فتعمِدُ إلى الذِي كانتْ تُهْدي فيه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَجِدُ فيهِ سَمْنًا، فما زالَ يُقيمُ لَهَا أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصَرَتها، فأتَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "عصرتيها؟ "، قالتْ: نعمْ، قَالَ: "لوْ تَركتِيها ما زالَ قائِمًا". قوله: "إن أمَّ مالكٍ كانت تُهدي للنبيِّ في عُكَّةٍ لها سمنًا"، قال الإمام التُّورِيشتي في "شرحه": إن أمَّ مالك في الصحابيات اثنتان؛ أم مالك البَهْزِيَّة، وهي التي تروي حديث الفتنة، وأم مالك الأنصارية، وهي التي علَّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن تقول في دُبُرِ كل صلاة: "سبحان الله عشرًا، والحمد لله عشرًا، والله أكبر عشرًا". وصاحبة العكة هي البَهْزِية، وقد رُوي مثلُ ذلك في أمِّ أوسٍ البَهْزِيَّة، ذكرتُ كلَّ واحدة منهما في بابها من الكنى، فلا أدري أهي واحدةٌ اختلف فيها؛ لاختلاف الكنيتين، أم هما اثنتان، هذا كله منقولٌ من "شرحه". قال في "الصحاح": يقال لمثل الشَّكوة ممَّا يكون فيه السَّمنُ: عُكَّة؛ بالضم، والجمعُ: العُكَك، والعِكاك، و (الشكوة): قربة صغيرة. يقال: أهديت له وإليه: أرسلت إليه الهدية، تقدير الكلام: كانت تُهدي سمنًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عُكَّة لها. قوله: "فما زالَ يُقيمُ لها أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصرتها"؛ أي: فما زال ذلك السمن في العُكَّة أدم بيتها لبركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نقَّتها من السمن. قوله: "لو تركتِيها ما زالَ قائمًا"؛ أي: ما زال أدمُ بيتِك قائمًا لو تركت ما فيها من السمن وما عصرتيها، فإن البركة تنزل في شيء ولو كان قليلاً، فإذا نزلت البركة في شيء قليلٍ كَثُر ذلك القليل، فالياء في (تركتيها) و (عصرتيها) للإشباع. * * *

4623 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: قَالَ أبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَد سَمِعتُ صَوْتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَعيفًا أعرِفُ فيهِ الجُوعَ، فهلْ عِندَكِ منْ شيءٍ؟ قَالَتْ: نعمْ، فأخرجَتْ أَقْرَاصًا منْ شَعِيْرٍ، ثُمَّ أخرجَتْ خِمارًا لَها فلَفَّتِ الخُبزَ ببعضهِ، ثمَّ دَسَّتْهُ تحْتَ يَدِي، ولاَثَتْنِي ببعضهِ، ثمَّ أرسَلَتْنِي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فذهبتُ بهِ، فوجَدْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَسجِدِ ومعهُ نَاسٌ، فقُمتُ فسلَّمتُ عليهِمْ، فقالَ في رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرسلكَ أبو طَلْحَةَ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "بطعامٍ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ مَعَهُ: "قُوموا"، فانطلَقَ، وانطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فأخبَرْتُهُ، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ! قد جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاسِ وليسَ عِندَنا ما نُطْعِمْهُم، فقَالَتْ: الله ورسُولُهُ أَعْلَمُ، فانطلقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طَلْحَةَ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلُمَّي يا أُمَّ سُلَيْم! ما عِنْدَك"، فأتَتْ بذلك الخبزِ، فأَمَر به رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً، فأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيهِ مَا شَاءَ الله أنْ يقولَ، ثُمَّ قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فأذِنَ لهُمْ، فأكَلوا حتَّى شَبعوا ثُمَ خرَجوا، ثُمَّ قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ، ثُمَّ لِعَشَرةٍ"، فأكَلَ القَومُ كُلُّهم وشَبعُوا، والقومُ سَبعونَ أو ثَمانونَ رَجُلاً. ويُروى أَنَّه قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فدَخَلوا فَقَالَ: "كُلوا، وسَمُّوا الله"، فأَكَلوا حتَّى فَعَلَ ذلك بِثَمانينَ رَجُلاً، ثمَّ أَكَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ البيتِ وتَرَكَ سُؤْرًا. ويُروى: فجَعَلْتُ أنظُرُ: هلْ نَقَصَ منها شَيءٌ؟!. ويُروَى: ثُمَّ أَخَذَ ما بَقِيَ فجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعا فيهِ بالبَرَكَةِ، فَعَادَ كمَا كانَ، فقال: "دُونَكُمْ هذا". قوله: "ثم أخرجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخبزَ ببعضه"، (الخمار): ما يستر رأس المرأة، وهو المَقْنَعة، (لفَّ): إذا جَمَع.

قوله: "ثم دسَّتْهُ تحت يدي ولاثَتْني ببعضه"، (الدسُّ): الإخفاء، يقال: لاثَ العمامةَ على رأسه؛ أي: عَصَبها على رأسه؛ يعني: لفَّتِ الخبزَ بعضَه على بعض، ثم أخفته تحت يدي، وعَصَبت على رأسي الطرفَ الآخر. قوله: "هلُمِّي يا أمَّ سُلَيم ما عندكِ"؛ يعني: أحضري ما عندك. قوله: "فأتتْ بذلك الخبزِ، فأمرَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ"؛ أي: جُعل فَتِيتًا. قوله: "فأدمته"، يقال: أَدم يَأدِم أَدْمًا وإدامًا؛ أي: جعلت أمُّ سُليم السمنَ الذي في العُكَّة إدامًا لذلك الفَتِيت. قوله: "ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ... " الحديث. قيل: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "ائذن لعشرة عشرة"، ولم يقل: ائذن للكلِّ بمرة واحدة،؛ لأن الجمع الكثير إذا نظروا إلى طعامٍ قليل يزداد حرصُهم على الأكل، ويظنون أن ذلك الطعام لا يُشْبعهم، ولا يكفيهم. فإذا كان كذلك، فالحرص على الأكل مَمْحَقَة للبركة، وإذا كان الأمر بالعكس كما أن الطعام يزيد على قدر ما يكفي الآكلين، فلا يهيج حرصُهم على الأكل، وتطمئنُّ نفوسُهم، فعند ذلك نزولُ البركة متوقَّع من عند الله سبحانه، فلهذه الحكمة قال - صلى الله عليه وسلم -: "ائذن لعشرة عشرة". قوله: "وتركَ سؤرًا" - السُّؤر بالضم والهمز -: البقيَّة. قوله: "دونَكم هذا"؛ أي: خذوه، (هذا) اسمٌ للأمر كـ (صَهٍ ومَهٍ). قيل: تقال هذه الكلمة عند الإغراء بالشيء والتحريض عليه؛ يعني: إذا شبع القوم قال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دونكم هذا"؛ أي: عليكم بهذا وكُلُوه. * * *

4624 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإناءٍ وهوَ بالزَّوْراءِ، فوَضَعَ يَدهُ في الإِناءِ فجعَلَ الماءُ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِهِ، فتوضَّأَ القَوْمُ، قال قَتادةُ - رضي الله عنه -: قُلتُ لِأَنَسٍ: كمْ كنتُمْ؟ قالَ: ثَلاثَ مَئِةٍ، أوْ زُهَاءَ ثَلاثَ مِئَةٍ. قوله: "وهو بالزَّوراء"، (الزوراء): هو اسم موضع بالمدينة، قيل: سميت بذلك لبعدها من المدينة، أو لازْوِرَارِها عن المسجد، و (الزوراء): البئر البعيدة القَعْر. قوله: "أو زُهاء ثلاث مئة"، (الزهاء) - بضم الزاي - معناه: المِقْدار. * * * 4625 - عَنْ عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا نعُدُّ الآياتِ برَكَةً، وأنتُمْ تَعُدُّونَها تَخْوْيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فَقَلَّ المَاءُ، فَقَالَ: اطلُبوا فَضْلةً من مَاءٍ, فَجَاءُوا بإناءٍ فيهِ مَاءٌ قليلٌ، فأدْخَلَ يَدَهُ في الإِناءِ, ثمَّ قَالَ: "حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكَةُ مِنَ الله"، فلقن رأيتُ الماءَ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَقدْ كُنَّا نَسْمعُ تسبيح الطَّعامِ وهوَ يُؤْكَلُ. قوله: "كنَّا نعُدُّ الآياتِ بركةً، وأنتم تعدُّونها تخويفًا"، قيل: (الآيات) ها هنا بمعنى المعجزات، سميت المعجزات آية؛ لأنها علامةٌ على نبوَّته - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: أراد ابن مسعود - رضي الله عنه - بذلك: أن عامة الناس لا ينفع فيهم إلا آيات نزلت بالعذاب والتخويف، وخاصَّتهم - يعني بهم: الصحابة رضوان الله عليهم - كان ينفع فيهم الآياتُ المُقْتَضية للبركة. أصل (البركة): الثبات والدوام، ومنه: البركة والبُروك والبَرْك الذي هو الصدر، فـ (تبارك الله) معناه: دام عظمته وجلاله دوامًا وثباتًا لا إبطال له، ولهذا لا يقال: يتبارك الله، مضارعًا؛ لأن انتقال الأزمنة على القديم محال.

ومعنى البركة في الشرع: داوم الإيمان، وامتثال الأمر، ودوام الوعد بحُسْن العاقبة، كما فعل الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بجماعةٍ وعدَهم وعدًا دائمًا لا ينقطع بأنهم من سُكَّان الجنة، سعادتُهم أبديَّة لا انقطاعَ لها. قوله: "حيَّ على الطَّهور المُبارك"، (حيَّ) - مفتوح الياء - اسمٌ لفعل الأمر، ومعناه: أسرِعْ، كما تقول العرب: حيَّ على الثَّريد؛ أي: أسرع إليه. قوله: "كنَّا نَسْمعُ تسبيحَ الطَّعامِ وهو يُؤكل"، تسبيح الطعام إن كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يأكله فبركةُ يدِه وصَلَتْ إلى الطعام، فصار الطعام يسبح الله تعالى على أنْ جعلَه مأكولَ خيرِ الأنبياء، فإن خير الطعام ما يأكله الخَير، وسماع تسبيح الطعام كان معجزةً ظاهرة له - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يكن بين يديه فيكون تسبيحه أيضًا معجزة له، إذ الطعامُ جماد، وتسبيح الجماد خَرْقُ العادات. واعلم أن تسبيحَ الطعامِ والحَصَى وغيرَ ذلك من معجزاته: إنما كان مُسْتَغْربًا بالنسبة إلى عالَم الحِكْمة؛ لأن ما وُجد في عالم الحكمة لا يحصُل إلا بالأسباب؛ لأنه مركَّب من العناصر الأربعة، وأما عالَم القُدرة فهو غير مركَّب. فحينئذ لا يحتاج إلى الأسباب والمواد، فعند إرادته القديمة تعالى بإظهار معجزة على يد نبي من الأنبياء صلوات الله عليهم يظهرُ ما هو من عالَم القدرة الذي لا تركيب فيه على يده؛ كتسليم حجر، أو تسبيح طعام، وغير ذلك مما يعجَزُ الخلْقُ عن إتيان مثله، فيلزمهم تصديقُه في دعوى النبوة؛ لأنه بشرٌ مثلُهم، فلو لم يكن مؤيَّدًا من عنده تعالى لَمَا قَدَرَ عليه، كما لا يَقْدِرون عليه. * * * 4626 - قَالَ أَبُو قَتادَة - رضي الله عنه -: خَطَبنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إنَّكُمْ تَسيرُونَ عَشيَّتَكُمْ ولَيْلَتَكُمْ، وتأْتونَ المَاءَ إِنْ شَاءَ الله غَدًا"، فانطلقَ الناسُ لا يَلْوِي أَحدٌ على أَحدٍ، قال أبو قَتادَةَ - رضي الله عنه -: فبَيْنَما رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسيرُ حتَّى ابْهارَّ اللَّيلُ، فمَالَ

عنْ الطَّريقِ، فوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: "احْفَظُوا علَيْنا صَلاتَنا"، وَكَانَ أوَّلَ مَنْ استَيْقَظَ رَسَولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والشَّمْسُ في ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "ارْكَبُوا"، فركِبنا، فسِرْنا، حتَّى إذا ارتفَعَتِ الشَّمسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعا بمِيضأَةٍ كانتْ معِي فيها شَيءٌ منْ ماءٍ، فتوضَّأَ مِنْها وُضُوءًا دُونَ وُضوءٍ، قال: وبقيَ فيها شَيءٌ منْ مَاءٍ، ثُمَّ قال: "احْفَظْ علَيْنا مِيضَأَتَكَ فسيَكونُ لَها نَبأٌ", ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الغَداةَ، ورَكِبَ ورَكِبنا مَعَهُ، فانتَهينا إلى النَّاسِ حِينَ امتدَّ النَّهارُ وحَمِيَ كُلُّ شيءٍ وهُم يقولون: يا رَسُولَ الله! هلَكْنا عَطَشًا، فقال: "لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ودَعا بالمِيضأَةِ، فَجَعلَ يَصُبُّ وأبو قَتادَةَ يَسقيهِمْ، فلمْ يَعْدُ أنْ رَأَى النَّاسُ ماءً في المِيضأَةِ فتَكَابُّوا عليها، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحْسِنوا المَلأَ، كُلُّكُم سَيَرْوَى"، قال: ففعلَوا، فجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ ويَسقِيهِمْ، حتَّى ما بَقِيَ غَيْرِي وغَيْرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَبَّ فقالَ لي: "اشرَبْ"، فقلتُ: لا أشرَبُ حتَّى تَشْرَبَ يا رَسُولَ الله! قَالَ: "إنَّ سَاقِيَ القَومِ آخِرُهُم شُرْبًا"، قال: فشرِبْتُ وشَرِبَ، قال: فأتَى النَّاسُ المَاءَ جامِّينَ رِواءً. قوله: "لا يلوي أحد على أحد"؛ أي: لا يميل أحدٌ إلى أحد، ولا يلتفت إليه، بل يمشي وحدَه قاصدًا إلى الماء. قوله: "يسير حتى ابهارَّ اللَّيلُ"؛ أي: انتصف، وبُهْرة الشيء: وسطه. قوله: "اركَبُوا، فَرَكِبنا، فَسِرْنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نَزَل" وإنما أخَّر القضاء ليكون دليلاً على أن قضاء صلاة نام عنها أو نسِيَها لا يجب على الفور، بل على التراخي مدةَ عمره، ولا يأثم، وإنما لم يقض في ذلك الموضع الذي فاتت الصلاة عنه، بل انتقل إلى موضع آخر، ليعلِّم أن الموضعَ الذي ارتكب الشخصُ فيه مَنْهيًّا أو تَرَكَ مأمورًا يُستحبُّ له أن يفارِق ذلك الموضع، ثم يأتي بما تَرَكَه في موضعٍ آخرَ ترغيمًا للشيطان.

قوله: "ثم دعا بمِيْضَأة كانت معي"، (الميضأة): مطهرة يتوضأ بها، مفعلة من الوضوء. قوله: "فتوضَّأ وضوءً دون وضوء"؛ أي: توضأ وضوءً وَسَطًا بين ما هو على الكمال وبين ضده، وإنَّما رَضيَ بما هو أدنى لقلة الماء. قوله: "حتَّى امتدَّ النهارُ، وحَمِيَ كلُّ شيء"؛ أي: حتى ارتفع النهار، واشتد حرارةُ كلَّ شيء. قوله: "تكابوا عليها"؛ أي: ازْدَحموا على المِيْضَأة. قوله: "أحسِنُوا المَلأَ كلكم"، قال في "الصحاح": المَلأَ: الخُلُق، فيقال: ما أحسنَ مَلأَ بني فلان؛ أي: عشرتهم وأخلاقهم، والجمع أَمْلاء. وفي الحديث: أنه قال لأصحابه حين ضربوا الأعرابي: "أحسنوا أملاءكم كلكم"، الضمير في (أحسنوا كلكم) تأكيد؛ أي: أحسِنوا كلُّكم الأخلاقَ. قوله: "فأتى الناسُ الماءَ جامِّينَ رِواءً"، (الرِّواء) جمع رَيَّان، كعِطاش جمع عَطْشان، قيل: معناه: أتى الناس ممتلئين من الماء، من قولهم عندي جُمَام القفيز دقيقًا - بالضم لا غير -، وبالفتح: يُستعمل في الفرس، وبالكسر: يستعمل في القَدَح ملآن من الماء، هذا قول الفَرَّاء. قال غيره: يجوز أن يقال جَمام المَكُوك وجُمامه وجِمامه - بالفتح والضم والكسر -، هذا معنى كلام صاحب "الصحاح". وقيل: معناه: أتى الناس مُسْتريحين بحيث زال تعبُهم وعَناؤهم، مِنَ الجَمام - بالفتح - وهو الراحة. * * *

4627 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا كَانَ يَومُ غَزوةِ تَبوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ عُمرُ - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ الله! ادْعُهُمْ بفَضْلِ أزْوادِهمْ، ثمَّ ادْعُ الله لهُمْ عليها بالبَرَكةِ، فقال: "نَعَمْ" فدَعا بنطَعٍ فبُسِطَ، ثُمَّ دَعا بفَضْلِ أزْوادِهمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بكَفِّ ذُرَةٍ، ويَجيءُ الآخرُ بكَفِّ تَمرٍ، ويَجيءُ الآخَرُ بكِسْرةٍ، حتَّى اجتمَعَ على النَّطَعِ شَيءٌ يَسيرٌ، فدَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالبَرَكَةِ، ثُمَ قَالَ: "خُذوا في أَوْعيَتِكُمْ"، فأخَذوا في أوْعِيَتهِم حتَّى مَا تَرَكوا في العَسْكَرِ وِعاءً إلَّا مَلَؤُوهُ، قَالَ: فأكَلوا حتَّى شَبعوا، وفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنَّي رَسُولُ الله، لا يَلْقَى الله بهِما عبدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجَنَّةِ". قوله: "أصاب الناسَ مَجَاعةٌ"، (المجاعة): الجوع. قوله: "ثم دعا بِفَضْل أَزْوادهم"، الفضل والفَضْلة: ما فَضَل من شيء. (الأزواد): جمع زاد، وهو طعام يُتَّخذ للسفر؛ يعني: طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أن يأتوا ببقيَّة أَزْوادهم. قوله: "فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة"، قيل: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وذلك إما أن يَجْعلَ الله سبحانه القليلَ مُشْبعًا بقدرته القديمة، أو يزيدَ في أجزائها زيادةً غيرَ محسوسة، ابتلاء للآكلين؛ لأن في الغيب ابتلاء للمؤمنين المُوقنين. قوله: "لا يلقى الله بهما عبدٌ غيرُ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجنَّة"، الضمير في (بهما) للشهادتين. (فيحجب): منصوب على جواب قوله: (لا يلقى)؛ يعني: مَنْ لقي الله سبحانه بالشهادتين - يعني: بالإسلام - من غير تردد وشك، فلا يُحجب عن الجنة البتَّةَ. * * *

4628 - وقَالَ أنَسٌ - رضي الله عنه -: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَروسًا بزَيْنَبَ، فعَمَدَتْ أُمَّي أُمُّ سُلَيْمٍ إلى تَمرٍ وسَمنٍ وأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْسًا فجعلَتْهُ في تَوْرٍ، فَقَالتْ: يَا أَنَسُ! اذهَبْ بهذا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلْ: بَعَثَتْ بهذا أُمِّي إليكَ، وهيَ تُقْرِئُكَ السَّلامَ، وتَقُولُ: إنَّ هذا لكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله! فذهبْتُ فقلتُ، فَقَالَ: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ: "اذهبْ فادْعُ لي فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا - رِجالاً سمّاهُمْ -، وادْعُ مَنْ لَقِيتَ"، فدعَوْتُ مَنْ سَمَّى ومَنْ لَقِيتُ، فرجعتُ، فإذا البَيْتُ غَاصٌّ بأهلِهِ، قِيلَ لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ عَدَدُكمْ؟ قال: زُهاءَ ثَلاَثِ مِئَةٍ، فَرَأَيتُ النَّبيَّ وَضَع يَدَهُ على تِلْكَ الحَيْسَةِ، وتَكلَّمَ بَما شَاءَ الله، ثُمَّ جَعَلَ يَدعُو عَشَرَةً عَشَرةً يأْكُلونَ منهُ ويقولُ لهُمْ: "اذْكُروا اسْمَ الله عَلَيْهِ، ولْيأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَليهِ"، قال: فَأَكَلوا حتَّى شَبعوا، فخَرَجَتْ طَائِفةٌ ودَخلَتْ طَائِفةٌ حتَّى أكَلوا كلُّهُمْ، فقالَ لي: "يا أنسُ! ارْفَعْ"، فرفَعْتُ، فَمَا أدْرِي حِينَ وضَعْتُ كَانَ أكثرَ أمْ حينَ رَفَعْتُ!. قوله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عَرُوسًا بزينب"، والعَروس يُستعمل في الرجل والمرأة جميعًا. قال في "الصحاح": يقال: رجُلٌ عَروس في رجال عُرُس، وامرأة عروس في نساء عرائس، وفي المَثَل: كاد العَروسُ يكون أميرًا. وسببُ الاستواءِ المبالغةُ في عَرُوس؛ كَصَبُور. قوله: "فعمَدَتْ أميِّ أمُّ سُلَيم إلى تَمْرٍ وسَمنٍ وأَقِطٍ، فصنَعَتْ حَيْسًا" (عَمَدت)؛ أي: قصدت، و (الحيس): تمر يُخْلط بالسمن، و (الأقط)، و (التور): إناء يُشرب فيه. قوله: "فرجعَتْ، فإذا البيتُ غاصٌّ بأهله"، قال الحافظ أبو موسى: يقال: غَصَّ الموضعُ بالقوم: إذا امتلأ بهم. * * *

4629 - قَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: غزَوْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا على نَاضحٍ قدْ أعْيا فلا يَكَادُ يَسيرُ، فَتَلاحَقَ بِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "ما لِبَعيرِكَ؟ "، قُلْتُ: قدْ عَييَ، فتخلَّفَ رَسُولُ الله فَزَجَرَهُ ودَعا لَهُ، فما زالَ بينَ يَدَي الإِبلِ قُدَّامَها يَسيرُ، فَقَالَ لِي: "كيفَ تَرى بَعيرَكَ؟ " قلتُ: بخَيْرٍ، قدْ أصابَتْهُ بَرَكَتُكَ، قال: "أفَتَبيعُنِيهِ بِوُقيَّةٍ؟ "، فبعْتُهُ على أنَّ لي فَقارَ ظهرِهِ إلى المدينةِ، قَالَ: فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدِينةَ غَدَوْتُ عليهِ بالبَعيرِ، فأَعْطَانِي ثَمْنَهُ، ورَدَّهُ عليَّ. قوله: "وأنا على نَاضحٍ قد أَعْيا"، (الناضح): بعير يُسْتَسْقى عليه الماء. (عيي): إذا عَجَز عن المشي وغيره. قوله: "فما زال بين يدَي الإبلِ قُدَّامَها يسيرُ"؛ يعني: فما دام ذلك البعير يسير قدَّامَ الإبلِ سيرًا شديدًا بركة لدعاءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فبعته على أنَّ لي فَقَارَ ظهرِه إلى المدينة"، (الفَقَار): عِظام الظَّهْر، والمراد به ها هنا: الظَّهر؛ أي: ركوب فَقَار ظهرِه؛ يعني: بعتُ البعير من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه يكون مركوبًا لي إلى المدينة، فلمَّا قدمنا المدينة ردَّ ثمنَ البعيرِ إليَّ، ووهبَ لي البعير أيضًا، وفيه دليلٌ على جواز استثناء بعض منفعة المَبيع مدةً. * * * 4630 - عَنْ أَبي حُمَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تَبوكَ، فأتَيْنا وادِي القُرَى على حَديقةٍ لامْرأةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْرُصُوهَا"، فخَرَصْناهَا، وخَرَصَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ أوْسُقٍ وقال: "أحْصِيْهَا حتَّى نَرجِعَ إِلَيكِ إِنْ شَاءَ الله - عز وجل -"، وانْطَلَقْنا حتَى قَدِمْنَا تَبوكَ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستَهُبُّ عَلَيكُمُ اللَّيلةَ رِيحٌ شَديدةٌ، فلا يَقُمْ فيها أَحدٌ، فمَنْ كَانَ لَهُ بَعيرٌ فلْيَشُدَّ عِقالَهُ"، فهَبَّتْ رِيحٌ شَديدةٌ، فَقَامَ رَجَلٌ فحَملَتْهُ الرِّيحُ حتَّى ألْقَتْهُ بجَبَلَ طَيئٍ، ثُمَّ أقبَلْنا

حتَّى قَدِمنا وادِي القُرَى، فَسَألَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَرأَةَ عنْ حَديقتِها، "كَمْ بَلَغَ تمرُها؟ "، فَقَالت: عَشَرَةَ أوْسُقٍ. قوله: "فأتينَا وادي القُرى على حديقة"، (وادي القرى): موضع، (الحديقة): عبارة عن كل بستان عليه حائط. قال في "الغريبين": قال أبو عبيدة: الحديقة: كل ما أحاط به البناء، يقال: حَدَق به، وأَحْدَق به. قوله "بجبلي طيء"، جبلا طيء؛ أحدهما سَلْمى، والآخر أَجَأ، على وزن فعلى، بفتح الكل، وهما بأرض نجد. * * * 4631 - وقَالَ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكُمْ ستَفْتَحُونَ مِصْرَ، وهيَ أَرْضٌ يُسمَّى فيها القِيراطُ، فإذا فتَحتُموها فأحْسِنوا إلى أَهلِها فإنَّ لَها ذِمَّةً ورَحِمًا - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وصِهْرًا - فإِذَا رَأيتُم رجُلَيْنِ يَخْتصِمَانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عبدَ الرَّحمنِ بن شُرَحْبيلَ بن حَسَنةَ وأَخاهُ رَبيعةَ يَخْتصِمانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فخرجْتُ منها. قوله: "إنكم ستفتحونَ مِصْرَ وهي أرضٌ يسمَّى فيها القِيراطُ", تقديره: إنكم ستفتحون مِصْرَ، ومِصْرُ أرضٌ يسمَّى فيها؛ أي: في مصر (القيراط). قال الطحاوي في "مشكل الآثار": إن أرضَ مصرَ يسمى فيها القيراط؛ لأنَّ أهلَها يستعملونه في السبِّ وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيت فلانًا قيراطًا؛ أي: أسمعته المكروه، ويقولون: اذهب وإلا أعطيك القراريط؛ أي: السب والشتم، إنما ينبههم على صفة تلك البلدة بخصوصها، وإنما ينبههم عند فتحها عن خُلُق أهلها، أو معجزة لأن هذا من الغيب.

قوله: "فإنَّ لها ذِمَّة ورَحِمًا، أو: ذمةً وصِهْرًا" قيل: الذمة المراد بها الذَّمام الذي حصل لهم من جهة إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مارِية القِبْطية، فإنها من مصر، وأما الرَّحِم فمن جهة هاجرَ أمِّ إسماعيل صلوات الله عليهما، فإنها أيضًا من مصر، وقيل: الصِّهر مختصٌّ بمارية، والذَّمَّة بهاجر. قوله: "فإذا رأيتُم رجلين يختصِمان في موضع لَبنة ... " الحديث. قيل: قد ظهر هذه الخصومة في آخر خلافة عثمان - رضي الله عنه - حين عَتَبوا عليه ولايةَ عبدِ الله بن سعد بن أبي سَرْح، أخيه من الرَّضَاعة، فكان منهم ما كان، وإنما قال لأبي ذر: (فاخرج منها) شفقةً عليه ونظرًا له، كيلا يتضرَّر من تلك الخصومة التي هي مادَّة الفتن. وهذا الذي قد أخبر - صلى الله عليه وسلم - قبل وقوعه، وقد وقع = من جملة معجزاته أيضًا - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4632 - عَنْ حُذَيْفَة - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "في أَصحَابي - وفي رَوِايَةٍ: في أُمَّتِي - اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا، لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ولا يَجدونَ رِيحَها حتَّى يَلِجَ الجمَلُ في سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيةٌ منهُم تَكفِيهِم الدُّبَيْلَةُ: سِراجٌ مِنَ النارِ تَظهرُ في أكتافِهِم حتَّى تَنْجُمَ في صُدورِهِم". قوله: "حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط"، وَلَج يَلِجُ: إذا دخل، (السَّم): الثقبة، (الخياط) - بكسر الخاء -: الإبرة. قوله: "ثمانيةٌ منهم تَكْفيهم الدُّبَيلة"، (الدبيلة) في الأصل هي الدَّاهية، وهي مصغَّرة للتكبير، واستعمل في الطاعون وقَرحة متصلِّبة شديدة كانت تظهر في أكتافهم.

قوله: "سِراجٌ من النَّار تظهرُ في أكتافهم حتى تَنْجُمَ في صدورهم"، يقال: نَجَم النَّبتُ يَنْجُم: إذا خرج؛ يعني: تلك القَرحة تظهر في أكتافهم مثل سراجٍ من النار لشدة أَلَمِها وحرقة محلِّها، حتى يَسْرِيَ فيها إلى الصدور ويَهْلَك صاحبُها. * * * 4633 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنيَّةَ المُرارِ فإنَّهُ يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عنْ بني إسْرائيلَ"، فكانَ أوَّلَ مَنْ صَعِدَها خَيْلُنا خَيْلُ بني الخَزْرجَ، ثمَّ تَتامَّ النَّاسُ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكُلُّكُمْ مَغفورٌ لهُ إِلاَّ صاحِبَ الجَملِ الأحمرِ"، فَأتَيْنَاهُ فقُلنا لهُ: تَعَالَ يَستغفِرْ لكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أحبُّ إليَّ منْ أنْ يَستغفِرَ لِي صاحِبُكُم، وكَانَ رَجُلًا يَنشُدُ ضَالَّةً لهُ. قوله: "مَنْ يَصعَدُ الثنيَّةَ ثنيَّةَ المُرارِ، فإنه يُحَطُّ عنه ما حَطَّ عن بني إسرائيل"، قيل: ثنية المرار - بضم الميم -: عَقَبة منسوبة إلى شجرة مُرّ، يقال لها: المُرار. قال الحافظ أبو موسى في "المُغيث": هو ما بين مكة والمدينة من طريق الحديبية، قيل: لعلَّ هذه الثنية كان صعودُها شاقًّا على الناس، إما لقُربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، فلهذا قال: (يُحَطُّ عنه ما حَطَّ عن بني إسرائيل) حين امتثلوا قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161]. قوله: "ثم تتامَّ النَّاسُ"؛ أي: صَعِدَ الناسُ الثنيةَ كلُّهم. * * * مِنَ الحِسَان: 4634 - عَنْ أَبي مُوْسَى الأَشْعرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ أبو طَالِبٍ إلى الشَّامِ،

وخَرجَ مَعَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أَشْياخٍ منْ قُريشٍ، فلمَّا أشْرَفوا على الرَّاهِبِ، هَبَطوا فحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فخرجَ إليهِم الرَّاهِبُ، وكانوا قَبْلَ ذلكَ يَمُرُّونَ بهِ فَلا يَخرُجُ إليهِمْ، قَالَ: فهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فجَعَلَ يَتخلَّلُهُم الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فأخذَ بيدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: هذا سَيدُ العَالَمِينَ، هذا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبعثُهُ الله رَحمَةً للعَالَمينَ، فقالَ لهُ أَشْياخٌ منْ قُريشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قال: إنَّكُمْ حِينَ أشْرَفْتُم مِنَ العَقَبةِ لم يَبْقَ شَجرٌ ولا حجرٌ إلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولا يَسجَدانِ إلَّا لِنَّبيٍّ، وإنَّي أَعْرِفُهُ بَخَاتَمِ النُّبوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْروفِ كتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لهُمْ طَعَامًا، فلمَّا أَتاهُمْ وكانَ هوَ في رِعْيَةِ الإِبلِ قَالَ: أَرسِلوا إِليْهِ، فأقبَلَ وعلَيهِ غَمامَةٌ تُظِلُّهُ، فلمَّا دَنا مِنَ القَومِ وجَدَهُمْ قدْ سَبقوهُ إلى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فلمَّا جَلَسَ مالَ فَيْءُ الشَّجرةِ عَلَيْهِ فَقَال: انظُروا إلى فَيْءِ الشَّجَرةِ مَالَ عليهِ، فَقَالَ: أنشُدُكُم الله، أيُّكُمْ ولِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فلم يَزَلْ يُناشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبعثَ معهُ أَبُو بَكرٍ - رضي الله عنه - بِلالاً (¬1)، وزوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ. قوله: "فلمَّا أشرفُوا على الرَّاهب هَبَطوا فحلُّوا رِحَالَهم"، (أشرف عليه): اطلع عليه، (الراهب): الزاهد من النصارى، قيل: اسم هذا الراهب كان بَحيرا، ¬

_ (¬1) قال في "مرقاة المفاتيح" (11/ 65): رواه الترمذي (3620)؛ أي وقال: حسن غريب، وقال الجزري: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيحين أو أحدهما، وذِكْر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعدَّه أئمتنا وهمًا، وهو كذلك فإن سِن النبي إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن وُلد في ذلك الوقت اهـ. وقال في "ميزان الاعتدال" (4/ 307) قيل: مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالاً" وبلال لم يخلق بعد وأبو بكر كان صبيًا اهـ. وضعف الذهبي هذا الحديث لقوله: "وبعث معه أبو بكر بلالاً"؛ فإن أبا بكر إذ ذاك ما اشترى بلالاً. وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/ 353): الحديث رجاله ثقات، وليس فيه سوى هذه اللفظة، فيحتمل أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهمًا من أحد رواته.

وكان أعلم النصارى، وموضعه كان بصرى من بلاد الشام. (هبط): إذا نزل، (حلَّ)؛ أي: فتح. قوله: "فجعل يتخلَّلُهم الراهبُ"، (جعل)؛ أي: طَفِق، (تخلَّلَ في الشيء): إذا دخل في خَلَله، وهو الوسَط. قوله: "وإنَّي أعرِفُه بخاتَم النُّبوة أسفلَ من غُضْروفِ كَتفِه"، (الغضروف): ما لان من العَظْم، وقيل: غضروف: فوق الكتف، وغضروفة اللحم: الذي بين الكتفين. قوله: "فلم يَزَلْ يُنَاشِده حتَّى رَدَّه"؛ يعني: لم يزل الراهبُ يقول لأبي طالب: بالله عليك أنْ تردَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى مكةَ، واحفظْه من العدو، حتى ردَّه إلى مكة. قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم، فتقتله الروم، فلذلك ناشدَ أبا طالب عمَّه حتى ردَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. * * * 4636 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بالبُراقِ لَيْلةَ أُسْرِيَ بهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فاسْتَصْعَبَ عليهِ، فَقَالَ لهُ جبريلُ: "أَبمُحَمَّدٍ تفعلُ هذا؟ فَمَا ركِبَكَ أَحَدٌ أَكْرمُ على الله مَنْهُ"، قَالَ: فارْفَضَّ عَرَقًا. غريب. قوله: "مُلْجَمًا مُسْرَجًا"، (ملجمًا)؛ أي: مَشْدودًا عليه اللِّجام، (مُسْرجًا)؛ أي: موضوعًا عليه السَّرج؛ يعني: كان مُهيّأً للركوب. قوله: "فاستصْعَبَ عليه"؛ أي: صعب عليه الركوب؛ يعني: ما قدر أن يركبَه. قوله: "فارفَضَّ عَرَقًا"؛ أي: سال منه العَرَق وترشَّش. * * *

4637 - وعَنْ بُرَيْدةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا انتهَيْنا إلى بيتِ المَقْدِسِ قالَ جِبريلُ بأُصبُعِهِ، فخَرَقَ بها الحَجرَ، فشدَّ بهِ البُراقَ". قوله: "قال جبريل - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه، فخرق بها الحجر، فشد به البراق"، (قال به)؛ أي: أشار بإصبعه الحجر، فشقَّ الحجر بإصبعه، فانشق، ثم شَدَّ البراق بذلك الحجر. * * * 4638 - عن يَعلى بن مُرَّة الثَّقَفيِّ قَالَ: ثَلاثةُ أَشْياءَ رأَيْتُها مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنا نحنُ نسَيرُ معهُ إِذْ مَرَرْنا ببَعِيرٍ يُسْنَى عَلَيهِ، فلَمَّا رَآهُ البَعيرُ جَرْجَرَ، فوضَعَ جِرانَهُ، فوقَفَ عليهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "أينَ صاحِبُ هذا البعيرِ؟ "، فجَاءَهُ، فَقَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَقَالَ: بلْ نَهَبُهُ لكَ يَا رَسُولَ الله! وإنَّهُ لِأَهلِ بيتٍ ما لهُم مَعيشَةٌ غيرُهُ، فقال: "أَمَّا إِذَ ذَكَرتَ هذا منْ أمْرِهِ فإنَّه شَكا كَثْرَةَ العملِ وقِلَّةَ العَلَفِ، فأحْسِنوا إليهِ"، ثُمَّ سِرْنا حتَّى نَزَلْنا مَنْزِلاً، فَنَامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجَاءَتْ شَجَرةٌ تَشُقُّ الأَرضَ حتَّى غشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَكانِها، فلمَّا استيقظَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرْتُ لهُ، فقال: "هِيَ شَجرةٌ استأْذَنَتْ ربَّها في أَنْ تُسَلِّمَ على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذَنِ لَها"، قال: ثُمَّ سِرْنا، فمَرَرْنا بماءٍ، فأتَتْهُ امرأَةٌ بابن لَهَا بهِ جِنَّةٌ، فأخذَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمَنْخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "اخرُجْ، إِنَّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"، ثمَّ سِرْنا، فلمَّا رَجَعْنا مَرَرْنا بذلكَ المَاءِ، فَسَألَها عَنْ الصَّبيِّ، فَقَالَتْ: والَّذِي بعثَكَ بالحَقِّ، ما رأَيْنا منهُ رَيْبًا بَعدَك. قوله: "ببعيرٍ يُسنَى عليه"؛ أي: يُسْتَقى عليه. قوله: "فلما رآه البعيرُ جَرْجَرَ"، (جرجرَ)؛ أي: صَوَّتَ وصاح، (الجرجرة): صوت يردِّده البعير في حَنْجَرته، يقال: جَرْجَرَ البعير، فهو جَرْجَار، كما يقال: ثَرْثرَ

الرجل، فهو ثَرْثار. قوله: "فوضعَ جِرانَه"، (جِرانُ البعير): مقدَّم عُنقه من مَذْبَحه إلى مَنْحَره. قوله: "فأتته امرأةٌ بابن لها به جُنَّة" أي: بالابن جُنونٌ. قوله: "ثم قال: اخْرُج"، أي: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجنون: اخرج. قوله: "والذي بعثكَ بالحقِّ ما رأينا منه رَيبًا بعدَك"، (الريب): الشك؛ أي: ما رأينا منه ما أوقعَنَا في شكِّ من حاله ورِيبة بعدَكَ. وقيل: صوابه (رَئيًّا)، الرَّئي: الذي يُرى من الجِنِّ في صورة حيوان كحيَّةٍ وغيرها. * * * 4639 - وَقَالَ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ اَمْرأةً جَاءَتْ بابن لَها إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ ابني بهِ جُنونٌ، وإِنَّهُ يأخُذُهُ عِنْدَ غَدائِنا وعَشائِنا، فمَسَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَدرَهُ ودَعا، فثَعَّ ثَعَّةً، وخرجَ منْ جَوْفِهِ مثلُ الجَروِ الأَسْودِ يَسعَى. قوله "فثعَّ ثَعَّةً، وخرجَ من جوفه مثل الجِرْو الأسود يَسْعَى"، ثَعَّ الرجل ثَعًّا: إذا قاء. (الجِرْو): ولد الكَلْب وغيره من السباع. وفيه دليل على جواز الرُّقية إذا لم يكن فيها غير اسمِ الله سبحانه. * * * 4641 - وقَالَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فأقبَلَ أَعْرَابيٌّ، فَلَمَّا دَنا قَالَ لهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تشهدُ أنْ لا إِله إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ

لهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ؟ "، قَالَ: ومَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هذِهِ السَّلَمَةُ"، فَدَعَاهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ بِشَاطِيءِ الوَادِي، فَأَقبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ حتَّى قامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فاستَشْهَدَها ثَلاَثًا، فَشَهِدَتْ ثَلاثًا أَنَّه كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَنْبتِها. قوله: "هذه السَّلَمة"، قيل: (السلمة): شجرة من العِضَاه، ورقُها القَرَظ، والقَرَظ: ما يُدبغ به الجِلد. قوله: "فدعاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بشاطيء الوادي، فأقبلت تَخُدُّ الأرضَ، حتى قامتْ بين يديه"؛ يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واقفًا بشاطيء الوادي؛ أي: طَرفه، (تَخُدُّ الأرض)؛ أي: تشقُّها، والخَدُّ: الشَّقُّ، (بين يديه)؛ أي: عنده. * * * 4642 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نبيٌّ؟ قَالَ: "إنْ دَعَوْتُ هذا العِذْقَ منْ هذهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أنَّي رَسُولُ الله"، فدَعاهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعلَ يَنزِلُ منَ النَّخْلَةِ حتَّى سَقَطَ إلى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قال: "ارجِعْ"، فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الأَعْرابيُّ. صَحَّ. قوله: "إنْ دعوتُ هذا العِذْقَ من هذه النَّخلة"، (العِذق) - بكسر العين - الكِبَاسة، والكِبَاسة من النخل بمنزلة العُنْقود من العِنَب، والعَذْق - بالفتح -: النَّخْلة. * * * 4643 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ ذِئبٌ إلى رَاعِي غَنْمٍ فأخذَ منها

شَاةً، فطَلبَهُ الرَّاعِي حتَّى انتزَعَها منهُ، قَالَ: فصَعِدَ الذَّئبُ على تَلًّ فأقْعَى واستَقَّر وقال: عَمَدتُ إلى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ الله أَخَذْتُهُ ثمَّ انتزَعْتَهُ منِّي؟ فقالَ الرَّجلُ: تالله إنْ رأيتُ كاليومِ! ذِئبٌ يَتكلَّمُ؟ فقالَ الذِّئبُ: أَعجَبُ منْ هذا رَجُلٌ في النَّخَلاتِ بينَ الحَرَّتَيْنِ يُخْبرُكُم بِمَا مَضَى وبمَا هوَ كَائِنٌ بعدَكُمْ، قال: وكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًا، فجَاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرَهُ وأسلَمَ، فصَدَّقَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها أَمَاراتٌ بينَ يَدَي السَّاعَةِ، فقد أَوْشَكَ الرَّجُلُ أنْ يَخرُجَ فلا يَرجِعَ حتَّى تُحدِّثَهُ نَعْلاهُ وسَوْطُه بِمَا أَحدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ". قوله: "فأقْعى واسَتَثْفَر"، (الإقعاء): أن يجلس على وِرْكيه, وينصبَ يديه، و (الاستثفار): إدخال ذَنبَه من بين أَلْيتيه كما هو عادة الكِلاب. قوله: "تالله إنْ رأيتُ كاليومِ ذئبٌ يتكلَّم"، قال في "الفائق"؛ أي: ما رأيتُ أُعجوبة مثلَ أعجوبةِ اليوم، فحذف الموصوف، وأقيم الصفةَ مقامَه، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. قوله: "بين الحَّرتين"؛ أي: الحجرين، والحَرَّة: حجارة سُود بين جبلين. * * * 4644 - عَنْ أبي العَلاءِ عَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نتَداول منْ قَصْعَةٍ مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى اللَّيلِ، تَقُومُ عَشَرة وتَقْعُدُ عَشَرةٌ، قُلنا: فَمَا كانتْ تُمَدُّ؟! قَالَ: منْ أيِّ شَيءٍ تَعْجَبُ؟ ما كانتْ تُمَدُّ إِلاَّ مِنْ هَا هُنَا، وأَشَارَ بيدِهِ إِلى السَّماءِ. قوله: "كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَتَداوَلُ من قَصْعَة، مِنْ غَدْوة حتى الليل"؛ أي: نتناوب بأكل الطعام منها طولَ النهار. قوله: "فما كانت تُمَدُّ"؛ أي: مِنْ أين تُمَدُّ؛ أي: تُزاد القَصْعة من الطعام؟

يعني: من أين يكثُر الطعام فيها؟ "قال" النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من أيِّ شيء تَعْجَب؟ "؛ أي: لا تَعْجَب، فإنَّ القَصْعة لا يكثُر فيها الطعام إلا مِنْ عَالَمِ القُدْرة، وهو عبارة عن نزول البركة فيما في القصعة من الطعام، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانت تمد ... " إلى آخر الحديث. * * * 4645 - عَنْ عبدِ الله بن عَمرٍو - رضي الله عنه -: أَنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يومَ بَدرٍ في ثَلاَثِ مِئةٍ وخَمْسةَ عَشَرَ، فقال: "اللهمَّ! إنَّهُمْ حُفاةٌ فاحمِلْهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ عُراةٌ فاكْسُهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ جِياعٌ فأَشْبعْهُمْ"، ففَتحَ الله لَهُ، فانقَلَبوا وما منهُمْ رَجُلٌ إلَّا وقد رَجَعَ بجَمَلٍ أو جَمَلَيْنِ، واكْتَسَوا وشَبعوا. قوله: "اللهمَّ إنَّهم حُفَاة فاحمِلْهُم"، (الحفاة): جمع الحافي، وهو الذي يمشي بلا نَعْل ولا مَدَاسٍ، يقال: أحملت فلانًا؛ أي: أعَنْتُه على الحمل؛ يعني: اللهمَّ أعطِ كلَّ واحد منهم المركوب. (الجياع): جمع جائع. * * * 4646 - عَنِ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّكُمْ مَنصورُونَ ومُصِيْبُونَ ومَفتوحٌ لَكُمْ، فمَنْ أَدرَكَ ذلكَ منكُمْ فليَتَّقِ الله، ولْيأْمُرْ بالمَعْروفِ، ولْيَنْهَ عَنِ المُنكَرِ". قوله: "ومفتوحٌ لكم"؛ يعني: تُفتح لكم البلادُ الكثيرة. * * * 4647 - وَعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ يَهودِيَّةً مِنْ أَهلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصلِيَّةً،

ثمَّ أهدَتْها لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَخذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذِّرَاعَ فأَكَلَ منها، وأكلَ رَهْطٌ منْ أَصحَابهِ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعوا أيْدِيَكُمْ"، وأَرْسَلَ إلى اليَهودِيَّةِ، فدَعَاها فقال: "سَمَمْتِ هذِه الشاةَ؟ "، فقالت: مَنْ أخبَرَكَ؟ فقال: "أخبَرَنِي هذِه في يَدِي"، يَعني: الذَّراعَ، قالتْ: نَعَمْ، قلتُ: إنْ كانَ نَبيًّا فلنْ يَضُرَّهُ، وإنْ لمْ يكُنْ نبيًّا اسْتَرَحْنا منهُ، فعفَا عَنْهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُعاقِبْها. قوله: "سَمَّتْ شاةً مَصْلِيَّة"، (المَصْلية): المَشْوِيَّة، مِنْ صَلَيْتُ اللحمَ: إذا شويته بالصِّلاء، وهي النار. قيل: اسم هذه المرأة زينب بنت الحارث، وهي بنت أخي مَرحَب بن أبي مرحب. قيل: لصفيةَ بنت حُيي شاةٌ مَصْلية سَمَّتها، وأكثَرَتْ في الكتف والذراع، لمَّا عرفتهما أنهما أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعفا عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعاقِبْها. قال الإمام التُّورِبشْتي في "شرحه": وفي هذا اختلاف؛ لأنه قد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلها فقُتِلت، والجمع بين الروايتين أنه عفا عنها أولاً، فلمَّا مات بِشْر بن البراء من الأَكْلة التي ابتلَعَها أَمَرَ بقتلها، فقُتلت في الحال. * * * 4648 - عَنْ سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّةِ: أنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ حُنَيْنٍ، فأطْنَبُوا السَّيْرَ حتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فجَاءَ فَارِسٌ فقال: يا رَسُولَ الله! إنَّي طَلعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذا وكَذا، فإذا أَنَا بهَوازِنَ على بَكْرَةِ أَبيهِمْ بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تِلكَ غَنيمَةُ المُسلِمِينَ غدًا إنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قال: "مَنْ يَحرُسُنا الَّليلةَ؟ "، قالَ أَنَسُ بن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيُّ: أَنَا يا رَسُولَ الله! قال: "اركَبْ"، فركِبَ فرَسًا لهُ فقال: "استقْبلْ هذا الشَّعْبَ حتَّى

تكونَ في أَعْلاهُ"، فلمَّا أَصْبَحْنا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصَلاَّه فركَعَ ركعَتَيْن ثُمَّ قال: "هلْ حَسِسْتُم فارِسَكُمْ؟ "، فقالَ رَجُلٌ: ما أَحْسَسْنا، فثُوِّبَ بالصَّلاة، فجعَل رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ، حتى إذا قَضَى الصَّلاةَ قال: "أبشِروا فقدْ جاءَ فارِسُكُمْ"، فجعَلْنا نَنْظُرُ إلى خِلالِ الشَّجرِ في الشَّعْبِ، وَإِذَا هوَ قدْ جاءَ حتَّى وَقَفَ على رَسُوِل الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِنَّي انطلَقْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعلَى هذا الشَّعْبِ حَيْثُ أمرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أَصبحْتُ طَلَعتُ الشِّعبَيْنِ كليهما فلم أرَ أَحَدًا، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلْ نزلْتَ الليلةَ؟ "، قال: لا، إلَّا مُصَلِّيًا أوْ قَاضيَ حَاجَةٍ، قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا عَلَيْكَ أنْ لا تَعمَلَ بَعدَها". قوله: "فأطْنَبوا السَّيرَ"؛ أي: بالغوا في السير. قوله: "إني طلعت على جبل كذا، فإذا أنا بِهَوازن على بَكْرة أبيهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم"، يقال: طلَعتُ على القوم؛ أي: أتيتهم، وطَلِعْتُ الجبلَ - بالكسر -؛ أي: عَلَوتُه. وهَوَازن: قبيلة من قيس، وهو هوازن بن مَنصور بن عِكْرمة بن خَصَفَة بن قيس عَيلان. ويقال: جاؤوا على بَكْرة أبيهم، للجماعة إذا جاؤوا معًا، ولم يتخلَّف منهم أحد، وليس هناك بَكْرة في الحقيقة، ذكره كله في "الصحاح". قيل: الظَّعْن: جماعة الرجال والنساء الذين يَظْعُنون؛ يعني: قال الفارس: أتيت الجبل الفلاني، ورأيت قبيلة هوازن بأجمعِهم، كانوا مجتمعين إلى حُنين. قوله: "هل حَسِسْتُم فارِسَكم؟ "؛ أي: هل أدركتم فارسَكم؟ يريد: أنسَ ابن مَرْثد الذي أرسله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليتفحَّصَ عن حال العدو. قوله: "فثوِّبَ بالصلاة"؛ أي: أُقيم. قوله: "فجعَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي يلتفت إلى الشَّعْب، حتى قضى الصلاة"، (جعل)؛ أي: طَفِق، والواو في (وهو) واو الحال؛ يعني: طَفِقَ

6 - باب الكرامات

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مصلِّيًا يلتفت إلى الشِّعب، حتى فرغ من الصلاة، وفيه دليل على أن الالتفات في الصلاة لا يُبْطِلُها. قوله: "فلا عليكَ أن لا تعملَ بَعْدَها"؛ أي: فلا بأس عليك أن لا تعمل بعد هذه الليلة من الفضائل والنَّوافل؛ لأنه قد حصل لك فضيلةٌ كافية بتلك الحسنة، وأما الواجبات فلا تَسْقُط عن أحد ما دام حيًا. * * * 4649 - وعن أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمَراتٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله فيهِنَّ بالبَرَكَةِ، فضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعا لِي فيهنَّ بالبَرَكَةِ، قال: "خُذهُنَّ فاجعَلْهُنَّ في مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أنْ تأخُذ منهُ شَيْئًا فأدْخِلْ فيهِ يَدَكَ فخُذْهُ، ولا تَنْثُرْهُ نَثْرًا"، فقدْ حَمَلْتُ منْ ذلكَ التَّمرِ كَذا وكَذا مِنْ وَسْقٍ في سَبيلِ الله، فكُنّا نَأْكُلُ مِنهُ ونُطْعِمُ، وكانَ لا يُفارِقُ حِقْوِي حتَّى كانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثمانَ فإنَّهُ انقطَعَ. قوله: "وكان لا يفارِقُ حِقْوِي، حتَّى كان يومُ قتلِ عثمان - رضي الله عنه -، فإنَّه انقطَعَ"، (الحِقْو): الخَضْر وَمَشُّد الإزار؛ أي: كان مِزْودي لا يفارق وَسَطي إلى يوم قَتْلِ عثمان - رضي الله عنه -، فإنه فاتَ مني في ذلك اليوم، وذلك لأن الفساد إذا كثُر وشاع بين الناس ارتفعت البركةُ، كما أنَّ بالصلاح تنزل البركة، فبالفساد تزولُ وترتفع. * * * 6 - باب الكَرَامَاتِ (باب الكرامات) (الكرامات) جمع كرامة، وهي تلو المعجزات وتتمتها.

اعلم أن الكراماتِ حقٌّ، كما أن المعجزات حق، وكلتاهما من عالَم القُدرة بحيث تَنْخَرِق القدرة إلى الحكمة، حتى يظهر ما يكون خارقًا للعادة، في كِسْوة ما هو ملكي، لكن الفرق بينهما: أن المعجزةَ معدودةٌ للأنبياء متى أرادوها؛ إما باختيارهم أظهروها، وإما باقتراح الأمة إيَّاهم، فكيف ما كان يسهُل عليهم إظهارُها، وإنما كان كذلك لأنهم كانوا مُمَهِّدين للشريعة، وسبب تمهيدهم هو المعجزة، فلو لم يسهُل عليهم إظهارُها لَمَا ثَبَتَ لهم الأديان، فلهذا سَهُل عليهم ذلك، وما صعب عليهم. وأما الكرامات فهي بخلاف المعجزات، فإنَّ الولي ربما يقدِر أن يأتي بها، وربَّما لا يقدر، فرقًا بينها وبين المعجزة. * * * 4651 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ أُسَيْدَ بن حُضَيْرٍ وعَبَّادَ بن بِشْرٍ تَحدَّثَا عِنْدَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في حَاجةٍ لَهُمَا حتَّى ذَهبَ مِن الَّليلِ سَاعةٌ، في لَيْلةٍ شَدِيْدةِ الظُّلمةِ، ثُمَّ خَرَجَا مِن عِندِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْقَلِبانِ وبيَدِ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ، فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحدِهِما لَهُمَا حتَّى مَشَيَا في ضَوْئِها، حَتَّى إِذَا افترقَتْ بِهِما الطَّريقُ أَضَاءَت بالآخرِ عَصَاهُ، فمَشَى كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا في ضَوءِ عَصَاهُ حَتَّى بَلَغَ أَهْلَه. قوله: "بيدِ كلِّ واحد منهما عُصَيَّة، فأضاءَتْ عصا أحدهما"، (عُصَية) تصغير عصا، وإنما ظهرت الهاء في عُصية؛ لأن العصا مؤنثٌ سَمَاعي، والمؤنث السماعي في تقدير الهاء، فضوء عَصَاهُما كان كرامة لهما. * * * 4652 - وقَالَ جَابرٌ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أبي مِنَ اللَّيلِ فَقَال ما أُراني

إِلَّا مَقْتُولاً في أَوَّلِ مَن يُقتَلُ مِن أَصحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإِنَّي لا أَتْركُ بعدي أَعَزَّ عليَّ مِنْكَ غيرَ نفسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ عَليَّ دَيْنًا فاقْضِ، واستَوْصِ بأخواتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيْلٍ، ودَفَنْتُه معَ آخرَ في قبرٍ. قوله: "ما أُراني إلا مقتولاً في أوَّلِ مَنْ يُقتل من أصحاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -"، (أُرى)؛ أي: أَظُن، و (ني) مفعوله الأول، و (مقتولاً) مفعوله الثاني، وقوله: (ما أراني إلاَّ مقتولاً) كان كرامة له. قوله: "فاستوصِ بأخواتك خيرًا"؛ أي: اقبل لهنَّ وصيتي بالخير. * * * 4653 - وقَالَ عَبدُ الرَّحمنِ بن أَبي بَكْرٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُناسًا فُقَراءَ، وإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن كَانَ عِندَهُ طَعَامُ اثنينِ فلْيَذهبْ بثالثٍ، ومَن كَانَ عندَه طَعَامُ أَربَعةٍ، فليَذهبْ بخَامِسٍ، أو سَادِسٍ"، وإنَّ أَبَا بكرٍ جَاءَ بثَلاثةٍ، وانطلقَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشَرَةٍ، وإنَّ أبا بَكْرٍ تَعَشَّى عِندَ النَّبيِّ عن - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبثَ حتَى صُلِّيَت العِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فلبثَ حتَّى تَعَشَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجَاءَ بعدَ ما مَضَى مِن الَّليلِ ما شَاءَ الله، قالَتْ له امرأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عن أَضْيَافِكَ؟ قَالَ: أَوَ مَا عَشَّيْتِيهم؟ قالَت: أَبَوا حتَّى تَجيءَ، فغضبَ وقَالَ: والله لاَ أَطْعَمُه أَبَدًا، فَحَلفَتِ المَرأةُ أنْ لا تَطعمُه، وحَلَفَ الأَضْيَاف أَنْ لا يَطَعمُوه، قَالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: كانَ هذا مِن الشَّيطانِ، فَدَعَا بالطَّعَامِ فأَكَلَ وأَكَلُوا، فجَعَلُوا لا يرفعُون لُقْمَةً إِلاَّ رَبَتْ مِن أَسْفلِها أَكثَرُ منها، فقالَ لامرأتِه: يا أُختَ بني فِرَاس! ما هذا؟ قَالَت: وقُرَّةِ عيني، إِنَّها الآنَ لأَكثرُ منها قبلَ ذلكَ بِثَلاثِ مِرارٍ، فأكلوا، وبَعَثَ بها إِلى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذُكِرَ أَنَّه أَكَلَ منها. قوله: "تعشَّى عند النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -"، (تعشى): إذا أكل العشاء، وهو طعام الليل.

قوله: "أوما عشّيتِهم؟ قالت: أَبَوا حتَّى تجيء"، الهمزة في (أوما عشيتهم) للاستفهام، والواو للعطف، (التعشية): إعطاء العشاء أحدًا، (أبى): إذا أنكرَ وما قبلَ. قوله: "لا يرفعونَ لُقمةً إلا رَبَتْ من أسفلها"، (ربت)؛ أي: زادت. * * * 4655 - وقَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْهَا: لمَّا أَرادُوا غَسْلَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: لا نَدري، أَنُجَرِّدُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن ثيابهِ كما نُجَرِّدُ مَوتَانَا، أمْ نَغْسِلُه وعَلَيْهِ ثِيابُه؟ فلمَّا اختلفُوا أَلْقَى الله عليهم النَّومَ، حتَّى مَا مِنهُم رَجُلٌ إلا وَذَقْنُه في صَدْرهِ، ثُمَّ كلَّمَهُم مُكَلَّمٌ مِن نَاحِيَةِ البيتِ لا يَدرُونَ مَن هُوَ: اغِسلُوا النَّبيَّ وعليهِ ثِيابُه، فَقَامُوا فَغَسلوهُ وعليهِ قَميصُه، يَصبُّونَ المَاءَ فَوْقَ القَميصِ ويُدَلِّكُونَهُ بالقَمِيْصِ. قوله: "فغسَّلوه، وعليه قميصه ... " الحديث. قال في "شرح السنة": وَلِيَ غسلَه - صلى الله عليه وسلم - وتكفينَه عليٌّ والعباسُ والفَضْلُ بن عباس وأسامةُ بن زيد، ونَزَلَ في قبره عليٌّ وأسامةُ والفضلُ. وفيه دليل على أن غسل الميت مع قميصه مستحب. * * * 4656 - عَنْ ابن المُنْكَدِرِ: أنَّ سَفِيْنَةَ مَولَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أخَطْأَ الجيشَ بأرضِ الرُّومِ، أَوْ أُسِرَ، فانطلقَ هارِبًا يلتمِسُ الجيشَ فإذا هو بالأسدِ، فقال: يا أبا الحَارثِ! أنا مَولَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ مِن أمري كَيْتَ وكَيْتَ، فأقبلَ

الأَسَدُ، لهُ بَصبَصَةٌ، حتَّى قَامَ إلى جنبهِ، كُلَّما سَمِعَ صَوتًا أَهْوَى إِليْهِ، ثُمَّ أَقبلَ يَمْشِي إِلى جَنْبهِ حتَّى بَلَغَ الجَيْشَ، ثُمَّ رَجَعَ الأَسَدُ. قوله: "أنَّ سفينةَ مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أخطأ الجيشَ بأرضِ الرُّوم"؛ يعني: أَضَلَّ طريقَه بحيث لا يَهْتدي إليهم سبيلاً. قوله: "أبا الحارث"؛ أي: يا أبا الحارث، وأبو الحارث كُنيةُ الأَسَد. قوله: "بَصْبَصَةٌ حتى قام إلى جنبه"، (البصبصة): تحريكُ الذَّنَب، كما يفعله الكَلْبُ عند التملُّق إلى صاحبه. قوله: "كلَّما سَمِعَ صوتًا أهوى إليه"؛ أي: كما سمع الأسدُ صوتًا قَصَدَه. * * * 4657 - عَنْ أَبي الجَوْزَاءِ - رضي الله عنه - قال: قُحِطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيْدًا، فَشَكَوْا إلَى عَائِشةَ رَضيَ الله عَنْها فَقَالَت: انظُروا قبرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاجعَلُوا مِنهُ كُوًى إلى السَّماءِ، حتَّى لا يكونَ بينَهُ وبينَ السَّماءِ سَقفٌ، ففعلُوا فمُطِرُوا مَطَرًا حتَّى نبتَ العُشْبُ وسَمِنَتِ الإِبلُ، حتَّى تَفتَّقَتْ مِنَ الشَّحمِ، فسُمِّيَ عامَ الفَتْقِ. قولها: "فاجعلُوا منه كُوى"، (الكوى): جمع كُوَّة، وهي مَنْفَذٌ في جدار وغيره؛ أي: اجعلوا من قبرِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منافذَ إلى السماء. قوله: "حتى تفتَّقت الإبل"، (تفتقت)؛ أي: اتسعت، قيل: تفتقت أسنمتها من السمن، وقيل: انتفخت خواصِرُها من الرعي. قوله: "فسمِّي عامَ الفَتْق"؛ أي: سمي ذلك العام عامَ الخَصْب والسَّعَة والنعمة لكثرة المطر. قيل: أما الكشف عن قبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ونزول المطر فهي نكتة، وهي أن

السماء إذا رأتْ قبرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَكَت، بحيث سال الوادي من بكائها، وهذه نكتة لا بأس بها، فإنه تعالى قال حكاية عن الكفار إذا ماتوا: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]، فحقيقٌ أن تبكي السماء على فَقْدِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يقوى تأثيرُ الروح الطاهرة المقدسة في الأرض المدفون جثته فيها اشتياق الروح إلى البدن المألوف. ويحتمل أن ذلك الكشف كأنه وسيلة إلى الله تعالى في الاستسقاء، وكما كان حيًا يستسقي فَيُجاب في الحال، كذلك إذا استُسْقِي به وهو ميت. ويحتمل أنه إذا انكشف شيء من قبره يطلب منه انكشاف معجزة من معجزاته بعد وفاته، فالحق يجيب، ليظهر صدقَ الرسولِ حيًا وميتًا بدعائه لهم. وفيه دليل على أن الميت ينتفع بدعاء الأحياء، ويصل دعاؤهم إليه. * * * 4658 - عَنْ سَعِيْدِ بن عَبْدِ العَزيزِ قَالَ: لمَّا كَانَ أيَّامَ الحَرَّةِ لم يُؤَذَّنْ في مَسْجدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا ولم يُقَمْ، ولم يَبْرَحْ سَعِيْدُ بن المُسَيَّبِ مِن المَسْجدِ، وكانَ لا يَعْرِفُ وقْتَ الصَّلاةِ إلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسمعُها مِن قَبرِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "لمَّا كان أيامُ الحَرَّة"، (كان) ها هنا تامة؛ أي: وقع، قيل: هي وقعة في المدينة مشهورة في زمن يزيد بن معاوية. قوله: "وكان لا يعرفُ وقتَ الصلاة إلا بِهَمْهَمَةٍ يسمَعُها من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -"، (الهمهمة): تَرْديد الصوتِ في الصَّدر، وحمار هِمْهِيم: يُهَمْهِم في صوته، ذكره في "الصحاح". * * * 4662 - عَنْ عُقْبَةَ بن عَامرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: صلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قَتلى أُحُدٍ

بَعد ثَمانِ مسنينَ كالمُودَّعِ للأَحْياءِ والأَمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ المِنْبرَ فقال: "إنَّي بينَ أَيْديكُم فَرَطٌ، وأَنَا عَلَيْكُم شَهيْدٌ، وإِنَّ مَوْعِدَكُم الحَوضُ، وإنَّي لأَنظرُ إليهِ من مَقَامِي هذا، وإنِّي قَدْ أُعطِيتُ مفاتيحَ خَزَائنِ الأَرْضِ، وإنَّي لَسْتُ أخْشَى عليْكُم أنْ تُشرِكُوا بَعدِي، ولكنْ أَخْشَى عليْكُم الدنيا أنْ تَنَافسُوا فيها". وزَادَو بعضُهم: "فتَقْتَتِلُوا فتَهْلَكُوا كَمَا هلَكَ مَن كانَ قبلَكم". قوله: "صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قَتْلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين"، المراد بالصلاة ها هنا: الاستغفار؛ يعني: أوان انقضاء عُمُرِه المقدَّس، أمره الله بالاستغفار لشهداء أُحد، وكان هذا منه وداع للأحياء والأموات، وإعلام أنهم بعد شهادتهم تزداد درجاتُهم بدعائه لهم. قوله: "إنَّي بين أيديكم فَرَطٌ"، (الفرط) - بالتحريك -: الذي يتقدَّم الوارِدة، فيهيئ لهم الأَرسان والدَّلاء، ويَمْدُر الحِيَاض، ويَسْتَقِي لهم، وهو فعل بمعنى فاعل، كتبع بمعنى تابع، يقال: رجل فَرَطٌ وقوم أيضًا, ذكره في "الصحاح". يعني: أنا سابقُكم ومتقدِّمُكم، تلخيصه: أني إذا تقدمت كنت كالشفيع لكم عند الله تعالى، فإذا مُتُّم، وانقلبتم إلى دار الآخرة انتفعتم بجِواري فيها، كما كنتم تنتفعون بي حيًا، فهو شفيع الأمة، وهو نسبُهم في الدنيا والآخرة. قوله: "ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أن تنافَسُوا فيها"؛ أي: أنْ تَرغبوا في الدنيا، وتَمَالوا إليها. * * * 4663 - وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: إنَّ مِن نِعَمِ الله عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُوفِّيَ في بَيْتِي، وفِي يَوْمِي، وبينَ سَحري ونَحري، وأنَّ الله جَمَعَ بينَ ريقي وريقِهِ عِنْدَ مَوتِهِ، دَخَلَ عليَّ عبدُ الرَّحمنِ بن أبي بكرٍ وبيدِهِ سِوَاكٌ، وأَنَا

مُسْنِدةٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتُهُ يَنْظُرُ إِلَيه، فعَرَفْتُ أنهُ يُحِبُّ السِّواكَ، فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فأَشَارَ برأسِهِ أنْ نَعَمْ، فتَناولْتُهُ، فاشتَدَّ عَلَيهِ فَقُلْتُ: أُلَينُه لكَ؟ فأَشَارَ برأسِهِ: أنْ نَعَمْ، فلَيَّنْتُه، فأَمَرَّهُ على أَسْنَانِهِ، وبينَ يديْهِ رَكْوَةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخِلُ يدَهُ في الماءِ فيَمسحُ بها وجْهَهُ ويَقُولُ: "لا إلهَ إلا الله، إنَّ للمَوتِ سَكَراتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يده فجعلَ يقولُ: "في الرَّفيقِ الأَعلَى"، حتَّى قُبضَ ومالَتْ يدُه. قولها: "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري ونَحْري"، (السحر) - بالفتح والضم -: الرئة، و (النحر): موضع القِلادة من الصدر. وقال أبو عبيدة: هو ما لحق ولصق بالحُلْقوم من أعلى البطن. قال الحافظ أبو موسى: قال القتبي: بلغني عن عمارة، عن عقيل، عن بلال بن جرير: أنه قال: إنما هو (بين شجري ونجري) - بالشين المنقوطة والجيم -، (الشجر): التشبيك، يريد: أنه قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ضَمَّته بيدها إلى نحرها وصدرها، قال الحافظ: الرواية هي الأولى. قولها: "وأن الله جَمَعَ بين رِيقي وريقِه عند موته"، والجمع بين الريقين مفهوم من باقي الحديث، وهو أنها ليَّنَتِ السواكَ بريقها، وأعطته رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَمَرَّه على أسنانه - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع الريقان. قوله: "إنَّ للموت سَكَرات"، (السكرات): جمع سَكْرة، وهي الشدة والمَشقَّة. قوله: "في الرفيق الأعلى"، قال في "شرح السنة": قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، كأنه أراد: أَلْحِقْني بالله. وقال الأزهري: غَلِط هذا القائل، و (الرفيق) ها هنا: جماعة الأنبياء - صلوات الله عليهم - الذين يسْكُنون أعلى عِلِّيين، اسم جاء على فعيل معناه:

الجماعة، ومنه قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (في) وتعلق بفعل محذوف تقديره: اجعلني في الرفيق الأعلى؛ أي: الرفيق: الأنبياء؛ أي: أرواحهم السَّاكنات في حَظيرة القُدس، واجعلني في مكان الرفيق الأعلى، وأراد بـ (الرفيق الأعلى): نفسَه، وأراد بالمكان: المقام المحمود المخصوص به؛ أي: اجعلني ساكنًا فيه. * * * 4664 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عنها قَالَتْ، سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "ما مِن نبيِّ يمَرضُ إِلاَّ خُيرَ بينَ الدُّنيا والآخرةِ"، وكانَ في شكواهُ التي قُبضَ بها أخذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيْدةٌ، فسمعتُهُ يقولُ: "معَ الذينَ أَنْعمْتَ عليهم مِن النَّبيينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداء والصَّالحينَ"، فعَلِمتُ أَنَّه خُيرَ. قوله: "وكان في شَكْواه الذي قُبضَ فيه"، (الشكوى) ها هنا: المرض؛ يعني: في مرضه الذي مات فيه - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "أخذته بُحَّةٌ شديدةٌ"؛ أي: سُعال شديد، والأصل في البُحَّة: الغلظة في الصوت، يقال: رجل بُحٌّ. * * * 4665 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغشَّاهُ الكَربُ، فقالَتْ فاطِمَةُ رَضيَ الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَاه! فقالَ لها: "ليسَ على أَبيكِ كَرْبٌ بعدَ اليوم"، فلمَّا مَاتَ قالَتْ: يا أَبَتَاهُ! أجابَ ربًّا دَعَاه، يا أبتاهُ! مَنْ جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأواهُ، يا أبتاهُ! إلى جِبْريلَ نَنْعَاهُ، فلمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُم أنْ تَحْثُوا على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - التُّرابَ؟!. قوله: "لما ثَقُلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه"؛ يعني: لمَّا اشتدَّ مرضه - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ

له يتغطَّى ويتستَّر بالثياب. قيل: أراد بقوله: (يتغشاه): يُغْمى عليه من شدة مرضه - صلى الله عليه وسلم -. قوله لفاطمة رضي الله عنها: "ليس على أبيكِ كربٌ بعدَ اليوم"، قال في "شرح السنة": يريد لا يصيبه بعد اليوم نَصَبٌ ولا وَصَبٌ يجد له ألمًا، إذا قضى إلى دار الآخرة والسلامةِ الدائمة. قال إسحاق بن إبراهيم المَوصِلِي في كتاب له مشتمل على تزييف بعض ما ذكره أصحاب الحديث في شرحه معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم": أنه كَرْبُه وشفقَتُه على أمته بعد موته، لِمَا عَلِمَ من وقوع الاختلاف والفتن بعده. قال الخطابي: هذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان كما زعم لم تكن شفقتُه باقيةً على أمته بعد موته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قَيَّد، وقال: "ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم"، وليس كذلك؛ لأن شفقته على أمته كانت دائمةً مدةَ حياته، وتكون باقيةً بعد موته إلى قيام الساعة؛ لأنه مبعوثٌ إلى كافة الخلق، قرنًا بعد قرن إلى يوم القيامة، وإنما هو ما يَجِدُه من كُرَب الموت، وكان بَشَرًا ينالُه الوَصَبُ، فيجد له من الألم مثل ما يجدُ الناسُ وأكثر، وإن كان صبرُه عليه واحتمالُه أحسن. قولها: "يا أبتاه! " أصله: يا أبي، فالتاء بدل من الياء؛ لأنهما من حروف الزوائد، والألف للنُّدبة لمَدِّ الصوت، والهاء للسَّكْت. قال الحافظ أبو موسى: هي نُدْبة، ولا بد لها من إحدى العلامتين (يا) أو (وا)؛ لأن الندبة لإظهار التوجُّع، ومد الصوت وإلحاق الألف في آخرها للفصل بينها وبين النداء، وزيادة الهاء في الوقف إرادة بيان الألف؛ لأنها خَفِيَّة، وتحذف في الوصل كقولك: واعمر أمير المؤمنين. * * *

مِنَ الحِسَان: 4666 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينةَ لَعِبَتْ الحَبَشَةُ بحرابهم فرحًا لِقُدومِه. قوله: "لعبتِ الحَبَشةُ بحِرَابهم"، الحراب: جمع حَرْبة، وهي سِنان كبير، يكاد يكون نصفَ السيف، على شَكْل خِنْجَر كبير. * * * 4668 - وَقَال: لمَّا كَانَ اليَومُ الَّذي دَخَلَ فيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينةَ أضاءَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، فلمَّا كَانَ اليَومُ الَّذي مَاتَ فيهِ أَظْلمَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، وما نَفَضْنَا أَيْدِينَا مِنَ التُّرابِ وإنَّا لَفِي دفنِهِ حتَّى أَنْكَرْنَا قُلوبنا. قوله: "وما نفضنا أيدينا عن التراب حتى أنكرْنَا قلوبنا"، (النفض): تحريكُ الشيء ليزولَ ما عليه من التراب والغُبار. يعني: أن الصحابة - رضي الله عنهم - أخبروا عن تغيُّر أحوالهم الذي ظهر فيهم بعدما دُفِنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنهم لم يجدوا صَفَاءَ قلوبهم الذي كان في حياته - صلى الله عليه وسلم -، بل وجدوه متغيرًا عما كان في حضرته، وكذلك غيره من الأُلفة والتودُّد والرَّقة فيما بينهم كانت متغيرة، وما كان ذلك إلا لانقطاع الوحي السَّمَاوي، والمفارقة عن صحبته التي هي مُوجِبة للسعادات الأبدية الدائمة، لكنَّ تصديقَهم لله ولرسولِه ولِمَا أتى به مِنْ عندِه كان ثابتًا كما هو، بل أكملُ وأبلغُ. * * * 4672 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَقْتَسِمُ ورثتي دِينارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نفقةِ نِسَائي وَمَؤُنَةِ عَامِلي فهو صدقةٌ".

1 - باب في مناقب قريش وذكر القبائل

قوله: "لا يقتسِمُ ورثتي دِينارًا ... " الحديث. قال في "شرح السنة": قال سفيان بن عُيينة: كان أزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في معنى المُعْتَدَّات، إذ كنَّ لا يجوز لهنَّ أن ينكِحْنَ أبدًا، فَجَرَتْ لهنَّ النفقة. وأراد بـ (العامل): الخليفة بعده، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقةَ أهلِه من الصَّفَايا التي كانت له من أموال بني النَّضير وفَدَك، ويَصْرِفُ الباقي في مصالح المسلمين. ثم وَلِيَها أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم عمرُ - رضي الله عنه - كذلك، فلما صارت إلى عثمان - رضي الله عنه - استغنى عنها بماله، فأقطعَها مروانُ وغيرُه من أقاربه، فلم تزل في أيديهم حتى ردَّها عمرُ بن عبد العزيز. * * * 1 - باب في مَنَاقِبِ قُرَيْشِ وَذِكْرِ القَبَائِلِ (باب في مناقب قريش وذكر القبائل) (المناقب) جمع مَنْقَبة، وهي الفضيلة والشرف، و (القبائل): جمع قبيلة. 4676 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُريشٍ في هذا الشَّأنِ، مُسْلِمهُم تَبَعٌ لِمُسلمِهم، وكَافرُهم تَبَعٌ لِكَافِرِهم". قوله: "الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ في هذا الشَّأن"، معناه: تفضيل قريش على قبائل العرب، وتقديمِها في الإمامة والإمارة. قوله: "مُسْلِمُهم تَبَعٌ لمسلمهم"؛ أي: مَنْ كان مسلمًا فيتبعهم، ولا يخرُج عليهم.

وقوله: "وكافرُهم تبعٌ لكافرهم" ليس على معنى الأول، إنما أخبر أنهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكُفر، إذ كان أمرُ البيت - الذي هو شرفُهم - إليهم. ويحتمل أن يكون معناه: أنهم إذا كانوا خيارًا سَلَّط الله عليهم الخِيار منهم، وإن كانوا أشرارًا سَلَّط الله عليهم الأشرار، كما قيل: أعمالكم عُمَّالُكم، هذا كله لفظ "شرح السنة". قال الخطابي: كانت العرب تقدِّم قريشًا وتعظِّمُها، وكانت دارُهم مَوْسِمًا، والبيتُ الذي هم سَدَنتُه مَنْسَكًا، وكانت لهم السِّقاية والوِفادة، يُطْعِمون الحجيج ويسقونهم، فحازوا به الشرفَ والرِّياسة عليهم. * * * 4678 - عَنِ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يزالُ هذا الأَمرُ في قُريْشٍ ما بَقِيَ مِنْهُم اثنَانِ". قوله: "لا يزالُ هذا الأمرُ في قريشٍ ما بَقِيَ منهم اثنان"، يريد بـ (هذا الأمر): الخلافة. * * * 4679 - وعَنْ مُعَاوِيةَ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ هذا الأَمرَ في قُريشٍ لا يُعَادِيْهم أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ الله على وجْهِهِ، ما أَقَامُوا الدِّين". قوله: "إنَّ هذا الأمرَ في قريش لا يُعَاديهم أحدٌ ... " الحديث. يعني: الخلافة في قريش لا يخالِفُهم أحدٌ في ذلك إلا أذلَّه الله، ما داموا أنَّهم يحافظون الدِّينَ وأهلَه. * * *

4680 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "لا يَزالُ الإِسلامُ عَزِيْزًا إلى اثنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كلُّهم مِن قُريشٍ". وفي رِوَايَةٍ: "لا يزَالُ أمرُ النَّاسِ مَاضيًا ما وَلِيَهم اثنا عَشَرَ رَجُلاً كلُّهم مِن قريشٍ". وفي رِوَايَةٍ: "لا يزَالُ الدَّينُ قَائِمًا حتَّى تَقَومَ السَّاعةُ، أو يكونَ عليهم اثنا عَشَرَ خَليْفَةً كلُّهم مِن قُريْشٍ". قوله: "لا يزالُ الإسلامُ عزيزًا إلى اثني عشرَ خليفةً كلُّهم من قريش"، ينبغي أن يُحمل على العادِلين، فإنهم إذا كانوا على سَنَنِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وطريقتِه يكونون خلفاء، وإلا فلا، ولا يلزم أن يكونوا على الوَلاَء، وإن كان المراد من ذلك على الوَلاَء وكانوا مسمَّين بها على المجاز. * * * 4681 - وَقَالَ: "غِفَارُ غَفَرَ الله لها، وأَسْلَمُ سَالَمَها الله، وعُصَيَّةُ عَصَتِ الله ورسُولَه". قوله: "غِفَارٌ غفَر الله لها، وأَسْلَمُ سَالَمها الله، وعُصَيَّةُ عَصَتِ الله ورسولَه"، ثلاثتها أسماء قبائل، قال في "شرح السنة": قيل: إنما دعا لغِفار وأَسْلَم؛ لأن دخولَهما في الإسلام كان من غيرِ حرب، وكان غِفَارٌ تذل بسرقة الحجاج أن تنسب إليها، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو تلك السيئةَ عنهم، ويغفر لهم. وأما عُصَيَّة فهم الذين قتلوا القُرَّاء ببئر مَعُونة، بعثهم - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّة، فقتلوهم، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْنُت عليهم في صلاته. * * *

4682 - وقَالَ: "قُريْشٌ، والأَنْصارُ، وجُهَيْنةُ، ومُزَيْنةُ، وأَسلمُ، وغِفارُ، وأَشجعُ = مَوَالِيَّ ليس لهم مَوْلًى دُونَ الله ورَسُولِهِ". قوله: "قريش والأنصارُ وجُهَينة ومُزَينة وأَسْلَم وغِفَار وأَشْجَع موالي"؛ يعني: هؤلاء القبائل أحِبَّائي وأنصاري، هذا إذا روي (موالي) بالإضافة، أما إذا رُوي بالتنوين فمعناه: بعضهم لبعض أنصارٌ وأحِبَّاء. * * * 4683 - وقَالَ: "أسلمُ، وغِفارُ، ومُزَيْنةُ، وجُهَيْنَةُ، خيرٌ مِن بني تميمٍ، ومِن بني عَامرٍ، والحَلِيفَيْنِ بني أَسَدٍ وغَطَفَانَ". قوله: "والحليفين بني أسد وغطَفان"، سُمَّي الحليفان؛ لأنهم تحالَفُوا على التَّناصر والتعاون. 4684 - عَنْ أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بني تَمِيمٍ مُنذُ ثَلاثٍ، سَمِعتُ مِن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ فيهم، سَمِعتُه يَقُولُ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتي على الدَّجَّالِ"، قال: وجَاءَتْ صَدَقَاتُهم فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه صَدَقَاتُ قومِنَا"، وكانَتْ سَبيَّةٌ منهم عِنْدَ عَائِشةَ رَضيَ الله عنها فقالَ: "أعَتْقِيها فإنَّها مِن وَلَدِ إسماعيل". قوله: "أعتِقيها فإنَّها مِنْ ولد إسماعيل"، فيه دليل على جواز استِرقاق العرب، ذكره في "شرح السنة". * * * مِنَ الحِسَان: 4686 - وعَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! أَذَقْتَ أوَّلَ قُريشٍ نَكَالاً فأذِقْ آخرَهُم نَوَالاً".

قوله: "اللهمَّ أَذَقْتَ أولَ قريش نَكالاً فاذِقْ آخِرَهم نَوَالاً"، قال في "الغريبين": النَّكال: العقوبة التي تُنَكَّلُ الناسَ عن فعل ما جعلت له جزاء، قيل: أراد به القَحْط والغلاء. النَّوال والنَّول: العطاء. * * * 4688 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَزْدُ أَزْدُ الله في الأَرْضِ، يُريدُ النَّاسُ أنْ يَضَعُوهم ويَأْبَى الله إلَّا أنْ يرفَعَهم، ولَيَأتينَّ على النَّاسِ زَمانٌ يَقُولُ الرَّجلُ: يَا لَيْتَ أَبي كانَ أَزْدِيًا، ويا ليتَ أمي كانَت أَزْدِيَّةً"، غريب. قوله: "الأزْدُ أزدُ الله في الأرض"؛ أي: أهلُ نصرته وحفظِه. * * * 4690 - عَنِ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "في ثَقِيفٍ كذَّابٌ ومُبيرٌ"، قيل: الكَذابُ هو المُختَارُ بن أبي عُبيدٍ، والمُبيرُ هُوَ الحَجَّاج بن يُوْسُفَ، قَالَ هِشامُ بن حَسَّانَ: أَحْصَوْا ما قتلَ الحَجَّاجُ صَبْرًا فبلَغَ مئةَ ألفٍ وعِشْرينَ ألفًا. قوله: "في ثقيف كَذَّابٌ ومُبيرٌ"، قيل: قد أشارت إليهما أسماءُ بنت أبي بكر أمُّ عبدِ الله بن الزبير - رضي الله عنهم - في حديثها، وأرادت بالكذَّاب: المُختار بن أبي عُبيد ابن مسعود الثقفي، أبوه من أَجِلَّة الصحابة، أمَّرَه عمرُ أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - على جيش، وإليه ينسب يوم جبر، وقد استشهد يومئذٍ، إلا أن ابنه المسمى بالمختار كان متدلَّسًا مَكَّارًا، وكان يطلب الدُّنيا بالدِّين. فقيل: شَهِد بسوء سيرته، وكثرةِ مَكْره عليه كثيرٌ من علماء التابعين؛ مثل الشعبي وسُويد وغيرهما، وكان يتنقَّص عليًا - رضي الله عنه -، وذلك قد عُرف منه، وكان يدَّعي محبَّته، وقد أفسد على قوم من الشيعة عقائدَهم، بحيث كانوا ينسبون إليه

في عقائدهم الفاسدة، ويقال لهم المُختارية، وقيل: كان يدَّعي النبوة بالكوفة. وأرادت أسماء بنت أبي بكر بالمُبير: الحَجَّاج، كما قالت: (أما المُبير فلا إِخالُك إلا إيَّاه)، إخالك - بكسر الهمزة أفصح من فتحها -، معناه: أظنُّكَ إياه، عائد إلى الحجاج. قوله: "أَحْصَوا ما قَتَل الحجَّاجُ صَبْرًا": (أحصوا)؛ أي: عَدُّوا، (صبرًا)؛ أي: مَصْبورًا، معناه: محبوسًا أسيرًا. قيل: لما قَتَل الحجاجُ عبدَ الله بن الزبير جاءت أمُّه أسماءُ بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فرأته مَصْلُوبًا، فحاضَتْ بعد كِبَرِ سِنَّها، وخَرَجَ اللبن من ثديها، فرجزت تقول: حَنَّت إليه مَرَاتِعُه ... دَرَّتْ عليه مَرَاضعُه ثم دخلت على الحجَّاج فقالت: أما آن لهذا المصلوبِ أن ينزل؟ فقال الحجاج: خَلُّوا بينها وبين جِيفتِها. * * * 4693 - عَنْ أَبي هُرَيْرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا عِندَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ أَحسبُه مِن قيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ الله! الْعَنْ حِمْيَرًا، فقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ الله حِمْيَرًا، أفواهُهم سَلامٌ، وأيدِيهم طَعامٌ، وهم أَهْلُ أَمنٍ وإيمانٍ"، منكر. قوله: "فجاءه رجلٌ - أحسبَهُ من قيس - ... " الحديث. قال الإمام التوربشتي في "شرحه": يروي هذا الحديث مولى عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة، وله أحاديثُ مناكير، يرويها عنه، وألحق لفظَ (المنكر) بعضُ أهل المعرفة بالأحاديث بهذا الكتاب؛ لأن المصنف لو عَرَف أنه منكر لَمَا أورده فيه؛ لأنه قال في دِيباجة الكتاب: وأعرضت عن ذكر ما كان منكرًا.

ويمكن أنْ يُقال: لفظ (المنكر) مما أورده المصنِّفُ في الكتاب، لا مِنْ مُلْحَقات بعض أهل المعرفة، كما ذكر الإمام، وإن كان مُعْرِضًا عن ذكره؛ لأن المناكير المذكورة في هذا الكتاب لا تزيد على أحاديث ثلاثة. فإذا كان كذلك فلو أوردها مع الاعتراف بالإعراض عنها فكأنَّه ما أوردها؛ لأنه بإضافة أحاديث الكتاب غيرُ ملتفتٍ إليها لِقِلَّتِها، كما أن قصيدةً عربية لو كان فيها لُفَيظات فارسية لَمَا أَخْرَجتها عن كونها عربية، فكذلك هذا، فكذلك ثور أسود لو كان في مَتْنِه شعيراتٌ بيضٌ لَمَا أخرجته عن كونه أسود، فكذا هذا. * * * 4696 - عَنْ عُثْمان بن عَفَّان - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن غَشَّ العَربَ لَمْ يَدخلْ في شَفاعَتي، ولَم تَنَلْهُ مَوَدَّتي"، غريب. قوله: "مَنْ غَشَّ العربَ لم يدخُلْ في شفاعتي، ولم تَنَلْهُ مَودَّتي"، إنما قال هذا؛ لأنه بِلُغتهم نزل القرآن، وبلُغتهم تُعرف فضيلته، إذ تزداد فصاحتُه على فصاحتهم، وأيضًا هم تحمَّلوا الشريعة ونقلوها إلى الأمم، وضبطُوا حديثَه وأفعالَه، ونقلوا إلينا معجزاتِه، ولأنهم مادةُ الإسلام، وبهم فُتحت البلاد، ولأنهم أولادُ إسماعيلَ عليه السلام ومَعَدِّ بن عدنان أصل العرب؛ أعني: مادة قريش وسكان الجزيرة. وأما أولاد قحطان بن هُود فهم أيضًا عرب، واختلف النسَّابون في العرب الخُلَّص: قيل: هم القَحْطانية دون العدنانية؛ لأن إسماعيل كان لغتُه سُرْيانية كلغة الخليل عليهم السلام، فلما سَكَن الحجازَ تعرَّب وتعلَّم؛ لأنه تزوَّج إلى جُرْهم وغيرهم.

2 - باب مناقب الصحابة - رضي الله عنهم -

وقيل: العرب القديم العدنانية والقحطانية لم تكن عَرَبًا عاربة. قال الأزهري: العربي منسوب إلى عَرَبة بلدٍ بناه إسماعيلُ عليه السلام، والتجاذب بين الفريقين كثيرٌ قديمًا وحديثًا. * * * 4698 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُلْكُ في قُريشٍ، والقَضَاءُ في الأَنْصَارِ، والأَذانُ في الحَبشَةِ، والأَمَانةُ في الأَزْدِ"، يَعِني: اليَمينَ. قوله: "القَضَاءُ في الأنصار"، (القضاء): الحكم، ويريد به: الحكم الجزئي، وإنما قال هذا تَطْييبًا لقلوبهم؛ لأنهم آوَوا ونَصَرُوا، وبهم قامَ عمودُ الإسلام، وفي بلدهم ظهر الإسلام، وبنيت المساجد، وجُمِّعَت الجمعة. * * * 2 - باب مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - (بابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4699 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا أَصْحَابي، فَلَو أنَّ أَحَدَكُم أَنفقَ مِثَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَهُ". قوله: "لا تسبُّوا أصْحَابي، فلو أنَّ أحدَكم أنفقَ مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بَلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه"، قيل: (النصيف): مِكْيال يسع نِصْفَ مُدٍّ. قال في "شرح السنة": والنصيف بمعنى النَّصْف، وكذلك تقول للعُشْر عَشير، وللخُمس خميس، وللتّسْع تسيع، وللثُّمن ثمين، واختلفوا في السُّبع

والسُّدس والرُّبع، فمنهم من يقول: سَبيع وسَدِيس ورَبيع. قال أبو عبيد: ولم نسمع أحدًا يقول في الثُّلث شيئًا من ذلك. ومعنى الحديث: أن جَهْدَ المُقِلِّ منهم واليسير من النفقة - مع ما كانوا فيه من شدة العيش والصَّبر - أفضلُ عند الله من الكثير الذي يُنفقه مَنْ بعدَهم. الضمير في "نصيفه" عائد إلى أحدهم، لا إلى المُد. وتحقيق المعنى - والله أعلم -: أنَّ فضيلةَ الصحابة - رضوان الله عليهم - إنما كانت لصحبة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهم أدركوا زمانَ الوحي، فلو عُمِّر أحدٌ منا ألفَ سنة مثلاً، وامتثل أوامرَه سبحانه، وانزجر عن نواهيه مدةَ عُمُرِه، بل كان أعبدَ الناسِ في وقته، لما يوازي جميعُ عبادته ساعةً من صحبته - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان كذلك ففضيلتهم لا يوازى بها البتة. * * * 4700 - عَنْ أَبي بُرْدَة - رضي الله عنه -، عَنْ أَبيْهِ: قَالَ: رَفَعَ - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ إلى السَّماءِ، وكَانَ كثيرًا مَا يَرفعُ رَأسَه إلى السَّماءِ فقالَ: "النجومُ أَمَنَةٌ للسَّماءِ، فإذا ذهبَتِ النَّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنَةٌ لأصَحَابي، فإذا ذهبْتُ أَتَى أَصحَابي مَا يُوعَدُونَ، وأَصْحَابي أَمَنَةٌ لأُمَّتي، فإذا ذَهبَ أَصْحَابي أتى أُمَّتي ما يُوعَدُون". قوله: "أنا أَمَنةٌ لأصحابي"، (الأمنة): الأمان والرحمة، يقال: رجل أُمَنَة وأَمَنَة - بالفتح والضم -: إذا كان يثق (¬1) بكلِّ أحد. * * * ¬

_ (¬1) في "م" و"ق": "لم يثق" بدل "كان يثق"، والتصويب من "الصحاح" للجوهري (5/ 2071)، (مادة: أمن).

4701 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على النَّاسِ زَمَانٌ فيَغْزُو فِئَامٌ مِن النَّاسِ فيَقُولُونَ: هل فِيْكُم مَن صَاحَبَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقُولُونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لَهُم، ثُمَّ يَأتِي على النَّاسِ زَمَانٌ فيَغزُو فِئَامٌ مِن النَّاسِ فيُقالُ: هلْ فيكُم مَن صَاحبَ أَصحَابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نَعَمْ، فيُفتَحُ لَهُم، ثُمَّ يأتي على النَّاسِ زَمَانٌ فيَغزو فِئَامٌ مِن النَّاسِ فيُقَالُ: هَلْ فيكُم مَن صَاحَبَ مَن صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نَعَمْ، فيُفتَحُ لهم". وزادَ بعضُهم: "ثُمَّ يَكُونُ البَعْثُ الرَّابعُ فيُقَالُ: انظُرُوا هلْ تَرَوْنَ فيهم أَحَدًا رَأَى مَن رَأَى أَحدًا رَأَى أَصحَابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيُوجَدُ الرَّجُلُ فيُفتَحُ لَهُ". قوله: "فيغزو فئامٌ من الناس"، (الفئام): الجماعة من الناس، لا واحدَ له من لفظه، والعامة تقول: فِيام، بلا همز، ذكره في "الصحاح". * * * 4702 - وعَنْ عِمرانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أُمَّتي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ إنَّ بَعدَهم قَوْمًا يَشهدُونَ ولا يُستَشهَدونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُون، ويَنذُرُونَ ولا يَفُونَ، ويَظهرُ فيهمُ السِّمَنُ". وفي رِوَايةٍ: "ويَحلِفُونَ ولا يُستَحْلَفُونَ". ويُروَى: "ثُمَّ يَخْلُفُ قومٌ يُحبُّونَ السُّمَانَة". قوله: "ثمَّ إنَّ بعدَكم قومًا يَشْهدُون ولا يُستشهدون"، قال الإمام التوربشتي: في أكثر نسخ "المصابيح": (ثم إن بعدكم) وليس برواية، بل الرواية: (بعدهم). قوله: "ويظهرُ فيهم السَّمَن"، قال محمد بن عثمان بن أبي ليلى: معنى

(السِّمن) ها هنا: جمع المال، والحرص على الدنيا، ذكره في "شرح السنة". قيل: (السمن) ها هنا عبارة عن الغَفْلة، وقلَّة الاهتمام بأمر الدين، فإن الغالب على حال السمين ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 4703 - عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْرِمُوا أَصحَابي فَإنَّهُم خِيارُكم، ثُمَّ الذينَ يَلُونهم، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم، ثم يَظهرُ الكَذِبُ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَحلِفُ ولا يُستحلَفُ، ويَشهدُ ولا يُستشهدُ، أَلاَ فمَن سَرَّه بُحْبُوحةُ الجَنَّةِ فليَلْزمِ الجَمَاعةَ، فإنَّ الشَّيطانَ معَ الفَذِّ، وهو من الاثنينِ أَبْعَدُ، ولا يَخلُونَّ رَجُلٌ بامرأةٍ فإنَّ الشَّيطانَ ثالِثُهُمَا، ومَن سرَّتْهُ حَسَنَتُه وسَاءَتْهُ سَيئَتُه فهُوَ مؤمِنٌ". قوله: "فمَنْ سَرَّه بَحْبُوحَةُ الجنَّةِ فليلزمِ الجماعة"، بحبوحةُ كلِّ شيء: وسَطُه وخِيارُه. قوله: "فإن الشيطانَ مع الفَذَّ"؛ أي: مع الفرد؛ أي: الذي مع رأيه دونَ رأي الجماعة. * * * 4704 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَمَسُّ النَّارُ مُسْلِمًا رَآني، أو رَأَى مَن رَآني". قوله: "لا تمسُّ النارَ مسلمًا رآني، أو رأى مَنْ رآني"، فيه دليل على فضل الصحابة على غيرهم، وفضلِ التابعين على أتباعهم. * * *

4705 - عَنْ عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله الله في أَصْحَابي، الله الله في أَصْحَابي، لا تَتَّخِذُوهُم غرَضًا مِنْ بَعدِي، فمَن أَحبَّهم فبحُبي أَحبَّهم، ومَن أَبغضَهم فَببُغضي أَبغضَهُم، ومَن آذاهُم فَقْد آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَد آَذَى الله، ومَنْ آذَى الله فيُوشِكُ أنْ يَأخُذَه"، غريب. قوله: "الله الله في أَصحابي"؛ أي: اتقوا الله في أصحابي؛ يعني: لا تَذْكُروهم إلا بالتعظيم والتَّوقير. قوله: "لا تتخذوهم غرضًا من بعدي"، (الغرض): الهدف؛ أي: لا تجعلوهم هدفًا لكلامِكم القبيح؛ أي: لا ترمُوهم بالوقائع وغيرِ ذلك مما لا يجوز. * * * 4707 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أَصحَابي في أَمَّتِي كَالمِلْحِ في الطَّعَامِ لا يَصلُحُ الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ". قوله: "مَثَلُ أصحابي في أمَّتي كالمِلْح في الطعام، لا يَصْلُح الطعامُ إلا بالملح"، قال الحسنُ البصري: فقد ذهب مِلْحُنا، فكيف نُصْلِح؟ ذكره في "شرح السنة". * * * 4708 - عَنْ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَلَّغُني أَحَدٌ عَنْ أَحدٍ مِنْ أصحَابي شَيئًا فإنَّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِليْهِم وأَنَا سَليمُ الصَّدْرِ". قوله: "وأنا سليمُ الصَّدر"؛ أي: من الغِلِّ والحِقْد. حاصل هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - يتمنَّى أن يخرُجَ من الدنيا وقلبُه راضٍ عن

3 - باب مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -

أصحابه، لم يحقِدْ على أحد منهم، فرِضاهُ رِضَى الحقِّ، فتطِيبُ عاقبةُ الصحابة كلِّهم لَمَّا مضى الرسولُ راضيًا عنهم، فَيَنْهى أن يُنْهى إليه شيءٌ من مَسَاوئهم، فيخرج عن الدنيا وقد حَقِدَ عليهم مُغْتَاظًا، وغَيظُه يُهْبطُ درجةَ ذلك الصحابي، فيصيرُ متعرِّضًا لغضب الله، وقد كان رؤوفًا بأصحابه، فيحترِزُ من السَّخط الإلهي، وفيه أيضًا دليل على سَتر العيوبِ على المسلم، فيستُرُ على مَنْ سَتَره الله. * * * 3 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ الصَّديق - رضي الله عنه - (بابُ مَنَاقِبِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4709 - عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَليَّ في صُحبَتِهِ ومَالِهِ أبا بكرٍ، ولَوُ كُنتُ مُتَّخِذًا خليلاً مِن أُمتي لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ، ولكنْ أُخُوَّةُ الإسلامِ ومَودَّتُه، لا يَبقَى في المسجدِ خَوْخةٌ إلا خَوْخَةُ أبي بكرٍ". وفي روايةٍ: "لو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَليلاً غيرَ ربي لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ". قوله: "إنَّ مِنْ أمَنَّ الناسِ عليَّ في صُحبته ومالِه أبو بكر"؛ أي: مِنْ أَسْمَحِهم وأكثرهم بَذْلاً باختياره، مِنْ: منَّ عليه مَنًّا، بمعنى: الإحسان، لا مِنْ: منَّ عليه مِنَّة؛ لأن المِنَّة تَهْدِم الصَّنيعة، فلا يستحقُّ صاحبها الحمد، ولأنه ليس لأحد مِنَّة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل المِنة له على جميع الأمة. قوله: (أبو بكر)، قياسه: أبا بكر، ليكون اسم (إنّ)، والجار والمجرور خبره، لكن روي برفع (أبو) وفيه أوجه: الأول: أن تكون (من) زائدة على مذهب الأخفش؛ أي: إنَّ أمنَّ الناس.

الثاني: أن يكون (أبو بكر) جوابًا عن سؤال، كأنه قيل له: مَنْ أمنَّ الناس عليك؟ فقال إن أمنَّهم أبو بكر، فرفع على الحكاية. الثالث: أن تكون (إن) بمعنى: نعم، جوابًا لا تعمل شيئًا. قوله: "ولو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا من أمَّتي لاتخذتُ أبا بكرٍ"، قال في "شرح السنة"؛ أي: جعلته مخصوصًا بالمحبة، يقال: دعا فلان فخلَّل؛ أي: خَصَّ، وكذلك قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. وقيل: هو مِنْ تَخَلُّل المودَّة القلب، وتمكُّنها منه. وقيل: الخليل: الفقير، والخَلَّة: الحاجة، كأنه لم يجعل فقره وحاجته إلا إليه، إلا أن الاسم من الفقر: الخَلة: بفتح الخاء، ومن المحبة: بضم الخاء. قوله: "لا تبقيَّن في المسجد خَوخَةٌ إلا خَوخَةُ أبي بكر"، قال في "الغريبين": قال الليث: وناس يسمون هذه الأبوابَ التي تسمَّيها العرب خَوخات: مُخْترقات، قال: والخوخة مخترق بين البيتين يُنْصَبُ عليهما باب. وفيه دليل واضح على خلافته بعده، وعلى أنه أحقُّ الناسِ بالنيابة عنه حياةً ومماتًا؛ لأنه قد خَصَّه بما لا يُشَارَك فيه. * * * 4712 - عن جُبَير بن مُطعِمٍ - رضي الله عنه - قال: أَتَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ فَكَلَّمَتْهُ في شيءٍ، فأمرَها أنْ ترجعَ إليه، قالت: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ جئتُ ولم أجدْكَ؟ كأنَّها تريدُ المَوْتَ، قال "فإنْ لَمْ تَجِديني فَأْتِي أبا بكرٍ". قولها: "أرأيتَ إن جئتُ ولم أجدْكَ - كأنَّها تُريد الموت -"، (أرأيت)؛ أي: أخبرني.

قوله: "إن لم تَجِدِيني فأتي أبا بكر" دليلٌ على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -. * * * 4713 - وعن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَه على جَيْشِ ذاتِ السَّلاسِلِ، قالَ: فأَتيتُه فقُلتُ: أيُّ الناسِ أَحبُّ إليكَ؟ قال: "عائشةُ"، قلتُ: مِن الرِّجالِ؟ قال: "أبوها"، قلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: "عمرُ"، فعدَّ رِجالاً، فَسكتُّ مخافَةَ أنْ يجعلَني في آخرِهم. قوله: "بعثه على جيش ذات السلاسل" قيل: سُمُّوا بذات السلاسل؛ لأنهم قد رَبَطَ بعضُهم بعضًا بالسلاسل كيلا ينهزموا. * * * 4715 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا في زَمَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَعدِلُ بأبي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ، ثم نَتْرُكُ أَصْحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نُفاضلُ بينَهم. وفي روايةٍ: كُنا نقولُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بعدَه أبو بكرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمانُ. قوله: "لا نَعْدِلُ بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا بأبي بكر ثم عمرَ ثم عثمان، ثم نتركُ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يتفاضل بينهم"، قال في "شرح السنة": قال أبو سليمان الخطابي: وجه ذلك - والله أعلم -: أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم الذين كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبهُ أمرٌ شاورَهم فيه، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - في زمان رسولِ الله حديثَ السنَّ، ولم يُرِدْ ابن عمرَ - رضي الله عنه - الإزراءَ بعليًّ - رضي الله عنه -، ولا تأخيرَه عن الفضيلة بعد عثمان، وفضْلُه مشهور لا ينكره ابن عمر، ولا غيرُه من الصحابة - رضوان الله عليهم -، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه:

فذهب الجمهور من السَّلَف إلى تقديم عثمان عليه، وذهب أكثر أهل الكوفة إلى تقديمه على عثمان، وسُئل سفيان: ما قولك في التفضيل؟ فقال: أهل السنة من أهل الكوفة يقولون: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان، وأهل السنة من أهل البصرة يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، قيل: ما تقول أنت؟ قال أنا رجل كوفي، وقد ثبت عن سفيان: أنه قال آخر أقواله: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -. * * * مِنَ الحِسَان: 4716 - عن أبي هريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لأَحدٍ عِنْدَنا يدٌ إلا وقد كافَأْنَاهُ ما خلا أبا بَكْرٍ، فإنَّ لهُ عندَنا يدًا يُكافئُه الله بِهِ يومَ القِيامةِ، وما نَفَعَني مالُ أَحَدٍ قَطُّ ما نفعَني مالُ أبي بكرٍ، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ صاحبَكم خليلُ الله". قوله: "ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافأْنَاه ما خلا أبا بكرٍ، فإنَّ له عندنا يدًا يكافئه الله به"، قيل: أراد بـ (اليد): النعمة، وهو بَذَلَها كلَّها إيَّاه - صلى الله عليه وسلم -، وهي المال والروح والولد. * * * 4719 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكرٍ أَنْ يَؤُمَّهم غيرُه"، غريب. قوله: "لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أن يؤمَّهم غيرُه"، هذا دليل على فضله على جميع الصحابة، فإذا ثبت هذا فقد ثبتت خلافتُه؛ لأن خلافةَ المفضولِ مع

4 - باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

وجود الفاضل لا تصِحُّ. * * * 4721 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ أبا بَكْرٍ - رضي الله عنه - دَخَلَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أنتَ عَتيقُ الله من النَّارِ، فيَومَئذٍ سُمِّيَ عَتِيْقًا". قوله: "فيومئذ سُمِّي عتيقًا"، (العتيق): فعيل بمعنى مُفعل، كحكيم بمعنى مُحْكم. * * * 4722 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أَوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عنه الأرضُ، ثُمَّ أبو بَكْرٍ، ثُمَ عُمَرُ ثُمَّ آتي أَهْلَ البقيعِ فيُحشرُونَ معي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أهلَ مَكَّةَ حتى أُحشَرَ بينَ الحَرَمَيْنِ". قوله: "أنا أولُ مَنْ تنشَقُّ عنه الأرضُ، ثم أبو بكر"؛ يعني: أنا أُحشر أول الخلق، ثم يُحشر من أمتي أبو بكر. * * * 4 - باب مَنَاقِبِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه - (بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4724 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كانَ فيما قَبْلَكُم مِن الأُممِ مُحَدَّثونَ، فإنْ يَكُ في أُمتي أَحَدٌ فإنه عُمَرُ".

قوله: "لقد كانَ فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون"، قال في "شرح السنة": المُحَدَّث: المُلْهم يُلقى الشيء في رُوعه، يريد: قومًا يُصيبون إذا ظنوا، فكأنهم حُدَّثوا بشيء، فقالوا، فتلكَ منزلةٌ جليلة من منازل الأولياء. يعني كلام الشيخ رحمة الله عليه: أن عمر - رضي الله عنه - كان صادقَ الظنِّ صائبًا، لصفاء قلبه الطاهر، الذي هو محلُّ إلهامه سبحانه، فصار كمن حُدَّث بشيء، فأخبر عنه مُعاينة. قوله: "فإن يكُ في أمَّتي أحدٌ فإنَّه عمرُ"، قيل: ما قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على التردُّد، فإنَّ أمته أفضل الأمم، فإذا وُجدت هذه الطائفة في الأمم السالفة، فأولى أن تُوجد في أمته - صلى الله عليه وسلم - أكثرُ عددًا، وأفضلُ مرتبة. وإنما قال ذلك على سبيل المبالغة والتأكيد، كما لو كان لك صَدِيق حقيقي، تقول: إن يكن لي صديق فَفُلان، تريد بهذا الكلام: اختصاصَه بكمال الصداقة والمحبة، لا نفي ذلك. * * * 4725 - وعن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: استأذَنَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعِنْدَه نِسْوَةٌ مِن قُرَيْشٍ يُكَلَّمْنَهُ، عاليةً أَصْواتُهنَّ، فلَمَّا استأذنَ عمرُ قُمْنَ فبْادَرْنَ الحِجَابَ، فدخَلَ عُمَرُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ فقالَ: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسولَ الله! مِمَّ تَضْحَكُ؟ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِبْتُ مِن هؤلاءِ اللاتي كُنَّ عندي، فلمَّا سَمعنَ صَوْتَكَ ابتَدَرْنَ الحِجَابَ"، قال عُمَرُ: يا عَدُوَّات أنفُسِهنَّ! أَتَهَبنني ولا تَهَبن رسولَ الله؟ فقُلنَ: نَعَم، أنَتَ أَفَظُّ وأغلظُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيْهِ يا ابن الخطابِ! والذي نفسي بيدِهِ، ما لَقِيَكَ الشَّيطانُ سالكًا فَجًّا قَطُّ إلا سَلَكَ فَجًا غيرَ فَجِّكَ".

قوله: "أتَهبننِي ولا تَهَبن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -"، قال في "شرح السنة"، (تهبنني) من قولهم: هِبْتُ الرَّجُلَ: إذا وقَّرتُه وعظَّمتُه، يقال: هَبِ النَّاسِ يَهَابُوك؛ أي: وقِّرهم يُوقَّروك. قوله: "ما لَقِيَكَ الشَّيطانُ سالكًا فَجًّا قطُّ إلا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ"، (الفج): الطريق الواسع، ومنه قوله تعالى: {سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20]؛ أي: طرقًا واسعة. وفيه دليل على صلابته وقوته في الدين، وغَلَبته على عدو الله سبحانه، حتَى يَفِرَّ من الفَجِّ الذي كان يسلكه. * * * 4726 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فإذا أنا بالرُّمَيْصَاء، امرأةِ أبي طَلْحَةَ - وسَمِعْتُ خَشْفَةً، فقلتُ: مَن هذا؟ فقالَ: هذا بلالٌ، ورأيتُ قَصْرًا بفِنَائهِ جاريةٌ فقلتُ: لِمَنْ هذا؟ فقال: لعُمَرَ، فأردْتُ أنْ أدخُلَهَ فانظرَ إليه فذكرتُ غيرتَكَ"، فقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: بِأَبي وأُمِّي يا رسولَ الله! أعليكَ أغارُ؟ قوله: "فإذا أنا بالرُّمَيصاء"، (الرميصاء): امرأة أبي طلحة. الرَّمَصُ: وَسَخٌ يجتمع في المُوق، فإن جَمَد فهو رَمَصٌ، وإن سال فهو غَمَصٌ، والرجل أَرْمص، والمرأة رَمْصاء، والتصغير رُمَيصاء. قوله: "وسمعتُ خَشْفَة"، قال في "شرح السنة": الخشفة: الحركة، ومعناها ها هنا: ما يسمع من وَقعْ القدم - الوقع: التأثير -؛ يعني: صوت قَرْعِ النعل. قوله: "بأبي وأمِّي يا رسولَ الله! أعليكَ أَغَارُ"، الباء في (بأبي) للتعدية،

تقدير الكلام: تُفْدَى بأبي وأمي (أنت) مبتدأ، و (بأبي) خبره. * * * 4729 - عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "بَيْنا أنا نائمٌ رأيتُني على قَلِيبٍ عليها دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ منها ما شَاءَ الله، ثُمَّ أخذَها ابن أبي قُحَافةَ فَنَزَعَ بها ذَنُوبًا أو ذَنُوبينِ، وفي نَزْعِه ضَعْفٌ والله يغفِرُ لهُ ضعْفَه، ثُمَّ استَحالَتْ غَرْبًا، فأخذَها ابن الخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقريًا مِن النَّاسِ يَنزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حتى ضَرَبَ النَّاسُ بعَطَنٍ". قوله: "بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قَليب عليها دَلْوٌ"، (القليب): البئر قبل أن تُطْوى، تُذكَّر وتؤنَّث، وضدها الطَّويّ، وهي المَطْوية بالحجارة أو الآجُر. قوله: "ثم أخذها ابن أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوبًا أو ذنوبين، وفي نَزْعه ضَعْفٌ"، يريد بـ (ابن أبي قحافة): أبا بكر، (الذَّنوب) - بفتح الذال -: الدَّلو المَلأى ماء. قال في "شرح السنة": (وفي نَزْعه ضعف)، لم يُرِدْ به نسبةَ النقصِ والتقصير إلى الصِّدِّيق في القيام بالأمر، فإنه جَدَّ بالأمر، وتحمَّلَ من أَعْباء الخلافة - أي: مشقَّاتها - ما كانت الأمة تعجَزُ عن تحمُّلها. فلذلك قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -, وارتَّدتِ العربُ، واشْرَأَبَّ النفاقُ، ونزل بأبي ما لو نَزَلَ بالجبال الرَّاسيات لَهَاضها - كسرها -. قال عمر في أبي بكر - رضي الله عنهما -: لقد أَتْعبَ مَنْ بعده = بل ذلك إشارة إلى أنَّ الفتوح كانت في زمن عمر أكثرَ مما كانت في زمن الصدِّيق، لِقِصَر مدة أيام ولاية الصديق، فإنه لم يَعِشْ في الخلافة أكثرَ من سنتين وشيء، وامتدَّت ولايةُ

عمر - رضي الله عنه - عشرَ سنين. وقيل: (الذَّنوبان) إشارة إلى خلافته سنتين وأيامًا. قوله: "والله يغفر له ضعفَه"؛ أي: ضعفَ زمان خلافته، وذلك ما حدث في زمانه من ارتداد قوم، واتِّباعِهم مسيلمةَ الكذَّاب، وإنكار قوم الزكاة، وغير ذلك من أعباء الخلافة، أو المراد بالضعف: قصر مدة خلافته كما ذُكر قَبْلُ. فإذا كان كذلك فالضعف في المباشَر فيه الذي هو الزمانُ، لا في المباشِر الذي هو الصدِّيقُ، لكنه نَسبَهُ إليه إطلاقًا لاسم المَحَلِّ على الحال، وذلك مجاز سائغ في كلام العرب. قوله: "ثم استحالَتْ غَرْبًا": ثم انقلبت الذَّنوبُ غربًا، و (الغرب): الدَّلو العظيمة، فإذا فُتِحت الراء؛ فهو الماء السائل بين البئر والحوض، وأراد: أن عمر لمَّا أخذ الدلو عَظُمت في يده، ذكره في "شرح السنة". يعني: قَوِيَ الدينُ في زمانه، واتَّسعت عَرْصَتُه بفتح البلاد وانقياد أهلها له طَوعًا وكَرْهًا. * * * 4730 - ورواهُ ابن عُمَرَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ثُمَّ أخذَها ابن الخَطَّابِ مِن يَدِ أبي بَكْرٍ فاستحالَتْ في يدِه غرْبًا، فلم أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفرِي فَرْيَهُ، حتى رَوِي النَّاسُ وضَرَبوا بعَطَنٍ". قوله: "فلم أرَ عَبْقريًا يَفْرِي فَرِيَّه"، قال في "شرح السنة"؛ أي: يَعمل عملَه، ويَقْوى قوَّتَه، ويقطع قطْعَه، يقال: تركته يَفْري الفَري: إذا عمل عملًا فأجاد، وهذا كله إشارة إلى ما أكرم الله به عمر - رضي الله عنه - من امتداد مدة خلافته، ثم القيام فيها بإعزاز الإسلام، وحفظِ حدوده، وتقوية أهله. و (العبقري) يُوصف به كل شيء يبلغُ النهايةَ في معناه.

قال في "الغريبين": قال أبو عبيد: قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري، فقال: يقال: هذا عبقريُّ قوم، كقولهم: سيدهم وكبيرهم وقَويُّهم وقُوَّتُهم ونحو ذلك. وقيل: العبقري: موضعٌ تَزْعُم العرب أنه من أرض الجِنِّ، ثم نَسَبُوا إليه كلَّ شيء تَعَجَّبوا من حِذْقه أو جَودة صَنْعَتِه أو قوته، وأراد به ها هنا: الرجل القوي. قوله: "رَوِيَ الناسُ وضربوا بعَطَنٍ"، (العطن): مَبْرَك الإبل حول الماء إذا صَدَرَتْ عنه. قال في "شرح السنة"، معناه: حتى رَوَوا وأَرْووا إِبلَهم، فأبركوها، وضربوا لها عَطَنًا. * * * 4732 - وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه -: ما كُنَّا نُبْعِدُ أنَّ السَّكينَةَ تَنْطِقُ على لِسانِ عُمَرَ. قوله: "ما كنَّا نُبْعِدُ أنَّ السكينةَ تَنْطِقُ على لسان عمر"، قال في "شرح السنة": وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: ما نزل بالناس أمرٌ قطُّ فقالوا فيه، وقال عمرُ فيه، إلا نزلَ فيه القرآنُ على نحو ما قال. وقال عبد الله بن مسعود: ما رأيت عمرَ قطُّ وإلا كان بين عينيه مَلَكٌ يُسَدِّدُه. قيل: ويحتمل أنه أراد بالسكينة: المَلَك الذي يُلْهِمُه ذلك القولَ. * * *

4736 - عن بُرَيْدَةَ قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ مَغَازيه، فلمَّا انصَرَفَ جاءَتْ جارَيةٌ سَوْداءُ فقالت: يا رسولَ الله! إنَّي كنتُ نَذَرْتُ: إنْ رَدَّكَ الله صَالِحًا أنْ أَضْرِبَ بينَ يَدَيْكَ بالدُّفِّ وأَتَغَنَّى، فقالَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كنتِ نَذَرْتِ فاضْرِبي وإلاَّ فلا"، فجَعَلَتْ تَضْرِبُ فدَخَلَ أبو بَكْرٍ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دخلَ عليٌّ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمانُ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فألقَت الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عليه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشيطانَ ليَخافُ مِنْكَ يا عُمَرُ! إنِّي كُنْتُ جالِسًا وهي تَضْرِبُ، فدخلَ أبو بَكْرٍ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وهي تَضْربُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمانُ وهي تَضْرِبُ، فلمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ ألقَت الدُّفَّ"، غريب صحيح. قوله: "فقالَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتِ نَذَرْتِ فاضْرِبي" دليل على أنَّ الوفاء بالنذر الذي فيه قُربة واجب، وانما كان نذرَ تبرُّر؛ لأنها قد عَلَّقت ذلك بقُدومه من بعض مغازيه، والفَرحُ بقدومه قُربة، سيما عن موقع الهَلاك. وفيه دليل على أن سماعَ الدُّفَّ مباحٌ. * * * 4737 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالِسًا في المَسْجِدِ، فسمعْنَا لَغَطًا وصَوْتَ صِبْيَانٍ، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حَبَشِيَّة تَزْفِنُ والصِّبْيانُ حَوْلَها، فقال: "يا عائِشَةُ! تعالَيْ فانظري"، فجئتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ على مَنْكِبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إليها ما بينَ المَنْكِبِ إلى رأسِهِ، فقالَ لي: "أَمَا شَبعْتِ؟ أَمَا شَبعْتِ؟ "، فَجَعَلْتُ أقولُ: لا؛ لأَنْظُرَ منزلَتي عِنْدَهُ، إذ طَلَعَ عمرُ، فارفَضَّ الناسُ عَنْها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَنْظُرُ

5 - باب مناقب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -

إلى شياطينِ الجِنِّ والإِنسِ قد فَرُّوا مِن عُمَرَ"، قالَت: فَرَجَعْتُ. صحيح غريب. قولها: "فسمِعْنا لَغَطًا"، (اللغط) - بالفتح -: الصوت العالي. قولها: "فإذا حبشيَّةٌ تَزْفِنُ"، (الزَّفَن): الرَّقْص. قوله: "فوضعت لَحيي"، (اللَّحي): مَنْبت الأسنان، والتثنية: لَحْيان. قولها: "فارفضَّ الناسُ عنها"؛ أي: تفرَّقوا عن تلك الحبشية، إذا رأوا عمر - رضي الله عنه - وكان مَهِيبًا في غاية المَهَابة. وفيه دليلٌ على عِظَمِ خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجواز السَّماعِ في المسجد. * * * 5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْر وَعُمَرَ - رضي الله عنهما - (بابُ مَنَاقِبِ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4738 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذ أَعْيَا فرَكِبَها، فقالَت: إنَّا لم نُخلَقْ لهذا، إنَّما خُلِقْنا لحِراثةِ الأَرْضِ"، فقالَ النَّاسُ: سُبْحانَ الله! بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنِّي أُومِنُ بهِ أنا، وأبو بَكْرٍ، وعُمَرُ"، وما هُمَا ثَمَّ، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينَما رَجُلٌ في غَنَمٍ لهُ إذ عَدَا الذِّئْبُ على شاةٍ منها فأَخَذَها، فأَدْرَكَها صاحبُها فاستَنْقَذَها، فقالَ لهُ الذِّئْبُ: فمَن لها يومَ السَّبُعِ يَوْمَ لا راعِيَ لها غيري؟ "، فقالَ النَّاسُ: سُبْحانَ الله! ذِئْبٌ يَتَكلَّمُ،

فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأنا أُوْمِنُ بهِ، وأبو بَكْرٍ، وعُمَرُ"، وما هُما ثَمَّ. قوله: "إنَّا لم نُخْلَقْ لهذا، إنما خُلِقنا لحراثة الأرضِ" دليل على أن وضعَ الأحمال على البقر وركوبَها غيرُ مرضيٍّ، وما نَطَقَ وخَرَقَ العادةَ إلا ليعلِّم أنه خُلِقَ لهذا لا لذلك، فلما صدَّقه الرسولُ صار قولُه قولًا قاطعًا يدلُّ على ذلك. قوله: "فإنِّي أؤمن به أنا وأبو بكرٍ وعمرُ"؛ يعني: نحن نصدق أن الله سبحانه قادرٌ على أن يُنْطِقَ البقرةَ وغيرَها من الحيوان، بل قادِرٌ على أن يُنْطِق الحمار، فإنَّه على كل شيء قدير، وفيه دليل على تفضيل الشيخين أبي بكرٍ وعمرَ على غيرهما. قوله: "فَمَنْ لها يومَ السَّبعْ يومَ لا راعيَ لها غيري"، قال في "شرح السنة": قال الأعرابي: (يوم السبع) - بسكون الباء - يعني: يوم القيامة، والسبع: الموضع الذي عنده المَحْشَر، والسبع: الذعر أيضًا، يقال: سبعت الأسد: إذا ذعرته، وهو على هذا التفسير: يومَ الفَزَع، وقيل: يوم السبع: يوم القيامة حين يموت الناس ويبقى هو مع الغنم. وقيل: يوم السبع: عيدٌ كان لهم في الجاهلية، يشتغلون بعيدهم ولَهْوِهم، وليس بالسَّبُع الذي يأكل الناس. * * * مِنَ الحِسَان: 4739 - عن أبيِ سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَوْنَ أَهْلَ عِلِّيينَ، كما تَرَوْن الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ في أُفُقِ السَّماءِ، وإنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ لَمِنْهُمْ، وأَنْعَما". قوله: "إنَّ أهلَ الجنة ليتراءون أهلَ عِلِّيين كما ترون الكوكبَ الدُّرِّي"،

مضى شرح (عِلِّيين) في (باب صفة الجنة). قوله: "وإنَّ أبا بكرٍ وعمرَ لَمِنهم وأَنْعَما"، (أنعما)؛ أي؛ زادا على تلك المنزلة، يقال: قد أحَسَنت إليَّ وأنعمت؛ أي: زدت عليَّ الإحسان. وفي بعض الروايات: قيل لأبي سعيد: ما أَنْعَما؟ قال: أهل ذلك هما. وقيل: أنعما؛ أي: صارا إلى النعيم ودخلا فيه، كما يقال: أَجْنَبَ الرجلُ: إذا دخل في الجَنوب، وأشمل: إذا دخل في الشَّمال، ذكره في "شرح السنة". قال الإمام التوربشتي: وفي أكثر نسخ "المصابيح": (لمنهم) واللام زائدة على الرواية، فإنه نقل هذا الحديث من "كتاب الترمذي"، وفيه: "منهم وأنعما" من غير لام، وإن صح روايةُ مَنْ روى: (لمنهم) كانت اللام للتأكيد، تدخل في خبر (إن)، والواو في (وأنعما) معطوف على الاستقرار المحذوف، وهو عامل الظرف في (منهم) خبر (إنّ)؛ أي: إن أبا بكر وعمر استقرا منهم وأنعما. * * * 4744 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ذاتَ يَوْمٍ ودَخَلَ المَسْجِدَ وأبو بِكْرٍ وعُمُرُ، أَحَدُهما عن يَميِنه والآخَرُ عن شِمالِه، وهوَ آخِدٌ بأَيْدِيهما، فقالَ: "هكذا نُبْعَثُ يومَ القِيامةِ"، غريب. قوله: "خرجَ ذاتَ يوم"؛ أي: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الحُجْرة يومًا. قوله: "وهو آخِذٌ بأيديهما، فقال: هكذا نُبعثُ يومَ القيامة" دليل على فضيلتهما على سائر الناس غيرِ الأنبياء والمُرْسلين. * * *

4745 - عن عبدِ الله بن حَنْطَب: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى أبا بَكرٍ وعُمَرَ فقال: "هذانِ السَّمْعُ والبَصَرُ"، مرسل. قوله: "هذانِ السمعُ والبصرُ"، (هذان): إشارة إلى الشيخين، قيل: هما بالإضافة إلى الدِّين بمنزلة السمع والبصر بالإضافة إلى الجسد. قيل: حَنطَب عند أصحاب الحديث: مفتوح الحاء والطاء. * * * 4746 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن نَبيٍّ إلا وَلَهُ وزيرانِ مِن أَهْلِ السَّماءِ، ووَزيرانِ مِن أَهْلِ الأَرْضِ؛ فأمَّا وزيرايَ من أَهْلِ السَّماءِ فجبْريلُ وميكائيلُ، وأَمَّا وزيرايَ مِن أَهْلِ الأَرْضِ فأبو بَكْرٍ وعُمَرُ". قوله: "ما مِنْ نبيٍّ إلا ولهُ وزيران"، قال في "الصحاح": الوزير: المُوازِر، كالأكيل: المُواكل؛ لأنه يحمِلُ عنه وِزْره؛ أي: ثِقْلَه؛ يعني: إذا حَزَبهُ أمرٌ شاورهما، كما أن المَلِكَ إذا حَزَبهُ أمرٌ شاور الوزيرَ، وفيه أيضًا دليل على فضيلتهما على جميع الأمة. * * * 4747 - عن أبي بَكْرَة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قالَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: رَأَيْتُ كأنَّ ميزانًا نَزَلَ مِن السَّماءِ فوُزِنْتَ أَنتَ وأبو بَكْرٍ فَرَجْحْتَ أنتَ، ووُزِنَ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ فَرَجَحَ أبو بَكْرٍ، ووُزِنَ عُمَرُ وعُثْمَانُ فَرَجَحَ عُمَرُ، ثم رُفِعَ الميزانُ، فاستاءَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني فساءَهُ ذلكَ، فقالَ: "خِلافَةُ نبُوَّةٍ، ثُمَّ يُؤْتي الله المُلْكَ مَن يشاءُ". قوله: "فاسْتَاءَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"، قيل: (استاء) افتعل من السَّوء، كما يقال: اغتَمَّ من الغَمِّ؛ يعني: أصابه - صلى الله عليه وسلم - غَمُّ عظيم من قول الرائي: "ثمَّ رُفِعَ

6 - باب مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه -

الميزان"، وقد أوَّلَها: أن زمان الخلافة قليلٌ ثم تصير إلى المَمْلكة. * * * 6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ بن عَفَّانَ - رضي الله عنه - (بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمانَ بن عَفَّانَ - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4748 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعًا في بَيْتِه كاشفًا عن فَخِذَيْهِ أو ساقيْهِ، فاستَأْذَنَ أبو بَكرٍ فأَذِنَ له، وهو على تلكَ الحالِ، فتَحَدَّثَ، ثُمَّ استَأْذَنَ عُمَرُ فأَذِنَ لهُ وهو كذلكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ استَأْذَنَ عُثْمانُ فَجَلَسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسَوَّى ثِيابَهُ، فلمَّا خَرَجَ قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دخلَ أبو بَكْر فلَمْ تَهْتَشَّ لهُ وَلَمْ تُبَالِه، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فلم تَهْتَشَّ لهُ ولم تُبَاله، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَّاَنُ فَجَلَسْتَ وسَويتَ ثِيابَكَ! فقالَ: "ألا أَسْتَحْيي مِن رَجْلٍ تَسْتَحْيي مِنْهُ المَلائِكَةُ". قوله: "فلم تهتشَّ له"؛ أي: ما ظهر منك هَشَاشة ولا بَشَاشة لدخوله؛ (الهشاشة) و (الاهتشاش): الفرح، و (الهَشُّ): اللِّين والرخوة. وفيه دليل على توقير عثمان - رضي الله عنه - عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لا يدلُّ على حطِّ منزلة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - عنده - صلى الله عليه وسلم - وقلة الالتفات إليهما؛ لأن قاعدةَ المحبة إذا كَمُلَت واشتدَّت ارتفعَ التكلفُ، كما قيل: إذا حَصَلت الأُلْفة بَطَلت الكُلْفة. قوله: "كاشفًا عن فخذيه"، هذا مُستَند مالك، فإن الفخذ عنده ليس بعورة. * * *

مِنَ الحِسَان: 4750 - عن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نبيٍّ رَفيقٌ ورفيقي - يعني في الجَنَّةِ - عُثْمانُ"، غريب منقطع. قوله: "لكل نبيِّ رفيقٌ، ورفيقي في الجنة عثمانُ"، وفيه دليل على عظم قَدْره وارتفاع منزلته - رضي الله عنه -. قال الإمام التوربشتي في "شرحه": هذا حديث ضعيفُ السَّند، ومع الضَّعف ليس بمتصل، رواه شُريح عن شيخ من زُهرة لم يُسَمِّه. * * * 4751 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن خَبَّابٍ - رضي الله عنه - قال: شَهِدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَحُثُّ على جَيْشِ العُسْرَةِ، فقامَ عُثْمَانُ فقالَ: يا رسولَ الله! عليَّ مِئَةُ بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقْتابها في سبيلِ الله، ثُمَّ حَضَّ على الجيشِ، فقامَ عُثْمانُ فقال: عليَّ مِئَتا بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقتابها في سبيلِ الله، ثُمَّ حَضَّ على الجيشِ، فقامَ عثمانُ فقالَ: عليَّ ثلاثُ مِئَةِ بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقْتابها في سبيلِ الله، فأنا رَأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ عن المِنْبرِ وهو يقولُ: "ما على عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذهِ، ما على عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذهِ". قوله: "شهدتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَحُثُّ على جيش العُسْرة"، والمراد بجيش العسرة: غزوة تبوك، وإنما سُمِّيت جيش العسرة؛ لأنها كانت في زمان اشتداد الحَرِّ والقَحْط والجَدْب، بحيث يَعْسُر عليهم الخروجُ فيها. قيل: كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ثلاث مئة وثلاثة عشر، ويوم أحد سبع مئة، ويوم الحديبيَة ويوم خيبر ألف وخمس مئة، ويوم الفتح عشرة آلاف، ويوم حُنين اثنا عشَر ألفًا، ويوم تبوكَ ثلاثون ألفًا، وهي آخر مغازيه.

قوله: "عليَّ مئة بأَحْلاسها وأَقْتَابها"، (الأحلاس): جمع حِلْس، وهي كِسَاء رقيق يكون تحت البَرْذَعة، و (الأقتاب): جمع قَتَب - بالتحريك -، وهو رَحْلٌ صغير على قَدْرِ السَّنَام، ذكره في "الصحاح". قوله: "ما على عثمان ما عَمِلَ بعدَ هذه"؛ أي: ما عليه أن لا يعملَ بعد هذه من النَّوافل دون الفرائض؛ لأن تلك الحسنة تكفيه عن جميع النوافل، كما ذكر في حديث أنس بن أبي مرثد الغَنَوي في آخر الفَصْل في المِعْراج. * * * 4753 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لَمّا أُمِرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كانَ عُثْمانُ رَسُولَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عُثْمانَ في حاجَةِ الله وحاجَةِ رَسولِهِ"، فضرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ على الأُخرَى، فكانَتْ يَدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعُثْمانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهم. قوله: "لمَّا أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببيعة الرِّضوان", وهي البيعة التي كانت تحت الشجرة يوم الحديبيَة، وإنما سُمِّيت ببيعة الرضوان؛ لأنه نزلت في أصحابها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] * * * 4753/ م - عن ثُمامَةَ بن حَزْنٍ القُشَيْريِّ قال: شَهِدْتُ الدَّارَ حينَ أَشْرَفَ عليهم عُثْمانُ فقال: أَنشُدُكم الله والإِسَلامَ، هل تعلمونَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المَدينةَ وليسَ بها ماءٌ يُستعذَبُ غيرُ بئرِ رُومَةَ فقال: "مَن يشتري بئرَ رُومَةَ يَجعل دَلْوَه مع دلاء المُسلمينَ بخيرٍ له منها في الجَنَّةِ؟ "، فاشتريتُها مِن صُلْبِ مالي، فأنتم اليومَ تَمنَعونَني أنْ أَشْرَبَ منها حتَّى أَشْرَبَ مِن ماءِ البَحْرِ! فقالوا: اللهم! نَعَم، قال: أَنشُدُكم الله والإِسلامَ، هل تعلمونَ أنَّ المسجدَ ضاقَ بأهلِهِ فقالَ

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَشْتري بُقْعَةَ آلِ فُلانٍ فيزيدُها في المَسْجِدِ بخيرٍ لهُ منها في الجنةِ"، فاشتريْتُها مِن صُلْبِ مالي، فأنتم اليومَ تمنعونَني أنْ أُصلِّيَ فيها ركعتينِ؟ قالوا: اللهم! نَعَم، قال أَنشدُكم الله والإِسلامَ، هل تعلمونَ أني جَهَّزتُ جيشَ العُسرةِ مِن مالي؟ قالوا: اللهم! نعم، قال: أَنشدُكم الله والإِسلامَ، هل تعلمونَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ على ثَبيرِ مَكَّةَ ومعَهُ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ وأنا، فتحرَّكَ الجبلُ حتى تساقطَتْ حِجارَتُه بالحَضيضِ، فركضَهُ برجلِهِ وقال: "اُسْكُنْ ثَبيرُ، فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدانِ؟ " قالوا: اللهمَّ! نَعَم، قال: الله أكبرُ، شَهِدُوا ورَبِّ الكَعْبةِ أَنِّي شَهيدٌ، ثلاثًا. قوله: "شهدتُ الدارَ حين أَشْرَفَ عليهم عثمانُ - رضي الله عنه -"، (شهدت)؛ أي: حضرت، (الدار): عبارة عن دار عثمان التي قد حاصروه فيها. (أشرف عليهم)؛ أي: اطَّلع عليهم. قوله: "أنشدُكُم الله والإسلامَ"، قال الحافظ أبو موسى: يقال: نشدتُكَ نِشْدَةً ونِشْدانًا، وناشدتك؛ أي: سألتُكَ بالله وبالإسلام، وتعدِيتُه إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوتُ، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما قالوا دعوتُه زيدًا وبزيد، أو ضَمَّنُوه معنى: ذكرتُ، و (أنشدتك بالله) خطأٌ. قوله: "مَنْ يشتري بئر رُومة يجعل دَلْوه كدِلاء المسلمين"، قيل: بئر رومة في العقيق الأصغر، وفي المدينة عقيقان؛ العقيق الأصغر: قُطِعَ عن حَرَّة المدينة، والعقيق الآخر أكبر منه وفيه بئر عُروة. قوله: (يجعل دَلْوه كدِلاء المسلمين) ليس مستند جواز الوقف على نفسه؛ لأن إلقاء الدَّلو فيها لا يفتقر إلى شرط بحكم العموم، فإذا ثبت هذا فذكره وعدم ذكره سيَّان، كما لو قال: جعلت هذا مسجدًا وأصلي فيه كما يصلي فيه المسلمون.

قوله: "كان على ثَبير مكة"، (ثبير): جبل مكة. قوله: "تساقطَتْ حجارتُه بالحضيض، فَرَكَضَهُ برجله"، (الحضيض): القَرار من الأرض عند مُنْقَطَع الجبل، (فركضه برجله)؛ أي: ضرب الجبل برجله. * * * 4755 - عن مُرَّةَ بن كَعْبٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ الفتنَ فقرَّبَها، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ في ثَوْبٍ، فقالَ: "هذا يومَئذٍ على الهُدَى"، فقمْتُ إليهِ فإذا هو عثمانُ بن عفَّانَ - رضي الله عنه - قال: فأَقْبَلْتُ عليهِ بوجهِهِ فقلتُ: هذا؟ قال: "نعم"، صحيح. قوله: "فمرَّ رجلٌ مُقَنَّع في ثوب"؛ أي: مستتر في ثوب، يريد به: عثمان - رضي الله عنه -. قوله: "هذا يومئذ على الهُدى"، (هذا): إشارة إلى ذلك الرجل المقنَّع؛ يعني: عثمان؛ يعني: إذا ظهرت الفتنُ يكون عثمان - رضي الله عنه - على الهُدى. وفيه دليل على كونه مظلومًا. * * * 4756 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يا عُثْمانُ! إنَّه لعلَّ الله يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فإنْ أرادوكَ على خَلْعِه فلا تَخْلَعْه لهم". قوله: "يا عثمانُ! إنه لعلَّ الله يُقَمِّصُكَ قميصًا، فإنْ أرادوك على خَلْعه فلا تَخْلَعه لهم"، قال ابن الأعرابي: القميص: الخلافة، والقميص: غلاف القلب، والقميص: البرذون الكثير القُمَاص، ذكره في "الغريبين".

7 - باب مناقب هؤلاء الثلاثة - رضي الله عنهم -

يعني: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمانَ: إن الله سبحانه سيجعلك خليفة، فإن الناس إنْ قصدوا عَزْلَك عن الخلافة، فلا تعزِلْ نفسَك عنها لأجلهم، فلهذا الحديث كان عثمان - رضي الله عنه - ما عَزَلَ نفسَه حين حاصروه يوم الدار. * * * 4758 - عن أبي سَهْلَةَ - رضي الله عنه - قال: قال لي عُثْمانُ يومَ الدَّارِ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَد عَهِدَ إليَّ عَهْدًا، وأنا صابرٌ عليهِ. صَحَّ، والله الموفِّقُ. قوله: "قد عَهِدَ إليَّ عهدًا، وأنا صابرٌ عليه"، يحتمل أن يريد بهذا العهد: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ أرادُوكَ على خَلْعه فلا تَخْلَعْه لهم". * * * 7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثةِ - رضي الله عنهم - (بابُ مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثَةِ - رضي الله عنهم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4759 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أُحُدًا وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ - رضي الله عنهم -، فَرَجَفَ بهم فَضَرَبَه برِجْلِه، فقالَ: "اثبُتْ أُحُد، فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهيدانِ". قوله: "فرجَفَ بهم"؛ يعني: فتحرَّك بهم واضطرب، يقال: رَجَفَ يَرجُفُ رَجْفًا ورَجَفَانًا: إذا اضطرب. قوله: "وشهيدان"؛ يعني: عمر وعثمان - رضي الله عنهما -. * * *

8 - باب مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

4760 - عن أبي موسى الأَشْعَريِّ - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حائطٍ مِن حِيْطانِ المَدينةِ، فجاءَ رَجُلٌ فاستَفْتَحَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "افتَحْ لهُ وبشِّرْهُ بالجَنّةِ"، فَفَتَحْتُ لهُ، فإذا أبو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُه بما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله، ثُمَّ جاءَ رَجُل فاستَفْتَحَ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "افتَحْ لهُ وبشِّرْهُ بالجَنَّةِ"، ففَتَحْتُ لهُ فإذا عُمَرُ، فأَخْبَرْتُه بما قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله، ثُمَّ استَفْتَحَ رَجُلٌ، فقال لي: "افتَحْ لهُ وبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ على بَلْوَى تُصِيبهُ"، فإذا عُثْمانُ، فأخبرتُه بما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله، ثُمَّ قال: الله المستعانُ. قوله: "كنت مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حائطٍ من حيطان المدينة"، (الحائط): البستان، والحيطان جمعُه. قوله: "فجاء رجلٌ فاستفتح"، (استفتح): إذا طلَبَ فتحَ الباب. قوله: "على بَلْوى تصيبه"، (البلوى): البلاء، قيل: أراد بالبلوى: ما أصابه يوم الدار من أذى المُحاصرة والقتل وغيرِ ذلك مما يكرهه. قوله: "ثم قال: الله المُسْتعان"؛ يعني: ثم قال عثمان - رضي الله عنه - بعد ما حَمِدَ الله تعالى: الله المستعان، وفي ضمن قوله: (الله المستعان) شيئان: تصديقُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أَخْبر، والاستعانة من الله سبحانه وتعالى في ذلك. * * * 8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بن أَبي طَالِبِ - رضي الله عنه - (بابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بن أَبي طَالِبِ - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4762 - عن سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعَليٍّ:

"أنتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هارونَ مِن مُوسَى، إلا أنَّه لا نبَيَّ بعدي". قوله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "أنتَ منِّي بمنزلة هارونَ مِنْ موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"، قيل: إنما صدَر هذا الكلامُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ غزوة تبوك، وقد خَلَّف عليًا - رضي الله عنه - على أهل بيته، وأَمَره أن يُقيمَ في المدينة، ويراعي أحوالَهم يومًا فيومًا، ثم قال المنافقون: ما تركَه إلا لكونه مُسْتَثْقَلًا عنده، فخفَّف عنه ثِقْلَه. فلما سمع عليٌّ - رضي الله عنه - ذلك، تأذَّى من هذا الكلام، وقصد إلى ذلك الغزو، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! زعم أهلُ النفاق أنك ما خلَّفتني إلا لكوني ثقيلًا عليك، فخفَّفْت ثِقْلي عن نفسك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كَذَبُوا ما خَلَّفتك إلا لكرامتك عليَّ، ولأنك مني، فارجع إلى أهلي، واخلُفني فيهم بما أَمَرْتُك، أمَا ترضى بأن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى. فالذي يستدلُّ بهذا الحديث على أنَّ الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت لعليٍّ - رضي الله عنه - فاستدلالُه بذلك غيرُ صواب؛ لأن الخلافة الجزئية في حياته لا تدل على الخلافة الكلِّية بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، بل إنما يُستدل على قربه واختصاصه بما لا يُباشر إلا بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما اخْتُصَّ بذلك؛ لأنه يكون بينه وبين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - طرفان: القرابة والصُّحبة، فلهذا اختاره بذلك دون غيرِه، والله أعلم. قال الخطابي: ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَثَلَ باستخلاف موسى هارونَ - عليهم السلام - على بني إسرائيل، حين خرج إلى الطُّور، ولم يُرِدْ به الخلافة بعد الموت، فإن المَضْروبَ به المثل - وهو هارون - كان موتُه قبلَ وفاة موسى، وإنما كان خليفةً في حياته في وقتٍ خاصٍّ، فليكُن كذلك فيمن ضُرِبَ له المَثَلُ به. * * *

4763 - وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: والذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إنَّه لَعَهْدُ النَّبيِّ الأُمِّيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليَّ: أنْ لا يُحِبني إلا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلا مُنافِقٌ. قوله: "والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرأَ النَّسمَة إنَّه لعهدُ النبيِّ" الواو في (والذي) للقسَم، و (إنه) جواب القسم، (فلق): إذا شَقَّ، (برأ): إذا خَلَق، (النسمة): الإنسان. * * * 4764 - عن سَهْلِ بن سَعْدِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ خَيْبَرَ: "لأَعطِيَنَّ هذهِ الرَّايةَ غدًا رَجُلًا يَفتحُ الله على يَدَيهِ، يُحِبُّ الله ورسولَهُ، ويحبُّهُ الله ورسولُه"، فلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم يَرْجُونَ أنْ يُعطَاها، فقالَ: "أينَ عليُّ بن أبي طالب؟ "، فقالوا: هوَ يا رسولَ الله! يشتكي عَيْنَيهِ، قالَ: "فاَرْسِلوا إليهِ"، فأُتيَ بهِ، فبصقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عَيْنَيهِ، فبَرَأَ حتى كأنْ لم يكنْ بهِ وَجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ، فقال عليٌّ: يا رسولَ الله! أُقاتِلُهم حتى يكونُوا مثلَنا؟ فقالَ: "انفُذْ على رِسْلِكَ حتى تنزِلَ بساحتِهم، ثم ادعُهم إلى الإِسلامِ، وأخبرْهم بما يَجِبُ عليهم من حَقِّ الله فِيهِ، فوالله لأَنْ يهديَ الله بكَ رَجُلًا واحِدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ تكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ". قوله: "فَبصَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، فَبَرَأ"؛ يعني: ألقى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بُزَاقَه في عَينَي عليٍّ - رضي الله عنه -، فزال الوجَعُ عنهما في الحال. قوله: "أقاتِلُهم حتَّى يكونوا مِثْلَنا"؛ يعني: أُحاربهم حتى يُسْلِموا، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انفُذْ على رِسْلِك، حتى تنزلَ بِسَاحَتِهم"؛ يعني: امْضِ على رِفْقِكَ ولِينك، و (الرَّسْل): السير اللَّين، (الساحة): الأرض، (بساحتهم)؛ أي: بأرضهم. * * *

4767 - عن زيدِ بن أَرْقَمَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن كنتُ مَوْلاهُ فعليٌّ مَوْلاهُ". قوله: "مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"، قال الحافظ أبو موسى: أي: مَنْ كنت أتولاه فعليٌّ يتولَّاه؛ يعني: مَنْ كنت أُحِبُّه فعليٌّ - رضي الله عنه - يحبُّه، وقيل: من كان يتولاني فعليٌّ يتولاه. وقيل: سبب ذلك: أن أسامةَ بن زيد قال لعليٍّ - رضي الله عنه -: لستَ مولاي، إنما مولايَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه". وروي عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: أراد بذلك وَلاءَ الإسلام، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]؛ أي: وليُّهم وناصِرُهم، فعلى القولِ الأخير معناه: أنَّ ولاء الإسلام يشتمل على الذي يشتمل كل مسلم من مُراعاة حرمة الإسلام في صَون النفس والمال والسلامة في الآخرة. وقيل: قد ثبت أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلِي الإجابة، إذا دعا أن يُجاب، وقد كان علي - رضي الله عنه - وليَّ الدعوة بما بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر حين جعله أميرَ الحجِّ بالناس، فبعث عليًا ليقرأ على الناس سورةَ براءة، وأن يبلِّغَهم حكمَ الله ورسولِه، فقال أبو بكرِ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لِمَ تبعثُ عليًا؟ فقال: "لا يُبلِّغ عني إلا رجلٌ مني"، فحينئذ علي ولي الدعوة إلى الحق، فيجوز له أن يدعو الناس إلى الله سبحانه نيابة عنه - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز لجميع الأمة أن يجيبوا دعوتَه اتِّباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عرفتَ ذلك فاعرف أنَّ مَنْ وافقه وافقَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، ومن خالفه فقد خالفَه - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث الذي بعده دليلٌ على فضيلة عظيمةٍ لعليٍّ - رضي الله عنه -. * * * 4773 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: دَعَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًا يَوْمَ الطَّائِف فانتَجَاهُ، فقالَ النَّاسُ: لقد طالَ نَجْوَاهُ مع ابن عَمِّه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما انتَجَيْتُهُ،

9 - باب مناقب العشرة - رضي الله عنهم -

ولكنَّ الله انتجَاهُ". قوله: "ما انْتُجَيتُه ولكنَّ الله انتْجَاهُ"، يقال: انتجيته: إذا خَصَصْته لمناجاتك؛ يعني: بلَّغته عن الله تعالى ما أمرني أن أبلِّغه عن الله على سبيل النَّجْوى، فحينئذ انْتَجاهُ الله سبحانه لا انتجيتُه. * * * 4774 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: "يا عليُّ! لا يَحِلُّ لأَحَدٍ يُجْنِبُ في هذا المَسْجدِ غيري وغيرُك" قال ضرَارُ بن صُرَدٍ: معناهُ: لا يَحِلُّ لأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُه جُنُبًا غيري وغيرُك. هذا حديثٌ غريبٌ. قوله: "لا يَحِلُّ لأحدٍ يستطْرِقُه جُنُبًا غيري وغيرُك"؛ لأنه كان ممرَّ أبوابهما في المسجد، بخلاف غيرهما، فإنه لم يكن له مَمَرَّ دارِه في المسجد. اعلم أن فضائلَ عليٍّ - رضي الله عنه - أكثرُ مِنْ أنْ تُحصى، وهذه الأحاديث شاهدة بها، لكن هذه الأحاديث لا تقاوم ما أوجب تقديمَ أبي بكر - رضي الله عنه -؛ لأن تقديمه إنما ثبت بالإجماع، والإجماع حكمُه حكمُ آية نزلت في زمان الوحي، وهذه الأحاديث أحاديث آحاد، فكيف تقاوم الإجماع؟ * * * 9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ - رضي الله عنهم - (بابُ مَنَاقِبِ العَشرَةِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 4776 - قال عُمَرُ - رضي الله عنه -: ما أَحَدٌ أَحَقُّ بهذا الأَمْرِ مِن هؤلاءِ النَّفَرِ الذينَ

تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ عَنْهم راضٍ، فَسَمَّى: عليًا وعُثْمانَ والزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ وسَعْدًا وعَبْدَ الرَّحمنِ. قوله: "ما أحدٌ أحقُّ بهذا الأمرِ من هؤلاء النَّفَرِ الذين تُوفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍ"، (النفر) - بالتحريك - عدَّةُ رجال من ثلاثة إلى عشرة، يريد بهذا الأمر: الخلافة؛ يعني: قال عمر - رضي الله عنه - عند وفاته: الخلافة بعدي بين هؤلاء الستة المذكورة في الحديث، فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان راضيًا عنهم عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وهم أفضلُ الناس في هذا الزمان، فإذا دفن عمر - رضي الله عنه - أجمعوا على خلافة عثمان - رضي الله عنه -. إن قيل: توفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راضٍ عن جميع الصحابة، فَلِمَ خَصَّ عمرُ هؤلاءِ الستةَ بالرضا؟. قيل: لم يُرِدِ الرِّضوانَ الشاملَ لهم، بل رضوانًا يخُصُّهم، ويستحقون بذلك أن يكونوا خلفاء، فهذا معنى الرضا. * * * 4778 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يأتيني بخَبَرِ القَوْمِ؟ " - يومَ الأَحْزابِ -، قالَ الزُّبيرُ: أنا، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكُلِّ نبَيٍّ حَوَارِيًّا وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ". قوله: "لكل نبيٍّ حواريّ، وحواريّ الزبير"، قال في "شرح السنة": المراد منه الناصر، والحوارِيون من أصحاب عيسى - عليه السلام - كانوا أنصارًا له، وسُمُّوا الحواريين؛ لأنهم كانوا يغسِلون الثياب فيُحوِّرُونها؛ أي: يُبيضُونها. * * *

4780 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ما سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ أَبَوَيهِ لأَحَدٍ إلا لسَعْدِ بن مالكٍ، فإنِّي سَمِعْتُه يقولُ يومَ أُحُدٍ: "يا سَعْدُ! ارْمِ فِدَاكَ أبي وأمي". قوله: "إلا لسعد بن مالك"؛ يعني: سعد بن أبي وقَّاص. 4782 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَهِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْدَمَهُ المَدينةَ ليلةً فقال: "لَيْتَ رَجُلًا صالِحًا يَحْرُسُني"، إذ سَمِعْنَا صوْتَ سِلاحٍ، فقالَ: "مَن هذا؟ " قال: سَعْدٌ، قال: "ما جاءَ بكَ؟ " قال: وَقَعَ في نَفْسِي خَوْفٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجئْتُ أَحرُسُه، فَدَعَا لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ نامَ. قوله: "وقع في قلبي خوفٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجِئْتُ أَحْرُسُه" دليلٌ على التوافق بين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه لمَّا جرى في خاطره - صلى الله عليه وسلم - طَلَبُ الحراسةِ، تحرَّك ضميرُ سعدٍ للقيام بها، فقام بها. * * * 4785 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ على حِراءَ هو وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعثمانُ وعليٌّ وطَلْحَةُ والزُّبيرُ، فتحرَّكَتْ الصَّخْرَةُ، فقالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "اِهْدَأْ، فما عَلَيْكَ إلا نبَيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهيدٌ"، وزادَ بعضُهم: "وَسَعْدُ بن أبي وقَّاصٍ"، ولم يَذْكُرْ عَلِيًّا. قوله: "اهدأ، فما عليكَ إلا نبيٌّ أو صدِّيقٌ أو شهيد"، (اهدأ)؛ أي: اسْكُن. * * * 4788 - عن الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه - قال: كانَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعانِ فنَهَضَ إلى الصَّخْرةِ، فلم يَسْتَطِعْ، فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَه حتَّى استَوَى على الصَّخْرةِ،

فَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ". قوله: "أوجَبَ طلحة"؛ أي: أوجبَ الجنةَ لنفسه؛ لأنه رَضيَ عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحد. * * * 4789 - وقالَ جابرٌ: نَظَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله وقالَ: "مَن أَحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ يَمْشي على وَجْهِ الأَرْضِ وقد قَضَى نَحْبَهُ فلْيَنظُرْ إلى هذا". وفي رِوايةٍ قال: "مَن سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلى شَهيدٍ يَمْشي على وَجْهِ الأَرْضِ فلْيَنظُرْ إلى طَلْحَةَ بن عُبَيدِ الله". قوله: "مَنْ أَحبَّ أن ينظُرَ إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قَضَى نَحْبَه"، معناه: بذَلَ جُهْدَه في الوفاء بعهده. وكان طلحةُ ممن ذَكَر الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23]؛ أي: نَذْرَه وعَهْدَه، و (النحب): النذر، ويقال: الموت، كأنه ألزم نفسَه الصبرَ على الجهاد، فوفَّى به حتى استُشْهِد. * * * 4793 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ما جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَاهُ وأُمَّهُ إلا لسَعْدٍ، قالَ لهُ يومُ أُحُدٍ: "ارْمِ فِدَاكَ أبي وأمي"، وقالَ لهُ: "ارْمِ أيُّها الغُلامُ الحَزَوَّرُ! ". قوله: "أيُّها الغُلام الحَزَوَّر" - بفتح الحاء والزاي وتشديد الواو -، الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وكذلك الحَزْوَر - بسكون الزاي وبفتح الواو ومع التخفيف -. * * *

10 - باب مناقب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (بابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) 4796 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَداةً وعَليهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِن شَعْرٍ أسودَ، فجاءَ الحَسَنُ بن عليٍّ فأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جاءَ الحُسَينُ فدَخَلَ معَهَ، ثُمَّ جاءَتْ فاطِمَةُ فأَدْخَلَها، ثُمَّ جاءَ عليٌّ فأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قالَ: " {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ". قولها: "خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شَعَرٍ أسود"، قال في "الصحاح": مِرْط مُرحَّل: إزارُ خَزٍّ فيه عَلَمٌ. وقال غيره: المُرحَّل: ضَرْبٌ من بُرود اليَمَنِ، [سُمِّي مُرَحَّلًا]؛ لِمَا عليه من تصاوير الرِّحَال. * * * 4797 - وقالَ البَرَاءُ: لمَّا تُوُفِّي إبراهيمُ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لهُ مُرْضعًا في الجَنَّةِ". قوله: "إنَّ له مُرْضعًا في الجنة"، قال الخطابي: هذا يروى على وجهين: مَرضعًا - بفتح الميم - أي: رَضاعًا، وبضم الميم؛ أي: تتم رضاعه، يقال: امرأة مُرْضع - بلا هاء -: [إذا كان لها لبن رضاع]، ومُرْضعة: إذا بنيت على: أرضَعَت. قيل: قال ذلك لأنه [مات] قبل الفِطام. * * *

4798 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كُنَّا أَزْواجَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهُ، فأَقْبَلتْ فاطِمَةُ، ما تَخْفَى مِشْيَتُها مِن مِشيَةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رآهَا قال: "مرحبًا بابنتي"، ثُمَّ أَجْلَسَها، ثم سَارَّها، فبكَتْ بكاءً شديدًا، فلمَّا رأَى حُزْنَها سارَّها الثانية، فإذا هي تَضْحَكُ! فلمَّا قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَأَلتُها: عَمَّا سارَّكِ؟ قالَت: ما كُنْتُ لأُفشيَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سِرَّه، فلَمَّا تُوُفِّي قلتُ: عَزَمتُ عليكِ بما لي عليكِ مِن الحقِّ لمَّا أخبرتِني، قالت: أمَّا الآنَ فَنَعَمْ، أمَّا حينَ سارَّني في الأمرِ الأولِ فإنَّهُ أخبرَني: أنَّ جِبْريلَ كانَ يُعارِضُه بالقُرآنِ كلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وأنَّه: "عارضَني بهِ العامَ مرَّتَينِ، ولا أُرَى الأَجَلَ إلا قد اقتَرَبَ، فاتَّقي الله واصبري، فإنِّي نِعمَ السَّلَفُ أنا لكِ"، فبَكَيْتُ، فلمَّا رَأَى جَزَعي سارَّني الثانيةَ قال: "يا فاطِمَةُ! ألا تَرْضَيْنَ أنْ تكوني سَيدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ - أو: نِساءِ المُؤْمنين -". وفي روايةٍ: سارَّني فأَخْبَرني أنه يُقْبَضُ في وَجَعِه، فبكَيْتُ، ثُمَّ سارَّني فأَخْبَرَني أنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بيتِهِ أَتْبَعُه، فَضَحِكْتُ. قولها: "سارَّني في الأمرِ الأوَّل"، (سارني)؛ أي: أفرحني. قوله: "ألا ترضينَ أن تكوني سيدةَ نساءِ أهلِ الجنة، أو نساء المؤمنين" دليلٌ على أنها خيرُ نساء المؤمنين وأفضلُهنَّ في الدنيا والآخرة، وإنما كان كذلك؛ لأنها بعضُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي بعده: * * * 4799 - عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فاطمةُ بَضْعَةٌ منِّي، فمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبني". وفي روايةٍ: "يُريبني ما أَرَابَها، ويُؤذيني ما آذَاهَا". "فاطمةُ بَضْعَةٌ مني"، و (البَضْعة): قطعة لحم، فإذا ثبت هذا، فمحبَّتُها

واجبة، ومحبة أولادِها على الإطلاق واجبة. قوله: "يَرِيبني ما أَرَابها"، قال في "شرح السنة": قال الفَرَّاء: رَابَ وأَرَابَ بمعنًى واحد، ويقال: أرابني: إذا شَكَّكني وأَوهَمني، فإذا استيقَنْتُه قلت: رابني. * * * 4800 - عن زيدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه - قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطيبًا بماءٍ يُدعَى خُمًّا، بينَ مكَّةَ والمدينةِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ، ووَعظَ وذَكَّرَ ثم قالَ: "أمَّا بَعْدُ، أيُّها النَّاسُ! إنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أنْ يأتيَني رسولُ ربي فأُجيبَ، وأنا تارِكٌ فيكم الثَّقَلَيْنِ، أولهُما: كتابُ الله، فيهِ الهدى والنورُ، فخُذوا بكتابِ الله واستَمْسِكوا بهِ، وأَهْلُ بيتي، أُذَكِّرُكم الله في أَهْلِ بيتي، أُذَكَّرُكم الله في أهلِ بيتي، أُذكرُكم الله في أهلِ بيتي". وفي روايةٍ: "كتابُ الله، هوَ حبلُ الله، مَن اتَّبَعَهُ كانَ على الهدَى، ومَن تَرَكَهُ كانَ على الضَّلالةِ". قوله: "وأنا تاركٌ فيكُم ثقلين"، قال في "شرح السنة": قيل: سماهما ثقلين؛ لأن الأخذَ بهما والعملَ بهما ثقيل، وقيل في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] أي: أوامر الله وفرائضه ونواهيه لا تؤدَّى إلا بتكليفٍ ما ثقيل. وقيل: {قَوْلًا ثَقِيلًا}؛ أي: له وَزْن، وسُمِّي الجنّ والإنس ثقلين؛ لأنهما فُضلا بالتمييز على سائر الحيوان، وكلُّ شيء له وزن وقَدْر يُتنافس فيه فهو ثقيل. * * *

4801 - عن البَرَاءِ قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "أنتَ مِنِّي وأنا مِنْكَ"، وقال لجَعْفَرٍ: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقي"، وقالَ لزَيدٍ: "أنت أَخُونا ومَوْلانا". قوله: "أنتَ أخُونا ومولانا"؛ يعني: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: أنتَ أخونا في الدِّين ومولانا؛ أي: عَتِيقنا. * * * 4802 - وكانَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - إذا سلَّمَ على ابن جَعْفَرٍ قالَ: السَّلامُ عليكَ يا ابن ذي الجناحَيْنِ! قوله: "يا ابن ذي الجناحين"، فإنما سماه بذلك هنا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يراه في الجنة يطيرُ مع الملائكة حيث شاء، وقَوادِمُه كانت ملطوخة بالدم. وقد قتل بأرض الشام، وهو أمير، كان بيده راية الإسلام، فقاتل في سبيل الله حتى قُطِعت يداه ورِجْلاه، وقد كُشِفَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأى أن له جناحين مَلْطوخين بالدم، يطيرُ بهما مع الملائكة في الجنة. * * * 4804 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: خَرَجْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في طائِفَةٍ مِن النَّهارِ حتى أَتَى خباءَ فاطِمَةَ فقالَ: "أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟ "، يعني حَسَنًا، فلم يَلْبَثْ أنْ جاءَ يَسْعَى، حتَّى اعتَنَقَ كلُّ واحِدٍ منهما صاحبَهُ، فقالَ: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! إني أُحِبُّه، فأَحِبَّهُ وأَحِبَّ مَن يُحبُّه". قوله: "أثَمَّ لُكَع"، و (اللكع): عبارة عن الولد الصغير الذي لا عَقْلَ له، وهو اسم يُطلق على العبد والصغير والمُهْر والجَحْش. قال في "شرح السنة": سئل بلال بن جرير عن اللُّكَع، قال: هي في لغتنا:

الصغير، وإلى هذا ذهب الحسن إذا قال: يا لُكَعُ، يريد: يا صغير، أو يريد في العلم، فسمَّاه لُكَعًا لِصِبَاه وصِغَرِه. * * * 4805 - وعن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه - قال: رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبرِ، والحَسَنُ بن عليٍّ إلى جَنْبهِ، وهوَ يُقْبلُ على النَّاسِ مَرَّةً وعلَيْهِ أُخْرى ويقولُ: "إنَّ ابني هذا سَيدٌ، ولعَلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بهِ بينَ فئتينِ عظيمتينِ مِن المُسْلِمين". قوله: "ولعلَّ الله يُصْلِحُ به بين فئتينِ عَظِيمتين من المسلمين"، قال الشيخ الإمام في "شرح السنة": قد خرج مصداق هذا القول في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - بترك الأمر حين صارت الخلافة إليه، خوفًا من الفتنة، وكراهة لإراقة دم أهل الإسلام، فأصلح الله به أهلَ العراق وأهلَ الشام، وسُمِّي ذلك العام سنة الجَمَاعة. وفيه دليل على أن واحدًا من الفريقين لم يَخْرُجْ - بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل - عن مِلَّة الإسلام؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلَّهم مسلمين، مع كون إحدى الطائفتين مُصيبة والأخرى مُخْطِئة. وهذا سبيل كلِّ متأول فيما يتعاطاه من رأي ومذهب، إذا كان له فيما يتأوَّلُه شبهة، وإن كان مخطئًا في ذلك، وعن هذا اتفقوا على قَبول شهادة أهل البَغْي، ونُفُوذ قضاء قاضيهم، واختار السلفُ تركَ الكلام في الفتنة الأولى، وقالوا: تلك دماءٌ طَهَّرَ الله عنها أيدينا، فلا نُلَوِّثُ بها ألسنتَنا. وفي الحديث دليل على أنه لو وَقَفَ شيئًا على أولاده يدخلُ ولدُ الولد فيه؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمَّى ابن ابنته ابنًا، هذا كله منقول عن "شرح السنة". * * *

4806 - وعن ابن عُمَرَ في الحَسَنِ والحُسَينِ - رضي الله عنهما - قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هُما رَيْحَانِي مِن الدُّنيا". قوله: "هما ريحاني من الدنيا"، (الريحان) ها هنا قد فُسِّر بالرزق، فقال الزمخشري: أي: هما من رزق الله الذي رَزَقَنِيه، يقال: سبحانَ الله وريحانَه؛ أي: أسبح الله وأسترزِقُه، قال: وهو مخفَّف من الريحان، فَعْلاَن من الرَّوح؛ لأن انتعاشه بالرزق، قيل: ويجوز أن يراد بالريحان المشموم؛ لأن الأولاد قد يُشَمُّون ويُقَبَّلون، وكأنهم من الرَّياحين. * * * 4813 - وعن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا وأمَّرَ عَلَيهم أُسامَةَ بن زيدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ في إِمارتِه، فقامَ، فقالَ رسولُ الله: "إِنْ تَطْعَنُوا في إمارتِه فقد كنتُم تَطْعَنونَ في إمارةِ أبيهِ مِن قَبْلُ، وايمُ الله إنْ كانَ لَخَليقًا للإِمارةِ، وإنْ كانَ لمِن أَحَبِّ النَّاسِ إليَّ، وإنَّ هذا لمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إليَّ بَعْدَه". قوله: "وايمُ الله إِنْ كان لخليقًا للإمارة"، (وايم الله)؛ أي: والله إنَّ الشأنَ والحديثَ كان أسامة بن زيد من موالي، جرير للإمارة لفضله وسبقه وقربه مني. * * * مِنَ الحِسَان: 4815 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: رأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّتِهِ يومَ عَرَفةَ، وهو على ناقتِهِ القَصْواءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يقولُ: "يا أيُّها النَّاسُ! إنِّي قد تَرَكْتُ فيكم ما إنْ أخذْتُم بهِ لن تَضلُّوا، كتابَ الله وعِتْرَتي أهلَ بَيْتي". قوله: "وهو على ناقته القَصْواء"، سُمَّيت قَصواء لا لكونها مجدوعة

الأذن، بل القَصْواء لقبٌ لها، وكذلك العَضْباء والجَدْعَاء أيضًا لقب لها. قوله: "عترتي أهل بيتي"، قيل: في معنى (العترة) أقوال أحسنها: أن عِتْرةَ الرَّجُلِ: أهلُ بيته ورَهْطُه الأقربون. * * * 4817 - وعن زيدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعليٍّ وفاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَينِ: "أنا حَرْبٌ لِمَن حاربَهم، وَسِلْمٌ لِمَن سَالمَهم". قوله: "أنا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبهم، وسِلْمٌ لمن سَالَمهم"؛ أي: أنا مُحارب لمن حاربَ أهل بيتي، وسِلم؛ أي: مُسالم لمن سالمهم؛ يعني: مَنْ أحبَّهم فقد أحبني، ومَنْ أبغضهم فقد أبغضني. * * * 4819 - وعن عبد المُطَّلِب بن ربيعةَ - رضي الله عنه -: أنَّ العَبَّاسَ - رضي الله عنه - دَخَلَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَبًا وأنا عِنْدَه فقالَ: "ما أغضبَكَ؟ "، قال: يا رسولَ الله! ما لَنا ولقُرَيشٍ؟ إِذا تَلاَقَوْا بينَهم تَلاَقَوْا بوُجوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ، وإذا لقُونا لقُونا بغيرِ ذلكَ، فغَضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى احمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قال: "والذي نَفْسي بيدِه، لا يَدْخُلُ قَلْبَ رجلٍ الإيمانُ حتى يُحِبَّكم للهِ ولرسولِهِ"، ثُمَّ قال: "أيُّها النَّاسُ! مَن آذَى عَمِّي فقد آذَاني، فإنَّما عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيهِ". قوله: "تلاقَوا بوجوه مُبْشِرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك" قيل: مبشرة - بضم الميم وسكون الباء وفتح الشين - الروايةُ، والمعنى: يلاقي بعضُهم بعضًا بوجوه ذاتِ البشْر والبَسْط، وإذا رأونا رأونَا بغير ذلك؛ يعني: بغير البشْر والبَسْط، بل رأونا كارهين، بحيث يظهر في وجوههم الكراهية.

قوله: "إنما عَمُّ الرجل صِنْو أبيه" قال في "الصحاح": إذا خرج نخلتان وثلاث من أصل واحد فكلُّ واحدة منهنَّ صِنْوٌ، والاثنتان صِنْوانِ، والجمع صِنْوانٌ - برفع النون -؛ يعني: ما كان عم الرجل وأبوه إلا صنوين، وهما من أصل واحد. * * * 4822 - وعنه قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للعَبَّاسِ: "إذا كانَ غَداةَ الإثنينِ فأْتِني أنتَ وولدُك حتى أَدْعُوَ لهمْ بدَعْوَةٍ ينفَعُكَ الله بها وَوَلَدَكَ"، فغدَا وغَدَوْنا معَه وألبَسَنا كِسَاءَهُ ثُمَّ قال: "اللهمَّ! اغفِرْ للعَبَّاسِ وولدِهِ مَغْفِرةً ظاهِرَةً وباطِنَةً لا تُغادِرُ ذنبًا، "اللهمَّ! احفَظْهُ في وَلَدِه"، غريب. قوله: "وألبَسَنا كِسَاءه"، قيل: إشارة إلى أن العباس وابنه ونفسه - صلى الله عليه وسلم - كنفس واحدة، يشتملُها كِساءٌ واحد. قيل: ويحتمل أنه سأل الله تعالى أن يَغْفِرَ لهم، ويبسُطَ عليهم رحمتَه، كبسط الكِساء عليهم، ويجمعهم في الأُخوة تحت لوائه. * * * 4824 - وعنه: أَنَّه قال: دَعَا لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُؤتِيَني الحِكْمَةَ مرَّتينِ. قوله: "دعا لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتيَني الحكمةَ؛ مرَّتين"؛ أي: يعطيني الله سبحانه العلمَ والفهمَ، (الحكمة): العلم، والحكيم: العالِم. * * * 4827 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيدا شَبابِ أَهْلِ الجَنَّةِ".

قوله: "الحسنُ والحسين سَيدا شبابِ أهلِ الجنّة"، (الشباب) جمع شاب؛ يعني: هما أفضل مَنْ مات شابًا في سبيل الله من أصحاب الجنة، بل هما أفضل أصحاب الجنة شبابهم وشيوخِهم سوى الأنبياء والخلفاء الراشدين، كيف لا، وهما جُزْءا فاطمة، وهي جزءُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: ولم يُرِد بالشباب سِنَّ الشباب؛ لأنهما ماتا وقد اكْتَهلا، بل ما يفعل الشاب من المروءة، كما تقول فلان فتيٌّ، وإن كان شيخًا، تشير إلى مروءته، ولو قيل: إن أهل الجنة ليس فيهم كهول ولا مشايخ ولا صبيان، بل كمال العمر وهو الشباب، فحينئذ يُحشران شابين، فاشتد التفضيل حينئذٍ لتساوي الأسنان هناك؛ أي: سكان أهل الجنة أسنانهم متساوية، فتصح هذه الإضافة لتساوي الفاضل والمفضول في السن، والخلفاء الراشدون وإن حُشروا شبانًا وهم أفضل منهما. فحاصل الحديث: أنه يجوز أن يريد به الشبابَ والكُهول كما ذكر، أو يريد أرباب الفضائل من أهل الجنة، أو يريد أفضلَ السُّكَّان هناك، ما خلا كذا وكذا، واستوى عُمُرُ السكانِ هناك. * * * 4830 - عن سَلْمى قالت: دخلتُ على أُمِّ سَلَمَةَ وهي تبكي، فقلتُ: ما يُبكيكِ؟ قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، تعني في المنامِ، وعلى رَأْسِه ولحيتِهِ التُّرابُ، فقلتُ: ما لكَ يا رسولَ الله؟ قال: "شَهِدْتُ قتلَ الحُسَينِ آنِفًا"، غريب. قوله: "شهدت قتل الحسين آنفًا"؛ أي: حضرتُ قتلَه الآن. * * *

4832 - عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبنا، إذ جاءَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ وعليهما قميصانِ أَحْمَرانِ يمشيانِ ويعثُرانِ، فنزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن المِنْبَرِ، فَحَمَلَهما فَوَضَعَهما بينَ يديهِ ثم قال: "صَدَق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةً}، نظرْتُ إلى هذيْنِ الصبيَّيْنِ يمشيانِ ويعثُرانِ فلَمْ أَصْبرْ حتى قَطَعْتُ حديثي ورَفَعْتُهما". قوله: "ويعثُرانِ"؛ أي: يسقُطان على الأرض؛ يعني: الحسن والحسين - رضي الله عنهما -. قوله: "فلم أصْبرْ حتى قطعْتُ حديثي ورفعتُهما"؛ يعني: إذا نظر إليهما وقد عَثَرا، أثَّرت فيه الرِّقَّة والرحمة من حيث البشرية، فما صَبَرَ حتى قطعَ حديثَه، بل نزل من المنبر، ورفعَهُما، وإنما فعل هذا - صلى الله عليه وسلم - ليكون مستندًا لضعفاء أمته، بحيث لو فعل مثلَ هذا واحدٌ من الأمة عُذِرَ ولم يُلَم. * * * 4833 - عن يَعْلى بن مُرَّةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُسَيْنٌ منِّي وأنا مِن حُسَيْنٍ، أَحَبَّ الله مَن أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِن الأَسْباطِ". قوله: "حسينٌ سِبْطٌ من الأسباط"، (السِّبط): ولد الولد، وقيل: السِّبط مأخوذة من السَّبَط: وهو شجرة لها أغصان كثيرة وأصلها واحد، فالوالد بمثابة الشجرة، والأولاد مثل الأغصان، وفي رواية: "الحسن والحسين سِبْطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قيل: ويحتمل أن يقال: أنه أراد بالسبط: القبيلة؛ يعني: يتشعَّب منهما نسلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسُمِّيا بذلك؛ لأنهما أصلان يتولَّد منهما السِّبط. وقيل: أراد كما قيل: أسباط بني إسرائيل أولادُ يعقوب، فكذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم الحسن والحسين وأولادهما إلى يوم القيامة. * * *

4837 - عن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أنه فَرَضَ لأُسامةَ في ثلاثةِ آلافٍ وخَمْسِ مئةٍ، وفرضَ لعبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنه - في ثلاثةِ آلاَفٍ، فقالَ عبدُ الله بن عمرَ - رضي الله عنه - لأَبيهِ: لِمَ فَضَّلْتَ أُسامَةَ عليَّ؟ فوالله ما سبَقَني إلى مَشْهَدٍ، قال: لأَنَّ زَيْدًا كانَ أَحَبَّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أبيكَ، فكانَ أسامةُ أَحَبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْكَ، فآَثَرْتُ حِبَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على حِبي. قوله: "فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمس مئة"، (فرض)؛ أي: قدّر عمر - رضي الله عنه - ذلك المقدار من أموال بيت المال رزقًا له. "فقال ابنه عبدُ الله: لِمَ فَضَّلْتَ أسامةَ عليَّ؟ فوالله ما سبَقني إلى مشهد"، أراد بالمشهدِ حضورَ قتالِ ومعركةِ الأعداء. قوله: "فآثرتُ حِبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حِبي"؛ أي: اخترت، (الحِبُّ) - بالكسر - بمعنى: المحبوب، كالخِلِّ بمعنى: الخليل. * * * 4838 - عن جَبَلَةَ بن حَارِثَةَ - رضي الله عنه - قال: قَدِمْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسولَ الله! ابعَثْ معي أَخي زيدًا، قال: "هو ذَا، فإنْ انطَلَق مَعَكَ لَمْ أَمْنَعْهُ"، قال زيدٌ: يا رسولَ الله! والله لا أَخْتارُ عليكَ أَحَدًا قال: فرأيتُ رأْيَ أخي أَفْضَلَ مِن رأيي. قوله: "هُو ذا فإنِ انطلقَ معك لَمْ أمنَعْه" (هو): عائد إلى (زيد)، و (ذا): إشارة إليه أيضًا؛ يعني: مطلوبُك هذا. "قال: فرأيت رأي أخي أفضلَ من رأيي"؛ أي: قال جَبَلَةُ أخو زيد. * * *

4839 - عن أُسامَةَ بن زيْدٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا ثَقُلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هَبَطْتُ وهَبَطَ النَّاسُ المَدينةَ، فدخَلْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أُصْمِتَ فلم يَتَكَلَّمْ، فجَعَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضَعُ يدَيْهِ عليَّ وَيَرْفَعُهما، فأَعْرِفُ أَنَّه يدعُو لي. غريب. قوله: "هَبَطْتُ وهَبَطَ الناسُ المدينة"، (هبطت)؛ أي: نزلت، وإنما قال: (هبطت)؛ لأنه كان ساكنًا في العوالي، وهي قرى المدينة. وقيل: المدينة من أي جهة أَتَوها يكون فيها الهُبوط؛ لأنها مُنْخفِضة بحيث يَصِلُ إليها السَّيل. قوله: "وقد أُصْمِت" يقال: أُصْمِت المريض: إذا ثَقُل لسانُه واعْتُقِل، فهو مُصْمَت. * * * 4840 - عن عائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: لمَّا أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُنَحِّيَ مُخاطَ أُسامَةَ قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دَعْني حتَّى أَكُونَ أنا الذي أَفْعَلُ، قال: "يا عائشةُ! أحِبيهِ فإنِّي أَحِبُّه". قوله: "أن يُنحِّي مُخَاطَ أسامة"، (نحى): إذا أزال المُخَاط - بضم الميم - ما يسيل من الأنف. * * * 4841 - وعن أُسامَةَ قال: كُنْتُ جَالِسًا إذ جاءَ عليٌّ والعَبَّاسُ يَستَأذنانِ، فقالا لأُسامَةَ: استأذنْ لنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: يا رسولَ الله! عليٌّ والعَبَّاسُ يَستَأْذِنانِ، فقالَ: "أَتَدْري ما جاءَ بهما؟ " قلتُ: لا، فقال: "لكنِّي أَدْري، ائذنْ لهما"، فدَخَلاَ فقالا: يا رسولَ الله! جِئناكَ نَسْأَلُك: أيُّ أَهْلِكَ

أَحَبُّ إليك؟ قال: "فاطِمَةُ بنتُ مُحَمَّدٍ"، قالا: ما جِئْناكَ نَسْأَلُكَ عن أهلِك، قال: "أَحَبُّ أَهْلي إليَّ مَن قد أَنْعَمَ الله عليهِ وأَنْعَمْتُ عليهِ: أُسامَةُ بن زيدٍ"، قالا: ثُمَّ مَن؟ قال: "عليُّ بن أبي طالبٍ"، فقال العَبَّاسُ: يا رسولَ الله! جَعَلْتَ عَمَّكَ آخِرَهم! فقال: "إنَّ عَلِيًا قد سَبَقَكَ بِالهِجْرَةِ". قوله: "جئناكَ نسألُك أيُّ أهلِكَ أحبُّ إليك؟ قال: فاطمةُ بنتُ محمَّد، قالا: ما جئناك نسألُك عَنْ أهلِكَ" الخاص؛ يعني بهم العِتْرة، فأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهل أيضًا، فإن قيل: ما الحكمة في جوابه - صلى الله عليه وسلم - عن الأهل مع أنهما قالا: ما نسألك عن الأهل؟ قيل: الأهل يُذكر ويراد به الزوجة والأولاد، وقد يُذكر ويُراد به الأقارب، وقد يُذكر ويراد به المُتعلِّق، فإذا سألا في الأول عن الأهل وقال: أحب إليَّ فاطمة، فقالا: ما نسألك عن أهلك؛ يعني: عن أزواجك وأولادك، بل نسألك عن أقاربك وعن متعلِّقيك. قال: "أحبُّ أهلي إليَّ مَنْ قد أنعمَ الله عليه، وأنعمتُ عليه، أسامة"، إن قيل: جميعُ الصحابة رضوان الله عليهم قد أنعمَ الله ورسولُه عليهم، فلأيِّ شيء خُصِّص بذلك؟ قيل: النعمةُ من الله ومن الرسولِ على زيدٍ أبي أسامة، والنعمةُ على الآباء نعمةٌ على الأبناء، فلهذا قد خصِّصت به بيان النعمة من الله ورسوله على زيد، قال الله - عز وجل -: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] الإنعام من الله - عز وجل - توفيقُ الإيمان له، واهتداؤه إلى الإسلام، الذي هو أكمل النعم وأتمُّها، والإنعام من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إعتاقُه، وإخراجُه من ذُلِّ الرق. * * *

11 - باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -

11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (بابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4842 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بنتُ عِمْرانَ، وخَيْرُ نِسائِها خَديجَةُ بنتُ خُوَيْلدٍ"، وأشارَ وَكِيعٌ إلى السَّماءِ والأَرْضِ. قوله: "خيرُ نسائها مريمُ بنتُ عِمْران، وخيرُ نسائِها خديجةُ بنتُ خويلد، وأشار وكيع إلى السماء والأرض"، الضمير في (نسائها) الأول يعود إلى أمة زمانِ مريم، والضمير في (نسائها) الثاني يعود إلى هذه الأمة؛ يعني: مريم خير نساء زمانها، وخديجة خير نساء هذه الأمة؛ يعني: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإنما ذكر (نساءها) مرتين؛ ليدُلَّ على ما ذكر، وقيل: وكيع من جملة رواة هذا الحديث، وإشارته إلى السماء والأرض دليل على أنهما خيرُ مَنْ هو فوق الأرض من النساء، ولا يصحُّ أن يقال: أراد وكيعٌ أنهما خيرُ نساء السماء والأرض، فإن الضمير لا يستقيم أن يعود إلى السماء، بل أراد أنهما خير نساء فوق الأرض وتحت أديم السماء. * * * 4843 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أتى جِبْريلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! هذه خَديجَةُ، قد أَتَتْ معَها إناءٌ فيهِ إدامٌ أو طَعامٌ، فإذا أَتَتْكَ فاقرأ عليها السَّلامَ مِن رَبها ومنِّي، وبشِّرْها ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. قوله: "وبشِّرها ببيت في الجنَّة مِنْ قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب"،

الضمير في (بشرها) يعود إلى خديجة. قيل: (القصب) ها هنا: عبارة عن لُؤلؤ مُجَوَّف واسع كالقصر المُنيف - المنيف: المشرف المرتفع -. (الصَّخَب): الصِّياح، والنَّصَب: التعب؛ يعني: قصور الجنة ما فيها صَخَب ولا تعب، بل فيها كمال الاستراحة وطِيب العيش والرفاهية، بخلاف بيوت الدنيا، فإنها لا تخلو عن صَخَبٍ مِنْ ساكنيها، وعن نَصَبٍ في بنائها وإصلاحها، فإن الدنيا دارُ عَنَاء. * * * 4844 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: ما غِرْتُ على أَحَدٍ مِن نِساءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خَديجَةَ، وما رَأَيتُها ولكنْ كانَ يُكثِرُ ذِكْرَها، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثم يُقَطِّعُها أَعْضَاءً ثم يَبْعَثُها في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فربَّما قلتُ له: كأَنَّه لم يكنْ في الدُّنيا امرَأةٌ إلا خَديجَةُ؟ فيقولُ: "إنَّها كانَت وكانَت، وكانَ لي مِنْها وَلَدٌ". قولها: "ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خديجة"، (غرت) من الغيرة؛ يعني: ما كان لي غَيرة على واحدة من أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كغَيرتي على خديجة، مع أنِّي ما رأيتُها، فإنها كثيرًا ما يذكرُها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُظْهِرُ المحبَّةَ معها. قولها: "ثم يبعثُها في صَدائِق خديجة"، (البعث): الإرسال، (الصدائق) جمع صديقة، وهي المَحْبوبة. * * * 4845 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَضْلُ عائِشَةَ على النِّساءِ

كفَضْلِ الثَّريدِ على سائرِ الطَّعامِ". قوله: "فَضْلُ عائشةَ على النساء كفضلِ الثَّريدِ على سائر الطعام"، قيل: إنما ضرب المَثَل بالثريد؛ لأنه أفضلُ طعامِ العرب. وقيل: المراد بالطعام: الحِنطة، وإنها تحتاج إلى مُعالجات كثيرة حتى يصلُحَ التغذِّي بها، والثريد: مركَّب من الخبز واللحم والمَرَقة ولا نظيرَ لها في الأغذية. ثم إنه جمعَ بين الغذاء واللذة والقوة، وسهولة الأخذ، وقلة المُؤْنة في المَضْغ، وسُرعة المرور في الحُلْقوم والمَرِي، فضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بها المَثَل، ليعرِّفَ أنها جَمَعْتْ خِصالَ الكمال، وهي حُسن الخُلق والمعاشرة، وحلاوة المَنْطِق، وفَصَاحة اللسان، ورَزَانة العقل، والتحبُّب إلى الزوج، وغيرها من أنواع الكمال، كما اجتمع في الثريد ما ذُكر من أنواع الكمال في الأغذية الشريفة، والنساء الأُخر بمثابة الطعام الذي هو الحِنطة، فكما أنها تحتاج إلى أشياءَ كثيرةٍ حتى تصلُح للتغذِّي بها كما ذُكر، فكذا النساء محتاجة إلى تأديبات كثيرة، ليظهر فيهن حسنُ المعاشرة وغير ذلك، فإذا عرفتَ أن الثريدَ أفضلُ الطعام فاعرِفْ أن عائشةَ - رضي الله عنها - أفضلُ النساء. * * * 4847 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُكِ في المَنامِ ثلاثَ ليالي يَجِيءُ بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَريرٍ فقال لي: هذه امرَأتُكَ، فكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوبَ فإذا أَنْتِ هي، فقُلتُ: إنْ يكنْ هذا مِن عِنْدِ الله يُمْضه". قوله: "أُرِيتُكِ في المنام ثلاثَ ليال، يجيء بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ من

حرير"، (السَّرَقة) جمعها سَرَق، وهي الشُّقق من الحرير، إلا أنها البيضُ منها خاصة، ويقال: هي فارسية، أصلها سُرَّة، جمعها سَرَق، وهو الجيد، أو في جيد من الحرير. ذكره في "شرح السنة". الشقق: جمع شقة، وهي قطعة من الثياب. * * * 4852 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: بلغَ صَفِيَّةَ أنَّ حَفْصَةَ قالت: بنتُ يَهودِيٍّ، فبَكَتْ، فدخلَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهي تَبْكي فقالَ: "ما يُبْكيك؟ " فقالَتْ: قَالَتْ لي حَفْصَةُ: إنِّي ابنةُ يَهُودِيٍّ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنكِ لابنةُ نبَيٍّ، وإنَّ عَمَّكِ لنَبيٌّ، وإنَّكِ لَتَحْتَ نبَيٍّ، فَبمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ "، ثُمَّ قالَ: "اتَّقِ الله يا حَفْصَةُ". قوله: "إنَّك لابنةُ نبيٍّ، وإن عمَّك لنبيٌّ، وإنَّكِ لتحت نبي، ففيمَ تفخرُ عليكِ"، يريد بالنبي الأول: إسحاق، والنبي الثاني: إسماعيل، وبالثالث: نفسَه - صلوات الله عليهم -؛ يعني: أنكِ ابنة إسحاق، وعمُّك إسماعيل، وبَعْلُك محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففي أي شيء تفخَرُ حفصةُ عليك؟! * * * 4853 - ورُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَعَا فاطِمَةَ عامَ الفَتْحِ، فناجَاهَا فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَها فَضَحِكَتْ، فلَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَأَلتُها عن بُكائِها وضَحِكِها؟ قالت: أَخْبَرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه يَمُوتُ فبكيتُ، ثُمَّ أَخْبَرني أَنِّي سَيدةُ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ إلا مريمَ بنتَ عِمْرانَ فضَحِكْتُ. قولها: "ثم أخبَرني أنِّي سيدةُ نساءِ أهلِ الجنَّة إلا مريمَ بنتَ عِمْران، فضَحِكْتُ" فيه دليل على أن فاطمةَ خيرُ نساء العالمَ إلا مريمَ أمَّ عيسى عليه السلام.

12 - باب جامع المناقب

وفي رواية أخرى في (باب مناقب أهل البيت): "ألا ترضينَ أن تكوني سيدةَ نساءِ أهل الجنة، أو نساء المؤمنين"، فالشكُّ من الراوي، وما استُثْنيت في تلك الرواية أم عيسى، فالرواية التي هي المطلقة - يعني: لا استثناء فيها -، في (الصحاح)، وهذه الرواية - يعني: التي فيها استثناء - في (الحسان)، وأحاديث (الصحاح) أعلى درجة من أحاديث (الحسان)، كما ذكره المصنف في دِيباجة الكتاب، فإذا كان كذلك فلا أقل من الترجيح. أو: الاستثناءُ منقطع، كأنه قال: أنتِ سيدةُ النساء في زماني، لكن مريم - رضي الله عنها - كانت أيضًا سيدةً في زمانها. أو أراد: أنها في زمانها لم تكن معها سيدةٌ أخرى، فإنَّ آسية تقدمت بمُدة، وأما أنت فتشاركك في هذه السيادةِ والدتُك، وهي خديجة رضي الله عنها. * * * 12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ (بَابُ جَامعِ المَنَاقِبِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 4854 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: رَأَيْتُ في المَنامِ كأَنَّ في يَدي سَرَقَةً مِن حريرٍ، لا أَهْوِي إلى مَكانٍ في الجَنَّةِ إلا طارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُها على حَفْصَةَ فَقَصَّتْها حَفْصَةُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخاكِ رَجُلٌ صالِحٌ، أو إنَّ عَبْدَ الله رَجُلٌ صالحٌ". قوله: "رأيت في المنام كأنَّ في يدي سَرَقة من حرير"، قيل: (السرقة): عبارة عن ذات يده من العمل الصالح، وبياض السَّرَقة عبارة عن صَفائه عن

الكُدُورات النفسانية. قوله: "لا أَهْوِي بها إلى مكان في الجنة إلا طارتْ بي إليه"؛ يعني: لا أقصد بتلك السَّرَقة إلى مكان في الجنة لأنزلَ فيها إلا كانت تلك السرقةُ مُطيرة بي، ومُبْلِغة إلى تلك المنزلة، فكأنها مثلُ جناحِ الطير (¬1). * * * 4855 - عن حُذَيفَةَ - رضي الله عنه - قال: إنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وسَمْتًا وهَدْيًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أمِّ عَبْدٍ، من حينِ يَخْرُجُ مِن بيتِه إلى أنْ يرجِعَ إليه، لا نَدْري ما يَصْنَعُ في أَهْلِه إذا خَلَا. قوله: "إنَّ أشبهَ الناس دَلًا وسَمْتًا وهَدْيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أمِّ عَبْد"، قال في "شرح السنة": الدَّلُّ والسَّمْت والهَدْي قريبٌ بعضُها من بعض، وهو السكينة والوَقار وحُسن الهيئة والمَنظر، يريد: شمائله في الحركة والمشي والتصرف، لا في الزينة والجمال، وأصل السَّمت: هو القَصْد. حاصل ما يقول الشيخ: أن سيرته مَرْضيَّة، وهي الهَدي، وسَمْتُه: قصده وطريقته أيضًا حَسَنٌ، ودَلُّه الذي هو عبارة عن التذلُّل حَسَنٌ مع عياله ليس فيه خشونة ولا صَخَب ولا تجاوزُ حَدٍّ، فالمجموع وإن اختلفت معانيهنَّ لغةً اجتمعنَ معنًى فيما هو المحمود في كلِّ صنف منه. أراد بقوله: "لابن أمِّ عبد": عبدَ الله بن مسعود. قوله: "لا ندري ما يصنَعُ في أهله إذا خلا"؛ يعني: نشهد له بظاهر حاله، ولا نعرف ما خَفِيَ عنَّا، فلا نشهد بذلك. * * * ¬

_ (¬1) في "ش": "الطائر".

4857 - عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استَقْرِؤُوا القُرْآنَ مِن أربَعةٍ: من عبدِ الله بن مَسْعودٍ، وسالمٍ مَوْلَى أبي حُذَيفَةَ، وأُبَيِّ بن كعْبٍ، ومُعاذِ بن جَبَلٍ" - رضي الله عنهم -. قوله: "استقْرِئوا القرآنَ من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود ... " الحديث. يعني: اطلُبوا قراءةَ القرآن من هؤلاء الأربعة، فإنَّهم حَفَظةُ الصحابة - رضوان الله عليهم -. * * * 4858 - عن عَلْقَمَةَ قال: قَدِمْتُ الشَّامَ فصَلَّيتُ رَكْعَتَينِ ثُمَّ قُلْتُ: اللهمَّ! يَسِّرْ لي جَليسًا صالِحًا، فأتيتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إليهم، فإذا شَيْخٌ قد جاءَ حتى جَلَسَ إلى جَنْبي، قُلْتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدَّرْداءِ، قلتُ: إنِّي دَعَوْتُ الله أنْ يُيَسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا فيسَّرَكَ لي، فقال: مَن أنتَ؟ قُلْتُ: مِن أَهْلِ الكوفةِ قال: أَوَلَيْسَ عِنْدَكم ابن أُمِّ عَبْدٍ صاحِبُ النَّعلَيْنِ والوسادَةِ والمِطْهَرَةِ، وفيكم الذي أَجارَهُ الله من الشَّيطانِ على لسانِ نبيهِ؟ - يعني: عَمَّارًا -، أَوَلَيْسَ فيكم صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يَعْلَمُه غيرُه؟ - يعني: حُذَيفَةَ -. قوله: "أوليسَ عِندَكم ابن أمِّ عبدٍ صاحبُ النَّعلين والوِسادة والمِطْهرة": خصَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأشياء الثلاثة، أخذِ النعلين إذا جلس مجلسًا ووضعِهما إذا قام من ذلك المجلس، ووضعِ الوسادة إذا أراد أن ينام، وحَمْلِ المِطْهرة إذا أراد أن يتوضأ، وفيه دليل على جواز الرجل أن يستخدم أحدًا في هذه الثلاثة، وغيرها قياسًا عليها. وسرُّ هذا الاستخدام أنه - رضي الله عنه - استفاد من كلِّ خدمة نوعًا من العلوم من آداب تلك الخدمة فرضها وسنَّتِها وغيرِ ذلك، وكان في ذلك إشارة إلى آداب

التصوف، التي هي آداب مَرْضيَّة لهذه الطائفة. قوله: "أوليس فيكم صاحبُ السِّرِّ الذي لا يعلمُه غيرُه": إنَّما سُمِّي حذيفة صاحبَ السرِّ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عَرَّفه المنافقين في السِّرِّ، وكان يعرف أسماءَهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، وقد خصَّه بهذا السر، فلهذا سمي صاحبَ السِّر. * * * 4859 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُريتُ الجَنَّةَ، فرَأَيْتُ امرَأَةَ أبي طَلْحَةَ، وسَمِعْتُ خَشْخَشةً أمامي فإذا بلالٌ". قوله: "فرأيتُ امرأةَ أبي طَلْحة"، وهي أمُّ سليم، ولُقِّبت بالرُّمَيصاء. * * * 4861 - عن أبي مُوْسى - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "يا أبا موسى! لقد أُعطِيتَ مِزْمارًا مِن مَزَامِير آلِ داودَ". قوله: "لقد أُعْطِيت مِزْمارًا مِنْ مزامير آل داود"، (المزمار) ها هنا: النغمة. و (آل داود): نفسه، عليه السلام، والمراد به: أن له حُسْنَ صوتٍ في قراءة القرآن. * * * 4862 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَني أنْ أَقْرأَ عليكَ القرآن"، قال: الله سَمَّاني؟! قال: "نعم"، فَبكَى. ويُرْوَى: أنه قَرَأَ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]} [البينة: 1].

قوله: "إنَّ الله أمرني أَنْ أقرأَ عليكَ"، قال في "شرح السنة": قيل: أراد أن يحفَظه أُبيٌّ مِنْ فيه، وكان أبيٌّ مقدَّمًا على قُرَّاء الصحابة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أقرَأُكم أُبيٌّ". * * * 4863 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: جَمَعَ القرآنَ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعةٌ: أُبَيُّ بن كَعْبٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو زَيدٍ، قيلَ لأَنَسٍ: مَن أبو زَيدٍ؟ قال: أَحَدُ عُمُومتي. قوله: "جمعَ القرآنَ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعةٌ؛ أبيُّ بن كعب، ومعاذُ ابن جبل، وزيدُ بن ثابت، وأبو زيد"، قيل: قد جمع القرآنَ جماعةٌ من المهاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد من الأربعة: أربعة من قوم أنس، وهم الخَزْرجيون. وقيل: أراد بالأربعة: أربعة من الأنصار أوسِهم وخزرَجِهم، وهذا أقرب؛ لأن بين الحَيَّين كان خصومةً قبلَ الإسلام، وقد بقي بينهما شيءٌ بعد الإسلام، وذلك الشيء يُهَيج فيهما التفاخر. قال أنس: فقال الأوس: منَّا غسيلُ الملائكة حَنْظلةُ بن الراهب، ومنَّا من حَمَتْه الدَّبَر عاصمُ بن ثابت بن الأفلح، ومنَّا من أُجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمةُ بن ثابت، ومنا منِ اهتزَّ العرش بموته سعدُ بن معاذ. وقالت الخَزْرجُ: منَّا أربعةُ قراء القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يقرأه غيرُهم: زيدُ بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذُ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب. والمراد بقوله: لم يقرأه غيرهم يعني: لم يقرأه كله أحد منكم يا معشر الأوس. * * *

4864 - عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ قال: هاجرْنَا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نَبْتَغي وَجْهَ الله فَوَقعَ أَجْرُنا على الله، فمِنَّا مَن مَضَى لم يَأْكُلْ مِن أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهم مُصْعَبُ بن عُمَيرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فلَمْ يُوْجَدْ له ما يُكفَّنُ فيهِ إلا نَمِرَةً، فكُنَّا إذا غَطَّينا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وإذا غَطَّينا رِجْلَيهِ خَرَجَ رَأْسُه، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "غَطُّوا بها رَأْسَه، واجْعَلُوا على رِجْلَيْهِ مِن الإِذْخِرِ"، ومِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لهُ ثَمَرتَهُ فهوَ يَهْدِبُها. قوله: "ومنَّا مَنْ أينعت ثمرتُه فهو يَهْدِبُها"؛ أينعَتْ؛ أي: نَضَجَتْ له ثمرتُه. قال في "الغريبين": يهدِبها؛ أي: يجتنيها، يقال: هدَبَت الثمرةُ يهدِبها هَدْبًا: إذا اجتناها وقَطَعها. * * * 4865 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِهْتَزَّ العَرْشُ لمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ". وفي رِوايةٍ: "اِهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ". قوله: "اهتزَّ العرشُ لموت سعدِ بن مُعاذ"، قال في "شرح السنة": اهتزَّ؛ أي: ارتاح بروحه حين صَعِدَ به، قيل: أراد بالاهتزاز السُّرور والاستبشار، ومعناه: أن حملةَ العرش فرحوا بقُدوم روحه، فأقام العرشَ مقامَ مَنْ حَمَلَهُ؛ كقوله: "أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبُّه" أي: أهلُه. قال الشيخ الإمام: والأولى إجراؤه على ظاهره، وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أُحدٌ يحبنا ونحبُّه"، ولا يُنكر اهتزازُ ما لا روحَ فيه بالأنبياء والأولياء، كما اهتزَّ أُحد وعليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمرُ وعثمان، وكما اضطربت الأُسْطُوانة على مُفَارقته.

وقيل: أراد بالعرش: السرير الذي حُمِلَ عليه، وليس بشيء؛ لأنه قد روي: "عرش الرحمن". * * * 4866 - وعن البَرَاءِ - رضي الله عنه - قال: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ حَريرٍ، فَجَعَلَ أَصْحابُه يَمَسُّونَها ويَعْجَبُون مِن لِيْنِها، فقال: "أَتَعجبُونَ مِن لِيْنِ هذهِ؟ لمَنَادِيلُ سَعْدِ بن معاذٍ في الجنَّةِ خَيْرٌ مِنْها وأَلْيَنُ". قوله: "لمناديلُ سعدِ بن مُعاذ في الجنة خيرٌ منها وأَلْين"، قال في "شرح السنة": قال الخطَّابي: إنما ضَرَبَ المَثَلَ بالمناديل؛ لأنها ليست من عِلْيَة اللِّباس، بل هي تُبْتَذَل في أنواعٍ من المَرافق، ويُمسح بها الأيدي، ويُنْفَضُ بها الغُبار عن البدن، ويعطى بها ما يُهْدى في الأطباق، وتُتَّخذ لُفَافًا للثياب، فصار سبيلُها سبيلَ الخادم، وسبيلُ سائر الثياب سبيل المَخْدوم؛ أي: فإذا كانت مناديلُه - وليست هي من عِلْية الثياب - هكذا، فما ظنُّك بِعِلْيتها؟! هذا كله لفظ "شرح السنة". واعلم أن خصوصَ منديل سعدٍ دون بقية الصحابة تفضيلٌ يختصُّ به، كما اختص غيرُه بمزايا. * * * 4867 - وعن أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّها قالت: يا رسولَ الله! أَنَسٌ خادِمُك، ادْعُ الله لهُ، قال: "اللهمَّ أَكْثِرْ مالَهُ ووَلَدَهُ وباركْ لهُ فيما أعطيْتَه"، قال أَنَسٌ: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، وإنَّ ولدِي ووَلَدَ ولدِي ليتَعَادُّونَ على نحوِ المِئَةِ اليومَ. قوله: "وإنَّ ولدي وولدَ ولدي ليتعادُّون نحو المئة"؛ أي: يزيدون على المئة في العدد.

قال في "الصحاح": وإنهم ليتعادُّون ويتعدَّدون على عشرة آلاف؛ أي: يزيدون على ذلك في العدد. * * * 4869 - وقال عبدُ الله بن سلامٍ: رأَيتُ كأَنِّي في رَوْضَةٍ، وذَكرَ مِن سَعَتِها وخُضْرتِها، وَسْطَها عَمُودٌ مِن حديدٍ، أَسْفَلُهُ في الأَرْضِ وأَعْلاهُ في السَّماءِ، في أعلاهُ عُروةٌ، فقيلَ لي: ارْقَهُ، فقُلْتُ: لا أستَطِيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيابي مِنْ خَلْفي، فَرَقَيْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلاهَا فأخذتُ بالعُرْوَةِ، فاسْتَيْقَظْتُ وإنها لفي يَدي، فقصَصْتُها على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "تلكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلاَمُ، وذلكَ العَمُودُ عَمُودُ الإسْلامِ، وتلْكَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، فأنتَ على الإِسْلاَمِ حَتّى تَمُوتَ". قوله: "فقيل لي: اِرْقَه"، (ارْقَ): أمرٌ مِنْ رَقَى يَرْقَى رُقَيًّا: إذا صَعِد. قوله: "فأتاني مِنْصَف"، (المنصف) - بكسر الميم -: الخادم، والجمع المَنَاصف. * * * 4871 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا جُلوسًا عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ نزلَتْ سُوْرَةُ الجُمُعةِ، فَلَمَّا نزلَتْ هذهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قالوا: مَن هؤلاءِ يارسولَ الله؟ قالَ: وفينَا سَلْمَانُ الفارسيُّ، قالَ: فَوَضَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ على سَلْمانَ ثُمَّ قال: "لو كانَ الإيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِن هؤلاءِ". قوله: "لو كانَ الإيمانُ عند الثُّريَّا لنالَهُ رجلٌ مِنْ هؤلاء"، نال يَنال على وزن عَلِمَ يَعْلَم، ومعناه: صادف ووصَل، قال الحسن: يريد بـ (هؤلاء): العجم.

وقال عكرمة: يريد بهم فارسَ والروم؛ يعني: بالغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في انقياد فارسٍ للإسلام والإيمان، وقال: "لو كانَ الإيمانُ معلَّقًا بالثُّريا"؛ يعني: بعيدًا في غاية البُعد. ضَرَبَ المَثَلَ ليتناوله ويصل إليه رجلٌ من فارس. * * * 4874 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ". قوله: "آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأنصار"، قيل: وإنما كان كذلك لأنهم {تَبَوَّءُوا الدَّارَ}؛ أي: توطَّنُوا الدار؛ أي: المدينة، اتخذوها دار الهجرة، {وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]؛ أي: أسلموا في ديارهم، وآثَرُوا الإيمان، وتبوؤوا المساجد قبل قُدوم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحبَّهم فذلك من كمال إيمانهم، ومَنْ أبغضهم فذلك من علامة نفاقهم. * * * 4876 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ ناسًا مِن الأَنْصارِ قالوا حينَ أفاءَ الله على رسولِهِ مِن أموالِ هَوَازِن ما أفاءَ، فطَفِقَ يُعْطِي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئَةَ مِن الإِبلِ، فقالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُعطِي قُرَيشًا ويَدَعُنا وسُيُوفُنا تَقْطرُ مِن دِمائِهم؟ فحُدِّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمَقَالَتِهم، فأَرْسَلَ إلى الأَنْصارِ فَجَمَعَهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ ولَمْ يَدْعُ معَهم أَحَدًا غيرَهم، فلمَّا اجتَمَعُوا جاءَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ما حَديثٌ بلغَني عَنْكم؟ "، فقالَ له فُقَهاؤُهم: أمَّا ذَوُو رَأْينَا يا رسولَ الله! فلَمْ يقولوا شيئًا، وأمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَديثةٌ أَسْنانُهم قالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله، يُعطي قُرَيشًا ويَدَعُ الأَنْصارَ وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهم؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أُعْطِي رِجالًا حديثي عهدٍ بكُفْرٍ أتأَلَّفُهم، أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوالِ

وتَرْجِعونَ إلى رحالِكم برسولِ الله؟ "، قالوا: بلى يا رسولَ الله! قد رَضينَا. قوله: "وأمَّا أناسٌ مِنَّا حديثةٌ أسنانُهم ... " الحديث. (الأسنان) جمع سن؛ يعني: شبابنا. قوله: "ويَدَعُ الأنصارَ"؛ أي: يتركهم. قوله: "إنِّي أُعطي رجالًا حَدِيثي عهدٍ بكفرٍ أتألَّفُهم"؛ يعني: أُعطي رجالًا قريبي العهدِ إلى الإسلام، ليكون ذلك مُوجبًا لإلْفَتهم على الإسلام، يقال: فلان تألَّفته على الإسلام بإعطائه المال، ومنه: المؤلَّفة قلوبُهم. * * * 4877 - وقالَ: "لولا الهِجْرَةُ لكُنْتُ امْرَأً مِن الأَنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا أو شِعْبًا وسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا أو شِعْبًا لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وشِعْبَها، الأَنْصارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكم سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةً فاصبرُوا حتَّى تَلْقَوْني على الحَوْضِ". قوله: "لولا الهِجْرةُ لكنتُ امرأً مِنَ الأنصار"، المراد منه: إكرام الأنصار؛ يعني: لا رُتبةَ بعد الهجرة أعلى مَنْصِبًا من النصرة. قال في "شرح السنة": ليس المراد منه الانتقال عن النَّسب الوِلادي؛ لأنه حرام، مع أن نسَبه - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ الأنساب وأكرمُها، بل المراد منه النسب البلادي، معناه: ولولا أنَّ الهجرة أمرٌ كانت بسبب الدين، ونسبتها دينية، لا يسَعُني تركُها؛ لأنها عبادةٌ كنت مأمورًا بها؛ لانتسبت إلى داركم ولانقلبت عن هذا الاسم إليكم. قيل: إن الأنصار وإن شُرِّفوا بالنُّصرة والإِيواء لكن لا يبلغون درجةَ المهاجرين السابقين، كيف والأنصار يُقيمون في مواطنهم، وهم قد أُخرجوا من

ديارهم، وتلك الفضيلة أفضل، أشار إلى جَلالة تلك الرتبة، فلا يتركها، فهو نبيٌّ مُهَاجر لا أنصاري. قوله: "ولو سَلكَ الناسُ واديًا، وسلكتِ الأنصارُ واديًا أو شِعْبًا، لسلكتُ واديَ الأنصارِ وشعبَها"، قال في "شرح السنة": أراد أن أرض الحجاز كثيرة الأودية والشِّعاب، فإذا ضاق الطريق عن الجميع فسلك رئيسٌ شِعْبًا اتَّبعه قومُه، حتى يُفْضوا إلى الجَادة. وفيه وجه آخر: أراد بالوادي الرأي والمَذْهب، كما يقال: فلان في وادي، وأنا في وادي، هذا معنى كلام الخطابي. وقال غيره: إنما يريد به الموافقة؛ أي: كنت أختارُ موافقتَهم لا موافقةَ غيرهم؛ لأن لهم حقوقًا من الجِوار ووفاء العهد والنُّصرة. قوله: "الأنصار شِعار، والناس دِثَار"، (الشعار): ما ولي الجسدَ من الثياب. و (الدِّثار): كل ما كان من الثياب فوقَ الشِّعار، ذكره في "الصحاح". قيل: يريد أنهم أصدقائي وبطانتي وذوو الخُلُوص في المودَّة، وإنما قال هذا؛ لأنهم كانوا ذوي الأسرار، كخَفَاء الشِّعار عن الدِّثار، وقيل: يريد قُربهم منه - صلى الله عليه وسلم - كقرب الشعار من البدن. قوله: "إنكم ستلْقَون بعدي أثرةً، فاصْبروا"، قيل: (الأثرة) اسم من الاستئثار. قال في "شرح السنة": يريد يستأثر عليهم، فيفضل غيرُكم نفسَه عليكم، ويجوز أن يريد: توليةَ غيرِهم الخلافة، وما جرى عليهم من الجفاء المنقول. * * *

4878 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْحِ فقالَ: "مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فهوَ آمِنٌ، ومَن أَلقَى السِّلاحَ فهوَ آمِنٌ", فقالَتِ الأَنْصارُ: أمَّا الرَّجُلُ فقد أَخَذَتْهُ رَأْفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، ونزلَ الوحيُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قلتُم: أَمَّا الرَّجلُ أخذَتْهُ رأفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، قال: كلا! إنِّي عَبْدُ الله ورسولُه هاجَرْتُ إلى الله وإليكم، المَحْيَا مَحْيَاكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم"، قالوا: والله ما قُلْنَا إلا ضنًّا بالله ورسولِهِ، قال: "فإنَّ الله ورسولَه يُصَدِّقانِكم ويَعْذِرَانِكم". قول الأنصار: "أما الرجلُ فقد أخذتْهُ رأفةٌ بعشيرته، ورغبةٌ في قريته"، المراد بـ (الرجل): النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، و (الرأفة): الرحمة، (العشيرة): القبيلة، (القرية) ها هنا: مكة شرَّفها الله سبحانه. قوله: "كلا، إنِّي عبدُ الله ورسولُه، هاجرْتُ إلى الله وإليكم, المَحْيا مَحْياكم، والمَمَات مَمَاتكم"، (كلا) ها هنا حرف رَدْع؛ أي: ليس الأمر كما تظنُّون، بل هجرتي كانت إلى الله، وإنَّ الهجرةَ من دار قومي كانت إلى داركم، وإنِّي في حياتي ومَمَاتي لا أفارِقُكم. ثم قالوا: "والله! ما قُلنا إلا ضَنًّا بالله ورسوله"، (الضَنَّ): البخل، يقال: ضَنَنْتُ بالشيء: أَضنُّ به ضنًّا وضَنَانة: إذا بخلت به، وهو ضَنينٌ به؛ يعني: ما قلنا ذلك إلا ضَنًّا وبخلًا بما شرفنا الله سبحانه بوجودك، وخوفًا على فوات ذلك الشرف والكرامة، وهو انتقالك إلى مكة، وإقامتك بها. * * * 4880 - عن أنسٍ قال: مَرَّ أبو بَكْرٍ والعَبَّاسُ - رضي الله عنهما - بمَجْلِسٍ مِن مجالسِ الأَنْصارِ وهم يَبْكُونَ فقال: ما يُبْكِيكُم؟ قالوا: ذكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَّا،

فَدَخلَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأَخْبَرَهُ بذلكَ، فَخَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد عَصَّبَ على رأسِه حاشِيةَ بُرْدٍ، فَصَعَدَ المِنْبرَ ولم يَصْعَدْ بعدَ ذلكَ اليَوْمِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثم قال: "أوصِيْكُم بالأَنْصارِ، فإنَّهم كَرِشي وعَيْبَتي، وقد قَضَوْا الذي عليهم وبقيَ الذي لهم، فاقبلُوا مِن مُحْسنِهم، وتجاوَزُوا عن مُسِيئِهم". قوله: "أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرْشِي وعَيْبتي"، قال في "شرح السنة": كَرْشي؛ أي: جماعتي وأصحابي الذين أَثِقُ بهم، وأعتمدهم في أموري، والكَرْش: الجماعة، وقد يكون الكَرْش عِيالُ الرجل وأهلُه. وقيل: كَرْشي؛ أي: بِطانتي، وضَرَبَ المَثَلَ بالكَرْش؛ لأنه مستَقَرُّ غِذاء الحيوان الذي يكون فيه بقاؤه. قوله: (عيبتي)؛ أي: خاصَّتي وموضعُ سِرِّي، كما أن عَيبة الرجل موضعٌ لحِرْز مَتاعه وثيابه، وفي الحديث: "بيننا عَيبة مَكْفوفة"؛ أي: صدر نقيٌّ من الغِلِّ، والعرب تَكْني عن القَلْب والصَّدْر بالعَيبة، وهذا كما روي في الحديث: "الأنصار شِعار، والناس دِثار"؛ يعني بهم: البطانة والخاصة، فإن الشِّعار: اسم للثوب الذي يَلِي الجسدَ، هذا كلُّه منقول من "شرح السنة". * * * 4881 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضه الذي ماتَ فيهِ حتَّى جَلَسَ على المِنْبَرِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال: "أمَّا بَعْدُ، فإِنَّ النَّاسَ يَكثُرون، ويَقِلُّ الأَنْصارُ حتَّى يكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلةِ المِلْحِ في الطَّعامِ، فمَن وَلِيَ منكم شيئًا يَضُرُّ فيهِ قَوْمًا ويَنْفَعُ فيهِ آخرينَ فليَقبلْ مِن مُحْسِنِهم ويتجاوزْ عن مُسيئهم". قوله: "إنَّ الناس يَكْثُرون، ويَقِلُّ الأنصار"، وإنما قال ذلك؛ لأنهم بَذَلوا

أنفسَهم وأموالَهم في محبَّته وولائه، فصاروا بِطانةً له - صلى الله عليه وسلم - وخاصَّته، فإذا كان كذلك فمن يُدرك تلك المنزلةَ العظيمة التي كانت لهم؟ فإذا مات واحد منهم مات بلا بَدَل، وَيكْثُر غيرُهم، ويَقِلُّون لذلك. قيل: معنى قلَّة الأنصار كل يوم: انقراض من يَنْقَرِض منهم؛ أي: من الأنصار الذين كانوا في زمانه، وغيرُهم يَكْثُر، يريد: مَنْ يدخل في الدين فوجًا بعد فوج، فقد علم أن رُقْعة الإسلام سوف تتَّسع فيكْثُرون، والأنصار يقلُّون، فلا بدلَ لهم للأنصار أيضًا، بل أولادهم كغيرهم في دخول الإسلام، فتعيَّن التقليل جدًا. * * * 4483 - عن أَبي أُسَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ دُورِ الأَنْصارِ بنو النَّجَّارِ، ثُمَّ بنو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بنو الحارثِ بن الخَزْرجِ، ثُمَّ بنو ساعِدَةَ، وفي كلِّ دُورِ الأَنْصارِ خيرٌ". قوله: "خيرُ دُور الأنصار بنو النَّجَّار ... " الحديث. وإنما أراد بالدُّور: البُطون، ولكلِّ بطن محلَّة يسكنُها الناس، فتلك المحلة تسمَّى دارًا. * * * 4884 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ في حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ: "إنَّه شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريكَ؟ لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعمَلُوا ما شِئْتُم فقد وَجَبَتْ لكم الجَنَّةُ". وفي روايةٍ: "قد غَفرْتُ لكم".

قوله لعمرَ في حاطبِ بن أبي بَلْتعة: "إنه شهد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجَبَتْ لكم الجنة". قوله: "اعملوا ما شئتم" لم يكن ذلك رخصة في ارتكاب المعاصي، بل يكون تنبيهًا على أنهم مغفورون، وقصَّة حاطب مشهورة، وهي: أنَّ عليًا - رضي الله عنه - قال: بعثني رسولُ الله أنا والزبيرُ والمِقْداد، فقال: "انطلِقوا حتَّى تأتوا رَوضةَ خَاخٍ، فإنَّ بها امرأة معها كتاب، فخذوا منها"، قال: فانطلقنا، حتى أتينا تلك الرَّوضة، فأدركناها، فقلنا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، وحَلَفَت، فلما رأت مِنَّا الجِدَّ البليغَ في طلبه أخرجته من ذُؤَابتها. فأتينا به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه: مِنْ حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكةَ، إنَّ رسول الله يَقْصِدُكم، فخذوا حِذْرَكم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب: "ما حَمَلَك على هذا؟ ". قال: يا رسول الله! ما نافقْتُ منذ أسلمتُ، ولا خُنْتُكَ منذ آمنت، ولكني حَمَلَني على ذلك أنِّي كنت مُلْصَقًا بقريق، وليس بيني وبينهم قرابة، فأردتُ أن أتَّخِذ عندهم يدًا، يحفَظُون قرابتي، وعلمتُ أن الله تعالى يُطْلِعك عليه. فصدَّقه رسولُ الله؛ لأن الله تعالى خاطبه بالإيمان، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، فقام عمرُ بن الخطاب، فقال: دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه قد شَهِدَ بدرًا ... " إلى آخر الحديث. قوله: "لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدر"، قال الحافظ أبو موسى: ظنَّ بعضُ الجهال أن قوله: "لعل" من جهة الظن والحُسْبان، وليس كذلك، لِمَا روى أبو هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اطَّلع الله على أهل بدر ... " إلى آخره،

وليست في روايته لفظة: "لعلَّ". * * * 4886 - عن حَفْصَةَ رضي الله عَنْها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَرْجو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ إنْ شاءَ الله أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبيةَ"، قلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ قد قالَ الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟ قال: "أَفلم تَسْمعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ". وفي روايةٍ: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إنْ شاءَ الله مِن أَصْحابِ الشَّجرةِ أَحَدٌ، الذينَ بايعُوا تحتَها". قوله: "إنِّي لأرجو أن لا يدخلَ النارَ - إن شاء الله - أحدٌ شَهِدَ بدرًا أو الحديبية"، قالت حفصة: "قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قال: أفلم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ". عند أهل السنة الورودُ بمعنى الدخول؛ لأن النجاةَ التي بعده تدُلُّ على أنه بمعنى الدخول؛ يعني: الكلُّ يدخلونها، فينجِّي الله تعالى المتَّقين بفضله، ويتركُ الكافرين فيها بِعَدْله. * * * مِنَ الحِسَان: 4889 - عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِن أصحابي: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، واهتَدُوا بهَدْيِ عمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بعَهْدِ ابن أمِّ عبدٍ". وفي روايةٍ: "ما حَدَّثكم ابن مَسْعودٍ فَصَدِّقُوه".

قوله: "تمسَّكُوا بعهدِ ابن أمِّ عبد"، قيل: يريد عَهْدَ عبدِ الله بن مسعود، وهو ما يَعْهَد إليهم ويُوصيهم به، ومِنْ جُملته أمرُ الخلافة، فإنه أولُ من شَهِدَ بصحتها من أَجِلَّة الصحابة، واستدل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم الصديق في صلاتنا، فكيف لا نرضى لدنيانا مَنِ ارتضاه - صلى الله عليه وسلم - لديننا. * * * 4890 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كُنْتُ مُؤَمِّرًا عن غَيْرِ مَشورَةٍ لأَمَّرتُ عليهم ابن أمِّ عَبْدٍ". قوله: "لو كنتُ مؤمِّرًا عن غير مَشُورة لأمَّرت عليهم ابن أمِّ عبد"، (التأمير): جعل الرجل أميرًا على قوم. اعلم أن هذا الحديث مؤوَّل، وتأويله: أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - به تأميرَه على جيش مُعيَّن، أو استخلافه حالَ حياته في أمرٍ خاص، فلا يجوز أن يُحمل على غير ما ذُكر؛ لأنه ليس من قريش، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمةُ مِنْ قُريش". * * * 4893 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الجَنَّةَ تَشْتَاقُ إلى ثلاثَةٍ: عَلِيٍّ، وعَمَّارٍ، وسَلْمانَ". قوله: "إن الجنَّةَ لتشتاقُ إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان"، وإنما تشتاق لهؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قد شَغَلَهم عنها قربُ الحقِّ سبحانه والمشاهدةُ والكشفُ والمراقبةُ والتجلِّياتُ الإلهية، فلذلك تشتاق إلى دخولهم إيَّاها. * * * 4897 - عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:

"ما أَظَلَّتْ الخَضْراءُ ولا أَقَلَّتْ الغَبْراءُ أَصْدَقَ مِن أبي ذَرٍّ". قوله: "ما أظلَّت الخَضْراء ولا أَقَلَّتِ الغَبْراء أصدقَ مِنْ أبي ذر"، يريد بـ (الخضراء): السماء، وبـ (الغبراء): الأرض. قيل: ما ذَكَر هذا - صلى الله عليه وسلم - إلا على سبيل المبالغة والتأكيد، لا على أنه أصدقُ على الإطلاق؛ لأنه لا يجوز أن يقال: أبو ذر أصدقُ من أبي بكر - رضي الله عنه -؛ لأنه صدِّيق الأمة وخيرُهم، وهو ممَّن أظلَّته الخضراءُ وأقلَّتْه الغَبْراء، فإذا ثبت هذا فقد عرفتَ أن الحديثَ عامٌّ يريد به الخاصَّ. * * * 4902 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى في بَيْتِ الزُّبَيْرِ مِصْباحًا، فقال: "يا عائِشَةُ! ما أُرَى أَسْماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أُسمِّيَهُ"، فسمَّاهُ: عبدَ الله، وحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ بيدِهِ. قوله: "ما أَرى أسماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أسمِّيَه، وحنكه بتمرة بيده"، أسماء كانت أخت عائشة - رضي الله عنها -، يقال: نُفست المرأة - على صيغة المجهول - أي: ولدت. وفيه دليل على أنَّ شريفَ قومٍ إذا وُلد لواحد من القوم وَلدٌ يَطْلُبُ منه أن يسمِّيَ ذلك الولد، ويحنِّكه بتمر أو غيره من الأشياء الحُلْوة تبرُّكًا وتيمُّنًا، كما سمَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولدَ أسماء: عبدَ الله، وحَنَّكه. * * * 4904 - وعن عُقْبَةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وآمَنَ عَمْرُو بن العاصِ"، غريب.

قوله: "أسلمَ الناسُ وآمنَ عمرو بن العاص"، وإنما خصَّصه بالإيمان؛ لأنه وقع إسلامُه في قلبه في الحَبَشة، حين اعترف النجاشيُّ بنبوته والأساقفةُ معه، فعَلِمَ صدقَ نبوَّته، فأقبلَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُؤمنًا مِنْ غير أن يدعوَه أحدٌ إليه، فجاء من الحبشة إلى المدينة ساعيًا، فدخل وآمن، وأمَّره في الحال على جماعةٍ فيهم الصِّدِّيق والفاروق - رضي الله عنهما -. قيل: لأنه كان مُبالغًا قبل إسلامه في عَدَاوة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقصد إهلاك أصحابه (¬1)، فلما آمن أراد أن يُزيل عن قلبه تلك الوحشةَ المتقدمة، حتى يَأْمَنَ من جهته، ولا ييأس من رحمةِ الله سبحانه. * * * 4905 - قالَ جابرٌ - رضي الله عنه -: لقِيَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا جابرُ! مالي أَراكَ مُنْكَسِرًا؟ " قلتُ: استُشْهِدَ أبي وتركَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قال: "أَفَلَا أُبشِّرُكَ بما لقيَ الله بهِ أباكَ؟ " قال: قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "ما كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلا مِن وَراءِ حِجَابٍ، وأَحْيَا أباكَ فكلَّمَه كِفَاحًا، فقالَ: يا عبدي! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قالَ: يا رَبِّ! تُحْييني، فأُقتَلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ تعالى: إِنَّه قد سَبَقَ منِّي: أَنَّهم لا يُرْجَعونَ"، فنزلَتْ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية. قوله: "ما كلَّمَ الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وأَحْيا أباك، فكلَّمه كِفاحًا". قال في "الصحاح": كَفَحْته كَفْحًا: إذا استقبلته كَفَّة كَفَّة، وفي الحديث ¬

_ (¬1) في "ق": "وقصد إهلاكه".

"إني كَفَحْتُها (¬1) وأنا صائم"؛ أي: واجهها بالقبلة، وكافَحُوهم: إذا استقبلوهم بوجوههم ليس دونها تُرْس، ومنه المُكافحة والكِفاح، يقال: لقيتُه كِفاحًا. يعني: كلَّم الله سبحانه أباك من غير حجاب دونَه؛ أي: بلا واسطة. إن قيل: قد بيَّن الله سبحانه أنَّ الشهداء أحياء، قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]، وإحياء الحي كيف يكون؟ قيل: جعل الله سبحانه تلك الروحَ في جوف طَيرٍ خُضرٍ، فأحيا ذلك الطيرَ بتلك الروح الشَّهيدية، فصحَّ الإحياء حينئذ، أو: أراد أنَّ روحه كان حيًا، لكن لم يكن لتلك الروح من الرتبة ما يشاهد الحق كِفاحًا، فكساها قوةً أعطتها زيادةَ حياة، حتى صَحَّت المكافحة، أو أراد بالإحياء: إبقاء ذِكْرِه في الدنيا، كما هو حيٌّ في الآخرة. * * * 4907 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لا يُؤْبَهُ لهُ، لو أَقْسَمَ عَلى الله لأَبَرَّه، مِنْهم البَرَاءُ بن مالكٍ" - رضي الله عنه -. قوله: "كم مِن أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرين، لا يُؤْبَه له، لو أقسمَ على الله لأبره"، و (كم): خبرية مبتدأ. و (مِنْ) في (مِنْ أشعث) مبين لها، و (لا يؤبه) فعل له مفعول أقيم مقام الفاعل، يعود إلى (أشعث)، خبره. و (الأشعث): الذي تغيَّر شعرُ رأسه واغبرَّ، (الطمر) الثوب الخَلَق، (لا يؤبه)؛ أي: لا يلتفت إليه، ولا يُبالى به، يقال: فلان بَرٌّ في يمينه؛ أي: صِدْق فيها، وأبَرَّه: إذا صدَّقه. * * * ¬

_ (¬1) في "الصحاح": "لأكفحها".

13 - باب ذكر اليمن والشام، وذكر أويس القرني - رضي الله عنه -

4910 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عن أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرِئ قومَكَ السَّلامَ، فإنَّهم ما عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ". قوله: "فإنَّهم ما علِمْتُ أعفَّةٌ صُبُرٌ"، (الأعفة): جمع عفيف، و (الصُّبُر): جمع صابر؛ يعني: هم المتعفِّفون عن السؤال، والصَّابرون عند القتال. * * * 4913 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: ذُكِرَت الأَعاجِمُ عِنْدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنَا بهم أو ببَعْضهم أَوْثَقُ مِنِّي بكُم أو ببَعْضكُم". قوله: "لأَنَا بهم أو ببعضهم أوثقُ منِّي بكم أو ببعضكم"، يعنى: وثوقي واعتمادي بهم أو ببعضهم أكثر من وثوقي واعتمادي بكم أو ببعضكم. إعرابه: (أنا) مبتدأ، و (أوثق) خبره، و (مِنْ) صلة (أوثق)، والباء في (بهم) مفعوله، و (أو) عطف على (بهم)، والباء في (بكم) مفعول فعل مقدَّر يدل عليه (أوثق)، و (أو) في (أو ببعضكم) عطف على (بكم)، إما متعلِّق أيضًا بـ (أوثق)، إذ هو في قوة الوثوق وزيادة، فكأنه فعلان، فجاز أن يَعمل في مفعولين، أو تأخَّر دلَّ عليه الأول. * * * 13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسٍ القَرَنِيِّ - رضي الله عنه - (بابُ ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ) مِنَ الصِّحَاحِ: 4914 - عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ رَجُلًا

يأتيكُم مِن اليَمَنِ يُقالُ لهُ: أَوَيْسٌ، لا يَدَعُ باليَمَنِ غيرَ أمًّ له، قد كانَ بهِ بياضٌ فدَعَا الله، فأَذْهَبَهُ إلا مَوْضعَ الدِّينارِ أو الدِّرْهَمِ، فمَن لقيَهُ مِنْكم فَلْيَسْتَغْفِرْ لكم". قوله: "فمَنْ لَقِيَه منكم فليستَغْفِرْ لكم"، أمرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ بالاستغفار من أُويس التابعي - مع أن الصحابةَ أفضل من التابعين بلا خلاف - دليلٌ على أن الفاضل يُستحب له أن يَطْلُبَ الدعاءَ من المفضول. ويحتمل أن يكون تطييبًا لقلبه؛ لأنه كان يُمكنه أن يَصِلَ إلى حضرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لكن بِرُّه بأمه قد منعَه ذلك، فلهذا أمرهم بالاستغفار منه، ليندفع توهُّمه أنه مُسِيء في تخلُّفه. * * * 4916 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَاكُم أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفئِدَةً وأَلْينُ قُلُوبًا، الإِيْمَانُ يَمَانٍ، والحِكْمَةُ يَمَانيَّةٌ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أَصْحَابِ الإِبلِ، والسَّكِيْنَةُ والوَقَارُ في أَهْلِ الغَنَم". قوله: "أتاكم أهلُ اليمن، هم أرقُّ أفئدةً وألينُ قلوبًا ... " الحديث. قال في "شرح السنة": قيل: هما قريبان من السَّواء، كرَّرَ ذكرَهما لاختلاف اللفظين تأكيدًا، أو أراد بلين القلب: سرعة خُلُوص الإيمان إلى قلوبهم. ويقال: إن الفؤادَ غِشاءُ القلب، والقلب: حبته وسويداؤه، فإذا رقَّ الغِشاء أسرعَ نفوذُ الشيء إلى ما وراءه. وقيل: قوله: "الإيمان يَمَان"، يراد به أنه مكي؛ لأنه بدأ من مكة، وأضاف إلى اليمن؛ لأن مكة من أرض تِهَامة، وتِهامة من أرض اليمن، فتكون مكةُ على هذا يمانيَّةً.

وقيل: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام، وهو يومئذ بتبوك ناحيةِ الشام، ومكة والمدينة بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحيةِ اليمن، وهو يريد مكةَ والمدينة، يريد: الإيمان من هذه الناحية، كما يقال: سُهيل اليماني؛ لأنه يبدو من ناحية اليمن، وقيل: هم الأنصار؛ لأنهم نَصَروا الإيمان، وهم يمانيَّة، فَنَسَبَ الإيمانَ إليهم. وقيل: قوله "الحكمة يمانية" أراد بها الفقه؛ لقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. ويروى: "الفِقْه يَمَان"، وهذا ثَنَاء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وحُسْن قَبولهم إيَّاه، وقيل: الحكمة عبارة عن كل كلمة صالحة تمنع صاحبَها عمَّا يُوقِعُه في الهلاك. * * * 4918 - عَنْ أبي مَسْعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مِن هَا هُنَا جَاءَتِ الفِتَنُ، نَحْوَ المَشْرقِ، والجَفَاءُ وغِلَظُ القُلُوبِ في الفَدَّادينَ أَهلِ الوَبَرِ، عندَ أُصْولِ أَذْنَابِ الإِبلِ والبَقَرِ، في رَبيَعَةَ ومُضَرَ". قوله: "والجَفَاء وغِلَظ القلوبِ في الفَدَّادين"، قال أبو عمرو: والفَدَادين - مخففة - واحدها فَدَّان - بالتشديد -، وهي البقرة التي يُحرث عليها، وأهلُها أهلُ جفاء لبُعدهم من الأَمْصار، والأكثرون ذهبوا إلى أنها مشدَّدة. قال أبو العباس: هم الجَمَّالون والبَقَّارون والحَمَّارون. وقال الأصمعي: هم الذين تَعْلُو أصواتُهم في حُروثهم وأموالِهم ومَوَاشيهم، يقال: فَدَّ الرجل يَفِدُّ فَدِيدًا: إذا اشتد صوتُه. وقال أبو عبيدة: الفَدَّادون: هم المُكْثرون من الإبل الذي [يملك] أحدهم

المئة إلى الألف، وهم جُفاة أهل خيلاء، ومنه الحديث: "أن الأرضَ تقول للميت: ربَّما مَشَيت عليَّ فَدّادًا" أي: ذا مال كثيرٍ وذا خُيلاء. وفي الجملة ذمُ ذلك؛ لأنه يَشْغَل عن أمر الدين، ويُلْهي عن الآخرة، فيكون معها قَساوة القلب، ذكره في "شرح السنة". * * * 4917 - وعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأسُ الكُفرِ نَحْوَ المَشْرقِ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أَهلِ الخَيلِ والإِبلِ والفَدَّادينَ أَهلِ الوَبَرِ، والسَّكيْنَةُ في أَهْلِ الغَنَمِ". قوله: "والفَخْرُ والخُيَلاء في أهل الخَيل والإبل"، (الفخر): عبارة عن المباهات والمنافسة في المال والجاه المُؤدِّي إلى الخيلاء والتكبُّر المانع عن قَبول الإيمان. قوله: "والسكينة في أهل الغنم"، (السكينة)؛ أي: الوَقَار والتأنَّي، قيل: أصحاب الغنمِ لهم سُكون ووقار؛ لأنه لا بُدَّ لهم من مقاربة العُمْرَانات والاختلاطِ بأهلها، فإن الغنمَ لا تصْبرُ عن الماء والعَلَف، ولا تتحمَّل الجَفَاء والبرد. فإذا كان كذلك فوقَارُهم يؤدِّي إلى أنهم لا يخرجون عن الطاعة، وأما أصحاب الإبل والخيل فيقعُدون في البوادي والصَّحاري، فبعدُهم عن العُمْران والخَلْق يحمِلُهم على الطُّغيان ونزعِ اليد عن الطاعة، فلهذا ذمَّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهما، ومَدَح أصحابَ الغنمِ. وقيل: الراعي خُلُقه على قَدْر ما يرعاه، فالغنمُ راعيه يكون لينَ القلب، لسهولة طبيعة الغنم، ورُعاةُ الإبل تقسُو قلوبُهم كقسَاوة الإبل، ويخشُنُ عيشُهم،

ويكثُر الشقاء معها، وربما سَكِرَت فقتلت الجَمَّال، ولأنها تنفر وتنهزم فيتعَبُ الجاري معها، فتغلُظ طبيعتُه. * * * مِنَ الحِسَان: 4921 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عن زَيْدِ بن ثابتٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نظرَ قِبَلَ اليَمَنِ فقال: "اللهمَّ! أَقبلْ بقُلوبهم، وبارِكْ لنا في صاعِنَا ومُدِّنا". قوله: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نظرَ قِبَلَ اليمنِ فقال: اللهمَّ أقبلْ بقلوبهم، بارِكْ لنا في صَاعِنا ومُدِّنا"، (القبل): الجانب؛ يعني: اجعل قلوبَهم مُقبلة إلينا، وإنما سأل ربَّه تعالى إقبالَ قلوبِ أهل اليمن إلى مكة لأن طعام أهلِها كان يأتيهم من اليمن، ولهذا عقَّبه ببركة الصَّاع والمُدِّ لطعام يُجْلَب إليهم من اليمن، فقد استجاب الله دعاءَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن؛ لأن أكثرَ أقواتهم من هناك. * * * 4922 - عن زَيدِ بن ثابتٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبَى للشَّامِ"، قُلْنا: لأيٍّ ذلكَ يا رسولَ الله؟ قالَ: "لأنَّ ملائِكَةَ الرَّحْمنِ باسِطَةٌ أَجْنِحَتَها عَلَيها". قوله: "طوبى للشَّام"، (طوبى): فَعلى مِنْ طَابَ، وأصله: (طيبى) فقُلبت الياء واوًا لانضمام ما قبلها؛ يعني: أصحابُ الشام خيرٌ وطِيب. * * * 4923 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستَخْرُجُ نارٌ من نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ - أو: مِن حَضْرَمَوْتَ - تَحْشُرُ النَّاسَ"، قُلْنا: يا رسولَ الله! فما تَأْمُرُنا؟ قال: "عليكم بالشامِ".

قوله: "ستخرُج نارٌ مِنْ نَحْوِ حضرموت أو من حضرموت، تحشُرُ النَّاسَ"، قيل: يحتمل أن تظهر نارٌ على هذه الصفة المذكورة، ويحتمل: أن يريد بالنار: فتنة تظهر منها، وعلى كلا التقديرين يكون قبلَ قيام الساعة، والدليل على هذا قولهم: "فما تأمرنا؟ "؛ يعني: في ذلك الوقت. * * * 4924 - عن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ - رضي الله عنه - قالَ سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنها ستَكونُ هِجْرَةٌ بعدَ هجرةٍ، فخِيَار النَّاسِ هِجْرَةً إلى مُهَاجَرِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ". وفي روايةٍ: "فخِيارُ أَهْلِ الأَرْضِ ألزمُهم مُهَاجَرَ إبراهيمَ، ويَبقَى في الأَرْضِ شِرارُ أَهْلِها، تَلْفِظُهم أَرَضُوهم، تَقْذَرُهم نَفْسُ الله، تَحْشُرُهم النَّارُ معَ القِرَدةِ والخنازيرِ، تَبيتُ معَهم إذا باتُوا، وتَقِيلُ معَهم إذا قَالُوا". قولها: "إنها ستكونُ هجرةٌ بعد هجرة، فخِيارُ الناسِ إلى مُهَاجر إبراهيمَ عليه السلام"، قيل: الهجرة الثانية حقُّها أن تكون معرَّفة بلام العهد؛ لأنها هي الهجرةُ الواجبة من مكة إلى المدينة، وإنما أتى بنكرة؛ إما لتوافق الأولى في الرتبة، أو لاعتماد أنَّ السامعين يعرفون أن في الكلام إضمارًا، وهو أن تقديره: بعد هجرة كانت إلى المدينة. (مهاجر إبراهيم)؛ أي: مكان هجرته عليه السلام، وهو الشام؛ يعني: فخيارُ الناس الذين يقصِدُون في الهجرة إلى الشامِ بعد ظهور الفتن وغلبةِ الكُفر والفَسَاد في الآفاق، فإن الشام مَصُونٌ في ذلك الوقت عن الفتن. قال الخطابي: الهجرة الثانية هي الهجرة إلى الشام، يرغَبُ فيها خيارُ الناس.

قوله: "تَلْفِظُهم أَرضوهم"، (اللَّفْظ): الرمي والإلقاء، الضمير المنصوب في (تلفِظهم) يعود إلى (الشرار)؛ يعني: تُلقي الأرض شرارَ الناس من ناحية إلى ناحية أخرى. قوله: "تقذُرهم نفسُ الله"، يقال: قذِرت الشيء - بالكسر - وتقذَّرته واستقذرته: إذا كرهته، (نَفْس الله) - بسكون الفاء -: ذاتُه سبحانه. قال في "شرح السنة": تأويله: أن الله يكره خروجَهم إليها ومُقامَهم، ولا يوافقهم لذلك، فصاروا بالرِّدَّة كالشيء تقذُره نفسُ الإنسان، فلا تقبله، وهذا مِثْلُ قولِه تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]. قوله: "تحشُرهم النارُ مع القِردة والخنازير، تَبيتُ معهم إذا باتوا، وتَقِيل معهم إذا قَالوا"، (النار) ها هنا: عبارة عن الفتنة، (القردة) جمع قِرْد، و (الخنازير) جمع خنزير، بات يَبيت بَيتُوتة: إذا أقام ليلًا، قال يَقِيل قَيلولة: إذا نام نصفَ النهار واستراح. يعني: تحشُرهم نارُ الفتنة - التي هي نتيجة أفعالهم القبيحة وأقوالهم - مع القردة والخنازير، لكونهم متخلِّقين بأخلاقها، فيظنُّون أن الفتنة لا تكون إلا في بلدانهم، فيختارون جَلاء أوطانهم، ويتركُونها، والفتنة تكون لازمةً لهم، ولا تنفكُّ عنهم حيث يكونون وينزِلون. * * * 4925 - عن ابن حَوَالة قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيصيرُ الأَمْرُ أنْ تكونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بالشَّامِ، وجُنْدٌ باليَمَنِ، وجُنْدٌ بالعِراقِ"، فقالَ ابن حَوَالة: خِرْ لي يا رسولَ الله! إنْ أَدْركتُ ذلكَ، قال: "عليكَ بالشَّامِ، فإنَّها خِيَرَةُ الله مِن أَرْضهِ، يَجْتبي إليها خِيَرَتُه مِن عبادِه، فأَمَّا إنْ أبَيْتُم فَعَلَيكم بيَمَنِكُم،

واسقُوا مِن غُدُرِكم، فإنَّ الله - عز وجل - تَوَكَّلَ لي بالشَّامِ وأَهْلِهِ". قوله: "سيصِيرُ الأمرُ أن تكونوا جُنودًا مُجَنَّدة؛ جُندٌ بالشام وجندٌ باليمن وجند بالعراق"، (الجنود) جمع جُنْد، وهو مَنْ يقاتل به، جَنَّد يُجَنِّد تَجْنيدًا: إذا جمع العسكر، فهو مُجَنِّد وذلك مُجَنَّد؛ يعني: ستصيرون فِرقًا ثلاثًا؛ فرقة منكم تقصد إلى الشام، وفرقة أخرى تقصِد إلى اليمن، والثالثة تقصِد إلى العراق. فقال الراوي: يا رسول الله! خِرْ لي؛ أي: اختر لي. قوله: "فإنَّها خِيرةُ الله من أرضه"؛ يعني: إن الشام مُختارةُ الله من أرضه؛ يعني: اختارها الله من جميع الأرض للإقامة في آخر الزمان. قوله: "يجتبي إليها خيرتَه من عباده"، (يجتبي)؛ أي: يجتمع؛ يعني: يجتمع إلى الشام الخيارُ من عباده. قوله: "فأمَّا إنْ أَبيتم فعليكُم بيمنِكم، واسْقُوا مِنْ غُدُرِكم، فإنَّ الله توكَّلَ لي بالشام وأهلِه"، (الغُدُر) جمع غدير، وهو حفرة يَقِفُ فيها الماء؛ يعني: إن أبيتم عن القصد إلى الشام فعليكم بيمنكم؛ أي: فالزموا يمنَكُم، وإنما أضاف اليمن إليهم؛ لأن المخاطَبين هم العرب، واليمن من أرضهم. قيل: قوله: "فأمَّا إن أبيتُم فعليكم بيمنكم" اعتراض بين قوله: "عليكم بالشام" وبين قوله: "واسقوا من غُدُركم"، فإذا ثبت هذا فتقدير الكلام: عليكم بالشام واسقوا من غدركم، فإن الله قد توكَّل لي بالشام وأهلها، فأما إنْ أبيتُم فعليكم بيمنكم. قال الإمام التوربشتي: في سائر نسخ "المصابيح": (فإن الله قد توكل لي بالشام) والصواب: "قد تكفل"، وهو سهو إمَّا في أصل الكتاب، أو من بعض الرواة. * * *

14 - باب ثواب هذه الأمة

14 - باب ثَوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ (بابُ ثَوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 4926 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما أَجَلُكم في أَجَلِ مَن خَلَا مِن الأُمَمِ ما بينَ صلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وإنَّما مَثَلُكم ومَثَلُ اليَهودِ والنَّصارَى كرَجُلٍ استَعْمَلَ عُمَّالًا، فقالَ: مَن يَعملُ لي إلى نِصْفِ النَّهارِ على قِيراطٍ قيراطٍ، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى نِصْفِ النَّهارِ على قيراطٍ قيراطٍ، ثُمَّ قال: مَن يَعمَلُ لي مِن نِصفِ النَّهارِ إلى صلاةِ العَصْرِ على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعَمِلَتِ النَّصارَى مِن نِصْفِ النَّهارِ إلى صلاةِ العَصْرِ على قيراطٍ قيراطٍ؟ ثُمَّ قال: مَن يَعْمَلُ لي مِن صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ على قيراطَينِ قيراطَينِ؟ أَلاَ! فأنتُم الذينَ تعملون مِن صلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، أَلاَ لكُم الأَجْرُ مرتينِ، فغضبَتِ اليَهودُ والنَّصارَى، فقالوا: نَحْنُ أكثرُ عَمَلًا وأقلُّ عطاءً؟ قالَ الله تعالى: وهل ظَلَمْتُكم مِن حقِّكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فإنَّه فَضْلي أُعطِيهِ مَن شئتُ". قوله: "إنَّما أجَلُكم في أجل مَنْ خَلا مِنَ الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ... " الحديث. (إنما) هذه، و (إنما) مثلكم، كلتاهما للحَصْر؛ يعني: ما أَجَلُكم في أجلِ مَنْ خلا من الأمم إلا ما بين صلاة العصر. (الأجل): مدة الشيء، (خلا): إذا مضى، (الأمم): جمع أمة، وهي جماعة من الناس.

قال في "شرح السنة": ذكرَ الخطَّابي - رحمة الله عليه - على هذا الحديث كلامًا معناه: أن هذا الحديث يُروى على وجوه مختلفة في توقيت العمل من النهار، وتقدير الأُجرة في هذه الرواية: قطع الأجرة لكل فريق منهم قيراطًا قيراطًا، وتوقيت العمل عليهم زمانًا، واستيفاؤه منهم وإيفاؤهم الأجرة. وفيه قطع الخصومة، وزوال العَتَب عنهم، وإبراؤهم من الذَّنْب، وهذا الحديث مختصَر، وإنما اكتفى الراوي منه بذكر مآل العاقبةِ فيما أصاب كلَّ واحدة من الفِرَق من الأجر. وقد روى محمد بن إسماعيل هذا الحديثَ بإسناده عن سالم بن عبد الله عن عبد الله، وقال فيه: "أوتي أهل التوراة التوراةَ فعمِلوا، حتى إذا انتصفَ النهارُ عَجَزوا، فأُعْطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتي أهلُ الإنجيلِ الإنجيلَ، فعمِلوا إلى صلاة العصر، ثم عَجَزوا، فأُعْطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتيتُ القرآن، فعمِلْنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين قيراطين". فهذه الروايةُ تدلُّ على أن مَبْلَغ الأجرة لليهود لعمل النهار كلِّه قيراطان، وأجرة النصارى للنصف الباقي قيراطان، فلما عَجَزوا عن العمل قبلَ تمامِه لم يُصيبوا إلا على قدْرِ عملهم، وهو قيراط، ثم إنَّهم لما رَأَوا المسلمين قد استوفَوا قدرَ أجرةِ الفريقين حَسَدُوهم، فقالوا: نحنُ اكثرُ عملًا، وأقلُّ أجرًا. * * * 4927 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا ناسٌ يكونونَ بَعْدي يَوَدُّ أَحَدُهم لو رآني بأَهْلِهِ ومالِهِ". قوله: "يَوَدُّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله"، (ودَّ يَوَدُّ) على وزن علم يعلم، معناه: تمنَّى، والباء في (أهله) باء التعدية؛ يعني: يتمنَّى أحدُهم أن يكَون يَفْدِي

بأهله وماله لو أنفقَ رؤيتَهم إيَّاي ووصولَهم إلي. ويجوز أن تكون (لو) بمعنى (أن)، والباء في (بأهله) باء حال؛ يعني: تمنَّى أحدُهم أن يراني في حال كونه يَفْدي بأهله وماله، ونظيرُه قولُه تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]؛ أي: أن كانوا. * * * 4929 - وقالَ: "لا يَزَالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بأمْرِ الله، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلهم ولا مَن خَالفَهم، حتَّى يأتيَ أمرُ الله وهُم على ذلكَ". قوله: "لا يزالُ مِنْ أمَّتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم مَنْ خَذَلَهم، ولا مَنْ خالَفَهم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهُم على ذلك"، قال في "شرح السنة": (قائمة بأمر الله) أي: متمسِّكة بدينها، وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113]؛ أي: متمسِّكة بدينها، وهم قومٌ آمنوا بموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم -. قال الشيخ: وحمل بعضُهم مُطْلقَ هذا الحديث على القيام بتعلُّم العلم وحفظ الحديث لإقامة الدين. قال أحمد بن حنبل: إن لم تكن هذه الطائفةُ المقصودةُ أصحابَ الحديث فلا أدري من هم؟ قيل: هذه الطائفة هم المُرابطة بثغور الشام؛ لأنه في بعض طرق هذا الحديث: "وهم بالشام"، وفي بعضها: "حتَّى يُقَاتِلَ آخرُهم المسيحَ الدَّجَّال"، وفي بعضها: قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: "في بيت المقدس". قيل: الأمة القائمة بأمر الدين: هم المُقيمون على الإسلام، الدائمون له، مِنْ قام الشيء: إذا دام، وقام الماء: وقف.

وقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] أراد به: من انتقلَ من اليهودية والنصرانية إلى الإسلام، فآمن بجميع الكتب، وواظَب على العمل بمضمون القرآن، وقيل: أراد: أرباب الأحاديث؛ لأنهم قائمون بنقل الأحاديث وإحيائها. * * * مِنَ الحِسَان: 4931 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتي مَثَلُ المَطَرِ، لا يُدْرَى أَوَّلُه خَيْرٌ أَم آخِرُهُ". قوله: "مَثَلُ أمَّتي كالمَطَر، لا يُدرى أوَّلُه خيرٌ أم آخِرَه"، وإنما شَبَّه أمتَه - صلى الله عليه وسلم - بالمطر؛ يعني: شَبَّه نفعَهم في الدين بنفع المطر في الزرع، لا من حيث أن التردُّد في فضل القَرْنِ الأول أنهم أفضلُ من القرن الثاني بلا خلاف، بل التابعي أفضل ممن بعده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "خيرُ الناسِ قرني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونهم" بيان شبههم بالمَطَر لأن المطر يُنْبتُ الزرعَ في الأول، ويُنْمِيه في الثاني، ولا يُدْرى أنَّ نفعه في الأول أكثرُ أم في الثاني، فكذلك إن القرن الأول مَهَّدوا قواعدَ الشريعة وأساسَها، والقرن الثاني حَفِظُوها، وشَهَّروها، وعَمِلوا بمضمونها إلى قيام الساعة، فلا يُدرى - أيضًا - أن نفعَ القرنِ الأول في تمهيدهم أصلَ الشريعة أكثر، أم نفع القرن الثاني في حفظها والعمل بها؟ بل النفعُ موجودٌ في كليهما، من حيث إن أصلَ النفعِ في القرنين مشترَكٌ، وهو دوام توفيقِهما للعمل بمقتضى الشرع، بخلاف الأمة السالفة؛ فإن آخرَهم بدَّلوا ما كان أوَّلُهم عليه، وحَرَّفوه، قال الله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ

مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، فإذا كان كذلك ففضْلُ أمتِه عَنْ آخرِهم ثابتٌ على سائر الأمم كلِّهم، لمفهوم هذا الحديث ومنطوقِ غيرِه من الآيات والأخبار، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ أي: خيارًا، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. فإذا تقرَّر هذا، فاعرِفْ أن فضيلةَ القرن الأول من أمته على القرن الثاني منهم لا بكثرةِ العمل، بل لأنهم صَحِبوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وصادفُوا زمانَ الوحي، ولأنهم ثبتَتْ فضيلَتُهم على القرن الثاني بدلائل كثيرةٍ من الآيات والأخبار، والله أعلم بالصواب (¬1). ° ° ° ¬

_ (¬1) جاء في نهاية النسخة الخطية المرموز لها بـ "م" ما نصه: "هذا آخِرُ تتمَّةِ شرحِ مولانا وسيدنا الإمام مُظْهر الدين، قدَّس الله روحَه، وبرَّد ضريحَه بحقِّ من لا نبي بعده. [كذا] تممتُ هذا الكتابَ بعون الله تعالى وطلبِ غُفرانه في شهر الله الأصَمِّ رَجبٍ المُرَجَّب من سنة اثنتين وستين وسبع مئة الهلالية. كتبه محمد بن أحمد بن محمد الأبهري حامدًا ومصلِّيًا. من كتب العبد المحتاج إلى رحمة الغني المغني علان بن محمد بن عبد الملك بن علي المحدث الصديقي، عفى الله عنهم بلطفه وكرمه آمين". وجاء على الهامش منها: "بلغت المقابلة على جهة الوسع والطاقة وعلى نسخة أصله في غاية السقم". وجاء في نهاية النسخة الخطية المرموز لها بـ "ش" ما نصه: "هذا آخر تتمة شرح مولانا وسيدنا الإمام مظهر الدين - قدَّس الله روحه وبرَّد مضجعه، وقد وفِّقت لإتمامها بعون الله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين". وجاء في نهاية النسخة الخطية المرموز لها بـ "ق" ما نصه: "تم بعون الله وحسن توفيقه على يدي أفقرِ الورى محمد بن عيسى في أواخر شهر ربيع الآخر في سلك سنة ست وستين وألف من الهجرة النبوية، عليه من الله أفضل الصلاة وكمل التحية، وأسأل الله العفو والعافية، وصلَّى الله على سيدنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا، واحشرنا معهم بلطفك يا رب العالمين".

§1/1